أعلام السيرة النبوية في القرن الثاني للهجرة

فاروق حمادة

مقدمة

مقدمة: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، محمد بن عبد الله وعلى آله الطيبين، وصحابته المنتجبين، ومن اهتدى بهديهم إلى يوم الدين، أما بعد: فإن السيرة النبوية العطرة، كانت على الدوام محلَّ اهتمام الأمة، ولاسيما في القرون الثلاثة الأُوَل؛ لأن صاحب السيرة قمة البشرية، وأسوة الإنسانية، ومحور مسيرتها إلى نهايتها. وقد تعلق الصحابة رضوان الله عليهم برسول الله صلى الله عليه وسلمتعلقاً كبيراً، فاستنارت به جنبات وجودهم ومكونات أفئدتهم، ولما التحق بالرفيق الأعلى وتوفاه الله إليه، شعروا وكأن الدنيا أظلمت عليهم، فعاشوا النموذج الأسمى فيه عليه الصلاة والسلام حياتهم، إذ كان لكل واحد منهم معه موقف بل مواقف، ورووا أيامه الغراء لأبنائهم، وورثوها لهم، أعلاقاً نفيسة تصان، ودرراً غالية تحفظ، في حنايا القلوب، وأعماق المشاعر والعقول، مناراً للأجيال، ومعالم هادية للحياة، وموازين عادلة للمسالك.. ولاسيما وأقباس من هذه السيرة يتلونها قرآناً في محاريبهم، ويتقربون به كلاماً قدسياً إلى ربهم آناء الليل وأطراف النهار، فتثور ذكرياتهم ويعيشون الماضي حاضر أيامهم.. ولهذا كانت تهب عليهم رياح الذكريات في غدوهم ورواحهم، ويَرَون ما حولهم فيذكِّرهم كل شيء بأيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيحرصون حرصاً شديداً على تدوين تلك اللحظات النبوية المضيئة، والمشاهد الشريفة، ويشجع الآباء أبناءهم على حفظها وروايتها للآتين، والاعتزاز بها في العالمين. فعبد الله بن الزبير، يرتمي في أحضان والده حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويمدّ

يده إلى جراحة غائرة في عاتقه فيسأله عن هذه الجراحة، فتعود به الذكرى إلى أيام خلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلمفي نسق الزمن، ولكنها حاضرة في القلب والعقل والإحساس، فيحدث ابنه عنها، ويتحفظها عبد الله ويرويها لمن بعده بانتماء وافتخار. وكذلك كانت الأحداث من مثل: عبد الله بن محمد بن عقيل وأقرانه يأتون جابر بن عبد الله الأنصاري - وكان له مع رسول الله صلى الله عليه وسلمأيام ومواقف إيمانية - فيسألونه عن سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأيامه فيكتبونها. وكان علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب يقول: كنا نعلَّم مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلموسراياه كما نعلَّم السورة من القرآن. وكان إسماعيل بن محمد بن سعد يقول: كان أبي يعلمنا مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلمويعدّها علينا، وسراياه، ويقول: يا بنيَّ هذه مآثر آبائكم فلا تضيعوا ذكرها (1) . وهكذا كان الجيل الأول في حرصه على تبليغ مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والجيل التابع من الحرص على تلقيها حتى أوشك القرن الأول على الانصرام، وأصبح عدد جيل الصحابة قليلاً جداً بل هو معدود، لأنهم تفرقوا في الأمصار.. وقبل أن ينقرضوا قيض الله من أبنائهم، وأتباعهم جيلاً، كان منهم صفوة أولت هذه المفاخر عنايتها، وهذه السيرة أهميتها، وكان في طليعة هذا الجيل، ومن هذه الصفوة: أبان بن الخليفة الراشد عثمان بن عفان المتوفى في نهاية القرن الأول، وكان قد دون قسماً من السيرة وصحَّحها (2) .

_ (1) انظر الجامع لآداب الراوي وأخلاق السامع للخطيب البغدادي 2/195. (2) انظر مصادر السيرة النبوية وتقويمها ص: 67.

وعروة بن الزبير بن العوام المتوفى في نهاية القرن الأول نحو 94هـ، وقد جمع مختارات هامة في المغازي، حملت اسمه وسميت بمغازي عروة، وتناقلتها الأجيال في حلقات الدرس بعده. ومنهم: عامر بن شراحيل الشعبي المتوفى بعد المائة الأولى بقليل، وقد روى عن جمع غفير من الصحابة، إذ أدرك منهم نحواً من خمسمائة وكان طلاّبة للعلم، غير قنوع بالقليل من المعرفة، فأَوْلى السيرة والمغازي قسطاً من اهتمامه تلقياً وتعليماً. قال عبد الملك بن عمير: مرّ عبد الله بن عمر بالشعبي وهو يقرأ المغازي، فقال: كأن هذا كان شاهداً معنا، ولهو أحفظ لها مني وأعلم (1) . ومن هؤلاء: وهب بن منبه اليماني الصنعاني المتوفى بُعيد المائة الأولى، وكانت له عناية بالكتب السوالف مع السيرة النبوية. فكان في نهاية القرن الأول للسيرة النبوية والمغازي حلقات درس خاصة زكاها وقوّاها عمل الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز الذي كانت خلافته على رأس المائة الأولى، وكان العمران قد استبحر، واتسع الناس، وأقبلوا على الدنيا وأَطلت أفكار غريبة، فأراد أن يجدد في قلوب المسلمين الصلة بالسيرة النبوية العطرة. فكتب إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم يأمره: انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو سنة ماضية، أو حديث عمرة فاكتبه، فإني خفت دُروس العلم وذهاب العلماء (2) . ولتفشوا العلم، ولتجلسوا حتى يُعَلَّم من لا

_ (1) انظر سير أعلام النبلاء 4/302. (2) انظره في طبقات ابن سعد 8/480، وصحيح البخاري العلم، باب كيف يقبض العلم 1/194، وتقييد العلم للخطيب ص: 105-106.

يعلم، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرّاً (1) . وقد أخذ درس السيرة النبوية في القرن الثاني، والتصنيف فيها مرحلة جديدة بدأت بحلق المساجد، ووضع مصنفات أو مكتوبات صغيرة، وبدأ رجال يقبلون على هذا الموضوع، وبدأ ينمو مع الأيام حتى استوى علم السيرة والتأليف فيها وكمل مع نهاية القرن الثاني. وقد كان ذلك من خلال أربعة أدوار، ولكل دور ملامحه وخصائصه. فأردت أن أتتبع هذه الأدوار، واحداً بعد آخر، وأذكر أبرز رجاله، ومصنفاته وأبين مكانة هؤلاء المصنفين وتأثيرهم في التصنيف في السيرة، ومناهجهم في مصنفاتهم متتبعاً ذلك من خلال المصادر الأصلية. ولا أذكر إلا من رأيت من خلال المصادر أنه من دارسي هذا العلم مع التدليل على ذلك دون تقليد لأحد من الدارسين قبلي وبخاصة دارسو التاريخ من المعاصرين؛ لأن هذا العلم يقوم أساساً على الإسناد، وهو صناعة خاصة بالمحدثين ودارسي السنة، وله مفاهيمه التي لا يدرك مغزاها من لم يتمكن منها. مع ثنائنا الجميل وعرفاننا لكثير من الدارسين الذين كتبوا في هذا الموضوع أو قريب منه. وحتى لا أكثر الإحالات على النصوص وأطيل الحواشي، فسأذكر مصادر تراجم الأعلام التي وقفت عليها وأفدت منها، وفيها جميع النصوص المقتبسة التي بنيت عليها هذا البحث.

_ (1) انظره معلقاً في صحيح البخاري: كتاب العلم، باب كيف يقبض العلم 1/194.

الدور الأول

الدور الأول: بدأ القرن الثاني وانتشر العلماء، بتأثير التوجيه السديد، الذي دفع عمر ابن عبد العزيز العلماء إليه، في المساجد والأصقاع فكانوا يشيعون السنة والسيرة العطرة، ويعلمونها، واستدعى ذلك أَنْ تُمَيَّز السيرة بمكتوبات أكثر نضجاً من مدونات الجيل السابق. وتميزت نصوصها عن نصوص السنة بشكل أوضح، وأصبح الناس يذكرون رواداً لهم شأن في هذا الميدان في طليعتهم: (1) عاصم بن عمر بن قتادة، (2) وشرحبيل بن سعد، (3) ومحمد بن مسلم ابن شهاب الزهري، (4) ويزيد بن رومان، (5) وأبو محمد عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري. 1- أما عاصم فهو ابن عمر بن قتادة بن النعمان أبو عمر الظفري المدني الأنصاري المتوفى سنة 120هـ (1) . أحد العلماء، كان جدّه من فضلاء الصحابة، وهو الذي رد النبي صلى الله عليه وسلمعينه بعد أن قلعت فعادت بإذن الله كما كانت. تلقى العلم عن أنس بن مالك، وجابر بن عبد الله، ومحمود بن لبيد، وجدّته رميثة ولها صحبة، وأبيه عمر بن قتادة والحسن بن محمد بن الحنفية وعلي بن الحسين وغيرهم. وروى عنه: بكير بن عبد الله بن الأشج، وزيد بن أسلم، وعمارة بن غزية، وابنه الفضل بن عاصم، ومحمد بن إسحق بن يسار، وغيرهم. قال محمد بن سعد: كانت له رواية للعلم، وعلم بالسيرة، ومغازي رسول الله صلى الله عليه وسلموكان ثقة كثير الحديث عالماً، وفد على عمر بن عبد العزيز في

_ (1) انظر ترجمته في: طبقات خليفة ص: 258، وتاريخ الفسوي 1/422، والجرح والتعديل 6/346، وتهذيب الكمال 13/528، وسير النبلاء 5/240، وتهذيب التهذيب 5/53.

خلافته في دَين لزمه فقضاه عنه عمر، وأمر له بعد ذلك بمعونة، وأمره أن يجلس في مسجد دمشق، فيحدِّث الناس بمغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومناقب أصحابه ففعل، ثم رجع إلى المدينة، فلم يزل بها حتى توفي. ولولا علم عمر وهو العالم المجتهد بمكانة هذا الرجل في هذا الميدان، لما طلب منه ذلك، وأقعده هذا المقعد، ولعله رجع إلى المدينة بعد وفاة عمر، وإليه يعود قسم غير قليل من روايات السير والمغازي من رواتها ومصنفاتها. وقد وثقه غير واحد من الأئمة، وأخرج حديثه الجماعة، قال الذهبي في ((سير أعلام النبلاء)) : ((كان عارفاً بالمغازي، يعتمد عليه ابن إسحق كثيراً)) . وإن كنا لانملك نصّاً خاصاً منفرداً عن عاصم بن عمر بن قتادة، إلا أننا من خلال ما دخل الكتب من حديثه عن المغازي وبخاصة كتاب تلميذه ابن إسحق الذي جعله أحد ركائزه الأساسية يتبين لنا أن عاصم بن عمر يذكر أخباره أحياناً بالأسانيد، وأحياناً بدون أسانيد، وأحياناً يذكر واحداً من شيوخه ويرسل عنه الحديث، كالزهري. ويقرنه في كثير من النقول مع غيره من شيوخه ورواته: مثل عبد الله بن أبي بكر، ومحمد بن يحيى بن حبان والزهري، ويزيد بن رومان، وغيرهم، وفي كتاب ابن إسحق نصوص كثيرة ومطولة عنه كما قال الذهبي.. ويحسن في دراسة معمقة عنه أن تُجمع نصوص ما ذُكر منها بالأسانيد أو بغيرها وتدرس الأسانيد والنصوص، وتُقابَلَ بغيرها، وينظر فيما اعتمده أهل هذا العلم من نصوصه، وما موقفهم من هذه النصوص إذا خالفت غيرها؟ 2- شُرَحْبيل بن سعد أبو سعد الخطمي المدني مولى الأنصار المتوفى

123هـ (1) . تابعي روى عن جابر بن عبد الله، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وأبي رافع، وأبي سعيد الخدري، وأبي هريرة وعويم بن ساعدة، والحسن بن علي. روى عنه مالك وكنى عنه، وكثيرون. قال محمد بن سعد: ((كان شيخاً قديماً، روى عن زيد بن ثابت، وأبي هريرة، وعامة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبقي إلى آخر الزمان حتى اختلط، واحتاج حاجة شديدة، وله أحاديث، وليس يُحْتج به)) . قال علي بن المديني: قلت لسفيان بن عيينة: كان شرحبيل بن سعد يفتي؟ قال: نعم، ولم يكن أحد أعلم بالمغازي والبدريين منه، فاحتاج، فكأنهم اتهموه، وكانوا يخافون إذا جاء إلى الرجل يطلب منه شيئاً، فلم يُعْطِه أن يقول له: لم يشهد أبوك بدراً. وقال ابن أبي حاتم: كان عالماً بالمغازي. قال ابن عدي: ولشرحبيل بن سعد أحاديث وليس بالكثير، وفي عامة مايرويه إنكار، على أنه قد حدّث عنه جماعة من أهل المدينة من أئمتهم، وغيرهم، إلا مالكاً، فإنه كره الرواية عنه، وكنى عن اسمه، وهو إلى الضعف أقرب. وقد عاب يحيى القطان على ابن إسحق عدم روايته عن شرحبيل. وقد أخرج له ابن حبان، وابن خزيمة في صحيحيهما، وأبو داود، وابن ماجه في السنن، والبخاري في الأدب المفرد. وبقيت روايات شرحبيل، -على إمامته في هذا الميدان وتخصصه فيه-، محدودة، وأقل من غيره، وانظر من رواياته طبقات ابن سعد (1/237) من

_ (1) ترجمته في طبقات ابن سعد 5/310، والجرح والتعديل 4/338، والكامل لابن عدي 4/41، وتهذيب الكمال 12: 415، وميزان الاعتدال 2/266، وتهذيب التهذيب4/320.

طريق يحيى بن محمد الجاري عن مجمع بن يعقوب عنه. 3- الزهري محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب القرشي الزهري، أبو بكر المخزومي المتوفى 124هـ (1) . علم الأعلام، وعالم الحجاز والشام، روى عن بعض الصحابة وعن جمع كبير من التابعين وكبارهم. وروى عنه جمع غفير من الأعلام، وحديثه ملأ الكتب والدواوين قال ابن منجويه: رأى عشرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أحفظ أهل زمانه، وأحسنهم سياقاً لمتون الأخبار، وكان فقيهاً فاضلاً. قال محمد بن سعد: قالوا: وكان الزهري ثقة كثير الحديث، والعلم والرواية فقيهاً جامعاً. قال الليث بن سعد: قلت لابن شهاب: يا أبا بكر لو وضعت للناس هذه الكتب ودونتها فتفرغت، فقال: ما نشر أحد من الناس هذا العلم نشري، وبَذَلَه بذلي. وروايات ابن شهاب للسيرة النبوية ملأت الكتب كذلك من عصره وما تلاه، فابن إسحق تلميذُه أكثرَ عنه، وكل مَنْ صَنَّف في السيرة، أو روى، احتاج إليه. ومِنْ تَتَبُّع نصوصه نجد أن الزهري في سرده للسيرة يستعمل الإسناد أحياناً أي المرفوع المتصل، وأحياناً يرسل، وأحياناً يسوق الخبر بأسلوبه دون الاعتماد على أحد من الرواة، ولعل هذا راجع إلى طبيعة الموضوع وسياقه

_ (1) ترجمته في جميع كتب التراجم والأعلام ومن المصادر: طبقات ابن سعد 4/126 تاريخ ابن عساكر وقد فصلت ترجمته وطبعت بتحقيق شكر الله بن نعمة الله القوجاني 1982، تهذيب الكمال 26/419 وإحالاته، وسير أعلام النبلاء 5/326، وتهذيب التهذيب 9/445.

