أعلام القرآن

صالح المغامسي

[جبريل، الكوثر، عزير، الفرقان]

سلسلة أعلام القرآن [جبريل، الكوثر، عزير، الفرقان] ذكر الله عز وجل في كتابه الكريم أعلاماً لنا في كل علم منهم عبرة وعظة، ومنهم جبريل أمين وحي الله، والكوثر الحوض المورود، وعزير الرجل الصالح، ويوم الفرقان يوم أن فرق الله بين الحق والباطل

تعريف عام بما ورد في القرآن من الأعلام

تعريف عام بما ورد في القرآن من الأعلام إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين وإله الآخرين، خلق فسوى، وقدر فهدى، وأخرج المرعى، فجعله غثاءً أحوى. وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فإن هذه دروس ستخصص إن شاء الله جل وعلا للحديث عن أعلام القرآن. والعلم: هو أحد أنواع المعارف الست وأظهرها وأشهرها. وينقسم إلى ثلاثة أقسام: اسم، ولقب، وكنية، وبكلٍ جاء القرآن، وهذا الكتاب الذي بين أيدينا -كلام الله جل وعلا- ضمنه الله جل وعلا أعلاماً ذكرها في ثنايا هذا الكتاب العظيم، إما مدحاً، وإما ذماً، إما بأسمائها، وإما بألقابها، وإما بكناها. وقبل أن نشرع في البيان نقول: من المعلوم أن الرب تبارك وتعالى قال على لسان ملائكته: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا * رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} [مريم:64 - 65]. ثم قال جل شأنه: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65]. أي: لا أحد مثله جل جلاله، كما قال سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]. ولا يطلق لفظ الجلالة على أحد من الخلق، ولم يتسم أحد من الخلق بلفظ الجلالة، قال فرعون: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، ولم يقل: أنا الله. فلفظ الجلالة (الله) لم تطلق إلا على الرب سبحانه وتعالى، لا رب غيره، ولا إله سواه، ولهذا فلن نعرج في دروسنا هذه على التعريف بالرب تبارك وتعالى؛ لأمور: أولها: ما من الله به على المسلمين من العلم به جل وعلا، وإن كان هذا لا يغني؛ فإن معرفة الله من أعظم ما يقرب إليه، لكن نمط الدرس لا يتكلم عن الله جل جلاله، ولا يتكلم عن الأنبياء والمرسلين، رغم أنهم أعلام صالحون، عليهم الصلاة والسلام، فنبينا محمد وإبراهيم وموسى وعيسى ونوح وإخوانهم جميعاً من النبيين والمرسلين، لن نتحدث عنهم في حديثنا عن أعلام القرآن؛ لأن الحديث عن الله سندرسه عن طريق المتون العقدية. والحديث عن أنبياء الله ورسله سندرسه عن طريق السيرة، أو قصص المرسلين، وإنما سنعرج على أعلام غير الأنبياء والمرسلين. فنقول: إن القرآن العظيم تضمن أعلاماً لأقوامٍ صالحين مثل: لقمان، وعزير، وذو القرنين، كأمثلة. وتضمن أعلاماً لأقوامٍ فاسقين، مثل: قارون، وهامان، وفرعون، على القول: أن الفرعون اسم. وتضمن أعلاماً لأمكنة: كالمدينة، وعرفات، وبكة، والبيت العتيق، والمشعر الحرام. وتضمن أعلاماً على أزمنة، قال الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ} [البقرة:185]، فرمضان علم على شهر، وعلى زمان مخصوص. وتضمن أعلاماً على أصنام، قال جل ذكره: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} [النجم:19 - 20]. فاللات والعزى ومناة أعلام على أصنام. وتضمن أعلاماً على معارك، قال الله: {يَوْمَ الْفُرْقَانِ} [الأنفال:41]، وقال جل ذكره: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} [التوبة:25]. فهذه بعض أنواع الأعلام في القرآن العظيم، والتي سوف نتحدث عنها إن شاء الله.

من أعلام القرآن جبريل عليه السلام

من أعلام القرآن جبريل عليه السلام

ذكر جبريل في القرآن باسمه ووصفه

ذكر جبريل في القرآن باسمه ووصفه ذكر الله جل وعلا جبريل في القرآن باسمه، وذكره بوصفه: ذكره الله باسمه فقال جل ذكره في سورة البقرة: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:97 - 98]. وذكره الله جل وعلا في سورة التحريم ذكراً مشرفاً؛ لأنه ذكره ذكراً خاصاً وعاماً، قال الله جل وعلا: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم:4]. ومعلوم أن جبريل يدخل في قول الله: {وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم:4]، لكن الله جل شأنه خصه بالذكر لشرفه عليه السلام. وهذا الملك الكريم كما ذكره الله باسمه ذكره بوصفه فوصفه بأنه أمين غير ذي تهمة، قال الله تعالى: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} [التكوير:24]. أي: بمتهم. وقال: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:193 - 195]. وأضافه الله إلى ذاته العلية إضافة تشريف، قال جل شأنه: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} [مريم:17] أي: جبريل. {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم:17]. وهو عليه السلام أحد الملائكة، والملائكة خلق كثير لا يعلم عددهم إلا الله، قال الله: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31] فيدخل فيها الملائكة وغير الملائكة؛ لأن كل ذلك جند لله، لكنهم يأتون في المقدمة.

جبريل سيد الملائكة

جبريل سيد الملائكة جبريل سيد الملائكة فيما يدل عليه ظاهر الكتاب والسنة، وإنما قلنا: إن جبريل سيد الملائكة لأدلة من أعظمها: أن الله جل وعلا أوكل إليه أعظم الأمور، ألا وهي حياة القلوب، وحياة القلوب لا تكون إلا بالوحي الذي ينزل من السماء، والله أوكل إلى هذا الملك الكريم أن ينزل بالوحي من السماء على أنبيائه ورسله، فهو الذي نزل بالقرآن على نبينا صلى الله عليه وسلم، ونزل على غيره من الأنبياء والمرسلين من قبل بالوحي. ويدل عليه أنه ورد في حديث صحيح: (أن الله إذا أراد أن يتكلم بالوحي أخذت السماوات منه رجفة شديدة، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل)، فهذا دليل على فضله وتقدمه وسيادته عليه السلام. وقد جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله إذا أحب عبداً نادى جبريل: إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يكتب له القبول في الأرض). فهذان الأثران فيهما دلالة على فضله وتقدمه على غيره من الملائكة، وإن كنا لا نقطع بهذا؛ لعدم وجود النص الصريح الفاصل في الأمر، لكن نقول بتعبير دقيق: هذا ظاهر كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

علاقة جبريل الأمين بالرسول الكريم

علاقة جبريل الأمين بالرسول الكريم لجبريل عليه السلام علاقة وطيدة بنبينا صلى الله عليه وسلم، تتمثل هذه العلاقة في أمور: أولها: أنه هو الذي نزل بالوحي عليه أول الأمر في غار حراء، وكان يدارس النبي عليه الصلاة والسلام القرآن في كل عام مرة، ودارسه في العام الذي توفي فيه عليه الصلاة والسلام مرتين إيذاناً وإشعاراً بدنو الأجل وقرب الرحيل. كما أنه علم النبي صلى الله عليه وسلم الوضوء، وعلمه الصلاة، وصلى به إماماً عند الكعبة، في ظهيرة اليوم الذي حدثت في ليلته السابقة رحلة الإسراء والمعراج، فصلاة الظهر أول صلاة صلاها النبي صلى الله عليه وسلم كفريضة مقررة، وكان قبلها يصلي ركعتين قبل طلوع الشمس، وركعتين قبل غروبها. ولما طلبت قريش من النبي عليه الصلاة والسلام -وهو يخبرهم برحلة الإسراء- أن يصف لهم بيت المقدس رفعه جبريل فأخذ النبي عليه الصلاة والسلام ينظر إلى بيت المقدس، ويصفه لقريش، ولما سئل صلوات الله وسلامه عليه: ما أحب الأماكن إلى الله؟ قال: المساجد. فلما سئل: ما أبغضها إلى الله؟ توقف، فأخبره جبريل: إنها الأسواق، فأخبر صلى الله عليه وسلم أنها الأسواق. ذكر عليه الصلاة والسلام الشهداء، وأخبر أن الشهيد يغفر له كل شيء، ثم قال مستدركاً: (إلا الدين؛ أخبرني به جبريل آنفاً) لأن جبريل الواسطة بين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. كما كان جبريل مع النبي عليه الصلاة والسلام في يوم بدر، وسيأتي هذا إن شاء الله تعالى في حديثنا عن يوم الفرقان. كما أنه كان مع النبي عليه الصلاة والسلام رفيقاً في رحلة المعراج، فكان يسأل: من معك؟ فيقول: محمد، وأحياناً يسأل النبي عليه الصلاة والسلام جبريل وهو يجيب، ولما مروا على تلك الريح الطيبة، قال له عليه الصلاة والسلام: (ما هذه الريح الطيبة يا جبريل؟ قال: هذه ريح ماشطة ابنة فرعون)، فالسائل نبينا صلى الله عليه وسلم، والمجيب جبريل عليه السلام.

جبريل يعلم الصحابة أمور دينهم

جبريل يعلم الصحابة أمور دينهم أوكل الله جل وعلا إلى جبريل تعليم الصحابة، كما هو معلوم من حديث عمر رضي الله عنه، وهو في صحيح مسلم: (أنه قدم رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد)، والحديث معروف مشهور، فلما ذهب قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمر: (هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم). فهذا من حرصه عليه السلام أن يعلم الناس ما ينفعهم في أمر دينهم عن طريق الأسئلة التي يعرف جوابها، فكان جبريل كلما أجابه النبي عليه الصلاة والسلام يقول: صدقت. يقول الصحابة: فعجبنا له يسأله ويصدقه، أي: كأنه يعرف الإجابة من قبل!

جبريل عند شعراء الإسلام

جبريل عند شعراء الإسلام هذا هو جبريل على وجه الإجمال. وجاء في تأريخنا الإسلامي الحديث أن الله جل وعلا نصر نبيه عليه الصلاة والسلام بالأنصار والمهاجرين، وهؤلاء الكرام من قبل ذادوا عن الدين بسنانهم ولسانهم، فكان منهم شعراء، ومن أبرزهم حسان، وكعب بن مالك رضي الله تعالى عنهما، فـ حسان ذكر جبريل في شعره قال في همزيته: عفت ذات الأصابع فالجواء إلى عذراء منزلها خلاء إلى أن قال: عدمنا خيلنا إن لم تروها تثير النقع موعدها كداء ينازعن الأعنة مصغيات على أكتافها الأسل الظماء فإما تعرضوا عنا اعتمرنا وكان الفتح وانكشف الغطاء إلى أن قال: وجبريل أمين الله فينا وروح القدس ليس له كفاء يفتخر بأن جبريل عليه السلام مع النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه في حروبهم. وكنت قبل قد نسبت البيت الذي سيأتي إلى حسان وهو قول كعب رضي الله عنه: وببئر بدرٍ إذ يرد وجوههم جبريل تحت لوائنا ومحمد وهو أفخر بيت قالته العرب؛ لحقيقته ولصياغته الفنية. هذا ما يمكن أن يقال عن جبريل من حيث التعريف.

حكم الإيمان بجبريل

حكم الإيمان بجبريل ما سبق كان تعريفاً متعلقاً بجبريل، أما من حيث ما يتعلق بنا قلبياً؛ فإن الإيمان بالملائكة هو الركن الثاني من أركان الإيمان، والإيمان بالملائكة الكرام يتمثل بالإيمان بهم جملة؛ أي: بوجودهم ومحبتهم وموالاتهم، وذكر ثناء الله جل وعلا عليهم، وبالإيمان بمن ذكرهم الله جل وعلا تفصيلاً، وفي مقدمتهم جبريل، وميكال، ومالك، وهاروت، وماروت، وإسرافيل، ورضوان إن صحت الأحاديث فيه، وغيرهم ممن سمى الله أو سمى رسوله صلى الله عليه وسلم. فالإيمان بالملائكة الكرام هو الركن الثاني من أركان الإيمان الذي يجب على المؤمن أن يعتقده. ومحبة من يحبه الله ورسوله من أعظم براهين الإيمان ودلائل التقوى، وقد ضربنا لهذا أمثلة كثيرة في دروس عدة، لا حاجة لتكرارها؛ لأن حديثنا عن أعلام القرآن إنما هو حديث تعريفي، فهذا هو جبريل عليه السلام.

التعريف بالكوثر

التعريف بالكوثر العلم الثاني: الكوثر. الكوثر ذكره الله في القرآن مرة واحدة في سورة سميت باسمه، قال الله جل وعلا: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1]. واختلف العلماء فيما هو الكوثر على ستة عشر قولاً يثبت منها اثنان؛ لأن أقوال العلماء لا تعارض قول النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان ما قالوه يدخل فيما أعطاه الله النبي من الخير، لكن الكوثر إنما هو نهر في الجنة أعطاه الله لنبينا صلى الله عليه وسلم. روى الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه في كتاب التفسير: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في حديث أنس: (دخلت الجنة فإذا أنا بنهر حافتاه خيام اللؤلؤ فضربت فيه لأرى أين مجرى الماء، فإذا هو مسك أذفر قلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي أعطاكه الله). فهذا نص في موضع الخلاف، فلا ينبغي الانصراف إلى غيره. ويؤيده ما رواه الإمام مسلم في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1] حتى ختمها، ثم قال لأصحابه: أتدرون ما الكوثر؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: نهر في الجنة وعدنيه ربي، فيه خير كثير، وهو حوض ترده أمتي).

العلاقة بين الحوض والكوثر

العلاقة بين الحوض والكوثر وقد تكلم العلماء في قضية: هل الكوثر نهر في الجنة أو هو الحوض الذي ترد إليه هذه الأمة يوم القيامة؟ والإمام البخاري رحمه الله ذكر الحديث أولاً في كتاب التفسير عند قول الله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1]، ثم ذكره مرة أخرى مردفاً بأحاديث أخر في كتاب الرقاق من نفس الصحيح. وقد تكلم الحافظ ابن حجر أفضل من شرح الصحيح عن الكوثر كنهر في كتاب التفسير، وأرجأ الحديث عن التفصيل إلى كتاب الرقاق. وجملة ما دل عليه الخبر أن أصل النهر في الجنة، ثم له ميزابان يصب بهما في الحوض الذي هو خارج الجنة، فيصبح هذا الحوض الذي هو حوض نبينا صلى الله عليه وسلم أصل مائه من الكوثر الذي هو نهر في الجنة. وبهذا يجتمع حديث: هذا الكوثر الذي أعطاكه الله، وحديث: وهو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة.

الرد على منكري الحوض

الرد على منكري الحوض الناس يحشرون يوم القيامة عطشى أحوج ما يكونون إلى الماء، والورود إلى الحوض من أعظم ما يؤمله ويتمناه عباد الله الصالحين، سقانا الله منه. وأهل السنة يؤمنون بالكوثر ويثبتونه، وأنكرت طائفة من الخوارج ومن المعتزلة وجود الحوض، وكان عبيد الله بن زياد الأمير الأموي المعروف ينكر وجود الحوض ويرده، فكان الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم يخبرونه بما سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن لنبي الله عليه السلام حوضاً، حتى إنه سأل أبا برزة الأسلمي رضي الله عنه: هل سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الحوض؟ فقال أبو برزة رضي الله عنه وأرضاه: ما سمعته مرة، ولا مرتين، ولا ثلاثاً، ولا أربعاً، ولا خمساً، بل سمعته أكثر من ذلك، لا سقى الله من كذب به. يريد أن يخوف عبيد الله بن زياد. ثم أخبره ابن عمر وبعض الصحابة في هذا، وورد أنه قال: أشهد أن الحوض حق. وسواءً أقر عبيد الله بن زياد أو لم يقر، فالحوض ثابت لا شك فيه. ودخل أنس رضي الله عنه وأرضاه على عبيد الله بن زياد ومعه أصحابه وخلطاؤه وهم يتمارون في الحوض كأنهم ينكرونه، فقال أنس رضي الله عنه وأرضاه: والله! ما ظننت أنني سأعيش إلى يوم أسمع فيه من يتمارون في الحوض، ولقد تركت في المدينة خلفي عجائز ما صلين صلاة إلا سألن الله فيها أن يسقيهن من حوض نبيهن. قال الإمام القرطبي رحمه الله: والحوض أركانه أربعة، وهم الخلفاء الراشدون، فمن سبهم أو أبغضهم، أو أبغض واحداً منهم لم يرد الحوض، وهذا القول من القرطبي لم نقف على أثرٍ صحيح يدل عليه، ولا نعلم من أين أتى القرطبي رحمه الله بهذا القول، وإن كان الرجل أحد الأئمة الكبار، وقوله رحمه الله تطمئن إليه النفس، فإن حب الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم من أعظم القرب إلى الله تبارك وتعالى، ومن أعظم ما يدل على تمكن الإيمان في القلب. ويجب على المرء أن يحب ما يحبه الله ورسوله، ولا ريب أن الله ورسوله يحبان الصحابة، وقد أثنى الله عليهم، وأثنى عليهم رسوله صلى الله عليه وسلم. موضع الشاهد: أن سب الصحابة يحول بين المرء وبين ورود الحوض، وهذا ذكره أهل السنة رداً على الرافضة الذين يقعون في أصحاب محمدٍ صلى الله عليه وسلم.

كيف ينتقم الله لأوليائه

كيف ينتقم الله لأوليائه الله جل وعلا ينتقم لأوليائه عاجلاً أو آجلاً. السيد الحوثي اليمني الشيعي الذي خرج مؤخراً على حكومة اليمن وقتل؛ قابلت رجلاً يمنياً شارك في المعارك العسكرية والفكرية ضد هذا الشيعي، ذكر أنه كان قد ضلل شباباً كثيرين من أبناء قريته، وأهل السنة في اليمن بعد أن يئسوا من كبارهم أخذوا الصغار، وأتوا بهم إلى مكة والمدينة ليعتمروا حتى يغيروا المعتقد الخاطئ الذي ربوا عليه. هذا السيد الحوثي يدعى سيداً، وليس بسيد، وقد قال في أحد دروسه لأتباعه يذم الصديق رضي الله عنه وقد ذكر النبي عليه الصلاة والسلام ومعه صاحبه في الغار، فقال بلهجته كلاماً معناه: إن أبا بكر ليست له أي كرامة، إنما كان يبول ويتغوط في الغار ثلاثة أيام. قال ذلك بلغة شنيعة! ثم مضت أيام شهور سنون على قولته هذه، ولما حوصر دافع عنه فتيان وشباب مغرر بهم، أما هو فقد حصره الله جل وعلا في غار، فجلس فيه ثلاثة أشهر لا يستطيع أن يخرج، فكان يبول ويتبرز في الغار، ثم ختم الله له بأن قتل. فانظر كيف وقع في رجلٍ كـ الصديق رضي الله عنه أفضل الأمة بعد نبيها، وكيف انتقم الله جل وعلا للصديق رغم أن الصديق لم يسمع هذه المقالة، ولم يؤذ بها، لكن الله جل وعلا قال في كتابه: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38].

