أعلام النبوة للماوردي

الماوردي

مقدمات التحقيق

[مقدمات التحقيق] مقدمة الناشر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الحمد لله الملك الديان الواحد الأحد الذي ليس له في ملكه ثان، المنزه عن حلول الأمكنة ومرور الزمان الذي اصطفى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم وزين به الأكوان وجعل وجودها لوجوده فلولاه ما يكون حادث ولا كان وفرض محبته على جميع خلقه وجعلها شرطا في صحة الإيمان فلا يؤمن أحد حتى يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إليه من النفس والآباء والبنون. نحمده تعالى ونشكره على ما له علينا من صنوف الإحسان ونستعينه ونستغفره من كلّ ذنب عملناه من عمد أو خطأ أو نسيان ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، شهادة يسمو بها قائلها فلا يعاتب يوم العتاب، ونشهد أن سيدنا محمدا حبيبه ومصطفاه خير نبي أرسله سيد ولد آدم وأشرف بني عدنان صلى الله عليه وعلى اله واصحابه الطيبين الطاهرين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد، فها نحن عزيزي القارىء نقدم إليك الكتاب الثاني من كتب الإمام أبي علي بن محمد بن حبيب الماوردي البصري «أعلام النبوة» بعدما قدمنا إليك سابقا كتابه أدب الدنيا والدين آملين أن نكون في الطريق الذي آلينا على أنفسنا

أن نسلكه في خدمة الشرع الحنيف ومحبة الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم وتقديم كتب التراث التي تركها لنا خير السلف زادا ومعينا للمعرفة ودليلا مرشدا في محاولة فهمنا لشرائع ديننا وسيرة نبينا، آملين أن نكون عند حسن ظنك عزيزي القارىء فيما قدمنا حاصلين على رضى الله ورضوانه هو نعم المولى ونعم النصير. دار ومكتبة الهلال.

تقديم من سعيد محمد اللحام

تقديم [من سعيد محمد اللحام] الماوردي: ولد أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي البصري سنة 364 للهجرة وتوفي سنة 450 للهجرة أي أنه عاش في فترة إزدهار الثقافة الإسلامية وفي أرقى عصور الدولة العباسية. ولد في البصرة وإليها نسب وأخذ عن شيوخها وعلمائها ثم رحل إلى بغداد وأخذ عن أئمة العلم الذين عايشهم فيها. والماوردي من فقهاء الشافعية المعدودين وعلم من أعلامها كما كان من رجال السياسة والأدب والفكر يميزه عن سواه وضوح أسلوبه ولغته وكثرة تآليفه في الفروع المختلفة للثقافة. مشايخه: لقد سمع الماوردي الحديث عن جماعة من شيوخ البصرة كان أبرزهم: محمد بن عدي بن زحر المقري. الحسن بن علي بن محمد الجبلي. جعفر بن محمد بن الفضل البغدادي. محمد بن المعلى الأسدي. الفضل بن الحباب الجمحي.

حياته:

كما أخذ الفقة عن عدد من المشايخ كان أشهرهم: أبو القاسم عبد الواحد بن محمد الصميري القاضي. وفي بغداد أخذ الفقه عن الشيخ أحمد بن أبي طاهر الإسفرايني، كما أخذ عن الكثيرين سواهم في مختلف العلوم الإسلامية والعربية وإن كانت كتب التاريخ لم توصل إلينا أسماء أساتذته في هذه العلوم لأن أرفع العلوم شأنا هو الفقه والحديث إنما ينضح في أسطر وصفحات كتبه ما ارتوى به في علوم الأدب واللغة والفلسفة مما يوضح لنا بما لا يقبل الشك بأنه قد اضطلع بهذه العلوم كأهلها، كيف لا والعصر الذي عاش فيه كان عصر العلوم الموسوعية والعلماء الموسوعيون الذين لا يعتبر واحدهم عالما حتى يتبحر في كل أنواع العلوم والفنون التي عرفها عصره، والماوردي لا يمكن أن يختلف في هذا عن سائر علماء عصره، وكما ذكرنا فإن كتبه التي وصلت إلينا وإن لم تصلنا كلها فهي تثبت لنا أنه اغترف منها ما سمح له حظه وعمره وسعيه إليها أن يغترف. حياته: تولى الماوردي القضاء في أكثر من بلد وقد ذكر ياقوت الحموي في معجمه أنه تولى القضاء في «أستوا» وهي حسب قوله كورة من نواحي نيسابور تضم ثلاثا وتسعين قرية ومركزها مدينة خيبوشان. اختير سفيرا بين قادة الدولة العباسية وآل بويه بين سنة 381 هـ. و422 هـ في عهد الخليفة القادر بالله. طلب جلال الدولة بن بويه في سنة 429 هجرية من الخليفة أن يضيف إلى ألقابه لقب ملك الملوك «شاهنشاه» وهو اللقب الذي كان يحمله ملوك الفرس المجوس قبل الفتح الإسلامي فاختلف فقهاء بغداد في جواز التلقب بهذا اللقب فمنهم من وافق مسايرة لبني بويه ومنهم مسايرة للخليفة ومنهم من تحرج من الأمر وخاف من ذوي السلطان فلم يقل بهذا الأمر بنفي أو إيجاب، أما الماوردي فقد أفتاها صريحة بأنه لا يجوز وتخلى عن صداقته ومودته لجلال الدولة

مؤلفاته:

فأرسل إليه وقال له: «أنا أتحقق أنك لو حابيت أحدا لحابيتني لما بيني وبينك وما حملك إلّا الدين، فزاد بذلك محلك عندي» . وقد تنقل الماوردي بين كثير من البلاد ثم انتهى به المطاف في بغداد فعلم بها الفقه والحديث وتفسير القرآن والأصول والفروع والآداب. مؤلفاته: لقد ألف الماوردي في كثير من أبواب العلوم لكن ما وصل إلينا منها هو إثني عشر كتابا لا غير ما لم تكشف الأبحاث الحديثة عن المخطوطات عن كتب سواها ما تزال غارقة خلف أبواب المكتبات الخاصة، أما الكتب التي وصلت إلينا فهي: 1- كتاب «النكت والعيون» غير مطبوع، ونسخه الموجودة والمعروضة هي: أ- نسخة جامع القرويين بفاس في المغرب. ب- نسخة مكتبة قليج علي في اسطنبول. ج- نسخة مكتبة كوبريلي. د- نسخة مكتبة رمبول في الهند. 2- كتاب «الحاوي الكبير» : وهو موسوعة في عشرين جزءا وكلها في فقه الشافعية، لكن أجزاءه المختلفة ما زالت مخطوطة ومتفرقة بين المكتبات المنتشرة في الشرق والغرب وتعمل الإدارة الثقافية بجامعة الدول العربية على لمّ شعثه إن بشراء هذه الأجزاء المخطوطة أو بتصويرها حيث وجدت. وتسمية المؤلف لهذا الكتاب بكتاب «الحاوي الكبير» يعني للقارىء وجود كتاب آخر له في نفس الموضوع يسمى «الحاوي الصغير» ولعله الإسم الأصلي أو الإسم الأول لكتاب آخر سنتحدث عنه هو كتاب «الإقناع» . لقد قدر المؤلف عدد أوراق كتاب الحاوي الكبير بأربعة آلاف ورقة وهو كتاب في فقه الشافعية يتعرض لكل مسائل الفقه الإسلامي.

3- كتاب «الإقناع» : وهو مختصر كتاب «الحاوي الكبير» ولكنه كتاب صغير جدا لا يزيد على الأربعين ورقة وقد قدمه إلى الخليفة القادر بالله الذي قدره وأثنى عليه، وقد قال ياقوت في كتابه «إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب» : «قرأت في مجموع لبعض أهل البصرة: تقدم القادر بالله إلى أربعة من أئمة المسلمين في أيامه في المذاهب الأربعة أن يصنف له كل واحد منهم مختصرا على مذهبه، فصنف له الماوردي «الإقناع» ، وصنف له أبو الحسين القدوري مختصره المعروف على مذهب أبي حنيفة، وصنف له أبو محمد عبد الوهاب بن محمد بن نصر المالكي مختصرا آخر، ولا أدري من صنف له على مذهب أحمد وعرضت عليه، فخرج الخادم إلى أقضى القضاة الماوردي وقال له: حفظ الله عليك دينك كما حفظت علينا ديننا» . وقد روى أيضا ياقوت عن نفس المجموع المذكور آنفا قول صاحب المجموع عن الماوردي: «كان أقضى القضاة رحمه الله قد سلك طريقة في ذوي الأرحام: يورث القريب والبعيد بالسوية، وهو مذهب لبعض المتقدمين، فجاءه يوما الشّينيزي في أصحاب القماقم، فصعد إليه المسجد، وصلّى ركعتين، والتفت إليه فقال له: أيها الشيخ اتبع ولا تبتدع. فقال: بل أجتهد ولا أقلد، فلبس نعله وانصرف» . 4- كتاب «أعلام النبوة» : وتوجد نسخته المخطوطة في دار الكتب المصرية تحت رقم 6 ش علم الكلام. 5- كتاب «أدب القاضي» : غير مطبوع وتوجد نسخته المخطوطة في مكتبة السليمانية في اسطنبول. 6- كتاب «الأحكام السلطانية» : وهو أشبه بدستور لدولة إذ يضم بين صفحاته أسس قيام الدولة وشروط استحقاق الخلافة وصفات الخليفة وسلطات هذا الخليفة التي يتصرف من خلالها والأمور التي يحق له أن يتصرف بها، كما يتحدث عن الوزارة والقضاء والعقوبات والحدود والحسبة والجزية وكل تفريعاتها مع أصولها في الدين. والماوردي على ما يبدو أول من ابتكر هذا الموضوع وجعله مادة لكتاب إذ

لم يسبقه أحد بجعل شؤون الدولة موضوعا لتأليف مستقل. إن المرجح أن الماوردي خلال جمعه وإعداده لكتاب الحاوي الكبير وهو الكتاب الذي سبق أن ذكرناه وذكرنا أنه في فقه الشافعية قد وجد أن هذه المادة يمكن أن تستقل في كتاب خاص بها رغم وجودها مبثوثة في مختلف كتب الفقه وأجزاء موسوعته «الحاوي الكبير» . لقد تحدث المستشرقين عن أبي الحسن الماوردي كثيرا وخصوصا عن كتابه هذا الذي اعتبروه نظرية الماوردي في الخلافة الإسلامية» . 7- كتاب «تسهيل النظر وتعجيل الظفر» : وهو كسابقه كتاب في السياسة والحكومة وما زال مخطوطا لم يطبع. 8- كتاب «نصيحة الملوك» : وهو كتاب سياسي آخر ما زال غير مطبوع ومن نسخه المخطوطة المعروفة نسخة مكتبة باريس. 9- كتاب «قوانين الوزارة وسياسة الملك» : وقد طبع في «دار العصور» في مصر سنة 1929 ميلادية وأسماه الناشر أدب الوزير وهو أيضا كتاب في علم السياسة والاجتماع وهو من كتب الماوردي التي ترجمت إلى عدد من اللغات الأوروبية وخصوصا الألمانية والفرنسية بعد أن ترجمت أصلا في الفترات السابقة إلى اللغة اللاتينية وكانت مرجعا في علم السياسة والاجتماع وأصول الحكم وعلاقة الحاكم بالمحكومين. 10- كتاب «الأمثال والحكم» : وقد جمع فيه ثلاثمائة حديث وثلاثمائة حكمة وثلاثمائة بيت في الشعر وقسمها على عشرة فصول. ونسخته المخطوطة موجودة في مكتبة مدينة ليدن. 11- كتاب «البغية العليا في أدب الدين والدنيا» : وهو الكتاب الذي عرف باسم «أدب الدنيا والدين» وهو ما بين أيدينا. 12- كتاب «في النحو» : لم نقع له على نسخة مخطوطة وإنما عرفناه من خلال معجم ياقوت الحموي الذي ذكره في ترجمته للمؤلف إذ قال: «وله تصانيف حسان في كل فن منها: كتاب في النحو، رأيته في حجم الإيضاح أو أكبر» .

الخطيب البغدادي:

قالوا عنه: الخطيب البغدادي: كان الخطيب البغدادي أحمد بن علي بن ثابت من تلامذة الماوردي وقد قال عنه في كتابه تاريخ بغداد: «علي بن محمد بن حبيب أبو الحسن البصري المعروف بالماوردي كان من وجوه الفقهاء الشافعيين، وله تصانيف عدة في أصول الفقه وفروعه، وفي غير ذلك» . جعل إليه ولاية القضاء ببلدان كثيرة. سكن ببغداد في درب الزعفران وحدث بها عن الحسن بن علي بن محمد الجبلي، وصاحب أبي خليفة الجمحي وعن محمد بن عدي بن زحر المقري، ومحمد بن المعلى الأسدي وجعفر بن محمد بن الفضل البغدادي، كتبت عنه وكان ثقة. مات في يوم الثلاثاء سلخ شهر ربيع الأول في سنة خمسين وأربعمائة ودفن في الغد في مقبرة باب حرب وصليت عليه في جامع المدينة وكان قد بلغ ستا وثمانين سنة» . ابن الصلاح: جاء في «طبقات الشافعية الكبرى» لتاج الدين السبكي قول ابن الصلاح عنه: «هذا الماوردي، عفا الله عنه، يتهم بالاعتزال، وقد كنت لا أتحقق ذلك عليه، وأتأوّل له، وأعتذر عنه في كونه يورد في تفسيره، في الآيات التي يختلف فيها أهل التفسير، تفسير أهل السنة، وتفسير المعتزلة، غير معترض لبيان ما هو الحق منها، وأقول: لعل قصده إيراد كل ما قيل من حق وباطل، ولهذا يورد من أقوال «المشبّهة» أشياء، مثل هذا الإيراد، حتى وجدته يختار في بعض المواضع قول المعتزلة، وما بنوه على أصولهم الفاسدة. وتفسيره عظيم الضرر، لكونه مشحونا بتأويلات أهل الباطل، تلبيسا وتدسيسا، على وجه لا يفطن له غير أهل العلم والتحقيق، مع أنه تأليف رجل لا يتظاهر بالانتساب إلى المعتزلة، بل يجتهد في كتمان موافقتهم فيما هو لهم فيه موافق. ثم هو ليس معتزليا مطلقا، فإنه لا يوافقهم في جميع أصولهم، مثل خلق القرآن، كما دل

أبو إسحاق الشيرازي:

عليه تفسيره، في قوله عز وجل: ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ. وغير ذلك، ويوافقهم في القدر، وهي البلية التي غلبت على البصريين، وعيبوا بها قديما» . أبو إسحاق الشيرازي: ويقول الشيرازي وهو من علماء وفقهاء الشافعية الأجلاء عن الماوردي: «درس بالبصرة وبغداد سنين كثيرة في الفقه والتفسير وأصول الفقه والأدب وكان حافظا للمذهب» . ابن خلكان: يقول ابن خلكان في «وفيات الأعيان» عن الماوردي: «كان من وجوه الفقهاء الشافعية وكبارهم، وكان حافظا للمذهب، وله فيه كتاب «الحاوي» الذي لم يطالعه أحد إلّا شهد له بالتبحر والمعرفة التامة بالمذهب» . تاج الدين السبكي: ويقول تاج الدين السبكي في «طبقات الشافعية الكبرى» عن الماوردي: «علي بن محمد بن حبيب الإمام الجليل القدر الرفيع المقدار والشأن، أبو الحسن المعروف بالماوردي، كان إماما جليلا له اليد الباسطة في المذهب والتفنن التام في سائر العلوم» .

مقدمة المؤلف

[مقدمة المؤلف] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* الحمد لله الذي أحكم ما خلق وقدّر، وعدل فيما قسم ودبر، وأنذر بما أنشأ وأظهر، واستأثر بما أخفى وأسر، وأنعم بما أمر وحظر، وأرشد إلى إنذاره بنوعي تفضيل تميز بهما جنس البشر عن كل حيوان بهيم، وهما نطق يفضي إلى الفهم، وعقل يؤدي إلى العلم، ليعان بهما على ما كلف من أوان التعبد فيصل بالعقل إلى علمه واستعلامه، وبالنطق إلى فهمه واستفهامه، فيصير مهيأ لقبول ما كلف من التعارف ومعانا على ما تعبد به من الشرائع نعمة بها قطع الأعذار، وعمّ بها المصالح ليكون الخلق على رغب يدعوهم إلى الطاعة ورهب يكفهم عن المعصية فيعم الخير بالرغبة، وينحسم الشر بالرهبة، وهذا لا يستقر في النفوس إلّا برسل مبلغين عن الله ثوابه فيما أمر، وعقابه فيما حظر، فوجب أن يوضح في إثبات النبوّات ما ينتفي عنه ارتياب مغرور وشبهة معاند، وقد جعلت كتابي هذا مقصورا على ما أفضى ودل عليه ليكون عن الحق موضحا وللسرائر مصلحا وعلى صحة النبوّة دليلا ولشبه المستريب مزيلا وجعلت ما تضمنه مشتملا على أمرين: أحدهما: ما اختص بإثبات النبوّة من أعلامها. والثاني: فيما يختلف من أقسامها وأحكامها ليكون الجمع بينهما أنفى

للشبهة وأبلغ في الإبانة، وجعلت ما تضمنه هذا كتابا مشتملا على أحد وعشرين بابا. الباب الأول: في مقدمة الأدلة. الباب الثاني: في معرفة الإله المعبود. الباب الثالث: في صحة التكليف. الباب الرابع: في إثبات النبوّات. الباب الخامس: في مدة العالم وعدة الرسل عليهم الصلاة والسلام. الباب السادس: في إثبات نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم. الباب السابع: فيما يتضمنه القرآن من أنواع إعجازه. الباب الثامن: في معجزات عصمته صلى الله عليه وسلم. الباب التاسع: فيما شوهد من معجزات أفعاله وصلى الله عليه وسلم. الباب العاشر: فيما سمع من معجزات أقواله صلى الله عليه وسلم. الباب الحادي عشر: فيما أكرمه الله تعالى به من إجابة دعوته صلى الله عليه وسلم. الباب الثاني عشر: في إنذاره بما يستحدث بعده صلى الله عليه وسلم. الباب الثالث عشر: في معجزه صلى الله عليه وسلم بما ظهر من البهائم. الباب الرابع عشر: في ظهور المعجز من الشجر والجماد. الباب الخامس عشر: في بشائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بنبوّته صلى الله عليه وسلم. الباب السادس عشر: في هتوف الجن بنبوته صلى الله عليه وسلم. الباب السابع عشر: فيما هجست النفوس من إلهام العقول بنبوّته صلى الله عليه وسلم. الباب الثامن عشر: في مبادىء نسبه وطهارة مولده صلى الله عليه وسلم. الباب التاسع عشر: في آيات مولده وظهوره بركته صلى الله عليه وسلم. الباب العشرون: في شرف أخلاقه وكمال فضائله. الباب الحادي والعشرون: في مبتدى بعثته واستقرار نبوّته. وأنا أسأل الله تعالى حسن معونته وأرغب إليه في توفيقه وهدايته وصلى الله على محمد وعلى آله وصحابته وهو حسبي ونعم الوكيل.

الباب الأول في مقدمة الأدلة

الباب الأول في مقدمة الأدلة والأدلة ما أوصلت إلى العلم بالمدلول عليه، والدليل معلوم بالعقل، والمدلول عليه معلوم بالدليل، فيكون العقل موصلا إلى الدليل، وليس بدليل، لأن العقل أصل كل معلوم من دليل ومدلول عليه، ولذلك سمي أم العلم، فصار العقل مستدلا وإن لم يكن دليلا، والعلم الحادث عنه ما تميز به الحق من الباطل، والصحيح من الفاسد، والممكن من الممتنع، وهو على ضربين: علم اضطرار وعلم اكتساب، فأما علم الاضطرار فهو ما أدرك ببداهة العقول وهو نوعان: حس ظاهر، وخبر متواتر، وعلم الحس متأخر عن العقل وعلم الخبر متقدم عليه، ولا يفتقر علم الاضطرار إلى نظر واستدلال لإدراكه ببديهة العقل ويشترك فيه الخاصة والعامة ولا يتوجه إليه جحد ولا تحسن المطالبة فيه بدليل لأنه غاية لتناهي النظر. علم الاكتساب وأما علم الاكتساب فطريقه النظر والاستدلال لأنه غير مدرك ببديهة العقل، فصحّ أن يتوجه إليه الاعتراض فيه بطلب الدليل عليه، فلذلك لم يتوصل إليه إلّا بالنظر والاستدلال، وهو على ضربين: أحدهما؛ ما كان من قضايا العقول، والثاني؛ ما كان من أحكام السمع، فأما قضايا العقول فضربان: أحدهما؛ ما علم إستدلالا بضرورة العقل، والثاني؛ ما علم

الضرورة والدليل

استدلالا بدليل العقل، فأما المعلوم بضرورة العقل فهو ما لا يجوز أن يكون على خلاف ما هو به كالتوحيد فيوجب العلم الضروري، وإن كان عن استدلال للوصول إليه بضرورة العقل، وأما المعلوم بدليل العقل فهو ما يجوز أن يكون على خلاف ما هو به كآحاد الأنبياء إذا ادعى النبوّة فيوجب علم الاستدلال ولا يوجب علم الاضطرار لحدوثه عن دليل العقل لا عن ضرورته، واختلف في أصل النبوّات على العموم هل يعلم بضرورة العقل أو بدليله على اختلافهم في التعبد بالشرائع هل اقترن بالعقل أو بعقبه فذهب من جعله مقترنا بالعقل إلى إثبات عموم النبوّات بضرورة العقل وذهب من جعله متأخرا عن العقل إلى إثباتها بدليل العقل، وذهب أصحاب الإلهام إلى إسقاط الاستدلال بقضايا العقول وجعلوا إثبات المعارف بالإلهام أصلا يغني عن أصل، وهذا فاسد بقول الله تعالى: فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ «1» فجعله بالاعتبار مدركا دون الإلهام، ويقال لمن أثبت المعارف بالإلهام لم قلت بالإلهام؟ فإن استدل ناقض، فإن قال: قلته بالإلهام، قيل له: انفصل عمن أسقط الإلهام بالإلهام، وعمن قال في الإلهام بغير إلهامك في جميع أقوالك فلا تجد فصلا، وكفى بذلك فسادا. الضرورة والدليل فإذا ثبت أن كلا الضربين «2» مدرك بقضية العقل فيما علم بضرورته من التوحيد أو بدليله من النبوّة، صار بعد العلم به واجبا واختلف في وجوبه، هل وجب بما صار معلوما به من قضية العقل أو بالسمع، فذهب قوم إلى وجوب التوحيد والنبوة بالعقل كما علم بالعقل ويكون التوحيد وعموم النبوات قبل السمع فرضا، وذهب آخرون إلى وجوبهما بالسمع وإن علما بالعقل لأن الوجوب تعبد لا يثبت إلّا بالسمع. واختلف من قال بهذا في وجوب ورود السمع به فأوجبه بعضهم ولم يوجبه

_ (1) سورة الحشر الآية (2) . (2) الضربين: النوعين.

أحكام العقل

آخرون منهم وأسقطوا فرض التوحيد عن العقلاء إذا لم يرد سمع بإيجابه. وذهب آخرون إلى أن ما علم بضرورة العقل من التوحيد واجب بالعقل وما علم بدليل العقل من النبوّة واجب بالسمع لأن التوحيد أصل والنبوّة فرع والاجتهاد فيهما فرض على أعيان ذوي العقول إذا اقترن بكمال عقله قوة الفطنة وصحة الروية، فيستغنى بكمال عقله وصحة رويته عن تنبيه ذوي العقول الوافرة ليصل بإجتهاد عقله من اضطرار أو استدلال إلى قضايا العقول ليصير عالما بها ومستغنيا عن عقل غيره فيها، وإن ضعفت فطنته وقلت رويته لزمه أن يتنبه بذوي العقول على الوصول إليها بعقله لا بعقولهم فيعلمها بالتنبيه كما علمها غيره بالنظر وإن لم يصل إليها بالتنبيه فليس بكامل العقل ويصير تبعا لذوي العقول لأن عدم الموجب دال على سقوط الموجب. أحكام العقل والعقل هو ما أفاد العلم بموجباته، وقيل: بل هو قوة التمييز بين الحق والباطل. وقيل: هو العلم بخفيات الأمور التي لا يوصل إليها إلّا بالاستدلال والنظر وهو ضربان، غريزي هو أصل ومكتسب هو فرع. فأما الغريزي فهو الذي يتعلق به التكليف ويلزم به التعبد. وأما المكتسب فهو الذي يؤدي إلى صحة الاجتهاد وقوة النظر ويمتنع أن يتجرد المكتسب عن الغريزي ولا يمتنع أن يتجرد الغريزي عن المكتسب لأن الغريزي أصل يصح قيامه بذات والمكتسب فرع لا يصح قيامه إلّا بأصله. ومن الناس من امتنع من تسمية المكتسب عقلا لأنه من نتائجه ولا اعتبار بالنزاع في التسمية إذا كان المعنى مسلّما. أحكام السمع وأما أحكام السمع فمأخوذة عمن يلزم طاعته من الرسل والعقل مشروط في التزامها وإن لم يكن السمع مشروطا في قضايا العقول. وما يتضمنه السمع نوعان: تعبد وإنذار، فالتعبد الأوامر والنواهي، والإنذار الوعد والوعيد فإن

جمع الرسول بين التعبد والإنذار فهو الشرع الكامل المغني عن غيره وإن انفرد بالتعبد دون الإنذار فإن تقدمه إنذار غيره كمل الشرع بتعبده وإنذار من تقدمه وإن لم يتقدمه إنذار من غيره، أما في مبادىء النبوات أو في من لم تبلغهم دعوة الأنبياء فقد اختلف في قضايا العقول هل تقتضي الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية، فذهب فريق إلى اقتضائها لذلك فعلى هذا يكون شرعا كمل بتعبد الرسول وإنذار العقول، وذهب فريق إلى أن قضايا العقول لا تقتضي ثوابا ولا عقابا، فعلى هذا اختلف في التعبد هل يكون مستحقا على ما تقدم من نعم الله تعالى على خلقه أو لجزاء مستقبل فذهب فريق إلى استحقاقه بسابق النعمة فإن وعد الله تعالى ثوابا عليه كان تفضلا منه يستحق بالوعد دون التعبد فعلى هذا يكون التعبد فرضا مستحقا يقتضي تركه عقابا وإن لم يقتض فعله ثوابا، وذهب آخرون إلى استحقاقه بما يقابله من الجزاء بالثواب عليه وما تقدم من النعمة تفضل منه فعلى هذا يكون التزام التعبد مستحبا وليس بمستحق فلا يلزم على تركه عقاب كما لم يستحق على فعله ثواب لأنه لم يقترن به وعد بثواب يوجب التزام التعبد، وإن انفرد الرسول بالإنذار دون التعبد فالإنذار لا يكون إلّا على فعل وإلّا كان عبثا لا يصدر عن كليم، فإن كان إنذاره على شرع تقدمه تضمن إنذاره إثبات ذلك الشرع وكان هذا المنذر من أمة ذلك المتعبد، وإن كان المتعبد قد أنذر كان هذا الإنذار تأكيدا ولم يحتج هذا المنذر إلى إظهار معجز، وإن لم يكن المتعبد قد أنذر تكامل شرع المتعبد بإنذار المتأخر وتكامل إنذار المتأخر بتعبد المتقدم واحتاج هذا المنذر إلى إظهار معجز إلى إنذاره موجب لكمال الشرع وإن أنذر المتأخر على فعل الخير واجتناب الشر خرج عن حكم الشرع إلى الوعظ والزجر بأمر إلهي يستحق له بسط اليد في الانكار واستيفاء ما تضمنه الإنذار.

الباب الثاني في معرفة الإله المعبود لا يصح التعبد ببعثة الرسل إلّا بعد معرفة المعبود المرسل ليعلم أنهم رسل مطاع معبود فيطاعوا لفرض طاعة المعبود، والمعبود هو الله عز وجل المنعم على عباده بما كلفهم من عبادته وافترض عليهم من طاعته بعد النعمة عليهم بخلق ذواتهم والإرشاد إلى مصالحهم واستودعهم علم اضطرار يدرك ببداية العقول «1» ، وعلم اكتساب يدرك بالفكر والنظر «2» ، ولما كانوا محجوبين عن ذاته لم يدركوه ببداية الحواس اضطرارا، وقد ظهر من إظهار آثار صنعته وإتقان حكمته ما يوصل إلى معرفة ذاته وصفاته اكتسابا لإدراكها بالاعتبار والنظر، ولو شاء لخلق ما يدرك ببداية الحواس، لكن معرفته بالاستدلال أبلغ في الحكمة لظهور التباين في الرتبة فلذلك ما امتنع الوصول إلى معرفته اضطرارا ووصل إليها استدلالا واكتسابا يخرج عن بداية العقول إلى استدلال معقول. والذي يؤدي إلى معرفته جل جلاله ثلاثة فصول: أحدهما: أن العالم محدث وليس بقديم. والثاني: أن للعالم محدثا قديما «3» .

_ (1) أي يدرك بالبديهة والفهم. (2) أي بإعمال الفكر في الكون والمخلوقات يدرك الخالق. (3) محدثا قديما: خالقا.

والثالث: أنه واحد لا شريك له. فأما الفصل الأول؛ في حدوث العالم، فالمحدث ما كان له أول، والقديم ما لا أول له، والدليل على حدوث العالم شيئان: أحدهما: أن العالم جواهر وأجسام، لا تنفك عن أعراض محدثة من اجتماع وافتراق وحركة وسكون، وإنما كانت الأعراض محدثة لأمرين: أحدهما: أنه لا يصح قيامها بذواتها. والثاني: لوجودها بعد عدمها «4» ، وزوالها بعد وجودها «5» ، وما لم ينفك عن الأعراض المحدثة لم يسبقها، لأنه لو سبقها لكان لا مجتمعا ولا مفترقا ولا متحركا ولا ساكنا، وهذا مستحيل فإستحال سبقه، وما لم يسبق المحدث فهو محدث فإن قيل: فليس يستنكر أن تكون الحوادث الماضية لا أول لها، فلم يلزم حدوث العالم، قيل: إذا كان لكل واحد من الحوادث أول استحال أن لا يكون لجميعها أول لأنها ليست غير آحادها، فصارت جميعها محدثة لأنها ذوات أوائل محدثة. والدليل الثاني: على حدوث العالم وجوده محدودا متناهي الأجزاء والأبعاض وما تناهت أجزاؤه وأمكن توهم الزيادة عليه والنقصان منه كان تقديره على ما هو به دليلا، على أن غيره قدره إذ ليس كون ذاته على صفة بأولى من كونه على غيرها لولا تدبر غيره لها. فإن قيل: فلم لا كانت طينته قديمة وأعراض تركيبه وتصويره حادثة، كأفعال الله تعالى حادثة عن ذاته القديمة؟ قيل: لأن حدوث أعراضه فيه، وهو لا ينفك منها فصار محدثا بها وأفعال الله تعالى حادثة في غيره، فلم يمنع حدوثها من قدمه، ولو حدثت فيه لمنعت من قدمه. وأما الفصل الثاني: أن للعالم محدثا قديما، فالدليل على أن له محدثا قديما شيئان:

_ (4) أي كان هناك وقت لم تكن موجودة فيه. (5) أي أنها فانية وليست خالدة.

أحدهما: أنه لما استحال أن يكون العالم محدثا لذاته لإفضائه إلى وجوده قبل حدثه دل على أن محدثه غيره. والثاني: أن وجود ما لم يكن يوجب أن يقتضي موجدا كما اقتضى المبنى بانيا والمصنوع صانعا والدليل على قدم محدثه شيئان: أحدهما: أنه لا أول له وما لا أول له قديم. والثاني: أنه لو لم يكن قديما لاحتاج إلى محدث ولاحتاج محدثه إلى محدث ولا تنتهي إلى ما لا غاية له فامتنع وثبت قدمه أنه لم يزل ولا يزال فلم يكن له أول ولا يكون له آخر. وإذا كان محدثه قديما وجب أن يكون قادرا مريدا. والدليل على قدرته أنه يصح منه أن يفعل ولا يفعل مع انتفاء الموانع وقد فعل فدل وجود الفعل منه على قدرته عليه، والدليل على أنه مريد أنه لما وجد منه الفعل وهو غير ساه ولا مكره ولا عابث لانتفاء السهو عنه بعلمه وانتفاء الإكراه عنه بقدرته وانتفاء العبث عنه بحكمته دل على إرادته كما كانت كتابة الكاتب مع انتفاء هذه العوارض دليلا على إرادة كتابته فصار إحداثه للعالم دليلا على قدمه وحدوث أفعاله وقدمه يوجب أن تكون صفات ذاته قديمة لقدمه وحدوث أفعاله يوجب أن تكون صفات أفعاله محدثه. وأما الفصل الثالث: أنه واحد لا شريك له ولا مثل، فالدليل عليه شيئان: أحدهما: أن عموم قدرته شامل لجميع المحدثات فوجب أن يكون محدث بعضها محدثا لجميعها إذ ليس بعضها بأخص بقدرته من بعض، فأوجب تكافؤ الأمرين عموم الجميع. والثاني: أنه لو كان معه غيره لم يخل أن يكون مماثلا أو مخالفا، فإن خالفه بطل أن يكون قادرا، وإن ماثله استحال وجود إحداث واحد من محدثين كما استحال وجود حركة واحدة من متحركين.

وذهب الثنوية «6» من المتباينة إلى إثبات قديمين هما عندهم نور وظلمة يحدث الخير عن النور والشر عن الظلمة وهذا فاسد من وجهين: أحدهما: أن النور والظلمة لا ينفكان أن يكونا جسما أو جوهرا أو عرضا، وجميعها محدثة فدل على حدوثهما. والثاني: أن الظلمة ليست بذات وإنما هي فقد النور عما يقبل النور، ولهذا إذا فقدنا النور في الهواء تصورناه مظلما فلم يجز أن يوصف بقدم ولا يضاف إليها فعل. وذهب المجوس إلى أن الله تعالى والشيطان فاعلان، فالله تعالى فاعل الخير وخالق الحيوان النافع، والشيطان فاعل الشر وخالق الحيوان الضار، قالوا: لأن فاعل الشر شرير ويتعالى الله عن هذه الصفة، وجعلوا الله تعالى جسما وإن كان قديما. واختلفوا في قدم الشيطان، فقال به بعضهم وامتنع من قدمه زرادشت وأكثرهم واختلفوا في علة حدوثه، فزعم زرادشت أن الله تعالى استوحش ففكر فكرة رديئة فتولد منها (اهرمن) وهو إبليس. وقال غيره، بل شكّ فتولد الشيطان من شكه. وقال آخرون: بل حدث عفن فتولد الشيطان من عفنه وهذه أقاويل تدفعها العقول، أما جعلهم الله تعالى جسما، فدليلنا على حدوث الأجسام يمنع أن يكون الله تعالى مع قدمه جسما. ودليلنا على الثنوية يمنع أن يكون الشيطان معه ثانيا وإثبات قدرته يمنع أن يكون مغلوبا وعلمه بمنع أن يكون شاكا أو مفكرا وانتفاء الحزن عنه يمنع أن يكون مستوحشا وامتناع الفساد عليه يمنع أن يكون عفنا. وقولهم أن فاعل الشر شرير قيل خروجه عن قدرته مثبت لعجزه فوجب أن يدخل في عموم قدرته.

_ (6) ويسمون أيضا: المثنوية، وهي مشتقة من مثنى، لقولهم بقدم اثنين: النور والظلمة.

الباب الثاني في معرفة الإله المعبود

قول النصارى «7» فأما النصارى فقد كانوا قبل أن تنصّر قسطنطين الملك على دين صحيح في توحيد الله تعالى ونبوّة عيسى عليه السلام ثم اختلفوا في عيسى بعد تنصّر قسطنطين وهو أول من تنصر من ملوك الروم، فقال أوائل النسطورية أن عيسى هو الله، وقال أوائل اليعاقبة أنه ابن الله، وقال أوائل الملكانية أن الآلهة ثلاثة احدهم عيسى. ثم عدل أواخرهم عن التصريح بهذا القول المستنكر حين استنكرته النفوس ودفعته العقول، فقالوا أن الله تعالى جوهر واحد هو ثلاثة أقانيم: أقنوم الآب وأقنوم الابن وأقنوم روح القدس، وأنها واحدة في الجوهرية وأن أقنوم الآب هو الذات وأقنوم الابن هو الكلمة وأقنوم روح القدس هو الحياة، واختلفوا في الأقانيم فقال بعضهم: هى خواص وقال بعضهم: هي أشخاص، وقال بعضهم. هي صفات وقالوا: إن الكلمة اتحدت بعيسى واختلفوا في الاتحاد فقال النسطورية معنى الاتحاد أن الكلمة ظهرت حتى جعلته هيكلا وأن المسيح جوهران أقنومان أحدهما إلهي والآخر إنساني فلذلك صح منه الأفعال الإلهية من اختراع الأجسام وإحياء الموتى والأفعال الإنسانية من الأكل والشرب.

_ (7) لقد تجاوز المؤلف رحمه الله قول الأريوسية أي آريوس وأتباعه الذين ذكرهم الرسول الكريم في رسالته إلى قيصر ملك الروم في قوله صلى الله عليه وسلم «فإن عليك إثم الأريسيين،» الذين قالوا بأن المسيح هو الكلمة، كلمة الله وأن الكلمة محدثة أي أنها مخلوق من مخلوقات الله وأن المسيح بالتالي نبي من الأنبياء فقط، وأنه إنسان. لكن بعد اتفاق بعض البطاركة والمطارنة مع الملك قسطنطين الأول على جعل المسيحية دين الدولة الرومانية مقابل بعض التعديلات في أسس لعقيد المسيحية وقد تطورت هذه التعديلات حتى وصلت إلى فكرة التثليث في مجمع نيقيا أي أنها تبنت الديانة الوثنية الرومانية القائلة بثلاثية الألوهة زفس- كرونوس- جوبيتر بتسمية جديدة الآب، الإبن، الروح القدس. وقول الوثنية الرومانية بأن هيرا آلهة الأرض وأم الإله ألبسوه للعذراء مريم. وقد أبيد الأريوسيين وحرموا وكفّروا واضطهدوا حيثما وجدوا، أما الذين سبق أن قتلتهم الوثنية الرومانية منهم قبل تبني الدولة لمسيحية التثليث فاعتبرتهم الكنيسة شهداء وقديسين لكنها حرّمت كتبهم مدعية أن فيها كفرا وهرطقة فتأمل.

معنى الوحدانية

وقال اليعاقبة: الاتحاد هو الممازجة حتى صار منها شيء ثالث نزل من السماء وتجسد من روح القدس وصار إنسانا هو المسيح وهو جوهر من جوهرين وأقنوم من أقنومين جوهر لاهوتي وجوهر ناسوتي. وقال الملكانية: المسيح جوهران أقنوم واحد، وليس لهذا المذهب شبهة تقبلها العقول وفسادها ظاهر في المعقول. أما قولهم أن الله تعالى جوهر فقد دللنا على حدوث الجواهر فاستحال أن يكون القديم جوهرا. وأما قولهم أنه ثلاثة أقانيم فإن جعلوها أشخاصا قالوا بالتثليث وامتنعوا من التوحيد وقد دللنا على أن القديم واحد وإن جعلوا الأقانيم خواص وصفات لذات واحدة فقد جعلوه أبا وابنا من جوهر أبيه فشركوا بينهما في الجوهر الإلهي وفضلوه على الآب بالجوهر الإنساني فلم يكن مع اشتراكهما في الإلهي أن يتولد من الآب بأولى أن يتولد منه الآب مع تفضيله بالجوهر الإنساني. وكيف يكون قديما ما تولد عن قديم وإنما ظهرت منه الأفعال الإلهية لأنها من قبل الله تعالى إظهارا لمعجزته وليست من فعله كفلق البحر لموسى عليه السلام وليس ذلك من إلهية موسى وقولهم جوهر لاهوتي وجوهر ناسوتي فناسوت المسيح كناسوت غيره من الأنبياء وقد زال ناسوته فبطل لاهوته. معنى الوحدانية فإذا ثبت أن الله تعالى واحد قديم فقد اختلف في معنى وحدانيته فقالت طائفة المراد بأنه واحد وأن جميع المحدثات منسوبة إلى قدرة واحدة أحدث القادر بها جميع المحدثات. وقالت طائفة أخرى: المراد به نفي القسمة عن ذاته واستحال التبعض والتجزئة في صفته. وقال الجمهور وهو المذهب المشهور أنه واحد الذات قديم الصفات تفرد بالقدم عن شريك مماثل واختص بالقدرة عن فاعل معادل لا شبه لذاته تنتفي

عنه الحوادث والأعراض ولا تناله المنافع والمضار ولا ينعت بكل ولا بعض ولا يوصف بمكان يحل فيه أو يخلو منه لحدوث الأمكنة واستحالة التجزئة لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ «8» كما وصف نفسه في كتابه ودلت عليه آثار صنعته وإتقان حكمته. وقد سئل علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه عن العدل والتوحيد فقال: التوحيد أن لا تتوهمه «9» والعدل أن لا تتهمه «10» ففصح بما بهر إيجازه وقهر إعجازه. وقد لحظ دلائل التوحيد من السعداء من قال: أيا عجبا كيف يعصى الإل ... هـ أم كيف يجحده جاحد وفي كل شيء له شاهد ... دليل على أنه واحد

_ (8) سورة الشورى الآية (11) . (9) أي أن تؤمن بوحدانية الله إيمانا مطلقا غير قابل للنقاش ولا للسؤال. (10) أي أن تسلم تسليما مطلقا تسليم العبد الطائع القابل دون اعتراض لأحكام سيده ولا سؤال عن السبب والنتيجة.

الباب الثالث في صحة التكليف

الباب الثالث في صحة التكليف تعريفات [للتكليف] التكليف هو إلزام ما ورد به الشرع تعبدا وهو نوعان: أحدهما: ما تعلق بحقه من أمر بطاعة «1» ونهي عن معصية «2» . والثاني: ما تعلق بحقوق عباده من تقدير الحقوق وتقرير العقود ليكونوا مدبرين بشرع مسموع ومنقادين لدين متبوع فلا تختلف فيه الآراء ولا تتبع فيه الأهواء، وليعلموا به ابتداء النشأة وانتهاء الرجعة، فتصلح به سرائرهم الباطنية، وتخشع له قلوبهم القاسية، وتجتمع به كلمتهم المتفرقة، وتتفق عليه أحوالهم المختلفة، ويسقط به تنازعهم في الحقوق المتجاذبة، ويكونوا على رغب في الثواب يبعثهم على الخير، ورهب من العقاب يكفهم عن الشر، وهذه أمور لا يصلح الخلق إلّا عليها ولا يوصل بغير الدين المشروع إليها، إذ ليس في طباع البشر أن يتفقوا على مصالحهم من غير وازع ولا يتناصفوا في الحقوق من غير دافع لحرصهم على اختلاف المنافع، وبهذا يفسد ما ذهبت إليه البراهمة من الاقتصار على قضايا العقول وإبطال التعبد

_ (1) إيجاب الطاعات والقيام بها. (2) نفي المحرمات والمكروهات وترك العمل بها.

وجوب التكليف

بشرائع الرسل، فالتكليف حسن في العقول إذا توجه إلى من علمت معصيته واستحسنه المعتزلة لأن فيه تعريضا للثواب ولم يستحسنه الأشعرية لأنه بالمعصية معرض للعقاب، والأول أشبه بمذهب الفقهاء وإن لم يعرف لهم فيه قول يحكى، واختلف في التكليف هل يكون معتبرا بالأصلح فالذي عليه أكثر الفقهاء أنه معتبر بالأصلح لأن المقصود به منفعة العباد. وذهب فريق من الفقهاء والمتكلمين إلى أنه موقوف على مشيئة الله تعالى من مصلحة وغيرها لأنه مالك لجميعها فمن اعتبر الأصلح منع من تكليف ما لا يطاق ومن اعتبره بالمشيئة جوز تكليف ما لا يطاق ويصح تكليف ما لحقت فيه المشقة المحتملة واختلف في صحة التكليف فيما لا مشقة فيه فجوزها الفقهاء ومنع منها بعض المتكلمين، وقد ورد التعبد بتحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة وليس فيه مشقة وإذا اعتبر التكليف بالاستطاعة لم يتوجه إلى ما خرج عن الاستطاعة واختلف في المانع منه فقال فريق منع منه العقل لامتناعه فيه، وقال فريق منع منه الشرع وإن لم يمنع منه العقل بقوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها «3» . وجوب التكليف فإذا تقرر شروط التكليف مع كونه حسنا فقد اختلف في وجوبه، فأوجبه من اعتبر الأصلح وجعله مقترنا بالعقل لأنه من حقوق حكمته، ولم يوجبه من حمله على الإرادة لأن الواجب يقتضي علوّ الموجب، وهذا منتف عن الله تعالى، واختلف من قال بهذا في تقدم العقل على الشرع. فقال فريق: يجوز أن يقترن بالعقل ويجوز أن يتأخر عنه بحسب الإرادة ولا يجوز أن يتقدم على العقل لأن العقل شرط في لزوم التكليف. وقال فريق: بل يجب أن يكون التكليف واردا بعد كمال العقل ولا يقترن به كما يتقدم عليه لقول الله تعالى: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ

_ (3) سورة البقرة من الآية (286) .

شرعية التكليف

سُدىً «4» وهذه صفة متوجهة إليه بعد كمال عقله. شرعية التكليف وقد استقر بما قدمناه أن التكليف الشرعي ما تضمنه الأوامر والنواهي في حقوق الله تعالى وحقوق عباده والمأمور به ضربان واجب وندب، فالواجب ما وجب أن يفعل والندب ما الأولى أن يفعل والمنهى عنه ضربان مكروه ومحظور، فالمحظور ما وجب تركه، والمكروه ما الأولى تركه، فأما المباح فما استوى فعله وتركه فلا يجب أن يفعل ولا الأولى أن يفعل ولا يجب أن يترك ولا الأولى أن يترك، واختلف في دخول المباح في التكليف، فذهب بعض أصحاب الشافعي رحمه الله إلى دخوله في التكليف. واختلف قائل هذا هل دخل فيه بإذن أو بأمر على وجهين: أحدهما: بإذن ليخرج حكم الندب. والثاني: بأمر دون أمر الندب كما أن أمر الندب دون أمر الواجب وذهب آخرون من أصحاب الشافعي رحمه الله إلى خروجه من التكليف بإذن أو أمر لاختصاص التكليف بما تضمنه ثواب أو عقاب واتفقوا في المباح أنه لا يستحق عليه حمد ولا ذم ويخرج عن القبيح واختلفوا في دخوله في الحسن فأدخله بعضهم فيه وأخرجه بعضهم منه. الأمر والإرادة والأمر بالتكليف هو استدعاء الطاعة بالانقياد للفعل واختلفوا في اقتران الإرادة به هل يكون شرطا في صحته، فذهب الأشعري إلى أن الإرادة غير معتبرة فيه ويجوز أن يأمر بما لا يريده ويكون أمرا كالذي يريده، وذهب المعتزلة إلى أنه لا يكون أمرا إلّا بالإرادة، فإن لم تعلم إرادته لم يكن أمرا. واختلفوا هل تعتبر إرادة الأفراد إرادة المأمور به فاعتبر بعضهم إرادة الأمر المنطوق به واعتبر آخرون منهم إرادة الفعل المأمور به والذي عليه جمهور الفقهاء أن الأمر دليل على

_ (4) سورة القيامة الآية (36) .

شروط صحة الأمر

الإرادة وليست الإرادة شرطا في صحة الأمر. وإن كانت موجودة مع الأمر فيستدل بالأمر على الإرادة ولا يستدل بالإرادة على الأمر. شروط صحة الأمر ومن صحة الأمر أن يكون بما لا يمنع منه العقل فإن منع منه العقل لم يصح الأمر به لخروج التكليف عن محظورات العقول واختلف هل يعتبر صحته بحسنه في العقل فاعتبره فريق وأسقطه فريق. وإذا لم يكن يستوعب نصوص الشرع قضايا العقول كلها جاز العمل بمقتضى العقل فيها واختلف في إلحاقها بأحكام الشرع فألحقها فريق بها وجعلها داخلة فيها لأن الشرع لا يخرج عن مقتضاها وأخرجها فريق منها وإن جاز العمل بها كالمشروع لأن الشرع مسموع والعقل متبوع. وقت الأمر والأمر يكون بالقول أو ما قام مقام القول إذا عقل منه معنى الأمر واختلف فيه متى يكون أمرا. فذهب جمهور الفقهاء والمتكلمين إلى أنه يكون أمرا وقت القول ويتقدم على الفعل وذهب شاذ من الفقهاء والمتكلمين إلى أنه يكون أمرا وقت الفعل وما تقدمه من القول إعلام بالأمر وليس بأمر وهذا فاسد لأن الفعل يجب بالأمر فلو لم يكن ما تقدمه أمرا لاحتاج مع الفعل إلى تجديد أمر. أبواب الأمر والأمر ضربان: أمر اعلام «5» وأمر إلزام «6» فأما أمر الإعلام فمختص بالاعتقاد دون الفعل ويجب أن يتقدم الأمر على الاعتقاد بزمان واحد وهو وقت

_ (5) كالأمر بالإحسان إلى الفقراء والمساكين مثلا وتركه ترك لخير وثواب ولا عقاب على تاركه. (6) كالأمر بإداء الزكاة وتركه معصية وموجب للعقاب.

العلم به، وأما أمر الإلزام فمتوجه إلى الاعتقاد والفعل فيجمع بين اعتقاد الوجوب وإيجاد الفعل ولا يجزئه الاقتصار على أحدهما فإن فعله قبل اعتقاد وجوبه لم يجزه وإن اعتقد وجوبه ولم يفعله كان مأخوذا به ولا يلزم تجديد الاعتقاد عند فعله إذا كان على ما تقدم من اعتقاده لأن الاعتقاد تعبد التزام والفعل تأدية مستحق، ويجب أن يتقدم الأمر على الفعل بزمان الاعتقاد واختلف في إعتبار تقديمه بزمان التأهب للفعل على مذهبين: أحدهما: وهو قول شاذ من الفقهاء يجب تقديمه على الفعل بزمانين. أحدهما: زمان الإعتقاد. والثاني: زمان التأهب للفعل وبه قال من المتكلمين من اعتبر القدرة قبل الفعل. والمذهب الثاني: وهو قول جمهور الفقهاء يعتبر تقديم الأمر على الفعل بزمان الإعتقاد وحده والتأهب للفعل شروع فيه فلم يعتبر تقدمه عليه، وبه قال من المتكلمين من اعتبر القدرة مع الفعل.

الباب الرابع في إثبات النبوات

الباب الرابع في إثبات النبوّات الأنبياء عليهم السلام والأنبياء هم رسل الله تعالى إلى عباده بأوامره ونواهيه، زيادة على ما اقتضته العقول من واجباتها وإلزاما لما جوّزته من مباحاتها، لما أراده الله تعالى من كرامة العاقل وتشريف أفعاله واستقامة أحواله وانتظام مصالحه، حين هيأه للحكمة وطبعه على المعرفة، ليجعله حكيما وبالعواقب عليما، لأن الناس بنظرهم لا يدركون مصالحهم بأنفسهم ولا يشعرون لعواقب أمورهم بغرائزهم ولا ينزجرون مع اختلاف أهوائهم دون أن يرد عليهم آداب المرسلين وأخبار القرون الماضين، فتكون آداب الله فيهم مستعملة وحدوده فيهم متبعة وأوامره فيهم ممتثلة ووعده ووعيده فيهم زاجرا وقصص من غبر من الأمم واعظا فإن الأخبار العجيبة إذا طرقت الأسماع والمعاني الغريبة إذا أيقظت الأذهان استمدتها العقول فزاد علمها وصح فهمها وأكثر الناس سماعا أكثرهم خواطر وأكثرهم خواطر أكثرهم تفكرا وأكثرهم تفكرا أكثرهم علما وأكثرهم علما أكثرهم عملا فلم يوجد عن بعثة الرسل معدل ولا منهم في انتظام الحق بدا. منكرو النبوة وأنكر فريق من الأمم نبوّات الرسل وهم فيها ثلاثة أصناف: أحدها: ملحدة دهرية يقولون بقدم العالم وتدبير الطبائع فهم بإنكار المرسل أجدر أن يقولوا بإنكار الرسل.

إختلاف منكر والنبوة وبطلان حججهم

والصنف الثاني: براهمة موحدة «1» يقولون بحدوث العالم ويجحدون بعثة الرسل ويبطلون النبوات وهم المنسوبون إلى بهر من صاحب مقالتهم وشذ فريق منهم فادعى أنه آدم أبو البشر ومنهم من قال هو إبراهيم ومن قال من هذه الفرقة الشاذة منهم أنه أحد هذين أقر بنبوتهما وأنكر نبوّة من سواهما وجمهورهم على خلاف هذه المقالة في اعتزائهم لصاحب مقالتهم وإنكار جميع النبوّات عموما. والصنف الثالث: فلاسفة لا يتظاهرون بإبطال النبوّات في الظاهر وهم مبطلوها في تحقيق قولهم، لأنهم يقولون أن العلوم الربانية بعد كمال العلوم الرياضية من الفلسفة والهندسة ليضعها من كملت رياضته إذا كان عليها مطبوعا. إختلاف منكر والنبوة وبطلان حججهم واختلف من أبطل النبوّات في علة إبطالها فذهب بعضهم إلى أن العلة في إبطالها أن الله تعالى قد أغنى عنها بما دلت عليه العقول من لوازم ما تأتي به الرسل وهذا فاسد من وجهين: أحدهما: أنه لا يمنع ما دلت عليه العقول جواز أن تأتي به الرسل وجوبا ولو كان العقل موجبا لما امتنع أن تأتي به الرسل وجوبا، ولو كان العقل موجبا، لما امتنع أن تأتي به الرسل تأكيدا كما تترادف دلائل العقول على التوحيد، ولا يمنع وجود بعضها من وجود غيرها. والثاني: أنه لا تستغني قضايا العقول عن بعثة الرسل من وجهين: أحدهما: أن قضايا العقول قد تختلف فيما تكافأت فيه أدلتها فانحسم ببعثة الرسل اختلافها. والثاني: أنه لا مدخل للعقول فيما تأتي به الرسل من الوعد والوعيد والجنة والنار وما يشرعونه من أوصاف التعبد الباعث على التأله فلم يغن عن

_ (1) ومنهم من يقول بأن إدراك وحدانية الله تدرك بالعقل وجحدوا النبوات وادعوا أن العبادة إنما تكون بالقلب لا بالأفعال.

بعثة الرسل، وذهب آخرون منهم إلى أن العلة في إبطال النبوّات أن بعثة الرسل إلى من يعلم من حاله أنهم لا يقبلون منهم ما بلّغوه إليهم عبث يمنع من حكمة الله تعالى وهذا فاسد من وجهين: أحدهما: أنه ليس بعبث أن يكون فيهم من لا يقبله كما لم يكن فيما نصبه الله تعالى من دلائل العقول على توحيده عبثا وإن كان منهم من لا يستدل به على توحيده كذلك بعثة الرسل. والثاني: أن وجود من يقبله فيهم على هذا التعليل يوجب بعثة الرسل وهم يمنعون من إرسالهم إلى من يقبل ومن لا يقبل فبطل هذا التعليل، وقال آخرون منهم: بل العلة فيه أن ما جاء به الرسل مختلف ينقض بعضه بعضا، ونسخ المتأخر ما شرعه المتقدم. وقضايا العقول لا تتناقض فلم يرتفع بما يختلف ويتناقض وهذا فاسد من وجهين: أحدهما: أن ما جاء به الرسل ضربان: أحدهما: ما لا يجوز أن يكون إلّا على وجه واحد وهو التوحيد وصفات الرب والمربوب، فلم يختلفوا فيه وأقوالهم متناصرة عليه. والضرب الثاني: ما يجوز أن يكون من العبادات على وجه ويجوز أن يكون على خلافه ويجوز أن يكون في وقت ولا يجوز أن يكون في غيره وهذا النوع هو الذي اختلفت فيه الرسل لاختلاف أوقاتهم إما بحسب الأصلح وإما بحسب الإرادة وهذا في قضايا العقول جائز. والوجه الثاني: أن قضايا العقول قد تختلف فيها العقلاء ولا يمنع ذلك أن يكون العقل دليلا كذلك ما اختلف فيه الرسل لا يمنع أن يكون حجة. وقال آخرون منهم: بل العلة في إبطال النبوّات أنه لا سبيل إلى العلم بصحتها لغيبها وأن ظهور ما ليس في الطباع من معجزاتهم ممتنع الطباع الدافعة لها فهذا فاسد من وجهين: أحدهما: أن المعجزات من فعل الله تعالى فيهم فخرجت عن حكم طباعهم.

والثاني: أنهم لما تميزوا بخروجهم عن الطباع من الرسالة تميزوا بما يخرج عن عرف الطباع من الإعجاز. وقال آخرون منهم: بل العلة في إبطال النبوّات أن ما يظهرونه من المعجز الخارج عن العادة قد يوجد مثله في أهل الشعبذة «2» والمخرقة وأهل النار نجيات وليس ذلك من دلائل صدقهم فكذلك أحكام المعجزات، وهذا فاسد من وجهين: أحدهما: أن الشعبذة تظهر لذوي العقول وتندلس على الغر الجهول فخالفت المعجزة التي تذهل لها العقول. والثاني: أن الشعبذة تستفاد بالتعليم فيتعلمها من ليس يحسنها فيصير مكافئا «3» لمن أحسنها ويعارضها بمثلها والمعجزة مبتكرة لا يتعاطاها غير صاحبها ولا يعارضه أحد بمثلها كما انقلبت عصى موسى حية تسعى تلتقف ما أفكه السحرة فخرّوا له سجدا، ولئن كان في إبطاله هذه الشبهة دليل على إثباتها فيستدل على إثبات النبوّات من خمسة أوجه وإن اشتملت تلك الأجوبة على بعضها. أحدها: أن الله تعالى منعم على عباده بما يرشدهم إليه من المصالح ولما كان في بعثة الرسل ما لا تدركه العقول كان إرسالهم من عموم المصالح التي تكفل بها. والثاني: أن فيما تأتي به الرسل من الجزاء بالجنة ثوابا على الرغبة في فعل الخير، وبالنار عقابا يبعث على الرهبة في الكف عن الشر، صارا سببا لائتلاف الخلق وتعاطي الحق. والثالث: أن في غيوب المصالح ما لا يعلم إلّا من جهة الرسل فاستفيد

_ (2) الشعبذة: الشعوذة وأعمال السحر وخفة اليد والسيمياء الذي يهدف إلى التأثير على المشاهد لجعله يرى ما لا يوجد أمامه فعلا. (3) مكافئا: مساويا في الخبرة والقدرة على أداء نفس الأمر.