كقصة. ويمكنني أن أقول هنا إنه وأقرانه بعمله هذا- أي بإسقاط الإسناد وسياق الأخبار دون إسنادها للرواة- قد مهدوا الطريق لتلميذهم محمد بن إسحق ومن بعده كأبي معشر، والواقدي أن يتجاوزوا الإسناد في كثير من أحداث السيرة وأخبارها، ولا أحتاج إلى التمثيل وذكر الصفحات؛ لأن ذلك كثير، ولكن هذه النصوص الكثيرة الواردة تدعونا إلى التساؤل، هل جمع الزهري مصنفاً في السيرة أو كتاباً فيها؟ لقد طلب عمر بن عبد العزيز من الزهري وأضرابه أن يجمعوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلمفهل شملت مكتوبات الزهري شيئاً من فصول السيرة أو الغزوات؟ لقد ذكر السهيلي في "الروض الأنف" (1) قوله: (وقع في سير الزهري أن بحيرى كان حبراً من يهود تيماء ... ) ويقول في خبر نكاح النبي صلى الله عليه وسلممن خديجة (2) : (وذكر الزهري في سيره، وهي أول سيرة ألفت في الإسلام ... ) . ومن هذين النصين يتبين أن سير الزهري لم يقتصر على المغازي، بل ذكر فيه الفترة المكية التي تشمل حياة النبي صلى الله عليه وسلمقبل البعثة. وكنموذج من المغازي يقول في غزوة بدر؛ عند قوله (3) : لقد ارتقيت مرتقى صعباً يارُوَيْعي الغنم، يعارض وما وقع في سير ابن شهاب، ومغازي ابن عقبة، أن ابن مسعود وجده جالساً لا يتحرك.

_ (1) انظر 1/205. (2) انظر 1/214. (3) انظر 1/49.

وقد ذكر السخاوي كتاب «مشاهد النبي صلى الله عليه وسلم» ، رواه عنه يونس بن يزيد الأيلي المتوفى 159هـ، وهو من المشهورين بالرواية عنه (1) . كما ذُكِر له كتاب المغازي يرويه عنه الحجاج بن أبي منيع المتوفى 216هـ (2) قال محمد بن يحيى الذهلي في ترجمة عبيد الله بن أبي زياد الرّصافي: لم أعلم رواية غير ابن ابنه يقال له: حجاج بن أبي منيع، أخرجه إلى جزء من أحاديث الزهري، فنظرت فيها فوجدتها صحاحاً، فلم أكتب منها إلا يسيراً. قال المزي في ترجمة حجاج: روى عن جدِّه عبيد الله بن أبي زياد الرصافي عن الزهري نسخة كبيرة، وأشار إلى تعليق البخاري له في الصحيح (3) . ومهما يكن من أمر روايات الزهري فهو إمام هذا العلم بلا منازع. وأما زعم من زعم أنه أخرج مغازي الزهري من مصنف عبد الرزاق فلا دليل عليه، ولا يثبت عند البحث والتمحيص، وليس هذا مكان تفنيده، ويستحق ذلك. 4- يزيد بن رومان الأسدي، أبو روح المدني، مولى آل الزبير التابعي المتوفى 130هـ (4) .

_ (1) انظر تذكرة الحفاظ 1/162، وتهذيب التهذيب 11/450، والإعلان بالتوبيخ ص: 88 ومصادر السيرة النبوية وتقويمها ص: 94. (2) انظر الإعلان بالتوبيخ ص: 88. (3) انظر تهذيب الكمال 5/460. (4) انظر ترجمته في: طبقات ابن سعد القسم المتمم لتابعي المدينة ص: 310، والتاريخ الكبير للبخاري 8 رقم 3207، والجرح والتعديل9/رقم: 1098 والتمهيد 23/31، ووفيات الأعيان 6/277، وتهذيب الكمال 32/122، وأسماء شيوخ مالك لابن خلفون ص: 313 وتهذيب التهذيب 11/325.

روى عن أنس بن مالك، وابن الزبير، وعروة بن الزبير، وسالم بن عبد الله ابن عمر، وصالح بن خوّات بن جبير، والزهري وهو من أقرانه، وغيرهم. وروى عنه جمع غفير منهم: مالك بن أنس، ومحمد بن إسحق، ونافع بن أبي نعيم القارئ، وهشام بن عروة، وجمع من الجلَّة. وقد وثقه غير واحد، قال ابن سعد في الطبقات: «كان عالماً كثير الحديث ثقة، وأخرج له البخاري ومسلم، وغيرهما» . قال أبو عمر بن عبد البر: كان عالماً بالمغازي، مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ثقة. ولكن هل دَوَّن كتاباً في المغازي؟ لا يبعد أن يكون قد كتب شيئاً من ذلك، لكن لم يصلنا مستقلاً عنه شيء، ووصل عنه في الكتب قِسْطٌ لا بأس به من الروايات. أما عن رواياته في السير والمغازي فهي منثورة في المصنفات الأولى بدءاً من كتاب محمد بن إسحق وفيه نصوص كثيرة، ومن خلالها يتبين لنا أنَّ ما أثبته عنه ابن إسحق تارة يكون بإسناد متصل عن شيوخه مثل عروة بن الزبير عن الصحابة، وأحياناً يذكر الخبر دون إسناده لأحد من الرواة. وأحياناً يقرنه مع أقرانه ويسوق خبره معهم، وانظر: طبقات ابن سعد 1/280، 305، 216، 221. وبهذا يكون من الرواد الأوائل الذين أبرزوا روايات السيرة، ولم يخرج عن أضرابه في منهجه في رواية الأخبار. 5- عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، أبو محمد الأنصاري

المتوفى نحو 130هـ (1) . تابعي، روى عن أنس بن مالك، وعباد بن تميم الأنصاري، وعروة بن الزبير، وطائفة كبيرة. وروى عنه جماعة من الأئمة منهم: الزهري - وهو أكبر منه - وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، وحماد بن سلمة، ومعمر بن راشد، وابن جريج ومحمد بن إسحق.. وغيرهم. قال مالك بن أنس: «كان رجل صدق كثير الحديث» . وقال ابن سعد: «كان ثقة عالماً كثير الحديث» . وقد وثَّقه غير واحد من الأئمة، وقال أحمد بن حنبل: حديثه شفاء، وقد أخرج حديثَه الشيخان وبقية الستة. قال أبو عمر بن عبد البر: كان من أهل العلم، ثقة فقيهاً، محدّثاً حافظاً من ساكني المدينة وهو حجة فيما نقل وروى، وقال ابن حبان: كان من سادات الناس وفقهائهم، وقد كان لأسرته العلمية الشهيرة بالمدينة المنورة حلقة علمية في المسجد النبوي الشريف. حلاَّه الإمام الذهبي بقوله: الإمام الحافظ أبو محمد الأنصاري صاحب المغازي، وشيخ ابن إسحق. ولكن لم يصلنا كتاب مصنف قائم بنفسه عن عبد الله، إلا أن رواياته الكثيرة في كتب السيرة تعطينا عنه صورة جيدة من حيث كثرة مروياته

_ (1) ترجمته في: التاريخ الكبير 5/54، والجرح والتعديل 5/17، وطبقات ابن سعد القسم المتمم ص: 283، والتمهيد 17/155، ومشاهير علماء الأمصار ص: 68، وتهذيب الكمال 14/349، وسير أعلام النبلاء 5/314، وتهذيب التهذيب 5/164 وغيرها.

لنصوص السيرة عند ابن إسحق ومن تلاه من المصنفين، ممّا يجعلني أرجح أن يكون له مكتوبات ولاسيما أن أسرته وبخاصة أبوه هو الذي طلب منه عمر ابن عبد العزيز التدوين للسنة والحديث. ومِنْ تَتَبُّعِ نصوصه في كتاب ابن إسحق وتهذيبه لابن هشام ومصادر السيرة الأخرى، نجد أنه يسير التوجه العام فتارة يذكر أسانيده، وتارة يرسل الحديث، وتارة يقول ما استوعبه من مصادره التي استقى منها الأخبار دون أن يحيل على أحد. وقد كان بجانب هؤلاء أعلام كانت لهم مشاركات في السيرة النبوية جمعاً ورواية، والملامح العامة للمنهج عند هؤلاء جميعاً هي: 1- إن جميع رجال هذه الطبقة تابعيون، رووا عن الصحابة وعن كبار التابعين، أي: أن العهد قريب. 2- إن هؤلاء الرواة تعددت مصادرهم واتسعت نظراً لاتصالهم بالصحابة وأبناء الصحابة، وكانوا يستقون منهم الأخبار، ولهذا نجد مخارج الروايات متعددة. 3- هؤلاء الرجال كلهم مدنيون، والمدينة كانت مهبط الوحي، ومنطلق الغزو وميدان السيرة، ومعرفتهم بأهل المدينة وأسرها كبيرة ـ وهم منهم ـ تعطي الدقة والاطلاع. 4- لم يصلنا كتاب مدوّن لنعرف بدقة كيفية جمعهم منهجاً ومضموناً. 5- نلاحظ من خلال النصوص الواردة عن هؤلاء أنهم أحياناً يذكرون الأسانيد، وأحياناً يتجاوزونها، وذلك نظراً لشيوع هذه الأخبار وكثرة الناقلين لها -والله أعلم-.

6ـ يظهر لي من خلال النصوص الواردة أنه كان لدى هؤلاء الرواد حرص شديد على تقصي أخبار السيرة والإحاطة بها. 7ـ على يد هؤلاء - وكانوا في الربع الأول من القرن الثاني- قام علم السيرة وجمع رواياتها، وكوَّنوا مدرسة نهضت بهذا الأمر حتى علت به وبقي مع الأيام كما وضعوه، وجاء بعدهم الدور الثاني من القرن الثاني.

الدور الثاني

الدور الثاني: قام في الطبقة الثانية من القرن الثاني، في بناء علم السيرة مجموعة من الأعلام وفي طليعتهم: (1) موسى بن عقبة، (2) ومجالد بن سعيد، (3) وسليمان التيمي، (4) ومحمد بن إسحق، (5) ومعمر بن راشد اليماني. 1- أما موسى بن عقبة فهو ابن أبي عياش القرشي الأسدي مولاهم، أبو محمد المدني المتوفى نحو 141هـ (1) . أدرك أنس بن مالك، وعبد الله بن عمر وسهل بن سعد، وأم خالد بنت سعيد بن العاص ـ ولها صحبة ـ ويقال: كان مولاها، وهو من صغار التابعين. وقد روى العلم عن جمع من التابعين مثل: علقمة بن وقاص الليثيّ، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، وسالم بن عبد الله بن عمر، والأعرج، ونافع بن جبير، وعروة بن الزبير، وعكرمة والزهري، وأبي الزناد، وغيرهم كثير. وقد روى عنه خلق كثير منهم: بكير بن عبد الله الأشج -مع تقدمه- وشعبة، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وابن جريج، ومالك، والسفيانان، وأبو إسحق الفزاري، ومحمد بن فليح، وابن المبارك، وغيرهم. وهو ثقة جليل حافظ إمام أثنى عليه الكبار: مالك بن أنس، وأحمد بن حنبل، وابن معين، وابن سعد وغيرهم. وكان من أسرة علم، قال الواقدي: كان لإبراهيم، وموسى، ومحمد بني عقبة حلقة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا كلهم فقهاء محدّثين، وكان

_ (1) ترجمته في: طبقات ابن سعد؛ القسم المتمم ص: 340، الجرح والتعديل 8/154، المعرفة والتاريخ للفسوي 3/32، 317، تهذيب الكمال للمزي 29/119 سير أعلام النبلاء 6/116، أسماء شيوخ مالك لابن خلفون ص: 177، تهذيب التهذيب 10/306، تذكرة الحفاظ 1/148 وغيرها.

موسى يفتي. وقال مصعب الزبيري: لهم هيبة وعلم. كتب موسى المغازي وتتبعها وأتقنها، وسبب ذلك ما ذكره إبراهيم بن المنذر قال: حدّثنا سفيان بن عيينة، قال كان بالمدينة شيخ يقال له: شُرَحبيل أبو سعد، وكان من أعلم الناس بالمغازي، فاتهموه أن يكون يجعل لمن لا سابقة له سابقة، وكان قد احتاج فأسقطوا مغازيه، وعلمه. قال إبراهيم: فذكرت هذا لمحمد بن طلحة بن الطويل ولم يكن أحد أعلم بالمغازي منه فقال لي: كان شرحبيل بن سعد عالماً بالمغازي، فاتهموه أن يكون يُدْخِلُ فيهم من لم يشهد بدراً، ومَنْ قُتل يوم أحد، والهجرة، ومن لم يكن منهم وكان قد احتاج فسقط عند الناس، فسمع بذلك موسى بن عقبة فقال: وإن الناس قد اجترؤوا على هذا؟ فدبّ على كبر السن وقيد من شهد بدراً، وأحداً، ومن هاجر إلى أرض الحبشة، والمدينة وكتب ذلك. وقد غدا كتابه هذا محل ثقة العلماء وراج في حلقات الدرس، فكان مالك بن أنس إذا سئل عن المغازي عمن تكتب قال: عليكم بمغازي موسى ابن عقبة فإنه ثقة، وفي رواية: عليكم بمغازي الرجل الصالح موسى بن عقبة، فإنها أصح المغازي. وسبب ثناء مالك عليها يوضحه ما جاء عنه في قوله: عليكم بمغازي موسى بن عقبة، فإنه رجل ثقة طلبها على كبر السن ليقيد من شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكثر كما كثر غيره. قلت: هو يعرض بعمل محمد بن إسحق. وبقي العلماء عبر العصور يشيدون به ويشيرون إليه، ومن ذلك قول علي ابن المديني، قال لي الدراوردي؛ قل ليوسف السمتي: يتقي الله ويرد كتاب

موسى بن عقبة. قلت: أي أنه كان قد أعاره إياه لينسخه. وبالرجوع إلى طبقات ابن سعد نجده قد تتبعه حَذْوَ القُذَّةِ بالقُذَّةِ، وجعله أحد مصادره الأربعة الأساسية. واقتبس منه من الأوائل: يعقوب بن سفيان الفسوي في المعرفة والتاريخ من طريق محمد بن فليح. والبيهقي في دلائل النبوة انظر مثلاً 3/206، والاعتقاد ص: 339، 351 وغيرهما من كتبه وقد اقتبس نصوصاً طويلة. أما أبو عمر بن عبد البر في كتاب «الدرر في اختصار المغازي والسير» فقد قَدَّمه على غيره وقال: وأفردت هذا الكتاب لسائر خبره، ومبعثه وأوقاته صلى الله عليه وسلم، اختصرت ذلك من كتاب موسى بن عقبة، وكتاب ابن إسحق.. واعتمده ابن عساكر في تاريخه، واللالكائي والمتأخرون وكل من كتب في السيرة النبوية ناهيك بمصنفات الحديث التي تلته. وقد وصل الكتاب كاملاً إلى المتأخرين ونجد ابن سيد الناس في سيرته عيون الأثر يعتمده، ويضعه في جملة المصنفات التي أكثر الرجوع إليها ورواها بسنده، انظر 2/457، ونجد الذهبي يقول في تذكرة الحفاظ (1) : «قرأت مغازي موسى بالمزّة على أبي نصر الفارسي» . وقال في سير أعلام النبلاء (2) : ((الإمام الثقة الكبير، وكان بصيراً بالمغازي النبوية، ألفها في مجلد، فكان أول من صنف في ذلك)) . وقال تعليقاً على قول مالك: «ولم يكثر كما كثر غيره» . (قلت: هذا تعريض بابن إسحق، ولا ريب أن ابن إسحق كثر وطوّل

_ (1) انظر تذكرة الحفاظ 1/148. (2) سير أعلام النبلاء 6/115، 116.