من أعلام القرآن عزير

من أعلام القرآن عزير العلم الثالث هو عزير، وهو أحد صالحي بني إسرائيل، لم تثبت نبوته، قال الله جل وعلا عنه: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ} [التوبة:30]. نعلم جميعاً أن الرب تبارك وتعالى مقدس عن الصاحبة والولد، منزه فلم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، وأعظم الجرم أن يدعي مدعٍ أن لله جل وعلا ولداً، قال الله: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} [مريم:88 - 90]. وممن زعم لله الولد النصارى واليهود، وكلٌ منهم تعلق بشبهة، والشبهة لا يجلوها إلا العلم. فنبدأ بالنصارى، وإن كانوا متأخرين، لكن حتى نصل إلى عزير، فالنصارى وقعوا في هذه الشبهة من باب أنهم رأوا أن عيسى عليه السلام لا والد له، فزعموا أنه ابن لله، فرد الله جل وعلا عليهم كما مر معنا في تأملاتنا في سورة آل عمران عند قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59]. والمعنى: لو كان هناك أحد حقيق أن يكون ابناً لله -ولا يوجد أحد كذلك- لكان آدم أولى من عيسى؛ لأنه إذا كانت الشبهة في عيسى أنه وجد من غير والد، فإن آدم وجد من غير والدة ولا والد، وإنما هو أمر من الله: كن فيكون، فرد الله بهذا شبهة النصارى. وهكذا اليهود فإنهم زعموا أن عزيراً ابن الله، وسبب شبهتهم أنهم يعلمون أن التوراة نزلت على موسى مكتوبة، كما قال الله: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ} [الأعراف:145]. فكان علماؤهم يحفظون التوراة، ثم سلط الله عليهم بختنصر فأزهق أرواحهم، وأفنى علماءهم، فقدر أن عزيراً ألهمه الله جل وعلا التوراة، وجعله قادراً على استذكارها، فأملاها عليهم غيباً، وبعد أن أملاها عليهم وقفوا عليها وهي مكتوبة، ووجدوها حيث دفنها العلماء قبل أن يذبحهم بختنصر، فقارنوا بين ما أملاه عليهم عزير، وما هو بين أيديهم من التوراة، فوجدوا عزيراً لم يخرم حرفاً واحداً، فقالوا: ما أعطي عزير هذا إلا لأنه ابن لله. هذا سبب قول اليهود وزعمهم أن عزيراً ابن الله، وهذه مشكلة سببها قلة العلم، فإن الإنسان إذا كان لا يعرف إلا جزئية في العلم يتخبط فيه، ويقع في أمور لا يعلمها إلا الله. فـ عثمان رضي الله تعالى عنه وأرضاه قرب قرابته، وأعطاهم مسئوليات، فجاء الخوارج وقالوا: هذا ينافي ما أمر الله به من العدل، وهذا لا يصلح أن يكون خليفة أو أميراً للمؤمنين، ثم قتلوه، ثم نهبوا ماله، ثم قتلوا نجيحاً وفليحاً غلاميه، ثم ضربوا زوجته، وهكذا تطور الأمر لأجل شبهة واحدة، فلم يجدوا عذراً لـ عثمان. والخوارج الذين بعدهم قتلوا علياً، وقالوا: إن علياً حكم الرجال في دين الله والله يقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:57]، ولم يفهموا هذه الآية لم أنزلت، وفيمَ أنزلت، وأن الله حكم الرجال في الصيد فقال: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة:95]، ومع ذلك تركوا هذا كله، ورفعوا سيوفهم على أمير المؤمنين وقتلوه، وهذا كله من نقص العلم. فمن لم يكن ذا علم فمن الصعب أن تحاوره؛ لأنه يتمسك بجزئية واحدة، ولا يوجد جامع بينك وبينه ولا أرضية علمية متسعة حتى تأخذ وتعطي معه. نعود إلى عزير فنقول: أما عزير فهو عبد صالح، ورد فيه آثار، هذه الآثار لا يوجد بين أيدينا نقل نستطيع أن نجزم أنه صحيح، ولكنها نقول عن وهب بن منبه، وعن ابن عباس، أخذها عن كعب الأحبار، وهكذا نقلت غيرهم من الصحابة والتابعين. فمنهم من قال: إن عزيراً مر على امرأة تبكي عند قبر بعد أن قتل بختنصر بني إسرائيل، وهي تقول: واكاسياه وامعطياه، فقال لها عزير: من الذي كان يطعمك ويسقيك؟ قالت: الله، قال: فإن الله حي لا يموت، فلا داعي للبكاء، وهو قبل أن يقول لها ذلك كان يبكي على فقد العلماء، فقالت له المرأة: وأنت علام تبكي؟ قال: أبكي على فقد العلماء، قالت: من الذي علم علماء بني إسرائيل، قال: الله. قالت: فاسأل الله فإن الله حي لا يموت، فسأل الله أن يقذف في قلبه نور التوارة، فأعطاه الله نور التوارة، هذا قول. ونقل كثير من العلماء أنه هو المقصود بقول الله جل وعلا: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [البقرة:259]، فقالوا: إن القرية هي بيت المقدس بعد أن عاث بختنصر فيها فساداً، فبعد أن هدم منازلها، وأطاح سقوفها، وقتل أهلها مر عليها عزير، فقال -من باب التعجب لا من باب الإنكار-: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} [البقرة:259]. وكان قد خرج وعمره أربعون عاماً، وله جارية عمرها عشرون عاماً، فأماته الله، فمكث ميتاً مائة عام بنص القرآن إن كان هو عزير. فبعد مائة عام أحياه الله جل وعلا ورده كما كان، وعمره أربعون كما هي، فلما رجع إذا بالناس قد تغيروا، فذهب إلى بيته، فوجد الأمة التي تركها وعمرها عشرون عاماً قد أصبح عمرها مائة وعشرين، فقال لها: أين بيت عزير يرحمك الله! أين أنت من عزير! لم يعد أحد يذكر عزيراً هذه الأيام، فقال لها: أنا عزير، قالت: إن عزيراً كان عبداً صالحاً؛ فإن كنت عزيراً فادع الله لي، وكانت قد عميت، فدعا الله لها فبرئت وأبصرت، فلما رأته عرفته؛ لأنه ما تغير فيه شيء. فأخذته للملأ من بني إسرائيل، وذكروا له التوراة، فسأل الله ودعاه، فأملى عليهم التوراة ولم يخرم منها حرفاً، ثم قال لهم: إن أبي كان قد أخفى التوراة في مكان كذا وكذا عندما خربت بيت المقدس، فذهب بهم إلى الموضع الذي غلب على ظنه أن أباه وضع التوراة فيه، فأخرجها مكتوبة كما هي. فلما قارنوا بين ما أملاه عزير وبين ما وجدوه مكتوباً وجدوا أن عزيراً لم يخرم منه حرفاً واحداً، فقالوا: ما أعطي عزير هذا إلا لأنه ابن الله، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً! وقولهم: إنه ابن الله، ذكره الله في سورة التوبة؛ ليغري المؤمنين ويحثهم على قتال أهل الكفر، فذكرها الله ليبين أعظم ما تحلى به أهل الكفر، وهو زعمهم أن لله الولد، وأعظم الفرية أن يأتي أحد فيدعي لله الولد، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً. ولذلك كانوا يقولون في سيرة الإمام أحمد رحمه الله: إنه كان إذا أبصر يهودياً أو نصرانياً في بغداد يغمض عينيه، فيقال له: يا أبا عبد الله لم تفعل ذلك؟ فيقول: والله لا أطيق أن أرى أحداً يزعم أن لله ولداً! وهذه أمر تحلى به الإمام أحمد رحمه الله، لكن لا يوجد دليل على وجوب فعله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أبصر اليهود والنصارى وهم يزعمون أن لله الولد، وتعامل معهم، لكن هذا ورع من الإمام نفسه، وليس هدياً نبوياً؛ فرحمة الله على الإمام أحمد. موضع الشاهد من هذا: أنه كان في الأمم من قبلنا وفي أمتنا من الصالحين من غالى الناس فيهم حتى عبدوهم من دون الله، أو عظموهم من دون الله، ولهذا قال الله بعد هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة:31]. وأعظم الفرق التي وقعت في هذا بلا شك هم الرافضة وغلوهم الشركي في علي رضي الله عنه، وفي السبطين الحسن والحسين، وهذا أمر مشاهد لا يمكن إنكاره، وكله من باب الغلو في الأشخاص، ولا ينبغي لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يغلو في أحدٍ من الخلق كائناً من كان، إنما يحب كل أحدٍ بقدر، ويبغض بقدر، ويتخذ الشرع مناطاً ومعياراً في التعامل مع الخلق كلهم.

يوم الفرقان

يوم الفرقان رابع الأعلام هو يوم الفرقان: وهي التسمية القرآنية ليوم بدر، أما قول الله جل وعلا: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران:123]، فهو علم على مكان، لكن الله قال في الأنفال: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنفال:41]. فقول الله جل وعلا: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [الأنفال:41] فيه أن (ما) موصولة، أي: والذي أنزلنا على عبدنا، أي: نبينا صلى الله عليه وسلم. {يَوْمَ الْفُرْقَانِ} [الأنفال:41] أي: يوم معركة بدر التي فرق الله فيها بين الحق والباطل، والفرقان مصدر من الفعل فرق يفرق فرقاناً. {يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [الأنفال:41] أي: جمع أهل الكفر وجمع أهل الإيمان. قال الله بعدها: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنفال:41] أنزل الله جل وعلا يوم الفرقان النصر والظفر لنبينا صلى الله عليه وسلم ومن معه.

تفاصيل يوم بدر

تفاصيل يوم بدر ومعلوم أن يوم بدر يوم مشهور، وسأتحدث عنه إجمالاً فيما يغلب على الظن أن فيه فائدة. الحالة الاقتصادية في المدينة كانت ضعيفة جداً قبل بدر، فكان الشغل الشاغل للصحابة -لما سمعوا بعير قريش- أن ينالوا القافلة، حتى يتحسن الوضع الاقتصادي، فخرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم وأكبر همهم أن ينالوا القافلة، لكن الله أبدلهم من القافلة خيراً منها، وهو أن الله أعطاهم النصر، ومكن لهم، وأخذوا بعد ذلك الفدية من قريش، فأعطاهم الله جل وعلا فوق ما يؤملون. أبو سفيان حارب النبي صلى الله عليه وسلم في بدر وأحد، وجمع الأحزاب، ومع ذلك مات على الإيمان، فسبحان مقلب القلوب يفعل بعباده ما يشاء، ولهذا كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (يا مقلب القلوب ثبت قلبنا على دينك). لأن عاتكة بنت عبد المطلب -أخت العباس وعمة النبي صلى الله عليه وسلم- قبل يوم بدر بثلاثة أيام، رأت في المنام أن رجلاً يستغيث بالأبطح ويقول: يا آل غدر انفروا لمصارعكم في ثلاث، ثم تنقل من مكان إلى مكان، ثم صعد جبلاً ثم ألقى صخرة، فانفلقت حتى لم يبق بيت من بيوت أهل مكة إلا ودخله شظية من الصخر. فقصت الرؤيا على أخيها العباس، فقال لها العباس: اكتميها، والله إنها لرؤيا، فقالت: أظنها مصيبة ستحل بقومنا، فأخبر العباس الوليد بن عتبة وكان صديقاً له. وقد قيل: كل سر جاوز الاثنين شاع، وكل علم ليس في القرطاس ضاع! أما الأولى: كل سر جاوز الاثنين شاع فصحيح، لكن: كل علمٍ ليس في القرطاس ضاع ليس بصحيح؛ لأن الله يقول: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49] ولم يقل: إنه في الكتب. نعود فنقول: لما قص العباس القصة على الوليد بن عتبة أخبر بها الوليد غيره، فانتشرت في قريش، فلما بلغت أبا جهل نادى العباس، وتوعده وتهدده، وقال: يا بني عبد المطلب، أما كفاكم أن يتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم؟ وكان أبو جهل رجلاً خبيثاً، حديد الوجه، حديد النظر، حديد اللسان، لا يستطيع أحد أن يقاومه، دخل دار الندوة قبل أن يطر شاربه، رغم أن دار الندوة لا يدخلها رجل في قريش إلا بعد الأربعين، لكن أدخلوه إياها محكماً من أول أمره، لعلو شأنه وهو صغير. فنادى أبو جهل العباس، وأخذ يتوعده ويهدده، فلم يجد العباس مفراً من أن يجحد وينكر، فلما ذهب العباس إلى داره اجتمع عليه آل عبد المطلب، وعاتبوه ولاموه، كيف تضعف أمام أبي جهل؟ فأجمع أمره على أن يرد على أبي جهل، فلما انصرف بعد ثلاثة أيام قابل العباس أبا جهل، وناداه ليرد عليه، وإذا بـ ضمضم الغفاري الذي استأجره أبو سفيان وبعثه يستصرخ في قريش يصرخ مثل ما قالت عاتكة في الرؤيا، فكان أبو جهل ممن سمع الغوث فترك العباس وخرج، ثم خرج العباس وخرج الناس ينشدون ماذا يريد ضمضم؟ وانتهى أمر الرؤيا. يعني: انشغلت قريش عن الرؤيا. ثم خرجت قريش بعد أن استنفرهم ضمضم الذي بعثه أبو سفيان. والتقى الجمعان كما قال الله جل وعلا في بدر، وبدر اسم لرجل يقال له: بدر بن حذافة كان قد حفر بئراً في هذا الموطن، فسمي المكان باسمه إلى يومنا هذا، وهذا يدل على أن هناك أشياء تبقى مع الأيام لا تتغير عن اسمها الأول. ومر النبي عليه الصلاة والسلام في طريقه بالروحاء، ومر بالمنصرف وهي المسيجيد الآن، ومر برحقان -الجبل المعروف- ومر بالمضيق حتى وصل إلى بدر، وهناك في بدر التقى الجمعان كما أخبر الله جل وعلا. استشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه؛ لأن النبي وفي، وهو يعلم أن العهد الذي بينه وبين الأنصار على أنهم يحموه داخل المدينة، وبدر خارج المدينة، فأخذ يقول: أشيروا عليّ أيها الناس! أشيروا عليّ أيها الناس! ثم سمع من الأنصار ما سمع مما يدل على صدقهم ونصرتهم لدين الله، فقال: امضوا فإن الله وعدني إحدى الطائفتين إما النصر وإما القافلة. فلما كان في يوم بدر وقف صلى الله عليه وسلم ليلته بدر يدعو ويتضرع إلى الله ليقيم التوحيد، ويحقق العبودية لله, وإلا فهو يعلم قطعاً أنه منتصر؛ لأنه قال لأصحابه: (امضوا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين)، فالطائفة الأولى وهي القافلة فرت ونجت، فلم يبق إلا الثانية، ووعد الله حق، فكان يعلم أنه منصور، لكنه أراد أن يحقق أعظم ما كلف الله به العبيد، ألا وهو تحقيق التوحيد، فأخذ صلى الله عليه وسلم يدعو حتى سقط رداءه، فرق له أبو بكر فقال: يا نبي الله! كفاك بعض مناشدتك ربك، يعني: على مهلك! فكان صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم! إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبداً). وكان أهل بدر ثلاثمائة وبضعة عشر، وهو عدد جيش طالوت الذي قال الله فيه: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً} [البقرة:249]. ثم كانت موقعة بدر في السابع عشر من رمضان للسنة الثانية من الهجرة في يوم جمعة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على غير صيام، ولهذا كان عمير بن الحمام بيده تمرات يأكل منها ثم ألقاها وجاهد في سبيل الله، واستشهد رضي الله عنه وأرضاه. نجم عن المعركة كما هو معلوم قتل سبعين من أهل الإشراك وأسر سبعين، والمسلمون في يوم أحد لم يؤسر منهم أحد، وإنما قتل منهم سبعين، ولهذا قال الله: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا} [آل عمران:165]. {أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} [آل عمران:165]. أي: في بدر، ففي بدر قتلتم سبعين وأسرتم سبعين، أما في أحد فالذي أصابكم نصف ما حصلتم عليه في الأول، فقد قتل منكم سبعون ولم يؤسر منكم أحد. مكث النبي صلى الله عليه وسلم في بدر ليتصرف في القتلى، وبعث عبد الله بن رواحة وأسامة بن زيد على ناقته القصوى يبشرون أهل المدينة بانتصار نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام في بدر، ثم ألقي قتلى قريش في القليب، وهو البئر المهجور المتروك في بدر.

مسألة سماع الأموات في القبور

مسألة سماع الأموات في القبور مكث صلى الله عليه وسلم ينادي أهل القليب ويقول: (هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً، فقد وجدت ما وعدني ربي حقاً، فقال له عمر: يا رسول الله! كيف تدعو أقواماً قد جيفوا، فقال: يا عمر! والله! ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، لكنهم لا يملكون جواباً). هذه مسألة ينجم عنها مسألة خلافية شهيرة، وهي: هل الأموات يسمعون أو لا؟ وينجم عن ذلك قضية أخرى، وهي قضية تلقين الميت، وهو أن يوقف على القبر فيقال للميت: اذكر آخر ما تركت عليه من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله إلخ. والحق أن تلقين الميت لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحدٍ من أصحابه فيما نعلم، وقد ظهر في الشام قبل الإمام أحمد بقليل -أي: في أواخر القرن الأول- من قومٍ صالحين، فأخذه عنهم البعض، وأصل المسألة كما قلت: هي قضية هؤلاء الذين في بدر. فالذين يقولون بالتلقين يقولون إن النبي عليه الصلاة والسلام قال عن أهل قليب بدر إنهم يسمعون، ويرد عليهم بأنه لو كان الأصل أنهم يسمعون لما أنكر عمر، لكن الظاهر أن الأمر خرج عن المعتاد، فكانت خصيصة للنبي صلى الله عليه وسلم، وليس أمراً عادياً، لكن رد الآخرون بأن النبي عليه الصلاة والسلام قال عن الميت: إنه يسمع قرع نعالهم، والمسألة مبسوطة في كتب الفقهاء، والخير كل الخير في اتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم.

آثار معركة بدر

آثار معركة بدر هذا يوم بدر سماه الله فرقاناً؛ لأن الله جل وعلا فرق فيه بين الحق والباطل، وكان يوماً عزيزاً في الإسلام، نصر الله جل وعلا فيه نبيه صلى الله عليه وسلم. أشار عمر على النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتل الأسرى، وأخذ الرسول برأي أبي بكر أن يفدوا ويستفيد المسلمون من الفدية، ويستبقونهم لعل الله أن يهديهم، فأنزل الله جل وعلا قوله: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال:67] إلى قوله: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} [الأنفال:68]. فبعثت قريش تفدي أسراها، وكان من الأسرى العاص بن الربيع، وهو زوج زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو أمامة بنت زينب، وزينب كانت في مكة، وزوجها مأسور في المدينة، فبعثت بفدية تفدي بها زوجها، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (إن زوج المرأة -أو بعل المرأة- من المرأة بمكان). فالمرأة إذا ادلهمت عليها الخطوب لا نجد أحداً تلجأ إليه أكثر من زوجها؛ فهذه المرأة رغم أنها بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي مسلمة، لكن لما علمت أن زوجها أسر أخرجت كل ما في يدها، فأخرجت قلادة كانت أمها خديجة رضي الله عنها وأرضاها ألبستها إياها في يوم دخولها على زوجها، فبعثت بالقلادة، وهي أعز ما تملك من أجل أن تفدي زوجها، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم القلادة عرفها فتذكر زمان خديجة رضي الله عنها وأرضاها. فورد أنه ذرفت عيناه صلوات الله وسلامه عليه، يعني: بكى، ثم فدي العاص بن الربيع ورجع، فأسلم العاص بعد ذلك في قصة طويلة ليس هذا موضع بسطها. على الجانب الآخر: كان قريش قوماً أعزة في ذاتهم وإن كانوا على الكفر، فقد كان فيهم أنفة، حتى في الحج كانوا لا يخرجون إلى عرفات، لأنها من الحل، فكانوا لا يخرجون مع الناس، وكانوا يقولون: نحن أهل الله، أهل الحرم، لا نخرج مع الناس في عرفات، فيقفون قبل عرفات، ولا يفيضون من منىً إلى عرفات، ولهذا قال الله لنبيه: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة:199] أي: دعك من قومك وأنفتهم، {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:199]. والمقصود: أن قريشاً كانت بهم أنفة، فأصدروا بياناً رسمياً أوقات الحروب وهو ألا يبكي أحد، والإنسان إذا لم يبك يزداد الألم في قلبه. وذات يومٍ كان أحدهم قد سمع بكاء، وقد مات له ثلاثة أولاد، فقال لأحد أبنائه: اذهب وانظر فإني أسمع امرأة تبكي لعل قريشاً أذنت أن يبكى على القتلى، فذهب الولد ووجد امرأة تبكي على بكر لها أضلته، وهو الفتى من الإبل، فرجع إلى أبيه فقال: ما وراءك؟ قال: هذه امرأة تبكي على بكرٍ أضلته، فقال: أتبكي أن يضل لها بعيرٍ ويمنعها من النوم السهود فلا تبك على بكر ولكن على بدرٍ تقاصرت الجدود على بدرٍ صراة بني هصيص ومخزوم ورهط أبي الوليد ألا قد ساد بعدهم رجال ولولا يوم بدر لم يسودوا وأخذ يذكر نحيبه وشجونه على أبنائه الذين قتلوا في بدر. هذا حصيلة ما كان في يوم بدر، وقد خص الله جل وعلا تلك الفئة في يوم الفرقان؛ فاطلع عليهم، وقال: اعملوا ما شئتم فإني قد غفرت لكم. فهؤلاء الفئة الثلاثمائة والأربعة عشر هم خير أمة محمد صلى الله عليه وسلم على الإطلاق، وقلنا: إن جبريل كان في ذلك اللواء، وقلنا: إن قول كعب: وبيوم بدرٍ إذ يرد وجوههم جبريل تحت لوائنا ومحمد هو أفخر بيت قالته العرب؛ لأنه لا يوجد راية يمكن أن تقع في التأريخ كله من لدن آدم إلى أن تقوم الساعة يجتمع تحتها محمد بن عبد الله وجبريل، وأبو بكر وعمر وغيرهم من سادة المهاجرين والأنصار، فلا أحد في الأنبياء أفضل من محمد، ولا أحد في الملائكة أفضل من جبريل، ولا أحد في حواري الأنبياء أفضل من أبي بكر، وهؤلاء الثلاثة الأئمة في كل فريق اجتمعوا تحت رايةٍ واحدة، فلهذا كانت راية بدرٍ لا تعدلها راية؛ رزقنا الله حبهم وجوارهم في جنات النعيم! هذا ما تيسر إيراده وتهيأ قوله، وأعان الله جل وعلا على الحديث عنه، وهم أربعة أعلام، جبريل، والكوثر، وعزير، ويوم الفرقان. وفقنا الله وإياكم للعمل بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، والحمد لله رب العالمين.

