أعلام الحديث (شرح صحيح البخاري)

الخطابي

أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري للإمام أبي سليمان حمد بن محمد الخطابي 319 هـ - 388 هـ تحقيق ودراسة الدكتور محمد بن سعد بن عبد الرحمن آل سعود

الطبعة الأولى 1409 هـ - 1988 م

مقدمة المؤلف

مقدمة المؤلف بسم الله الرحمن الرحيم قال الشيخ الإمام أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي: الحمد لله المنعم، مفضل النبيين، المجزل الجواد الكريم، ذي المن العظيم الذي ابتدأنا بنعمته في الأزل مشيئة وقدرا قبل أن نكون خلقا بشرا وقبل أن نسوى أجساما وصورا، ثم اصطنعنا بعدُ فأكرمنا بمعرفته وأرشدنا بنطر هدايته، علمنا الدين وكنا جهالا، وبصرنا السبيل وكنا ضلالا، ولولا فضله علينا ورحمته إيانا ما زكا منا من أحد ولا اهتدى بجهده إلى خير ورشد، و {الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما} أوضح به مناهج الحق ونور سبله وطمس به أعلام الباطل وعور طرقه، وشرع فيه الأحكام، وبين فيه الحلال والحرام، ثم بشر وأنذر (ووعد) وأوعد، وضرب فيه الأمثال، واقتص عن الأمم السالفة نواصي الأخبار ليكون لنا فيها موعظة وبها اعتبار. والحمد لله {الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته

ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}. جعله مهيمنا على كتابه ومبينا له وقاضيا على ما أجمل منه بالتفسير، وعلى ما أبهم من ذكره بالبيان والتلخيص ليرفع بذلك من قدره ويشيد بذكره، فتكون أحكام شرائع دينه صاردة عن بيان قوله وتوقيفه، ثم قرن طاعته بطاعته، وضمن الهدى في متتابعته. فقال: {من يطع الرسول فقد أطاع الله} وقال جل جلاله: {وإن تطيعوه تهتدوا}، وشهد له بالصدق فيما قاله وبلغه فقال عز وجل: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى}، وسلم له فيما شرعه وسنه الحكم وألقى إليه في ذلك أزمة الأمر، فقال عز وجل: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما}. وأحمد الله الذي جعلنا من أمته فأكرمنا بدينه وسنته وعلمنا منهما ما لم نكن نعلم وكان فضله علينا عظيما. نحمده على جميع آلائه قديمها وحديثها تليدها وطريفها السالفة منها والراهنة، الظاهرة منها والباطنة، حمد المعترفين بأسبابه وإبلائه، العاجزين عن مزيد فضله وإحصائه، المجتهدين في بلوغ شكره، الراغبين في المزيد من نوافل بره، ونسأله أن يصلي على

محمد عبده ورسوله أفضل صلاة صلاها على نبي من أنبيائه أرفعها درجة وأسناها ذكرا، صلاة تامة زاكية غادية عليه ورائحة، كما قد جاهد فيه حق جهاده، وناصحه في إرشاد خلقه وعباده، وعادى فيه الأقربين، ووالى الأجانب الأبعدين، وصدع بما أمر حتى أتاه اليقين، وأن يضاعف من بركاته عليه، ويزلف مقامه لديه، وأن يسلم عليه وعلى آله تسليما. وإن جماعة من إخواني ببلخ كانوا سألوني عند فراغي لهم من إملاء كتاب (معالم السنن) لأبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني -رحمه الله- أن أشرح لهم كتاب الجامع الصحيح لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري -رحمه الله- وأن أفسر المكل من أحاديث وأبين الغامض من معانيها، وذكروا أن الحاجة إليه كانت أمس، والمؤنة على الناس فيه أشد، فتوقفت إذ ذاك عن الإجابة إلى ما التمسوه من ذلك، إذ كنت أستصعب الخطة وأستبعد فيه الشقة، لجلالة شأن هذا الكتاب فإنه كما قيل: (كل الصيد في جوف الفرا) ولما يشتمل عليه من صعاب الأحاديث وعضل

الأخبار في أنواع العلوم المختلفة التي قد خلا عن أكثرها كتاب المعالم؛ إذ كان معظم القصد من أبي داود في تصنيف كتابه ذكر السنن والأحاديث الفقهية، وغرض صاحب هذا الكتاب إنما هو ذكر ما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حديث في جليل من العلم أو دقيق، ولذلك أدخل فيه كل حديث صح عنده في تفسير القرآن، وذكر التوحيد والصفات، ودلائل النبوة ومبدأ الوحي وشأن المبعث، وأيام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحروبه ومغازيه، وأخبار القيامة والحشر، والحساب، والشفاعة وصفة الجنة والنار، وما ورد منها في ذكر القرون الماضية، وما جاء من الأخبار في المواعظ والزهد والرقاق، إلى ما أودعه بعدُ من الأحاديث في الفقه والأحكام والسنن، والآداب، ومحاسن الأخلاق، وسائر ما يدخل في معناها من أمور الدين، فأصبح هذا الكتاب كنزا للدين، وركازا للعلوم، وصار بجودة نقده وشدة سبكه حكما بين الأمة فيما يراد أن يعلم من صحيح الحديث وسقيمه، وفيما يجب أن يعتمد ويعول عليه منه، ثم إني فكرت بعد فيما عاد إليه أمر الزمان في وقتنا هذا من نضوب العلم، وظهور الجهل، وغلبة أهل البدع، وانحراف كثير من أنشاء الزمان إلى مذاهبهم وإعراضهم عن الكتاب والسنة، وتركهم البحث عن معانيهما، ولطائف علومهما، ورأيتهم حين هجروا هذا العلم وبخسوا حظا منه ناصبوه وأمعنوا في الطعن على أهله فكانوا كما قال الله عز وجل: {وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك

قديم}. ووجدتهم قد تعلقوا بأحاديث من متشابه العلم قد رواها جامع الكتاب وصححها من طريق السند، والنقل، لا يكاد يعرف عوام رواة الحديث وجوهها ومعانيها، إنما يعرف تأويلَها الخواصُّ منهم، الراسخون في العلم، المتحققون به، فهم لا يزالون يعترضون بها عوام أهل الحديث، والرجل [؟] والضعفة منهم، فإذا لم يجدوا عندهم علما بها ومعرفة بوجوهها اتخذوهم سلما إلى ما يريدون من ثلب جماعة أهل الحديث والوقيعة فيهم، ورموهم عند ذلك بالجهل وسوء الفهم، وزعموا أنهم مقلدون يروون ما لا يدرون، وإذا سئلوا عنه وعن معانيه ينقطعون ويسمونهم من أجل ذلك حمالة الحطب وزامل [وزوامل] الأسفار ونحوهما من ذميم الأسماء والألقاب فكم غُمر يغتر بهم من الأغمار، والأحداث الذين لم يخدموا هذا الشأن ولم يطلبوه حق طلبه، ولم يعضوا في علمه بناجذ فيصير ذلك سببا لرغبتهم عن السنن وزهدهم فيها، فيخرج كثير من أمر الدين عن أيديهم وذلك بتسويل الشيطان لهم ولطيف مكيدته فيهم، وتخوفت أن يكون الأمر فيما يتأخر من الزمان أشد والعلم فيه أعز لقلة عدد من أراه اليوم يُعنَى بهذا الشأن ويهتم به اهتماما صادقا، ويبلغ فيه من العلم مبلغا صالحا. فحضرتني النية في إطلابهم ما سألوه من ذلك، وثابت إلي الرغبة

في إسعافهم بما التمسوه منه، ورأيت في حق الدين وواجب النصيحة لجماعة المسلمين أن لا أمنع ميسور ما أسبغ له من تفسير المشكل من أحاديث هذا الكتاب وفتق معانيها، حسب ما تبلغه معرفتي ويصل إليه فهمي، ليكون ذلك تبصرة لأهل الحق، وحجة على أهل الباطل والزيغ، فيبقى ذخيرة لغابر الزمان، ويخلد ذكره ما اختلف الملوان. والله الموفق لذلك، والمعين عليه، والعاصم من الزلل فيه بمنه ورأفته. وقد تأملت المشكل من أحاديث هذا الكتاب والمستفسر منها فوجدت بعضها قد وقع ذكره في كتاب معالم السنن مع الشرح له والإشباع في تفسيره، ورأيتني لو طويتها فيما أفسره من هذا الكتاب وضربت عن ذكرها صفحا اعتمادا مني على ما أودعته ذلك الكتاب من ذكرها كنت قد أخللت بحق هذا الكتاب فقد يقع هذ عند (من) لا يقع عنده ذاك، وقد يرغب في أحدهما من لا يرغب في الآخر ولو أعدت فيه ذكر جميع ما وقع في ذلك التصنيف كنت قد هجَّنت هذا الكتاب بالتكرار، وعرضت الناظر فيه للملال، فرأيت الأصوب أن لا أخليها من ذكر بعض ما تقدم شرحه وبيانه هناك متوخيا الإيجاز فيه، مع إضافتي إليه ما عسى أن يتيسر في بعض تلك الأحاديث من تجديد فائدة وتوكيد معنى زيادةً على ما في ذلك الكتاب ليكون عوضا عن الفائت وجبرا للناقص منه، ثم إني أشرح

بمشيئة الله الكلام في سائر الأحاديث التي لم يقع ذكرها في معالم السنن وأوفيها حقها من الشرح والبيان. فأما ما كان فيها من غريب الألفاظ اللغوية فإني أقتصر من تفسيره على القدر الذي تقع به الكفاية في معارف أهل الحديث الذين هم أهل هذا العلم وحملته دون الإمعان فيه والاستقصاء له على مذاهب أهل اللغة من ذكر الاشتقاق والاستشهاد بالنظائر ونحوها من البيان، لئلا يطول الكتاب، ومن طلب ذلك وجد العلة فيه مراضة بكتاب أبي عبيد ومن نحا نحوه في تفسير غريب الحديث. وأما استناد هذا الكتاب وسماعه فإنا لم نلحق من أصحاب محمد بن إسماعيل الذين شاهدوه وسمعوا منه لقدم موته، فإنه مات رحمه الله على ما بلغنا، سنة ست وخمسين ومائتين. وقد سمعنا

معظم هذا الكتاب من رواية إبراهيم بن معقل النسفي حدثناه خلف بن محمد الخيام قال: حدثنا إبراهيم بن معقل عنه سمعنا سائر الكتاب إلا أحاديث من آخره من طريق محمد بن يوسف الفَرَبْري، حدثنيه محمد بن خالد بن الحسن قال: حدثنا الفربري عنه، ونحن نبين مواضع اختلاف الرواية في تلك الأحاديث إذا انتهينا إليها إن شاء الله. قال أبو سليمان - رحمه الله - صدَّر أبو عبد الله كتابه بحديث النية وافتتح كلامه به، وهو حديث كان المتقدمون من شيوخنا -رحمهم الله- يستحبون تقديمه أمام كل شيء يُنشأ ويبتدأ من أمور الدين، لعموم الحاجة إليه في جميع أنواعها ودخوله في كل باب من أبوابها.

كتاب بدء الوحي

كتاب بدء الوحي (1) (باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم): 1/ 1 - حدثنا خلف بن حمد قال: حدثنا إبراهيم بن معقل قال: حدثنا محمد بن إسماعيل قال: حدثنا الحمدي قال: حدثنا سفيان قال أخبرنا يحيى بن سعيد الأنصاري قال: حدثنا محمد بن إبراهيم التيمي أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي قال: سمعت عمر بن الخطاب على المنبر يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

يقول: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه). قال أبو سليمان -رحمه الله- هكذا وقع في رواية إبراهيم بن معقل عنه، مخرما، قد ذهب شطره، ورجعت إلى نسخ أصحابنا فوجدتها كلها ناقصة لم يذكر فيها قوله: (فمن كانت هجرته إلى الله وإلى رسوله فهجرته إلى الله وإلى رسوله). وكذلك وجدته في رواية الفربري أيضا، فلست أدري كيف وقع هذا الإغفال، ومن جهة من عرض من رواته؟ وقد ذكره محمد بن إسماعيل في هذا الكتاب في غير موضع من طريق الحميدي فجاء به مستوفى رواه عن أبي النعمان: -محمد بن الفضل- عن حماد بن زيد، عن يحيى بن سعيد، ورواه أيضا عن قتبة، عن عبد الوهاب، عن

يحيى بن سعيد فما خرم منه شيئا. ولست أشك في أن ذلك لم يقع من جهة الحميدي فقد رواه لنا الأثبات من طريق الحميدي، تاما غير ناقص. أخبرنا ابن الأعرابي قال: حدثنا أبو يحيى بن أبي (ميسرة)، قال: حدثنا الحميدي ح وحدثنا أحمد بن إبراهيم بن مالك الرازي قال: حدثنا بشر بن موسى قال: حدثنا الحميدي قال: حدثنا سفيان قال: أخبرنا يحيى بن سعيد قال: حدثنا محمد بن إبراهيم التيمي أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن

كانت هجرته إلى الله وإلى رسوله فهجرته إلى الله وإلى رسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه). اللفظ للرازي (فهذه) رواية الحميدي عن سفيان، تامة غير ناقصة كما ترى، والله أعلم من أين عرض التقسير فيه، ولا أعلم خلافا بين أهل الحديث في أن هذا الخبر لم يصح مسندا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا من رواية عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وقد غلط بعض الرواة فرواه من طريق أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.

حدثنا إبراهيم بن فراس، قال: حدثناه موسى بن هارون قال: حدثنا نوح بن حبيب قال: حدثنا عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد قال: حدثنا مالك بن أنس، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إنما الأعمال بالنية ولكل امرئ ما نوى). فذكر نحوا من حديث عمر -رضي الله عنه- وهذا عند أهل المعرفة بالحديث مقلوب، وإنما هو إسناد حديث آخر ألصق به هذا المتن. ويقال: إن الغلط إنما جاء فيه من قبل نوح بن حبيب البذشي.

وهذا الحديث أصل كبير من أصول الدين ويدخل في أحكام كثيرة، ومعنى النية: قصدك الشيء بقلبك، وتحري الطلب منك له. وقيل: هي عزيمة القلب. وقال بعض أهل اللغة: أصل النية الطلب. ويقال: لي عند فلان نية ونواة، أي طلبة وحاجة وأنشد لكثير: وإن الذي ينوي من المال أهلها .... أوارك لما تأتلف وعوادي يريد ما يطلبونه من المهر. وقوله: (إنما الأعمال بالنيات). لم يرد به أعيان الأعمال؛ لأنها حاصلة حسا وعيانا بغير نية، وإنما معناه أن صحة أحكام الأعمال في حق الدين إنما تقع بالنية، وأن النيات هي الفاصلة بين ما يصح منها وبين ما لا يصح، وكلمة (إنما) عاملة بركنيها إيجابا ونفيا، فهي تثبت الشيء وتنفي ما عداه، فدلالتها أن العبادة إذا صحبتها النية

صحت، وإذا لم تصحبها لم تصح، ومقتضى حق العموم منها يوجب أن لا يصح عمل من الأعمال الدينية أقوالها وأفعالها إلا بنية دخل فيها التوحيد الذي هو رأس أعمال الدين فلا يصح القول بالتوحيد إلا بمعرفة وقصد إخلاص فيه، وكذلك سائر أعمال الدين، من الصلاة والزكاة والصيام والوضوء بالماء والتيمم بالتراب، فلو أن رجلا غسل أعضاء الوضوء من بدنه تبردا أو تنظفا لم يجزه أن يصلي بذلك حتى ينوي بالوضوء رفع الحدث، وكذلك لو فعله يريد به تعليم غيره الوضوء. ومثل ذلك لو انغمس في نهر ليتعلم سباحة أو يصطاد سمكا، أو يستخرج من قعره شيئا، أو ليأخذ ما يطفو على متنه من غثاء وحطب في نحو ذلك، لم يجز أن يصلي بشيء منها حتى يكون قصده بمس الماء نوعا من العبادة التي لا تجزي [تجزئ] إلا بطهارة. ويدخل في عمومه فرض الأعمال ونفلها وقليلها وكثيرها. وقوله: (وإنما لكل امرئ ما نوى). تفصيل لبيان ما تقدم ذكره، وتأكيد له، وفيه معنى خاص لا يستفاد من الفصل الأول، وهو إيجاب تعيين النية للعمل الذي يباشره، فلو نوى رجل أن يصلي أربع ركعات عن فرضه إن كان قد فاته، وإلا فهي تطوع لم تجزه عن فرضه، لأنه لم يمحِّض النية له ولم يعينه بأن لا يشرك معه غيره وإنما داول في النية بين الفرض وبدله، فلم تجد النية قرارا، وكذلك هذا فيمن نوى في آخر ليالي شعبان أن يصوم غدا عن فرض رمضان إن أهل الهلال، وإلا فهو تطوع، فصادف صومه الشهر لم

يجزه عن فرضه، وكذلك هذا فيمن فاتته صلاة من الصلوات الخمس، لا يعرفها بعينها، فإن عليه أن يصليها كلها، ينوي كل واحدة منها عن فرضه، وقد زعم بعضُ من ينتسب إلى مذهب الشافعي رحمه الله أنه قد يمكنه استدراك الفائت من فرضه بأن يصلي أربع ركعات، يجهر في الأوليين منها ويقعد في الثانية ويتشهد، ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم يصلي الثالثة ويقعد فيها ويتشهد، ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم يقوم إلى الرابعة فيصليها ويقعد للتشهد والصلاة، ثم يسلم، فتكون الثالثة كزيادة ركعة، بالشك على الفريضة إن كان الفائت صبحا، والرابعة كذلك زيادة ركعة، بالشك على فرضه إن كان مغربا ويكون تمام الأربع عن سائر الفرائض أيتها فاتته. وهذا لا يصح عند أكثر أصحاب الشافعي على مذهبه، ولكنه قد يتوجَّه على مذاهب بعض فقهاء العراق فإنه قال: إذا فاتته صلاة يوم وليلة صلى ركعتين للفجر وثلاثا المغرب وأربعا تجزئه عن أيتها كانت من الصلوات الثلاث، وذلك لأنه لم يراع التعيين في الفائتة إنما راعى الصفة فيها. فأما موضع النيات فإنها تختلف، منها ما تجب المحاذاة بها للعمل الذي ينوي له كالصلاة والطهارة. ومنها ما يجوز تقديمها على العمل كالصيام. ومنها ما يتضمن النية جملة أفعال متفرقة ينتظمها اسم واحد، فتنوب النية الواحدة عنها كلها وقد تتأخر نية التعيين عن وقت إنشاء الإحرام، ثم يصرفه إلى ما أحب من الحج والعمرة مفردا لكل واحدة منها أو جامعا بها بينهما. وقد يقع في بعض الأعمال على إبهام، ثم يقع التعيين لموضعها فيما بعد، كمن عليه كفارتان من قتل نفس وظهار

وهو واجد للرقبة، فإذا أعتق رقبة ولم تحضره النية عن العتق نواه فيما بعد لأيتهما شاء. وعلى (كل) حال فلا ينفك عمل من أعمال العبادات عن نية ما، ولا يق شيء منها محتسبا بها في ذات الله إلا بها، وإنما جاز التقديم والتأخير فيها لعلل وأسباب ليس هذا موضع ذكرها. وقد ذهب أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو ثور إلى أن الحاج إذا طاف طواف الإفاضة ولم ينوه عن الفرض لم يجزه، وجوزه الشافعي؛ لأن النية الأولى قد تضمن جميع أفعال الحج، وكذلك قال سفيان الثوري وأصحاب الرأي. وقال مالك بن أنس في الصرورة: إذا نوى الحج عن غيره وقع عن المحجوج عنه.

واحتج له بعض أصحابه بقوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات) وهذا قد نواه عن زيد فلا يقع عن عمرو. قال: ولو كان الحج واقعا عن نفسه لحصل بلا نية. (وقد خصت النية بأن لا صحة لعمل من أعمال الدين إلا بنية). ومما يجب عليك أن تحكمه في هذا الباب تقدمة المعرفة بأمور منها: أن تعرف الشيء الذي تعبدت به، وأن تعلم أنك مأمور به، وأن تطلب موافقة الآمر فيما تعبدت به، فإنك إذا لم تعلم صفة ما أمرت به لم يتأت لك فعله على الوجه الذي تعبدت به، ومن فعل المأمور به من غير أن يعرف أنه مأمور به أو في جملة المأمورين به لم يكن في فعله مطيعا للآمر، ومن عرف الآمر ثم لم يقصد بفعله المأمور به موافقة الآمر لم يكن ممتثلا لأمره وهذا جملة من أمر علم النية وما يدخل في معناها. وقد يستدل من هذا الحديث في مواضع من أحكام المعاملات وما يتصل بها مما ليس من باب العبادات المحضة، منها أن يستدل به على أنه من أكره على الكفر فتكلم به على التقية وهو ينوي معنى يخالف ظاهر القول الذي جرى على لسانه أنه لا يكفر به، فكذلك من أكره على يمين بظلم أو أكره على طلاق إذا ألحد في النية إلى غير

معنى فساد النكاح ونيته، كما ينوي أن تكون طالقا من وثاق أو نحوه، وقد يطلقها بلفظ من ألفاظ الكنايات يحتمل معنى وقوع البينونة فيكون ما نوى من العدد. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لركانة حين طلق امرأته البتة: كم أردت؟ ويدخل في هذا المعنى ما ينويه الإنسان في يمينه مما يخالف باطن معناه ظاهر الاسم فيسقط عنه الحنث، كمن قال: والله ما رأيت زيدا، وهو ينوي أنه لم يصب رئته، وما كلمت عمرا، يريد ما جرحته، ونحو ذلك من الكلام المحتمل للمعاني المختلفة. وقد يستدل به على أن كل ما يحتال به في العقود والبياعات من غش وخلابة واستفضال صرف أو ربا، أن جميع ذلك باطل في

حق الدين، لأنه إنما قصد به التوصل إلى المحظور والأمر المحرم، لا يجوز أن يستباح به الشيء المحظور في حق الدين، وقد استدل به بعضهم على أن طلاق السكران غير واقع، إذا كان لا يدري ما يقول، وهذا الاستدلال فيه بعد وضعف؛ لأن موضع النية من الطلاق خالٍ وجوبا وسقوطا إلا أن يكون إيقاعُه الطلاق بلفظ من ألفاظ الكناية فيتعلق بالنية. وقد زعم قول أن الاستدلال بهذا الحديث في غير نوع العبادات غيرُ صحيح، لأن الحديث إنما جاء في اختلاف مصارف وجوه العبادات لاختلاف النيات لها، فإذا أخرج إلى غير نوع ما جاء فيه لم تسر دلالته إليه، فأما عوام الفقهاء فإنهم إنما ينظرون إلى اتساع لفظ الكلام واحتمال الاسم لما يصلح صرفه إليه من المعاني ويراعون الأسباب التي يخرج عليها الكلام، ولا يقصرونه على نوعه حتى لا يتعداه إلى غيره. وقوله: (فمن كانت هجرته إلى الله وإلى رسوله فهجرته إلى الله وإلى رسوله) فمعناه أن من قصد بالهجرة قصد القربة إلى الله عز وجل لا يخلطها بشيء من (الدنيا) وطلب أرب من آرابها، فهجرته إلى الله ورسوله أي فهجرته مقبولة عند الله وعند رسوله،

وأجره واقع على الله عز وجل، (ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه)، يريد أن حظه من هجرته هو ما قصده من دنيا، ولا حظ له في الآخرة. ويروى أن هذا إنما جاء في رجل كان يخطب امرأة بمكة فهاجرت إلى المدينة فتبعها الرجل رغبة في نكاحها فقيل له: مهاجر أم قيس.

(2) باب

(من كتاب كيف كان بدء الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم) (2) باب 2/ 2 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن يوسف قال: أخبرنا مالك عن هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة -رضي الله عنها- أن الحارث بن هشام سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله: كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي، فيفصم عني، وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول). قالت عائشة: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا. قوله: (يفصم عني) معناه يقلع عني وينجلي ما يتغشاني منه، وأصله من الفَصْم وهو القطع. ومنه قول الله تعالى: {لا انفصام لها} أي لا انقطاع لها. ويقال: إن أصل الفصم

الصدق والشق من غير إبانة، وأما القَصْم -بالقاف- فهو الكسر حتى يبين وينفصل، والمعنى أن الوحي كان إذا ورد عليه تصعَّده، له مشقة ويغشاه كرب وذلك لثقل ما يلقى عليه من القول وشدة ما يأخذ به نفسه من جمعه في قلبه وحسن وعيه وحفظه، فيعتريه لذلك حال كحال المحموم، وهو معنى ما جاء في رواية أخرى أنه كان يأخذه عند الوحي الرُّحَضاء أي البُهْر والعرق، ولذلك كان يتفصد جبينه، أي يسيل عرقا كما يفصد العرق فسيل منه الدم، وبيان هذا في قوله عز وجل: {إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا}. وقوله: {لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه}. قال ابن عباس: كان يستذكر مخافة أن ينفلت منه. وأما قوله: (يأتيني مثل صلصلة الجرس) فإنه يريد، والله أعلم، أنه صوت متدارك يسمعه ولا يتثبته عند أول ما يقرع سمعه حتى يتفهم ويستثبت فيتلقفه حينئذ ويعيه، ولذلك قال: (وهو أشده علي). وجملة الأمر فيما كان يناله من الكرب عند نزول الوحي هي شدة

الامتحان له ليبلو صبره ويحسن تأديبه، فيرتاض لاحتمال ما كلفه من أعباء النبوة، وحسن الاضطلاع للنهوض به إن شاء اله، وقد روى أبو عبد الله فيما يشبه هذا حديثا في كتاب المناسك كتبناه هاهنا، إذ كان مشاكلاً لهذا الحديث.

(17) [باب غسل الخلوق ثلاث مرات من الثياب]

(17) [باب غسل الخلوق ثلاث مرات من الثياب] 3/ 1536 - قال أبو عبد الله: قال أبو عاصم، أخبرنا ابن جريج قال: أخبرنا عطاء أن صفوان بن يعلى أخبره أن يعلى قال لعمر: أرني النبي حين يوحى إليه؟ قال: فبينما النبي صلى الله عليه وسلم بالجعرانة ومعه نفر من أصحابه جاءه رجل فقال يا رسول الله: كيف ترى في رجل أحرم بعمرة وهو متضمخ بطيب؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء الوحي فأشار عمر إلى يعلى فجاء يعلى، وعلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثوب قد أظل به، فأدخل رأسه فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم محمر الوجه، وهو يغط، ثم

سري عنه فقال: أين الذي سأل عن العمرة) وذكر الحديث. هذا شبيه في المعنى لما تقدم ذكره في الحديث الأول من صعوبة الأمر عليه في تلقي الوحي عند وروده وضعف القوة البشرية عن احتماله، هذا إلى ما استشعره من الخوف والوجل لوقوع تقصير فيما أمر به من حسن ضبطه، والشفق من اعتراض خلل دونه. وقد أنذر - صلى الله عليه وسلم - وخوف بما ترتاع له النفس، ويعظم به وجل القلوب في قوله تعالى: {ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين} الاية. وكان قد ابتُلي أيضا بما ألقاه الشيطان في أمنيته، في سورة (النجم)، إلى أن أنزل الله عذره، وآمنه من تبعته في قوله: {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته} الآية. وقد يحق لما هذا سبيله من عظم الشأن أن يستعد له بأشد ما يكون من الاحتفال، وأن يستفرغ له واسع النفوس، ويبلغ به غاية الاجتهاد وأن يرى كل ما يلقاه صاحبه من تعب ومشقة جللا دونه، فهذا والله أعلم، وجهه ومعناه دون ما يزعمه الجهال الذين لا روية لهم في العلم ولا بصيرة لهم بالدين من ترهات الأباطيل التي لا أصل لها ولا طائل فيها.

(3) [باب]

(3) [باب] 4/ 3 - قال أبو عبد الله: حدثني يحيى بن بكير قال: حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد حتى جاءه الحق وهو فيه، فجاءه الملك فقال: اقرأ. قال: ما أنا بقارئ. قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ فقلت: ما أنا بقارئ. إلى أن قال: فأخذني فغطني الثالثة. ثم أرسلني فقال: {اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم} فرجع بها

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرجف فؤاده، فدخل على خديجة فقال: زملوني فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة -وأخبرها الخبر- (لقد خشيت على نفسي). فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق)، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل، وكان امرأ تنصر في الجاهلية، وكان يكتب العبراني، وكان شيخا كبيرا قد عمي، فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعا، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا، وذكر بقية الحديث. وهذه الأمور التي كان - صلى الله عليه وسلم - بدئ بها من صدق الرؤيا، وحب العزلة عن الناس، والخلوة في غار حراء، والتعبد فيه ومواظبة الصبر عليه الليالي ذوات العدد، وإنما هي أسباب ومقدمات أرهصت لنبوته، وجعلت مبادئ لظهورها ورؤيا الأنبياء وحي. قال عبيد بن عمير: رؤيا الأنبياء وحي. ونزع بقوله عز وجل: {إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر}.

وكان - صلى الله عليه وسلم - تنام عيناه ولا ينام قلبه، والخلوة يكون معها فراغ القلب، وهي معينة على الفكر، وقاطعة لدواعي الشغل، والبشر لا ينتقل عن طباعه، ولا يترك ما ألفه من عاداته إلا بالرياضة البليغة والمعالجة الشديدة، فلطف الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم في بدء أمره، فحبب إليه الخلوة، وقطعه عن مخالطة البشر ليتناس المألوف من عاداتهم ويستمر على هجران ما لا يحمد من أخلاقهم، وألزمه شعار التقوى، وأقامه مقام التعبد بين يديه ليخشع قلبه وتلين عريكته لورود الوحي، فيجد فيه مَرادا سهلا، ولا يصادفه حَزنا وعرا، وعلى هذا المعنى كان، والله أعلم، مطالبة الملك إياه بالقراءة، ومعالجته إياه بالغط وشدة الضغط، فإن الآدمي إذا بلغ منه هذا المبلغ في أمر سمح به إن كان في وسعه، أو تكلف منه بعض ما حمل منه إن لم يكن ذلك من طبعه، فجُعلت هذه الأسباب مقدمات لما أرصد له من الشأن ليرتاض بها ويستعد لما ندب له منه، ثم جاءه التوفيق والتيسير، وأمد بالقوة الإلهية، وبُزت منه النقائص البشرية، وجمعت له الفضائل النبوية - صلى الله عليه وسلم -.

وقوله: (مثل فلق الصبح) يريد ضياء الصبح (إذا انفق وتميز عن ظلمة الليل، وظهر نوره وانبلج يقال: فلق الصبح)، وفرق الصبح، وهذا الأمر أبين من فلق الصبح. وقوله: فيتحنث معناه: يتعبد، وقيل للتعبد التحنث، لأنه يلقي به الحنث عن نفسه، ونظيره في الكلام التحوب والتأثم، أي إلقاء الحوب والإثم عن النفس. قالوا: وليس في كلامهم تفعَّل الرجل إذا ألقى الشيءَ عن نفسه غيرُ هذه. وقوله: (فأخذني فغطني) يريد الضغط الشديد، ومنه الغط في الماء، ومن ذلك غطيط البَكْر وغطيط النائم وهو ترديد النفس إذا لم تجد مساغا مع انضمام الشفتين، ومعنى الغط في هذا الحديث الخنق، وقد جاء في غير هذه الرواية فأخذني فسأبني، والسأب

الخنق. ويرجف فؤاده أي يخفِق، والرجف: شدة الحركة. ومنه الحديث (أنه كان على حرا فرجف الجبل). وزملوني يريد دثروني، وتزمل الرجل بالثوب إذا اشتمل به. وقلها: وتكسب المعدوم، صوابه: وتكسب المُعْدِم، لأن المعدوم لا يدخل تحت الأفعال، يريد أنك تعطي العائل وترفُده، وفيه لغتان يقال: كسبت الرجل مالا وأكسبته، وأفصحهما بحذف الألف، وأنشدني أبو عمر عن أبي العباس في إثبات الألف: فأكسبته مالا وأكسبني حمدا. قولها: وتحمل الكل: أي تعين الضعيف والمنقطع به، والكَل:

ما لا يغني نفسه، ولا يستقل بأمرها، ومنه قيل للعيال: كل. وقوله: هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى، يريد جبريل عليه السلام. وأخبرني أبو عمر قال: أخبرنا أبو العباس عن عمرو بن أبي عمرو الشيباني عن أبيه قال: الناموس صاحب سر الخير، والجاسوس صاحب سر الشر. ويقال: إن أصله مأخوذ من قولك: نامست الرجل إذا ساررته، فقيل منه: ناموس، على بناء فاعول، وقيل: هو مقلوب من ناسمته فقدم الميم على السين. وقوله: (يا ليتني فيها جذعا) معناه: ليتني بقيت حيا إلى وقت مخرجك، وأيام دعوتك، وكنتُ فيها شابا بمنزلة الجذع من الخيول، لقول الآخر:

يا ليتني فيها جذعْ .... أخُب فيها وأضعْ قوله: (فيها) على التأنيث، أضمر ما الدعوة أو النبوة أو الدولة، ونصب جذعا على معنى ليتني كنت جذعا، فأضمر (كنت) لأن ليت قد شغل بالمكني، فلم يبق له عمل فيما بعده. وقوله: أنصرك نصرا مؤزرا، أي بليغا مقوى، من الأزر وهو القوة والظهر.

(6) [باب]

(6) [باب] 5/ 7 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو اليمان - الحكم بن نافع - قال: أخبرنا شعيب عن الزهري أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أعبد الله بن عباس أخبره أن أبا سفيان بن حرب أخبره أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش، وكانوا تجارا بالشام في المدة التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مادَّ فيها أبا سفيان وكفار قريش، فأتوه ودعا بترجمانه فقال: أيكم أقرب نسبا من هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقلت: أنا. ثم قال

لترجمانه قل لهم: إني سائل هذا عن هذا الرجل، فإن كذبني فكذبوه، فوالله لولا الحياء أن يأثِروا عليَّ كذبا لكذبته عنه، ثم كان أول ما سألني عنه أن قال: كيف نسبه فيكم؟ قلت: هو فينا ذو نسب. قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قبله قط؟ قلت: لا. قال: فهل كان من آبائه من ملك؟ قلت: لا. قال: فأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ قلت: بل ضعفاؤهم. قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون. قال: فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قلت: لا. قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا. قال: فهل يغدر؟ قلت: لا. ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها. قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم. قال: فكيف كان قتاله إياكم؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال. ينال منا وننال منه. قال: بماذا يأمركم؟ قلت: يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة. فقال للترجمان: قل له: سألتك عن نسبه، فذكرت أنه فيكم ذو نسب، وكذلك الرسل تبعث في نسب قومها، وسألتك: هل أحد منكم قال هذا القول قبله؟ فذكرت أن لا. فقلت: لو كان أحدٌ

قال هذا القول قبله لقلت: رجل يأتيني [يأتسي] بقول قيل قبله. وسألتك: هل كان من آبائه من ملك؟ فذكرت أن لا. قلت: فلو كان من آبائه ملك قلت: رجل يطلب ملك أبيه. وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله. وسألتك: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه وهم أتباع الرسل. وسألتك: أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم. وسألتك: أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت أن لا. وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب، وسألتك: هل يغدر؟ فذكرت أن لا. وكذلك الرسل لا تغدر، وسألتك بم يأمرك؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف. وإن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، ولم أكن أظن أنه منكم، ولو أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه. قال: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إليه فدعا بكتابه فقرأه فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم

الروم، السلام على من اتبع الهدى. أما بعد فإني لأدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم اليريسيين، و {يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم} إلى قوله {اشهدوا بأنا مسلمين}. قال أبو سفيان: فلما قال ما قال، وفرغ من قراءة الكتاب كثر عنده الصخب، وارتفعت الأصوات فأخرجنا. فقلت لأصحابي حين أخرجنا: لقد أمِر أمرُ ابن أبي كبشة، إنه يخافه ملك بني الأصفر. وفي هذا الحديث أن هرقل أذن لعظماء الروم في دسكرة له بحمص، ثم أمر بأبوابها فغلقت ثم اطلع، فقال: يا معشر الروم: هل لكم في الفلاح والرشد، وأن يثبت ملككم فتبايعوا هذا النبي؟ فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب فوجدوها قد غلقت، وذكر الحديث. إذا تأملت معاني هذا الحديث الذي وقع في الفصل الأول من مسألته عن أحوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأطواره وما استقراه من أوصافه تبينت حسن ما استوصف من أمره، واستبرأه من جوامع شأنه، ولله دره من رجل ما كان أقله [؟] لو ساعد معقوله مقدوره. فأما قوله في كتابه (إلى عظيم الروم) فمعناه إلى من تعظم الروم وتقدمه عليها، ولم يكتب إلى ملك الروم، بما يقتضيه هذا اسم من المعاني التي لا يستحقها من ليس من أهل دين الإسلام،

ولو فعل ذلك لكان فيه التسليم لملكه، وهو بحكم الدين معزول، ومع ذلك فلم يخله من نوع من الإكرام في المخاطبة، ليكون آخذا بأدب الله تعالى في تليين القول لمن يبتدئه بالدعوة إلى دين الحق. وقوله: أدعوك بدعاية الإسلام، يريد دعوة الإسلام، وهي كلمة الشعار التي إليها يدعى أهل الملل الكافرة، والدعاية مبنية من قولك: دعا يدعو، كما قيل: شكا يشكو شكاية، وقد تقام المصادر مقام الأسماء، وبيان الدعاية في قوله: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة} الآية. وأما قوله: (فإن عليك إثم اليريسيين) فإنه رواه هكذا بالياء، وهو في سائر الروايات: فإن عليك إثم الأريسيين. هكذا حدثناه حمزة بن الحارث قال: حدثنا عبيد بن شريك البزار قال: حدثنا يحيى بن بكير قال: حدثني الليث بن سعد عن

يونس عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس وذكر الحديث إلى أن قال: (أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين). وقال فيه: فلما فرغ من قراءة الكتاب كثر اللجب، مكان قوله (الصخب). قال بعض أهل اللغة: واحد الأريسيين: أريسي، وهو منسوب إلى الأريس وهو الأكار. وقال أبو العباس أحمد بن يحيى: قال ابن الأعرابي: الأريس الأكار ويجمع على الأريسين بتخفيف الياء، وقد أرس يأرس أرسا، إذا صار أريسا. ويقال أيضا: الإرِّيس ويجمع على إريسيين وأرارسة.

والمعنى أنك إن لم تسلم وأقمت على دينك كان عليك إثم الزراعين والأجراء الذين هم خول وأتباع لك، ويقال: إنهم كانوا مجوسا. فأما اليريسي إن صح من الرواية فإن الياء فيه مبدلة عن الهمزة. وفي الخبر دليل على أن النهي عن أن تسافر بالقرآن إلى أرض العدو إنما هو في حمل المصحف من القرآن المجموع فيه السور أو الآيات الكثيرة دون الآية والآيتين ونحوها مما تقع به الدعوة. وقوله: (من أن يأثروا علي كذبا) معناه أن يرووا أو يرفعوا عليه كذبا، يقال: أثرت الحديث آثُره: إذا رويته. وقوله: الحرب بيننا وبينه سجال: أي دول ونوب، وأصله أن يستقي الرجلان فينزع هذا سجلا وهو الدلو، وينزع صاحبه سجلا، يقال: تساجل الرجلان وبينهما مساجلة: أي مباراة أيهما يغلب. وقوله: ولقد أمر أمر ابن أبي كبشة، فإن كبشة فيما يروى رجل

من خزاعة خالف قريشا في عبادة الأصنام وعبد الشعرى العبور، وكان المشركون ينسبون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أبي كبشة تشبيها له لمخالفته إياهم في الدين. ومعنى أمِر: عظُم وارتفع، وأصله الكثرة. يقال: أمر القوم إذا كثر عددهم. ويقال: أمَّرت الشيء بمعنى كثرته. وبنو الأصفر: هم الروم. واللجب: صوت ذو اختلاط في مثل صخب أو شغب. يقال: عسكرٌ لجب، وسحاب لجب بالرعد والريح. والدسكرة على هيئة القصر فيها منازل وبيوت للحشم والخدم. وقوله: حاصوا حيصة حمر الوحش، معناه نفروا وحادوا، يقال: حاص وجاص بمعنى واحد.

كتاب الإيمان

(ومن كتاب الإيمان) (3) (باب أمور الإيمان) 6/ 9 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن محمد قال: حدثنا أبو عامر العقدي قال: حدثنا سليمان بن بلال، عن عبد الله بن دينار، عن أبي صالح عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الإيمان بضع وستون شعبة، والحياء شبعة من الإيمان) وقد رواه سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة فقال: بضع وسبعون، ولم يذكره أبو عبد الله لأن سهيلاً ليس من

شرطه. حدثناه ابن الأعرابي قال: حدثنا العباس بن عبد الله الترقفي قال: حدثنا محمد بن يوسف الفريابي قال: حدثنا سفيان عن سهيل عن عبد الله بن دينار عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (الإيمان بضع وسبعون بابا، أفضلها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان). وحدثنا إسماعيل بن محمد الصفار قال: حدثنا الحسن بن

مكرم قال: حدثنا علي بن عاصم قال: حدثنا سهيل، عن عبد الله بن دينار، حدثني أبوك -أبو صالح- عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله، إلا أنه قال: (أولها لا إله إلا الله). فقد ثبت برواية سليمان بن بلال التي اعتمدها أبو عبد الله، ثم بمشايعة سهيل إياه في روايته أن الإيمان اسم ينشعب إلى أمور ذات عدد، جماعها الطاعة، ولهذا (صار) من صار من العلماء إلى أن الناس متفاضلون في درج الإيمان، وإن كانوا متساوين في اسمه، وكان بدءُ الإيمان كلمة الشهادة، وأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بضع عشرة سنة يدعو الناس إليها، ويسمى من أجابه إلى ذلك مؤمنا إلى أن نزلت الفرائض بعدُ، وبهذا الاسم خوطبوا عند إيجابها عليهم. قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} وقال: {يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير} وهذا الحكم مستمر في كل اسم

يقع على أمر ذي شعب وأجزاء، كالصلاة والحج ونحوهما. فإن رجلا لو مر على مسجد شوفيه قوم فيهم من يستفتح للصلاة وفيهم من هو راكع أو ساجد فقال: رأيتهم يصلون أو وجدتهم مصلين، كان صادقا في قوله، مع اختلاف أحوالهم في الصلاة، وتفاضُل أفعالهم منها، وكذلك هذا في مناسك الحج. ولو أن قوما أمروا بدخول دار فدخلها أحد فلما تعتب الباب أقام مكانه، وجاوزه الآخر حتى دخل صحن الدار، وأمعن في الدخول إلى البيوت والمخادع كانا في انطلاق اسم دخول الدار عليهما متساويين، مع اختلاف أحوالهما في القلة والكثرة منه، وعلى هذا سائر نظائرها وأشكالها، ويؤيد القول بأن الإيمان ذو شعب ما رويناه عن النعمان بن مرة الأنصاري. حدثنا ابن الأعرابي قال: حدثنا محمد بن عبد الملك الدقيقي قال: حدثنا يزيد بن هارون قال: أخبرنا يحيى بن سعيد الأنصاري أن النعمان بن مرة الأنصاري أخبره أن رجلا ذكر عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحياء فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن الحياء ذو شعب والحياء شعبة من الإيمان).

فإن قيل: إذا كان الإيمانُ عندكم على ما رويتموه من العدد بضعا وستين أو سبعين شعبة أو بابا، فهل يمكنكم أن تسموها بأسمائها بابا بابا، كما حصرتموها عددا وحسابا؟ أرأيتم إن لم يمكنكم ذلك وعجزتم عن تفصيلها شيئا شيئا، هل يصح إيمانكم بما هو مجهول عندكم غير معلوم لكم؟ قيل: إن إيماننا بحق ما كلفناه من ذلك صحيح، والعلم به حاصل، والجهل معه مرفوع، وذلك من وجهين: أحدهما أنه قد نص على أعلى الإيمان وأدناها [؟] باسم أعلى الطاعات وأدناها، وهو في خبر سهيل بن أبي صالح، فدخل في ذلك جميع ما يقع بينهما، من جنس الطاعات كلها، وجنس الطاعات معلوم غير مجهول. والوجه الآخر: أنه لم يؤخذ علينا معرفة هذه الأسماء بخواص أسمائها حتى يلزمنا ذكرها وتسميتها في عقد الإيمان وإنما كلفنا التصديق بجملتها، والاجتهاد في الإتيان بها بما أمكن منها، كما كلفنا الإيمان بأنبياء الله وملائكته وكتبه ورسله، وإن كنا لا نثبت أسماء أكثر الملائكة وأسماء كثير من الأنبياء، صلوات الله عليهم أجمعين. ثم إن ذلك غير قادح فيما أتينا به من أصل الإيمان. وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يحكي عن ربه عز وجل: (أعددت لعبادي

الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر) وقد يلزمنا الإيمان بها جملة وإن كان لا سبل لنا إلى معرفة تفصيلها، وقد أشبعنا الكلام في بيان زيادة الإيمان ونقصانه وسائر أحكامه، فمن أحب أن يستوفي ما ذكرناه من علمه فليأخذ من كتاب السراج [؟]، فالقدر الذي ذكرناه هاهنا كافٍ على شرط ما أنشئ له هذا الكتاب إن شاء الله.

(4) [باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده]

(4) [باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده] 7/ 10 - قال أبو عبد الله: حدثنا آدم بن أبي إياس قال: حدثنا شعبة، عن عبد الله بن أبي السفر، وإسماعيل، عن الشعبي عن عبد الله بن عمرو، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه). قوله: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) يريد أن المسلم الممدوح هو من كان هذا صفته، وليس ذلك على معنى أن

من لم يسلم الناس من لسانه ويده ممن قد دخل في عقد الإسلام فليس بمسلم، وكان بفعله المنبئ عنه خارجا من الملة، وإنما هو كقولك: الناس العرب، والمال الإبل، تريد أن أفضل الناس العرب، وأفضل الأموال الإبل، كذلك أفضل المسلمين من جمع إلى أداء حقوق الله فيما أوجبه عليه من فرائضه أداء حقوق المسلمين، والكف عن أعراضهم، وكذلك المهاجر الممدوح هو الذي جمع إلى هجران وطنه هجر ما حرمه الله عليه. ونفي اسم الشيء على معنى نفي الكمال عنه مستفيض في كلامهم. ألا تراهم يقولون للصانع إذا لم يكن متقنا (لعمله) محكما له: ما صنعت شيئا ولم تعمل عملا، وإنما يريدون بذلك نفي الإتقان له، لا نفي الصنعة عينها، فهو عندهم عامل بالاسم غير عامل في الإتقان.

(6) [باب إطعام الطعام من الإسلام]

(6) [باب إطعام الطعام من الإسلام] 8/ 12 - قال أبو عبد الله: حدثنا عمرو بن خالد قال: حدثنا الليث عن يزيد عن أبي الخير، عن عبد الله بن عمرو أن رجلا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -: أي الإسلام خير؟ قال: (تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت وعلى من لم تعرف). قوله: أي الإسلام خير؟ يريد أي خصال الإسلام خير؟ ودل صرف الجواب عن جملة خصال الإسلام وأعماله إلى ما يجب من حقوق الآدميين على أن المسألة إنما عرضت من السائل عن حقوقهم الواجبة عليهم، فجعل خير أفعالها وأفضلها في الأجر والمثوبة إطعام الطعام الذي به قوام الأبدان والأنفس، ثم جاء إلى بيان ما يكون به

قضاء حقوقهم من الأقوال، فجعل خيرها وأوسعها في البر والإكرام إفشاء السلام وجعله عاما لا يخص به من عرف دون من لم يعرف ليكون خالصا لله بريئا من حظ النفس والتصنع؛ لأنه شعار الإسلام، فحق كل مسلم فيه شائع. وقد روي في بعض الحديث أن السلام في آخر الزمان يكون معرفة.

(11) [باب]

(11) [باب] 9/ 18 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو اليمان قال: أخبرنا شعيب عن الزهري، أخبرني أبو إدريس -عائذ الله- أن عباد بن الصامت وكان قد شهد بدرا، وهو أحد النقباء ليلة العقبة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب في الدنيا فهو كفارة، ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله فهو إلى الله عز وجل، إن شاء عفا وإن شاء عاقبه) فبايعناه على ذلك. يشكل من هذا الحديث قوله: ولا تاتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم). والبهتان: مصدر. يقال: بهَت الرجلُ

صاحبه بهتاً وبهتاناً، وهو أن يكذب عليه الكذب الذي يبهت من شدة نكره، ويتحر فيه، فيبقى مبهوتا منقطعا ومعناه هاهنا قذف المحصنات والمحصنين، وهو من جملة الكبائر التي قرنه بذكرها، وقد يدخل في ذلك الكذب على الناس، والاغتياب لهم ورميهم بالعضاية [بالعضائه] والعظائم وكل ما يلحق بهم العار والفضيحة، وموضع الإشكال في ذلك ذكر الأيدي والأرجل فيقال: ما معنى ذكرها وليس لها صنع فيما وقع عنه النهي من البهت؟ وتأويل ذلك على وجهين: أحدهما أن معظم أفعال الناس إنما تضاف منهم إلى الأيدي والأرجل، إذ كانت هي العوامل والحوامل، فإذا كانت المباشرة لها باليد، والسعي إليها بالرجل، (أضيفت) الجنايات إلى هذين العضوين، وإن كان يشاركها سائر الأعضاء فيها، أو كانت تختص بها دونها، ولذلك يقول الرجل إذا أولاه صاحبه معروفا من قول أو بلاغ في حاجة ونحوها: صنع فلان عندي يدا، وله عندي يد، ويسمون الصنائع الأيادي، وليس لليد نفسها في شيء منها صنع، وقد يعاقب الرجل بجناية يجنيها قولا بلسانه فيقال له: هذا بما كسبته يدك، واليد لا فعل لها هاهنا. ومن هذا قوله تعالى: {ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس

بظلام للعبيد}. ومعنى الحديث: لا تبهتوا الناس افتراء واختلاقا من قبل أنفسكم بما لم تعلموه منهم ولم تسمعوه فيهم، فتجنوا عليهم من قبل أيديكم وأرجلكم جناية تفضحونهم (بها) وهم بُراء منها، فتأثموا وتستحقوا العقوبة عليها، واليد والرجل في هذا كناية عن الذات على المعنى الذي بينته لك. والوجه الآخر: أن يكون معناه: لا تبهتوا الناس بالعيوب كفاحا (وأنتم) حضور يشاهد بعضكم بعضا، كما يقول الرجل لصاحبه: قلت كذا وفعلت كذا بين يديك، أي بحضرتك ومشهد منك، وهذا النوع أشد ما يكون من البهت وأفظع ما يكون من المكروه. فأما قول الله عز وجل في امتحان النساء المهاجرات: {ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن} فإنه يحتمل إلى ما ذكرناه من هذين الوجهين وجها ثالثا لا مساغ له في نعوت الرجال، وذلك

حملهن ولدًا على أزواجهن ليس منهم ينسبنه إليهم فيقلن: هذا منكم؛ وذلك أن موضع الولد وحضانته وتربيته في صغره إنما هو فيما بين الأيدي والأرجل منهم، فأخذ عليهم من الشرط لا يأتين بكذب وبهتان من الفعل محله من أنفسهن بين الأيدي والأرجل، وعلى هذا المعنى قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي: قلت لي حاجة إليك فقالت .... بين أذني وعاتقي ما تريد يريد أنها أمانة في رقبتي وذلك أن مكان الرقبة بين الأذن والعاتق

(12) باب من الدين الفرار من الفتن

(12) باب من الدين الفرار من الفتن 10/ 19 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن مسلمة، ن مالك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يوشك أن يكون خيرَ مال المسلم غنمٌ يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن). شعف الجبال: رؤوسها وأعاليها، واحدتها شعفة، وفيه بيان فضيلة العزلة وأنها للدين عصمة.

(15) [باب تفاضل أهل الإيمان في الأعمال]

(15) [باب تفاضل أهل الإيمان في الأعمال] 11/ 22 - قال أبو عبد الله: حدثنا إسماعيل قال: حدثني مالك، عن عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، ثم يقول الله عز وجل: أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، فيخرجون منها قد اسودوا، فيلقون في نهر الحياء أو الحياة - يشك مالك- فينبتون كما تنبت الحِبة في جانب السيل؛ ألم تر أنها تخرج صفراء ملتوية). في هذا الحديث بيان أن أهل المعاصي من المسلمين لا يخلدون في النار. وفيه دليل على تفاضل الناس في الإيمان، وإنما الحبة من الخردل مثل ليكون عيارا في المعرفة، وليس بعيار في الوزن، لأن الإيمان ليس بجسم يحصره الوزن أو الكيل، أو ما كان في معناهما ولكن ما يشكل من المعقول (قد) يرد إلى عيار المحسوس،

ليُفهَم، ويشبه به ليعلم. والحبة: مكسورة الحاء، بذور النبات، والحبة: بفتحها واحدة الحب المأكول، والحيا: المطر.

(17) [باب فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم]

(17) [باب فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم] 12/ 25 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن محمد قال: حدثنا أبو روح -حرمي بن عمارة- قال: حدثنا شعبة، عن واقد بن محمد قال: سمعت أبي يحدث عن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله). قد روي هذا الحديث بألفاظ مختلفة من زيادة ونقصان، وكلها صحاح، منها حديث أبي هريرة الذي رواه عن عمر في محاجَّته أبا بكر في قتال مانعي الزكاة وهو قوله: أمرت أن أقاتل الناس

حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها)، وهو حديث مختصر، ليس فيه ذكر الصلاة والزكاة. ومنها حديث أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، أن يستقبلوا قبلتنا، وأن يأكلوا ذبيحتنا، وأن يصلوا صلاتنا، فإذا فعلوا حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها). ومنها حديث ابن عمر هذا، وقد زاد فيه ذكر الزكاة، وقد اجتمعت هذه الأحاديث بأسانيدها في كتاب الزكاة من هذا الكتاب، ورتبتها هناك، وبينت وجوهها على اختلافها، لأن ذلك الموضع كان أملك تبيان [ببيان] وجوهها، وإشباع القول فيها، وليس هذا باختلاف تناقض، إنما هو اختلاف ترتيب، إذا اعتبرته بالزمان والتوقيت، وذلك أن الفرائض كانت تنزل شيئا فشيئا في أزمنة مختلفة، فكان حديث أبي هريرة الذي رواه عن عمر،

حكاية الحال عن أول مبدأ الإسلام والدعوة، إذ ذاك، مقصورة على كلمة الشهادتين وحقوقها مضمنة في درجها غير مذكورة، وحديث أنس وابن عمر متأخران، ثم سائر الأحاديث التي فيها ذكر الأشياء المزيدة على ما في هذه الأخبار الثلاثة من صيام الشهر، وإعطاء الخمس من المغنم المذكور في خبر وفد عبد القيس، إنما جاءت فيما بعد، وهو أيضا حديث صحيح لا يشك في ثبوته، وفيما وصفناه من ذلك دليل على أن هذه الفرائض كلها من الإيمان، وسنذكر فيما بعد فرق ما بين الإيمان بالله والإيمان لله فيزول معه الشبه في هذا الباب، وليس هذا موضع استقصائه، وقد أشبعت بيان هذا الباب في كتاب السراج. ومعنى قوله: (وحسابهم على الله) أي فيما يستسرُّون به دون ما يُخِلُّون به من الأحكام الواجبة عليهم في الظاهر، وفيه دلالة على أن الكافر المستسرَّ بكفره لا يتعرض له إذا كان ظاهر حاله الإسلام، وأن توبته مقبولة إذا أظهر الإنابة من كفر علم بإقراره أنه كان يعتقده قبل، وهو قول أكثر العلماء.