بأنساب مستوفاة، اختصارها أملح، وبأشعار غير طائلة، حذفها أرجح، وبآثار لم تصح، مع أنه فاته شيء كثير من الصحيح لم يكن عنده، فكتابه محتاج إلى تنقيح رواية ما فاته. وأما مغازي موسى بن عقبة فهي في مجلد ليس بالكبير سمعناها، وغالبها صحيح، ومرسل جيد، ولكنها مختصرة تحتاج إلى زيادة بيان وتتمة) . وقد اقتبس الذهبي منها كثيراً في تاريخه الكبير، وفي قسم السيرة، وفي السيرة التي أفردها حسام الدين القدسي وطبعها، ومن خلال ذلك يتبيّن لنا طريقة سياقه للنصوص، فتارة يروي بإسناده موصولاً، وتارة يروي عن شيوخه وخاصة الزهري مرسلاً، وتارة يسوق الخبر دون أن ينسبه إلى أحد بعبارته حسب ما استقى من مصادره في الوسط الذي عاش فيه: المدينة المنورة، ولولا خشية الإطالة لذكرت نماذج، وهذا بذاته يحتاج لمبحث مستقل، ولكن من التتبع لنصوصه عند ابن سعد، وابن سيد الناس والذهبي وغيرهم، نجد تأكيد ما قاله الذهبي وهو إمام الصنعة أن مراسيله وما لخصه بجملته صحيح ومقبول. ولابد من الإشارة إلى أن موسى بن عقبة كان يريد أن يدقق في عمل رجلين معاصرين له، ويتجنب العثرات العلمية التي قصرا في تجنبها، وهما شُرَحبيل بن سعد، ومحمد بن إسحق، أما بالنسبة لشرحبيل فأراد أن يضبط من مصادر وثيقة ذوي السابقة في الإسلام الذين حضروا المشاهد، كل في مرتبته. وأما محمد بن إسحق فأراد أن يبتعد عن الاستطراد والتطويل والجمع والحشد الذي وقع فيه محمد بن إسحق، وقد نجح إلى حدٍّ كبير في ذلك

حسب ما شهد له به العلماء الذين عاصروه وجاؤوا بعده. وقد اختصر الكتاب واحتفظ بطرف منه ابن قاضي شهبة، وطبع، وحاول بعض الناس جمع نصوصه، والأمر ما زال فيه متسع. 2-مجالد بن سعيد بن عمير الهمداني، أبو عمر الكوفي المتوفى 144هـ (1) . علامة محدث، ولد في أيام جماعة من الصحابة، ولكن لم تتهيأ له الرواية عنهم، ويدرج كما قال الذهبي: في عداد صغار التابعين، وقد روى عن الشعبي وأبي الوداك، وقيس بن أبي حازم، ومرَّة الهمداني ... وغيرهم. وروى عنه الكبار: السفيانان، وشعبة، وجرير بن حازم، وحفص بن غياث، وعبد الله بن المبارك، وهشيم بن بشير، وحماد بن زيد، وأبو أسامة حماد بن أسامة، وابنه إسماعيل بن مجالد، وقد روى عنه إسماعيل بن أبي خالد، وهو أكبر منه، وهذا يدخل في رواية التابعين عن الأتباع. وقد وثقه بعضهم كالنسائي، وقال الفسوي: تكلم فيه الناس وهو صدوق. وقال العجلي: جائز الحديث، وقال البخاري: صدوق. وكان يحيى بن سعيد يضعفه، وابن مهدي لايروي له شيئاً، وكان ابن مهدي يقول: حديث مجالد عند الأحداث - يحيى بن سعيد، وأبي أسامة - ليس بشيء، ولكن حديث شعبة وحماد بن زيد، وهشيم وهؤلاء القدماء، يعني أنه تغيَّر حِفْظُه في آخر عمره. وقال ابن عدي: «ومجالد له عن الشعبي

_ (1) انظر ترجمته في: طبقات ابن سعد 6/349، والتاريخ الكبير للبخاري 8/رقم: 1950، والجرح والتعديل 8/رقم: 1653 والمجروحين لابن حبان 3/10، والكامل لابن عدي 6/420، وتهذيب الكمال 27/219، وسير أعلام النبلاء 6/286، وتهذيب التهذيب 10/39، وتقريب التهذيب ص:605.

عن جابر أحاديث صالحة، وعن غير جابر من الصحابة أحاديث صالحة» . وجملة ما يرويه عن الشعبي، وقد روى عن غير الشعبي، ولكن أكثر روايته عنه وقال أحمد: يرفع حديثاً لا يرفعه الناس، وقد احتمله الناس. وقد أخرج له مسلم مقروناً، وأصحاب السنن. وبعد الفحص والدرس، حكم عليه الإمام الذهبي بقوله: مشهور، صاحب حديث على لين فيه. وحكم عليه الحافظ ابن حجر بقوله: ليس بالقوي، وقد تغير في آخر عمره. وقد وردت نصوص عديدة عن مجالد في السيرة النبوية في المصادر كما في طبقات ابن سعد 1/192 بواسطة عبد الله بن نمير الهمداني، 1/263 بواسطة الهيثم بن عدي الطائي. وقد نسب إليه كتاب في ذلك، وقد ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل بقوله: نا محمد بن إبراهيم بن شعيب، نا عمرو بن علي الصيرفي، قال: سمعت يحيى بن سعيد القطان يقول لعبد الله: أين تذهب؟ قال أذهب إلى وهب بن جرير أكتب السيرة عن مجالد، قال: تكتب كذباً كثيراً، ولو شئت أن يجعلها لي مجالد كلها عن الشعبي عن مسروق عن عبد الله فعل. وفي تهذيب الكمال وسير أعلام النبلاء، يقول: لعبيد الله، وفيهما: أكتب السيرة يعني عن أبيه عن مجالد. قلت: ووهب بن جرير بن حازم الأزدي البصري الحافظ المتوفى 206هـ إمام ثقة أخرج له الجماعة. وأبوه جرير بن حازم المتوفى 170هـ حافظ ثقة، في حديثه عن قتادة ضعف، وله أوهام إذا حدث عن حفظه، وقد أخرج له الجماعة. ومن هذا النص النفيس يتبين لنا أن مجالداً قد صنف كتاباً في السيرة،

وهذا الكتاب قد ضم المسند الموصول، والمرسل وغيرهما؛ لأن يحيى بن سعيد يقول: لو أردت أن يجعلها كلها مرفوعة فعل. وبهذا فهي مشابهة للتوجه العام عند موسى بن عقبة وغيره. 3- سليمان بن طرخان التيمي أبو المعتمر -ولم يكن من بني تيم وإنما نزل فيهم- البصري شيخ الإسلام المتوفى 143هـ (1) . أحد التابعين العُبَّاد الزهاد الحفاظ المتقين، روى عن أنس بن مالك وجمع من الأئمة التابعين الكبار، أي عثمان النهدي، وطاوس، والحسن، وثابت البناني وبكر بن عبد الله المزني، وغيرهم. وروى عنه جمع من الأئمة، ومنهم شيخه أبو إسحق السبيعي، والثوري، وشعبة وابن علية، وحماد بن سلمة، وابن عيينة، وهشيم بن بشير، وأبو زيد الأنصاري وغيرهم. قال شعبة: ما رأيت أحداً أصدق من سليمان التيمي، كان إذا حَدَّث عن النبي صلى الله عليه وسلمتغيَّر لونه. وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، وكان من العباد المجتهدين، وكان يصلي الليل كله يصلي الغداة بوضوء العشاء الآخرة، وكان هو وابنه معتمر يدوران الليل على المساجد، فيصليان مرة في هذا المسجد، ومرة في هذا المسجد حتى يصبحا، وقد وثقه غير واحد من الأئمة، وأخرج حديثه الستة. وقد صنف سليمان التيمي كتاباً في السيرة النبوية، رواه عنه ابنه معتمر، وقد حمله عن معتمر، محمد بن عبد الأعلى الصنعاني.

_ (1) ترجمته قي طبقات ابن سعد 7/252، وتاريخ البخاري الكبير 4/ رقم 1828، والجرح والتعديل 4/رقم 539، وتهذيب الكمال 12/5. وسير أعلام النبلاء 6/195، وتذكرة الحفاظ 1/150، وتهذيب التهذيب 4/201. وحلية الأولياء 3/31 وغيرها.

ومعتمر بن سليمان من الثقات توفي سنة 182?، روى عنه الثوري، وهو أكبر منه، وابن المبارك وهو من أقرانه، ورى عنه الجَمّ الغفير من الأئمة، ووثقه غير واحد من الأئمة: ابن معين، وابن سعد، وأبو حاتم والعجلي، وغيرهم. وأما محمد بن عبد الأعلى الصنعاني المتوفى 245? فهو ثقة أخرج حديثه مسلم إذ روى عنه خمسة وعشرين حديثاً. والنسائي، وقال كتبنا عنه وأثنى عليه خيراً وأخرج له الترمذي، وأبو داود، في كتاب القدر وابن ماجه وغيرهم. وقد روي كتاب التيمي من غير طريقه كما يتبين من المنقول وهذا الكتاب قد وصل إلى الأعصر المتأخرة، إذ نجد محمد بن أحمد المالكي الأندلسي قد ذكره في الجزء الذي جمعه في تسمية ما ورد به الخطيب إلى دمشق من الكتب التي رواها، فقال: مغازي سليمان التيمي (1) . ووصلت روايته إلى ابن خير الإشبيلي المتوفى 575هـ فهو ضمن مروياته وسماه سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) . ونجده عند معاصره الحافظ أبي القاسم السهيلي المتوفى 581هـ في كتاب «الروض الأنف» (3) «وسماه: السير» . واقتبس منه ابن قيم الجوزية في زاد المعاد (4) وسماه: المغازي. واستفاد منه الإمام الذهبي في السيرة أخباراً عديدة منها بالأسانيد ومنها

_ (1) انظر جونة العطار للسيد أحمد بن الصديق، مرقون بالآلة، خاص 2/72. (2) انظر فهرسة ابن خير ص: 231. (3) انظر 1/271، 273، 2/48، 53، 177 وغيرها. (4) انظر 3/600.

بغير أسانيد (1) . وكذلك الحافظ ابن حجر في فتح الباري (2) ويسميه تارة بالمغازي، وتارة بالسيرة. ومن المقتبسات يتبين أن هذا الكتاب فيه أخبار بدء الوحي، وأخبار المغازي ويذكر ذلك أحياناً بالأسانيد، وأحياناً يرسل ذلك إرسالاً، فهو موافق للخط العام في كتابه السير. ومما يجدر ذكره أن التيمي لم تذكر له رواية عن الزهري في قائمة شيوخه التي ساقها المزي. وكذلك ابن إسحق الذي كان معاصراً له كان بينهما نفرة، ولم يكن سليمان التيمي يرتضيه؛ ولهذا فرواية ابن إسحق عنه أو التيمي عن ابن إسحق مستبعدة، والتيمي أكبر، وهو أقدم وفاة وسناً. ويبدو - والله أعلم- أن هذه المغازي، أو السيرة كانت صغيرة محدودة ليس فيها توسع كثير في ذكر الأحداث وسياقها. 4- محمد بن إسحق بن يسار، أبو بكر القرشي المطلبي مولاهم المدني المتوفى 151هـ (3) . ولد سنة ثمانين، ورأى أنس بن مالك، وسعيد بن المسيب، وسالم بن عبد الله بن عمر، وطاف البلاد، وسمع من جمع كبير في مصر، والحجاز

_ (1) انظر ص: 81، 87، 159، 125، 148، 29. (2) انظر 1/23 و7/497 و8/29، 506، 13/274. (3) ترجمته في: طبقات ابن سعد 9/401 و7/321، والتاريخ الكبير للبخاري 1/رقم 61 والتاريخ الصغير 2/11، والجرح والتعديل 7/ رقم 1087، وثقات ابن حبان 7/380 والكامل لابن عدي 6/102، وتاريخ أبي زرعة الدمشقي ص: 537، وتاريخ بغداد 1/214، وتهذيب الكمال 24/ 405، وسير أعلام النبلاء 7/33، وميزان الاعتدال 3/468 وتذكرة الحفاظ 1/172، وتهذيب التهذيب 9/38 وغيرها، وقد طول ترجمته ابن سيد الناس في صدر كتابه عيون الأثر في فنون المغازي والسير، ومحّصها.

والعراق، والرّي وما بينها، ومنهم: أبوه، وعمه موسى بن يسار، وأبان بن عثمان، والأعرج ومحمد بن إبراهيم التيمي، ومكحول، ونافع العمري، وأبو سلمة بن عبد الرحمن والزهري، وعاصم بن عمر بن قتادة، وعبد الله بن أبي بكر بن حزم، ومحمد بن المنكدر، وطاوس. وحدَّث عنه شيخه يزيد بن أبي حبيب، ويحيى بن سعيد الأنصاري، -وهما من التابعين- وشعبة والثوري، والحمادان، وأبو عوانه، وهشيم، وسفيان بن عيينة، وخلقٌ كثير. كان ابن إسحق ومازال إمام المغازي والسير، وهو حافظ علامة، أحد من دار عليهم الحديث والإسناد، وقد أثنى عليه في علم المغازي والسير، غير واحد من شيوخه وأقرانه والأئمة عبر العصور. قال محمد مسلم بن شهاب الزهري، وقد سئل عن مغازيه، فقال: هذا أعلم الناس -يعني محمد بن إسحق- وروى حرملة عن الشافعي قال: من أراد أن يتبحر في المغازي فهو عيال على محمد بن إسحق. وقال شعبة: محمد بن إسحق أمير المؤمنين في الحديث. وجاء عن البخاري قوله: محمد بن إسحق ينبغي أن يكون عنده ألف حديث ينفرد بها لا يشاركه فيها أحد. قال ابن سعد في الطبقات: «كان محمد بن إسحق أول من جمع مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلموألَّفها، وكان يروي عن عاصم ابن عمر بن قتادة، ويزيد بن رومان، ومحمد بن إبراهيم، وغيرهم ويروي عن فاطمة بنت المنذر بن الزبير، وكانت امرأة هشام بن عروة، فقال: هو كان يدخل على امرأتي؟ كأنه أنكر ذلك» . وخرج من المدينة قديماً فلم يرو أحد منهم عنه غير إبراهيم بن سعد، وكان ابن إسحق خرج مع العباس بن محمد إلى الجزيرة، وأتى أبا جعفر

بالحيرة، فكتب له المغازي، فسمع منه أهل الكوفة بذلك السبب. وسمع منه أهل الجزيرة، وأتى الرّي فسمع منه أهل الري، فرواته في هذه البلدان أكثر ممن روى عنه من أهل المدينة. وكان كثير الحديث، وقد كتبت عنه العلماء، ومنهم من يستضعفه. قلت: وقد تكلم فيه مالك وهشام بن عروة كما تقدم، واتهم بغير نوع من البدع، ودافع عنه عدد من العلماء بدءاً بالبخاري. قال البخاري: ((والذي يذكر عن مالك في ابن إسحق لا يكاد يبين أمره، وكان إسماعيل بن أبي أويس من أتبع من رأينا لمالك، أخرج إلي كتب ابن إسحق عن أبيه في المغازي وغيرها فانتخبت منه كثيراً. ولم ينج كثير من الناس من كلام بعض الناس فيهم، نحوَ ما يذكر عن إبراهيم من كلامه في الشعبي، وكلام الشعبي في عكرمة، وفيمن كان قبلهم، وتناول بعضهم في العرض والنفس. ولم يلتفت أهل العلم في هذا النحو إلا ببيان وحجة، ولم تسقط عنه التهم إلا ببرهان ثابت وحجة، والكلام في هذا كثير)) ، (انتهى كلام البخاري) . وقال أبو زرعة الدمشقي: ومحمد بن إسحق رجل قد اجتمع الكبراء من أهل العلم على الأخذ عنه، منهم سفيان، وشعبة، وابن عيينة ... وروى عنه الأكابر: يزيد بن أبي حبيب وقد اختبره أهل الحديث فرأوا خيراً وصدقاً مع مدحة ابن شهاب له. وقد ذاكرت دحيماً قول مالك - يعني فيه - فرأى أن ذلك ليس للحديث، وإنما هو لأنه اتهمه بالقدر. وقد بحث ابن عدي في مروياته، وفتش في أحاديثه، وتقصى الأقوال فيه،