[فرعون، هامان، قارون، عرفات، المشعر الحرام]

سلسلة أعلام القرآن [فرعون، هامان، قارون، عرفات، المشعر الحرام] ذكر الله عز وجل أعلاماً في القرآن الكريم، منها ما يكون لأشخاص ومنها ما يكون لأماكن ومنها ما يكون لأزمان. وفي ترجمة فرعون وهامان وقارون عبرة للمعتبرين وموعظة للذاكرين. وفي ترجمة عرفات والمشعر الحرام تشويقاً لأولي الألباب من المؤمنين إلى زيارة تلك الأماكن المباركة والتقرب إلى الله فيها.

ذكر فرعون وهامان وقارون في القرآن الكريم

ذكر فرعون وهامان وقارون في القرآن الكريم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق فسوى وقدر فهدى وأخرج المرعى فجعله غثاء أحوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فقد تحدثنا فيما سبق عن أربعة من أعلام القرآن الذين ذكرهم الله جل وعلا في كتابه العزيز، وسوف نتحدث إن شاء الله تعالى عن تراجم لخمسة أعلام ذكرهم الله تبارك وتعالى في كتابه، وهم ثلاثة في عصر واحد لأشخاص: فرعون وهامان وقارون، وعلمين ندرسهما لمكانين مباركين هما: عرفات والمشعر الحرام، وهذه الخمس كلها وردت في القرآن، وقد سبق أن الأعلام تكون مكانية، وتكون زمانية، وتكون لأشخاص، وتكون لغير ذلك. قال الله جل وعلا: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [غافر:23 - 24]. وقال جل ذكره: {وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ} [العنكبوت:39]، وقال في القصص: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى} [القصص:76]، وقال تبارك وتعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} [القصص:8]. التفصيل كالتالي: هؤلاء الثلاثة كلهم كذابون: فرعون وهامان وقارون، لكن ينبغي أن تعلم أن فرعون وهامان من أهل مصر الأصليين، أما قارون فمن قوم موسى من بني إسرائيل، وهؤلاء الثلاثة أحداثهم لم تكن في مكان واحد؛ فرعون وهامان كانا في مصر، أما قضية قارون لم تكن في أرض مصر، كانت بعد خروج موسى من أرض مصر في أرض التيه، فقصة البقرة، وقصة الخضر، وقصة قارون، كلها تمت بعد خروج موسى عليه الصلاة والسلام من أرض مصر، أما فرعون وهامان فكانا زعيمين لأرض مصر، يجمعهما التكذيب بموسى، لكنهم يختلفون في النسب، ويختلفون في قرابتهم من موسى، ويختلفون في الحقبة الزمانية المخصصة التي وقعت فيها الأحداث. وقد مرت معنا كثيراً قضية موسى وهارون وهامان، ونفصل فيها هنا كما فصلنا فيها سابقاً بالتأملات، ولكن نتكلم هنا من باب الترجمة فقط، ولنبدأ بما بدأ الله به.

فرعون

فرعون فرعون: لقب على الأظهر لمن يحكم مصر في فترة من الفترات آنذاك، وهل اسمه فرعون الحقيقي أو هو لقب له؟ اختلف أهل العلم في ذلك، والمشهور أنه لقب، لكن هذا اللقب لم يرد له اسم يبينه في القرآن، ففي كل المواضع التي ذكر الله جل وعلا فيها خبر موسى مع فرعون سماه فرعون، ولهذا قال البعض: إن اسمه فرعون، قلنا: كلمة اللقب أقوى لكن لا يعرف له اسم. قال بعض العلماء: إنه اسمه أبو الوليد، أو مصعب بن الوليد، أو الوليد بن مصعب، لكن هذا بعيد جداً؛ لأن هذه أسماء عربية لا يمكن أن تطلق على فرعون وفرعون كلمة لا وزن لها في العربية بخلاف غيره كـ هامان مثلاً. لماذا ندرس سيرة هذا الرجل؟ لأن الله أخبر أنه أشد أهل النار عذاباً، قال الله: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46]، فإذا كان هذا مآل أهله فكيف بمآله هو؟

فرعون وصفة الكبر

فرعون وصفة الكبر لنقف على أعظم الصفات التي تحلى بها فرعون حتى نبتعد عنها؛ لأن المؤمن يتحلى بطرائق الأخيار، ويأنف وينأى بنفسه عن طرائق الأشرار، والكبر من أعظم المهلكات، وهو نبتة في الصدر، وقد مر معنا أنه يقسم إلى ثلاثة أقسام: كبر على الله، وهذا الصانعون له قليل. وكبر على الرسل، وهذا الصانعون له أكثر من الأول. وكبر على الناس، وهذا قليل من يسلم منه. أما الكبر على الله: فهو عين الكفر، وهذا لم يوجد على مر الدهور إلا في قليل من الأفراد منهم النمرود صاحب إبراهيم: {قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة:258]، ومنهم فرعون؛ لأن فرعون تاريخياً بعد النمرود، ففرعون قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]، وقال لأهل مصر: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، وهو قمة الكبر على الله تبارك وتعالى، ولهذا كان جبريل -كما مر معنا في درس التأملات- حانق عليه؛ لأن فرعون نازع الله في كبريائه فلما أدركه الغرق، وأخذ يرى الموت عياناً في البحر -كما جاء في الحديث الصحيح- كان جبريل يأخذ الطين ويضعه في فم فرعون حتى لا يتلفظ بكلمة يستدر بها رحمة الله جل وعلا فيرحمه الله، فكان من حنق جبريل عليه أنه لا يريد أن يرحمه الله لما سلف من أفعاله وأقواله والتي منها: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51]، ومنها قوله: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، ومنها قوله: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ} [غافر:36] إلى غير ذلك مما تجرأ به على ذات الله جل وعلا. إذاً: أعظم ما يفهم من الدرس: أن هذه النبتة التي في القلب يحاول المسلم قدر الإمكان أن يجعلها مجرد نزعة في النفس لا يكون منها أي صنيع، وكونها موجودة في الإنسان هذا يعني أنها شيء مجبول عليه الناس لكن لا يكون لها أي أثر. الحالة الثانية: الكبر على الرسل، وقلنا هذا كثير في الأمم. ثم الكبر على الناس، فقد يوجد في الناس من يتكبر بعضهم على بعض، إما لمال أو لجاه أو لنسب أو لسلطان أو ما إلى ذلك، ولهذا أمر الله جل وعلا نبيه بأن يخفض جناحه للمؤمنين عموماً، وأن يكون أنموذجاً في تواضعه فقال سبحانه: {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [الإسراء:37]، {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء:38]، هذه أعظم ما اتصف به فرعون. الأمر الثاني: تكذيبه لما يعلم أنه حق، وهذا ناشئ عن كبره، ولهذا قال الله جل وعلا عنه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14]، فقد كان يعلم أن موسى على الحق بالآيات البينات البالغات التي أظهرها موسى له لكنه جحدها. فمن أعظم ما يظلم به المرء نفسه أن يرد الحق وهو يعلم أنه حق، فيرده كبراً يرده أنفة يرده استكباراً، لا يريد أن يخضع لأحد، ولا يريد أن يشعر أن زيداً أو عمراً من الناس أفضل منه فيلحق بركب فرعون، وإن كان لا يصل إلى درجة فرعون ولا يخرجه هذا من الملة، لكن يحرمه من خير كثير ويكون وباله بحسب ذلك الشيء الذي رده. لقد عامل الله فرعون بجنس المعصية التي تعالى بها، وذلك أنه قال لأهل مصر: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51] فنسب أنهار مصر إليه، وأنها في قبضته يصرفها كيف يشاء، فأغرقه الله في البحر الذي كان يدعي أنه ملك له. كان من سياسته التفريق بين الناس، قال الله جلا وعلا: {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} [القصص:4]، أي: فرقاً، يستضعف طائفة منهم ويستحي النساء، ويجعل مجموعة للخدمة، ومجموعه للرفعة، ومجموعه مقربة له. ففرق بين الناس على تمييز عنصري كان يتخذه، وجعل بني إسرائيل في أدنى المنازل، وسامهم سوء العذاب، فمنَّ الله على بني إسرائيل ببعثة موسى، ثم أهلك فرعون وآله ونجى موسى عليه السلام. هذا فرعون على وجه العموم اتخذ له وزيراً، والوزير آنذاك ليس كالوزير في هذا العصر، فالوزراء في هذا العصر يعطى كل ذي وجهة وزارة، وسابقاً كان الوزير هو المعاون أو المساعد للرئيس أو للملك أو للسلطان، فكان هامان يؤدي هذا الدور مع فرعون، ولهذا قال الله: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا} [القصص:8] فأضاف الجنود إلى فرعون وهامان؛ لأنهما كانا يملكان القيادة، والإنسان سواء كان ذا سلطان أو غير ذي سلطان لابد له من أشخاص حوله يستشيرهم ويعينونه في الأمر، وهذه سنة لله، وقلما يوجد أحد لا يتخذ رأياً إلا لوحده، وليس معه أحد، خاصة ذوي المناصب والجاه، وذوي المشاغل الكبرى، وكلما كان وزير الإنسان ومن يرافقه ذا عقل وحلم ومحبة لله كانت قراراته أقرب إلى الهدى، والعكس بالعكس، فـ هامان هذا كان وزيراً لفرعون يعينه على طغيانه وعلى جبروته، ولهذا قدح الله فيهما ونكل بهما سوياً.

الوزير الصالح رجاء بن حيوة

الوزير الصالح رجاء بن حيوة من الوزراء في التاريخ الإسلامي الذين عرفوا بالفضيلة رجاء بن حيوة، ورجاء هذا كان وزيراً لـ عبد الملك بن مروان، ثم للوليد، فكان مقرباً من عبد الملك ثم من الوليد، ثم جاءت خلافة سليمان بن عبد الملك، وسليمان لم يكتب له أن يعمر، فقد توفي بعد الأربعين بقليل جاء مكة، ثم ذهب إلى الطائف، ثم دخل يغتسل فلبس ثياباً حسنة فأعجبته نفسه وهو ينظر للمرآة فقال: كان أبو بكر صديقاً، وكان عمر فاروقاً، وكان عثمان حيياً، ولم يقل في علي شيء لما بين بني أمية وبين علي، وكان معاوية حليماً وكان عبد الملك سائساً وكان الوليد جباراً وأنا الملك الشاب، وبقدر الله التفت إلى جارية من جواريه وقال: ما ترين في؟ -فقد أعجبته نفسه لأنه أمير المؤمنين وهو في الأربعين- فقالت له قدراً: أنت نعم المتاع لولا أنك فانٍ -يعني: تموت- فاستشاط غضباً من كلامها، ومكث بعدها ثلاثة أو أربعة أيام ومات. الذي يعنينا أن وزيره كان رجاء بن حيوة، وكان سليمان له أخوان: يزيد وهشام بالترتيب، وله ابن عم اسمه عمر بن عبد العزيز، فكان رجاء يتمنى أن يلي الخلافة عمر لما يعرف فيه من فضل، ولا يريدها في يزيد ولا في هشام ولا يريدها من باب أولى في أبناء سليمان، فلما شعر سليمان بدنو أجله قال لـ رجاء: أكتب من بعدي كتاباً لابني فلان، قال: يا أمير المؤمنين ابنك هذا في الجهاد ولا ندري يعود أو لا يعود، وأخذ يلاطفه، قال: إذاً أكتب لابني أيوب، قال: هذا صغير لا يتولى الملك، قال: إذاً لمن يا رجاء؟ قال: اكتب لـ عمر بن عبد العزيز، قال: لن يرضى أبناء عبد الملك يعني: يزيد وهشام، قال: يا أمير المؤمنين اجعلهما بعده، يعني: اكتب في الكتاب أن الخلافة لـ عمر بن عبد العزيز ومن بعده لـ يزيد وهشام فسيرضيان، فوافق سليمان بقدر الله وكتب الكتاب، وآلت الخلافة لـ عمر بن عبد العزيز، فكل ما صنعه عمر بن عبد العزيز سيجعل في ميزان رجاء بن حيوة الذي أشار على سليمان أن يوليه الخلافة. هذا استطراد يبين أهمية أن يكون مستشار الإنسان عاقلاً، لكن المستشار لا يشير على من يستشيره بأمور لا يمكن أن تتحقق، فالإنسان إذا أراد لقوله أن ينفذ ولمشورته أن تقع لابد أن تكون واقعية، فهذا رجاء ما قال لـ سليمان: اجعلها في فلان من الصالحين، كخطيب جمعة أو إمام أو عالم؛ لأن الأمويين لن يرضوا بهذا، لكن جعلها فيهم من أبناء عمهم.

هامان وزير السوء

هامان وزير السوء المقصود مما سبق أن هامان كان وزير سوء لفرعون فأهلكهما الله جل وعلا سوياً، وقد ناداه فرعون متهكماً {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا} [غافر:36] أي: بناء عالياً، {لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر:36 - 37] قال الله: {وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ} [غافر:37]، وكم من طاغية جبار أو جاهل ضال يمشي في طريق يحسب أنه على هدى والله جل وعلا يزين له سوء عمله وهو من الضلالة بمكان بعيد، كصنيع أكثر الفجرة والكفرة في الشرق والغرب اليوم.

أئمة يدعون إلى النار

أئمة يدعون إلى النار فرعون جعله الله جل وعلا هو وهامان أئمة في الشر، قال الله وعياذاً بالله: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} [القصص:41]، وقال: {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} [القصص:42]، وفي هذا دليل على أن كلمة إمام لوحدها ليست مدحاً وليست ذماً، إنما تكون بحسب القرائن؛ لأن الله قال عن فرعون وآله: إنهم أئمة يدعون إلى النار، وهناك أئمة يدعون إلى الخير، ومنه قول الله جل وعلا: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74]، فقرينة المتقين تدل على أنهم أئمة في الخير. موضع الشاهد: أنه كما يوجد أئمة يدعون عياذاً بالله إلى الفجور كما هو في عصرنا يوجد أئمة يدعون إلى الخير، وكما جعل الله بعض الناس مفاتيح لكل خير جعل الله جل وعلا بعض الناس مفاتيح لكل شر أعاذنا الله وإياكم من ذلك، هذا الذي يعنينا في قضية فرعون وهامان على وجه الإجمال.

ترجمة قارون

ترجمة قارون قارون اسم بالعبرانية محول للعربية واسمه قورح، قال الله: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى} [القصص:76] أي: من بني إسرائيل، وأكثر المفسرين على أنه ابن عم لموسى. وقد يقال: لماذا ساق الله خبر قارون في كتابه على نبيه صلى الله عليه وسلم؟ و A هو أن الأحداث هي الأحداث ولكن الأزمنة تختلف، فالنبي عليه الصلاة والسلام واجهه أعمامه وبعض قرابته من قريش، وكانوا يعاندونه في الدعوة، مثل أبي لهب وأبي سفيان بن الحارث وغيرهم من صناديد قريش من ذوي الأموال والجاه، فالله جل وعلا يعزي نبيه ويقول له: كما ووجهت أنت بـ أبي لهب وغيره فإن أخاك موسى ووجه بـ قارون فصبر، وهذا فيه تعزية له.

سبب بغي قارون

سبب بغي قارون قال الله تعالى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} [القصص:76]، والعصبة: الفئام من الرجال من العشرة إلى الخمسة عشر، ولم يكن آنذاك أوراق مالية ورقية، وإنما كانت تحمل بدرات من الذهب والفضة، فكان له كنوز يحملها عشرون أو ثلاثون بغلاً، وينوء بحمل مفاتيحها العصبة من الرجال، {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ} [القصص:76 - 77]. والمعنى: ما رزقك الله إياه من فضل اجعله سبباً لأن تنال به رضوان الله، فكل شيء أعطاك الله إياه من فضل فسخره في مرضات الله، ألا ترى الفتى أحياناً يرزق حسن صوت فهذا يسخره في المحاريب ويصلي بالناس إماماً ويؤثر في خلق الله، وهذا يسخره في الغناء والمجون فيضل الله جل وعلا به أقواماً، والاثنان قد اجتمعا في فضل واحد أعطاهما الله إياه وهو حسن الصوت، إلا أن الأول ابتغى به الله والدار الآخرة، والثاني لم يراع في الله جل وعلا حقاً في تلك النعمة، فقال الله جل وعلا هنا: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77]. بعض العلماء يقول ((وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّّّّّّّّّّّّنْيَا)) أي: لا تنس قيمة الكفن وهو الذي يستحق أن تبقيه، أما غير ذلك لا يهم، وفي هذا القول بعض المبالغة، لكنه يقال للعظة والذكرى، لكن لا تنس نصيبك من الدنيا: أي: لا تصل إلى مرحلة تحتاج فيها الناس.

جواب قارون على من نصحه من قومه

جواب قارون على من نصحه من قومه قال تعالى: {وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:77]، الذي قال هذا الكلام علماء ووعاظ من بني إسرائيل يعظون قارون وهو مع موسى في أرض التيه، فاستكبر ورد كل المواعظ، قال الله جل وعلا أنه أجابهم بقوله: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78]، وقد قالوا إنه كان عليماً بالتوراة. فكلمة: على علم تحتمل معنيين: إما على علم بالطرائق التي تكتسب بها الأموال، وهذا قوي. والقول الآخر: أي على علم بالشرع، أي: أنا أفهم منكم فيما تنصحوني به. كمن تأتيه لتنصحه لشيء حرام ارتكبه فيقول: أعرف أنه حرام، فهذا الجواب هو جواب قارون من قبل حيث قال: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78] والمسألة تحتمل جوابين. قال الله جل وعلا: {أَوَلَمْ يَعْلَمْ} [القصص:78]، وهذا يؤيد القول الثاني: {أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا} [القصص:78]، قال الله بعدها: {وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص:78] وقد جاء في آيات أخر أنهم يسألون. وقلنا إن الجمع بينهما أن يقال: إنهم يسألون سؤال توبيخ وتقريع لا سؤال استفهام واستخبار؛ لأن الله جل وعلا مطلع عالم بما صنعوا لا تخفى عليه من عباده خافيه. بعد ذلك أعجبته نفسه لما رأى أنه قد انتصر على هؤلاء الذين وعظوه، والإنسان أحياناً إذا تخلص ممن يعظه يزداد رتبة في الشر فيجنح إلى عمل أعظم، فلما رأى أنه أقنع الذين وعظوه أراد أن يقنع نفسه أنه على الحق فأمر خدمه وحشمه أن يخرجوا معه، قال الله: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ} [القصص:79].