(19) باب [إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة وكان على الاستسلام أو الخوف من القتل]

(19) باب [إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة وكان على الاستسلام أو الخوف من القتل] 13/ 27 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو اليمان -الحكم بن نافع- قال: أخبرنا شعيب، عن الزهري قال: أخبرني عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن سعد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعطى رهطا -وسعد جالس- وترك رجلا هو أعجبهم إليَّ. فقلت يا رسول الله: ما لك عن فلان؟ فوالله إني لأراه مؤمنا. فقال: أو مسلما. الحديث. ظاهر هذا الكلام يوجب الفرق بين الإيمان والإسلام، وهذه المسألة مما قد أكثر الناس الكلام فيها، وصنفوا لها صحفا طويلة، والمقدار الذي لا بد من ذكره هاهنا على وجه الإيجاز والاختصار: أن الإيمان والإسلام قد يجتمعان في مواضع، فيقال للمسلم: مؤمن وللمؤمن: مسلم، ويفترقان في مواضع، فلا يقال لكل مسلم مؤمن ويقال لكل مؤمن: مسلم فالموضع الذي يتفقان فيه هو أن يستوي الظاهر والباطن، والموضع الذي لا يتفقان فيه أن لا يستويا، ويقال

له عند ذلك: مسلم، يعني أنه مسلم، وهو معنى ما جاء في الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم: (أو مسلما)، وكذلك معنى الآية في قوله تعالى: {قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا}، أي استسلمنا وفي الإسلام بمعنى الاستسلام قول أمية بن أبي الصلت: أسلمت وجهي لمن أسلمتْ .... له الريح تحمل مزناً ثقالا

(23) [باب ظلم دون ظلم]

(23) [باب ظلم دون ظلم] 14/ 32 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو الوليد قال: حدثنا شعبة عن سليمان، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال: لما نزلت {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أينا لم يظلم؟ فأنزل الله تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم}. إنما قالت الصحابة هذا القول لأنهم اقتضوا من الظلم ظاهره الذي هو الافتيات بحقوق الناس، أو الظلم الذي ظلموا به أنفسهم، من ركوب معصية أو إتيان محرم، كقوله عز وجل: {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم} الآية، وذلك

حق الظاهر فيما كان يصلح له هذا الاسم، ويحتمله المعنى عندهم، ولم تكن الآية نزلت بتسمية الشرك ظلما، وكان الشرك عندهم أعظم من أن يلقب بهذا الاسم، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فنزل قوله: {إن الشرك لظلم عظيم}، فسمى الشرك ظلما، وعظم أمره في الكذب والافتراء على الله عز وجل، وذلك أن أصل الظلم وضع الشيء في غير موضعه، ومن أشرك بالله وجعل الربوبية مستحقة لغيره، أو عدل به شيئا، واتخذ معه ندا فقد أتى بأعظم الظلم، ووضع الشيء في غير موضعه ومستقره.

(24) باب [علامة المنافق]

(24) باب [علامة المنافق] 15/ 33 - قال أبو عبد الله: حدثنا سليمان - هو أبو الربيع- قال: حدثنا إسماعيل بن جعفر قال: حدثني نافع بن مالك بن أبي عامر - أبو سهيل- عن أبيه، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (علامة المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان). ظاهر هذا الكلام يوجب أن من جمع هذه الخلال المذكورة كان منافقا، وقد روينا عن الحسن أنه ذكر هذا الحديث فقال: إن بني يعقوب حدثوا فكذبوا ووعدوا فأخلفوا، وائتمنوا فخانوا.

وهذا القول من رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما خرج على سبيل الإنذار للمرء المسلم، والتحذير له أن يعتاد هذه الخصال، شفقا أن تفضي به إلى النفاق، وليس المعنى أن من بدرت منه هذه الخلال، وكان ما يفعل منها على غير وجه الاختيار والاعتياد له أنه منافق، وقد جاء في الحديث أن التاجر فاجر، وجاء أيضا أن أكثر منافقي أمتي قراؤها، وإنما هو على معنى التحذير من الكذب في البيع، وهو معنى الفجور، إذ كانت الباعة قد يكثر منهم التزيد والكذب في مدح المتاع، وربما كذبوا في الشراء ونحوه، ولا يوجب ذلك أن يكون التجار كلهم فجارا، وكذلك القراء قد يكون من بعضهم قلة الإخلاص في العمل والتبرؤ من الرياء والسمعة، ولا يوجب ذلك أن يكون من فعل شيئا من ذلك من غير اعتياد له منافقا.

والنفاق ضربان: أحدهما أن يظهر صاحبه الدين وهو مسر يبطن الكفر، وعلى هذا كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. والضرب الآخر منه: ترك المحافظة على أمور الدين سرا. ومراعاتها علنا، وهذا يسمى نفاقا، كما جاء من قوله صلى الله عليه وسلم: (سباب المؤمن فسق وقتاله كفر)، وإنما هو كفر دون كفر، وفسق دون فسق، كذلك هو نفاق دون نفاق. وقد قيل: إن هذا القول من رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما جاء في رجل من المنافقين بعينه، كان في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يواجههم بصريح القول ولا يسميهم بأسمائهم، فيقول: فلان منافق، وإنما يشير إليهم بالأمارة المعلومة على سبيل التورية عن الصريح، وكان حذيفة بن اليمان يقول: إن النفاق إنما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان بعد زمانه كفر.

حدثنا أحمد بن إبراهيم بن مالك قال: حدثنا عمر بن حفص السدوسي قال: حدثنا عاصم بن علي قال: حدثنا المسعودي قال: حدثنا حبيب بن أبي ثابت عن أبي الشعثاء قال: كنت مع ابن مسعود، فقال حذيفة: ذهب النفاق، وإنما كان النفاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه الكفر بعد الإيمان. ومعنى هذا القول أن المنافقين في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكونوا قد أسلموا، إنما كانوا يظهرون الإسلام رياء ونفاقا، ويسرون الكفر عقدا وضميرا، فأما اليوم وقد شاع الإسلام

واستفاض، وتوالد الناس عليه فتوارثوه قرنا بعد قرن، فمن نافق منهم بأن يظهر الإسلام ويبطن خلافه فهو مرتد، لأن نفاقه كفر أحدثه بعد قبول الدين، وإنما كان المنافق في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم مقيما على كفره الأول، فلم يتشابها. فأما قول الحسن فيما كان من أولاد يعقوب عليه السلام، فإن ذلك الصنيع منهم كان أمرا نادرا غير معتاد. وكلمة (إذا) تقتضي تكرار الفعل، والقوم لمي صروا على ما كان منهم من الخطيئة، وقد تابوا وتنصلوا من فعلهم إلى أبيهم وسألوه أن يستغفر لهم، وتحللوا من المجني عليه، فحللهم واستغفر لهم، فلم تتمكن منهم صفة النفاق، والحمد لله.

(28) [باب صوم رمضان احتسابا من الإيمان]

(28) [باب صوم رمضان احتسابا من الإيمان] 16/ 38 - قال أبو عبد الله: حدثنا ابن سلام البيكندي قال: حدثنا محمد بن فضيل قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه). قوله: إيمانا واحتسابا، أي نية وعزيمة، وهو أن يصومه على وجه التصديق به والرغبة في ثوابه، طيبة نفسه بذلك، غير كارهة له، ولا مستثقلة لصيامه، أو مستطيلة لأيامه.

(29) [باب الدين يسر]

(29) [باب الدين يسر] 17/ 39 - قال أبو عبد الله: حدثني عبد السلام بن مطهر قال: حدثنا عمر بن علي، عن معن بن محمد الغفاري، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الدين يسر، ولن يشاد هذا الدين (أحد) إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة. معنى هذا الكلام: الأمر بالاقتصاد في العبادة، وترك الحمل منها على النفس ما يؤودها ويثقلها. يقول: إن الله عز وجل لم يتعبد خلقه بأن ينصبوا آناء الليل والنهار، ولا يفتروا ولا يستريحوا أبدا، وإنما أوجب عليهم وظائف

الطاعات، في وقت دون وقت، تيسيرا منه ورحمة، فعليكم بالسداد، ولا تكلفوا أنفسكم ما لا تطيقونه، واخلطوا طرف الليل بطرف النهار، وأجموا أنفسكم فيما بينهما لئلا تنقطع بكم. والدلجة: سير الليل، إلا أنهم قالوا: أدلج الليل إذا سار أول الليل، وادَّلج إذا سار آخره.

(31) [باب حسن إسلام المرء]

(31) [باب حسن إسلام المرء] 18/ 41 - قال أبو عبد الله: قال مالك: أخبرني زيد بن أسلم أن عطاء بن يسار أخبره أن أبا سعيد الخدري أخبره أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا أسلم العبد، فحسن إسلامه يكفر الله عنه كل سيئة زلفها. قوله: زلفها، معناه أسلفها وقدمها. يقال: زلف وأزلف بمعنى واحد لقوله تعالى: {وأزلفنا ثم الآخرين} والأصل فيه القرب. ومنذ لك قوله: {وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد}.

(32) [باب أحب الدين إلى الله أدومه]

(32) [باب أحب الدين إلى الله أدومه] 19/ 43 - قال أبو عبد الله: حدثني محمد بن المثنى قال: حدثنا يحيى، عن هشام قال: أخبرنا أبي، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها امرأة قال: من هذه؟ قالت: فلانة، فذكرت من صلاتها. قال: (مه، عليكم بما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملوا، وكان أحب الدين إليه ما داوم عليه صاحبه). قوله: (لا يمل الله حتى تملوا)، الملال لا يجوز على الله تعالى بحال، ولا يدخل في صفاته بوجه، وإنما معناه أنه لا يترك الثواب والجزاء على العمل ما لم تتركوه، وذلك أن من مل شيئا تركه، فكنى عن الترك بالملال الذي هو سبب الترك. وقد قيل: معناه أنه لا يمل إذا مللتم كقول الشنفرى:

صليتْ مني هذيل بخرق .... لا يمل الشر حتى يملوا أي: لا يمله إذا ملوه، ولو كان المعنى إذا ملوه مل، لم يكن له عليهم في ذلك مزية وفضل. وفيه وجه آخر: وهو أن يكون المعنى أن الله عز وجل لا يتناهى حقه عليكم في الطاعة حتى يتناهى جهدكم قبل ذلك، فلا تكلفوا ما لا تطيقونه من العمل، كنى بالملال عنه، لأن من تناهت قوته في أمر وعجز عن فعله، مله وتركه. وقوله: (كان أحب الدين إليه)، يريد أحب الطاعة، والدين في كلامهم: الطاعة. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في صفة

الخوارج: يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، أي طاعة الأئمة. وقد يحتمل أن يكون أراد بذلك أحب أعمال الدين.

(36) [باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر]

(36) [باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر] 20/ 48 - قال أبو عبد الله: حدثني محمد بن عرعرة قال: حدثنا شعبة، عن زبيد، عن أبي وائل قال: حدثني عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سباب المسلم فسق وقتاله كفر). هذا فيمن سب رجلا بغير تأويل، أو قاتله على غير معنى من معاني أمر الدين يتأوله في قتاله، ويدخل في هذا المعنى من كفر رجلا مسلما على غير مذهب يحتمل التأويل، فأما من فعل شيئا منه متأولا به معنى يحتمله وجه الكلام ضربا من الاحتمال، في تحقيق لأمر من أمور الكفر، أو تشبيه له به، أو تقريب في بعض معانيه، كان خارجا عن هذا الحكم، ألست ترى أن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه لما قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر حاطب بن أبي بلعتة حين كتب إلى قريش يخبرهم بشأن رسول الله صلى الله عليه

وسلم وبقصده إياهم: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، فلم يعنفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأكثر من قوله: (لا تقل ذلك، أليس قد شهد بدرا؟ وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: افعلوا ما شئتم فقد غفرت لكم)، فبرأه رسول الله صلى الله عليه وسلم من النفاق، وعذر عمر فيما تناوله به من ذلك القول، إذ كان الفعل الذي جرى منه مضاهيا لأفعال المنافقين الذين يكيدون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعاونون عليه كفار قريش، وكذلك قصة معاذ بن جبل (حين) افتتح في صلاة العشاء سورة البقرة، فخفف رجل صلاته خلفه لعذر كان له، فلما لقيه معاذ قال له: نافقت، فعذره رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك بعد أن قال له: أعُدتَ فتانا؟ وأمره بتخفيف الصلاة إذا كان إماما. وعلى هذا المعنى يتأول قول النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال الرجل لأخيه (يا كافر فقد باء به أحدهما)، وذلك إذا كان هذا

القول منه خالياً عن وجه يحتمله التأويل، فإنه لا يبقى حينئذ هناك شيء يعذر به، فيحمل أمره على أنه رآه وهو مسلم كافرا، ورأى دين الإسلام وهو حق باطلا، فلزمه الكفر، إذ لم يجد الكفر محلا ممن قيل له ذلك. وقوله: (وقتاله كفر)، فإنما هو على أن يستبيح دمه، ولا يرى أن الإسلام قد عصمه منه، وحرمه عليه، فيكون مرجع ذلك إلى اعتقاده أن الله عز وجل لم يحرم دماء المسلمين بغير حقها، ومن أنكر شيئا من معاظم أمر الدين المجمع عليه، المستفيض في الخاص والعام علمه، كفر بذلك. وقد يتأول هذا الحديث وما جاء في معناه من الأحاديث على وجه التشبيه لأفعالهم بأفعال الكفار من غير تحقيق للحكم فيه، ومن غير إلحاق لهم بأهل الكفر إذا كان فاعلُه مضاهيا به فعل الكفار لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب

بعضكم رقاب بعض أي لا تكونوا كالكفار الذين من شأنهم وعادتهم أن يضرب بعضهم رقاب بعض. وما يشبه ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (كفرٌ بالله انتفاءٌ من نسب وإن دق، وادعاء نسب لا يعرف)، وهذا لا يوجب أن يكون من فعل ذلك كافرا به خارجا عن الملة، وإنما فيه مذمة هذا الفعل وتشبيهه بالكفر، على وجه التغليظ لفاعله، ليجتنبه فلا يستحله، ومثله في الحديث كثير.

(37) [باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة]

(37) [باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة] 21/ 50 - قال أبو عبد الله: حدثنا مسدد قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم قال: أخبرنا أبو حيان التيمي، عن أبي زرعة عن أبي هريرة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم بارزا يوما للناس، فأتاه رجل فقال: ما الإيمان؟ قال: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته، وبلقائه ورسله وتؤمن بالبعث. قال: ما الإسلام؟ قال: الإسلام ان تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان. قال: ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. قال: فمتى الساعة؟ قال: ما المسئول بأعلم من

السائل، وسأخبرك عن أشراطها: إذا ولدت الأمة ربتها، وإذا تطاول رعاة الإبل البهم في البنيان). اختلاف هذه الأسماء الثلاثة وافتراقها في المسألة عنها، يوهم افتراقا في أحكامها ومعانيها، وأن إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان ليست من الإيمان، وليس الأمر في الحقيقة كذلك وإنما هو اختلاف ترتيب وتفصيل لما يتضمنه اسم الإيمان من قول وفعل وإخلاص. ألا ترى أنه حين سأله عن الإحسان قال: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، وهذا إشارة إلى الإخلاص في العباة، ولم يكن هذا المعنى خارجا عن الجوابين الأولين، فدل أن التفرقة في هذه الأسماء إنما وقعت بمعنى التفصيل، وعلى سبيل الزيادة في البيان والتوكيد، والدليل على صحة ذلك قوله في حديث وفد عبد القيس أنه أمرهم بالإيمان بالله، ثم قال: أتدرون ما الإيمان؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وأن تعطوا الخمس من المغنم)، فجعل هذه الأعمال كلها إيمانا، وذلك مما يبين لك أن الإسلام من الإيمان، وأن العمل غير خارج عن هذا الاسم.

وقوله: (أن تؤمن بلقائه)، فيه إثبات رؤية الله عز وجل في الآخرة. وقوله: (سأخبرك عن أشراطها)، يريد علاماتها. قال الله عز وجل: {فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها} أي: ما يتقدمها من العلامات الدالة على قرب حينها. وقوله: (إذا ولدت الأمة ربتها)، معناه اتساع الإسلام واستيلاء أهله على بلاد الكفر، وسبي ذراريهم، فإذا ملك الرجل الجارية منهم فاستولدها كان الولد منها بمنزلة ربها، لأنه ولد سيدها. وفي قوله: (إذا تطاول رعاة الإبل البهم في البنيان)، يريد العرب الذين هم أرباب الإبل ورعاتها. والبهم: جمع البهيم، وهو المجهول الذي لا يعرف. ومن هذا قيل: أبهم الأمر وهو مبهم، واستبهم الشيء إذا لم تعرف حقيقته، ولذلك قيل للدابة التي لا شية في لونها: بهيم.

والمعنى: اتساع دين الإسلام، وافتتاح البلدان، حتى يسكنها رعاة الإبل. وأصحاب البوادي الذين كانوا لا تستقر بهم الدار، إنما ينتجعون مواقع الغيث، فيتطاولون عند ذلك في البنيان.

(40) [باب أداء الخمس من الإيمان]

(40) [باب أداء الخمس من الإيمان] 22/ 53 - قال أبو عبد الله: حدثنا علي بن الجعد قال: حدثنا شعبة، عن أبي جرة قال: كنت أقعد مع ابن عباس -يجلسني على سريره- فقال: أقم عندي حتى أجعل لك سهما من مالي، فأقمت معه شهرين، ثم قال: إن وفد عبد القيس لما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم قال: من القوم أو من الوفد؟ قالوا: ربيعة. قال: مرحبا بالقوم -أو بالوفد- غير خزايا ولا ندامى. فقالوا: يا رسول الله: إنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في الشهر الحرام وبيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر، فمرنا بأمر فصل نخبر به من وراءنا وندخل (به) الجنة، وسألوه عن الأشربة، فأمرهم بأربع ونهاهم عن أربع: أمرهم بالإيمان بالله وحده، ثم قال: أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء

الزكاة، وصيام رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخمس، ونهاهم عن أربع: عن الحنتم، والدبا [الدباء] والنقير، والمزفت، وربما قال: المقير. وقال: احفظوهن وأخبروا بهن من وراءكم. الخزايا: جمع الخزيان، وهو الذي أصابه خزي وعار، وذل وانكسر من أجله يقال منه: خزي الرجل خزيا فهو خزيان، ويجمع على الخزايا، كما قيل: سكران وسكارى. ويقال: خزي الرجل: إذا استحيا. والمصدر منه الخزاية، والمعنى أنهم دخلوا في الإسلام طوعا، فلم يصبهم مكروه من حرب أو سبي، يخزيهم ويفضحهم. وقوله: (ولا ندامى)، يريد الندامة، وكان حقه [حق] القياس أن يقال: ولا نادمين، جمع نادم، لأن الندامى إنما هو جمع الندمان إلا أنه أتبعه الكلام الأول وهو قوله: خزايا، أخرجه على وزنه، كما قالوا: إنه ليأتينا بالغدايا والعشايا، يريد جمع غداة، وهي تجمع على الغدوات، ولكنه لما قرنه بالعشايا أخرجه على وزنها، ومثل هذا في كلامهم موجود. وقولهم: (مرنا بأمر فصل)، أي بين واضح ينفصل به المراد، ولا يشكل فيه المعنى. وقوله: ونهى عن الحنتم، فإنه يريد به الانتباذ في الحنتم، والحناتم: الجرار. والدبا: القرعة ينتبذ فيها.

والنقير: أصله النخلة ينقر، فيتخذ منه أوعية ينتبذ فيها. والمزفت: السقاء الذي قد زفت، أي رُبِّب بالزفت، وهو القير، وليس المعنى في النهي تحريم أعيان هذه الأوعية، فإن الأوعية لا تحرم شيئا ولا تحلله، ولكن هذه الأوعية ظروف متينة إذا انتبذ صاحبها فيها، كان على غرر منها، لأن الشراب قد ينش فيها ويغلي فيصير مسكرا وهو لا يشعر به، وكذلك هذا في السقاء المزفت لأن الرب الذي فيه يمنعه من التنفس، فأما السقاء غير المربوب فإنما جاءت الرخصة فيه لأنه إذا اشتد الشراب لم يلبث السقاء أن ينشق فيعلم به صاحبه فيجتنبه.

(42) [باب قول النبي صلى الله عليه وسلم الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)

(42) [باب قول النبي صلى الله عليه وسلم الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم): 23/ 57 - قال أبو عبد الله: حدثنا مسدد قال: حدثنا يحيى، عن إسماعيل قال: حدثني قيس بن أبي حازم، عن جرير بن عبد الله قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم (على) إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم). جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم نصيحة المسلمين شرطا في الدين يبايع عليه كالصلاة والزكاة، ولذلك تراه قرنه بهما، وقد ترجم أبو عبد الله هذا الباب من كتابه بقول النبي صلى الله عليه وسلم: الدين النصيحة، لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، إلا أنه لم يذكر إسناده (لأن) راوي هذا الحديث -من طريق تميم الداري، وهو أشهر طرقه- سهيل بن أبي صالح، وليس

سهيل من شرطه. وقد روي ذلك أيضا عن نافع، عن ابن عمر، وهو أيضا طريق لا بأس به، وفي الباب غير ذلك أيضا، فنحن من أجل ذلك نذكر (هذا) الحديث ونبين معناه للحاجة إليه، وكثرة الفوائد فيه. أخبرنا ابن الأعرابي قال: حدثنا عبد الله بن أيوب المخرمي قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن سهيل بن أبي صالح، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن تميم الداري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة (قالوا): لمن يا رسول الله؟ قال:

لله ولكتابه ولنبيه ولأئمة المسلمين ولعامتهم. وأخبرنا ابن الأعرابي قال: حدثنا إبراهيم بن فهد قال: حدثنا أبو همام الدلال قال: حدثنا هشام بن سعد، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الدين النصيحة، قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولرسوله ولكتابه، ولأئمة المسلمين وعامتهم. النصيحة: كلمة جامعة، معناها حيازة الحظ للمنصوح له. ويقال: إن هذه الكلمة من وجيز الأسماء ومختصر الكلام، فإنه ليس في كلام العرب كلمة مفردة تُستوفى بها العبارة عن معنى هذه

الكلمة، حتى يضم إليها شيء آخر، كما قالوا في الفلاح: إنه ليس في كلام العرب كلمة أجمع لخير الدنيا والآخرة منه، حتى صار ليس يعدله شيء من الكلام في معناه، ولذلك قالوا: أفلح الرجل: إذا فاز بالخير الدائم الذي لا انقطاع له. ويقال: إن أصل النصيحة مأخوذ من قولهم: نصح الرجل ثوبه إذا خاطه، والنصاح: الخيط، شبهوا فعل الناصح فيما يتحراه من صلاح المنصوح له بفعل الخياط، فيما يسده من خلل الثوب، ويلأمه من فتوقه، ويجمعه من الصلاح فيه. وقيل: إنها (مأخوذة) من نصحت العسل إذا صفيته من الشمع، شبهوا تخليص القول والعمل من شوب الغش والخيانة بتخليص العسل من الخلط الذي فيه. وقوله: (الدين النصيحة ثلاثا)، يريد أن عماد أمر الدين وقوامه إنما هو النصيحة، وبها ثباته وقوته، كقوله صلى الله عليه وسلم: (الأعمال بالنيات) أي ثباتها وصحتها بالنيات، وكما قال: (الحج عرفة) أي عماد الحج ومعظمه

عرفة، لأن من أدركها فقد أدرك الحج، وأمكنه أن يجبر سائر الفوات من أعماله، ومن لم يدركه فاته الحج، فلم يستدركه بشيء، وكما يقال: الناس تميم، والمال الإبل ونحوها من الكلام. ولما كانت النصيحة من باب المضاف استفصلت، فقيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه، ولنبيه ولأئمة المؤمنين وعامتهم، فجعلها شائعة في (كل سهم) من سهام الدين، وفي كل قسم من أقسامه، وفي كل طبقة من طبقات أهله. فأما النصيحة لله عز وجل، فمعناه منصرف إلى الإيمان به، ونفي اعتقاد الشرك معه، وترك الإلحاد في صفاته، وبذل الطاعة له، وإخلاص العمل فيما أمر به، ونهى عنه، وموالاة من أطاعه، ومعاداة من عصاه، والاعتراف بنعمه، والشكر له عليها، وحقيقة هذه الإضافة راجعة إلى العبد في نصيحة نفسه لله، ودعوة غيره من الخلق هإلى هذه الخصال في أمر خالقه عز وجل، والله سبحانه غني عن نصح كل ناصح، وإرشاد كل مرشد، وبه نال الرشد المرشدون، وبنوره اهتدى المهتدون، وبرحمته نجا الفائزون. وأما النصيحة لكتابه، فمعناه الإيمان به، وبأنه كلام الله ووحيه وتنزيله، وأنه لا يشبه شيئا من كلام المربوبين، ولا يقدر على مثله أحد من المخلوقين، وإقامة حروفه في التلاوة، وتحسينه عند القراءة، والذب عنه في تأويل المحرفين له، وطعن الطاعنين عليه،

والتصديق بوعده ووعيده، والاعتبار بمواعظه، والتفكر في عجائبه، والعلم بفرائضه وسننه وآدابه، والعمل بمحكمه، والتسليم لمتشابهه، والتفقه في علومه، والتبين لمواضع المراد من خاصه وعامه، وناسخه وسائر وجوهه. وأما النصيحة لرسوله صلى الله عليه وسلم فإنما هي في تصديقه على الرسالة وقبول ما جاء به ودعا إليه، وطاعته فيما سن وشرع، وبين من أمر الدين وشرح، والانقياد له فيما أمر ونهى وحكم وأمضى، وترك التقديم بين يديه وإعظام حقه وتعزيره وتوقيره ومؤازرته ونصرته، وإحياء طريقته في بث الدعوة، وإشاعة السنة، ونفي التهمة في جميع ما قاله ونطق به، فإنه لكما وصفه ربه وباعثه فقال: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} وقال: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما}. وأما النصيحة لأئمة المؤمنين فإن الأئمة هم الولاة من الخلفاء الراشدين ومن بعدهم ممن يلي أمر الأمة ويقوم به، ومن نصيحتهم بذل الطاعة لهم في المعروف، والصلاة خلفهم، وجهاد

الكفار معهم، وأداء الصدقات إليهم، وترك الخروج بالسيف عليهم، إذا ظهر منهم حيف أو سوء سيرة، وتنبيههم عند الغفلة، وأن لا يغروا بالثناء الكاذب عليهم، وأن يدعى بالصلاح لهم. وقد يتأول ذلك في الأئمة الذين هم علماء الدين، ومن نصيحتهم قبول ما رووه إذا انفردوا، وتقليدهم ومتابعتهم على ما رأوه إذا اجتمعوا واتفقوا. وأما نصيحة عامة المسلمين فجماعها تعليم ما يجهلونه من أمر الدين وإرشادهم إلى مصالحهم، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، والشفقة عليهم، وتوقير كبيرهم، والترحم على صغيرهم، وتخولهم بالموعظة الحسنة، كنحو ما أرشد إليه في قوله عز وجل: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} فقيل: إن المجادلة بالتي هي أحسن ما كان نحو قوله عز وجل حكاية عن إبراهيم: {يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا}. وكقوله: {هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون}. فإن مثل هذه المجادلة تقيم الحجة، ولا تورث الوحشة، وهو معنى الدعاء إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، والله أعلم.

كتاب العلم

(ومن كتاب العلم) (11) [باب ما كان النبي صلى الله عليه ولم يتخولهم بالموعظة والعلم كي لا ينفروا] 24/ 68 - قال أبو عبد الله: حدثنا محمد بن يوسف قال: حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن ابن مسعود قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا. قوله: يتخولنا، معناه يتعهدنا، أي يراعي الأوقات في موعظته، ويتحرى منها ما يكون مظنة القبول، ويفعله كل يوم لئلا نسأم، ومثله التخون، يقال: تخولت الرجل وتخونته. والخايل: القيم، والوكيل: المتعهد للمال ونحوه.

(15) [باب الاغتباط في العلم والحكمة]

(15) [باب الاغتباط في العلم والحكمة] 25/ 73 - قال أبو عبد الله: حدثنلا الحميدي قال: حدثنا سفيان قال: حدثني إسماعيل بن أبي خالد قال: سمعت قيس بن أبي حازم قال: سمعت عبد الله بن مسعود قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلط على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها). والحسد هاهنا معناه شدة الحرص والرغبة، كنى بالحسد عنهما لأنهما سبب الحسد والداعي له، ونفس الحسد محرم محظور. وأخبرني أبو عمر، عن أبي العباس أحمد بن يحيى قال: الحسد: أن تتمنى مال أخيك وتحب فقره وهو محظور، والمنافسة: أن تتمنى مثل ماله من غير أن يفتقر وهو مباح. قال الله

تعالى: {ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض} الآية. ثم قال: {واسئلوا الله من فضله}. ومعنى الحديث: التحريض والترغيب في تعلم العلم والتصدق بالمال. وقد قيل: إن هذا إنما هو تخصيص لإباحة نوع من الحسد وإخراج له عن جملة ما حظر منه، كما رخص في نوع من الكذب وإن كانت جملته محظورة، كقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الكذب لا يحل إلا في ثلاث: الرجل يكذب في الحرب، والرجل يصلح بين اثنين، ويحدث أهله فيكذبها، أي يترضاها)، ومعنى قوله: لا حسد، أي لا إباحة لشيء من نوع الحسد إلا فيما كان هذا سبيله. ووجه الحديث هو المعنى الأول.

(20) [باب فضل من علم وعلم]

(20) [باب فضل من علم وعلم] 26/ 79 - قال أبو عبد الله: حدثنا محمد بن العلاء قال: حدثنا حماد بن أسامة، عن بريد بن عبد الله، عن أبي بردة، عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا، فكان منها ثغبة قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت فيها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصابت منها طائفة أخرى، إنما هي قيعان

لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ. وذكر الحديث. الثغبة: مستنقع الماء في الجبال والصخور وهو الثغب أيضا. والأجادب: صلاب الأرض التي تمسك الماء فلا يسرع إليه النضوب، وقد اختلف في هذا الحرف فقال بعضهم: أحارب -بالحاء الراء- هكذا حدثنيه أحمد بن إبراهيم قال: حدثنا أبو يعلى قال: حدثنا أبو كريب وذكر الحديث بإسناده. والأحادرب ليس بشيء. وقال بعضهم: أجارد -بالجيم والدال- وهو صحيح في المعنى إن ساعدته الرواية. قال الأصمعي: الأجارد من الأرض ما لم تنبت الكلأ هي جرداء بارزة لا يسترها النبات. وقال بعضهم: إنما هي إخاذات سقط منها الألف.

والإخاذات مساكات الماء، واحدتها إخاذة، وهي أمثال ضربت لمن قبل الهدى وعلم، ثم علم غيره، فنفعه الله ونفع به، ولمن لم يقبل الهدى، فلم يَنتفع بالعلم ولم يُنتفع به.

(26) [باب الرحلة في المسألة النازلة وتعليم أهله]

(26) [باب الرحلة في المسألة النازلة وتعليم أهله] 27/ 88 - قال أبو عبد الله: حدثني محمد بن مقاتل قال: أخبرنا عبد الله قال أخبرنا عمر بن سعيد بن أبي حسين قال: حدثني عبد الله بن أبي مليكة، عن عقبة بن الحارث أنه تزوج ابنة لأبي إهاب بن عزيز، فأتته امرأة فقالت: إني قد أرضعت عقبة والتي تزوج. فقال له عقبة: ما أعلم أنك أرضعتني ولا أخبرتني، فركب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فسأله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف وقد قيل؟ ففارقها عقبة ونكحت زوجاً غيره.

قوله: (كيف وقد قيل)؟ يدل على أنه إنما اختار له فراقها من طريق الورع والأخذ بالوثيقة والاحتياط في باب الفروج دون الأمر بذلك والحكم به عليه، وليس قول المرأة الواحدة شهادة يجب بها حكم في أصل من الأصول، وشهادة المرء على فعل نفسه لا تكون شهادة، إنما تصح شهادته إذا كانت لغيره، ولو كان سبيلها سبيل الشهود لاعتبر صدقها وعدالتها في نفسها، وإنما روي في هذا شيء عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: تقبل شهادة المرأة الواحدة في الرضاع إذا كانت مرضية وتستخلف [وتستحلف] مع شهادتها. وقوله: (ففارقها) يحتمل أن يكون معناه أنه طلقها، وهذا هو الواجب في مثل هذه الحادثة إذا أراد الزوج مفارقتها لتحل لغيره من الأزواج.

(28) [باب الغضب في الموعظة والتعليم إذا رأى ما يكره]

(28) [باب الغضب في الموعظة والتعليم إذا رأى ما يكره] 28/ 91 - قال أبو عبد الله: حدثني عبد الله بن محمد قال: حدثنا أبو عامر قال: حدثنا سليمان بن بلال، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن يزيد -مولى المنبعث- عن زيد بن خالد الجهني أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله رجل، عن اللقظة فقال: اعرف وكاءها أو قال: وعاءها ثم عرفها سنة، ثم استمتع بها فإن جاء ربها فأدها إليه. قال: فضالة الإبل؟ فغضب حتى احمرت وجنتاه أو قال: احمر وجهه. وقال: ما لك ولها؟ معها سقاؤها وحذاؤها: ترد الماء

وترعى الشجر، فذرها حتى يلقاها ربها. قال: فضالة الغنم، قال: لك أو لأخيك أو للذئب. الوكاء: الخيط الذي يربط به الكيس والصرة ونحوها من الظروف. وقوله: (اعرف وكاءها أو وعاءها). يتأول على وجهين: أحدهما: أن يكون إنما أمر بذلك من لا يكلفه الشهادة عليها ويلزمه ردها إذا أصاب الصفة فحسب. والوجه الآخر: أن يكون إنما أمره بمراعاة الصفة والعلامة لتتميز بها من خاص ماله فلا تختلط به، فيتعذر ردها إن حدث عليه الموت، فيحوزها الورثة فلا يردونها، ولذلك أمر الملتقط بالإشهاد عليها إذا التقطها. وقوله: (عرفها سنة، ثم استمتع بها) فيه بيان أنها له بعد تعريف السنة، يفعل بها ما شاء من أنواع المنافع والمتع بشرط أن يردها إذا جاء صاحبها إن كانت باقية أو قيمتها إن كانت تالفة. وإذا ضاعت اللقطة نظر، فإن كان ذلك في مدة السنة لم يكن عليه شيء لأن يده يد أمانة هذه السنة، وإن ضاعت بعد فعليه الغرمة لأنها صارت ديناً عليه.

وأما قوله: فضالة الإبل، وغضب النبي صلى الله عليه وسلم لذلك حتى احمرت وجنتاه، فمعناه أن غضبه إنما كان استقصارا لعلمه وسوء فهمه (إذ) لم يراع المعنى الذي أشار إليه ولم يتنبه له، فقاس الشيء على غير نظيره، وذلك أن اللقطة إنما هو اسم الشيء الذي يسقط عن صاحبه فيضيع، لا يدري أين موضعه، وليس للشيء في نفسه حول تقلب ولا تصرف هداية للوصول إلى صاحبه، والإبل مخالفة لذلك اسما وصفة، إنما يقال لها الضالة لنها تضل لعدولها عن المحجة في مسيرها وهي لا تعدم أسباب القدرة على العود إلى ربها لقوة سيرها وإمعانها في الأرض، وذلك معنى الحذاء المذكور في الخبر، ومعنى السقاء أنها ترد المياه ربعا وخمسا فتمتلئ شربا وريا لأيام ذات عدد. ثم هي تمتنع على الآفات من سبع يريدها أو بئر تتردى فيها، ولذلك جعل الأمر في الغنم على العكس منها فقال: (هي لك أو لأخيك أو للذئب)، (إذ) كانت لا امتناع بها لضعفها وانقطاعها إذا انقطعت عنها رعاية الحفاظ لها والذابين عنها، فجعل سبيلها سبيل اللقطة وأمره بالاستمتاع بها وردها إذا جاء صاحبها.

(الباب نفسه) 29/ 92 - قال أبو عبد الله: حدثني محمد بن العلاء قال: حدثنا أبو أسامة، عن بريد، عن أبي بردة، عن أبي موسى قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أشياء كرهها، فلما كثر عليه غضب، ثم قال للناس: سلوني ما شئتم وذكر الحديث. قال عمر: يا رسول الله إنا نتوب إلى الله عز وجل) يشكل من هذا الحديث معنى الغضب من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال: (لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان) ثم قد فصل الحكم هاهنا في وقت غضبه .. ؟ والجواب أن الغضب من رسول الله صلى الله عليه وسلم قد يكون على وجهين أحدهما: أن يكون خوفا وشفقا على الأمة أن يضلوا إذا خفي عليهم علمُ ما يلزمهم، ويعنيهم من مر الدين، فيكون ذلك تحريضاً منه لهم

على الواجب من ذلك. والوجه الآخر: ما يحدث له من الغضب البشري الذي هو طبع وجبلة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إني بشر أغضب كما تغضبون)، وعلى الوجهين معا، بل على الأحوال كلها لا يجوز عليه غلط في الحكم يقر عليه قولا ولا فعلا لعصمة الله عز وجل إياه صلى الله عليه وسلم، ولذلك حكم للزبير في حال غضبه حين قال للأنصاري له: إن [أن] كان ابن عمتك، وليس قياس سائر الناس قياسه، ولا معناهم في ذلك معناه.

كتاب الاستئذان

كتاب الاستئذان (13) [باب التسليم والاستئذان ثلاثا] 30/ 6244 - قال أبو عبد الله: حدثنا إسحاق قال: حدثنا عبد الصمد قال: حدثنا عبد الله بن المثنى قال: حدثنا ثمامة بن عبد الله بن أنس، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سلم سلم ثلاثا، وإذا تكلم (بكلمة) أعادها ثلاثا. أما إعادته الكلام ثلاثا فإنما كان يفعله لأحد معيين: أحدهما: أن يكون بحضرته من يقصر فهمه عن وعي ما يقوله، فيكرر القول ليقع به الفهم، إذ هو مأمور بالبيان والتبليغ، وإما أن يكون القول الذي يتكلم به نوعا من الكلام الذي يدخله

الإشكال والاحتمال، فيظاهر بالبيان لتزول الشبهة فيه ويرتفع الإشكال معه. وأما تسليمه ثلاث، فيشبه أن يكون ذلك عند الاستئذان إذا زار قوما، فسلم فلم يؤذن له سلم ثانية وثالثة. فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع). وقد روي عن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه وهو في بيته وسلم فلم يجبه، ثم سلم ثانيا، ثم ثالثا، فانصرف فخرج سعد وتبعه وقال: يا رسول الله، سمعت بأذني تسليمك، ولكني أردت أن أستكثر من بركة تسليمك.

(37) باب ليبلغ العلم الشاهد الغائب قاله ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم

(37) باب ليبلغ العلم الشاهد الغائب قاله ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم 31/ 104 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن يوسف قال: حدثني الليث بن سعد قال: حدثني سعيد، عن أبي شريح أنه قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة: ائذن لي أيها الأمير أحدثك قولا قام (به) رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح سمعته أذناني وأبصرته عيناي ووعاه قلبي حين تكلم به حمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرئ مؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ولا يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص لقتال رسول الله فيها فقولوا: إن الله قد أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي فيها

ساعة من نهار، ثم عادت حرمتها كحرمتها بالأمس، (فليبلغ الشاهد الغائب) قال: فقال عمرو لأبي (شريح) أنا أعلم منك، لا يعيذ الحرم عاصيا ولا فارا بدم ولا فارا بخربة. قوله: لا يعضد بها شجرة، معناه لا يقطع. والعضد: القطع. وقد رأى العلماء في الشجرة يقطع منها الفدية، فروي عن ابن الزبير أنه جعل في الشجرة الصغيرة شاة وفي الكبيرة بقرة، وهو قول عطاء وإليه ذهب الشافعي. وقوله: أن يسفك بها دما، فإن ظاهره تحريم الدماء كلها، كان ذلك حقا أو لم يكن، ويؤكد ذلك قوله: وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار، ثم عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، ولا يجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم قد أباح دما حراما عليه في ذلك اليوم ولا في غيره من الأيام أو غيرها من الأماكن، وإلى هذا ذهب قوم من أهل العلم فقالوا: إذا فر الجاني إلى الحرم لم يقتص منه ما دام مقيما، فإذا خرج اقتص منه.

وقال آخرون: كل ما جناه في الحرم اقتص منه في الحرم، وما جناه خارج الحرم لم يقتص منه داخل الحرم. وأما قول عمرو: ولا فارا بخربة، فإن معنى الخربة السرقة هاهنا، والخراب عندهم سرقة الإبل خاصة. يقال: رجل خارب ويسمون اللصو خُرَّابا. قال الشاعر: والخارب اللصل يحب الخاربا وقد تجري الخربة في أكثر مجرى التهمة.

(38) [باب إثم من كذب على النبي - صلى الله عليه وسلم -]

(38) [باب إثم من كذب على النبي - صلى الله عليه وسلم -] 32/ 107 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو الوليد قال: حدثنا شعبة، عن جامع بن شداد، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه قال: قلت للزبير: إني لا أسمعك تحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما يحدث فلان وفلان قال: أما إني لم أفارقه، ولكن سمعته يقول: (من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار). قوله: فليتبوأ، ظاهره أمر ومعناه خبر، يريد أن الله عز وجل يبوئه مقعدا من النار. يقال: تبوأ الرجل المكان: إذا اتخذ موضعه لمقامه. وأصله من مباءة الإبل وهي أعطانها، ولم يخف الزبير على نفسه من الحديث أن يكذب فيه عمدا، ولكنه خاف أن يزل أو يخطئ فيكون ما يجري من الغلط فيه كذبا إذا لم يتيقن أن رسول الله

صلى الله عليه وسلم قد قاله. وفيه من العلم أنه لا يجوز الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشك وغالب الظن حتى يتيقن سماعه ويعلم صحته.

(39) [باب كتابة العلم]

(39) [باب كتابة العلم] 33/ 112 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو نعيم، حدثنا شيبان، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة أن خزاعة قتلوا رجلا من بني ليث عام فتح مكة بقتيل (منهم) قتلوه، فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فخطب وقال: إن الله عز وجل حبس عن مكة القتل أو الفيل، شك أبو عبد الله وسلط عليهم رسول الله والمؤمنين ألا وإنها لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي، ألا (وإنها حلت لي ساعة من نهار) ألا وإنها ساعتي هذه حرام لا يختلى شوكها، ولا يعضد شجرها، ولا يلتقت ساقطها إلا لمنشد، فمن قتل فهو بخير النظري، إما أن يعقل وإما أن يقاد أهل

القتيل)، فجاء رجل من أهل اليمن فقال: اكتب لي يا رسول الله. فقال: اكتبوا لأبي فلان. فقال رجل من قريش: إلا الإذخر، فإنا نجعله في بيوتنا وقبورنا، فقال: إلا الإذخر. قوله: لا يختلى شوكها، إنما جاء في سائر الروايات: ولا يختلى خلاها). والخلا: الحشيش. ومنه سميت المخلاة، (وأما الشوك فإن أكثر أهل العلم على إباحته، ويشبه أن يكون المحظور منه) الشوك الذي يرعاه الإبل وهو ما رق منه دون الشوك الصُّلب الذي لا يرعاه فيكون ذلك بمنزلة الحطب ونحوه. وقوله: (إلا لمنشد) أي لمعرف لها. يقال: نشدت الضالة إذا طلبتها وأنشدتها إذا عرفتها. وكان بعض أهل العلم يذهب إلى التفرقة بين ضالة الحرم وغيرها من البقاع فيقول: لا تحل لقطتها لآخذها بعد تعريف السنة، كما تحل لقطة غيرها من البقاع، يقول: إنما حظ آخذها منها الحفظ والتعريف حتى تصل إلى ربها،

وأكثر أهل العلم على الجمع في هذا الحكم بين لقطتها ولقطة سائر البقاع إذا أنشدها سنة حلت لآخذها بعد السنة في مذهب أهل الحجاز ويتصدق بها على مذهب أهل العراق. وقوله: من قتل فهو يخير، هكذا وقع في روايته وفيه حذف ونقصان، وبيان ذلك في سائر الأحاديث، وهو ما رواه أبو شريح الخزاعي قال: من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يعقل وإما أن يقاد). وفيه بيان أن ولي القتيل بالخيار بين أحد الأمرين أيهما شاء أعطيه، وإلى ذلك ذهب فقهاء أهل الحجاز. وقال أهل العراق: ليس له إلا القصاص، فإن ترك حقه منه لم يكن له أن يأخذ الدية. وفي قوله: اكتب لي يا رسول الله، وأمره بأن يكتب له دليل على أن كتابة الحديث غيرم كروهة، وأن النهي عن كتاب شيء غير القرآن منسوخ.

(الباب نفسه) 34/ 114 - قال أبو عبد الله: حدثني يحيى بن سليمان قال: حدثني ابن وهب قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (لما اشتد بالنبي صلى الله عليه وسلم وجعُه قال: ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده). قال عمر: إن النبي صلى الله عليه وسلم لوجع، وعندنا كتاب الله حسبنا، فاختلفوا وكثر اللغط قال: قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع (فخرج) ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كتابه. هذا يتأول على وجهين: أحدهما:- أنه أراد أن يكتب اسم الخليفة بعده لئلا يختلف الناس ولا يتنازعوا، فيؤديهم ذلك إلى الفتنة والضلال.

والوجه الآخر:- أنه صلى الله عليه وسلم قد هم أن يكتب لهم كتابا يرتفع معه الاختلاف بعده في أحكام الدين، شفقة على أمته وتخفيفا عنهم، فلما رأى اختلاف أصحابه في ذلك قال: قوموا من عندي وتركهم على ما هم عليه. ووجه ما ذهب إليه عمر أنه لو زال الاختلا بأن ينص كل شيء باسمه تحليلا وتحريما لارتفع الامتحان وعُدم الاجتهاد في طلب الحق ولاستوى الناس في رتبة واحدة ولبطلت فضيلة العلماء على غيرهم. وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: اختلاف أمتي رحمة، فاستصوب عمر هذا الرأي وقدمه على رأي من ذهب من الصحابة إلى خلافه. فإن قيل: كيف يجوز أن يكون الاختلاف خيرا من الاتفاق؟ ولو كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق عذابا، وليس إسناد الحديث الذي رويتموه بذاك. قيل: أما وجه ما ذكرناه من أن الله تعالى لو

نص على كل حادثة من الحوادث وكفى الناس مؤونة الاجتهاد والاستنباط لماتت الخواطر وتبلدت الأفهام وسقطت فضيلة العلماء، فأمر بين غير خاف. وأيضا فلو جاء التوقيف في كل حادثة تحدث إلى آخر الدهر لاشتد حفظه ولامتنع على الناس ضبطه ولأدى ذلك إلى الضيق والحرج ولكان غايته العجز عما أمروا به لتعذر حصره والعجز عن حفظه وضبطه. فأما قول القائل: لو كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق عذابا لأنه ضده، فهذا قول لم يصدر عن نظر وروية، وقد وجدت هذا الكلام لرجلين اعترضا به على الحديث: أحدهما:- مغموص عليه في دينه وهو عمرو بن بحر الذي يعرف بالجاحظ والآخر: معروف بالسخف والخلاعة في مذهبه وهو (إسحاق بن إبراهيم الموصلي)، فإنه لما وضع كتابه في الأغاني وأمعن في تلك الأباطيل ل يرض بما تزوده من إثمها حتى صدَّر كتابه بذم أصحاب الحديث

والحَطْبِ عليهم وزعم أنهم يروون ما لا يدرون، وذكر بأنهم رووا هذا الحديث، ثم قال: ولو كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق عذابا، ثم تكايس وتعاقل فأدخل نفسه في جملة العلماء وشاركهم في تفسيره وتأويله فقال: وإنما كان الاختلاف رحمة ما دام رسول الله صلى الله عليه وسلم حيا بين ظهرانيهم فإنهم إذا اختلفوا سألوه فأجابهم وبين لهم ما اختلفوا فيه، ليس فيما يختلفون بعده، وزعم أنهم لا يعرفون وجوه الأحاديث ومعانيها فيتأولونها على غير جهاتها. والجواب عما ألزمانا من ذلك يقال لهما: إن الشيء وضده قد يجتمعان في الحكمة، ويتفقان في المصلحة. ألا ترى أن الموت لم يكن فسادا، وإن كانت الحياة صلاحا، ولم يكن السقم سفها، وإن كانت الصحة حكمة، ولا الفرق خطأ، إذا كان الغنى صوابا. وكذلك الحركة والسكون الليل والنهار وما أشبَهَهَا من الأضداد. وقد قال سبحانه: {ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه}، فسمى الليل رحمة، فهل أوجب أن يكون النهار عذابا من قبل أنه ضده، وفي هذا بيان خطأ ما ادعاه هؤلاء ولله الحمد.

وأما وجه الحديث ومعناه فإن قوله: (اختلاف أمتي رحمة) كلام عام اللفظ، خاص المراد، وإنما هو اختلاف في إثبات الصانع ووحدانيته وهو كفر، واختلاف في صفاته ومشيئته وهو بدعة، وكذلك ما كان من نحو اختلاف الخوارج والروافض في إسلام بعض الصحابة، واختلاف في الحوادث من أحكام العبادات المحتملة الوجوه، جعله الله تعالى يسرا ورحمة وكرامة للعلماء منهم. وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا رحمة مهداة). وقال: (بعثت بالرحمة). وقد سأل بعضهم أيضا على هذا فقال: كيف يكون مبعوثا بالرحمة، وقد بعث بالسيف وأمرنا بالقتال وسفك الدم؟ والجواب: أن الله تعالى بعث أكثر الأنبياء وأمرهم بالإبلاغ وأيدهم بالجوامع والحجج والمعجزات، فمن أنكر من تلك الأمم

الحق بعد قيام الحجة وظهور المعجزة أرسل عليه العذاب، وعوجل بالهلاك، واستؤني بهذه الأمة فلم يعاجل من أنكر الحق منهم بالعذاب والاستئصا، وأمر الله عز وجل نبيه بجهادهم، وحملهم على الدين بالسيف ليرتدعوا عن الكفر، فلا يجتاحوا بالعذاب ويأتي على (آخرهم) الهلاك، فإن (بعد) السيف بقية، وليس بعد العذاب المنزل بقية. وقد روي أن قوما من العرب جاءوه فقالوا: يا رسول الله أفنانا السيف. فقال: (ذاك أبقى لآخركم)، فهذا معنى الرحمة المبعوث بها صلى الله عليه وسلم. وأما قول إسحاق وتأويله الحديث على أن المراد بهذا الاختلاف هو ما كان في أيام حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن هذا تأويل فاسد، ولو كان الأمر على ما زعمه لكان قد عدم بيان أمور الدين بعد موته صلى الله عليه وسلم، ولكانت الأمة قد ضلت بعد خروجه من الدنيا عند حدوث الاختلاف فيما بينهم، وهذا باطل، لأنه صلى الله عليه وسلم كان مبعوثا إلى آخر نسمة من أمته تخلق في آخر الزمان، كما كان مبعوثا إلى أهل زمانه وعصره، فلم يترك شيئا مما كان حدث وجاز أن سيحدث إلا أودعه بيانا يعلم به حكمُه. إلا أن البيان على ضربين: (جلي) واضح: وهو ما يتلى أو

يروى بالنص على اسم الشيء والتوقيف فيه. وخفي غامض: وهو ما يستنبط من طريق التفهم والقياس له على نظيره وشكله وكل ذلك مفروغ من بيانه والحمد لله على ذلك. وقد يسأل فيقال: كيف يجوز لعمر أن يعترض على رأي رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر الدين فلا يسرع إلى قبوله، وما وجه عذره وتأويله في ذلك؟ أفتراه قد خاف أن يتكلم صلى الله عليه وسلم بغير الحق أو يجري على لسانه الباطل، فقال من أجل ذلك إن رسول الله صلى الله عليه قد غلبه الوجع، وحسبنا كتاب الله، وقد تيقن علما أنه صلى الله عليه وسلم معصوم ومشهود له بأن لا ينطق عن الهوى {إن هو إلا وحي يوحى}. والجواب: أن عمر رضي الله عنه لا يجوز عليه أن يتوهم الغلط على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يظن به التهمة في حال من الأحوال، إلا أنه لما نظر وقد أكمل الله الدين وتمم شرائعه واستقر الأمر فيها على منهاج معلوم، وقد غلب رسول الله صلى الله عليه وسلم الوجع وأظلته الوفاة وهو بشر يعتريه من الآلام ما يعتري البشر، ويتورد طباعه من التغير بالمرض ما يتورد غيره. وقد قال

صلى الله عليه وسلم: (إني أوعك كما يوعك رجلان منم). وقال: (إني بشر أغضب كما يغضب البشر) وقال: (إنا معاشر الأنبياء يضاعف علينا البلاء) وقال عند موته: (واكرباه) إلى ما يتصل بهذا الباب من نظائره ولواحقه مما لا عزيمة له فيه، فيجد به المنافقون سبيلا إلى تلبيس أمر الدين وقد كان أيضا صلى الله عليه وسلم يرى الرأي في الأمر فيراجعه أصحابه في ذلك إلى أن يعزم الله له كل شيء، كما راجعوه في حلاق الشعر قبل أن يطوفوا، وكما

راجعوه يوم الحديبية في الكتاب الذي كتب بينه وبين قريش، فإذا أمر بالشيء أمر عزم لم يراجع فيه ولم يخالف عليه. وأكثر العلماء متفقون على أنه قد يجوز على رسول الله صلى الله عليه وسلم الخطأ فيما لم ينزل عليه فيه وحي، ولكنهم مجمعون على أن تقريره على الخطأ غير جائز. وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اللهم إني بشر أغضب كما يغضب البشر، فأيما عبد لعنته أو سببته فاجعل ذلك عليه صلاة ورحمة). ومعلوم أن الله سبحانه وإن كان رفع درجته فوق الخلقك لهم فإنه لم يبرئه من سمات الحدث ولم يخله من الأعراض البشرية، وهذيان المريض موضوع عنه، والقلم عن الناسي مرفوع، وقد سها صلى الله عليه وسلم في صلاته ونسي بعض العدد من ركعاتها حتى ذُكِّر بها ونبه عليها، فلم يستنكر أن

يظن به حدوثُ بعض هذه الأمور في مرضه فيتوقف في مثل ما جرى من الحال، ويستثبت حتى يتبين حقيقته. فلهذه الأمور وما يشبهها من الأسباب كانت مراجعة عمر إياه في ذلك الموطن والله أعلم. ويجب أن يعلم أن ذلك القول منه صلى الله عليه وسلم لو كان عزيمة لأمضاه الله، والحمد لله على ما يسر من أمر دينه، وبه نستعين على حسن طاعة نبيه ولا قوة إلا بالله.

كتاب الطهارة

ومن كتاب الطهارة [4] (باب لا يتوضأ من الشك حتى يستيقن) 35/ 137 - قال أبو عبد الله: حدثنا علي قال: حدثنا سفيان قال: حدثنا الزهري، عن سعيد بن المسيب، وعن عباد بن تميم، عن عمه أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة. فقال: لا ينفتل أو لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا. قوله: (حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا) يريد أن يمضي في صلاته ما لم يتيقن الحدث، ولم يرد بذكر هذين النوعين من الحدث تخصيصهما وقصر الحكم عليهما حتى لا يقع نقض الطهارة بغيرهما،

وإنما هو جواب خرج على حدود المسألة التي سأل عنها السائل، وقد دخل في معناه كل ما يخرج من السبيلين من غائط وبول ومذي وودي ودم ونحوها، وقد يخرج منه الريح ولا يسمع لها صوتا ولا يجد لها ريحا، فيكون عليه استئناف الطهارة إذا تيقن ذلك، وقد يكون بأذنه وقر لا يسمع معه الصوت، وقد يكون أخشم فلا يجد الريح، والمعنى إذا كان أوسع من الاسم كان الحكم للمعنى. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا استهل الصبي ورث وصلي عليه) ولم يرد به تخصيص الاستهلال الذي هو رفع الصوت دون غيره من أمارات الحياة من حركة وقبض وبسط في عضو ونحوها من الأمور التي لا تتأتى إلا من حي، وهذا أصل في كل أمر قد ثبت واستقر يقينا، فإنه لا يرفع حكمه بالشك كمن تيقن نكاح امرأة أو ملك رقبة، ثم شك في فسخ النكاح أو زوال الملك، فإن الشك في ذلك لا يزاحم اليقين، والنكاح على صحته والملك على أصله.