وقال: ولمحمد بن إسحق حديث كثير، وقد روى عنه أئمة الناس ... وقد روى المغازي عنه: إبراهيم بن سعد، وسلمة بن الفضل، ومحمد بن سلمة، ويحيى بن سعيد الأموي، وسعيد بن بزيع، وجرير بن حازم، وزياد البكائي وغيرهم. ثم قال ابن عدي: ولو لم يكن لمحمد بن إسحق من الفضل إلا أنه صرف الملوك عن كتب لا يحصل منها شيء فصرف أشغالهم حتى اشتغلوا بمغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومبتدأ الخلق، ومبعث النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه فضيلة لابن إسحق سبق بها. ثم بعده صنفها قوم آخرون، فلم يبلغوا مبلغ ابن إسحق منها. وقد فتشت أحاديثه الكثيرة، فلم أجد في أحاديثه ما يتهيأ أن يقطع عليه بالضعف وربما أخطأ أو وهم في الشيء بعد الشيء كما يخطئ غيره، ولم يتخلف في الرواية عنه الثقات والأئمة، وهو لا بأس به. لقد أخذ ابن إسحق زمام الزعامة في علم المغازي والسير، وسار به إلى يوم الدين فكل من جاء بعده كان عالة عليه كما يقول الشافعي. قال الذهبي في سير أعلام النبلاء: وهو أول من دون العلم بالمدينة، وذلك قبل مالك وذويه، وكان في العلم بحراً عجاجاً، ولكنه ليس بالمجود كما ينبغي. وقال الحافظ ابن حجر في تقريب التهذيب: إمام المغازي. ولهذا علق عنه البخاري في صحيحه، وروى له مسلم مقروناً بغيره، وأخرج له غيرهما. لقد بلغ ابن إسحق في تصنيفه الذروة في علم السيرة من حيث الحشد والجمع والتنقير ثم من حيث المنهج إذ بدأ بالمبعث وما قبله، ثم بالمغازي واحدة تلو أخرى ولهذا فقد انتشر مصنفه في عصره، وما تلاه في شرق الأرض وغربها، ودرسه الدارسون من نواح عديدة قديماً وحديثاً، وبقيت

سيرته عبر العصور أم المصنفات في هذا الباب، وإليها المرجع على الدوام، وإن كانت هنا انتقادات وملاحظات، ولقيت من العناية والرعاية مالم يلقه كتاب آخر في السيرة، بل أستطيع أن أقول: إن ما كتب من كتب السيرة بعده كان هالة حول هذا الكتاب. فابن سعد تلميذ الواقدي الذي جعل كتاب ابن إسحق موازياً لكتاب شيخه الواقدي، ومروراً بالأعلام بعد ابن سعد عبر القرون وإلى يومنا هذا، مما يؤكد كلمة ابن عدي أن هذه الفضيلة سبق بها ابن إسحاق، ولم يبلغ من بعده مبلغه. وإذا أردت أن ألمع إلى ومضات موجزة من منهجه في هذا الكتاب أقول: رغم أن الكتاب كاملاً لم يظهر حتى نستطيع الجزم بمنهجه، ولم يظهر منه إلا قطعة رغم بقائه متداولاً حتى الأعصر المتأخرة، إلا أنه من خلال النصوص التي أخذت عنه ومن خلال تهذيب ابن هشام يمكننا أن نبني عنه تصوراً منهجياً ربما يكون قريباً من الحقيقة، ومن هذا يظهر أنه قد قسم كتابه ثلاثة أقسام: المبتدأ، والمبعث، والمغازي، فالمبتدأ عالج فيه ما كان من أحداث ورسل ووقائع قبل الإسلام، واعتمد في هذا القسم بقسط غير قليل على وهب بن منبه، وكعب الأحبار، ومسلمة أهل الكتاب، وغيرهم. وذكر فيه بعض أخبار القبائل العربية، وهذا القسم فيه الأخبار المنقطعة والآثار، والإسناد طبعاً نادر، إن لم يكن معدوماً بعد مَنْ حدّثه بها، وسواء غابت هذه الأخبار أو حضرت لا تضر بصفة عامة، وهي تروى ولا تدخل في السيرة أو التشريع من قريب ولا بعيد. وأما القسم الثاني: وهو المبعث فيشمل حياة النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة إلى أن

فجأه الوحي، ثم إلى الهجرة، وفي هذا القسم يروي النصوص بأسانيده وأحياناً يرسل عن شيوخه، وأحياناً يسوق الخبر بلا إسناد، وله في ذلك تفردات. القسم الثالث: عرض الغزوات النبوية وحياته في المدينة بشكل عام إلى مرضه ووفاته صلى الله عليه وسلم. وكان يسلك في هذا القسم مسلك التقسيم للأحداث على السنن، ويبرز أسانيده ورواته بصفة عامة، وقد يرسل، أو يسوق الخبر دون إسناده لأحد، أو يجمع عدة أسانيد، ويسوق الخبر عنهم جميعاً مساقاًَ واحداً، وأحياناً يبهم شيخه في الخبر كأن يقول: حدثني من لا أتهم من أهل العلم، أو ذكر بعض آل فلان، أو بلغني عن فلان، أو حدثني بعض أصحابنا.. ومما يلاحظ أنه اعتمد على عدد من علماء السيرة؛ الزهري، عروة بن الزبير، وعاصم بن عمر بن قتادة، وعبد الله بن أبي بكر بن حزم.. وقد حاول ابن إسحق ربط الآيات القرآنية بأسباب نزولها، وكان يذكر الأشعار التي بلغته في مواضع الغزوات والفخر أو الهجاء. وبعد أن شاع الكتاب وذاع تعاورته العقول والأقلام، ومن أبرز من عُني بهذا الكتاب حتى نسب إليه هو عبد الملك بن هشام المتوفى 218هـ؛ إذ حاول تهذيب الكتاب وتشذيبه، أي أنه أرد أن يُقوم ما يراه في الكتاب من عوج ومن خلال كلامه نتبين المآخذ على ابن إسحق. قال ابن هشام: وتارك بعض ما ذكره ابن إسحق في هذا الكتاب مما لرسول الله صلى الله عليه وسلمذكر، ولا نزل فيه من القرآن شيء، وليس سبباً لشيء من هذا الكتاب، ولا تفسيراً له ولا شاهداً عليه لما ذكرت من الاختصار، وأشعاراً ذكرها لم أر أحداً من المعرفة بالشعر يعرفها، وأشياء بعضها يشنع الحديث به، وبعض يسوء بعض الناس ذكره.

وبعض لم يقرّ لنا البكائي بروايته، ومستقصٍ إن شاء الله تعالى، ما سوى ذلك منه بمبلغ الرواية والعلم به (1) . وقد لقي عمل ابن هشام هذا القبول والرضا، وبه عرفت سيرة ابن إسحق بل ونسب إلى ابن هشام. وتوالت الشروح والدراسات حول عمل ابن هشام هذا. قال الفلاس: سمعت يحيى بن سعيد يقول لعبيد الله: إلى أين تذهب؟ قال: أذهب إلى وهب بن جرير أكتب السيرة، قال الذهبي: كان وهب يرويها عن أبيه عن ابن إسحق، وأشار يحيى القطان إلى ما في السيرة من الواهي من الشعر ومن بعض الآثار المنقطعة المنكرة، فلو حذف منها ذلك لحسنت، وَثَمَّ أحاديث جمَّة في الصحاح والمسانيد مما يتعلق بالسيرة والمغازي ينبغي أن تُضمَّ إليها وتُرَتَّب، وقد فعل غالب هذا الإمام أبو بكر البيهقي في دلائل النبوة له (2) . قلت: وبهذا فلا يعدو كتاب البيهقي أن يكون مستخرجاً على كتاب ابن إسحق وهذا ظاهر فيه. ودون أن أمرّ على تأثير كتاب ابن إسحق ومغازيه فيمن جاء بعده أبدي ملاحظات حول أهمية كتاب ابن إسحق فأقول (3) : 1- إن ابن إسحق لم يلتزم بالإسناد في قسم من أخباره، ولم يضع شروطاً معينة لتلقي أخبار السيرة من رجال معينين، أو كيفية معينة، ولهذا كان كثير السؤال والتطلاب لأخبار السيرة والمغازي حتى اشتهر بذلك،

_ (1) انظر: السيرة لابن هشام 1/ 2. (2) انظر: سير أعلام النبلاء 7/52. (3) كتابنا مصادر السيرة النبوية وتقديمها ص: 96.

فكان يأتيه أبناء البيوتات والأسر ليحدثوه عن أمجاد آبائهم، ويحملون له في ذلك أشعاراً قيلت في المناسبات التي يتحدث عنها وبخاصة الغزوات، فيرويها له في كتابه، حتى جاء النقاد بعده، وقالوا: إن كثيراً من هذه الأشعار غير صحيح. واضطر ابن هشام وغيره من بعده لحذف كثير من هذه الأشعار والأخبار، ولكن ابن إسحق جمع الجزئيات مع الكليات، فأطال وأطال، ولهذا عرّض به مالك، وأثنى على موسى بن عقبة بأن عمله مختصر غير طويل كغيره، -أي ابن إسحق-. 2- إن سعة علم ابن إسحق وتطوافه في البلاد، وبحثه عن العلم، وتفوقه على أقرانه، واستناده إلى بيان مشرق، وقلم سيال، وكلمة وضاءة وتصوير بارع للأحداث جعلت عمله يحظى بالقبول عند جُلِّ معاصريه ومن جاء بعده، وسار مسير الشمس في الأرض، وقد أشاد بهذا غير واحد ممن اقتفى أثره، وانتحى نحوه. ومنهم الأديب البليغ، الكلاعي في كتابه "الاكتفاء في مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلموالثلاثة الخلفاء"، حين جعل اعتماده ابن إسحق دون الواقدي بقوله (1) : رأيته كثيراً ما يجري مع ابن إسحق، فاستغنيت عنه لفضل فصاحة ابن إسحق في الإيراد، وحسن بيانه الذي لا يعقل معه استحسان المعاد. وقد قام الخشني في شرح السيرة، وكذلك السهيلي، وهذا يدل على قوة النص الذي قدمه ابن إسحق. 3- وهذا يقودنا إلى الأمر الثالث في عمل ابن إسحق ألا وهو صياغة السيرة بتسلسل منهجي، وتتابع تاريخي، وكان عصره مبتكراً يدلف بالقارئ

_ (1) الاكتفاء 1/4.

أو المستمع من خبر إلى تابعه، ومن غزوة إلى أخرى فكانت السيرة النبوية من الولادة إلى الهجرة إلى الغزوات المصطفوية قد سلكت أمام القارئ في سلك واحد، وكأنه يراها رأي العين. والأمر الذي يجب أن يلاحظ في تأريخ علم السيرة النبوية أن منهجية ابن إسحق هي التي صبغت جميع المؤلفات في هذا العلم، وبقيت تقفو أثر ابن إسحق، وهذا شيء في غاية الأهمية والقيمة والقدر المتجدد لعمل ابن إسحق أبرزِ كاتبٍ في السيرة النبوية عبر العصور وهو من رجال القرن الثاني. 4- ولما لم يلتزم ابن إسحق الإسناد في كل أخبار السيرة، بل كان همُّه جمعَ أطراف الأخبار في الحدث الواحد وسوقها في كلياتها وجزئياتها مساقاً واحداً قاصداً إعطاء أكبر التفصيلات، هذا جعل بذلك السيرة التي صنفها في السيرة النبوية قصة متكاملة شاملة، قريبة للقارئ والمستمع، سهلة للفهم والتلقين والحفظ، وهذا سَهَّل لها القبول والانتشار في كل الأوساط العلمية المتخصصة وغير العلمية، وغدت في كل بيت. وقد حاول غير واحد أن يسلك مسلكه كما فعل الواقدي، وابن حبان وغيرهما من بعده، وهذا مما جعل عمل ابن إسحق عمدة لهذا العلم بوجه أو بآخر ولأجله قال ابن سيد الناس في صدر سيرته التي لقيت بدورها القبول والثناء: وعمدتنا فيما نورده من ذلك على محمد بن إسحق إذ هو العمدة في هذا الباب لنا ولغيرنا (1) . وخلاصة القول: فإن ابن إسحق ـ مهما قيل في نقده ـ قد ارتقى

_ (1) انظر عيون الأثر 1/54.

بالتصنيف في السيرة النبوية مرتقى رفيعاً، وخلد بعمله علماً عظيماً، وفتح باباً للخير كبيراً، وسبق الناس في هذا المهيع سبقاً مبيناً، وأرسى ركناً ركيناً بنى من جاء بعده عليه، ونحا نحوه فيما يهدف إليه، فرحمه الله رحمة واسعة. 5- معمر بن راشد الأزدي الجدَّاني البصري نزيل اليمن المتوفى 153هـ (1) . ولد نحو سنة خمس وتسعين، وطلب العلم وهو حدث وكان من أطلب أهل زمانه للعلم، وحدّث عن قتادة والزهري وعمرو بن دينار، وهمام بن منبه، وأبي إسحق السبيعي، وثابت البناني، ويحيى بن أبي كثير، وغيرهم من الكبار. وحدّث عنه طائفة من شيوخه أبو إسحق، وعمرو بن دينار، وحَدَّث عنه السفيانان وابن المبارك وابن علية، وهشام بن يوسف قاضي صنعاء، وعبد الرزاق بن هشام ومحمد بن كثير الصنعانيان، وخلق كثيرون. وقد وثقه جمع كثير، وشهدوا له بالحفظ والإتقان، والإمامة، قال ابن حبان في الثقات (2) : كان فقيهاً متقناً، حافظاً ورعاً. وقال قرينه ابن جريج (3) : عليكم بهذا الرجل - يعني معمراً -، فإنه لم يبق أحد من أهل زمانه أعلم منه. وحديثه في الكتب الستة وغيرها، وقال الإمام الذهبي: كان من أوعية العلم مع الصدق والتحري، والورع والجلالة، وحسن التصنيف.

_ (1) ترجمته في: طبقات ابن سعد 5/046، والتاريخ الكبير للبخاري 7/رقم 1631، والجرح والتعديل 8/1165، وثقات ابن حبان 7/484، وتهذيب الكمال 28/303، وسير أعلام النبلاء 7/5، وتذكرة الحفاظ 1/190، وتهذيب التهذيب 10/243 وغيرها. (2) الثقات 7/484. (3) الجرح والتعديل 8/ رقم 1165.