أقسام الناس تجاه زينة قارون

أقسام الناس تجاه زينة قارون كان ذلك وهم، هم في أرض التيه ضائعين، لكنه أراد أن يبين قدرته، قال الله عنه: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} [القصص:79] يعني: في أبهته وكمال ما آتاه الله، فرآه الناس فانقسم الناس فيه إلى فريقين: أهل علم يعرفون الله والدار الآخرة. والفريق الثاني -وهو شأن أكثر الناس-: تعلقوا بالدنيا لما رأوا نموذجاً لها، قال الله جل وعلا: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص:79] أي: إنه محظوظ وذو نصيب عظيم ناله بما رأوا فيه، وهذا يحدث لنا جميعاً، فعندما يرى الإنسان من هو أكثر منه مالاً أو ولداً أو جاهاً أو منصباً أو يركب سيارة أفضل من سيارته أو غير ذلك فيقع في نفسه أن يكون مثل ذلك. والذي يردع هذه النفس أن تتذكر أن النعم والفضل بيد الله، وأن الله لم يجعل الدنيا نعيماً لأحد، ولا يعني أن من لم ينعم الله عليه أن الله غاضب عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله يعطي الدنيا لمن يحب ومن لا يحب ولا يعطي الدين إلا لمن يحب). قال الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [القصص:80]، كلمة: العلم نور قد تكون كلمة مبتذله وكل الناس تقولها، لكن لا يمكن الزيادة عليها، فهؤلاء القوم العلم الذي في صدورهم جعل عليهم نوراً فقالوا كما قال الله: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [القصص:80] أي: هذا الذي تبتغونه خير منه ثواب الله، وثواب الله لا يدرك إلا بالإيمان والعمل الصالح، {وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص:80] أي: هذه المراتب العالية والمنازل الرفيعة والدرجات التي أعدها الله لخيار عباده من أعظم الطرق للوصول إليها: الصبر. والصبر ينقسم إلى قسمين: صبر لله وصبر لغير الله. أما الثاني: فإن الإنسان إذا صبر لغير الله لابد أن ييئس؛ لأنه لا يوجد أحد قادر على أن يعطيك حتى يرضيك، ولذلك يدب إليك اليأس، فإذا دب إليك اليأس فررت من الشيء الذي أنت صابر من أجله. الحطيئة شاعر جاور أقواماً يريد نوالهم وعطاءهم، فلما تأخروا عليه جاءه أبناء عمومة للأولين وطلبوه أن يرتحل إليهم؛ لأنه شاعر يريدون أن يشتروا لسانه، وكان كل مرة يتريث ويقول: لما بعد، فلما لم يجد خيراً عند هؤلاء ارتحل، وعندما ارتحل أصبح الأولون يلومون الآخرين على أنهم أخذوه، وصار بينهم شجار فقال الحطيئة قصيدة طويلة منها: لما بدا لي منكم غيب أنفسكم ولم أر لجراحي منكم آسي آسي يعني: طبيب. أزمعت يأسا مبيناً من نوالكم ولن ترى طارداً للحر كاليأس الحر لا يطرده شيء مثل اليأس، فاليأس يجعلك ترتحل من أي أحد تقف بين يديه طلب علم أو طلب مال أو طلب أي شيء، فمن صبر لغير الله لابد أن يدب إليه اليأس؛ لأنهم مخلوقون لابد أن يظهر عليهم الضعف. الصبر الثاني: صبر لله، فمن صبر لله فلن يدب إليه يأس؛ لأن الذي عند الله أمر مضمون، وأعظم مما في أيدي الخلق، بل لا مقارنه بينهما أصلاً، ولهذا قال الله لنبيه في أول الدعوة {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر:7]، فإن صبرت من أجلنا ستعان على الدعوة وإذا أعنت عليها لن يدب إليك اليأس، ولهذا قال المكلوم يعقوب عليه السلام: {يَا بَنِيَ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87]. من ازداد علماً بالله لا يمكن أن يدب إليه اليأس مثقال ذرة، فإذا ضعف العلم بالله تبارك وتعالى يمكن أن يصل بعض اليأس إلى القلوب، جعلنا الله وإياكم ممن لا ييأس من رحمته ولا يقنط من روحه.

عاقبة قارون وأثرها على قوم موسى

عاقبة قارون وأثرها على قوم موسى قال الملأ من أهل العلم: {وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص:80]، الآن كلا الفرقين قال قولته فبقي الفريقان ينتظران حكم أحكم الحاكمين، قال الله جل وعلا: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [القصص:81] أي: خسفنا به، واليوم لا يوجد زلزال أمتار مربعه، وإنما تعم المدن والقرى والهجر والمحافظات، لكن هذه معجزة لموسى وتكرمة لأهل العلم ونكالاً بـ قارون، فجعل الله الزلزال على قدر بيت قارون قال الله: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ} [القصص:81]، أما الدور المجاورة فلم يصلها شيء، وهذا لا يقدر عليه إلا الله. قال الله: {فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ} [القصص:81]، فإن لم ينصره الله لن ينصره أحد ولو حاول أحد نصرته لباء بالفشل. الآن كشف الغطاء وظهر الجواب الإلهي والفصل الرباني فتغيرت الخطاب صار أهل الدنيا كأهل العلم. إن أهل العلم عرفوا القضية من بدايتها، أما أهل الدنيا فاحتاجوا إلى قرينة حتى يعرفوا فتأخر علمهم قال الله جل وعلا: {فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ} [القصص:81 - 82]، ليس أمس المباشر وإنما قبل بزمن، فقد كانت هناك فتره زمنيه حتى خسف به، فلهذا قال الله تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ} [القصص:81 - 82].

فوائد حول قول الله (ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء)

فوائد حول قول الله (ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء) قوله تعالى: {وَيْكَأَنَّ} [القصص:82] الأظهر أنها معنى للتعجب. وقد اختلف النحويون في أصلها، فقال بعضهم: إن أصلها مكون من ثلاثة من: وي، وكاف الخطاب، و (أن) المصدرية أخت (إن). وقال بعضهم: إنها مكونه من أربع من: وي، وكاف الخطاب، والفعل أعلم، وأن المصدرية أخت إن المكسورة الهمزة، ممن قال بالثاني ثعلب والكسائي وأضرابهما من أئمة أهل الكوفة، وممن قال بالأول: الأخفش وقطرب. ثمر على طالب العلم ثلاثة: الأخفش الكبير والأخفش الأوسط والأخفش الصغير. الأخفش الكبير أستاذ سيبويه، وإذا أطلق الأخفش يراد به تلميذ سيبويه. وقد مر معنا أن سيبويه تناظر مع الكسائي وخرج مغضباً من بغداد إلى الأهواز في إيران الآن ومر على تلميذه الأخفش واسمه سعيد بن مسعده وأخبره بالقصة، والذي يظهر أن الأخفش تلميذ بار بـ سيبويه فغضب وحنق على أن شيخه غلب، فخرج إلى بغداد يريد أن ينتقم من الكسائي لكن: أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استعبد الإنسان إحسان صلى الفجر في المسجد الذي يصلي فيه الكسائي، والكسائي إمام في اللغة وفي القرآن وفي القراءات فلما فرغت الصلاة أتى وهو مشحون، وكان الكسائي معظّم أمام طلابه مثل الفراء وغيره، فأخذ الأخفش يغلظ له في الأسئلة ويرد عليه ويجادله حتى هم طلاب الكسائي أن يضربوه، لكن الكسائي كان عاقلاً، ففهم من هذا وقال: إن لم يخب ظني فأنت الأخفش: سعيد بن مسعده قال: نعم، فقام الكسائي من محرابه وأقبل عليه وعانقه وضمه وأخذ يرحب به: أهلاً بطالب العلم أهلاً بالشيخ أهلاً بأهل الفضل، وأخذ يلاطفه ويكرمه، وكان الكسائي ذا جاه، وهكذا حتى استحالت الوحشة إلى محبة وجعله معلماً لأولاده. وعند الخلاف بين البصريين والكوفيون يكون الأخفش في بعض المسائل مع الكوفيين؛ لأن الكسائي إمام أهل الكوفة فيميل معه من باب ما وجده من ملاطفة، فأكثر أهل البصرة -في آرائه- موافقاً لأهل الكوفة هو الأخفش للصنيع الذي صنعه معه الكسائي. وفي هذا تعليم لنا جميعاً كيف أن الإنسان يحول خصومه إلى أهل محبة. الثاني: قطرب، وقطرب أصلاً: دويبه تكد في النهار كثيراً، وتعرفها العرب. كان سيبويه رحمه الله يخرج في السحر قبل الأذان لصلاة الفجر، وكلما خرج يجد محمد بن المستنير عند الباب، وكان سيبويه في الثلاثين من عمره ومع هذا يطلب على يديه النحو، فكان محمد بن المستنير يخرج يسهر الليل كله ينتظر متى يخرج سيبويه يستفيد منه، ويسأله من البيت إلى المسجد، يفعل ذلك كل يوم، فقال سيبويه له: إنما أنت قطرب ليل يعني: القطرب في النهار، لكن أنت قطرب ليل، فلزق به الاسم، فأضاع الناس اسمه ولا يعرف بأنه أبو الحسن محمد بن المستنير، وسمي قطرب. المهم أنه أخذ علمه عن سيبويه، وقطرب والأخفش هما اللذان قالا: إن (وَيْكَأَنَّ) مركبة من ثلاثة، هذه فوائد حول قول الله جل وعلا: {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ} [القصص:82]. ((يَبْسُطُ)) يعني: يعطي، ((وَيَقْدِرُ)) يعني: يضيق، قال الله تبارك وتعالى: {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} [الفجر:15 - 16] يعني: ضيق، {فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} [الفجر:16] لكن هذا جنس الإنسان أما المؤمن فإنه يرضى. فائدة: إذا ضيق عليك في الرزق فقل: حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله إنا إلى الله راغبون. والدليل على ذلك أن الله قال في حق المنافقين: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ} [التوبة:59]، والرسول الآن قد مات فنقول: {حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة:59]. وهذا تعليم من الله لعباده وأوليائه، جعلنا الله منهم. قال الله: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83]، وهذه مرت معنا وفصلنا فيها كثيراً. هذا ما يتعلق بالأعلام الثلاثة فرعون وهامان وقارون.

عرفات

عرفات عرفات والمشعر الحرام ذكرهما الله جل وعلا في آية واحدة قال ربنا: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة:198]. وعلى وجه التفصيل: هما مكانان مباركان متجاوران لا يفصل بينهما شيء إلا أن الفرق بينهما: أن عرفات من الحل والمشعر الحرام من الحرم، ولهذا قال الله: ((الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ)) ولم يقل عرفات الحرام، ويترتب على هذا أن أهل مكة أو من كان في مكة ويريد العمرة يحرم من الحل من خارج مكة، فلو أحرم من عرفات صح، ولو أحرم من مزدلفة لم يصح، ولو أحرم من أي مكان في عرفات أو غيرها من الحل جاز، لكن إن أحرم من مزدلفة لا يصح؛ لأن مزدلفة من الحرم هذا الفرق الأول. الفرق الثاني: الوقوف بعرفة ركن بإجماع العلماء، أما المبيت في مزدلفة فمختلف فيه، والأشهر أنه واجب عند جماهير العلماء. عرفة كل ليلة تنسب لصبيحتها إلا عشية عرفة تنسب ليومها فليلة العيد لا تسمى ليلة عيد، بل تسمى عشية عرفة؛ لأن الوقوف بعرفة يبدأ من زوال الشمس إلى طلوع فجر يوم العيد، فلو أن فجر يوم العيد الأضحى في عامنا هذا مثلاً يؤذن الساعة الخامسة وثلاثين دقيقة فمر إنسان على عرفة محرماً يريد الحج الساعة الخامسة وتسع وعشرين دقيقة فقد أدرك الحج؛ (لأن عروة بن مضرس من حائل قدم على بغلته وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم في مزدلفة قال: يا نبي الله أتيتك من جبلي طي -وجبلي طي هما أجا وسلمى في حائل- أجهدت نفسي وأكللت راحلتي، ما تركت جبلاً إلا وقفت عليه، فقال صلى الله عليه وسلم: من صلى معنا صلاتنا هذه -يعني: صلاة الفجر في مزدلفة- وكان قد وقف بعرفة ساعة من ليل أو نهار فقد تم حجه وقضى نسكه) فحكم النبي صلى الله عليه وسلم بصحة الحج لكل من مر على عرفة ولو ساعة من نهار، وهذا لا خلاف فيه. قال مالك رحمه الله: إن الإنسان إذا نفر من عرفة قبل الغروب -بمعنى أنه وقف بعد الزوال لكنه ذهب إلى مزدلفة قبل الغروب- فلا حج له، لكن قال ابن عبد البر رحمه الله -وهو مالكي مشهور-: لم يوافق أحد من العلماء مالكاً في هذا فلا يعتد بهذا القول وإن قاله مالك والجمهور: على أن حجه صحيح لكن اختلفوا هل عليه دم أم لا؟ هذا ما سيأتي إن شاء الله في شرحنا لحديث جابر. هذا ما يتعلق بأحكام يوم عرفة. عرفات جاءت في القرآن بصيغة الجمع قال تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} [البقرة:198]، والتنوين في عرفات يسميه النحويون تنوين المقابلة، أي: مقابلة النون في جمع المذكر السالم، وجاءت في الحديث مفردة قال صلى الله عليه وسلم: (الحج عرفة)، وقال: (وقفت ههنا وعرفة كلها موقف).

سبب تسمية عرفة بهذا الاسم

سبب تسمية عرفة بهذا الاسم بعض العلماء يقولون: من العرف، وهو الطيب، قال الله جل وعلا عن أهل جنته: {عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد:6] ففي أحد أوجه التفسير يعني: طيبها لهم، وقالوا: سميت بعرفة؛ لأن آدم عليه السلام أهبط بالهند وحواء أمنا عليه السلام أهبطت في جده فالتقيا في عرفات فتعارفا فسميت عرفة. وقلنا: الرأي الأول، وبعض العلماء يقول: لا يوجد دليل صريح صحيح على سبب تسميتها بعرفة. قال بعض العلماء كـ ابن الجوزي في تحريك الغرام الساكن إلى أشرف الأماكن، قال: إن القبضة التي قبضها الله جل وعلا من الأرض؛ ليخلق منها أبانا آدم كانت مخلوطة من عرفات، فقال: لهذا كل إنسان على الفطرة يجد في قلبه حنيناً إلى عرفات؛ لأن النفس تنزع إلى ما خلقت منه، والجسد يحن إلى الشيء الذي خلق منه، وهذا لا يوجد عليه دليل، لكن نقول: العقل يقبله ولا يوجد في الشرع ما يمنعه، لكن لا نستطيع أن نجزم به.

أسماء مزدلفة

أسماء مزدلفة مزدلفة لها ثلاثة أسماء: مزدلفة وهو الأشهر. وجمع لقوله صلى الله عليه وسلم: (ووقفت ههنا وجمع كلها موقف). وتسمى المشعر الحرام وهو تسمية القرآن، قال الله جل وعلا: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة:198]. والمشعر الحرام على وجه الخصوص جبل كان يسمى قزح، وهو الذي بني عليه المسجد الموجود الآن في مزدلفة والمكتوب عليه المشعر الحرام، وهذا هو عين المكان الذي وقف فيه النبي صلى الله عليه وسلم والنبي صلى صلاة الفجر في مزدلفة في أول وقتها حتى يتفرغ للقيام، ثم وقف مستقبلاً القبلة يدعو تحقيقاً للآية: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة:198]، وهي سنة عظيمة تركها الكثير من الناس اليوم مع الازدحام، ومن كان معه نساء وذوات مرض وأشباه ذلك فلا بأس، لكن من حج مع شباب أو مع غير ذلك، فالأفضل بل يحسن أن يفرغ نفسه للوقوف في أي مكان من مزدلفة يستقبل القبلة ويذكر قول الله جل وعلا: ((فَاذْكُرُوا اللهَ عِند َالمْشْعَرِ الْحَرَامِ)) ويحرص على ذكر الله حتى يسفر الصبح جداً أي: قبل طلوع الشمس، ثم ينفر إلى منى. هذان كما بينا عرفات والمشعر الحرام.

عرفات في الشعر العربي

عرفات في الشعر العربي وردت عرفات في الشعر العربي، وممن وردت في شعره عرفات قصيده لـ دعبل الخزاعي، ودعبل هذا كان شيعياً يتشيع لآل البيت، وله تائية مشهورة جداً قالها في مدح آل البيت، وهي التي بدأها: ذكرت محل الربع من عرفات والتي فيها: ديار علي والحسين وجعفر وحمزة والسجاد ذي الثفنات بنات زياد في القصور مصونة وآل رسول الله في الفلوات أرى فيئهم في غيرهم متقسماً وأيديهم من فيئهم صفرات قصيدة طويلة أعطاه أحد آل البيت حلة لباس -يعني عباءة يلبسها- فلما دخل بغداد اقتتل الناس على الحلة التي يلبسها ثم مزقت ولم يبق له منها أي شيء افتتاناً بتلك العباءة؛ فالقوم منذ قديم الزمان العقل فيهم خفيف، والتقرب إلى الله يكون بما شرع الله وشرع رسوله صلى الله عليه وسلم. وآل البيت ظلموا وهذا لا ينكره عاقل. وقد كنت يوماً في الرياض وجلست مع الشيخ: محمد بن حسن آل الشيخ -وفقه الله- عضو هيئة كبار العلماء وجده الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، فقال الشيخ في المجلس مقالة لطيفة في قضية علي ومعاوية: الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمة الله تعالى عليه الذي يقول بأنه وهابي كان له بنت اسمها فاطمة وله أبناء أسماؤهم علي والحسن والحسين يرد على من يتهموه؛ لأن الرجل غفر الله له ورحمه إنما كان إماماً مجدداً على هدي قويم وعلى سنة مستقيمة، ابنته فاطمة هذه كانت طالبة علم مثل أبيها فجلست تحدث النساء وسألوها عن علي ومعاوية فأجابت جواباً علمياً، والحضور من بادية عاميات حيث لا يوجد في تلك الأيام مدارس، إحدى النساء ذهبت إلى بيتها وسألها أبوها: ماذا قالت بنت الشيخ عن علي ومعاوية؟ قالت: والله إن الحق مع علي ويشرهون على معاوية. وكلمة: يشرهون على معاوية معناها: يعاتبون، والمعاتبة تكون للحبيب، والشخص الذي تحبه تشره عليه أي: تعاتبه، أما الذي لا تتوقع منه خيراً ولا تحبه فلا تشره عليه ولا تعاتبه، فـ فاطمة رحمة الله عليها شرحتها شرحاً علمياً، وفهم الناس أن معاوية وعلي كلاهما حبيب، وأن علياً الحق معه، وأن معاوية ارتكب بعض الأخطاء، لكنه صحابي جليل. هذا الذي قالته الابنة الفاضلة، وهذه المرأة العامية فهمتها فهماً صحيحاً، لكن لما ترجمتها ترجمتها بلغتها هي، ففهموا منها الناس أنه ليس هناك بغضاً لـ معاوية رضي الله عنه وأرضاه، وإنما بياناً للحق بطريقة معينة. المقصود أن عرفات ذكرها الشعراء في شعرهم وذكرها شوقي في قصيدة طويلة قال: إلى عرفات الله يا خير زائر المهم أنها مكان عظيم، ومجمع عرفات من أعظم مجامع الدنيا، وهو مظنة الإجابة، فمن قدر له أن يحج إلى البيت فلا يتردد. المقصود أن الحج عبادة عظيمة وعرفات ركن الحج الأعظم، والموقف فيها من أعظم مواقف الدنيا، والنبي صلى الله عليه وسلم حث أمته على كثرة الدعاء فيها، ولهذا كان صلى الله عليه وسلم غير صائم في يوم عرفة حتى يتمكن من عبادة الله، ووقف صلى الله عليه وسلم يدعو ويرفع يديه حتى غاب قرص الشمس تماماً، ثم أردف أسامه بن زيد وتوجه إلى مزدلفة وفي كل من عرفات ومزدلفة تجمع الصلاة، إلا أن الصلاة في عرفات تجمع جمع تقديم؛ ليتفرغ الناس للدعاء وتجمع في مزدلفة جمع تأخير؛ ليتفرغ الناس في النفرة، يعني: في الطريق، ثم بعد ذلك يستريح الناس وينامون حتى يستعدوا ليوم النحر، والذي سماه الله جل وعلا يوم الحج الأكبر.