وقد يستدل بهذا الحديث بعض من لا يرى في الدم يخرج من غير السبيلين الوضوء والاستدلال به في مثل هذا ضعيف، وأضعف منه وأوهن استدلال من استدل به في أن رؤية المتيمم الماء في صلاته لا تنقض طهارته، ومثل هذا الاستدلال لا يصح وإن كان قد أولع بذلك أصحاب الجدل والشغب ويتعلقون كثيرا به، وليس هذا من باب ما تقدم قولنا فيه من أن المعنى إذا كان أوسع من الاسم كان الحكم للمعنى، لأن ذلك إنما هو فيما يقع تحت الجنس الواحد من معقول الباب، وهذا بخلاف ذلك، فلا يصلح الاستدلال به إذا كان معقولا أنه إنما قصد به الجواب عن الخارجات من البدن إذا شك في خروجها، وأن الواجب فيها التمسك بالأصل حتى يتيقن الحدث، فدل ببعض المذكورات على سائر ما لم يذكر من نوعها، فمجاوزة المذكور والتعد إلى غير الجنس المقصود به اغتصاب للكلام وعدوان فيه، وقد يخاف أن يكون ذلك نوعا من الافتراء، ونحو هذا من استدل في رؤية المتيمم الماء في الصلاة بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يقطع صلاة المسلم شيء). ومعلوم أنه إنما جاء في المار بين يدي المصلي، ولذلك قرن قوله: (وادرأوا ما استطعتم) وهذا باب يجب أن يراعى ولا يغفل.

[5] (باب التخفيف في الوضوء)

[5] (باب التخفيف في الوضوء) 36/ 138 - قال أبو عبد الله: حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان، عن عمرو قال: أخبرني كريب، عن ابن عباس قال: بت عند خالتي ميمونة فقام النبي صلى الله عليه وسلم من الليل فتوضأ من شن معلق وضوءا خفيفا، وقام يصلي، فتوضأت نحوا مما توضأ، ثم جئت فقمت عن يساره، وربما قال سفيان عن شماله، فحولني فجعلني عن يمينه، ثم صلى ما شاء الله، ثم اضطجع فنام حتى نفخ، ثم أتاه المنادي يؤذنه بالصلاة فقام فصلى ولم يتوضأ.

[26] (باب قراءة القرآن بعد الحدث وغيره)

[26] (باب قراءة القرآن بعد الحدث وغيره) 37/ 183 - قال أبو عبد الله: وحدثنا إسماعيل، حدثني مالك عن مخرمة بن سليمان، عن كريب، عن ابن عباس وذكر الحديث وقال: ثم قام إلى شن معلقة فتوضأ منها. قال: ثم ذهبت فقمت إلى جنبه فوضع يده اليمنى على رأسي وأخذ بأذني اليمنى يفتلها .. الحديث. الشن: القربة التي تبدت للبلى. وقوله في الرواية الأولى: (من شن معلق) بلفظ التذكير، إنما قال ذلك لأنه أراد الجلد. وفي الرواية الأخرى: (ثم قام إلى شن معلقة فتوضأ منها) لأنه أراد القربة فأنث. وفي قوله: فحولني فجعلني عن يمينه، إيجاب مراعاة موقف الإمامة كي يكون المأموم متأخرا عن الإمام. وفيه أن من الأدب أن يمشي الصغير عن يمين الكبير، والمفضول عن يمين الفاضل. وفيه إباحة العمل اليسير في الصلاة. وقوله: فأخذ بأذني اليمنى يفتلها، قد يحتمل أن يكون معنى الفتل هاهنا الجذب ليدور فيتحول إلى يمينه، ويحتمل أن يكون أراد

به فتل التأديب والتقويم ليكون ذلك أبلغ لما يريد منه وليكون أذكر له فيما يستأنفه من الزمان. ويقال: إن المتعلم ذا تُعُهد بفتل أذنه كان أذكى لفهمه وأوعى لما يسمعه من القول. وأخبرني أحمد بن الحسين الآبري قال: أخبرني عبد الرحمن بن الحسن الشافعي قال: قال الربيع: ركب الشافعي يوما فلصقت بسرجه وهو على الدابة، فجعل يفتل شحمة أذني بيده، فأعظمت ذلك منه حتى وجدته عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفتل شحمة أذنه فعلمت أنه إنما فعل لك عن أصل. وأما نوم النبي صلى الله عليه وسلم مضطجعا حتى نفخ، وقيامه إلى الصلاة من غير إحداث وضوء، فإن ذلك من خصائصه التي ليس للأمة أن يأتسوا به فيها. والعلة في ذلك مذكورة

في الحديث وهي قوله صلى الله عليه وسلم: (تنام عيناي ولا ينام قلبي) فأخبر أن يقظة قلبه تعصمه من الحدث. وفي حديث سفيان الذي رويناه أولا أنه قال عمرو بن دينار سمعت عبيد بن عمير يقول: (رؤيا الأنبياء وحي) ثم قر {إني أرى في المنام أني أذبحك} ثم قال {يا أبت افعل ما تؤمر} يريد بهذا القول أنه إنما منع النوم قلبه ليعي الوحي إذا أوحي إليه في منامه. وفي الحديث دلالة أن النوم عينه ليس بحدث، وإنما هو مظنة للحدث فإذا كان نوم النائم على حال يأمن معه الحدث غالبا كالنوم قاعدا وهو متماسك ونحو ذلك من الأحوال لم ينتقض وضوءه به.

[6] (باب إسباغ الوضوء)

[6] (باب إسباغ الوضوء) 38/ 139 - قال أبو عبد الله: قال: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن موسى بن عقبة، عن كريب -مولى ابن عباس- عن أسامة بن زيد أنه سمعه يقول: دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفة حتى إذا كان بالشعب نزل فبال ثم توضأ ولم يسبغ الوضوء. فقلت: الصلاة يا رسول الله، فقال: الصلاة أمامك، فركب فلما جاء المزدلفة نزل فتوضأ فأسبغ الوضوء، ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب، ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله، ثم أقيمت العشاء فصلى ولم يصل بينهما. قوله: (الصلاة أمامك) يريد أن موضع هذه الصلاة المزدلفة، وهي أمامك، وهذا تخصيص لعموم الأوقات المؤقتة للصلوات الخمس ببيان فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه دليل على أنه لا يجوز أن يصليها الحاج إذا أفاض من عرفة حتى يبلغها وأن عليه أن يجمع بينها وبين العشاء، بجَمْع على ما سنه

رسول الله صلى الله عليه وسلم بفعله، وبينه بقوله، ولو أجزأته في غير ذلك المكان لما أخرها صلى الله عليه وسلم عن وقتها المؤقت لها في سائر الأيام، وفيه بيان أن لا صلاة بينهما، ولا أذان لواحدة منهما، ولكن يقام لكل صلاة منهما. واستدل به الشافعي على أن الفوائت من الصلوات لا يؤذن لها وإنما يقال لها فقط. وذهب غيره من الفقهاء إلى أن يؤذن للفوائت ويقام، كما يؤذن للصلوات التي يؤذن في أوقاتها المعلومة. وإليه ذهب فقهاء أهل الكوفة، وهو مذهب الإمام أحمد بن حنبل -رحمة الله عليه- وفيه أن يسير العمل إذا تخلل بين الصلاتين غير قاطع نظام الجمع بينهما وذلك لقوله: (ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله، ولكنه لا يتكلم فيما بين الصلاتين). وأما (فعله) صلى الله عليه وسلم حين نزل الشعب وتركه الإسباغ له، فإنما فعل ذلك ليكون مستصحبا للطهارة في مسيره إلى أن يبلغ جمعا، وكان صلى الله عليه وسلم يتأخَّى في عامة أحواله أن يكون على طهر، وإنما تجوَّز في الطهارة ولم يسبغها لأنه لم يفعل

ذلك ليصلي بها، ألا تراه قد أسبغها حين أراد أن يصلي وأكملها، وفي وضوئه لغير الصلاة دليل على أن الوضوء نفسه عبادة وقربة، وإن لم يفعل لأجل الصلاة، وكان صلى الله عليه وسلم يقدم الطهارة إذا أوى إلى فراشه ليكون مبيته على طهر.

[9] (باب ما يقول عند الخلاء)

[9] (باب ما يقول عند الخلاء) 39/ 142 - قال أبو عبد الله: حدثنا آدم، قال: حدثنا شعبة، عن عبد العزيز بن صهيب قال: سمعت أنسا يقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث). الخبث: جمع خبيث كقولك: جديد وجدد وعتيق وعتق، والخبائث جمع الخبيثة. تعوذ بالله من ذكران الشياطين وإناثهم، وإنما خص بذلك الخلاء، لأن الشياطين يحضرون الأخلية -وهي مواضع يهجر فيها ذكر الله- فقدم لها الاستعاذة احترازا منهم. وقد قال صلى الله عليه وسلم: (عن هذه الحشوش محتضرة، فإذا دخل أحدكم الخلاء فليتعوذ بالله).

[11] (باب لا تستقبل القبلة بغائط أو بول إلا عند البناء: جدار أو نحوه)

[11] (باب لا تستقبل القبلة بغائط أو بول إلا عند البناء: جدار أو نحوه) 40/ 144 - قال أبو عبد الله: حدثنا آدم، حدنا ابن أبي ذئب، حدثنا الزهري، عن عطائ بن يزيد الليثي، عن أبي أيوب الأنصاري، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يولها ظهره شرقوا أو غربوا). نهيه عن استقبال القبلة واستدبارها عند الخلاء معناه صيانة جهة القبلة وكراهة ابتذالها في غير ما جعلت له، وإنما يستقبل الرجل القبلة عند الصلاة والدعاء ونحوهما من أمور البر والخير، فكره صلى الله عليه وسلم أن يتوجه إليها عند الحدث، وكره أيضا أن يوليها ظهره فتكون عورته بإزائها غير مستورة عنها. وقد قيل: إن المعنى في ذلك أن وجه الأرض متعبد للملائكة والإنس والجن، فالمتباعد فيه مستقبلا للقبلة ومستدبرا لها، مستهدف للأبصار.

ومن أجل ذلك صارت الكراهة له إذا كان في الصحارى خصوصا دون الأبنية الساترة للأبصار. وقوله: شرقوا أو غربوا) إنما هو خطاب لأهل المدينة ولمن كانت قبلته على ذلك السمت، فأما من كانت قبلته إلى جهة المغرب أو المشرق فإنه لا يشرق ولا يغرب.

[12] (باب من تبرز على لبنتين)

[12] (باب من تبرَّز على لبنتين) 41/ 145 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن يوسف قال: حدثنا مالك، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن عمه واسع بن حبان، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أنه كان يقول: إن ناسا يقولون: إذا قعدت على حاجتك فلا تستقبل القبلة ولا بيت المقدس، لقد ارتقيت على ظهر بيت لنا فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على لبنتين مستقبلا بيت المقدس لحاجته. المستقبل لبيت المقدس وهو بالمدينة مستدبر للكعبة.

[14] (باب التبرز في البيوت)

[14] (باب التبرز في البيوت) 42/ 148 - قال أبو عبد الله: حدثنا إبراهيم (بن) المنذر قال: حدثنا أنس بن عياض، عن عبيد الله، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن عمه واسع بن حبان، عن عبد الله بن عمر قال: ارتقيت فوق بيت حفصة لبعض حاجتي، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته مستدبر القبلة، مستقبل الشام. قد يتوهم السامع قول ابن عمر في الرواية الأولى من طريق مالك (أن ناسا يقولون) إلى آخر الفصل، أنه يريد إنكار ما روي من النهي عن استقبال القبلة عند الحاجة أو يراه نسخا له بما حكاه من رؤيته النبي صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته مستدبرا للقبلة، وليس الأمر في ذلك على ما يتوهم لأن المشهور من مذهب ابن عمر ومن فتياه في هذا الباب أنه كان لا يجوز استقبال القبلة ولا استدبارها في الصحارى ويجوز ذلك في الأبنية، وإنما أنكر ابن عمر قول من يزعم أن استقبال القبلة في الأبنية غير جائز، ولذلك تمثل بما شاهده

من قعوده في الأبنية مستدبر القبلة. ويشبه أن يكون قد بلغه قول أبي أيوب الأنصاري فإنه كان يرى النهي في ذلك عاما في الصحارى والأبنية وإليه كان يذهب سفيان الثوري من الفقهاء. فأما ابن عمر فإنه كان يجمع بين الخبرين في ذلك، فيمنع الاستقبال والاستدبار في الصحارى ولا يمنع ذلك في الأبنية، وإليه ذهب الشعبي وهو قول مالك والشافعي.

[13] (باب خروج النساء إلى البراز)

[13] (باب خروج النساء إلى البراز) 43/ 146 - وذكر أبو عبد الله حرفا في حديث عائشة رضي الله عنها أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كن يخرجن بالليل إذا تبرزن إلى المناصع وهو صعيد أفيح. المناصع: موضع معروف. والصعيد وجه الأرض. والأفيح: الواسع. ودار فيحاء واسعة.

[18] (باب النهي عن الاستنجاء باليمين)

[18] (باب النهي عن الاستنجاء باليمين) 44/ 153 - قال أبو عبد الله: حدثنا معاذ بن فضالة قال: حدثنا هشام -هو الدستوائي- عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الإناء، وإذا أتى الخلاء فلا يمس ذكره بيمينه ولا يتمسح بيمينه). نهيه عن التنفس في الإناء نهي أدب وتعليم، وذلك أنه إذا فعل ذلك لم يأمن أن يبدر من فيه الريق فيخالط الماء فيعافه الشارب منه، وربما تروح بنكهة المتنفس إذا كانت فاسدة، والماء للطفه ورقة طبعه تسرع إليه الروائح، ثم إنه من فعل الدواب إذا كرعت في الأواني جرعت ثم تنفست فيه، ثم عادت فشربت، وإنما السنة

والأدب أن يشرب الماء في ثلاثة أنفاس، كلما شرب نفسا من الإناء نحاه عن فمه، ثم عاد مصا له، غير عب إلى أن يأخذ ريه منه. ونهيه عن مس الذكر بيمينه، تنزيه لها عن مباشرة العضو الذي يكون منه الأذى والحدث، وكان صلى الله عليه وسلم يجعل يمناه لطعامه وشرابه ولباسه، ويسراه لخدمة أسافل بدنه. وكذلك الأمر في نهيه عن الاستنجاء باليمين إنما هو تنزيه وصيانة لقدرها عن مباشرة ذلك الفعل. وإذا كان مس الذكر باليمين منهيا عنه، والاستنجاء بها منهيا عنه كذلك فقد يحتاج البائل في بعض الأحوال أن يتأنى لمعالجة ذلك وأن يرفق فيه، وذلك إن لم يجد (إلا) حجرا ضخما لا يزول عن المكان إذا اعتمده أو لم يجد (إلا) جذم حائط أو نحوه فيحتاج إلى أن يلصق مقعدته بالأرض ويمسك (الممسوح) بين عقبيه، ويتناول عضوه بشماله فيمسحه به، وينزه عنه يمينه ليخرج به عن النهي في الوجهين معاً.

[20] (باب الاستنجاء بالحجارة)

[20] (باب الاستنجاء بالحجارة) 45/ 155 - قال أبو عبد الله: حدثني أحمد بن محمد المكي قال: حدثنا عمرو بن يحيى بن سعيد بن عمرو المكي، عن جده عن أبي هريرة قال: اتبعت النبي صلى الله عليه وسلم وخرج لحاجته وكان لا يلتفت فدنوت منه فقال: (ابغني أحجارا أستنفض بها أو نحوه ولا تأتني بعظم ولا روث). قوله: ابغني معناه اطلب لي. فإذا قلت: أبغني -بقطع الألف- كان معناه أعني على الطلب. وقوله: أستنفض معناه أستنج [؟] وهو من النفض، وذلك أن المستنجي ينفض عن نفسه أذى الحدث بالأحجار. ويقال: هذا موضع منتفض: أي متبرز.

وإنما سن صلى الله عليه وسلم إعداد النُّبَل للاستنجاء قبل القعود للخلاء لئلا يحتاج إلى أن يطلب الحجارة بعد الفراغ من الحاجة، لأن المتغوط إذا قام قبل الاستنجاء لم يأمن أن يتلوث منه الشرج وما جاوره من الصفحتين، وفي إعداد ذلك قبل القعود له سلامة من هذا المعنى. وقوله: (لا تأتني بعظم ولا روث) فإن النهي عن الاستنجاء بالعظم لمعنيين أحدهما: أنه جعل زادا للجن على ما جاء في الرواية (أنه زاد إخوانكم من الجن) فإفساده غير جائز، وقد يأكله الناس في الضرورات أيضا. والمعنى الآخر: أن العظم زلج لا يكاد يتماسك فيزيل الأذى إزالة تامة. فأما الروث فنجس والنجس يمد النجاسة ولا يزيلها.

[21] (باب لا يستنجى بروث)

[21] (باب لا يستنجى بروث) 46/ 156 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا زهير عن أبي إسحاق قال: ليس أبو عبيدة ذكره ولكن عبد الرحمن عن أبيه أنه سمع عبد الله يقول: أتى النبي صلى الله عليه وسلم الغائط فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين فالتمست الثالث فلم أجده، فأخذت روثة فأتيته بها، فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال: هذا ركس. قوله: أمرني أن آتيه بثلاثة أحجار فيه إيجاب عدد الثلاث في الاستنجاء إذا كان معقولا أنه استدعاها ليستنجي بها كلها، وليس في قوله: (فأخذ الحجرين وألقى الروثة) دليل على أنه اقتصر

عليهما لجواز أن يكون بحضرته ثالث فيكون قد استوفاها عددا. ويدل على ذلك خبر سلمان رضي الله عنه قال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلة أو نستنجي بأيماننا أو نكتفي بدون ثلاثة أحجار ليس فيها رجيع ولا عظم. وهو خبر لم يختلف أهل الحديث في صحة سنده واتصاله من طريق الأعمش عن إبراهيم عن عبد الرحمن بن يزيد عن سلمان. وخبر أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا لكم مثل الوالد فلا يستقبل أحدكم القبلة ولا يستدبرها -يعني في الغائط- ولا يستنج بدون ثلاثة أحجار ليس فيها روث ولا رمة)،

وهو أيضاً خبر صحيح من طريق ابن عجلان، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح عن أبي هريرة. وقوله: هذا ركس، يريد أنه رجيع قد رد عن حال الطهارة إلى النجاسة ويقال: ارتكس الرجل في البلاء: إذا رد فيه بعد الخلاص منه. ومنه قول الله تعالى: {والله أركسهم بما كسبوا} - أي ردهم إلى الكفر والهلاك.

[25] (باب الاستنثار في الوضوء)

[25] (باب الاستنثار في الوضوء) 47/ 161 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبدان قال: حدثنا عبد الله، حدثنا يونس، عن الزهري قال: أخبرني أبو إدريس أنه سمع أبا هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من توضأ فليستنثر، ومن استجمر فليوتر). الاستنثار: نفض ما في الأنف بعد استنشاق الماء وقد أوجبه بعض الفقهاء ورأى الصلاة فاسدة إن لم يستنثر المتوضئ، والحديث حجة له لأن ظاهر الأمر الإيجاب. والاستجمار: الاستنجاء بالأحجار، ومنه رمي الجمار في الحج وهي الحصا التي يرمى بها في أيام منى هكذا فسره مالك بن أنس وكذلك أبو عبيد

وغيره. وأخبرني عبد الرحمن بن الأسد قال: حدثنا الدبري عن عبد الرزاق قال: سئل معمر عن الاستجمار قال: يريد المجمر. وهو غلط. وفي قوله: (من استجمر فليوتر) دليل على وجوب استيفاء عدد الثلاث في الاستنجاء إذ كان معقولا أنه لم يرد به الوتر الذي هو واحد فرد، لأنه زيادة وصف على اسم، والاسم لا يحصل بأقل من واحد، فعلم أنه إنما قصد به ما زاد على الواحد وأدناه الثلاث.

[26] (باب الاستجمار وترا)

[26] (باب الاستجمار وترًا) 48/ 162 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن يوسف قال: أخبرنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا استيقظ أحدكم من منامه فليغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده). أمره بغسل يده قبل أن يدخلها الماء الذي يريد أن يتوضأ به، أمر أدب واستحباب لا أمر إيجاب وإلزام، وذلك لأنه علقه بالشك والارتياب، والأمر المضمن بالشك والارتياب لا يكون واجبا، وأصل الماء الطهارة. وبدن الإنسان على حكم الطهارة كذلك أيضا، وإذا ثبتت الطهارة يقينا لم تزل بأمر مشكوك فيه، وإنما جاء هذا في المياه التي هي في حد القلة إذ كان قد جرت عاداتهم باستعمال الآنية الصغار في طهورهم كالمخاضب والركاء ونحوها

دون المياه التي في الحياض والبرك والمصانع الواسعة، فإنه إذا كان الماء في حد الكثرة لم يكن هذا المعنى موهوبا [موهوما]، وذهب بعض أهل الظاهر إلى إيجاب غسل اليد قبل إدخالها الإناء، فإن أدخلها فيه قبل غسلها فسد الماء. وفرق بعضهم بين نوم الليل ونوم النهار. قال: وذلك لأن الحديث إنما جاء في نوم الليل بدليل قوله: (أين باتت يده)، والمبيت إنما يكون ليلا، فإن الإنسان لا ينكشف لنوم النهار كما ينكشف لنوم الليل، فتطوف يده في أطراف بدنه كما تطوف يد النائم ليلا، وربما أصابت موضع العورة، وكانوا قل ما يستعملون الماء، إنما يستنجون بالحجارة ونحوها. وقد يكون هناك لوث من أثر الحدث لم ينقه الاستنجاء بالأحجار فيعلق بيده، فإذا غمسها في الإناء فسد الماء لمخالطة النجاسة إياه. وهذا الذي قاله واحتج به قد يحتمل أن يكون، ويحتمل أن لا يكون، وأصل الماء الطهارة، وحكم البدن الطهارة، كذلك ما لم يتيقن نجاسة، والمتمكن المستقر لا يزول بالمكتفي المتردد بين أن يكون وبين أن لا يكون، فالاحتياط أن يغسلها والقياس أن لا وجوب. وهو قول أكثر العلماء، وفيه الدلالة على الفرق بين ورود النجاسة على الماء القليل، وبين ورود الماء عليها معقولا لأن الماء الذي أمره صلى الله عليه وسلم بصبه من الإناء على يده لغسلها وإزالة نجاسة إن كانت عليها ماء قليل، ثم كان حكمه الطهر والتطهير، وحكم ما في الإناء من الماء وإن كان أكثر كمية منه حكم التنجيس لو كان تيقن نجاسة بيده فدل على الفرق بين الأمرين.

وفيه دلالة على أن غسل النجاسة سبعا مخصوص به بعض أنواع النجاسات وأن ما عداه بخلافه.

[27] (باب غسل الرجلين ولا يمسح على القدمين)

[27] (باب غسل الرجلين ولا يمسح على القدمين) 49/ 163 - قال أبو عبد الله: حدثنا موسى قال: حدثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن يوسف بن ماهك عن عبد الله بن عمرو قال: تخلف النبي صلى الله عليه وسلم في سفرة فأدركنا وقد أرهقنا العصر فجعلنا نتوضأ ونمسح على أرجلنا، فنادى بأعلا [بأعلى] صوته: (ويل للأعقاب من النار) مرتين أو ثلاثا. قوله: أرهقنا العصر: أي أخرناها. يقال: أرهقت الصلاة إذا أخرتها عن وقتها. وقد يقال: أرهقتنا الصلاة إذا دنا وقتها، وأرهق الليل إذا دنا كذلك.

وقوله: (ويل للأعقاب من النار) وعيد في ترك استيعاب الرجل غسلا وفيه بيان بطلان قول من تأول من الروافض الآية على المسح إذا قرئت بكسر اللام. من قوله: {وأرجلكم إلى الكعبين}.

[40] (باب استعمال فضل وضوء الناس)

[40] (باب استعمال فضل وضوء الناس) 50/ 190 - قال أبو عبد الله: حدثني عبد الرحمن بن يونس قال: حدثنا حاتم بن إسماعيل، عن الجعد قال: سمعت السائب بن يزيد يقول: ذهبت بي خالتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فمسح رأسي ودعا لي بالبركة، ثم قمت خلف ظهره فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه مثل زر الحجلة. زر الحجلة يريد الإزار [الأزرار] التي تشد على ما يكون في حجال العرائس من الكلال والستور ونحوها، وقد جاء في بعض الروايات: رأيت خاتم النبوة كبيضة الحمامة. وقد سمعت من

يقول: زر الحجلة: بيضة حجل الطير، يقال للأنثى منها الحجلة، وهذا شيء لا أحقه.

[44] (باب صب النبي صلى الله عليه وسلم وضوءه على مغمى عليه)

[44] (باب صب النبي صلى الله عليه وسلم وضوءه على مغمى عليه) 51/ 194 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو الوليد، حدثنا شعبة عن محمد بن المنكدر، قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني وأنا مريض لا أعقل، فتوضأ فصب علي من وضوئه فعقلت. فقلت يا رسول الله: لمن الميراث، إنما ترثني كلالة؟ فنزلت آية الفرائض. قوله: فصب علي من وضوئه. فيه دليل على أن الماء المستعمل طاهر، وقد يستدل به أيضا من يرى الوضوء به جائزا. قوله: إنما ترثني [كلالة] فإن الكلالة هاهنا الأخوات وكان لجابر إذ ذاك سبع أخوات والكلالة: اسم للوارث والموروث معا، وهو في هذا الحديث اسم للوارث.

فأما الكلالة المذكورة في قوله عز وجل: {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة} فهي اسم للموروث دون الوارث، وإنما سَمَّى [سُمِّي] الورثة كلالة لتكللهم النسب من جوانبه وهم مَن دون الولد والوالد من الورثة.

[45] (باب الغسل والوضوء في المخةب والقدح والخشب والحجارة)

[45] (باب الغسل والوضوء في المخةب والقدح والخشب والحجارة) 52/ 198 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو اليمان قال: حدثنا شعيب، عن الزهري قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن عائشة قالت: لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتد به وجعه قال: (هريقوا علي من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن لعلي أعهد إلى الناس) وأجلس في مخضب لحفصة، ثم طفقنا نصب عليه تلك حتى طفق يشير إلينا أن قد فعلتن، ثم خرج إلى الناس. المخضب - شبه الإجانة يغسل فيه الثياب. وقولها: طفقنا، أي جعلنا نفعل ذلك. يقال: طفق الرجل يفعل كذا إذا واصل الفعل. والأوكية جمع الوكاء، وهو الخيط

الذي يربط به رأس السقاء، وإنما طلب النبي صلى الله عليه وسلم ذلك إليهن، لأن المريض إذا صب عليه الماء البارد ثابت إليه قوته في بعض الأمراض، ويشبه أن يكون ما اشترطه في القرب من أن لم تكن حلت أوكيته طهارة الماء، وذلك أن أول (الماء) أطهره وأصفاه لأن الأيدي لم تخالطه ولم تمرسه بعد. وقد يحتمل أن يكون إنما خص بها عدد السبع من ناحية التبرك، وفي عدد السبع بركة، ولها شأن لوقوعها في كثير من أعداد معاظم الخليقة وبعض أمور الشريعة، والأواني والقرب إنما توكى وتحل على ذكر الله، فاشترط أن يكون صب الماء عليه من الأسقية التي لم تحلل ليكون قد جمع بركة الذكر في شدها وحلها معا، والله أعلم بحقيقة ما أراد من ذلك.

[46] (باب الوضوء من التور)

[46] (باب الوضوء من التور) 53/ 200 - قال أبو عبد الله: حدثنا مسدد قال: حدثنا حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بإناء من ماء، فأتي بقدح رحراح فيه شيء من ماء فوضع أصابعه. قال أنس: فجعلت أنظر إلى الماء ينبع من بين أصابعه. قال أنس: فحزرت من توضأ ما بين السبعين إلى الثمانين. القدح الرحراح: هو الواسع الصحن القريب القعر، ومثل ذلك من الأقداح لا يسع الماء الكثير. وفي هذا آية من آيات نبويته صلى الله عليه وسلم ومعجزة من معجزاته. وقد قيل: إن هذا أبلغ في الإعجاز من تفجير الماء من الحجر لموسى صلوات الله عليه، لأن في طبع الحجارة أن يخرج منها الماء الغدق الكثير، وليس ذلك في طباع أعضاء بني آدم.

[48] (باب المسح على الخفين)

[48] (باب المسح على الخفين) 54/ 205 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبدان قال: أخبرنا عبد الله قال: أخبرنا الأوزاعي، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن جعفر بن عمرو، عن أبيه. رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يمسح على عمامته وخفيه. قلت: ظاهر هذا يوجب جواز المسح على العمامة من غير أن يصله بشيء من الرأس، كما يمسح على الخف من غير أن يمسح معه شيء من الرجل، وقد قال به غير واحد من العلماء. منهم الأوزاعي وهو مذهب أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأهل

الظاهر. وقال أحمد: قد جاء ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من خمسة أوجه، وإليه ذهب محمد بن إسحاق بم [بن] خزيمة، وعامة أصحاب الحديث، واشترط كل من جوز المسح على العمامة أن يكون الماسح قد اعتم بعد كمال الطهارة كالماسح على الخفين، وزاد بعضهم في شرائطه أن يكون قد تلحَّى بالعمامة، فإن لم يجعلها تحت الذقن لم يجزه المسح عليها، وكأنه راعى هيئة القوم وعاداتهم في لبس العمائم، وكان عامتهم يجعلونها تحت الأذقان، فمن خالف ذلك لم تجعل له الرخصة في المسح، والعمامة إنما تتماسك وتثبت على رأس المعتم إذا جعل شيئا تحت ذقنه فيكون ذلك شبيها بالخف المخروز المتماسك في رجله، ولو تلفف بالجلد من غير خرز لم يجزه المسح، فكذلك إذا اقتعط العمامة من غير تحنيك لم يجزه المسح عليها، لأن ذلك إنما يكون حينئذ بمنزلة الكارَةِ الموضوعة فوق الرأس، فأما أكثر الفقهاء فإنهم لم يجيزوا المسح على العمامة، وتأولوا الخبر على أنه أراد به مسح مقدم الرأس من غير نقض للعمامة أو إبانة عن مكانها.

[49] (باب إذا أدخل رجليه وهما طاهرتان)

[49] (باب إذا أدخل رجليه وهما طاهرتان) 55/ 206 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو نعيم قال: حدثنا زكريا، عن عامر، عن عروة بن المغيرة، عن أبيه قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم (في سفر) فأهويت لأنزع خفيه فقال: دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين فمسح عليهما. قد استدل بهذه اللفظة من لا يجيز المسح على الخفين لمن لبس أحدهما بعد غسل إحدى رجليه قبل غسل الرجل الأخرى. قال: وذلك لأنه قد اشترط في إدخال الرجلين طهارتهما معا، وهو وصف يجمعهما عند ابتداء لبس الخفين وإدخالهما القدمين، ومن غسل إحدى الرجلين وأدخلها أحد الخفين قبل أن يغسل الأخرى لم يستحق هذا الوصف، إذ هارة إحدى الرجلين متعلقة بطهارة الأخرى، وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق. وقد ذكر

محمد ابن إسحاق بن خزيمة في هذا حديثين صحيحي الإسناد بلفظتين هما أوضح دلالة وأكثر بيانا من حديث المغيرة. أحدهما: حديث أبي بكرة، والآخر: حديث صفوان بن عسال، حدثني بهما عنه إبراهيم بن عبد الله الأصبهاني قال: حدثنا محمد بن إسحاق قال: حدثنا بندار وبشر بن معاذ العقدي ومحمد بن أبان قالوا: حدثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد قال: حدثنا المهاجر -وهو ابن مخلد- عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رخص للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوما وليلة إذا تطهر فلبس خفيه أن يمسح عليهما.

قوله: إذا تطهر فلبس خفيه، شرطٌ في إكمال الطهارة قبل لبس الخف ألا تراه قد عقبه بحرف الفاء التي توجب التعقيب. قال: وحدثنا محمد بن يحيى ومحد بن رافع قالا: حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، عن عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش، عن صفوان بن عسال قال: كنا في الجيش الذين بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرنا أن نمسح على الخفين إذا نحن أدخلناهما على طهور ثلاثا إذا سافرنا، وليلة إذا أقمنا.

وقوله: إذا نحن أدخلناهما على طهور، يؤكد هذا المعنى لأنه إذا لبس أحدهما قبل غسل رجله الأخرى لم يكن مدخلهما على طهور. والحكم المعلق بشرطين لا يجب وقوعه بوجود أحدهما دون الآخر. قلت: زيادة الدلالة من هذين الحديثين على ما جاء به أبو عبد الله من حديث المغيرة هي أنه قد علق الطهارة فيه بالقدمين وعلقهما في هذين الحديثين بالمتوضيء فتأمل.

[51] (باب من مضمض من السويق ولم يتوضأ)

[51] (باب من مضمض من السويق ولم يتوضأ) 56/ 209 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن يوسف قال: أخبرنا مالك، عن يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار -مولى بني حارثة- أن سويد بن النعمان أخبره أنه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر، حتى إذا كانوا بالصهباء -وهي أدنى خيبر- فصلى العصر، ثم دعا بالأزواد فلم يؤت إلا بالسويق، فأمر به فثُرِّي، فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكلنا، ثم قام إلى المغرب فمضمض ومضمضنا، ثم صلى ولم يتوضأ. قوله: فثري. أي بُلَّ، ومنه الثرى، وهو التراب الندي، وأرض ثرياء، أي نديَّة [نَدِيَة]، وفي صلاته بعد أكل السويق من غير إحداث وضوء دليل على أن أمره بالوضوء مما مست النار ومما

غيرت النار منسوخ وإنما كانت خيبر سنة سبع من مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وكان الأمر بالوضوء فيهما متقدما، وهما حديثان في أحدهما الوضوء مما مست النار، وفي الآخر الوضوء مما غيرت النار، والسويق مما قد مسته النار، وإن لم يكن لها فيه بيان تغيير. وأما اللحم وإنضاجه بالطبخ فهو الذي قد غيرته النار، والأمران معا لا تجب فيهما الطهارة عند عامة العلماء.

[55] (باب من الكبائر أن لا يستتر من بوله)

[55] (باب من الكبائر أن لا يستتر من بوله) 57/ 216 - قال أبو عبد الله: حدثني عثمان قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس: مر النبي صلى الله عليه وسلم بحائط من حيطان مكة أو المدينة فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يعذبان وما يعذبان في كبير). ثم قال: (بل كان أحدهما لا يستنزه من بوله، وكان الآخر يمشي بالنميمة)، ثم دعا بجريدة وكسرها كسرتين، فوضع على كل قبر منهما كسرة. فقيل له يا رسول الله: لم فعلت هذا؟ قال: (لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا أو إلا أن ييبسا).

قوله: (يعذبان في كبير) معناه أن التنزه من البول وترك النميمة غير كبيرين ولا شاقين على فاعلهما، ولم يرد أن المعصية فيما أتياه هينة صغيرة. ألا تراه كيف استدرك المعنى في ذلك بقوله: بل، لئلا يتوهم أن المراد به تهوين الأمر وتصغيره، وكلمة (بل) يستدرك بها المتقدم من الكلام، وفيه إثبات عذاب القبر. وأما وضعه شَقَّ [شِق] الجريدة على القبر، وقوله حين سئل عن العلة في ذلك: (لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا)، فقد يحتمل أن يكون ذلك لدعاء كان منه ومسألة في التخفيف عنهما مدة بقاء النداوة في الجريدة، وليس ذلك من أجل أن في الجريدة عينها معنى يوجبه، وقد قيل: إن المعنى في ذلك أن الرطب منه يسبح، وليس ذلك لليابس، وقد قُدم إلى الحسن مائدة فقيل له: يا أبا سعيد: هل يسبح هذا الخشب؟ قال: كان يسبح فأما الآن فلا. يكون على هذا المعنى فيه دليل على استحباب تلاوة القرآن على القبور، لأنه إذا كان يرجى أن يخفف عن الميت بتسبيح الشجر، فتلاوة القرآن أعظم رجاء وأكثر بركة والله أعلم.

[58] (باب صب الماء على البول في المسجد)

[58] (باب صب الماء على البول في المسجد) 58/ 220 - قال أبو عبد الله: قال: حدثنا أبو اليمان قال: حدثنا شعيب عن الزهري قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أن أبا هريرة قال: قام أعرابي فبال في المسجد فتناوله الناس فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: دعوه (وأهريقوا) على بوله سجلا من ماء أو ذنوبا من ماء، فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين. السجل: الدلو الكبيرة. والذنوب: ملو [ملء] دلو ماء. وفيه من الفقه أن الماء إذا أتى على النجاسة على سبيل الغلبة والاستهلاك لها طهرها، وأن غسول النجاسة مع استهلاك عين النجاسة بأوصافها طاهر، ولو لم يكن كذلك لكان الغاسل لموضع النجاسة من المسجد أكثر تنجيسا له من البائل. فأما ما روي من حفر المكان ونقل ترابه فإسناده غير متصل،

إنما روي ذلك عن عبد الله بن معقل بن مقرن وهو مرسل، وعبد الله بن معقل لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم، ولو وجب ذلك لزال معنى التيسير ولصاروا إلى أن يكونوا معسرين أقرب. وبلغنا عن سفيان الثوري أنه قال: لم تجد [نجد] في أمر الماء إلا السعة. وقال الربيع بن سليمان: سئل الشافعي عن الذبابة تقع على النتن، ثم تطير فتقع على ثوب الرجل، فقال الشافعي: يجوز أن يكون في طيرانها ما يُيْبِس [ييبِّس] ما برجلها، فإن كان كذلك، وإلا فالشيء إذا ضاق اتسع.

[59] (باب بول الصبيان)

[59] (باب بول الصبيان) 59/ 223 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن يوسف قال: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن أم قيس بنت محصن أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجلسه رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني في حجره- فبال على ثوبه فدعا بماء فنضحه ولم يغسله. النضح: إمرار الماء عليه دفقا من غير مرس ولا درك، ومنه قيل للبعير الذي يستقى عليه الماء الناضح، والغسل المعروف إنما يكون بصب الماء ومرس الثوب وعصره، وفيه بيان أن إزالة أعيان النجاسات إنما تعتبر بقدر غلظ النجاسة وخفتها، فما غلظ منها زيد في التطهير وما خف منها اقتصر فيه على إمرار الماء من غير مبالغة وتوكيد.

[61] باب البول عند صاحبه والتستر بالحائط)

[61] باب البول عند صاحبه والتستر بالحائط) 60/ 225 - قال أبو عبد الله: حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن أبي وائل، عن حذيفة: (قال): رأيتني أنا والنبي صلى الله عليه وسلم نتماشى، فأتى سباطة قوم خلف حائط، فقام كما يقوم أحدكم، فانتبذت منه فأشار إلي فجئت فقمت عند عقبه حتى فرغ. السباطة: ملقى التاب والقمام يكون بفناء الدور مرفقا لأهلها، ويكون مثل ذلك في الأغلب مرتفعا عن وجه الأرض منثالا يخد فيه البول ولا يرتد على البائل ويشبه أن يكون السبب في بوله قائما أنه قد أعجله البول ولم يجد للقعود موضعا، إذ كان ما يليه من طرف السباطة مرتفعا عاليا. وقد روي (في) ذلك وجه آخر حدثونا عن محمد بن

عقيل قال: حدثنا يحيى بن عبد الله الهمداني قال: حدثنا حماد بن غسان الجعفي قال: حدثنا معن بن عيسى القزاز، عن مالك بن أنس، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بال قائما من جرح كان بمأبضه.

والثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمعتاد من فعله البول قاعدا وإنما كان ذلك الفعل منه نادرا لضرورة دعته إليه والله أعلم. وقوله: فانتبذت منه. يريد تنحيت عنه حتى كنت منه على نبذة. وقوله: فأشار إلي فجئت فقمت عند عقبه، فالمعنى في إدنائه إياه مع استحبابه الإبعاد في الحاجة إذا أرادها هو أن يكون سترا بينها وبين الناس.

[63] (باب غسل الدم)

[63] (باب غسل الدم) 61/ 227 - قال أبو عبد الله: حدثنا محمد بن المثنى قال: حدثنا يحيى، عن هشام قال: حدثتني فاطمة، عن أسماء قالت: جاءت امرأةٌ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقالت: أرأيت إحدانا تحيض في الثوب كيف تصنع؟ قال: تحته، ثم تقرصه بالماء، وتنضحه وتصلي فيه. قوله: تحته، يريد المستجسد من الدم ليتحات وينقلع عن وجه الثوب، ثم تقرضه [تقرصه] وهو أن تفيض عليه بإصبعها ثم تغمزه غمزا جيدا وتدلكه بهما حتى ينحل ما تشرَّبه من الدم، ثم تنضحه بالماء، أي تصب عليه، والنضح هاهنا بمعنى الغسل.

[63] (الباب نفسه)

[63] (الباب نفسه) 62/ 228 - قال أبو عبد الله: حدثني محمد قال: حدثنا أبو معاوية قال: أخبرنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إني امرأة أستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، إنما ذلك عرق وليس بحيض، فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم صلي. قوله: (إنما ذلك عرق) احتج به بعض فقهاء العراق في إيجاب الوضوء من خروج الدم (من غير السبيلين، وزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم علل نقض الطهارة بخروج الدم) من العرق، وكل دم برز من البدن فإنما يبرز من عرق، لأن العروق هي مجاري الدم من الجسد.

قلت: وليس معنى هذا الحديث ما ذُهب [ذَهب] إليه، ولا مراد الرسول صلى الله عليه وسلم من ذلك ما توهمه، وإنما أراد أن هذه العلة إنما حدثت بها من تصدع العرق، وتصدع العروق علة معروفة عند الأطباء يحدث ذلك من غلبة الدم فتتصدع العروق إذا امتلأت تلك الأوعية، وإنما أشار صلى الله عليه وسلم بهذا القول إلى فرق ما بين الحيض والاستحاضة، فإن الحيض مصحة للبدن لأنه يجري مجرى سائر الأثقال من البول والغائط فيجد البدن خفة، وإن الاستحاضة علة ومسقمة كسائر العلل التي يخاف معها الهلاك والتلف. وفي قوله: إذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم، ثم صلي، دليل على أنها كانت تميز دم الاستحاضة من دم الحيض، وفيه دلالة على وجوب تقديم علامة الدم على الأيام.

[66] (باب أبوال الإبل والدواب والغنم ومرابضها)

[66] (باب أبوال الإبل والدواب والغنم ومرابضها) 63/ 233 - قال أبو عبد الله: حدثنا سليمان بن حرب قال: حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس قال: قدم ناس من عكل وعرينة فاجتووا المدينة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بلقاح وأن يشربوا من ألبانها وأبوالها فانطلقوا، فلما صحوا قتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم فاستاقوا النعم (فجاء) الخبر في أول النهار، فبعث في آثارهم، فلما ارتفع النهار جيء بهم فأمر فقطع أيديهم وأرجلهم وسُمِّرت [وسُمِرَت] أعينهم، فألقوا في الحرة يستسقون فلا يسقون. قال أبو قلابة: فهؤلاء سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله.

قوله (اجتووا المدينة)، يريد أنهم لم يستوفقوا المقام بها لمرض أصابهم أو عارض من سقم، واللقاح: الإبل ذوات الدر واحدتها لقحة. وفي قوله: أمرهم أن يشربوا من ألبانها وأبوالها، مستدل (لمن) رأى أن أبوال ما يؤكل لحومها طاهرة قالوا: ولو كانت محرمة لم يبح لهم أن يستشفوا بها لقوله عليه السلام: (إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم). وقوله: سمرت أعينهم. السَّمْر: لغة في السمل، والراء واللام تتقارب مخارجهما، وقد يكون السمر من المسمار، يريد أنهم كحلوا بأميال قد أحميت بالنار، والسمل: فقء العين كقول أبي ذؤيب.

سملت بشوك فهي عور تدمع وقد اختلف الناس في معنى هذا الصنيع وتأويل ما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمرهم، فروي عن ابن سيرين أنه قال: كان ذلك قبل تحريم المثلة. وروي في بعض الأخبار أنهم كانوا قد سملوا أعين الرعاة، وقطعوا أيديهم وأرجلهم، فكان ما فعل بهم مجازاة على محاذاة أفعالهم، فيكون فيه على هذا الوجه دلالة على جواز امتثال القصاص على حسب الجناية. وفي قوله: يستسقون فلا يسقون، دليل على أن هذا الفعل إنما فعل بهم للقتل، ولأجل ذلك لم يستبقوا، فلا يجوز لولي الدم على هذا أن يصنع بالقاتل مثل هذا الصنيع، ثم يستبقيه فلا يقتله.

[67] (باب ما يقع من النجاسات في السمن والماء)

[67] (باب ما يقع من النجاسات في السمن والماء) 64/ 237 - قال أبو عبد الله: حدثنا أحمد بن محمد قال: أخبرنا عبد الله قال: أخبرنا معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: كل كلم يكلمه المسلم في سبيل الله يكون يوم كهيئتها إذ طعنت تفجَّر دما، اللون لون دم والعَرف عرف مسك. الكلم: الجرح، والعرف: الريح، وأخبرني خلف بن محمد الخيام قال: حدثونا عن النضر بن شميل قال: كنت لا أعرف الواحد من الأعراف حتى مر بي هذا الحديث، فإذا هو عَرْف، وأصحاب الأعراف هم الذين يجدون عرف الجنة: أي ريحها.

[68] باب البول في الماء الدائم)

[68] باب البول في الماء الدائم) 65/ 239 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو اليمان قال: أخبرنا شعيب قال: أخبرنا أبو الزناد عن الأعرج، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه). الماء الدائم: هو الراكد الذي لا يجري، كما قد جاء من تفسيره في الحديث وهو الذي لا يجري. يقال: دام الشيء إذا سكن، ودامت القدر إذا سكن غليها، وهذا إذا كان الماء في حد القلة، فأما إذا كان كثيرا أو كان جاريا فالحكم فيه بخلاف ذلك، لأن جرية الماء ترفع النجس، ويخلفه الطاهر بعده.

[69] (باب إذا ألقي على ظهر المصلي قذر أو جيفة لم تفسد عليه صلاته)

[69] (باب إذا ألقي على ظهر المصلي قذر أو جيفة لم تفسد عليه صلاته) 66/ 240 - قال أبو عبد الله: حدثني أحمد بن عثمان، قال: حدثنا شريح بن مسلمة قال: حدثنا إبراهيم بن يوسف، عن أبيه عن أبي إسحاق قال: حدثني عمرو بن ميمون أن عبد الله بن مسعود حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي عند البيت وأبو جهل وأصحاب له جلوس. قال بعضهم لبعض: أيكم يجيء بسلا جزور بني فلان فيضعه على ظهر محمد إذا سجد، فانبعث أشقى القوم فجاء به فنظر حتى سجد النبي صلى الله عليه وسلم وضعه على ظهره بين كتفيه، فجعلوا يضحكون

ويحيل بعضهم على بعض ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد لا يرفع رأسه. ثم جاءته فاطمة فطرحت عن ظهره، فرفع رأسه ثم قال: اللهم عليك بأبي جهل وبعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط، وعد السابع فلم نحفظه قال: فوالذي نفسي بيده لقد رأيت الذين عد رسول الله صلى الله عليه وسلم صرعى في القليب قليب بدر. قلت: قد احتج بهذا الحديث بعض من ذهب إلى أن فرث ما يؤكل لحمه طاهر، والصلاة فيه جائزة وهو قول نفر من أصحاب عبد الله، وإليه ذهب سفيان الثوري. وقال بعضهم أيضا: إن دمه طاهر. قالوا: والسلا يجمع الأمرين معا، وقد استقر النبي صلى الله عليه وسلم ساجدا والسلا على ظهره، فلولا طهارته لم يقارَّه، لأن الصلاة مع النجاسة غير جائزة. وذهب أكثر العلماء إلى أنه نجس، وتأولوا معنى الحديث على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن تُعُبد إذ ذاك بتحريمه كالخمر كانوا يلابسون الصلاة وهي تصيب ثيابهم وأبدانهم قبل نزول التحريم، فلما حرمت لم تجز الصلاة فيها، وأيضا فإن السلا (هو) الذي

يكون فيه الولد وليس فيه دم ولا فرث وإنما هو كعضو من أعضائها. فإن قيل: إن السلا وإن لم يكن فيه فرث ولا دم فهو ميتة، لأن الذي نحر الجزور مشرك وثني. قيل: وهذا أيضا قبل تحريم ذبائح أهل الأوثان، فكان ذلك في معنى المذكيات كما كانت تجوز مناكحتهم ثم حرم نكاحهم وطعامهم بعد، والله أعلم. قلت: وقد روى أبو عبد الله في رواية أخرى من هذا الحديث أنهم كانوا وضعوا فرث الجزور ودمها مع السلا على ظهره صلى الله عليه وسلم. والجواب الصحيح فيه: أن التعبد إذ ذاك لم يكن وقع بتحريمه، والله أعلم.

[71] (باب لا يجوز الوضوء بالنبيذ والمسكر)

[71] (باب لا يجوز الوضوء بالنبيذ والمسكر) 67/ 242 - قال أبو عبد الله: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان قال: حدثنا الزهري، عن أبي سلمة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل شراب أسكر فهو حرام). قلت: فيه أبينُ الدليل على أن قليل المسكر وكثيره حرام من أي نوع كان وبأية صنعة صنع، لأنه أشار إلى جنس الشراب الذي يكون منه السكر، كما لو قال: كل طعام أشبع أو كل شراب أروى كان ذلك على استغراق الجنس فيهما دون الجزء المتحدد بكمية (منهما) واستدل به أبو عبد الله في منع جواز النبيذ في الوضوء.

[73] (باب السواك)

[73] (باب السواك) 68/ 245 - قال أبو عبد الله: حدثنا عثمان قال: حدثنا جرير عن منصور، عن أبي وائل، عن حذيفة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك. الشوص: دلك الأسنان عرضا بالسواك وبالإصبع ونحوهما. ويقال: إن المَوْص قريب منه. ويقال: بل الموص غسل الشيء في لين ورفق. وأخبرني ابن مالك قال: استغسلت أعرابية ثوبا فقلت لها: نقيه وبيضيه، فقال: نعم، وأموصه لك موصة ثانية.

[75] (باب فضل من بات على وضوئه)

[75] (باب فضل من بات على وضوئه) 69/ 247 - قال أبو عبد الله: حدثنا محمد بن مقاتل قال: أخبرنا عبد الله قال: أخبرنا سفيان، عن منصور، عن سعد بن عبيدة عن البراء بن عازب قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن، ثم قل: اللهم أسلمت وجهي إليك وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت، ونبيك الذي أرسلت، فإن مت من ليلتك فأنت على الفطرة، واجعلهن آخر ما تتكلم به قال: فعددتها على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما بلغت بكتابك الذي أنزلت قلت: ورسولك، قال: لا، ونبيك الذي أرسلت. قوله: (إذا أتيت مضجعك فتوضأ) يريد إذا أردت أن تأتي

مضجعك فتوضأ. كقوله عز وجل: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق) الآية. يريد إذا أردتم القيام إلى الصلاة فقدموا لها الطهارة وكقوله: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم}. أي: إذا أردت أن تقرأ القرآن فقدم الاستعاذة. وقوله: (رغبة ورهبة إليك)، عطف الرهبة على الرغبة، ثم أعمل لفظ الرغبة وحدها، ولو أعمل كل واحدة منهما لكان حقه أن يقول: رغبة إليك ورهبة منك، ولكن العرب تفعل ذلك كثيرا في كلامها كقول بعضهم: ورأيت بعلك في الوغا .... متقلدًا سيفاً ورمحا

والرمح لا يتقلد وكقول آخر: وزججن الحواجب والعيونا والعيون لا تزجج وإنما تكحل، إلا أنه لما جمعها في النظم حمل أحدهما على حكم الآخر في اللفظ، والفطرة هاهنا معناها دين الإسلام، وقد تكون الفطرة بمعنى الخلقة وتكون بمعنى السنة كقوله: (خمس من الفطرة)، فذكر الختان والاستحداد وأخواتهما. وفي قول البراء حين قال: (ورسولك) وتلقين النبي صلى

الله عليه وسلم إياه. وقوله: (لا وبينك) حجة لمن لم ير أن يروى الحديث على المعنى إلا على متابعة اللفظ والتمسك به وترك المفارقة له، وهو مذهب عبد الله بن عمر بن الخطاب والقاسم بن محمد وابن سيرين ورجاء بن حيوة وكذلك كان مذهب مالك بن أنس وابن علية وعبد الوارث ويزيد بن زريع ووهيب

وكان يذهب هذا المذهب أبو العباس أحمد بن يحيى النحوي ويقول: ما من لفظة من الألفاظ المتناظرة من كلام العرب إلا وبينها وبين صاحبها فرق وإن دق ولطف كقولك: بلى، ونعم، وتعال، وأقبل ونحوها من الكلام. قلت: والفرق بين النبي والرسول أن النبي هو المنبوء [المنبأ] المخبر، فعيل بمعنى مفعل، والرسول هو المأمور بتبليغ ما نبئ وأخبر به، فكل رسول نبي، وليس كل نبي رسولا، فقد يحتمل أن يكون معنى رده إياه عن اسم الرسول إلى اسم النبي أن الرسول من باب المضاف فهو ينبئ عن المرسل والمرسل إليه، فلو قال: وبرسولك، ثم أتبعه بقول الذي أرسلت لصار البيان معادا مكررا فقال: ونبيك الذي أرسلت، إذ قد كان نبيا قبل أن يكون رسولا ليجمع له الثناء بالاسمين معا، وليكون تعديدا للنعمة في الحالين وتعظيما للمنة على الوجهين، والله أعلم.

اضطربوا في لفظه، فقال بعضهم: نهى عن سؤر المرأة. وقال عاصم: لا أدري أفضل شرابها أم فضل طهورها، هكذا رواه شعبة عن عاصم. قال محمد بن إسحاق بن خزيمة: وأما عبد العزيز بن المختار فجاء بطامة في هذا الإسناد، فروى عن عاصم الأحول عن عبد الله بن سرجس أن النبي صلى الله عليه وسلم (نهى أن يغتسل الرجل بفضل المرأة، والمرأة بفضل الرجل، ولكن يشرعان جميعا)، قال: وهذا خبر خطأ الإسناد والمتن، وشعبة

أحفظ من مائتين مثل عبد العزيز بن المختار. قال: وعاصم عن عبد الله بن سرجس من الجنس الذي كان الشافعي يقول: أخذ طريق المجرة [أي سلك الجادة]. والفرق: إناء يسع ستة عشر رطلاً.