وحلاه بقوله (1) : الإمام الحافظ، شيخ الإسلام وقد صنف معمر كتابه: الجامع، وهو مشهور عنه، ومنقول. وقد ألحقه تلميذه عبد الرزاق بكتابه المصنف وهو مطبوع معه. وصنف كتاب المغازي، وقد ذكره له ابن النديم في كتابه الفهرست (2) . بقوله: من أصحاب السير والأحداث، وله من الكتب: كتاب المغازي. واقتبس منه ابن سعد في الطبقات (انظر مثلاً: 1/194و 4/27، 43) عن محمد بن حميد – وهو أبو سفيان المعمري – عنه. و (1/194، 225، 227، 258 و 3/313- 319 و 8/314) وغيرها، عن الواقدي عنه. و (1/241) عن عفان بن مسلم، عن معتمر بن سليمان عنه. وفي ترجمة الإمام الزهري في الجزء المتمم لتابعي المدينة: روى عن إسحاق ابن أبي إسرائيل، عن عبد؟ عنه. وعن سليمان بن حرب وعفان بن مسلم عن حماد بن زيد عنه. وقد ذكر أنه من الطبقة الأولى من المصنفين في الإسلام من المحدّثين. وقد احتفظ الإمام الطبري بعدة نصوص تتعلق بالسيرة النبوية، ولعلها منه (3) ، وجلها عن الزهري، ومنها ماهو بإسناد متصل، ومنها ماهو مرسل وقد اقتبس منه الحافظ الذهبي في السيرة النبوية (4) ، ففي خبر انشقاق القمر يروي عن قتادة عن أنس. وفي فصل: فيما ورد من هواتف الجان، وأقوال

_ (1) سير أعلام النبلاء 7/5. (2) انظر ص: 106. (3) انظر التاريخ 2/281، 305، 698، 433، 554، 620، 625. (4) انظر السيرة النبوية ص: 132، 158، 182.

الكهان يروي عن الزهري عن علي بن الحسين، مرسلا. وفي الإسراء ساقه عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها. ومن هذه النصوص يتبين لنا أن مصنف معمر فيه المتصل المرفوع، وفيه المرسل والمقطوع، وفيه كذلك ذكر الأخبار دون أسانيد وهو بذلك لم يخرج عن التوجه العام الذي كان يسود في كتابة السيرة النبوية في النصف الأول من القرن الثاني ويمكن أن نلاحظ على هذه الحقبة الملاحظات التالية: 1- إن المصنفين في السيرة في هذه الحقبة – وتمتد من نهاية الربع الأول من القرن الثاني تقريباً حتى تبلغ منتصف هذا القرن تقريباً - كلهم أئمة أعلام رغم ما قيل في مجالد بن سعيد، ومحمد بن إسحق، وهم مشهورون مذكورون في حلقات الدرس والعلم. 2- إن مصنفات هؤلاء الأعلام قد نقلت عنهم وكانت محل اهتمام اللاحقين عبر العصور وأصبحت محور التصنيف ومدار المصنفين في علم السيرة. 3- كان توجه جميع المصنفين في هذه الحقبة عدم الالتزام الصارم بالأسانيد في أخبار السيرة، ولكنها كانت حاضرة، وكان كل مصنف يروي ما بلغ علمه من مصادره التي يستقيها من أهل العلم وغيرهم. 4- بلغ التصنيف في السيرة مع علمين من أعلام هذه الحقبة، موسى بن عقبة ومحمد بن إسحق مكانة رفيعة، كادت تستوفي الموضوع.

الدور الثالث

الدور الثالث: وبعد أن استوى علم السيرة وتدوينها على ساقه تابعت طائفة أخرى المسيرة فتلقت ما دونته الطبقة السابقة، وأضافت إلى عملهم شيئاً جديداً قوّاه ونمّاه، ومن أبرز هؤلاء الأعلام: (1) محمد بن صالح بن دينار، (2) وأبو معشر السندي، (3) وعبد الملك بن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم. أما: 1- محمد بن صالح بن دينار أبو عبد الله المدني مولى عائشة بنت جزء أم عمر بن قتادة بن النعمان المتوفى 168هـ (1) . فقد رأى سعيد بن المسيب، وروى عن سعيد بن إبراهيم، وعاصم بن عمر بن قتادة ومحمد بن مسلم بن شهاب الزهري، ويزيد بن رومان وموسى ابن عقبة وجمع غيرهم وروى عنه الواقدي، وعبد الله بن مسلمة القعنبي، والدراوردي وغيرهم وثقه أحمد بن حنبل، وأبو داود، وابن حبان والعجلي وقال أبو حاتم الرازي: شيخ ليس بالقوي، ولا يعجبني حديثه، وضعفه الدارقطني. قال محمد بن سعد (2) : كان جيد العقل، قد لقي الناس، وعلم العلم والمغازي وقال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن أبي الزناد قال: قال لي أبي: إن أردت المغازي صحيحة، فعليك بمحمد بن صالح ابن دينار التمار، وكان ثقة قليل الحديث، توفي وهو ابن بضع وثمانين سنة،

_ (1) ترجمته في طبقات ابن سعد الجزء المتمم 446، تاريخ البخاري الكبير 1/117، والجرح والتعديل 7/278، ثقات ابن حبان 7/390 تهذيب الكمال 25/377، وميزان الاعتدال 3/581 وتهذيب التهذيب 9/225. (2) الطبقات الجزء المتمم 446-447.

وقد روى حديثه أصحاب السنن الأربعة وقد استفاد منه ابن سعد في طبقاته انظر 4/12، 13، 34، 37، و1/210، 216، 219، 221. وبالرجوع إلى تاريخ الطبري الذي استفاد من أكبر قدر من المصادر التي سبقته وجدت أنه اقتبس عدة نصوص عنه، منها: ما يتعلق بالوحي كما في 2/386، وفي التأريخ بالهجرة 2/390، وفي غزوة بدر 2/419، وفي غزوة بني قينقاع 2/480، وفي أخبار عمر 4/213، 220، وفي خبر غزوة ذات الصواري 4/288، وأخبار عثمان 4/359، وأخبار خروج الأشراف بفخ في عهد العباسيين 8/192، 193، 195، 198. ويبدو أن شأنه كان عظيماً في تَقَصِّي روايات السيرة وتدقيقها إذ يرجع إليه الواقدي ويسأله ويؤكد محمد بن صالح له الأخبار التي يرويها أو التي يسمعها. ويتبين ذلك مما روي عن الشعبي أن إسرافيل قرن برسول الله صلى الله عليه وسلمقبل أن يوحى إليه ثلاث سنوات قال الواقدي: فذكرت ذلك لمحمد بن صالح ابن دينار فقال: والله يابن أخي لقد سمعت عبد الله بن أبي بكر بن حزم، وعاصم بن عمر بن قتادة يحدثان في المسجد، ورجل عراقي يقول لهما هذا، فأنكراه جميعاً وقالا: ما سمعنا ولا علمنا إلا أن جبريل هو الذي قرن به، وكان يأتيه بالوحي من يوم نبئ إلى أن توفي صلى الله عليه وسلم. وفي طبقات ابن سعد 1/191، ذكر هذا الخبر بسنده إلى الشعبي ثم قال: فذكرت هذا الحديث لمحمد بن عمر فقال: ليس يعرف أهل العلم ببلدنا أن إسرافيل قرن بالنبي صلى الله عليه وسلم. وإن علماءهم، وأهل السيرة منهم يقولون: لم يقرن به غير جبريل من حين أنزل عليه الوحي إلى أن قبض صلى الله عليه وسلم. ومن هذا النص الهام يتبين أن الواقدي قد عدّ شيخه محمد بن صالح من

علماء المدينة ومن أهل السيرة. ويستفاد منه كذلك أن علم السيرة له علماؤه المشهورون به، منهم محمد ابن صالح بن دينار، وطبقة شيوخه عبد الله بن أبي بكر بن حزم، وعاصم بن عمر ابن قتادة. ويبدو من خلال النصوص التي اقتبست عنه أن الواقدي كان يرجع إليه ليعرض عليه المعلومات والأخبار التي يتلقاها ليثبتها له ويبين وجه الصواب فيها.. وهذا يدل على جليل مكانته في هذا العلم، ويدل على تطور علم السيرة في هذه المرحلة بالرجوع إلى أناس عرفوا بذلك. وقد كان يروي بالأسانيد أحياناً. 2- أبو معشر نجيح بن عبد الرحمن السندي ثم المدني مولى بني هاشم المتوفى 170هـ (1) . رأى أبا أمامة بن سهل بن حنيف المتوفى سنة 100هـ وحدّث عن التابعين؛ محمد بن كعب القرظي، ونافع مولى ابن عمر، وهشام بن عروة، ومحمد بن المنكدر، وسعيد بن المسيب، قال الذهبي: وفيه بعد، وسعيد المقبري، وغيرهم. روى عنه جمع، منهم: سفيان الثوري ومات قبله، وعبد الرحمن بن مهدي، وعبد الرزاق الصنعاني، والليث بن سعد، وأبو نعيم الفضل بن دكين،

_ (1) ترجمته في: طبقات ابن سعد 5/418، 266، والتاريخ الكبير للبخاري 8 ترجمة رقم 2397 و9/ رقم 985، والجرح والتعديل 8/ رقم 2263، والمجروحين لابن حبان 3/60 والكامل لابن عدي 7/ 52، وتاريخ بغداد 13/427، وتهذيب الكمال 29/322، وسير أعلام النبلاء 7/435، وتذكرة الحفاظ 1/234، ميزان الاعتدال 4/246، وتهذيب التهذيب 10/419، وتقريب التهذيب ص: 650.

والواقدي، وابنه محمد بن أبي معشر، هو آخر من روى عنه، وغيره. وثَّقة جمع، وضعفه آخرون من قبل حفظه. قال أبو زرعة الدمشقي: سمعت أبا نعيم الفضل بن دكين يقول: كان أبو معشر كيساً حافظاً، وقال هشيم: ما رأيت أحداً أكيس من أبي معشر. وقال يحيى بن معين: ضعيف يكتب حديثه في الرقائق، وكان رجلاً أمياً يُتقى أن يروي من حديثه المسند. وضعفه البخاري، وأبو داود، والنسائي وغيرهم. قال ابن أبي حاتم: سمعت أبي وذكر مغازي أبي معشر فقال: كان أحمد بن حنبل يرضاه ويقول: كان بصيراً بالمغازي. وقال أبو حاتم: كنت أهاب حديث أبي معشر حتى رأيت أحمد بن حنبل يحدِّث عن رجل عنه أحاديث فتوسعت بعد في كتابة حديثه. قال الخليلي: أبو معشر له مكان في العلم والتاريخ، وتاريخه احتج به الأئمة، وضعفوه في الحديث. وذكره ابن البرقي فيمن احتملت روايته في القصص، ولم يكن متين الرواية. قال ابن عدي: حدَّث عنه الثوري وهشيم، والليث بن سعد وغيرهم من الثقات وهو مع ضعفه يكتب حديثه. أما علمه بالمغازي فشهد له بتبريز فيها غير واحد، وناهيك بأحمد بن حنبل. قال الفضل بن هارون البغدادي: سمعت محمد بن أبي معشر، قال: كان أبي سندياً أخرم خياطاً، قالوا: وكيف حفظ المغازي؟ قال: كان التابعون يجلسون إلى أستاذه فكانوا يتذاكرون المغازي، فحفظ. وابنه محمد هذا حدّث عنه بالمغازي وكان خاتمةَ من حدث بها عنه، وذلك لأنه عمِّر نحواً من مائة سنة، وتوفي سنة سبع وأربعين ومائتين، وهو صدوق أخرج له الترمذي عن أبيه.

وقد اشتهر بعلم المغازي وذاع صيت تأليفه، وكان أبرز رجال هذه الطبقة في هذا العلم، ومن أقدم من رجع إليه واغترف منه محمد بن سعد في طبقاته الكبير؛ إذ جعله واحداً من أركان كتابه الأربعة، وهم شيخه الواقدي، وابن إسحق، وموسى بن عقبة وأبو معشر، ويشير إليهم بأهل العلم بالسيرة، أو رواة المغازي، ويجعل إجماعاً، ويقارن بين رواياتهم، وقد كان كتابه حاضراً بين يديه إذ قال (1) : يزيد بن المزين ابن قيس بن عدي بن أمينة بن جدارة، هكذا قال محمد بن عمر، وقال موسى بن عقبة، ومحمد بن إسحق، وعبد الله ابن محمد بن عمارة الأنصاري: هو زيد بن المزيد، ولم يذكره أبو معشر في كتابه. وهذا دليل على أن كتابه بين يديه ويتتبع روايات الأربعة ويقارن بينها، ويضيف إليهم: عبد الله بن محمد بن عمارة الأنصاري، وكتابه في نسب الأنصار. والمقارنة الآن بين هؤلاء جديرة للخروج بنتائج جد دقيقة، ولكنها تحتاج إلى بحث خاص يخرجنا عن موضوعنا هذا. وهذا الكتاب "المغازي"، قد ذكره له ابن النديم في الفهرست بقوله: عارف بالأحداث والسير، وله من الكتب، كتاب المغازي (2) وقد كان من الكتب التي حملها معه الخطيب إلى دمشق، وسماه المغازي (3) واقتبس منه غير واحد من الأئمة كابن عبد البر في الاستيعاب، واستفاد منه بواسطة ابن أبي

_ (1) انظر 3/538. (2) الفهرست ص: 105. (3) جونة العطار ص: 72.

خيثم (1) من المتأخرين الحافظ ابن حجر في فتح الباري، وسماه السيرة (2) وغير هؤلاء كثيرون يطول ذكرهم. أما منهجه في هذا الكتاب فمن خلال المنقول عنه يتبين لي أنه لا يختلف عن الكتب الأخرى التي صنفت في هذه الفترة، منه ماهو بالأسانيد، ومنه ما هو بغير أسانيد كان يتتبعها أبو معشر من أفواه الرجال، من التابعين وأبنائهم، والعهد قريب أو من سماعاته من شيوخه الذي اهتبلوا بهذا الأمر. 3- عبد الملك بن محمد أبي بكر بن محمد بن عمر بن حزم، أبو طاهر المتوفى 176هـ (3) . كان قاضياً ببغداد لهارون الرشيد، روى عن أبيه، وعمه عبد الله بن أبي بكر، روى عنه سريج ـ بالسين المهملة والجيم ـ بن النعمان الجوهري، وعبد الله بن صالح العجلي، وعبد الله بن وهب المصري. كان جليلاً من أهل بيت العلم والسير، والحديث، ووثقه غير واحد، قال سريج بن النعمان: قدم علينا بغداد فأقام بها، وكتبنا عنه المغازي عن عمِّه عبد الله بن أبي بكر. ويمكن أن يكون هذا الكتاب: إما كتبه عن عمِّه عبد الله، أو أن يكون مصنفاً له، وقد أكثر الروايات فيه عن عمه عبد الله. ويرجح أن يكون مصنفاً له قول ابن النديم في الفهرست: عبد الملك بن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم الأنصاري توفي سنة ست وسبعين ومائة

_ (1) انظر 5. (2) انظر 8/ 439. (3) ترجمته في: طبقات ابن سعد الجزء المتمم ص: 464، والجرح والتعديل 5/1727. والثقات لابن حبان 7/100، وتاريخ بغداد 10/409، وتهذيب الكمال 11/291، وتهذيب التهذيب 6/387.

ببغداد وكان قاضياً بها لهارون، وله من الكتب: المغازي. وخلاصة هذه الحقبة – التي امتدت من منتصف القرن الثاني لتشمل الربع الثالث منه مع وفاة عبد الملك بن محمد بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم المتوفى سنة 176هـ- وجود جيل من الرواد الذين كانوا يتتبعون أخبار السيرة، وأبرزهم على الإطلاق هو أبو معشر نجيح السندي، وقد كان له نشاط مذكور وكان أثره في مؤلفات السيرة واضحاً جداً.