الصفا والمروة

الصفا والمروة منى لم يذكرها الله جل وعلا باسمها الصريح في القرآن، وإنما ذكر الصفا والمروة، وهما جبلان يبعد بينهما مسافة معروفة، وقفت عليهما من قبل أمنا هاجر قال الله جل وعلا: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة:158]، وسيأتي الحديث عنهما تفصيلاً في لقاء آخر. هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ إعداده، وأعان الله على قوله. {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:180 - 182].

[لقمان، ذي القرنين، المسجد الأقصى]

سلسلة أعلام القرآن [لقمان، ذي القرنين، المسجد الأقصى] اشتمل القرآن على علوم متنوعة، وقد ورد فيه أعلام كثيرة يستفاد من النظر فيما ذكر الله عنهم، ومنهم لقمان الحكيم وذو القرنين القائد العليم والمسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين.

من أعلام القرآن لقمان الحكيم عليه السلام

من أعلام القرآن لقمان الحكيم عليه السلام

نبذة تعريفية بلقمان الحكيم

نبذة تعريفية بلقمان الحكيم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فمن أعلام القرآن لقمان عليه السلام. ذهب عكرمة من السلف فيما يروى عنه إلى أن لقمان كان نبياً. والذي عليه أكثر العلماء أنه عبد صالح أحب الله فأحبه الله، وأعطاه الله جل وعلا الحكمة، والمشهور أنه عاش في زمن داود عليه السلام. قال الله جل وعلا: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} [لقمان:12] وهذا قسم من الرب تبارك وتعالى أنه أعطى هذا العبد الصالح الحكمة، وهي الصواب في الأقوال والأعمال، ومعرفة حقائق الأمور هذا مجمل ما يمكن أن يقال عن الحكمة. والحكمة لها تعريفات عدة، وإنما تعرف بحسب قرائنها، فقول الله جل وعلا: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34] تفسّر الحكمة هنا بأنها السنة والوحي الذي ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم، لكن هذا التفسير غير مطرد في كل معنى للحكمة، وإنما بحسب القرائن فـ لقمان أعطاه الله جل وعلا الحكمة بنص القرآن، وجاء القرآن العظيم بسورة مكية كريمة سميت باسم هذا العبد الصالح؛ لأن الله جل وعلا ذكر قصته فيها، وقلنا إن أكثر العلماء على أنه غير نبي، وقال عكرمة والشعبي من السلف فيما ينقل عنهما: إنه نبي. والتحرير العلمي للمسألة أن يقال: إن لقمان إحدى الشخصيات التي ذكرها القرآن واختلف الناس في نبوتها؛ وهذه الشخصيات هي: ذو القرنين، ولقمان، وحواء، ومريم، وتبع. فهذه أعلام ذكرها الله جل وعلا في كتابه بالخير؛ إلا أن العلماء اختلفوا في نبوتهم، وأكثر أهل العلم على التوقف، وقيل إن الراجح أنهم غير أنبياء. قال السيوطي رحمه الله في منظومة له: واختلفت في خضرٍ أهل النقول قيل نبي أو ولي أو رسول لقمان ذي القرنين حوى مريم والوقف في الجميع رأي المُعظم معنى الكلام أن هذه الشخصيات اختلف الناس فيها هل هي أنبياء أو رسل أو أولياء؟ ثم قال السيوطي رحمه الله في عجز البيت الثاني: والوقف في الجميع رأي المُعظمِ. أي الوقف والتوقف في الحكم هو رأي معظم العلماء، لكن هذا القول لا يسلّم للسيوطي؛ لأن التوقف حاصل في ذي القرنين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا أدري أكان ذو القرنين نبياً أم لا!) ولا ينبغي التوقف في مريم أو حواء؛ لأن الله لم يبعث نبياً امرأة قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [يوسف:109].

وصايا لقمان لابنه تتضمن أصول الشريعة

وصايا لقمان لابنه تتضمن أصول الشريعة ذكر الله جل وعلا في سورة لقمان وصاياه لابنه، وليس المقام مقام تفسيرها، لكن جملة نقول: إن لقمان جمع في وصاياه أصول الشريعة الأربعة: الاعتقادات، وهذا في قوله: {لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ} [لقمان:13]. والأعمال في قوله: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ} [لقمان:17]. وأدب المعاملة في قوله: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} [لقمان:18]. لقمان:19 والأدب مع النفس في قوله: {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} [لقمان:19] وقوله: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} [لقمان:19]، وقوله: {إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان:19]. وحُفِظ عن لقمان أقوال في غير القرآن، فـ لقمان شخصية حكيمة شهيرة؛ ولهذا خاطب الله القرشيين به لأنهم يعلمون به ويسمعون عنه، فهو شخصية حكيمة شهيرة معروفة لدى الأمم؛ ولهذا نزل القرآن بخبره وقصته، ومما حُفِظ عنه أنه قال: ثمان حفظتها عن الأنبياء: إذا كنت في الصلاة فاحفظ قلبك، وإن كنت في الطعام فاحفظ بطنك، وإذا كنت في بيت غيرك فاحفظ عينيك، وإذا كنت في الناس فاحفظ لسانك، واذكر اثنتين وانس اثنتين: اذكر الله، واذكر الموت -أي: لا تغفل عن ذكر الله ولا عن ذكر الموت- وانس إحسانك إلى الغير، وإساءة الغير إليك. ونسيان الإساءة من الغير ونسيان الإحسان إليهم يندرج في باب المروءة والمروءة باب طويل جداً، وقل ما يؤلف أحد فيه، وقديماً ذكرت المروءة في بعض الكتب كعيون الأخبار لـ ابن قتيبة، وأشار إليها ابن عبد ربه في العقد الفريد، وقل ما أفردها أحد بكتاب، لكن أفردها في هذا العصر الشيخ مشهور بن حسن سلمان أحد تلامذة العلامة الألباني، وهو من كبار المؤلفين في العصر الحاضر، وهو رجل ذو علم كثير، له كتاب اسمه المروءة مطبوع مشهور فاقتناؤه لطلبة العلم ينفع كثيراً، وللشيخ كذلك مؤلفات أخر، لكن هذا الذي يعنينا في مقامنا هذا. هذا ما أوصى به لقمان في وصاياه التي نقلت في غير القرآن، كما أن من وصاياه التي نقلت في غير القرآن أنه أوصى ابنه فقال: أي بني! إياك والتقنع -وهو ما يسميه العامة اليوم التلثم- فإنه مخوفة بالليل مذلة بالنهار، وفي بعض الروايات: ريبة في النهار. وقد روي أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه رأى رجلاً متلثماً مقنعاً فقال له: أما علمت أن لقمان يقول: إن التقنع ريبة بالنهار مخوفة بالليل، فقال الرجل: يا أمير المؤمنين إن لقمان لم يكن عليه دين، وذلك أن ما جعله يتقنع ويتلثم خوفه من مطالبة الدائنين له، وهذا أمر ظاهر في الحياة الاجتماعية بين الناس.

لقمان من الشاكرين لله تعالى

لقمان من الشاكرين لله تعالى مما يمكن أن يقال عن لقمان أن الله جل وعلا قال عنه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} [لقمان:12] فشكر الله تبارك وتعالى من أعظم استزادة النعم، بل إن شكر الله جل وعلا دلالة على حصول الإنسان على الحكمة؛ لأنه لا يمكن أن يوصف أحد غير شاكر بأنه حكيم، لأن رأس الحكمة مخافة الله. ومخافة الله مبناها على شكره تبارك وتعالى، وشكر الله جل وعلا قائم على قواعد منها: الخضوع له، والاعتراف له بالنعمة، ومحبته جل وعلا، والثناء عليه بها، وعدم استعمالها فيما يكره ويبغض تبارك وتعالى.

لقمان يوصي ابنه ألا يشرك بالله

لقمان يوصي ابنه ألا يشرك بالله مما ذكره الله جل وعلا عن لقمان أنه قال لابنه: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]. والظلم وضع الشيء في غير موضعه، وعبادة غير الله من أعظم الظلم؛ لأنه وضع للشيء في غير موضعه، وهذه الآية يدخلها العلماء فيما يسمى بتفسير القرآن بالقرآن؛ لأن الله قال: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82]. والصحابة لما نزلت الآية فزعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قائلين: وأينا لم يخلط إيمانه بظلم؟ قال: (ليس الذي إليه تذهبون -أي: ظلم الناس- أما سمعتم قول العبد الصالح: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]). فسّر النبي صلى الله عليه وسلم الظلم الذي في سورة الأنعام بالظلم الذي في سورة لقمان، وهذا من تفسير القرآن بالقرآن، وهو أرقى درجات التفسير؛ والشيخ الشنقيطي رحمه الله سمى كتابه (أضاء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن)، ولهذا لم يفسِّر القرآن كاملاً؛ لأنه ليس كل آيات القرآن مفسرة بالقرآن، وهو قد التزم أن يفسر الآيات بالآيات من القرآن نفسه.

بر الوالدين والفرق بين البر والمصاحبة بالمعروف

بر الوالدين والفرق بين البر والمصاحبة بالمعروف ثم قال الله جل وعلا: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان:14]. ولا حاجة هنا للحديث عن بر الوالدين فهذا معروف، لكن قول لقمان: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15] هو موضع الشاهد. فهناك أربعة أمور: بِر ومودة في آن واحد، وهناك مصاحبة، وهناك مداهنة. المودة لا تجوز إلا مع المؤمن، وأرقى منها البر لمن له حق، لكن المودة مخلوطة بمحبة، ولا تجوز إلا مع مؤمن أو مؤمنة؛ فإذا كان الطرف الثاني كافراً لكن له حق كالأب أو الأم أو الأخت أو الخالة أو الجار فهذا التعامل معه يسمى مصاحبة؛ لأن الله قال: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15]. وقوله: {عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [لقمان:15] هذا قيد أغلبي لا مفهوم له؛ لأنه لا يوجد شرك فيه علم، ومثله في القرآن قول الله جل وعلا في آخر سورة المؤمنون: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} [المؤمنون:117] فلا يوجد إله غير الله معه برهان، وإنما هذا قيد أغلبي لا مفهوم له. المقصود من الآية أنه إذا كان الكافر له حق كالجار أو كالوالد أو كالوالدة، كمن أمه نصرانية أو يهودية، فهو يصاحبها في الدنيا بالمعروف، كحديث العهد بالإسلام أو من أسلم من عائلة كافرة فتعامله مع أبويه يسمى مصاحبة، ويتأكد هذا في حق الوالدين، ثم يقل تدريجياً فيمن له حق بعدهما، ولا يسمى بِرًّا ولا مودة؛ لأن البر والمودة يشترط فيهما المحبة، وإن كان البر جاء في تعبير القرآن فيما لا يشترط فيه المحبة، لكن إذا أطلق يراد به ما يشترط فيه المحبة. أما المداهنة: فهي التنازل عن أصل شرعي كالتنازل عن أمر عقدي، وهذا لا يجوز بأي حال من الأحوال، وهو الذي قال الله فيه: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم:9] وهو الممنوع شرعاً. قال الله جل وعلا في هذه الآيات: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان:14] هذا للرضيع، لما ذكر الله جل وعلا قضية الولادة ذكر أن فصال المولود في عامين، وقد فهم العلماء منها أن مدة الرضاعة أربعة وعشرون شهراً، وقد قال الله في آية أخرى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف:15] فجمعوا بين الآيتين فاتضح أن أقل مدة الحمل ستة أشهر؛ لأن أعلى الرضاعة سنتان: أربعة وعشرون شهراً.

وصية لقمان بالصلاة وبأدب المعاملة وعدم رفع الصوت

وصية لقمان بالصلاة وبأدب المعاملة وعدم رفع الصوت ثم ذكر الصلاة فقال: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [لقمان:17]. ثم بين الأشياء التي تتعلق بأدب المعاملة، فقال: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان:18]. ثم ذكر أموراً تخصه فقال: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان:19]. وهذه نقف عندها، وذلك أنه ينتشر في المجلات الإسلامية سؤال يُسأل به الطلاب في المراكز الصيفية وفي غيرها: ما الشيء الذي خلقه الله ثم أنكره؟ ثم يجعلون A صوت الحمار، وهذا غير صحيح؛ لأن معنى أن الله خلقه ثم أنكره أن الله يقول إنه لم يخلقه، وهذا محال لأن كل شيء مخلوق، والصواب أن يقال: ما الشيء الذي خلقه الله ووصفه بأنه منكر؟ وكلمة (إن أنكر الأصوات) ليست من المنكر الذي هو ضد المعروف، وإنما هو ضد الشيء المألوف، يعني: أنه مستوحش، مثال ذلك أن موسى عليه السلام قال للخضر: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا} [الكهف:74] أي غير مقبول، وقال الله جل وعلا على لسان ذي القرنين: {فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا} [الكهف:87] أي: تستوحش منه النفوس، لا أنه ضد المعروف، فالذي ضد المعروف هو الأمر الحرام غير الجائز، أما النكر فهو غير المألوف الذي تستوحشه النفوس ولا تألفه الطباع، هذا هو المراد من هذه الآية الكريمة. هذا ما يتعلق بهذا العبد الصالح، ومن هنا تفهم أن أفضال الله جل وعلا ليست مقصورة على أحد، فليست وقفاً على أنبيائه ورسله، إنما هي فضل عام يعطيه الله جل وعلا من شاء متى شاء في كل عصر أو مصر. أما النبوة فقد انتهت، قال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40] وتبقى أفضال الله جل وعلا على العباد بعطاياه تبارك وتعالى العلمية والمالية وغير ذلك، وأفضال الله لا تعد ولا تحصى؛ لكن لا يوجد وحي يخبرنا ببعض من تفضل الله جل وعلا عليهم.

المسجد الأقصى من أعلام القرآن

المسجد الأقصى من أعلام القرآن

نبذة في التعريف بالمسجد الأقصى

نبذة في التعريف بالمسجد الأقصى المدينة فيها أودية كثيرة، ومع ذلك لما أتى النبي صلى الله عليه وسلم العقيق قال: (أتاني آت من ربي فأمرني أن أصلي ركعتين في هذا الوادي المبارك). فالنبي صلى الله عليه وسلم سماه وادياً مباركاً، فوادي العقيق واد مبارك بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه، والمعنى أن الله جل وعلا يقدِّم من يشاء بفضله ويؤخر من يشاء بعدله، ولا يسأله مخلوق عن علة فعله، ولا يعترض عليه ذو عقل بعقله. فالمساجد التي من الله على الناس باصطفائها ثلاثة. والمساجد تنسب لله جل وعلا تشريفاً، وتنسب لغير الله تعريفاً. فقد يسمى المسجد بمسجد السلام ليُعرَّف، ويفرَّق بالاسم يبنه وبين غيره من المساجد. لكن كل المساجد يقال لها: بيوت الله، فتضاف إلى الله جل وعلا تشريفاً، وتضاف إلى غيره تعريفاً، فقول الله في كتابه (المسجد الأقصى) هذا تعريف بالوصف؛ لأن كلمة (الأقصى) وصف لكلمة المسجد، وكلاهما معرف بأل. فالمسجد الأقصى أحد مساجد ثلاثة تشد إليها الرحال، بل بتعبير أوضح لا تشد الرحال إلا إليها: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، والمسجد النبوي. قال الله جل وعلا: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء:1] رغم أنه عندما نزلت هذه الآيات وهي مكية لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قد هاجر إلى المدينة، فهذا يشعر أن ثمة مسجداً سيكون بين مكة وبين المسجد الأقصى في بيت المقدس، وهو المسجد النبوي. وبالإسراء به إلى المسجد الأقصى أخذ المجد من أطرافه الثلاثة: فولد في مكة وبعث في مكة ليرث إبراهيم، وصلى بالمسجد الأقصى إماماً ليرث جميع الأنبياء، وقد صلوا خلفه، وجاء في بعض الروايات أنه لما سلَّم رأى إخوانه من النبيين فقال لهم: (إن الله أمرني أن أسألكم: هل أرسلكم الله لتدعوا إلى أحد غيره؟ قالوا: إنما أرسلنا الله لندعو إليه)، قال الله: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف:45] وفي قراءة و ((يَعْبُدُون)) والمعنى واحد. والمقصود: أنه صلى بهم إماماً ليرثهم في الأرض المقدسة، ثم خصه الله جل وعلا بهذه البلدة الطاهرة (المدينة النبوية)، فورث المجد من أطرافه الثلاثة صلوات الله وسلامه عليه. إن بيت المقدس أرض تختصم فيها الأديان السماوية الثلاثة: اليهودية والنصرانية والإسلام. وأريحا: هي البلدة التي أمر الله جل وعلا بني إسرائيل أن يدخلوها كقرية ويقولوا حطة، فحرفوا الكلم، وهي عند كثير من المؤرخين أقدم مدينة سكنت في العالم. موسى عليه السلام هو الذي خرج ببني إسرائيل من أرض مصر إلى بيت المقدس، لكنهم امتنعوا من محاربة الجبّارين ودخول أريحا فحكم الله عليهم بأن يبقوا في التيه أربعين عاماً، فمات هارون ومات موسى بعده وبنو إسرائيل في أرض التيه.