[6] (باب من بدأ بالحلاب أو الطيب عند الغسل)

[6] (باب من بدأ بالحلاب أو الطيب عند الغسل) 71/ 258 - قال أبو عبد الله: حدثني محمد بن المثنى قال: حدثنا أبو عاصم، عن حنظلة، عن القاسم، عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة دعا بشيء نحو الحلاب، فأخذ بكفه، فبدأ بشق رأسه الأيمن، ثم الأيسر فقال بهما على وسط رأسه. الحلاب: إناء يسع قدر حلبة ناقة. ومنه قول الشاعر: صاح هل رأيت [ريت] أو سمعت براع .... رد في الضرع ما قرى في الحلاب

[11] (باب من أفرغ بيمينه على شماله في الغسل)

[11] (باب من أفرغ بيمينه على شماله في الغسل) 72/ 266 - قال أبو عبد الله: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبو عوانة قال: حدثنا الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب -مولى ابن عباس- عن ابن عباس، عن ميمونة بنت الحارث قالت: وضعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم غسلا وسترته، فصب على يده فغسلها، ثم أفرغ بيمينه على شماله فغسل فرجه، ثم دلك يده بالأرض أو بالحائط، ثم تمضمض واستنشق وغسل وجهه ويديه وغسل رأسه، ثم صب على جسده، ثم تنحى فغسل قدميه فناولته خرقة فقال بيده هكذا ولم يردها. قلت: أما صبه الماء بيمينه على شماله في الاستنجاء فهو ذو وجه واحد لا يجوز غيره. وأما غسل الأطراف فإنه ينظر، فإن كان الإناء الذي يتوضأ منه إناء واسعا فإنه يضعه عن يمينه، ثم أخذ منه الماء بيمناه وجعله

على يسراه، وإن كان الإناء ضيق الفم كالقماقم ونحوها فإنه يضعه عن يساره وصب الماء منه على يمينه. وأما رده الخرقة لم يتمسح بها فلا دلالة فيه على أنه غير مباح، فقد روي عن قيس بن سعد أنه قال: (اغتسل النبي صلى الله عليه وسلم فأتيناه بملحفة فالتحف بها)، ورخص فيه الحسن وابن سيرين، وكان مالك والثوري وأصحاب الرأي وأحمد لا يرون به بأس. وروي عن ابن عباس أنه كان يكره ذلك في الوضوء ولم يكرهه في الاغتسال من الجنابة.

[14] (باب من تطيب ثم اغتسل، وبقي أثر الطيب).

[14] (باب من تطيب ثم اغتسل، وبقي أثر الطيب). 73/ 271 - قال أبو عبد الله: حدثنا آدم بن أبي إياس قال: حدثنا شعبة قال: حدثنا الحكم، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قال: كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم. وبيص الطيب: بريق لونه. يقال: وبص الشيء يبص وبيصا (وبصَّ) بصيصا بمعنى واحد، وفيه بيان أن بقاء أثر الطيب على بدن المحرم إذا كان قد تطيب به قبل الإحرام غير مؤثر في إحرامه ولا موجب عليه كفارة وهو مذهب أكثر الصحابة.

[20] (باب من اغتسل عريانا وحده في الخلوة، ومن تستر فالتستر أفضل)

(كتاب الغسل) [20] (باب من اغتسل عريانا وحده في الخلوة، ومن تستر فالتستر أفضل) 74/ 278 - قال أبو عبد الله: حدثنا إسحاق بن نصر قال: حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة، وينظر بعضهم إلى بعض، وكام [وكان] موسى يغتسل وحده فقالوا: والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه آدر، فذهب مرة يغتسل فوضع ثوبه على الحجر، ففر الحجر فجمح موسى في أثره يقول: ثوبي يا حجر، حتى نظرت بنو إسرائيل إلى موسى فقالوا: والله ما بموسى من بأس، وأخذ ثوبه وطفق بالحجر ضربا. قال أبو هريرة: والله إنه لندب بالحجر ستة أو سبعة.

الندب: الأثر الباقي من جراحة أو نحوها. قال ذو الرمة: ملساء ليس بها خال ولا ندب وفيه من الفقه جواز الاطلاع على عورات البالغين لإقامة حق واجب كالختان ونحوه من الواجبات. وفيه جواز الاغتسال عريانا في الخلاء، وإن كان المستحب للمغتسل أن يتزر في الخلاء والملأ حيث يطلع عليه الناس وحيث لا يطلعون عليه.

[23] (باب عرق الجنب وأن المسلم لا ينجس)

[23] (باب عرق الجنب وأن المسلم لا ينجس) 75/ 283 - قال أبو عبد الله: حدثنا علي بن عبد الله قال: حدثنا يحيى قال: حدثنا حميد قال: حدثنا بكر، عن أبي رافع، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم لقيه في بعض طرق المدينة وهو جنب، قال: فانخسنت منه فاغتسلت ثم جئت فقال: أين كنت يا أبا هريرة؟ قال: كنت جنبا، فكرهت أن أجالسك أنا على غير طهارة. قال: (سبحان الله إن المؤمن لا ينجس). قوله: انخنست، معناه تواريت عنه. ويقال: أصل الخنوس الانقباض والتأخر. ويقال للرجل إذا كان مع قوم في مسير فتأخر عنهم قد خنس وانخنس. ومنه قول الله عز وجل: {فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس} يقال: انخناسها: رجوعها

وتواريها تحت ضوء الشمس، ويقال: اختفاؤها بالنهار. وفيه دليل أن للجنب أن يؤخر الاغتسال عن أول وقت وقوعها، وله أن يخرج وهو جنب مارا في الطرق وأن يتصرف في أموره وحوائجه.

[28] (باب إذا التقى الختانان)

[28] (باب إذا التقى الختانان) 76/ 291 - قال أبو عبد الله: حدثني معاذ بن فضالة قال: حدثنا هشام قال: وحدثنا أبو نعيم، عن هشام، عن قتادة، عن الحسن، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل. الشعب الأربع: يريد بها الفخذين والإسكتين وهما حرفا الفرج. وقوله: جهدها، معناه حفزها، يريد التقاء الختانين. وقال ابن الأعرابي: والجهد من أسماء النكاح وفيه دليل على أن الختانين إذا التقيا وجب الغسل وإن لم يكن إنزال. وأن قوله: (الماء من الماء) منسوخ، وكان ذلك متقدما في صدر الإسلام.

(كتاب الحيض)

(كتاب الحيض) [5] (باب مباشرة الحائض) 77/ 302 - قال أبو عبد الله: حدثني إسماعيل بن خليل قال: أخبرنا علي بن مسهر قال: أخبرنا أبو إسحاق وهو الشيباني، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كانت إحدانا إذا كانت حائضا فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يباشرها أمرها أن تتزر في فور حيضها، ثم يباشرها. قالت: وأيكم يملك إربه كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يملك إربه. فور الحيض: أوله ومعظمه، وذلك لأنه كالشيء الفائر من أصله ومنبعه، وليس معنى المباشرة الجماع، إنما هي ملاقاة البشرة البشرة، ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها، وأيكم يملك إربه.

والإرب والأرب: الحاجة، وأكثر العلماء على منع جماع الحائض فيما دون الفرج، وقد رخص بعضهم في إتيانها فيما دون الفرج. قلت: وفي الآية من قوله عز وجل: {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى} معنى حسن يعيا به كثير من الناس، ويذهبون عنه إلى شيء لا يتوجه، وقد يسأل السائل فيقول: ما معنى قوله: {هو أذى} وهل يخفى على أحد أن دم الحيض أذى، وهو أمر معلوم حسا. فما الفائدة في هذا الجواب؟ والمعنى أن الأذى هو المكروه الذي ليس بشديد جدا، كقوله عز وجل: {لن يضروكم إلا أذى}، وقوله: {إن كان بكم أذى من مطر} والمراد أنه أذى يعتزل منها موضعه لا غيره، ولا يتعدى ذلك إلى سائر بدنها، فلا يجتنبن، ولا يخرجن من البيوت فعل المجوس، وبعض أهل الكتاب، فعلمهم أن الأذى الذي بهن لا يبلغ الحد الذي يجاوزونه إليه، وإنما يجتنب منهن موضع الأذى، فإذا تطهرن حل غشيانهن.

[4] (باب من سمى النفاس حيضا)

[4] (باب من سمى النفاس حيضا) 78/ 298 - قال أبو عبد الله: حدثنا المكي بن إبراهيم قال: حدثنا هشام، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، أن زينب بنت أبي سلمة حدثته أن أم سلمة حدثتها قالت: بينا أنا مع النبي صلى الله عليه وسلم مضطجعة في خميصة، إذ حضت فانسللت فأخذت ثياب حيضتي. قال: أنفست؟ قلت: نعم، فدعاني فاضطجعت معه في الخميلة. قلت: ترجم أبو عبد الله هذا الباب بقوله: من سمى النفاس حيضا، والذي ظنه من ذاك وهم. وأصل هذه الكلمة مأخوذ من النفس وهو الدم، إلا أنهم خالفوا في بناء الفعل (بين) الحيض والنفاس فقالوا: نفست المرأة -بفتح النون وكسر الفاء- إذا حاضت، ونفست -بضم النون وكسر الفاء- على وزن بناء الفعل للمجهول فهي نفساء إذا ولدت، والصبي منفوس.

والحيضة -بكسر الحاء- التحيض، كالقعدة والجلسة، أي الحال التي تلزمها الحائض من اجتناب لأمور وتوق لها. والخميصة: كساء أسود، وربما كان له علم أو فيه خطوط، والخميلة: ثوب من صوف له خمل.

[6] (باب ترك الحائض الصوم)

[6] (باب ترك الحائض الصوم) 79/ 304 - قال أبو عبد الله: حدثنا سعيد بن أبي مريم قال: أخبرنا محمد بن جعفر قال: أخبرني زيد -هو ابن أسلم- عن عياض بن عبد الله، عن أبي سعيد الخدري قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أضحى أو فطر إلى المصلى، فمر على النساء، فقال: يا معشر النساء: تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار، فقلن: ومم يا رسول الله؟ قال: تكثرن اللعن، وتكفرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن. قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟ قلن: بلى، قال: فذلك من نقصان عقلها، أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟ قلن: بلى، قال: فذلك من نقصان دينها. العشير هاهنا: الزوج؛ لأنه يعاشر المرأة ويخالطها، جاء على

وزن فعيل كالنديم والوزير، وهن كثيرا ما يكفرن نعمة الأزواج ويستزدنهم ولا يشكرنهم. وفي الحديث دليل على أن النقص من الطاعات نقص من الدين، وفيه دلالة على أن ملاك الشهادة العقل مع اعتبار الأمانة والصدق، وأن شهادة المغفل من الناس ضعيفة وإن كان رضياً في الدين والأمانة.

[7] (باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت)

[7] (باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت) 80/ 305 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو نعيم قال: حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة عن عبد الرحمن بن القاسم عن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم لا نذكر إلا الحج، فلما جئنا سَرِفَ طمثت، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي فقال: ما يبكي؟ قلت: لوددت والله أني لم أحج العام. قال: لعلك نفست. قلت: نعم. قال: ذاك شيء كتبه الله على بنات آدم، فافعلي ما يفعل الحاج، غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري. قولها: طمثت، تريد حضت، وامرأة طامث، أصل الطمث التدمية (ومنه) قوله: {لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان}.

وقوله: أمرٌ كتبه الله على بنات آدم، أي امتحن الله به بنات آدم، فقضى بذلك عليهن، فهن متعبدات بالصبر عليه. وقوله: (افعلي ما يفعل الحاج)، فيه دليل على أن الحائض لا يحرم عليها الذكر والدعاء، وقد يستدل بذلك من يرى أن لها أن تقرأ القرآن، وفيه دليل على أنه لا يجيز لها دخول المساجد، وفيه دليل على أن الطواف مع الحدث لا يجزئ، إذ هو صلاة تحتاج من الطهارة إلى ما تحتاج إليه الصلوات.

[11] (باب هل تصلي المرأة في ثوب حاضت فيه؟)

[11] (باب هل تصلي المرأة في ثوب حاضت فيه؟) 81/ 312 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو نعيم قال: حدثنا إبراهيم بن نافع عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قالت عائشة: ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيه، فإذا أصابه شيء من دم قالت بريقها، فمصعته بظفرها، هكذا. قال: (فمصعته) وهو في سائر الروايات (فقصعته) والمصع أصله في الضرب وهو الشديد منه فيكون على هذا معناه المبالغة في حكه. وأما القصع فهو دلكه بالظفر، ومعالجته به، ومنه قصع القملة.

[12] (باب الطيب للمرأة عند غسلها من المحيض)

[12] (باب الطيب للمرأة عند غسلها من المحيض) 82/ 313 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب قال: حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن حفصة، عن أم عطية قال: رخص لنا عند الطهر إذا اغتسلت إحدانا من محيضها في نبذة من كست أظفار. النبذة: القطعة اليسيرة، والكست: هو القسط، والقاف قد تبدل بالكاف والطاء بالتاء، يريد أنها تطهر بذلك وتطيب به.

[13] (باب دلك المرأة نفسها إذا تطهرت من المحيض)

[13] (باب دلك المرأة نفسها إذا تطهرت من المحيض) 83/ 314 - قال أبو عبد الله: حدثني يحيى بن جعفر البيكندي قال: حدثنا ابن عيينة، عن منصور بن صفية، عن أمه، عن عائشة أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن غسلها من الحيض، فأمرها كيف تغتسل قال: خذي فرصة من مسك فتطهري بها. قالت: كيف أتطهر بها؟ قال: سبحان الله تطهري بها. فأخذتها إلي فقلت: تتبعي بها أثر الدم. قوله: خذي فرصة، فإن الفرصة القطعة من القطن أو الصوف أو نحوهما. وأصلها مأخوذ من الفَرْص وهو القطع، ولذلك يسمى المفراص مفراصا. وأما قوله: من مسك، فإنه إنما جاء في سائر الروايات فرصة ممسكة، وتأولها على معنيين

أحدهما:- مطيبة بالمسك، والآخر من الإمساك. يقال: أمسكت بالشيء ومسكته بمعنى واحد، وإلى هذا ذهب القتيبي في تفسير هذا الحرف وأنكر القول الأول فقال: متى كان أهل ذلك الزمان يتوسعون في المعاش حتى يمتهنوا المسك في التطهر؟ أو كما قال، وهذا كأنه أشبه والله أعلم، فعلى هذا المعنى تكون الرواية فرصة من مَسْك -بفتح الميم- أولى (أي) من جلد عليه صوف، وأما الفرصة من المسك فلا يصح لها معنى على التفسير الأول، لأنها في التقدير كأنه قال: قطعة قطن أو صوف من مسك وهذا لا يستقيم إلا أن يضمر فيه شيء فيقال: قطعة من قطن أو صوف مطيبة من مسك، وفيه بعد.

[15] (باب امتشاط المرأة عند غسلها من المحيض)

[15] (باب امتشاط المرأة عند غسلها من المحيض) 84/ 316 - قال أبو عبد الله: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا إبراهيم، هو ابن سعد قال: حدثنا ابن شهاب، عن عروة أن عائشة قالت: أهللت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فكنت فيمن تمتع ولم يسق الهدي، فزعمت أنها حاضت فلم تطهر حتى دخلت ليلة عرفة قالت: يا رسول الله، هذه ليلة يوم عرفة، وإنما كنت تمتعت بعمرة فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (انقضي رأسك وامتشطي وأمسكي عن عمرتك) ففعلت، فلما قضيت الحج أمر عبد الرحمن ليلة الحصبة فأعمرني من التنعيم مكان عمرتي التي سكت.

قد تكلم الناس في هذا الصنيع من عائشة، وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لها: أمسكي عن عمرتك، ما معناه؟ فقال الشافعي: إنما أمرها أن تترك العمل للعمرة من الطواف والسعي، لا أنها تترك العمرة أصلا، وإنما أمرها أن تدخل الحج على العمرة فتكون قارنة، كما فعل ابن عمر أدخل الحج على العمرة فصار قارنا. وذكر غيره من أهل العلم: أن عائشة كان مذهبها أن المعتمر إذا دخل الحرم حل له جميع ما يحل للحاج إذا رمى جمرة العقبة، فكان يحل لها بعد دخولها الحرم نقض رأسها والامتشاط، وهذا شيء لا يدرى ما وجهه، وعلى ما ذهب إليه الشافعي تكون عمرتها من التنعيم تطوعا لا عن واجب، ولكن أراد صلى الله عليه وسلم أن يطيب نفسها حين جزعت إليه، فقالت: كل نسائك ينصرفن بعمرة غيري، فأمر عبد الرحمن بإعمارها من التنعيم، لأن من مذهبه أن القارن يجزيه طواف واحد وسعي واحد، وأشبه الأمور ما ذهب إليه أحمد بن حنبل، وهو أنه فسخ عليها عمرتها، وفسخ الحج في مذهب أحمد عام غير خاص، والله أعلم. وليلة الحصبة: ليلة النفر.

[19] (باب إقبال المحيض وإدباره)

[19] (باب إقبال المحيض وإدباره) قال أبو عبد الله في غير إسناد ذكره قال: وكانت نساء يبعثن إلى عائشة بالدرجة فيها الكرسف فيه الصفرة، فتقول: لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء. تريد بذلك: الطهر من الحيضة. قلت: (معنى) القصة البيضاء: النقاء التام، وذلك أن النساء يرين ذلك عقب الدم وهي مشبهة بالقصة وهي شبه الجص أو قريب منه. وقال ابن وهب في تفسير القصة البيضاء: رأيت القطن الأبيض؟ كأنه هو.

قال: وقال ابن أبي سلمة: إذا كان ذلك نظرت إليها المرأة مثل ريقها في اللون فتطهر بذلك، هذا فيما بلغنا. وقال مالك: سألت النساء عن القصة البيضاء، فإذا ذاك أمر معروف عند النساء يرينه عند الطهر.

[26] (باب عرق الاستحاضة)

[26] (باب عرق الاستحاضة) 85/ 327 - قال أبو عبد الله: حدثني إبراهيم بن المنذر قال: حدثنا معن قال: حدثني ابن أبي ذئب، عن ابن شهاب عن عروة عن عمرة عن عائشة أن أم حبيبة استحيضت سبع سنين، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأمرها أن تغتسل. وقال: (هذا عرق)، فكانت تغتسل لكل صلاة. قلت: هذا الحديث مختصر لا بيان فيه لحال هذه المرأة وصفتها، وليس كل مستحاضة يجب عليها الاغتسال لكل صلاة،

وإنما يجب ذلك على المرأة التي تسمى المتحيرة، وهي التي لا تميز الدم، ولا كانت لها أيام معلومة، أو كانت فنسيتها، ولا تعرف عددها، ولا مبادئ أوقاتها، فهذه يجب عليها أن تغتسل لكل صلاة لإمكان أن يكون ذلك الوقت قد صادف منها وقت انقطاع دم الحيض، والغسل عليها عند ذلك واجب، ومن كان هذا حالها من النساء لم يأتها زوجها في شيء من الأوقات لإمكان أن تكون فيه حائضا، وعليها أن تصوم شهر رمضان كله مع الناس وتقضيه بعد ذلك، لتحيط علما بأن قد استوفت عدد الثلاثين في وقت كان لها أن تصوم فيه، وإن كانت حاجَّة طافت طوافين بينهما خمسة عشر يوما، لتكون على يقين من وقوع الطواف في وقت كان حكمها فيه حكم الطاهر، وليس في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تغتسل لكل صلاة، إنما فيه أنه أمرها أن تغتسل فكانت هي تغتسل لكل صلاة، وقد يحتمل أن يكون ذلك تبرعا على سبيل الاحتياط، وإنما الواجب على المستحاضة أن تتوضأ لكل صلاة فقط.

[23] (باب شهود الحائض العيدين ودعوة المسلمين، ويعتزلن المصلى)

[23] (باب شهود الحائض العيدين ودعوة المسلمين، ويعتزلن المصلى) 86/ 324 - قال أبو عبد الله: حدثني محمد بن سلام قال: حدثنا عبد الوهاب، عن أيوب، عن حفصة، عن أم عطية سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يخرج -يعني في العيدين- العواتق وذوات الخدور والحيض، ويشهدن الخير ودعوة المؤمنين، وتعتزل الحيض المصلى. العواتق: الحديثات الإدراك. يقال: جارية عاتق، وقد عتقت أي أدركت، وفيه دلالة على أن الحائض لا تهجر ذكر الله، وأنها تشهد مواطن الخير ومجالس العلم، خلا أنها لا تدخل المساجد.

[27] (باب المرأة تحيض بعد الإفاضة)

[27] (باب المرأة تحيض بعد الإفاضة) 87/ 328 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن يوسف قال: أخبرنا مالك، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله إن صفية بنت حيي قد حاضت. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لعلها تحبسنا، ألم تكن طافت معكن؟ فقالوا: بلى. قال: فاخرجن. قوله: ألم تكن طافت معكن؟ يريد طواف الإفاضة ليلة النحر، وفيه دليل على أن قوله: (لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت) عام إلا في الحيض، فإنه لا طواف عليهن ولا فدية في تركهن ذلك.

وقوله: لعلها تحبسنا، فيه دلالة على أن لا يجوز للمحرم أن يخرج من مكة حتى يطوف طواف الإفاضة، فإن خرج قبل أن يفعله لم يجز له أن يحل حتى يعود إلى مكة فيطوفه، إلا أن الفقهاء اختلفوا فيما يلزمه إذا عاد فطاف. فقال أبو حنيفة: عليه دم لتأخيره، وقال عامة أهل العلم: لا فدية عليه.

(كتاب التيمم)

[1] (كتاب التيمم) (باب قول الله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا} .. الآية) 88/ 335 - قال أبو عبد الله: حدثني محمد بن سنان قال: حدثنا هشيم قال: حدثنا سيار، عن يزيد الفقير قال: حدثنا جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي؛ نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي المغانم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة).

قوله: (نصرت بالرعب مسيرة شهر)، معناه: أن العدو يخافني وبيني وبينه مسافة شهر، وذلك من نصرة الله إياه على العدو. وقوله: (جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا)، فإن أهل الكتاب لم تكن أبيحت لهم الصلاة إلا في بيعهم وكنائسهم، ورخص الله تعالى لهذه الأمة أن يصلوا حيث أدركتهم الصلاة، وذلك من رحمة الله تعالى ورأفته بهم تيسيرا للطاعة وتكثيرا لها لتكثر عليها مثوبتهم، وإحدى هاتين اللفظتين يدخلها التخصيص بالاستثناء المذكور في الخبر الآخر وهو قوله: (إلا الحمام والمقبرة)، والخبر فيه مشهور صحيح، ويدخله التخصيص من جهة الإجماع، وهو النجس من بقاع الأرض. واللفظة الأخرى مجملة، وبيانها في الحديث الآخر من طريق حذيفة بن اليمان، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله قال: حدثنا

محمد بن إسحاق قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن حبيب الشهيد، قال: حدثنا ابن فضيل عن أبي مالك الأشجعي، عن ربعي بن حراش عن حذيفة (قال): قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (جعلت لنا الأرض كلها مسجدا، وجعل ترابها لنا طهورا إذا لم نجد الماء) فبين أن التيمم إنما أبيح بنا بالتراب لا بسائر أجزاء الأرض كالنورة والجص ونحوهما من الجواهر. وقوله: وأحلت لي المغانم، فإن الأمم المتقدمة كانوا على ضربين: منهم من لم يبح للأنبياء جهاد الكفار منهم، فلم يكن لهم مغانم. ومنهم من أبيح لهم جهادهم، فكانوا إذا غنموا مالا جاءت نار فأحرقته، ولا يحل لهم أن يمتلكوه، كما أبيح ذلك لهذه الأمة والحمد لله على ذلك.

وقوله: أعطيت الشفاعة، فإنها هي الفضيلة العظمى التي لم يشاركه فيها أحد من الأنبياء، وبها ساد الخلق كلهم حتى يقول: أنا سيد ولد آدم، وذلك في القيامة حتى يشفع للخلق في الحساب ولا يشفع غيره. حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب المعقلي قال: حدثنا محمد بن إسحاق الصاغاني قال: حدثنا عمرو بن محمد الناقد قال: حدثنا عمرو بن عثمان قال: حدثنا موسى بن أعين،

عن معمر بن راشد، عن محمد بن عبد الله بن أبي يعقوب، عن بشر بن شغاف، عن عبد الله بن سلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر، وأنا أول من تنشق عنه الأرض، وأنا أول شافع ومشفع، بيدي لواء الحمد، تحتي آدم فمن دونه). قوله: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر) مع قوله: (لا يحل أحد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى).

وقوله: (لا تخيروا بين الأنبياء) مختلفان في الظاهر، ووجه الجمع بينهما أن هذه السيادة إنما هي في القيامة، إذ قدم في الشفاعة على جميع الأنبياء، وإنما منع أن يفضل على غيره منهم في الدنيا، وإن كان صلى الله عليه وسلم مفضلا في الدارين من قبل الله عز وجل. وقوله: (ولا فخر) معناه إني إنما أقول هذا الكلام معتدا بالنعمة، لا فخرا واستكبارا، فقل من فخر إلا تزيد في فخره. يقول: إن هذا القول ليس مني على سبيل الفخر الذي يدخله التزيد والكبر. ولوء الحمد، لم أزل أسأل عن معناه حتى وجدته في حديث يروى عن عقبة بن عامر، أن من يدخل الجنة الحمادون الله على كل حال، يعقد لهم (لواء) فيدخلون الجنة. حدثنا ابن مالك قال: حدثنا عمر بن حفص السدوسي قال: حدثنا عاصم بن علي قال: حدثنا

قيس بن الربيع عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أول من يدعى إلى الجنة الحمادون الذين يحمَدون الله على السراء والضراء).

[2] (باب إذا لم يجد ماء ولا ترابا)

[2] (باب إذا لم يجد ماء ولا ترابا) 89/ 336 - قال أبو عبد الله: حدثنا زكريا بن يحيى قال: حدثنا عبد الله بن نمير قال: حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها أنها استعارت من أسماء قلادة فهلكت، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا فوجدها، فأدركتهم الصلاة وليس معهم ماء فصلوا فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله آية التيمم. قوله: (فصلوا) فيه دليل على أن من لم يجد ماء ولا ترابا فإنه لا يترك الصلاة، لكن يصليها صلاة الوقت، إلا أنه يستأنفها إذا وجد الماء أو التراب إن لم يجد ماء.

[6] (باب الصعيد الطيب وضوء المسلم يكفيه من الماء)

[6] (باب الصعيد الطيب وضوء المسلم يكفيه من الماء) 90/ 344 - قال أبو عبد الله: حدثنا مسدد قال: حدثنا يحيى بن سعيد قال: حدثنا عوف قال: حدثنا أبو رجاء، عن عمران قال: كنا في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم، وإنا أسرينا حتى كنا في آخر الليل وقعنا، فما أيقظنا إلا حر الشمس، فلما استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم شكوا إليه الذي أصابهم فقال: لا ضير أو لا يضير، ارتحلوا فارتحل فسار غير بعيد، ثم نزل ودعا بالوضوء، فتوضأ ونودي بالصلاة، فصلى بالناس ثم سار فاشتكى إليه الناس العطش، فنزل فدعا عليها وفلانا فقال: اذهبا فابتغيا الماء، فانطلقا فتلقيا امرأة بين مزادتين أو سطيحتين من ماء على بعير لها فقالا لها: أين الماء؟ قالت: عهدي بالماء أمس هذه الساعة ونفرنا خلوفا، قالا لها: انطلقي إذن. قالت: إلى أين؟ قالا: إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت: الذي يقال له

الصابيء. قالا: هو الذي تعنين فانطلقي، فجاءا بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحدثناه [وحدثاه] الحديث، فاستنزلوها عن بعيرها، ودعا النبي صلى الله عليه وسلم بإناء ففرغ فيه من أفواه المزادتين أو السطيحتين وأوكى أفواههما، وأطلق العزالي فنودي في الناس، اسقوا واستقوا، فسقى من شاء واستقى من شاء، وهي قائمة تنظر إلى ما يفعل بمائها، وايم الله لقد أقلع عنها، وإنه ليخيل إلينا أنه أشد ملئة منها حين ابتدأ فيها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم اجمعوا لها، فجمعوا لها من بين عجوة ودقيقة وسويقة، حتى جمعوا لها طعاما فجعلوه في ثوب، وحملوها على بعيرها، ووضعوا الثوب بين يديها. قال لها: تعلمين ما رزئناك من مائك شيئا، ولكن الله هو الذي أسقانا، وساق الحديث إلى أن قال: فكان المسلمون يغيرون على من حولها من المشركين وولا [ولا] يصيبون الصرم الذي هي منه فقالت يوما لقومها: ما أرى أن هؤلاء القوم يدعونكم عمدا فهل لكم في الإسلام؟ فأطاعوها فدخلوا في الإسلام. في هذا الحديث من الفقه أن الفوائت من الصلوات يؤذن لها كما يؤذن لسائر الصلوات التي تصلى في أوقاتها. وفيه جواز تأخير قضاء الفائتة من الصلوات عن موضع الذكر لها ما لم تكن غفلة عنها أو استهانة بها. وقولها: ونفرنا خلوفا، فإن النفر هم الرجال كقوله:

ماله لا عُدَّ من نفره والخلوف: هم الذين خرجوا للاستسقاء. يقال: الحي خلوف، إذا خلفوا النساء والأثقال في الحي، وخرجوا إلى موضع الماء يستقون. يقال: أخلف الرجل واستخلف إذا استقى الماء. وقولها: الصابئ، تعني النبي صلى الله عليه وسلم، فإنهم كانوا يقولون له هذا القول، لأن كل من خرج من دين إلى دين كان يسمى صابئا مهموزا. يقال: صبأ الرجل إذا فعل ذلك فهو صابئ. فأما الصابئ بلا همز، فهو الذي مال إلى هوى. يقال: صبا الرجل يصبو فهو صاب. والعَزَالَى: جمع العزلاء، وهي عروة المزادة يخرج منها الماء خروجا واسعا. وقوله: ما رزئناك من مائك شيئا ولا نقصناك شيئا منه. والصرم: النفر النازلون على ماء، ويجمع على الأصرام. فأما الصرمة فالقطعة من الإبل نحو الثلاثين من العدد.

[8] (باب التيمم ضربة)

[8] (باب التيمم ضربة) 91/ 347 - قال أبو عبد الله: أخبرنا -يعني محمدا- قال: أخبرنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن شقيق قال: كنت جالسا مع عبد الله وأبي موسى الأشعري فقال له أبو موسى: (لو) أن رجلا أجنب، فلم يجد الماء شهرا، أما كان يتيمم ويصلي، فكيف تصنعون بهذه الآية في سورة المائدة: {فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا}؟ قال عبد الله: لو رخص لهم في هذا لأوشكوا إذا برد عليهم الماء أن يتيمموا من الصعيد. قلت: وإنما كرهتم هذا لذا؟ قال: نعم. فقال أبو موسى: ألم تسمع قول عمار لعمر: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة فأجنبت، فلم أجد الماء فتمرغت في الصعيد كما تتمرغ الدابة، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال:

إنما كان يكفيك أن تصنع هكذا، وضرب بكفه ضربة على الأرض، ثم نفضها، ثم مسح بها ظهر كفه بشماله أو ظهر شماله بكفه، ثم مسح بها وجهه. فقال عبد الله: أفلم تر عمر لم يقنع بقول عمار؟ (وزاد يعلى عن الأعمش عن شقيق: كنت مع عبد الله وأبي موسى فقال أبو موسى ألم تسمع قول عمار) لعمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثني أنا وأنت فأجنبت فتمعكت بالصعيد، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه فقال: إنما كان يكفيك هكذا، ومسح وجهه وكفيه واحدة. قلت: فإن قيل: قول أبي موسى: فكيف تصنعون بهذه الآية في سورة المائدة: {فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا}. وقول عبد الله: لو رخص لهم في هذا لأوشكوا إذا برد عليهم الماء أن يتيمموا الصعيد، ثم قول أبي موسى عند ذلك: فإنما كرهتم هذا لذا؟ فقال: نعم، مناظرة الظاهر منها يأتي على إبطال حكم الآية، وأي عذر لمن ترك العمل بما في هذه الآية من أجل أن بعض الناس عساه أن يستعملها على غير وجهها وفي غير حينها، وأن الذي يتعمد استحلال ذلك لعله قد يستحل أن يترك الصلاة أصلا، فما موجب الآية وحكمها؟ وما الوجه فيما ذهب إليه عبد الله من إبطال هذه الرخصة مع ما فيه من إسقاط الصلاة عمن هو مخاطب بها مأمور بإقامتها؟

فالجواب: أن عبد الله لم يذهب هذا المذهب الذي ظنه هذا القائل، وإنما كان تأول الملامسة المذكورة في هذه الآية على غير معنى الجماع، وصار إلى أن الذي اختاره من التأويل أشبه بمعنى الآية وأحوط للتعدب، لأنه لو تأول الآية على معنى الجماع لكان ذلك ذريعة إلى الترخيص مما لا يؤمن معه الخروج إلى خلاف موجب حكم الآية من أجل ذلك اختار الوجه الآخر الذي هو ملامسة البشرة من النساء، ولو كان أراد غير ذلك لكان فيه مخالفة الآية صراحا، وذلك مما لا يجوز من مثله في علمه وفقهه، وقد حصل من هذه القصة التي دارت بين عمر وعمار وعبد الله وأبي موسى أن رأى عمر وعبد الله انتقاض الطهارة بملامسة بشرة الرجل بشرة المرأة. وقول عمار: تمرغت في التراب، إنما هو لأنه حين رأى التراب بدلا عن الماء استعمله في جميع ما يأتي عليه الماء. وفي الحديث بيان أن التيمم ضربة واحدة في الوجه والكفين حسب. وفي حديث أبي الجهيم بن الصمة لا يصح في مسح الذراعين.

كتاب الصلاة

ومن كتاب الصلاة [1] (باب كيف فرضت الصلوات في الإسراء) 92/ 349 - قال أبو عبد الله: حدثني يحيى بن بكير قال: حدثنا الليث، عن يونس، عن ابن شهاب، عم [عن] أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان أبو ذر يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أخذ بيدي جبريل فعرج بي إلى السماء الدنيا. قال جبريل لخازن السماء: افتح، قال: من هذا؟ قال: هذا جبريل. قال: هل معك أحد؟ قال: نعم، معي محمد. فقال: أأرسل إليه؟ قال: نعم. فلما فتح، علونا السماء الدنيا، إذا رجل قاعد على يمينه أسودة، وعلى يساره أسودة، إذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى. قلت لجبريل: من هذا؟ قال: هذا آدم، وهذه الأسودة نسم بنيه، فأهل اليمين منهم أهل الجنة، والتي عن شماله أهل النار. وساق الحديث في صعوده سماء سماء. قال ابن شهاب: فأخبرني ابن حزم أن ابن عباس وأبا حبة الأنصاري كانا يقولان: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام.

قال ابن حزم وأنس بن مالك: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ففرض الله على أمتي خمسين صلاة، وذكر القصة فيها إلى أن قال: فردت إلى خمس. قال: ثم أدخلت الجنة، فإذا هي حبائل اللؤلؤ وإذا ترابها المسك. قوله: (أأرسل إليه)؟ يحتمل أن يكون معناه: هل أرسل إليه للعروج إلى السماء؟ إذ كان الأمر في بعثه رسولا إلى الخلق شائعا مستفيضا قبل العروج به. والأسودة: جمع السواد الذي هو الشخص للإنسان. يقال: سواد وأسودة، كما قيل: غراب وأغربة وقراح وأقرحة. والنسم: جمع نسمة، وهي نفس الإنسان، يريد أرواح بني آدم. وقوله: ظهرت، يعني صعدت، والمستوى المصعد. قال النضر بن شميل: أتينا أبا ربيعة أنا والخليل،

وهو فوق سطح، فسلمنا فقال: استووا، يريد اصعدوا. وصريف الأقلام معناه والله أعلم ما يكتبه الملائكة من أقضية الله عز وجل ووحيه، وما ينتسخونه من اللوح المحفوظ، أو ما شاء الله من ذلك أن يُكتب، ويرفع لما أراده من أمره وتدبيره في خلقه سبحانه لا يعلم الغيب إلا هو، الغني عن الاستذكار بتدوين الكتب، والاستثبات بالمهارق والصحف، أحاط بكل شيء علما، وأحصى كل شيء عددا. وحبائل اللؤلؤ: ليس بشيء إنما هو جنابذ اللؤلؤ، وهكذا سمعته في هذا الحديث من غير هذه الرواية، يريد قباب اللؤلؤ.

[4] (باب الصلاة في ثوب واحد ملتحفا به)

[4] (باب الصلاة في ثوب واحد ملتحفا به) 93/ 358 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن يوسف قال: أخبرنا مالك عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة أن سائلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في ثوب واحد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أولكلكم ثوبان؟ قوله: (أولكلكم ثوبان)؟ لفظه لفظ مسألة واستخبار ومعناه الإخبار عن الحال التي كانوا عليها من ضيق الثياب. والتقدير لها عندهم، وقد وقعت في ضمنه الفتيا عن طريق الفحوى كأنه استزادهم في هذا علما وفهما. يقول: إذا كان ستر العورة واجبا على كل واحد منكم، وكانت الصلاة واجبة عليكم، وليس لكل واحد منكم ثوبان، فكيف لم تعلموا أن الصلاة في الثوب الواحد جائزة؟

[5] (باب إذا صلى في الثوب الواحد فليجعل على عاتقيه)

[5] (باب إذا صلى في الثوب الواحد فليجعل على عاتقيه) 94/ 359 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو عاصم، عن مالك، عن أبي الزناد، عن عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يصل أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه شيء). قلت: هذا نهي استحباب وليس على طريق الإيجاب، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى في ثوب واحد أحد طرفيه على نسائه وهي نائمة، ومعلوم أن الطرف الذي هو لابسه من الثوب غير متسع لأن يتزر به، ويفضل منه ما يكون لعاتقه، إذ كان لا بد أن يبقى من الطرف الآخر منه القدر الذي يسترها، وبيان جواز الصلاة من غير شيء على العاتق في حديث جابر الذي يتلو هذا الحديث.

[6] (باب إذا كان الثوب ضيقا)

[6] (باب إذا كان الثوب ضيقا) 95/ 361 - قال أبو عبد الله: حدثنا يحيى بن صالح قال: حدثنا فليح بن سليمان، عن سعيد بن الحارث قال: سألنا جابر بن عبد الله عن الصلاة في الثوب الواحد. فقال: خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، فجئت ليلة لبعض أمري، فوجدته يصلي وعلي ثوب واحد، فاشتملت به وصليت إلى جانبه، فلما انصرف قال: ما السرى يا جابر؟ فأخبرته بحاجتي، فلما فرغت قال: ما هذا الاشتمال الذي رأيت؟ قلت: كان ثوب واحد. قال: إن كان واسعا فالتحف به، وإن كان ضيقاً فاتزر به.

قوله: ما السرى؟ معناه لأي شيء كان مسراك الليلة؟ والسرى: سير الليل. والاشتمال الذي أنكره منه هو أن يدير الثوب على بدنه كله لا يخرج منه يده. والالتحاف في هذا بمعنى الارتداء، وهو أن يتزر بأحد طرفي الثوب، ويرتدي بالطرف الآخر منه، فإن كان ضيقا لا يتسع لأن يرتدي بالطرف الآخر منه اتزر به وأجزأته الصلاة، ولا أعلم خلافا في أنه إذا غطى ما بين سرته إلى ركبته كانت صلاته جائزة، والسنة أن يصلي في إزار ورداء إذا وجدهما وكان بعض العلماء يقول: لا أجيز شهادة من صلى بغير رداء، يعني خلف بن أيوب.

[10] (باب ما يستر من العورة)

[10] (باب ما يستر من العورة) 96/ 367 - قال أبو عبد الله: حدثنا قتيبة قال: حدثنا الليث عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن أبي سعيد الخدري قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اشتمال الصماء وأن يحتبي الرجل في ثوب واحد ليس على فرجه منه شيء. اشتمال الصماء هو أن يجلل بدنه الثوب يرفع طرفيه على عاتقه الأيسر، هكذا يفسر. ونهيه أن يحتبي الرجل في ثوب واحد ليس على فرجه منه شيء هو أن يحتبي بالثوب ورجلاه متجافيتان عن بطنه فتبقى هناك -إذا لم يكن الثوب واسعا قد أسيل شيئا منه على فرجه- فرجةٌ تبدو منها عورته. 97/ 368 - قال أبو عبد الله: حدثنا قبيصة بن عقبة قال: حدثنا سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعتين: عن اللماس والنباذ، وأن تشتمل الصماء وأن يحتبي في ثوب واحد.

قد فسرنا اشتمال الصماء والاحتباء في الثوب الواحد، وأما اللماس فهو بيع الملامسة المنهي عنه، وهو أن يلمس الثوب بيده من غير أن ينشره أو يقلبه للنظر إليه، ثم لا يكون له فيه الخيار إذا نشره فوجد به عيبا، وفيه دليل على فساد بيع الأعمى؛ لأنه إنما يكون بيعه لمسا من غير تقليب ولا نظر إليه ببصر. والنباذ: هو بيع المنابذة وهو يفسر تفسيرين: أحدهما: أن ينبذ الثوب إليه من غير أن يقول: بعتك الثوب، إنما هو النبذ فقط فيكون أمارة للعقد. والوجه الآخر: أن يحضر الرجل القطيع من الغنم فينبذ الحصاة فيقول لصاحبها: أيها أصابه الحجر فهو لي بكذا، وفي هذا غرر وجهل بالمبيع فلم يجز.

[13] (باب في كم تصلي المرأة في الثياب)

[13] (باب في كم تصلي المرأة في الثياب) 98/ 372 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو اليمان قال: أخبرنا شعيب، عن الزهري قال: أخبرني عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الفجر فيشهد معه نساء من المؤمنات متلفعات بمروطهن، ثم يرجعن إلى بيوتهن ما يعرفهن أحد التلفع بالثوب: هو الاشتمال به، ويقال: لفعه الشيب إذا شمله، والمروط: الأردية الواسعة، واحدها مِرط، وفيه بيان أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم الفجر كانت غلسا، وأن التنوير والإسفار به كان منه نادرا غير دائم، وفيه استحباب شهود النساء صلاة الجماعة.

[14] (باب إذا صلى في ثوب له أعلام ونظر إلى علمها)

[14] (باب إذا صلى في ثوب له أعلام ونظر إلى علمها) 99/ 373 - قال أبو عبد الله: حدثنا أحمد بن يونس قال: حدثنا إبراهيم بن سعد قال: حدثنا ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في خميصة لها أعلام، فنظر إلى أعلامها نظرة، فلما انصرف قال: (اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم وائتوني بأنبجانية أبي جهم فإنها ألهتني آنفا عن صلاتي). الخميصة: كساد [كساء] أسود -وقد يكون فيها أعلام وخطوط- والأنبجانية منسوبة وهي كساء له زئبر. وقوله: ألهتني عن صلاتي، يريد شغلتني. يقال: لهي الرجل عن الشيء يلهى عنه إذا غفل عنه، ولها يلهو من اللهو واللعب، وفيه الأمر بحفظ البصر في الصلاة وترك النظر إلى ما يفتنه في صلاته أو يشغله عنها.

[16] (باب من صلى في فروج حرير ثم نزعه)

[16] (باب من صلى في فروج حرير ثم نزعه) 100/ 375 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن يوسف قال: حدثنا الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر قال: أهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فروج حرير فلبسه فصلى فيه، ثم انصرف فنزعه نزعا شديدا كالكاره، وقال: لا ينبغي هذا للمتقين. الفروج: القباء المشقوق من خلف، وفيه بيان أن من صلى في ثوب حرير كانت صلاته جائزة وإن كرهناه له.

[15] (باب إن صلى في ثوب مصلب أو تصاوير هل تفسد صلاته وما ينهى عن ذلك)

[15] (باب إن صلى في ثوب مصلب أو تصاوير هل تفسد صلاته وما ينهى عن ذلك) 101/ 374 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو معمر عبد الله بن عمرو قال: حدثنا عبد الوارث قال: حدثنا عبد العزيز بن صهيب، عن أنس قال: كان قرام لعائشة سترت به جانب بيتها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أميطي عنا قرامك هذا، فإنه لا تزال تصاويره تعرض في صلاتي). القرام: ستر رقيق، وفيه دليل على أن الصور كلها منهي عنها سواء كانت لها أشخاص ماثلة أو غير ماثلة. كانت في ستر أو بساط أو في وجه جدار أو غير ذلك، ويشبه أن تكون عائشة إنما كانت سترت به موضعا كان عورة من بيتها لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ستر الجدر.

[18] (باب الصلاة في السطوح والمنبر والخشب)

[18] (باب الصلاة في السطوح والمنبر والخشب) 102/ 377 - قال أبو عبد الله: حدثنا علي بن عبد الله قال: حدثنا سفيان قال: حدثنا أبو حازم سألوا سهل بن سعد: من أي شيء المنبر؟ فقال: ما بقي في الناس أعلم مني، هو من أثْل الغابة، عمله فلان مولى فلانة، وقام عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين عمل ووضع، فاستقبل القبلة وكبر وقام الناس خلفه، فقرأ وركع وركع الناس خلفه، ثم رفع، ثم رجع القهقرى، فسجد على الأرض، ثم عاد إلى المنبر، ثم قرأ، ثم ركع، ثم رفع رأسه، ثم رجع القهقرى حتى سجد بالأرض فهذا شأنه. قال أبو سليمان رحمة الله عليه: فيه من الفقه أن العمل اليسير لا يفسد الصلاة، وكان المنبر ثلاث مراق، ولعله إنما قام على

الثانية منها فليس في نزوله وصعوده إلا خطوتان. وفيه أن الإمام إذا كان أرفع مقاما من القوم لم تفسد إمامته وكان ائتمام القوم به جائزا وإن كان ذلك مكروها، وإنما صلى النبي صلى الله عليه وسلم (على) المنبر تعليما لهم ليراعوا صلاته ويحفظوا عنه سننها وآدابها، وقد رويت الكراهة في صلاة الإمام على مكان أرفع من مقام المأموم، وإنما كان رجوعه القهقرى للسجود على الأرض لئلا يولي ظهره القبلة. والأثل: شجر الطرفاء، والغابة: الغيضة.

(الباب نفسه) 103/ 378 - قال أبو عبد الله: حدثنا محمد بن عبد الرحيم قال: حدثنا يزيد بن هارون قال: أخبرنا حميد الطويل، عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سقط عن فرسه فجُحِشت ساقه أو كتفه، وآلى من نسائه شهرا، فجلس في مشربة له درجتها من جذوع، فأتاه أصحابه يعودونه، فصلى بهم جالسا وهم قيام، فلما سلم قال: (إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا سجد فاسجدوا، وإن صلى قائما فصلوا قياما، وإن صلى قاعدا فصلوا قعودا)، ونزل لتسع وعشرين. قالوا: يا رسول الله: إنك آليت شهرا. قال: إن الشهر تسع وعشرون.

قوله: فجُحِشَت ساقه، الجحش: الخدش إذا كثر منه. والمشربة: شبه الغرفة المرتفعة عن وجه الأرض. وأما قوله: إن صلى قاعدا فصلوا قعودا، فهذا أمر قد اختلف العلماء فيه، يذهب الأكثرون إلى أن هذا منسوخ بإمامة رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر صلاة صلاها في مرضه أم بهم فيها قاعدا والناس من ورائه قيام، وذهب غير واحد من أصحاب الحديث إلى أن هذا الحكم ثابت غير منسوخ، منهم أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وإليه ذهب محمد بن إسحاق بن خزيمة ومال إليه أبو بكر بن المنذر، وزعموا أن حديث إمامة النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه مختلف فيه، هل كان الإمام رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أبا بكر؟ وإنما رواه أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة أنها

قالت: لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرت بعض الحديث قلت: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جلس عن يسار أبي بكر فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس جالسا وأبو بكر قائما يقتدي به والناس يقتدون بأبي بكر قالوا: فهذه رواية أبي معاوية وقد خالف شعبة أبا معاوية في ذلك، فروي [فروى] عن الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى خلف أبي بكر، وروى شعبة أيضا عن نعيم بن أبي هند عن أبي وائل عن مسروق عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى خلف أبي بكر جالسا في مرضه الذي توفي فيه.

قالوا: فلما اختلفت الأخبار في هذه الصلاة وتعارضت تركناها إلى حديث أنس الذي لا معارض له. قلت: قد روى أبو عبد الله خبر إمامة النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه من عدة طرق كلها على وفاق رواية أبي معاوية من طريق الأعمش وغيره.

كتاب الأذان

كتاب الأذان [47] (باب من قام إلى جنب الإمام لعلة) 104/ 683 - قال: حدثنا زكريا بن يحيى قال: حدثنا ابن نمير قال: أخبرنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يصلي بالناس في مرضه فكان يصلي بهم. قال عروة: فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من نفسه خفة فخرج، فإذا أبو بكر يؤم الناس، فلما رآه أبو بكر استأخر، فأشار أي كما أنت، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم حذاء أبي بكر إلى جنبه، فكان أبو بكر يصلي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس يصلون بصلاة أبي بكر رضي الله عنه.

[51] (باب إنما جعل الإمام ليؤتم به)

[51] (باب إنما جعل الإمام ليؤتم به) 105/ 687 - قال أبو عبد الله: وحدثنا أحمد بن يونس قال: حدثنا زائدة عن موسى بن أبي عائشة عن عبيد الله بن عبد الله قال: دخلت على عائشة فسألتها عن مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وساق الحديث إلى أن قال: قالت عائشة فصلى أبو بكر تلك الأيام، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد من نفسه خفة، فخرج بين رجلين أحدهما العباس وأبو بكر يصلي بالناس، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يتأخر، قال: أجلساني إلى جنبه، فأجلساه إلى جنب أبي بكر قال: فجعل أبو بكر يصلي وهو يأتم بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم، والناس بصلاة أبي بكر، والنبي صلى الله عليه وسلم قاعد، فقال عبيد الله: فدخلت على عبد الله بن عباس فقلت له: أعرض عليك ما حدثتني عائشة عن مرض النبي صلى الله عليه وسلم قال: هات، فعرضت عليه حديثها فما أنكر منه شيئاً، غير أنه

قال: أسمت لك الرجل الذي كان مع العباس؟ قلت: لا، قال: هو علي. قلت: فهذا حديث عبيد الله بن عبد الله بن عتبة مع علمه وفقهه وإتقانه عن عائشة، مع موافقة ابن عباس إياها على أن الإمام في تلك الصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أبو بكر، وعروة بن الزبير يسمع ما يسمع من عائشة بلا حجاب لأنها خالته، والأسود ومسروق وأضرابهما يسمعون من وراء حجاب، وقد خالف شعبة في هذا الحديث عن الأعمش، ووافق أبا معاوية حفص بن غياث وعبد الله بن داود أراه الخريبي، ومحاضر بن المورع.

[39] (باب حد المريض أن يشهد الجماعة)

[39] (باب حد المريض أن يشهد الجماعة) 106/ 664 - قال أبو عبد الله: حدثنا عمر بن حفص بن غياث قال: حدثنا أبي قال: حدثنا الأعمش، عن إبراهيم قال الأسود: كنا عند عائشة قالت: لما مرض النبي صلى الله عليه وسلم فحضرت الصلاة فأذن قال: مروا أبا بكر فليصل بالناس، فقيل له: إن أبا بكر رجل أسيف، إذا قام مقامك لا يستطيع أن يصلي بالناس، فأعادها وقال: إنكن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس، فخرج أبو بكر وصلى، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم من نفسه خفة فخرج يهادى بين رجلين كأني أنظر رجليه تخطان من الوجع، فأراد أبو بكر أن يتأخر، فأومأ إليه أن مكانك، ثم أتي به حتى جلس إلى جنبه قيل للأعمش: فكان يصلي النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يصلي بصلاته والناس بصلاة أبي بكر؟ فقال برأسه: نعم.

[67] (باب من أسمع الناس تكبير الإمام)

[67] (باب من أسمع الناس تكبير الإمام) 107/ 702 - قال أبو عبد الله: وحدثنا مسدد قال: حدثنا عبد الله بن داود قال: حدثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة وذكر الحديث. وقال فيه: وقعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى جنب أبي بكر، وأبو بكر يسمع الناس التكبير. قال أبو عبد الله: وتابعه محاضر عن الأعمش. ثم قال أبو عبد الله: حديث أنس في صلاة القوم قعودا إذا كان الإمام قاعدا، ثم قال: قال الحميدي: هذا عندنا منسوخ بصلاة النبي في مرضه الذي مات فيه جالسا الناس خلفه قيام، قال أبو عبد الله: وهذا أصح. قلت: فقد زكى أبو عبد الله شهادة هذه الأخبار فوجب المصير إليها، هذا مع شهادة الأصول لهذا المذهب، وذلك أن كل من أطاق عبادة بالصفة التي وجبت عليها في الأصل، لم يجز له تركها إلا أن يعجِز عنها.

والأسيف: الرقيق القلب الذي يسرع إليه الأسف والحزن. وقوله: يهادى بين رجلين، أي يحمل فيما بينهما، يعتمد مرة على شق، ومرة على الآخر.

وقوله: إن الشهر تسع وعشرون، إشارة منه إلى الشهر الذي قد آلى فيه، وإذا نذر الإنسان صوم شهر بعينه فجاء تسعة وعشرين يوما لم يلزمه أكثر من ذلك، وإذا قال: لله علي أن أصوم شهرا من غير تعيين كان عليه إكمال العدد ثلاثين. وقوله: إنكن صواحب يوسف، يريد النسوة اللاتي فتنه وتعنتنه.

[21] (باب الصلاة على الخمرة)

[21] (باب الصلاة على الخمرة) 108/ 381 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو الوليد قال: حدثنا شعبة قال: حدثنا سليمان الشيباني عن عبد الله بن شداد عن ميمونة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على الخمرة. الخمرة: كالسجادة تنسج من خوص وترمل من الخيوط، وسميت خمرة لأنها تستر وجه المصلي عن حديد الأرض، ومنه سمي الخمار الذي يستر الرأس.

[20] (باب الصلاة على الحصير)

[20] (باب الصلاة على الحصير) 109/ 380 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن يوسف قال: أخبرنا مالك، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك أن جدته مليكة دعت رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعام صنعته له فأكل منه ثم قال: قوموا فلأصل لكم. قال أنس: فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لبث [لُبس]، فنضحته بماء فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وصففت واليتيم وراءه والعجوز من ورائنا، فصلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين، ثم انصرف. فيه من الفقه أن مقام النساء متأخر عن مقام الرجال، وفيه أن صلاة الفرد من وراء الصف جائزة، وفيه استحباب الجماعة للنوافل كهي للفرائض، وفيه جواز صلاة الجماعة في البيوت.

[28] (باب فضل استقبال القبلة)

[28] (باب فضل استقبال القبلة) 110/ 391 - قال أبو عبد الله: حدثني عمرو بن عباس، قال: حدثنا ابن المهدي قال: حدثنا منصور بن سعد عن ميمون بن سياهٍ عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم الذي له ذمة الله، وذمة رسوله، فلا تخفروا الله في ذمته. في هذا الحديث من العلم أن أمور الناس في معاملة بعضهم بعضا إنما تجري على الظاهر من أحوالهم دون باطنها، وأن من أظهر شعار الدين وتشكل بشمائل، أهله أجري على أحكامهم، ولم يكشف عن باطن أمره، فلو أن رجلا وجد في جماعة يصلون في مسجد، أو كان في رفقة مسافرين، يصلي معهم الصلوات في أوقاتها مستقبلا قبلتهم، وقد رأوه يأكل معهم من ذبائحهم، ومن أطعمتهم، ثم مات ولم يعرفوه باسم أو نسب ولا اعتقاد دين أو مذهب، كان

الظاهر من حكمه أنه مسلم، والواجب في حقه أن يصلي عليه إن مات، وأن يدفن في مقابر المسلمين، وأن يحفظ دمه وماله ما دام حيا فيهم ومعهم، وكذلك لو لم يعرف رجل غريب في بلد من بلدان أهل الإسلام بدين أو مذهب، غير أنه يرى عليه زي المسلمين ولباسهم، حمل ظاهر أمره على أنه مسلم حتى يظهر خلاف ذلك، ولو وجد مختون بين ظهراني قتلى قُلْف كان حقه أن يعزل عنهم في التربة والمدفن، وإذا وجد لقيط في بلد المسلمين كان حكمه حكمهم، وإن كان فيه أهل ذمة فادعاه رجل منهم ألحق به في النسب وأبقي في الدين على حكم الدار. وقوله: (فلا تخفروا الله في ذمته) معناه: لا تخونوا الله في تضييع حق من هذا سبيله. يقال: خفرت الرجل إذا حميته، وأخفرته إذا غدرت به ولم تف بما ضمنته من حفظه وحمايته.