الدور الرابع

الدور الرابع: وقد انتقل تدوين السيرة إلى جيل جديد في الربع الأخير من القرن الثاني الهجري ومطلع القرن الثالث، وكان منهم أعلام: (1) هشيم بن بشير، (2) وإبراهيم بن سعد أبو إسحق، (3) وعلي بن مجاهد، (4) ويحيى بن سعيد الأموي، (5) وإبراهيم بن محمد، (6) والوليد بن مسلم، (7) وعبد الله بن وهب المصري، (8) وعبد الرزاق الصنعاني، ويبلغ الأمر قمته عند (9) محمد بن عمر الواقدي المتوفى 207هـ. 1- أما هشيم بن بشير بن أبي حازم الواسطي، أبو معاوية المتوفى 183هـ (1) . ولد سنة أربع ومائة، وأخذ عن الزهري، وعمرو بن دينار بمكة، وهما أكبر شيوخه، ولم يكثر عنهما، وروى عن أيوب السختياني، وسليمان التيمي، ويحيى بن سعيد الأنصاري وحميد الطويل، والأعمش وغيرهم. وأخذ عنه: شعبة، ومالك، والثوري ومحمد بن إسحق وهم أكبر منه ومن أشياخه، وروى عنه خلق كثير منهم: ابنه سعيد، وابن المبارك ووكيع، وأحمد بن حنبل. قال محمد بن سعد: كان ثقة كثير الحديث، ثبتاً يدلس كثيراً فما قال في حديثه: أخبرنا فهو حجة، ومالم يقل فيه أخبرنا فليس بحجة. وسكن ببغداد، ونشر بها العلم وصنف التصانيف، وكان كثير الحديث، وأثنى عليه الأئمة في حفظه وتثبته، وإمامته، وكان من أوائل المصنفين في

_ (1) ترجمته في: طبقات ابن سعد 7/313، التاريخ الكبير للبخاري 8/242، الجرح والتعديل 9/115، مشاهير علماء الأنصار 177، تاريخ بغداد 14/85، وتهذيب الكمال 30/272، سير أعلام النبلاء 8/287، تذكرة الحفاظ 1/148، ميزان الاعتدال 4/306، تهذيب التهذيب 11/59.

السنة. أما كتابه في السيرة فقد ذكره له الزركلي في الأعلام (1) نقلاً عن التبيان لابن ناصر الدين، ولم أعثر حتى الآن على أثر له، ولم أجد له في طبقات ابن سعد ولا تاريخ الطبري رواية في السيرة إلا نصاً واحداً في الوفاة النبوية وله روايات قليلة جداً في تعيين الذبيح، وصفة عثمان، وبيعة الزبير رضي الله عنهما. وقد عدّ هشيم من أوائل المصنفين وأنه أول من صنف بواسط كما ذكرت في غير هذا الموضع (2) . ومما يؤكد أن لهشيم بن بشير كتباً قول محمد بن سعد في طبقاته (3) في ترجمة شجاع بن مخلد الفلاس أبي الفضل البغوي المتوفى سنة 235هـ: روى عن هشيم عامة كتبه، وشجاع بن مخلد ثبت، قلت: وقد أخرج له مسلم وأبو داود وغيرهما. 2- إبراهيم بن سعد بن عبد الرحمن بن عوف القرشي الزهري أبو إسحق المدني، نزيل بغداد المتوفى 183هـ (4) . روى عن أبيه قاضي المدينة، وعن ابن شهاب الزهري، ويزيد بن الهاد، وصالح بن كيسان، ومحمد بن إسحق، وعدد من الناس، وروى عن هشام بن عروة حديثاً واحداً، وروى عنه: شعبة، ومالك والليث، وهما أكبر منه،

_ (1) انظر 3/216. (2) انظر المحدث الفاصل ص: 612. (3) انظر طبقات ابن سعد 7/352. (4) ترجمته في طبقات ابن سعد 7/322، 343، والتاريخ الكبير للبخاري 1/188، والجرح والتعديل 2/101، وتاريخ بغداد 6/81، وتهذيب الكمال 2/88، وسير أعلام النبلاء 8/304، وتذكرة الحفاظ 1/252، وميزان الاعتدال 1/33، وتهذيب التهذيب 1/121.

ويعقوب، وسعد ولداه وابن مهدي، والطيالسي، وأحمد بن حنبل، والقعنبي، وخلق غيره. وقد وثقه وأثنى عليه غير واحد من الأئمة؛ أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، والعجلي، وأبو حاتم، وابن خراش، وأخرج حديثه الجماعة. قال البخاري (1) : قال لي إبراهيم بن حمزة: كان عند إبراهيم بن سعد عن محمد بن إسحق نحو سبعة عشر ألف حديث في الأحكام سوى المغازي. أما كتابه في المغازي فقد رواه عنه أحمد بن محمد بن أيوب البغدادي، قال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: كان أحمد بن حنبل يقول: لا بأس به ويحيى بن معين يحمل عليه، وكتب عنه، ورأيته يقرأ عليهم كتاب المغازي عن إبراهيم بن سعد. ورواه عنه ابنه يعقوب بن إبراهيم بن سعد كما ذكر ذلك ابن سعد في طبقاته (2) ونقل عنه من طريق صاحبه نوح بن يزيد المؤدب قال: سئل إبراهيم بن سعد كم نزّل النبي صلى الله عليه وسلمفي الأرض؟ قال ثلاثاً (3) ، ونقل عنه نصاً آخر بواسطة ابنه يعقوب في الوفاة النبوية (4) ، ومواطن أخرى.

_ (1) انظر تهذيب الكمال 2/92، وسير أعلام النبلاء 8/306. (2) انظر الطبقات 7/343. (3) انظر الطبقات 2/305. (4) انظر الطبقات 2/305.

3- علي بن مجاهد بن مسلم بن رفيع الكابلي، أبو مجاهد الرازي، قاضي الريّ المتوفى بعد الثمانين ومائة (1) . روى عن الثوري، ومحمد بن إسحق، ومسعر بن كدام، وأبي معشر المدني، ويونس بن أبي إسحق، وإبراهيم بن إسماعيل بن مجمع الأنصاري، وجرير بن عبد الحميد وهو من أقرانه، وغيرهم. وروى عنه: أحمد بن حنبل، وجرير بن عبد الحميد وهو من أقرانه، ومحمد بن حميد الرازي وغيرهم، قال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل، وقيل له: علي بن مجاهد الرازي؟ قال: كتبت عنه، ما أرى به بأساً. وقال علي بن الحسين بن حبان: وجدت في كتاب أبي بخط يده عن يحيى بن معين، قال علي بن مجاهد، رأيته على باب هشيم، ما أرى به بأساً، ولم أكتب عنه. وقال صالح جزرة: سمعت يحيى بن معين، وسئل عن علي بن مجاهد، فقال: كان يضع الحديث، وكان قد صنف كتاب المغازي، وكان يضع للكلام إسناداً وفي رواية: للكل إسناداً. وكذلك كذبه يحيى بن الضريس، وقال: لم يسمع من ابن إسحق. وقد ذكره ابن حبان في الثقات، وقال الحافظ ابن حجر: متروك، وقال: ليس في شيوخ أحمد أضعف منه، وقد أخرج له الترمذي في جامعه حديثاً عن محمد بن حميد الرازي. ولا نعلم عن كتابه هذا شيئاً إلا أنه من خلال النص المتقدم يتبين أن بعضه بإسناد، وبعضه بغير إسناد، كبقية كتب السيرة في هذا العصر.

_ (1) ترجمته في: تاريخ البخاري الكبير 6/رقم 2457، والجرح والتعديل 6/123، تاريخ بغداد 12/106، تهذيب الكمال 21/117، وميزان الاعتدال 3/152 وضعفاء العقيلي 3/252، وتهذيب التهذيب 7/377 وغيرها.

4- إبراهيم بن محمد بن الحارث أبو إسحق الفزاري المتوفى 186هـ (1) . الإمام الكبير الحافظ شيخ المجاهدين. حدّث عن أبي إسحق السبيعي، وهشام بن عروة، وحميد الطويل، وسليمان بن مهران الأعمش، ويحيى بن سعيد الأنصاري، ومالك بن أنس، وغيرهم. وحدّث عنه الأوزاعي والثوري وهما من شيوخه، وعبد الله بن المبارك، وعبد الملك بن حبيب المصيصي، ومحبوب بن موسى الفراء، ومعاوية بن عمرو الأزدي، وخلق كثير. وثقه جمع كبير من الأئمة، فقال أبو حاتم: الثقة المأمون الإمام. وقال النسائي: ثقة مأمون، أحد الأئمة. قال العجلي: كان ثقة، صاحب سنة صالحاً، هو الذي أدب أهل الثغر، وعلمهم السنة، كان يأمر وينهى، وإذا دخل إلى الثغر رجل مبتدع أخرجه، وكان كثير الحديث، وكان له فقه. وكان الأوزاعي يقول: حدثني الصادق المصدوق، أبو إسحق الفزاري. صنف الفزاري كتاباً سمّاه: السير، وقد نال ثناء جمع من الأئمة وعلى رأسهم: الشافعي إذ قال: لم يصنف أحد في السير مثل كتاب أبي إسحق. وأملى كتاباً على ترتيب كتابه. وقد روي عنه واقتبس الأئمة من طبقة تلاميذه ومن تلاهم. وقد أنقذنا قسماً من هذا الكتاب بفضل من الله تعالى عن نص قديم جداً كتب في الأندلس سنة 270هـ على رقّ غزال.

_ (1) ترجمته في مقدمة الكتاب بتحقيقنا فهي مطولة، وفي تاريخ البخاري 1 / 321، والجرح والتعديل 1/128، وطبقات ابن سعد 7 / 488، وتهذيب الكمال 2 / 170، وسير أعلام النبلاء 8 / 539، وتهذيب التهذيب 1 / 151، وتذكرة الحفاظ 1 / 117، وغيرها.

أما منهج كتابه: فقد صاغه صياغة بين الفقه والحديث والسيرة، إذ استوعب قسطاً غير قليل من أحداث السيرة النبوية، ولكنها مبوبة على مباحث فقهية مثل: نبش القبور والركاز، ونفل السرايا، وسهمان الخيل، وردّ المسلم على المسلم، والغلول وعدم قتل الوفد وقتل المسن والمريض والجريح والمختل وأمان الرجل. والمرأة والعبد ونصب المنجنيق وحفر الخندق والسلب، والنهي عن الهبة. ويذكر بالأسانيد النصوص وجلُّها مرفوع، وبعضها موقوف، وبعضها مقطوع، وفيها الصحيح وفيها الحسن وفيها الضعيف وليس فيها شيءٌ مما يحكم عليه بالوضع. ثم يتبع ذلك بنصوص فقهية ومسائل عن الأوزاعي وأكثر من ذلك، والثوري فهو مفيد جداًّ في السيرة، ولكنه ليس خاصا بها، بل نجد السيرة النبوية منثورة في ثناياه، ولو استطعنا الوصول إلى نسخة كاملة من هذا الكتاب لكان من أجلّ المصنفات في السيرة النبوية، والفقه والحديث. 5- يحيى بن سعيد بن أبان الأموي، أبو أيوب الكوفي المتوفى 194هـ (1) . روى عن يحيى بن سعيد الأنصاري، وهشام بن عروة، ويزيد بن عبد الله ابن أبي بردة، والأعمش، وإسماعيل بن أبي خالد، والثوري، وخلق سواهم. روى عنه: أحمد بن حنبل، وإسحق بن راهويه، وأبو عبيد القاسم بن سلاّم، وابنه سعيد بن يحيى، وخلق.

_ (1) ترجمته في: طبقات ابن سعد 6/398 و7/339، وتاريخ البخاري الكبير 8 رقم 2984 والجرح والتعديل 9/625، وثقات ابن حبان 5/526 و7/599، وتهذيب الكمال 31/318، وتذكرة الحفاظ 1/325، وسير أعلام النبلاء 9/139، وتهذيب التهذيب 11/213 وغيرها.

وقد وثقه غير واحد منهم أحمد وابن معين، والنسائي وأبو داود والدارقطني، وابن حبان، وغيرهم، وروى حديثه الجماعة كلهم. وقد حمل المغازي عن ابن إسحق، وقال أبو بكر بن أبي خيثمة عن سعيد ابن يحيى بن سعيد الأموي، قال: قال أبي: كان محمد بن سعيد أخي، والعوفي سمعوا المغازي سماعاً من ابن إسحق، فأما أنا وأبو يوسف ـ يعني القاضي ـ وأصحاب لنا عرضاً إلا الشيء يمرّ. وقد أكثر المصنفون النقل عن مغازي الأموي فبعضهم ينسبه إلى يحيى بن سعيد، وبعضهم ينسبه لولده سعيد. فالذهبي في سير أعلام النبلاء (1) : قال: وفي مغازي يحيى بن سعيد الأموي، والنص في الاستيعاب عن الأموي دون تحديد. وقال في ترجمته من «النبلاء» و «تذكرة الحفاظ» : وهو والد سعيد بن يحيى صاحب المغازي وعزا الكتاب في ترجمة ابن الشجري من النبلاء، لابنه (2) . وقد اقتبس منه ابن عبد البر في الاستيعاب في مواطن عديدة ومنها 2/40 في ترجمة سعد بن عبادة. وابن تيمية في كتابه «الصارم المسلول» أخذ منه نصاً بقوله: قال سعيد بن يحيى الأموي في مغازيه: حدثني أبي عن المجالد بن سعيد عن الشعبي … وبهذا نسب الكتاب للابن. وقد ورد في جزء المالكي ضمن أسماء الكتب التي ورد بها الخطيب دمشق باسم مغازي سعيد. وهو من مرويات ابن خير الإشبيلي في فهرسته، وعزاه للابن

_ (1) انظر 1/344. (2) انظر 20/195.

بقوله (1) : كتاب السير، لسعيد بن يحيى الأموي، حدثني بها أبو الحسن علي بن عبد الله بن موهب رحمه الله، قال: نا أبو العباس أحمد بن عمر بن أنس العذري، قال: نا أبو الحسن علي بن بندار القزويني، وأبو ذر عبد بن أحمد الهروي، قالا: نا أبو بكر بن شاذان، قال: نا أبو عبد الله أحمد بن المغلس البغدادي عن يحيى بن سعيد. واستمد منه ابن سيد الناس في عيون الأثر (2) وفي بعض المواطن يطلق القول، وفي بعضها يعزو الكتاب للأب، وبعضها للابن. وكذلك الحافظ ابن حجر في فتح الباري (3) يعزوه تارة للأب وتارة للابن وإذا كان الأب من رواة المغازي عن ابن إسحق، ومن أهل العناية بهذا العلم، فلا أستبعد أن يكون في الموضوع تصنيفان، تصنيف للأب يحيى بن سعيد، ثم زاد الابن عليه روايات أخرى وإضافات عن أبيه وعن شيوخ آخرين. أما منهج هذا الكتاب فمِن تَتَبُّعِ النصوص المقتبسة عنه نجد أن جلها جاء بالأسانيد، وبعضها مرسلة، وبعضَها من سياق المصنف، وبهذا فهو سائر في سياق كتب السيرة التي سبقته وعاصرته. 6- الوليد بن مسلم القرشي، أبو العباس الدمشقي المتوفى 195 (4) هـ.

_ (1) انظر ص: 237. (2) انظر مثلاً 1/170، و2/100، 101. (3) انظر 7/227، 229، 238. (4) ترجمته في: طبقات ابن سعد 7/470، والتاريخ الكبير 8/ 153، والمعرفة والتاريخ للفسوي 2/420، والجرح والتعديل 9/16، تهذيب الكمال 31/86 وسير أعلام النبلاء 9/211، تذكرة الحفاظ 1/302، تهذيب التهذيب 11/151، وغيرها.