جواز النبوات

بهم ما لم يستفد بالعقل «4» . والرابع: أن التأله لا يخلص إلّا بالدين، والدين لا يصلح إلّا بالرسل المبلغين عن الله تعالى ما كلف. والخامس: أن العقول ربما استكبرت من موافقة الأكفاء ومتابعة النظراء، فلم يجمعهم عليه إلّا طاعة المعبود فيما أداه رسله فصارت المصالح بهم أعم والإتقان بهم أتم والشمل بهم أجمع والتنازع بهم أمنع، ويجوز إثبات التوحيد والنبوّات بدقيق الاستدلال كما يجوز بجليه، فإن ما دق في العقول هو أبلغ في الحكمة وقد تلوّح لابن الرومي هذا المعنى فنظمه في شعره فقال: غموض الحق حين يذب عنه ... يقلل ناصر الخصم المحق يجل عن الدقيق عقول قوم ... فيقضي للمجل على المدق جواز النبوات فإذا ثبت جواز النبوّات وبعثة الرسل بالعبادات فهم رسل الله تعالى إلى خلقه إما بخطاب مسموع أو بسفارة ملك منزل، ومنع قوم من مثبتي النبوّات أن تكون نبوّتهم عن خطاب أو نزول ملك لانتفاء المخاطبة الجسمانية عنه تعالى لأنه ليس بجسم، والملائكة من العالم العلوي بسيط لا تهبط كما أن العالم السفلي كثيف لا يعلو واختلف من قال بهذا فيما جعلهم به أنبياء فقال بعضهم: صاروا أنبياء بالإلهام لا بالوحي، وهذا فاسد من وجهين: أحدهما: أن ما بطل به إلهام المعارف في التوحيد كان إبطال المعارف به في النبوّة أحق. والثاني: أن الإلهام خفي غامض يدعيه المحق والمبطل، فإن ميزوا بينهما طلبت أمارة «5» ، وإن عدلوا عن الإلهام فذلك دليل يبطل الإلهام.

_ (4) وهو الشرع والطاعات والعبادات والمحرّمات. (5) أمارة: علامة أو دليل.

وقال آخرون منهم: إنما صاروا أنبياء لأن لله تعالى في العالم خواص وأسرارا تخالف مجرى الطبائع، فمن أظفره الله تعالى بها من خلقه استحق بها النبوّة، وهذا فاسد من وجهين: أحدهما: خفاؤها فيه غير دليل على صدقه. والثاني: أنه يكون نبيا عن نفسه لا عن ربه فصار كغيره. وقال آخرون: بل صاروا أنبياء لأن الله تعالى خصهم من كمال العقول بما يتوصلون به إلى حقائق الأمور، فلا يشتبه عليهم منها ما يشتهيه على غيرهم فصاروا أنبياء عن عقولهم لا عن ربهم، وهذا فاسد من وجهين: أحدهما: أن هذا يقتضي فضل العلم في حقه ولا يقتضيه في حق غيره. والثاني: أنه إن أخبر عن نفسه لم يكن رسولا، وإن أخبر عن ربه كان كاذبا. وقال آخرون: إنما صاروا أنبياء لأن النور فيهم صفا ونما بالنور الأعظم الإلهي الذي تخلص به الإفهام وتصح به الأوهام حتى ينتقلوا إلى الطباع الروحانية ويزول عنهم كدر الطباع البشرية فيخرجوا عن شبح الكائنات بصفاء نورهم وخلاصهم، وهذا قول الثنوية وهذا فاسد من وجهين: أحدهما: أنهم دفعوا أسهل الأمرين من بعثة الرسل بأغلظهما من إعطاء نوره وأولى أن يدفعوا عن الأغلظ بما دفعوا به عن الأسهل. والثاني: أنهم أثبتوا به ممازجة الباري سبحانه فيما اختص بذاته، ومخالفة الذات تمنع من ممازجته. والجواب عما قالوه من امتناع المخاطبة الجسمانية عمن ليس بجسم من وجهين: أحدهما: أنه لا يمتنع أن يظهر منه كخطاب الأجسام وإن لم يكن جسما كما يظهر منه كأفعال الأجسام وإن لم يكن جسما. والثاني: أن الله تعالى يجوز أن يودع خطابه في الأسماع حتى تعيه الآذان

إثبات النبوات

وتفهمه القلوب بقدرته التي أخفاها عن خلقه. والجواب عما ذكر من أن جرم الملائكة علوي لا ينهبط من وجهين: أحدهما: أنه ليس يمتنع أن ينتقل جرم سماوي لطيف إلى جرم أرضي كثيف إما بزيادة أو انقلاب كما يقولون في العقل والنفس أنهما جرمان علويان هبطا إلى الجسم فحلا فيه. والثاني: أنهم يقولون بانقلاب الأجرام الطبيعيات، فيقولون أن الهوى المركب من حرارة رطوبة إذا ارتفعت حرارته ببرودة صار ماء باردا، وأن الماء المركب من برودة ورطوبة إذا ارتفعت برودته بحرارة صار هواء وأن الهواء المركب من حرارة رطوبة إذا ارتفعت رطوبته بيبوسة صار نارا، فإذا جاز ذلك عندهم في انقلاب الطبائع كان في فعل الله تعالى أجوز وهو عليها أقدر، ولا يمكن أن يدفع أقاويلهم الخارجة عن قوانين الشرع إلّا بمثلها، وإن خرج عن حجاج أمثالنا لينقض قولهم بقولهم فلا يتدلس به باطل ولا يضل به جهول، فما يضل عن الدين إلّا قادح في أصوله، ومزر على أهله. إثبات النبوّات فإذا أثبت أن النبوّة لا تصح إلّا ممن أرسله الله تعالى بوحيه إليه فصحتها فيه معتبرة بثلاثة شروط تدل على صدقه ووجوب طاعته. أحدهما: أن يكون مدعي النبوّة على صفات يجوز أن يكون مؤهلا لها لصدق لهجته وظهور فضله وكمال حاله فإن اعتوره نقص أو ظهر منه كذب لم يجز أن يؤهل للنبوة من عدم آلتها وفقد أمانتها. بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بعض أحياء العرب يدعوهم إلى الإسلام فقالوا: يا خالد، صف لنا محمدا، قال: بإيجاز أم بإطناب. قالوا: بإيجاز. قال: هو رسول الله، والرسول على قدر المرسل. والشرط الثاني: إظهار معجز يدل على صدقه ويعجز البشر عن مثله لتكون مضاهية للأفعال الإلهية، ليعلم أنها منه فيصح بها دعوى رسالته لأنه لا

حجج الأنبياء

يظهرها من كذب عليه ويكون المعجز دليلا على صدقه وصدقه دليلا على صحة نبوّته. والشرط الثالث: أن يقرن بالمعجز دعوى النبوّة، فإن لم يقترن بالمعجزة دعوى لم يصر بظهور المعجزة نبيا لأن المعجز يدل على صدق الدعوى، فكان صفة لها فلم يجز أن نثبت الصفة قبل وجود الموصوف، فإن تقدم ظهور المعجز على دعوى النبوة كان تأسيسا للنبوّة ككلام عيسى عليه السلام في المهد تأسيسا لنبوّته، فاحتاج مع دعوى النبوّة إلى إحداث معجزة يقترن بها ليدل على صدقه فيها وإن تقدمت دعوى النبوّة على المعجز اكتفى بحدوث المعجز بعدها عن إقترانه بها لأن اصطحابه للدعوى مقترن بالمعجز «6» ، فإن ظهر المعجز المقترن بالدعوى لبعض الناس دون جميعهم نظر، فإن كانوا عددا يتواتر بهم الخبر ويستفيض فيهم الأثر كان الغائب عنه محجوبا بالمشاهد له في لزوم الإجابة والانقياد للطاعة كما يكون العصر الثاني محجوبا بالعصر الأول وإن كان المشاهد للمعجز عددا لا يستفيض بهم الخبر ولا يتواتر بهم الأثر لإمكان تواطئهم على الكذب ويتوجه إلى مثلهم الخطأ والزلل كان المعجز حجة عليهم ولم يكن حجة على غيرهم حتى يشاهدوا على المعجز ما يكونوا محجوبين به وسواء كان من الجنس الأول أو من غير جنسه، فإن قصر من شاهد الأول عن عدد التواتر وقصر من شاهد الثاني عن عدد التواتر لم يثبت حكم التواتر فيهما ولا في واحد منهما لجواز الكذب على كل واحد من العددين. حجج الأنبياء وإذا كان حجج الأنبياء على أممهم هو المعجز الدال على صدقهم، فالمعجز ما خرق عادة البشر من خصال لا تستطاع إلّا بقدرة إلهية تدل على أن الله تعالى خصه بها تصديقا على اختصاصه برسالته، فيصير دليلا على صدقه في إدعاء نبوته إذا وصل ذلك منه في زمان التكليف، وأما عند قيام الساعة إذا سقطت فيه أحوال التكليف فقد يظهر فيه من أشراطها ما يخرق العادة فلا يكون

_ (6) المعجز: الخارق للعادة والمتجاوز لقدرة الإنسان البشرية.

معجز المدعي نبوّة، وإنما اعتبر في المعجز خرق العادة لأن المعتاد يشمل الصادق والكاذب فاختص غير المعتاد بالصادق دون الكاذب. وإذا تقرر أن المعجز محدود بما ذكرناه من خرق العادة فقد ينقسم ما خرج عن العادة على عشرة أقاسم: القسم الأول: ما يخرج جنسه عن قدرة البشر كاختراع الأجسام وقلب الأعيان وإحياء الموتى، فقليل هذا وكثيره معجز لخروج قليله عن القدرة كخروج كثيره. * القسم الثاني: ما يدخل جنسه في قدرة البشر لكن يخرج مقداره عن قدرة البشر كطي الأرض البعيدة في المدة القريبة فيكون معجز لخرق العادة. واختلف المتكلمون في المعجز منه فعند بعضهم أن ما خرج عن القدرة منه يكون هو المعجز خاصة لاختصاصه بالمعجز وعند آخرين منهم أن جميعه يكون معجزا لا تصاله بما لا يتميز منه. * القسم الثالث: ظهور العلم بما خرج عن معلوم البشر كالأخبار بحوادث الغيوب فيكون معجزا بشرطين: أحدهما: أن يتكرر حتى يخرج عن حد الاتفاق. والثاني: أن يتجرد عن سبب يستدل به عليه. * القسم الرابع: ما خرج نوعه عن مقدور البشر وإن دخل جنسه في مقدور البشر كالقرآن في خروج أسلوبه عن أقسام الكلام فيكون معجزا بخروج نوعه عن القدرة فصار جنسا خارجا عن القدرة ويكون العجز مع القدرة على آلته من الكلام أبلغ في المعجز. * القسم الخامس: ما يدخل في أفعال البشر ويفضي إلى خروجه عن مقدار البشر كالبرء الحادث عن المرض والزرع الحادث عن البذر فإن برىء المرض المزمن لوقته واستحصد الزرع المتأكل قبل أوانه كان بخرق العادة معجزا لخروجه عن القدرة.

* القسم السادس: عدم القدرة عما كان داخلا في القدرة كإنذار الناطق بعجزه عن الكلام وإخبار الكاتب بعجزه عن الكتابة، فيكون ذلك معجزا يختص بالعاجز ولا يتعداه لأنه على يقين من عجز نفسه وليس غيره على يقين من عجزه. * القسم السابع: إنطاق حيوان أو حركة جماد فإن كان باستدعائه أو عن إشارته كان معجزا له وإن ظهر بغير استدعاء ولا إشارة لم يكن معجزا له وإن خرق العادة لأنه ليس اختصاصه به بأولى من اختصاصه بغيره وكان من نوادر الوقت وحوادثه. * القسم الثامن: إظهار الشي في غير زمانه كإظهار فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف فإن كان استبقاؤهما في غير زمانهما ممكنا لم يكن معجزا وإن لم يمكن استبقاؤهما كان معجزا سواء بدأ بإظهاره أو طولب به. * القسم التاسع: انفجار الماء وقطع الماء المنفجر إذا لم يظهر بحدوثه أسباب من غيره فهو من معجزاته لخرق العادة به. * القسم العاشر: إشباع العدد الكثير من الطعام اليسير وارواءهم من الماء القليل يكون معجزا في حقهم وغير معجز في حق غيرهم لما قدمناه من التعليل وهذه الأقسام ونظائرها الداخلة في حدود الأعجاز متساوية الأحكام في ثبوت الإعجاز وتصديق مظهرها على ما ادّعاه من النبوّة وإن تفاوت الأعجاز فيها وتباين كما أن دلائل التوحيد قد تختلف في الخفاء والظهور وإن كان في كل منها دليل، فأما فعل ما يقدر البشر على ما يقاربه وإن عجزوا عن مثله فليس بمعجز لأن الجنس مقدور عليه وإنما الزيادة فضل حذق به كالصنائع التي يختلف فيها أهلها فلا يكون لأحذقهم بها معجز يجوز أن يدّعي به النبوّة. فإن قيل: فقد جاء زرادشت وبولس بآيات مبهرة ولم تدل على صدقهما في دعوى النبوّة. قيل: لأنهما قد أكذبا أنفسهما ما ادعياه في الله تعالى مما يدل على جهلهما به لأن بولس يقول أن عيسى إله، وزعم زرادشت أن الله تعالى كان وحده ولا

المعجزات والنبوة

شيء معه، فحين طالت وحدته فكّر فتولّد من فكرته اهرمن وهو إبليس فلما مثل بين عينيه أراد قتله وامتنع منه فلما رأى امتناعه وادعه إلى مدته وسالمه إلى غايته ومن قال بهذا في الله تعالى ولم يعرفه لم يجز أن يكون رسولا له، ثم دعوا إلى القبائح والأفعال السيئة كما شرع زرادشت الوضوء بالبول وغشيان الأمهات وعبادة النيران وكذلك بولس وماني فخذلهم الله تعالى، ولو دعوا إلى محاسن الأخلاق كانت الشبهة بهم أقوى والاغترار بهم أكثر ولكن الله تعالى عصم بالعقول من استرشدها وقاد إلى الحق من أيقظه بها. المعجزات والنبوّة ولا يجوز أن يظهر الله تعالى المعجز مما يجعله دليلا على صدقه في غير النبوة وإن كان فيه مطيعا لأن النبوّة لا يوصل إلى صدقه فيها إلّا بالمعجز لأنه مغيب لا يعلم إلّا منه فاضطر إلى الإعجاز في صدقه وغير النبوّة من أقواله وأفعاله قد يعلم صدقه فيها بالعيان والمشاهدة وتخرج عن صورة الإعجاز وإن نفدت ولئلا تشتبه معجزات الأنبياء بغيرها، وأما مدعي الربوبية إذا أظهر آيات باهرة فقد ذهب قوم إلى أنها قد تكون معجزة بطلت بكذبه فلم يمتنع لظهور بطلانها أن توجد منه وإن لم توجد منه إذا كان كاذبا في ادعاء النبوّة لأنه لم يقترن بدعواه ما يبطلها كمدعي الربوبية والذي عليه قول الجمهور أنه لا يجوز أن يظهر المعجز على مدعي الربوبية كما لا يجوز أن يظهر على مدعي النبوّة لأن معصيته في ادعاء الربوبية أغلظ وأفكه فيها أعظم فكان بأن لا تظهر عليه أجدر، وإذا استوضح ما أظهره مدعي الربوبية من الآيات ظهر فسادها وبان اختلالها فخرجت عن الإعجاز إلى سحر أو شعبذة. الإدراك والمعاينة ولما علم الله تعالى أن أكثر عباده لا يشهدون حجج رسله ولا يحضرون آيات أنبيائه إما لبعد الدار أو لتعاقب الأعصار طبع كل فريق على الأخبار بما عاين فيعلمه الغائب من الحاضر ويعرفه المتأخر من المعاصر وقد علم مع اختلاف الهمم أن خبر التواتر إذا انتفت عنه الريب حق لا يعترضه شك وصدق

الوحي والنبوة

لا يشتبه بإفك فصار وروده كالعيان في وقوع العلم به اضطرارا فثبتت به الحجة ولزم به العلم، وقد قال الطفيل الغنوي مع أعرابية في وقوع العلم باستفاضة الخبر ما دلته عليه الفطرة وقاده إليه الطبع فقال: تأوبني هم من الليل منصب «7» ... وجاء من الأخبار ما لا يكذب تظاهرن حتى لم يكن لي ريبة ... ولم يك عما أخبروا متعقب الوحي والنبوّة وأما ما يجوز لمدّعي النبوّة فينقسم ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكلمه الله تعالى بغير واسطة. والثاني: أن يخاطبه بواسطة من ملائكته. والثالث: أن يكون عن رؤيا منام. فأما القسم الأول: إذا كلمه الله تعالى بغير واسطة مثل كلامه لموسى عليه السلام حين نودي من الشجرة على ما قدمناه في الاختلاف في صفته، فيعلم اضطرارا أنه من الله تعالى وفيما يقع به علم الاضطرار في كلامه لأهل العلم قولان: أحدهما: أنه يضطره إلى العلم به كما يضطر خلقه إلى العلم بسائر المعلومات، فعلى هذا يستدل بمعرفة كلامه على معرفته ويسقط عنه تكليف معرفته ويجوز أن يكون كلامه من غير جنس كلام البشر للاضطرار إلى معرفة ما تضمنه. والثاني: أن يقترن بكلامه من الآيات ما يدل عن أنه منه فعلى هذا لا يسقط منه تكليف معرفته ولا يصح أن يكلمه إلّا بكلام البشر لعدم الاضطرار إلى معرفته. وأما القسم الثاني: وهو أن يكون خطابه بواسطة من ملائكته الذين هم رسله إلى أنبيائه فعلى الأنبياء معرفة الله تعالى قبل ملائكته في رسالته وطريق

_ (7) منصب: متعب.

علمهم به الاستدلال ثم يصير بعد نزول الملائكة بمعجزاتهم الباهرة علم الاضطرار وعلى الملائكة إذا نزلوا بالوحي على الرسول إظهار معجزتهم له كما يلزم الرسول إظهار معجزته لأمته. روي أن جبريل عليه السلام لما تصدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة في الوادي قال له: قل يا محمد للشجرة أقبلي! فقال لها ذلك فأقبلت، وقال له: قل لها أدبري! فقال لها ذلك فأدبرت، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: حسبي يعني في العلم بصدقك فيما أتيتني به عن ربي، فتستدل الرسل بالمعجزات على تصديق الملائكة بالوحي وتستدل الأمم بمعجزات الأنبياء على تصديقهم بالرسالة، ويكون خطاب الملك لفظا إن كان قرآنا أو ما قام مقام اللفظ إن كان وحيا ولا يجوز أن يؤدي الملك إلى الرسول ما تحمله عن ربه إلّا بلسان الرسول «8» ، كما لا يؤدي الرسول إلى قومه إلّا بلسانهم ويكون الملك واسطة بين الرسول وبين ربه، والرسول واسطة بين الملك وبين قومه وما يؤديه الملك إلى الرسول ليؤديه الرسول إلى قومه ضربان: قرآن ووحي، فأما القرآن فيلزم الملك أن يؤديه إلى الرسول بصيغة لفظه، وليس للملك ولا للرسول أن يعدل بلفظه إلى غيره ويكون ما تضمنه من الخطاب المنزل متوجها إلى الرسول وإلى أمته. وأما الوحي إذا تضمن تكليفا بأمر أو نهي فضربان: أحدهما: أن يكون نصا غير محتمل وصريحا غير متأول فهذا يعلمه الرسول من الملك بنفس الخطاب وتعلمه الأمة من الرسول بالبلاغ من غير نظر ولا استدلال، وليس للملك ولا للرسول أن يعدل بالنص إلى إجمال أو احتمال له. والضرب الثاني: أن يكون من المجمل أو المحتمل لمعان مختلفة فهذا يعلم المراد به من دليل يقترن بالخطاب ودليله ضربان: أحدهما: عقل المستمع. والثاني: توقيف المبلغ فأما ما عقل دليله ببديهة العقل فمحمول على

_ (8) كي يفهمه الرسول ويعقله ويقدر على إيصاله إلى قومه.

شروط التبليغ

مقتضى العقل ويكفي فيه تبليغ الخطاب، وأما ما دليله التوقيف الذي لا مدخل فيه لبداية العقول كالعبادات فمحمول على التوقيف من الله تعالى إلى ملائكته ومن الملائكة إلى الرسول ومن الرسول إلى أمته، فأما معرفة الملك من ربه فهو غير مشاهد لذاته، واختلف أهل العلم في معرفته به على مذهبين كالرسول إن كلمه أحدهما بأن يضطره إلى العلم به والثاني بسماع الخطاب المقترن بالآيات. وأما معرفة الرسول من الملك ومعرفة الأمة من الرسول، فالرسول مشاهد لذات الملك والأمة مشاهدة لذات الرسول، ولمشاهدة الذوات تأثير في العلم بمراد الخطاب فيتنوع بيان توقيفه فيما أريد بالخطاب أنواعا، فيكون باللفظ الصريح وبعضه بالرمز الخفي وبعضه بالفعل الظاهر وبعضه بالإشارة الباطنة بعضه بالإمارات التي تضطر المشاهد إلى العلم بما أريد بها وليس لها نعت موصوف ولا حد مقدر وإنما يعلمه المشاهد بمفهوم أسبابه فيصير البيان باختلاف أنواعه توقيفا من الملك إلى الرسول ومن الرسول إلى الأمة ويجوز أن يختلف نوع بيانهما إذا عرف. فأما القسم الثالث: وهو أن يكون عن رؤيا منام فإن لم يكن ممن تصدق رؤياه لكثرة أحلامه لم يجز أن يدّعي النبوّة وإن كان ممن تصدق رؤياه فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا» لم يجز أن يدّعي النبوّة من أول رؤيا لجواز أن يكون من حديث النفس، وأن الرؤيا قد تصح تارة وتبطل أخرى فإن تكررت رؤياه مرارا حتى قطع بصحتها ولم يخالجه الشك فيها جاز أن يدعي بها النبوّة فيما كان حفظا لما تقدمها من شرع وبعثا على العمل بها من بعيد ولم يجز أن يعتد بها في نسخ شرع ولا استئناف تعبد، ويجوز أن يعمل على رؤيا نفسه فيما يلتزمه من استئناف شرع ولا يجوز أن يعمل عليها في نسخ ما لزمه من شرع ليكون بها ملتزما ولا يكون بها مسقطا. شروط التبليغ وأما خطاب الرسول لأمته فيما بلغهم من رسالة ربه بعد ظهور معجزته والإخبار بنبوته ولزومه للأمة فمعتبر بخمسة شروط:

أسلوب التبليغ

* أحدها: العلم بانتفاء الكذب عنه فيما ينقله عن الله تعالى من خبر أو يؤديه من تكليف، كما انتفى عنه الكذب في ادعاء الرسالة، ويكون المعجز دليلا على صدقه في جميع ما تضمنته الرسالة. * الثاني: أن يعلم من حاله ألا يجوز أن يكتم ما أمر بإدائه، لأن كتمانه يمنع من التزام رسالته لجواز أن يكتم إسقاط ما أوجب، وإن جاز أن يكتم بيانه قبل وقت الحاجة ولا يكون كتمانا «9» . * الثالث: أن ينتفي عنه ما يقتضي التنفير من قبول قوله لأن الله تعالى حماه من الغلظة لئلا ينفر من متابعته، وكان أولى أن لا ينفر عن قبول خطابه. * الرابع: أن يقترن بخطابه ما يدل على المراد به لينتفي عنه التلبيس والتعمية في أحكام الرسالة حتى يعلم حقوق التكليف، وإن جاز تعمية خطابه فيما لم يتضمنه التكليف. قد اعترض رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل في أطراف بدر وقال له ممن أنت؟ فقال: «من ماء» فورّى عن نسبه «10» بما استبهم على سائله لخروجه عما يؤديه شرعا إلى أمته. * الخامس: العلم بوجوب طاعته ليعلم بها وجوب أوامره واختلف في طاعته هل وجبت عقلا أو سمعا بحسب اختلافهم في بعثة الرسل هل هو من موجبات العقل أم لا. أسلوب التبليغ وإذا تكاملت شروط الالتزام لم يخل خطابه من أن يكون مفهوما أو مبهما، فالمفهوم أربعة: النص وفحوى الكلام ولحن القول ومفهوم اللفظ.

_ (9) وفي هذه الحالة يكون تأخيرا أجيز له وليس من عند نفسه. (10) التورية إيراد الكلمة أو العبارة التي تحتمل أكثر من معنى، وقوله من ماء قد يحمله السامع على أن عشيرته تحمل هذا الأصل بينما المعنى الحقيقي أنه مخلوق من ماء وكلنا من ماء.

النبي والرسول

وفحوى الكلام ما دل على ما هو أقوى من نطقه ولحن القول ما دل على مثل نطقه ومفهوم اللفظ مأخوذ من معنى نطقه فهذه الأربعة مفهومة المعاني بألفاظها مستقلة بذواتها معلومة المراد بظواهرها فلا احتياج بعد البلاغ إلى بيان. وأما المبهم فثلاثة: المجمل والمحتمل والمشتبه، فأما المجمل فما أخذ بيانه من غيره ولا يدخل العقل في تفسيره فلا يعلم إلّا بسمع وتوقيف. وأما المحتمل فهو ما تردد بين معان مختلفة، فإن أمكن الجمع بين جميعها حمل على جميع ما تضمنه واستغنى عن البيان إلّا أن يرد بالاقتصار على بعضها بيان وإن لم يكن حملها على الجميع لتنافيها، وكان المقصود أحد معانيها فإن أمكن الاستدلال عليه بمخرج الخطاب أو بمشاهدة الحال كان فيه بيان أو تعذر بيانه من هذا الوجه حمل على عرف الشرع، فإن تعذر حمل على عرف الاستعمال، فإن تعذر حمل على عرف اللغة، فإن تعذر فبيانه موقوف على التوقيف، وأما المشتبه فما أشكل لفظه واستبهم معناه. روي أن عمر رضي الله تعالى عنه قال: يا رسول الله! إنك تأتينا بكلام لا نعرفه ونحن العرب حقا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن ربي علمني فتعلمت وأدبني فتأدبت» . فإن تلوح في المشتبه إشارة إلى معناه جاز أن يكون استنباطه موقوفا على الاجتهاد وإن تجرد عن إشارة كان موقوفا على التوقيف وعلى الرسول تبليغ بيانه كما كان عليه تبليغ أصله وعلى من سمعه من الرسول أن يبلغه من لم يسمعه حتى ينتقل إلى عصر بعد عصر على الأبد فيعلمه القرن الثاني من الأول والثالث من الثاني وكذلك أبدا لتدوم الحجة بهم إلى قيام الساعة ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ليبلغ الشاهد الغائب» . النبي والرسول فأما الفرق بين الأنبياء والرسل فقد جاء بهما القرآن جمعا ومفصلا بقول الله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ «11» واختلف أهل العلم

_ (11) سورة الحج الآية (52) .

وجوب التبليغ

في الأنبياء والرسل على قولين: أحدهما: أن الأنبياء والرسل واحد فالنبي رسول والرسول نبي، والرسول مأخوذ من تحمل الرسالة والنبي مأخوذ من النبأ وهو الخبر إن همز لأنه مخبر عن الله تعالى ومأخوذ من النبوة إن لم يهمز وهو الموضع المرتفع وهذا أشبه لأن محمدا صلى الله عليه وسلم قد كان يخاطب بهما، والقول الثاني أنهما يختلفان لأن اختلاف الأسماء يدل على اختلاف المسميات، والرسول أعلى منزلة من النبي ولذلك سميت الملائكة رسلا ولم يسمّوا أنبياء واختلف من قال بهذ في الفرق بينهما على ثلاثة أقاويل: أحدها أن الرسول هو الذي تنزل عليه الملائكة بالوحي والنبي هو الذي يوحى إليه في نومه. والثاني: أن الرسول هو المبعوث إلى أمة والنبي هو المحدث الذي لا يبعث إلى أمة، قاله قطرب، والقول الثالث أن الرسول هو المبتدىء بوضع الشرائع والأحكام والنبي هو الذي يحفظ شريعة غيره، قاله الجاحظ. وجوب التبليغ وإذا نزل الوحي على الرسول وعيّن له زمان الإبلاغ لم يكن له تقديمه عليه ولا تأخيره عنه وإن لم يعيّن له زمانه فعليه تبليغه في أول أوقات إمكانه فإن خاف من تبليغ ما أمر به شدة الأذى وعظم الضرر لزمه البلاغ ولم يكن الأذى عذرا له في الترك والتأخير لأن الأنبياء يتكلفون من احتمال المشاق ما لا يتكلفه غيرهم لعظم منزلتهم وما أمدوا به من القوة على تحمل مشاقهم وإن خاف منه القتل فقد اختلف المتكلمون في وجوب البلاغ فذهب بعضهم إلى اعتبار أمره بالبلاغ، فإن أمر به مع تخوف القتل لزمه أن يبلغ وإن قتل وإن أمر به مع الأمن لم يلزمه البلاغ إذا خاف القتل، وذهب آخرون منهم إلى اعتبار حاله فإن لم يبق عليه من البلاغ سوى ما يخاف منه القتل لزمه البلاغ وإن قتل وإن بقي عليه من البلاغ سوى ما يخاف منه القتل فإن لم يكن الأمر بالبلاغ مرتبا لزمه أن يقدم بلاغ ما يأمن منه القتل ثم يبلغ ما يخاف منه القتل، فإن قتل، فإن كان الأمر بالبلاغ مرتبا بابتداء ما يخاف منه القتل فإن الله تعالى يعصمه من القتل حتى يبلغ جميع ما أمر به لما تكفل به من إكمال دينه والله تعالى أعلم.

الباب الخامس في مدة العالم وعدة الرسل مدة الدنيا من ابتداء خلق العالم إلى انقضائه وفنائه سبعة آلاف سنة على ما جاءت به التوراة المنزلة على موسى عليه السلام وذكره أنبياء بني إسرائيل، وقد وافق عليه من قال بتسيير الكواكب وأنها مسير الكواكب السبعة فسير كل كوكب منها ألف سنة، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «1» : «الدنيا سبعة آلاف سنة أنا في آخرها ألفا» وقال صلى الله عليه وسلم: «بعثت والساعة كهاتين» ، وجمع بين اصبعيه الوسطى والسبابة يعني أن الباقي منها كزيادة الوسطى على السبابة «2» . وروى سلمة بن عبد الله الجهنى عن أبى مسجعة الجهني عن أبي رحاب الجهني أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم رأيتك على منبر فيه سبع درجات وأنت على أعلاها فقال: «الدنيا سبعة الاف سنة أنا في آخرها ألفا» «3» .

_ (1) لم تذكره كتب الصحاح للشك بكونه موضوعا إضافة إلى أن ما ذكره المؤلف منسوبا إلى التوراة غير مذكور بها أو لم تذكره التوراة الموجودة في هذه الأيام على الأقل. (2) وترجّح أن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما عنى قرب الساعة لا تحديد موعد معين أو نسبة محددة بين ما مضى وما بقي لأن هذا في علم الله وحده وقد قال تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي سورة الأعراف (187) . وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ سورة لقمان (34) وقد ورد نفس المعنى في آيات عديدة أخرى. (3) لم تذكره كتب الصحاح.

وروى أبو نضرة عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صلاة العصر يقول: «أيها الناس إن الدنيا خضرة حلوة وأن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون» ، وأخذ في خطبته إلى أن قال: «لأعرفن رجلا منعته مهابة الناس أن يتكلم بحق إذا رآه وشهده» ثم قال: «وقد أزف غروب الشمس أن مثل ما بقي من الدنيا فيما مضى منه كبقية يومكم هذا فيما مضى منه يوفى بكم سبعون أمة قد توفي تسع وستون وأنتم آخرها» فصارت هذه المدة القدرة في عمر الدنيا سبعة آلاف سنة متفقا عليها فيما تضمنته الكتب الإلهية ووردت به الأنباء النبوية مع ما سلك به الموافق من تسيير الكواكب السبعة، وإن كان المعول في المغيب على الأنباء الصادقة الصادرة عن علام الغيوب الذي لم يشرك في غيبه إلا من أطلعه عليه من رسله فخلق العالم في ستة أيام ابتداؤها يوم الأحد وانقضاؤها يوم الجمعة «4» . واختلف أهل الكتب السالفة وأهل العلم في شرعنا فيما ابتدى بخلقه على ثلاثة أقاويل: أحدها: وهو قول طائفة أنه بدأ بخلق الأرض في يوم الأحد والاثنين لقول الله تعالى: أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ «5» وخلق الجبال في يوم الثلاثاء، وخلق الماء والشجر في يوم الأربعاء، وخلق السماء في يوم الخميس، وخلق الشمس والقمر والنجوم والملائكة وآدم في يوم الجمعة. قال الشعبي: ولذلك سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق كل شيء. والثاني: وهو قول فريق أنه بدأ بخلق السموات قبل الأرض في يوم الأحد والاثنين لقول الله تعالى: فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها «6» في ثلاثة أوجه:

_ (4) تحديد أيام الخلق بهذا التسلسل توراتي جاء في سفر التكوين. (5) سورة فصلت الآية (9) . (6) سورة فصلت الآية (12) .

الباب الخامس في مدة العالم وعدة الرسل

أحدها: أسكن في كل سماء ملائكتها. والثاني: خلق في كل سماء ما أودعه فيها من شمس وقمر ونجوم. والثالث: أوحى إلى أهل كل سماء من الملائكة ما أمرهم به من العبادة ثم خلق الأرض والجبال في يوم الثلاثاء والأربعاء وخلق ما سواهما من العالم في يوم الخميس والجمعة. والثالث: وهو قول آخرين أنه خلق السماء دخانا قبل الأرض ثم فتقها سبع سموات بعد الأرض لقول الله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً «7» فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أي أعطيا الطاعة في السير المقدر لكما باختيار أو إجبار قاله سعيد ابن جبير. والثاني: أخرجا ما فيكما طوعا أو كرها. والثالث: كونا كما أردت أن تكونا، وفي قولهما ذلك وجهان: أحدهما: أن ظهور الطاعة منهما قام مقام قولهما. والثاني: أنه خلق فيهما كلاما نطق بذلك. قال أبو النضر السكسي: فنطق من الأرض موضع الكعبة ونطق من السماء «8» بحيالها فوضع الله فيها حرمة. خلق الله سبحانه لآدم فأما آدم فهو آخر ما خلق الله تعالى في يوم الجمعة، خلقه من تراب الأرض ونفخ في أنفه من نسمة الحياة، فهو أنفس من كل ذي حياة. روى أبو زاهر عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض» فجاء بنو آدم على قدر الأرض منهم الأحمر

_ (7) سورة فصلت الآية (11) . (8) أي نطق من السماء موضع البيت المعمور الذي يطوف به الملائكة.

والأبيض والأسود بين ذلك والحزن والخبيث والطيب بين ذلك وفي تسميته بآدم قولان: أحدهما: إنه اسم عبراني نقل إلى العربية. والقول الثاني: أنه اسم عربي وفيه قولان: أحدهما: أنه سمي بذلك لأنه خلق من أديم الأرض وأديمها أوجهها. والثاني: أنه سمي بذلك لاشتقاقه من الأدمة وهي السمرة فلما تكامل خلق آدم استوحش فخلق له حوّاء واختلف فيما خلقت منه على قولين: أحدهما: أنه خلقها من مثل ما خلق منه آدم وهذا قول تفرد به ابن بحر «9» . والقول الثاني: وهو ما عليه الجمهور أنه خلقها من ضلع آدم الأيسر بعد أن ألقى عليه النوم حتى لم يجد لها مسا. قال ابن عباس: فلذلك تواصلا ولذلك سميت امرأة لأنها خلقت من المرء وفي تسميتها حواء قولان: أحدهما: لأنها خلقت من حي والثاني لأنها أم كل حي، فقال آدم لما خلقت منه حوّاء هذا الشخص عظمه من عظمي ولحمه من لحمي فلذلك صار الرجل والمرأة كجسد واحد من شدة الميل وفضل الحنو قال الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ يعني آدم وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها «10» يعني حوّاء فروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «خلق الرجل من التراب وخلقت المرأة من الرجل» فهمها في الرجل واختلف في الوقت الذي خلقت فيه حوّاء على قولين:

_ (9) وهذا يتنافى مع قوله تعالى: اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها سورة النساء (1) . وقوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها سورة الأعراف (189) وغيرها من الآيات. (10) سورة النساء الآية (1) .

أحدهما: أنها خلقت منه في الجنة بعد أن استوحش من وحدته وهذا قول ابن عباس وابن مسعود. والقول الثاني: أنها خلقت من ضلعه قبل دخوله الجنة ثم أدخلا معا إليها وهو أشبه بقول الله تعالى: وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما، وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ «11» . قال ابن عباس خلق آدم يوم الجمعة وأدخل الجنة يوم الجمعة وأخرج منها يوم الجمعة وفيها تقوم الساعة واختلف في الجنة التي أسكنها على قولين: أحدهما: أنها جنة الخلد. والقول الثاني: أنها جنة أعدها الله تعالى لهما دار ابتلاء وليست جنة الخلد التي جعلها دار جزاء وفيها على هذا قولان: أحدهما: أنها في السماء لأنه أهبطهما منها. والقول الثاني: أنها في الأرض لأنه امتحنهما فيها بالأمر والنهي واختلف في الشجرة التي نهيا عن أكلها فقيل أنها شجرة الخلد وقيل أنها شجرة العلم وفي هذا العلم قولان: أحدهما: علم الخير والشر. والثاني: علم ما لم يعلم وقيل في الشجرة غير ذلك من الأقاويل فلما أكلا منها بدت لهما سوآتهما بالمعصية وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة قال الله تعالى: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها «12» حين بعثهما على أكل الشجرة فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ «13» وفيه تأويلان: أحدهما: عما كانا فيه من الطاعة إلى ما صارا إليه من المعصية. والثاني: عما كانا فيه من النعيم في الجنة إلى ما صارا إليه من النكد في

_ (11) سورة البقرة الآية (35) . (12) سورة البقرة من الآية (36) . (13) سورة البقرة من الآية (36)

آدم وأبناؤه

الأرض فحزن آدم حين أهبط إلى الأرض وبقي في حزنه مائة سنة لا يقرب فيه حوّاء، ثم غشيها فولدت له بعد المائة قابيل ثم غشيها فولدت له هابيل فقتل هابيل قابيل فحزن آدم لذلك حزنا شديدا وقيل أنه جعل حزنه جزاء على معصيته في الأكل وقد يصاب الآباء في أولادهم من أجل معاصيهم ثم خف حزنه فغشى حوّاء فولدت له شيثا وعلم آدم الأسماء كلها كما ذكره الله تعالى في كتابه وفيما علمه من الأسماء قولان: أحدهما: علم النجوم قاله حميد. الثاني: أنها أسماء مسميات وفيها أقاويل: أحدها: أسماء الملائكة قاله الربيع بن أنس. والثاني: أسماء جميع ذريته قاله عبد الرحمن بن زيد. والثالث: أسماء جميع الأشياء وفيه على هذا قولان: أحدهما: أن تعليمه كان مقصورا على الأسماء دون معانيها. والثاني: أنه علمه الأسماء ومعانيها لأنه لا فائدة في علم الأسماء بلا معان لأن المعاني هي المقصودة والأسماء دلائل عليها. آدم وأبناؤه ولما هبط آدم إلى الأرض قيل أنه أهبط إلى شرقي أرض الهند وحوّاء بجدة وإبليس على ساحل نهر الابلة والحية في البرية وكانت نبرة آدم مقصورة عليه وما نزل عليه من الوحي متوجها إليه فكان من المصطفين دون المرسلين واختلف فيه أهل الكتاب هل خلق في ابتدائه قابلا للموت أو جعل الموت عقوبة له على معصيته. فقال بعضهم: خلق آدم في ابتداء نشأته على الطبيعة الباقية والطبيعة الميتة ليكون إن مال إلى الشهوات الجسمانية وآثرها وقع في التغايير الجسمانية وناله الموت، وإن آثر فضائل النفس الأمارة بالخير نال البقاء الذي سعدت به الملائكة فلم يمت فلما عصى بأكل الشجرة عدل إلى التغايير فناله الموت

واستشهدوا عليه من التوراة بما ذكر فيها أنك إن أكلت من الشجرة يوم تأكل منها فموتا تموت فلم يجز أن يتوعده بالموت عند معاقبته وهو يموت لو لم يعاقب. وقال آخرون منهم وهو أشبه بمقتضى العقول أنه خلق في ابتداء إنشائه قابلا للموت في الدنيا وإن لم يعص لأنه أحوجه إلى الغذاء كذريته وليس شيء من الجواهر التي لا ينالها الموت محتاجة إلى الغذاء ولم يجعل الموت عقوبة على المعصية ولذلك لم يمت من عصى من الملائكة وإن في التوراة «14» مكتوبا أن مد يده في الجنة إلى شجرة الحياة وأكل منها حيي الدهر كله فدل على أنه مطبوع على قبول الموت ولما خلق الله تعالى آدم ابتداء ولم يخلقه بتوسط طبيعة كما خلق نسله كان على أفضل اعتدال وأكمل عقل فصار قلبه معدنا للحكمة الإنسانية وجسده مهيأ للأفعال البشرية فلم يمتنع عليه شيء منها حتى أحاط علما وقدرة بجميعها ولذلك علم الأسماء كلها وألهم الحكمة باسرها واطلع على أسرار النجوم وعملها وعرف منافع الحيوان والنبات ومضارها، ولولا ذلك لما فرق بين الغذاء والدواء ولا بين السموم القاتلة ولا اهتدى بالنجوم في بر ولا بحر وكان هو المدبر لأولاده مدة حياته حتى مات بعد تسعمائة وثلاثين سنة من عمره «15» ، ثم قام بالأمر من بعده شيث ابن آدم فبرع في الحكمة وفاق في علم النجوم بما أخذه عن أبيه آدم وبما استفاده بالتجربة ومرور الزمان. واختلف أهل الكتاب في نبوة شيث فادعاها بعضهم وأنكرها آخرون منهم وولد بعد مائتين وثلاثين سنة من عمر أبيه آدم «16» ومات وله تسعمائة واثنتا عشرة سنة «17» فكان قيامه بالأمر بعد موت آدم مائتين وإثنتي عشرة سنة واتفق أهل الكتاب أنه لم يكن بين شيث وادريس نبي غير ادريس تم قام بالأمر بعد شيث ولده أنوش بن شيث، وكان مولده بعد مائتين وخمسين سنة من عمر شيث

_ (14) هناك استشهاد واستناد كثير إلى التوراة ونحن نعرف ما فيها من تحوير وتغيير أنبأنا به تعالى في القرآن الكريم ولذلك نرى أن استناده إليها فيه نظر. (15) هذا كلام توراتي، سفر التكوين الإصحاح الخامس العدد الخامس. (16) التوراة تقول مائة وثلاثين سنة ولا نعرف مصدر روايته هنا. (17) سفر التكوين الإصحاح الخامس العدد 8.

ومات أنوش وله تسعمائة وخمسون سنة فكان قيامه بالأمر بعد شيث مائتين وثماني وثمانين سنة. ثم قام بالأمر بعد أنوش ولده قينان بن أنوش وولد بعد مائة وتسعين سنة من عمر أنوش ومات قينان وله تسعمائة وعشرون سنة فكان قيامه بالأمر بعد أنوش مائة وتسعين سنة. ثم قام بالأمر بعد قينان ولده معلاييل وولد بعد ثمانمائة وخمس وسبعين سنة فكان قيامه بالأمر بعد قينان مائة وعشر سنين. ثم قام بالأمر بعد مهلاييل ولده يارد بن مهلاييل، وولد بعد مائة وخمس وستين سنة من عمر مهلاييل، ومات يارد وله تسعمائة وإثنان وستون سنة فكان قيامه بالأمر بعد مهلاييل مائتين وإثنين وخمسين سنة. ثم قام بالأمر بعد يارد ولده أخنوخ بن يارد وهو ادريس، وولد بعد مائة وإثنين وستين سنة من عمر يارد «18» وهو نبي في قول جميع أهل الملل، واختلف أهل الكتاب هل هذا هو أول الأنبياء أو ثانيهم، فقال من زعم أن شيثا نبي هو ثاني الأنبياء. وقال من زعم أن شيثا ليس بنبي أن ادريس أول الأنبياء وهو أول من شرع الأحكام وأول من اتخذ السلاح وجاهد في سبيل الله تعالى وسبي وقتل بني قابيل ولبس الثياب وكانوا يلبسون الجلود وأول من كتب الخط في قول الأكثرين وأول من وضع الأوزان والكيول ثم رفعه الله تعالى إليه حيا بعد سبعمائة وخمس وثمانين سنة من عمره أقام فيها داعيا وأبوه حي على ما يقتضيه تاريخ هذه المواليد والأعمار المأخوذة من التوراة المنزلة «19» قال ابن قتيبة وسمي ادريس لكثرة ما كان يدرس من كتب الله تعالى وسنن الإسلام.

_ (18) سلسلة النسب الواردة هنا توراتية من سفر التكوين الإصحاح الخامس مع خلاف أحيانا في عدد السنوات. (19) هناك خلاف في الأعمار بين المذكور في هذا الباب والمذكور في التوراة كما قلنا في

من إدريس إلى عيسى عليهما السلام

من إدريس إلى عيسى عليهما السلام ثم كثر الناس فافترقوا بعد ادريس وزادوا إلى زمن نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ وهو ادريس وهو آخر نبي بعث قبل الطوفان على قول من زعم أن شيثا نبي ونزل الطوفان بعد ستمائة سنة «20» من عمره وأنذر قومه فكذبوه وصنع السفينة فسخروا منه وأمره الله تعالى أن يصنعها في طول ثلاثمائة ذراع وعرض خمسين ذراعا وعلو ثلاثين ذراعا وتكون ثلاث طبقات ليركب فيها هو وأهله ويأخذ من كل جنس من الحيوان زوجين ذكرا وأنثى ليكونوا أصولا لنسلهم فيحيا بهم العالم ثم وعده أن يستمطره بعد سبعة أيام أربعين يوما وأربعين ليلة فلم يبق في الأرض ذو روح إلّا من ركبها وغاض الطوفان بعد مائة وخمسين يوما «21» فاستوت على الجودي وهو جبل بأرض الجزيرة شهرا وسمي الماء طوفانا لأنه طفا فوق كل شيء. واختلف فيما عاش نوح بعد الطوفان فقال الأكثرون ثلاثمائة وخمسين سنة وهو ظاهر ما نزل به القرآن وقال آخرون ستمائة وخمسون سنة لأنه لبث تسعمائة وخمسين سنة داعيا لقومه وكان له قبل دعائه ثلاثمائة سنة واختلف فيما بين هبوط آدم من الجنة إلى مجيء الطوفان فقال إثنان وسبعون حبرا من بني إسرائيل نقلوا التوراة إلى اليونانية بينهما ألفان ومائتان وإثنتان وأربعون سنة ثم تبلبلت الألسن بعد الطوفان بستمائة وسبعين سنة فافترق إثنان وسبعون لسانا في اثنتين وسبعين أمة. قال وهب بن منبه منها في ولد سام بن نوح تسعة عشر لسانا، وفي ولد حام سبعة عشر لسانا. وفي ولد يافث ستة وثلاثون لسانا من تبلبل الألسن إلى مولد إبراهيم الخليل عليه السلام أربعمائة وأحد عشر سنة ومن مولد إبراهيم إلى موسى بن عمران عليه السلام أربعمائة وخمس وعشرون سنة وأخرج بني إسرائيل من مصر بعد ثمانية سنة ودبر أمرهم أربعين سنة ومات وله مائة

_ (20) سفر التكوين الإصحاح 7 العدد 6 وعندنا قوله تعالى: فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ سورة العنكبوت الآية (14) . (21) سفر التكوين الإصحاح 8 العدد 3.

وعشرون سنة فصار من هبوط آدم إلى وفاة موسى ثلاثة آلاف وثمانمائة وثماني وستين سنة «22» وقال آخرون من بني إسرائيل المقيمين على التوراة العبرانية التي يتداولها جمهور اليهود في وقتنا إن من هبوط آدم من الجنة إلى مجيء الطوفان ألفا وستمائة وستا وخمسين سنة، ومن انقضاء الطوفان إلى تبلبل الألسن مائة وإحدى وثلاثين سنة، ومن تبلبل الألسن إلى مولد إبراهيم مائة وإحدى وستين سنة، ومن مولد إبراهيم إلى وفاة موسى خمسمائة وخمسا وأربعين سنة، فصار من هبوط آدم إلى وفاة موسى ألفين وأربعمائة وثلاثا وتسعين سنة. وقالت السامرة من اليهود عن تاريخ توراتهم أن من هبوط آدم من الجنة إلى مجيء الطوفان ألفا وثلثمائة وسبعا وستين سنة، ومن الطوفان إلى تبلبل الألسن خمسمائة وستا وعشرين سنة، ومن تبلبل الألسن إلى مولد إبراهيم أربعمائة وإحدى عشرة سنة، ومن مولد إبراهيم إلى وفاة موسى خمسمائة وإحدى وأربعين سنة، فصار من هبوط آدم إلى وفاة موسى ألفين وثمانمائة وتسعا وأربعين سنة. وأول نبي بعد نوح إبراهيم، وهو أول من قص شاربه واستحد واختتن وقلم أظفاره واستاك وتمضمض واستنشق واستنجى بالماء، وأول من أضاف الضيف وأطعم المساكين وثرد الثريد. وكان داعيا إلى عبادة الله تعالى وتوحيده. ثم ولده إسحاق بن إبراهيم، ولد له عيصو ويعقوب توأمين في بطن واحد فخرج عيصو ثم خرج بعده يعقوب ويده عالقة على عقبه فسمي يعقوب. فعيصو أبو الروم وكان أصفر اللون فلذلك سميت الروم بني الأصفر. ويعقوب هو إسرائيل أبو الأسباط. وأيوب بن بولص كان أبوه ممن آمن بإبراهيم يوم أحرق وكان في زمن يعقوب وكان صهره زوجه يعقوب بنته ليا وهي التي ضربها بالضغث.

_ (22) وكل هذه روايات يهودية لا سند لها في القرآن الكريم ولا في الحديث النبوي الشريف كما جاء في كتب الصحاح.

فصل في عمر الدنيا إلى قيام الساعة

وأول نبي من بني إسرائيل موسى وآخرهم عيسى وكانت نبوة يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ومن بعده من ولده قبل موسى مقصورة على أنفسهم حتى دعا موسى إلى نبوّته بني إسرائيل ومن وفاة موسى إلى ملك بختنصر تسعمائة وثمان وسبعون سنة، وإلى ملك الاسكندر ألف وأربعمائة وثلاث عشرة سنة. وولد عيسى ليلة الأربعاء الخامس والعشرين من كانون الأول لسبعمائة وتسع وثلاثين سنة من ملك بختنصر ولثلاثمائة وأربع سنين من ملك الاسكندر. ومن ملك بختنصر إلى ابتداء الهجرة ألف وثلثمائة وتسع وستون سنة، ومن ملك الاسكندر إلى ابتداء الهجرة ألفان وثلثمائة وسبع وأربعون سنة فكان بين موت موسى وابتداء الهجرة ألفان وثلثمائة وسبع وأربعون سنة ومولد عيسى بعد ألف وسبعمائة وسبع عشرة سنة من موت موسى وقيل بعد ستمائة وثلاثين سنة من ابتداء الهجرة. فصل في عمر الدنيا إلى قيام الساعة فإذا تقرر ما ذكرناه من مدة الدنيا أنها مقدرة في الكتب الإلهية بسبعة آلاف سنة كان الماضي منها إلى ابتداء الهجرة محمولا على ما قدمناه من اختلاف أهل التوراة فيكون على القول الأول المأخوذ عن الأحبار الناقلين لها إلى اليونانية ستة آلاف ومائتين وست عشرة سنة والباقي من عمر الدنيا على قولهم بعد الهجرة سبعمائة وأربعا وثمانين سنة وهو موافق لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدنيا سبعة آلاف سنة بعثت في آخرها ألفا» «23» ويكون الماضي منها على القول الثاني المأخوذ عن التوراة العبرانية أربعة آلاف وثمانمائة وإحدى وأربعين سنة والباقي من عمر الدنيا على هذا القول بعد الهجرة ألفين ومائة وتسعا وخمسين سنة وقيل أنهم قالوا ذلك ليكون رسول الله صلى الله عليه وسلم في خامسها ألفا فيدفعوه بنقصان التاريخ

_ (23) وليس أدل على كونه موضوعا أننا في السنة 1408 لهجرة الرسول الكريم ولما تقم الساعة بعد، وعلم الساعة عند رب العالمين وحده كما جاء في القرآن الكريم ولا يعقل وجود حديث نبوي يحدد قيام الساعة بهذا الشكل المتنافي مع ما جاء في القرآن الكريم.

عن صفته في التوراة أنه مبعوث في آخر الزمان ويكون الماضي على القول الثالث في توراة السامرة خمسة آلاف ومائة وسبعا وثلاثين سنة والباقي من عمر الدنيا على هذا القول بعد الهجرة ألفا وثمانمائة وثلاثا وثلاثين سنة ليكون الرسول في سادسها ألفا لما قيل من سنيه. والسامرة قوم ناقلة من بلاد المشرق سموا بذلك لأن تفسيره بالعربية الحفظة وهم لا يقبلون من كتب الأنبياء إلّا التوراة وحدها والأول لأجل قول الرسول بالأشبه وإن كان قيام الساعة وانقراض مدة الدنيا وقيام العالم على هذا التاريخ الذي أثبتوه والتقدير الذي حققوه مدفوعا عندنا بقول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ «24» وفيه تأويلان: أحدهما: أن قيامها مختص بعلمه فامتنع أن يشاركه في علمها أحد من خلقه. والثاني: أن قيامها موقوف على إرادته فامتنع أن يوقف على غير إرادته. وقال تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً «25» يعني فجأة والبغتة غير معلومة فامتنع أن تكون عندهم معلومة ثم قال: فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها «26» وفيه وجهان: أحدهما: نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وهذا يدل على أنه مبعوث في آخرها ألفا. والثاني: أن أشراطها الآيات المنذرة بها كما قال: وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً «27» فلا تقوم الساعة إلّا بعد أن ينذر الله تعالى بآياتها. روى سفيان بن عيينة، عن فرار، عن أبي الطفيل، عن حذيفة بن أسد

_ (24) سورة لقمان الآية (34) . (25) سورة الزخرف الآية (66) . (26) سورة محمد الآية (18) . (27) سورة الإسراء الآية (59) .

ما بين موسى وعيسى عليهما السلام من الأنبياء

الغفاري قال: أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من علية ونحن نتذاكر أمر الساعة قال: «ما كنتم تذاكرون» ؟ قلنا: قيام الساعة. قال: «إن الساعة لن تقوم حتى يكون قبلها عشر آيات» . قال لا يدرى بأيهن بدأ طلوع الشمس من مغربها والدجال والدخان ودابة الأرض ونزول عيسى ابن مريم وخروج يأجوج ومأجوج وثلاثة خسوف خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب وآخر ذلك نار تخرج من قبل اليمن أو من عدن تطرد الناس إلى محشرهم. وروى برد عن مكحول عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يخرج الدجال في الثمانين فإن لم يخرج ففي ثمانين ومائتين فإن لم يخرج ففي ثلاثمائة وثمانين فإن لم يخرج ففي أربعمائة وثمانين» . وروى معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الدجال فقال: «يقيم فيكم أربعين سنة «28» أول سنة كالشهر ثم الثانية كالجمعة ثم الثالثة كاليوم وسائر سنيه كالساعة حتى ينزل عيسى ابن مريم فيوجره بالحربة فيذوب كما يذوب الرصاص وفي هذا دليل على تقدم يأجوج ومأجوج الدجال وآخرها الذي تقوم به الساعة ظهور النار والله أعلم بمن استأثر بغيبه ثم من أطلعه عليه من رسله» . ما بين موسى وعيسى عليهما السلام من الأنبياء وبين موسى وعيسى عليهما السلام من الأنبياء: شعيا وهو الذي بشر بني إسرائيل بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ووصفه بعد أن بشر بعيسى فقتله بنو إسرائيل. ثم حزقيل وهو الذي أصاب قومه الطاعون فخرجوا من ديارهم حذر

_ (28) وقد روى مسلم في صحيحه عن النواس بن سمعان من حديث طويل: قلنا يا رسول الله وما لبثه في الأرض! قال: «أربعون يوما، يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة وسائر أيامه كأيامكم» . صحيح مسلم ج 8 ص 197 باب ذكر الدجال وصفته وما معه.

الموت فأماتهم الله ثم أحياهم. ومنهم: دانيال سباه بختنصر مع العزير ونزل من بختنصر أفضل منزل لرؤيا عبرها له وقبره بناحية السوس وجده أبو موسى الأشعري فأخرجه وكفنه وصلى عليه ودفنه. ومنهم: إلياس بعث إلى أهل بعلبك وكانوا يعبدون صنما يقال له بعل وكان ملكهم اسمه أجب وامرأته أزبيل وكان يستخلفها على ملكه وهي بنت ملك سبأ وعمرت عمرا طويلا وتزوجها سبعة من ملوك بني إسرائيل وهي التي قتلت يحيى بن زكريا عليهما السلام ثم رفع الله تعالى إلياس. ثم اليسع كان تلميذ إلياس فدعا له إلياس فنبأه الله بعده. ثم يونس بن متى. ثم زكريا قتله بنو إسرائيل في الشجرة. ثم عيسى ويحيى فأما يحيى فإن أجب الملك قتله بحيلة امرأته أزبيل وأما عيسى فإن أمه هربت به من أجب الملك إلى مصر وعاد به يوسف النجار مع أمه إلى قرية تدعى ناصرة فلذلك قيل لأصحابه نصارى لأنهم سموه عيسى الناصري. وأصحاب الكهف، هم فتية من الروم دخلوا الكهف قبل المسيح عيسى وضرب الله على آذانهم فيه فلما بعث المسيح أخبر بخبرهم ثم بعثهم الله تعالى بعد المسيح في الفترة بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم وجرجيس من أهل فلسطين أدرك بعض الحواريين وبعث إلى ملك الموصل. فأما لقمان فكان عبدا حبشيا لرجل من بني إسرائيل وكان في زمن داود واسم أبيه ثاران واختلف في نبوته فزعم الأكثرون أنه لم يكن نبيا وقال سعيد بن المسيب كان نبيا وكان خياطا. وذو الكفل من بني إسرائيل بعث إلى ملك كان فيهم يقال له كنعان دعاه إلى الإيمان وكفل له الجنة وكتب له كتابا وسمي ذا الكفل لذلك.

وذكر وهب بن منبه أن الأنبياء كلهم مائة ألف نبي وأربعة وعشرون ألف نبي الرسل منهم ثلاثمائة نبي وخمسة عشر نبيا. منهم خمسة عبرانيون آدم وشيث وإدريس ونوح وإبراهيم «29» . وخمسة من العرب هود وصالح وإسماعيل وشعيب ومحمد صلى الله عليه وسلم. وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: بعث الله إلى أهل الرس والرس البر نبيا منهم يقال له حنظلة بن صفوان فكذبوه وقتلوه فأوحى الله تعالى إلى نبي كان مع بختنصر يقال له أرميا بن برخيا مر بختنصر يغزو العرب الذين لا أغلاق لبيوتهم فيقتلهم بما صنعوا بنبيهم وخالد بن سنان روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذاك نبي أضاعه قومه وذلك أنه قال لقومه ادفنوني فإذا جاءت الظباء بعد ثلاث فاخرجوني فسأنبئكم بما أمرت، فجاءت الظباء إلى قبره بعد ثلاث فلم يخرجوه وقالوا تتحدث العرب عنا إنا نبشنا موتانا وأتت بنته رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعته يقرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ «30» فقالت قد كان أبي يقرأ هذا ولا يضبط ذكر من سلف من الأنبياء وقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ «31» والله تعالى أعلم.