فتح بيت المقدس ودخول المسجد الأقصى

فتح بيت المقدس ودخول المسجد الأقصى والذي دخل ببني إسرائيل الأرض المقدسة هو يوشع بن نون حيث بدأ حربه يوم الأحد وانتهى مساء الجمعة، واليهود تجعل يوم عيدها يوم السبت، ففي مساء الجمعة خاف أن الشمس تغيب قبل أن ينتهي من حربه فقال لها كما في الخبر الصحيح: (إنك مأمورة وإنني مأمور، اللهم احبسها عليّ) فبقيت الشمس وتأخر غروبها حتى فتح يوشع بن نون البلدة. بعد ذلك دخلت في ولاية المسلمين في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولم تكن أرض المقدس عندما دخلها عمر بيد اليهود إنما كانت بيد النصارى، وكانوا هم المسيطرين عليها والحاكمين لها. دخلها عمر بعد أن اشترط البطريق الذي كان يفاوض أبا عبيدة ألا يدخلها أحد قبل عمر، فخرج عمر على بعير له ومعه غلام له يتناوبان الطريق، كان عمر يركب حيناً ويركب غلامه حينا آخر حتى وصلوا إلى بيت المقدس، ووافقت النوبة بينهما أن يركب الغلام ولا يركب أمير المؤمنين، وكانا على أرض مخاضة -يعني: فيها طين- فنزل عمر وركب الغلام، وعمر يقود البعير وهو حامل نعليه حتى لا تتسخان بالطين، والنصارى على الشرفات والدور يرون أمير المؤمنين الذي تأتمر الجيوش -التي كانت تحاصر البلدة- بأمره وهو في المدينة، فلما قدم إليهم ظنوه سيأتي في موكب مهيب، فأتاهم ببعير له عليها غلامه، وهو يقود البعير ويرفع نعليه حتى لا تتسخان في الطين؛ فكانت هيبة عمر عند النصارى أعظم من هيبته لو جاءهم على آرائك أو جاءهم على مراكب غير ذلك. هذا يفهم منه أن قول الله جل وعلا: {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا} [الإسراء:5] لا ينطبق على عمر؛ لأن عمر دخلها سلماً، وفي بعض القصائد التي يقولها الإخوة الفلسطينيون يقولون: في القدس قد نطق الحجر أنا لا أريد سوى عمر رداً على الصلح، وهذا لا يرد على الصلح، بل يجعل المسألة أعظم تعقيداً؛ لأن عمر لم يدخلها حرباً. وفهم التاريخ يعينك على التصرف في الأحداث، فقد احتلها الصليبيون في الحملة الصليبية الأولى عام (492) هجرية، ومكثوا فيها إلى عام (583هـ)، ودخلها صلاح الدين ليلة 27 رجب، وقد كان مشهوراً عند العلماء قديماً أن ليلة 27 رجب هي ليلة الإسراء والمعراج عند العلماء، فتأكد عند الناس بهذا الحدث أن ليلة 27 من شهر رجب هي ليلة الإسراء والمعراج، رغم أن هذا لم يثبت بسند صحيح فيما نعلم عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لكن أحياناً تأتي أحداث تاريخية تؤكد أشياء موجودة في أذهان الناس. دخلها صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تعالى فاتحاً محرراً لها من أيدي الصليبين، فالصليبيون الذين دخلوا بيت المقدس أذلوا المسلمين وأذلوا اليهود؛ لأن الصراع ما بين اليهودية والنصرانية صراع قديم، قال الله جل وعلا: {وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ} [البقرة:145] ولئن توافقت مصالحهم في بعض العصور إلا أنها تبقى العداوة أزلية لا يمكن جمعها. بعد ذلك حدثت أحداث تاريخية شهيرة ليس هذا موطنها.

بريطانيا وإعطاء القدس لليهود

بريطانيا وإعطاء القدس لليهود إن البريطانيين هم الذين مكنوا لليهود في بيت المقدس، وذلك فيما يسمى بوعد بلفور المشهور. الساسة الصهاينة قرءوا التاريخ جيداً -كسياسة ليس كدين- والله قال: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ} [آل عمران:112] ثم قيد فقال: {إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} [آل عمران:112] فالحبل الذي مع الله أضاعوه بقتلهم الأنبياء وكفرهم، وبقي الحبل الذي مع الناس. فالساسة اليهود قرءوا أن قوة بريطانيا إلى أفول رغم أنها كانت بلداً لا تغرب عن محمياته الشمس، فاتصلوا بالولايات المتحدة الأمريكية وأقاموا هناك أموالهم وسلطانهم حتى استطاعوا أن يصلوا إلى القدرة على التغيير في القرار الأمريكي، وجعلوا بريطانيا وراء ظهرهم رغم أن بريطانيا هي التي مكنت لهم؛ لكنهم نقلوا رحالهم إلى أمريكا -رغم أنهم كانوا منبوذين- حتى وصلوا إلى ما وصلوا إليه حالياً. إن يوشع بن نون دخل القدس في 6 أيام، وفي عام 1948م دخلت القدس في حكم اليهود، وحرب (1967م) كان مدتها 6 أيام، وقد تعمد اليهود أن تكون الحرب 6 أيام، وهي في الإذاعات العربية يقال لها: نكسة الخامس من يونيو حزيران، لكن في الإعلام الإسرائيلي يقولون: حرب الأيام الستة ليذكروا الشعوب اليهودية في إسرائيل وفي غيرها أن دولة إسرائيل قائمة على إرث عقدي يهودي تذكيراً بما صنعه يوشع بن نون من قبل بأنه دخل الأرض المقدسة في ستة أيام. وقد أغلقوا باب الحرب بعد أن دخلوا سيناء والجولان، واحتلوا الضفة الغربية وما يسمى الآن بقطاع غزة، ودخلت القدس ضمن الحظيرة اليهودية. هذا إحدى المصطلحات التي ينبغي التنبه لها عند سماع الأحداث. وقعت حرب (1973م) وهي حرب العاشر من رمضان، وحصل فيها نوع من التقدم، لكن لم يظفر المسلمون فيها بدخول المسجد الأقصى.

فضل الصلاة في المسجد الأقصى

فضل الصلاة في المسجد الأقصى إن المسجد الأقصى مسجد مبارك، والصلاة فيه بـ (250) صلاة، والدليل على ذلك ما رواه الحاكم في المستدرك بسند صحيح من حديث أبي ذر: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه وهم يتذاكرون: أيهما أفضل الصلاة في المسجد الأقصى أم الصلاة في المسجد النبوي؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (ولنعم المصلى هو، وصلاة في مسجدي هذا بأربع صلوات فيه) أي: في المسجد الأقصى. ومعلوم أن الصلاة في المسجد النبوي بألف صلاة، فيتحرر من هذا أن الصلاة في المسجد الأقصى بمائتين وخمسين صلاة. إن الاحتلال اليهودي للمسجد الأقصى أمر غير محمود لكنه الخيط الذي يجمع المسلمين اليوم عرباً وعجماً، وكل من ينتسب للملة لا يمكن أن يختلف معك في أن أمنيته أن يصلي في المسجد الأقصى وقد حرر، وهذه نعمة من وجه آخر وإن كان احتلالهم له نقمة. على هذا يفهم أن من يحتج بقضية المهدي المنتظر لا يقبل احتجاجه؛ لأنه لو قلنا للناس: إن المسجد الأقصى لن يحرر إلا على يد المهدي المنتظر لثبطنا عزائم الناس ولمات الجهاد في الأمة، ولما بقي هناك أحد يعمل لإصلاح المجتمع، ولكان الناس كلهم ينتظرون المهدي المنتظر. فالذي أضر بالأمة هو أنهم ينتظرون الغيب المنشود وينسون الواقع المشهود، والغيب لا يعني أننا نترك ما نحن فيه، فالله جل وعلا أخبر الناس كلهم أنهم ميتون، وقال لنبيه: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30]، وهذا غيب، ولكن لا يعني أن تذهب إلى الموت، بل عش حياة طبيعيه كما أمر الله حتى يأتيك الموت. فالمسجد الأقصى يفتح على يد المهدي أو على يد عيسى، أو على يد غيرهما، فهذا لا يخصنا فنحن مسئولون شرعاً عن هذا المسجد بأن نسلك الطرائق الشرعية، ونجمع ما بين الأسباب الكونية والأسباب الشرعية في الوصول إلى غاياتنا التي ننشدها، وإن قدر هذا على أيدي المسلمين المعاصرين اليوم كان خيراً كثيراً، وإن لم يقدر برئت الذمة ووقعت المعاذير، والأمر غيب ولا يقع إلا ما أراد الله وكتبه جل وعلا في الأزل.

من أعلام القرآن ذو القرنين

من أعلام القرآن ذو القرنين هناك كتاب ظهر لدكتور اسمه حمدي أبو زيد اسمه: فك أسرار ذي القرنين ويأجوج ومأجوج، والكتاب فيه فرضيات وأمور كبيرة جداً، وحمدي أبو زيد مؤلف سعودي وعضو في مجلس الشورى، والكتاب مطبوع لمن أراد أن يتوسع. وسوف نتحدث عن ذي القرنين من جانب القرآن لا من جانب الفرضيات المعاصرة، فنقول: ذو القرنين عبد صالح، وهو أحد من اختلف فيهم كما ذكر السيوطي وغيره. قال الله جل وعلا: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ} [الكهف:83] والسائل قريش بناء على إيعاز من اليهود. قال الله: {قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا} [الكهف:83] ومِن هذه تبعيضية، أي لن أقول لكم كل شيء عن ذي القرنين؛ لأن القرآن ما أنزل بهذا. واسمه ذو القرنين، وذو بمعنى صاحب، قال الله جل وعلا: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا} [الأنبياء:87] أي وصاحب الحوت، وهذا الاسم جعل بعض المؤرخين يقول: إنه من اليمن؛ لأنه اشتهر في ملوكهم التسمية بكلمة ذو كذا، وقيل غير ذلك. واختلف في السبب الذي سمي من أجله ذا القرنين. فقيل: لأنه حكم المشرق والمغرب. وقيل: لأنه حكم فارس والروم. وقيل: كانت له ظفيرتان والقرآن سكت عن هذا، والبحث عنه نوع من التكلف، لكنه مضمار تجري فيه أقدام العلماء، والذي يعنينا في قضية ذي القرنين كمال عقليته. وكمال عقلية هذا الإنسان تظهر في أمور عدة: من أهمها أنه يختلف تصرفه باختلاف من أمامه، فـ ذو القرنين مر في حربه وغزواته على أمم، هذه الأمم تتفاوت في عقلها وقدرتها وعلمها، فكان تعامله معها يختلف من أمة إلى أمة كل بحسب عقله، قال الله جل وعلا: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} [الكهف:86] فبعض المؤلفين نظر من هذا الباب إلى أن ذا القرنين وصل إلى مغرب الشمس. وهذا غير لازم؛ لأن الله قال: {وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} [الكهف:86] فأسند الوجد إلى ذي القرنين ولم يسنده إلى الشمس، والمعنى أن كل إنسان يرى مغرب الشمس بحسب الحال التي هو فيها، فمن مكث في شاطئ البحر يرى الشمس تغيب في البحر، ومن مكث في صحراء نجد مثلاً يرى الشمس تغيب في الصحراء، ومن مكث في جبال الحجاز أو جبال تهامة يراها تغيب في الجبال فكل إنسان بحسب مكانه يرى مغيب الشمس، فقول الله جل وعلا: {وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} [الكهف:86] معناه أنه وصل إلى منطقه فيها عين حمئة يجد الشمس تغرب بعدها. ويحتمل أنه وصل إلى مغرب الشمس لكن لا يلزم ذلك من الآية. قال تعالى: {وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا} [الكهف:86] وهناك مثل عند العامة يقولون: لا يجوع الذئب ولا تفنى الغنم، فإذا كان الطلاب كلهم يطمعون أن ينجحهم المعلم فهو غير ناجح، وإن كان الطلاب كلهم يائسون من أن ينجحهم فهو معلم غير ناجح، لكن المعلم الموفق يكون الطلاب منه على خوف ورجاء. والرجل في بيته إذا كانت الزوجة لا تخاف منه على كل حال أو ترجوه على كل حال لم يصب في قضية سياسته لبيته، فهنا قال الله جل وعلا عن هذا الملك الموفق: {قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا * قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا} [الكهف:86 - 88] فيظهر أن هذه الأمة التي وصل إليها ذو القرنين تحتاج إلى هذا النوع من السياسة في الحكم. ثم قال الله جل وعلا: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ} [الكهف:90] ولم يذكر الله خبره معهم، قال: {وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا} [الكهف:91]. ثم ذكر الله أقواماً فقال: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْماً لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً} [الكهف:93] يعني ليس لهم عقول فلما كانوا كذلك لهم عقول لم يعذب ولم يكافئ؛ ودلالة أنهم لا يفهمون أنهم قالوا: {يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} [الكهف:94] وذلك أنهم يرون ملكاً عظيماً قد ساد الدنيا وتنقل في الأمصار وحوله جيوش ومعه أموال ووزراء، والله يقول: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ} [الكهف:84] ثم يأتي هؤلاء الضعفاء ويقولون له: إذا فصلت بيننا وبين يأجوج ومأجوج فسوف نعطيك أجراً، ولا يعقل أن يقبل ملك كهذا من هؤلاء الضعفاء أجراً، ولهذا قال الله: {لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا} [الكهف:93]. فأجابهم ذو القرنين: {قَالَ مَا مَكَّنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} [الكهف:95] يعني ما أنا فيه خير، ولا أريد منكم أموالاً. ولما كانوا ليس لهم عقول وظفهم في الخدمة؛ لأن القوة البدنية لا تحتاج إلى عقل، قال: {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا} [الكهف:95] ولذلك فإن بعض القطاعات في بعض الدول يختارون نوعية من الحرس الذي يضرب فقط ولا يفهم ولا يستطيع الناس أن يفهموه، بل يكون مسيراً ينفذ الأوامر بلا تعقل. وفي عهد بني أمية في أيام الصراع بين عبد الملك بن مروان وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهما: جاء عبد الملك لرجل فأعطاه أموالاً وقال له: اقتل ابن الزبير، قال: إذا قتلنا ابن الزبير سوف تنفرد في الملك، وابن الزبير يموت شهيداً، وأنا لم أحصل على شيء لا ملك في الدنيا ولا شهادة للآخرة، بل ألقى الله وأنا قاتل نفس. ولست بقاتل رجلاً يُصلي على سُلطان آخر من قريشِ له سُلطانه وعليَّ إثمي معاذ الله من جهل وطيشِ فـ ذو القرنين قال الله جل وعلا عنه: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ} [الكهف:84]، وهذا التمكين شيء من الله يعطيه من يشاء، وإذا أراد الله بعبد خيراً سخّر له خلقه، قال الله: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31] وإذا أراد الله بعبد سوءاً قتله بأقرب أنصاره إليه. هذا الذي يمكن أن يستفاد من حديث ذي القرنين عموماً. هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده وأعان الله على قوله. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

[يوم الجمعة، طالوت وجالوت، أبو لهب، مكة المكرمة]

سلسلة أعلام القرآن [يوم الجمعة، طالوت وجالوت، أبو لهب، مكة المكرمة] من الأعلام التي وردت في القرآن يوم الجمعة، وهو يوم يجتمع فيه المسلمون لصلاة الجمعة في المسجد ولسماع خطبتها، ولهذا اليوم من الخصائص والمميزات ما تجعله عيداً في كل أسبوع. كذلك جاء ذكر طالوت وجالوت، وهما علمان على رجل من أهل الإيمان ورجل من أهل الكفر والطغيان، قاد طالوت جيش الإيمان وقاد جالوت جيش الكفر والطغيان. ومن الأعلام الواردة في القرآن كذلك أبو لهب المتوعد بنار ذات لهب، ومكة المكرمة، الأرض المطهرة والبقعة الطيبة.

ذكر يوم الجمعة وما جاء فيها

ذكر يوم الجمعة وما جاء فيها إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين أما بعد: فهذا بحمد الله وتوفيقه اللقاء الثالث حول أعلام القرآن. وقد سبق التأكيد على أن هذه اللقاءات تعنى بأعلام قرآنيه ذكرها الله جل وعلا في كتابه إما مدحاً وإما ذماً، ونعرج عليها إلماماً تاريخياً ومعرفياً قدر المستطاع ولا نطيل في أي من تلكم الأعلام؛ لأن الأعلام كثيرة ونحاول قدر الإمكان أن نأتي على أكثر الأعلام التي أوردها الله جل وعلا في كتابه، وقد مر معنا ذكر جبريل عليه السلام، والكوثر، ويوم الفرقان، وقارون، وفرعون، وهامان، وعرفات والمشعر الحرام، وغيرها من الأعلام التي تكلمنا عنها لماماً وسراعاً ما أمكن إلى ذلك سبيلا. قال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9]. فيوم الجمعة علم على يوم كان يسمى قبل الإسلام بيوم العروبة، ثم سمي في الإسلام بيوم الجمعة بنص القرآن كما في السورة التي سميت بهذه الآية، وهي سورة الجمعة. أول جمعة أقيمت في الإسلام أقامها أسعد بن زرارة وكنيته أبو أمامة رضي الله عنه وأرضاه، أقامها قبل وصوله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بفترة، حيث جمع أسعد بن زرارة رضي الله عنه وأرضاه المسلمين وصلى بهم صلاة الجمعة، وأقام لهم غداء. فكان حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه وأرضاه ممن حضر تلك الجمعة، فلما كبر حسان كان ابنه عبد الرحمن هو الذي يقوده؛ لأنه كان قد عمي في آخر عمره، فكان حسان إذا دخل المسجد ومعه ابنه يقوده وأذن لصلاة الجمعة بين يدي الإمام يترحم حسان على أبي أمامة ويقول: اللهم صل على أبي أمامة، اللهم اغفر له. ويدعو له، فيسمعه ابنه عبد الرحمن ويتعجب. ثم تكرر هذا الموقف مراراً من حسان، فقال عبد الرحمن رضي الله عنه في نفسه: إن هذا بي لعجز، يعني: ما الذي يمنعني أن أسأل أبي لماذا يترحم على أبي أمامة كلما أذن لصلاة الجمعة؟ فسأله فقال: يا بني! إن أول من صلى بنا الجمعة هو أبو أمامة رضي الله عنه وأرضاه. قلنا: كان يسمى هذا اليوم في الجاهلية يوم العروبة، والله جل وعلا أنبأ الأمم التي قبلنا أن هناك يوماً عظيماً مفضلاً عنده جل جلاله، فالأمم سعت في معرفة ذلك اليوم، فزعمت اليهود أنه السبت، فهم إلى اليوم يعظمون يوم السبت، وذهبت النصارى إلى أنه يوم الأحد، فاليهود أخذوها على أنهم يرون أن الله انتهى من خلقه يوم الجمعة واستراح يوم السبت -تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً- والنصارى تزعم أن الأحد أول أيام الأسبوع، فلذلك ترى أنه هو اليوم الذي اختاره الله واصطفاه، قال صلى الله عليه وسلم: (نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا)، أي: أعطوا الكتاب من قبلنا، وضلوا عن هذين اليومين، فنحن وإن تأخرنا ظهوراً إلا أننا أعلم بهذا اليوم منهم لما علمه الله رسوله صلى الله عليه وسلم. المشهور عند أهل العلم أن أول جمعة صلاها النبي صلى الله عليه وسلم كانت بعد خروجه من قباء إلى المدينة؛ لأنه عليه الصلاة والسلام نزل قباء في أول الأمر، فالمشهور المنقول عن ابن إسحاق أنه صلى الله عليه وسلم صلى الجمعة في المسجد المعروف اليوم بمسجد الجمعة، لكن لا يوجد دليل صريح فيما نعلم يدل على هذا، وهذا هو المشهور المستفيض. قال النبي صلى الله عليه وسلم عن يوم الجمعة: (فيه خلق آدم) ولهذا قال العلماء: إنه سمي يوم الجمعة؛ لأنه جمع فيه خلق آدم (وفيه تقوم الساعة)، أي: يوم الجمعة.

ما يستحب في يوم الجمعة

ما يستحب في يوم الجمعة ويسن في يوم الجمعة أمور عدة: قراءة سورة آلم تنزيل السجدة والإنسان في فجرها، وقراءة سورة الكهف في يومها، وكثرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيه. وهذا ولله الحمد أمر مستفيض بين المسلمين، وكذلك أئمة الحرمين وغيرهم من أئمة المساجد يحرصون على قراءة: {آلم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [السجدة:1 - 2] وسورة الإنسان في فجر يوم الجمعة. ويكثر الإمام في الصلاة من قراءة: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1]، وسورة الغاشية، ومن دلالة محافظته صلى الله عليه وسلم على هذا أنه صلى بالناس يوم الجمعة فقرأ فيهما بسبح والغاشية، ثم كان عليه الصلاة والسلام في ذلك اليوم قد وافق عيداً فقرأ في الفجر بسبح والغاشية، مما يدل على أن لسبح والغاشية حكمة لا نعلمها، وإلا لما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في فجر العيد بسبح والغاشية، ثم يجتمع مع الناس في نفس اليوم الجمعة فيصلي بهم صلى الله عليه وسلم ويقرأ بسبح والغاشية، فينبغي على الأئمة قدر الإمكان أن يحرصوا على عدم تركها، نعم يقرأ بغيرها أحياناً ليبين للناس أنها ليست بواجبة لكن لا يكثر من ذلك؛ لأن اتباع السنة أولى. ويوم الجمعة فيه ساعة لا يدعو فيها رجل مسلم إلا استجاب الله جل وعلا له فيها، واختلف العلماء رحمهم الله في تحديدها، لكن نقول جملة: هي ساعة مخفية، وقد قال بعض العلماء: إنها من حين أن يرقى الإمام المنبر إلى آخر وقت صلاة العصر. وقال بعضهم: إلى أن تنتهي الصلاة. وقال آخرون من العلماء: إنها آخر ساعة من يوم الجمعة أي: قبل الغروب، وكل له دليله، هذا الموطن ليس موطن ترجيحات فقهية، وإنما هو إلمام بأعلام القرآن.