الإمام، عالم أهل الشام، روى عن خلق منهم: محمد بن عجلان، وابن جريج والأوزاعي، وعفير بن معدان، وحريز بن عثمان، والثوري، ومالك والليث، وابن لهيعة وغيرهم. وارتحل في الحديث والسنة، وصنف التصانيف، وتصدر للإمامة وكان من أوعية العلم، ثقة حافظ. روى عنه الليث بن سعد، وبقية بن الوليد، وهما من شيوخه، وابن وهب، وابن حنبل، ومحمد بن مصفى الحمصي، ومحمود بن غيلان، وخلق كثير آخرهم حجاج بن الريان الدمشقي المتوفى 264هـ. وثقه جمع من الأئمة، قال محمد بن سعد: كان الوليد بن مسلم، ثقة كثير الحديث والعلم. وقال الفسوي: سألت هشام بن عمار عن الوليد بن مسلم، فأقبل يصف علمه وورعه، وتواضعه. قال ابن جوصا الحافظ: لم نزل نسمع أنه من كتب مصنفات الوليد بن مسلم صلح أن يلي القضاء، ومصنفاته سبعون كتاباً. وقال صدقة بن الفضل: ما رأيت رجلاً أحفظ للحديث الطويل، وأحاديث الملاحم من الوليد بن مسلم، وكان يحفظ الأبواب. وقال علي بن المديني: ما رأيت في الشاميين مثل الوليد بن مسلم، وقد أغرب أحاديث صحيحة لم يشركه فيها أحد. ووصفوه بأنه كان بارعاً في حفظ المغازي، وقد أخرج حديثه البخاري ومسلم انتقاء، وبقية الستة. أما كتابه في السيرة، فقد ذكره له غير واحد من المصنفين الأقدمين، ومنهم: ابن النديم في كتابه الفهرست، فقال: الوليد بن مسلم من أصحاب

السير والأحداث وله من الكتب كتاب المغازي (1) . وقد كانت هذه السيرة من مرويات ابن خير الإشبيلي فقال (2) : كتاب سير الوليد بن مسلم عن الأوزاعي، حدثني به أبو محمد بن عتاب رحمه الله، قال: أخبرني أبي رحمه الله، قال: نا بها أبو القاسم خلف بن يحيى، قال: قرأت على أبي المطرف عبد الرحمن بن عيسى بن مدراج، قال: نا أبو عمرو عثمان ابن عبد الرحمن، قال: نا محمد بن وضّاح، قال: نا أبو العباس الوليد بن مزيد ابن مسلم، قال: سألت أبا عمرو الأوزاعي رحمه الله. أقول: إما أن يكون كتاباً في السير مزج فيه نصوص السيرة بالفقه، على طريقة أبي إسحق الفزاري، ولاسيما أن أبا إسحق الفزاري من شيوخه، وإما أن تكون النصوص فيه من طريق الأوزاعي، أو أكثرها. وأرجح أن يكون هذا كتاباً آخر غير المغازي النبوية. وقد اقتبس الحافظ ابن حجر في فتح الباري (3) من كتاب له اسمه الجهاد. أما كتابه في المغازي فقد كان من مصادر عدد من المصنفين في السيرة، منهم: ابن سيد الناس في عيون الأثر (4) والذهبي في كتابه السيرة النبوية (5) . ومِن تَتَبُّعي للنصوص المقتبسة عنه لاحظت أنها منقولة بالأسانيد، وجلها منقول عن ابن لهيعة عن أبي الأسود، عن عروة بن الزبير، وليست مقصورة على هذا المصدر، بل له أسانيد أخرى، تدرس وتناقش وتقابل بغيرها.

_ (1) انظر الفهرست ص: 122. (2) انظر ص: 236. (3) انظر 6/66 -67. (4) انظر 2/13، 68، 105، 107، 111، 113 وغيرها. (5) انظر ص:147، 234.

7- عبد الله بن وهب بن مسلم القرشي، أبو محمد المصري المتوفى سنة 197هـ (1) . أحد أعلام الفقه والحديث، روى عن ابن جريج، ويونس بن يزيد ويحيى ابن عبد الله المعافري، وحيوة بن شريح، وعمرو بن الحارث، ومالك والليث، وابن لهيعة، وحرملة بن عمران، وسلمة بن وردان وعبد الرحمن بن زياد الإفريقي، وخلق كثير، إذ طلب العلم في حداثته وله نحو من سبعة عشر عاماً، ولقي بعض صغار التابعين، ونقل عنه أنه سمع ثلاثمائة وسبعين شيخاً، وكان من أوعية العلم ومن كنوز العمل. وروى عنه خلق من الجلة الكبار، منهم الليث بن سعد شيخه، وعبد الرحمن بن مهدي وأصبغ بن الفرج، والحارث بن مسكين، وسحنون بن سعيد، ويحيى بن يحيى الليثي، ويونس بن عبد الأعلى وغيرهم. قال أحمد بن صالح حدث ابن وهب بمائة ألف حديث، ما رأيت أكثر حديثاً منه وقع عندنا سبعون ألف حديث عنه. قال الذهبي: كيف لا يكون من بحور العلم، وقد ضم إلى علمه علم مالك والليث ويحيى بن أيوب وعمرو بن الحارث وغيرهم. وكان يسمى ديوان العلم، قال ابن حبان: ابن وهب هو الذي عني بجمع ما روى أهل الحجاز، وأهل مصر، وحفظ عليهم حديثهم، وجمع وصنف وكان من العبّاد. قال أبو زرعة الرازي (2) : نظرت في نحو ثمانين ألف

_ (1) ترجمته في: طبقات ابن سعد 7/518، والتاريخ الكبير 5 / رقم 710، والجرح والتعديل 5/879، والكامل لابن عدي 4/202، وترتيب المدارك 3/228، ووفيات الأعيان 3/36، وتهذيب الكمال 16/277، وسير أعلام النبلاء 9/223، وتذكرة الحفاظ 1/304، وتهذيب التهذيب 6/71. (2) مقدمة الجرح والتعديل ص 335.

حديث من حديث ابن وهب بمصر، وفي غير مصر، ما أعلم أني رأيت حديثا لا أصل له. وقد جمع حرملة حديث ابن وهب كله إلا حديثين أحدهما تفرد به أبو الطاهر بن السرح، وهو حديث أبي هريرة مرفوعا: "كل بني آدم سيد، فالرجل سيد أهله والمرأة سيدة بيتها". والثاني، تفرد به الغرباء، وهم سبعة ذكرهم ابن عدي (1) ، وهو حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا: "لا حليم إلا ذو عثرة، ولا حكيم إلا ذو تجربة". وقد أخرج الأئمة الستة وغيرهم حديثه. وعُدَّ عبد الله به وهب من المكثرين في التصنيف، قال القاضي عياض (2) : وألف تواليف كثيرة جليلة المقدار عظيمة المنفعة، منها سماعه من مالك ثلاثون كتابا.. وكتاب المغازي. وذكره له الذهبي في سير أعلام النبلاء (3) . وكتابه الجامع مشهور مطبوع. وكتابه المغازي حمله إلى الغرب تلميذه سحنون، فقد جاء في ترجمة سحنون، أنه كان إذا قرئت عليه مغازي ابن وهب تسيل دموعه، وإذا قرئ عليه الزهد لابن وهب يبكي (4) . وجاء في ترجمة إبراهيم بن المنذر عند الخطيب في تاريخ بغداد بسنده إلى عثمان بن سعيد الدارمي قال: رأيت يحيى بن معين كتب عن إبراهيم بن المنذر الحزامي أحاديث ابن وهب ظننتها المغازي (5) . وقد اقتبس منه القاضي

_ (1) الكامل 4/205. (2) ترتيب المدارك 3/240. (3) انظر 9/225. (4) انظر ترجمة سحنون في المدارك، وسير أعلام النبلاء 12/67. (5) انظر تاريخ بغداد 6/181 وتهذيب الكمال 2/209 وتهذيب التهذيب 1/167.

عياض في «الشفا» ، ومن طريقه ابن سيد الناس في عيون الأثر في فنون المغازي والسير (1) . كما استفاد منه الذهبي في السيرة النبوية (2) . ومن خلال النصوص المقتبسة يتبين أن الكتاب بالأسانيد، ولكن هل كله مسند؟ أستبعد ذلك لأن طبيعة الموضوع تفرض التوسع وإلا بقي الكتاب ضامراً محدوداً. 8- عبد الرزاق بن همام بن نافع الحميري، أبو بكر الصنعاني المتوفى سنة 211 هـ (3) . عالم اليمن، والحافظ الكبير ولد سنة ست عشرة ومائة، وارتحل إلى البلدان، وروى عن جمع من الكبار منهم: هشام بن حسان، وعبيد الله بن عمر وأخيه عبد الله، وابن جريج، ومعمر -وأكثر عنه- والأوزاعي، والثوري ومالك وخلق غيرهم. روى عنه شيخه سفيان بن عيينة، ومعتمر بن سليمان، وطائفة من أقرانه وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وإسحق بن راهويه، وابن المديني، وخلق غيرهم، وآخر من روى عنه إسحق بن إبراهيم الدبري. وأثنى على علمه وفضله، جمع من الأئمة، قال قرينه هشام بن يوسف: كان عبد الرزاق أعلمنا

_ (1) انظر 1/167. (2) انظر ص 127، 207. (3) وترجمته في مصادر كثيرة منها: طبقات ابن سعد 5/548، والتاريخ الكبير 6/130، والجرح والتعديل 6/38، والكامل لابن عدي 5/311، وثقات ابن حبان 8/412، وتهذيب الكمال 18/52، وسير أعلام النبلاء 9/563، وتذكرة الحفاظ 1/364، وميزان الاعتدال 2/609، وتهذيب التهذيب 6/310 وغيرها.

وأحفظنا. وقد ملأ حديثه الكتب والدواوين، وروى له الستة وغيرهم، ونسب إلى شيء من التشيع. قال ابن عدي: ولعبد الرزاق بن همام أصناف في حديثه كثير، وقد رحل إليه ثقات المسلمين، وأئمتهم وكتبوا عنه، ولم يروا بحديثه بأسا إلا أنهم نسبوه إلى شيء من التشيع. وقال ابن حبان: كان ممن جمع وصنف وحفظ وذاكر وكان ممن يخطئ إذا حدث من حفظه على تشيع فيه. وله من التصانيف: المصنف وهو كتاب كبير ضم عدا جامع معمر من الحديث تسعة عشر ألف حديث وأربعمائة وثمانية عشر حديثا. وذكر غير واحد في جملة مصنفاته المغازي، ومنهم ابن النديم في الفهرست (1) واقتبس منه ابن عبد البر في كتابه: الدرر في اختصار المغازي والسير (2) . وكان كتاب المغازي هذا من الكتب التي ورد بها الخطيب دمشق (3) . واقتبس منه المقدسي في المغني وذكره السخاوي في ((الإعلان بالتوبيخ)) (4) . أما عن منهجه فيه فيبدو أنه لا يخرج عن نسق كتابه المصنف، وكتاب أبي إسحق الفزاري أو قريب منه.

_ (1) انظر ص 284. (2) انظر ص 33، 37، 50. (3) انظر جونة العطار ص 72. (4) انظر المغني 10/519، والإعلان بالتوبيخ ص 88.

9- محمد بن عمر بن واقد الأسلمي الواقدي، المديني، القاضي المتوفى سنة 207هـ (1) . آخر الكبار المؤسسين لعلم السيرة النبوية، سمع من صغار التابعين، ومن بعدهم بالحجاز والشام، وغير ذلك، وحدث عن محمد بن عجلان، وابن جريج، ومعمر بن راشد، والأوزاعي، وهشام بن الغاز، ومالك، وخلق كثير.. روى عنه كاتبه محمد بن سعد، وأبو بكر بن أبي شيبة، وأبو حسان الحسن بن عثمان الزيادي، والحارث بن أبي أسامة، وغيرهم. قال كاتبه محمد بن سعد: كان عالما بالمغازي، والسيرة والفتوح والأحكام واختلاف الناس واجتماعهم على ما اجتمعوا عليه. وقد فسر ذلك في كتب استخرجها، ووضعها وحدث بها. قال الخطيب البغدادي: قدم الواقدي بغداد، وولي قضاء الجانب الشرقي فيها، وهو ممن طبق شرق الأرض وغربها ذكره، ولم يخف على أحد -عرف أخبار الناس- أمره، وسارت الركبان بكتبه في فنون العلم من المغازي والسير، والطبقات، وأخبار النبي صلى الله عليه وسلم، والأحداث التي كانت في وقته، وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلموكتب الفقه، واختلاف الناس في الحديث وغير ذلك. وكان كريماً جواداً مشهوراً بالسخاء. وقد وقف الناس من الواقدي مواقف متباينة

_ (1) ترجمته في: طبقات ابن سعد 7/334، والتاريخ الكبير للبخاري 1/178، والصغير 2/311 والجرح والتعديل 8/20، وتاريخ بغداد 3/3، والفهرست لابن النديم ص 111، وفيات الأعيان 1/506، تهذيب الكمال 26/180، سير أعلام النبلاء 9/454، ميزان الاعتدال 3/ رقم 7993، تهذيب التهذيب 9/363، تذكرة الحفاظ 1/348 وقد جمع أطراف الترجمة وناقشها ابن سيد الناس في صدر كتابه عيون الأثر، فلتنظر.

فمنهم من قواه، ومنهم من ضعفه حتى اتهمه غير واحد بالوضع في الحديث. ولكنه في المغازي والسير والأحداث غير مدفوع عن ذلك، بل له بها مزيد عناية واختصاص، وهو فيها رأس وله مكانة. قال إبراهيم الحربي: سمعت المسيبي يقول: رأيت الواقدي يوماً جالساً إلى أسطوانة في مسجد المدينة، وهو يدرس، فقلنا: أي شيء تدرس؟ فقال: جزءاً من المغازي. وقلنا له يوما: هذا الذي تجمع الرجال تقول: حدثنا فلان وفلان، وجئت بمتن واحد، لو حدثتنا بحديث كل واحد على حدة، فقال: يطول، قلنا له: قد رضينا، فغاب عنا جمعة، ثم جاءنا بغزوة أحد في عشرين جلد، فقلنا: ردنا إلى الأمر الأول. أقول: ولا غرابة في ذلك، فقد كان واسع الرواية بمنهج متميز، كشف عنه بقوله: ما أدركت رجلاً من أبناء الصحابة، وأبناء الشهداء، ولا مولى لهم إلا سألته هل سمعت أحداً من أهلك يخبرك عن مشهده وأين قتل؟ فإن أعلمني مضيت إلى الموضع فأعاينه، ولقد مضيت إلى المريسيع فنظرت إليها، وما عملت غزاة إلا مضيت إلى الموضع حتى أعاينه (1) .ومن كان هذا همه ووكده فلا غرابة أن يكون عنده ما ليس عند غيره. قال ابن كثير، وهو الماهر العارف بهذا الشأن: والواقدي عنده زيادات حسنة وتاريخ محرر غالبا، فإنه من أئمة هذا الشأن الكبار، وهو صدوق في نفسه مكثر (2) . وقال الذهبي: والواقدي وإن كان لا نزاع في ضعفه فهو صادق اللسان كبير القدر (3) . وقال بعد أن استعرض ما قاله مادحوه وقادحوه (4) : "وقد

_ (1) عيون الأثر 1/18. (2) انظر: البداية 2/324. (3) انظر: سير أعلام النبلاء 7/142. (4) انظر: سير أعلام النبلاء 9/469.