_ (29) وهذا كلام يهودي توراتي تناقله السلف دون تمحيصه وآدم أبو البشر فلا يعقل أن يكون عبرانيا لا هو ولا من بعده إلى إبراهيم وإنما سمي العبرانيون بهذا الإسم لعبورهم البحر مع موسى عليه السلام وكيف يكون إبراهيم عبرانيا ومنه العرب من ولده إسماعيل عليهما السلام. (30) سورة الإخلاص الآية (1) . (31) سورة غافر الآية (78) .

الباب السادس في إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم الكلام في إثبات نبوته يتقرر مع المعترفين ببعثة الرسل لأن منكريها يعمون الجميع بها ويدفعون كل مدع لها والكلام معهم قد قدمناه في إثبات النبوات على العموم. فأما نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فقد اختلف فيها مخالفوه من مثبتي النبوات على أقوال شتى فمنعت اليهود من نبوته لامتناعهم من نسخ الشرع واختلفوا في المانع من نسخة فمنع منه بعضهم بالعقل لأن نهى الله تعالى عما أمر به وأمره بما نهى عنه إنما يكون لخفاء المصلحة عليه في الابتداء وظهورها له في الانتهاء والله تعالى عالم بها في الحالتين لتباين الضدين، ومنع منه بعضهم بالشرع وإن جوزوه في العقل بما نقلوه عن موسى عليه السلام وذكروه في التوراة أنه قال تمسكوا بالسبت أبدا سنة الدهر وكلا الوجهين فاسد من وجهين: أحدهما: أن العقل لا يمنع من الأمر بالشيء في زمان والنهي عنه في غيره بحسب المصلحة في قول من اعتبرها أو بالإرادة في قول من اعتمدها، ولا يكون مستقبحا من فعل حكيم كما يغني من أفقر ويفقر من أغنى إما للمصلحة أو بالإرادة، ولا يكون ذلك منه لاستبهام المصلحة وأشكال الإرادة. والثاني: أن موسى قد نسخ شرع من تقدمه لأن آدم زوج بنيه بناته وجوّز يعقوب الجمع بين الأختين ونكح إبراهيم بنت أخيه وكل هذا عند موسى منسوخ

بشرعه فجاز أن ينسخ شرعه بشرع غيره. وقال آخرون محمد صلى الله عليه وسلم نبي مبعوث إلى قومه من العرب وليس بنبي لغيرهم وهذا فاسد من وجهين: أحدهما: أنه تخصيص بغير دليل. والثاني: أن ثبوت نبوّته في قومه موجب لصدقه. وقد قال أنه بعث إلى كافة الخلق وأنه خاتم الأنبياء فلم يجز رد قوله مع ثبوت صدقه. وقال آخرون هو نبي مبعوث إلى من لم يتمسك بشرع من عبد الأوثان وليس بمبعوث إلى من تمسك بشرع من اليهود والنصارى وهذا فاسد من وجهين مع الوجهين المتقدمين: أحدهما: أنه يدفع به عن نسخ الشرع وقد دللنا على جوازه. والثاني: ان من اعترف بالنبوات كان ألزم له من جحدها. وقال آخرون: ليس بنبي لأنه لم يأت بمعجزة قاهرة يضطر إلى صدقه كمعجزة موسى وعيسى وإن جاز نسخ الشرائع بمثلها من الشرائع وفي هذا يتعين إقامة الدليل على إثبات نبوّته وهو معتبر بثلاثة شروط: أحدها: وصنف المستدل. والثاني: حكم المدلول عليه. والثالث: صفة الدليل. فأما الشرط الأول: في صفة المستدل فقد اختلف فيه، فذكر الجاحظ أنه العقل لأنه المميز للحق، وقال الأكثرون المستدل هو العاقل والعقل آلة استدلاله ليتوصل به إلى صحة مدلوله. وأما الشرط الثاني: ففي حكم المدلول عليه، فعند فريق أنه إثبات نبوته ليعلم بها صدق قوله وعند الأكثرين أنه إثبات صدقه ليعلم بقوله صحة نبوته. وأما الشرط الثالث: وهو الدليل فحجاج يتنوع أنواعا لأن المستدل واحد والمدلول عليه واحد والدليل يشتمل على أعداد متنوعة وشواهد مختلفة فرّق الله

تعالى بينهما لتكون الحجج متغايرة والبراهين متناظرة بحسب ما علمه من المصلحة ورآه من أسباب الإجابة، كما قال تعالى: وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ «1» أي نخالف بينها في المعجزات فكان بعضها حجة قاطعة وبعضها أمارة لائحة تجري عليها أحكام ما قاربها، فتقوى بعد الضعف وتحج بعد الكشف وإن لم تكن للإنذار بانفرادها من قواطع الحجج المغنية عن دليل، فهذا القول في نبوّة غيره فلا يلزم تطابق حججهم كما لم يلزم اتفاق شرائعهم وقد قدمنا أقسام المعجزات فإذا ظهرت إحداهن حجت ودلت على صحة النبوة وقد ظهر في نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم أكثرها مع ما تقدمها من إنذار وظهر بها من آثار وتحقق بها من أخبار فصارت أعم النبوات إعجازا وأوضحها طريقة وامتيازا وأكثرها تأييدا إليها وتعبدا شرعيا تقهر شواهدها من باين وعاند وتحج دلائلها من ناكر وجاحد لأن المهيأ منه مطبوع على آلته ومنقاد إلى غايته حتى يتدرج إليه بغير تكلف ويستقر فيه بغير تصنع فلا يشتبه من تعاطاه بمن طبع له فصح التطبع بشيمة المطبوع ولم تزل أمارات النبوّة لائحة في رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تدرج إليها وهو غافل عنها وغير متصنع لها فنهض بأعبائها حين أتته وقام بحقوقها حين لزمته غير ذاهل فيها ولا عاجز عنها إلى أن تكامل به الشرع فتم على أصل مستقر وقياس مستمر لا يدفعه عقل ولا يأباه قلب ولا تنفر منه نفس، وهذا وهو أميّ لم يقرأ كتابا ولا اكتسب علما فأوضح كل ملتبس وبيّن كل مشتبه حتى رجع كثير من الملل إلى شريعته في علم ما قصروا عنه من حقوق وعقود استوعب أقسامها وبيّن أحكامها، وما ذاك إلّا بعون إلهي وتأييد لاهوتي وحسبك بهذا شاهدا لو اقتصرنا عليه وحجابا لو اكتفينا به، ولكن سنذكر من معجزاته الفاخرة وبراهينه الواضحة ما يرد كل جاحد ويصد كل معاند من أنواع متغايرة وأخبار متواترة وآثار متظاهرة يصدق بعضها بعضا ليكون تغايرها جامعا لكل برهان وتظاهرها دافعا لكل بهتان، فمنها ما تقدمه من نذير وبشير، ومنها ما تعقبه من تغيير وتأثير، ومنها ما قارنه من أقوال وأفعال صدرت منه وإليه فلم

_ (1) سورة الأنعام من الآية (105) .

يبق من الآيات ما أخل به ولا من الأعلام ما قصر فيه، وسنذكرها أبوابا مفصلة وأنواعا متميزة لتكون أصح بيانا وأوضحها برهانا وأحقها بالسابقة والتقديم إعجاز القرآن لأنه أصل شرعته ومستودع رسالته ثم نتلوه بما يقتضيه وإن كان لو ذكرناه أول مباديه على سياق ينتهي إلى غايته لكان نظاما ولكن هذا باب حجاج لرسالته وليس بشرح لسيرته فوجب ابتداؤه بأخصها ثم ذكر سيرته على ترتيبها.

الباب السابع فيما تضمنه القرآن من أنواع الإعجاز والقرآن أول معجز دعا به محمد صلى الله عليه وسلم إلى نبوته فصدع فيه برسالته وخص بإعجازه من جميع رسله وإن كان كلاما ملفوظا وقولا محفوظا لثلاثة أسباب صار بها من أخص إعجازه وأظهر آياته: أحدها: أن معجز كل رسول موافق للأغلب من أحوال عصره والشائع المنتشر في ناس دهره، لأن موسى عليه السلام حين بعث في عصر السحرة خص من فلق البحر يبسا وقلب العصا حية ما بهر كل ساحر وأذل كل كافر، وبعث عيسى عليه السلام في عصر الطب فخص من إبراء الزمنى «1» وإحياء الموتى بما أدهش كل طبيب وأذهل كل لبيب، ولما بعث محمد صلى الله عليه وسلم في عصر الفصاحة والبلاغة خص بالقرآن في إيجازه وإعجازه بما عجز عنه الفصحاء وأذعن له البلغاء وتبلد فيه الشعراء ليكون العجز عنه أقهر والتقصير فيه أظهر فصارت معجزاتهم وإن اختلفت متشاكلة المعاني متفقة العلل. والثاني: أن المعجز في كل قوم بحسب أفهامهم وعلى قدر عقولهم وأذهانهم وكان في بني إسرائيل من قوم موسى وعيسى بلادة وغباوة لأنه لم ينقل عنهم ما يدرون من كلام مستحسن أو يستفاد من معنى مبتكر وقالوا لنبيهم حين

_ (1) الزمنى: المرضى الذين طال أمد مرضهم ولا علاج معروف لأمراضهم كالعمى والكساح والدمامل التي تملأ الجسد، والجنون وما شابه.

الباب السادس في إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم

مروا بقوم يعكفون على أصنام لهم اجعل لنا إلها كما لهم آلهة فخصوا من الإعجاز بما يصلون إليه ببداية حواسهم والعرب أصح الناس أفهاما وأحدّهم أذهانا قد ابتكروا من الفصاحة أبلغها ومن المعاني أغربها ومن الآداب أحسنها فخضوا من معجزة القرآن بما تجول فيه أفهامهم وتصل إليه أذهانهم، فيدركوه بالفطنة دون البديهة وبالرويّة دون البادرة لتكون كل أمة مخصوصة بما يشاكل طبعها ويوافق فهمها. والثالث: أن معجز القرآن أبقى على الأعصار «2» وأنشر في الأقطار من معجز يختص بحاضره ويندرس بانقراض عصره وما دام إعجازه فهو أحج وبالاختصاص أحق. وجوه الإعجاز الإعجاز في التركيب اللغوي وإعجاز القرآن في خروجه عن كلام البشر وإضافته إلى الله تعالى يكون من عشرين وجها أحدها فصاحته وبيانه وذلك معتبر بثلاثة شروط: أحدها: بلاغة ألفاظه. والثاني: استيفاء معانيه. والثالث: حسن نظمه. فأما بلاغة ألفاظه فتكون من وجهين: أحدهما: جزالتها حتى لا تلين. والثاني: انطباعها حتى لا تخبو. وأما استيفاء معانيه فيكون من وجهين: أحدهما: أن يكون المعنى لائحا «3» في بادىء ألفاظه غير مفتقر إلى مقاطعه

_ (2) الأعصار: العصور والأجيال. (3) لائحا ظاهرا باديا.

الإعجاز في المعاني

والثاني: أن يكون المعنى مطابقا لألفاظه فلا يزيد عليها ولا يقصر عنها فإن زاد كان الاختلال في اللفظ، وإن نقص كان الاختلال في المعنى وأما حسن نظمه فيكون من وجهين. أحدهما: أن يكون الكلام متناسبا لا يتنافر. والثاني: أن يكون الوزن معتدلا لا يتباين. فإن قيل: قد يجتمع في كلام البشر ما يستكمل هذه الشروط فبطل به الإعجاز. فالجواب عنه من وجهين: أحدهما: أن أسلوب نظمه على هذه الشروط معدوم في غيره فافترقا. والثاني: أن لنظم ألفاظه بهجة لا توجد في غيره فاختلفا لأنك إذا جمعت بين قول الله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ «4» وبين قولهم القتل أنفى للقتل وجدت بينهما فروقا في اللفظ والمعنى. الإعجاز في المعاني والوجه الثاني: من إعجازه، إيجازه عن هذا الإكثار واستيفاء معانيه في قليل الكلام كقوله تعالى: وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ «5» . فإن قيل: ليس جميعه وجيزا مختصرا وفيه المبسوط والمكرر بعضه أفصح من بعض ولو كان من عند الله لتماثل ولم يتفاضل لأن التفاصيل في كلام من يكل خاطره وتضعف قريحته فعنه جوابان: أحدهما: أن اختلافه في البسط والإيجاز ليس للعجز عن تماثله ولكن لاختلاف الناس في تصوره وفهمه وتفاضله في الفصاحة بحسب تفاضل معانيه

_ (4) سورة البقرة من الآية (179) . (5) سورة هود الآية (44) .

الإعجاز في الأسلوب

لا للعجز عن تساويه. والثاني: أنه خالف بين معانيه ومختصره وبين أفصحه وأسهله ليكون العجز عن أسهله وأبسطه أبلغ في الإعجاز من العجز عن أفصحه وأخصره ولذلك فاضل بين خلقه ليعرف به فرق ما بين الفاضل والمفضول. وقد حكى أبو عبيدة أن أعرابيا سمع رجلا يقرأ: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ «6» فسجد وقال: سجدت لفصاحة هذا الكلام. فأما تكرار قصصه وتكرار وعده ووعيده فلأسباب مستفادة منها أنها في التكرار أوكد وفي المبالغة أزيد، ومنها أنها تتغاير ألفاظها فتكون إلى القبول أسرع وفي الإعجاز أبلغ ومنها أنها إن أخل بالوقوف عليها في موضع أدركها في غيره فلم يخل من رغب ورهب. الإعجاز في الأسلوب والوجه الثالث: من إعجازه أن نظم أسلوبه ووصف اعتداله يخرج عن منظوم الكلام ومنثوره ولا يدخل في شعر ولا رجز ولا سجعة ولا خطبة حتى تجاوز محصور أقسامه وباين سائر أنواعه بأسلوب لا يشاكل «7» ونظم لا يماثل فصار وإن كان من حروف الكلام خارجا عن أقسام الكلام فقد قال أنيس الغفاري وهو أخو أبي ذر الغفاري وكان من الموصوفين بالتقدم في البلاغة والفصاحة عرضت القرآن على السجع والشعر والنظم والنثر فلم يوافق شيئا من طرق كلام العرب. وحكي عن الوليد بن المغيرة المخزومي وكان سيد عشيرته وأفصح قومه أنه جاء إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على كفره فقال: اقرأوا عليّ شيئا من القرآن فقرأوا عليه فقال: ليس هذا من كلام البشر وليس بشعر، فمضى إليه أبو لهب وقال: أفسدت قريشا بهذا القول فارجع عنه فقال: أقول أنه سحر

_ (6) سورة الحجر من الاية (94) . (7) لا يشاكل: لا يؤتى بما يشابهه شكلا أو معنى.

وقد تعاطاه من الشعراء ما خرج عن أسلوبه إلى طريقة شعره فقال في قصة الفيل: ألا من مهلك الفيل ... ومن سار مع الفيل بطير صبه الله ... عليهم من أبابيل رمتهم بجنادل ... ترى من طين سجيل فأضحى القوم في القاع ... كعصف غير مأكول فلم يساعده الطبع عليه مع أخذ معانيه واستعمال ألفاظه حتى عاد إلى مطبوع شعره وضمن آخر من الشعراء شيئا منه في شعره فخرج عن أسلوبه حيث يقول: وقرأ معلنا ليصدع قلبي ... والهوى يصدع الفؤاد السقيما أرأيت الذي يكذب بالدين ... ذاك الذي يدع اليتيما فإن قيل لو كان لنظم القرآن أسلوب معجز لما طلب عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه عند جمع القرآن من يأتيه بالآية والآيتين شهودا أنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا كتفى بأسلوب نظمه عن بينة تشهد به، ولكان لا يشتبه على ابن مسعود في المعوّذتين حين أخرجهما من القرآن ولا على أبيّ بن كعب في القنوت حين أدخله في القرآن ولا على امرأة ابن رواحة في شعره حتى توهمته من القرآن فعنه جوابان: أحدهما: أن عمر التمس الشهادة في الآية والآيتين مما لا يكون بانفراده معجزا لأن الإعجاز مختص بما وقع به التحدي وأقل ما يقع به التحدي كأقصر سورة في القرآن آيات وحروفا وهي سورة الكوثر، وما قصر عنه لا إعجاز فيه فكان طلبه للشهادة متوجها إليه. والثاني: أنه طلب الشهادة على محلها من أي سورة هي وفي أي موضع منها وإن كان معلوم الأسلوب بالمباينة لأن الله تعالى كان يأمر بوضع ما أنزله فيما يراه من السور لقوله تعالى: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ «8» فأما ابن مسعود فلم

_ (8) سورة القيامة الآية (17) .

الإعجاز في الإيجاز وجزالة المعاني

يشكل عليه أسلوب المعوذتين أنهما من القرآن وإنما حكمهما من مصحفه لأنه ظن أن تلاوتهما قد نسخت. وأما أبيّ بن كعب فظن أن تلاوة القنوت باقية ولم يعلم أنها قد نسخت، وأما امرأة ابن رواحة فلم تكن من ذوي الفصاحة والبلاغة فتفرق بين الشعر وأسلوب القرآن فلم يكن لوهمها تأثير. الإعجاز في الإيجاز وجزالة المعاني والوجه الرابع: من إعجازه كثرة معانيه التي لا يجمعها كلام البشر وذلك من وجهين: أحدهما: ما يجمعه قليل الكلام من كثير المعاني كقوله تعالى: وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ «9» فجمع في آية واحدة بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين. والثاني: أن ألفاظه تحتمل معاني متغايرة تحار فيها العقول وتذهل فيها الخواطر وتكل فيها القرائح ثم لا تبلغ أقصاه ولا تدرك منتهاه حتى اختلفت فيه الوجوه وتقابلت فيه النظائر. فإن قيل: فهذا إلغاز ورمز هو بالذم منه أولى بالحمد فعنه جوابان: أحدهما: أن الإلغاز وإن ذم فالرمز ليس بمذموم وليس فيه لغز وإن كان فيه رمز. والثاني: إن ما اختلفت معانيه يخرج عن اللغز والرمز لأن اللغز ما أريد به غير معناه والرمز ما خفي معناه. الإعجاز العلمي والوجه الخامس: من إعجازه ما جمعه القرآن من علوم لا يحيط بها بشر

_ (9) سورة القصص الآية (7) .

الإعجاز في الدلائل والبراهين

ولا تجتمع في مخلوق فلم يكن إلّا من عند الله المحيط بكل شيء علما حتى علمه من لم يكن به عالما. فإن قيل: فضل العلم لا يكون إعجازا في النبوّات لأن العلماء قد يتفاضلون ولا يكون للأفضل إعجاز على المفضول فعنه جوابان: أحدهما: أن التفاضل في العلم موجود والإحاطة بجميع العلوم مفقودة «10» . والثاني: أن ظهور العلم فيمن يتعاطاه ليس بمعجز لظهوره من جهته وظهور العلم فيمن لم يتعاطه معجزا لظهوره من غير جهته وقد كان أميا من أمة أميّة لم يقرأ كتابا ولم يتعاط علما فصار ما أظهر معجزا. الإعجاز في الدلائل والبراهين والوجه السادس: من إعجازه ما تضمنه من الحجج والبراهين على التوحيد والرجعة وعلى الدهرية والثنوية حتى قطع بحجاجه كل محتج وخصم بجدله كل خصم ألدّ. فإن قيل: فدلائل التوحيد مستفادة بالعقول فلم يكن فيها إعجاز من وجهين: أحدهما: وجودها من ذاته. والثاني: مشاركته فيها لغيره، والجواب عنه من وجهين: أحدهما: أنه لم يكن من أهل الجدل فيقطع كل مجادل. والثاني: أنه أحتج للرجعة بما زاد على قضايا العقول فخصم «11» كل عاقل.

_ (10) وقد ذكر فيه من العلم أشياء لم تعرف في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم ولا بعده ولم تكشف إلا مؤخرا كالتقاء البحرين المالحين وعدم امتزاج مائهما وقد تم كشف هذه الظاهرة في العام الماضي والحديث عنها يطول والأمثلة كثيرة. (11) خصم كل عاقل: غلبه بالحجة.

الإعجاز في الإخبار عن الماضي

الإعجاز في الإخبار عن الماضي والوجه السابع: من إعجازه ما تضمنه من أخبار القرون الخالية وقصص الأمم السالفة، وما تحداه به أهل الكتاب من قصة أهل الكهف وشأن موسى والخضر وحديث ذي القرنين فكان على ما ذكره أنبياؤهم وتضمنته كتبهم. فإن قيل: فالإخبار بما كان ليس بمعجز لأن علم غير الأنبياء به ممكن فعنه جوابان: أحدهما: أنه ممكن فيمكن علمها وممتنع فيم لم يعلمها ولم يكن من أهلها فيعلمها فصار معجزا ممتنعا. والثاني: أنهم اقترحوا تحديه مما لم يكن مبتدئا ولا كان له متناهيا من غوامض أسرار وغرائب أخبار جعلوها حجاجا له وعليه ففصح بالجواب عن سرائرها وصدع بنعت غوامضها فخرج عن العرف إلى ما ليس بعرف فصار معجزا. الإعجاز بالإخبار عن الغيب والوجه الثامن: من الإعجاز ما تضمنه من علم الغيب بأخبار تكون فكانت كقوله لليهود: قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ «12» ثم قال: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ «13» فما تمناه أحد منهم، وكقوله لقريش: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا «14» فقطع بأنهم لا يفعلون فلم يفعلوا وكقوله: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ «15» وكان ذلك في يوم بدر وكقوله تعالى في هجرته من مكة إلى المدينة: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ «16» فأعاد الله إلى مكة عام الفتح إلى غير ذلك من نظائره.

_ (12) سورة البقرة الآية (94) . (13) سورة البقرة الآية (95) . (14) سورة البقرة الآية (24) . (15) سورة القمر الآية (45) . (16) سورة القصص الآية (85) .

الإعجاز بالإخبار عما في النفوس من أسرار

فإن قيل: فقد يكون ذلك حدسا بشواهد الأفعال وفراسة بفضل الألمعية وقوة الفطنة، فعنه جوابان: أحدهما: أن الحدس والفراسة وإن أصاب بهما تارة فقد يخطىء بهما أخرى وهذا إصابة في الجميع فخرجت عن الحدث والفراسة إلى علم من لا تخفى عليه الغيوب. والثاني: أن الحدس والفراسة توهم غير مقطوع بهما قبل الوجود وهذه أخبار بأنه مقطوع بها قبل الوجود فافترقوا. الإعجاز بالإخبار عمّا في النفوس من أسرار والوجه التاسع: من إعجازه ما فيه من الأخبار بضمائر القلوب التي لا يصل إليها إلّا علّام الغيوب كقوله: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا «17» من غير أن يظهر منهم قول أو يوجد منهم فشل وكقوله: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ «18» فكان كقوله، «وإن لم يتكلموا به» إلى غير ذلك من نظائره. فإن قيل: فالجمع الكثير تخلف ضمائرهم في العرف فإن وجد ذلك في بعضهم لم يوجد في جميعهم، فإن لم يخل أن يعقده بعضهم خلا منه بعضهم فتقابل القولان فيهم وبطل إعجازه معهم، فعنه جوابان: أحدهما: أنهم وجهوا بهذا الخبر على العموم فلم ينكروه فزال هذا التفصيل فصار معجزا. والثاني: أنه جعله ذنبا لهم فلم ينتضلوا منه فدل على وجوده من جميعه. الإعجاز في الألفاظ والوجه العاشر: من إعجازه أن ألفاظ القرآن قد تشتمل على الجزل

_ (17) سورة آل عمران من الآية (122) . (18) سورة الأنفال الآية (7) .

الإعجاز في التلاوة

المستغرب والسهل المستقرب فلا يتوعر جزله ولا يسترذل سهله ويكونان إذا اجتمعا مطبوعين غير متنافرين ولا نجد ذلك في غيره من كلام البشر لأن جزله يتوعر وسهله يسترذل والجمع بينهما يتنافر فصار من هذا الوجه مباينا وفي الإعجاز داخلا. فإن قيل: إنما كان القرآن كذلك لأنه قد تواطأ بكثرة التلاوة فاستلذته الأسماع واستحلته الألسن، ولولاه لتباين واختلف فعنه جوابان: أحدهما: أن صفته عند أول سماعه. لو كانت لما ذكر من الكلام المختلف لا يتواطأ بكثرة ذكره فبطلت العلة. الإعجاز في التلاوة والوجه الحادي عشر: من إعجازه أن تلاوته تختص بخمسة بواعث عليه لا توجد في غيره: أحدها: هشاشة مخرجه. والثاني: بهجة رونقه. والثالث: سلاسة نظمه. والرابع: حسن قبوله. والخامس: أن قارئه لا يكل وسامعه لا يمل وهذا في غيره من الكلام معدوم فإن قيل: إنما وقع في النفوس هذا الموقع فعنه جوابان: أحدهما: أن هذا موجود في غيره من كتب الله تعالى كالتوراة والإنجيل والزبور، وليس يوجد ذلك فيها مع وجود هذا التعليل ولذلك ما استعان أهلها على استحلاء تلاوتها بما وضعوه لها من الألحان واستعذبوه لها من الأصوات، والقرآن مستغن عن هذا بصيغة لفظه فلذلك ما راع وهيج الطباع. والثاني: التدين لا يسلب العقول تمييزها ولا يفسد عليها تصورها وهو

الإعجاز في كونه معصوما من الزلل محفوظا لفظا ومعنى

بأن يزيدها بصيرة أولى أن ينقصها ولو كان لهذة العلة لجحده من كفر كما اعترف به من آمن وقول الجميع فيه سواء. الإعجاز في كونه معصوما من الزلل محفوظا لفظا ومعنى والوجه الثاني عشر: من إعجازه، أنه منقول بألفاظ منزّلة ومعان مستودعة وبلغه الملك بلفظه وعلى نظمه وأداه الرسول إلى الأمة بمثله فلم ينخرم فيه لفظ ولا اختل فيه معنى ولا تغير له ترتيب حتى صار من الزلل مضبوطا ومن التبديل محفوظا تستمر به الأعصار على شاكلته وتتداوله الألسن مع اختلاف اللغات على نظمه وصفته لا يختل بتعاقب الأزمنة ولا يختل بتباعد الأمكنة ولا يتغير باختلاف الألسنة، وغيره من الكتب مقصورة على حفظ معانيها وإن غويرت ألفاظها فإن التوراة ألقى الله تعالى معانيها إلى موسى عليه السلام فذكرها بلفظه وعبر عنها بكلامه. وأما الإنجيل فهو ما أخبر به عيسى عليه السلام عن ربه وعن نفسه فجمعه تلامذته بألفاظهم وجعلوه كتابا متلوا. وأما الزبور فأدعية بتحاميد وتسابيح تنسب إلى داود عن لفظه، ولئن كانت معاني هذه الكتب مضافة إلى الله تعالى فليست بصيغة لفظه ولا على نظم كلامه كما نزل القرآن جامعا لألفاظه ومعانيه وترتيبه فصار مباينا لجميع كتبه، وما هذا إلّا بمعونة إلهية حفظ الله تعالى بها إعجازه وأمدّ بها رسوله كما قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ «19» . فإن قيل: فحفظ الكلام على صيغة لفظه واشتمال معانيه لا يكون معجزا كأشعار الجاهلية القدماء وأمثال من سلف من الحكماء «20» ، فعنه جوابان: أحدهما: أن في هذا محولا ومتروكا فلم ينحفظ. والثاني: أنه لا يعلم حاله فلم ينضبط والقرآن مخالف لهما في حفظه وضبطه.

_ (19) سورة الحجر الآية (9) . (20) وكل هذا دخله التزوير والنحل والإنتحال والتبديل

الإعجاز في شمولية معانيه

الإعجاز في شمولية معانيه والوجه الثالث عشر: من إعجازه، إقتران معانيه المغايره واقتران نظائرها في السور المختلفة فيخرج في السورة من وعد إلى وعيد ومن ترغيب إلى ترهيب ومن ماض إلى مستقبل ومن قصص إلى مثل ومن حكم إلى جدل فلا ينبو ولا يتنافر، وهي في غيره من الكلام متنافرة فتتجانس معانيها وكذلك هي في غيره من الكتب المنزلة مفصلة لكل نوع سفر، فإن التوراة مقسومة على خمسة أسفار وكل سفر منها مفرد بمعنى واحد من المعاني المستودعة فيها: فالسفر الأول: لذكر بدء الخلق. والسفر الثاني: لخروج بني إسرائيل من مصر. والسفر الثالث: لأمر القرابين. والسفر الرابع: لإحصاء موسى بني إسرائيل وما دبرهم به. والسفر الخامس: لتكرير النواميس وجعل اختلاف معانيها موجبا لتفاضلها، فكان أفضل ما في التوراة عند اليهود الكلمات العشر المشتملة على الوصايا التي خاطب الله تعالى بها موسى وبها يستحلفون دون غيرها «21» . وأفضل ما في الإنجيل الصحف الأربعة المنسوبة الى تلامذة المسيح الأربعة «22» وهي المخصوصة بالقراءة في الصلاة والأعياد وأفضل ما في الزبور ما اتفق أهل الكتابين على اختياره وما اشتمل عليه القرآن من تغايرها، أولى من وجهين: أحدهما: أن لا يختص قارئه بأحدها فيعدل عن غيره. والثاني: أن يستوعب إذا أراد جميعها قراءة جميعه فيستكمل فوائده ويستجزل ثوابه.

_ (21) جاء في الموسوعة اليهودية المجلد 11 ص 589 ما يلي حول التوراة الموجودة: «وما زال الرّبيون يعنون بتناقضات واختلافات وردت في هذه الصحف وما زالوا يصلحونها بحكمتهم ولباقتهم» فتأمل. (22) المقصود إنجيل متى وإنجيل مرقس وإنجيل لوقا وإنجيل يوحنا وقد تحدثنا عنها مطوّلا في كتابنا قصص القرآن الكريم فليراجعه من أراد.

الإعجاز في تماسك بيانه

فإن قيل: فالتفصيل أبلغ في البيان من الامتزاج فالجواب عنه ما ذكرناه من الوجهين. الإعجاز في تماسك بيانه والوجه الرابع عشر: من إعجازه أن اختلاف آياته في الطول والقصر لا يخرج عن أسلوبه ولا يزول عن اعتداله وغيره من نظم الكلام ونثره إذا تفاصلت أجزاؤه زال عن وزن منظومه واعتدال منثوره فصار ذلك من إعجازه. فإن قيل: زيادة طوله هذر ونقصان قصره حصر فكيف يكون معجزا إذا تردد بين هذر وحصر، فعنه جوابان: أحدهما: أن الزيادة تكون هذرا إذا لم تفد والنقصان يكون حصرا إذا لم يقنع والزيادة من طوله مفيدة والنقصان من قصره مقنع فخرج عن الهذر والحصر. والثاني: أن الطويل لو انفرد لم يكن هذرا والقصير لو انفرد لم يكن حصرا فلم يكن اجتماعهما موجبا لهذر وحصر كاختلاف السور في القصر والطول، فإن أقصر السور سورة الكوثر، وتشتمل مع قصرها على أربعة معان أخبار بنعمة وأمر بعبادة وبشرى بمسرة وأسلوب هو معجزة فلم تخرج إذا قرنت بما هو أطول أن تكون معجزة. الإعجاز في عدم القدرة على الإحاطة بمعانيه والوجه الخامس عشر: من إعجازه أن مكثر تلاوته لا يزاد به فصاحة وإن ازداد بغيره من فصيح الكلام لخروجه عن طباع البشر فمازجها فصار أسلوبه معجزا في الحالين وعلى كلا الوجهين. فإن قيل: ما لا يؤثر في الطباع ناقص عن الكمال فكيف يوصف بالكمال، فعنه جوابان: أحدهما: أن كماله فيه فلم تعديه. والثاني: أن كماله يوجب المنع من تساويه.

الإعجاز في سهولة حفظه

الإعجاز في سهولة حفظه والوجه السادس عشر: من إعجازه تيسيره على جميع الألسنة حتى حفظه الأعجمي الأبكم «23» ودار به لسان القبطي الألكن «24» ولا يحفظ غيره من الكتب كحفظه ولا تجري به ألسنة البكم كجريها به، وما ذاك إلّا بخصائص إلهية فضّله بها على سائر كتبه «25» . فإن قيل: فقد يحفظ الشعر كحفظه والعلة فيه اعتدال وزنه الذي يحفظ بعضه بعضا فلم يكن ذلك معجزا، فعنه جوابان: أحدهما: أن ما اندرس من الشعر أكثر مما حفظ وهذا محفوظ لم يندرس فاختلفا. والثاني: ما لم تستعذ به الأفواه متروك، والقرآن مستعذب غير متروك فافترقا. الإعجاز في عدم القدرة على الإتيان بمثله والوجه السابع عشر: من إعجازه أن الكلام يترتب ثلاث مراتب منثور يدخل في قدرة الخلق وشعر هو أعلى منه يقدر عليه فريق ويعجز عنه فريق وقرآن هو أعلى من جميعها وأفضل من سائرها تجاوز رتبة النوعين فخرج عن قدرة الفريقين. فإن قيل: لو كان القرآن برهانا معجزا لخرج كثيره وقليله عن القدرة، وقليله مقدور عليه وهو أن يجمع بين ثلاث كلمات منه أو أربع، فكذلك كثيره لأن الشيء إذا دخلت أوائله في جنس الممكن خرجت أواخره من جنس الممتنع، فعنه جوابان:

_ (23) الأبكم: الذي يحفظه دون أن يفقه لغته. (24) الذي يقرأه بلكنته أي بلهجته البعيدة عن صفاء العربية. (25) التوراة والأناجيل ترجمت ألفاظها ومعانيها لعدم وجود إعجاز لغوي فيها أما القرآن فلا تترجم إلا معانيه وحسب الشروح المعتمدة من الشارح.

الإعجاز في عدم القدرة على الزيادة فيه أو إنقاصه

أحدهما: أن قليله وكثيره خارج عن القدرة إذا انتظم إعجازه وهو كأقصر سورة منه فبطل هذا الاعتراض. والثاني: أنه ليس القدرة على الكلمة والكلمتين منه قدرة على استكمال ما يقع من التحدي كالمفحم في الشعر لا تكون قدرته على الكلمة والكلمتين من بيت من الشعر قدرة على نظم بيت كامل من الشعر. الإعجاز في عدم القدرة على الزيادة فيه أو إنقاصه والوجه الثامن عشر: من إعجازه أن الزيادة فيه ممتازة وتغيير ألفاظه منه مفتضحة ولو كان في القدرة لالتبس ولو أمكن لاشتبه. فإن قيل: فقد زيد فيه فالتبس واشتبه وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت عليه سورة النجم بمكة قرأها في المسجد الحرام حتى بلغ إلى قوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى «26» ألقى الشيطان على لسانه تلك الغرانيق العلى وأن شفاعتهن لترتجى ثم تمم السورة وسجد فسجد معه المسلمون وفرح المشركون فسجدوا معه ورضيت كفار قريش به وسمع به من هاجر إلى أرض الحبشة فعادوا إلى أن أنكر عليه جبريل فشق عليه ونزل فيه قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ «27» قالوا: ومعلوم أن هذه الزيادة هي في مثل أسلوب السورة وليست من الله تعالى وقد اشتبهت فلم لا كان ما سواها بمثابتها، فعنه جوابان: أحدهما: أن هذه زيادة لا تبلغ قدر التحدي فخرجت عن حكمه. والثاني: أنه أنزل فيها التي عندهم أيها الغرانيق العلى وأن شفاعتهن لترتجى، فاشتبه على قريش وحذفوا منه قوله التي عندهم فنسخ الله تعالى لهذا الأشتباه تلاوة هذه الزيادة.

_ (26) سورة النجم الآيتان (19- 20) . (27) سورة الحج الآية (52) .

الإعجاز في العجز عن معارضته

الإعجاز في العجز عن معارضته والوجه التاسع عشر: من إعجازه عجز الأمم عن معارضته وقد تحداهم أن يأتوا بسورة مثله فلم تخرجهم أنفة التحدي وصبروا على نغص العجز مع شدة حميتهم وقوة أنفتهم وقد سفه أحلامهم وسب أصنامهم ولو وجدوا إلى المعارضة سبيلا وكان في مقدورهم داخلا، وقد جعله حجة لهم في رد رسالته لعارضوه ولما عدلوا عنه إلى بذل نفوسهم في قتاله وسفك دمائهم في محاربته. فإن قيل: فليس يمتنع أن يكونوا قد عارضوه بمثله فكتم كما كتم ما هجي به من الأشعار وقرف به من العار، فعنه جوابان: أحدهما: أنهم لو عارضوه لظهر ولو ظهر لانتشر لأن تكاتم الاستفاضة لا تستطاع لما في الطباع من الإذاعة وفي نفثات الصدور من الإشاعة ولقيل قد عورض فكتم كما قيل هجي فكتم، ولو جاز هذا في معارضة القرآن لجاز مثله في معجزة كل نبي أن يقال قد عورض معجزة فكتم فيفضي إلى إبطال كل معجز، وهذا مدفوع في معارضة غير القرآن فكان مدفوعا في معارضة القرآن. والثاني: أنه قد جعل معارضته حجة لهم في رد رسالته فلو عارضوه لاحتجوا عليه بالمعارضة ولما احتاجوا معه إلى القتال والمحاربة مع بذل النفوس واستهلاك الأموال ولدفعوه بالأهون دون الأصعب وقد نقل ما عورض به فظهر فيه العجز وبان فيه النقص حتى فضحته ركاكة لفظه وسخافة نظمه. فحكى ابن قتيبة عن مسيلمة أنه قال في معارضة القرآن: يا ضفدع نقي، كم تنقين، لا الماء تكدرين ولا الشراب تمنعين، فلما سمع هذا أبو بكر رضي الله تعالى عنه قال: إن هذا الكلام لم يخرج من إل «28» . وحكي عن غيره وأحسبه العنسي أنه قال: ألم تر كيف فعل ربك بالحبلى أخرج من بطنها نسمة تسعى من بين شراسيف وحشى.

_ (28) إل: أصل جيد، أو منشأ طيب وهو المقصود هنا. والإل أيضا: الوحي وكل ما له حرمة.

الإعجاز في الصرف عن معارضته

وحكي عن آخر: الفيل ما الفيل له ذنب وثيل ومشفر طويل فإن ذلك من خلق ربنا لقليل. وحكى الحكم عن عكرمة أن النضر بن الحرث وكان من فصحاء قريش عارض القرآن فقال: والزارعات زرعا والحاصدات حصدا والطاحنات طحنا والعاجنات عجنا والخابزات خبزا فاللاقمات لقما. وقال آخر: قد أفلح من هينم في صلاته وأطعم المسكين من مخلاته وأخرج الواجب من زكاته. وقال آخر في معارضة سورة النجم: والنجم إذا سما والبحر إذا طما ما زاغ منذركم وما طغى وما كذب بها وغوى فيما نطق به وروى، فأنزل الله تعالى في ذلك: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ «29» فهذه المعارضة وقد احتذوا فيها مثالا عدلوا بها عن طوال السور إلى فصارها فأتوا بسقيم الكلام دون سليمه وبسخيفه دون جميله، فكيف يقابل له غايته القصوى ويوازي به طبقته العليا، وهل ذلك إلّا كمن عارض فصاحة سحبان بعي باقل أو تخليط مجنون بحزم عاقل أو قاس الدر بالمدر وشاكل بين الصفو والكدر، ومن تعاطى ما ليس في طبعه افتضح فخر صريعا وهوى سريعا. الإعجاز في الصرف عن معارضته الوجه العشرون: من إعجازه الصرفة عن معارضته واختلف من قال بها هل صرفوا عن القدرة على معارضته أو صرفوا عن معارضته مع دخوله في مقدورهم على قولين: أحدهما: أنهم صرفوا عن القدرة ولو قدروا لعارضوه. والقول الثاني: أنهم صرفوا عن المعارضة مع دخوله في مقدورهم.

_ (29) سورة الأنعام الآية (93) .

جامع الإعجاز

والصرفة إعجاز على القولين معا في قول من نفاها وأثبتها فخرقها للعادة فيما دخل في القدرة. فإن قيل: فإن عجزوا عن معارضته بمثله لم يعجزوا عن معارضته بما تقاربه وإن نقص عن رتبته، والمعجز ما لم يمكن مقاربته كما لا يمكن مماثلته فعنه جوابان: أحدهما: أن مقاربته تكون بما في مثل أسلوبه إذا قصر عن كماله والأسلوب ممتنع فبطلت المقاربة وثبت الإعجاز. والثاني: أن المقاربة تمنع من المماثلة والتحدي إنما كان بالمثل دون المقاربة. جامع الإعجاز فإذا ثبت إعجاز القرآن من هذه الوجوه كلها صح أن يكون كل واحد منها معجزا فإذا جمع القرآن سائرها كان إعجازه أقهر وحجاجه أظهر وصار كفلق البحر وإحياء الموتى لأن مدار الحجة في المعجزة إيجاد ما لا يستطيع الخلق مثله سواء كان جسما مخترعا أو جرما مبتدعا أو عرضا متوهما. فإن قيل: أفيعتبرون عجز العرب العاربة عنه دون المولدين أو عجز الجميع. قيل: فيه خلاف بين أهل العلم على وجهين: أحدهما: أن المعتبر فيه عجز الجميع ليكون أعم. والوجه الثاني: معتبر فيه عجز العرب العاربة دون المولدين ليكون معتبرا بمن يلجأ إلى طبعه ولا يعول على تكلفه وتعلمه. وهكذا اختلفوا هل يعتبر فيه عجز أهل عصره أو في جميع دهره على هذين الوجهين: أحدهما: يعتبر فيه عجز أهل العصر لأنهم حجة على أهل كل عصر. والوجه الثاني: أنه يعتبر فيه عجز أهل كل عصر لعموم التحدي فيه لأهل كل عصر.

القرآن كلام رب العالمين

فإن قيل: فليس عجز كل الانس عن مثله موجبا لإضافته إلى الله تعالى لجواز أن تكون الشياطين أعانت عليه حتى خرج عن مقدور الإنس كما أعانت سليمان على ما عجز عنه الإنس فعنه أجوبة: أحدها: أن هذا يتوجه على موسى في فلق البحر وعلى عيسى في إحياء الموتى، ويقدح في جميع النبوّات فلم يجز لمن أثبتها أن يخص به بعض المعجزات. والجواب الثاني: أن الشياطين لم يعرفوا إلّا من الرسل ولولاهم لما علم الناس أن في الدنيا شيطانا ولا جنا ولا جانا وقد جهل الرسل بلعنهم ودعوا إلى معصيتهم ولو كانوا أعوانا لدعوا إلى طاعتهم وموالاتهم لأن معونة من أطيع وولي أحق من معونة من عصى وعودي. والجواب الثالث: أن الشياطين لا يقدرون على ذلك إلّا بمعونة الله تعالى لهم وهو لا يعين كاذبا عليه فإن كان عن أمره كان معجزا لأنه من فعله، وعلى هذا كان تسخير سليمان للجن والله تعالى غني عن الشياطين أن يكونوا سفراء إلى رسله وأعوانا لأنبيائه وهم ينهون عن طاعته ويدعون إلى معصية هذا القرآن وقد تحدى به الجن كما تحدى به الإنس بقوله تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً «30» ، وحكى عنهم عجزهم عنه بقوله تعالى: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ «31» . القرآن كلام رب العالمين فإذا تقررت هذه الجملة في إعجاز القرآن فبإعجازه يعلم أنه من غير كلام البشر ولا يعلم أنه من عند الله تعالى إلّا بقول الرسول، فلو أراد الرسول أن يقول مثله لم يقدر عليه لأنه من البشر إلّا أن يمده الله تعالى بعون منه فيصير قادرا

_ (30) سورة الإسراء الآية (88) . (31) سورة الجن الآيتان (1- 2) .

عليه ومعجزا له لو لم يضف القرآن إلى الله تعالى فأما مع إضافته إليه فلا يكون معجزا له ويكون مصروفا عنه لأن ما أضيف إلى الله تعالى يمتنع أن يكون من غيره لدخوله في جملة الكذب ثم يصير القرآن أصلا للشرع ومعجزا للرسول فيجب على الأمة التزام أحكامه وطاعة الرسول. واختلف في لزوم طاعته هل وجبت بعد ثبوت رسالته بالعقل أو بالشرع على وجهين: أحدهما: بالعقل لأن طاعة الرسول طاعة المرسل. والوجه الثاني: بالشرع بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ «32» لأن الرسول مبلغ. وإذا كان القرآن أصلا للشرع فقد اختلف العلماء في حد الأصل والفرع على وجهين: أحدهما: أن حد الأصل ما دل على غيره وحد الفرع ما دل عليه غيره، فعلى هذا يكون القرآن فرعا لعلم الحس لأنه الدال على صحته. والوجه الثاني: أن الأصل ما تفرع عنه غيره والفرع ما تفرع عن غيره، فعلى هذا يمتنع أن يكون القرآن فرعا لعلم الحس لأن الله تعالى تولاه وجعله أصلا دل العقل عليه. واختلف العلماء في إبلاغ الرسول هل يكون أمرا أو إعلاما، فقال بعضهم يكون أمرا لا يلزم الأمة أحكامه لو عرفوه قبل إبلاغه. والوجه الثاني: يكون إعلاما ويلزمهم أحكامه لو عرفوه قبل إبلاغه ويجوز أن يعلم جميع الأحكام الشرعية من القرآن ولا يجوز أن يعلم جميعها من الإجماع ولا من القياس لأنهما ينعقدان عن أصل مسموع.

_ (32) سورة النساء الآية (59) .

واختلف في جواز العلم بجميعها من سنة الرسول فجوزه بعضهم لقوله تعالى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا «33» وامتنع منه بعضهم لقوله تعالى: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى «34» والله تعالى أعلم.

_ (33) سورة الحشر الآية (7) . (34) سورة النجم الآيتان (3- 4) .

الباب الثامن في معجزات عصمته صلى الله عليه وسلم

الباب الثامن في معجزات عصمته صلى الله عليه وسلم أظهر الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم من أعلام نبوّته بعد ثبوتها بمعجز القرآن واستغنائه عما سواه من البرهان، ما جعله زيادة استبصار يحج بها من قلت فطنته ويذعن لها من ضعفت بصيرته، ليكون إعجاز القرآن مدركا بالخواطر الثاقبة تفكرا واستدلالا، وإعجاز العيان معلوما ببداية الحواس احتياطا وإظهارا، فيكون البليد مقهورا بوهمه وعيانه، واللبيب محجوبا بفهمه وبيانه، لأن لكل فريق من الناس طريقا هي عليهم أقرب ولهم أجذب، فكان ما جمع انقياد الفرق أوضح سبيلا وأعم دليلا. فمن معجزاته: عصمته من أعدائه وهم الجم الغفير والعدد الكثير، وهم على أتم حنق عليه وأشد طلب لنفسه، وهو بينهم مسترسل قاهر ولهم مخالط ومكاثر ترمقه أبصارهم شذرا وترتعد عنه أيديهم ذعرا، وقد هاجر عنه أصحابه حذرا حتى استكمل مدته فيهم ثلاث عشرة سنة ثم خرج عنهم سليما لم يكلم في نفس ولا جسد، وما كان ذاك إلّا بعصمة إلهيه وعده الله تعالى بها فحققها حيث يقول: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ «1» فعصمه منهم. في أعلام عصمته وأن قريشا اجتمعت في دار الندوة، وكان فيهم النضر بن الحرث بن

_ (1) سورة المائدة الاية (67) .

كنانة، وكان زعيم القوم وساعده عبد الله بن الزبعري، وكان شاعر القوم، فحضهم على قتل محمد صلى الله عليه وسلم وقال لهم: الموت خير لكم من الحياة، فقال بعضهم: كيف نصنع. فقال أبو جهل: هل محمد إلّا رجل واحد وهل بنو هاشم إلّا قبيلة من قبائل قريش فليس فيكم من يزهد في الحياة فيقتل محمدا ويريح قومه، وأطرق مليا، فقالوا: من فعل هذا ساد «2» . فقال أبو جهل: ما محمد بأقوى من رجل منا وإني أقوم إليه فأشدخ رأسه بحجر فإن قتلت أرحت قومي وإن بقيت فذاك الذي أوثر «3» . فخرجوا على ذلك، فلما اجتمعوا في الحطيم «4» خرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: قد جاء، فتقدم من الركن فقام يصلي فنظروا إليه يطيل الركوع والسجود فقال أبو جهل: فإني أقوم فأريحكم منه، فأخذ مهراشا عظيما ودنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد لا يلتفت ولا يهابه وهو يراه فلما دنا منه ارتعد وأرسل الحجر على رجله فرجع وقد شدخت أصابعه وهو يرتعد وقد دوخت أوداجه ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد فقال أبو جهل لأصحابه: خذوني إليكم فالتزموه وقد غشي عليه ساعة فلما أفاق قال له أصحابه: ما الذي أصابك. قال: لما دنوت منه أقبل عليّ من رأسه فحل فاغر فاه «5» فحمل على أسنانه فلم أتمالك وإني أرى محمدا محجوبا «6» . فقال له بعض أصحابه: يا أبا الحكم رغبت وأحببت الحياة ورجعت. قال: ما تغروني عن نفسي، قال النضر بن الحرث: فإن رجع غدا فأنا له. قالوا له: يا أبا سهم لئن فعلت هذا لتسودن. فلما كان من الغد اجتمعوا في الحطيم منتظرين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أشرف عليهم قاموا بأجمعهم فواثبوه فأخذ حفنة من تراب وقال شاهت الوجوه وقال حمر لا يبصرون فتفرقوا عنه، وهذا دفع إلهي وثق به من الله تعالى فصبر

_ (2) ساد: صار سيد قومه. (3) أوثر: أفضّل. (4) الحطيم: إسم موضع في الحرم. (5) الفحل: البعير الشّاب، فاغر فاه: قد فتح فمه إلى أقصاه. (6) محجوبا: قد لبس حجابا يمنع عنه الناس.

عليه حتى وقاه الله وكان من أقوى شاهد على صدقه. ومن أعلامه: أن معمر بن يزيد وكان أشجع قومه استغاثت به قريش وشكوا إليه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت بنو كنانة تصدر عن رأيه وتطيع أمره، فلما شكوا إليه قال لهم: إني قادم إلى ثلاث وأريحكم منه وعندي عشرون ألف مدجج «7» فلا أرى هذا الحي من بني هاشم يقدر على حربي وإن سألوني الدية أعطيتهم عشر ديات ففي مالي سعة، وكان يتقلد بسيف طوله سبعة أشبار في عرض شبر وقصته في العرب مشهورة بالشجاعة والبأس، فلبس يوم وعده قريشا سلاحه وظاهر بين درعين «8» فوافقهم بالحطيم ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الحجر يصلي وقد عرف ذلك فما التفت ولا تزعزع ولا قصر في صلاة، فقيل له: هذا محمد ساجد فأهوي إليه. وقد سل سيفه وأقبل نحوه، فلما دنا منه رمى بسيفه وعاد فلما صار إلى باب الصفا عثر في درعه فسقط، فقام وقد أدمي وجهه بالحجارة يعدو كأشد العدو حتى بلغ البطحاء ما يلتفت إلى خلف فاجتمعوا وغسلوا عن وجهه الدم وقالوا: ماذا أصابك، قال: ويحكم، المغرور من غررتموه، قالوا: ما شأنك. قال: ما رأيت كاليوم دعوني ترجع إليّ نفسي فتركوه ساعة وقالوا: ما أصابك يا أبا الليث. قال: إني لما دنوت من محمد فأردت أن أهوي بسيفي إليه أهوى إليّ من عند رأسه شجاعان أقرعان «9» ينفخان بالنيران وتلمع من أبصارهما فعدوت فما كنت لأعود في شيء من مساءة محمد. ومن أعلامه: أن كلدة بن أسد أبا الأشد وكان من القوة بمكان خاطر قريشا يوما في قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعظموا له الخطر إن هو كفاهم، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطريق يريد المسجد ما بين دار عقيل وعقال فجاء كلدة ومعه المزراق فرجع المزراق في صدره فرجع فزعا، فقالت له قريش: ما لك يا أبا الأشد؟ فقال: ويحكم ما ترون الفحل خلفي، قالوا: ما نرى شيئا، قال: ويحكم

_ (7) المدجج: الرجل يحمل السلاح من درع أو ترس وسيف ورمح. (8) ظاهر بين درعين: جمعهما إلى صدره وظهره. (9) الشجاع الأقرع: ثعبان عظيم الخلقة.

فإني أراه، فلم يزل يعدو حتى بلغ الطائف فاستهزأت به ثقيف، فقال: أنا أعذركم، لو رأيتم ما رأيت لهلكتم. ومن أعلامه: أن أبا لهب خرج يوما وقد اجتمعت قريش فقالوا: يا أبا عتبة إنك سيدنا وأنت أولى بمحمد منا وأن أبا طالب هو الحائل بيننا وبينه ولو قتلته لم ينكر أبو طالب ولا حمزة منك شيئا وأنت بريء من دمه فنؤدي نحن الدية وتسود قومك، فقال: فإني أكفيكم، ففرحوا بذلك ومدحته خطباؤهم فلما كان في تلك الليلة وكان مشرفا عليه نزل أبو لهب وهو يصلي وتسلقت امرأته أم جميل الحائط حتى وقفت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد فصاح به أبو لهب فلم يلتفت إليه وهما كانا لا ينقلان قدما «10» ولا يقدران على شيء حتى تهجر الصبح وفرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له أبو لهب: يا محمد أطلق عنا، فقال: ما كنت لأطلق عنكما أو تضمنا لي أنكما لا تؤذياني، قالا: قد فعلنا، فدعا ربه فرجعا. ومن أعلامه: أن قريشا اجتمعوا في الحطيم فخطبهم عتبة بن ربيعة فقال: إن هذا ابن عبد المطلب قد نغص علينا عيشنا وفرّق جماعتنا وبدد شملنا وعاب ديننا وسفه أحلامنا وضلل آباءنا، وكان في القوم الوليد بن المغيرة وأبو جهل بن هشام وشيبة بن ربيعة والنضر بن الحرث ومنبه ونبيه ابنا الحجاج وأمية وأبي ابنا خلف في جماعة من صناديد قريش فقال له: قل ما شئت فإنا نطيعك، قال: سأقوم فأكلمه فإن هو رجع عن كلامه وعما يدعو إليه وإلّا رأينا فيه رأينا، فقالوا له: شأنك يا أبا عبد شمس، فقام فتقدم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس وحده، فقال: أنعم صباحا يا محمد، قال: «يا عبد شمس إن الله قد أبدلنا بهذا السلام تحية أهل الجنة» ، قال: يا ابن أخي إني جئتك من عند صناديد قريش لأعرض عليك أمورهم إن أنت قبلتها فلك الحظ فيها ولنا الفسحة، ثم قال: يا ابن عبد المطلب إنك دعوت العرب إلى أمر ما يعرفونه فاقبل مني ما أقول لك، قال: «قل» ، قال: إن كان ما تدعو إليه تطلب به ملكا فإنا نملّكك علينا من غير تعب ونتوّجك فارجع عن ذلك، فسكت، ثم قال له: وإن كان ما تدعو إليه أمرا تريد به امرأة حسناء فنحن نزوجك، فقال: «لا

_ (10) لا ينقلان قدما: أي غير قادرين على الحركة قد جمّداني مكانهما.

قوة إلّا بالله» ، ثم قال له: وإن كان ما تتكلم به تريد مالا أعطيناك من الأموال حتى تكون أغنى رجل في قريش فإن ذلك أهون علينا من تشتيت كلمتنا وتفريق جماعتنا وإن كان ما تدعو إليه جنونا داويناك كما تداوي قيس بني ثعلبة مجنونهم، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد ما تقول وبم أرجع إلى قريش؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ «11» حتى بلغ إلى قوله: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ «12» . قال عتبة: فلما تكلم بهذا الكلام فكأن الكعبة مالت حتى خفت أن تمس رأسي من إعجازها، وقام فزعا يجر رداءه، فرجع إلى قريش وهو ينتفض انتقاض العصفور وقام النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، فقالت قريش: لقد ذهبت من عندنا نشيطا ورجعت فزعا مرعوبا فما وراءك؟ قال: ويحكم دعوني، إنه كلمني بكلام لا أدري منه شيئا ولقد رعدت عليّ الرعدة حتى خفت على نفسي وقلت الصاعقة قد أخذتني، فندموا على ذلك. قال ابن عرفة: الصاعقة اسم للعذاب على أي حال كان، وإنما أهلكت عاد بالريح وثمود بالرجف فسمى الله تعالى ذلك صاعقة. قال الأزهري: الصاعقة صوت الرعد الشديد الذي يصعق منه الإنسان أي يغشى عليه. ومن أعلامه: أنه لما أراد الهجرة خرج من مكة ومعه أبو بكر فدخل غارا في جبل ثور ليستخفي من قريش وقد طلبته وبذلت لمن جاء به مائة ناقة حمراء، فأعانه الله تعالى بإخفاء أثره وأنبت على باب الغار ثمامة، وهي شرجة صغيرة، وألهمت العنكبوت فنسجت على باب الغار نسج سنين في طرفة عين ولدغ أبو بكر هذه الليلة غير لدغة فخرق ثيابه وجعلها في الشقوق وسد بعضها بقدمه اتقاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأقام فيه ثلاثة أيام ثم خرج منه فلقيه سراقة بن مالك بن

_ (11) سورة فصّلت الآيات (1- 4) . (12) سورة فصّلت الآية (13) .

جعشم، وهو من جملة من توجه لطلبه، فقال له أبو بكر: هذا سراقة قد قرب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم اكفنا سراقة» ، فأخذت الأرض قوائم فرسه إلى إبطها، فقال سراقة: يا محمد ادع الله أن يطلقني ولك عليّ أن أردّ من جاء يطلبك ولا أعين عليك أبدا، فقال: «اللهم إن كان صادقا فأطلق عن فرسه» ، فأطلق الله عنه، ثم أسلم سراقة وحسن إسلامه. ومن أعلامه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انفرد في غزوة ذي أمر عن أصحابه واضطجع وحده فوقف عليه دعثور فسل سيفه وقال: يا محمد من يمنعك مني؟ فقال: «الله» ، فسقط السيف من يده فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال له: «من يمنعك مني» ؟ قال: لا أحد، أشهد أن لا إله إلّا الله وأن محمدا رسول الله، وعاد إلى قومه يدعوهم إلى الإسلام، وفيه نزل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ «13» . ومن أعلامه: أن الناس لما انهزموا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين وهو معتزل عنهم رآه شيبة بن عثمان بن أبي طلحة فقال: اليوم أدرك ثأري وأقتل محمدا لأن أباه قتل يوم أحد في جماعة أخوته وأعمامه، قال شيبة: فلما أردت قتله أقبل شيء حتى تغشى فؤادي فلم أطق ذلك فعلمت أنه ممنوع «14» . ومن أعلامه: أن عامر بن الطفيل وأربد بن قيس وهو أخو لبيد بن ربيعة الشاعر لأمه وفدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في قومهما من بني عامر، فقال عامر لأربد: إذا أقدمنا على محمد فإني شاغل عنك وجهه فأعله أنت بالسيف حتى تقتله، قال أربد: أفعل، ثم أقبل عامر يمشي وكان رجلا جميلا حتى قام على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد ما لي إن أسلمت؟ فقال: «لك ما للإسلام وعليك ما على الإسلام» ، قال: ألا تجعلني الوالي من بعدك؟ قال: «ليس ذلك لك ولا لقومك ولكن لك أعنة الخيل تغزوبها» ، قال: أو ليست لي اليوم

_ (13) سورة المائدة الآية (11) . (14) ممنوع: أي لا يقدر أحد على إيذائه أو الإقتراب منه بشرّ.