[28] (باب فضل استقبال القبلة)

[28] (باب فضل استقبال القبلة) 111/ 392 - قال أبو عبد الله: حدثني نعيم قال: حدثنا ابن المبارك، عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها وصلوا صلاتنا، واستقبلوا قبلتنا، وذبحوا ذبيحتنا، فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم). قلت: الحديث الأول إنما جاء في الكف عمن أظهر شعار الدين وأن لا يتعرض له في دم أو مال حتى يظهر منه خلاف ذلك، وهذا الحديث إنما جاء في ترك الكف عمن لم يظهر شعار الدين حتى تستوفى منه هذه الشرائط المذكورة وقد جاء في هذا الحديث من رواية أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله)، من غير ذكر شيء من الشرائط المذكورة في حديث أنس، وبه احتج عمر على أبي بكر حين أراد قتال العرب على منع الزكاة، وجاء في

رواية ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم، الحديث. وإنما (اختلفت) الألفاظ فزادت ونقصت لاختلاف الأحوال والأوقات تشرع شيئا بعد شيء، فخرج كل قول من هذه الأقوال على شرط المفروض الواجب منها في حينه ووقته، فصار كل منها في زمانه شرطا لحقن الدم وحرمة المال، فهي كلها مؤتلفة على هذا الترتيب غير مختلفة.

[29] (باب قبلة أهل المدينة وأهل الشام والمشرق)

[29] (باب قبلة أهل المدينة وأهل الشام والمشرق) 112/ 394 - قال أبو عبد الله: حدثنا علي بن عبد الله قال: حدثنا سفيان قال: حدثنا الزهري، عن عطاء بن يزيد، عن أبي أيوب الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ولكن شرقوا أو غربوا). قال أبو أيوب: فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض بنيت قبل القبلة فننحرف ونستغفر الله. قد ذكرنا في كتاب الطهارة معنى النهي عن استقبال القبلة واستدبارها وبينا وجه التشريق والتغريب في ذلك فأغنى عن إعادته هاهنا. فأما المراحيض فإنها جمع المرحاض، وهو المغتسل، مأخوذ من قولك: رحضت الشيء إذا غسلته، وكان مذهب أبي أيوب التسوية في النهي بين الأبنية والصحارى قولا بالظاهر ومرًّا عليه بحكم العموم، ولذلك قال: فننحرف ونستغفر الله.

وكان عبد الله بن عمر يفرق بين الأمرين، فيرى استقبالها في الأبنية جائزا، وكان يخص خبر النهي بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه قاعدا لحاجته على ظهر بيت حفصة مستقبل بيت المقدس.

[30] (باب قول الله تعالى: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى}

[30] (باب قول الله تعالى: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} 113/ 398 - قال أبو عبد الله: حدثنا إسحاق بن نصر قال: حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا ابن جريج عن عطاء: سمعت ابن عباس قال: لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت دعا في نواحيه كلها، ولم يصل حتى خرج منه، فلما خرج ركع ركعتين في قبل الكعبة وقال: هذه القبلة. قوله: (هذه القبلة) يريد -والله أعلم- أن أمر القبلة قد استقر على هذا البيت، لا يُتوجه للصلاة إلى غيره، وكانوا يستقبلون قبل ذلك بيت المقدس، ثم نسخ ذلك وحولت القبلة إلى الكعبة، كأنه يقول: إن القبلة لا تنسخ بعد اليوم، فصلوا إلى الكعبة أبدا فهي قبلتكم. وقد يحتمل ذلك أيضا وجها آخر، وهو أن يكون قد علمهم السنة في مقام الإمام، واستقباله البيت من وجه الكعبة دون أركانها وجوانبها الثلاثة، وإن كانت الصلاة إليها من جميع جهاتها مجزية.

وفيه معنى آخر: وهو أن يكون قد دل بهذا القول على أن حكم من شاهد البيت وعاينه خلاف حكم الغائب عنه فيما يلزمه من مواجهته عيانا دون الاقتصار على التآخي [التأخِّي] لمصادفته استدلالا واجتهادا، فيلزم المعاين للبيت أن لا يقتصر على النية في التوجه إليها فعلَ الغائب عنها دون أن يدركه حسا ويثبته نظرا، كما كان الواحد ممن أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم وشاهد حضرته يلزمه النظر إليه حتى يثبت عينه، فيكون إيمانه به عن حس وعيان وإحاطة علم وإتقان، ولا يقتصر من ذلك على معرفة الاسم والصفة، كما يكتفي به الغائب عنه، وذلك فائدة قوله (هذه القبلة) وإن كانوا قد عرفوها قديما وأحاطوا بها معرفة وعلما. وقد قال على هذا المعنى أصحاب الشافعي رحمه الله: لو دخل رجل المسجد الحرام في ليلة مظلمة لا يتبين فيها الأشخاص لم يكن له أن يصلي حتى يستبين شخص الكعبة؛ لأن شاهد فلا يجوز له الصلاة بالاستدلال. فأما قول ابن عباس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصل في الكعبة فقد ثبت من رواية بلال، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أدخله معه الكعبة أنه صلى فيها، وقول المثبت أولى من قول النافي.

(31) (باب التوجه نحو القبلة حيث كانط)

(31) (باب التوجه نحو القبلة حيث كانط) 114/ 399 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن رجاء قال: حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء أن القبلة لما حولت إلى الكعبة قال: فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم رجل ثم خرج بعدما صلى، فمر على قوم من الأنصار في صلاة العصر نحو بيت المقدس فقال: هو يشهد أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو الكعبة، فتحرَّف القوم حتى توجهوا نحو الكعبة. فيه من الفقه وجوب قبول أخبار الآحاد، وفيه أن ما مضى من صلاتهم نحو بيت المقدس قبل أن يعلموا بنسخها وبناء الباقي منها نحو الكعبة، صحيح، وهذا أصل في كل أمر مأذون فيه قد جرى العمل به ثم رفع أو لحقه نسخ، فإن الماضي منه صحيح إلى أن يعلم رفعه أو نسخه.

وقد يستدل به في الوكالات وفيما يتصرف فيه الوكيل من أمر مأذون له فيه، ثم يأتيه الخبر بعزله وقد باع واشترى وقبض وأعطى، فإن ذلك كله ماض على الموكل، وقد يبتاع الرجل العقار فيبني فيه، ثم يستحق بالشفعة فينتقض في الأصل ملكه، ولا ينقض بناؤه ولا يبطل منه حقه، وتتصرف المرأة في الصداق قبل الدخول بها ثم تطلق فينتقض ملكها في النصف، ولا يبطل حقها فيما أحدثت فيه من بناء ونحوه، فيه حجة لقول من أجاز تأخير البيان عن وقت مورده في الحال الراهنة إلى الحال الثانية.

[32] (باب ما جاء في القبلة)

[32] (باب ما جاء في القبلة) 115/ 402 - قال أبو عبد الله: حدثنا عمرو بن عون قال: حدثنا هشيم عن حميد، عن أنس قال: قال عمر: وافقت ربي في ثلاث: قلت يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى فنزلت {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى}، وآية الحجاب، قلت يا رسول الله، لو أمرت نساءك أن يحتجبن، فإنه يكلمهن البر والفاجر، فنزلت آية الحجاب، واجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الغيرة عليه، فقلت لهن (عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن). قلت: وجه الفائدة في أمر الحجاب وفي عتاب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم باد ظاهر. فأما معنى اتخاذ مقام إبراهيم مصلى فإن وجهه غير بين في بديهته، وحكمته غير معقولة من ظاهر صورته. قلت: ويحتمل أن يكون عمر رضي الله عنه لما قرأ الكتاب

ووجد فيه قوله عز وجل: {إني جاعلك للناس إماما} وقوله: {ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا} تبين الصواب في الائتمام به والاقتداء بالأثر الباقي منه، وهو مقامه ومرسخ قدميه في ذلك الحجر، ثم إن إبراهيم صلوات الله عليه نبي الله عز وجل قد أكرمه بخلته، واصطفاه برسالته، وآثره لتشييد بيته وتطهيره وعمارته، وأمره بدعاء الناس إلى حجه وقضاء المناسك التي هي أعلى مشاعر طاعته، وإنما بنى البيت ليتخذ قبلة ويصلى إليه، ووجد مع ذلك بحضرة البيت هذا الحجر الذي فيه مقامه، وآثار قديمه قد ساخت في ذلك الحجر الصلد، فوقع له أنه تذكرة من شخصه، وآية دالة على نباهة قدره، ومثوبة له على ما كان من رضي فعله، ولعله قد تصوره مما جرت به عادات الملوك الأولين والعظماء من المتقدمين من تخليد اسم الباني في البناء ونقره في أحجاره ليبقى بذلك ذكره، ولا يجهل في غاير الأيام أمره، فدعت جملة هذه المعاني عمر وما دعاه منها ومن غيرها مما لم يحضرنا ذكره إلى أن سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل ذلك الحجر الذي فيه أثر مقامه مصلى بين يدي القبلة يقوم الإمام عندها، فتبين بذلك فضيلته ويبقى عليها سمته، ويجري عليها حكم ولايته، وتدل على وجوب إمامته والله أعلم.

[39] (باب إذا بدره البزاق فليأخذ بطرف ثوبه)

[39] (باب إذا بدره البزاق فليأخذ بطرف ثوبه) 116/ 417 - قال أبو عبد الله: حدثنا مالك بن إسماعيل قال: حدثنا زهير قال: حدثنا حميد عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن أحدكم إذا قام في صلاته، فإنما يناجي ربه، أو ربه بينه وبين قبلته، فلا يبزق في قبلته، ولكن عن يساره أو تحت قدميه، ثم أخذ طرف ردائه فبزق فيه، ورد بعضه على بعض قال: (أو يفعل هكذا). قوله: (ربه بينه وبين قبلته) معناه: أن توجهه إلى القبلة يفضي بالقصد منه إلى ربه، فصار في التقدير: كأن مقصوده بينه وبين قبلته، فأمر أن تصان تلك الجهة عن البزاق ونحوه من أثفال البدن، وأمر أن يبزق عن يساره صيانة لليمين، وقد جاء في بعض الروايات من هذا الحديث: فلا يبزق عن يمينه، فإن عن يمينه ملكا.

وهذا إذا كان وحده، فإن كان عن يساره أحد لم يبزق في واحدة من الجهتين، لكن تحت قدمه أو في ثوبه، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وفي فعله صلى الله عليه وسلم دليل على طهارة البزاق، وهو إجماع عوام أهل العلم، إلا أن الكراني حدثني عن الساجي في كتاب الاختلاف أن إبراهيم النخعي كان يقول: البزاق نجس.

[41] (باب هل يقال مسجد بني فلان)

[41] (باب هل يقال مسجد بني فلان) 117/ 420 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن يوسف قال: أخبرنا مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل التي أضمرت من الحفياء وأمدها ثنية الوداع، وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق. قلت: تضمير الخيل: أن يظاهر عليها بالعلف مدة من الزمان حتى تسمن، ثم تغشى بالجلال ولا تعلف إلا قوتا، حتى تعرق فيذهب رهكها وتصلب. والأمد: الغاية. زاد في المسافة للخيلا لمضمرة لقوتها، ولا يضمر من الخيل إلا القُرَّح دون الأفتاء والمهارة منها، ونقص في الغاية لما لم تضمر منها لقصورها عن شأو ذات التضمير ليكون عدلا منه بين النوعين، وكل ذلك إعداد للقوة في إعزاز كلمة الله

ونصرة دينه امتثالا لقوله عز وجل: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم} الآية.

[48] (باب هل تنبش قبور مشركي الجاهلية ويتخذ مكانها مساجد؟)

[48] (باب هل تنبش قبور مشركي الجاهلية ويتخذ مكانها مساجد؟) 118/ 428 - قال أبو عبد الله: حدثنا مسدد حدثنا عبد الوارث عن أبي التياح عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أمر ببناء المسجد أرسل إلى ملأ بني النجار فقال: يا بني النجار، ثامنوني بحائطكم قال أنس: وكان فيه قبور المشركين وخرب، وفيه نخل، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقبور المشركين فنبشت، ثم بالخرب فسويت. قلت: ملأ القوم: رجالهم والرؤساء منهم. وقوله: (ثامنوني) أي بيعونيه بالثمن، وفي ذلك دليل على أن رب السلعة أولى بالسوم. وقوله: وخرب، هكذا حدثناه الخيام -بكسر الخاء وفتح الراء- والخرب: جمع الخراب. قال الليث: لغة تميم خرب، والواحدة خربة، كما قيل:

كلمة كلم، إلا أن قوله: (فأمر بالخرب فسويت) يدل على أن الصواب فيه: إما الخُرب -مضمومة الخاء- جمع خُربة، وهي الخروق التي في تلك الأرض إلا أنهم يخصون بهذا الاسم كل ثقبة مستديرة في جلد كانت أو في أرض أو في جدار، وإما أن تكون الرواية الجُرْف والجمع الجِرفة، وهي جمع الجُرُف، كما قيل: خُرْج وخِرَجة وتُرْس وتِرَسة، وأبين منهما في الصواب -إن ساعدته الرواية- أن يكون (وفيه حَدَب) جمع الحدبة، وهو الذي يليق بقوله: فسويت، وإنما يسوى المكان المحدودب أو موضع من الأرض فيه حروف وهزوم ونحوها. فأما الخرب فإنما تعمر وتبنى دون أن تصلح وتسوى. وفي الحديث دليل على جواز نبش قبور المشركين إذا دعت الحاجة إلى ذلك.

[51] (باب من صلى وقدامه تنور أو نار أو شيء مما يعبد فأراد به الله)

[51] (باب من صلى وقدامه تنور أو نار أو شيء مما يعبد فأراد به الله) 119/ 431 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن عبد الله بن عباس قال: خسفت الشمس فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: أريت النار فلم أر منظرا كاليوم قط أفظع. قوله: أفظع، يحتمل وجهين من الكلام: أحدهما: أن يكون أفظع بمعنى الفظيع، كأنه قال: لم أر منظرا فظيعا قط كاليوم، وهذا كقولهم: الله أكبر بمعنى كبير. والوجه الآخر: أن يضمر فيه حرف كأنه قال: لم أر أفظع منه، وهذا كلام العرب، روينا عن طلحة أنه قال: لما أصابته الرَّميَة يوم الجمل قال: إنا لله لم أر كاليوم مصرع شيخ أضيع.

[52] (باب كراهية الصلاة في المقابر)

[52] (باب كراهية الصلاة في المقابر) 120/ 432 - قال أبو علد الله: حدثنا مسدد قال: حدثنا يحيى عن عبيد الله قال: أخبرني نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم ولا تتخذوها قبورا). فيه دليل على أن الصلاة لا تجوز في المقابر، وقد يحتمل أن يكون معناه لا تجعلوا بيوتكم أوطانا للنوم ولا تصلون فيها، فإن النوم أخو الموت. فأما من تأوله على النهي عن دفن الموتى في البيوت فليس قوله بشيء، وقد دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته الذي يسكنه أيام حياته.

[53] (باب الصلاة في مواضع الخسف والعذاب)

[53] (باب الصلاة في مواضع الخسف والعذاب) 121/ 433 - قال أبو عبد الله: حدثنا إسماعيل بن عبد الله قال: حدثني مالك عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم لا يصبكم ما أصابهم). معنى هذا الكلام أن الداخل في ديار القوم الذين قد أهلكوا بالخسف والعذاب، إذا دخلها فلم يجلب عليه ما يرى من آثار ما نزل بهم من مثلات الله بكاءً ولم يبعث عليه حزنا، إما شفقة عليهم وإما خوفا من حلول مثلها به، فهو قاسي القلب، قليل الخشوع، غير مستشعر للخوف والوجل، يقول: فلا يأمن إذا كان هذا حاله أن يصيبه ما أصابهم، وفيه دلالة على أن ديار هؤلاء لا تسكن بعدهم ولا تتخذ وطنا لأن المقيم المستوطن لا يمكنه أن يكون دهره باكيا أبدا، وقد نهي أن يدخل دورهم إلا بهذه الصفة، ففيه المنع من المقام والاستيطان، والله أعلم.

[62] (باب بنيان المسجد)

[62] (باب بنيان المسجد) قال أبو عبد الله: وروي عن ابن عباس، ولم يذكر إسناده في بناء المساجد وعمارتها أنه قال: لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى. معناه: لتزيننها ولتموهنها، والزخرف: الزينة. ويقال: أصل الزخرف الذهب، وإنما زخرفت اليهود والنصارى كنائسها وبيعها حين حرفت الكتب وبدلتها، فضيعوا الدين وعرجوا على الزخارف والتزيين.

[70] (باب ذكر البيع والشراء على المنبر في المسجد)

[70] (باب ذكر البيع والشراء على المنبر في المسجد) 122/ 456 - قال أبو عبد الله: حدثنا علي بن عبد الله قال: حدثنا سفيان، عن يحيى، عن عمرة، عن عائشة قالت: أتتها بريرة تسألها في كتابتها فقالت: إن شئت أعطيت أهلك ويكون الولاء لي. وقال أهلها: إن شئت أعطيتها ما بقي. وقال سفيان مرة: إن شئت أعتقتها ويكون الولاء لنا، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرت ذلك فقال: ابتعيها فأعتقيها، فإنما الولاء لمن أعتق، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فقال: ما بال أقوام يشترطون شرطا ليس في كتاب الله، من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فليس له، وإن اشترط مائة شرط.

قلت: في هذا الحديث دليل على جواز بيع المكاتب رضي به أو لم يرض، عجز عن أداء نجومه أو لم يعجز، أدى بعض نجومه أو لم يكن أدى شيئا منها، وذلك إذا كان البيع على سبيل الوفاء من المبتاع بما شرط له من العتق عند الأداء، ولا خلاف أنه ليس لصاحبه الذي كاتبه، وهو ماض في كتابته، مؤد لنجومه في أوقاتها، أن يبيعه على أن يبطل كتابته، وفيه دليل على جواز بيع الرقبة بشرط لاعتق، لأن القوم قد تنازعوا الولاء، ولا يكون الولاء إلا بعد العتق، فدل على أن العتق كان مشروطا في البيع. وفي قوله: (إنما الولاء لمن أعتق) دليل على أن لا ولاء لغير المعتق. وقوله: (من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فليس له) فمعناه أن كل شرط ليس على ما جاء في الكتاب ومعنهاه بجوازه فهو باطل، ولم يرد أن ما لم ينص عليه من الشروط في الكتاب باطل. فإن قوله: (الولاء لمن أعتق) ليس منصوصا عليه في كتاب الله، إنما هو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أوجب الله طاعته في كتابه فجاز إضافة ذلك إلى الكتاب.

وفيه دليل على أنه ليس كل شرط يشترط في بيع كان قادحا في أصله ومفسدا له، وأن معنى النهي عن بيع وشرط منصرف إلى بعض البيوع وإلى نوع من أنواع الشروط دون بعض، وسيقع تفصيل ذلك وبيانه في غير هذا الموضع من هذا الكتاب إن شاء الله.

[75] (باب الأسير أو الغريم يربط في المسجد)

[75] (باب الأسير أو الغريم يربط في المسجد) 123/ 461 - قال أبو عبد الله: حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال: حدثنا روح ومحمد بن جعفر، عن شعبة، عن محمد بن زياد عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن عفريتا من الجن تفلت علي البارحة، أو كلمة نحوها، ليقطع علي الصلاة فأمكنني الله منه، وأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا وتنظروا إليه كلكم، فذكرت قول أخي سليمان {رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي}. العفريت: المارد الخبيث من الجن. وقوله: تفلت معناه تعرض لي فلتة أي فجأة ليغلبني على صلاتي، وفيه دليل على أن رؤية البشر الجن غير مستحيلة، والجن أجسام لطيفة، والجسم وإن لطف فإن دركه غير ممتنع أصلاً، وقد

رأينا غير واحد من ثقات أهل الزهد والورع، وبلغنا عن غير واحد من أصحاب الرياضيات [الرياضات] وأهل الصفاء والإخلاص من أهل المعرفة يخبرون أنهم يدركون أشخاصهم، فأما قول الله تعالى: {إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم} فإن ذلك حكم الأعم الأغلب من أحوال بني آدم، امتحنهم الله بذلك، وابتلاهم ليفزعوا إليه ويستعيذوا به من شرهم، ويطلبوا الأمان من غائلتهم، ولا ينكر أن يكون حكم الخاص والنادر من المصطفين من عباده بخلاف ذلك، فقد قال تعالى: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين} وقال: {إلا عبادك منهم المخلصين} فأخبر أنهم لا يسلطون على أوليائه، ولا يجدون السبيل إليهم، وهذا المعنى كأنه هو علة رؤيتهم إيانا وعدم رؤيتنا إياهم والله أعلم. وقد روينا عن عمر بن الخطاب وأبي أيوب الأنصاري، وعن غير واحد من الصحابة رؤية الجن ومعالجتهم إياهم، وغير حديث من طريق الثقات من النقلة والأثبات منهم. وفي الحديث دليل على أن أصحاب سليمان كانوا يرون الجن وتصرفهم له وبين يديه، وذلك من دلائل نبوته، ولولا مشاهدتهم إياهم لم تكن تقوم له الحجة بمكانهم عليهم.

[77] (باب الخيمة في المسجد للمرضى وغيرهم)

[77] (باب الخيمة في المسجد للمرضى وغيرهم) 124/ 463 - قال أبو عبد الله: حدثنا زكريا بن يحيى قال: حدثنا عبد الله بن نمير قال: حدثنا هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: أصيب سعد يوم الخندق في الأكحل، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم خيمة في المسجد ليعوده من قريب، فلم يرُعْهم -وفي المسجد خيمة من بني غفار- إلا الدم يسيل إليهم، فقالوا: يا أهل الخيمة ما هذا الدم الذي يأتينا من قبلكم؟ فإذا سعد يغذو جرحه دما فمات منها. قوله: يغذو معناه يسيل. يقال: إذا الجرح إذا سال فدام سيلانه. وقوله: فلم يرعهم إلا الدم، أصله من الرَّوع وهو إعظامك

الشيءَ وإكثاره فترتاع له، وقد يكون ذلك من خوف يفجأك ومن جمال يبهرك، ولذلك يقال: جمال رائع، والمعنى أنهم بينا هم في حال طمأنينة وسكون حتى أفزعهم رؤية الدم فارتاعوا له.

[80] (باب الخوخة والممر في المسجد)

[80] (باب الخَوخة والممر في المسجد) 125/ 467 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن محمد الجعفي قال: حدثنا وهيب بن جرير قال: حدثنا أبي قال: سمعت يعلى بن حكيم عن عكرمة عن ابن عباس قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه عاصبا رأسه بخرقة، فقعد على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إنه ليس من الناس أحد أمن علي في نفسه وماله من أبي بكر بن أبي قحافة، ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن خلة الإسلام أفضل، سدوا عني كل خَوخة في هذا المسجد غير خوخة أبي بكر. قوله: (أمن علي في نفسه وماله) معناه: أبذل لنفسه وأعطى لماله، والمن: العطاء من غير استثابة، ومنه قول الله عز وجل: {هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب} وقال: {ولا تمنن تستكثر} قيل معناه: لا تعط لتأخذ أكثر مما أعطيت

ولم يرد بقوله: أمن الناس، معنى المنة. فإن المنة تفسد الصنيعة، وليس لأحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم منة، بل له المنة على جميع الأمة صلى الله عليه وسلم. وقوله: (لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن خلة الإسلام أفضل) فإن الذي نفاه من الخلة هو الانقطاع إلى محبتة والانبتات في حبله. وقد قيل في اشتقاق الخليل غير قول. يقال: إن الخليل الفقير كأنهم عنَوا فقره إلى محبته وشدة حاجته إليها، إلا أن الاسم من الفقر الخَلة، ومن المحبة الخُلة مضمومة الخاء، وقيل: إنها مشتقة من خلة المرعى وهي نبات (تستحليه) الماشية فتستكثر منه. وقيل: إن الخلة من تخلل المودة القلب، وتمكنها منه، وقيل: غير هذا وأكثرها واهٍ ضعيف. فأما قوله: ولكن خلة الإسلام أفضل، فإنما أشار بها إلى أخوة الدين وإلى معنى الاختصاص فيها. والخوخة: بويب صغير، وفي أمره صلى الله عليه وسلم بسد الأبواب الشارعة إلى المسجد غير باب أبي بكر اختصاص شديد لأبي بكر رضي الله عنه، وفيه دلالة على أنه قد أفرده في ذلك بأمر لا يشارك فيه، وأولى ما يصرف إليه التأويل فيه الخلافة، وقد أكد

الدلالة عليها بأمره إياه بالإمامة في الصلاة التي لها بني المسجد ولأجلها يدخل إليه من أبوابه. قلت: ولا أعلم دليلا في إثبات القياس والرد على نفاته أقوى من إجماع الصحابة على استخلاف أبي بكر مستدلين في ذلك باستخلاف النبي صلى الله عليه وسلم إياه في أعظم أمور الدين، وهو الصلاة وإقامته فيها مقامخ نفسه، فقاسوا عليها سائر أمور الدين.

[83] (باب رفع الصوت في المسجد)

[83] (باب رفع الصوت في المسجد) 126/ 471 - قال أبو عبد الله: حدثنا أحمد قال: حدثني ابن وهب قال: أخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب قال: حدثني عبد الله بن كعب بن مالك أن كعب بن مالك تقاضى ابن أبي حدرد دينا له عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فارتفعت أصواتُهما حتى سمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته، فخرج إليهما حتى كشف سجف حجرته ونادى: يا كعب، قال: لبيك يا رسول الله، فأشار بيده أن ضع الشطر من دينك، قال كعب: قد فعلت يا رسول الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قم فاقضه. فيه من الفقه أن ما يدور بين المتخاصمين من كلام غليظ

وشغْب وتشاجر في طلب الحق فإنه متجاوز عنه، وأن للإمام والحاكم أن يراود الخصمين على المصالحة كما له أن يحكم فيفصل الحكم بينهما. وفيه أنه لما تبين مبلغ ما وقع الصلح عليه أمره بتعجيله له، وهذا النوع من الصلح حط وهضم من الحق، فلا يفسد الصلح إن تأخر أداؤه عن مقام الصلح. فأما ما كان على سبيل البيع والتعويض من حق في ذمته فلا يجوز تأخير القبض فيه موطن الصلح لأنه يكون حينئذ كالئا بكالئ ودينا بدين. وفيه أنهما قد تراجعا القول في المسجد نزاعا وخصاما، فلم يعنفهما النبي صلى الله عليه وسلم على ما ذُكر في هذا الخبر، وقد

رويت الكراهة في ذلك في غير هذا الخبر، ونهى عن رفع الصوت في المساجد، وعن إنشاد الشعر وطلب الضوال والصفق في البيوع، وهي كلها مذكورة في أخبار مشهورة.

[85] (باب الاستلقاء في المسجد ومد الرجل)

[85] (باب الاستلقاء في المسجد ومد الرجل) 127/ 475 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن ابن شهاب عن عباد بن تميم عن عمه أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مستلقيا في المسجد واضعا إحدى رجليه على الأخرى. فيه بيانُ جواز هذا الفعل ودلالة أن خبر النهي عنه إما منسوخ وإما أن تكون علة النهي عنه أن تبدو عورة الفاعل لذلك، فإن الإزار ربما ضاق فإذا شال لابسه إحدى رجليه فوق الأخرى بقيت هناك فرجة تظهر منها عورة. وفيه دليل على جواز الاتكاء في المسجد والاضطجاع وأنواع الاستراحة والاتداع فيه، كجوازها في المنازل والبيوت غير الانبطاح والوقوع على الوجه المنهي عنه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عنه وقال: (إنها ضجعة يبغضها الله).

[8] (باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره)

[8] (باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره) 128/ 482 - قال أبو عبد الله: حدثنا إسحاق قال: حدثنا ابن شميل قال: حدثنا ابن عون عن ابن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي قال: فصلى بنا ركعتين ثم سلم فقام إلى خشبة معروضة في المسجد فاتكأ عليها كأنه غضبان، ووضع يده اليمنى على اليسرى، وشبك بين أصابعه، وخرجت السَّرَعان من أبواب المسجد. قالوا: قُصرت الصلاة، وفي القوم أبو بكر وعمر، فهاباه أن يكلماه، وفي القوم رجل في يديه طول يقال له: ذو اليدين، قال يا رسول الله أنسيت أم قصرت الصلاة؟ قال: لم أنس ولم تقصر. فقال: أكما يقول ذو اليدين؟ فقالوا: نعم، فتقدم فصلى ما ترك، ثم سلم، ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول ثم رفع رأسه وكبر ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول ثم رفع رأسه وكبر، قال: ونبئت أن عمران بن حصين قال: ثم سلم.

سرعان الناس: هم الذين يقبلون في الأمر بسرعة، وإنما أراد به عوام الناس الذين يسرعون الانصراف عن الصلاة ولا يلبثون قعودا للذكر بعدها. وفي الحديث دليل على أن من قال ناسيا: لم أفعل كذا وكان قد فعله أنه غيرُ كاذب، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم أنس ولم تقصر يتضمن أمرين: أحدهما حكم في الدين، وهو قوله: لم تقصر، عصمة الله عز وجل من الغلط فيه لئلا يعرض في أمر الدين إشكال. والآخر: حكاية عن فعل نفسه، وقد جرى الخطأ فيه، إذ كان صلى الله عليه وسلم غير معصوم عما يُدفع إليه البشرُ من الخطأ والنسيان، وفي حكم الدين أن الإثم موضوع عن الناس، وتلافي الأمر في المنسي سهلٌ غير متعذر ولا فائت. وفيه من الفقه أن من تكلم ناسيا في صلاته لم تفسد صلاته، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الصلاة أنما جرى منه وعنده في نفسه أنه قد أكمل صلاته، فتكلم على أنه خارج من

الصلاة، وسبيله سبيل الناس لا فرق بينهما. وأما ذو اليدين ومراجعته النبي صلى الله عليه وسلم فأمره متأول على هذا المعنى أيضا؛ لأن الزمان كان زمان نسخ وتبديل وزيادة في الصلاة ونقصان، فجرى منه الكلام في حال موهوم فيها أنه خارج من الصلاة لإمكان وقوع النسخ ومجيء القصر بعد الإتمام. وأما كلام أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ومن معهما من القوم فإنه من حيث كان واجبا عليهم إجابة النبي صلى الله عليه وسلم إذا دعاهم لقوله تعالى: {استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم} لم يقدح ذلك في صلاتهم ولم يفسدها عليهم، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مر على أبي سعيد بن المعلى وهو يصلي فدعاه فلم يجبه، ثم اعتذر إليه وقال: كنتُ في الصلاة فقال له: ألم تسمع الله يقول: {استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم} فدل على أن الكلام إذا كان استجابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم غير مفسد لها، وأنه ليس من نوع الكلام المنسوخ في الصلاة، وقد زعم قوم أن هذا إنما كان قبل نسخ الكلام

في الصلاة، وهذا القول غلط لأن نسخ الكلام في الصلاة إنما وقع بعد الهجرة بمدة يسيرة، وأبو هريرة راوي هذا الحديث متأخر الإسلام، وقد رواه عمران بن حصين أيضا كذلك. وفي تسمية النبي صلى الله عليه وسلم الرجل ذا اليدين دليل على جواز التلقيب الذي سبيله التعريف دون القول المكروه الذي يجري مجرى الشين والتهجين. وقد روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول له: يا ذا الأذنين، ويشبه أن يكون المعنى في ذلك التنهبيه على حسن الاستماع وجودة الوعي للقول. وفي الحديث دليل على أنه إذا سها في صلاة واحدة مرات أجزأته عن جميعها سجدتان، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم سها عن الركعتين وتكلم ناسيا، ثم اقتصر على السجدتين فلم يزد عليهما.

وفي تشبيكه صلى الله عليه وسلم بين أصابعه في المسجد دليل على أن خبر كعب بن عجرة في نهيه الخارج إلى الصلاة عن التشبيك إنما هو على ما قد تأولناه من الاحتباء بتشبيك الأصابع الجالب للنوم الذي ينقض عليه طهره، وإن كان على غير ذلك فهو مباح غير محظور، والله أعلم.

[89] (باب المساجد التي على طرق المدينة والمواضع التي صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم)

[89] (باب المساجد التي على طرق المدينة والمواضع التي صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم) 129/ 484 - قال أبو عبد الله: حدثنا إبراهيم بن المنذر قال: حدثنا أنس بن عياض قال: حدثنا موسى بن عقبة عن نافع، عن ابن عمر في ذكر مواضع صلى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلها في أسفاره ومغازيه، قال: كان يعرس بالبطحاء التي على شفير الوادي الشرفي حتى يصبح، وكان ثم خليج في بطنه كُثُب (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم) يصلي ثَم، فدحا السيل فيه إلى البطحاء حتى دفن ذلك المكان. 130/ 486 - وأن ابن عمر كان يصلي إلى العرق الذي عند منصرف الروحاء، وذلك العرق انتهى طرفه على حافة الطريق. 131/ 487 - قال عبد الله: وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينزل تحت سرحة ضخمة دون الرويثة عن يمين الطريق في مكان

بطح سهل. 132/ 488 - قال: وصلى في طرف تلعة من وراء العرج وأنت ذاهب إلى هضبة عند ذلك المسجد قبران أو ثلاثة، على القبور رَضْمٌ من حجارة عن يمين الطريق عند سلمات الطريق. قال: ونزل عند سرحات في مسيل دون هَرْشَى، ذلك المسيل لاصق بكراع هرشى، بينه وبين الطريق قريب من غَلْوة. وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم استقبل فُرضَتي الجبل الذي بينه وبين الجبل الطويل نحو الكعبة. التعريس: نزول استراحة لغير إقامة، ويكون ذلك في الأكثر من آخر الليل ينزلون فينامون نومة خفيفة ثم يرتحلون. وشفير الوادي: حرفه، وكذلك شُفره. والخليج: وادٍ له عمق ينشق من آخر أعظم منه. والكُثُب: جمع الكثيب، وهو ما غلُظ وارتفع عن وجه الأرض.

وقوله: فدحا السيل فيه بالبطحاء، أي سواه بما حمل من البطحاء، والبطحاء: حجارة ورمل. والعرق: جبيل صغير. والسرحة: شجرة، والسرح: نوع من الشجر له ثمر. والرويثة: اسم موضع، والبطح: الواسع، والتلعة: مسيل الماء من فوق إلى أسفل، والهضبة: فوق الكثيب في الارتفاع ودون الجبل. والرضم: حجارة كبار، واحدتها رضمة. والسلمات: جمع سلمة، وهي شجرة ورقها القرظ الذي يدبغ به الأدم. وهرشى: ثنية معروفة وكراعها يمتد منها دون سفحها. والغلوة: قدر رمية. وفرضة الجبل: مدخل الطريق إليه، وأصل الفرضة مأخوذ من الفَرْض، وهو القطع غير البليغ.

[98] (باب الصلاة إلى الراحلة والبعير والشجر والرحل)

[98] (باب الصلاة إلى الراحلة والبعير والشجر والرحل) 133/ 507 - قال أبو عبد الله: حدثني محمد بن أبي بكر المقدمي قال: حدثنا معتمر، عن عبيد الله عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يُعرِّض راحلته فيصلي إليها. قلت: أفرأيت إذا هبت الركاب؟ قال: كان يأخذ الرحل فيعدله فيصلي إلى آخرته. قوله: إذا هبت الركاب، معناه إذا هاجت، يقال: هب الفحل هبيبا: إذا اهتاج، يريد أن الإبل إذا هاجت لم تهدأ ولم تقر، فتفسد على المصلي إليها صلاتَه. وقوله: فيعدله: أي يقيمه تلقاء وجهه.

[99] (باب الصلاة إلى السرير)

[99] (باب الصلاة إلى السرير) 134/ 508 - قال أبو عبد الله: حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال: حدثنا جرير عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت: لقد رأيتُني مضطجعة على السرير فيجيء النبي صلى الله عليه وسلم فيتوسط السرير فيصلي فأكره أن أسنحه، فأنسل من قبل رجل السرير حتى أنسل من لحافي. قولها: أسنحه، من قولك: سنح لي الشيء إذا عرض لك، تريد أني أكره أن أستقبله ببدني في صلاته، ومن هذا سوانح الطير والظباء، وهي ما يعترض الركب والمسافرين فتجيء عن مياسرهم وتجوز إلى ميامنهم.

[100] (باب يرد المصلي من مر بين يديه)

[100] (باب يرد المصلي من مر بين يديه) 135/ 509 - قال أبو عبد الله: حدثنا آدم بن أبي إياس قال: حدثنا سليمان بن المغيرة قال: حدثنا حميد بن هلال العدوي قال: حدثنا أبو صالح السمان، عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس فأراد أحدٌ أن يجتاز بين يديه فليدفعه، فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان. معنى هذا الكلام أن الشيطان هو الذي يحمله على ذلك ويحركه عليه، ومعنى المقاتلة هاهنا الدفع العنيف، وقد يجوز أيضا أن يكون أراد بالشيطان المار بين يديه (نفسه) ذلك أن الشيطان هو المارد الخبيث من الجن والإنس. قلت: وهذا إنما يكون لمن كانت صلاته إلى سترة دون من صلى إلى غير سترة.

[106] (باب إذا حمل جارية صغيرة على عنقه في الصلاة)

[106] (باب إذا حمل جارية صغيرة على عنقه في الصلاة) 136/ 516 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن يوسف قال: أخبرنا مالك عن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن عمرو بن سليم الزرقي، عن أبي قتادة الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهو حاملٌ أمامةَ بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها. فيه من الفقه أن من صلى وهو حامل على ظهره أو عاتقه كارةً أو نحوَها لم تبطل صلاته بحملها ما لم يحتج لإمساكه إلى عمل كثير أو التزام له ببعض أعضائه دائم. وفيه دليل على أن لمس ذوات المحارم لا ينقض الوضوء. قلت: ويشبه أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم لا يتعمَّد حمل هذه الصبية ووضعها في كل خفض ورفع من ركعات الصلاة، لأن ذلك يشغله عن صلاته وعن لزوم الخشوع فيها، وإنما هو أن الصبية قد كانت ألفته وأنست بقربه، وكان صلى الله عليه وسلم أرحم الناس بالذرية، فإذا سجد صلى الله عليه وسلم جاءت

فتعلقت بأطرافه والتزمته، فينهض صلى الله عليه وسلم من سجوده ويخليها وشأنها فتبقى محمولة كذلك إلى أن يركع فيرسلها إلى الأرض حتى إذا سجد وأراد النهوض عادت الصبية إلى مثل ذلك، هذا وجهه عندي ومعناه والله أعلم.

كتاب مواقيت الصلاة

كتاب مواقيت الصلاة [1] (باب مواقيت الصلاة وفضلها) 137/ 522 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن مسلمة قال: قرأت على مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي العصر والشمس في حجرتها قبل أن تظهر. تريد: قبل أن تصعد من قاعة الدار إلى شعف الجدر وأعالي الحيطان، يقال: ظهرتُ فوق السطح إذا علوته، ومنه قول الله تعالى: {ومعارج عليها يظهرون} وقد روي من وجه آخر (قبل أن يظهر الفيء عليها).

[9] (باب الإبراد بالظهر في شدة الحر)

[9] (باب الإبراد بالظهر في شدة الحر) 138/ 533 - 534 قال أبو عبد الله: حدثنا أيوب بن سليمان قال: حدثني أبو بكر عن سليمان قال: صالح بن كيسان، حدثنا الأعرج عبد الرحمن وغيره عن أبي هريرة ونافع عن ابن عمر أنهما حدثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم. معنى الإبراد: انكسار شدة حر الظهيرة، وذلك أن فتور حرها بالإضافة إلى وهج الهاجرة برد، وليس ذلك بأن يؤخر إلى أحد بردي النهار، وهو برد العشي، إذ فيه الخروج من قول الأمة. وفيح جهنم: شدة استعارها، وأصله في الكلام السعة

والانتشار، وكانت العرب تقول في غاراتها: فيحي فياح، وقد روي أن لجهنم نفسين في الشتاء ونفسا في الصيف. وكان أحمد بن حنبل يذهب إلى الإبراد في الصيف، وكان الشافعي يرى التعجيل إذا صلى وحده، فإذا كان إمام جماعة (ينتابه) الناس من بُعد أبرد. ومعنى قوله: أبردوا عن الصلاة: تأخروا عنها مبردين.

[11] (باب وقت الظهر عند الزوال)

[11] (باب وقت الظهر عند الزوال) 139/ 541 - قال أبو عبد الله: حدثنا حفص بن عمر، قال: حدثنا شعبة عن أبي المنهال، عن أبي برزة كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي العصر، وأحدنا يذهب إلى أقصى المدينة ويرجع والشمس حية. حياة الشمس: بقاء حرها لم يفتر ونقاء لونها لم يتغير.

[12] (باب تأخير الظهر إلى العصر)

[12] (باب تأخير الظهر إلى العصر) 140/ 543 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو النعمان قال: حدثنا حماد -وهو ابن زيد- عن عمرو بن دينار عن جابر بن زيد، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالمدينة سبعا وثمانيا الظهر والعصر والمغرب والعشاء فقال أيوب: لعله في ليلة مطيرة، قال: عسى. والجمع بين الصلاتين لا يكون إلا لعذر، ولذلك رخص فيه للمسافرين من أجل مشقة السفر، فلما وجد الجمع في الحضر طلبوا له وجه العذر، وكان الذي وقع لهم من ذلك المطر، لأنه أذى وفيه مشقة على المصلي إذا كلف حضور المسجد مرة بعد أخرى. وقد روي هذا الحديث أيضا من طريق مالك. قال مالك: أرى ذلك في المطر.

والشرط فيه عند الشافعي: أن يكون ابتداؤه الصلاة الأولى والمطر قائم ويفتتح الصلاة الثانية مع قيام المطر ولا يراعى ما وراء ذلك.

[14] (باب إثم من فاتته العصر)

[14] (باب إثم من فاتته العصر) 141/ 522 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن يوسف قال: أخبرنا مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وُتر أهله وماله). قوله: وتر، يعني نقص، ومنه قوله تعالى: {ولن يتركم أعمالكم} أي لم ينقصكم. وقيل: معناه سُلِب أهلَه وماله فبقي وترا ليس له أهل ولا مال. يقول: فليحذر أن تفوته هذه الصلاة وليكره ذلك كراهته لأن يسلب أهله وماله.

[16] (باب فضل صلاة العصر)

[16] (باب فضل صلاة العصر) 142/ 554 - قال أبو عبد الله: حدثنا الحميدي قال: حدثنا مروان بن معاوية قال: حدثنا إسماعيل عن قيس عن جرير قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا، ثم قرأ: {وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب}. قوله: لا تضامون، يروى على وجهين: أحدهما: تضامُّون - مفتوحة التاء مشددة الميم- وأصلها تتضامون، فحذفت إحدى التاءين، أي لا يضام بعضكم بعضا، كما يفعله الناس في طلب الشيء الخفي الذي لا يسهل دركه، فيتزاحمون عند ذلك ينظرون إلى جهته.

يضام بعضهم بعضاً، يريد أنكم ترون ربكم وكل واحد منكم وادعٌ في مكانه لا ينازعه رؤيته أحد. والوجه الآخر: لا تضامُون من الضيم، أي لا يضيم بعضكم بعضا في رؤيته وقوله عقب ذلك: فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا، يدل على أن الرؤية قد يُرجى نيلها بالمحافظة على هاتين الصلاتين. (ووقوع) الاختصاص لهاتين الصلاتين بالذكر وإن كانتا كسائر الصلوات في محل الفرضية كاختصاصهما بلقب التوسط بين الصلوات الخمس، وإن كانت كل واحدة من الخمس مستحقة لهذه الصفة في وضع الحساب. وقد اختلف أهل العلم في معنى قوله: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى}، وفيه تعيين هذه الصلاة فيروى عن علي رضي الله عنه وأبي أيوب الأنصاري وعائشة،

وحفصة رضي الله عنهم أجمعين أنها صلاة العصر. ورد روى عبيدة السلماني، عن علي أنه قال: كنا نراها الفجر حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب يقول: (شغلونا عن صلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله قبورهم وأجوافهم نارا). وروي عن أبي موسى الأشعري وابن عباس وجابر بن

عبد الله رضي الله عنهم أنهم قالوا: هي صلاة الفجر وهو قول عطاء وغيره من المكيين وإليه مال مالك والشافعي، واحتجوا لذلك بقوله تعالى: {وقوموا لله قانتين} فلما لم تكن صلاة مكتوبة من الصلوات الخمس فيها قنوت غير الصبح علم بذلك أنها هي دون غيرها. ولأنها صلاة تصلى في سواد من الليل وبياض من النهار، فصارت كأنها من الليل والنهار، واستدلوا على ذلك أيضا بقوله: {وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا} فخصه بهذا الذكر دون غيرها من الصلوات، ولأنها منفردة بوقتها، والظهر والعصر قد تجمعان بعرفة، وفي السفر، والمغرب والعشاء تجمعان بالمزدلفة وفي السفر كذلك، وصلاة الفجر لا تجمع إلى صلاة ولا تضم إليها صلاة، فهي الوسطى بين الصلوات. وقد روي أيضا عن زيد بن ثابت، ويروى أيضاً عن

أسامة بن زيد أنهما قالا: هي صلاة الظهر، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهجير، فلا يكون وراءه إلا الصف والصفان، فيكون الناس في قائلتهم وتجارتهم، فنزلت هذه الآية تحريضا لهم على هذه الصلاة. وقد روي عن قبيصة بن ذؤيب أنها صلاة المغرب، واحتجوا لها بأنها ليست بأقل الصلوات ولا بأكثرها، ولا تقصر في السفر، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤخرها عن وقتها ولم يعجلها، كأن القائل به ذهب في الوسطى إلى التوسط الذي يكون

عدلاً بين الأمرين، وفضل القولين الأولين على القولين الآخرين بين. وإن كان الصحيح من جملتها هو القول الأول لصحة الرواية فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حديث علي رضي الله عنه.

[30] (باب الصلاة بعد الفجر حتى ترتفع الشمس)

[30] (باب الصلاة بعد الفجر حتى ترتفع الشمس) 143/ 581 - قال أبو عبد الله: حدثنا حفص بن عمر قال: حدثنا هشام عن قتادة عن أبي العالية عن ابن عباس قال: شهد عندي رجال مرضيون وأرضاهم عندي عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تشرق الشمس وبعد العصر حتى تغرب. قوله: شهد عندي رجال مرضيون، معناه: أعلموني وبينوا لي، ولم يرد به إقامة الشهادة التي يتحملها الناس ويقيمونها عند الحكام. وقال علماء أهل التفسير في قوله تعالى: {شهد الله أنه لا إله إلا هو} أي أعلم خلقه وبين لهم. وقوله: حتى تشرق الشمس، معناه: حتى تطلع، يقال:

شرقت الشمس تشرق شروقا، إذا طلعت، وأشرقت إشراقا إذا أضاءت. وهذه الصلوات التي ينشئها المصلي من غير سبب يوجبها دون ما له سبب منها، وقد وقع شرح ذلك وبيانه في غير هذا الموضع من هذا الكتاب.

[17] (باب من أدرك ركعة من العصر قبل الغروب)

[17] (باب من أدرك ركعة من العصر قبل الغروب) 144/ 556 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو نعيم قال: حدثنا شيبان عن يحيى عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أدرك أحدكم سجدة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فليتم صلاته، وإذا أدرك سجدة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فليتم صلاته، وإذا أدرك سجدة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فليتم صلاته). معنى السجدة في هذا الحديث الركعة بركوعها وسجودها، والصلاة قد تسمى سجودا، كما سميت ركوعا، كقوله: {ومن الليل فاسجد له} أي صل. وقوله: {واركعوا مع الراكعين} يريد المصلين، والركعة إنما يكون تمامها بسجودها

فسميت على هذا المعنى سجدة، وفيه بيان أن طلوع الشمس على من قد صلى من الفجر ركعة لا يقطع عليه صلاته، كما قال من فرق في ذلك بين غروب الشمس من أجل أن غروبها يوجب عليه الصلاة، وبين طلوعها من أجل أن طلوعها يحرم عليه الصلاة، والقياس إذا نازعه النص كان ساقطاً.

[17] (باب من أدرك ركعة من العصر قبل الغروب)

[17] (باب من أدرك ركعة من العصر قبل الغروب) 145/ 557 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله قال: حدثني إبراهيم -هو ابن سعد- عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله عن أبيه أخبره أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، أوتي أهل التوراة التوراةَ، فعملوا حتى إذا انتصف النهار عجزوا، فأعطوا قيراطا قيراطا، ثم أوتي أهل الإنجيل الإنجيلَ فعملوا إلى صلاة العصر ثم عجزوا فأعطوا قيراطا قيراطا، ثم أوتينا القرآن فعملنا إلى غروب الشمس، فأعطينا قيراطين قيراطين، فقال أهل الكتاب: أي ربنا، أعطيت هؤلاء قيراطين قيراطين، وأعطيتنا

قيراطا قيراطا، ونحن كنا أكثر عملا. قال الله تعالى: هل ظلمتكم من أجركم من شيء؟ قالوا: لا. قال: فهو فضلي أوتيه من أشاء. (قلت): يروى هذا الحديث على وجوه مختلفة في توقيت العمل من النهار وتقدير الأجرة، ودل فحوى الكلام من هذه القصة في هذه الرواية على أن مبلغ الأجرة لليهود لعمل النهار كله قيراطان، وأجرة النصارى للنصف الباقي من النهار إلى الليل قيراطان، (فلو تموا [؟] العمل) إلى آخر النهار لاستحقوا تمام الأجر، وأخذوا قيراطين قيراطين، إلا أنهم انخزلوا عن العمل ولم يفوا بما ضمنوه، فلم يصيبوا إلا ما خص كل فريق منهم من الأجرة وهو قيراط، ثم إنهم لما رأوا المسلمين وقد استوفوا قدر أجرة الفريقين معا حاسدوهم فقالوا: نحن أكثر عملا وأقل أجرا، فقيل لهم: هل ظلمتكم من أجركم من شيء؟ ولو لم يكن صورة الأمر على هذا لم يصح هذا الكلام. وقد روى أبو عبد الله هذه القصة من طريق أبي موسى الأشعري.

[17] (باب من أدرك ركعة من العصر قبل الغروب)

[17] (باب من أدرك ركعة من العصر قبل الغروب) 146/ 558 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو كريب، حدثنا أبو أسامة، عن بريد، عن أبي بردة، عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم: مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استأجر قوما يعملون له عملا إلى الليل، فعملوا إلى نصف النهار، فقالوا: لا حاجة لنا إلى أجرك، فاستأجر أجيرين وقال: أكملوا بقية يومكم ولكم الذي (شرطت) فعملوا حتى إذا كان حين صلاة العصر فقالوا: (لك) ما عملنا، فاستأجر قوما فعملوا بقية يومهم حتى غابت الشمس واستكملوا أجر الفريقين. (قلت) وقد رواه أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما مثلكم ومثل أهل

الكتاب من قبلكم مثل رجل استأجر أجراء فقال: من يعمل من صلاة الصبح إلى نصف النهار على قيراط قيراط؟ ألا فعملت اليهود، ثم قال: من يعمل من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط؟ ألا فعملت النصارى، ثم قال: من يعمل من صلاة العصر إلى (مغيربان) الشمس على قيراطين قيراطين؟ ألا فعملتم أنتم. قال: فغضبت اليهود والنصارى وقالوا: ما لنا أكثر عملا وأقل عطاء. فقال: هل ظلمتكم من حقكم شيئا؟ قالوا: لا. قال: فإنما هو فضلي أوتيه من أشاء. قلت: وهذا في الظاهر خلاف ما تقدم؛ لأن في هذا قطع الأجرة لكل فريق منهم قيراطا قيراطا، وتوقيت العمل عليهم زمانا واستيفاؤه منهم وإيفاؤهم الأجرة، وفيه قطع الخصومة وزوال العتب عنهم وإبراؤهم من الذنب، وهذا الحديث مختصر وإنما اكتفى الراوي منه بذكر مآل العاقبة فيما أصاب كل واحد من الفرق من الأجرة ومبلغها دون ذكر الأحوال المذكورة في الروايتين الأوليين من ذكر عجزهم عن العمل.

وقولهم: لا حاجة لنا إلى أجرك. وذلك إشارة إلى تحريفهم الكتب وتبديلهم الشرائع والملل، وانقطاع الطريق بهم عن بلوغ الغاية التي حدَّت منه لهم، فحرموا تمام الأجرة بجنايتهم على أنفسهم حين امتنعوا من إتمام العمل الذي ضمنوه ولم يفوا به، وكأن الصحيح من هذه القصة ما ذكرناه أولا من طريق سالم، عن أبيه، ومن طريق أبي بردة عن أبيه دون رواية نافع عن ابن عمر والله أعلم.

[18] (باب وقت المغرب)

[18] (باب وقت المغرب) 147/ 561 - قال أبو عبد الله: حدثنا المكي بن إبراهيم، حدثنا يزيد بن أبي (عبيد) عن سلمة بن الأكوع قال: كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم المغرب إذا توارت بالحجاب. يريد إذا توارت الشمس بالحجاب فغابت، ولم يذكر الشمس اعتمادا على إفهام السامعين له، وكذلك هو في كتاب الله عز وجل في قصة سليمان عليه السلام فقال: {إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب} ولم يجر للشمس قبلُ ذكرٌ، وكقوله تبارك وتعالى: {ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك على ظهرها من دابة} ولم يجر للأرض ذكر قبل، وكقوله تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة القدر} ولم يجر قبل ذلك للقرآن ذكر.

وقد قيل: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جمعوا القرآن وضعوا سورة القدر عقب سورة العلق ليدلوا بذلك على أن المراد بهاء الكناية في قوله: {إنا أنزلناه} القرآن، إشارة إلى قوله {اقرأ}.

[22] (باب فضل العشاء)

[22] (باب فضل العشاء) 148/ 567 - قال أبو عبد الله: حدثنا محمد بن العلاء، حدثنا أبو أسامة عن بريد، عن أبي بردة، عن أبي موسى قال: أعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة حتى ابهارَّ الليل، وذكر حديثا. قوله: أعتم، معناه أخر الصلاة، ومنه قيل: قِرًى عاتم إذا لم يقدم العجالة للضيف وأبطأ عليه بالطعام. وقوله: ابهار، قال الأصمعي: يقال: ابهار الليل، إذا انتصف، قال: وبهرة كل شيء وسطه: وقال أبو سعيد الضرير: معناه إذا تتام طلوع النجوم واستنارت وذلك بعد أن يذهب فحمة الليل وظلمته بساعة. وقال: ومنه الشيء الباهر، أي: الظاهر المضيء.

[26] (باب فضل صلاة الفجر)

[26] (باب فضل صلاة الفجر) 149/ 574 - قال أبو عبد الله: حدثنا هدبة بن خالد، حدثنا همام، حدثني أبو جمرة، عن أبي بكر (عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى البردين دخل الجنة). يريد بالبردين: صلاتي الفجر والعصر، وذلك لأنهما تصليان في بردي النهار، وهما طرفاه حين يطيب الهواء وتذهب سورة الحر.