تقرر أن الواقدي ضعيف يحتاج إليه في الغزوات والتاريخ، ونورد آثاره من غير احتجاج، أما في الفرائض فلا ينبغي أن يذكر فهذه الكتب الستة، ومسند أحمد، وعامة من جمع في الأحكام نراهم يترخصون في إخراج أحاديث أناس ضعفاء، بل ومتروكين، ومع هذا لا يخرجون لمحمد بن عمر شيئا، مع أن وزنه عندي أنه مع ضعفه يكتب حديثه ويروى، لأني لا أتهمه بالوضع، وقول من أهدره فيه مجازفة من بعض الوجوه، كما أنه لا عبرة بتوثيق من وثقه -وهم تمام عشرة محدثين-، إذ انعقد الإجماع اليوم على أنه ليس بحجة، وأن حديثه في عداد الواهي". أما كتابه المغازي، فقد شاع عن مصنفه منذ تأليفه، وتلقفته الأجيال وحلقات الدرس في طول العالم الإسلامي وعرضه عبر العصور، وقد وصلنا الكتاب كاملا مطبوعاً. أما عن منهجه فيه: فقد بدأ بتسمية رجاله الذين كتب عنهم، وبلغ عددهم خمسة وعشرين شيخاً، ومنهم من هو معروف بالعلم، والسيرة خاصة، ومنهم من هو غير معروف، ومنهم المقبول، ومنهم غير المقبول، ومنهم من له مصنف في السيرة النبوية، ومنهم من لا يعرف بذلك. وهؤلاء المجهولون هم الذين كان يتتبعهم الواقدي ليسمع منهم ما أثروه وسمعوه من آبائهم وأجدادهم، ولهذا وصف الواقدي بأنه يروي عن كل ضرب، وقد حاول تلميذه محمد بن سعد انتقاء بعض الروايات التي كان يجمعها وأن تكون أخباره عن المعروفين. وأحياناً يطوي مع هذا العدد الكبير من الشيوخ

ذكر عدد آخرين، فيقول: فكل قد حدثني من هذا بطائفة، وبعضهم أوعى لحديثه من بعض، وغيرهم قد حدثني أيضا، فكتبت كل الذي حدثوني، وكان يؤكد بأن من ينقل عنهم من أهل المعرفة بهذا الشأن، كما في قوله وحدثني عبد الله ابن أبي الأبيض عن جدته وهي مولاة جويرية -كان عالما بحديثهم (1) . وكان يكرر في كثير من الغزوات والسرايا ذكر الشيوخ الذين حدثوه، وأحياناً يزيدون وأحياناً ينقصون، ولكنه دائما يجمع خلاصة ما سمع، ويقول: فكل قد حدثني بطائفة من هذا الحديث، وغيرهم ممن لم أسم، فكتبت كل ما حدثوني. ويقول أحياناً: وغير هؤلاء ممن لم يسم أهل ثقات، فكل قد حدثني بهذا الحديث بطائفة وقد كتبت ما حدثوني (2) . وقد بدأ بالسرايا والغزوات النبوية، ولم يعرض فيه للمبتدأ، والمبعث خلاف عمل ابن إسحق وآخرين، بل قصره على موضوعه المغازي. وقد ساق تاريخا موجزا أشبه ما يكون بفهرس للغزوات النبوية حدد فيها تاريخ الغزوات، مع بعض المعلومات الضرورية، وختمها بقوله: فكانت مغازي النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه سبعا وعشرين غزوة، ثم ذكر التي قاتل فيها، وقال: وكانت السرايا سبعا وأربعين سرية. واعتمر ثلاث عمر. ثم ذكر الصحابة الذين كان يستخلفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عند خروجه للغزو على المدينة ثم ذكر شعار المسلمين في غزواتهم، فقال: وكان شعار رسول الله صلى الله عليه وسلم في القتال في بدر: يا منصور أمت.. ثم بدأ بتفصيل السرايا والغزوات.

_ (1) انظر المغازي 1/412. (2) انظر المغازي 3 /955، 989.

ويذكر كثيرا من الأسانيد خلال عرضه للأحداث، ومنها ما هو مرفوع، ومنها ما هو مرسل، ثم يعود فيقول: قالوا: أي شيوخه الذين صدر بهم الحدث. ويعرض التفاصيل دقيقة عن الغزوات من حيث عدد الغزاة ومتاعهم، ومركوبهم وطريق سيرهم، وما يحصل بينهم… ويرجح ويختار، ويقرر بعض الأحداث تقرير الواثق مما يقول. وكان خلال حديثه عن الغزوة ينقل بأسانيده- ومنها الجياد ومنها الضعاف- أخباراً موضحة ومعلومات هامة متعلقة بالموضوع، مما يضفي على عمله صفة الاستقصاء زيادة على ما جمعه من المصنفين قبله: الزهري، ومعمر، وموسى بن عقبة، وأبو معشر، ومحمد بن صالح بن دينار ويزيد بن رومان، والطبقة الأولى مثل: عاصم بن عمر بن قتادة وعبد الله بن أبي بكر بن حزم وغيرهم. وبهذا نستطيع أن نتصور الجمع الذي أراد الواقدي القيام به. وبالمقارنة بين روايات ابن إسحق والواقدي يتبين أن الواقدي لم يَرْو عن ابن إسحق مباشرة ونقل عنه بندرة، وذكر كثيرا من الروايات والتفاصيل التي لم يذكرها ابن إسحق. وهنا أستطيع القول إن التصنيف في السيرة النبوية، بلغ الذروة مع الواقدي. ولهذا اضطر المصنفون في السيرة إلى الرجوع للواقدي، للدقائق والتفاصيل التي استقصاها وتتبعها وحاول تحريرها، وفي هذا يقول ابن سيد الناس: "وكثيراً ما أنقل عن الواقدي من طريق محمد بن سعد وغيره أخباراً، ولعل كثيراً منها لا يوجد عند غيره، فإلى ابن عمر انتهى علم ذلك أيضا في

زمانه" (1) . أقول: وإن الواقدي كغيره من العلماء لا يخلو من شذوذات ومخالفات فيما حمل وروى، ويقوم ذلك ويقدر بقدره بناء على موازين المعرفة (2) . وإذا جنحنا إلى الأخذ بنصوص الواقدي وقبوله في هذا المضمار نستطيع القول: 1- إنه وسّع دائرة الجمع لنصوص السيرة، مما هو مدون مكتوب قبله، ومما لم يدون. ولهذا كان يروي عن أناس عن آبائهم وأجدادهم، مما جعل نصوص السيرة يكتمل تدوينها على يديه، ولم يبق لمن بعده إلا التحسين، والمقارنة والترجيح والتعليق بإضافات ليست بالكثيرة. 2 - وهذا ما جعل رائدا من رواد الكتابة في السيرة النبوية والصدر الأول، -وهو تلميذ الواقدي محمد بن سعد- يجعل أئمة التصنيف الكبار في هذا الباب أربعة، ومن عداهم تتمات وإضافات بسيطة، وقد أصاب في ذلك وأحسن، وهم: (1) موسى بن عقبة (2) ومحمد ابن إسحق، (3) وأبو معشر السندي، (4) والواقدي، فهؤلاء على الحقيقة أعمدة التأليف في السيرة النبوية، وإليهم المرجع لأنهم أخذوها من غير وجه بطريق الرواة المحدثين أصحاب الأسانيد، ومن طريق المهتمين بالموضوع كالزهري وعاصم بن عمر ابن قتادة، وأسرة أبي بكر بن حزم، وأضرابهم ومن طريق أبناء أصحاب السوابق والمشاهد، ثم ما كان يروج بين عامة الناس مما نقل إليهم عن الصحابة والتابعين، ومن بعدهم.

_ (1) انظر عيون الأثر 1 / 7. (2) انظر نماذج منها في كتابنا مصادر السيرة النبوية وتقويمها ص: 78-79.

3- وبعد هؤلاء الأربعة بدأت مرحلة التنقيح والمقارنة، فإجماعهم إجماع، واختلافهم يرجح بينه ويختار الأصوب بناء على ضوابط عدة، وأول من قام بهذا العمل -الذي يجب أن يُحيا ويبعث من جديد في كتابة السيرة النبوية- محمد بن سعد في كتاب الطبقات إذ كان يكثر من الاعتماد على إجماعهم، فيقول: وقالوا جميعا 3/068 وانظر 3/443، 454، 478. أجمع موسى بن عقبة ومحمد بن إسحق، وأبو معشر، ومحمد بن عمر، وعبد الله بن محمد بن عمارة الأنصاري.. 3/601. وهذا الأخير متخصص في التاريخ وأخبار الأنساب. وأجمعوا جميعا 3/577، في روايتهم جميعا 3/569. أجمع على ذلك موسى بن عقبة ومحمد بن إسحق، وأبو معشر، ومحمد بن عمر 3/447. ويقول: فجميع من شهد بدرا من المهاجرين الأولين من قريش وحلفائهم ومواليهم في عدد محمد بن إسحق: ثلاثة وثمانون رجلا، وفي عدد محمد بن عمر خمسة وثمانون رجلا 3/418. ويقول: وأجمع على ذكر عبيد - بن أوس - في بدر: موسى بن عقبة ومحمد بن إسحق ومحمد بن عمر، ولم يذكره أبو معشر، وهذا عندنا منه وهم، أو ممن روى عنه 3/454. في أمثال كثيرة حاول محمد بن سعد أن يحرر وينقح ويرجح بناء على ضوابط هي جديرة بالتأمل والنظر والاستخراج لأنه من أئمة العلم، وفرسان هذا الميدان.

الخلاصة

الخلاصة: * إن عهد عمر بن عبد العزيز على رأس القرن الهجري الأول كان منعطفا هاما جديدا في بدايات تدوين السيرة النبوية وإشاعتها، وتخصيص حلقات درس بها. * أثمر هذا العهد مجموعة من المؤسسين الذين حاولوا تتبعها ونشرها وهم: عاصم بن عمر بن قتادة ت120هـ، وشرحبيل بن سعد ت 123هـ، وابن شهاب الزهري ت 124هـ، ويزيد بن رومان الأسدي ت 130هـ، وعبد الله بن أبي بكر بن حزم ت 135هـ. * ثم برز بعدهم جيل أخذوا عن أعلام الجيل السابق ووسعوا دائرة روايتهم ودونوا السيرة النبوية وبهم أخذت شكلها المنهجي الثاني، وهم موسى بن عقبة ت 141هـ، ومحمد بن إسحق بن يسار ت151هـ، وسليمان التيمي ت 143هـ، ومعمر بن راشد اليماني ت 153هـ. وحملت الأجيال مصنفات هؤلاء لأهميتها وجلالتها ولاتزال سارية إلى اليوم، ويمكن أن نسميهم جيل البناة المصنفين. * ثم جاء الجيل الثالث، فوسعوا دائرة التأليف، ونوّعوا المصادر وحاولوا استكمال النواقص، وكان من أبرز أعلام هذا الجيل: أبو معشر السندي المتوفى سنة 170هـ، ومحمد بن صالح بن دينار ت 168هـ، وعبد الملك بن محمد بن أبي بكر بن محمد بن عمرو ابن حزم ت 176هـ ويمكن أن نسميه الجيل المكمِّل.

* وفي الدور الرابع مع الجيل الرابع في العقود الأخيرة من القرن الثاني وبدايات القرن الثالث كانت الإضافات التي عند الرواة تضاف إلى السيرة النبوية على يد جيل أتم البحث عن السيرة النبوية، وحاول أن لا يترك شيئا خارج نطاق التدوين فبلغ الذروة في ذلك على يد محمد بن عمر الواقدي المتوفى سنة 207هـ. وهذا الجيل خاتمة أجيال بناة علم السيرة ومصنفاتها. وبهذا نستطيع أن نقول: إن السيرة النبوية نضج التصنيف فيها، واكتمل نهاية القرن الثاني، وإلى أعلامه ومصنفاتهم المرجع إلى قيام الساعة، وأما عن أهمية هذه المصنفات والموازنة بينها، فله مكان آخر، وقد ألمعنا إلى كثير من ذلك في كتابنا مصادر السيرة النبوية وتقويمها فلينظر. والحمد لله رب العالمين.

مصادر ومراجع

مصادر ومراجع ... قائمة المصادر والمراجع: * أسماء وشيوخ مالك لابن خلفون الأونبي، تحقيق عبد الرحمن الشاعر، وضياء محمد الأنصاري، نشر وزارة العدل والشؤن الإسلامية بدولة البحرين. * الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ للسخاوي، مطبعة الشرقي 1349هـ نشره حسام الدين القدسي. * البداية والنهاية لابن كثير، نشر دار الفكر ببيروت 1398هـ-1978م. * تاريخ بغداد، نشر دار الفكر د. ت. * التاريخ الصغير للبخاري، تحقيق محمود إبراهيم الزايد، نشر دار الوعي بحلب، ودار التراث بالقاهرة. * تاريخ الطبري، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم نشر دار المعارف بمصر ط الرابعة. * التاريخ الكبير للبخاري، مصورة عن الهندية بدار الفكر د. ت. * تذكرة الحفاظ للذهبي، مصورة عن الهندية، دار إحياء التراث العربي د. ت. * ترتيب المدارك للقاضي عياض، نشر وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمغرب. * تقييد العلم للخطيب البغدادي، تحقيق د. يوسف العش. * تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني، مصورة عن الهندية بدار الفكر.

* تهذيب الكمال في أسماء الرجال للمزي، تحقيق د. بشار معروف ط مؤسسة الرسالة 1413هـ. * الثقات لأبي حاتم بن حبان، مصورة عن الطبعة الهندية بدار الكتب العلمية د. ت. * الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، تحقيق د. محمود الطحان، نشر مكتبة المعارف بالرياض 1403?-1983م. * الجرح والتعديل لابن أبي حاتم مصورة عن الطبعة الهندية. * جونة العطار للشيخ أحمد بن الصديق نسخة خاصة. * الدرر في اختصار المغازي والسير لابن عبد البر، ط دار الكتب العلمية د. ت. * الروض الأنف في تفسير السيرة للسهيلي، تقديم طه عبد الرزاق سعد نشر دار الفكر د. ت. * سير أعلام النبلاء للذهبي، ط مؤسسة الرسالة، الثالثة 1405هـ. * السير لأبي إسحق الفزاري، دراسة وتحقيق د. فاروق حمادة نشر مؤسسة الرسالة 1408هـ-1987م. * السيرة النبوية لابن هشام، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد نشر دار الفكر د. ت. * السيرة النبوية للذهبي، مصورة بدار الكتب العلمية ببيروت 1401هـ، عن طبعة حسام الدين القدسي. * صحيح البخاري، مع شرحه فتح الباري ط السلفية. * طبقات ابن سعد، ط دار صادر بيروت، والجزء المتمم تحقيق زياد محمد

* منصور ط المجلس العلمي بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة. * طبقات خليفة بن خياط، تحقيق د. أكرم ضياء العمري، دار طيبة بالرياض، ط الثانية 1402هـ-1982م. * عيون الأثر في فنون المغازي والسير، نشر دار المعرفة بيروت د. ت، وطبعة أخرى بتحقيق د. محمد العيد الخطراوي، ومحيي الدين مستو نشر مكتبة دار التراث، ودار ابن كثير 1413هـ-1992م. * الفهرست لابن النديم، تحقيق رضا- تجرد - د. ت. * الكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي الجرجاني ط الثالثة بدار الفكر 1409-1988م. * المحدث الفاصل بين الراوي والواعي للرامهرمزي، تحقيق د. محمد عجاج الخطيب ط. الأولى بدار الفكر1391هـ-1971م. * مشاهير علماء الأمصار لأبي حاتم بن حبان، تصحيح م. فلا يشهمر مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر 1379هـ-1959م. * مصادر السيرة النبوية للدكتور فاروق حمادة ط الثانية 1410هـ بدار الثقافة بالدار البيضاء. * المغازي للواقدي، تحقيق جوثر، نشر عالم الكتب، بيروت د. ت. * ميزان الاعتدال في نقد الرجال للذهبي، تحقيق علي محمد البجاوي ط الأولى بدار إحياء الكتب العربية بمصر. * وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان لأبي العباس شمس الدين بن خلكان تحقيق د. إحسان عباس ط دار صادر بيروت.

§1/1