ولكن إجعل لي ولك المدد، قال: «ليس ذلك لك،» ، فقال: قم يا محمد إلى ههنا، فقام إليه فوضع عامر يده بين منكبيه ثم أومأ إلى أربد أن اضرب فسل أربد سيفه قريبا من ذراع، ثم أمسك الله يده فلم يستطع أن يسله ولا يغمده، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أربد فرآه على ما هو عليه فقال: «اللهم اكفنيهما بما شئت اللهم أهد بني عامر واغن الدين عن عامر» فانطلقا وعامر يقول: والله لأملأنها عليك خيلا دهما «15» ووردا «16» ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يأبى الله ذلك وأبناء قيلة، يعني الأنصار» ثم قال عامر لأربد: ويلك لم أمسكت عنه، فقال: والله ما هممت به مرة إلّا رأيتك ولا أرى غيرك أفأضربك بالسيف وسارا. فأما عامر فطرح الله عليه الطاعون في عنقه فقتله في بيت امرأة من بني سلول فجعل يقول: أغدة كغدة البكر «17» في بيت امرأة من بني سلول، وركب فرسه فركضه «18» حتى مات. وأما أربد فقدم على قومه فقالوا: ما وراءك يا أربد، فقال: والله لقد دعانا محمد إلى عبادة شيء لوددت أنه عندي الآن فأرميه بنبلي هذا حتى أقتله، ثم خرج بعد مقالته بيوم أو يومين ومعه جمال له تتبعه، فأرسل الله عليه وعلى جماعته صاعقة أحرقتهم، وقيل: نزل في صاعقته قول الله تعالى: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً «19» يعني خوفا من الصواعق وطمعا في المطر، وفيه يقول لبيد بن ربيعة وهو أخو أربد لأمه: أخشى على أربد الحتوف ولا ... أرهب نوء السماك والأسد أفجعني الرعد والصواعق بالفا ... رس يوم الكريهة النجد

_ (15) خيلا دهما: خيلا سودا. (16) الورد: الخيل لونها ما بين الكميت والأشقر. (17) البكر: البعير. (18) ركضه: رماه وداسه. (19) سورة الرعد الآية (12) .

كل بني حرة مصيرهم ... قل وإن أكثرت من العدد أن يغبطوا يهبطوا وإن أمروا ... يوما يصيروا للهلك والنكد فإن قيل: فهذا أخبار آحاد لا يقطع بمثلها قيل: العداوة ظاهرة والطلب معلوم والسلامة موجودة فلم تدفع جملة الأخبار ولم يصح في جميعها توهم الكذب وإن جاز في آحادها توهم الكذب كالمحكى من سخاء حاتم وشجاعة عنترة.

الباب التاسع فيما شوهد من معجزات أفعاله إن الله تعالى قدر لعباده أفعالا كما قدر لهم أجساما وآجالا انتهى إلى غاية أعجزهم عن تجاوزها لتكون أفعالهم مقصورة على عرف مألوف وحد معروف يتواصلون بها إلى مصالحهم فيعلمون أن ما تجاوزها وخرج عن عرفها من أفعال الله تعالى فيهم لا من أفعالهم إن أظهرها في أحدهم دل على اختصاصه بالله تعالى دونهم فكان بها ممتازا وإليه تعالى منحازا ليخص بطاعة إلهية كما اختص بأفعال لا هوتية فلذلك صارت الأفعال المعجزة شاهدة على صحة النبوّة. فمن أعلامه: ما رواه البخاري عن عبد الواحد بن أيمن عن أبيه قال: قلت لجابر بن عبد الله حدتني بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعته منه أرويه عنك، فقال جابر: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق نحفر فلبثنا ثلاثة أيام لم نطعم طعاما ولا نقدر عليه فعرضت في الخندق كدية «1» غليظة لا يعمل فيها الفأس فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت هذه كدية قد عرضت في الخندق ورششنا عليها الماء فقام وبطنه معصب بالحجر «2» فأخذ المعول والمسحاة ثم سمى ثلاثا ثم ضرب فعادت كثيبا أهيل «3» فلما رأيت ذلك منه قلت يا رسول الله أئذن لي فأذن لي فجئت إلى

_ (1) كدية: صخرة صلبة. (2) وكانوا يعصبون بطونهم بالحجارة من الجوع فيخف ألمهم. (3) كثيبا أهيل: تلا صغيرا من رمل خفيف ناعم.

امرأتي فقلت ثكلتك أمك إني رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا لا صبر لي عليه فما عندك، قالت عندي صاع من شعير وعناق «4» ، قال فطحنا الشعير وذبحنا العناق وطبخناها وجعلناها في البرمة «5» وعجنا العجين ثم رجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلبثت ساعة ثم استأذنت ثانية فأذن لي فجئت فإذا بالعجين قد أمكن فأمرتها بالخبز وجعلت القدر على الأثافي «6» ثم جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فشاورته وقلت عندنا طعيم لنا فإن رأيت أن تقوم معي أنت ورجل أو رجلان معك فعلت فقال: «ما هو وكم هو» قلت: صاع من شعير وعناق، فقال: «ارجع إلى أهلك فقل لها لا تنزع البرمة من الأثافي ولا يخرج الخبز من التنور حتى آتي» ، ثم قال للناس: «قوموا إلى بيت جابر» ، فاستحييت حياء لا يعلمه إلّا الله تعالى فقلت لامرأتي قد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه أجمعين، فقالت: أكان سألك كم الطعام، قلت: نعم، قالت: الله ورسوله أعلم قد أخبرته بما كان عندنا، فذهب عني بعض ما أجده وقلت لها صدقت، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل ثم قال لأصحابه: «لا تضاغطوا «7» » ثم برّك «8» على التنور والبرمة، فجعلنا نأخذ من التنور الخبز ونأخذ من البرمة اللحم فنثرد ونغرف ونقرب إليهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليجلس على الصحفة سبعة أو ثمانية» فلما أكلوا كشفنا التنور والبرمة فإذا هما قد عادا إلى أملأ مما كانا عليه حتى شبع المسلمون كلهم وبقيت طائفة من الطعام، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الناس قد أصابهم مخمصة «9» فكلوا وأطعموا» ، فلم نزل يومنا نأكل ونطعم، قال فأخبرني أنهم كانوا ثمانمائة أو قال مئتين أقل من الثمانمائة، وهذا نظير معجزة عيسى عليه السلام في المائدة.

_ (4) العناق: انثى الماعز الصغيرة لم تتم السنة. (5) البرمة: وعاء من الفخار. (6) الأثافي: ثلاثة أحجار توضع عليها القدر وتوقد تحتها النار. (7) لا تصاغطوا: لا تتدافعوا للدخول. (8) برّك: دعا بالبركة. (9) مخمصة: جوع.

ومن أعلامه: ما رواه مالك بن أنس عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة أنه سمع أنس بن مالك يقول: قال أبو طلحة لأم سليم: لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفا أعرف فيه الجوع فهل عندك من شيء، قالت: نعم، فأخرجت أقراصا «10» من شعير ثم أخرجت خمارا لها فلفت الخبز ببعضه ثم أرسلني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدته في المسجد معه الناس فقمت عليهم فقال لي رسول الله: «أرسلك أبو طلحة» ؟ قلت: نعم، قال: «للطعام» ؟ قلت: نعم، فقال لمن معه: «قوموا» ، فانطلق وانطلقت بين أيديهم حتى جئت أبا طلحة فأخبرته، فقال أبو طلحة: يا أم سليم قد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس عندنا من الطعام ما نطعمهم، فقالت: الله ورسوله أعلم، فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبل معه حتى دخلا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أم سليم هلمي ما عندك» ، فجاءت بذلك الخبز فأمر به ففت وعصرت أم سليم عكة «11» لها ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء أن يقول ثم قال: «إئذن لعشرة» فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا ثم قال: «إئذن لعشرة» فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا ثم قال: «إئذن لعشرة» ، حتى أكل القوم وشبعوا وخرجوا، والقوم سبعون أو ثمانون رجلا والمعجز فيه مع إطعام العدد الكثير من الطعام اليسير ما أخبر به أنس بن مالك مما جاء فيه. ومن أعلامه: ما رواه أنيس بن أبي يحيى عن إسحاق بن سالم عن أبي هريرة قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: «أدع لي أصحابك» يعني أصحاب الصفة «12» ، قال: فجعلت أتبعهم رجلا رجلا أوقظهم حتى جمعتهم فجئنا باب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستأذنا فأذن لنا ووضعت بين أيدينا صحفة أظن فيها صنيعا قدر مد من الشعير فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فقال: «خذوا بسم الله» ، فأكلنا ما شئنا ثم رفعنا أيدينا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وضعت الصحفة: «والذي نفس محمد بيده ما أمسى في آل محمد طعام غير شيء ترونه» ، فقيل

_ (10) اقراصا: أرغفة صغيرة سميكة. (11) عكة: وعاء من جلد يحفظ فيه السمن والدهن. (12) الصفة: مقعد حجري مظلل كان بجانب المسجد وأصحاب الصفة فقراء المهاجرين.

لأبي هريرة: قدر كم كانت حين فرغتم قال: مثلها حين وضعت إلّا أن فيها أثر الأصابع. ومن أعلامه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حصل بالحديبية وهي جافة قال للناس: «انزلوا» . فقالوا: يا رسول الله ما بالوادي ماء ننزل عليه. فأخرج سهما فدفعه إلى البراء بن عازب وقال: «اغرز هذا السهم في بعض قلب «13» الحديبية وهي جافة» ، ففعل فجاش الماء «14» ونادى الناس بعضهم بعضا من أراد الماء. فقال أبو سفيان قد ظهر بالحديبية قليب فيه ماء ثم قال لسهيل بن عمرو: قم بنا إلى ما فعل محمد فأشرفا على القليب والعيون تحت السهم فقالا: ما رأينا كاليوم قط وهذا من سحر محمد قليل فلما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرحيل قال للناس: خذوا حاجتكم من الماء ثم قال للبراء: إذهب فرد السهم، فلما فرغوا وارتحلوا أخذ البراء السهم فجف الماء كأنه لم يكن هناك ماء وهذا نظير ما أعطى موسى من الحجر الذي انفجرت منه اثنتا عشرة عينا. ومثله ما روي أنه في غزوة بني المصطلق دعا بركوة جافة ثم تفل فيها ثم قلبها فتفجرت من بين أصابعه عيون حتى شرب الخيل والإبل وملىء كل سقاء. ومن أعلامه: أن قوما شكوا إليه صلى الله عليه وسلم ملوحة مائها فقام بأصحابه حتى أشرف على بئرهم فتفل فيها ثم انصرف فانفجرت بالماء الزلال وكانت غائرة وأنها على حالها اليوم ويتوارثها أهلها ويعدونها من أعظم مفاخرهم، ولما بلغ ذلك قوم مسيلمة سألوه مثلها فتفل فيها «15» فصار ماؤها أجاجا كبول الحمار وهي اليوم على حالها. وجاءته صلى الله عليه وسلم امرأة بصبي لها قد تمعط «16» شعره فمسح رأسه بيده فاستوى

_ (13) قلب: منحدرات أو أمكنة واطئة. (14) جاش الماء: نبع. (15) فيها: في بئر لهم. (16) تمعط شعره: سقط وضعف.

شعره فبلغ ذلك قوم مسيلمة فأتوه بصبي مثله فمسح رأسه فصلع وبقي نسله صلعا إلى وقتنا هذا. ومن أعلامه: ما رواه علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لما غزونا خيبر ومعنا من يهود فدك جماعة، فلما أشرفنا على القاع إذا نحن بالوادي والماء يقلع الأشجار ويهدهد الجبال فقدرنا الماء فإذا هو أربع عشرة قامة فقال بعض الناس: يا رسول الله، العدو من ورائنا والوادي قدامنا فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فسجد ودعا ثم قال: «سيروا على اسم الله» ، فعبرت الخيل والإبل والرجال فكان الفتح والغلبة له وهذا نظير فلق البحر لموسى. نوع آخر من أعلامه: روى الحسن أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني قدمت من سفر لي فبينا بنت خماسية تدرج حولي في وصيفها وحليها أخذت بيدها فانطلقت بها إلى وادي فلان فطرحتها فيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبيها «ما كان اسمها» . فقال: فلانة. فقال النبي «يا فلانة أجيبي بإذن الله» ، فخرجت الصبية وهي تقول: لبيك يا رسول الله وسعديك، فقال لها: «إن أبويك قد أساءا فإن أحببت أن أردك إليهما» ، فقالت: لا حاجة لي فيهما وجدت الله خير أب منهما. وهذا نظير ما فعله عيسى عليه السلام من إحياء الموتى. ومن أعلامه: أن طفيلا العامري جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشكا إليه الجذام فدعا بركوة ثم تفل فيها وأمره أن يغتسل بها فاغتسل فقام صحيحا. وأتاه حسان بن عمرو الخزاعي مجذوما فدعا له بماء فتفل فيه ثم أمره فصبه على نفسه فخرج من علته كأن لم تكن به قط فرجع ودعا قومه إلى الإسلام فأسلموا عن آخرهم. وأتاه قيس اللخمي وهو من سادات قومه وبه برص فتفل عليه فما بقي عليه إلّا مقدار الحبة.

وهذا نظير ما كان من عيسى ابن مريم عليه السلام في إبراء الأكمه «17» والأبرص «18» . ومن أعلامه: ما رواه سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم انصرف ليلة من العشاء فأضاءت له برقة فنظر إلى قتادة بن النعمان فعرفه فقال: يا نبي الله كانت ليلة مطيرة فأحببت أن أصلي معك فأعطاه عرجونا وقال: «خذ هذا يستضيء لك ليلتك فإذا أتيت بيتك فإن الشيطان قد خلفك فانظر في الزاوية على يسارك» ، فدخلت فنظرت حيث قال فإذا أنا بسواد معلق به حتى سبقني. وفي هذا الخبر معجزات من فعل وقول. ومن أعلامه: أن أبا قتادة بن ربعي جاءه يوم أحد وقد انقلعت إحدى عينيه وتعلقت على وجهه فقال يا رسول الله صلى الله تعالى عليك إن لي امرأة وأخشى أن يقضي هذا عندها فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى موضعها فكانت أحسن عينيه. ومثله ما رواه عروة بن الزبير أن زبيرة أسلمت فأصيب بصرها فقالوا لها أصابك اللات والعزى فرد الله عليها بصرها فقال عظماء قريش: لو كان ما جاء به محمد خيرا ما سبقتنا إليه زبيرة فأنزل الله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ «19» . ومن أعلامه: أن جرهدا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين يديه طبق فأدنى يده الشمال ليأكل وكانت اليمنى مصابة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل باليمنى» فقال: يا رسول الله إنها مصابة، فنفث عليها فما اشتكاها بعد إلى ساعته «20» . وأبصر رجلا يأكل بشماله فقال: «كل بيمينك» ، فقال: لا أستطيع. فقال: «لا استطعت» فما وصلت إلى فيه بعد وكان كلما رفع اللقمة إلى فيه ذهبت في شق آخر.

_ (17) الأكمه: المسلوب العقل الممسوح العين. (18) الأبرص: المصاب بداء البرص وهو مرض يصيب الجلد. (19) سورة الأحقاف الآية (11) . (20) إلى ساعته: إلى وفاته.

ومن أعلامه: شاة أم معبد الخزاعية وكانت مجهودة عجفاء وضراء فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرعها فدرت لبنا وامتلأت سمنا وبقيت على حالها إلى أن وافاها أجلها وأهدت له أم شريك عكة فيها سمن فأخذ منه شيئا «21» ورد العكة عليها فلم تزل العكة تصب سمنا مدة طويلة، إلى أمثال هذا ونظائره. فإن قيل: لا يثبت إعجاز النبوّات بمثل هذا من أخبار الآحاد فعنه جوابان: أحدهما: أن رواة الآحاد قد أضافوه إليه في جمع كثير قد شاهدوه وسمعوا راويه فصدقوه ولم يكذبوه وفي الممتنع إمساك العدد الكثير عن رد الكذب كما يمتنع افتعالهم للكذب ولئن جاز اتفاقهم على الصدق مع الكثرة والافتراق وامتنع اتفاقهم على الكذب فلأن دواعي الصدق عامة متناصرة ودواعي الكذب خاصة متنافرة، ولذلك كان صدق أكذب الناس أكثر من كذبه لأنه لا يجد من الصدق بدا ويجد من الكذب بدا. والثاني: أنها أخبار وردت من طرق شتى وأمور متغايرة فامتنع أن يكون جميعها كذبا وإن كان في آحادها مجوز فصار مجموعها من التواتر ومفترقها من الآحاد فصار متواتر مجموعها حجة وإن قصر مفترق آحادها عن الحجة والله تعالى أعلم.

_ (21) شيئا: كمية قليلة.

الباب العاشر فيما سمع من معجزات أقواله والمعجزات من القول هو الإخبار عن غائب لا يعلم به غير مخبره فيكون على صدقه دليلا لأن الخبر ما احتمل الصدق والكذب، وحقيقة الخبر ما كان عن ماض فأما المستقبل فيطلق اسم الخبر عليه مجازا، فإن أضيف المستقبل إلى فعل المخبر كان وعدا يصح من نبي وغير نبي وإن أضيف إلى فعل غيره كان من العيوب المعجزة لا يصح إلّا من نبي مبعوث وعن وحي منزل إذا تكرر عاريا عن الأسباب المنذرة ولئن ظهر خبر من غير نبي فهو بالإتفاق عن حدس إن صح في خبر لم يصح في كل خبر ويصح من النبي صلى الله عليه وسلم في كل خبر لأنه من الله تعالى المحيط بعلم الغيوب كما قال لنبيه: قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ «1» . وفي خزائن الله ههنا تأويلان: أحدهما: خزائن الرزق فأغنى وأفقر. والثاني: خزائن العذاب فاعجل وأخر، وفي قوله ولا أعلم الغيب تأويلان: أحدهما: علم الخزائن على ما مضى من التأويلين.

_ (1) سورة الأنعام الآية (50) .

والثاني: علم ما غاب عن ماض ومستقبل إلّا أن المستقبل لا يعلمه إلّا الله تعالى ومن أطلعه عليه من أنبيائه وأما الماضي فقد يعلمه المخلوقون من وجهين إما من مخلوق معاين أو من خالق مخبر فكانت الأخبار المستقبلة من آيات الله تعالى المعجزة فأما الماضية فإن علم بها غير المخبر لم تكن معجزة وإن لم يعلم بها أحد كانت آية معجزة. وفي قوله: وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ «1» تأويلان: أحدهما: أنه لا يقدر على ما يعجز عنه العباد وإن قدرت عليه الملائكة. والثاني: أنه من البشر وليس بمهلك لينفي عن نفسه غلو النصارى في المسيح. وفي نفيه أن يكون ملكا تأويلان: أحدهما: أنه دفع عن نفسه الملائكة تفضيلا لهم على الأنبياء. والثاني: أني لست ملكا في السماء فأعلم غيب السماء الذي تشاهده الملائكة ويغيب عن البشر وإن كان الأنبياء أفضل من الملائكة مع غيبهم عما يشاهده الملائكة. وفي قوله: إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ* «2» تأويلان: أحدهما: لن أخبركم إلّا بما أطلعني الله عليه. والثاني: لن أفعل إلّا ما أمرني الله به: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ* «3» فيه تأويلان: أحدهما: العالم والجاهل. والثاني: المؤمن والكافر فثبت بما قررناه أن في الأقوال معجزة كالأفعال فكانت من أعلام النبوّة وآيات الرسل ونحن نذكر منها ما اختص بقول الرسول دون ما تضمنه القرآن معجز في الخبر وغير الخبر.

_ (1) سورة الأنعام الآية (50) . (2) سورة الأنعام من الآية (50) وسورة يونس من الآية (15) . (3) سورة الأنعام من الآية (50) .

الباب التاسع فيما شوهد من معجزات أفعاله

أقسام مجيء الأخبار ومجيء الأخبار ينقسم إلى أربعة أقسام، اخبار استفاضة وأخبار تواتر وأخبار آحاد بقرائن وأخبار آحاد مجردة، فأما أخبار الاستفاضة والتواتر فقد أطلق أهل العلم ذكرهما ولم يفرقوا بينهما وهما عندي مفترقان لأن اختلاف الأسماء موضوع لاختلاف المسمى فكان حملها على حقيقة الاختلاف أولى من حملها على مجاز الائتلاف فأخبار الاستفاضة ما بدأت منتشرة عن كل مخبر من بر وفاجر عن قصد وغير قصد ويتحققها كل سامع من عالم وجاهل فلا يختلف فيها مخبر ولا يتشكك فيها سامع ويستوي طرفاها ووسطها فتكون أوائلها كأواخرها وتناهيها وهو أقوى الأخبار ورودا وأبلغها ثبوتا. وأما أخبار التواتر فهو ما أخبر به الواحد بعد الواحد حتى كثروا وبلغوا عددا ينتفي عن مثلهم المواطأة على الكذب والاتفاق على الغلط ولا يعرض في خبرهم شط ولا توهم فيكون من أوله من أخبار الآحاد وفي آخره من أخبار التواتر فيصير مخالفا لأخبار الاستفاضة في أوله وموافقا لها في آخره ويكون الفرق بين خبر الاستفاضة وخبر التواتر من ثلاثة أوجه: أحدها: ما ذكرناه من اختلافها في الابتداء والانتهاء. والثاني: أن أخبار الاستفاضة قد تكون عن غير قصد وأخبار التواتر لا تكون إلّا عن قصد. والثالث: أن أخبار الاستفاضة لا يعتبر فيها عدالة المخبرين ويعتبر في أخبار التواتر عدالة المخبرين ثم يستوي الخبران في إنتفاء الشك عنهما ووقوع العلم بهما ومثال الأستفاضة في أحكام الشرع إعداد الصلوات ومثال التواتر في أحكام الشرع نصب الزكوات واختلف في وقوع العلم بهما هل هو علم إضطرار أو علم اكتساب على وجهين: أحدهما: أنه علم إكتساب وقع عن استدلال وهو قول بعض أصحاب الشافعي وبعض المتكلمين لأن العلم بخبرهم يقترن بصفات تختص بهم فصار طلب الصفات استدلالا يوصل إلى العلم بخبرهم.

واختلف القائلون بهذا هل اكتسب العلم به من الخبر أو المخبر على وجهين: أحدهما: من الخبر لأنه المقصود. والثاني: من المخبر لأنه المبلغ فهذا قول من جعله علم استدلال. والوجه الثاني: وهو قول الأكثرين من الفقهاء والمتكلمين أنه علم اضطرار أدرك ببداية العقول لأن العلم به قد يسبق إلى اليقين من غير نظر ويستقر في القلوب من غير انتقال. واختلف القائلون بهذا في علمه بالاضطرار هل هو من فعل المخبر أو من فعل الله تعالى على وجهين: أحدهما: أنه من فعل المخبر لوصوله إليه بنفسه وهو قول أكثر الفقهاء. والوجه الثاني: أنه من فعل الله تعالى لأنه الملجىء إليه، وهو قول أكثر المتكلمين واختلف من قال بهذا منهم على وجهين: أحدهما: أنه من فعل الله تعالى في الخبر. والثاني: أنه من فعله في المخبر والذي أراه أولى أن أخبار الاستفاضة توجب علم الاضطرار وأخبار التواتر توجب علم الإستدلال لاستغناء الإفاضة عن نظر واحتياج التواتر إلى نظر مع وقوع العلم بهما، وزعمت الإمامية أنه لا يقع العلم بأخبار الاستفاضة والتواتر إلّا أن يكون في المخبرين إمام معصوم أو يصدقهم عليه إمام معصوم. وحكي: عن ضرار بن عمرو أن حجة الإستفاضة والتواتر لا تقوم بعد الرسل بنقل أقوالهم وأفعالهم إلّا بإجماع الأمة على صدقهم أو صحة نقلهم، وكلا القولين مدفوع بقضايا العقول لأنها تضطر إلى العلم بها كعلم الاضطرار بالمشاهدات ومدركات الحواس لأن الأخبار بالبلاد أن فيها مكة والصين يعلم بالاضطرار كما يعلم بالمشاهدة وكما يعلم الإنسان أن تحته أرضا وسماء فوقه لوجود أنفسنا عالمة بها على سواء ولما في غرائز الفطر من ذلك.

فصل أقسام أخبار الآحاد

قال طفيل الغنوي وهو أعرابي بطبع سليم من التكلف وبديهة خلصت من التعمق والتعسف ما يدل على وقوع العلم بأخبار الاستفاضة والتواتر: تأوبني هم من الليل منصب ... وجاء من الأخبار ما لا يكذب تظاهرن حتى لم تكن لي ريبة ... ولم يك فيما أخبروا متعقب «4» فصل [أقسام أخبار الآحاد] وأما أخبار الآحاد فضربان: أحدهما: أن يقترن بها ما يوجب العلم بمضمونها وقد يكون ذلك من خمسة أوجه: أحدها: أن يصدقه عليه من يقطع بصدقه كالرسول أو من أخبر الرسول بصدقه فيعلم به صدق المخبر وصحة الخبر. والثاني: أن تجتمع الأمة على صدقه فيعلم بإجماعهم أنه صادق في خبره. والثالث: أن يجمعوا على قبوله والعمل به فيكون دليلا على صدق خبره. والرابع: أن يكون الخبر مضافا إلى حال قد شاهدها عدد كثير وسمعوا رواية الخبر فلم ينكروه على المخبر فيدل على صحة الخبر وصدق المخبر. والخامس: أن يقترن بالخبر دلائل العقول فإن كان مضافا إليها كان صدقا لازما لأن ما وافقها لا يكون إلّا حقا وإن كان مضافا إلى غيرها لم يدل موافقها على صدق الخبر وإن أوجب صحة ما تضمنه الخبر. والضرب الثاني: أن ينفرد خبر الواحد عن قرينة تدل على صدقه فهي أمارة توجب عليه الظن ولا تقتضي العلم، يقوى إذا تطاول به الزمان فلم يعارض بردّ ولا مخالفة وأن تكرر في معناها ما يوافقها صار جميعها متواترا وإن كان أفرادها آحدا وإذا استقر هذا الأصل في الأخبار ولم يخرج المروي من إعلام

_ (4) أي لم يترك إمكانية للتعقيب والتعقيب الإضافة أو الشرح والتعليق والمتعقب هو من يفعل ذلك.

الرسول عنها وقد ذكرنا ما روي من أفعاله وسنذكر ما روي من أقواله: فمنها: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «زويت لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها» فصدّق الله خبره وحقق ما ذكره، وملك أمته أقطار الأرض حتى دان له بشرعه من في المشرق والمغرب. وقال عليه السلام لعدي بن حاتم: «لا يمنعك من هذا الدين ما ترى من جهد أهله وضعف أصحابه فلكأنهم ببيضاء المدائن قد فتحت عليهم ولكأنهم بالظعينة تخرج من الحيرة حتى تأتي مكة بغير خفارة لا يخاف إلّا الله» فأبصر عدي ذلك كله، وهذا لا يكون إلّا من اطلاع الله تعالى له على غيبه وتحقيقه لوعده في قوله: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ* «5» . ومن أعلامه: ما رواه البراء بن عازب، قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق فعرضت لنا صخرة عظيمة لا يأخذ فيها المعول فأخذ المعول وقال بسم الله وضرب ضربة فكسر ثلثها وقال: «الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام» ثم ضرب الثانية فقطع ثلثا آخر وقال: «الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس» ثم ضرب الثالثة فقطع بقية الحجر وقال: «الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن» فصدّق الله قوله وأعطاه ما فتح له. وروى كعب بن مالك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا فتحت مصر فاستوصوا بالقبط خيرا فإن لهم رحما وذمة» يعني أن أم إسماعيل بن إبراهيم كانت منهم. ومن أعلامه: أنه كتب إلى كسرى كتابا يدعوه إلى الإسلام وبدأ باسمه قبل اسمه فلما قرأه أنف لنفسه «6» من ابتدائه باسمه فمزق كتابه فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «تمزق ملكه» . ثم كتب كسرى في الوقت إلى عامله باليمن باذان ويكنى أبا مهران أن

_ (5) سورة التوبة الآية (33) . (6) أنف لنفسه: أخذه الكبر.

إحمل إلى هذا الذي يذكر أنه نبي وبدأ باسمه قبل اسمي ودعاني إلى غير ديني، فبعث إليه فيروز بن الديلمي مع جماعة من أصحابه وكتب معهم كتابا يذكر فيه ما كتب به كسرى، فأتاه فيروز بمن معه وقال له: إن ربي- يعني كسرى- أمرني أن أحملك إليه فاستنظره ليلة، فلما كان من الغد حضر فيروز سحبا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أخبرني ربي أنه قتل ربك البارحة سلط عليه ابنه شيرويه على سبع ساعات من الليل فأمسك ريثما يأتيك الخبر» ، فراع ذلك فيروز وهاله وعاد فيروز إلى باذان فأخبره، فقال له باذان: كيف وجدت نفسك حين دخلت إليه؟ فقال: والله ما هبت أحدا قط كهيبة هذا الرجل، فقال باذان: إن كان ما قاله حقا فهو نبي، فلم يرعه إلّا ورود الخبر عليه بقتله في تلك الليلة من تلك الساعة، فأسلم باذان وفيروز ومن معهم من الأبناء، وظهر العنسي بما افتراه من الكذب فأرسل إلى فيروز أن اقتله، قتله الله، فقتله، وفي هذا الخبر من آيات الغيوب ما لا يعلمه إلّا الله أو من أطلعه عليه. ومن أعلامه: أنه رأى ذراعي سراقة بن مالك بن جعشم دقيقين أشعرين فقال: «كيف بك إذا ألبست بعدي سواري كسرى» ، فلما فتحت فارس دعاه عمر وألبسه سواري كسرى وقال له: قل الحمد لله الذي سلبهما كسرى بن هرمز وألبسهما سراقة بن جعشم. ومن أعلامه: ما رواه جابر بن عبد الله قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «أن النجاشي أصحمة قد توفي هذه الساعة فاخرجوا بنا إلى المصلى نصلي عليه فصلى عليه وكبّر أربعا فقال المنافقون إنظروا إلى هذا يصلي على علج نصراني لم يره قط فأنزل الله تعالى: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ «7» . الآية. ثم جاء الخبر بموت النجاشي من تجار وردوا المدينة. ومثله ما روي أن ريحا هبت بتبوك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا لموت منافق عظيم النفاق قد مات في ذلك الوقت» .

_ (7) سورة آل عمران الآية (199) .

ومن أعلامه: أنه قال لأصحابه: «اليوم نصرت العرب على العجم وبي نصروا» فجاء خبر الوقعة بذي قار وما أدال الله تعالى فيه العرب من العجم حين قتلت فيه بنو شيبان وبكر بن وائل من الفرس من قتلوا وكان أول يوم انتصف فيه العرب من العجم وجاءهم الخبر أنه كان في الساعة من اليوم الذي أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن أعلامه: أنه كشف الله تعالى له ما غاب عنه في جيش مؤتة، فقال لأصحابه: «أخذ الراية زيد بن حارثة وتقدم فقتل ومضى شهيدا ثم أخذ الراية بعده جعفر بن أبي طالب وتقدم فقتل ومضى شهيدا» ووقف وقفة ثم قال: «وأخذ الراية بعده عبد الله بن رواحة وتقدم فقتل ومضى شهيدا» لأن عبد الله بن رواحة توقف عن أخذ الراية بعد قتل جعفر زمانا ثم أخذها، قال: «ثم ارتضى المسلمون خالد بن الوليد فكشف العدو عنهم حتى خلصوا» ، ثم قام إلى بيت جعفر بن أبي طالب فاستخرج ولده ودمعت عيناه ونعى جعفر إلى أهله وجاءت الأخبار بأنهم قتلوا في ذلك اليوم على ما وصفه. ومن أعلامه: قوله في ليلة الإسراء حين اصبح: «مررت بعير بني فلان فوجدت القوم نياما وإذا اناء فيه ماء وقد غطوا عليه فكشفت غطاءه وشربت ما فيه ورددت الغطاء كما كان وآية ذلك أن عيرهم الآن تقبل من موضع كذا يقدمها «8» جمل أورق «9» عليه غرارتان «10» إحداهما سوداء والأخرى ورقاء» ، فابتدر القوم الثنية فوجدوا ما وصف، وسألهم عن الإناء فوجدوا الأمر كما قال. ومن أعلامه: أنه رأى عليا كرم الله وجهه في غزاة العشيرة على التراب ومعه عمار فقال لهما: «ألا أخبركما بأشقى الناس» ، قال: بلى، قال: «أشقى الناس أحمر ثمود وعاقر الناقة والذي يخضب، يا علي هذه من هذه» ، وأشار إلى لحيته من رأسه، وقال لعمار: «تقتلك الفئة الباغية وآخر زادك من الدنيا صاع من لبن» ، فكان من قتل ابن ملجم لعنه الله لعلي كرم

_ (8) يقدمها: يتقدمها. (9) جمل أورق: في لونه بياض إلى سواد. (10) غرارتان: مثنى غرارة وهي كيس من قماش

الله وجهه ما كان وقتل عمار يوم صفين، فلما ذكر الخبر لمعاوية لم ينكره ودفعه عن نفسه بأن قال: إنما قتله من جاء به. ومثله ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر زيد بن صوحان فقال: «زيد وما زيد بسبقه عضو منه إلى الجنة» ، فقطعت يده يوم نهاوند في سبيل الله، وقال: «الخلافة بعدي ثلاثون وما بعد ذلك ملك» . نوع آخر من أعلامه صلى الله عليه وسلم: أنه نزل بجيشه في غزوة تبوك على غير ماء وهم نحو ثلاثين ألفا فعطشوا وشكوا ذلك إليه فبعث أبا قتادة وأبا طلحة وسماك بن خرشنة وسعد بن عبادة يلتمسون الماء فغابوا إلى قائم الظهيرة «11» ثم رجعوا ولم يجدوا شيئا، وبلغ العطش من الناس والخيل والدواب، فصلى بأصحابه متيمما، فلما فرغ شكوا إليه العطش فبعث أسيد بن حضير وأسامة يلتمسون الماء من الأعراب، فقال المنافقون: أن محمدا يخبر باخبار السماء وهو لا يدري الطريق إلى الماء، فأتاه جبريل عليه السلام فأخبره بقولهم وسماهم له، فشكى ذلك إلى سعد بن عبادة فقال سعد: إن شئت ضربت أعناقهم، فقال: «لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ولكن نحسن صحبتهم ما أقاموا معنا» ، ثم قال لأبي الهيثم بن التيهان وأبي قتادة وسهيل بن بيضاء يستعرضون الطريق ويأخذون على الكثيب فتقفوا ساعة فإن عجوزا من الأعراب تمر بكم على ناقة لها معها سقاء من ماء فاطعموها واشتروا منها بما عزّ وهان «12» وجيئوا بها مع الماء» ، فمضوا حتى بلغوا الموضع الذي وصف لهم فإذا بالمرأة فقالوا: تبيعينا هذا الماء؟ قالت: أنا وأهلي أحوج إلى الماء منكم، فطلبوا إليها أن تأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الماء فأبت وقالت: إن هذا لساحر، خير الأشياء أن لا أراه ولا يراني فشدوا وثاقها حتى حاءوا بها مع الماء، فلما وقفت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خلوا عنها، وقال لها: تبيعين هذا الماء» ؟ قالت: إن أهلي أحوج إليه منكم، قال: «فائذني لنا فيه وليصيرن ذلك كما جئت به» ، قالت:

_ (11) قائم الظهيرة: أي عندما الشمس متعامدة مع الأرض فيتطابق كل شيء مع ظله وبعده تميل الشمس إلى الزوال. (12) بما عزّ وهان: بالغالي والرخيص، أي بأي ثمن تريده.

شأنكم، فقال لأبي قتادة: «هات الميضأة «13» » ، فقربت إليه فحل السقاء «14» وتفل فيه وصب في الميضأة فوضع يده فيه ثم قال: «ادنوا فخذوا» ، فجعل الماء يزيد والناس يأخذون حتى ما أبقوا معهم سقاء إلّا ملأوه وأرووا خليهم وأبلهم والميضأة ملأى ثم زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم في السقاء حتى ملأه وبقي في الميضأة ثلثاه ثم توضأوا كلهم حين أصبحوا وهو يزيد ولا ينقص. ومن أعلامه صلى الله عليه وسلم: أن ناقة له ضلت في توجهه إلى تبوك فتفرّق الناس في طلبها وكان عنده عمارة بن حزم وفي رحل عمارة زيد بن اللصيت وكان يهوديا قد أسلم ونافق، فقال زيد في رحل عمارة: يزعم محمد أنه نبي يخبركم خبر السماء وهو لا يدري أين ناقته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن منافقا يقول أليس محمد يزعم أنه نبي ويخبركم بخبر السماء ولا يدري أين ناقته، والله لا أعلم إلّا ما علمني ربي وقد أعلمني أنها في الوادي في شعب كذا حبستها سمرة «15» بزمامها» ، فبادر الناس فوجدوها كذلك فأتوه بها، فرجع عمارة بن حزم إلى رحله وقال: لقد عجبت مما ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رجل كان في رحله مع زيد بن اللصيت: أن زيدا قال هذا قبل أن تطلع علينا، فوجأ عمارة زيدا في عنقه وقال: إنك لداهية في رحلي اخرج يا عدو الله منه، ولأجل ما لقيه في غزاة تبوك من الجهد قال لأصحابه: «ألا أسرّكم» ، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إن الله تعالى أعطاني الليلة الكنزين فارس والروم وأمدني بالملوك ملوك حمير يجاهدون في سبيل الله ويأكلون فيء الله» ، فكان ذلك. ومن أعلامه صلى الله عليه وسلم: أنه بعث خالد بن الوليد من تبوك في أربعمائة وعشرين فارسا إلى أكيدر بن عبد الملك بدومة الجندل من كندة فقال خالد: يا رسول الله كيف لي به وسط بلاد كلب وإنما أنا في عدد يسير؟ فقال: ستجده يصيد البقر فتأخذه، فخرج خالد حتى إذا كان من حصنه بمنظر العين في ليلة قمراء صائفة وهو على سطح له من شدة الحر مع امرأته فأقبلت البقر تحك بقرونها باب

_ (13) الميضأة: وعاء ماء الوضوء. (14) فحل السقاء: أكبر الأوعية. (15) السمرة واحد السمر وهو شجر صغير تأكل النوق من ورقه.

الحصن، فقال أكيدر: والله ما رأيت بقرا جاءتنا ليلا غير هذه الليلة لقد كنت أضمر لها الخيل إذا أردتها شهرا أو أكثر، ثم نزل فركب بالرجال والآلة، فلما فصلوا من الحصن وخيل خالد تنظر إليهم لا يصهل منها فرس ولم يتحرك فساعة فصل أخذته الخيل فاستؤسر أكيدر. ومن أعلامه صلى الله عليه وسلم: أنه لما قاضى سهيل بن عمرو بالحديبية حين صدته قريش عن العمرة وكتبت بينه وبينه القضية «16» قال لعلي كرم الله وجهه اكتب: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو، فقال سهيل: لو أعلم أنك رسول الله ما صددتك ولكن أقدمك لشرفك اكتب محمد بن عبد الله، فقال: يا علي امح رسول الله، فقال علي: لا أستطيع أن أمحو اسمك من النبوة، فمدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يده إلى الموضع فمحاه وقال لعلي ستسام مثلها فتجيب، فقيل له مثلها يوم الحكمين حين ذكر في كتاب التحكيم هذا ما تحاكم عليه علي أمير المؤمنين فقال له عمرو: لو سلمنا إنك أمير المؤمنين ما نازعناك، فمحا أمير المؤمنين، ولما قال سهيل ذلك قال عمر: يا رسول الله دعني أنزع ثنيي سهل لنلثغ لسانه فلا يقوم علينا خطيبا أبدا. وكان سهيل أعلم الشفة «17» السفلى فكان خطيبا بينا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعه يا عمر فعسى أن يقوم لك مقاما تحمده، فكان من حسن قيامه بمكة حين هاج أهلها بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخفى عتاب بن أسيد ما حمد أثره. ومن أعلامه صلى الله عليه وسلم: ما حكاه السدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: «يدخل اليوم عليكم رجل من ربيعة يتكلم بلسان شيطان» فأتاه الحطم بن هند البكري وحده وخلف خيله خارجة من المدينة فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم د فقال: «إلى ما تدعو» ؟ فأخبره فقال: أنظرني فلي من أشاوره، فخرج من عنده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد دخل بوجه كافر وخرج بعتب غادر» ، فمر بسرح من سرح المدينة فاستاقه وانطلق مرتجزا يقول:

_ (16) إتفاقية صلح الحديبيه. (17) أعلم الشفة: متدلية كأنها علامة فارقة.

لقد لفها الليل سواق حطم ... ليس براعي إبل ولا غنم ولا بجزار على ظهر وضم ... باتوا نياما وابن هند لم ينم باتت يناسيها غلام كالزلم ... مدلج الساقين ممسوح القدم ثم أقبل عام قابل حاجا قد قلد الهدي فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه فنزل عليه قوله تعالى: لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ «18» فقال له ناس من أصحابه: هذا صاحبنا خل بيننا وبينه. فقال إنه من قلّد. نوع آخر من أعلامه صلى الله عليه وسلم: ما روى عاصم بن عمرو عن قتادة قال: لما رجع المشركون إلى مكة من بدر قال عمير بن وهب الجمحي لصفوان بن أمية: قبح الله العيش بعد قتلي بدر والله لولا دين عليّ لا أجد له قضاء وعيال لا أدع لهم شيئا لرحلت إلى محمد حتى أقتله إن ملأت عيني منه قتلته فإنه بلغني أنه يطوف في الأسواق. فقال له صفوان: دينك عليّ وعيالك أسوة عيالي فاعمد لشأنك فجهزه وحمله على بعير فشحذ عمير سيفه وسمه وسار إلى المدينة فدخلها متقلدا سيفه فبصر به عمر رضي الله تعالى عنه فوثب إليه ووضع حمائل سيفه في عنقه وأدخله على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: هذا عدو الله عمير بن وهب، فقال تأخر عنه يا عمر ثم قال له ما أقدمك. قال: لفداء أسيري عندكم. قال: فما بال السيف. قال: قبحها الله وهل أغنت من شيء وإنما نسيته حين نزلت وهو في رقبتي، فقال له: فما شرطت لصفوان بن أمية في الحجر؟ ففزع عمير وقال ماذا شرطت له. قال: تحملت له بقتلي على أن يقضي دينك ويعول عيالك والله تعالى حائل بينك وبين ذلك. فقال عمير: أشهد أنك لرسول الله وإنك صادق وأشهد أن لا إله إلا الله كنا نكذبك بالوحي من السماء وهذا الحديث كان سرا بيني وبين صفوان كما قلت لم يطلع عليه أحد غيري.

_ (18) سورة المائدة الآية (2)

فقال عمر: والله لخنزير كان أحب إلي منه حين طلع وهو الساعة أحب إلي من بعض ولدي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «علموا أخاكم القرآن وأطلقوا له أسيره» فقال عمير: إني كنت جاهدا في إطفاء نور الله وقد هداني الله فله الحمد فأذن لي فألحق قريشا فأدعوهم إلى الله وإلى الإسلام فأذن له فلحق بمكة ودعاهم فأسلم معه بشر كثير وحلف صفوان أن لا يكلمه أبدا. ومن أعلامه صلى الله عليه وسلم: ما حكاه شيبة بن عثمان بن أبي طلحة قال: ما كان أحد أبغض اليّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكيف لا يكون كذلك وقد قتل منا ثمانية كل منهم يحمل اللواء فلما فتح الله تعالى مكة يئست مما كنت أتمناه من قتله وقلت في نفسي قد دخلت العرب في دينه فمتى أدرك ثأري منه فلما اجتمعت هوزان بحنين قصدتهم لأجد منه غرة فأقتله فلما انهزم الناس عنه وبقي مع من ثبت معه جئت من ورائه فرفعت السيف حتى كدت أحطه غشى فؤادي ورفع لي شواظ من نار فلم أطق ذلك وعلمت أنه ممنوع فالتفت إلي وقال ادن يا شيب فقاتل ووضع يده في صدري فصار أحب الناس إلي وتقدمت فقاتلت بين يديه ولو عرض لي أبي لقتلته في نصرته فلما انقضى القتال دخلت عليه فقال لي: الذي أراد الله بك خير مما أردته لنفسك وحدثني بجميع ما زورته في نفسي «19» فقلت ما اطلع على هذا أحد إلا الله فأسلمت. ومن أعلامه صلى الله عليه وسلم: ما رواه محمد بن إبراهيم بن شرحبيل عن أبيه قال: كان النضير بن الحرث بن كلدة يصف شدة عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقتله لأخيه النضر بن الحرث قال وكنت شهدت بدرا فرأيت قلة المسلمين وكثرة قريش فلما نشب القتال رأيت المسلمين أضعاف قريش فانهزمت قريش ورأيت يومئذ رجالا على خيل بلق بين السماء والأرض معلمين يأسرون ويقتلون فهربت مذعورا ثم خرجت معه بعد الفتح إلى هوزان لأصيب منه غرة فلما انهزم المسلمون صعدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو في وجه العدو واقف على بغلة شهباء حوله رجال بيض الوجوه فأقبلت عامدا إليه فصاحوا بي إليك إليك فرعب فؤادي وأرعدت جوارحي فقلت هذا مثل يوم بدر أن الرجل لعلى حق وأنه معصوم فأدخل الله في

_ (19) ما زورته في نفسي: ما راودني من أفكار.

قلبي الإسلام ثم التقيت برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد رجوعه من الطائف فحين رآني قال: «النضير؟» قلت: لبيك. قال: «هذا خير لك مما أردت يوم حنين ما حال الله بينك وبينه» . ومن أعلامه صلى الله عليه وسلم: أنه قال لعمه العباس وقد أسر يوم بدر: أفد نفسك وابنيّ أخيك عقيلا ونوفلا وحليفك فإنك ذو مال فقال: يا رسول الله إني كنت مسلما وأخرجت. فقال: «الله أعلم بإسلامك فأين المال الذي وضعته بمكة عند أم الفضل حين خرجت وليس معكما أحد فقلت إن أصبت في سفري فللفضل كذا ولعبد الله كذا ولقثم كذا. فقال: والذي بعثك بالحق ما علم بهذا أحد غيري وغيرها وإني لأعلم أنك رسول الله ففدى نفسه وابني أخيه وحليفه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله سيعوضك خيرا إن كان ما قلته عن إسلامك حقا» ، فعوضه الله تعالى مالا جما. ومن أعلامه صلى الله عليه وسلم: ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد الذهاب إلى أم فروة الأنصارية قال لأصحابه: «انطلقوا بنا إلى الشهيدة فنزورها» ، وأمر أن يؤذن لها ويقام وأن تؤم أهل دارها في الفرائض فقتلها في أيام عمر رضي الله عنه غلام وجارية كانا لها فصلبهما عمر رضي الله تعالى عنه فكانا أول من صلب في الإسلام فقال عمر: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «انطلقوا نزور الشهيدة» . ومن أعلامه صلى الله عليه وسلم: ما رواه عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحتجم فلما فرغ قال: «يا عبد الله اذهب بهذا الدم فاهرقه حيث لا يراك أحد» ، فلما برز عنه عمد إلى الدم فحساه فلما رجع قال: «يا عبد الله ما صنعت» ؟ قال: جعلته في أخفى مكان ظننت أنه خاف عن الناس قال: «لعلك شربت الدم» ؟ قال: نعم؟ قال: «ويل للناس منك وويل لك من الناس» ، إلى أمثال ذلك من نظائره التي يطول الكتاب بذكره حتى كان المنافقون لا يخوضون في شيء من أمره إلّا أطلعه الله عليه فكان يخبرهم به حتى كان بعضهم يقول لصاحبه أسكت وكف فو الله لو لم يكن عنده إلّا

الحجارة لأخبرته حجارة البطحاء. فإن قيل: فليس في ذكر ما كان ويكون إعجاز نبوّة يقهر ولا آية رسالة تظهر لأن المنجمين يخبرون بذلك ولا يكون من إعجاز الأنبياء وآيات الرسل فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أن المنجم يعمل على حساب ويرجع على استدلال ولا يبتكر قولا إلّا بعدهما وأخبار الرسل عن بديهة تخلو من سبب وتعري عن استدلال. والثاني: أن من خلا من علم النجوم لم يصح الإخبار عنها ولم يتعاط محمد صلى الله عليه وسلم علم النجوم ولا خالط أهلها فيكون مخبرا عنها فبطل أن يخبر بها إلّا عن علّام الغيوب المطلع على ضمائر القلوب. والثالث: أن المنجم يصيب في الأقل ويخطىء في الأكثر ويستحسن منه الصواب ولا يستقبح منه الخطأ وأخبار الرسل كلها صدق لا يتخللها كذب وصواب ولا يعتورها زلل.

الباب الحادي عشر فيما أكرم به صلى الله عليه وسلم من إجابة أدعيته إن الله تعالى لما فضل الأنبياء على جميع خلقه مما فوّض إليهم من القيام بحقه تميزوا بطلب المصلحة فخصوا بإجابة الأدعية ليكونوا عونا على ما كلفهم وآية على من أنكرهم فدخل بهذا الامتياز في أقسام الإعجاز. فمن أعلامه صلى الله عليه وسلم في الإجابة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تلا: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى «1» قال عتبة بن أبي لهب: كفرت بالذي دنا فتدلى، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: «اللهم سلط عليه كلبا من كلابك» يعني الأسد فخرج عتبة مع أصحابه في عير إلى الشام حتى إذا كانوا في طريقهم زأر الأسد فجعلت فرائص عتبة ترتعد فقال أصحابه: من أي شيء ترتعد فو الله ما نحن وأنت إلّا سواء، فقال: إن محمدا دعا عليّ وما ترد له دعوة ولا أصدق منه لهجة، فوضعوا العشاء فلم يدخل يده فيه، وحاط القوم أنفسهم بمتاعهم وجعلوه وسطهم وناموا فجاء الأسد يستشهي رؤوسهم رجلا رجلا حتى انتهى إليه فهشمه هشمة كانت إياها فقال وهو بآخر رمق: ألم أقل لكم إن محمدا أصدق الناس لهجة. ومن أعلامه صلى الله عليه وسلم: أن المستهزئين به من قريش وهم سبعة: الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل السهمي، والأسود بن عبد يغوث الزهري، وفكيهة ابن عامر الفهري، والحرث بن الطلاطلة، والأسود بن الحرث، وابن عيطلة،

_ (1) سورة النجم الآية (1) .

كانوا يكثرون منه الاستهزاء ويواصلون عليه الأذاء وكان لا يقرأ إلّا مستسرا ولا يدعو إلّا مستخفيا فنزل عليه قوله تعالى: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا «2» أي لا تجهر بها فيؤذوك ولا تخافت بها عن أصحابك فلا يسمعوك وابتغ بين الجهر والأسرار سبيلا، فأذن لأصحابه حين اشتد بهم الأذى في الهجرة إلى أرض الحبشة لأن ملكها كان منصفا ورغب إلى الله تعالى أن يكفيه أمرهم فنزل عليه قوله تعالى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ «3» . وقي قوله: فاصدع بما تؤمر تأويلان: أحدهما: امض لما تؤمر به من إبطال الشرك. والثاني: أظهر ما تؤمر به من الحق. وفي قوله: وأعرض عن المشركين تأويلان: أحدهما: استهزىء بهم. والثاني: لا تهتم باستهزائهم إنا كفيناك المستهزئين يعني بما عجّله من إهلاكهم. فأما الوليد بن المغيرة فإنه ارتدى فعلق بردائه شوك فذهب يجلس عليه فقطع أكحله فنزف فمات لوقته. وأما العاص بن وائل فوطىء على شوكة فتساقط لحمه من عظامه فمات من يومه. وأما الأسود بن عبد يغوث فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عليه بالعمى وثكل ولده فأتى بغصن فيه شوك فأصاب عينه فسالت حدقتاه على وجهه وقتل ولده زمعة يوم بدر فأعمى الله بصره وأثكله ولده. وأما فكيهة بن عامر فخرج يريد الطائف ففقد ولم يوجد.

_ (2) سورة الإسراء الآية (11) . (3) سورة الحجر الآية (94) .

واما الحرث بن الطلاطلة فإنه خرج لبعض حوائجه فضربه السموم في الطريق فاسود منه ومات. وأما الأسود بن الحرث فأكل حوتا مملوحا فأصابه عطش فلم يتمالك من شرب الماء حتى انشق بطنه ومات. وأما ابن عطيلة فاستسقى «4» فمات. ومثله ما رواه ابن مسعود قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نصلي في ظل الكعبة وناس من قريش وأبو جهل قد نحروا جزورا في ناحية مكة فبعثوا فجاءوا بسلاها وطرحوه بين كتفيه وهو ساجد فجاءت فاطمة فطرحته عنه، فلما انصرف قال: «اللهم عليك بقريش وبأبي جهل وعتبة وشيبة والوليد بن عتبة وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط» . قال عبد الله بن مسعود: فلقد رأيتهم قتلى في قليب بدر. ومن أعلامه صلى الله عليه وسلم: أن خباب بن الأرت أتاه حين اشتد الأذى من قريش فقال: يا رسول الله ادع لنا ربك أن يستنصر لنا على مضر، فقال: «إنكم تعجلون لقد كان الرجل ممن قبلكم يمشط بأمشاط الحديد حتى يخلص إلى ما دون عظمه من لحم أو عصب ويشق بالمنشار فلا يرده ذلك عن دينه وأنكم تعجلون، والله ليمضي هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخاف إلّا الله والذئب على غنمه» ، ثم دعا عليهم فقال: «اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف» ، فقطع الله عنهم المطر حتى مات الشجر وذهب الثمر وأجدبت الأرض وماتت المواشي واشتووا القد وأكلوا العلهز «5» ، فلما انتهت بهم الموعظة استعطفوه فعطف ورغب إلى الله تعالى فمطروا. ومن أعلامه صلى الله عليه وسلم: ما رواه ابن عباس قال: قيل لعمر حدثنا عن شأن جيش العسرة؟ فقال عمر رضي الله تعالى عنه: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في قيظ

_ (4) استسقى: أصابه داء الإستسقاء وهو مرض يسبب احتفاظ الجسم بالماء فتتلف أعضاؤه الداخلية ويموت. (5) العلهز: القرّاد الضخم، طعام من الدم والوبر وهو يؤكل في المجاعات.

شديد فنزلنا منزلا أصابنا فيه عطش حتى خشينا أن تنقطع رقابنا فكان الرجل يذهب ليلتمس الماء فلا يرجع حتى نظن أن رقبته ستنقطع، وحتى كان الرجل ينحر بعيره فيعصره فرثه فيشربه ثم يجعل ما بقي على صدره فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله! إن الله قد عودك في الدعاء خيرا فادع الله لنا، قال: «أتحب ذلك» ؟ قال: نعم، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فلم يرجعها حتى مالت السحاب فأظلت وأمطرت حتى رووا وملأوا ما معهم من الأوعية، فذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر «6» . ومن أعلامه صلى الله عليه وسلم: ما رواه مسلم الملالي عن أنس بن مالك قال: أتى أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله! لقد أتيناك وما لنا بعير يئط ولا صبي يصطبح ثم أنشد: أتيناك والعذراء بدمي لبانها ... وقد شغلت أم الصبي عن الطفل وألقى بكفيه الصبي استكانة ... من الجوع ضعفا ما يمر ولا يحلي ولا شيء مما يأكل الناس عندنا ... سوى الحنظل العامي والعلهز السفلي وليس لنا إلّا إليك فرارنا ... وأين فرار الناس إلّا إلى الرسل فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يجر ردائه حتى صعد المنبر فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال: «اللهم اسقنا غيثا مغيثا سحا طبقا غير رايث تنبت به الزرع وتملأ به الضرع وتحيي به الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون» ، فما استتم الدعاء حتى التقت السماء بأروقتها فجاء أهل البطانة يضجون: يا رسول الله! الغرق، فقال: «حوالينا ولا علينا» ، فانجاب السحاب عن المدينة كالأكليل، فضحك رسول الله حتى بدت نواجذه وقال: «لله در أبي طالب لو كان حيا لقرّت عيناه من الذي ينشدنا شعره» ، فقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: يا رسول الله! كأنك أردت قوله: وابيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل يعوذ به الهلاك من آل هاشم ... فهم عنده في نعمة وفواضل

_ (6) أي كانت خاصة بهم لم تتجاوزهم.

كذبتم وبيت الله نبرى محمدا ... ولما نقاتل دونه ونناضل ونسلمه حتى نصرع حوله ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل وقام رجل من كنانة وأنشد: لك الحمد والحمد ممن شكر ... سقينا بوجه النبي المطر دعا الله خالقه دعوة ... وأشخص معها إليه البصر فلم يك إلّا كلقاء الردى ... وأسرع حتى رأينا الدرر وفاق العز إلى جم البعاق ... أغاث به الله عليا مضر وكان كما قاله عمه ... أبو طالب أبيض ذو غرر به الله يسقي صوب الغمام «7» ... وهذا العيان لذاك الخبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن يك شاعر يحسن فقد أحسنت» . ومن أعلامه صلى الله عليه وسلم: ما أظهره الله تعالى من كرامته في عمه العباس حين استسقى به عمر رضي الله تعالى عنه متوسلا إليه بعمه فخرج يستسقي به وقد أجدب الناس، فقال: اللهم إنا نتقرب إليك بعم نبيك وبقية آبائه وكبير رجاله فاحفظ اللهم نبيك في عمه فقد دلونا به إليك مستشفعين إليك مستغفرين. فقال العباس وعيناه ينضحان: اللهم أنت الراعي لا تهمل الضالة فقد ضرع الصغير ورق الكبير وارتفعت الشكوى وأنت تعلم السر وأخفى اللهم فأغثهم بغياثك من قبل أن يقنطوا فيهلكوا فإنه لا ييأس من روحك إلّا القوم الكافرون. فنشأت السحاب وهطلت السماء فطفق الناس بالعباس يمسحون أركانه ويقولون هنيا لك ساقي الحرمين فقال حسان بن ثابت: سأل الإمام وقد تتابع جدبنا ... فسقى الغمام بغرة العباس عم النبي وصنو والده الذي ... ورث النبي بذاك دون الناس أحيا الإله به البلاد فأصبحت ... مخضرة الأجناب بعد اليأس فقال الفضل بن العباس بن أبي لهب يفتخر لذلك:

_ (7) صوب الغمام وصيب الغمام: ماء الغيوم أي المطر.