[39] (باب ما يكره من السمر بعد العشاء)

[39] (باب ما يكره من السمر بعد العشاء) 150/ 599 - قال أبو عبد الله: حدثنا مسدد حدثنا يحيى حدثنا عوف حدثنا أبو المنهال عن أبي برزة الأسلمي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الهجير وهي التي تدعونها الأولى حين تدحض الشمس ويصلي العصر ثم يرتجع أحدنا إلى أهله في أقصى المدينة والشمس حية. إنما سمي الظهر هجيرا لأنها تصلى في الهاجرة، وهي وقت انتصاف النهار. وقوله: حين تدحض الشمس، أي حين تزول، ويقال: دحض الرجل في الوحل، إذا زلت قدمه، وأدحضت حجة فلان: إذا أبطلتها، وحياة الشمس: بقاء حرها، وإنما وصفت بالحياة ما دامت كذلك لقوة حرها، وكل شيء ضعفت منته وذهبت

قوته فقد مات، ومنه قول عمر بن الخطاب: لا تأكلوا من هاتين الشجرتين إلا أن تميتموهما طبخا يريد به البصل والثُّوم، وعلى هذا المعنى قول الشاعر: يا ليت شعري هل تموت الريحُ .... فأسكن اليوم وأستريح

[40] (باب السمر في الفقه والخير بعد العشاء)

[40] (باب السمر في الفقه والخير بعد العشاء) 151/ 601 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر أن عبد الله بن عمر قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء في آخر عمره فلما سلم قام فقال: أرأيتم ليلتكم هذه؟ فإن رأس مائة سنة لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد، فوهل الناس في مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما يتحدثون من هذه الأحاديث عن مائة سنة، وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض، يريد بذلك أن ينخرم ذلك القرن. قوله: وهل الناس، أي توهموا وغلطوا في التأويل. يقال: وهل الرجل: إذا ذهب وهله إلى الشيء. والوهل: الوهم.

[37] (باب من نسي صلاة فليصل إذا ذكرها ولا يعيد إلا تلك الصلاة)

[37] (باب من نسي صلاة فليصل إذا ذكرها ولا يعيد إلا تلك الصلاة) 152/ 597 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو نعيم وموسى بن إسماعيل قالا: حدثنا همام عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نسي صلاة فليصل إذا ذكر، لا كفارة لها إلا ذلك). {وأقم الصلاة لذكري}. قوله: لا كفارة لها إلا ذلك، تحتمل وجهين: أحدهما أنه لا يجوز له تركها إلى بدل، ولا يكفرها غير قضائها. والآخر: أنه لا يلزمه في نسيانه لها كفارة ولا غرامة في مال، ولا يجب عليه في القضاء زيادة تضعيف لها، إنما يصلي ما ترك سواء. وليس هذا على معنى (أنه) لا يجوز له تأخيرها من وقت

الذكر حتى لا يسعه إن كان في حال قيام أو قعود أن لا يتحول عنها إلى غيرها قبل أن يصليها بحال أو يكون في صلاة يصليها فيقطعها قبل أن يتمها، ولكنه على أن لا يغفل أمرها مع الإمكان ويشتغل بغيرها. وفي حديث أبي قتادة أنهم لما ناموا عن صلاة الفجر، ثم انتبهوا بعد طلوع الشمس، أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يقودوا رواحلهم، ثم صلاها بعد. وفيه دليل على أنه إن ذكر الفائت في وقت من الأوقات المنهي عن الصلاة فيها صلاها ولم يؤخرها.

[41] (باب السمر مع الضيف والأهل)

[41] (باب السمر مع الضيف والأهل) 153/ 602 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو النعمان، حدثنا معتمر بن سليمان، حدثنا أبي، حدثنا أبو عثمان، عن عبد الرحمن بن أبي بكر، وذكر قصة أضياف من فقراء أهل الصفة، حملهم أبو بكر إلى منزله، وأمرهم أن يطعموهم، وبقي أبو بكر عند النبي صلى الله عليه وسلم حتى تعشى (ومضى) من الليل ما شاء، فلما جاء قالت له امرأته: ما حبسك عن أضيافك؟ قال: أوما عشيتهم؟ قالت: أبوا حتى تجيء، قال: فذهبت أنا فاختبأت فقال: يا عنتر [؟] وسب وجدَّع، وذكر الحديث بطوله. قوله: يا عنتر، هكذا حدثناه خلف الخيام -بالعين غير

المعجمة وبالتاء التي هي أخت الطاء مضمومتين -ورواه مرة أخرى: يا غُنثَر بالغين المعجمة والثاء المثلثة- فإن كانت الرواية الأولى بالعين محفوظة فإنها مفتوحة العين والتاء، سألت أبا عمرو [الصواب: أبو عُمَر الزاهد] عنه فقال: سمعت أبا العباس أحمد بن يحيى يقول: العنتر: الذباب، وسمي عنترا [؟] لصوته، فشبهه حين حقره وصغره بالذباب. فأما الغنثر -بالغين المعجمة- فهو مأخوذ من الغثارة وهي الجهل، يقال: رجل أغثر. وقوله: يا غنثر: معدول عنه، كما قيل: يا حُمْق من أحمق، والنون زيادة.

[2] (باب الأذان مثنى مثنى)

كتاب الأذان [2] (باب الأذان مثنى مثنى) 154/ 605 - قال أبو عبد الله: حدثنا سليمان بن حرب قال: حدثنا حماد بن زيد عن سماك بن عطية عن أيوب عن أبي قلابة عن أنس قال: أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة إلا الإقامة. قوله: (أمر بلال) يريد أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بذلك لأن الأذان شريعة من الشرائع، والأمر المضاف إلى الشريعة في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يضاف إلى غيره، ومن زعم أن الآمر لبلال أبو بكر رضي الله عنه فقد غلط، لأن بلالا قد كان لحق بالشام أيام أبي بكر ولم يقم بالمدينة بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقوله: (ويوتر الإقامة إلا الإقامة) يريد أنه كان يوتر ألفاظ الإقامة التي هي شفع في الأذان (إلا الإقامة) يعني لفظ الإقامة

نفسها وهو أن يقول: قد قامت الصلاة مرتين، وإنما فرق بين الأذان والإقامة في التثنية والإفراد ليعلم أن الأذان إعلام بورود الوقت والإقامة أمارة لقيام الصلاةن ولو سوى بينهما لاشتبه الأمر في ذلك وصار سببا لأن تفوت كثيرا من الناس صلاة الجماعة إذا سمعوا الإقامة فظنوا أنها الأذان.

[4] (باب فضل التأذين)

[4] (باب فضل التأذين) 155/ 608 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان له ضراط حتى لا يسمع التأذين، فإذا قضي النداء أقبل، حتى إذا ثوب بالصلاة أدبر، حتى إذا قضي التثويب أقبل، حتى يخطُر بين المرء ونفسه. العامة لا تعرف التثويب إلا قول المؤذن في نداء الفجر: الصلاة خير من النوم، والتثويب هاهنا الإقامة بعد الأذان، وأصل التثويب رفع الصوت بالإعلام، قال الشاعر: يأوي إلى ساحته المثوِّبُ يريد المستغيث، وأصل هذه الكلمة أن يلوح الرجل بثوبه عند الفزع يعلم بذلك أصحابه، فسمي رفع الصوت في الأذان تثويباً.

وقيل: إن التثويب في الأذان مأخوذ من قولك: ثاب بمعنى عاد إلى الشيء بعد ذهابه عنه، فقيل للمؤذن إذا قال في أذانه: الصلاة خير من النوم، ثم عاد إليه مرة أخرى فقالها: قد ثوَّب، أي ردد القول به مرة أخرى، وكذلك في الإقامة إذا قال: قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، مرتين.

[6] (باب ما يحقن بالأذان من الدماء)

[6] (باب ما يحقن بالأذان من الدماء) 156/ 610 - قال أبو عبد الله: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا إسماعيل بن جعفر، عن حميد، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا غزا بنا قوما لم يكن يغير حتى يصبح وينظر، فإن سمع أذانا كف عنهم وإن لم يسمع أذانا أغار عليهم. فيه بيان أن الأذان شعار لدين الإسلام، وأنه امر واجب لا يجوز تركه، ولو أن أهل بلد اجتمعوا على ترك الأذان وامتنعوا كان للسلطان قتالهم عليه. وقد اختلف أهل العلم فيمن ترك الأذان وحده في حضر أو سفر، فذهب أكثرهم إلى أنه إذا صلى بلا أذان ولا إقامة لم يعد الصلاة. وقال عطاء ومجاهد فيمن نسي الإقامة: يعيد الصلاة.

وقال الأوزاعي فيمن نسي الأذان والإقامة: يعيد ما دام في الوقت، فإن مضى الوقت فلا إعادة عليه.

[9] (باب الاستهام في الأذان)

[9] (باب الاستهام في الأذان) 157/ 615 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن سمي -مولى أبي بكر- عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا). قوله: لاستهموا، يريد القرعة، وإنما قيل في الإقراع الاستهام لأنها سهام يكتب عليها الأسماء، فمن وقع له منها سهم حاز الحظ المرسوم به. والتهجير: التبكير بصلاة الظهر. والهاجرة: نصف النهار.

[33] (باب احتساب الآثار)

[33] (باب احتساب الآثار) 158/ 655 - قال أبو عبد الله: حدثنا محمد بن عبد الله بن حوشب حدثنا عبد الوهاب، حدثنا حميد، عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا بني سلمة ألا تحتسبون آثاركم)؟ 159/ 656 - وزاد ابن أبي مريم، أخبرنا يحيى بن أيوب، حدثني حميد، حدثني أنس أن بني سلمة أرادوا أن يتحولوا عن منازلهم فينزلوا قريبا من النبي صلى الله عليه وسلم،

فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُعروا المدينة فقال: (ألا تحتسبون آثاركم)؟ قوله: يُعروا: معناه كره أن تصير دُورهم عراءً. والعراء: الفضاء من الأرض، وآثارهم: خطاهم.

[10] (باب الكلام في الأذان)

[10] (باب الكلام في الأذان) 160/ 616 - قال أبو عبد الله: حدثنا مسدد، قال: حدثنا حماد، عن أيوب وعبد الحميد صاحب الزيادي وعاصم الأحول عن عبد الله بن الحارث قال: خطبنا ابن عباس يوم رَزْغ، فلما بلغ المؤذن حي على الصلاة أمره أن ينادي: الصلاة في الرحال، فنظر القوم بعضهم إلى بعض، فقال: فعل هذا من هو خير منه، إنها عَزْمة. الرزغة: وحل شديد، وقد رزغ الرجل إذا ارتكم في الوحل فهو رزغ، وكذلك الردغة مثل الرزغة.

[15] (باب من انتظر الإقامة)

[15] (باب من انتظر الإقامة) 161/ 626 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري أخبرني عروة بن الزبير أن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سكت المؤذن بالأول من صلاة الفجر قام يركع ركعتين خفيفتين قبل صلاة الفجر بعد أن (يستبين) الفجر ثم اضجع [اضطجع] على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن للإقامة. قوله: سكت، يريد فرغ من الأذان بالسكوت.

[14] (باب كم بين الأذان والإقامة، ومن ينتظر الإقامة؟)

[14] (باب كم بين الأذان والإقامة، ومن ينتظر الإقامة؟) 162/ 624 - قال أبو عبد الله: حدثني إسحاق الواسطي، حدثنا خالد، عن الجريري، عن أبي بريدة، عن عبد الله بن المغفل المزني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بين كل أذانين صلاة لمن شاء). يريد بالأذانين: الأذان والإقامة، حمل أحد الاسمين على الآخر كقولهم: سيرة العمرين، وإنما هما أبو بكر وعمر، والأسودان للتمر والماء، وإنما الأسود أحدهما.

[21] (باب لا يسعى إلى الصلاة وليأت بالسكينة والوقار)

[21] (باب لا يسعى إلى الصلاة وليأت بالسكينة والوقار) 163/ 636 - قال أبو عبد الله: حدثنا آدم حدثنا ابن أبي ذئب حدثنا الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ح، وعن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة وعليكم السكينة والوقار ولا تسرعوا، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا). في قوله: (ما فاتكم فأتموا) دليل على أن ما أدركه المرء من صلاة الإمام فهو أول صلاته؛ لأن الإتمام إنما يكون في أمر قد مضى بعضه.

[29] (باب وجوب صلاة الجماعة)

[29] (باب وجوب صلاة الجماعة) 164/ 644 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب يحطب، ثم آمر بالصلاة ويؤذن لها، ثم آمر رجلا فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم، والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عَرْقا سمينا أو مِرْماتين حسنتين لشهد العشاء). العَرْق: العظم بما عليه من اللحم، وأما المرماتان: فإن أبا عبيد قال: يقال: إن المرماة ما بين ظلفي الشاة. قال أبو عبيد: وهذا حرف لا أدري ما وجهه إلا أنه هكذا يفسر. وقال غيرُ أبي عبيد: المرماة: سهم يتعلم عليه الرمي.

فأما قوله: حسنتين، فلا أدري (على أي شيء) يتأول معنى الحسن فيهما حتى يكون شرطا للإجابة إليه؟ إلا أن يكون ذلك على التفسير الأول الذي حكاه أبو عبيد، فإن أبا عمر أخبرني قال: أخبرنا السياري قال: سمعت أبا العباس محمد بن يزيد يقول: الحَسَن والحُسْن: العُظَيم الذي في المرفق مما يلي البطن، والقبح والقبيح: العظم الذي في المرفق مما يلي الكتف، قال: وأنشدني: الحسن والقبح في عضو من الجسد .... فوق الذراع وتحت المنكب العضد فيكون لعله أراد تشبيه أحد العظمين بالآخر، أعني المرماة، والعظم الذي في المرفق مما يلي البطن، إذ كان كل واحد

منهما عظماً عارياً من اللحم، ويكون معنى الكلام التقريع والتوبيخ. يقول: إن أحدكم يجيب إذا دُعي إلى ما هذا وصفه في الحقارة وعدم النفع، ولا يجيب إلى الصلاة. قلت: وهو شيء لا أحقه ولا أثق به والله أعلم بمعناه.

[38] (باب إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة)

[38] (باب إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة) 165/ 663 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن حفص بن عاصم، عن عبد الله بن مالكٍ بن بحينة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا (و) قد أقيمت الصلاة يصلي ركعتين، فلما انصرف لاث به الناس، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: آلصبحَ أربعا؟ آلصبح أربعا؟!

قوله: لاث به الناس، معناه أحاطوا به والتفوا حوله. قال العجاج: لاث به الأشاء والعبريُّ أي: لائثٌ، فقلب، كقولهم: هارٍ بمعنى هائر. وقوله: آلصبح أربعا، آلصبح أربعا؟ يريد أن الصلاة الواجبة إذا أقيمت لم يصل في زمانها غيرها من الصلوات.

[52] (باب متى يسجد من خلف الإمام)

[52] (باب متى يسجد من خلف الإمام) 166/ 690 - قال أبو عبد الله: حدثنا مسدد، حدثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، حدثني أبو إسحاق حدثني عبد الله بن يزيد، حدثني البراء -وهو غير كذوب- قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال: سمع الله لمن حمده، لم يحن أحد منا ظهره حتى يقع النبي صلى الله عليه وسلم ساجدا ثم نقع سجودا بعده. قوله: وهو غير كذوب، أخبرنا ابن الأعرابي، حدثنا عباس الدوري عن يحيى بن معين قال: قوله: وهو غير كذوب، لا يريد به البراء، لا يقال لرجل من أصحاب رسول الله

صلى الله عليه وسلم غير كذوب، وإنما أراد به عبدَ الله بن يزيد الذي روى عن البراء. قوله: وهو غير كذوب، لا يوجب تهمة في الراوي حتى يحتاج إلى أن ينفي عنه بهذا القول، إنما يوجب ذلك إثبات حقيقة الصدق (له) لتقع الوثيقة بقوله ويتأكد العلم بروايته، وهذا عادة الصحابة فيما يروونه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول يريدون إيجاب العمل به أو تأكيد العلم فيه كقول أبي هريرة في غير حديث: سمعت خليلي الصادق المصدوق. وقول عبد الله بن مسعود: حدثني الصادق المصدوق: أن النطفة إذا وقعت في الرحم الحديث. وهذا لا يوجب ظنة كانت فترفع بهذا القول أو تنفى بزيادة هذا الوصف، إنما هو نوع من الثناء، وضرب من ضروب التأكيد للشيء إذا اشتدت به العناية من القائل فيؤكده به.

[53] (باب إثم من رفع رأسه قبل الإمام)

[53] (باب إثم من رفع رأسه قبل الإمام) 167/ 691 - قال أبو عبد الله: حدثنا حجاج بن منهال، حدثنا شعبة عن محمد بن زياد، سمعت أبا هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أما يخشى أحدكم -أو لا يخشى أحدكم- إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يجعل الله رأسه رأس حمار أو صورته صورة حمار). هذا وعيد شديد، وذلك أن المسخ عقوبة لا تشبه العقوبات، فضرب المثل به ليتقي هذا الصنيع ويحذر. وكان ابن عمر لا يرى صلاة لمن فعل ذلك، فأما أكثر العلماء فإنهم لم يروا عليه إعادة الصلاة إذا فعل ذلك مع شدة الكراهية له والتغليظ فيه. وقالوا: إذا فعل ذلك كان عليه أن يعود إلى الركوع أو السجود حتى يرفع الإمام، وكان الأوزاعي يقول: عليه أن يعود فيمكث قدر ما ترك.

[42] (باب إذا حضر الطعام وأقيمت الصلاة)

[42] (باب إذا حضر الطعام وأقيمت الصلاة) 168/ 671 - قال أبو عبد الله: حدثنا مسدد، حدثنا يحيى، عن هشام، حدثنا أبي قال: سمعت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا وضع العشاء وأقيمت الصلاة فابدأوا بالعشاء). قوله: فابدأوا بالعشاء، لفظه عام والمراد به خاص، وإنما رخص في ذلك للصائم الذي تاقت نفسه إلى الطعام، أو الجائع الذي قد بلغ منه الجوع الضعف، لأنهما إذا قاما إلى الصلاة وفي أنفسهما الحاجة إلى الطعام لم يستوفيا شرائط الصلاة وحقوقها من الخشوع والإخلاص لمنازعة النفس الطعام، ولم يكن من عادة القوم الاستكثار من الأطعمة ونقل الألوان فتطول مدة الأكل ويفوت معه وقت الصلاة، إنما كانوا يتناولون الخفيف من الطعام شربة لبن أو كف تمر أو نحو ذلك. فأما من لم يكن به الجوع الغالب فإنه لا يؤخر الصلاة للطعام بدليل الحديث الآخر.

[43] (باب إذا دعي الإمام إلى الصلاة وبيده ما يأكل)

[43] (باب إذا دعي الإمام إلى الصلاة وبيده ما يأكل) 169/ 675 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، حدثنا إبراهيم، عن صالح، عن ابن شهاب، أخبرني جعفر بن عمرو بن أمية أن أباه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل ذراعا يحتز منها، فدعي إلى الصلاة فقام وطرح السكين فصلى ولم يتوضأ. قوله: يحتز من الحز، وهو قطع يتقدر بمبلغ الحاجة، ومنه الحُزة: وهي القطعة من اللحم ونحوه. وفيه بيان جواز قطع اللحم المطبوخ والمشوي بالسكين، وإنما المكروه الذي روي فيه النهي قطع الخبز بالسكين. وفيه بيان أن أكل ما غيرته النار لا يوجب وضوءاً.

[57] (باب يقوم عن يمين الإمام بحذائه سواء إذا كانا اثنين)

[57] (باب يقوم عن يمين الإمام بحذائه سواء إذا كانا اثنين) 170/ 697 - قال أبو عبد الله: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا شعبة، عن الحكم قال: سمعت سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: بت عند خالتي ميمونة، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء، ثم جاء فصلى أربع ركعات ثم نام، ثم قام، فجئت فقمت عن يساره فجعلني عن يمينه، فصلى خمس ركعات، ثم صلى ركعتين، ثم نام حتى سمعت غطيطه أو قال خطيطه، ثم خرج إلى الصلاة. الغطيط: صوت يسمع من تردد النفس كهيئة صوت المخنوق، ومنه غطيط البَكْر، والخطيط قريب منه، والغين والخاء متقاربا المخرج، وقد مر ذكر معاني هذا الحديث فيما تقدم.

[63] (باب من شكا إمامه إذا طول)

[63] (باب من شكا إمامه إذا طوَّل) 171/ 705 - قال أبو عبد الله: حدثنا آدم بن أبي إياس، حدثنا شعبة، حدثنا محارب بن دثار قال: سمعت جابر بن عبد الله الأنصاري قال: أقبل رجل بناضحين وقد جنح الليل، فوافى معاذا يصلي فترك ناضحه وأقبل إلى معاذ فقرأ بسورة البقرة أو النساء، فانطلق الرجل وبلغه أن معاذا نال منه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فشكا إليه معاذا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا معاذ أفتان أنت؟ أو قال: أفاتن أنت؟ ثلاث مرات، فلولا صليت بسبح اسم ربك الأعلى، والشمس وضحاها، والليل إذا يغشى، فإنه يصلي وراءك الكبير والضعيف وذو الحاجة. قوله: جنح الليل، معنا [معناه] أقبل بظلمته. يقال: جنح جنوحا، ومنه جنح الليل، وهو إقبال ظلمته. والناضح: البعير الذي يُسنَى عليه. وقوله: أفتان أنت؟ فإن الفتنة كثيرة التصرف في الاستعمال، ومعناها هاهنا صرف الناس عن الدين وحملهم على الضلال، قال:

الله عز وجل: {ما أنتم عليه بفاتنين إلا من هو صال الجحيم} أي بمضلين. وقوله: فلولا صليت بسبح اسم ربك الأعلى، يريد: هلا قرأت، كقوله عز وجل: {فلو إن كنتم غير مدينين ترجعونها إن كنتم صادقين}. وقوله: {فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون}، والمعنى في هذا كله فهلا. وفيه من العلم أنه جعل الحاجة عذرا في تخفيف الصلاة كالكبر والضعف المانعين من تطويلها.

[65] (باب من أخف الصلاة عند بكاء الصبي)

[65] (باب من أخفَّ الصلاةَ عند بكاء الصبي) 172/ 707 - قال أبو عبد الله: حدثنا إبراهيم بن موسى، أخبرنا الوليد، حدثنا الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إني لأقوم في الصلاة، أريد أن أطول، فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي كراهة أن أشق على أمه. استدلوا من هذا على جواز تطويل الركوع والمد منه إذا أحس بإقبال رجل إلى الصلاة ليدركها معهم، وذلك أنه أجاز الحذف من الصلاة بسبب الصبي، فلأن يجوِّز يسير المكث ليدركها القاصد للصلاة والساعي إليها أولى.

[73] (باب إقبال الإمام على الناس عند تسوية الصفوف)

[73] (باب إقبال الإمام على الناس عند تسوية الصفوف) 173/ 719 - قال أبو عبد الله: حدثنا أحمد بن أبي رجاء، حدثنا معاوية بن عمرو، حدثنا زائدة بن قدامة حدثنا حميد الطويل حدثنا أنس قال: أقيمت الصلاة فأقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه فقال: (أقيموا صفوفكم وتراصوا فإني أراكم من وراء ظهري). قوله: تراصوا، معناه: تدانوا وتضاموا حتى يتصل ما بينكم ولا ينقطع، ومنه قول الله تعالى: {كأنهم بنيان مرصوص}.

[81] (باب صلاة الليل)

[81] (باب صلاة الليل) 174/ 730 - قال أبو عبد الله: حدثنا إبراهيم بن المنذر، حدثنا ابن أبي فديك حدثنا ابن أبي ذئب، عن المقبري، عن أبي سلمة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له حصير يبسطه بالنهار ويحتجره بالليل، فآب إليه ناس فصفوا وراءه. قوله: يحتجره، أي يتخذه شبه الحجرة فيصلي فيها. وقوله: آب، أي جاء الناس من كل أوب وناحية، يقال من هذا: آب أوبا، ومن رجوع المسافر أوبا وإيابا في الأكثر من الكلام، والأصل فيهما الرجوع، وكان صلى الله عليه وسلم يقول: (توبا توبا، أو أوبا أوبا، لا يغادر علينا حوبا)، فالأوب معناه الرجوع إلى الله عز وجل، قال الله عز وجل: {فإنه كان للأوابين غفورا}، أي الراجعين بالتوبة إليه، والله أعلم.

[80] (باب إذا كان بين الإمام وبين القوم حائط أو سترة)

[80] (باب إذا كان بين الإمام وبين القوم حائط أو سترة) 175/ 729 - قال أبو عبد الله: حدثنا محمد، أخبرنا عبدة، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن عمرة، عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل في حجرته، فقام أناس يصلون بصلاته، صنعوا ذلك ليلتين أو ثلاثا حتى إذا كان بعد ذلك جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يخرج، فلما أصبح الناس ذكر ذلك الناس فقال: (إني خشيت أن تكتب عليكم صلاة الليل). فإن قيل: قد أكمل الله الفرائض ورد عدد الخمسين منها إلى الخمس، فكيف كان يجوز دخول الزيادة عليها؟ قيل: إن صلاة الليل كانت مكتوبة على النبي صلى الله عليه وسلم واجبة، وأفعاله التي تتصل بالشريعة واجب على الأمة

الائتساء به فيها، وكان أصحابه إذا رأوه يواظب على فعل في وقت معلوم من الليل أو النهار حتى يتكرر ذلك منه، يقتدون به ويرونه واجبا، فترك صلى الله عليه وسلم الخروج إليهم في الليلة الرابعة، وترك الصلاة فيها لئلا يدخل ذلك الفعل منه في حد الواجبات المكتوبة عليهم من طريق الأمر بالاقتداء به. والزيادة إنما يتصل وجوبها عليهم من جهة وجوب الاقتداء بأفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا من جهة إنشاء فرض مستأنف زائد على الخمس، وهذا كما يوجب الرجل على نفسه صلاة نذر فتجب عليه، ولا يدل ذلك على زيادة جملة الشرع المفروض في الأصل. وفيه وجه آخر: وهو أن الله سبحانه فرض الصلاة أول ما فرضها خمسين، ثم إنه شفع رسوله صلى الله عليه وسلم فحط معظمها وجعل عزائمها خمسا تخفيفا عن أمته من أجل شفاعته ومسألته، فإذا عادت الأمة فيما استوهبت والتزمت ما كانت استعفت منه وتبرعت بالعمل به لم يستنكر أن يثبت فرضا عليهم، وقد ذكر الله سبحانه عن فريق من النصارى أنهم ابتدعوا رهبانية ونسكا ما كتبها الله عليهم، ثم لما قصروا فيها لحقهم اللائمة في قولهم: {فما رعوها حق رعايتها}، فأشفق صلى الله عليه وسلم أن يكون سبيلهم سبيل أولئك، فقطع العمل به تخفيفا عن أمته، والله أعلم.

[89] (باب ما يقول بعد التكبير)

[89] (باب ما يقول بعد التكبير) 176/ 744 - قال أبو عبد الله: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا عبد الواحد بن زياد، حدثنا عمارة بن القعقاع، حدثنا أبو زرعة، حدثنا أبو هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسكت بين التكبير والقراءة إسكاتة -قال: أحسبه هنية- فقلت: بأبي وأمي يا رسول الله: إسكاتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال: أقول: [اللهم] باعد بيني وبين خطاياي، كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد). قوله: إسكاتة، وزنه إفعالة، من السكوت، ومعناها سكوت يقتضي بعده كلاما أو قراءة مع قصر المدة فيه، وإنما أرادوا بهذا النوع من السكوت ترك رفع الصوت بالكلام. ألا تراه

يقول: ما تقول في إسكاتك؟ وقوله: اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد فإنها أمثال، ولم يرد أعيان هذه المسميات، وإنما أراد بها التوكيد في التطهير من الخطايا والذنوب والمبالغة في محوها عنه، والثلج والبرد ماءان لم تمسهما الأيدي ولم تمتهنهما بمَرْس واستعمال، فكان ضرب المثل بهما أوكد في بيان معنى ما أراده من تطهير الذنوب، والله أعلم. وفيه مستدل لمن ذهب إلى المنع من التطهر بالماء المستعمل؛ لأنه يقول: إن منزلة الخطايا المغسولة بالماء الذي يتطهر به بمنزلة الأوضار الحالة في المغسولات المانعة من التطهر بها.

[90] (باب)

[90] (باب) 177/ 745 - قال أبو عبد الله: قال ابن أبي مريم: أخبرنا نافع بن عمر، حدثني ابن أبي مليكة، عن أسماء بنت أبي بكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (دنت مني النار، فإذا امرأة -حسبت أنه قال- تخدشها هرة، قلت: ما شأن هذه؟ قالوا: حبستها حتى ماتت هزلا، لا أطعمتها ولا أرسلتها تأكل. قال نافع: حسبت أنه قال: من خشيش أو خشاش. وقوله: خشيش، ليس بشيء، إنما هو خشاش -مفتوحة الخاء- وهو حشرات الأرض وهوامها، فأما الخِشاش -مكسورة الخاء- فهو العود الذي يُجعل في أنف البعير.

[91] (رفع البصر إلى الإمام في الصلاة)

[91] (رفع البصر إلى الإمام في الصلاة) 178/ 748 - قال أبو عبد الله: حدثنا إسماعيل، حدثني مالك عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: خسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى، قالوا: يا رسول الله، رأيناك تناولت شيئا في مقامك، ثم (رأيناك) تكعكعت، قال: (إني رأيت الجنة فتناولت منها عنقودا، ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا). قوله: تكعكعت معناه: تأخرت، وأصله في الجبن. يقال: كع الرجل عن الأمر، إذا جبن عنه، وتكعكع أصله تكعع على وزن تفعل، فأدخل الكاف لئلا يجتمع بين حرفين من نوع واحد فيثقل. ويقال أيضا: كاع الرجل يكيع بمعنى جبن.

[95] (وجوب القراءة للإمام في الصلوات كلها في الحضر والسفر، وما يجهر فيها وما يخافت)

[95] (وجوب القراءة للإمام في الصلوات كلها في الحضر والسفر، وما يجهر فيها وما يخافت) 179/ 755 - قال أبو عبد الله: حدثنا موسى، حدثنا أبو عوانة حدثنا عبد الملك بن عمير، عن جابر بن سمرة قال: شكا أهل الكوفة سعدا إلى عمر حتى ذكروا أنه لا يحسن أن يصلي، فأرسل إليه فقال: يا أبا إسحاق إن هؤلاء يزعمون أنك لا تحسن تصلي. قال: أما أنا والله فإني كنت أصلي بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أخرم عنها، أصلي صلاة العشاء فأركد في الأوليين وأخف في الأخريين. قال: ذاك الظن بك يا أبا إسحاق. ما أخرم: معناه لا أنقص منها، وأصل الخرم القطع. وقوله: أركد معناه أطيل القيام، والركود: طول اللبث.

ومنه قيل: ماء راكد، إذا كان لا يجري، والفعل المختار هو تطويل إحدى الركعتين الأوليين من الظهر والعشاء والحذف من الأخرى، وتخفيف الأخريين وفي العصر كذلك، وفي إحدى ركعتي صلاة الفجر والمغرب كذلك، وقد ذهب بعض العلماء إلى التسوية بين الأوليين في الطول والأخريين في القصر، والقول الأول أشبه بالسنة وأصح، وقد روى أبو قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ في الركعتين الأوليين من صلاة الظهر بفاتحة الكتاب وسورة يطول في الأولى ويقصر في الثانية، وكذلك كان يفعل في العصر، وكان يطول في الركعة الأولى من صلاة الصبح ويقصر في الثانية، وقد ذكر أبو عبد الله قال: حدثناه أبو نعيم حدثنا شيبان، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه.

[98] (باب القراءة في المغرب)

[98] (باب القراءة في المغرب) 180/ 764 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة، عن عروة بن الزبير، عن مروان بن الحكم قال: قال لي زيد بن ثابت: ما لك تقرأ في المغرب بقصار المفصل، وقد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بطولى الطوليين؟ قلت: أصحاب الحديث قلما يقيمون هاتين الكلمتين يروون بطُوَل [بطِوَل] الطوليين، والطول: الحبل وليس هذا بموضعه، وإنما هو بطُولَى الطوليين، يريد أطول السورتين، وطولى وزنه فعلى تأنيث

أطول، والطوليين تثنية الطولى ويقال: إنه أراد به سورة الأعراف، فإنها أطول من صاحبتها الأنعام، وهذا يدل على أن للمغرب وقتين، كما روي في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.

[95] (باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها في الحضر والسفر، وما يجهر فيها وما يخافت)

[95] (باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها في الحضر والسفر، وما يجهر فيها وما يخافت) 181/ 757 - قال أبو عبد الله: حدثني محمد بن بشار، حدثنا يحيى، عن عبيد الله، حدثني سعيد بن أبي سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد، فدخل رجل فصلى، فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فرد وقال: (ارجع فصل، فإنك لم تصل)، فرجع فصلى كما صلى، ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ارجع فصل فإنك لم تصل -ثلاثا- قال: والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره فعلمني، فقال: (إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع حتى تعتدل قائما، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، وافعل في صلاتك كلها).

[122] (باب أمر النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا يتم ركوعه بالإعادة)

[122] (باب أمر النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا يتم ركوعه بالإعادة) 182/ 793 - قال أبو عبد الله: وحدثناه مسدد، حدثنا يحيى بن سعيد، عن عبيد الله بإسناده سواء، وقال: ثم افعل ذلك في صلاتك كلها). قوله: (إذا قمت إلى الصلاة فكبر) أمر منه بأن يفتتح صلاته بالتكبير وأمره على الوجوب. وفي قوله: (ثم افعل ذلك في صلاتك كلها) دليل على أن عليه أن يقرأ في كل ركعة، كما أن عليه أن يركع ويسجد في كل ركعة، وهو قول أكثر العلماء. وقد روي عن علي من طريق الحارث أنه قال: يقرأ في الأوليين ويسبح في الأخريين، والحارث مرغوب عن روايته.

وقد ثبت من طريق عبيد الله بن أبي رافع عن علي أنه كان يقرأ في الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة، وفي الأخريين بفاتحة الكتاب، وطريقه في السند مرضي. وفيه إيجاب الطمأنينة في الركوع والسجود والاعتدال عند الرفع منهما. وقوله: (ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن) معناه الإشارة إلى فاتحة الكتاب لمن أحسنها، والقرآن وإن كان كله مما قد يسره الله عز وجل فتيسر، فإن بيان النبي صلى الله عليه وسلم قد عيَّن ما لا تجزئ الصلاة إلا به من القرآن، وهو قوله: لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب)، وهذا كقوله عز وجل: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج

فما استيسر من الهدي}. ثم إن بيان السنة قد عين ذلك وهو شاة فما فوقها من بهيمة الأنعام.

[95] (باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها في الحضر والسفر وما يجهر فيها وما يخافت)

[95] (باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها في الحضر والسفر وما يجهر فيها وما يخافت) 183/ 756 - قال أبو عبد الله: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، حدثنا الزهري، عن محمود بن الربيع، عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب).

قلت: عموم هذا القول يأتي على كل صلاة يصليها المرء وحده أو من وراء الإمام، أسر إمامه القراءة أو جهر بها، ولم يذكر أبو عبد الله في هذا الباب غير هذا الحديث، لم يذكر فيه حديث عبادة؛ لأن رواية [راويه] محمد بن إسحاق بن يسار وهو لا يدخل

في شرطه، ولم يذكر أيضا ما يعارض هذا الحديث في جواز ترك المأموم القراءة؛ لأن ذلك لا يصح وإسناده لا يتصل.

[105] (باب الجهر بقراءة صلاة الفجر)

[105] (باب الجهر بقراءة صلاة الفجر) 184/ 774 - قال أبو عبد الله: حدثنا مسدد، حدثنا إسماعيل حدثنا أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قرأ النبي صلى الله عليه وسلم فيما أمر وسكت فيما أمر {وما كان ربك نسيا}، {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة}. قوله: وسكت فيما (أمر) يريد أنه أسرَّ القراءة لا أنه تركها، فإنه صلى الله عليه وسلم كان لا يزال إماما فلا بد له من القراءة سرا أو جهرا. ومعنى قوله: {وما كان ربك نسيا} وتمثله به في هذا الموضع هو أنه لو شاء أن ينزل ذكر بيان أفعال الصلاة وأقوالها وهيئاتها حتى يكون قرآنا متلوا لفعل، ولم يترك ذلك عن نسيان، لكنه وكل الأمر

في بيان ذلك إلى رسوله، ثم أمر بالاقتداء به والائتساء بفعله، وذلك معنى قوله: {لتبين للناس ما نزل إليهم}. وهذا في نوع ما أنزل من القرآن مجملا كالصلوات التي أجمل ذكر فرضها، ولم يبين عدد ركعاتها، وكيفية هيآتها، وما تجهر القراءة فيه مما تخافت، فتولى النبي صلى الله عليه وسلم بيان ذلك، فاستند بيانه إلى أصل الفرض الذي أنزله الله عز وجل، ولم تختلف الأمة في أن أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم التي هي بيان مجمل الكتاب واجبة، كما لم يختلفوا في أن أفعاله التي هي أوطارُ نفسه من نوم وطعام وإتيان أهل في نحو ذلك من الأمور غير واجبة، وإنما اختلفوا في أفعاله التي تتصل بأمر الشريعة مما ليس ببيان لمجمل الكتاب، والذي يذهب إليه أنها واجبة. وقد روي عن ابن عباس أيضا أنه قال: ما أحل الله فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو {وما كان ربك نسيا} وكثيرا (ما) يحتج به أهل الظاهر، ونفاة القياس، ومن يرى أصل الأشياء على الإباحة حتى يقوم دليل الحظر.

وقوله: ما سكت عنه فهو عفو ليس في حق العموم والشمول على ما يذهبون إليه، وإنما هو في نوع خاص من الأشياء دون نوع، وهو كل شيء كان لهم فيه عادة جارية من حوائج الأطعمة والأشربة وما أشبههما، فما نص عليه منهما بالتحليل أو التحريم فهو البيان الشافي الذي لا يبقى في النفوس معه ريب، وما سكت عن ذكره فهو معفو لهم عنه، متروك على ما جرت به عاداتهم، وذلك كما روي عن (تلب) العنبري قال: صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فما سمعت منه لحشرات الأرض تحريما، يعني الضب ونحوه من الحشرات، يريد أنه صلى الله عليه وسلم قد كان يعرف من عاداتهم أنهم يأكلونها فلم يعرض لها بتحريم فكان سبيله العفو المعقول منه الإباحة، فأما ما لم يتقدم للقوم فيه عادة من

استباحة لشيء منها فقررهم النبي صلى الله عليه وسلم عليها، فليس من هذه الجملة، وهو موقوف على دليله لا يحكم فيه بعفو، لأنه حكم به من غير دليل ولا برهان، وحقيقة معنى هذا الكلام هو أن ما سكت عن إنكاره من عاداتهم فهو عفو، فيكون السكوت في مثل هذا دليلاً على الإباحة.

[106] (باب الجمع بين السورتين في الركعة)

[106] (باب الجمع بين السورتين في الركعة) 185/ 775 - قال أبو عبد الله: حدثنا آدم بن أبي إياس قال: حدثنا شعبة، حدثنا عمرو بن مرة قال: سمعت أبا وائل قال: جاء رجل إلى ابن مسعود فقال: قد قرأت المفصل الليلة في ركعة، فقال: هذًّا كهذ الشعر. الهذ: متابعة القراءة في سرعة كأنه كره ذلك وأنكره، واختلفوا في أول المفصل فقال بعضهم: أول المفصل سورة القتال، ويقال لها سورة محمد. وقال آخرون: أول المفصل سورة قاف، وقد روي ذلك في حديث مرفوع، وإنما سميت قصار السور مفصلا لكثرة الفصول التي تقع بينها من آية التسمية.

[111] (باب جهر الإمام بالتامين)

[111] (باب جهر الإمام بالتامين) 186/ 781 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن يوسف قال: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن أنهما أخبراه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أمن الإمام فأمنوا، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه). قلت: في قوله: (إذا أمن الإمام فأمنوا، دليل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجهر بآمين، ولولا ذلك لم يكن يصح معنى التوقيت فيه؛ لأنه قد يختلف فيتقدم تأمين القوم ويتأخر والمأموم مأمور بالاتباع. وقد روى وائل بن حجر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ {ولا الضالين} قال: {آمين} ويرفع بها

صوته إلا أن إسناده ليس من شرط أبي عبد الله. وقوله: (فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة) معطوف على مضمر، وهو الخبر عن تأمين الملائكة كأنه قال: إذا قال الإمام آمين، فقولوا: آمين كما تقوله الملائكة، فإن من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه، ولولا ذلك لم يصح تعقيبه بما عقبه به من حرف الفاء من قوله (فإنه) وقد روي تأمين الملائكة في هذا الحديث من رواية الأعرج عن أبي هريرة.

[112] (باب فضل التأمين)

[112] (باب فضل التأمين) 187/ 782 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن يوسف قال: أخبرنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قال أحدكم آمين وقالت الملائكة في السماء آمين فوافقت إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه).

[113] (باب جهر المأموم بالتأمين)

[113] (باب جهر المأموم بالتأمين) 188/ 782 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن سمي -مولى أبي بكر- عن أبي صالح، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قال الإمام: ولا الضالين، فقولوا: آمين). قلت: وهذا لا يخالف قوله: (إذا أمن الإمام فامنوا)، لأن هذه الأقوال قد يتقارب مدى الوقت فيها، فنص بالتعيين مرة، ودل بالتقدير أخرى، وكأنه قال: إذا قال الإمام {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} وأمن الإمام فقولوا: آمين، بدلالة حديث سعيد بن المسيب وأبي سلمة وهما أحفظ من أبي صالح وأفقه، وقد يحتمل أن يكون الخطاب في حديث أبي صالح لمن تباعد عن الإمام، فكان بحيث لا يسمع التأمين؛ لأن جهر الإمام بالتأمين أخفض من قراءته على كل حال، فقد يسمع قراءته من لا يسمع تأمينه إذا كثرت الصفوف وتكاثفت الجموع.

وفي آمين لغتان: مد الهمز وقصرها، وفي تفسيره قولان كلاهما متقاربان، قيل: معناه اللهم استجب، وقيل: كذلك فليكن. ومن عادة العرب إذا سمعت ما تتمنى أن تقول: اللهم آمين وبَسْلًا.

[114] (باب إذا ركع دون الصف)

[114] (باب إذا ركع دون الصف) 189/ 783 - قال أبو عبد الله: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا همام، عن الأعلم -وهو زياد- عن الحسن، عن أبي بكرة أنه انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو راكع قبل أن يصل إلى الصف، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: (زادك الله حرصا ولا تعد). في هذا الحديث دليل على أن قيام المأموم من وراء الإمام وحده لا يفسد صلاته، وذلك [أن] الركوع جزء من الصلاة، فإذا أجزأه منفردا عن القوم أجزأه سائر أجزائها كذلك، إلا أنه مكروه لقوله: ولا تعد، ونهيه إياه عن العود لمثله إرشاد له في المستقبل إلى ما هو أفضل، ولو كان نهي تحريم لأمره بإعادة الصلاة، والله أعلم. وكان الزهري والأوزاعي يقولان في الرجل يركع دون الصف: إن كان قريبا من الصف أجزأه، وإن كان بعيداً لم يجزئه.

وكان أحمد بن حنبل لا يرى صلاة المنفرد جائزة وراء الصف، ذهب فيه إلى حديث وابصة، ولم يذكره أبو عبد الله في كتابه ولم يعبأ به، وأجاز مالك والشافعي صلاة المنفرد خلف الإمام وهو قول أصحاب الرأي.

[119] (باب إذا لم يتم الركوع)

[119] (باب إذا لم يتم الركوع) 190/ 791 - قال أبو عبد الله: حدثنا حفص بن عمر، حدثنا شعبة، عن سليمان، قال: سمعت زيد بن وهب قال: راى حذيفة رجلا لا يتم الركوع والسجود فقال: ما صليت، ولو مت مت على غير الفطرة التي فطر الله محمدا عليها صلى الله عليه وسلم. معنى الفطرة في هذا الحديث: الدين والملة، وإنما أراد بهذا الكلام توبيخه وتبكيته على سوء فعله ليرتدع في المستقبل من صلاته عن مثل فعله كقوله صلى الله عليه وسلم: (بين العبد وبين الكفر

ترك الصلاة) وكقوله: (من ترك الصلاة كفر)، وإنما هو توبيخ لفاعله وتخويف له من الكفر، أي سيؤديه ذلك إليه إذا تهاون بالصلاة، ولم يرد به الخروج عن الملة والبراءة من الدين، والله أعلم. يدل على صحة ما تأولناه حديث المُخدَجي أنه قال لعبادة بن الصامت: يا أبا الوليد إن أبا محمد يزعم أن الوتر حق قال: وكان أبو محمد رجلا من الأنصار له صحبة فقال عبادة: كذب

أبو محمد، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من جاء بالصلوات فأكملهن ولم ينقص من حقهن شيئا، جاء وله عند الله عهد أن لا يعذبه، ومن جاء بهن وقد انتقص من حقهن شيئا جاء وليس له عند الله عهد، إن شاء رحمه وإن شاء عذبه.

حدثناه مكرم بن أحمد (حدثنا يحيى بن أبي طالب حدثنا عبد الوهاب بن عطاء حدثنا محمد بن عمرو) قال: حدثنا محمد بن يحيى بن حبان عن المخدجي، هذا كان في كتاب أبي عبد الله الكرماني. فلو كان يكفر المرء بانتقاصه الصلاة وتركه توفية حقوقها لم يجز

له أن يجعل أمره إلى المشيئة إن شاء رحمه وإن شاء عذبه، وقد تكون الفطرة بمعنى السنة، كما جاء: خمس من الفطرة، فذكر السواك والمضمضة وأخواتهما. قلت: وترك تمام الركوع وأفعال الصلاة على وجهين: أحدهما: إيجازها وتقصير مدة اللبث فيها، وليس هو المراد من الحديث. والوجه الآخر: الإخلال بأصولها واخترامها حتى لا تقع أشكالها على الصور التي تقتضيها أسماؤها في حق الشريعة، وهذا النوع هو الذي أراده حذيفة والله أعلم.

[128] (باب يهوي بالتكبير حين يسجد)

[128] (باب يهوي بالتكبير حين يسجد) 191/ 804 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو اليمان قال: أخبرنا شعيب عن الزهري قال: أخبرني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يرفع رأسه يقول: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، يدعو لرجال فيسميهم بأسمائهم فيقول: اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد

وطأتك على مضر واجعلها عليهم (سنين) كسني يوسف. وأهلُ المشرق يومئذ من مضر مخالفون له. قوله: (سمع الله لمن حمده) معناه الدعاء بالاستجابة لمن دعاه وحمده وأثنى عليه، ولذلك أتبعه قول: (ربنا ولك الحمد). وقد يقال: إنه دعاء من الإمام لمن وراءه من القوم فإنهم يقولون: ربنا ولك الحمد. ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ بك من دعاء لا يسمع)، أي لا يقبل ولا يستجاب، وفيه إثبات القنوت وأن موضعه عند الرفع من الركوع. وفيه أن تسمية الرجال بأسمائهم وأسماء آبائهم فيما يدعا لهم وعليهم لا تفسد الصلاة. وقوله: (اللهم اشدد وطأتك على مضر)، فإن الوطأة: البأس، والعقوبة، وهي ما أصابهم من الجوع والشدة، ولذلك

شبهها بسني يوسف القحطة، وأصله من الوطء الذي هو الإصابة بالرجل وشدة الاعتماد فيها، وقد يوصف السلطان بالعسف وسوء السيرة فيقال: هو شديد الوطأة، ومنه قول الشاعر: ووطئتنا وطأ على حنق .... وطء المقيد نابتَ الهَرْمِ

[129] (باب فضل السجود)

[129] (باب فضل السجود) 192/ 806 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب عن الزهري، أخبرني سعيد بن المسيب وعطاء بن يزيد الليثي أن أبا هريرة أخبرهما أن الناس قالوا: يا رسول الله: هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: هل تمارون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: فهل تمارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا. قال: فإنكم ترونه كذلك، يحشر الناس يوم القيامة، فيقول: من كان يعبد شيئا فليتبع، فمنهم من يتبع الشمس، ومنهم من يتبع القمر، ومنهم من يتبع الطواغيت. وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها فيأتيهم الله فيقول: أنا ربكم. فيقولون: هذا مكاننا حتى ياتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم الله فيقول: أنا ربكم. فيقولون: أنت ربنا، فيدعوهم فيضرب الصراط بين ظهراني جهنم، فأكون أول من يجوز من الرسل بأمته، ولا يتكلم أحد يومئذ إلا الرسل، وكلام الرسل يومئذ: اللهم سلم سلم، وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان، غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلا الله، تخطف الناس بأعمالهم، فمنهم من يوبق بعمله، ومنهم من يخردل ثم ينجو، حتى إذا أراد الله رحمة من أراد من أهل النار، أمر الملائكة أن يخرجوا من كان يعبد الله، فيخرجونهم قد امتحشوا، فيصب عليهم ماء الحياة، فينبتون كما تنبت الحبة في

حميل السيل. ثم يفرُغ الله من القضاء بين العباد، قال: ويبقى رجل بين الجنة والنار -وهو آخر أهل الجنة دخولا الجنة- مقبلٌ بوجهه قبل النار. فيقول: يا رب اصرف وجهي عن النار، قد قشبني ريحها وأحرقني ذكاؤها .. وساق الحديث. قوله: (هل تَمارَون)؟ من المرية وهي الشك في الشيء والاختلاف فيه، وأصله: تتمارون فأسقط إحدى التاءين. وأما قوله: (فيأتيهم الله) إلى تمام الفصل، فإن هذا موضع يحتاج فيه الكلام إلى تأويل وتخريج، وليس ذلك من أجل أننا ننكر رؤية الله تعالى، بل نثبتها، ولا من أجل أنا ندفع بما جاء في الكتاب وفي أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم من ذكر المجيء والإتيان كقوله عز وجل: {وجاء ربك والملائكة صفا صفا} وكقوله: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة) وما أشبههما من الآي، غير أنا لا نكيف ذلك، ولا نجعله حركة وانتقالا كمجيء الأشخاص وإتيانها، فإن ذلك من نعوت الحدث، وتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. ويجب أن يعلم أن الرؤية التي هي ثواب الاولياء وكرامة لهم في الجنة غير هذه الرؤية المذكورة في مقامهم يوم القيامة؛ لأن في خبر

صهيب أن أهل الجنة إذا دخلوا الجنة نادى مناد: ألا إن لكم عند الله موعدا؟ فيقولون: ألم يبيض وجوهنا، ألم ينجنا من النار، ألم يدخلنا الجنة، فيتجلى لهم الرب تبارك وتعالى فيرونه، الحديث. وإنما تعريضهم لهذه الرؤية امتحان من الله عز وجل لهم يقع به التمييز بين من عبد الله تعالى وبين من عبد الشمس والقمر والطواغيت، فيتبع كل من الفريقين معبوده، وليس يُنكر أن يكون الامتحان إذ ذاك يعد قائما، وحكمه على الخلق جاريا، حتى يفرغ من الحساب ويقع الجزاء بما يستحقونه من الثواب والعقاب، ثم ينقطع إذا حقت الحقائق واستقرت أمور العباد قرارتها. ألا ترى قوله تعالى: {يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون} فامتحنوا هناك بالسجود، وجاء في الحديث: (إن

المؤمنين يسجدون وتبقى ظهور المنافقين طبقا واحدا). وتخريج معنى إتيان الله في هذا إياهم أنه يشهدهم رؤيته ليثبتوه، فتكون معرفتهم له في الآخرة عيانا، كما كان اعترافهم بربوبيته في الدنيا علما واستدلالا، ويكون طروء الرؤية بعد أن لم تكن بمنزلة إتيان الآتي من حيث لم يكونوا شاهدوه فيه قبل. ويشبه أن يكون -والله أعلم- إنما حجبهم عن تحقيق الرؤية في الكَرَّة الأولى حتى قالوا: هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، من أجل من معهم من المنافقين الذين لا يستحقون الرؤيةن وهم عند ربهم محجوبون، فلما تميزوا عنهم ارتفع الحجب فقالوا عندما رأوه: أنت ربنا، وقد يحتمل أن يكون ذلك قول المنافقين دون المؤمنين، وهذا وإن لم يكن مذكورا في الحديث فالمعنى يرشد إليه والفحوى تدل عليه. وقد يستدل على المراد بسياق الكلام وبمقدماته وبفحواه، كما يستدل

بصريح الاسم وبيان اللفظ، وكل وقت وزمان أو حال أو مقام حكم الامتحان فيه قائم، فللاجتهاد والاستدلال فيه مدخل. وقد قال إبراهيم صلوات الله عليه حين رأى الكوكب {هذا ربي}، ثم تبين فسادَ هذا القول لما رأى القمر أكبر جِرما وأبهر نورا، فلما رأى الشمس وهي أعلاها في منظر العين وأجلاها للبصر وأكثرها ضياء وشعاعا قال: {هذا ربي هذا أكبر}، فلما رأى أفولها وزيالها وتبين أنها محل للحوادث والتغييرات تبرأ منها كلها، وانقطع عنها إلى رب هو خالقها ومنشئها لا تعترضه الآفات، ولا تحله الأعراض والتغييرات. وقد روى أبو عبد الله هذا الحديث في بعض أبواب هذا الكتاب من طريق معمر عن الزهري بزيادة لفظة لم يذكرها في رواية شعيب بن أبي حمزة عن الزهري.

كتاب الرقاق

كتاب الرقاق [52] (باب الصراط جسر جهنم) 193/ 6573 - قال أبو عبد الله: حدثنا محمود قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عطاء بن يزيد عن أبي هريرة قال: قال ناس: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا. قال: فهل تضارون في القمر ليلة البدر ليس فيها سحاب؟ قالوا: لا يا رسول الله. قال: فإنكم ترونه كذلك يجمع الله الناس فيقول: من كان يعبد شيئا فليتبعه، فيتبع من كان يعبد الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها، فيأتيهم الله في غير الصورة التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم. فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا أتانا ربنا عرفناه، فيأتيهم في الصورة التي يعرفون فيقول: أنا ربكم.

فيقولون: نعم أنت ربنا ويتبعونه، وساق الحديث. وهذا الحديث وما يتلوه من طريق حفص بن ميسرة من رواية الفربري ليس من رواية ابن معقل. قلت: ورواه أيضا من غير هذا الطريق قال: حدثناه محمد بن عبد العزيز قال: حدثنا حفص بن ميسرة، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري وذكر القصة فقال: إذا كان يوم القيامة أذن مؤذن ليتبع كل أمة ما كانت تعبد، فلا يبقى من كان يعبد غير الله من الأصنام والأنصاب إلا يتساقطون في النار، حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله بر أو فاجر وغُبَّرات أهل (الكتاب)، وذكر الحديث إلى أن قال: يأتيهم في أدنى صورة من التي رأوه فيها، وساق بقية الحديث.

قلت: أما قوله: نعوذ بالله منك، فإنه يؤكد ما تأولناه في الحديث الأول من أنه قول المنافقين دون قول المؤمنين، ولفظه وإن كان عاما فالمراد به خاص، وهو بمنزلة قوله عز وجل: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم} فالاسم عام في الشقين، والمراد خاص فيهما، وأما ذكر الصورة في هذه القصة من طريق معمر عن الزهري، فإن الذي يجب علينا وعلى كل مسلم أن نعلم أن ربنا عز وجل ليس بذي صورة ولا هيئة، فإن الصورة تقتضي الكيفية، وهي عن الله وعن صفاته منفية، وقد يتأول معناها على وجهين: أحدهما: أن تكون الصورة بمعنى الصفة، كقول القائل: صورة هذا الأمر كذا وكذا، يريد صفته، فتوضع الصورة موضع الصفة. والوجه الآخر: أن المذكور من المعبودات في أول الحديث إنما هي صورة وأجسام كالشمس والقمر والطواغيت ونحوها، ثم لما عطف عليه ذكر الله تعالى خرج الكلام فيه على نوع من المطابقة فقيل: يأتيهم الله في صورة كذا إذ كانت المذكورات قبله صورا وأجساما، وقد يحمل آخر الكلام على أوله في اللفظ، ويعطف أحد الاسمين على الآخر والمعنيان متباينان وهو كثير في كلامهم كالعمرين والأسودين والعصرين، ومثله في الكلام كثير.