حكم صلاة الجمعة وخطبتها

حكم صلاة الجمعة وخطبتها صلاة الجمعة واجبة ليست بدلاً عن الظهر، وإنما الظهر بدل عنها لمن فاتته صلاة الجمعة. واختلف أهل العلم فيمن لم يدرك الركوع الثاني مع الإمام في صلاة الجمعة، فمعظم العلماء يقولون: إنه إن لم يدرك الركوع الثاني مع الإمام فاتته الجمعة، فيكملها ظهراً. ونحن لا نرى دليلاً قوياً على هذه المسألة، وهناك آراء لبعض الأئمة أنه يصليها جمعة ركعتين؛ لأنه دخل بهذه النية. النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب قبلها خطبتين يجلس بينهما، وكان يخطب قبل أن يتخذ المنبر متكئاً على عصا، ويروى أنه بعد أن اتخذ المنبر لم يتكئ على شيء، وكان إذا خطب احمرت عيناه ووجنتاه صلى الله عليه وسلم كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم. وكانت خطبته كلمات يسيرات قليلات لا يطيل فيهن، ويجعلها للمواعظ وللرقائق؛ لأن الجمعة يحضرها سائر المسلمين، وليست محاضرة معنوناً لها يحضرها من يريدها، لكن في هذا العصر خرجت الجمعة عن نطاقها الشرعي، فمن خلالها يقول الخطيب آراءه السياسية أو آراءه الفكرية، ومعلوم قطعاً أن آراء الخطيب الفكرية والسياسية تحتمل الصواب والخطأ على حسب علمه بالسياسة وحسب قدراته الفكرية. لكن قال الله قال رسوله هذا لا يحتمل صواباً ولا خطأ، والناس الحاضرون لا يأخذون ويعطون معك ولا يناقشونك، إنما يريدون شيئاً يرقق قلوبهم. صلاة الجمعة يحضرها العامل يحضرها المسلم الأمي يحضرها الفقير يحضرها الغني يحضرها العالم يحضرها سائر الناس، فإخراجها عن مراد الله ورسوله هو الذي جعل الناس تكثر فيهم قسوة القلوب؛ لأنهم لا يجدون وقتاً يسمعون فيه الخطيب إلا يوم الجمعة، فإذا جاء يوم الجمعة أخرجهم الخطيب عما يريدون وذكر لهم آراء سياسية أو فكرية أو قضايا لا تعنيهم، أو حتى إذا كانت تعنيهم لا يملكون فيها حولاً ولا قوة، فيذهب أهل الثقافة يناقشون رأي الإمام، ورأي الإمام رأي فكري، وقد يكون هذا الإمام رجلاً تقياً عالماً فقهياً يملك ترقيق القلوب لكنه لا يفقه شيئاً في الأمور الفكرية أو السياسة، فيتكلم في أمور قد يكون قوله فيها صواباً وقد يكون قوله خطأ، وليس عامة المسلمين محل تجربه، وليس هذا موطن الحديث عن مثل هذه الأمور. تقول أم هشام بنت الحارث رضي الله عنها وأرضاها: (ما حفظت سورة ق إلا من النبي صلى الله عليه وسلم من كثرة ما يقرأ بها في صلاة الجمعة)، فسورة (ق) معروف فيها ذكر بدء الخلق، والموت، وإتيان الموقف العظيم، وازدلاف الجنة، وبعد النار، وما إلى ذلك، حتى يكون في ذلك ترقيق لقلوب الناس، أما تلك الأمور فلها مواطنها يتكلم فيها أهل العلم، لكن في لقاءات فكرية، وفي مجالس ثقافية، وفي محاضرات يعلن عنها بهذا الاسم، لكن ينبغي أن يكون المقصود الأسمى لكل خطيب ألا يخرج الناس عن الوعظ ليجعلهم يذكرون بلاغة الخطيب أو فصاحته أو علمه أو قدراته أو آراءه أو عظمته الفكرية، فهذا كله غير مقصود شرعاً. المقصود الأساسي: أن يخرج الناس وقد ازدادوا إيماناً بالله وتعلقاً به وتعظيماً له جل شأنه. وإذا استطاع الإمام أن يصل بالناس إلى هذا المستوى فقد وفق في خطبة الجمعة.

سبب نزول قول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة)

سبب نزول قول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة) قال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9]، هذه الآية يمكن الكلام عنها من وجهين: الوجه الأول: أنها نزلت خصوصاً في قافلة أتت من الشام قادها دحية الكلبي رضي الله عنه وأرضاه، فانصرف الناس عن الجمعة -والظاهر أن هذا كان في أول الإسلام- يبتغون تلك الأموال فأنزل الله تلك الآية. الوجه الثاني: أن يوم الجمعة يوم يجتمع الناس فيه، فقال الله جل وعلا: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9]، تذكرة بأمر أعظم وهو أنه سيأتي يوم عظيم يجتمع الناس فيه وهو يوم المعاد، وهذا اليوم نعته الله جل وعلا بقوله: {لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:254]، فيترك الإنسان البيع في الدنيا ويلجأ إلى الله في مثل هذا اليوم العظيم تذكرة لنفسه باليوم الذي يغدو الناس فيه بين يدي رب العالمين، والإنسان لا بد أن يكون له باعث من نفسه. وما عاتب الحر الكريم كنفسه والمرء يصلحه الجليس الصالح لا بد أن يكون في الإنسان ناصح من نفسه، فإذا خرج الناس من أي جامع تقام فيه صلاة الجمعة أشتاتاً إلى أماكن عدة تذكر الواحد أنه سيأتي يوم ينصرفون فيه من أرض المعاد، لكنهم لا ينصرفون إلى أمكنة متفرقة، وإنما ينصرفون إلى دارين، قال الله: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7]. فكلما خرجت من الجامع الذي تصلي فيه الجمعة فتمن بهذا العمل أن تنصرف يوم القيامة إلى رياض جنته، فالمؤمل أن الإنسان يحتسب العمل، ويوظف نفسه للطاعة، ويحتسب الأجر، ويتذكر أيام الله جل وعلا، ويربط بين ما كلفه الله به شرعاً في الدنيا وما كلفه به في الآخرة.

يوم الجمعة ويوم القيامة

يوم الجمعة ويوم القيامة قال صلى الله عليه وسلم: (إن يوم القيامة يكون في يوم جمعة، وما من دابة إلا وهي مصيخة تنتظر النفخ في الصور يوم الجمعة). فالخلائق سوى الثقلين تعلم أن يوم الجمعة هو اليوم الذي تقوم فيه الساعة، وتدرك أن هذا اليوم يوم جمعة، وإلا فلن تصيخ آذانها وهي لا تعرف أن هذا اليوم يوم جمعة. من الله على أمة محمد صلى الله عليه وسلم بأن هداها ليوم الجمعة، فالأمم قبلنا حاولوا أن يصلوا إليه لكن لسوء طويتهم وغلبة شقوتهم ضلوا عن طريق الحق، فذهبت اليهود إلى أنه يوم السبت، والنصارى إلى أنه يوم الأحد، وأنت ترى في الغرب اليوم أن يومي الإجازة عندهم هما يوما السبت والأحد، وعندنا يوم الجمعة. وقد وقفنا على أثر يدل على أن عمر رضي الله عنه وأرضاه هو أول من جعل للناس يوماً يستريحون فيه غير يوم الجمعة، وقلنا: إن عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه ترك المدينة وذهب إلى الشام ليأخذ مفاتيح بيت المقدس، ويستلم بيت المقدس صلحاً، فلما عاد استقبله أهل المدينة ولم تجر له عادة أنه يكثر الغياب عن المدينة، فقد كان يهاب أن يخرج منها، ومعلوم أنه كان يقول: اللهم إني أسألك شهادة في سبيلك وميتة في بلد رسولك صلى الله عليه وسلم. فلما قدم استقبله الغلمان فأحب أن يكافئهم، فقال لهم رضي الله عنه وأرضاه: إما أن أعطيكم أعطيات حلوى أو دنانير أو دراهم أو شيئاً ترضون به، وإما أن أعطيكم يوماً بدل من الكتاتيب، فقال الغلمان: نريد يوماً ليس فيه كتاتيب، فالناس يحبون أن يخرجوا عن المألوف، ويحبون أن يجدوا لهم راحة. هذا ما يمكن أن يقال عن يوم الجمعة.

طالوت وجالوت

طالوت وجالوت وهنا علمان على شخصين أحدهما كافر والآخر مؤمن، وهما طالوت وجالوت. ذكرهما الله جل وعلا في سورة البقرة، ولم يكرر ذكرهما في أي سورة أخرى، والله تبارك وتعالى أحياناً يريد أن ينبه على الأشخاص وأحياناً يريد أن ينبه على الأحداث، فإذا أراد أن ينبه على الأحداث أغفل ذكر الأشخاص ولو كانوا عظماء، وإذا أراد أن ينبه على الشخص ذكر الشخص ولو لم يكن عظيماً، وإذا أراد أن ينبه على الأمرين ذكر الله جل وعلا الشخص والحدث. هنا قال الله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ} [البقرة:246]، قوله (لنبي) نكرة، ولم يذكر اسم ذلك النبي؛ لأنه ليس المقصود حوار أولئك القوم مع ذلك النبي، وإنما المقصود الحدث التاريخي. بنو إسرائيل مكثوا في أرض التيه (40) عاماً، وخلال هذه الأربعين مات هارون ثم مات موسى، ثم عهد موسى بأمر النبوة من بعده إلى يوشع بن نون فتاه، ثم مكثوا سنين طويلة، وخلال هذه السنين الطويلة كان العماليق يحاربون بني إسرائيل ويتعرضون لهم، فكان الإنهاك والقتل في بني إسرائيل أكثر، فلما شعر بنو إسرائيل بالضعف لجئوا إلى نبي لهم قيل: إن اسمه: شمعون وقيل إن اسمه: شوميل، وقيل إن هذين الاسمين لرجل واحد، وهو الأظهر. فسألوه أن يبعث الله لهم ملكاً يقودهم؛ لأن الناس لا يمكن أن يجاهدوا أو يحاربوا أو يسوسوا أمرهم بدون شخص يأتمرون به، فهذا أمر خلاف العقل. فبنو إسرائيل أرادوا ملكاً يقودهم في الجهاد: {ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة:246]، وهذا النبي شوميل أو شمعون كان قد اعتزلهم لما رأى من عصيانهم، وذلك أنه أخذ عليهم المواثيق أنه إذا كتب عليهم القتال أن يقاتلوا، فقالوا: نعم، بل استغربوا وقالوا: {وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} [البقرة:246]، فلما كتب الله عليهم القتال نكصوا، فأخبرهم نبيهم أن الله قد بعث لهم طالوت ملكاً، فاعترضوا بأن هذا الملك لم يكن من السبط الذين فيهم الملك، ولم يكن من السبط الذين فيهم النبوة، {قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} [البقرة:247]، ولا يمكن أن يوجد ملك بدون عصبة. أما العصبة التي كانت مع طالوت فهي أن الله جل وعلا هو الذي اختاره وكفى بها عصبة، لكن في زماننا هذا لا يوجد وحي من الله: أن الله اختار فلاناً! فلا بد من عصبة يقوم بها الملك. والمقصود: أن نبيهم أخبرهم إن الله قد بعث لهم طالوت ملكا، ً وأخبرهم بذلك حتى يلين قلوبهم لأمر الله وطاعته، وآتاه بسطة في العلم والجسم، أي: علم عام بالشرع، وعلم بالحروب، وكانت الحروب آنذاك تعتمد اعتماداً كلياً على القوة الجسمية، وقوله جل وعلا: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة:247]، فيه رد على قولهم: {وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} [البقرة:247]. وبعد أخذ وعطاء أذعنوا، وذلك بعد أن أخبرهم نبيهم أن ثمة آيات أعطاها الله جل وعلا لـ طالوت، قال الله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:248]، والتابوت والسكينة تحدث العلماء عنها من جوانب عديدة، لكن لا يوجد شيء يعتمد عليه ممكن أن ينقل، وكلها أقاويل منقولة عن مسلمة أهل الكتاب، ولا يدرى صحيحها من سقيمها أو قويها من ضعيفها. لكن نقول جملة: إن الله جل وعلا أعطى طالوت قرائن لا يستطيع معها بنو إسرائيل أن يردوا ملكه منها: تابوت ينصرون به، وهيئة هذا التابوت لا نعلمها. أما السكينة فقد تكون بمعناها العربي المعروف وهي الطمأنينة، وقد يكون غير ذلك، كما قيل: إنها ريح، وقيل: إنها طائر، وقيل غير ذلك. قال تعالى: {وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ} [البقرة:248]، قيل: عصا موسى وعصا هارون ورضاض من الألواح التي كتبت فيها التوراة لموسى، وهذا محتمل، لكنني لا أجزم به. أخذ طالوت الجيش يعبر بهم نهر الأردن لمقابلة العمالقة الذين يقودهم جالوت. فالدنيا قائمة على الامتحان وكلما ابتلى الله الإنسان بشيء وفاز فيه يبتليه بشيء آخر، وهذه سنة الله جل وعلا في خلقه، والله يقول: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43]. كان جيش طالوت (80000)، ذهب ليحارب بهم فمر على نهر وقال لهم: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} [البقرة:249]. فقسمهم ثلاثة أصناف: قوم سيشربون، وقوم لن يشربوا أبداً، وقوم يذوقون؛ لأن (يطعم) تأتي في اللغة بمعنى: يذوق، {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} [البقرة:249]. فالذين لم يشربوا بالكلية قطعاً سيكونون في الجيش، والذين سيغرفون غرفة باليد ممكن أن يقبلوا، وأما الذين شربوا من النهر واغترفوا غرفاً كثيراً فهؤلاء لا مكان لهم في جند طالوت. وهذه تقاس على الدنيا، فالدنيا مثل النهر الذي اعترض بني إسرائيل، فمن شرب منه بالكلية لا مكان له في الآخرة، ومن أخذ شيئاً بالمقدار الذي يبلغه إلى الله سيصل للآخرة، ومن لم يشرب منه أبداً سيصل، لكن الأوسط أفضل؛ لأنه هدي الأنبياء.

حكايتان في الابتلاء والافتتان بالدنيا

حكايتان في الابتلاء والافتتان بالدنيا يقولون في الأمثال الدارجة: إن رجلاً فقيراً رأى امرأة حسناء، فقال لها: أريد أن أتزوجك، فوافقت، وهو غير مصدق أنها ستقبله، فأخذها إلى المأذون ففتن بها المأذون فعرض عليها نفسه، فأقبلت عليه وتركت الفقير. فذهب الفقير فاشتكى المأذون إلى القاضي، فلما أحضر الثلاثة فتن القاضي بها أعظم من فتنة المأذون، فطلبها لنفسه، فذهب المأذون والفقير يشكوان القاضي إلى الوالي، فقال الوالي: أين هذا القاضي الذي يراد به الخير فيجبل الناس على الشر؟ فلما رآها الأمير ازداد بها فتنة وطلبها لنفسه. فذهبوا إلى العامة حتى يستعينوا بهم على الأمير، فكل رجل من العامة أخذ يطلبها لنفسه، ففرت من أمامهم وهي تقول: أنا الدنيا؛ الكل يطلبني ولست مكتوبة لأحد! إن هذه هي الدنيا لا يوجد أحد إلا ويتعلق بها، وهي تفر من الجميع، فكلما أتعبت نفسك وراءها ابتعدت، وإن تركتها ستأتيك وهي راغمة، وإن جريت وراءها فلن تنال منها إلا ما كتب لك. كان رجل من الصالحين مسافراً على ناقة فيها خطام، فأدركته الصلاة وقد خرج الناس، فأراد أن يصلي في مسجد لكنه خاف على الناقة، فنادى غلاماً وقال له: اقبض لي الناقة حتى أصلي ركعتين وأعود، فدخل يصلي، فأخذ الغلام الخطام وشرد به، فخرج الرجل ووجد الناقة ولم يجد الخطام ولم يجد الغلام، فعرف أنه سرقه، وقبل أن يخرج الرجل من المسجد أخرج دينارين، ليكافئ بهما ذلك الغلام، فلما وجد الناقة بدون خطام رد الدينارين في جيبه، وذهب إلى السوق ليشتري خطاماً، فوجد نفس الخطام عند أحد الباعة واشتراه بدينارين وأخذ الخطام، فقال الرجل: لا إله إلا الله، سبحان الله، والله أكبر، يأبى ابن آدم إلا أن يستعجل الرزق. قال: لو صبر لأخذ الدينارين حلالاً، لكنه استعجل وأخذهما حراماً، وهذا هو سوء الظن برب العالمين جل جلاله.

تكملة قصة جالوت

تكملة قصة جالوت كان جيش طالوت (80000) فما بقي أحد لم يشرب إلا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، وهؤلاء هم عدد أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في يوم بدر. أقبلوا على جالوت وجنوده، قال الله تعالى: {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} [البقرة:250]، ولما نجحوا في اختبار النهر كان حرياً بهم أن ينجحوا في اختبار جالوت؛ لأن اختبار النهر مقدمة لما قبله. كان في الجيش رجل يقال له: أبشي والد داود عليه السلام وعنده عشرة من الولد، جاء بسبعة منهم إلى المعركة، أصغرهم داود عليه الصلاة والسلام، وكان معه المقلاع، والمقلاع مثل الجلد، طويل، يوضع فيه حجر يرمى به. يقال في بعض الروايات -ولا أجزم-: كان داود وهو ذاهب إلى المعركة يناديه الحجر يقول: خذني يا داود تقتل بي عدو الله، فرد الحجر الأول، ورد الحجر الثاني، وأخذ الحجر الثالث أو الرابع معه، فلما أخذه معه برز جالوت كالعادة، وفر الناس منه، واستأذن داود طالوت فلم يأذن له لقصر قامته وصغر سنه، ثم أذن له بعد إلحاحه، فضرب داود جالوت بمقلاعه فقتله، قال الله في محكم التنزيل: {وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ} [البقرة:251]، وقد سبق أن أسباط بني إسرائيل انقسموا فسبط كان لهم الملك وسبط كان لهم النبوة، وإكراماً من الله لداود جمع الله جل وعلا له ما فرقه في السبطين، قال الله جل وعلا: {وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} [البقرة:251]، فجمع الله لداود الملك والنبوة عليه الصلاة والسلام. من هنا نعلم أن طالوت وجالوت علمان أحدهما لمؤمن وهو طالوت والآخر لكافر وهو جالوت.