بعمي سقى الله الحجاز وأهله ... عشية يستسقي بشيبته عمر توجه العباس في الجدب راغبا ... فما كر حتى جاد بالديمة المطر ومن أعلامه صلى الله عليه وسلم: ما روي أن أسماء بنت عميس قالت لفاطمة أن علي ابن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما كان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أوحي إليه فجلله بثوبه فلم يزل كذلك حتى أدبرت الشمس أو كادت تغيب ثم إنه سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أصليت يا أبا الحسن» ؟ قال: لا. فقال: «اللهم رد على علي الشمس فرجعت الشمس حتى بلغت نصف المسجد» . ومن أعلامه صلى الله عليه وسلم: ما روي عن علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فقلت يا رسول الله تبعثني وأنا حدث السن لا علم لي بالقضاء؟ قال: «انطلق فإن الله تعالى سيهدي قلبك ويثبت لسانك» . قال علي رضي الله تعالى عنه: فما شككت في قضاء بين اثنين ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أقضاكم علي» ، ومثله قوله لابن عباس وهو يومئذ غلام: «اللهم فقّهه في الدين وعلمه التأويل فخرج أفقه الناس في الدين وأعلمهم بالتأويل حتى سمي البحر لسعة علمه. ومن أعلامه صلى الله عليه وسلم: ما رواه أبو العالية عن أبي هريرة قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بتميرات فقلت ادع الله لي بالبركة فيهن فصفهن على يدي ثم دعا بالبركة فيهن ثم قال اجعلهن في المزور فإذا أردت شيئا فأدخل يدك فيه ولا تنثره. قال أبو هريرة فلقد حملت من ذلك التمر كذا وكذا وسقا في سبيل الله وكنا نأكل منه ونطعم وكان لا يفارق حقوي فلما كان يوم قتل عثمان انقطع فذهب. ومن أعلامه صلى الله عليه وسلم: ما رواه جعيل الأشجعي قال: غزوت مع رسول الله في بعض غزواته فقال: «سر يا صاحب الفرس» ، فقلت: يا رسول الله هي عجفاء ضعيفة فرفع مخنقة معه فضربها بها وقال: «اللهم بارك له فيها» . قال: فلقد رأيتني ما أمسك رأسها أن تقدم الناس ولقد بعت من بطنها باثني عشر ألفا.

ومن أعلامه صلى الله عليه وسلم: ما روت عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهي أوبأ أرض فيه فقال: «اللهم حبب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة وصححها لنا وبارك لنا في صاعها ومدها وانقل حماها إلى الجحفة» «8» ، فصارت كذلك. ومن أعلامه صلى الله عليه وسلم: أنه أخذ يوم بدر كفا من حصى وتراب ورمى به في وجوه القوم وقال: «شاهت الوجوه» ، فتفرق الحصى في المشركين ولم يصل ذلك الحصى والتراب أحدا إلّا قتل أو أسر، وفيه نزل قول الله تعالى: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى «9» . ومن أعلامه صلى الله عليه وسلم: أن الطفيل بن عمرو الدوسي قدم مكة وكان شاعرا لبيبا فقالت قريش له: احذر محمدا فإن قوله كالسحر يفرّق بين المرء وبين زوجه، فأتاه في بيته وقال: يا محمد اعرض أمرك، فعرض عليه الإسلام وتلا عليه القرآن فأسلم وقال: يا رسول الله! إني امرؤ مطاع في قومي وإني راجع إليهم وداعيهم إلى الإسلام فادع الله أن يجعل لي آية تكون عونا عليهم، فقال: «اللهم أجعل له آية» ، فخرجت حتى إذا كنت بثنية وقع نور بين عيني مثل المصباح، فقلت: اللهم في غير وجهي أخشى أن يظنوا بي أنها مثلة فتحول، فوقع في رأس سوطي، فجعل الحاضرون يرون ذلك النور في سوطي كالقنديل المعلق وأنا أهبط من الثنية، ثم دعوت رؤساء قومي إلى الإسلام فأبطأوا، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إنهم قد غلبوني على دوس، فادع الله عليهم، فقال: «اللهم اهد دوسا ارجع إلى قومك فادعهم إلى الله وارفق بهم» ، فرجعت إليهم فلم أزل بأرض دوس أدعوهم حتى أسلموا. ومن أعلامه صلى الله عليه وسلم: ما رواه أبو نهيك الأزدي عن عمرو بن أخطب قال: استسقى رسول الله صلى الله عليه وسلم ماء فأتيته بإناء فيه ماء وفيه شعرة، فرفعتها ثم ناولته

_ (8) الجحفة: موضع بعيد عن المدينة كانت تسكنه اليهود. والحديث رواه الشيخان. (9) سورة الأنفال الآية (17) .

فقال: «اللهم جملة» ، قال: فرأيته بعد ثلاث وتسعين ما في رأسه ولحيته شعرة بيضاء. ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينقي الرجل شعره في الصلاة، فرأى رجلا ينقي شعره في الصلاة فقال: «قبح الله شعرك» ، فصلع مكانه. فإن قيل: فإجابة الأدعية لا تكون معجزة للنبوّة لأنه قد تجاب دعوة غير الأنبياء. قيل: أدعية الأنبياء مجابة على العموم في جميعها، وأدعية غيرهم إن أجيبت فعلى الخصوص في بعضها، لأن الأنبياء منطقون بالحق، فإذا نطقت ألسنتهم بالدعاء صادف ما أمروا به فأجيبوا إليه، وغيرهم قد ينطق بالحق وبغيره، فإن أجيبت أدعيتهم، فهو تفضل يقف على مشيئة الله تعالى.

الباب الثاني عشر في إنذاره صلى الله عليه وسلم بما سيحدث بعده روى فضالة بن أبي فضالة الأنصاري قال: خرجت مع أبي إلى ينبع عائد لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكان بها مريضا فقال له أبي، يا أبا الحسن ما يقيمك بهذا البلد لا آمن أن يصيبك أجلك فلا يكن أحد يليك إلا أعراب جهينة، فلو احتملت إلى المدينة فإن أصابك أجلك وليك أصحابك وصلوا عليك فقال: يا أبا فضالة! أخبرني حبيبي وابن عمي رسول الله صلى الله عليه وسلم إني لا أموت حتى أؤمر ولا أموت حتى أقتل الفئة الباغية ولا أموت حتى تخضب هذه من هذه وضرب بيده على لحيته وهامته قضاء مقضيا وعهدا معهودا وقد خاب من افترى. ومن إنذاره صلى الله عليه وسلم: ما رواه أبو سلمة عن أبي هريرة قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمارية القبطية في بيت حفصة بنت عمر فوجدتها معه تضاحكه فقالت: يا رسول الله في بيتي من دون بيوت نسائك قال: فإنها علي حرام أن أمسها، ثم قال لها يا حفصة ألا أبشرك قلت بلى بأبي أنت وأمي قال: «يلي هذا الأمر من بعدي أبو بكر أبوك اكتمي هذا عليه» فخرجت حتى دخلت على عائشة فقالت: لها الا أبشرك يا ابنة أبي بكر فقالت: بماذا، فذكرت ذلك لها وقالت قد استكتمني فاكتميه فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ «1» الآيات.

_ (1) سورة التحريم الاية (1) .

ومن إنذاره: ما رواه معاذ بن جبل قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فخرج معي يوصيني فلما فرغ قال: يا معاذ إنك عسى أن لا تلقاني بعد هذا ولعلك تمر بمسجدي ومنبري فبكى معاذ ثم التفت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل بوجهه نحو المدينة وقال: إن أهل بيتي هؤلاء يرون أنفسهم أولى الناس بي وليس كذلك، إن أولى الناس بي المتقون من كانوا أو حيثما كانوا، اللهم إني لا أحل لهم فساد ما أصلحت. ومن إنذاره صلى الله عليه وسلم: ما رواه عبد الله بن عباس قال: كنت قاعدا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل عثمان، فلما دنا منه قال: يا عثمان تقتل وأنت تقرأ سورة البقرة تقع قطة من دمك عليّ فسيكفيكهم الله يغبطك أهل المشرق والمغرب وتبعث يوم القيامة أميرا على مخذول. ومن إنذاره صلى الله عليه وسلم: ما رواه جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من أحب أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله» . ومن إنذاره صلى الله عليه وسلم: ما روي أنه قال لفاطمة رضي الله تعالى عنها: إنك أول أهل بيتي لحاقا بي ونعم السلف أنا لك، فكانت أول من مات بعده من أهل بيته صلى الله عليه وسلم. ومن إنذاره صلى الله عليه وسلم: ما رواه عبد الله بن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لنسائه: «ليت شعري أيتكن صاحبة الجمل الأذنب تخرج فتنبحها كلاب الحوأب يقتل عن يمينها ويسارها قتلى كثير وتنجو بعد ما كادت تقتل» . فقيل: إن عائشة رضي الله عنها لما وصلت إلى مياه بني عامر ليلا نبحتها الكلاب فقالت: ما هذا؟ قالوا: الحوأب، قالت: ما أظنني إلا راجعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا ذات يوم: «كيف بإحداكن إذا نبح عليها كلاب الحوأب» . ومن إنذاره صلى الله عليه وسلم: ما رواه ثابت عن الحسن البصري قال: كان الحسن ابن علي رضي الله تعالى عنهما يجيء ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد فيجلس على عنقه

فإذا أراد أن يرفع رأسه أخذه فوضعه في حجره ثم قال: إن ابني هذا سيد وأن الله تعالى سيصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين. ومن إنذاره صلى الله عليه وسلم: ما رواه عروة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: دخل الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوحى إليه فبرك على ظهره وهو منكب ولعب على ظهره، فقال جبريل: يا محمد إن أمتك ستفتن بعدك ويقتل ابنك هذا من بعدك، ومد يده فأتاه بتربة بيضاء وقال: في هذه الأرض يقتل ابنك اسمها الطف، فلما ذهب جبريل خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه والتربة في يده وفيهم أبو بكر وعمر وعلي وحذيفة وعمار وأبو ذر وهو يبكي، فقالوا: ما يبكيك يا رسول الله؟ فقال: «أخبرني جبريل أن ابني الحسين يقتل بعدي بأرض الطف وجاءني بهذه التربة فأخبرني أن فيها مضجعه» . ومن إنذاره صلى الله عليه وسلم: أن الحجاج لما قتل عبد الله بن الزبير دخل على أمه أسماء بنت أبي بكر فقال لها: إن أمير المؤمنين أوصاني بك فهل لك من حاجة؟ قالت: ما لي من حاجة ولكن انتظر حتى أحدثك شيئا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يخرج من ثقيف كذاب ومبير «2» أما الكذاب فقد رأيناه- يعني المختار- وأما المبير فأنت» ، فقال الحجاج: أنا مبير المنافقين. ومن إنذاره صلى الله عليه وسلم: ما رواه عبد الملك بن عمير قال: قال معاوية رضي الله تعالى عنه: والله ما حملني على الخلافة إلا قول النبي صلى الله عليه وسلم لي: «يا معاوية إن وليت فأحسن» . ومن إنذاره صلى الله عليه وسلم: ما رواه عبد الله بن عباس عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إليه مقبلا فقال: «هذا عمي أبو الخلفاء الأربعين أجود قريش كفا وأن من ولده السفاح والمنصور والمهدي يا عم بي فتح الله هذا الأمر وبرجل من ولدك يختم» إلى كثير من نظائر هذا.

_ (2) مبير: تصغير مبر، والمبر بالشيء: الضابط له، وتطلق على الجواد العنود أو البغل الشموس.

الباب الثالث عشر في معجزة صلى الله عليه وسلم بما ظهر من البهائم إذا كان الإعجاز خارقا للعادة لم يمتنع فيه ظهور ما خالفها وإذا كانت البهائم مسلوبة الإفهام مفقودة الكلام فليس بمستنكر إذا أراد الله تعالى بها إظهار معجز أن يعطيها من المعرفة أن تنطق بما ألهمها وتخبر بما أعلمها ثم سلبها ذلك فتعود إلى طبعها كما أحل في الشجرة كلاما سمعه موسى وفي العصا أن صارت حية تسعى لتكون من باهر الآيات وقاهر المعجزات. فمن آياته صلى الله عليه وسلم: أن رجلا كان في غنمه يرعاها فأغفلها ساعة من نهاره فخاتله «1» ذئب فأخذ منها شاة فأقبل يلهف فطرح الذئب الشاة ثم كلمه بكلام فصيح فقال: ويحك لم تمنعني رزقا رزقنيه الله تعالى؟ فجعل أهبان يصفق بيديه ويقول: تالله ما رأيت كاليوم «ذئب يتكلم!» فقال الذئب: أنتم عجب وفي شأنكم عبرة هذا محمد يدعو إلى الحق ببطن مكة وأنتم لا هون عنه، فهدي الرجل لرشدة وأقبل حتى أسلم وحدّث القوم بقصته، وبقي لعقبه شرف يفخرون به على العرب ويقول مفتخرهم: أنا إبن مكلم الذئب. ومن آياته صلى الله عليه وسلم: ما رواه أبو سعيد الخدري قال: بينما راع يرعى في الحرة غنما إذ جاء ذئب إلى شاة من غنمه فانتهرها فحال الراعى بين الذئب والشاة فأقعى الذئب على عريمة ذنبه وقال للراعي: ألا تتقي الله تحول بيني وبين رزق

_ (1) خاتله: غافله وخادعه.

ساقه الله إليّ، فقال الراعي: العجب من ذئب يقعى على ذنبه يكلمني بكلام الإنس، فقال له الذئب: ألا أحدثك بأعجب من هذا؟ هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الحرتين «2» يحدث الناس بأنباء ما قد سبق، فأخذ الراعي الشاة فأتى بها المدينة، وأتى النبي صلى الله عليه وسلم فخرج إلى الناس، فقال للراعي: «قم فحدثهم» ، فقام يحدثهم فقال: «صدق الراعي وكان اسمه عميرا الطائي فسمي مسلم الذئب» . ومن آياته صلى الله عليه وسلم: ما روى إبن عمر عن أبيه عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في محفل من أصحابه إذ جاء أعرابي قد صاد ضبا «3» وجعله في كمه ليذهب به فيأكله، فلما رأى الجماعة قال: ما هذا قالوا: النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء يشق الناس وقال: «واللات والعزى ما أحد أبغض إليّ منك، ولولا أن تسمينى قومي عجولا لعجلت بقتلك» ، فقال عمر رضي الله عنه يا رسول الله دعني أقوم فأقتله فقال: «يا عمر أما علمت أن الحليم كاد أن يكون نبيا، ثم قال للاعرابي: ما حملك على ما قلت» فقال: واللات والعزى لا آمنت أو يؤمن بك هذا الضب وأخرج الضب من كمه فطرحه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا ضب» ، فأجابه الضب بلسان عربي مبين يسمعه القوم جميعا لبيك وسعديك يا زين من يوافي القيامة قال: «من تعبد؟» قال: الذي في السماء عرشه وفي الأرض سلطانه وفي الجنة رحمته وفي النار عقابه قال: «فمن انا يا ضب؟» قال: رسول رب العالمين، وخاتم النبيين، وقد أفلح من صدقك وقد خاب من كذبك فقال الأعرابي لا لا أتبع أثرا بعد عين والله لقد جئتك وما على ظهر الأرض أحد أبغض إليّ منك وإنك اليوم أحب إليّ من نفسي ومن والدي وإني لأحبك بداخلي وخارجي وسري وعلانيتي أشهد أن لا إله إلا الله وأنك محمد رسول الله؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «الحمد لله الذي هداك بي إن هذا الدين يعلو ولا يعلى» ، فرجع الأعرابي إلى قومه فأخبرهم بالقصة وكان من بني سليم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف إنسان منهم فأمرهم أن يكونوا تحت راية

_ (2) والمدينة بين حرتين، والحرة الأرض ذات الحجارة السوداء. (3) الضب: حيوان صحراوي صغير الحجم.

خالد بن الوليد رحمة الله عليه ولم يؤمن من العرب ألف في وقت واحد غيرهم. ومن آياته صلى الله عليه وسلم: ما رواه أنس بن مالك قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم حائطا «4» للأنصار ومعه أبو بكر رضي الله تعالى عنه وفي الحائط عنزة فسجدت له. فقال أبو بكر يا رسول الله كنا نحن أحق بالسجود لك من هذه العنزة، فقال: «إنه لا ينبغي أن يسجد أحد لأحد، ولو كان ينبغي أن يسجد أحد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها» «5» . ومن آياته صلى الله عليه وسلم: ما رواه عبد الله بن أبي أوفى قال: بينما نحن قعود عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أتاه آت فقال يا رسول الله ناضح «6» بني فلان قد دبر «7» عليهم قال: فنهض ونهضنا معه، فقلنا يا رسول الله لا تقربه فأنا نخافه عليك فدنا من البعير فلما رآه البعير سجد له فوضع يده على رأس البعير وقال هات السكين فوضعه في رأسه وأوصى به خيرا. ومن آياته صلى الله عليه وسلم: ما رواه جبير بن مطعم قال كنا جلوسا عند صنم لنا قبل أن يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بشهر فنحرنا جزورا فسمعنا صائحا يصيح اسمعوا إلى العجب، ذهب استراق السمع لنبي بمكة اسمه أحمد مهاجر إلى يثرب، فكان هذا من الآيات المنذرة والآثار المبشرة. ومن آياته صلى الله عليه وسلم: أنه بينما هو جالس في أصحابه إذ هو بجمل قد أقبل له رغاء فوقف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتدرون ما يقول هذا إنه ليقول إني لآل فلان لحي من الخزرج استعملوني وكدوني حتى كبرت وضعفت فلما لم يجدوا في حيلة يريدون ذبحي فأنا أستغيث بك منهم، فأوقفه رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث إليهم فاستوهبه منهم فوهبوه له وخلاه في الحي» . ومن آياته صلى الله عليه وسلم: ما رواه برد عن مكحول قال: بينما أهل دريح حي من

_ (4) الحائط: البستان تحيط به الجدران. (5) رواه الشيخان. (6) الناضح: البعير يستعمل لنقل الماء. (7) دبر البعير: ثار وأزبد فاه وهاجم أصحابه.

عرب اليمن في مجلسهم، إذ أقبل عجل وسلم فسألهم وقال: أهل دريح أمر نجيح ببطن مكة يصيح بلسان فصيح بشهادة أن لا إله إلا الله فأجيبوه وقال: وفيه نزل قول الله تعالى: رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا «8» فإن قيل فيجوز أن يكون ما سمع من كلام البهائم كالصدى يحكي كلام المتكلم فيظنه السامع كلام الصدى وهو كلام المتكلم ويكون ذلك بقوة يحدثها الله تعالى في المتهيء لذلك يخفى عن الأسماع والأبصار فعنه جوابان: أحدهما: أن الصدى يحكي كلاما مسموعا إذا قابله قبل صوته فحكاه وليس كلام البهيمة مقابلا لكلام يحكيه فامتنع التشاكل. والثاني: أن القوة المهيأة ليست من جنس قوى البشر فلا يكون في التفاضل إعجاز وإنما هي خارجة عن جنس قواهم فخرج عن قدرتهم، وما خرج عن قدرة البشر كان معجزا لو صح هذا الإعتراض لبطل به الإعتراض.

_ (8) سورة آل عمران الآية (193) .

الباب الرابع عشر في ظهور معجزه صلى الله عليه وسلم من الشجر والجماد ولئن كانت المعارف من الجمادات أبعد والكلام منها أغرب فليس بمستعد ولا مستغرب أن يحدث الله تعالى فيها من الآيات الخارجة عن العادة ما يحج الله تعالى به من استبصر ويمد به من استنصر. فمن آياته صلى الله عليه وسلم: ما حكاه أهل النقل عن علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه أنه خطب على الناس خطبته المعروفة بالناصعة، فقال فيها: الحمد لله الذي هو العالم بمضمرات القلوب ومحجوبات الغيوب أيها الناس اتقوا الله ولا تكونوا لنعمه عليكم أضدادا ولا لفضله عندكم حسادا ولا تطيعوا أساس الفسوق وأحلاس العقوق فإن الله تعالى مختبر عباده المستكبرين في أنفسهم بأوليائه المستضعفين في أعينهم، ألا ترون أنه اختبر الأولين من لدن آدم إلى الآخرين من هذا العالم بأنواع الشدائد وتعبدهم بألوان المجاهد ليجعل ذلك أبوابا فتحا إلى فضله وأسبابا دللا «1» لعفوه فاحذروا ما نزل بالأمم قبلكم من المثلات «2» بسوء الأفعال وذميم الأعمال أن تكونوا أمثالهم فلقد كانوا على أحوال مضطربة وأيد مختلفة وجماعة متفرقة في بلاء أزل وأطباق جهل من بنات موؤدة وأصنام معبودة وأرحام مقطوعة وغارات مشنونة فانظروا إلى مواقع نعم الله

_ (1) دللا: ج دال: مرشد. (2) المثلات ج المثلة: العقوبة التي لعظمها تصبح مثلا.

عليهم حين بعث اليهم رسولا كيف نشرت النعمة عليهم جناح كرامتها وأسالت لهم جداول نعيمها فهم حكام على العالمين وملوك في أطراف الأرضين يملكون الأمور على من كان يملكها عليهم ويمضون الأحكام على من كان يمضيها فيهم ولقد كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أتاه الملأ من قريش فقالوا: يا محمد! إنك قد ادعيت عظيما لم يدعه أباؤك ولا أحد من أهل بيتك ونحن نسألك أمرا إن أجبتنا إليه وأريتناه علمنا أنك نبي ورسول وإن لم تفعل علمنا أنك ساحر كذاب، قال لهم: «وما تسألون» ؟ قالوا: تدعو لنا هذه الشجرة حتى تنقلع بعروقها وتقف بين يديك، فقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله على كل شيء قدير فإن فعل الله ذلك لكم أتؤمنون وتشهدون بالحق» ؟ قالوا: نعم، قال: «فإني سأريكم ما تطلبون وإني لأعلم أنكم لا تفيئون إلى خير وأن منكم من يطرح في القليب ومن يحزب الأحزاب» ، ثم قال: «أيتها الشجرة إن كنت تؤمنين بالله واليوم الآخر وتعلمين أني رسول الله فانقلعي بعروقك حتى تقفي بين يديّ بإذن الله تعالى» ، قال علي رضي الله تعالى عنه: فو الذي بعثه بالحق لانقلعت بعروقها وجاءت ولها دوي شديد وقصف كقصيف أجنحة الطير حتى وقفت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم مرفرقة وألقت بعضها الأعلى عليه وببعض أغصانها على منكبيّ وكنت عن يمينه، فلما نظر القوم إلى ذلك قالوا علوا واستكبارا فمرها فليأتك نصفها ويبقى نصفها، فأمرها بذلك فأقبل نصفها كأعجب إقبال وأشده دويا فكادت تلتف برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا كفرا وعتوّا، فمر هذا النصف فليرجع إلى نصفه كما كان، فأمره فرجع، فقلت أنا: لا إله إلا الله فأنا أول مؤمن بك يا رسول الله وأول من أقر بأن الشجرة فعلت ما فعلت بأمر الله تعالى تصديقا لنبوتك وإجلالا لكلمتك، فقال القوم كلهم: با ساحر كذاب عجيب السحر خفيف فيه وهل يصدقك في أمرك هذا إلا مثل هذا- بعنونني- وهذا حكاه خطيبا على الإشهاد وقل أن يخلو جمع مثله ممن يعرف حق ذلك من باطله فكانوا بالموافقة مجمعين على صحته ولولاه لظهر الرد وإن ندر وهذا من أبلغ آيه وأظهر إعجاز له. ومن آياته صلى الله عليه وسلم: ما رواه عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد هل من آية فيما تدعو إليه؟ قال: «نعم، ائت تلك الشجرة فقل لها: رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك، فمالت عن يمينها ويسارها

وبين يديها فتقطعت عروقها ثم جاءت تخد «3» الأرض حتى وقفت بين يديه» فقال الأعرابي: مرها لترجع إلى منبتها، فأمرها فرجعت إلى منبتها، فقال الأعرابي: أئذن لي أسجد لك، فقال:» لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها» ، قال: فائذن لي أن أقبل يديك ورجليك، فأذن له. ومن آياته صلى الله عليه وسلم: ما رواه يعلى بن شبابة قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير فأراد أن يقضي حاجته فأمر وديتين فانضمت إحداهما إلى الأخرى ثم أمرهما بعد قضاء حاجته أن يرجعا إلى منبتهما فرجعتا. ومن آياته صلى الله عليه وسلم: ما رواه علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة فخرج في بعض نواحيها فما استقبله شجر ولا جبل إلا قال: السلام عليك يا رسول الله. ومن آياته صلى الله عليه وسلم: أنه مر في غزوة الطائف في كثيف من طلح فمشى وهو وهو وسن من النوم فاعترضته سدرة «4» فانفرجت السدرة له بنصفين فمر بين نصفيها، وبقيت السدرة منفرجة على ساقين إلى قريب من أعصارنا هذه، وكانت معروفة بذلك في مكانها يتبرك بها كل مارّ ويسمونها سدرة النبي صلى الله عليه وسلم. ومن آياته صلى الله عليه وسلم: ما رواه سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال: صعد النبي صلى الله عليه وسلم حراء ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعبد الرحمن والزبير وطلحة وسعيد فتحرك الجبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اسكن حراء فليس عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد» ، فسكن الجبل. ومن آياته صلى الله عليه وسلم: ما رواه جابر بن عبد الله قال: كان في رسول الله صلى الله عليه وسلم خصال لم يكن يمر في طريق فيتبعه أحد إلا عرف أنه قد سلكه من طيب عرفه، ولم يكن يمر بحجر ولا شجر إلا سجد له. ومن آياته صلى الله عليه وسلم: ما رواه ثابت عن أنس قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم

_ (3) تخد الأرض: تشقها وتجعل فيها مثل الأخدود. (4) السدرة: شجرة النبق.

فأخذ كفا من حصا فسبحن في يده حتى سمعنا التسبيح ثم صبهن في يد أبي بكر فسبحن في يده حتى سمعنا التسبيح ثم صبهن في أيدينا فما سبحن في أيدينا. ومن آياته صلى الله عليه وسلم: «ما رواه جابر بن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لأعرف حجرا من مكة كان يسلّم عليّ» . ومن آياته صلى الله عليه وسلم: أن عكاشة بن محصن انقطع سيفه بيده يوم بدر فدفع إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعة من خشب وقال: «قاتل بها الكفار يا عكاشة» ، فتحولت سيفا في يده، فكان يقاتل به بحتى قتله طليحة في الردة. ومن آياته صلى الله عليه وسلم: أنه كان يخطب إلى جذع كان يستند إليه، فلما اتخذ منبرا تحول عن الجذع إليه، فحن إليه الجذع حتى ضمه إليه فسكن. ومن آياته صلى الله عليه وسلم: أن مكرزا العامري أتاه فقال: هل عندك من برهان نعرف به أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا بتسع حصيات فسبحن في يده فسمع نغماتها من جمودتها، وهذا أبلغ من إحياء عيسى للموتى. ومن آياته صلى الله عليه وسلم: أنه لما حاصر الطائف سموا له جذعة فكلمه منها الذراع، فقالت: لا تأكلني فإني مسمومة، وهذا نظير إحياء الموتى. ومن آياته صلى الله عليه وسلم: أنه أول ما أوحي إليه لم يمر بحجر ولا مدر إلا سلّم عليه بالنبوّة، وهذا نظير قول الله تعالى لداود: يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ «5» . ومن آياته صلى الله عليه وسلم: ما رواه حمزة بن عمرو الأسلمي قال: نفرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة ظلماء فأضاءت أصابعه. ومن آياته صلى الله عليه وسلم: ما رواه إبراهيم بن علقمة عن عبد الله بن مسعود قال: إنكم تعدون الآيات عذابا وإنا كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بركة، لقد كنا نأكل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الطعام ونحن نسمع تسبيح الطعام. فإن قيل: فقد يجوز أن يتخيل ذلك للناظر كما يتخيل لراكب السفينة سير

_ (5) سورة سبأ الآية (10) .

النخل والشجر، فعنه جوابان: أحدهما: أنه وإن تخيل ذلك لراكب السفينة فهو غير متخيل لغيره من قائم وقاعد وهذا متحقق عند كل مشاهد على اختلاف أحواله. والثاني: أن راكب السفينة يعلم أنه تخيل له غير معلوم وهذا معلوم غير متخيل. وإن قيل: فقد يجوز أن يكون في خواص الجواهر ما يجذب النخل والشجر كما في خاص حجر المغناطيس أن يجذب الحديد فعنه جوابان: أحدهما: أنه قد علم خاصية حجر المغناطيس وظهر ولم يعلم ذلك في غيره فلم يوجد ولو كان ذلك موجودا لكان الملوك عليه أقدر ولكان مذخورا في خزائنهم كإدخار كل مستغرب ومستظرف ولجاز ادعاء مثله في قلب الأعيان وإبطال الحقائق. والثاني: أنه لو كان ذلك لخاصية الجوهر جاذبا كان بظهوره جاذبا وبملاقاته للنخل والشجر فاعلا ولا ينقل إليه عن غيره وكل هذا فيه معدوم وإن كان في حجر المغناطيس موجودا.

الباب الخامس عشر في بشائر الأنبياء عليهم السلام بنبوته صلى الله عليه وسلم إن لله تعالى عونا على أوامره وإغناء عن نواهيه فكان أنبياء الله تعالى معانين على تأسيس النبوّة بما تقدمه من بشائرها وتبديه من أعلامها وشعائرها ليكون السابق مبشرا ونذيرا واللاحق مصدقا وظهيرا فتدوم بهم طاعة الخلق وينتظم بهم استمرار الحق وقد تقدمت بشائر من سلف من الأنبياء بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم مما هو حجة على أممهم ومعجزة تدل على صدقه عند غيرهم بما أطلعه الله تعالى على غيبه ليكون عونا للرسول وحثا على القبول. فمن ذلك بشائر موسى عليه السلام في التوراة: فأولها؛ في الفصل التاسع من السفر الأول (لما هربت هاجر من سارة تراءى لها ملك وقال: يا هاجر أمة سارة ارجعي إلى سيدتك فاخضعي لها، فإن الله سيكثر زرعك وذريتك حتى لا يحصون كثرة، وها أنت تحبلين وتلدين إبنا وتسميه إسماعيل لأن الله تعالى قد سمع خشوعك وهو يكون عين الناس وتكون يده فوق الجميع ويد الجميع مبسوطة إليه بالخضوع وهذا لم يكن في ولد إسماعيل إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم كانوا قبله مقهورين فصاروا به قاهرين) . ومنها: قوله في هذا السفر لإبراهيم حين دعاه في إسماعيل (وباركت عليه وكثرته وعظمته جدا جدا وسيلد اثنى عشر عظيما وأجعله لأمة عظيمة) وليس في ولد إسماعيل من جعله لأمة عظيمة غير محمد صلى الله عليه وسلم. ومنها: في الفصل الحادي عشر من السفر الخامس عن موسى عليه

الباب الحادي عشر فيما أكرم به صلى الله عليه وسلم من إجابة أدعيته

السلام (إن الرب إلهكم قال إني أقيم لهم نبيا مثلك من بين إخوتهم أجعل كلامي على فمه فأيما رجل لم يسمع كلماتي التي يؤديها عني ذلك الرجل باسمي فأنا أنتقم منه) ومعلوم أن أخا بني إسرائيل هم بنو إسماعيل وليس منهم من ظهر كلام الله تعالى على فمه غير محمد صلى الله عليه وسلم «1» . ومنها: في الفصل العشرين من هذا السفر (أن الرب جاء من طور سيناء وأشرق من ساعير واستعلى من جبال فاران ومعه عن يمينه ربوات جيش القديسين فمنحهم إلى الشعوب ودعا لجميع قديسيه بالبركة) فمجيء الله تعالى من طور سيناء هو إنزاله التوراة على موسى، وإشراقه من ساعير إنزاله الإنجيل على عيسى لأنه كان في ساعير أرض الخليل في قرية ناصرة، واستعلاؤه من جبال فاران إنزاله القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم وفاران هي جبال في مكة في قول الجميع، فإن ناكروا كان دفعا لما في التوراة ولأنه لم يستعل الدين كاستعلائه منها فاندفع الإنكار بالعيان. فصل من البشائر به كان بين موسى وعيسى من الأنبياء الذين أوتوا الكتاب باتفاق أهل الكتابين عليهم ستة عشر نبيا ظهرت كتبهم في بني إسرائيل فبشر كثير منهم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم. فمنهم: شعيا «2» بن أموص قال في الفصل الثاني والعشرين (قومي فأزهري مصباحك) يعني مكة (فقد دنا وقتك وكرامة الله طالعة عليك فقد تجلل الأرض الظلام وغطى على الأمم الضباب والرب يشرق عليك إشراقا ويظهر كرامته عليك فتسير الأمم إلى نورك والملوك إلى ضوء طلوعك ارفعي

_ (1) لأن القرآن وحده من بين الكتب السماوية قد انزل من لدنه تعالى لفظا ومعنى. وقد قال عن نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى، لتفاصيل أوفى في هذا الباب يمكن للقارىء الكريم الرجوع إلى كتابنا «قصص القرآن الكريم» . (2) سفر إشعياء.

بصرك إلى ما حولك وتأملي فإنهم يستجمعون عندك ويحجونك ويأتيك ولدك من بعيد وتسرين وتبتهجين من أجل أنه يميل إليك ذخائر البحر ويحج إليك عساكر الأمم حتى تعمرك الإبل المؤبلة وتضيق أرضك عن القطرات التي تجمع إليك ويساق إليك كباش مدين ويأتيك أهل سبأ يحدثون بنعم الله ويمجدونه وتسير إليك أغنام قاذار) يعني غنم العرب لأنهم من ولد قاذار «3» بن إسماعيل (ويرتفع إلى مديحي ما يرضينني وأحدث حينئذ لبيت محمدتي حمدا) وهذه الصفات كلها موجودة بمكة فكان ما دعا إليها هو الحق ومن قام بها هو المحق. وفي فصل آخر من كتابه: (قال لي الرب فامض فاقم على المنظرة تخبرك بما ترى فرأى راكبين أحدهما راكب حمار) يعني عيسى (والآخر راكب جملا) يعني محمدا (فبينما هو كذلك إذ أقبل أحد الراكبين وهو يقول هوت بابل وتكسرت آلهتها المنجورة على الأرض فهذا الذي سمعت الرب إله إسرائيل قد أنبأتكم) . وفي الفصل «4» السادس عشر منه (لتفرح أرض البادية العطشى بمنتهج البراري والفلوات ولتسر وتزهو مثل الوعل فإنها بأحمد محاسن لبنان، ويكمل حسن الدساكر والرياض وسترون جلال الله تعالى بها) قال شعيا وسلطانه على كتفه يريد علامة نبوته على كتفه. وهذه صفة محمد صلى الله عليه وسلم وبادية الحجاز. وفي الفصل التاسع عشر منه: (هتف هاتف من البدو فقال خلوا الطريق للرب وسهلوا سبيل الهنا في القفر فستمتلىء الأودية مياها وتفيض فيضا وتنخفض الجبال والروابي انخفاضا وتصير الآكام «5» دكاكا، والأرض الوعرة مذللة ملسا، وتظهر كرامات الرب ويراها كل أحد. وفي الفصل العشرين منه وهو مذكور في ثلاث وخمسين ومائة من مزامير داود: (لترتاح البوادي وقراها، ولتصير أرض قاذار مروجا، ويسيح سكان

_ (3) قيدار أو قيذار على اختلاف الروايات. (4) الفصل هو ما نسميه تبعا لتسميتهم الإصحاح حيثما استشهدنا به أو ذكرناه. (5) الآكام: التلال والجبال.

ومن بشائر نوال بن نوتال من أنبياء بني إسرائيل

الكهوف ولتهتفوا من قلال الجبال بمحمد الرب وليرفعوا تسابيحه، فإن الرب يأتي كالجبار الملتظي المتكبر وهو يزجر ويقتل أعداءه) وأرض قاذار هي أرض العرب لأنهم ولد قاذار. والمروج ما صار حول مكة من النخل والشجر والعيون. وفي الفصل الحادي والعشرين منه أيضا: (أن الضعفاء والمساكين يستسقون ماء ولا ماء لهم فقد جفت ألسنتهم من الظمأ وأنا الرب أجيب يومئذ دعوتهم ولن أهملهم بل أفجر لهم في الجبال الأنهار وأجري بين القفار والعيون وأحدث في البدو أجساما وأجري في الأرض العطشى ماء معينا وأنبت في البلاقع القفار الصنوبر والآس والزيتون وأغرس في القاع الصفصف البر ليروها جميعا ثم يتدبروا ويعلموا أن يد الله صنعت ذلك وقدوس إسرائيل ابتدعه) وهذه صفات بلاد العرب فيما أحدث الله تعالى لهم فيها بإسلامهم ومن بشائر نوال بن نوتال «6» من أنبياء بني إسرائيل مثل الصبح المسلط على الجبال شعب عظيم عزيز لم يكن مثله قط ولا يكون بعده مثله إلى أبد الأبد، أمامه نار تتأجج وخلفه لهيب وتلتهب الأرض بين يديه مثل فردوس عدن فإذا جاز فيها وعبرها تركها برية خاوية رؤيته كرؤية الجبل رجالته فر سراع مثل الفرسان أصواتهم كصوت لهب النار الذي يحرق الهشيم رجفت الأرض أمامهم وتزعزعت السماء وأظلمت الشمس وغاب نور النجوم والرب أسمع صوتا بين يدي أجناده لأن عسكره كثير جدا وعمل قوله عزيز لأن نور الرب عظيم مرهوب جدا) وهذا نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم. من بشائر عويديا «7» من أنبياء بني إسرائيل وفي كتابه: (قد سمعنا خبرا من قبل الرب وأرسل رسولا إلى الشعوب ثم

_ (6) هو يوئيل بن فثوئيل، والمقطع المذكور هنا هو من الإصحاح الثاني من سفره المذكور في أسفار إسرائيل مع خلاف بسيط بالترجمة دون اختلاف في المعنى. من العدد (2) إلى (11) . (7) وسفره إصحاح واحد والعبارة الواردة من أوله.

من بشائر ميخاء من أنبياء بني إسرائيل في كتابه

يتقدم إليه بالحرب أيها الساكن في بحر الكهف ومحله في الموضع الأعلى لأن يوم الرب قريب من جميع الشعوب) . فهذا مرموز في نبوّته. من بشائر ميخاء «8» من أنبياء بني إسرائيل في كتابه (فأما الآن فسيتسلم إلى الوقت الذي تلد فيه الوالدة ويقوم فيرعاهم) يعني الرب (وبكرامة اسم الله ربه ويقبلون بهم إلى من سيعظم سلطانه إلى أقطار الأرض ويكون على عهده الإسلام) . من بشائر حبقوق «9» من أنبياء بني إسرائيل (جاء الله من طور سيناء واستعلن القدوس من جبال فاران وانكسفت لبهاء محمد وانخسفت من شعاع المحمود وامتلأت الأرض من محامده لأن شعاع منظره مثل النور يحفظ بلده بعده وتسير المنايا أمامه وتصحب سباع الطير أجناده قام فمسح الأرض وبحث عنهم فتصفصفت الجبال القديمة واتضعت الروابي الدهرية وتزعزع سور أرض مدين ولقد جاز المساعي القديمة قطع الرأس من حب الأثيم ودمغت رؤوس سلاطينه بغضبه) ومعلوم أن محمدا ومحمودا صريح في اسمه وهما يتوجهان إلى من انطلق عليه اسم المحمد وهو بالسريانية موشيحا أي محمد ومحمود ولهذا إذا أراد السرياني أن يحمد الله تعالى قال شريحا لإلهنا. من بشائر حزقيال «10» من أنبياء بني إسرائيل في كتابه: (إن الذي يظهر من البادية فيكون فيه حتف اليهود كالكرمة أخرجت ثمارها وأغصانها عن مياه كثيرة وتفرعت منها أغصان مشرقة على

_ (8) سفر ميخا والعبارتان من الإصحاح الخامس. (9) المقطع المذكور هو من سفر حبقوق الإصحاح الثالث. وفي الترجمة التي بين أيدينا يبدأ المقطع بالقول: «الله جاء من تيمان والقدوس من جبل فاران إلخ..» والقدوس هنا هو المحمّد أو المحمود. (10) وفي سفر حزقيال بشارات عديدة بالرسول الكريم غير هذه أيضا.

من بشائر يرصفينا من أنبياء بني إسرائيل

أغصان الأكابر والسادات وبسقت فلم تلبث تلك الكرمة أن قلعت بالسخطة وضرب بها على الأرض فأخرجت ثمارها وأتت نار فأكلتها فكذلك غرس في البدو وفي الأرض المهملة العطشى وخرج من أغصانه الفاضلة نار فأكلت ثمار تلك حتى لم يبق منها عصا قوية ولا قضيب ينهض بأمر السلطان) . من بشائر يرصفينا «11» من أنبياء بني إسرائيل في كتابه: (أيها الناس ترجوا اليوم الذي أقوم فيه للشهادة فقد حان أن أظهر حكمي بحشر الأمم وجميع الملوك لأصب عليهم سخطي وتكبري، هناك أجدد للأمم اللغة المختارة ليرفعوا اسم الرب جميعا وليعبدوه في ربقة واحدة معا وليأتوا بالذبائح من مغاراتها تكون) ومعلوم أن اللغة العربية هي المختارة لأنها طبقت الأرض وانتقلت أكثر اللغات إليها حتى صار ما عداها نادرا. من بشائر زكريا «12» بن يوحنا من أنبياء بني إسرائيل في كتابه: (رجع الملك الذي ينطق على لساني وأيقظني كالرجل الذي يستيقظ من نومه وقال لى: ما الذي رأيت، فقلت: منارة من ذهب وكفة على رأسها ورأيت على الكفة سبعة سرج لكل سراج منها سبعة أفواه وفوق الكفة شجرتا زيتون إحداهما عن يمين الكفة والأخرى عن يسارها، فقلت للملك الذي ينطق على لساني: ما هذه يا سيدي، فرد الملك عليّ وقال لي: أما تعلم ما هذه؟ فقلت: ما أعلم، فقال لي: هذا قول الرب في زربايال) يعني محمدا (وهو يدعى باسمي وأنا أستجيب له للنصح والتطهير وأصرف عن الأرض أنبياء الزور والأرواح النجسة لا بقوة ولا بعز ولكن بروحي، بقول الرب القوي) ويعني بشجرتي الزيتون، الدين والملك، وزربايال هو محمد صلى الله عليه وسلم. من بشائر دانيال من أنبياء بني إسرائيل في كتابه: (رأيت على سحاب السماء المسمى كهيئة إنسان جاء فانتهى

_ (11) هو سفر صفينا، والمقطع المذكور من الإصحاح الثالث من العدد 8 وما بعد. (12) هو آخر أسفار اليهود المسماة العهد القديم.

من بشائره في رؤيا بختنصر

إلى عتيق الإمام وقدموه بين يديه فحوله الملك والسلطان والكرامة أن تعبد له جميع الشعوب والأمم واللغات سلطانه دائم إلى الأبد له يتعبد كل سلطان ويمضي ألفان وثلثمائة ينقضي عقاب الذنوب يقوم ملك منيع الوجه في سلطانه عزيز القوة لا تكون عزته تلك بقوة نفسه وينجح فيما يريد ويجوز في شعب الاطهار ويهلك الأعزاء ويؤتى بالحق الذي لم يزل قبل العالمين) وفي هذا دليل على أمرين: أحدهما: صدق الخبر لوجوده على حقه. والثاني: صحة نبوّته لظهور الخبر في صحته. من بشائره في رؤيا بختنصر «13» وهو أن بختنصر رأى في السنة الثانية من ملكه رؤيا ارتاع منها ونسيها، فأحضر من في ممالكه من الكهنة والمنجمين وكان قد ملك الأقاليم السبعة، وسألهم عن الرؤيا وتأويلها، فقالوا له: اذكرها لنا حتى نذكر تأويلها لك، فأمر بقتلهم إن لم يذكروها وتأويلها. وكان دانيال النبي قد سباه من اليهود فاستمهل في أمرهم ورغب إلى الله تعالى في اطلاعه على الرؤيا وتأويلها، فأطلعه الله تعالى على ذلك، فأتى بختنصر وقال: أيها الملك إنك كلفت هؤلاء ما لا يعلمه إلا الله وقد رغبت إليه فأطلعني عليه ورؤياك التي رأيتها أن قلبك جاش واختلج بما يحدث بعدك في آخر الزمان فعرفك مبدي السرائر ما يكون أنك أيها الملك رأيت صنما عظيما قائما قبالتك له منظر رائع رأسه من الذهب الابريز وصدره وذراعاه من فضة وفخذاه من نحاس وساقاه من حديد وبعض رجليه من حديد وبعضها من خزف، ورأيت حجرا انقطع من جبل عظيم بغير يد إنسان فضرب ذلك الصنم فهشمه حتى صار كالرماد ألوت به ريح عاصف حتى لم يعرف له مكان ثم عظم الحجر الصلد الذي صك الصنم حتى صار جبلا عظيما امتلأت منه الأرض كلها، فهذه الرؤيا وأنا معبرها، أما الصنم فهم الملوك فأنت الرأس الذهب ويقوم من

_ (13) سفر دانيال.

من بشائر أرميا بن برخنا من أنبياء بني إسرائيل في أيام بختنصر

بعدك من هو دونك ألين منك. فأما المملكا الثالثة التي هي مثل النحاس فتسقط على الأرض كلها وأما المملكة الرابعة التي هي مثل الحديد فتكون عزيزة كما أن الحديد يهشم الجميع فكذلك هذه تسحق وتغلب الكل. وأما الأرجل والأصابع التي رأيت أن منها من خزف الفخار ومنها من حديد فإن المملكة تكون مختلفة ومتفرقة يكون منها أصل من جوهر الحديد وخلط من خزف الفخار فيكون بعض المملكة قويا وبعضها واهيا كسيرا لا يأتلف بعضها ببعض كما لا يختلط الحديد بالخزف. وأما الحجر الواقع من الجبل فإن إله السماء يرسل مملكة من عنده لأنه لم تقطع الحجر يد إنسان في زمان هذه الممالك يهلكها ويبقى إلى آخر الدهر ولا يكون لأمة أخرى مملكة ولا سلطان إلا دقه كما يدق الحجر الحديد والنحاس والفضة والذهب فعرّفك الله العظيم ما يكون بعدك في آخر الأيام، فهذه رؤياك وتأويلها. فخر بختنصر على وجهه ساجدا لدانيال وقال: إن إلهكم هذا هو إله الآلهة ورب الأملاك حقا وهو مبدي السرائر، وجعل دانيال رأسا مؤمرا على أرض بابل، ومعلوم أنه لم يرسل الله تعالى سلطانا أزال به الممالك وملأ به الأرض ودام له الأمر إلا بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم. من بشائر أرميا بن برخنا من أنبياء بني إسرائيل في أيام بختنصر لما قتل أهل الرس نبيهم، قال ابن عباس: أمر الله تعالى أن يأمر بختنصر أن يغزو العرب الذين لا أغلاق لبيوتهم فيقتلهم بما صنعوا بنبيهم، فأمره بذلك فدخل بختنصر بلاد العرب، فقتل وسبى حتى انتهى إلى تهامة فأتى بمعد بن عدنان فأمر بقتله، فقال له النبي: «لا تفعل فإن في صلب هذا نبيا يبعث في آخر الزمان يختم الله به الأنبياء» ، فخلى سبيله وحمله معه حتى أتى حصونا باليمن فهدمها وقتل أهلها وزوّج معدا بأجمل امرأة منهم في زمانها وخلفه بتهامة حتى نسل بها، قال ابن عباس: وفي ذلك نزل قوله تعالى: وَكَمْ

من بشائر داود في الزبور

قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ «14» . من بشائر داود في الزبور (سبحان الذي هيكله الصالحون يفرح إسرائيل بخالقه وبيوت صيلون من أجل أن الله اصطفى له أمته وأعطاه النصر وسدد الصالحين منه بالكرامة يسبحونه على مضاجعهم ويكّبرون الله بأصوات مرتفعة بأيديهم سيوف ذوات شفرتين لينتقموا من الأمم الذين لا يعبدونه يوثقون ملوكهم بالقيود وأشرافهم بالأغلال) . ومعلوم أن سيوف العرب هي ذوات الشفرتين ومحمد هو المنتقم بها من الأمم. وفيه: (أن الله أظهر من صيفون أكليلا محمودا) وصيفون: العرب، والأكليل: النبوة، ومحمود هو محمد صلى الله عليه وسلم. وفي مزمور آخر منه: (أنه يجوز من بحر إلى بحر ومن لدن الأنهار إلى الأنهار إلى منقطع الأرض وأن تخر أهل الجزائر بين يديه على ركبهم وتلحس أعداؤه التراب، تأتيه الملوك بالقرابين وتسجد وتدين له الأمم بالطاعة والانقياد لأنه يخلص المضطهد البائس ممن هو أقوى منه وينقذ الضعيف الذي لا ناصر له ويرأف بالضعفاء والمساكين وأنه يعطى من ذهب بلاد سبأ ويصلى عليه في كل وقت ويبارك عليه في كل يوم ويدوم ذكره إلى الأبد) . ومعلوم أنه لم يكن هذا إلا لمحمد صلى الله عليه وسلم. وفي مزمور آخر: قال داود: اللهم ابعث جاعل السنّة حتى يعلم الناس أنه بشر، أي ابعث نبيا يعلم الناس أن المسيح بشر لعلم داود أن قوما سيدعون في المسيح ما ادعوه، وهذا هو محمد صلى الله عليه وسلم. من بشائر المسيح به في الإنجيل قال المسيح عليه السلام للحواريين: (أنا ذاهب وسيأتيكم البار قليط روح الحق الذي لا يتكلم من قبل نفسه إلا كما يقال له وهو يشهد عليّ وأنتم

_ (14) سورة الأنبياء الآية (11) .

تشهدون لأنكم معي من قبل الناس وكل شيء أعده الله لكم يخبركم به) . وفي نقل يوحنا عنه: (أن البار قليط لا يجيئكم ما لم أذهب فإذا جاء وبخ العالم على الخطيئة ولا يقول من تلقاء نفسه شيئا ولكنه مما يسمع به يكلمكم ويسوسكم بالحق ويخبركم بالحوادث والغيوب) . وفي نقل آخر عنه: (أن البار قليط روح الحق الذي يرسله باسمي هو يعلمكم كل شيء إني سائل أن يبعث إليكم بار قليط آخر يكون معكم إلى الأبد وهو يعلمكم كل شيء) . وفي نقل آخر عنه: (أن البشير ذاهب والبار قليط بعده يحيي لكم الأسرار ويقيم لكم كل شيء وهو يشهد لي كما شهدت له فإني لأجيئكم بالأمثال وهو يأتيكم بالتأويل) . والبار قليط بلغتهم لفظ من الحمد، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: وأنا أحمد وأنا محمود وأنا محمد. فهذه من بشائر الأنبياء عن الكتب الإلهية المتناصرة بصحة نبوته المتواترة الأخبار بانتشار دعوته وتأييد شريعته، ولعل ما لم يصل إلينا منها أكثر، فمنهم من عيّنه باسمه، ومنهم من ذكره بصفته، ومنهم من عزاه إلى قومه، ومنهم من أضافه إلى بلده، ومنهم من خصه بأفعاله، ومنهم من ميزه بظهوره وانتشاره، وقد حقق الله تعالى جميعها فيه حتى صار جليا بعد الاحتمال ويقينا بعد الارتياب. فإن قيل: مجيء الأنبياء موضوع لمصالح العالم وهم مأمورون بالرأفة والرحمة ومحمد جاء بالسيف وسفك الدماء وقتل النفوس فصار منافيا لما جاء به موسى وعيسى فزال عن حكمهما في النبوّة لمخالفتهما في السيرة فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها: ان الله تعالى بعث كل نبي بحسب زمانه، فمنهم من بعثه بالسيف لأن السيف أنجع، ومنهم من بعثه باللطف لأن اللطف أنفع، كما خالف بين معجزاتهم بحسب أزمانهم، فبعث موسى بالعصا في زمان السحر، وبعث عيسى بإحياء الموتى في زمان الطب، وبعث محمد بالقرآن في زمان الفصاحة، لأن الناس في بدء أمرهم يتعاطفون مع القلة ثم يتنافرون

ويتحاسدون مع الكثرة، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نجا أول هذه الأمة باليقين والزهد ويهلك آخرها بالبخل والأمل» . والجواب الثاني: أن السيف إذا كان لطلب الحق كان خيرا، واللطف إذا كان مع إقرار الباطل كان شرا لأن الشرع موضوع لإقرار الفضائل الإلهية والحقوق الدينية، ولذلك جاء الشرع بالقتل والحدود ليستقر به الخير وينتفي به الشر لأن النفوس الأشرة لا يكفها إلا الرهبة فكان القهر لها أبلغ في انقيادها من الرغبة وكانت العرب أكثر الناس شرا وعتوا لكثرة عددهم وقوة شجاعتهم فلذلك كان السيف فيهم أنفع من اللطف. والجواب الثالث: أنه لم يكن في جهاده بالسيف بدعا من الرسل ولا أول من أثخن في أعداء الله تعالى. وقبل هذا إبراهيم عليه السلام جاهد الملوك الأربعة الذين ساروا إلى بلاد الجزيرة للغارة على أهلها وحاربهم حتى هزمهم بأحزابه وأتباعه. وهذا يوشع بن نون قتل نيفا وثلاثين ملكا من ملوك الشام وأباد من مدنها ما لم يبق له أثر ولا من أهلها صافر من غير أن يدعوهم إلى دين أو يطلب منهم أتاوة وساق الغنائم. وغزا داود من بلاد الشام ما لم يدع فيها رجلا ولا امرأة إلا قتلهم، وهو موجود في كتبهم. ومحمد صلى الله عليه وسلم بدأ بالاستدعاء وحارب بعد الآباء. روى ابن شهاب عن عروة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم متنصرا من مظلمة ظلمها قط ما لم ينتهك من محارم الله تعالى شيء فإذا انتهك من محارم الله تعالى شيء كان أشدهم في ذلك غضبا وما خيّر بين أمرين، إلّا اختار أيسرهما ما لم يكن مأثما، وقد كان صلى الله عليه وسلم أحث الناس على الصفح والتعاطف. روى أسيد بن عبد الرحمن عن فروة بن مجاهد عن عقبة بن عامر قال: لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: يا عقبة صل من قطعك وأعط من حرمك واعف

عمن ظلمك، فهل يكون أحنى على الخلق ممن يأمرهم بمثل هذا، وإنما تطلبت الملحدة بمثل هذا الأعتراض القدح في النبرّات فإنهم لم يعفوا نبيا من القدح في معجزاته والطعن على سيرته حتى قال منهم في عصرنا ما طعن به على موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم عليهم بشعر نظمه فقال: وفالق البحر لم يفلق جوانبه ... إذ ضاع فيه ضياع الحر في السفل ومدع يدعي الأشياء خلقته ... ما باله زال والأشياء لم تزل وآخر يدعي بالسيف حجته ... هل حجة السيف إلّا حجة البطل فحضرني حين وردت هذه الأبيات إلى بعض أهل العلم فأجاب عنها فقال: قل للذي جاء بالتكذيب للرسل ... ورد معجزهم بالزيغ والدغل وقال في ذاك أبياتا مزخرفة ... ليوقع الناس في شك من الملل ضياع موسى دليل من أدلته ... من بعد ما صار فرق البحر كالجبل ليعلم الناس أن الله فالقه ... وأن موسى ضعيف تاه في السبل والمعجز الحق في فلق المياه له ... وجعله البر ما يحتاط بالحيل وابن البتول فإن الله نزهه ... عما ذكرت من الدعوى على الجمل ما كان منه سوى طير يقدره ... طينا وربي أحياه ولم يزل وقال إني بإذن الله فاعله ... وإذن ربي يحيي الخلق لا عملي وصاحب السيف كان السيف حجته ... بعد البيان عن الإعجاز والمثل وجاء مبتديا بالنصح مجتهدا ... بمعجزات لها حارت أولو النحل منها كتاب مبين نظمه عجب ... فيه من الغيب ما أوحى إلى الرسل فأفحم الشعراء الملفقين به ... لما تحداهم بالرفق في مهل وأنبع الماء عذبا من أنامله ... من غير صخرة كانت ولا وشل وشارف القوم وافاداه وكلمه ... وقال أنى من قتلي على وجل والذئب قد أخبر الراعي بمبعثه ... فجاء يشهد في الإسلام في عجل والجذع حن إليه حين فارقه ... حنين ذات جؤار ساعة الهبل وأخبر الناس عما في ضمائرهم ... مفصلا بجواب غير محتمل

ونبأ الروم من نصر يكون لها ... من بعد سبعة أعوام على جدل والفرس أخبرها عن قتل صاحبها ... برويز إذ جاءه فيروز في شغل وإن تقصيت ما جاء النبي به ... طال النشيد ولم آمن من الملل

الباب السادس عشر في هتوف الجن بنبوّته صلى الله عليه وسلم والجن من العالم المميز يأكلون ويتناكحون ويتناسلون ويموتون وأشخاصهم محجوبة عن الأبصار وإن تميزوا بأفعال وآثار إلّا أن يخص الله تعالى برؤيتهم من يشاء، وإنما عرفهم الإنس من الكتب الإلهية وما تخيلوه من آثارهم الخفية قال الله تعالى فيما وصفه من إنشاء الخلق: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ، وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ «1» يريد بقوله: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ- آدم- أبا البشر عليه السلام وفي الصلصال وجهان: أحدهما: أنه الطين النابت. والثاني: أنه الطين الذي لم تمسه النارم والحمأ جمع حمأة وفيها وجهان. أحدهما: أنه المنصوب القائم فيكون صفة للإنسان. والثاني: أنه المنسوب فيكون تمييزا للجنس وقوله: وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ يعني من قبل آدم، لأن آدم خلق آخر الخلق. وفي الجان وجهان: والثاني: أنه أبو الجن فآدم أبو البشر والجان أبو الجن وإبليس أبو الشياطين وفي قوله: مِنْ نارِ السَّمُومِ «2» وجهان:

_ (1) سورة الحجر الايتان (26- 27) . (2) سورة الحجر من الآية (27) .

أحدهما: من نار الشمس. والثاني: نار الصواعق بين السماء وبين حجاب دونها فلم يختلفوا في أن الجن يتناسلون ويموتون ومنهم مؤمن ومنهم كافر. واختلف في الشياطين فزعم قوم أنهم كفار الجن يتناسلون ويموتون، وزعم آخرون أنهم غير الجن وأنهم من ولد إبليس، واختلف من قال بهذا في تناسلهم وموتهم فذهب فريق إلى أنهم يتناسلون ويموتون، وذهب آخرون إلى أنهم كإبليس لا يموتون إلّا معه وأن تناسلهم انقطع بإنظار إبليس إلى يوم يبعثون فإن أنكر قوم خلق الجن ولم يؤمنوا بالكتب الإلهية قهرتهم براهين العقول وحجج القياس لأن الله تعالى أنشأ خلق العالم من أربعة أجرام جعلها أصولا لما خلق من العالم الحي وهي الأرض والماء والهواء والنار، والعالم نوعان إتفاقا علوي وسفلي، فالعالم السفلي نوعان خلقهما من جرمين: أحدهما: من الأرض وهو ما عليها من الحيوان. والثاني: من الماء وهو ما فيه من السموك وهما هابطان لهبوط الأرض والماء وظاهران لظهور أصلهما واستمر القياس فيهما. وبقي العالم العلوي جرمان: الهواء والنار وقد استقر خلق الملائكة من الهواء فاقتضى معقول القياس أن يكون خلق الجن من النار لتكون الأجرام الأربعة أصولا لخلق أجناس أربعة. ولعلو الهواء كان عالمه من الملائكة علويا ولخفائه كان خفيا لا يهبط إلّا عن أمر إلهي ولا يعاين إلّا بمعونة إلهية. ولعلو النار في أصل هابط كان لعالمه من الجن علو وهبوط ولخفاء كمونها خفي عالمها عن العيان إلّا بمعونة إلهية فصار اصلان من الأربعة محسوسين بالعيان وهما على الأرض وفي الماء وأصلان معقولين بالقياس وهما الملائكة والجن ولولا أن دافع ذلك عادل عن الدلائل الشرعية لما عدلنا إلى هذا الاستدلال الخارج عن البراهين الشرعية.