ومما يؤكد التاويل الأول وهو أن معنى الصورة الصفة قوله صلى الله عليه وسلم في رواية عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري (فيأتيهم الله في أدنى صورة من التي رأوه فيها)، وهم لم يكونوا رأوه قط قبل ذلك، فعلمت أن المعنى في ذلك الصفة التي عرفوه بها، وقد تكون الرؤية بمعنى العلم كقوله عز وجل: {وأرنا مناسكنا} أي علمنا. وكقول حطائط: أريني جوادا مات هزلا لعلني .... أرى ما ترين أو بخيلاً مخلدًا

أي أعلم ما تعلمين. ومن الواجب في هذا الباب أن نعلم أن مثل هذه الألفاظ التي تستبشعها النفوس إنما خرجت على سعة مجال كلام العرب ومصارف لغاتها، وأن مذهب كثير من الصحابة وأكثر الرواة من أهل النقل الاجتهاد في أداء المعنى دون مراعاة أعيان الألفاظ وكل منهم يرويه على حسب معرفته ومقدار فهمه، وعادة البيان من لغته، وعلى أهل العلم أن يلزموا حسن الظن بهم، وأن يحسنوا التأتي لمعرفة معاني ما رووه، وأن ينزلوا كل شيء منه منزلة مثله فيما تقتضيه أحكام أصول الدين ومعانيها، على أنك لا تجد بحمد الله ومنه شيئا صحت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وله تأويل يحتمله وجه الكلام، ومعنى لا يستحيل في عقل أو معرفة. أخبرنا ابن الأعرابي قال: حدثنا محمد بن عبد الملك الدقيقي، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا مسعر، عن

عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي بن أبي طالب قال: إذا حدثتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فظنوا به الذي هو أتقى، والذي هو أهيأ، والذي هو أهدى. وأما قوله: (هل تضارون في الشمس) فمعناه تزاحمون عند رؤيته حتى يلحقكم بتدانيكم الضرر، ووزنه تتفاعلون، حذفت إحدى التاءين منه. والسعدان: نبات له شوك، إلا أنه إلى العِرَض والإبل ترعاه (وتسمن) عليه، ولذلك قيل: مرعى ولا كالسعدان.

وقوله: (فمنهم من يوبق بعمله)، يقال: وبق الرجل إذا هلك، يبق، وأوبقه الله، إذا أهلكه. وقوله: يخردل، أي يُقطع، يقال: خردلت اللحم إذا قطعته، وقطعه الأسد خراديل، إذا تركه قطعا. وقوله: امتحشوا، معناه احترقوا، يقال: محشته النار فامتحش. والحبة -مكسورة الحاء- بزور النبات. والحبة -مفتوحتها- واحدة الحب المأكول، وحميل السيل: ما يحمله فوقه من الغثاء ونحوه. وقوله: قشبني ريحها. يقال: قشبه الدخان، إذا امتلأت خياشيمه من الدخان، ويقال: أصل القشب (السم) كأنه يقول: صار ريحها كالسم في أنفي، ويقال: نَسْر قشيب لأنه يصاد بأن يجعل في لحمه الخرنق، فإذا أكله سقط فيصاد. وقوله: وغُبَّرات أهل الكتاب، يريد بقايا منهم، يقال لبقية الشيء غُبْر، وجمعه أغبار وغُبَّر، ويجمع على الغُبَّرات.

وفي هذا الحديث من طريق إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، عن عطاء بن يزيد، عن أبي هريرة وذكر الرجل الذي (سيبقى) آخر الناس، وأنه إذا قام إلى باب الجنة انفهقت له الجنة. قال أبو عبد الله: حدثنيه عبد العزيز بن عبد الله قال: حدثنا إبراهيم بن سعد. قلت: وهذا الحرف غير مسموع، وهو من جملة ما فاتني سماعه من آخر هذا الكتاب. وقوله: انفهقت، يريد انفتحت واتسعت، وأصله التوسع في الشيء والاستكثار، قال الشاعر:

كجابية السيح العراقي تفهق أي تفيض، ومنه الحديث: (إن أبغضكم إلي الثرثارون المتفيهقون)، يريد المكثرين ما لا يعنيهم من الكلام.

[134] (باب السجود على الأنف)

كتاب الأذان [134] (باب السجود على الأنف) 194/ 812 - قال أبو عبد الله: حدثنا معلى بن أسد، حدثنا وهيب، عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: على الجبهة -وأشار بيده على أنفه- واليدين والركبتين وأطراف القدمين، ولا نكفت الثياب والشعر). فيه بيان وجوب السجود على الجبهة، والأنف تبع له؛ لأن بيان وجوب الجبهة إنما وقع بصريح اللفظ، والإشارة باليد إلى الأنف تدل على الاستحباب له، فلو اقتصر الساجد بالسجود على أنفه دون الجبهة لم يجزئه، وكذلك لو سجد على كُور عمامته فلم تمس جبهته موضع السجود لم يجزئه. وقوله: ولا نكفت الثياب، معناه لا نضم الثياب ولا

نرفعها، لكن ترسل حتى تصيب الأرض، ومنه الحديث: (إذا أقبلت فحمة الليل فاكفتوا صبيانكم) أي ضموهم إليكم وامنعوهم من التفرق والانتشار في ذلك الوقت.

[134] (باب السجود على الأنف والسجود على الطين)

[134] (باب السجود على الأنف والسجود على الطين) 195/ 813 - قال أبو عبد الله: حدثنا موسى، حدثنا همام عن يحيى عن أبي سلمة، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أريت ليلة القدر وإني نسيتها، وإنها في العشر الأواخر في وتر، وإني رأيت كأني أسجد في طين وماء، وكان سقف المسجد جريد النخل وما نرى في السماء شيئا، فجاءت قزعة فأُمطرنا، فصلى بنا النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى رأيت أثر الطين والماء على جبهته وأرنبته تصديق رؤياه، يعني صبيحة إحدى وعشرين. القَزَعة: القطعة من السحاب المتفرقة، وجمعها القَزَع. وفي الخبر دليل على وجوب السجود على الجبهة، ولولا وجوب ذلك لصانها عن لَثَق الطين، وفيه استحباب استصحاب ما يصيب جبهة الساجد ووجهه من أثر الأرض وغبارها، وأن لا يسرع إلى نفضها أو مسحها بيد أو ثوب، وفيه ما يعلمك أن تأويل بعض الرؤيا في المنام خروجه في اليقظة على الصورة التي رآها في الحلم.

[139] (باب التسبيح والدعاء في السجود)

[139] (باب التسبيح والدعاء في السجود) 196/ 817 - قال أبو عبد الله: حدثنا مسددن حدثنا يحيى، عن سفيان، قال: حدثني منصور، عن مسلم، عن مسروق، عن عائشة كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي، يتأول القرآن. قولها: (يتأول القرآن)، تريد قول الله عز وجل: {فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا}، والواو في قوله: وبحمدك، واو الحال، كأنه قال: سبَّحتك اللهم وبحمدك سبحانك. قال الزجاج: ومعنى سبحانك سبحتك.

[145] (باب سنة الجلوس في التشهد)

[145] (باب سنة الجلوس في التشهد) 197/ 828 - قال أبو عبد الله: حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن خالد، عن سعيد، عن محمد بن عمرو بن حلحلة، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن أبي حميد الساعدي، ووصف صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: رأيته إذا كبر جعل يديه حذاء منكبه، وإذا ركع أمكن يديه من ركبتيه، ثم هصر ظهرهن فإذا رفع رأسه استوى حتى يعود كل فَقار مكانه، فإذا سجد ووضع يديه غير مفترشٍ ولا قابضهما، واستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة، فإذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى ونصب اليمنى، وإذا جلس في الركعة

الأخرى قدم رجله اليسرى ونصب الأخرى وقعد على مقعدته). يجمع هذا الحديث سننا، منها: رفع اليدين عند التكبير حذاء المنكبين لا يجاوزهما، ومنها التورك في القعود للتشهد الآخر، وفي الأول القعود على رجله اليسرى ووضع اليدين عند الركوع على الركبتين لا يطبق، ومنها توجيه أصابع الرجلين نحو القبلة للسجود والقعود في التشهد. وقوله: هصر ظهره، يريد أنه ثناه ثنيا شديدا في استواء من رقبته ومتن ظهره لا يقوِّسه، ولا يتحادب في ركوعه، وأصل الهَصْر: مبالغة الثني للشيء الذي فيه لين حتى ينثني كالغصن الرطب ونحوه من غير أن يبلغ الكسر والإبانة. وأما وضعه يديه في السجود غير مفترش، فهو أن يضع كفيه على الأرض ويقل ساعديه حتى يفترشهما بوضعهما على الأرض. وقوله: ولا قابضهما: يريد أنه يبسط كفيه مدا ولا يقبضهما بأن يضم أصابعهما، وقد يحتمل أن يكون أراد بذلك ضم الساعدين والعضدين، فيلصقهما ببطنه لكي يجافي مرفقيه عن جنبيه.

[146] (باب من لم ير التشهد الأول واجبا لأن النبي صلى الله عليه وسلم قام من الركعتين ولم يرجع)

[146] (باب من لم ير التشهد الأول واجبا لأن النبي صلى الله عليه وسلم قام من الركعتين ولم يرجع) 198/ 829 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهري قال: حدثني عبد الرحمن بن هرمز، عن عبد الله بن بحينة، وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم الظهر، فقام في الركعتين الأوليين لم يجلس، فقام الناس معه حتى إذا قضى الصلاة وانتظر الناس تسليمه كبر وهو جالس فسجد سجدتين قبل أن يسلم ثم سلم. فيه من الفقه أن الإمام إذا سها فاستمر به السهو حتى يستوي قائما في موضع قعوده للتشهد الأول تبعه القوم وقاموا معه، وفيه أن موضع سجدتي السهو قبل السلام، ومن فرق في ذلك بين السهو إذا كان عن نقصان من طلب الصلاة فرأى تقديمها قبل السلام،

وإذا كان عن زيادة أوجبهما بعد السلام لم يرجع فيما ذهب إليه إلى صحة بيان فرق، وحديث ذي اليدين محمول على (أن) تأخيره السجدتين بعد السلام كان عن سهو، وذلك أن تلك الصلاة قد توالى فيها السهو والنسيان مرات في أمور شتى، فلم يُنكَر أن يكون هذا منها، والأصل في ذلك حديث أبي سعيد الخدري، وقد رويناه في غير هذا الموضع.

[28] (باب الأخذ باليد)

كتاب الاستئذان [28] (باب الأخذ باليد) 199/ 6265 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو نعيم، حدثنا سيف، قال: قال: سمعت مجاهدا يقول: حدثني عبد الله بن سخبرة -أبو معمر- قال: سمعت ابن مسعود يقول: علمني النبي صلى الله عليه وسلم -وكفي بين كفيه- التشهد، كما يعلمني السورة من القرآن: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وهو بين ظهرانينا، فلما قبض قلنا: السلام على النبي. وقد يستدل بقوله: علمني التشهد كما يعلمني السورة من القرآن على تأكد أمر التشهد، والذي يصح به الاستدلال على وجوبه

هو قوله: إذا صلى أحدكم فليقل: التحيات لله والصلوات والطيبات. قال أبو عبد الله: حدثنا أبو نعيم، حدثنا الأعمش، عن شقيق بن سلمة، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأما تفسير التحيات، فإنها كلمات مخصوصة كانت العرب تحيي بها الملوك والرؤساء منهم نحو قولهم للملك من ملوكهم: أبيتَ اللعن. وقوله: أنعم صباحا، وكقول العجم لملوكهم: ده هزار سال، أي عش ألف سنة، في نحو ذلك من عاداتهم في تحية الملوك بديهة اللقاء، وهذه الألفاظ ونحوها مما يتحيا (به) النسا فيما بينهم لا يصلح شيء منها للثناء على الله عز وجل، فتركت أعيان تلك الألفاظ، واستعمل منها معنى التعظيم فقيل: قولوا: التحيات لله، أي الثناء على الله، والتمجيد وأنواع التعظيم له كما يستحقه ويجب له.

وقال النضر بن شميل: معنى التحيات: البقاء، وقول الرجل لصاحبه: حياك الله، إنما هو أبقاك الله. وكان أبو عبيدة يقول: معناها الملك. قال أبو سعيد الضرير: ليست التحية الملك بعينه، ولكن هي التحية التي يحيا بها الملك. وروي عن أنس بن مالك في تفسير التحيات لله والصلوات والطيبات قال: هي أسماء الله: السلام، المؤمن، المهيمن، الحي، القيوم، العزيز، الأحد، الصمد، قال: التحيات لله بهذه الأسماء وهي الطيبات لا يحيا بها غيره. ومعنى الصلوات: الأدعية وهي جماعة الصلاة، وأصل

الصلاة في كلام العرب الدعاء. كقول الأعشى: وصلى على دنها وارتسم يصف الخمر، يريد أنه دعا له بأن لا تحمض ولا تفسد، والطيبات: فهي ما طاب من الكلام وحسُن منه وصلَح أن يثنى على الله عز وجل أو يُدعى به دون الكلمات التي لا تليق بصفاته مما كانوا يتحيون بها فيما بينهم، وبيان ذلك في الحديث الذي يليه.

[150] (باب ما يتخير من الدعاء بعد التشهد وليس بواجب)

[150] (باب ما يتخير من الدعاء بعد التشهد وليس بواجب) 200/ 835 - قال أبو عبد الله: حدثنا مسدد، حدثنا يحيى، عن الأعمش، حدثني شقيق، عن عبد الله، قال: كنا إذا كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة قلنا: السلام على الله من عباده، السلام على فلان وفلان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقولوا السلام على الله، فإن الله هو السلام، ولكن (قولوا) التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فإنكم إذا قلتم (ذلك) أصاب كل عبد في السماء أو بين السماء والأرض. قلت: قوله (إن الله هو السلام)، يريد إن الله هو ذو السلام، فلا تقولوا: السلام على الله، فإن السلام منه بدأ وإليه يعود، ثم علمهم في الدعاء أن يقولوا: اللهم أنت السلام، ومنك

السلام، وإليك السلام، والسلام مصدر من سلم يسلم سلامة وسلاما، كما قيل: رضع يرضع رضاعة ورضاعا، ومرجع الأمر في إضافة السلام إلى صفات الله تعالى أنه ذو السلامة من كل نقص وآفة وعيب. وقد يحتمل ذلك وجها آخر وهو أن يكون مرجعها إلى حظ العبد وحاجته فيما يطلبه ويبتغيه من السلامة من الآفات والمهالك، ولذلك جعل هذا الاسم تحية بين المسلمين وشعارا عند التلاقي ليتحروا بها السلامة بعضهم من بعض، فيعمهم الأمن والسلامة، ولما وجدهم النبي صلى الله عليه وسلم يستعملونه في الثناء على الله عز وجل أمرهم أن يصرفوه إلى خطاب الخلق لحاجتهم إلى السلامة والعدول به عن معنى الثناء بذلك على الله تعالى لغناه وافتقارهم إليه، وأمر أن يقال في الثناء على الله عز وجل: التحيات لله والصلوات والطيبات، فإنها لا تليق بغيره ولا تبتذل في تحية من سواه.

[155] (باب الذكر بعد الصلاة)

[155] (باب الذكر بعد الصلاة) 201/ 843 - قال أبو عبد الله: حدثنا محمد بن أبي بكر، حدثنا معتمر، عن عبيد الله، عن سمي، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: جاء الفقراء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ذهب أهل الدُّور من الأموال بالدرجات، وذكر الحديث. قلت: هكذا وقع في روايته: أهل الدور، وهو غلط، والصواب أهل الدثور، هكذا رواه الناس كلهم، يريد أهل الأموال، واحدها دَثْر، وهو المال الكثير، والدبر بالباء مثله أيضا، وأنشد الأصمعي: ما ليس يحصى من سوام دَثْرُ .... مثل الهضاب بمكانٍ دَبْرُ

202/ 844 - قال أبو عبد الله: حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا سفيان، عن عبد الملك بن عمير، عن وراد -كاتب المغيرة بن شعبة- قال: أملى علينا المغيرة بن شعبة في كتاب إلى معاوية أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دبر كل صلاة مكتوبة: (اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد). (والجد) في هذا تفسيره الغنى، ويقال: بل هو الحظ والبخت، والجد: العظمة أيضا. ومنه قوله عز وجل: {وأنه تعالى جد ربنا} يقول: إن الخلق كلهم مفتقرون إليك، لا يجبر مفاقرهم غيرك، ولا يستغني أحد منهم عن

فضلك، و (من) هاهنا بمعنى البدل، كقول الشاعر: هل لك والعارض منك عائضُ .... في هجمة يُسئِر منها القابضُ وكقول الآخر: فليت لنا من ماء زمزم شربة .... مبردة باتت على الطهيان يريد بدل ماء زمزم، ويقال: إن الطهيان اسم البرادة.

[156] (باب يستقبل الإمام الناس إذا سلم)

[156] (باب يستقبل الإمام الناس إذا سلم) 203/ 846 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن صالح بن كيسان، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن زيد بن خالد الجهني أنه قال: صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على أثر سماء كانت من الليلة، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب. قوله: (على أثر سماء) يريد على أثر مطر، وسمي المطر سماء لنزوله من السماء على مذهبهم في استعارة اسم الشيء لغيره إذا كان مجاورا له أو بسبب منه. والنوء: الكوكب، ولذلك سموا منازل القمر الأنواء، وإنما سمي النجم نوءا لأنه ينوء طالعا عند مغيب رقيبه من ناحية المغرب، وكان من عادتهم في الجاهلية أن يقولوا: مطرنا (بنوء)

كذا، فيضيفون النعمة في ذلك إلى غير الله عز وجل، وينسون الشكر له على ذلك، وهو المنعم عليهم بالغيث والسقيا، فزجرهم عن هذا القول فسماه كفرا، إذ كان ذلك يفضي بصاحبه إلى الكفر إذا اعتقد أن الفعل للكوكب وهو فعل الله عز وجل لا شريك له.

كتاب الزكاة

كتاب الزكاة [20] (باب من أحب تعجيل الصدقة من يومها) 204/ 1430 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو عاصم، عن (عمر) ابن سعيد عن (ابن) أبي مليكة أن عقبة بن الحارث حدثه قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم العصر، فأسرع ثم دخل البيت، فلم يلبث أن خرج فقلت أو قيل له: صليت العصر، فلم تلبث أن خرجت. فقال: (كنت خلفت في البيت تبرا من الصدقة فكرهت أن أبيته فقسمته). التبر: قطع الذهب قبل أن تضرب دنانير، والقطعة منها تبرة. ويقال: تبرت الشيء إذا قطعته، ومنه قوله تعالى: {إن هؤلاء متبر ما هم فيه} أي متقطع هالك، والله أعلم. وتبييت الشيء حبسه عندك ليلاً.

[160] (باب ما جاء في الثوم النيء والبصل والكراث)

[160] (باب ما جاء في الثوم النيء والبصل والكراث) 205/ 853 - قال أبو عبد الله: حدثنا مسدد، حدثنا يحيى، عن عبيد الله قال: حدثني نافع، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أكل من هذه الشجرة -يعني الثوم- فلا يقربن مسجدنا). قد توهم بعض الناس أن أكل الثوم عذر في التخلف عن الجماعة، فوضع هذا الحديث في جملة الأعذار المبيحة ترك حضور الجماعات، وإنما هذا توبيخ له وعقوبة على فعله ليحرم بذلك فضيلة الجماعة. وقد قيل إن المكروه منه النيء دون المطبوخ. فيه أنه جعل الثوم من جملة الشجر، والعامة إنما يسمون الشجر ما كان له ساق يحمل أغصانه دون ما يسقط على الأرض وينبطح على وجهه، وعند العرب: أن كل شيء بقيت له أرومة في الأرض، تخلف ما قطع من ظارها، وتتروح في الصيف ما يبس منه في الشتاء، فهو شجر، وما ليس له أرومة يبقى فهو نَجْم. ومنه قول الله تعالى: {والنجم والشجر يسجدان} فالقطن شجر، وقد

يبقى في كثير من البلدان سنين ذوات عدد والباذنجان كذلك يبقى سنوات، وأما اليقطين والريحان ونحوهما مما يخالف هذه الصفة فليس بشجر، فإذا حلف رجل على شيء من الشجر فالاعتبار من جهة الاسم، والحقيقة على ما ذكرته لك. وفي العرف ما يتعارفه الناس في بلدانهم ومجاري عاداتهم. والله أعلم.

[160] (باب ما جاء في الثوم النيء والبصل والكراث)

[160] (باب ما جاء في الثوم النيء والبصل والكراث) 206/ 855 - قال أبو عبد الله: حدثنا سعيد بن عفير قال: حدثنا ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب قال: زعم عطاء أن جابر بن عبد الله زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أكل ثوما أو بصلا فليعتزلنا أي فليعتزل مسجدنا وليقعد في بيته، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أُتِي بقِدر فيه خَضِرات من بقول فوجد لها ريحا، فسأل فأخبر بما فيها من البقول فقال: قربوها إلى بعض أصحاب كان معه، فلما رآه كره أكلها قال: (كل فإني أناجي من لا تناجي). وقال أحمد بن صالح، عن ابن وهب: أُتِي ببَدْر. قال ابن وهب: يعني طبقا فيه خضرات. قلت: سمي الطبق بدرا لاستدارته وحسن اتساقه تشبيها

له بالقمر إذا امتلأ نورا. ويقال: عين بدرة، إذا كانت واسعة مرتوية، وهكذا رووه لنا عن أبي داود، عن أحمد بن صالح، عن ابن وهب، ولعل القِدر تصحيف والله أعلم. وفيه أنه لم يبلغ بالكراهة له التحريم، ألا ترى أنه قال لبعض أصحابه: كله. وقال: أناجي من لا تناجي، يريد الملك. وقد جاء في الحديث أن الملائكة تتأذى بما يتأذى به بنو آدم. قلت: وإن لم يكن لفظ القِدْر تصحيفا، فإن الثوم كان منضجا بالطبخ، فلأجل ذلك لم يكره أكله لأصحابه. وقول ابن شهاب: زعم عطاء أن جابرا زعم، ليس على معنى التهمة منه لواحد منهما فيما رواه، ولكنه لما كان أمرا مختلفا فيه جعل الحكاية عنه بالزعم، وهذا اللفظ لا يكادون يستعملونه إلا في أمر يرتاب به أو يختلف فيه. ويقال: في قول فلان مزاعم إذا لم يكن موثوقاً به.

[161] (باب وضوء الصبيان، ومتى يجب عليهم الغسل والطهور؟

[161] (باب وضوء الصبيان، ومتى يجب عليهم الغسل والطهور؟ وحضورهم الجماعة والعيدين والجنائز وصفوفهم) 207/ 857 - قال أبو عبد الله: حدثني أبو موسى -محمد بن المثنى- حدثنا غندر، حدثنا شعبة قال: سمعت سليمان الشيباني، قال: سمعت الشعبي قال: أخبرني من مر مع النبي صلى الله عليه وسلم على قبر منبوذ فأمهم وصفوا عليه فقلت يا أبا عمرو: من حدثك؟ فقال: ابن عباس. هذا يروى على وجهين: على قبرِ منبوذٍ، بمعنى إضافة القبر إلى المنبوذ، والمنبوذ: اللقيط. ويروى على قبرٍ منبوذ على معنى أن يكون المنبوذ نعتا للقبر، أي قبر منتبذ ناحيةً عن القبور، وفيه على هذا الوجه معنى كراهية

الصلاة في المقابر، ولذلك اشترط انتباذَ هذا القبر عن القبور، وفيه جواز الصلاة على الميت بعد دفنه في القبر، وفيه على الوجه الآخر أن اللقيط إذا وجد في بلاد الإسلام كان حكمه حكم المسلمين في الصلاة ونحوها من أحكام الدين.

[162] (باب خروج النساء إلى المساجد بالليل والعكس)

[162] (باب خروج النساء إلى المساجد بالليل والعكس) 208/ 864 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهري قال: أخبرني عروة بن الزبير، عن عائشة قالت: أعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعتمة حتى ناداه عمر: نام النساء والصبيان، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ما انتظرها أحد غيركم من أهل الأرض، ولا يصلى يومئذ إلا بالمدينة، (وكانوا) يصلون العتمة فيما بين أن يغيب الشفق إلى ثلث الليل الأول. قوله: أعتم معناه أخر الصلاة لظلمة الليل، وعتمة الليل ظلمتها، وبها سميت صلاة العشاء عتمة، وقد روى ابن عمر نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تسمية العشاء عتمة، وكان ابن عمر إذا سمعتها من إنسان صاح عليه وغضب. وفيه أن آخر وقت العشاء الآخرة مضيُّ ثلث الليل الأول.

[161] (باب وضوء الصبيان)

[161] (باب وضوء الصبيان) 209/ 861 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس قال: أقبلت راكبا على حمار أتان، وأنا يومئذ قد ناهزتُ الاحتلام ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بمنى إلى غير جدار، فمررت بين يد بعض الصف، فنزلت، فأرسلت الأتان ترتع، ودخلت في الصف، فلم ينكر ذلك عليَّ أحد. قوله: ناهزت الاحتلام، معناه قاربت، ومنها انتهاز الفرصة، وهو الاقتراب من التمكن منها. ويقال: هذه الدراهم نهز ألفٍ ونهز ألفين، أي قدرها، ونحوها أو قريب منها. وفيه

من الفقه أن المرور بين يدي المصلي إذا لم يكن (يصلي) إلى سترة لم يكن له منع المار بين يديه.

كتاب الجمعة

كتاب الجمعة [1] (باب فرض الجمعة) 210/ 876 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، حدثنا أبو الزناد، عن الأعرج أنه سمع أبا هريرة، (أنه) سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم، فاختلفوا فيه، فهدانا الله فالناس فيه تبع: اليهود غدا والنصارى بعد غد. قوله: (نحن الآخرون)، يريد في العصر والزمان من مدة أيام الدنيا، والسابقون في الكرامة والفضل في الآخرة. وقوله: (بيد أنهم) كلمة معناها الاستثناء، أي غير أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا. وقوله: (هذا يومهم الذي فرض عليهم)، يريد أن المفروض على اليهود والنصارى نسك يوم الجمعة وتعظيمه، فاختلفوا فيه، فمالت اليهود إلى يوم السبت لأنهم زعموا أنه يوم قد فُرغ فيه من خلق الخلق، قالوا: فنحن نستريح فيه عن العمل ونشتغل

بالعبادة والشكر لله عز وجل، وذلك معنى قوله عز وجل: {إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه} والمعنى أنهم ألزموه عقوبة لهم، ومال النصارى إلى يوم الأحد وقالوا: هو أول يوم بدأ الله فيه بخلق الخليقة، فهو أولى بالتعظيم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهدنا [فهدانا] الله، يريد أنه عز وجل هدانا لليوم الذي فرضه وهو الجمعة وهو سابق للسبت وللأحد، فنحن السابقون لهم في الدنيا من هذا الوجه، والسابقون في القيامة إلى الجنة، والمفضلون في الثواب عليهم، والحمد لله على ذلك والمنة له.

[2] (باب فضل الغسل يوم الجمعة)

[2] (باب فضل الغسل يوم الجمعة) 211/ 877 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل). قد ذهب قوم من السلف إلى إيجاب غسل الجمعة، وذلك لقوله: فليغتسل، وهو أمر وظاهره الوجوب، واحتجوا فيه أيضا بحديث أبي سعيد الخدري.

[3] (باب الطيب للجمعة)

[3] (باب الطيب للجمعة) 212/ 880 - قال أبو عبد الله: حدثنا علي بن المديني، حدثنا حرمي بن عمارة، حدثنا شعبة، عن أبي بكر بن المنكدر قال: حدثني عمرو بن سليم الأنصاري، أشهد على أبي سعيد قال: أشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم، وأن يستن، وأن يمس طيبا إن وجد) قال عمرو: أما الغسل فأشهد له أنه واجب، وأما الاستنان والطيب فالله أعلم أواجب هو أم لا، ولكن هكذا في الحديث. قالوا: فقد أوجبه بصريح البيان فيه كما ترى، وكان أبو هريرة يقول: هو واجب كغسل الجنابة، وكان الحسن يوجبه، ويذهب مالك بن أنس إلى الإيجاب له، وذهب أكثر الفقهاء إلى أنه غيرُ واجب، وتأولوا الحديث على معنى الترغيب

فيه، والتوكيد لأمره حتى يكون كالواجب على معنى التمثيل والتشبيه، واستدلوا في ذلك بأنه قد عطف عليه الاستنان والطيب، ولم يختلفوا في (أنهما) غير واجبين، قالوا: فكذلك المعطوف عليه. واحتجوا أيضا فيه بعمر وعثمان رضي الله عنهما.

[2] (باب فضل الغسل يوم الجمعة)

[2] (باب فضل الغسل يوم الجمعة) 213/ 878 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن محمد بن أسماء، حدثنا جويرية، عن مالك، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر أن عمر بن الخطاب بينا هو قائم في الخطبة يوم الجمعة، إذ دخل رجل من المهاجرين الأولين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فناداه عمر: أية ساعة هذه؟ قال: إني شغلت فلم أنقلب إلى أهلي حتى سمعت التأذين، فلم أزد أن توضأت، فقال: والوضوء أيضا؟ وقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بالغسل. قال الشافعي: الرجل هو عثمان بن عفان، فلو كان الغسل واجبا لرجع عثمان حين كلمه عمر، أو لرده عمر حين لم يرجع، فلما لم يرجع ولم يؤمر بالرجوع وبحضرتهما المهاجرون والأنصار دل على أن ذلك ليس بفرض. واحتجوا في ذلك أيضا بحديث عائشة.

[16] (باب وقت الجمعة إذا زالت الشمس)

[16] (باب وقت الجمعة إذا زالت الشمس) 214/ 903 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبدان، أخبرنا عبد الله (حدثنا) يحيى بن سعيد أنه سأل عمرة عن الغسل يوم الجمعة فقالت: قالت عائشة: كان الناس مهنة، وكانوا إذا راحوا راحوا في هيئتهم، فقيل: لو اغتسلتم. المهنة: جمع الماهن، وهو الخادم، كما قيل: ظالم وظلمة، وكاتب وكتبة، والمهنة: الخدمة، يريدون أنهم كانوا يروحون إلى الجمعة في الثياب التي يباشرون فيها العمل والخدمة، وأرض الحجاز حارة والعرق يسرع إليهم (فتتغير) الروائح، فإنما أمروا بالغسل لقطع الرائحة، والله أعلم. والاستنان: الاستياك، وهو مأخوذ من دلك السن بالسواك.

[4] (باب فضل الجمعة)

[4] (باب فضل الجمعة) 215/ 881 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن يوسف قال: أخبرنا مالك، عن سمي -مولى أبي بكر- ابن عبد الرحمن، عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة، ثم راح فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر. قوله: من راح في الساعة الرابعة ومن راح في الساعة الخامسة مشكل، وذلك أن الجمعة لا يمتد وقتها من أول حين الرواح إلى خمس ساعات، وقد يتأول على وجهين: أحدهما: ما ذهب إليه مالك بن أنس. أخبرني الحسن بن يحيى، عن ابن المنذر قال: كان مالك بن أنس يقول في هذا الحديث: لا يكون الرواح إلا بعد الزوال، قال: وهذه الساعات كلها في ساعة واحدة من يوم الجمعة، يريد أنه لم يرد به تحديد

الساعات التي يدور عليها حساب الليل والنهار، وتنقسم إليها مدة اليوم الواحد من اثنتي (عشرة) عند الاعتدال إلى ما زاد عليها ونقص منها عند الاختلاف، وإنما هو مجاز وتوسع في الكلام حين سمى أجزاء تلك الساعة ساعات كقول القائل: بقيت في المسجد ساعة، وقعدت عند فلان ساعة، ونحو ذلك من الكلام المرسل الذي لا يراد به الحصر والتحديد. والوجه الآخر: ما ذهب إليه محمد بن إبراهيم بن سعيد العبدي قال: أخبرني أحمد بن الحسين التيمي عنه أنه كان يقول: قوله راح إلى الجمعة في الحديث، إنما هو بعد طلوع الشمس، كأنه يذهب إلى معنى القصد منه دون محل الفعل، وذلك أنه إنما تصلى الجمعة بعد أن يحين الرواح وقت الزوال، فسمي القاصد لها قبل وقتها رايحا [رائحا] كما قيل للمتساومين: متبايعان لقصدهما البيع، وللمقبلين إلى مكة حجاج، ولما يحجوا بعد،

وهذا أشبه الوجهين عندي، والله أعلم. وقوله: قرب دجاجة، وقرب بيضة، معناه أنه تصدق بهما متقربا بذلك إلى الله عز وجل.

[7] (باب يلبس أحسن ما يجد)

[7] (باب يلبس أحسن ما يجد) 216/ 886 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، رأى حلة سيراء عند باب المسجد فقال: يا رسول الله، لو اشتريت هذه فلبستها يوم الجمعة، وللوفد إذا قدموا عليك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة) ثم جاءه منها حلل فأعطى عمر منها حلة فقال عمر: يا رسول الله كسوتنيها وقد قلت في حلة عطارد ما قلت. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني لم أكسكها لتلبسها) فكساها عمر بن الخطاب أخا له بمكة مشركا. الحلة السيراء: هي المضلعة بالحرير، وسميت سيراء لما فيه من الخطوط التي تشبه السيور. يقال: حلة سيراء، كما قالوا: ناقة عشراء.

وقوله: (من لا خلاق له في الآخرة)، أي: من لا نصيب له فيها. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحرير أنه قال: (من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة) وقرأ: {ولباسهم فيها حرير}. وفيه أن ذا الرحم الكافر يُوصَل ويُبَر دون الطاعة في أمر الدين، وفي الرأي والمشورة.

[8] (باب السواك يوم الجمعة)

[8] (باب السواك يوم الجمعة) 217/ 887 - قال أبو عبد الله: أخبرنا عبد الله بن يوسف قال: أخبرنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لولا أن أشق على أمتي أو على الناس لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة). فيه دلالة على أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم على الوجوب، ولولا وجوبه على المأمور، ولزومه إياه، لم يكن لهذا الاشتراط معنى، إذ كان يأمر وهو لا يجب. وقال الشافعي: فيه دليل على أن السواك غير واجب، ولو كان واجبا لأمرهم به شق أو لم يشق.

[9] (باب من تسوك بسواك غيره)

[9] (باب من تسوك بسواك غيره) 218/ 890 - قال أبو عبد الله: حدثنا إسماعيل، حدثنا سليمان بن بلال، قال هشام بن عروة: أخبرني أبي، عن عائشة قالت: دخل عبد الرحمن بن أبي بكر ومعه سواك يستن به، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: أعطني هذا السواك يا عبد الرحمن، فأعطانيه، فقصمته، ثم مضغته، فأعطيته رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستن به وهو مستند إلى صدري. قوله: قصمته يريد كسرته فأبنت منه الموضع الذي كان قد استن به عبد الرحمن. وأصل القصم: الدق والكسر. وقناة قَصْمة، أي متكسرة، وكل قطعة منها قصمة. ويقال لما تكسر من رأس السواك إذا قُصم القُصامة. ويقول القائل لصاحبه: والله لو سألتني قُصامةَ سواكٍ ما أعطيتك.

[11] (باب الجمعة في القرى والمدن)

[11] (باب الجمعة في القرى والمدن) 219/ 893 - قال أبو عبد الله: حدثنا بشر بن محمد قال: أخبرنا عبد الله قال: أخبرنا يونس، عن الزهري قال: أخبرني سالم، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته، فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته). أصل الرعاية في الكلام حفظ الشيء، وحسن التعهد له، وقد اشترك هؤلاء المذكورون في التسمية، وجرى الاسم عليهم على سبيل التسوية ومعانيهم في ذلك مختلفة، فأما رعاية الإمام فإنها ولاية أمور الرعية، والحياطة من ورائهم وإقامة الحدود والأحكام فيهم. وأما رعاية الرجل أهله: فالقيام عليهم، والسياسة لأمرهم وتوفيتهم الحق في النفقة والعشرة.

وأما رعاية المرأة في بيت زوجها: فحسن التدبير في أمر بيته والتعهد لمن تحت يدها من عياله وأضيافه وخدمه. ورعاية الخادم: حفظ ما في يده من مال سيده والنصيحة له فيه، والقيام بما استكفاه من شغل وخدمة. وقد استدل ابن شهاب من هذا الحديث على أن للسيد إقامة الحد على مماليكه، وقد روي ذلك نصا في حديث أنه قال: (أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم). وقيل: فيه دليل على أن الجمعة يجوز إقامتها بغير سلطان إذا اجتمعت شرائطها من العدد الذين يشهدونها. وقيل: فيه أيضا دليل على أن الرجلين إذا حكَّما بينهما حكما نفذ حكمه عليهما إذا أصاب الحق فيما يفعله من ذلك.

[18] (باب المشي إلى الجمعة)

[18] (باب المشي إلى الجمعة) 220/ 908 - قال أبو عبدا لله: حدثنا أبو اليمان قال: أخبرنا شعيب، عن الزهري قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون وائتوها تمشون عليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا). قوله: (فلا تأتوها تسعون)، هذا السعي غير السعي المذكور في قوله عز وجل: {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله} السعي الذي في الحديث هو الشد على الأقدام، والتوسعة في الخطى، والسعي الذي في الآية هو القصد إلى الصلاة والتفرغ لها، وترك التخلف عنها. وفي قوله: (وما فاتكم فأتموا) دليل على أن ما يدركه المرء من باقي صلاة الإمام هو أول صلاته، لأن الإتمام إنما يكون بناء على متقدم محتسب به.

[26] (باب الخطبة على المنبر)

[26] (باب الخطبة على المنبر) 221/ 918 - قال أبو عبد الله: حدثنا سعيد بن أبي مريم قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: أخبرني يحيى بن سعيد قال: أخبرني ابنٌ لأنس أنه سمع جابر بن عبد الله قال: كان جِذْعٌ يقوم إليه النبي صلى الله عليه وسلم فلما وضع له المنبر سمعنا للجذع مثل أصوات العشار حتى نزل النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده عليه. قال سليمان عن يحيى، أخبرني حفص بن عبيد الله بن أنس سمع جابرا. العشار: الحوامل من الإبل التي قاربت الولادة، ويقال: إنها اللواتي أتى على حلهن عشرة أشهر. يقال: ناقة عشراء، ونوق عشار على غير قياس.

[33] (باب من جاء والإمام يخطب صلى ركعتين خفيفتين)

[33] (باب من جاء والإمام يخطب صلى ركعتين خفيفتين) 222/ 931 - قال أبو عبد الله: حدثنا علي، حدثنا سفيان، عن عمرو سمع جابرا قال: دخل رجل يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال: (صليت؟) قال: لا، قال: (فصل ركعتين). فيه من الفقه جواز الكلام في الخطبة إذا حزب أمر واحتيج إلى الكلام، وفيه أن الخطبة لا تمنع الداخل في المسجد من إقامة حق التحية الواجبة عليه له. وفيه ما يؤكد أمر هذه الصلاة، إذ لو لم تكن واجبة لما اشتغل بها عن واجب هو فيه، وقد دل أمره إياه بأن يصليها ركعتين على أن عدد صلاة التطوع بالنهار كهو بالليل.

[35] (باب الاستسقاء في الخطبة يوم الجمعة)

[35] (باب الاستسقاء في الخطبة يوم الجمعة) 223/ 933 - قال أبو عبد الله: حدثنا إبراهيم بن المنذر قال: حدثنا الوليد قال: حدثنا أبو عمرو الأوزاعي قال: حدثني إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك قال: أصابت الناسَ سنةٌ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينا هو يخطب في يوم جمعة قام أعرابي فقال: يا رسول الله، هلك المال وجاع العيال، فادع الله لنا، فرفع يديه، وما نرى في السماء قزعة، فوالذي نفسي بيده ما وضعها حتى ثار السحاب أمثال الجبال، ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته، فمطرنا يومنا ذلك، ومن الغد، ومن بعد الغد، والذي يليه حتى الجمعة الأخرى، وقام ذلك الأعرابي، أو قال غيره، فقال: يا رسول الله، تهدم البناء، وغرق المال، فادع الله لنا، فرفع يديه (وقال): (اللهم حوالينا ولا علينا)، فما يشير بيده إلى ناحية من السحاب إلا انفرجت، وصارت المدينة مثل الجوبة، وسال الوادي قناة شهرا، فلم يجئ أحد من ناحية إلا حدَّث بالجَوْد.

السنة: القحط، والقَزَعة: قطعة من السحاب منقطعة عنها وجمعها القزع. وقوله: رأيت المطر يتحادر على لحيته، يريد أن السقف قد وكف حتى خلص الماء إليه. وقوله: اللهم حوالينا، فيه إضمار كأنه قال: أمطر حوالينا، أو اجعله حوالينا في الصحارى واصرفه عن الأبنية والدور. وقوله: صارت المدينة مثل الجوبة، فإن الجوبة هاهنا التُّرْس، يقال للترس الجوب، وقد جاء في غير هذه الرواية فبقيت المدينة كالترس، يريد أنها بقيت في استدارتها وهي غير ممطورة، والجوبة أيضا الوهدة كالترس المنقطعة عما علا من الأرض حواليها. والجود المطر الواسع.

[29] (باب من قال في الخطبة بعد الثناء: أما بعد)

[29] (باب من قال في الخطبة بعد الثناء: أما بعد) 224/ 927 - قال أبو عبد الله: حدثني إسماعيل بن أبان، حدثنا ابن الغسيل، حدثنا عكرمة، عن ابن عباس قال: صعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر وكان آخر مجلس جلسه متعطفا بملحفة على منكبيه قد عصب رأسه بعصابة دسمة، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد .. وذكر حديثا. قوله: متعطفا بملحفة، يريد مرتديا بها، والعطاف: الرداء. وأما قوله: بعصابة دسمة، فليس ذلك من الدسم الذي هو

لَطْخ الودك ونحوه، وذلك ما لا يليق أن يمس رأسه وجبينه صلى الله عليه وسلم، وإنما أراد بالدسمة السوداء. وقد روي في حديث آخر أنه خطب الناس وعلى رأسه عمامة دسماء، أي سوداء. قال الشاعر: إلى كل دسماء الذراعين والعقب

كتاب الخوف

كتاب الخوف [5] (باب صلاة الطالب والمطلوب راكبا وإيماء) 225/ 946 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن محمد بن أسماء قال: حدثنا جويرية، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا لما رجع من الأحزاب: (لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة)، فأدرك بعضهم العصر في الطريق، قال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها. وقال بعضهم: بل نصلي، لم يرد منا ذلك، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فلم يعنف واحدا منهم. هذا مما يحتج به من يرى تساوي الأدلة، ويرى كل مجتهد مصيبا، يقول: ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم قد عذرهم ولم يعنف واحدا منهم. لت: وليس الأمر في ذلك على ما ذهبوا إليه، وإنما هو ظاهر خطاب خص بنوع من الدليل ألا ترى قولهم: بل نصلي، لم يرد منا ذلك. يريد أن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أمر من إقامة الصلاة في بني قريظة لا يوجب تأخيرها عن وقتها الذي أمرنا بإقامتها على عموم الأحوال فيه، وإنما هو كأنه قال: صلوا في بني

قريظة، إلا أن يدرككم وقتها قبل أن تصلوا إليهم، وكذلك الأمر فيما تأولت الطائفة الأخرى في تأخيرهم الصلاة عن أول وقتها، وكان ذلك عندهم كأنه قيل لهم: صلوا الصلاة في أول وقتها، إلا أن يكون لكم عذر فأخروها إلى آخر وقتها، وتخصيص العموم بناء على أصل متقرر، ومن خصه بدليل فإنه لم يخرجه عن جملة أصله الموجب له، وفي القول بتساوي الأدلة تجويز أقوال مختلفة الأصول متضادة الأحكام، وهي على اختلافها وتضادها صواب كلها عندهم.

كتاب العيدين

كتاب العيدين [2] (باب الحراب والدرق يوم العيد) 226/ 949 - قال أبو عبد الله: حدثني أحمد، حدثنا ابن وهب، أخبرنا عمرو أن محمد بن عبد الرحمن حدثهم عن عروة، عن عائشة قالت: دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث، فاضطجع على الفراش فحول وجهه، فدخل أبو بكر فانتهرني وقال: مزمارة الشيطان عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقل: دعهما، فلما غفل غمزتهما حتى خرجتا، وكان يوم عيد تلعب السودان بالدرق والحراب. فإما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإما قال: تشتهين تنظرين؟ فقلت: نعم. فأقامني وراءه، خدي على خده وهو يقول: (دونكم يا بني أرفدة)، حتى إذا

مللت قال: حسبك؟ قلت: نعم، قال: فاذهبي. بعاث: يوم مشهور من أيام العرب كانت فيه مقتلة عظيمة للأوس على الخزرج، وبقيت الحرب قائمة بينهما إلى أن قام الإسلام مائة وعشرين سنة. فيما ذكره محمد بن إسحاق بن يسار وغيره، وكان الشعر الذي تغنيان به في وصف الحرب والشجاعة والبأس وما يجري في القتال بين أهله، وهو إذا صُرف إلى جهاد الكفار وإلى معنى التحريض على قتالهم كان معونة في أمر الدين، وقمعا لأهل الكفر، فلذلك رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، فأما الغناء بذكر الفواحش والابتهار بالحُرَم والمجاهرة بالمنكر من القول فهو المحظور من الغناء المسقط للمروءة، وحاشاه صلى الله عليه وسلم أن يجري شيء من ذلك بحضرته فيرضاه أو يغفل النكير له، وكل من رفع صوته بشيء جاهرا بذكره ومصرحا باسمه لا يستره ولا يكني عنه فقد غنى به. وحدثني أحمد بن عفو الله قال: حدثنا عبد الله بن

سليمان، عن يحيى بن عبد الرحيم الأخفش، عن أبي عاصم قال: أخذ بيدي ابن جريج حتى وقف بي على أشعب الطَّمِع فقال له: غَنِّ ابنَ أخي ما بلغ من طمعك. فقال: بلغ من طمعي أنه لم تُزف بالمدينة جارية إلا كسحْت بابي طمعا أن تُهدى إلي. يريد أخبر جاهرا بما في نفسك ومصرحا به. وقوله: (دونكم يا بني أرفدة)، معناه إطلاق الإذن، إذ هي

كلمة الإغراء وحقها أبدا أن تقدم على الاسم، وقد جا تقديم الاسم عليه نادرا في قول الشاعر: يا أيها الماتح دلوي دونكا وبنو أرفدة لقب الحبشة. وفيه رخصة في المثاقفة بالسلاح وإعداد الآلة للقتال.

[3] (باب سنة العيدين لأهل الإسلام)

[3] (باب سنة العيدين لأهل الإسلام) 227/ 952 - قال أبو عبد الله: حدثني عبيد بن إسماعيل، حدثنا أبو أسامة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: دخل أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بعاث قالت: وليستا بمغنيتين فقال أبو بكر: مزامير الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وذلك يوم عيد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بكر إن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا). قلت: قد بين في هذه الرواية أنهما لم تكونا مغنيتين، والمغنية التي اتخذت الغناء صناعة وعادة، وذلك ما لا يليق أن يكون بحضرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فأما الترنم بالبيت والبيتين، وتطريب الصوت بذلك مما ليس فيه فحش أو ذكر محظور، فليس مما يسقط المروءة، أو يقدح

في الشهادة، وكان عمر بن الخطاب لا ينكر من الغناء النَّصْبَ والحداء ونحوهما من القول، وقد رخص في ذلك غيرُ واحد من السلف رحمهم الله. وحكم اليسير من الغناء خلافُ حكم الكثير منه كقول الشعر يسيره مباح وكثيره حتى يسمى به شاعرا مكروه. وقوله: (وهذا عيدنا) يعتذر به عنها، يريد أن إظهار السرور في العيد من شعار الدين وإعلان أمره والإشادة بذكره، وليس كسائر الأيام سواء.

[8] (باب الخطبة بعد العيد)

[8] (باب الخطبة بعد العيد) 228/ 964 - قال أبو عبد الله: حدثني سليمان بن حرب حدثنا شعبة، عن عدي بن ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم الفطر ركعتين لم يصل قبلها ولا بعدها، ثم أتى النساء ومعه بلال، فأمرهن بالصدقة، فجعلن يلقين، تلقي المرأة خُرصها وسِخابها. الخرص: حلقة القرط، والسخاب: القلادة. وفيه دليل على جواز تصرف المرأة في ملكها بغير إذن وليها أو زوجها.

[8] (باب الخطبة بعد العيد)

[8] (باب الخطبة بعد العيد) 229/ 965 - قال أبو عبد الله: حدثنا آدم، حدثنا شعبة، حدثنا زبيد قال: سمعت الشعبي، عن البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أول ما نبدأ في يومنا هذا أن نصلي، ثم نرجع فننحر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا، ومن نحر قبل الصلاة فإنما هو لحم قدمه لأهله ليس من النسك في شيء). فقال رجل من الأنصار يقال له أبو بردة ابن نيار: يا رسول الله، ذبحت وعندي جذعة خير من مسنة. قال: (اجعله مكانه ولن توفي عن أحد أو تجزي عن أحد بعدك). يقال: وفى وأوفى بمعنى واحد. ويقال: جزى عن الشيء يجزي بمعنى قضى وأجزأني إجزاء، إذا كفاك. تقول: إن ذلك يقضي الحق عنك أو يكفيك ولا يقضيه عن غيرك، وفي سائر

الروايات أنه قال: عندي عناق جذعة، ولذلك لم يجز عنه، إذ كان لا يجزي من المعز أقل من الثني، فأما الضأن فالجذع منها يجزي. قلت: وهذا من النبي صلى الله عليه وسلم تخصيص لعين من الأعيان بحكم مفرد وليس من باب النسخ، فإن النسوخ إنما تقع عامة الأمة غير خاصة لبعضهم. فإن شبه على أحد أمر النسخ في صلاة الليل، فليعلم أن فرضها قد نسخ عن الأمة وأبقي فرضها للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، فالاعتراض بها على ما قلناه لا يصح.

[12] (باب التكبير أيام منى وإذا غدا إلى عرفة)

[12] (باب التكبير أيام منى وإذا غدا إلى عرفة) 230/ 970 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو نعيم، حدثنا مالك بن أنس، حدثني محمد بن أبي بكر الثقفي قال: سألت أنس بن مالك ونحن غاديان من منى إلى عرفات عن التلبية: كيف كنتم تصنعون مع النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: كان يلبي الملبي لا ينكر عليه، ويكبر المكبر لا ينكر عليه. قلت: السنة المشهورة في هذا أن لا تقطع التلبية حتى ترمي أول حصاة من جمرة العقبة يوم النحر، وعليه العمل، فأما قول أنس هذا فقد يحتمل أن يكون تكبيرُ المكبر منهم شيئا من الذكر يدخلونه في خلال التلبية الواجبة في السنة من غير ترك للتلبية، والله أعلم.

[20] (باب إذا لم يكن لها جلباب في العيد)

[20] (باب إذا لم يكن لها جلباب في العيد) 231/ 980 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، حدثنا أيوب، عن حفصة عن امرأة ذكرت أن نسوة كن مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغزو، قال بعضهن: كنا نقوم على المرضى ونداوي الكلمى. قالت حفصة وقالت أم عطية: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال في يوم العيد: لتخرج العواتق وذوات الخدور، فتعتزل الحيض المصلى، وليشهدن الخير ودعوة المؤمنين). الكلمى: جمع الكليم، وهو الجريح، كما قيل: مريض ومرضى وأسير وأسرى. والعواتق: الحديثات الإدراك، واحدتهن عاتق. وفي الحديث: دليل على أن الحائض لا تدخل المسجد، وأنها لا تحجب عن شهود الذكر والدعاء ونحو ذلك من أنواع البر والقُرَب.

[25] (باب إذا فاته العيد يصلي ركعتين)

[25] (باب إذا فاته العيد يصلي ركعتين) 232/ 988 - قال أبو عبد الله: حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة قالت: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسترني وأنا أنظر إلى الحبشة وهم يلعبون في المسجد، فزجرهم يعني أبا بكر. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (دعهم أمنًا بني أرفدة). قوله: أمنا، يعني آمنين، أقام المصدر مقام الصفة كقولهم: رجل صوم، أي صائم، وزَوْر بمعنى زائر، ونوم بمعنى نائم، وقد يكون بمعنى ائمنوا أمنا ولا تخافوا أحدا، ليس لأحد أن يمنعكم، أو نحو ذلك من الكلام.

كتاب الاستسقاء

كتاب الاستسقاء [7] (باب الاستسقاء في خطبة الجمعة غير مستقبل القبلة) 233/ 1014 - قال أبو عبد الله: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا إسماعيل بن جعفر، عن شريك -وهو ابن أبي نمر- عن أنس أن رجلا دخل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب فقال: هلكت الأموال وانقطعت السبل، فادع الله يغثنا، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال: (اللهم أغثنا). قال أنس: ولا والله ما نرى في السماء من سحاب لا قزعة وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار. قال: فطلعت من ورائه سحابة، ثم أمطرت، فما رأينا الشمس سبتا، ثم دخل رجل فقال يا رسول الله: هلكت الأموال وانقطعت السبل، فادع الله يمسكها، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال: (اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية) قال: فأقلعت وخرجنا نمشي في الشمس.

القزعة: القطعة من السحاب المتفرقة. والظراب: جمع الظرب وهو الهضبة دون الجبل. والآكام: جمع الأكمة، وهو التل المرتفع من الأرض. وسلع جبل قريب من المدينة.

[9] (باب من اكتفى بصلاة الجمعة في الاستسقاء)

[9] (باب من اكتفى بصلاة الجمعة في الاستسقاء) 234/ 1016 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن شريك، عن أنس في هذه القصة قال: جاء رجل فقال: هلكت المواشي وذكر الحديث، وقال: فانجابت عن المدينة انجياب الثوب. قوله: انجاب: معناه انقطع عنا في استدارة حولنا فكنا وسطا منها. يقال: جُبت الأرض، إذا قطعتها سيرا، واجتاب الرجل الثوب، إذا اقتطعه لباسا، ومنه قول الشماخ:

لشدة الوجد مجتابا ديابود وفي رواية أخرى من هذا الحديث: قالوا يا رسول الله: (قحط المطر واحمرت الشجر) يريد تغير لونها عن الخضرة إلى الحمرة، من اليبس والقحل، ولحمراء من أسماء السنة، وكذلك الشهباء.

[21] (باب رفع الناس أيديهم مع الإمام في الاستسقاء)

[21] (باب رفع الناس أيديهم مع الإمام في الاستسقاء) 235/ 1029 - قال أبو عبد الله: وقال أيوب بن سليمان: حدثني أبو بكر بن أبي أويس، عن سليمان بن بلال قال: يحيى بن سعيد سمعت أنس بن مالك قال: أتى أعرابي فقال: يا رسول الله، هلكت الماشية، هلك العيال، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه يدعو، فما خرجنا من المسجد حتى مُطرنا، وما زلنا نُمطَر حتى كانت الجمعة الأخرى، فأتى الرجلُ فقال: يا رسول الله، بَشِق المسافر ومُنع الطريق. قال أبو عبد الله: بشق: اشتد. قلت: قوله بشق ليس بشيء، إنما هو لَثِق المسافر من اللَّثَق وهو الوحل، يقال: لثق الطريق ولثق الثوب إذا أصابه ندى المطر ولَطْخ الطين ونحو ذلك. ويقال: بكى الرجل حتى لثقت لحيته،

أي: اخضلت وابتلت من الدموع، وقد يحتمل أن يكون ذلك مشق بالميم، فحسبه السامع بشق لتقارب مخرجي الباء والميم، يريد أن الطريق صارت مزلة زلقا، ومنه مشق الخط، وقال المظفع: بلغني عن ابن دريد أنه قال: بشق وبشك مبدل منه إذا أسرع، وهذا يوافق قول أبي عبد الله. قال ابن دريد: ورواه لنا أبو حاتم إنه لبَشِق.