أول ملك في الإسلام

أول ملك في الإسلام أول ملوك المسلمين هو معاوية، قيل للإمام أحمد رحمه الله: أكان معاوية خليفة؟ قال: لا، إنما كان ملكاً من ملوك المسلمين، وقد اتفق الناس على أن معاوية رضي الله تعالى عنه هو أول ملوك المسلمين. وهكذا الأمور تجري بقدر الله، فأمه هند بنت عتبة مكثت مدة تحارب الدين ثم هداها الله للإسلام، وقبل أبي سفيان والد معاوية كانت متزوجة من رجل يقال له: الفاكه بن المغيرة، وكان الفاكه بن المغيرة كريماً، فكان يضع خباء بجوار بيته يدخله الناس من غير استئذان، فذات يوم كان الفاكه مع هند زوجته ثم قام لبعض شأنه، فجاء ضيف ودخل المجلس ولم يجد الفاكه فرأى هنداً دون أن تراه وفر هارباً. فقابله الفاكه وهو عائد، فظن أنه كان على علاقة مع زوجته هند بنت عتبة، فدخل عليها فضربها وسألها عن الرجل وهي تحلف أنها لم تر شيئاً، وشاع هذا في مكة قبل الإسلام، وفي مجتمع جاهلي كان يحرص على الشهامة والعرض، فأخذها أبوها عتبة لوحدها وقال لها: يا بنيتي إن كان ما قاله الفاكه حقاً فأخبريني وسوف أدس له من يقتله فينتهي الموضوع، وإن كان كاذباً في دعواه فأخبريني فأنا أحتكم إلى كهان العرب، فقالت: فحلفت له بما كانوا يحلفون به من أصنام الجاهلية أنه ما حصل شيء، فصدقها أبوها، فلما صدقها ذهب إلى الفاكه وقال له: إنك رميت ابنتي بأمر سوء، فلنحتكم أنا وأنت إلى أحد كهان العرب، فوفد الفاكه من بني مخزوم، وعتبة بن أبي ربيعة من بني عبد مناف، وأخذت هند معها نسوة يسلينها في الطريق حتى وصلوا إلى أحد كهان اليمن، وقبل أن يصلوا إلى الكاهن تغير وجه هند، فخاف أبوها أن تكون قد تراجعت فسألها فقالت: يا أبتاه والله إن الأمر كما أخبرتك لكننا نفد على رجل يكذب أو يصدق، فاختبر أبو سفيان الكاهن قبل أن يعرض عليه القضية، فنجح في الاختبار، بعد ذلك عرضت عليه النساء وفيهن هند فكان هذا الكاهن يمشي يضرب النساء حتى وصل إلى هند فقال: انهضي لا رسحاء ولا زانية ولتلدن ملكاً يقال له: معاوية، ففرح الفاكه وتشبث بها فرمته من يدها وقالت: والله لن يكون منك، يعني: الولد، فلما رجعوا إلى مكة تزوجها أبو سفيان بن حرب فبقيت في نفسها مقولة الكاهن فولدت معاوية، وكان أبوه أبو سفيان يقول: إن ابني هذا سيصبح ملكاً، فتقول هند: ثكلته إن لم يملك العرب والعجم، فحكم معاوية حتى ملك العرب والعجم، وعمِّر رضي الله عنه وأرضاه حتى بلغ من العمر 77 سنة، حتى كان آخر أيامه يخطب قاعداً؛ لأنه كثر لحمه واشتهر بحلمه. جاء أحد ملوك العرب إلى المدينة وأسلم عند النبي صلى الله عليه وسلم، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يعامل الناس على قدر منازلهم خاصة حديثي العهد بالإسلام، وكان هذا الملك زعيماً في قبيلته، قال النبي عليه الصلاة والسلام لـ معاوية: خذه إلى بيت فلان! يعني: يستريح في بيت فلان! ومعاوية في تلك الأيام كان من المسلمين المتأخرين ولم يكن له صيت، فلما دخل معاوية، قال للرجل: أردفني وكان الجو حاراً، قال: أنت من أرداف الملوك؟ قال: لا، قال: ابق مكانك، قال معاوية: أعطني نعلاً، فقال على أنفة العرب: لا أعطيك، يكفيك أن تستظل بظل الناقة، قال: اجعل وطاءك على الظل ولا حاجة للنعال، يقول معاوية: أخذته وأنا حافي القدمين، والشمس حارة حتى أوصلته كما أراد النبي صلى الله عليه وسلم. ومرت الأيام حتى حكم معاوية ودخل هذا الرجل على أنه أحد الرعية على معاوية، فأكرمه معاوية وأعطاه، وكان معاوية حليماً. موضع الشاهد: أن الإنسان لا يدري أين يضع الله جل وعلا أمره في الخلق. والمقصود: أن طالوت وجالوت علمان من أعلام القرآن أحدهما لأحد المؤمنين وهو طالوت، والآخر لأحد الكفار وهو جالوت.

أبو لهب

أبو لهب العلم الثالث: أبو لهب، وهو الوحيد الذي كني في القرآن، قال السيوطي في الإتقان: لا يوجد أحد ذكر بكنيته في القرآن إلا أبو لهب، وهو أحد أعمام النبي صلى الله عليه وسلم. وهنا نذكر فوائد متعددة قبل أن نشرع في الكلام عن أبي لهب. النبي عليه الصلاة والسلام كان له عشرة أعمام وعدة عمات، واختلف الناس في ضبطهن فقيل: أربع وقيل غيرها. من العمات: صفية وهي أم الزبير بن العوام، ومن عمات النبي صلى الله عليه وسلم عاتكة وهي التي مر معنا في يوم الفرقان أنها رأت الرؤيا، وعاتكة اسم تكرر كثيراً في نسب النبي صلى الله عليه وسلم، وقلنا: إن تسعاً من النساء يدلين في النسب الشريف اسمهن عاتكة، منهن ثلاث من قبيلة سليم، الذين هم من أجداد النبي صلى الله عليه وسلم وجداته، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم يوم حنين مفتخراً: (أنا ابن العواتك من سليم)، عواتك: جمع عاتكة. وله عمة يقال لها: أروى، ولكن اختلف هل ثبتت أم لم تثبت، فلا يوجد كثير أخبار عن عماته. أما أعمامه فعشرة، أدرك الإسلام منهم أربعة: العباس، وأبو طالب، وحمزة، وأبو لهب، أسلم حمزة والعباس، وكنية حمزة: أبو عمارة، وكنية العباس: أبو الفضل، وعبد العزى كنيته: أبو لهب واسمه: عبد العزى، وإنما لقب بـ أبي لهب؛ لأنه كان جميلاً جداً، وكانت وجنتاه تشرقان كاللهب. والرابع أبو طالب واسمه: عبد مناف، وأبو طالب، وأبو لهب كلاهما لم يسلما إلا أن أبا طالب كان ينصر النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية دينا ونصرته للنبي صلى الله عليه وسلم ظاهرة، إلا أنه مات على الكفر، وبعض الناس في عصرنا يجعل من قضية موت أبي طالب فرصة للقدح في الناس، فيقول: إن أبا طالب مات على الإسلام، وإن قلنا: إنه يوجد من العلماء من قال بذلك. لكن هذا يقول: إن الذين لا يقولون بأن أبا طالب مات على الإسلام يبغضون النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه تهمة عظيمة للناس، فلا يوجد مؤمن يبغض النبي صلى الله عليه وسلم، حيث لا يجتمع إيمان مع بغض النبي صلوات الله وسلامه عليه، لكن نقول: إن النصوص التي بين أيدينا تدل على أن أبا طالب مات على الكفر، وهذا أمر ظاهر، ونحن لسنا أرحم برسول الله من الله جل وعلا الذي اختار أن يموت أبو طالب على الكفر. لما أنزل الله جل وعلا على نبيه: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214]، وقف صلى الله عليه وسلم على الصفا فنادى في قريش: يا صباحاه، ثم بين لهم ما أنذر به، وكان المفترض أن يكون عمه أبو لهب أول الناس نصرة له، أو على الأقل يسكت كما سكت أبو طالب، لكنه قال له -والناس حاضرون-: تباً لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا، وانصرف، فتفرق الناس مع أبي لهب، وكانت له زوجه يقال لها: أم جميل تؤذي النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1]، تبت بمعنى: خابت، وخسرت، وهلكت. وهذه الآيات من أعظم إعجاز القرآن؛ لأن الله أخبر فيها أن أبا لهب سيكون مصيره إلى النار، ومع ذلك لم يسلم أبو لهب لا ظاهراً ولا باطناً، ولم يستطع أن يقول ولو كذباً: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، ومات شر موتة. كانت لـ أبي لهب جارية اسمها: ثويبة، ولما ولد النبي صلى الله عليه وسلم جاءته ثويبة تخبره أن آمنة زوجة أخيه عبد الله ولدت غلاماً، ففرح أبو لهب وأعتقها، فلما مات رآه العباس بن عبد المطلب في المنام فسأله: ما فعل الله بك؟ قال: لم أر بعدكم إلا شراً، إلا أنه في كل يوم اثنين يخفف عني بأنني أسقى من هذا الموضع مابين الإبهام والسبابه؛ لأني أعتقت ثويبة جاريتي لما بشرتني بمولد محمد صلى الله عليه وسلم. فانظر كرامة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ربه، فإن الله أمر أن يخاطب صنوف المدعوين، قال الله جل وعلا: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1]، {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي} [الأنعام:15]، {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي} [يونس:104]، {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا} [الزمر:53]، لكن الله جل وعلا يعلم نبيه الأدب فما قال الله لنبيه: قل يا أبا لهب، بل خاطب أبا لهب مباشرة ونحى نبيه جانباً؛ حتى لا يقال: إن محمداً يسيء الأدب مع عمه؛ لأن العم صنو الأب وحق الأب عظيم، ولهذا فإن من كرامة الله لنبيه أن أباه مات وهو صغير؛ حتى لا يبقى لأحد حق عليه صلى الله عليه وسلم، ولو قدر أن والديه عاشا كافرين فإنه يبقى لهما حق كما كان حق والد إبراهيم على إبراهيم، لكنه صلى الله عليه وسلم عاش يتيم الأبوين؛ حتى لا يبقى لأحد عليه فضل، اللهم إلا عمه العباس، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعظم العباس ويجله، وورث أبو بكر وعمر عن النبي صلى الله عليه وسلم تعظيمه لعمه العباس، وكان عمر رضي الله عنه يستسقي بـ العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا دخل فرش له بجواره وأجلسه؛ لأنه عم النبي صلى الله عليه وسلم. موضع الشاهد قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1]، حيث تكفل الله بالجواب والرد على أبي لهب ولم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم وسيله في الخطاب. إن أبا لهب لما نازع الله وحاربه قال الله جل وعلا له ذلك، ولم تنفعه قرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا ينبغي أن يُعلم أن الله جل وعلا عزيز فلا ينبغي لأحد أن يقع في قلبه السخرية من آيات الله أو رسله، أو يحاول أن ينازع الله جل وعلا في شيء. كان هناك رجل اسمه: محمد بن زكريا الرازي الطبيب تلي عليه قول الله جل وعلا: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} [الملك:30]، فقال: تأتي به الفؤوس والمعاول. فأذهب الله جل وعلا في ساعته ماء عينيه، فبقي حياته كلها أعمى. فالله جل وعلا يقول في ذاته العلية: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ} [إبراهيم:47]. والمؤمن الحق يراقب الله جل وعلا في كل شيء حتى لو وقعت منه المعصية -ولا يسلم من المعاصي أحد- فلتقع منه وهو منكسر خائف، يخشى الله ويخشى عذابه، هذا هو المؤمن، وقد شبهه النبي صلى الله عليه وسلم بالفرس المعقود في مكان ما، فمهما ذهب يعود إلى نفس مربطه والمكان الذي فيه حبله. أما منازعة الله فهي عين الوبال ومحل السفال، قيل للإمام أحمد رحمه الله: أطلبت هذا العلم لله؟ قال: الله عزيز، لا أستطيع أن أقول هذا، إنما أقول: هو شيء حببه الله إلي فصنعته. ولم يقل: إنني طلبت هذا العلم لله. هذه فائدة من هذه القصة، وهي أن الإنسان يراقب الله جلا وعلا، ولا يتكل على شيء من أمور الدنيا.

مكة المكرمة

مكة المكرمة قال الله جل وعلا: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران:96]، بكة بمعنى: مكة، وهي علم على مكان كما هو معلوم. ذكر الله جل وعلا في القرآن المدينة وسيأتي الخبر عنها، وذكر مكة بالباء، وبعض العلماء يقول: جرت لغة العرب أن الباء تحل بدل من الميم، يقولون: طين لازب بالباء ويقولون: طين لازم بالميم، وقال بعض العلماء: إن بكة اسم للموضع الذي فيه البيت، وقال آخرون: بكة اسم للمسجد، والصحيح إن شاء الله أن بكة اسم لمكة كلها.

خصائص مكة المكرمة

خصائص مكة المكرمة ومن خصائصها: أن الله جل وعلا حرمها يوم خلق السموات والأرض، وهذا من أعظم دلائل اصطفاء الله لتلك البقعة، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض)، ولم يحلها جل وعلا لأحد من الخلق إلا لنبيه صلى الله عليه وسلم ساعة من نهار، وذلك في يوم الفتح، ولما انتهى الفتح ردها الله جل وعلا حراماً. ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (فمن أخبركم أن النبي قاتل فيها فأخبروه أن الله أحلها لنبيه ساعة من نهار). الأمر الثاني: حرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم في خبره عن الله أنه لا يعضد شوكها ولا ينفر صيدها ولا تأخذ لقطتها إلا لمعرف، فالإنسان إذا رأى أي شيئاً في مكة يتركه على ما هو عليه. من عظمتها عند الله أن الله جل وعلا أنه لم يبحها لأي أحد من الجبابرة عبر التاريخ كله، ولذلك حبس عنها الفيل. ورأى النبي صلى الله عليه وسلم كرامة الله له فقال: (إن الله حبس الفيل على مكة وسلط عليها محمداً وأصحابه)، ولما بركت القصواء وقال الصحابة: خلأت القصواء قال صلى الله عليه وسلم: (والله ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل). وأهل الفيل قدموا بالفيل يريدون مكة، وهم أبرهة وجيشه، وكانوا نصارى أهل كتاب، وكان القرشيون وثنيين، ومع ذلك نصر الله الوثنيين على أهل الكتاب لكرامة مكة، وإلا فالأصل أن أهل الكتاب أقرب إلى الملة من الوثنيين، كما في آية: {آلم * غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم:1 - 2]، لكن الله جل وعلا حبس الفيل عن مكة، فأينما يوجه يتوجه إلا إلى الكعبة فلا يستطيع، قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ} [الفيل:1 - 2]، وكلمة ضل في اللغة تأتي على ثلاث معان: تأتي ضد الهداية العامة التي هي هداية الإيمان، وهذا أكثر استعمال القرآن، ومنه قول الله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7]، وتأتي بمعنى: عدم إصابة هدف محدد، ومنه قول أبناء يعقوب عن أبيهم: {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يوسف:8]، لا يقصدون أن أباهم كان كافراً؛ لأنهم لو قالوا هذا لكفروا، لكنهم يقصدون أن أباهم ما أصاب الصواب في حبه ليوسف. وتأتي بمعنى: اضمحل وأصبح هباء، ومنه قول الله جل وعلا: {أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ} [الفيل:2]، وقوله سبحانه: {وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [السجدة:10]، أي: إذا ذبنا واضمحللنا في الأرض وذهبنا هباء منثورا هل سنعاد؟ المقصود: أن الله سلط عليهم الطير، وقد قلنا في درس سابق: إن الأصل في الطير أنه مصدر أمان فلا يوجد أحد يخوف بالطير، فلما أرادوا هدم أعظم مكان آمن وهو الكعبة سلط الله عليهم الخوف من حيث لا يحتسبون، فأظلتهم الطير وهم يعتقدون أنهم في أمن، إذ ليست ريحاً يخوفون بها، ولا كواسر وسباع ضواري تأكلهم، فلما اطمئوا بعث الله جل وعلا عليهم حجارة من سجيل. جعل الله جل وعلا في مكة بيته الحرام وهو أول بيت وضع للناس، ولا يوجد في الشرع بيت يطاف حوله إلا البيت العتيق، وسمي بالعتيق لأن الله جل وعلا أعتقه من الجبابرة أن يصلوا إليه. أخبر صلى الله عليه وسلم أن هذا البيت لا يسلط عليه كافر إلى قيام الساعة، ولهذا فإن الحملات الصليبية دخلت بيت المقدس ووصلت إلى أطراف الجزيرة واقتحمت الشام مع فضل الشام وما جاء فيه، لكن لم تستطع أي حملة صليبية أن تصل إلى مكة، ولن تستطيع إلى قيام الساعة؛ لأن مكة بيضة الإسلام، والنبي صلى الله عليه وسلم أخذ عهداً من ربه ألا يسلط على المسلمين من يستبيح بيضتهم فأعطاه الله جل وعلا هذا العهد، فلو جلبت أمم الأرض من أقطارها على أن يدخلوها فلن يستطيعوا أن يدخلوها إلى أن يؤذن بقيام الساعة فيأتيها ذو السويقتين من أرض الحبشة يهدمها ويقلعها حجراً حجراً، ويستخرج كنوزها أي: الكعبة. وبعد ذلك لا يطاف بالبيت، ولا يبقى على الأرض مسلم، ثم على هؤلاء وهم شرار الخلق تقوم الساعة. جعل الله جل وعلا في مكة بيته، وجعل شعائر عظمى منها المشعر الحرام، ومنى، والصفا، والمروة، ومقام إبراهيم كما قال الله: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران:97]. منع الله شرعاً أن يدخلها الكفار، قال الله جل وعلا: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28]، فلا يحل لأحد أن يدخل رجلاً مشركاً أياً كان -كتابياً أو غيره- إلى مكة، بخلاف المدينة فلا يوجد دليل شرعي على أن الكفار يمنعون من دخولها، لكن هذا رأي رآه ولاة الأمر وفقهم الله، وهو ألا يدخلها أحد غير المسلمين، والأمر إليهم، وإلا فلا يوجد مانع شرعي يمنع دخول أهل الكفر إلى المدينة؛ لأن أبا لؤلؤة المجوسي كان عابد نار وقتل عمر رضي الله عنه وكان يعمل حداداً داخل المدينة، وعمر رضي الله عنه لما بلغه أنا أبا لؤلؤة هو الذي قتله كان يعرف أنه مجوسي فقال: الحمد لله الذي لم يجعل موتي على يد مسلم، قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28]. جعل الله من خصائصها: أن الصلاة في مسجدها بمائة ألف صلاة ولا يوجد هذا إلا في المسجد الحرام، وجمهور العلماء على أن الصلاة في أي موطن في مكة بمائة ألف صلاة حتى في البيوت لأهل الأعذار، وأما المدينة فالصلاة في المسجد النبوي بألف صلاة فقط، وذلك دون الصلاة في أي مكان خارج المسجد، فخارج المسجد لا تحسب الصلاة بألف صلاة، واختلف الناس في ساحات المسجد الموجود الآن، والصواب أن الصلاة في ساحات المسجد بألف؛ لأن الفقهاء من الحنابلة يقولون: إن رحبة المسجد -أي: المحيطة به- لا تخلو من أحد حالين: إما أن تكون مسورة ولها أبواب فتلحق حكماً بالمسجد، وإن لم تكن مسورة وليس لها أبواب فلا تلحق بالمسجد. والساحات التي حول الحرم النبوي مسورة ولها أبواب، فالصواب أنها تلحق حكماً بالمسجد، لكن من أتى إليها فليدخل المسجد، فإذا ازدحمت صلى في الساحات كما يصلي الناس التراويح والأعياد في الساحات. أما السيئة فالمشهور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن السيئة في مكة بمائة ألف، لكن أكثر أهل العلم على خلاف هذا؛ لأن الله قال في آيات محكمات: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40]، فلا يرد محكم القرآن برأي ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، لكن السيئة فيها التغليظ كيفاً لا كماً، أي: لا يكثر عددها، لكن قد تغلظ كيفاً كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الزنا بحليلة الجار أعظم من الزنا بامرأة أخرى، وإن كان الكل حراماً. المقصود من هذا: أن مكة بلد الله الحرام الذي عظمه الله جل وعلا يوم خلق السموات والأرض. هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده، والله المستعان وعليه البلاغ وصلى الله على محمد وعلى آله.

§1/1