الباب السادس عشر في هتوف الجن بنبوته صلى الله عليه وسلم

فصل [في وجوب التكليف على الجن] فإذا ثبت خلق الجن بما دللنا عليه من شرع ومعقول فهم مكلفون لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم تحداهم بالقرآن بقوله تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً «3» وقال تعالى: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ «4» وفي صرفهم وجهان: أحدهما: أنهم صرفوا عن استراق سمع السماء برجوم الشهب ولم يصرفوا عنه بعد عيسى إلا بعد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ما هذا الحادث في السماء إلا لحادث في الأرض وتخيلوا به تجديد النبوة فجابوا الأرض حتى وقفوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ببطن مكة عامدا إلى عكاظ وهو يصلي الفجر فاستمعوا القرآن ورأوه كيف يصلي ويقتدي به أصحابه فعلموا أنه لهذا الحادث صرفوا عن استراق السمع برجوم الشهب، وهذا قول ابن عباس رضي الله تعالى عنه. وحكى عكرمة أن السورة التي كان يقرؤها اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ «5» . والوجه الثاني: أنهم صرفوا عن بلادهم بالتوفيق هداية من الله تعالى حتى أتوا نبي الله ببطن نخلة فنزل عليه جبريل بهذه الآية وأخبره بوفود الجن وأمره بالخروج إليهم فخرج ومعه ابن مسعود حتى جاء الحجون عند شعيب أبي ذر قال ابن مسعود: فخط على خطا وقال: لا تجاوزه، ومضى إلى الحجون فانحدروا عليه أمثال الحجل حتى لم أره، فعلى الوجه الأول لم يعلم بهم حتى أتوه، وعلى الوجه الثاني أعلمه جبريل قبل إتيانهم، واختلف أهل العلم في رؤيته لهم وقراءته عليهم. فحكي سعيد بن جبير عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرهم ولم يقرأ

_ (3) سورة الإسراء الآية (88) . (4) سورة الأحقاف الآية (29) . (5) سورة العلق الآية (1) .

عليهم وإنما سمعوا قراءته حين مروا به مصليا. وحكي عن ابن مسعود أنه رآهم وقرأ عليهم القرآن. وفي قوله: فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا «6» وجهان: أحدهما: فلما حضروا قراءته القرآن قالوا: أنصتو لسماعه. والوجه الثاني: فلما حضروا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: أنصتوا لسماع قوله، فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين وفيه وجهان: أحدهما: فلما فرغ من الصلاة ولوا إلى قومهم منذرين به. والثاني: لما فرغ من قراءته القرآن ولوا إلى قومهم منذرين وقالوا ما حكاه الله تعالى عنهم: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً «7» في فصاحته وبلاغته. والثاني: عجبا في حسن مواعظه. وفي قوله يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ «8» وجهان: أحدهما: إلى مراشد الأمور. والثاني: إلى معرفة الله تعالى، فثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عامّ الرسالة إلى الإنس والجن فلم يختلف أهل العلم أنه يجوز أن يبعث إليهم رسولا من الإنس واختلفوا في جواز بعثة رسول منهم فجوزه قوم لقول الله تعالى: امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ «8» ومنع آخرون منه وهذا قول من جعلهم من ولد إبليس وحملوا قوله: لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ «9» على الذين لما سمعوا القرآن ولوا إلى قومهم منذرين فأما كفارهم فيدخلون النار، وأما مؤمنوهم فقد اختلفوا في دخولهم الجنة ثوابا على إيمانهم، فقال الضحاك: ومن جوّز أن يكون رسلهم منهم يدخلون الجنة.

_ (6) سورة الأحقاف الآية (29) . (7) سورة الجن الآية (1) . (8) سورة الجن الآية (2) . (9) سورة الأنعام الآية (130) .

وحكى سفيان عن ليث أنهم يثابون على الإيمان بأن يجازوا على النار خلاصا منها، ثم يقال لهم: كونوا ترابا كالبهائم، فأما استراقهم للسمع فقد كانوا في الجاهلية قبل بعث الرسول يسترقونه ولذلك كانت الكهانة في الإنس لإلقاء الجن إليهم ما استرقوه من السمع في مقاعد كانت لهم يقربون فيها من السماء كما قال الله تعالى: وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ «10» ليستمعوا من الملائكة أخبار السماء فينقلونها إلى الكهنة فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً «11» يعني بالشهب الكواكب المحرقة وبالرصد الملائكة، فأما استراقهم للسمع بعد بعث الرسول فقد اختلف فيه أهل العلم على قولين: أحدهما: أنه زال استراقهم للسمع ولذلك زالت الكهانة. والثاني: أن استراقهم باق بعد بعث الرسول، وكان قبل الرسول لا تأخذهم الشهب لقول الله تعالى: فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً «11» والذي يستمعونه أخبار الأرض دون الوحي لأن الله تعالى قد حفظ وحيه منهم لقوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ «12» . واختلف على هذا في أخذ الشهب لهم هل يكون قبل استراقهم للسمع أو بعده، فذهب بعض أهل العلم إلى أن الشهب تأخذهم قبل استراق السمع حتى لا يصل إليهم لانقطاع الكهانة بهم وتكون الشهب منعا عن استراقه. وذهب آخرون منهم إلى أن الشهب تأخذهم بعد استراقه وتكون الشهب عقابا على استراقه. وفيها: إذا أخذتهم قولان: أحدهما: أنها تقتلهم ولذلك انقطعت الكهانة بهم. والثاني: أنها تجرح وتحرق ولا تقتل ولذلك عادوا لاستراقه بعد الاحتراق ولولا بقاؤهم لانقطع الاسترقاق بعد الاحتراق ويكون ما يلقونه من السمع إلى

_ (10) سورة الجن الآية (9) . (11) سورة الجن الآية (9) . (12) سورة الحجر الآية (9)

هتوف الجن

الجن دون الإنس لانقطاع الكهانة عن الإنس وفي الشهاب الذي يأخذهم قولان: أحدهما: أنه نور يمتد لشدة ضيائه ثم يعود. والقول الثاني: أنه نار تحرقهم ولا تعود، فهذا خطب الجن فيما هم عليه من نعت وحكم. هتوف الجن «13» فأما هتوفهم برسول الله صلى الله عليه وسلم فهو من آيات نبوّته فإن كان قبل مبعثه كان من نذر آياته الصادرة عن إلهام فمن هتوفهم بنبوّته ما حكاه إبراهيم بن سلامة عن إسماعيل بن زياد عن ابن جريج عن ابن العباس رضي الله عنهما أنه كان يحدث عن رجل من خثعم قال لا تحل حلالا ولا تحرم حراما وكانت تعبد أصناما فبينا نحن عند صنم منها ذات ليلة نتقاضى إليه في أمر قد شجر بيننا إذ صاح من جوف الصنم صائح يقول: يا أيها الركب ذوو الأحكام ... ما أنتم وطائش الأحلام ومسندو الحكم إلى الأصنام ... هذا نبي سيد الأنام يصدع بالحق وبالإسلام ... أعدل ذي حكم من الأحكام ويتبع النور على الأظلام ... سيعلن في البلد الحرام قد طهر الناس من الآثام قال الخثعمي ففزعنا منه وخرجت إلى مكة وأسلمت مع النبي صلى الله عليه وسلم. ومن بشائر هتوفهم: ما رواه عثمان بن عبد الرحمن عن محمد بن كعب قال: بينما عمر بن الخطاب رضوان الله عليه ذات يوم جالسا، إذ مر به رجل، فقيل له: أتعرف هذا المار يا أمير المؤمنين قال: ومن هو قالوا هذا سواد بن قارب رجل من أهل اليمن وكان له رئي من الجن فأرسل إليه عمر، فقال:

_ (13) هتوف الجن: مناديهم الذي يتحدث إلى البشر.

أنت سواد بن قارب قال: نعم يا أمير المؤمنين. فقال: أنت الذي أتاك رئيك بظهور النبي صلى الله عليه وسلم، قال: نعم يا أمير المؤمنين. بينا أنا ذات ليلة بين النائم واليقظان، إذ أتاني رئى من الجن فضربني برجله وقال: قم يا سواد بن قارب فاسمع مقالي واعقل إن كنت تعقل أنه قد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من لؤي بن غالب يدعو إلى الله تعالى وإلى عبادته وأنشأ يقول: عجبت للجن وتطلا بها ... وشدها العيس بأقتابها تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما صادق الجن ككذا بها فارحل إلى الصفوة من هاشم ... ليس قدامها كأذنا بها فقلت له دعني فأنا أمسيت ناعسا ولم أرفع بما قال رأسا فلما كانت الليلة الثانية أتاني فضربني برجله وقال: قم يا سواد بن قارب فاسمع مقالتي واعقل إن كنت تعقل أنه قد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من لؤي بن غالب يدعو إلى الله تعالى وإلى عبادته وأنشأ يقول: عجبت للجن وتخبارها ... وشدها العيش بأكوارها تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما مؤمنو الجن ككفارها فارحل إلى الصفوة من هاشم ... بين روابيها وأحجارها فقلت: دعني فقد أمسيت ناعسا ولم أرفع بما قال رأسا، فلما كانت الليلة الثالثة أتاني فضربني برجله وقال: قم يا سواد بن قارب فاسمع مقالتي، واعقل إن كنت تعقل، قد بعث رسول من لؤي بن غالب يدعو إلى الله تعالى وإلى عبادته وأنشأ يقول: عجبت للجن وتجساسها ... وشدها العيس بأحلاسها تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما خير الجن كأنجاسها فارحل إلى الصفوة من هاشم ... واسم بعينيك إلى رأسها قال: فأصبحت وقد امتحن الله تعالى قلبي للإسلام فرحلت ناقتي واتيت المدينة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقلت: اسمع مقالي يا رسول الله، قال: «هات» ، فأنشأت:

أتاني نجي بين هدو ورقدة ... ولم أك فيما قد نجوت بكاذب ثلاث ليال قوله كل ليلة ... أتاك رسول من لؤي بن غالب فشمرت من ذيل الأزار ووسطت ... بي الذعلب الوجناء بين السباسب فأشهد أن الله لا شيء غيره ... وأنك مأمون على كل غائب وأنك أدنى المرسلين وسيلة ... إلى الله يا ابن الأكرمين الأطايب فمرنا بما يأتيك يا خير من مشى ... وإن كان فيما جاء شيب الذوائب وكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة ... سواك بمغن عن سواد بن قارب ففرح رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمقالتي فرحا شديدا حتى رؤي الفرح في وجوههم، قال: فوثب إليه عمر فالتزمه وقال: قد كنت أحب أن أسمع منك هذا الحديث فهل يأتيك رئيك اليوم؟ فقال: مذ قرأت القرآن فلا ونعم العوض كتاب الله من الجن. ومن بشائر هتوفهم: ما رواه إبراهيم بن سلامة عن إسماعيل بن زياد عن ابن جريج عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب حدث يوما في مجلس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: خرجنا قبل مظهر النبي صلى الله عليه وسلم بشهرين إلى الأبطح بمكة معنا عجل نريد ذبحه ونحن نفر فلما ذبحناه وتصابّ دمه ومات إذ صاح من جوفه صائح يقول: يا ذريح يا ذريح صائح يصيح بصوت فصيح نبي يظهر الحق يفيح يقول لا إله إلّا الله، فصاح كذلك ثلاث مرات ثم هدأ صوته وتفرقنا ورعبنا منه فلم يلبث النبي صلى الله عليه وسلم أن ظهر، فقال رجل من القوم: لا تعجب يا أمير المؤمنين خرجت وأصحاب لي في تجارة لنا ونحن أربعة نفر نريد الشام حتى إذا كنا ببعض أودية الشام قرمنا إلى اللحم قرما شديدا قبل مظهر النبي صلى الله عليه وسلم فإذا بظبية قد عرضت لنا مكسورة القرن فلم نزل بها حتى أخذناها، قال: فو الله إننا نتآمر بذبحها إذ هتف هاتف فقال: يا أيها الركب السراع الأربعة ... خلوا سبيل الظبية المروعة فإنها لطفلة ذات دعة ... خلوا عن العضبان فقدامي سعة ثم قال: خلوا عنها، فو الله لقد رأيت هذا الوادي وما يمر فيه أقل من خمسين رجلا حتى كنتم به، قال: فأرسلناها، فلما أمسينا أخذ بأزمة رواحلنا

حتى أتي بنا إلى حاضر لجب كثير الأهل فأطعمنا من الثريد ما أذهب قرمنا ثم خرجنا حتى قضى الله تجارتنا فصحبنا رجل من يهود، فلما كنا بذلك الوادي هتف هاتف فقال: إياك لا تعجل وخذها موبقه ... فإن شر السير سير الحقحقه قد لاح نجم فاستوى في مشرقه ... يكشف عن ظلما عبوس موبقه يدعو إلى ظل جنان مونقه فقال اليهودي: تدرون ما يقول هذا الصارخ؟ قلنا: ما يقول؟ قال: يخبر أن نبيا قد ظهر خلافكم بمكة، فقدمنا فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم بمكة. ومن بشائر هتوفهم: ما حكاه أبو عيسى، قال: سمعت قريش في الليل هاتفا على أبي قبيس يقول: فإن يسلم السعد أن يصبح محمد ... بمكة لا يخشى خلاف مخالف فلما أصبحوا قال أبو سفيان: من السعدان سعد بكر وسعد تميم، فلما كان في الليلة الثانية سمعوه يقول: أيا سعد سعد الأوس كن أنت ناصرا ... ويا سعد سعد الخزرجين الغطارف أجيبا إلى داعي الهدى وتمنيا ... على الله في الفردوس منية عارف فإن ثواب الله للطالب الهدى ... جنان من الفردوس ذات زخارف فلما أصبحوا قال أبو سفيان: هما والله سعد بن معاذ وسعد بن عبادة. ومن بشائر هتوفهم: ما رواه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن أسماء بنت أبي بكر قالت: ما علم المشركون من أهل مكة أين يوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين هاجر إلى المدينة حتى هتف هاتف بعد ذلك بأيام فقال: جزى الله خيرا والجزاء فريضة ... رفيقين حلّا خيمتي أم معبد هما دخلا بالهدى واهتدى به ... فأفلح من أمسى رفيق محمد ليهن بني كعب محل فتاتهم ... ومقعدها للمسلمين بمرصد وقالت أسماء: ما علم المشركون من أهل مكة بوقعة بدر حتى هتف

هاتف من جبال مكة وفتيان يسمرون بمكة فقال: أزال الحنيفيون بدرا بوقعة ... سينقض منها ملك كسرى وقيصرا أصاب رجالا من لؤي وجردت ... حرائر يضر بن الترائب حسرا ألا ويح من أمسى عدو محمد ... لقد ذاق حزنا في الحياة وحسرا وأصبح في هامي العجاج معفرا ... تناوبه الطير الجياع وتنفرا فعلموا بذلك وظهر الخبر من الغد ولئن كانت هذه الهتوف أخبار آحاد عمن لا يرى شخصه «14» ولا يحج قوله «15» فخروجه عن العادة نذير وتأثيره في النفوس بشير وقد قبلها السامعون وقبول الأخبار يؤكد صحتها ويؤكد حجتها. فإن قيل: إن كانت هتوف الجن من دلائل النبوة جاز أن تكون دليلا على صحة الكهانة، فعنه جوابان: أحدهما: أن دلائل النبوة غيرها وإنما هي من البشائر بها، وفرق بين الدلالة والبشارة، أخبارا. والثاني: أن الكهانة عن مغيب والبشارة عن معين، فالعيان معلوم والغائب موهوم.

_ (14) لا يرى شخصه: لا مكانة مرموقة له (15) لا يحج بقوله: لا يحتج بقوله.

الباب السابع عشر فيما هجست به النفوس من إلهام العقول بنبوته عليه السلام العقل إلهي ركّبه الله تعالى في النفوس الناطقة فهو ينذر بالخواص الكائنة حدسا ويعلم بعد الوجود مسا فقل حادث إلّا تقدم نذيره وبحسب خاطره يكون تأثيره ولا حادث أعظم مما جدده الله تعالى بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم فاقتضى أن تكون بشائر نبوته أشهر وشواهد آياته أظهر. فمن الهواجس بنبوته: أن كعب بن لؤي بن غالب كان يجتمع إليه الناس في كل جمعة وكان يوم الجمعة يسمى في الجاهلية يوم العروبة فسماه كعب يوم الجمعة وكان يخطب فيه الناس ويقول بعد خطبته: حرمكم عظّموه وتمسكوا به فسيأتي له نبأ عظيم وسيخرج به نبي كريم والله لو كنت فيه ذا سمع وبصر ويد ورجل لتنصبت تنصب الخيل ولا رقلت أرقال الفحل ثم يقول: يا ليتني شاهد فحواء دعوته ... حين العشيرة تبغي الحق خذلانا ومن هواجس الإلهام: ما حكاه ابن قتيبة أن أبا كريب ابن أسعد الحميري آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث بسبعمائة سنة وقال: شهدت على أحمد أنه ... رسول من الله باري النسم فلو مد عمري إلى عمره ... لكنت وزيرا له وابن عم ومن هواجس الإلهام: ما حكاه عبيد الجرهمي وكان كبير السن عالما

بأخبار الأمم أن تبعا الأصغر وهو تبع بن حسان بن تبع سائر بيثرب فنزل في سفح أحد وذهب إلى اليهود فقتل منهم ثلاثمائة وخمسين رجلا صبرا وأراد خرابها فقام إليه رجل من اليهود كبير السن فقال: أيها الملك مثلك لا يقتل على الغضب ولا يقبل قول الزور، أمرك أعظم من أن يطير بك برق أو تسرع بك لجاج فإنك لا تستطيع أن تخرب هذه القرية، قال: ولم؟ قال: لأنها مهاجر نبي من ولد إسماعيل يخرج من هذه الثنية- يعني البيت الحرام- فكفّ تبعّ ومضى إلى مكة ومعه هذا اليهودي ورجل آخر عالم من اليهود فكسا البيت ونحر عنده ستة آلاف جزور وأطعم الناس وقال: قد كسونا البيت الذي حرّم الله ... ملاء معضدا وبرودا وقيل أنه ملك ثلاثمائة وعشرين سنة. ومن هواجس الإلهام: ما روى هاشم بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: كان يهودي يسكن مكة فلما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم حضر مجلس قريش فقال: يا معاشر قريش هل ولد فيكم الليلة مولود؟ فقال القوم: والله ما نعلم، قال: الله أكبر أما إذ أخطأكم فلا بأس انظروا واحفظوا ما أقول لكم، ولد في هذه الليلة نبي بين كتفيه علامة فيها شعرات متواترات كأنها عرف وثن، فتصارع القوم عن مجلسهم وهم متعجبون من قوله، فلما صاروا إلى منازلهم أخبر كل إنسان منهم أهله فقالوا: ولد لعبد الله بن عبد المطلب غلام سموه محمدا، فانطلق القوم إلى اليهودي فأخبروه، فقال: إذهبوا بي حتى أنظر إليه، فأدخلوه عن آمنة وقالوا: اخرجي إلينا ابنك، فأخرجته وكشفوا عن ظهره فرأى اليهودي تلك الشامة فوقع مغشيا عليه فلما أفاق قالوا له: ما لك؟ قال: ذهبت والله النبوة من بني إسرائيل يا معشر قريش والله ليسطون بكم سطوة يخرج خبرها من المشرق إلى المغرب، وكان في القوم الذين أخبرهم اليهودي بذلك هشام بن المغيرة والوليد بن المغيرة وعبيدة بن عبد المطلب وعتبة بن ربيعة فعصمه الله تعالى منهم. ومثله: أنه كان لقريش في الجاهلية عيد يجتمع فيه النساء دون الرجال

فاجتمعوا فيه فوقف عليهن يهودي، وفيهن خديجة فقال لهن: يا معشر نساء قريش يوشك أن يبعث فيكن نبي فأيتكن استطاعت أن تكون له أرضا فلتفعل فحصبنه ووقر ذلك في نفس خديجة حتى حققه الله لها فكانت أول من آمن به. ومثله: أن جماعة من النصارى قدموا من الشام تجارا إلى مكة فنزلوا بين الصفا والمروة فرأوه وهو ابن سبع سنين فعرفه بعضهم بصفته في كتبهم وسمته في فراستهم فقال له من أنت وابن من أنت. فقال: أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب. فقال: من رب هذه، وأشار إلى الجبال، فقال: الله ربها لا شريك له. فقال له: من رب هذه وأشار إلى السماء، فقال: الله ربها لا شريك له. فقال له النصراني: فهل له رب غيره فقال: لا تشككني في الله ما له شريك ولا ضد، فقام بالتوحيد في صغيره وفصح النصراني بخبره وأنذر بنبوّته. ومثله: أنه كان في كفالة جده عبد المطلب وكان أحب إليه من جميع أولاده فلما حضرته الوفاة وصى به إلى عمه أبي طالب لأنه كان أخا عبد الله لأبيه وأمه وأنشأ يقول: وصيت من كنيته بطالب ... عبد مناف وهو ذو تجارب يا ابن الحبيب أكرم الأقارب ... يا ابن الذي مذ غاب غير آيب فتقبل أبو طالب الوصية وكان قد سمع من راهب إنذارا فأنشأ يقول: لا توصين بلازم واجب ... فلست بالآنس غير الراغب بأن حمد الله قول الراهب ... إني سمعت أعجب العجائب من كل حبر عالم وكاتب ومات عبد المطلب بعد ثمان سنين من مولده فتكفله عمه أبو طالب وخرج به إلى الشام في تجاره له وهو ابن تسع سنين فنزل تحت صومعة بالشام عند بصرى وكان في الصومعة راهب يقال له بحيرا قرأ كتب أهل الكتاب وعرف ما فيها من الأنباء والإمارات، فرأى بحيرا من صومعته غمامة قد أظلت رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشمس فنزل إليه وجعل يتفقد جسده حتى رأى خاتم النبوّة بين كتفيه وسأله عن حاله في منامه ويقظته، فأخبره بها فوافقت ما عنده في الكتب

وسأل أبا طالب عنه فقال: ابني، فقال: كلا، فقال: ابن أخي مات أبوه وهو حمل، قال: صدقت، وعمل لهم ولمن معهم طعاما لم يكن يعمله لهم من قبل، وقال: احفظوا هذا من اليهود والنصارى فإنه سيد العالمين وسيبعث نبيا إليهم أجمعين وإن عرفوه معكم قتلوه فقالوا كيف عرفت هذا قال: السحابة التي أظلته ورأيت خاتم النبوّة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة على النعت المذكور، ورأيت المدر والشجر يسجدان له ولا يسجدان إلّا لنبي. وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان في رعيه الإبل قد سبقه القوم إلى ظل شجرة فلما جلس مال ظل الشجرة عليه فقال لهم: هذا من آيات نبوّته، وأن الروم إن رأوه عرفوه بصفته فيقتلوه، ثم التفت فإذا هو بسبعة نفر قد أقبلوا من الروم فاستقبلهم وقال: ما جاء بكم، قالوا: جئنا لأن هذا النبي خارج في هذا الشهر فلم يبق طريق إلّا بعث فيه ناس ونحن آخر من بعث إلى طريقك هذا، فقال لهم: هل خلفتم خلفكم أحدا هو خير منكم، قالوا: لا، قال: أفرأيتم أمرا أراد الله أن يقضيه هل يستطيع أحد من الناس رده، قالوا: لا، قال: فارجعوا فتابعوه على الرجوع، وزودهم الراهب حتى أسرع به أبو طالب. فكانت هذه البشائر من رهبان النصارى وما تقدم من أخبار اليهود وقد توارد عليها جميعهم مع اختلاف معتقدهم وتغاير كتبهم من أوائل الشهود على تعيين النبوّة فيه. أما عن كتب نعت فيها فأصابوه على النعت فكان إنذارا إلهيا تواردت عليه الخواطر لأن ما هجست به النفوس من أمر كان وما تخيلته العقول ظهر وبان لأن القلوب طلائع الأقدار، والعقول مرايا الأسرار. ومن هواجس الإلهام: ما حدثنا أبو الحسن محمد بن علي بن محفل رحمه الله قال: حدثنا عمر بن حماد الفقيه، قال: حدثنا عمر بن محمد بن بحير السمرقندي قال: حدثنا أحمد بن عبد ربه الضبي قال: أخبرنا عبد الرحمن بن نوح بن عبيد قال: حدثنا عمر بن بكير قال: حدثني أحمد بن القاسم عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رحمة الله عليه قال: لما ظفر سيف بن ذي يزن بالحبشة وذلك بعد مولد النبي صلى الله عليه وسلم بسنين أتى وفود العرب وأشرافها

وشعراؤها لتهنئته ومدحه وذكر ما كان من بلائه وطلبه بثأر قومه فأتاه وفد قريش وفيهم عبد المطلب بن هاشم وأمية بن عبد شمس وعبد الله بن جدعان وأسد ابن خويلد بن عبد العزى في ناس من أشراف قريش فلما قدموا عليه إذ هو في رأس قصر يقال له غمدان وهو الذي يقول فيه أمية بن أبي الصلت: اشرب هنيئا عليك التاج مرتفعا ... في رأس غمدان دار منك محلال قال: فاستأذنوا عليه فأذن لهم فدخلوا عليه فإذا الملك مضمخ بالعنبر يرى وبيص الطيب من مفرقه عليه بردان متزر بأحدهما مرتد بالآخر سيفه بين يديه وعن يمينه وعن يساره الملوك وأبناء الملوك والمقاول قال: فدنا عبد الملك واستأذن في الكلام فقال: إن كنت ممن يتكلم بين يدي الملوك فتكلم فقد أذنا لك فقال عبد المطلب إن الله أحلك أيها الملك محلا رفيعا صعبا منيعا شامخا باذخا وأنبتك منبتا طابت أرومته وعزت جرثومته وثبت أصله وبسق فرعه في أكرم موطن وأطيب معدن وأنت أبيت اللعن ملك للعرب وربيعها الذي يخصب به وأنت أيها الملك رأس العرب الذي إليه تنقاد وعمودها الذي عليه العماد ومعقلها الذي تلجأ إليه العباد سلفك خير سلف وأنت لنا منهم خير خلف فلن يحمل ذكر من أنت سلفه ولن يهلك من أنت خلفه ونحن أيها الملك أهل حرم الله وسدنة بيته أشخصنا إليك الذي أبهجنا لكشف الكرب الذي فدحنا فنحن وفد التهنئة لا وفد التعزية، فقال ابن ذي يزن: فأيهم أنت أيها المتكلم، فقال: أنا عبد المطلب بن هاشم قال: ابن أختنا قال: نعم ابن أختكم، قال: ادن فأدناه على القوم وعليه فقال مرحبا وأهلا وناقة ورحلا ومستناخا سهلا وملكا بحلا يعطي عطاءا جزلا قد سمع الملك مقالتكم وعرف قرابتكم وقبل وسيلتكم فأنتم أهل الليل وأهل النهار لكم الكرامة ما أقمتم والحباء «1» إذا ظعنتم «2» . قال: ثم استنهضوا إلى دار الضيافة والوفود فأقاموا شهرا لا يصلون إليه

_ (1) الحباء: العطاء والهبة. (2) ظعنتم: سافرتم أو رحلتم.

ولا يأذن لهم بالانصراف. قال: ثم انتبه انتباهه فأرسل إلى عبد المطلب فأعلاه وأدنى مجلسه وقال: يا عبد المطلب إني مفوّض إليك من سر علمي ما لو كان غيرك لم أبح له، ولكن رأيتك معدنه وأطلعتك فليكن عندك مطويا حتى يأذن الله فيه فإن الله بالغ فيه أمره إني أجده في الكتاب المكنون والعم المخزون الذي اخترناه لأنفسنا واحتجبناه دون غيره خبرا عظيما وخطرا جسيما فيه شرف الحياة وفضيلة الوفاة للناس عامة ولرهطك كافة ولك خاصة. قال عبد المطلب: أيها الملك فمثلك من سر وبر فما هو فداك أهل الوبر زمرا بعد زمر. قال: إذا ولد بتهامة غلام بين كتفيه شامة كانت له الإمامة ولكم به الزعامة إلى يوم القيامة، فقال له عبد المطلب أبيت اللعن لقد أتيت بخبر ما أتى بمثله وافد فلولا هيبة الملك وإجلاله وإعظامه لسألته من بشارته إياي ما ازداد به سرورا. قال ابن ذي يزن: هذا حينه الذي يولد فيه أو قد ولد اسمه أحمد، يموت أبوه وأمه ويكفله جده وعمه قد ولدناه مرارا والله باعثه جهارا وجاعل منا له أنصارا، يعز بهم أولياءه ويذل لهم أعداءه يضرب بهم الناس عن عرض ويستفتح بهم كرائم الأرض يكسر الأوثان ويخمد النيران ويعبد الرحمن ويدحر الشيطان، قوله فصل وحكمه عدل يأمر بالمعروف ويفعله وينهى عن المنكر ويبطله. قال عبد المطلب: أيها الملك عز جدك وعلا عقبك وطاب ملكك وطال عمرك فهل الملك سارّي بإفصاح فقد أوضح بعد الإيضاح، فقال ابن يزن والبيت ذي الحجب والعلامات على النصب أنك يا عبد المطلب لجده غيره الكذب. قال: فخر عبد المطلب ساجدا فقال ابن ذي يزن ارفع رأسك ثلج صدرك وعلا أمرك فهل أحسست شيئا مما ذكرت لك. فقال: نعم أيها الملك

كان لي ابن وكنت به معجبا رفيقا أو رقيقا فزوجته كريمة من كرائم قومي آمنة بنت وهب بن عبد مناف فأتت بغلام سميته محمدا مات أبوه وأمه وكفلته أنا وعمه بين كتفيه شامة وفيه كل ما ذكرت من علامة. قال ابن ذي يزن: إن الذي قلت لك لكما قلت لك فاحتفظ بابنك واحذر عليه من اليهود فإنهم له أعداء ولن يجعل الله لهم عليه سبيلا فاطو ما ذكرته دون هؤلاء الرهط الذين معك فإني لست آمن أن يداخلهم النفاسة من أن تكون لك الرياسة فيبغون له الغوائل وينصبون له الحبائل وهم فاعلون وأبناؤهم ولولا أني أعلم أن الموت يجتاحني قبل مبعثه لسرت بخيلي ورجلي حتى أصير بيثرب دار ملكي فإني أجد في الكتاب الناطق والعلم السابق أن يثرب استحكام أمره وأهل نصرته وموضع قبره ولولا أني أقيه الآيات واحذر عليه العاهات لأعلنت على حداثة سنه ذكره وأوطيت أسنان العرب عقبه ولكني صارف ذلك اليك بغير تقصير ممن معك ثم أمر لكل رجل من القوم بعشرة أعبد وعشرة إماء سود وحلتين من حلل البرود وخمسة أرطال ذهب، وعشرة أرطال فضة وكرش مملوءة عنيرا ولعبد المطلب بعشرة أضعاف ذلك وقال له: إذا حال الحول فائتني بأمره وما يكون من خبره. قال: فمات ابن ذي يزن قبل أن يحول الحول، قال: فكان عبد المطلب كثيرا يقول: يا معشر قريش لا يغبطني رجل منكم بجزيل عطاء الملك وإن كان كثيرا فإنه إلى نفاد ولكن ليغبطني بما يبقى لي ولعقبي ذكره وفخره وشرفه، فإذا قيل له: وما ذاك؟ قال: ستعلمون ما أقول لكم ولو بعد حين. ومن هواجس الإلهام: أنه نشأ في قريش على أحسن هدى وطريقة وأشرف خلق وطبيعة وأصدق لسان ولهجة حتى سمته قريش في حداثته الأمين تأسيسا لما سيكون. وكانت خديجة بنت خويلد ذات شرف ويسار وكان لها متاجر ومضاربات، فلما عرفت أمانة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدق لهجته أبضعته مالا يتجر به إلى الشام مضاربا وأنفذت معه مولاها ميسرة ليخدمه في طريقه فنزل ذات يوم

تحت صومعة راهب فرأى الراهب من ظهور كرامة الله تعالى له ما علم أنه لا يكون إلّا لنبي فقال لميسرة: من هذا؟ فقال: رجل من قريش من أهل الحرم، فقال: إنه نبي، فكان ميسرة يراه إذا ركب تظلّه غمامة تقيه حر الشمس. فلما قدم على خديجة قص ميسرة عليها حديث الراهب وما شاهده من ظل الغمامة وما تضاعف من ربح التجارة فتنبهت به على عظم شأنه وشواهد برهانه فرغبت خديجة في نكاحه، وكان قد خطبها أشراف قريش فامتنعت، وسفر بينهما في النكاح ميسرة وقيل مولاه بولده وخافت امتناع أبيها عليه فعقرت له ذبيحة وألبسته حبرة وغلفته بطيب وعبير وسقته خمرا حتى سكر وحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه عمه حمزة بن عبد المطلب، واختلف في حضور عمه أبي طالب فقال الأكثرون: حضر مع حمزة وخطبها من أبيها فأجابه وزوّجه وهو ابن خمسة وعشرين سنة وخديجة ابنة أربعين سنة ودخل بها من ليلته، فلما أصبح خويلد وصحا رأى آثار ما عليه، فقال: ما هذا العقير والعبير والحبر؟ فيل: زوّجت خديجة بمحمد، قال: ما فعلت؟ قيل له: قبيح بك هذا وقد دخل بها، فرضي، ولأجل ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يرفع إليّ نكاح نشوان إلّا أجزته» ، وقامت خديجة رضي الله تعالى عنها بأمره حتى كفته أمور دنياه، فكان ذلك عونا من الله تعالى ولطفا تفضل به عليه منّا وإسعافا. ومن هواجس الإلهام: ما حكاه عامر بن ربيعة قال: سمعت زيد بن عمرو بن نفيل يقول: أنا أنتظر نبيا من ولد إسماعيل من بني عبد المطلب ولا أراني أدركه وأنا أؤمن به وأصدقه وأشهد أنه نبي، فإن طالت بك مدة فرأيته فأقرأه مني السلام وسأخبرك ما نعته حتى لا يخفى عليك قلت: هلم، قال: هو رجل ليس بالقصير ولا بالطويل ولا بكثير الشعر ولا بقليله وليس يفارق عينيه حمرة وخاتم النبوة بين كتفيه واسمه أحمد، وهذا البلد مولده ثم يخرجه قومه منها ويكرهون ما جاء به حتى يهاجر إلى يثرب فيظهر أمره فإياك أن تخدع عنه فإني طفت البلاد كلها أطلب دين إبراهيم فكل من أسأله عنه من اليهود والنصارى والمجوس يقولون هذا الدين وراءك وينعتونه مثل ما نعت لك

ويقولون: لم يبق نبي غيره. قال عامر: فلما أسلمت أخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول زيد وأقرأته منه السلام فرد عليه السلام وترحم عليه وقال: «قد رأيته في الجنة يسحب الذيول» . ومن هواجس الإلهام: ما رواه الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قال: بعث الله تعالى إلى كسرى ملكا وهو في بيت إيوانه الذي لا يدخل عليه فيه فلم يردعه إلّا به قائما على رأسه في يده عصا بالهاجرة من ساعته التي كان يقيل فيها، فقال: يا كسرى أتسلم أو أكسر هذه العصا، فقال: بهل بهل، فانصرف عنه فدعا حراسه وحجابه فتغيظ عليهم فقال: من أدخل هذا الرجل؟ فقالوا: ما دخل عليك أحد ولا رأيناه. حتى إذا كان العام القابل أتاه في الساعة التي أتاه فيها فقال له كما قال، ثم قال: أتسلم أو أكسر هذه العصا؟ فقال: بهل بهل ثلاثا، فخرج عنه، فدعا كسرى حراسه وحجابه فتغيظ وقال لهم كما قال أول مرة، فقالوا: ما رأينا أحدا دخل عليك. حتى إذا كان في العام الثالث آتاه في الساعة التي أتاه فيها، فقال له كما قال، ثم قال: أتسلم أو أكسر هذه العصا؟ فقال: بهل بهل، فكسرها ثم خرج فلم يكن إلّا تهوّر ملكه وانبعاث ابنه والفرس على قتله حتى قتلوه. ومن هواجس المنام: ما حكاه ابن قتيبة أن كسرى ابرويز ابن هرمز كان سائرا ذات يوم فهوم على مركبه وطال حتى استغفل فأيقظه بعض قواده فانتبه مذعورا لرؤيا رآها قطعها عليه الموقظ له، فقال: رأيت قائلا لي أنكم غيرتم فغيرناكم ونقل الملك إلى أحمد وقيل له سلم ما بيدك إلى صاحب الهراوة إلى أن ورد عليه كتاب النعمان بن المنذر يخبر فيه أن خارجا نجم بتهامة يخبر أنه رسول الله إله السماء والأرض إلى أهل الأرض كافة، فارتاع لذلك وأكبره وعلم أنه الذي رآه في منامه وكان يتوقعه. ومن هواجس المنام: ما رواه عروة بن مضرس عن مخرمة بن نوفل عن

أمه رقية بنت أبي ضبعي بن هاشم قال: تتابعت على قريش سنون أمحلت الضرع وأدقت العظم فبينا أنا نائمة للهم أو مهمومة إذا هاتف يصرخ بصوت صخب يقول: يا معشر قريش إن هذا النبي المبعوث فيكم قد أظلّتكم أيامه وهذا إبان نجومه فحي هلا بالحياء والخصب ألا فانظروا رجلا منكم وسيطا جسيما أبيض بضا أوطف الأهداب سهل الخدين أشم العرنين له فخر يكظم عليه وسنه يهدي إليه فليخلص هو وولده وليهبط إليه من كل بطن رجل فليستنوا من الماء وليمسوا من الطيب ثم ليستلموا الركن ثم ليرتقوا أبا قبيس فليستسق الرجل وليؤم القوم فغثم ما شئتم فأصبحت علم الله تعالى مذعورة وقد اقشعر جلدي ووله عقلي واقتصصت رؤياي فوالحرمة والحرم ما بقي بها أبطحي إلّا قال: هذا شيبة الحمد- يعنون عبد المطلب- فتتامت إليه رجالات قريش وهبط إليه من كل بطن رجل فسنوا ومسوا واستلموا ثم ارتقوا أبا قبيس وطبقوا جانبيه ما يبلغ سعيهم مهلة حتى استووا بذروة الجبل فقام عبد المطلب ومعه رسول الله صلى الله عليه وسلم غلام حين أيفع أو كرب فقال: اللهم سادّ الخلة وكاشف الكربة أنت معلّم غير معلّم ومسؤول غير مبخل وهذه عبادك وإماؤك بغدرات حرمك يشكون إليك سنتهم أذهبت الخف والظلف اللهم فأمطر علينا غيثا مغدقا مريعا، فو الكعبة ما راحوا حتى تفجرت السماء بمائها والحيط الوادي بثجيجه فسمعت شيخين من قريش وأجلّتها: عبد الله بن جدعان وحرب بن أمية وهشام بن المغيرة يقولون لعبد المطلب: هنيئا لك أبا البطحاء، أي عاش بك أهل البطحاء، وفي ذلك يقول رفيقه: بشيبة الحمد أسقى الله بلدتنا ... لما فقدنا الحيا واجلوذ المطر فجاد بالماء جوى له سبل ... سحا فعاشت به الأنعام والشجر مبارك الأمر يستسقي الغمام به ... ما في الأنام له عدل ولا خطر ومن هواجس الإنذار والإلهام والمنام: ما رواه أبو أيوب يعلى بن عمران النحلي عن مخزوم بن هانىء المخزومي عن أبيه واتت له مائة وخمسون سنة قال: لما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بعث ارتجس «3» إيوان كسرى

_ (3) ارتجس: اهتز أو زلزل.

فسقطت منه أربع عشرة شرافة وخمدت نار فارس ولم تخمد قبل ذلك بألف عام وغارت بحيرة ساوة فأفزع ذلك كسرى فلبس تاجه وقعد على سريره وجمع وزراءه ومرازبته وأخبرهم برؤياه فقال الموبذان وأنا أصلح الله تعالى الملك قد رأيت في هذه الليلة إبلا صعابا تقود خيلا عرابا قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادنا، فقال: أي شيء هذا يا موبذان؟ فقال: حادثة تكون من ناحية العرب فكتب إلى النعمان بن المنذر أن ابعث إليّ برجل عالم أسأله عما أريد، فوجه إليه عبد المسيح بن عمرو بن نفيلة الغساني، فلما قدم عليه أخبره، فقال: أيها الملك علم ذلك عند خال لي يسكن مشارق الشام يقال له سطيح، قال: فأته فاسأله عما أخبرتك به ثم آتي بجوابه، فركب عبد المسيح راحلته حتى ورد على سطيح وقد أشفى على الموت ووضع على شفير قبره فسلم وحيّاه فلم يخبر سطيح جوابا فأنشأ عبد المسيح يقول: أصم أم يسمع غطريف اليمن ... يا فاضل الخطة أعيت من ومن أتاك شيخ الحي من آل سنن ... وأمه من آل ذئب بن حجن أبيض فضفاض الردى خجر البدن ... رسول قيل العجم يسري للوسن فرفع سطيح رأسه وقال عبد المسيح على جمل مشيح وافى إلى سطيح وقد أوفى به إلى الضريح بعثك ملك بنى ساسان لارتجاس الإيوان وخمود النيران ورؤيا الموبذان رأى إبلا صعابا تقود خيلا عرابا قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادها ثم قال: يا عبد المسيح إذا كثرت التلاوة وبعث من تهامة صاحب الهراوة وفاض وادي السماوة وغاضت بحيرة ساوة وخمدت نار فارس فليس الشام لسطيح شاما يملك منهم ملك وملكات بعدد الشرفات وكل ما هو آت، ثم قضى سطيح فسار عبد المسيح على راحلته وهو يقول: شمّر فإنك ماضي الهم شمير ... ولا يغرنك تفريق وتغيير إن يمس ملك بني ساسان أفرطهم ... فإن ذا الدهر أطوار دهارير فربما أصبحوا يوما بمنزلة ... تهاب صولهم الأسد المهاصير منهم أخو الصرح بهرام وإخوته ... والهرمزان وسابور وسابور

والناس أولاد علات فمن علموا ... إن قد أقل فمهجور ومحقور وهم بنو الأم إلّا أن يروا نسبا ... فذاك بالغيب محفوظ ومنصور والخير والشر مقرونان في قرن ... فالخير متبع والشر محذور فلما قدم عبد المسيح على كسرى وأخبره قال كسرى: إلى أن يملك منا أربعة عشر ملكا قد كانت أمور، فملك منهم عشرة ملوك أربع سنين وزال ملكهم عن يزدجر الرابع عشر بعد اثنتي عشرة سنة. فإن قيل: فهذا قول كاهن قد أبطلته النبوة فلم يقبل قوله في إثبات النبوة فعنه جوابان: أحدهما: أنه تأويل رؤيا تحققت خرج بها عن حكم الكهانة. والثاني: أنه علمها بنقل الجن كهتوف الجن كما قال الله تعالى: وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ «4» فإذا سبر ما اختلفت طرقه وتغاير وصفه حرج عن القلة إلى التكاثر وعن الآحاد إلى التواتر فصار الظن معلوما والتوهم محتوما.

_ (4) سورة الأنعام الآية (121) .

الباب الثامن عشر في مبادىء نسبه وطهارة مولده صلى الله عليه وسلم لما كان أنبياء الله صفوة عباده وخير خلقه لما كلفهم من القيام بحقه استخلصهم من أكرم العناصر وأمدهم بأوكد الأواصر حفظا لنسبهم من قدح ولمنصبهم من جرح لتكون النفوس لهم أوطأ والقلوب لهم أصفى فيكون الناس إلى إجابتهم أسرع ولأوامرهم أطوع ولما تفرغ الملك عن إبراهيم واختصت النبوة بولده انحازت إلى ولد إسحاق دون إسماعيل فصارت في بني إسرائيل لكثرتهم بعد القلة وقوّتهم بعد الذلة، فبدأت النبوة بموسى وانختمت بعيسى، ولما كثر ولد إسماعيل وانتشروا في الأرض تميز بعد الكثرة ولد قحطان عن ولد عدنان واستولت قحطان على الملك انحازت النبوة إلى ولد عدنان، فأول من أسس لهم مجدا وشيّد لهم ذكرا معد بن عدنان حين اصطفاه بختنصر «1» وقد ملك أقاليم الأرض وكان قد همّ بقتله حين غزا بلاد العرب فأنذره نبي كان في وقته بأن النبوة في ولده فاستبقاه وأكرمه ومكّنه واستولى على تهامة بيد عالية وأمر مطاع، وفيه يقول مهلهل الشاعر: غنيت دارنا تهامة بالأمس ... وفيها بنو معد حلولا ثم ازداد العز بولده نزار وانبسطت به اليد وتقدم عند ملوك الفرس واجتباه تستشف ملك الفرس وكان اسمه خلدان وكان مهزول البدن، فقال

_ (1) من ملوك بلاد ما بين النهرين الآشوريين.

الملك: ما لك يا نزار، وتفسيره في لغتهم يا مهزول، فغلب عليه هذا الاسم فسمي نزارا، وفيه يقول قمعة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان: جديسا خلفناه وطسما بأرضه ... فأكرم بنا عند الفخار فخارا فنحن بنو عدنان خلدان جدنا ... فسماه تستشف الهمام نزارا فسمى نزارا بعد ما كان اسمه ... لدى العرب خلدان بنوه خيارا وكان لنزار أربعة أولاد: مضر وربيعة وأياد وأنمار، فلما حضرته الوفاة وصّاهم فقال: يا بني هذه القبة الحمراء وما أشبهها لأياد وهذه الندوة والمجلس وما أشبهه لأنمار فإن أشكل عليكم واختلفتم فعليكم بالأفعى الجرهمي بنجران، فاختلفوا في القسمة فتوجهوا إليه فبينما هم يسيرون إذ رأى مضر كلأ قد رعي، فقال: إن البعير الذي رعى هذا الكلأ لأعور، وقال ربيعة: هو أزور، وقال أياد: هو أبتر، وقال أنمار: هو شرود، فلم يسيروا قليلا حتى لقيهم رجل يوضع على راحلته فسألهم عن البعير، فقال مضر: هو أعور؟ قال: نعم، وقال ربيعة: هو أزور؟ قال: نعم، وقال أياد: هو أبتر؟ قال: نعم، وقال أنمار: هو شرود؟ قال: نعم، وهذه والله صفة بعيري فدلوني عليه، فقالوا: والله ما رأيناه، قال: قد وصفتموه بصفته فكيف لم تروه، وسار معهم إلى نجران حتى نزلوا بالأفعى الجرهمي، فناداه صاحب البعير: هؤلاء أصحاب بعيري وصفوه لي بصفته وقالوا لم نره، فقال لهم الأفعى الجرهمي: كيف وصفتموه ولم تروه؟ فقال مضر: رأيته يرعى جانبا ويترك جانبا فعرفت أنه أعور، وقال ربيعة: رأيت إحدى يديه ثابتة الأثر والأخرى فاسدة الأثر فعرفت أنه أزور، وقال أياد: رأيت بعره مجتمعا فعرفت أنه أبتر، وقال أنمار: رأيته يرعى المكان الملتف ثم يجوز إلى غيره فعرفت أنه شرود، فقال الجرهمي لصاحب البعير: ليسوا أصحاب بعيرك فاطلب من غيرهم، ثم سألهم من هم؟ فأخبروه أنهم بنو نزار بن معد، فقال: أتحتاجون إليّ وأنتم كما أرى، فدعا لهم لطعام فأكلوا وأكل، وبشراب فشربوا وشرب، فقال مضر: لم أر كاليوم خمرا أجود لولا أنها نبتت على قبر، وقال ربيعة: لم أر كاليوم لحما أطيب لولا أنه ربي بلبن كلبة، وقال أياد: لم أر كاليوم رجلا أسرى لولا أنه

يدعى لغير أبيه، وقال أنمار: لم أر كاليوم كلاما أنفع في حاجتنا. وسمع الجرهمي الكلام فتعجب لقولهم وأتى أمه فسألها فأخبرته أنها كانت تحت ملك لا ولد له فكرهت أن يذهب الملك فأمكنت رجلا من نفسها كان نزل به فوطئها فحملت منه به، وسأل القهرمان عن الخمر، فقال: من كرمة غرستها على قبر أبيك، وسأل الراعي عن اللحم، فقال: شاة أرضعتها بلبن كلبة لأن الشاة حين ولدت ماتت ولم يكن ولد في الغنم شاة غيرها، فقيل لمضر: من أين عرفت الخمر ونباتها على قبر؟ قال: لأنه أصابني عليها عطش شديد، وقيل لربيعة: من أين عرفت أن الشاة ارتضعت على لبن كلبة، قال: لأني شممت منه رائحة الكلب، وقيل لأياد: من أين عرفت أن الرجل يدعى لغير أبيه، قال: لأني رأيته يتكلف ما يعمله، ثم أتاهم الجرهمي وقال: صفوا لي صفتكم، فقصوا عليه ما أوصاهم به أبوهم نزار، فقضى لمضر بالقبة الحمراء والدنانير والإبل وهي حمر فسمي مضر الحمراء، وقضى لربيعة بالخباء الأسود والخيل الدهم فسمي ربيعة الفرس، وقضى لأياد بالخادمة الشمطاء والماشية البلق، وقضى لأنمار بالأرض والدراهم. وهذا الذي ظهر في أولاد نزار من قوة الذكاء وحد الفطنة تأسيسا لتميزهم بالفضل واختصاصهم بوفور العقل مقدمة لما يراد بهم، ثم تفرقت القبائل منهم، فاختص ولد مضر بن نزار بالحرم فتميزوا بأنسابهم وتناصروا بسيوفهم «2» حتى استولت قريش على الحرم بعد جرهم وخزاعة لأن جرهم كانوا جبابرة فبغوا وتجبروا حتى بعث الله تعالى عليهم الرعاف والنمل فأفناهم وأفضى أمرهم إلى عامر بن الحرث وهم القائلون: واد حرام طيره ووحشه ... نحن ولاته فلا نغشه فاجتمعت خزاعة ورئيسهم عمرو بن ربيعة بن حارثة على عامر بن ربيعة وبقية جرهم فأخرجوه من الحرم واستولت عليه خزاعة وولّي البيت عمرو بن ربيعة فقال:

_ (2) تناصروا بسيوفهم: تساعدوا في الحرب.

نحن ولّينا البيت بعد جرهم ... نعمره من كل باغ ملحد ولما انحاز عامر بن الحرث مع بقية جرهم عن الحرم عند استيلاء خزاعة عليه خرج بغزالي الكعبة وحجر الركن يلتمس التوبة وهو يقول: لا هم إن جرهما عبادك ... الناس طرف وهم تلادك فلم تقبل توبته فألقى غزالي الكعبة وحجر الركن في زمزم ودفنها وخرج ببقية جرهم وهو يقول: كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر بلى نحن كنا أهلها فأبادنا ... صروف الليالي والدهور الغواير فلما رأى عامر بن الحرث الجرهميّ ما صاروا إليه بعد الكثرة والقوة قال: يا أيها الناس سيروا إن قصركم ... أن تصبحوا ذات يوم لا تسيرونا كنا أناسا كما كنتم فغيرنا ... دهر فأنتم كما كنا تكونونا خطوا المطى وأرخوا من أزمتها ... قبل الممات وقضوا ما تقضونا فوليت خزاعة البيت والحرم غير أنه كان في مضر من أمره ثلاث خلال: إحداهن: الدفع من عرفة إلى المزدلفة، كان إلى الغوث بن بزمر وهو صرفه. والثانية: الإفاضة من مزدلفة إلى منى للنحر كان لزيد بن عدوان وآخر من أفضى إليه أبو سيارة. والثالثة: النسيء لشهور الحج كان للمتلمس من بني كنانة واخر من أفضى إليه حتى جاء بالإسلام ثمامة بن عوف فشركت مضر خزاعة في معالم الحج وإن كانت زعامة الحرم لخزاعة وقريش في اوزاع بنى كنانة من مضر وأفضت

معالم الحج من أوزاع مضر إلى قريش فولاها منهم كعب بن لؤي بن غالب وكان يجمع الناس في كل يوم جمعة ويخطب فيه على قريش فيأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويقول: حرمكم عظّموه وتمسكوا به فسيأتي له نبأ عظيم وسيخرج منه نبي كريم، وهو أول من فصح بالنبوة حين شاهد آثارها وعرف أسرارها من انقياد العرب إليهم تدينا بحرمهم وإعظاما لكعبتهم وكان ذلك إلهاما هجست به نفسه وتخيلا صدق فيه حدسه لأن لكل خطب نذيرا ولكل مستقبل بشيرا، وانتهضت خزاعة في الحرم إلى خليل بن الحبشية الخزاعي، فكان يلي الكعبة وأمر مكة، فتزوج إليه قصي بن كلاب فاشتد به قصي وكان اسمه زيد، فلما هلك خليل رأى قصي أنه أولى بالولاية على الكعبة وأمر مكة من خزاعة، فاستولى عليها. واختلف في سبب استيلائه فقال قوم: لأن خليلا أوصى إليه بذلك، وقال آخرون بل اشتراه من آل خليل بزق من خمر، وقال آخرون بل استنصر على خزاعة بأخيه لأمه رزاح بن ربيعة القضاعي حتى أجلى خزاعة عن مكة فخلصت الرياسة لقصي فجمع قريشا وهم في أوزاع بني كنانة فمنعت بنو كنانة منهم فحاربهم بمن أطاعه حتى أفردهم منهم وجمعهم بمكة فسمي مجمعا، وفيه يقول شاعرهم: أبونا قصي كان يدعي مجمعا ... به جمع الله القبائل من فهر فلما اجتمعوا أنزلهم بطحاء مكة في الشعاب ورؤس الجبال وقسمها بينهم أرباعا بين قومه وأنزل كل قوم من قريش منازلهم من مكة التي أصبحوا عليها وكانت إليه الحجابة والسقاية والوفادة والندوة واللواء وصارت سنّته في قريش كالدين الذي لا يعمل بغيره فزادت القوة بجمعهم حتى عقد الولاية وجدّد بناء الكعبة وهو أول من بناها بعد إبراهيم وإسماعيل وبنى دار الندوة للتحاكم والتشاجر والتشاور، وهي أول دار بنيت بمكة وكانوا يجتمعون في جبالها ثم بنى القوم دورهم بها فتمهدت لهم الرياسة وظهرت فيهم السياسة فصاروا بها زعماء عبادة أنذرت بطاعة إلهية وديانة نبوية توطئة لما جدده الله تعالى منها برسوله وتأسيسا لمباديها فقاموا بالكعبة ونزهوا الحرم وتكفلوا بالحج فصاروا دياني العرب

وولاة الحرم وقادة الحجيج فدانت لهم العرب وتقدموا فيهم بالشرف لحلولهم في الحرم وتكفلهم بالكعبة ثم قيامهم بالحج وشاع ذلك في الأمم. فحكى قوم من دياني «3» العرب أن جماعة من ملوك الفرس زاروا الكعبة بمكة وعظموها وحملوا إليها صنوف الثياب وأنواع الطيب وزمزموا من معهم من الفرس عند بئر زمزم، فلذلك سميت زمزم، واستشهد قائل هذا بقول الشاعر: زمزمت الفرس على زمزم ... وذاك في سالفة الأقدم وقريش هم ولد النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر، وقيل بل هم بنو فهر بن مالك بن النضر فمن نسبهم إلى النضر فلأنه تفرقت قبائل بني كنانة، وقيل كان يسمى قريشا ومن نسبهم إلى فهر فلأن فهرا في زمانه كان رئيس الناس بمكة وقصدها حسان بن عبد كلال في حمير وقبائل اليمن ليهدم الكعبة وينقل أحجارها إلى اليمن ليبنيه بيتا باليمن يجعل حج الناس إليه، فنزل بنخلة وأغار على سرح مكة فسار إليه فهر في كنانة وأحلافهم من قبائل مضر، فانهزمت حمير وأسر الحرث بن فهر حسان بن عبد كلال فبقي في يد فهر ثلاث سنين أسيرا بمكة حتى فدى نفسه وخرج فمات بين مكة واليمن، فعظم بهذا الحرث شأن فهر فأغزت إليه قريش حين حمى مكة ومنع من هدم الكعبة وكانت من أشباه عام الفيل واختلف في تسميتهم قريشا على أربعة أقاويل أحدها لتجمّعهم بعد التفرق، والتقرش التجمع، ومنه قول الشاعر: أخوة قرشوا الذنوب علينا ... في حديث من دهرهم وقديم والثاني لأنهم كانوا تجارا يأكلون من مكاسبهم والقرش التكسب، والثالث لأنهم كانوا يفتشون الحاجة عند ذي الخلة «4» فيسدون خلته والقرش التفتش، ومنه قول الشاعر: أيها السامت التقرش عنا ... عند عمرو فهل له إبقاء

_ (3) دياني العرب: رجال الدين فيهم. (4) ذي الخلة: الفقير المحتاج.

والرابع أن قريشا اسم دابة في البحر من أقوى دوابه سميت بها قريش لقوتها، أنها تأكل ولا تؤكل وتعلو ولا تعلى، قاله ابن عباس واستشهد بقول الشاعر: وقريش هي التي تسكن البحر ... بها سميت قريش قريشا سلطت بالعلو في لجة البحر ... على ساكني البحور جيوشا تأكل الغث والسمين ولا ... تترك يوما لذي الجناحين ريشا هكذا في البلاد حتى قريش ... يأكلون البلاد أكلا كشيشا ولهم آخر الزمان نبي ... يكثر القتل فيهم والخموشا تملأ الأرض خيله ورجال ... يحشرون المطي حشرا كميشا وهذا من هواجس النفوس المخبرة وآيات العقول المنذرة، فأما مكة فلها اسمان: مكة وبكة، وقد جاء القرآن بهما، واختلف في الاسمين هل هما لمسمى واحد أو لمسميين على قولين: أحدهما: أنه لمسمى واحد لأن العرب تبدل الميم بالباء فيقولون ضربة لازم ولازب لقرب المخرجين. والقول الثاني: وهو أشبه أنهما اسمان لمسميين، واختلف من قال بهذا في المسمى منهما على قولين؛ أحدهما: أن مكة اسم البلد وبكة «5» اسم البيت، وهذا قول إبراهيم النخعي. والقول الثاني: أن مكة الحرم كله وبكة المسجد كله، وهذا قول زيد بن أسلم، فأما مكة فمأخوذة من قولهم: تمككت المخ إذا استخرجته لأنها تملك الفاجر، أي تخرجه، قال الشاعر: يا مكة الفاجر مكي مكا ... ولا تمكي مذ حجا وعكا وأما بكة قال الأصمعي: سميت بذلك لأن الناس يبك بعضهم بعضا،

_ (5) وقلب الباء ميما أو العكس وارد في العديد من الكلمات العربية وهي قاعدة في اللغة الآرامية أم اللغة العربّية.

أي يدفع، وأنشد يقول: إذا الشريب أخذته بكة ... فخله حتى يبك بكة ثم أفضت رئاسة قريش بعد قصي إلى ابنه عبد مناف بن قصي فجاد وزاد وساد حتى قال فيه الشاعر: كانت قريش بيضة فتفقأت ... فالمح خصاله لعبد مناف وكان اسمه المغيرة فدفعته أمه إلى مناف وكان أعظم أصنام مكة تعظيما له فغلب عليه عبد مناف وكان يسمى القمر لجماله فاستحكمت رياسته بعد أبيه لجوده وسياسته ثم ببنيه فولد له هاشم وعبد شمس توأمان في بطن فقيل أنه ابتدأ خروج أحدهما وأصبعه ملصقة بجبهة الآخر فلما أزيلت دمى موضعها فقيل: يكون بينهما دم، ثم ولد بعدهما نوفل، ثم المطلب. وكان أصغرهم فساروا وتقدمهم هاشم لسخائه وسؤدده، وكان اسمه عمرا، فسمي هاشما لأنه أول من هشم الثريد لقومه بمكة في سنة لزبة قحطة رحل فيها إلى فلسطين فاشترى منها الدقيق وقدم به إلى مكة ونحر الجزر وجعلها ثريدا عمّ به أهل مكة حتى استقلوا، فقال فيه الشاعر: يا أيها الرجل المحول رحله ... هلا نزلت بال عبد مناف الآخذون العهد من آفاقها ... الراحلون لرحلة الإيلاف والرايشون وليس يوجد رايش ... والقائلون هلم للأضياف والخالطون غنيهم بفقيرهم ... حتى يكون فقيرهم كالكافي عمرو العلا هشم الثريد لقومه ... ورجال مكة مسنتون عجاف وهاشم أول من سن الرحلتين لقريش: رحلة الشتاء ورحلة الصيف، وأراد أمية بن عبد شمس أن يتشبه بهاشم في صنيعه فعجز عنه فشمت به ناس كثير من قريش، فقال فيه وهب بن عبد قصي: تحمل هاشم ما ضاق عنه ... وأعيا أن يقوم به بريض أتاهم بالغرائر مثقلات ... من الشام بالبر البغيض فأوسع أهل مكة من هشيم ... وشاب اللحم باللحم الغريض

ونشبت العداوة بين أمية وهاشم وأراد منافرته فكره هاشم ذلك لنسبه وقدره فلم تدعه قريش حتى نافره إلى الكاهن الخزاعي في خمسين ناقة سود الحدق ينحرها ببطن مكة والجلاء من مكة عشر سنين، فنفر الخزاعي هاشما وقال لأمية: تنافر رجلا هو أطول منك قامة وأعظم منك هامة وأحسن منك وسامة وأقل منك لامة وأكثر منك ولدا وأجزل منك صفرا، فقال أمية: من انتكاث الزمان أن جعلناك حكما، فأخذ هاشم الإبل فنحرها وأطعمها من حضره وخرج أمية إلى الشام فأقام بها عشر سنين، فكانت هذه أول عداوة وقعت بين هاشم وأمية وملك هاشم الوفادة والسقاية واستقرت له الرياسه وصارت قريش له تابعة تنقاد لأمره وتعمل برأيه، وتنافرت قريش وخزاعة إليه فخطبهم بما أذعن له الفريقان بالطاعة، فقال في خطبته: أيها الناس نحن آل إبراهيم وذرية إسماعيل وبنو النضر ابن كنانة وبنو قصي بن كلاب وأرباب مكة وسكان الحرم لنا ذروة الحسب ومعدن المجد ولكل في كل حلف يجيب عليه نصرته وإجابة دعوته إلّا ما دعا إلى عقوق عشيرة وقطع رحم يا بني قصي أنتم كغصني شجرة أيهما كسر أوحش صاحبه والسيف لا يصان إلّا بغمده ورامي العشيرة يصيبه سهمه ومن أمحكه اللجاج أخرجه إلى البغي أيها الناس الحلم شرف والصبر ظفر والمعروف كنز والجود سؤد والجهل سفه والأيام دول والدهر غير والمرء منسوب إلى فعله ومأخوذ بعمله فاصطنعوا المعروف تكسبوا الحمد ودعوا الفضول تجانبكم السفهاء وأكرموا الجليس يعمر ناديكم وحاموا الخليط يرغب في جواركم وأنصفوا من أنفسكم يوثق بكم وعليكم بمكارم الأخلاق فإنها رفعة وإياكم والأخلاق الدنيئة فإنها تضع الشرف وتهدم المجد ألا وأن نهنهة الجاهل أهون من حزيرته ورأس العشيرة يحمل أثقالها ومقام الحليم عظة لمن انتفع به. فقالت قريش: رضينا بك أبا نضلة، وهي كنيته، فانظروا إلى ما أمر به من شريف الأخلاق ونهى عنه من مساوىء الأفعال هل صدر إلّا عن غزارة فضل وجلالة قدر وعلو همة وما ذاك إلّا لاصطفاء يراد وذكر يشاد لأن توالي ذلك في الآباء يوجب تناهيه في الأبناء، ومات هاشم بغزة من أرض الشام وهو أول

من مات من ولد عبد مناف ثم مات عبد شمس بمكة فقبر باجياد ثم مات نوفل بسلمان من طريق العراق ومات المطلب بريمان من أرض اليمن، وكان هاشم قد تزوج بيثرب من الخزرج بسلمى بنت عمرو النجارية فولدت له بيثرب عبد المطلب وكان اسمه شيبة الحمد ونشأ فيهم حتى مات أبوه هاشم وانتقلت عنه الرياسة والوفادة والسقاية إلى أخيه المطلب ووصف له شيبة بيثرب فخرج فاستنزل أمه عنه حتى أخذه منها ودخل به مكة مردفا له فقالت قريش: من هذا؟ فقال: عبدي، فسمي عبد المطلب إلى أن مات فوثب عليه عمه نوفل ابن عبد مناف في ركح كان له فاغتصبه إياه- والركح الساحة- فسأل عبد المطلب رجالات قومه النصرة على عمه، فقالوا: لسنا داخلين بينك وبين عمك، فلما رأى عبد المطلب ذلك كتب إلى أخواله من بني النجار يقول: يا طول ليلي لأشجاني وأشغالي ... هل من رسول إلى النجار أخوالي ينبىء عديا ودينارا ومازنها ... ومالكا عصمة الجيران عن حالي وكنت ما كنت حيا ناعما جذلا ... أمشي الغضية سحابا لأذيالي حتى ارتحلت إلى قومي وأزعجني ... عن ذاك مطلب عمي بترحالي فغاب مطلب في قعر مظلمة ... وقام نوفل كي يعدو على مالي أئن رأى رجلا غابت عمومته ... وغاب أخواله عنه بلا والي أنحى عليه ولم يحفظ له رحما ... ما أمنع المرء بين العم والخال فاستنفروا وامنعوا ضيم ابن أختكم ... لا تخذلوه وما أنتم بخذالي ما مثلكم في بني قحطان قاطبة ... حي لجار وانعام وافضال أنتم ليان لمن لانت عريكته ... سلما لكم وسمام الأبلج العالي فقدم عليه ثمانون راكبا من بني النجار ونصروه على عمه نوفل وارتجعوا منه الركح وعادوا، وقد اشتد بهم عبد المطلب فدعا ذلك نوفلا أن حالف بني عبد شمس على عبد المطلب وبني هاشم ودعا ذلك عبد المطلب على أن حالف بني هاشم على نوفل وبني عبد شمس، فقوى عبد المطلب وضعف نوفل وانتقلت السقاية والوفادة والرياسة إلى عبد المطلب، وأخذ نوفل عهدا من أكاسرة العراق وصارت رحلته إليها، وأخذ عبد المطلب عهدا من ملوك الشام

وأقيال حمير باليمن وصارت رحلته إليها، وحفر عبد المطلب حين قوي واشتد بئر زمزم وأخرج منها ما كان ألقاه فيها عامر بن الحرث الجرهمي ومن غزالي الكعبة وحجر الركن فضرب الغزالين صفائح ذهب على باب الكعبة ووضع الحجر في الركن، وصار عبد المطلب سيدا عظيم القدر مطاع الأمر نجيب النسل حتى مرّ به أعرابي وهو جالس في الحجر وحوله بنوه كالأسد، فقال: إذا أحب الله إنشاء دولة خلق لها أمثال هؤلاء، فأنشأ الله لهم بالنبوة دولة وخلد بها ذكرهم ورفع بها قدرهم حتى سادوا الأنام وصاروا الأعلام وصار كل من قرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من آبائه أعظم رياسة وتنوها وأكثر فضلا وتالها. فحكى الزهري ويزيد بن رومان وصالح بن كيسان أن عبد الطلب بن هاشم نذر أنه متى رزق عشرة أولاد ذكور ورآهم بين يديه رجالا أن ينحر أحدهم للكعبة شكرا لربه حين علم أن إبراهيم أمر بذبح ولده تصوّرا من أنه أفضل قربة فلما استكمل ولده العدد وصاروا له من أظهر العدد قال لهم: يا بني كنت نذرت نذرا علمتموه قبل اليوم فما تقولون؟ قالوا: الأمر لك وإليك ونحن بين يديك، فقال: لينطلق كل واحد منكم إلى قدحه وليكتب عليه اسمه، ففعلوا ثم أتوه بالقداح فأخذها وجعل يرتجز ويقول: عاهدته وأنا موف عهده ... والله لا يحمد شيء حمده إذا كان مولاي وكنت عبده ... نذرت نذرا لا أحب رده ولا أحب ان اعيش بعده ثم دعا بالأمين الذي يضرب بالقداح فدفع إليه قداحهم وقال: حرك ولا تعجل، وكان أحب ولد عبد المطلب إليه عبد الله، فضرب صاحب القداح السهم على عبد الله، فأخذ عبد المطلب الشفرة وأتى بعبد الله وأضجعه بين إساف ونائلة وأنشأ مرتجزا يقول: عاهدته وأنا موف نذره ... والله لا يقدر شيء قدره هدا بني قد أريد نحره ... وإن يؤخره يقبل عذره وهمّ بذبحه فوثب إليه ابنه أبو طالب وكان أخا عبد الله لأبيه وامه وأمسك يد عبد المطلب عن أخيه، وأنشأ مرتجزا يقول:

كلا ورب البيت ذي الأنصاب ... ما ذبح عبد الله بالتلعاب «6» يا شيب إن الريح ذو عقاب ... إن لنا جرة في الخطاب أخوال صدق كأسود الغاب فلما سمعت بنو مخزوم هذا من أبي طالب، وكانوا أخواله، قالوا صدق ابن أختنا، ووثبوا إلى عبد المطلب، فقالوا: يا أبا الحرث إنا لا نسلم ابن أختنا للذبح فاذبح من شئت من ولدك غيره، فقال: إني نذرت نذرا وقد خرج القدح ولا بد من ذبحه، قالوا: كلا لا يكون ذلك أبدا وفينا ذو روح وإنا لنفديه بجميع أموالنا من طارف وتالد «7» ، وأنشأ المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم مرتجزا يقول: يا عجبا من فعل عبد المطلب ... وذبحه ابنا كتمثال الذهب كلا وبيت الله مستور الحجب ... ما ذبح عبد الله فينا باللعب فدون ما يبغي خطوب تضطرب ثم وثب السادات من قريش إلى عبد المطلب فقالوا: يا أبا الحرث إن هذا الذي عزمت عليه عظيم وإنك إن ذبحت ابنك لم تتهن بالعيش من بعده «8» ولكن لا عليك أنت على رأس أمرك تثبت حتى نسير معك إلى كاهنة بني سعد فما أمرتك من شيء فامتثله، فقال عبد المطلب: لكم ذلك، وكانوا يرون الكهانة حقا، ثم خرج في جماعة من بني مخزوم نحو الشام إلى الكاهنة فلما دخلوا عليها أخبرها عبد المطلب بما عزم عليه من ذبح ولده وارتجز يقول: يا رب إني فاعل لما ترد ... إن شئت ألهمت الصواب والرشد يا سائق الخير إلى كل بلد ... قد زدت في المال وأكثرت العدد فقالت الكاهنة: انصرفوا عني اليوم، فانصرفوا وعادوا من الغد، فقالت: كم دية الرجل عندكم؟ قالوا: عشرة من الإبل، قالت: فارجعوا إلى بلدكم وقدموا هذا الغلام الذي عزمتم على ذبحه وقدموا معه عشرة من

_ (6) التلعاب: اللعب أي أنه ليس أمرا سهلا ولا مقبولا. (7) الطارف: الجديد. التالد: الموروث. (8) كما خافوا أن يتخذ الناس ذلك سنة بعده.

الإبل ثم اضربوا عليه وعلى الإبل القداح فإن خرج القدح على الإبل فانحروها وإن خرج على صاحبكم فزيدوا في الإبل عشرة عشرة حتى يرضى ربكم، فانصرف القوم إلى مكة وأقبلوا عليه يقولون: يا أبا الحرث إن لك في إبراهيم أسوة فقد علمت ما كان من عزمه في ذبح ابنه إسماعيل وأنت سيد ولد إسماعيل فقدّم مالك دون ولدك، فلما صبح عبد المطلب غدا بابنه عبد الله إلى الذبح وقرّب معه عشرة من الإبل ثم دعا بأمين القداح وجعل لابنه قدحا وقال: اضرب ولا تعجل، فخرج القدح على عبد الله، فجعلها عشرين فضرب فخرج القدح على عبد الله، فجعلها ثلاثين، فضرب فخرج القدح على عبد الله، فجعلها أربعين، فضرب فخرج القدح على عبد الله، فجعلها خمسين، فضرب فخرج القدح على عبد الله، فجعلها ستين، فضرب فخرج القدح على عبد الله، فجعلها ثمانين، فضرب فخرج القدح على عبد الله، فجعلها تسعين، فضرب فخرج القدح على عبد الله، فجعلها مائة، وضرب فخرج القدح على الإبل، فكبّر عبد الله وكبّرت قريش وقالت: يا أبا الحرث أنه قد أنهى رضاء ربك وقد نجا ابنك من الذبح، فقال: لا والله حتى أضرب عليه ثلاثا، فضرب الثانية فخرج على الإبل، فضرب الثالثة فخرج على الإبل، فعلم عبد المطلب أنه قد أنهى رضاء ربه في فداء ابنه فارتجز يقول: دعوت ربي مخلصا وجهرا ... يا رب لا تنحر بني نحرا وفاد بالمال تجد لي وفرا ... أعطيك من كل سوام عشرا عفوا ولا تشمت عيونا حزرا ... بالواضح الوجه المغشى بدرا فالحمد لله الأجل شكرا ... فلست والبيت المغطى سترا مبدلا نعمة ربي كفرا ... ما دمت حيا أو أزور القبرا ثم قربت الإبل وهي مائة من جملة إبل عبد المطلب فنحرت كلها فداء لعبد الله وتركت في مواضعها لا يصد عنها أحد يتناوبها من دب ودرج، فجرت السنّة في الدية بمائة من الإبل إلى يومنا هذا، وانصرف عبد المطلب بابنه عبد الله فرحا، فكان عبد الله يعرف بالذبيح، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا ابن

الذبيحين» - يعني إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام وأباه عبد الله بن عبد المطلب- وهذا من صنع الله تعالى لرسوله لما قدره من رسالته وقضاه من آيات نبوته، فما يخلو نبي من بلوى منذرة ولا ملك من بلية زاجرة، هذا سليمان بن داود عليهما السلام وقد أعطاه الله مع النبوة ملكا لا ينبغي لأحد من بعده وسأل الله تعالى الحكمة فأعطاه قلبا عليما وفهما سليما حتى وضع ثلاثة آلاف مثل تهذبت بها أخلاق قومه واستقامت بها سيرة ملكه بعد أن سخرت له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب وسخرت له الشياطين يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب. وذكر في سيرته أنه كان نزله في كل يوم من دقيق السميد ثلاثين كرا ومن غير السميد كرا وارتفاقه في كل سنة ستة وثلاثين ألف ألف ألف وثلاثة وثلاثين ألف ألف وثلاثمائة ألف مثقال، وكان له ألف وأربعمائة قيل متفرقة في القرى، وملك أربعين سنة كأبيه داود، فابتلاه الله تعالى في أثناء ملكه بعد عشرين سنة منه ما حكاه الله تعالى في كتابه بقوله: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ «9» . وفي فتنته قولان: أحدهما: أن سليمان سبى بنت ملك غزاه في جزيرة من جزائر البحر يقال لها صيدون «10» فألقيت عليه محبتها وهي معرضة عنه تذكرا لأبيها لا تنظر إليه إلّا شزرا ولا تكلمه إلّا نزرا، ثم إنها سألته أن يصنع لها تمثالا على صورته فأمر به فصنع لها فعظمته وسجدت له وسجد معها جواريها وصار صنما معبودا في داره وهو لا يعلم به حتى مضت أربعون يوما وفشا خبره في بني إسرائيل وعلم به سليمان فكسره ثم حرقه ثم ذراه في الريح، هذا قول شهر بن حوشب. والثاني: أن الله تعالى قد جعل ملك سليمان في خاتمه، فقال لآصف- وهو شيطان اسمه آصف الشياطين- كيف تضلون الناس؟ فقال له الشيطان: أعطني خاتمك حتى أخبرك، فأعطاه خاتمه، فألقاه في البحر حتى ذهب ملكه،

_ (9) سورة ص الآية (34) . (10) وقد ذكرت أنها صيدون المعروفة الان باسم صيدا في لبنان.

وهذا قول مجاهد. وفي الجسد الذي ألقي على كرسيه قولان: أحدهما: أن الشيطان الذي ألقى خاتم سليمان في البحر جلس على كرسي سليمان متشبها بصورته يقضي بغير الحق ويأمر بغير الصواب. والثاني: أكثر من غشي جواريه طلبا للولد فولد له نصف إنسان فكان هو الجسد الملقى على كرسيه وزال عن سليمان ملكه فخرج هاربا إلى ساحل البحر يتضيف الناس ويحمل سموك «11» الصيادين بالأجر، وإذا أخبر الناس أنه سليمان كذبوه، إلى أن أخذ حوتة من صياد قيل أنه استطعمها وقيل بل أخذها أجرا، فلما شق بطنها وجد خاتمه في جوفها وذلك بعد أربعين يوما من زوال ملكه عنه، وهي عدة الأيام التي عبد فيها الصنم في داره، فسجد الناس له حين عاد الخاتم إليه. وقال يحيى بن أبي عمر: وجد خاتمه بعسقلان فمشى فيها إلى بيت المقدس تواضعا لله. وفي قوله: ثُمَّ أَنابَ «12» تأويلان: أحدهما: ثم رجع إلى ملكه، قاله الضحاك. والثاني: ثم أناب من ذنبه، قاله قتادة، وبقي في ملكه بعد فتنته عشرين سنة استكمل بها الأربعين، وهي مدة الأيام الأربعين التي زال ملكه فيها. وأما بلوى الملوك: فإن بختنصر كان ملكه طبق عمارة الأرض حتى ملك الأقاليم السبعة ودانت له ملوك الأمم وأدوا إليه خراج بلادهم فطغى قلبه وشمخ أنفه فداخلته العزة واعتقد أن أمم الخلق قد صاروا عبيدا له وخولا وأن ملوك الأرض دانت بطاعته خوفا ورهبة، فغضب الله تعالى عليه وسلبه عزة سلطانه

_ (11) سموك: أسماك، وليس هذا ما ذكرته التوراة عن نهاية سليمان عليه السلام. (12) سورة ص الآية (34) .

وسطوته وأزال عنه هيبته وقدرته وجعل قلبه مثل قلوب الحيوان فانحط عن سرير ملكه ونفاه أعوانه عنهم فسكن الفلوات يأكل حشيشها وابتل جسمه من قطر السماء حتى طال شعره وصارت أظفاره كمخاليب الطير حتى حال سبعة أحوال وهو في سكرة لا يدري الناس إلّا أنه كنوع من الحيوان الذي في صورة البشر إلى أن استنقذه الله تعالى من كربه فثاب إليه عقله وراجعه تمييزه فرجع ببصره إلى السماء معظما لله تعالى ومستجيرا به ومعترفا أن لا سلطان إلّا له يؤتيه من يشاء وينزعه ممن يشاء، فطلبه قوّاده ليردّوه إلى سلطانه حتى وجدوه فأعادوه إلى دار عزه وأجلسوه على سرير ملكه فعاد إلى خوف الله تعالى ومراقبته وإلى ما كان عليه من جميل سيرته واستناب دانيال النبي في خلافته وتدبير ملكه إلى أن مضى لسبيله بعد إحدى وخمسين سنة من ملكه ودانيال على خلافته. ومنهم من ملوك الفرس: كسرى أبرويز، بلغ في الملك مبلغا عظيما وكان في قصره اثنتا عشر ألف جارية منهن للاستمتاع ثلاثة آلاف جارية وباقيهن للغناء والخدمة، وكان في داره ثلاثة آلاف رجل يقومون بخدمته وكان له ألف فيل إلّا فيل ومن الخيل والبغال خمسون ألف رأس منها لمركبه ثمانية آلاف وخمسائة، وأمر أن يحصى ما اجتبى من خراج بلاده سنة ثمان عشرة من ملكه فكان ستمائة ألف ألف درهم وعدد على ابنه شيرويه بعد قبضه عليه أنه قال: أمرنا في سنة ثلاثين ملكنا بإحصاء ما في بيوت أموالنا سوى ما أمرنا بعزله لأرزاق الجند وكان من الورق أربعمائة ألف بدرة يكون فيها ألف ألف ألف مثقال وستمائة ألف ألف مثقال سوى ما أفاءه الله تعالى علينا وزادنا من أموال ملوك الروم في سفن أقبلت بها الريح إلينا قسمناه في الرياح ولم تزل تزداد أموالنا إلى سنتنا هذه وهي سنة ثمان وثلاثين من ملكنا وفيها قبض عليه ابنه حتى قتله، وقد ذكر له ما جمع لأنه استطال واحتقر الناس. فانظر أيها المعتبر بعقله في صنع الله تعالى وقدرته فيمن يبتليه اختبارا ويبلوه ازدجارا هل لما قضاه من دافع وفيما ابتلاه من مانع إلّا بلطف منه يؤتيه من يشاء وهو القوي العزيز.

الباب السابع عشر فيما هجست به النفوس من إلهام العقول بنبوته عليه السلام

طهارة مولد الرسول صلى الله عليه وسلم وأما طهارة مولده فإن الله تعالى استخلص رسوله من أطيب المناكح وحماه من دنس الفواحش ونقله من أصلاب طاهرة إلى أرحام طاهرة، وقد قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه في تأويل قول الله تعالى: وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ «13» أي تقلبك من أصلاب طاهرة من أب بعد أب إلى أن جعلتك نبيا، وقد كان نور النبوة في آبائه ظاهرا. حكي أن كاهنة بمكة يقال لها فاطمة بنت مر الخثعمية قرأت الكتب فمر بها عبد المطلب ومعه ابنه عبد الله يريد أن يزوجه آمنة بنت وهب فرأت نور النبوة في وجه عبد الله، فقالت: هل لك أن تغشاني وتأخذ مائة من الإبل؟ فعصمه الله تعالى من إجابتها وقال لها: أما الحرام فالممات دونه ... والحل لا حل فاستبينه فكيف بالأمر الذي تبغينه فلما تزوجت به آمنة وحملت منه برسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: هل لك فيما قلت، فلم تر ذلك النور في وجهه، فقالت له: قد كان ذلك مرة فاليوم لا، ماذا صنعت؟ فقال: زوجني أبي آمنة بنت وهب الزهرية، فقالت: قد أخذت النور الذي كان في وجهك، وأنشأت تقول: الآن قد ضيعت ما كان ظاهرا ... عليك وفارقت الضياء المباركا غدوت عليّ خاليا فبذلته ... لغيري هنيا فألحقن بنسائكا ولا تحسبن اليوم أمس وليتني ... رزقت غلاما منك في مثل حالكا وداخلها الأسف على ما فاتها والحسرة على ما تولى عنها فحسدت آمنة على ما صار لها فأنشأت تقول: إني رأيت مخيلة نشأت ... فثلألأت كتلألؤ الفجر ولما بها نور يضيء به ... ما حولها كإضاءة البدر

_ (13) سورة الشعراء الآية (219) .

ورأيتها متبينا شرفا ... ما كل قادح زنده يوري لله ما زهرية سلبت ... ثوبيك ما استلبت وما تدري وأنذرت بني هاشم فقالت: بني هاشم قد غادرت من أخيكم ... أمينة إذ للباه يعتلجان كما غادر المصباح بعد خموده ... قتائل قد ميثت له بدهان وما كل ما يحوي الفتى من بلاده ... لحزم ولا ما فاته لتوان فأجمل إذا طالبت أمرا فإنه ... سيكفيكه جدان يعتلجان ولما حوت منه أمينة ما حوت ... منه فخارا ما لذلك ثان سيكفيكه إما يد منغلة ... وإما يد مبسوطة لبنان وهذا من آيات الله تعالى في رسوله إن عصم أباه حين كان في ظهره أن يضعه من سفاح حتى وضعه من نكاح ثم زالت العصمة بعد وضعه حتى عرض بالطلب بعد أن كان مطلوبا ورغب فيه بعد أن كان مرغوبا ثم لم يشركه في ولادته من أبويه أخ ولا أخت لانتهاء صفوتهما إليه وقصور نسبهما عليه ليكون مختصا بنسب جعله الله تعالى للنبوّة غاية ولتفرده بها آية فيزول عنه أن يشارك فيه ويماثل به فلذلك مات أبواه عنه في صغره فأما أبوه عبد الله فمات عنه بمكة وهو حمل وأما آمنة فماتت عنه بالمدينة وهو ابن ست سنين لأنها رحلت إليها لزيارة أخوالها من بني النجار فماتت عندهم، وإذا خبرت حال نسبه وعرفت طهارة مولده علمت أنه سلالة آباء كرام سادوا ورأسوا لأنه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان ليس في آبائه خامل مسترذل ولا مغمور مستذل، كلهم سادة قادة، وهم أخص الناس بالمناكح الطاهرة حتى تحرجوا من نكاح المحارم وإن استباحه غيرهم من العرب حتى حكي أن حاجب بن زرارة وهو سيد بني تميم نكح بنته وأولدها، وقد كان سماها دختنوس باسم بنت كسرى، وقال فيها حين نكحها مرتجزا:

يا ليت شعري عنك دختنوس ... إذا أتاها الخبر المرموس أتسحب الذيلين أم تميس ... لا بل تميس أنها عروس وهذا في قريش من الفواحش. وفي التوراة أن لوطا نكح بنتين له فولدتا غلامين ولهما ذرية كبيرة، ولوط هو ابن أخي إبراهيم الخليل، وقد تزوج إبراهيم بنت أخيه سارة بنت هاران بن تارخ، فتنزهت قريش من هذه المناكح حفظا لحرمة الأرحام الدانية أن تنتهك بالمناكح العاهرة فتضعف الحمية وتقل الغيرة. فإن قيل: يشارك الأنبياء في شرف النسب وطهارة المولد غيرهم فلم يستحق بهما النبوّة. قيل: هما من شروط النبوة وإن استحقت غيرهما فلم يمتنع أن يكون لهما في النبوة تأثير معتبر ووصف مختبر.

الباب التاسع عشر في آيات مولده وظهور بركته صلى الله عليه وسلم ايات الملك باهرة وشواهد النبوة قاهرة تشهد مباديها بالعواقب فلا يلتبس فيها كذب بصدق ولا منتحل بمحقّ، وبحسب قوتها وانتشارها يكون بشائرها وإنذارها. ولما دنا مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم تعاطرت آيات نبوّته وظهرت آيات بركته فكان من أعظمها شأنا وأظهرها برهانا وأشهرها عيانا وبيانا أصحاب الفيل أنفذهم النجاشي من أرض الحبشة في جمهور جيشه إلى مكة لقتل رجالها وسبي ذراريها وهدم الكعبة، واختلف في سببه فذكر قومه أن إبراهيم بن الصباح استولى على اليمن معتزيا إلى النجاشي فبنى بصنعاء اليمن كنيسة للنصارى واستعان في بنيانها بقيصر والنجاشي حتى بناها في تشييدها وحسنها ليعدل بالعرب عن حج الكعبة إليها، فأنكرته العرب ودخل إلى هيكلها بعض بني كنانة من قريش فأحدث فيها فكتب إلى النجاشي يستمده بالفيل وجيش الحبشة ليغزو قريشا ويهدم الكعبة فسار بهم وأخذ أبا رغال من الطائف دليلا إلى مكة حتى أنزله بالمغمس ومات أبو رغال بالمغمس فدفن فيه فرجمت العرب قبره، فهو القبر المرجوم بالمغمس. وقال آخرون: بل سببه أن نفرا من تجار قريش مروا ببيعة للنصارى على شاطىء البحر فنزلوا بفنائها وأوقدوا نارا لعمل طعامهم فاحترقت البيعة فأقسم النجاشي ليسبين مكة وليهد من الكعبة، فأنفذ جيشه والفيل مع إبراهيم بن الصباح وأبو مكسوم وحجر بن شراحيل والأسود بن مقصود، وكان النجاشي

هو الملك وأبرهة صاحب جيشه على اليمن وأبو مكسوم وزيره وحجر والأسود من قواده فساروا بالجيش مع الفيل حتى نزلوا بذي المجاز وتقدمهم الأسود بن مقصود فاستاق سرح مكة، فقال فيه عبد الله بن مخزوم: لا هم اخز الأسود بن مقصود ... الآخذ الهجمة بعد التقليد ويهدم البيت الحرام المعبود ... والمروتين والمشاعر السود اخزهم يا رب وأنت معبود كان في السرح مائتا بعير لعبد المطلب وقد قلد بعضها فخرج وكان وسيما جسيما إلى أبرهة وسأله في إبله، فقال له أبرهة: قد كنت أعجبتني حين رأيتك وقد زهدت الآن فيك، قال: ولم؟ قال: جئت لأهدم الكعبة بيتا هو دينك ودين آبائك فلم تسألني فيه وسألتني في إبلك، فقال عبد المطلب: أنا رب إبلي وللبيت رب غيري سيمنعه منك، فقال أبرهة: ما كان ليمنعه مني، ورد على عبد المطلب إبله مستهزئا ليعود فيأخذها، فأحرزها عبد المطلب في جبال مكة وأتى الكعبة فأخذ حلقة الباب وجعل يقول: يا رب إن المرء يم ... نع حله فامنع حلالك لا يغلبن صليبهم ... ومحالهم أبدا محالك إن كنت تاركهم وكع ... بتنا فأمر ما بدا لك فلئن فعلت فإنه ... أمر يتم به فعالك اسمع بارجس من أرا ... دوا العدو وانتهكوا حلالك جروا جميع بلادهم ... والفيل كي يسبوا عيالك عمدوا حماك بكيدهم ... جهلا وما رقبوا جلالك وتوجه الجيش إلى مكة من طريق منى والفيل معهم إذا بعث على الحرم أحجم وإذا أعدل عنه أقدم فوقعوا بالمغمس، فقال أبو الطيب بن مسعود في ذلك وقيل بل قاله عبد المطلب: إن آيات ربنا ساطعات ... ما يماري بها إلّا الكفور حبس الفيل بالمغمس حتى ... مر يعوي كأنه معقور

وبصر أهل مكة بالطير قد أقبلت من ناحية البحر، فقال عبد المطلب. إن هذه غريبة بأرضنا ما هي نجدية ولا تهامية ولا حجازية وإنها لأشباه اليعاسيب، وكان في مناقيرها وأرجلها حجارة، فلما أظلت على القوم ألقتها عليهم حتى هلكوا فأفلت من القوم أبرهة ورجع إلى اليمن فمات في طريقه بعد أن كان يسقط من جسده عضو عضو حتى هلك، ولما تأخر القوم عنهم واستعجم خبرهم عليهم قال عبد المطلب: يا رب لا نرجوا لهم سواكا ... يا رب فامنع منهم حماكا إن عدو البيت من عاداكا ... امنعهم أن يخربوا قراكا وبعث ابنه عبد الله ليأتيه بخبرهم فوجد جميعهم قد شدختهم الأحجار حتى هلكوا، فعاد راكضا إلى عبد المطلب وأصحابه وأخذوا أموالهم، فكانت أول أموال بني عبد المطلب، فأشنأ مرتجزا يقول: أنت منعت الجيش والأفيالا ... وقد رعوا بمكة الأخيالا وقد خشينا منهم القتالا ... وكل أمر لهم معضالا شكرا وحمدا لك ذا الجلالا وآية الرسول من قصة الفيل: أنه كان في زمانه حملا في بطن أمه بمكة لأنه ولد بعد خمسين يوما من الفيل وبعد موت أبيه في يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول ووافق من شهور الروم العشرين من شباط في السنة الثانية عشرة من ملك هرمز بن أنو شروان. وحكى أبو جعفر الطبري أن مولده صلى الله عليه وسلم كان لاثنتين وأربعين سنة من ملك أنو شروان (فكانت آيته) في ذلك من وجهين: أحدهما: أنهم لو ظفروا لسبوا واسترقوا فأهلكهم الله تعالى لصيانة رسوله أن يجري عليه السبي حملا ووليدا. والثاني: أنه لم يكن لقريش من التأله ما يستحقون به رفع أصحاب الفيل عنهم وما هم أهل كتاب لأنهم كانوا بين عابد صنم أو متدين وثن أو ثائل

بالزندقة أو مانع من الرجعة «1» ولكن لما أراده الله تعالى من ظهور الإسلام تأسيسا للنبوة وتعظيما للكعبة وأن يجعلها قبلة للصلاة ومنسكا للحج. فإن قيل: فكيف منع عن الكعبة قبل مصيرها قبلة ومنسكا ولم يمنع الحجّاج من هدمها وقد صارت قبلة ومنسكا حتى أحرقها ونصب المنجنيق عليها، فقال فيها على ما حكي عنه: كيف تراه ساطعا غباره ... والله فيما يزعمون جاره وقال راميها بالمنجنيق: قطارة مثل الفنيق المزبد ... أرمي بها أعواد كل مسجد قيل: فعل الحجّاج كان بعد استقرار الدين فاستغنى عن آيات تأسيسه، وأصحاب الفيل كانوا قبل ظهور النبوة فجعل المنع منها آية لتأسيس النبوة ومجيء الرسالة على أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أنذر بهدمها فصار الهدم آية بعد أن كان المنع آية، فلذلك اختلف حكمهما في الحالين والله تعالى أعلم. ولما انتشر في العرب ما صنع الله تعالى بجيش الفيل تهيبوا الحرم وأعظموه وزادت حرمته في النفوس ودانت لقريش بالطاعة وقالوا: أهل الله قاتل عنهم وكفاهم كيد عدوهم، فزادوهم تشريفا وتعظيما، وقامت قريش لهم بالوفادة والسدانة والسقاية، والوفادة: مال تخرجه قريش في كل عام من أموالهم يصنعون به طعاما للناس أيام منى، فصاروا أئمة ديانين وقادة متبعين، وصار أصحاب الفيل مثلا في الغابرين. وروى هشام بن محمد الكلبي عن أبيه أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه خرج في الجاهلية تاجرا إلى الشام فمرّ بزنباع بن روح وكان عشارا فأساء إليه في اجتيازه وأخذ مكسه فقال عمر بعد انفصاله: متى ألف زنباع بن روح ببلدة ... إلى النصف منها يقرع السن بالندم ويعلم أنا من لؤي بن غالب ... مطاعين في الهيجا مضاريب في التهم فبلغ ذلك زنباعا فجهز جيشا لغزو مكة، فقيل له: إنها حرم الله ما

_ (1) مانع من الرجعة: منكر للبعث والقيامة

الباب التاسع عشر في آيات مولده وظهور بركته صلى الله عليه وسلم

أرادها أحد بسوء إلّا هلك كأصحاب الفيل فكفّ زنباع، فقال: تمنى أخو فهر لقاي ودونه ... قراطبة مثل الليوث الحواظر فوالله لولا الله لا شيء غيره ... وكعبته راقت إليكم معاشري لأقتل منكم كل كهل معمم ... وأسبي نساء بين جمع الأباعر فبلغ ذلك عمر رضوان الله تعالى عليه فأجابه وقال: ألم تر أن الله أهلك من بغى ... علينا قديما في قديم المعاشر وأردى أبا مكسوم أبرهة الذي ... أتانا مغيرا كالفنيق المخاطر بجمع كثير يحرج العين وسطه ... على رأسه تاج على رأس باكر فما راعنا من ذلك العبد كيده ... وكنا به من بين لاه وساخر وقال سأبغي البيت هدما ولا أرى ... بمكة ماش بين تلك المشاعر فرداه رب العرش عنا رداءه ... ولم ينجه إعظامه بالمرائر فأهلكه والتابعين له معا ... وأسرى به من ناصر ومسامر وليس لنا فاعلم وليس لبيتنا ... سوى الله من مولى عزيز وناصر فدونك زرنا تلق مثل الذي لقوا ... جميعهم من دار عين وحاسر وكان شأن الفيل رادعا لكل باغ ودافعا لكل طاغ وقد عاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمن نبوته وبعد هجرته جماعة شاهدوا الفيل وطير الأبابيل منهم حكيم ابن حزام وحاطب بن عبد العزى ونوفل بن معاوية لأن كل واحد من هؤلاء عاش مائة وعشرين منها ستين سنة في الجاهلية وستين سنة في الإسلام. مولد الرسول صلى الله عليه وسلم ولما حملت آمنة بنت وهب برسول الله صلى الله عليه وسلم حدثت أنها أتيت، فقيل لها: إنك قد حملت بسيد هذه الأمة فإذا وقع على الأرض فقولي أعيذه بالواحد من شر كل حاسد ثم سميه محمدا ورأيت حين حملت به أنه خرج منها نور رأت منه قصور بصرى من أرض الشام. قالت أم عثمان بن العاص شهدت ولادة آمنة برسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ليلا فما شيء أنظر إليه من البيت إلّا نور وإنني أنظر إلى النجوم تدنو وإني أقول لتقعن عليّ ولما وضعته تركت عليه في ليلة ولادته جفنة فانقلبت عنه فكان من آياته أن لم

طفولته صلى الله عليه وسلم

تحوه وأرسلت إلى جده عبد المطلب أن قد ولد لك غلام فأته فانظر إليه فأتاه ونظر إليه وحدثته بما رأت حين حملت به وما قيل لها فيه وما أمرت أن تسميه فقيل إن عبد المطلب أخذه فدخل به على هبل في جوف الكعبة فقام عنده يدعو ويشكر بما أعطاه ثم خرج به إلى أمه فدفعه إليها وقال: قد رأى فيه سمات المجد وتوسم فيه إمارات السؤدد أن محمدا لن يموت حتى يسود العرب والعجم وأنشأ يقول: الحمد لله الذي أعطاني ... هذا الغلام الطيب الأردان أعيذه بالواحد المنان ... من كل ذي عيب وذي شنآن حتى أراه شامخ البنيان طفولته صلى الله عليه وسلم ولم يزل موفور البركة على كل لائذ به وكافل له فروى جهم بن أبي الجهم عن عبد الله بن جعفر قال: لما ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم قدمت حليمة بنت الحرث ابن عبد العزى تلتمس الرضعاء في سنة شيبة قالت ومعنا شارف والله ما يبض لنا بقطرة من لبن ومعي بني لي منه وما نجد في ثديي ما نعلله إلّا أنا نرجو الغيث وكانت لنا غنم فنحن نرجوها فلما قدمنا مكة لم يبق منا امرأة إلّا عرض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم تقبله وكرهناه ليتمه فأخذ كل صاحبي رضعاء ولم أجد غيره فأخذته وأتيت به رحلي فوالله إن هو إلّا أن ثبت في الرحل وأمسيت فأقبل ثدياي باللبن حتى أرويته وأرويت اخاه، وقام أبوه إلى شارفنا تلك ليمسه بيده فإذا هي حافل فحلبها ما رواني من لبنها وروى الغلمان فقال: يا حليمة لقد أصبنا نسمة مباركة ثم اغتدينا راجعين إلى بلادنا فركبت أتاني وحملته معي فوالذي نفس حليمة بيده لقد طفت بالركب حتى أن النسوة ليقلن يا حليمة امسكي عنا أهذه أتانك التي خرجت عليها قلت نعم: فقلت والله إني لأرجو أن أكون قد حملت عليها غلاما مباركا قالت: فكان الله يزيدنا به في كل يوم خيرا وإن غنمنا لتعود من الرعي بطانا حفلا، وتعود غنم الناس خماصا جياعا. قال: فبينا هو يلعب خلف البيوت وأخوه في بهم لنا إذ أتاني أخوه يشتد فقال: إن أخي القرشي جاءه رجلان عليهما ثوبان أبيضان فأخذاه فأضجعاه

نشأته صلى الله عليه وسلم

وشقا بطنه، فخرجت أنا وأبوه فوجدناه قائما قد انتقع لونه فلما رآنا أجهش إلينا باكيا قالت فالتزمته أنا وأبوه وقلنا له ما لك فقال: جاءني رجلان فأضجعاني فشقا بطني وصنعا بي يلم رداءه كما هو قال أنس بن مالك جاءه جبريل فصرعه، فشق بطنه، فاستخرج القلب، ثم شق القلب فاستخرج منه علقة فقال هذا حظ الشيطان منك ثم غسله ثم لأمه ثم أعاده إلى مكانه. قال أنس: قد كنت أنظر إلى المخيط في صدره، ثم إن زوج حليمة قال لها: يا حليمة لقد خشيت أن يكون هذا الغلام قد أصيب فألحقيه بأهله قبل أن يظهر به ذلك، فاحتملته حليمة حتى قدمت به على أمه آمنة فقالت أمه ما أقدمك به يا ظئر، قالت: قد قضيت الذي عليّ وتخوّفت الأحداث عليه فأديته إليك كما تحبين قالت: ما هذا شأنك، فاصدقيني فأخبرتها حليمة بحاله وقالت: تخوّفت عليه الشيطان، فقالت أمه كلا والله ما للشيطان عليه سبيل وأن له لشأنا وأني رأيت حين حملت به أنه خرج مني نور أضاءت منه قصور بصرى ووقع حين ولدته وأنه لواضع يده بالأرض رافع رأسه في السماء دعيه فانطلقي راشدة وفي هذا الخبر من آياته ما تذعن النفوس بصحة نبوّته. نشأته صلى الله عليه وسلم وروى محمد بن إسحاق قال حدثني بعض أصحابنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لقد رأيتني وأنا غلام يفع بمكة مع غلمان قريش نحمل حجارة على أعناقنا وقد حملنا أزرنا فوطأنا على رقابنا إذ دفعني دافع ما أراه وقال: اشدد عليك إزارك، فشددت إزاري، وهذا من نذر الصيانة ليكون عليها ناشئا ولها آلفا في كفالة أبي طالب وروى علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما هممت بشيء مما كان في الجاهلية يعملون به غير مرتين كل ذلك يحول الله تعالى بيني وبين ما أريد فإني قلت ليلة لغلام من قريش كان يرعى معي بأعلى مكة: لو أبصرت إلى غنمي حتى أدخل مكة فاسمر بها ما يسمر الشباب، فقال ادخل، فخرجت أريد ذلك حتى إذا جئت أول دار من دور

شبابه صلى الله عليه وسلم

مكة سمعت عزفا بالدفوف والمزامير فقلت ما هذا قالوا فلان بن فلان تزوج فلانة ابنة فلان فجلست أنظر إليهم فضرب الله على أذني فنمت فما أيقظني إلّا مس الشمس، قال فجئت صاحبي، فقال ما فعلت، فقلت: ما صنعت شيئا وأخبرته الخبر، قال ثم قلت له ليلة أخرى مثل ذلك، فقال افعل، فخرجت فسمعت حين جئت مكة مثل ما سمعت ودخلت مكة تلك الليلة فجلست أنظر فضرب الله على أذنيّ فوالله ما أيقظني إلّا مس الشمس فرجعت إلى صاحبي فأخبرته الخبر، ثم ما هممت بعدهما بسوء حتى أكرمني الله برسالته» . فهذه أحوال عصمته قبل الرسالة، وصده عن دنس الجهالة، فاقتضى أن يكون بعد الرسالة أعظم ومن الأدناس أسلم وكفى بهذه الحال أن يكون من الأصفياء الخيرة أن أمهل ومن الأتقياء البررة أن أغفل ومن أكبر الأنبياء عند الله تعالى من أرسل مستخلص الفطرة على النظرة، وقد أرسله الله تعالى بعد الاستخلاص وطهره من الأدناس فانتفت عنه تهم الظنون وسلم من ازدراء العيون ليكون الناس إلى إجابته أسرع وإلى الانقياد له أطوع. شبابه صلى الله عليه وسلم ولما نشأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في قريش على أحمد هدى وصيانة وأكمل عفاف وأمانة سمّوه الأمين بعد اختباره وقدموه لفضله ووقاره، وتشاوروا في هدم الكعبة وبنائها لقصر سمكها وكان فوق القامة وسعة حيطانها وكان يتهافت، فأرادوا تجديدها وتعليتها وخافوا من الإقدام على هدمها وكان للكعبة كنز وجدوه عند دويك مولى لبني مليح من خزاعة وأخذته قريش منه وقطعت يده واتهموا به الحرث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف أن يكون قد تولى أخذه وأودعه عند دويك، فنافروه إلى كاهنة من كهان العرب فسجعت عليه من كهانتها أن لا يدخل مكة عشر سنين بما استحل من حرمة الكعبة، فكان يجول حول مكة حتى استوفى العشر، وكان يظهر في الكعبة حية يخاف الناس منها لا يدنو منها أحد إلّا اخزألت وفتحت فاها فتوقوها إلى أن علت ذات يوم على جدار الكعبة فسقط طائر فاختطفها.

فقالت قريش: إنا لنرجوا أن يكون الله قد رضي ما أردنا، وكان البحر قد قذف سفينة على ساحل جدة لرجل من تجار الروم، وكان بمكة نجار من القبط، فهيأ لهم تسقيف الكعبة بخشب السفينة، فلما أزمعوا على هدمها قام أبو وهب بن عمير وكان خال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذا شرف وقدر فأخذ حجرا من الكعبة فوثب الحجر من يده حتى عاد في موضعه، فقال: يا معشر قريش لا تدخلوا في بنيانها من كسبكم إلّا طيبا ولا تدخلوا فيها مهر بغي ولا بيع ربا ولا مظلمة أحد من الناس، وتصورت قريش أن عود الحجر من يد أبي وهب إلى موضعه أن الله تعالى قد كره هدمها فهابوه. وقال الوليد بن المغيرة: أنا أبدؤكم في هدمها، فأخذ المعول وقام عليها وهو يقول: اللهم لا نريد إلّا الخير، ثم هدم الركنين فتربص الناس به تلك الليلة، وقال: ننتظر فإن أصيب لم تهدم وإن لم يصب هدمناها وقد رضي ما صنعنا، فأصبح الوليد من ليلته وعاد إلى عمله وتحاصت قريش الكعبة فكان شق البيت لبني عبد مناف وزهرة وما بين الركن الأسود والركن اليماني لبني مخزوم وتيم وقبائل انضمت إليه من قريش وكان شق الحجر والحطيم لبني عبد الدار وبني عبد العزّى وبني عدي وكان ظهر الكعبة لبني جمح وبني سهم حتى انتهوا إلى الأساس فأفضوا إلى حجارة خضر قيل أنها كانت على قبر إسماعيل فضربوا المعول بين حجرين فلما تحركا انتقضت «2» مكة بأسرها فكفوا وانتهوا إلى أصل الأساس وجمعت كل قبيلة حجارة ما هدمت وبنوا حتى انتهوا إلى ركن الحجر فتنازعت القبائل فيمن يضع الحجر في موضعه من الركن فأقبلوا حتى مكثوا أربع ليال أو خمسا ثم اجتمعوا في المسجد فتشاوروا فقال أبو أمية بن المغيرة وكان أمين قريش في وقته: يا معشر قريش اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول رجل يدخل من باب هذا المسجد. فكان أول داخل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذا محمد وهو الأمين، فقالوا قد رضينا به، لما قد استقر في نفوسهم من فضله وأمانته، فلما وصل إليهم أخبروه، فقال: ائتوني ثوبا، فأتوه بثوب، فأخذ الحجر ووضعه فيه بيده وقال: لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب

_ (2) انتقضت: ارتجت واهتزت.

وليرفعوه جميعا ففعلوا، فلما بلغ الحجر إلى موضعه وضعه فيه بيده، فكان هذا الفعل من مستحسن أفعاله وآثاره والرضاء به من أمارات طاعته. وكان ذلك بعد عام الفجار بخمس عشرة سنة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ابن خمس وثلاثين سنة، فكان ذلك تأسيسا لما يريده الله تعالى به من كرامته وتوطئة لقبول ما تحمله من رسالته والله أعلم بمغيب ما استأثر من علمه.

الباب العشرون في شرف أخلاقه وكمال فضائله صلى الله عليه وسلم المهيأ لأشرف الأخلاق وأجمل الأفعال المؤهل لأعلى المنازل وأفضل الأعمال لأنها أصول تقود إلى ما ناسبها ووافقها وتنفرد مما باينها وخالفها، ولا منزلة في العالم أعلى من النبوة التي هي سفارة بين الله تعالى وعباده تبعث على مصالح الخلق وطاعة الخالق فكان أفضل الخلق بها أخص وأكملهم بشروطها أحق بها وأمسّ ولم يكن في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وما دانى طرفيه من قاربه في فضله ولا داناه في كماله خلقا وخلقا وقولا وفعلا وبذلك وصفه الله تعالى في كتابه بقوله: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ «1» . فإن قيل: فليست فضائله دليلا على نبوّته ولم يسمع بنبي احتج بها على أمته ولا عوّل عليها في قبول رسالته لأنه قد يشارك فيها حتى يأتي بمعجز يخرق العادة فيعلم بالمعجز أنه نبي لا بالفضل. قيل: الفضل من أماراتها وإن لم يكن من معجزاتها ولأن تكامل الفضل معوز فصار كالمعجز ولأن من كمال الفضل اجتناب الكذب وليس من كذب في ادعاء النبوّة بكامل الفضل فصار كمال الفضل موجبا للصدق والصدق موجبا لقبول القول فجاز أن يكون من دلائل الرسل.

_ (1) سورة القلم الآية (4) .

الباب العشرون في شرف أخلاقه وكمال فضائله صلى الله عليه وسلم

وجوه كماله صلى الله عليه وسلم فإذا وضح هذا فالكمال المعتبر في الشر يكون من أربعة أوجه: أحدها: كمال الخلق. والثاني: كمال الخلق. والثالث: فضائل الأقوال. والرابع: فضائل الأعمال [الوجه الأول في كمال خَلْقه] اعتدال صورته صلى الله عليه وسلم فأما الوجه الأول: في كمال خلقه بعد اعتدال صورته فيكون بأربعة أوصاف. أحدها: السكينة الباعثة على الهيبة والتعظيم الداعية إلى التقديم والتسليم وكان أعظم مهيب في النفوس حتى ارتاعت رسل كسرى من هيبته حين أتوه مع ارتياضهم «2» بصولة الأكاسرة ومكاثرة الملوك الجبابرة فكان في نفوسهم أهيب وفي أعينهم أعظم وإن لم يتعاظم بأهبة ولم يتطاول بسطوة بل كان بالتواضع موصوفا وبالوطاء معروفا. طلاقته صلى الله عليه وسلم والثاني: الطلاقة الموجبة للإخلاص والمحبة الباعثة على المصافاة والمودة وقد كان محبوبا ولقد استحكمت محبة طلاقته في النفوس حتى لم يقله مصاحب «3» ولم يتباعد منه مقارب وكان أحب إلى أصحابه من الآباء والأبناء وشرب البارد على الظمأ. ميل القلوب إليه صلى الله عليه وسلم والثالث: حسن القبول الجالب لممايلة القلوب حتى تسرع إلى طاعته

_ (2) ارتياضهم: اعتيادهم من ارتاض أي عوّد نفسه وتدرّب. (3) يقله من القلى: المعاداة أو ترك الصحبة بسبب النفور.

ميل النفوس إليه صلى الله عليه وسلم

وتذعن بموافقته، وقد كان قبول منظره مستوليا على القلوب ولذلك استحكمت مصاحبته في النفوس حتى لم ينفر منه معاند ولا استوحش منه مباعد إلّا من ساقه الحسد إلى شقوته وقاده الحرمان إلى مخالفته. ميل النفوس إليه صلى الله عليه وسلم والرابع: ميل النفوس إلى متابعته وانقيادها لموافقته وثباته على شدائده ومصابرته فما شذ عنه معها من أخلص ولا ند عنه فيها من تخصص، وهذه الأربعة من دواعي السعادة وقوانين الرسالة وقد تكاملت فيه فكمل لما يوازيها واستحق ما يقتضيها. الوجه الثاني في كمال أخلاقه صلى الله عليه وسلم وأما الوجه الثاني: في كمال أخلاقه فيكون بست خصال: رجاحة عقله صلى الله عليه وسلم إحداهن: رجاحة عقله وصحة وهمه وصدق فراسته، وقد دل على وفور ذلك فيه صحة رأيه وصواب تدبيره وحسن تألفه وأنه ما استفعل في مكيدة ولا استعجز في شديدة بل كان يلحظ الإعجاز في المبادىء فيكشف عيوبها ويحل خطوبها وهذا لا ينتظم إلّا بأصدق وهم وأوضح جزم. ثباته صلى الله عليه وسلم في الشدائد والخصلة الثانية: ثباته في الشدائد وهو مطلوب وصبره على البأساء والضراء وهو مكروب ومحروب ونفسه في اختلاف الأحوال ساكنة لا يجوز في شديدة ولا يشكين لعظيمة أو كبيرة ويقدر على الخلاص أو بالشر وهو لا يزداد إلّا اشتدادا وصبرا، وقد لقي بمكة من قريش ما يشيب النواصي ويهدد الصياصي وهو مع الضعيف يصابر صبر المستعلي ويثبت ثبات المستولي. وروى حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لقد أخفت في الله وما يخاف أحد ولقد أوذيت في الله وما يؤذي أحد ولقد أتت علىّ

زهده صلى الله عليه وسلم في الدنيا

ثلاثون من بين يوم وليلة وما لي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلّا شيء يواريه إبط بلال» . وروى عبد الرحمن بن زيد عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ما شبع آل محمد من الشعير يومين حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن صبر على هذه الشدائد في الدعاء إلى الله تعالى امتنع أن يريد به الدنيا وقد زويت عنه وما ذاك إلّا لطلب الآخرة ومستحيل ممن كذب في ادعائه إليها أن يستوحشها أو كذب على الله تعالى أن يثاب إليها. زهده صلى الله عليه وسلم في الدنيا والخصلة الثالثة: زهده في الدنيا وإعراضه عنها وقناعته بالبلاغ «4» منها فلم يمل إلى نضارتها ولم يله لحلاوتها. وروى سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن خيثمة بن عبد الرحمن قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن شئت أعطيت خزائن الأرض ما لم يعط أحد قبلك ولا يعطاه أحد بعدك ولا ينقصك في الآخرة شيئا، قال: «اجمعوها لي في الآخرة» ، فنزلت: تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً «5» . وروى هلال بن أبي خباب عن عكرمة عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب رضوان الله تعالى عليه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على حصير قد أثر في جسمه، فقال له: يا رسول الله لو اتخذت فراشا أوطأ من هذا، فقال: «ما لي وللدنيا ما لي وللدنيا والذي نفسي بيده ما مثلي ومثل الدنيا إلّا كراكب سار في يوم صائف فاستظل تحت شجرة ساعة من النهار ثم راح وتركها» . وروى حميد بن بلال بن أبي بردة قال: أخرجت إلينا عائشة رضي الله تعالى عنها كساء ملبدا وأزارا غليظا وقالت: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذين.

_ (4) قناعته بالبلاغ منها أي بما بالكاد يسد الرمق. (5) سورة الفرقان الآية (10) .

هذا وقد ملك من أقصى الحجاز إلى عذار العراق «6» ومن أقصى اليمن إلى شحر عمان «7» وهو أزهد الناس فيما يقتني ويدخر وأعرضهم عما يستفاد ويحتكر لم يخلف عينا ولا دينا ولا حفر نهرا ولا شيد قصرا ولم يورث ولده وأهله متاعا ولا مالا ليصرفهم عن الرغبة في الدنيا كما صرف نفسه عنها فيكونوا على مثل حاله في الزهد فيها. وروى أبو سلمة عن أبي هريرة قال: جاءت فاطمة رضي الله عنها إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه تريد الميراث فمنعها، فقالت: من يرثك، قال: ولدي وأهلي، فقالت: فلا ترث رسول الله صلى الله عليه وسلم بنته؟ فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنا لا نورث ما تركنا فهو صدقة» ، فمن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوله، فأنا أعوله، ومن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق عليه فأنا أنفق عليه. وحث رسول الله صلى الله عليه وسلم على الزهد في الدنيا والإعراض عن التلبس بها ليكون عونا على السلامة من تباعتها وصرف النفوس عن شهواتها. وروى عبد المطلب بن حاطب عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أحب دنياه أضر بآخرته فآثروا ما يبقى على ما يفنى» . وروي عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حب الدنيا رأس كل خطيئة» . وروى أبو حكيم عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «احذروا الدنيا فإنها أسحر من هاروت وماروت» «8» . وروى عمرو بن مرة عن أبي جعفر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عجبا كل العجب للمصدّق بدار الخلود وهو يسعى لدار الغرور» .

_ (6) عذار العراق: ما انفسخ عن الطف أي أطراف سهوله القريبة من أرض جزيرة العرب. (7) شحر عمان: ساحل البحر بين عمان وعدن. (8) هاروت وماروت يقال أنهما ملاكان سقطا في التجربة عندما نزلا إلى الأرض ولنا ما ذكر القرآن الكريم من أنهما يعلمان الناس السحر في بابل.

وروى عوف عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما مثل الدنيا كمثل الماشي على الماء، هل يستطيع الذي يمشي على الماء أن لا تبتل قدماه» . وهذه الدواعي والوصايا ما اقتدى به خلفاؤه في زهده وانتقلوا بالأمور من بعده، فكان أبو بكر يتخلل عباءة له، وهو خليفة، فسمي ذا الخلالين، وكان عمر يلبس مرقعة من صوف فيها رقاع من ادم ويطوف في الأسواق على عاتقه درة يؤدب بها الناس ويمر بالنوى فيلقطه ويلقيه في منازل الناس حتى ينتفعوا به ويطوف وحده في الليل عسسا ويتطلع غوامض الأمور تجسسا ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. وكان عثمان يقوم الليل كله يختم القرآن في ركعة، وجاد بماله وفدى الخلق بنفسه وقال إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد وأشرب كما يشرب العبد، واشترى علي رضي الله تعالى عنه وهو خليفة قميصا بثلاثة دارهم وقطع كمه من موضع الرسغين وقال: الحمد لله الذي هذا من رياشه، ولم يزل يأكل الخشب «9» ويلبس الخشن، وفرق الأموال حتى رش بيت المال ونام فيه وقال: يا صفراء يا بيضاء غرّي غيري، وحقيق بمن كان في الدنيا بهذه الزهادة حتى اجتذب أصحابه إليها أن لا يتهم بطلبها ويكذب على الله تعالى في ادعاء الآخرة بها ويقنع في العاجل وقد سلب الآجل بالميسور النزر ورضي بالعيش الكدر. وقد روى الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في شهر رمضان قدمي غداءك المبارك وقالت ربما لم يكن إلّا تمرتين. وروى عبد الله بن مسلمة عن مالك بن أنس أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فوجد أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما فسألهما فقال: «ما أخرجكما» ، فقالا: الجوع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وأنا أخرجني الجوع» ، فذهبوا إلى أبي الهيثم بن التيهان فأمر له بحنطة أو شعير عنده يعمل وقام فذبح لهم شاة، فقال له: نكب عن ذات الدّر «10» واستعذب لهم ماء علق على نخلة

_ (9) يأكل الخشب: أي الطعام القاسي الجافي مع أن التنعم بإمكانه. (10) ذات الدر: التي يعيشون من لبنها.

تواضعه صلى الله عليه وسلم للناس

ثم أوتوا بذلك الطعام فأكلوا منه وشربوا من ذلك الماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لتسألن عن نعيم هذا اليوم» ، ثم ملكوا الدنيا فرفضوها واقتنعوا بالبلاغة فيها «11» . تواضعه صلى الله عليه وسلم للناس والخصلة الرابعة: تواضعه للناس وهم أتباع وخفض جناحه لهم وهو مطاع يمشي في الأسواق ويجلس على التراب ويمتزج بأصحابه وجلسائه فلا يتميز عنهم إلّا بإطراقه وحيائه فصار بالتواضع متميزا وبالتذلل متعززا، ولقد دخل عليه بعض الأعراب فارتاع من هيبته، فقال: «خفض عليك فإنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة» ، وهذا من شرف أخلاقه وكريم شيمه، فهي غريزة فطر عليها وجبلة طبع بها لم تندر فتعدّ ولم تحصر فتحدّ. حلمه ووقاره صلى الله عليه وسلم والخصلة الخامسة: حلمه ووقاره عن طيش يهزّه أو خرق يستفزه، فقد كان أحلم في النفار «12» من كل حليم وأسلم في الخصام من كل سليم وقد مني بجفوة الأعراب فلم يوجد منه نادرة ولم يحفر عليه بادرة ولا حليم غيره إلّا ذو عثرة ولا وقور سواه إلّا ذو هفوة فإن الله تعالى عصمه من نزغ الهوى وطيش القدرة بهفوة أو عثرة ليكون بأمته رؤوفا وعلى الخلق عطوفا، قد تناولته قريش بكل كبيرة وقصدته بكل جريرة وهو صبور عليهم ومعرض عنهم وما تفرد بذلك سفهاؤهم دون حلمائهم ولا أراذ لهم دون عظمائهم بل تمالأ عليه الجلة والدون «13» فكلما كانوا عليه من الأمر وألح كان عنهم أعرض وأفصح حتى قهر فعفا وقدر فغفر، وقال لهم حين ظفر بهم عام الفتح وقد اجتمعوا إليه: ما ظنكم بي؟ قالوا: ابن عم كريم فإن تعف فذاك الظن بك وإن تنتقم فقد أسأنا، فقال: بل أقول كما قال يوسف لأخوته: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ

_ (11) البلاغة والبلغة: سد الرمق. (12) النفار: الخصام. (13) الجلة: الكبراء وأعلاهم مكانة. الدون: أصاغرهم وأدناهم مكانة وموقعا.

حفظ العهد والوفاء

يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ «14» قال صلى الله عليه وسلم: «اللهم قد أذقت أول قريش نكالا فأذق آخرهم نوالا» ، وأتته هند بنت عتبة وقد بقرت بطن عمه حمزة ولاكت كبده فصفح عنها وأعطاها يده لبيعتها. فإن قيل: فقد ضرب رقاب بني قريظة صبرا في يوم أحد وهم نحو سبعمائة فأين موضع العفو والصفح وقد انتقم انتقام من لم يعطفه عليهم رحمة ولا داخلته لهم رقة. قيل: إنما فعل ذلك في حقوق الله تعالى وقد كانت بنو قريظة رضوا بتحكيم سعد بن معاذ عليهم فحكم أن من جرت عليه الموسى قتل ومن لم تجر عليه استرق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا حكم الله من فوق سبعة أرقعة «15» فلم يجز أن يعفو عن حق وجب الله تعالى عليهم، وإنما يختص عفوه بحق نفسه» . حفظ العهد والوفاء والخصلة السادسة: حفظه للعهد ووفاؤه بالوعد، فإنه ما نقض لمحافظ عهدا ولا أخلف لمراقب وعدا، يرى الغدر من كبائر الذنوب والإخلاف من مساوىء الشيم فيلتزم فيهما الأغلظ ويرتكب فيهما الأصعب حفظا لعهده ووفاء بوعده حتى يبتدىء معاهدوه بنقضه فيجعل الله تعالى له مخرجا كفعل اليهود من بني قريظة وبني النضير وكفعل قريش بصلح الحديبية فجعل الله تعالى له في نكثهم الخيرة، فهذه ست خصال تكاملت في خلقه فضّله الله تعالى بها على جميع خلقه. الوجه الثالث في فضائل أقواله وأما الوجه الثالث: في فضائل أقواله فمعتبر بثمان خصال:

_ (14) سورة يوسف الآية (92) . (15) سبعة أرمقة: سبع سماوات.

حكمته صلى الله عليه وسلم

حكمته صلى الله عليه وسلم إحداهن: ما أوتي من الحكمة البالغة وأعطي من العلوم الجمة الباهرة وهو أمي من أمة أمية لم يقرأ كتابا ولا درس علما ولا صحب عالما ولا معلما فأتى بما بهر العقول وأذهل الفطن من إتقان ما أبان وإحكام ما أظهر فلم يعثر فيه بزلل في قول أو عمل وجعل مدار شرعه على أربعة أحاديث أوجز بها المراد وأحكم بها الاجتهاد. أحدها: قوله: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى» . والثاني: قوله: «الحلال بيّن والحرام بيّن وبين ذلك أمور متشابهات ومن يحم الحمى يوشك أن يقع فيه» . والثالث: قوله: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» . والرابع: قوله: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» ، وقد شرع من تقدم من حكماء الفلاسفة سننا حملوا الناس على التدين بها حين علموا أنه لا صلاح للعالم إلّا بدين ينقادون له ويعلمون به مما راق لها أثر ولا فاق لها خبر، وهم ينبوع الحكم وأعيان الأمم، وما هذه الفطرة في الرسول صلى الله عليه وسلم إلّا من صفاء جوهره وخلوص مخبره. حفظه صلى الله عليه وسلم لما أطلعه الله عليه والخصلة الثانية: حفظه لما أطلعه الله تعالى عليه من قصص الأنبياء مع الأمم وأخبار العالم في الزمن الأقدم حتى لم يعزب عنه منها صغير ولا كبير ولا شذ عنه منها قليل ولا كثير وهو لا يضبطها بكتاب يدرسه ولا يحفظها بعين تحرسه، وما ذاك إلّا من ذهن صحيح وصدر فسيح وقلب شريح، وهذه الثلاثة آلة ما استودع من الرسالة وحمل من أعباء النبوّة، فجدير أن يكون بها مبعوثا وعلى القيام بها محثوثا. إحكامه لما شرع صلى الله عليه وسلم والخصلة الثالثة: إحكامه لما شرع بأظهر دليل وبيانه بأوضح تعليل حتى

أمره صلى الله عليه وسلم بمحاسن الأخلاق

لم يخرج منه ما يوجبه معقول ولا دخل فيه ما تدفعه العقول ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «أوتيت جوامع الكلم واختصرت لي الحكمة اختصارا» ، لأنه نبّه بالقليل على الكثير فكف عن الإطالة وكشف عن الجهالة وما تيسر ذلك إلّا وهو عليه معان وإليه مفاد. أمره صلى الله عليه وسلم بمحاسن الأخلاق والخصلة الرابعة: ما أمر به من محاسن الأخلاق ودعا إليه من مستحسن الآداب وحث عليه من صلة الأرحام وندب إليه من التعطف على الضعفاء والأيتام ثم ما نهى عنه من التباغض والتحاسد وكف عنه من التقاطع والتباعد، فقال: «لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا وكونوا عبادا لله أخوانا» ، لتكون الفضائل فيهم أكثر ومحاسن الأخلاق بينهم أنشر ومستحسن الآداب عليهم أظهر وتكون إلى الخير أسرع ومن الشر أمنع فيتحقق فيهم قول الله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ «16» فلزموا أوامره واتقوا زواجره فتكامل بهم صلاح دينهم ودنياهم حتى عز بهم الإسلام بعد ضعفه وذل الشرك بعد عزه فصاروا أئمة أبرارا وقادة أخيارا. وضوح جوابه والخصلة الخامسة: وضوح جوابه إذا سئل وظهور حجابه إذا جودل لا يحصره عي ولا يقطعه عجز ولا يعارضه خصم في جدال إلّا كان جوابه أوضح وحجاجه أرجح، أتاه أبي بن خلف بعظم نخر من المقابر قد صار رميما ففركه حتى صار كالرماد ثم قال: يا محمد أنت تزعم أنا وآباءنا نعود إذا صرنا هكذا لقد قلت قولا عظيما ما سمعناه من غيرك: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ «17» فأنطق الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم ببرهان نبوّته فقال: يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ «18» فانصرف مبهوتا ولم يحر جوابا، ولما

_ (16) سورة آل عمران الآية (110) . (17) سورة يس الآية (78) . (18) سورة يس الآية (79) .

حفظه لسانه صلى الله عليه وسلم

قال عليه الصلاة والسلام: «لا عدوى ولا طيرة» ، قال له رجل: يا رسول الله إنا نرى النقبة من الجرب في مشفر البعير فيعدو سائره، قال: «فمن أعدى الأول» ، وأسكته. حفظه لسانه صلى الله عليه وسلم والخصلة السادسة: أنه محفوظ اللسان من تحريف في قول واسترسال في خبر يكون إلى الكذب منسوبا وللصدق مجانبا، فإنه لم يزل مشهورا بالصدق في خبره فاشيا وكثيرا حتى صار بالصدق مرموقا وبالأمانة مرسوما وكانت قريش بأسرها تتيقن صدقه قبل الإسلام فجهروا بتكذيبه في استدعائهم إليه، فمنهم من كذبه حسدا ومنهم من كذبه عنادا ومنهم من كذبه استبعادا أن يكون نبيا أو رسولا، ولو حفظوا عليه كذبة نادرة في غير الرسالة لجعلوها دليلا على تكذيبه في الرسالة ومن لزم الصدق في صغره كان له في الكبر ألزم ومن عصم منه في حق نفسه كان في حقوق الله تعالى أعصم، وحسبك بهذا دفعا لجاحد وردا لمعاند. بيانه صلى الله عليه وسلم والخصلة السابعة: تحرير كلامه في التوخي به إبان حاجته والاقتصار منه على قدر كفايته فلا يسترسل فيه هدرا ولا يحجم عنه حصرا وهو فيما عدا حالتي الحاجة والكفاية أجمل الناس صمتا وأحسنهم سمتا ولذلك حفظ كلامه حتى لم يختل وظهر رونقه حتى لم يعتل واستعذبته الأفواه حتى بقي محفوظا في القلوب مدونا في الكتب فلن يسلم الإكثار من زلل ولا الهذر من ملل، أكثر أعرابي عنده الكلام فقال: يا أعرابي كم دون لسانك من حجاب؟ قال شفتاي وأسناني، فقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله يكره الأنبعاق «19» في الكلام فنضر الله وجه امرىء قصر من لسانه واقتصر على حاجته» . فصاحته صلى الله عليه وسلم والخصلة الثامنة: أنه أفصح الناس لسانا وأوضحهم بيانا وأوجزهم كلاما

_ (19) الإنبعاق في الكلام: الهذر الكثير الذي يمكن إيجازه بكلام قليل.

كلامه صلى الله عليه وسلم

وأجز لهم ألفاظا وأصحهم معاني لا يظهر فيه هجنة التكلف ولا يتخلله فيهقة التعسف، وقال صلى الله عليه وسلم: «أبغضكم إليّ الثرثارون المتفيهقون» ؛ وقال: «إياك والتشادق» ، ولما نزل عليه قوله تعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ «20» بنى مسجد قباء، فحضر عبد الله بن رواحة فقال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أفلح من بنى المساجد، قال نعم يا ابن رواحة، قال ولم يبت لله إلا ساجد، قال: «يا ابن رواحة كف عن السجع فما أعطي عبد شيئا شر من طلاقة في لسانه» . كلامه صلى الله عليه وسلم فمن كلامه الذي لا يشاكل في إيجازه قوله صلى الله عليه وسلم: «الناس بزمانهم أشبه» ، وقوله: «ما هلك امرؤ عرف قدره» ، وقوله: «لو تكاشفتم ما تدافنتم» . وقوله «السعيد من وعظ بغيره» ، وقوله: «حبك للشيء يعمي ويصم» ، وقوله: «العقل ألوف مألوف» ، وقوله: «العدة عطية» ، وقوله: «اللهم إني أعوذ بك من طمع يهدي إلى طبع» ، وقوله: «أفضل الصدقة جهد المقل» ، وقوله: «اليد العليا خير من السفلى» ، وقوله: «ترك الشر صدقة» ، وقوله: «الخير كثير وقليل فاعله» ، وقوله: «الناس كمعادن الذهب» ، وقوله: «نزلت المعونة على قدر المؤنة» ، وقوله: «إذا أراد الله بعبد خيرا جعل له واعظا من نفسه» ، وقوله: «أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك» ، وقوله: «المؤمن غر كريم والفاجر خب لئيم» ، وقوله: «الدنيا سجن المؤمن وبلاؤه وجنة الكافر ورخاؤه» . من كلامه صلى الله عليه وسلم ومن كلامه الذي لا يشاكل في فصاحته قوله صلى الله عليه وسلم: «إياكم والمشاورة فإنها تميت الغرة وتحيي الفرة» ، وقوله: «لا تزال أمتي بخير ما ملم تر الأمانة مغنما والصدقة مغرما» ، وقوله: «رحم الله عبدا قال خيرا فغنم أو سكت فسلم» ، وقوله: «اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ونفس لا تشبع وقلب

_ (20) سورة النور الآية (36) .

لا يخشع وعين لا تدمع هل يطمع أحدكم إلّا غنى مطغيا أو فقرا منسيا أو مرضا مفسدا أو هرما مفندا أو الدجال فهو شر غائب ينتظر أو الساعة فالسعة أدهى وأمرّ» ، وقوله: «ثلاث منجيات وثلاث مهلكمات فأما المنجيات فخشية الله تعالى في السر والعلانية والأقتصاد في الغنى والفقر والحكم بالعدل في الرضا والغضب وأما المهلكات فشحّ مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه» ، وقوله: «تقبلوا إليّ بست أتقبل لكم بالجنة» ، قالوا وما هي يا رسول الله؟ قال: «إذا حدث أحدكم فلا يكذب وإذا وعد فلا يخلف وإذا ائتمن فلا يخن غضو أبصاركم واحفظوا فروجكم وكفوا أيديكم» ، وقوله في بعض خطبه: «ألا إن الأيام تطوى والأعمار تفنى والأبدان في الثرى تبلى وأن الليل والنهار يتراكضان تراكض البريد يقربان كل بعيد ويخلقان كل جديد وفي ذلك عباد الله ما ألهي عن الشهوات ورغب في الباقيات الصالحات» ، وقوله في بعض خطبه، وقد خاف من أصحابه فطرة: «أيها الناس كأن الموت فيها على غيرنا كتب وكأن الحق فيها على غيرنا وجب وكأن الذي يشيع من الأموات سفر عما قيل إلينا راجعون نبوّئهم آجداثهم ونأكل تراثهم كأنا مخلدون بعدهم قد نسينا كل واعظة وأمنا كل جائحة «21» طوبى لمن شغلته اخرته عن دنياه طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس» . وهذا يسير من كثير ولا يأتي عليه إحصاءو لا يبلغه إستقصاء وإنما ذكرنا مثالا ليعلم أن كلامه جامع لشروط البلاغة ومعرب عن نهج الفصاحة ولو مزج بغيره لتميز بأسلوبه ولظهر فيه آثار التنافر فلم يلبتس حقه من باطله ولبان صدقه من كذبه، هذا ولم يكن متعاطيا للبلاغة ولا مخالظا لأهلها من خطباء أو شعراء أو فصحاء وإنما هو من غرائز فطرته وبداية جبلته وما ذلك إلّا لغاية تراد وحادثة تشاد. فإن قيل: إذا كان كلامه مخالفا لكلام غيره في البلاغة والفصاحة حتى لم يكن فيه مساجلا أيكون له معجزا.

_ (21) الجائحة: المصيبة والبلاء.

الوجه الرابع في فضائل أفعاله

قيل له: لو كان هكذا وتحدى به صار معجزا ولا يكون مع عدم التحدي معجزا. [الوجه الرابع في] فضائل أفعاله وأما الوجه الرابع: في فضائل أفعاله فمختبر بثمان خصال: حسن سيرته صلى الله عليه وسلم إحداهن: حسن سيرته وصحة سياسته في دين ابتكر شرعه حتى استقر وتدبير أحسن وضعه حيت استقر وتدبير أحسن وضعه حتى استمر نقل به الأمة عن مألوف وصرفهم به عن معروف إلى غير معروف فأذعنت به النفوس طوعا وانقادت خوفا وطمعا وشديد عادة منتزعة إلّا لمن كان مع التأييد الإلهي معانا بحزم صائب وعزم ثاقب ولئن كان مأمورا بما شرع فهي الحجة القاهرة ولئن كان مجتهدا فيها فهي الآية الباهرة وحسبك بما استقرت قواعده على الأبد حتى انتقل عن سلف إلى خلف يزاد فيهم حلاوته ويشتد فيهم جدته ويرونه نظاما لأعصار تنقلب صروفها ويختلف مألوفها أن يكون لمن قام به برهانا ولمن إرتاب به بيانا. الرغبة والرهبة والخصلة الثانية: أن بين رغبة من استمال ورهبة من استطاع حتى اجتمع الفريقان على نصرته وقاموا بحقوق دعوته رغبا في عاجل وآجل، ورهبا من زائل ونازل لاختلاف الشيم والطباع في الانقياد الذي لا ينتظم بأحدهما ولا يستديم بهما، فلذلك صار الدين بهما مستقرا والصلاح بهما مستمرا. العدل الخصلة الثالثة: أنه عدل فيما شرعه من الدين عن غلو النصارى «22» في التشديد وعن تقدير اليهود في التقصير إلى التوسط بينهما وخير الأمور أوساطها لأنه العدل بين طرفي سرف وتقصير فليس لما جاوز العدل حظ من رشد ولا

_ (22) غلو النصارى: تجاوز الحد في المسيح حتى جعلوه ابنا لله جلّ الله عن ذلك وتنزه.

أمره بالاعتدال صلى الله عليه وسلم

نصيب من سداد وقد قال صلى الله عليه وسلم: «إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق فشر السير الحقحقة وأن المنبتّ لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى» . أمره بالاعتدال صلى الله عليه وسلم والخصلة الرابعة: أنه لم يمل بأصحابه إلى الدنيا، كما رغبت اليهود ولا إلى رفضها كما ترهبت النصارى وأمرهم فيها بالاعتدال أن يطلبوا منها قدر الكفاية ويعدلوا عن احتجان واستزداة وقال لأصحابه: «خيركم من لم يترك دنياه لآخرته ولا آخرته لدنياه ولكن خيركم من أخذ من هذه وهذه» ، وهذا صحيح لأن الانقطاع إلى أحدهما اختلال والجمع بينهما اعتدال. وقال صلى الله عليه وسلم: «نعم المطية الدنيا فارتحلوها، تبلغكم الآخرة» ، وإنما كان كذلك لأن منها يتزود لآخرته ويستكثر فيها من طاعته ولأنه لا يخلو تاركها من أن يكون محروما مضاعا أو محروما مراعى وهو في الأول كل وفي الثاني مستذل (أثني على رجل بخير) عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا يا رسول الله كنا إذا ركبنا لا يزال يذكر الله تعالى حتى ننزل وإذا نزلنا لا يزال يصلي حتى نرفع فقال فمن كان يكفيه علف بعيره وإصلاح طعامه، قالوا: كلنا، قال: «فكلكم خير منه» . إيضاحه صلى الله عليه وسلم العبادات والخصلة الخامسة: تصديه لمعالم الدين ونوازل الأحكام حتى أوضح للأمة ما كلفوه من العبادات وبين لهم ما يحل ويحرم من مباحات ومحظورات وفصل لهم ما يجوز ويمتنع من عقود ومناكح ومعاملات حتى احتاج اليهود في كثير من معاملاتهم. ومواريثهم لشرعه ولم يحتج شرعه إلى شرع غيره، ثم مهد لشرعه أصولا تدل على الحوادث المغفلة ويستنبط لها الاحكام المعللة فأغنى عن نص بعد ارتفاعه وعن التباس بعد إغفاله، ثم أمر الشاهد أن يبلغ الغائب ليعلم بإنذاره ويحتج بإظهاره، فقال صلى الله عليه وسلم: «بلغوا عني ولا تكذبوا عليّ فرب مبلّغ أوعى من سامع ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه» فأحكم ما شرع من نص وتنبيه وعم بما أمر من حاضر وبعيد حتى صار لما تحمله من الشرع مؤديا، ولما تقلده من حقوق الأمة موفيا لئلا يكون في حقوق الله زلل ولا في مصالح الأمة خلل وذلك

جهاده صلى الله عليه وسلم

في برهة من زمانه لم يستوف تطاول الاستيعاب حتى أوجز وأنجز وما ذاك إلّا بديع ومعجزهم. جهاده صلى الله عليه وسلم الخصلة السادسة: انتصابه لجهاد الأعداء وقد أحاطوا بجهاته وأحدقوا بجنباته، وهو في قطب مهجور وعدد محقور فزاد به من قل وعز به من ذل وصار بأثخانه في الأعداء محذورا وبالرعب منه منصورا فجمع بين التصدي لشرع الدين حتى ظهر وانتشر وبين الانتصاب لجهاد العدو حتى قهر وانتصر والجمع بينهما معوز إلّا لمن أمده الله بمعونته وأيده بلطفه والمعوز معجز. شجاعته صلى الله عليه وسلم الخصلة السابعة: ما خص به من الشجاعة في حروبه والنجدة في مصابرة عدوه فإنه لم يشهد حربا في فزاع إلّا صابر حتى انجلت عن ظفر أو دفاع وهو في موقفه لم يزل عنه هربا ولا جاز فيه لاغبا بل ثبت بقلب آمن وجأش ساكن قد ولى عنه أصحابه يوم حنين حتى بقي بإزاء جمع كثير وجم غفير في تسعة من بيته وأصحابه على بغلة مسبوقة إن طلبت غير مستعدة لهرب ولا طلب وهو ينادي أصحابه ويظهر نفسه ويقول إليّ عباد الله أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب فعادوا أشذاذا وإرسالا «23» وهوازن تراه وتحجم عنه فما هاب حرب من كاثره ولا انكفأ عن مصاولة من صابره، وقد عضده الله تعالى بانجاد وأنجاد فانحازوا وصبر حتى أمده الله بنصره وما لهذه الشجاعة من عديل، ولقد طرق المدينة فزع فانطلق الناس نحو الصوت فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سبقهم إليه فتلقوه عائدا على فرس عري لأبي طلحة الأنصاري وعليه السيف فجعل يقول: «أيها الناس لم تراعوا بل تراعوا» ، ثم قال لأبي طلحة: «إنا وجدناه بحرا» ، وكان الفرس يبطىء فما سبقه فرس بعد ذلك، وما ذاك إلّا عن ثقة من أن الله تعالى سينصره، وإن دينه سيظهره تحقيقا لقوله تعالى: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ*

_ (23) عادوا أشذاذا وأرسالا: فروا زرافات ووحدانا.

سخاؤه وجوده صلى الله عليه وسلم

كُلِّهِ* «24» وتصديقا لقول رسوله صلى الله عليه وسلم زويت لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها، وكفى بهذا قياما بحقه وشاهدا على صدقه. سخاؤه وجوده صلى الله عليه وسلم الخصلة الثامنة: ما منح من السخاء والجود حتى جاد بكل موجود وآثر بكل مطلوب ومحبوب ومات ودرعه مرهونة عند يهودي على آصع من شعير لطعام أهله وقد ملك جزيرة العرب وكان فيها ملوك وأقيال لهم خزائن وأموال يقتنونها زخرا ويتباهون بها فخرا ويستمتعون بها أشرا وبطرا وقد حاز ملك جميعهم، فما اقتنى دينارا ولا درهما، لا يأكل إلّا الخشب ولا يلبس إلّا الخشن ويعطي الجزل الخطير ويصل الجم الغفير ويتجرع مرارة الإقلال ويصبر على سغب الاختلال وقد حاز غنائم هوازن وهي من السبي ستة آلاف رأس ومن الإبل أربعة وعشرون ألف بعير ومن الغنم أربعون ألف شاة ومن الفضة أربعة آلاف أوقية. فجاد بجميع حقه وعاد خلوا. وروى أبو وائل عن مسروق عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم دينارا ولا درهما ولا شاة ولا بعيرا ولا أوصى بشيء. وروى عمرو بن مرة عن سويد بن الحرث عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما يسرني أن لي أحدا ذهبا أنفقه في سبيل الله أموت يوم أموت وعندي منه دينار إلّا أن أعده لغريم» . وكان صلى الله عليه وسلم إذا سئل وهو معدم وعد ولم يرد وانتظر ما يفتح الله. فروى حماد بن زيد عن المعلى بن زياد عن الحسن أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله، فقال: «إجلس سيرزقك الله» ، ثم جاء آخر، ثم آخر، فقال لهم: «إجلسوا» ، فجاء رجل بأربع أواقي فأعطاه إياها وقال: يا رسول الله هذه صدقة، فدعا الأول فأعطاه أوقية، ثم دعا الثاني فأعطاه أوقية، ثم دعا الثالث فأعطاه أوقية، وبقيت معه أوقية واحدة فعرض بها للقوم فما قام أحد،

_ (34) سورة التوبة الآية (33) .

فلما كان الليل وضعها تحت رأسه وفراشه عباءة فجعل لا يأخذه النوم فيرجع فيصلي، فقالت له عائشة: يا رسول الله حلّ بك شيء؟ قال: «لا» ؟ قالت فجاءك أمر من الله؟ قال: «لا» ، قالت: إنك صنعت منذ الليلة شيئا لم تكن تفعله، فأخرجها وقال: «هذه التي فعلت بي ما ترين أني خشيت أن يحدث أمر من أمر الله ولم أمضها» «25» . وروى الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن ترك دينا فعليّ ومن ترك مالا فلورثته» ، فهل مثل هذا الكرم والجود كرما وجودا، أم هل لمثل هذا الإعراض والزهادة إعراضا وزهدا هيهات هل يدرك شيئا ومن هذه شذور من فضائله ويسير من محاسنه التي لا يحصى لها عدد ولا يدرك لها أمد لم تكمل في غيره فيساويه ولا كذب بها ضد يناويه ولقد جهد كل منافق ومعاند وكل زنديق وملحد أن يزري عليه في قول أو فعل أو يظفر بهفوة في جد أو هزل فلم يجد إليه سبيلا وقد جهد جهده وجمع كيده، فأي فضل أعظم من فضل تشاهده الحسدة والأعداء فلم يجدوا فيه مغمزا لثالب أو قادج ولا مطعنا لجارح أو فاضح، فهو كما قال الشاعر: شهد الأنام بفضله حتى العدى ... والفضل ما شهدت به الأعداء وحقيق لمن بلغ من الفضائل غايتها واستكمل لغايات الأمور آلتها، أن يكون لزعامة العالم مؤهلا، وللقيام بمصالح الخلق موكلا، ولا غاية بعد النبوة أن يعم له صلاح أو ينحسم به فساد فاقتضى أن يكون لها أهلا وللقيام بها مؤهلا ولذلك استقرت به حين بعث رسولا ونهض بحقوقها حين قام به كفيلا فناسبها وناسبته ولم يذهل لها حين أتته، وكل متناسبين متشاكلان وكل متشاكلين مؤتلفان وكل مؤتلفين متفقان والاتفاق وفاق هو أصل كل انتظام وقاعدة كل التئام فكان ذلك من أوضح الشواهد على صحة نبوّته وأظهر الأمارات في صدق رسالته فما ينكرها بعد الوضوح إلّا مفضوح والحمد الله الذي وفق لطاعته وهدى إلى التصديق برسالته.

_ (25) لم أمضها: لم أصرفها في سبيلها أو لم أستطع تقرير شيء في شأنها.

الباب الحادي والعشرون في مبدإ بعثته واستقرار نبوّته صلى الله عليه وسلم إن لله تعالى لكل مقدور من الأمور إذا دنا نذيرا وبشيرا يظهر بهما مبادىء ما أخفاه ويشعر بحلولهما قدره وقضاه ليكونا تعذيرا وتحذيرا تستيقظ بهما العقول ويزدجر بهما الجهول لطفا بعباده من فجأة الأمور المذهلة أن تصدم ببوادر لا تستدرك لتكون النفوس في مهلة من استدفاع خطبها وحل صعبها ولما دنا مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنبوة رسولا وإلى الخلق بشيرا ونذيرا انتشر في الأمم أن الله تعالى سيبعث نبيا في هذا الزمان وأن ظهوره قد قرب وآن فكانت كل أمة لها كتاب يعرف ذلك من كتابها والتي لا كتاب لها ترى من الآيات المنذرة ما تستدل عليه بعقولها وتنتبه عليه بهواجس فطرها إلهاما أعان به الفطن اللبيب وأنذر به الحازم الأريب هذا ورسول الله صلى الله عليه وسلم غافل عنها وغير عالم أنه مراد بها ومؤهل لها لم يشعر بها حتى نودي ولا تحققها حتى نوجي ليكون أبعد من التهمة وأسلم من الظنة فيكون برهانا أظهر وحجاجه أقهر وكان مع تمييزه عن قومه بشرف أخلاقه وكرم طباعه لم يعبد معهم صنما ولا عظّم وثنا وكان متدينا بفرائض العقول في قول جميع الفقهاء والمتكلمين من توحيد الله تعالى وقدمه وحدوث العالم وفنائه وشكر المنعم وتحريم الظلم ووجوب الإنصاف وأداء الأمانة. واختلف أهل العلم هل كان قبل مبعثه متعبدا بشريعة من تقدمه من الأنبياء، فذهب أكثر المتكلمين وبعض الفقهاء من أصحاب الشافعي وأبي حنيفة إلى أنه لم

الباب الحادي والعشرون في مبدإ بعثته واستقرار نبوته صلى الله عليه وسلم

يكن متعبدا بشريعة من تقدمه من الأنبياء لأنه لو تعبّد بها لتعلمها ولعمل بها ولو عمل بها لظهرت منه ولو ظهرت منه لا تبعه فيها الموافق ونازعه فيها المخالف، وذهب بعض المتكلمين وأكثر الفقهاء من أصحاب الشافعي وأبي حنيفة إلى أنه كان متعبدا بشريعة من تقدمه من الأنبياء لأنهم دعوا إلى شرائعهم من عاصرهم ومن يأتي بعدهم ما لم تنسخ بنبوّة حادثة، فدخل الرسول صلى الله عليه وسلم في عموم الدعاء قبل مبعثه لأن الله تعالى لا يخلي زمانا من شرع متبوع ولا متدينا من تعبد مسموع، واختلف من قال بهذا فيما كان متعبدا به من الشرائع المتقدمة فذهب بعضهم إلى أنه كان متعبدا بشريعة جده إبراهيم عليهما السلام لقوله تعالى: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ «1» ولأنه كان في الحج والعمرة على مناسكه، وذهب آخرون إلى أنه كان متعبدا بشريعة موسى فيما لم تنسخه شريعة عيسى عليهم السلام لظهور شريعته في التوراة ودروس ما تقدمها من الشرائع مع قول الله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ «2» وذهب آخرون إلى أنه كان متعبدا بشريعة عيسى عليه السلام لأنها كانت ناسخة لشريعة موسى فسلم قبل مبعثه من حرج في دينه وقدح في يقينه، وهذا من أمارات الاصطفاء ومقدمات الاجتباء. حبه الخلاء صلى الله عليه وسلم ولما وجد الأمر في النبوّة ودنا وقتها حبب الله تعالى إلى رسوله الخلاء بعد أربعين سنة من عمره حين تكامل نهاه واشتد قواه ليكون متهيئا لما قدر له ومتأهبا لما أريد له فكان يتخلى في غار بحراء في ذوات العدد من الليالي. وقيل: شهرا في السنة على عادة كانت لقريش في التبرز بالمجاورة «3» بحراء ويعود إلى أهله إلى أن استدام الخلاء في الغار لما أراد الله تعالى به فكان يؤتى بطعامه وشرابه فيأكل منه ويطعم المساكين برهة من زمانه وهو غافل عن النبوّة

_ (1) سورة البقرة الآية (130) . (2) سورة المائدة الآية (44) . (3) التبرز للمجاورة: الخروج للإعتكاف إما في المسجد الحرام أو في غار بعيد عن الناس. ينفرد فيه الإنسان للتعبد.

أحواله صلى الله عليه وسلم

وإن كان في الناس موهوما وعند أهل الكتب معلوما ليكون ابتكار البديهة بها مانعا من التصنع لها فلا ينسب إلى اختراعها ولو تصنع واخترع لظهرت أسبابهما وتمت شواهدهما ولم يخف على من عاداه أن يتداوله وعلى من والاه أن يتأوله، وحسبك بهذا وضوحا أن يكون بعيدا من التهمة بهما سليما من الظنة فيهما فلم يزل صلى الله عليه وسلم على خلوته إلى أن أظهر الله تعالى له أمارات نبوته فأيقظه بها بعد الغفلة وبشره بها بعد المهلة، ثم بعثه بها رسولا بعد البشرى على تدريج ترتبت فيها أحواله ليتوطأ لتحمل أثقالها، ويعلم لوازم حقوقها حتى لا تفاجئه بغتة فيذهل ولا يخفى عليه حقوقها فينكل، وكان ذلك من الله لطفا به وإنعاما عليه وداعيا لأمته في الانقياد إليه فسبحانه من لطيف بعباده منعم على خلقه. أحواله صلى الله عليه وسلم تدرجت إليه أحواله في النبوة حتى علم أنه نبي مبعوث ورسول مبلغ ترتب تدرجه على ستة أحوال نقل فيهن إلى منزلة بعد منزلة حتى بلغ غايتها. الرؤيا الصادقة فالمنزلة الأولى: الرؤيا الصادقة في منامه بما سيؤول إليه أمره فكان ذلك إذكارا بها ليروض لها نفسه ويختبر فيها حواسه فيقوم بها إذا بعث وهو عليها قوي وبها ملي «4» . روى الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: أول ما ابتدىء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة كانت تجيء مثل فلق الصبح حتى فاجأه الحق، واختلف في هذه الرؤيا هل كانت قبل انقطاعه إلى الخلوة بحراء. فحكى عروة عن عائشة أنه حبب إليه الخلاء بعد الرؤيا. وذهب قوم إلى أن الرؤيا جاءته بعد خلوته لأنه خلا على غفلة من أمره. وقد روت برة بنت أبي تحراه أن الله تعالى لما أراد كرامة رسول الله صلى الله عليه وسلم

_ (4) ملي بها: كفؤلها.

طهارته صلى الله عليه وسلم

بالنبوة كان لا يمر بشجر ولا حجر إلّا قال السلام عليك يا رسول الله فكان يلتفت عن يمينه وشماله وخلفه فلا يرى أحدا فاحتمل أن يكون ذلك قبل رؤيا المنام فيكون كالهتوف «5» الخارجة عن إعلام الوحي إلى إعجاز النبوّة واحتمل أن يكون بعد الرؤيا فيكون تصديقا لها وتحقيقا لصحتها. طهارته صلى الله عليه وسلم والمنزلة الثانية: ما ميّز به عن سائر الخلق من تقديسه عن الأرجاس «6» وتطهيره من الأدناس ليصفو فيصطفى ويخلص فيستخلص، فيكون ذلك إنذار الأمر وتنبيها على العاقبة وهو ما رواه عن عروة بن الزبير عن أبي ذر الغفاري قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أول نبوّته فقال: «يا أبا ذر أتاني ملكان وأنا ببطحاء مكة، فوقع أحدهما على الأرض والآخر بين السماء والأرض. فقال أحدهما لصاحبه أهو هو قال فزنه برجل من أمته فوزنت برجل فرجحته ثم قال: زنه بعشرة فوزنت بعشرة فرجحتهم، ثم قال زنه بمائة فوزنت بمائة فرجحتهم، ثم قال زنه بألف فوزنت بألف فرجحتهم فجعلوا ينثرون على كفة الميزان فقال أحدهما للآخر لو وزنته بأمته رجحها ثم قال أحدهما لصاحبه: شق بطنه فشق بطني، ثم قال شق قلبه فشق قلبي فأخرج منه مغمز الشيطان وعلق الدم، ثم قال: اغسل بطنه غسل الإناء واغسل قلبه غسل الملاءة، ثم دعا بالسكينة فأدخلت قلبي، ثم قال خط بطنه فخاط بطني فما هو إن وليا حتى كأنما أعاين الامر» «7» . وروى أنس بن مالك قال: لما حان أن ينبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينام حول الكعبة وكانت قريش تنام حولها فأتاه جبريل وميكائيل، فقالا بأيهم أمرنا فقالا أمرنا بسيدهم ثم ذهبا وجاءا من القابلة وهم ثلاثة فألفوه وهو نائم فقلبوه لظهره وشقوا بطنة ثم جاءوا لماء من زمزم فغسلوا ما كان في بطنه من شك أو ضلالة

_ (5) الهتوف: الهاتف من الجن أو الملائكة. (6) تقديسه من الأرجاس: طهارته من الأدناس. (7) كأنما أعاين الأمر: كأني أراه الآن أمام عيني.

البشرى بالنبوة

أو جاهلية، ثم جاءوا بطست من ذهب قد ملئت إيمانا وحكمة فملىء بطنه وجوفه إيمانا وحكمة وهو يوافق لحديث أبي ذر في المعنى وإن خالفه في الصفة فتوارد في الرواية وهو إنذار بالنبوّة. البشرى بالنبوة والمنزلة الثالثة: البشرى بالنبوة من ملك أخبره بها عن ربه واختصت بشراه بالأشعار وتجردت عن تكليف وإنذار لم يسمع بها وحيا ولا رأى معها شخصا، وإنما كان إحساسا بالملك اقترن بآية دلت وأمارة ظهرت اكتفى بها عن مشاهدته واستغنى بها عن نطقه ليعلم أنه من أنبياء الله تعالى فيتأهب لوحيه ويعان بإمهاله فيكون على البلوى أصبر وللنعمة أشكر روى الشعبي وداود بن عامر أن الله تعالى قرن إسرافيل بنبوّة رسوله صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين يسمع حسه ولا يرى شخصه ويعلمه الشيء بعد الشيء ولا ينزل عليه بالقرآن فكان في هذه المدة مبشرا بالنبوة وغير مبعوث إلى الأمة فاحتمل أن يكون إمهاله فيها معونة للرسول واحتمل أن يكون نظرا للأمة وأحتمل أن يكون لأوان المصلحة وليس يمتنع أن يكون لجميعها فإنه أعلم بسر ما أخفى وأعرف بمعنى ما أظهر. والمنزلة الرابعة: أن نزل عليه جبريل لوحي ربه حتى رأى شخصه وسمع مناجاته فأخبره أنه نبي الله ورسوله واقتصر به على الأخبار ولم يأمره بالإنذار ليعلمها بعد البشرى عيانا ويقطع بها يقينا فيكون معتقده بها أوثق وعلمه بها أصدق فلا يعترضه وهم ولا يخالجه ريب. روى الزهري عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فاجأه الحق أتاه جبريل عليه السلام فقال يا محمد أنت رسول الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فجثوت لركبتي وأنا قائم ثم رجعت ترجف بوادري ثم دخلت على خديجة فقلت زملوني زملوني حتى ذهب عني ثم أتاني فقال يا محمد أنا جبريل وأنت رسول الله، ثم قال إقرأ، قلت: ما أقرأ؟ قال: فأخذني فغتني «8» ثلاث مرات حتى بلغ مني الجهد وقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ «9» فأتيت

_ (8) غتني: ضمني بشدة. (9) سورة العلق الآية (1) .

خديجة فقلت: لقد أشفقت على نفسي فأخبرتها خبري، فقالت: أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتؤدي الأمانة وتحمل الكلّ وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق ثم انطلقت بي إلى ورقة بن نوفل وكان ابن عمها وخرج في طلب الدين وقيل قرأ التوراة والإنجيل وتنصر وقالت إسمع من ابن أخيك فسألني فأخبرته خبري فقال: هذا الناموس الذي نزل على موسى عليه السلام يعني جبريل عليه السلام ليتني أكون حيا حين يخرجك قومك قلت أو مخرجي هم قال نعم إنه لم يجىء رجل قط بما جئت به إلّا عودي ولئن يدركني يومك لأنصرنك نصرا مؤزرا، ثم كان ما نزل عليّ من القرآن بعد إقرأ: ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ «10» ، ونزل عليه ذلك ليزداد ثباتا ولنفسه استبصارا ولنعمة ربه شكرا. وروى أن خديجة قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم هل تستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا إذا أتاك يعني جبريل عليه السلام قال نعم قالت فأخبرني به إذا جاءك فجاءه جبريل فقال لها: «يا خديجة هذا جبريل قد جاء» ، قالت: قم فاجلس على فخذي اليسرى فجلس عليها فقالت هل تراه، قال: «نعم» ، قالت فتحوّل على فخذي اليمنى فتحوّل إليها فقالت: هل تراه قال: نعم، قالت فتحوّل في حجري فتحوّل في حجرها قالت: هل تراه قال: «نعم» ، قال: فحسرت وألقت خمارها وهو جالس في حجرها فقالت: هل تراه، قال: «لا» ، قالت: يا ابن عمي أثبت وأبشر فوالله إنه لملك وما هو بشيطان وآمنت به فكانت أول من أسلم من جميع الناس واستظهرت خديجة بما فعلته من هذا في حق نفسها لا في حق الرسول ولا استظهارا عليه واكتفى رسول الله صلى الله عليه وسلم في تصديق جبريل بما عاينته خديجة من آياته المعجزة وكان ما نزل به جبريل في هذا الحال مقصورا على إخباره بالنبوّة ليعلم أن الله تعالى قد اصطفاه لها فينقطع إليه ويوقف نفسه على ما يؤمر به وينزل عليه فيكون لأوامره متبعا ولما يراد به متوقعا وأذن له في ذكره وإن لم يؤذن له في إنذاره لقوله تعالى: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ

_ (10) سورة القلم الآيات (1- 5) .

فَحَدِّثْ «11» أي بما جاءك من النبوة فكان يذكرها مستسرا. والمنزلة الخامسة: أن أمر بعد النبوّة بالإنذار فصار به رسولا ونزل عليه القرآن بالأمر والنهي فصار به مبعوثا ولم يؤمر بالجهر وعموم الإنذار ليختص بمن أمنه ويشتد بمن أجابه فنزل عليه قول الله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ «12» فتمت نبوّته بالوحي والإنذار وإن كان في استسرار وكان ذلك في يوم الاثنين من شهر رمضان. قال هشام بن محمد: أول ما تلقاه جبريل في ليلة السبت وليلة الأحد ثم ظهر له برسالته في يوم الاثنين. وروى أبو قتادة: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الاثنين، فقال: «ذاك يوم ولدت فيه وأنزل عليّ فيه النبوّة واختلف في أي اثنين كان من شهر رمضان» ، فقال أبو قلابة: كان في الثامن عشر منه. وقال أبو الخلد: كان في الرابع والعشرين منه وهو ابن أربعين سنة في قول الأكثرين لأربعين سنة مضت من عام الفيل وزعم قوم أنه كان ابن ثلاث وأربعين سنة. قال هشام بن محمد: وذلك لعشرين سنة من ملك كسرى ابرويز. وقال غيره: لست عشرة سنة من ملكه. ثم روي أن جبريل عليه السلام نزل عليه في يوم الثلاثاء ثاني النبوّة وهو بأعلى مكة فهمّ بعقبة في ناحية الوادي فانفجرت منه عين فتوضأ جبريل منها ليريه كيف الطهور فتوضأ مثل وضوئه ثم قام جبريل فصلى وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصلاته فكانت هذه أول عبادة فرضت عليه ثم انصرف جبريل فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خديجة فتوضأ لها حتى توضأت وصلى بها كما صلى به جبريل فكانت أول من توضأ بعده وصلى واستسر بالإنذار من يأمنه.

_ (11) سورة الضحى الآية (11) . (12) سورة المدثر الآيات (1- 7) .

واختلف في أول من أسلم بعد خديجة على ثلاثة أقاويل: أحدها: أن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أول من أسلم من الذكور وصلى وهو ابن تسع سنين وقيل ابن عشر وهذا قول جابر بن عبد الله وزيد بن أسلم. وروى يحيى بن عفيف عن أبيه قال: جئت في الجاهلية إلى مكة فنزلت على العباس بن عبد المطلب فلما طلعت الشمس وتحلقت في السماء، أقبل شاب فرمى ببصره إلى السماء واستقبل الكعبة فقام مستقبلها، فلم يلبث أن جاء غلام فقام عن يمينه فلم يلبث أن جاءت امرأة فقامت خلفهما، فركع الشاب وركع الغلام والمرأة ورفع الشاب فرفع الغلام والمرأة فخر الشاب ساجدا فسجدا معه فقلت للعباس، يا عباس، أمر عظيم هل تدري من هذا، قال العباس: نعم، هذا محمد بن عبد الله ابن أخي، وهذا علي بن أبي طالب ابن أخي، وهذه خديجة ابنة خويلد زوجة ابن أخي، وهذا حدثني أن رب السماء أمره بهذا الذي تراهم عليه، وايم الله ما أعلم على ظهر الأرض كلها أحدا على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة. والقول الثاني: أن أول من أسلم وصلى أبو بكر رضي الله تعالى عنه، وهذا قول ابن عباس وأبي أمامة الباهلى. وروى أبو أمامة عن عمرو بن عنبسة السلمي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نازل بعكاظ فقلت: يا رسول الله من تبعك على هذا الأمر؟ قال: تبعني عليه رجلان حر وعبد أبو بكر وبلال، قال: فأسلمت عند ذلك فلقد رأيتني إذ ذلك ربع الإسلام، وقال الشعبي: سألت ابن عباس من أول الناس إسلاما؟ فقال: أما سمعت قول حسان بن ثابت: إذا تذكرت شجوا من أخي ثقة ... فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا خير البرية أتقاها وأعدلها ... بعد النبي وأوفاها بما حملا الثاني التالي المحمود مشهده ... وأول الناس منهم صدق الرسلا والقول الثالث: أن أول من أسلم زيد بن حارثة وهذا قول عروة بن

الزبير وسليمان بن يسار، وجعل أبو بكر يدعو إلى الإسلام من يثق به لأنه كان تاجرا ذا خلق ومعروف وكان أنسب قريش لقريش وأعلمهم بما كانوا عليه من خير وشر حسن التأليف لهم، وكانوا يكثرون غشيانه، فأسلم على يديه عثمان ابن عفان وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوّام وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف، فجاء بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استجابوا له بالإسلام وصلّوا فصاروا مع من تقدم ثمانية نفر هم أول من أسلم وصلّى، وقيل أنه أسلم معهم سعيد بن العاص وأبو ذر، ثم تتابع الناس في الإسلام ورسول الله صلى الله عليه وسلم على استسراره بالدعاء وإن انتشرت دعوته في قريش. والمنزلة السادسة: أن أمر أن يعم بالإنذار بعد خصوصه ويجهر بالدعاء إلى الإسلام بعد استسراره، فأنزل الله تعالى عليه: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ «13» فجهر بالدعاء، قال ابن إسحاق: ذلك بعد ثلاث سنين من مبعثه، وأمر أن يبدأ بعشيرته الأقربين فقال تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قال ابن عباس: فصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفافهتف: يا صباحاه يا بني عبد المطلب يا بني عبد مناف حتى ذكر الأقرب فالأقرب من قبائل قريش فاجتمعوا إليه وقالوا: ما لك؟ قال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا تخرج من سفح هذا الجبل أما كنتم تصدقوني؟ قالوا: بلى، ما جربنا عليك كذبا، قال: «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» ، فقال أبو لهب تبا له ألهذا جمعتنا، ثم قام فأنزل الله تعالى: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ «14» إلى آخر السورة، قال ابن إسحاق: ولم يكن في قريش في دعائه لهم مباعدة له ولكن ردوا عليه بعض الرد حتى ذكر آلهتهم وعابها وسفّه أحلامهم في عبادتها، فلما فعل ذلك أجمعوا على خلافه وتظاهروا بعداوته إلّا من عصمه الله تعالى منهم بالإسلام وهم قليل مستحقرون فصار بعموم الإنذار والجهر بالدعاء إلى التوحيد والإسلام عام النبوّة مبعوثا إلى كافة الأمة فكمل الله تعالى بذلك نبوّته وتمم به رسالته فصدع بأمره وقام بحقه وجاهد بإنذاره وعم بدعائه

_ (13) سورة الحجر الآية (94) . (14) سورة المسد الآية (1) .

فصل في شرعه ص

وجاهد في الله حق جهاده حتى خصم قريشا حين جادلوه وصابرهم حين عاندوه وجمهم غفير وجمعهم كثير إلى أن علت كلمته وظهرت دعوته وكابد من الشدائد ما لم يثبت عليها إلّا معصوم ولا يسلم منها إلّا منصور، وكل هذه آيات تنذر بالحق وتلائم الصدق لأن الله لا يهدي كيد الخائنين ولا يصلح عمل المفسدين. فصل [في شرعه ص] فأما شرعه من الدين فالشرع بعد التوحيد يشتمل على قسمين: عبادات وأحكام، فأما العبادات فلم يشرع منها مدة مقامه بمكة إلّا الطهارة والصلاة حين علمه جبريل الوضوء والصلاة وكانت فرضا عليه وسنّة لأمته لقول الله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ «15» فكان هذا حكمها في حقه وحقوق أمته إلى أن فرضت الصلوات الخمس بعد إسرائه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وذلك في السنة التاسعة من نبوته فصارت الصلوات الخمس فرضا عليه وعلى أمته ولم يفرض ما سواها من العبادات حتى هاجر إلى المدينة وصارت له بالإسلام دارا وصار أهلها أنصارا، فأول ما فرض بالمدينة من العبادات بعد فرض الصلوات الخمس بمكة صيام شهر رمضان في الثانية من الهجرة في شعبان، وفيها حوّلت القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة، وفرض فيها زكاة الفطر، وشرع فيها صلاة العيد، وكان فرض الجمعة قد تم في أول الهجرة بدلا من صلاة الظهر ثم فرضت زكاة الأموال بعد ظهور القوة وسد الخلة ثم الحج والعمرة، وأما الأحكام فما أوجبته قضايا العقول من تحريم القتل والزنا كان مشروعا بمكة مع ظهور إنذاره وما تردد في قضايا العقول بين فعله وتركه كف عن الحكم فيه بتحليل أو تحريم أو حظر أو إباحة أو استحباب أو كراهة فلم يحلل بمكة حلالا ولا حرم بها حراما حتى هاجر منها، فحلل بعد الهجرة وحرم وأباح وحظر لأنه كان بمكة مغلوبا باستيلاء قريش عليها وكانت دار شرك لا ينفذ فيها أحكامه فلم يحلل ولم يحرم حتى صار بالمدينة في دار إسلام تنفذ فيها أحكامه فبيّن ما حلل وحرم وبيّن ما

_ (15) سورة المزمل الآيات (1- 4) .

أباح وحظر وبيّن ما يصح من القول ويفسد، ولذلك كان بمكة مسالما وبالمدينة محاربا، فكانت الحكمة موافقة لأفعاله والتوفيق معاضدا لأقواله وإن كان مأمورا بها كما قال الله تعالى: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى «16» لكن لحسن قيامه بها وموافقة الصواب في مواضعها تظهر آثار حكمته في صحة حزمه وصدق عزمه. فهذه جملة متفقة في أعلام نبوّته وقاعدة مستقرة في ترتيب رسالته وأحكام شريعته، فأما أحكام جهاده في حروبه وغزواته فسنذكره في كتاب نفرده في سيرته نوضح به مواقع أعلامه ومبادىء أحكامه، وبالله تعالى التوفيق. نحمدك أن أطلعت شموس السعادة، بكوكب المجد وأس السيادة، وأظهرت من أعلام نبوّته ما كبت أهل الضلالة، ومحا ظلم الكفر فلم ينل أحد من النبيين ما ناله، سيدنا محمد ذات الآيات المعجزة الجمة، المبعوث رحمة للأمة، صلى الله عليه وسلم وعلى آله، وصحابته التابعين ومن على منواله. وبعد.. فقد تم طبع أعلام النبوة، المشتمل على سيرة المصطفى على ما يزيل الغمة، ألا وهو نسيج من سارت الركبان بتآليفه، العلامة الماوردي ذو اليد الطولى في تحبيره وتصنيفه، قامت بطبعه على نفقتها دار ومكتبة الهلال جزاها الله تعالى على هذا الصنع الجميل أحسن جزاء، بجاه النبي وآله البررة الأتقياء. تم والحمد لله

_ (16) سورة النجم الآيتان (3- 4) .

فهرس كتاب أعلام النبوة مقدمة الناشر 5 تقديم 7 الباب الأول: في مقدمة الأدلة 17 علم الإكتساب 17 الضرورة والدليل 18 أحكام العقل 19 أحكام السمع 19 الباب الثاني: في معرفة الإله المعبود 21 قول النصارى 25 معنى الوحدانية 26 الباب الثالث: في صحة التكليف 29 تعريفات 29 وجوب التكليف 30 شرعية التكليف/ الأمر والإرادة 31 شروط صحة الأمر/ وقت الأمر/ أبواب الأمر 32 الباب الرابع: في إثبات النبوات 35 الأنبياء عليهم السلام 35 إختلاف منكر والنبوة 36

جواز لنبوات 39 إثبات النبوات 41 حجج الأنبياء 42 المعجزات والنبوة/ الإدراك والمعاينة 45 الوحي والنبوة 46 شروط التبليغ 48 أسلوب التبليغ 49 النبي والرسول 50 وجوب التبليغ 51 الباب الخامس: في مدة العالم وعدة الرسل 53 خلق الله سبحانه لآدم 55 آدم وأبناؤه 58 من إدريس إلى عيسى عليهما السلام 61 فصل في عمر الدنيا إلى قيام الساعة 63 ما بين موسى وعيسى عليهما السلام 65 الباب السادس: في إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم 69 الباب السابع: فيما تضمنه القرآن من أنواع الإعجاز 73 وجوه الإعجاز: الإعجاز في التركيب اللغوي 74 الإعجاز في المعاني 75 الإعجاز في الأسلوب 76 الإعجاز في الإيجاز وجزالة المعنى 78 الإعجاز العلمي 78 الإعجاز في الدلائل والبراهين 79 الإعجاز في الإخبار عن الماضي 80 الإعجاز بالإخبار عن الغيب 80 الإعجاز بالإخبار عما في النفوس من أسرار 81 الإعجاز في الألفاظ 81

الإعجاز في التلاوة 82 الإعجاز في كونه معصوما من الزلل 83 الإعجاز في شمولية معانيه 84 الإعجاز في تماسك بيانه 85 الإعجاز في عدم القدرة على الإحاطة بمعانيه 85 الإعجاز في سهولة حفظه 86 الإعجاز في عدم القدرة على الإتيان بمثله 86 الإعجاز في عدم القدرة على الزيادة فيه 87 الإعجاز في العجز عن معارضته 88 الإعجاز في الصرف عن معارضته 89 جامع الإعجاز 90 القرآن كلام رب العالمين 91 الباب الثامن: في معجزات عصمته صلى الله عليه وسلم 95 في أعلام عصمته 95 الباب التاسع: فيما شوهد من معجزات أفعاله 103 الباب العاشر: فيما سمع من معجزات أقواله 111 أقسام مجيء الأخبار 113 الباب الحادي عشر: فيما أكرم به صلى الله عليه وسلم من إجابة أدعيته 127 الباب الثاني عشر: في إنذاره صلى الله عليه وسلم بما سيحدث بعده 135 الباب الثالث عشر: في معجزه صلى الله عليه وسلم بما ظهر من البهائم 139 الباب الرابع عشر: في ظهور معجزه صلى الله عليه وسلم من الشجر والجماد 143 الباب الخامس عشر: في بشائر الأنبياء عليهم السلام بنبوته صلى الله عليه وسلم 149 فصل من البشائر به 150 من بشائر نوال بن نوتال من أنبياء بني إسرائيل 152 من بشائر عويديا من أنبياء بني إسرائيل 152 من بشائر ميخاء 153 من بشائر حبقوق 153 من بشائر حزقيال 153

من بشائر يرصفينا 154 من بشائر زكريا 154 من بشائر دانيال 154 من بشائر في رؤيا بختنصر 155 من بشائر أرميا بن برخنا 156 من بشائر داود في الزبور 157 من بشائر المسيح به في الإنجيل 157 الباب السادس عشر: في هتوف الجن بنبوته صلى الله عليه وسلم 163 هتوف الجن 168 الباب السابع عشر: فيما هجست به النفوس من إلهام العقول 173 الباب الثامن عشر: في مبادىء نسبه وطهارة مولده صلى الله عليه وسلم 185 طهارة مولد الرسول صلى الله عليه وسلم 201 الباب التاسع عشر: في آيات مولده وظهور بركته صلى الله عليه وسلم 205 مولد الرسول صلى الله عليه وسلم 209 طفولته صلى الله عليه وسلم 210 نشأته صلى الله عليه وسلم 211 في كفالة أبي طالب 211 شبابه صلى الله عليه وسلم 212 الباب العشرون: في شرف أخلاقه وكمال فضائله صلى الله عليه وسلم 215 وجوه كماله صلى الله عليه وسلم 216 إعتدال صورته صلى الله عليه وسلم 216 طلاقته صلى الله عليه وسلم 216 ميل القلوب إليه صلى الله عليه وسلم 216 ميل النفوس إليه صلى الله عليه وسلم 217 الوجه الثاني في كمال أخلاقه صلى الله عليه وسلم 217 رجاحة عقله صلى الله عليه وسلم 217 ثباته صلى الله عليه وسلم في الشدائد 217 زهده صلى الله عليه وسلم في الدنيا 218

تواضعه صلى الله عليه وسلم للناس 221 حلمه ووقاره صلى الله عليه وسلم 221 حفظ العهد والوفاء صلى الله عليه وسلم 222 الوجه الثالث في فضائل أقواله 222 حكمته صلى الله عليه وسلم 223 حفظه صلى الله عليه وسلم لما أطلعه الله عليه 223 إحكامه لما شرع صلى الله عليه وسلم 223 أمره صلى الله عليه وسلم بمحاسن الأخلاق 224 وضوح جوابه صلى الله عليه وسلم 224 حفظه لسانه صلى الله عليه وسلم 225 بيانه صلى الله عليه وسلم 225 فصاحته صلى الله عليه وسلم 225 كلامه صلى الله عليه وسلم 226 فضائل أفعاله صلى الله عليه وسلم 228 حسن سيرته صلى الله عليه وسلم 228 الرغبة والرهبة 228 العدل 228 أمره بالاعتدال صلى الله عليه وسلم 229 إيضاحه صلى الله عليه وسلم العبادات 229 جهاده صلى الله عليه وسلم 230 شجاعته صلى الله عليه وسلم 230 سخاؤه وجوده صلى الله عليه وسلم 231 الباب الحادي والعشرون: في مبدإ بعثته واستقرار نبوته صلى الله عليه وسلم 233 حبه الخلاء صلى الله عليه وسلم 234 أحواله صلى الله عليه وسلم، الرؤيا الصادقة 235 طهارته صلى الله عليه وسلم 236 البشرى بالنبوة 237

§1/1