[23] (باب ما يقال إذا أمطرت)

[23] (باب ما يقال إذا أمطرت) 236/ 1032 - قال أبو عبد الله: حدثنا محمد بن مقاتل قال: أخبرنا عبد الله قال: أخبرنا عبيد الله، عن نافع، عن القاسم بن محمد، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى المطر قال: (صيبا نافعا). قوله: صيبا، هو من صاب المطر يصوب إذا سال، قلب الواو منه ياء، والصيب: المطر الشديد، يَصُوب منه الماء الكثير، أي: يسيل، ووزن الصيِّب فَيْعِل من الصَّوب.

كتاب الكسوف

كتاب الكسوف [1] (باب الصلاة في كسوف الشمس) 237/ 1041 - قال أبو عبد الله: حدثني شهاب بن عباد، حدثنا إبراهيم بن حميد، عن إسماعيل، عن قيس قال: سمعت أبا مسعود يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الشمس والقمر لا يكسفان لموت أحد من الناس، ولكنهما آيتان من آيات الله، فإذا رأيتموهما فقوموا فصلوا).

[1] (الباب نفسه)

[1] (الباب نفسه) 238/ 1042 - قال أبو عبد الله: وحدثني أصبغ قال: حدثني ابن وهب، قال: أخبرني عمرو، عن عبد الرحمن بن القاسم، حدثه عن أبيه، عن ابن عمر أنه كان يخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الشمس والقمر لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته (ولكنهما) آيتان من آيات الله، فإذا رأيتموها فصلوا. معنى هذا الكلام وتأويله أنهم كانوا في الجاهلية يزعمون أن كسوف الشمس والقمر يوجب حدوث تغييرات في العالم من موت وضرر ونقص ونحو ذلك من الأمور على ما يذهب إليه أهل التنجيم من إعطائها الأحكام وزعمهم أن هذه الأجسام السفلية مربوطة بالنجوم، وأن لها فعلا وتأثيرا فيها، فأعلمهم النبي صلى الله عليه

وسلم أن الذي كانوا يتوهمونه من ذلك باطل، وأن خسوف الشمس والقمر آيتان من آيات الله تعالى يريهما خلقه ليعلموا أنهما خلقان مسخران لله عز وجل ليس لهما سلطان في غيرهما، ولا قدرة على الدفع عن أنفسهما. وأنهما لا يستحقان أن يعبدا، فيتخذا إلهين، وهو معنى قوله عز وجل: {ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون}، وأمر عند كسوفها أن يُفزع إلى الصلاة والسجود لله الذي يستحق العبادة والسجود دونهما، إبطالا لقول الجهال الذين يعبدونهما، وإفسادا لمذاهبهم في عبادتها، والله أعلن [أعلم]. وقد يحتمل أن يكون المعنى في الأمر الصلاة عند الكسوف الفزع إلى الله عز وجل، والتضرع له في دفع الضرر والآفات التي تتوهمها الأنفس، وتتحدث بها الخواطر تحقيقا لإضافة الحوادث كلها إلى الله تعالى، ونفيا لها عن الشمس والقمر، وإبطالا لأحكامها والله أعلم. وقد قيل فيه وجه ثالث: وهو أنهما آيتان من آيات الله الدالة على قرب زمان الساعة وأمارتان من أماراتها وأشراطها المتقدمة لها كما قد قال مخبرا عن خسوفهما في القيامة: {فإذا برق البصر وخسف القمر وجمع الشمس والقمر} وقد يكون ذلك أيضا أنه يخوف بهما

الناس ليفزعوا إلى التوبة والاستغفار من الزلل والخطايا، ودليل ذلك قوله عز وجل: {وما نرسل بالآيات إلا تخويفا}، ويؤكد ذلك حديث أبي بكرة.

[6] (باب قول النبي صلى الله عليه وسلم يخوف الله عباده بالكسوف)

[6] (باب قول النبي صلى الله عليه وسلم يخوِّف الله عباده بالكسوف) 239/ 1048 - قال أبو عبد الله: حدثنا قتيبة، حدثنا حماد بن زيد، عن يونس، عن الحسن، عن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يُكسفان لموت أحد، ولكن يخوف الله بهما عباده). وفيه دليل على أن الصلاة مستحبة عند حدوث كل آية من الآيات كالزلزلة والريح العاصف، والظلمة ونحوها من الحوادث والآيات. وقد جاء في هذين الحديثين باللغتين من الخسوف والكسوف. يقال: خسفت الشمس وكسفت، ومن الناس من يغلب في القمر لفظ الخسوف وفي الشمس لفظ الكسوف.

[12] (باب صلاة الكسوف في المسجد)

[12] (باب صلاة الكسوف في المسجد) 240/ 1055 - قال أبو عبد الله: حدثنا إسماعيل قال: حدثني مالك، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة -بنت عبد الرحمن- عن عائشة قالت: قلت يا رسول الله أيعذب الناس في قبورهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عائذا بالله من ذلك). قوله: (عائذا بالله)، أي: أعوذ عياذا بالله منه، وقد جاء من المصادر على وزن فاعل قولهم: عافاه الله عافية، وما أباليه بالية.

[7] (باب التعوذ من عذاب القبر في الكسوف)

[7] (باب التعوذ من عذاب القبر في الكسوف) 241/ 1050 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة (قالت): خسفت الشمس ضحى فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فقام الناس وراءه فقام قياما طويلا، ثم ركع ركوعا طويلا، فقام قياما طويلا وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول، ثم رفع فقام قياما طويلا وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول، ثم رفع، فسجد، ثم قام، فقام قياما طويلا وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول، ثم رفع فقام قياما طويلا وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول ثم رفع، فسجد وانصرف. قلت: فيه بيان أنه صلى لكسوف الشمس بالناس جماعة، وأنه صلى ركعتين فيهما أربع ركعات وأربع سجدات، وإلى هذا ذهب الشافعي وأحمد، وعند أصحاب الرأي يصلون منفردين في كل ركعة ركوع واحد كسائر الصلوات، وفيه أنه ليس فيه ذكرُ تطويلِ السجود كتطويل الركوع.

[19] (باب الجهر بالقراءة في الكسوف)

[19] (باب الجهر بالقراءة في الكسوف) 242/ 1065 - قال أبو عبد الله: حدثني محمد بن مهران، حدثنا الوليد، حدثنا ابن نمر وهو عبد الرحمن قال: سمع ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة قالت: جهر النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الخسوف بقراءته. قلت: فيه بيان أن القراءة في صلاة الخسوف جهر، وهو قول أحمد وإسحاق. وقال أصحاب الرأي ومالك والشافعي لا يجهر بها، واحتج الشافعي بحديث ابن عباس أنه قال: فحزرنا قراءته، فكانت قدر سورة البقرة. قال: فلو كان قد جهر بالقراءة لاستغنى عن الحَزْر والتقدير فيها.

قلت: والذي يلزم على مذهب الشافعي الجهرُ، لأن المثبت قوله أولى من النافي، وقد أثبتت عائشة الجهر، ومن الجائز أن يكون قد خفي الأمر في ذلك على ابن عباس بأن لم يسمع، إما لأنه كان في آخر الصفوف أو لعائق عاقه عن ذلك. فإن قيل: فليس في الخبر الذي رواه محمد بن إسماعيل ذكرُ الشمس. قيل: قد رواه إسحاق بن راهويه، عن الوليد بن مسلم، عن عبد الرحمن بن نمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم في كسوف الشمس وجهر بالقراءة، حدثناه الحسن بن يحيى، عن (ابن) المنذر فذكره عن إسحاق.

ورواه أيضاً أبو إسحاق الفزاري، عن سفيان بن حسين، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة في مثله، وإن كان سفيان بن حسين لا يدخل في شرطه.

[17] (باب كيف حول النبي صلى الله عليه وسلم ظهره إلى الناس)

كتاب الاستسقاء [17] (باب كيف حوَّل النبي صلى الله عليه وسلم ظهره إلى الناس) 243/ 1025 - قال أبو عبد الله: حدثنا آدم قال: حدثنا ابن أبي ذئب عن الزهري عن عباد بن تميم، عن عمه، قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يوم خرج يستسقي قال: فحول (إلى) الناس ظهره واستقبل القبلة يدعو، ثم حول رداءه، ثم صلى لنا ركعتين جهر فيهما بالقراءة. قوله: (خرج يستسقي) فيه بيان أن السنة في الاستسقاء الخروج إلى المصلى، وفيه أن الاستسقاء إنما يكون بصلاة، وفيه أنه يجهر بالقراءة فيهما، وإليه ذهب مالك وأحمد بن حنبل، وتحويل الرداء إنما هو على مذهب التفاؤل، أي: لينقلب ما بهم من

الجدب إلى الخصب. وقال الشافعي: ينكس الرداء أعلاه أسفله ويتآخى أن يجعل شقه الأيمن على شقه الأيسر. قلت: هذا (إذا) كان رداء مربعا، فإن كان طيلسانا مدورا قلب ولم ينكس.

كتاب سجود القرآن

كتاب سجود القرآن [1] (باب ما جاء في سجود القرآن وسنتها) 244/ 1067 - قال أبو عبد الله: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا غندر، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق قال: سمعت الأسود عن عبد الله قال: قرأ النبي صلى الله عليه وسلم النجم بمكة، فسجد فيها وسجد من معه، غير شيخ أخذ كفا من حصباء أو تراب فرفعه إلى جبهته وقال: يكفيني هذا، فرأيته بعدُ قتل كافرا.

[6] (باب من قرأ السجدة ولم يسجد)

[6] (باب من قرأ السجدة ولم يسجد) 245/ 1073 - قال أبو عبد الله: وحدثنا آدم بن أبي إياس، حدثنا ابن أبي ذئب، حدثنا يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن عطاء بن يسار، عن زيد بن ثابت قال: قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم والنجم فلم يسجد فيها. قلت: هذا الاختلاف في سجدة التلاوة من نوع المباح عند الشافعي، وقد روي من ذلك عن عمر بن الخطاب، وذهب قوم إلى أن المستمع بالخيار في ذلك، وليس كذلك القارئ، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم حين كان هو القارئ سجد؟ وذهب مالك بن أنس إلى أن المفصل لا سجود فيه.

قلت: قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سجد في {إذا السماء انشقت}، وصح عنه السجود في (والنجم)، وهو ما رواه ابن مسعود، فليس وجه التوفيق بين الحديثين إلا أنه من المباح إن شاء سجد وإن شاء لم يسجد، وفعله مستحب، وليس بعزيمة، وإليه ذهب عمر بن الخطاب وجماعة من الصحابة.

كتاب تقصير الصلاة

كتاب تقصير الصلاة [1] (باب ما جاء في التقصير، وكم يقيم حتى يقصر) 246/ 1080 - قال أبو عبد الله: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا أبو عوانة، عن عاصم وحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: أقام النبي صلى الله عليه وسلم تسعة عشر يقصر، فنحن إذا سافرنا تسعةت عشر قصرنا وإن زدنا أتممنا. قلت: قد اختلف الناس في هذه المسألة اختلافا كثيرا، واضطربت أقاويلهم فيها اضطرابا شديدا، فكان الذي اعتمده أبو عبد الله من جملة الروايات فيها هذا الحديث، وهو يجمع حكاية الفعل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكون هذه المدة حدا لجواز القصر من رأي ابن عباس، وكأنه ذهب في ذلك إلى أن أصل الصلاة الإتمام، وإنما يجوز القصر بعلة السفر، ومدة التسع عشرة في مقام المسافر مستثناة من جملة حكم صلاة المقيم،

وما وراءها مردود إلى الأصل ومقر عليه، وقد قال به الشافعي إلا أنه شَرَط في ذلك وجود الخوف وجعل مدة الرخصة لمن لا يخاف عدوا أربعة أيام، ولو كانت العلة في ذلك الخوف لم يكن للتحديد معنى إذا كان الخوف موجودا، ألا ترى أن الخائف يصلي صلاة الخوف ما امتد الزمان بلا تحديد إذا كان الخوف موجودا، فالقول في هذا الباب ما ذهب إليه ابن عباس وهو أصح ما روي في هذا الباب، وقد روي عن ابن عباس في هذا روايتان أخريان: إحداهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بمكة عام الفتح سبع عشرة يقصر في الصلاة، والرواية الأخرى خمس عشرة وإليه ذهب أصحاب الرأي إلا أن أصحها وأثبتها في الرواية ما ذكره أبو عبد الله ولم يعرض لغيره بذكر، فالقول في ذلك على ما وصفناه والله أعلم.

[2] (باب الصلاة بمنى)

[2] (باب الصلاة بمنى) 247/ 1084 - قال أبو عبد الله: حدثنا قتيبة بن سعيد قال: حدثنا عبد الواحد، عن الأعمش قال: حدثنا إبراهيم قال: سمعت عبد الرحمن بن يزيد يقول: صلى عثمان بن عفان بمنى أربع ركعات، فقيل ذلك لابن مسعود فاسترجع ثم قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين، وصليت مع أبي بكر ركعتين، وصليت مع عمر بمنى ركعتين، فليت حظي من أربع ركعات (ركعتان) متقبلتان. قلت: استرجاع ابن مسعود إنما كان من أجل الأسوة، ولولا أن المسافر يجوز له الإتمام كما يجوز له القصر لم يتابعوا عثمان ومعه ملأ من الصحابة وأهل الموسم من الآفاق، وقد ثبت أن ابن

مسعود صلى معه أربعا، ثم قال: الخلاف شر، فلو كان بدعة لم يكن مخالفته شرا لكن صلاحا وخيرا. وقد روي عن الزهري أنه قال: إنما فعل ذلك عثمان لأنه اتخذ الأموال بالطائف وأراد أن يقيم بها.

[4] (باب في كم يقصر الصلاة)

[4] (باب في كم يقصر الصلاة) 248/ 1087 - قال أبو عبد الله: حدثنا مسدد، حدثنا يحيى عن عبيد الله قال: أخبرني نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسافر المرأة ثلاثا إلا ومعها ذو محرم). يستدل به من يجعل حد السفر الطويل الذي تقصر فيه الصلاة ثلاثا، لأن دلالته ظاهرة أن المرأة يجوز لها الخروج في سفر مسافته أقل من ثلاثة لقصر المسافة وخفة الأمر في ذلك، وإنما جاءت الرخصة في الطويل من السفر الذي يلحق فيه المسافر مشقة السفر، وتعب السير، وإليه ذهب سفيان الثوري وأصحاب الرأي. قلت: لو كان العلة في ذلك ما ذهبوا إليه لجاز للمرأة أن تسافر فيما دون الثلاث بلا محرم، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم نهيها عن أن تسافر مسيرة يوم وليلة بغير محرم، ورواه أبو عبد الله قال:

249/ 1088 - : حدثنا آدم قال: حدثنا ابن أبي ذئب قال: حدثنا سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة ليس معها ذو حرمة) فدل أن ذلك ليس بعلة لجواز القصر. وقد ذهب الأوزاعي إلى القصر في مسيرة يوم تام، وفيا لخبر دليل على أن المرأة إذا لم تجد ذا محرم لم يلزمها الخروج إلى الحج.

[18] (باب صلاة القاعد بالإيماء)

[18] (باب صلاة القاعد بالإيماء) 250/ 1116 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، حدثنا حسين المعلم، عن عبد الله بن بريدة، عن عمران بن حصين -وكان رجلا مَبْسورا- قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة الرجل وهو قاعد فقال: (من صلى قائما فهو أفضل، ومن صلى قاعدا فله نصف أجر القائم، ومن صلى نائما فله نصف أجر القاعد). قال أبو عبد الله: نائما، أي مضطجعا. قلت: قد كنا تأولنا هذا الحديث في كتاب المعالم على أن المراد به صلاة التطوع دون الفرض، ولذلك فاضل بين ثوابها عند اختلاف أحوالها، إذ لا يجوز للمفترض أن يصلي قاعدا وهو يقدر على أن يصليها قائما، ولو فعل ذلك لم تجزه عن فرضه بتة فضلا عن أن يكون له نصف أجر القائم، وعلى هذا المعنى تأوله أبو عبيدة [أبو عبيد] وغيره من العلماء إلا أن قوله: (ومن صلى نائما فله

مثل نصف أجر القاعد) يفسد هذا التأويل إذا كان المضطجع لا يصلي التطوع كما يصلي القاعد، فرأيت حين وجدتُ الحديث من رواية أبي عبد الله أنه إنما أراد به المريض المفترض الذي لو تحامل في القيام لأمكنه ذلك مع شدة المشقة والزيادة في ألم العلة الموضوعتين عنه في حكم ما يترخص به المريض من الأعذار، وجعل أجر القاعد على النصف من أجر القائم ترغيبا له في القيام للزيادة في الأجر والثواب مع جواز الفرض إذا صلاه قاعدا وكذلك هذا في المضطجع الذي لو تحامل أمكنه القعود مع شدة المشقة، جعل أجره على النصف من صلاة القاعد مع جواز صلاته على تلك الحال والله أعلم. قلت: ويشبه أن يكون هذا الكلام فتيا أفتاها عن مسألته وجوابا له عن حاله في علته تلك، وليست علة الباسور على ما فيها من الأذى بالمانعة من القيام في الصلاة مع الرخصة له في القعود إذا اشتدت مشقته عليه والله أعلم. وقوله: ومن صلى نائما، أي على هيئة النائم في الاضطجاع، كما جاء من رواية أخرى في الحديث: صل قائما، فإن لم تستطع فصل قاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب. وفيه أنه أمره أن يصلي على جنب لا مستلقيا على قفاه.

[12] (باب من تطوع في السفر في غير دبر الصلوات وقبلها)

[12] (باب من تطوع في السفر في غير دبر الصلوات وقبلها) 251/ 1105 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو اليمان قال: أخبرنا شعيب، عن الزهري قال: أخبرني سالم بن عبد الله عن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسبح على ظهر راحلته حيث كان وجهه يومئ برأسه. قوله: (يسبح) معناه يصلي النافلة وهي السبحة، ومنه حديث عائشة رضي الله عنها في سبحة الضحى. وقوله: (حيث كان وجهه) فإن هذا إنما يجوز في تضاعيف الصلاة، فأما إذا أراد افتتاح الصلاة فإنه يستقبل القبلة، فإذا كبر صلى حيث توجهت به راحلته، والأصل في الصلاة أنها لا تجزئ إلا باستقبال القبلة، إلا أنه كان يشق على المسافر لو كلف ذلك في جميع أجزاء صلاته، وعند الافتتاح يخف عليه الأمر فيه، ولو كلف المسافر الاستقبال في صلاته كلها لقل حظه من العبادة ولفاتته أوراده، وربما عاقه عنها إذا نزل الإعياء والكلال وتعهد مهنة السفر فرخص له في ترك الاستقبال إلا في موضع الافتتاح، فإن ذلك لا يشق عليه ولا يصده عن وجهة سفره.

كتاب التهجد

كتاب التهجد [5] (باب تحريض النبي صلى الله عليه وسلم على صلاة الليل والنوافل من غير إيجاب) 252/ 1128 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن يوسف قال: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة قالت: ما سبح رسول الله صلى الله عليه وسلم سبحة الضحى قط وإني لأسبحها. تريد صلاة الضحى. قلت: وهذا من عائشة إخبار عما علمته دون ما لم تعلم، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الضحى يوم الفتح في بيت أم هانيء.

وفي حديث أبي ذر وأبي هريرة قال كل واحد منهما: أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم أن لا أدع ركعتي الضحى.

[13] (باب إذا نام ولم يصل بال الشيطان في أذنه)

[13] (باب إذا نام ولم يصل بال الشيطان في أذنه) 253/ 1144 - قال أبو عبد الله: حدثنا مسدد، حدثنا أبو الأحوص حدثنا منصور، عن أبي وائل، عن عبد الله قال: ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقيل: ما زال نائما حتى أصبح، ما قام إلى الصلاة فقال: بال الشيطان في أذنه. قوله: بال الشيطان في أذنه، يشبه أن يكون ذلك مثلا ضربه له، شبهه حين غفل عن الصلاة وتثاقل بالنوم عن القيام لها ممن وقع البول في أذنه فثقل سمعه وفسد حسه لذلك، والبول ضار

مفسد، فلذلك ضرب المثل به، وهذا كقول راجز العرب: بال سهيل في الفضيخ ففسد وليس هناك بول إنما هو طلوع نجم سهيل وحدوث فساد الفضيخ بعد ذلك فجعله كالبول يقع في الشراب فيفسده. وإن كان المراد بهذا القول عين البول من الشيطان نفسه، فلا ينكر ذلك إن كانت له هذه الصفة، والله أعلم.

[14] (باب الدعاء والصلاة من آخر الليل)

[14] (باب الدعاء والصلاة من آخر الليل) 254/ 1145 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن ابن شهاب عن أبي سلمة وأبي عبد الله الأغر، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ينزل ربنا عز وجل كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير يقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له). قلت: هذا الحديث وما أشبهه من الأحاديث في الصفات كان مذهب السلف فيها الإيمان بها وإجراؤها على ظاهرها ونفي الكيفية عنها. أخبرنا الزعفراني، حدثنا ابن أبي خيثمة، حدثنا

عبد الوهاب ابن نجدة الحوطي، حدثنا بقية، عن الأوزاعي، قال: كان مكحول والزهري يقولان: أمروا الأحاديث. وحدثونا عن عباس الدوري قال: كان أبو عبيد

يقول: نحن نروي هذه الأحاديث ولا نريغ لها المعاني. وقد روينا عن عبد الله بن المبارك أن رجلا قال له: كيف ينزل؟ فقال له بالفارسية: (كَدْخُذايْ كارِ خِويشْ كُنْ) [معناه: يا سيدي اشتغل بعملك] ينزل كما شاء. وإنما يُنكِر هذا وما أشبهه من الحديث من يقيس الأمور في ذلك بما شاهده من النزول الذي هو تَدَلٍّ من أعلا إلى أسفل وانتقال من فوق إلى تحت. وهذه صفة الأجسام والأشباح، فأما نزول من لا تستولي عليه صفات الأجسام، فإن هذه المعاني غير متوهمة فيه، وإنما هو خبر عن قدرته ورأفته بعباده، وعطفه عليهم، واستجابته دعاءهم، ومغفرته لهم، يفعل ما يشاء، لا يتوجه على صفاته كيفية، ولا على أفعاله لمية سبحانه {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}.

[17] (باب فضل الطهور بالليل والنهار، وفضل الصلاة بعد الضوء [الوضوء] بالليل والنهار)

[17] (باب فضل الطهور بالليل والنهار، وفضل الصلاة بعد الضوء [الوضوء] بالليل والنهار) 255/ 1149 - قال أبو عبد الله: حدثني إسحاق بن نصر، حدثنا أبو أسامة، عن أبي حيان، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال عند صلاة الفجر: (يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام، فإني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة)؟ دف النعل: حفيفها، وما يحس من صوت لها عند وطئها، وأصل الدف: السير السريع، ومنه قول الحسن: إنهم وإن دفدفت بهم الهماليج، أي: أسرعت.

[20] (باب)

[20] (باب) 256/ 1153 - قال أبو عبد الله: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، عن عمرو، عن أبي العباس قال: سمعت عبد الله بن عمرو قال: (قال) لي النبي صلى الله عليه وسلم: (ألم أخبر أنك تقوم الليل وتصوم النهار)؟ قلت: إني أفعل ذلك. قال: (فإنك إذا فعلت ذلك هجمت عينك ونقهت نفسك، وإن لنفسك حقا ولأهلك حقا، فصم وأفطر وقم ونم). قوله: (هجمت عينك) معناه غارت عينك، وضعف بصرها، وقوله: نقهت نفسك، أي أعيت وكلت، والناقه: المعيي. وقوله: (إن لنفسك حقا)، أي: في الإبقاء عليها، فإنك إنما تستخرج منها الطاعة مع بقائها وسلامة قواها. وقوله: (ولأهلك حقا)، أي: في العشرة وإيفاء حقوق الصحبة.

[21] (باب فضل من تعار من الليل فصلى)

[21] (باب فضل من تعارَّ من الليل فصلى) 257/ 1154 - قال أبو عبد الله: حدثني صدقة بن الفضل، حدثنا الوليد، عن الأوزاعي، قال: حدثني عمير بن هانئ، قال: حدثني جنادة بن أبي أمية، قال: حدثني عبادة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من تعارَّ من الليل فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، الحمد لله وسبحان الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: اللهم اغفر ودعا استجيب له، فإن توضأ قبلت صلاته). قوله: تعار، معناه استيقظ من نومه، وأصل التعار السهر

والتقلب على الفراش، ويقال: إنه لا يكون إلا مع كلام وصوت، وقيل: إنه مأخوذ من عِرار الظَّلِيم وهو صوته.

[644] (باب صلاة النوافل جماعة)

[644] (باب صلاة النوافل جماعة) 258/ 1186 - قال أبو عبد الله: (حدثني إسحاق) حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا أبي، عن ابن شهاب قال: أخبرني محمود بن الربيع أنه سمع عتبان بن مالك الأنصاري يقول: جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: أنكرت بصري وإن الوادي الذي بيني وبين (قومي) يسيل إذا جاءت الأمطار فيشق علي اجتيازه فوددت أنك تأتي فتصلي من بيتي مكانا أتخذه مصلى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سأفعل)، فغدا علي وأبو بكر بعدما اشتد النهار، فاستأذن فأذنت له، فلم يجلس حتى قال: أين تحب أن أصلي في بيتك؟ فأشرت له إلى المكان الذي أحب أن أصلي فيه، فقام، فكبر وصففنا وراءه، فصلى ركعتين، ثم سلم وسلمنا، فحبسته على خزير يصنع له، فسمع أهل الدار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي، فثاب رجال

حتى كثروا في البيت وساق الحديث. الخزير: طعام يتخذ من دقيق ولحم. وفيه من الفقه أن صلاة النافلة تصلى جماعة، وأن نوافل النهار تصلى ركعتين كهي بالليل. وقوله: فسمع أهل الدار، يريد أهل المحلة التي فيها الدُّور. ومنه الحديث أنه قال: (خير دور الأنصار بنو النجار، ثم دار بني عبد الأشهل، ثم دار بلحارث، ثم دار بني ساعدة، وفي كل دور الأنصار خير). ومثله الحديث الآخر: أنه أمر ببناء المساجد التي في الدور وتنظيفها، يريد المحال التي فيها الدور، ومن هذا قول الله عز وجل: {سأريكم دار الفاسقين}. وقوله: {تمتعوا في داركم ثلاثة أيام} وفيه استحباب

تأخِّي الصلاة في المواضع التي صلى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم والتبرك بذاك، وفيه أن الموضع الذي اتخذه في بيته مسجدا لم يخرج من ملكه، فيكون بمنزلة المساجد المتخذة في المحال للصلاة فينقطع عنها الإملاك. وفيه أن النهي عن أن يوطن الرجل مكانا يصلي فيه، إنما هو في المساجد دون البيوت.

كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة

كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة [6] (باب مسجد بيت المقدس) 259/ 1197 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو الوليد قال: حدثنا شعبة، عن عبد الملك سمعت قَزْعة -مولى زياد- قال: سمعت أبا سعيد الخدري يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجد الحرام، ومسجد الأقصى، ومسجدي). قوله: لا تشد الرحال، لفظه خبر ومعناه الإيجاب فيما ينذره الإنسان من الصلاة في البقاع التي يتبرك بها من المشاهد والمساجد ومواطن القُرَب، يريد أنه لا يلزمه الوفاء بشيء من ذلك حتى يُشد الرحل له وتقطع المسافة إليه غير هذه المساجد الثلاثة التي هي مساجد الأنبياء صلوات الله عليهم، فأما إذا نذر الصلاة في غيرها من البقاع، فإن له الخيار في أن يأتيها فيقضيها أو يصليها في موضعه لا يرحل إليها، وقد تشد الرحال إلى المسجد الحرام فرضا للحج والعمرة، وكانت تشد إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في

حياته للهجرة، وكانت واجبة على الكفاية في قول بعض العلماء، فأما إلى بيت المقدس فإنما هو فضيلة واستحباب، وقد يُتأول معنى الحديث على وجه آخر، وهو أن لا يُرحل في الاعتكاف إلا إلى هذه المساجد الثلاثة فقد ذهب بعضُ السلف إلى أن الاعتكاف لا يصح إلا فيها دون سائر المساجد.

[5] (باب فضل ما بين القبر والمنبر)

[5] (باب فضل ما بين القبر والمنبر) 260/ 1196 - قال أبو عبد الله: حدثنا مسدد، عن يحيى، عن عبيد الله قال: حدثني خبيب بن عبد الرحمن، عن حفص بن عاصم عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي). معنى هذا الكلام: تفضيل المدينة والترغيب في المقام بها والاستكثار من ذكر الله تعالى وعبادته في مسجدها، وتفضيل البقعة (التي بين البيت والمنبر خصوصا منها، يقولأ: من لزم طاعة الله في هذه البقعة ..) آلت به الطاعة إلى روضة من رياض الجنة، وإن من لزم عبادة الله عند المنبر سُقي في القيامة من الحوض، والله أعلم.

كتاب العمل في الصلاة

كتاب العمل في الصلاة [5] (باب التصفيق للنساء) 261/ 1204 - قال أبو عبد الله: حدثنا يحيى، حدثنا وكيع عن سفيان، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن التسبيح للرجال والتصفيح للنساء). التصفيح: التصفيق باليد، مأخوذ من صفحتي الكف وضرب إحداهما بالأخرى.

[10] (باب ما يجوز من العمل في الصلاة)

[10] (باب ما يجوز من العمل في الصلاة) 262/ 1210 - قال أبو عبد الله: حدثني محمود -وهو ابن غيلان- حدثنا شبابة، حدثنا شعبة، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى صلاة فقال: (إن الشيطان عرض لي فشد عليَّ (يقطع) الصلاة عليَّ فأمكنني الله منه فذعتُّه، ولقد هممت أن أوثقه إلى سارية حتى تصبحوا فتنظروا إليه، فذكرت قول سليمان عليه السلام {رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي} فرده الله خاسئا). قوله: دعتُّه معناه خنقته، والذعت: شدة الخنق. يقاق: ذعت وساب وسات بمعنى واحد.

[17] (باب الخصر في الصلاة)

[17] (باب الخصر في الصلاة) 263/ 1219 - قال أبو عبد الله: حدثني عمرو بن علي حدثنا يحيى، حدثنا هشام، حدثنا محمد، عن أبي هريرة قال: نُهِي أن يصلي الرجل مختصِرا. وقال هشام وأبو هلال عن ابن سيرين، عن أبي هريرة: نهى النبي صلى الله عليه وسلم. الاختصار في الصلاة هو أن يضع يده على خاصرته، وفيه نوع من الاستراحة، وإنما السنة أن يضع الرجل يديه على صدره إحداهما فوق الأخرى. وقد يفسر الاختصار في الصلاة تفسيرا آخر، وهو أن يمسك بيده مِخْصَرَة أو عصا يعتمد عليها في صلاته.

كتاب السهو

كتاب السهو [2] (باب إذا صلى خمسا) 264/ 1226 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو الوليد، حدثنا شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر خمسا، فقيل له: أزيد في الصلاة؟ فقال: وما ذاك؟ قال: صليت خمسا، فسجد سجدتين بعدما سلم. قلت: إسناد هذا الحديث إسناد لا مزيد عليه في الجودة، وأكثر رواته علماء أهل الكوفة وفقهاؤها، وكل منهم قد قال به، فيشبه أن يكون من ذهب من فقهاء الكوفة إلى خلافه لم يبلغه الحديث، فلذلك قال: إن لم يكن قعد في الرابعة قدر التشهد (وسجد في الخامسة فصلاته فاسدة، وعليه أن يستقبل الصلاة وإن كان قد قعد في الرابعة قدر التشهد) فقد تمت له الظهر،

والخامسة تطوع وعليه أن يضيف إليها ركعة، ثم يتشهد ويسلم ويسجد سجدتي السهو. وهذه أحوال لا يبنى تأليفها على ما جاء في الحديث، ولا تخلو صلاة النبي صلى الله عليه وسلم من أن يكون قعد منها في الرابعة أو لم يكن قعد، فإن كان قعد فيها فإنه لم يضف إليها السادسة، وإن كان قعد في الرابعة فإنه لم يستأنف، فاتباع الحديث على الأحوال كلها أولى.

[8] (باب إذ كلم وهو يصلي فأشار بيده واستمع)

[8] (باب إذ كلم وهو يصلي فأشار بيده واستمع) 265/ 1233 - قال أبو عبد الله: حدثني يحيى بن سليمان، حدثنا ابن وهب قال: حدثني عمرو، عن بكير، عن كريب، عن أم سلمة في الركعتين بعد العصر قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ينهى، تعني عن الصلاة بعدها، ثم رأيته يصيهما فسألته عن ذلك فقال: (إنه أتاني ناس من عبد القيس، فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر، فهما هاتان). فيه من الفقه أن النهي عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وبعد الفجر حتى تطلع، إنما هو عن الابتداء بها وإنشائه تطوعا دون ما كان لها سبب من واجب أو أمر مندوب إليه، وفيه أن فوائت النوافل تقضى ولا تترك. وقد جاء أنه صلى الله عيه وسلم قد واظب عليها بعد ذلك، فإنه كان من عادته إذا فعل شيئا من الطاعات في وقت لم يقطعه فيما يستقبل واتخذه عادة.

[9] (باب الإشارة في الصلاة)

[9] (باب الإشارة في الصلاة) 266/ 1234 - قال أبو عبد الله: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه أن بني عمرو بن عوف كان بينهم شيء، فخرج يصلح بينهم، فحُبس رسول الله صلى الله عليه وسلم وحانت الصلاة فقال بلال لأبي بكر: قد حبس رسول الله صلى الله عليه وسلم وحانت الصلاة فهل لك أن تؤم الناس؟ قال: نعم، فأقام بلال وتقدم أبو بكر، فكبر للناس، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي في الصفوف حتى قام في الصف، فأخذ الناس في التصفيق، وكان أبو بكر لا يلتفت في صلاته، فلما أكثر الناس التفت، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمره أن يصلي، فرفع أبو بكر يديه، فحمد الله ورجع القهقرى وراءه، فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى للناس، فلما فرغ أقبل على الناس فقال: (ما لكم حين نابكم شيء في الصلاة أخذتم في

التصفيق؟ إنما التصفيق للنساء، من نابه شيء في صلاته فليقل سبحان الله، يا أبا بكر ما منعك أن تصلي للناس حين أشرت إليك؟ فقال أبو بكر: ما كان ينبغي لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت: يجمع هذا الحديث أنواعا من العلم والأدب، منها أن الصحابة لم يرهقوا الصلاة حين حان وقتها انتظارا لمجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبادروا إلى إقامتها في أول وقتها، فلم ينكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك من فعلهم. ومنها جواز بعض الصلاة بإمام وبعضها بإمام آخر. ومنها جواز الائتمام بمن قد تقدم افتتاح المأموم صلاته قبله. ومنها جواز أن يكون الرجل في بعض صلاته إماما وفي بعضها مأموما. ومنها أن الالتفات من غير استدبار القبلة لا يقطع الصلاة، ومنها أن العمل اليسير كالخطوة والخطوتين يتقدم بها المصلي عن مقامه أو يتأخر عنه لا يفسد صلاته. ومنها أن سنة الرجال فيما ينوبهم في الصلاة من حادث أمرٍ التسبيحُ، وأن التصفيق سنة النساء، وهو صفق إحدى اليدين

بالأخرى لا ببطونها، ولكن بظهور أصابع اليمنى على الراحة من اليد اليسرى. وفيه جواز صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم خلف أمته. وفيه تفضيل أبي بكر وتقديم رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه في الصلاة، والرضا بإمامته لو كان ثبت في مكانه وتم على صلاته، ولذلك أشار إليه بأن يقيم بمكانه. وفيه جواز الدعاء والتحميد في الصلاة، ورفع اليد له عند حادث نعمة يجب شكرها، فلا يكون الاشتغال به ناقضا صلاته. ومنها أن أبا بكر عقل عن إشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أمرُ تقديمٍ له وإكرام، لا أمر إيجاب وإلزام، ولولا ذلك لم يستجز مخالفته فيما أمره. وقول أبي بكر رضي الله عنه: لا ينبغي لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتمل وجهين من التأويل: أحدهما: أن يكون ذلك منه على مذهب التواضع والاستصغار لنفسه؛ لأن الإمامة موضع الفضيلة ومحل الرئاسة، ومن سنة الدين أن يتقدم فيها الأفضل فالأفضل والوجه الآخر: أن أمر الصلاة كان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم يختلف ويستحيل من حال إلى حال، فلم يكن

يُؤمَن أن يحدث الله تعالى في ذلك الحال أمرا من أمره، إما زيادة أو نقصانا أو تبديل هيئة، وهو لا يعلم ذلك، فرأى أن المستحق للإمامة رسول الله صلى الله عليه وسلم (دونه) لكي يُعلم إن حدث في أمر الصلاة شيء اقتدى القوم به في ذلك، ويشبه أن يكون مع ذلك قد استدل أبو بكر بشَقِّه الصفوف حتى خلص إلى الصف الأول وقام وراءه، أنه لو أراد أن لا يتقدم في تلك الصلاة لثبت من ورائها حيث انتهى به المقام، إذ كان من سنته أن يقف الداخل حيث انتهى به المقام ولا يزاحم الجموع ولا يشق الصفوف.

كتاب الجنائز

كتاب الجنائز [2] (باب الأمر باتباع الجنائز) 267/ 1239 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو الوليد، حدثنا شعبة، عن الأشعث قال: سمعت معاوية بن سويد بن مقرِّن، عن البراء قال: أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بسبع، ونهانا عن سبع: أمرنا باتباع الجنائز، وعيادة المريض، وإجابة الداعي، ونصر المظلوم، وإبرار القسم، ورد السلام، وتشميت العاطس، ونهانا عن آنية الفضة، وخاتم الذهب، والديباج، والقسي، والإستبرق. قلت: هذه الخصال السبع المذكورة في هذا الحديث إنما هي أمور جاءت في حقوق المسلمين ومراتبها في الوجوب مختلفة وفي حكم العموم والخصوص غير متفقة، فأما اتباع الجنائز فإنه من

الحقوق الواجبة على الكفاية إذا قام بتجهيز الميت والصلاة عليه قوم، سقط فرضه عن الباقين، وكان ما تفعلونه [يفعلونه] من وراء ذلك فضيلة، وعيادة المريض من الفضائل المرغب فيها الموعودِ عليها الأجرُ والثوابُ، إلا أن يكون المريض منقطعا به ليس له متعهد، فعيادته حينئذ واجبة وتعهده لازم. وأما إجابة الداعي فإنه حق خاص في دعوة الإملاك دون غيرها من الدعوات، ومن شرائطها أن لا يكون في المدعاة منكر، فإن كان فيها لهو أو منكر وسِعه أن لا يشهدها حتى يُنحَّى ويماط. ومنها نصر المظلوم: وهو واجب بشرائطه، ويدخل فيه المسلم والذمي، وربما كان نصره قولا، وربما كان فعلا، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: انصر أخاك ظالما أو مظلوما، فقيل: يا رسول الله، هذا أنصره مظلوما، فكيف أنصره ظالما؟ قال: تأخذ على يد الظالم فذلك نصرك إياه. وأما إبرار القسم: فإنه خاص في أمر دون أمر، وذلك فيما يحل من الأمور ويجوز منها، وفيما يمكن ويتيسر، ولا يخرج القسم

عليه، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما استعبره أبو بكر الرؤيا فقال له: أصبت بعضا وأخطأت بعضا، فقال: أقسمت عليك يا رسول الله لتخبرني بالذي أصبت مما أخطأت، فقال: لا تقسم، ولم يخبره. وأما رد السلام: فمن فروض الكفاية إذا كان جماعة، فرد بعضهم سقط الفرض عن الباقين، وإذا كان واحدٌ تعين عليه وجوب الرد. وأما تشميت العاطس فإنما يجب إذا كان قد حمد الله، فإن لم يحمد لم يشمت، وقد روى لنا الأوزاعي أن رجلا عطس بحضرته فلم يحمد الله، فقال له: كيف تقول إذا عطست؟ فقال الرجل: الحمد الله، فقال له: فرحمكم الله، أي: إنما شمته حين استخرج منه الحمد. وأما آنية الفضة: فالنهي عنها عام يستوي فيه الذكران والإناث، وذلك لأنها من باب السرف والمخيلة، وإفساد المال وإضاعته، وسائر المذكورات معه من خاتم الذهب وأنواع الحرير خاصة للرجال، دون النساء.

والقسِّي: ثياب تتخذ من الحرير، يقال: إنها منسوبة، ويقال: بل هو القزِّي، أي المتخذ من القز، أبدل الزاي فيه سينا، والإستبرق: الغليظ من الديباج.

[4] (باب الرجل ينعى إلى أهل الميت بنفسه)

[4] (باب الرجل يَنَعى إلى أهل الميت بنفسه) 268/ 1246 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، حدثنا أيوب، عن حميد بن هلال، عن أنس بن مالك قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب، وإن عيني رسول الله صلى الله عليه وسلم لتذرفان، ثم أخذها خالد بن الوليد من غير إمرة ففتح له. قلت: هذا كان في غزوة مؤتة، أمَّر رسول الله صلى الله

عليه وسلم الجيش زيدا وقال: إن أصيب فالأمير جعفر، فإن أصيب فعبد الله بن رواحة فأصيبوا كلهم، فنظر خالد وهو في ثغرم خوف، وبإزاء عدو عددهم جم وبأسهم شديد، فخاف ضياع الأمر، وهلاك من معه من المسلمين، فتصدى للإمارة عليهم، وأخذ الراية من غير تأمير، وقاتل إلى أن فتح الله على المسلمين، فرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلَه، إذ وافق الحق وإن لم يكن من رسول الله تقدمُ إذن له في ذلك، ولا من القوم الذين معه بيعةٌ وتأميرٌ فصار هذا أصلا في الضرورات إذا وقعت في معاظم أمر الدين في أنها لا تُراعى فيها شرائطُ أحكامها عند عدم الضرورة، فكل أمر حدث مما سبيله أن يتولاه الأئمة، وولاة الأمور، فلم يشهدوه وخيف عليه الضياع والانتشار، فإن تداركه واجب والقيام به لازم على من شهده من جماعة المسلمين حسب ما يوجد إليه السبيل، وإن لم يكن تقدم لهم في ذلك إذن، وكذلك هذا في خواص الأمور الواجبة في حق الدين وفي حقوق الآحاد من أعيان الناس، وإن لم يتقدم من ولي الأمر في ذلك إذن أو توكيل، مثل أن يموت رجل بفلاة من الأرض، وقد خلف مالا وتركه، فإن على من شهده حفظَ ماله وإيصالَه إلى أهله وإن لم يوص المتوفى بذلك إليه، ولا يحل له أن يتركه بمضيعة، كما لا يحل له أن يُغفِل

تكفينه وتجهيزه من ماله، فإن أمور الدين موضوعة على التعاون والنصيحة واجبة للمسلمين من بعضهم لبعض. وفي الحديث دليل على أن من تغلب من الخوارج وأهل البغي فنصب حاكما بين أهل بلد من البلدان، فإن أحكامه كلها نافذة إذا وافقت أحكام الدين، كما تنفذ أحكام أهل العدل، وأنه إذا عاد الأمر إلى أهل الحق فرفعت إلى حاكمهم، فإنه يمضيها ولا يتتبع حكمه فيها. وكذلك لو كانوا أخذوا الصدقات من أرباب الأموال لم يعد عليهم، وكذلك لو كانوا عقدوا نكاحا على شرط أحكام الأنكحة لم يفسخ، ومضى الأمر في ذلك كله كما ينفذ حكم قاضي أهل العدل. وفيه مستدل لمن ذهب إلى أن الإمام الذي ليس فوقه يد أن يحكم لنفسه بما يحكم به لغيره على قضية حكم الدين، وأن له أن يعقد النكاح لنفسه على وليته، وأن يقطع السارق فيما يسرق من ماله إذا بلغ المبلغ الذي يجب قطع اليد فيه، وقد قطع أبو بكر رضي الله عنه يد السارق الذي سرق الحُلِيَّ من بيته، فكان ذلك حكما منه لنفسه.

فإن قيل: فقد روي أنه كان حليا لأسماء ابنته، قيل: إنه لا فرق على المعنى الذي أردناه بين ماله ومال ولده لانبساط يده في مالها كانباسطها في مال خاصته، ولا تجوز شهادته لولده، كما لا تجوز لنفسه، فكان قطعه إياه في سرقة مالها كقطعه في سرقة مال نفسه لا فرق بينهما في ذلك على هذا المعنى. وفي الحديث من الفقه أيضا جواز دخول الحظر في الوكالات وتعليقها بالشرائط.

[4] (باب الرجل ينعى إلى أهل الميت بنفسه)

[4] (باب الرجل ينعى إلى أهل الميت بنفسه) 269/ 1245 - قال أبو عبد الله: حدثني إسماعيل قال: حدثني مالك عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه، وخرج إلى المصلى فصف بهم وكبر أربعا. قلت: يَستدل بهذا من يرى الصلاة على الميت يموت في بلد آخر، كما يصلي على القبر بعد الدفن من لم يدرك الصلاة عليه قبل الدفن، ووجه ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك أن النجاشي رجل مسلم كان بين ظهراني أهل الكفر، ولم يكن بحضرته من يقضي حقه في الصلاة عليه وإقامة السنة فيه، فتولى صلى الله عليه وسلم ذلك منه بظهر الغيب لنأيه عن حضرته، فأما من مات بين ظهراني المسلمين فيصلي عليه جماعة منهم فقد وقعت الكفاية بذلك، فلم يكن لصلاة الغائب عليه وجهٌ، وإنما تُتبع السنن في مواضعها المسنونة، ولا تُزال عن جهتها. وأخباره [وإخباره] صلى الله عليه وسلم عن موت النجاشي في اليوم الذي مات فيه وبين أرض الحبشة والمدينة من المسافة ما بينهما، إحدى معجزاته ودلائل نبوته صلى الله عليه وسلم، وقد ورد الخبر بعد أيام مؤقتا باليوم الذي أخبرهم فيه بذلك.

[6] (باب من مات له ولد فاحتسب، وقول الله عز وجل: {وبشر الصابرين})

[6] (باب من مات له ولد فاحتسب، وقول الله عز وجل: {وبشر الصابرين}) 270/ 1251 - قال أبو عبد الله: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، قال: سمعت الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد فيلج النار إلا تحلة القسم). تحلة: مصدر حلَّلت اليمين تحليلا وتحلة، أي: أبرزتها [أبررتها]، وهو تأويل قوله عز وجل: {وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا} والمعنى أنه لا يدخل النار ليعاقب بها ولكنه يجوز عليها، فلا يكون ذلك إلا بقدر ما يُبر الله قسمه، وقد قيل: إن القسم مضمر في الآية كأنه قال: والله وإن منكم إلا واردها كقوله: {وإن منكم لمن ليبطئن} قالوا: اللام فيه لام القسم، كأنه قال: وإن منكم والله ليبطئن، وقد قيل: إنه مردود إلى قوله: {فوربك لنحشرنهم والشياطين} الآية.

[8] (باب غسل الميت ووضوئه بالماء والسدر)

[8] (باب غَسْل الميت ووضوئه بالماء والسدر) 271/ 1253 - قال أبو عبد الله: حدثنا إسماعيل بن عبد الله قال: حدثني مالك، عن أيوب السَّخْتِياني، عن محمد بن سيرين، عن أم عطية الأنصارية قالت: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفيت ابنته فقال: (اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك من ماء وسدر، واجعلن في الآخرة كافورا أو شيئا من كافورا، فإذا فرغتن فآذنني) فلما فرغنا آذناه، فأعطانا حَقْوَه، فقال: أشعرنها إياه. يريد اجعلنه شعارها، والشعار: الثوب يلي بشرة الإنسان.

[19] (باب الكفن في ثوبين)

[19] (باب الكفن في ثوبين) 272/ 1265 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو النعمان، حدثنا حماد، عن أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: بينما رجل واقف بعرفة إذ وقع عن راحلته فوقصته أو قال: فأوقصته، قال النبي صلى الله عليه وسلم: اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه، ولا تحنطوه ولا تخمروا رأسه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا. قوله: وقصته، معناه أنها صرعته وكسرت عنقه. والوقص: دق الرقبة. وفيه من العلم أنه استبقى له شعار الإحرام من كشف الرأس واجتناب الطيب، ولم يزد في الكفن إلى ثوبيه ثالثا فيكون أسوة سائر الأموات، وإنما استبقى له سمة الإحرام تكرمة له، كما استبقى للشهداء شعار الطاعة التي تقربوا بها إلى الله عز وجل في

جهاد أعدائه فلم يغسَّلوا ودفنوا بدمائهم. وفيه أن حُرْم الرجل في الرأس دون الوجه، وفيه أنه يُجعل الكفن من رأس المال وإن استوفاه كله.

[20] (باب الحنوط للميت)

[20] (باب الحنوط للميت) 273/ 1266 - قال أبو عبد الله: حدثنا قتيبة قال: حدثنا حماد، عن أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس وذكر هذا الحديث وقال فيه: فأقعصته، أو قال: فأقعصته [فأقصعته] بدل قوله: وقصته. قلت: أقصعته ليس بشيء، والمحفوظ من هذا وقصته، فأما الإقعاص فهو إعجال الهلاك، أي لم يلبثه أن مات، ومنه قول النابغة:

لما رأى واشق إقعاص صاحبه .... ولا سبيل إلى عقل ولا قود والقصع: خاص في كسر العطش، فقد يحتمل أن يكون استعير في كسر الرقبة، هذا إن صحت الرواية في قوله: أقصعته، وفيه بُعد، ومن هذا قصع البعير بجِرته، إنما هو هَشْمُه لها بأضراسه وطحنه إياها.

[22] (باب الكفن في القميص الذي يكف أو لا يكف، ومن كفن بغير قميص)

[22] (باب الكفن في القميص الذي يُكَف أو لا يكف، ومن كفن بغير قميص) 274/ 1270 - قال أبو عبد الله: حدثنا مالك بن إسماعيل، قال: حدثنا ابن عيينة، عن عمرو أنه سمع جابر بن عبد الله قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي بعدما دفن، فأخرجه فنفث فيه من ريقه وألبسه قميصه. قلت: قد يحتمل أن يكون المعنى في ذلك، والله أعلم، تألف ابنه وعشيرته، ولعل ذلك إنما كان قبل نزول الآية في النهي عن الصلاة على المنافقين والوقوف على قبورهم. وكان أبو سعيد ابن الأعرابي يتأول ما كان من إلباس

النبي صلى الله عليه وسلم إياه قميصه على معنى المجازاة له على قميص كان عبد الله بن أبي كساه العباس بن عبد المطلب، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يكافئه على ذلك لئلا يكون لمنافق عنده يد. حدثنا بقصته قال: حدثنا سعدان بن نصر، حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار سمع جابر بن عبد الله يقول: كان العباس بن عبد المطلب بالمدينة طلبت الأنصار له ثوبا يكسونه فلم يجدوا قميصا يصلح عليه إلا قميص عبد الله فكسوه إياه. وفيه جواز تكفين الميت بالقميص، وفيه جواز إخراج الميت من قبره بعد الدفن لحاجة تعرض، ولأمر يحدث يوجب ذلك.

[27] (باب إذا لم يجد كفنا إلا ما يواري رأسه أو قدميه غطى رأسه)

[27] (باب إذا لم يجد كفنا إلا ما يواري رأسه أو قدميه غطى رأسه) 275/ 1276 - قال أبو عبد الله: حدثنا عمر بن حفص بن غياث قال: حدثنا أبي قال: حدثنا الأعمش قال: حدثنا شقيق قال: حدثنا خباب قال: هاجرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نلتمس وجه الله، فوقع أجرنا على الله، فمنا من مات لم يأكل من أجره شيئا، منهم مصعب بن عمير، ومنا من أينعت له ثمرته (فهو) يهدبها، قتل يوم أحد، فلم نجد ما نكفنه به إلا بردا إذا غطينا به رأسه خرجت رجلاه، وإذا غطينا رجليه خرج رأسه، فأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نغطي رأسه وأن نجعل على رجليه من الإذخر. قوله: أينعت معناه نضجت وأدركت، ومنه قوله تعالى:

{انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه}، ويقال أيضا: ينعت الثمرة ينعا وينوعا. وقوله: فهو يهدبها، يقال: هدبت الثمرة أهدبها إذا اجتنيتها، وهدبت الناقة إذا حلبتها. وفيه من الفقه أن الكفن من رأس المال، وأنه إذا استغرق جميع مال الميت كان مسلَّما له.

[32] (باب قول النبي صلى الله عليه وسلم "يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه")

[32] (باب قول النبي صلى الله عليه وسلم "يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه") 276/ 1284 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبدان ومحمد قالا: أخبرنا عبد الله قال: أخبرنا عاصم بن سليمان، عن أبي عثمان قال: حدثنا أسامة بن زيد قال: أرسلت ابنة النبي صلى الله عليه وسلم إن ابنا لي قبض فأتنا، قال: فقام ومعه رجال، فرفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبي ونفسه تقعقع، قال: حسبت أنه قال: كأنه شن، ففاضت عيناه، فقال سعد: يا رسول الله ما هذا؟ قال: (هذه رحمة جعلها الله في قلوب العباد، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء).

[32] (الباب نفسه)

[32] (الباب نفسه) 277/ 1285 - قال أبو عبد الله: وحدثني عبد الله بن محمد قال: أخبرنا أبو عامر، حدثنا فليح بن سليمان، عن هلال بن علي، عن أنس بن مالك قال: شهدنا بنتا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس على القبر، قال: فرأيت عينيه تدمعان، قال: فقال: هل منكم رجل لم يقارف الليلة؟ قال أبو طلحة: أنا، قال: فانزل، قال: فنزل في قبرها. الشن: السقاء البالي. وقعقعته: صوت يسمع له عند التحريك. وقوله: لم يقارف الليلة، قال فليح بن سليمان: يعني لم يذنب.

وقال بعضهم: لم يقرب أهله من الليل. وفيه من الفقه: أن للرجل أن يتولى دخول قبر الطفلة ويصلح من شأن دفنها، ويشبه أن يكون الميت ابنة لبعض بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم فنسبت إليه. وبكاء النبي صلى الله عليه وسلم واستعباره بالدموع يدل على أن النهي عن البكاء إنما وقع عن رفع الصوت به والصياح على الميت والتأبين بالقول المنكر.

[33] (باب ما يكره من النياحة على الميت)

[33] (باب ما يكره من النياحة على الميت) 278/ 1292 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبدان قال: أخبرني أبي، عن شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن ابن عمر، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الميت يعذب في قبره بما نيح عليه). تابعه عبد الأعلى قال: حدثنا يزيد بن زريع قال: حدثنا سعيد قال: حدثنا قتادة، وقال آدم عن شعبة: (الميت يعذب ببكاء الحي عليه).

[33] (باب ما يكره من النياحة على الميت)

[33] (باب ما يكره من النياحة على الميت) 279/ 1291 - قال أبو عبد الله: وحدثنا أبو نعيم قال: حدثنا سعيد بن عبيد، عن علي بن ربيعة، عن المغيرة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن كذبا علي ليس ككذب على أحد، من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار)، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من يُنَحْ عليه يعذب بما نيح عليه). قلت: كانت عائشة رضي الله عنها تستنكر هذه الرواية وتقول: حسبكم القرآن؛ {ولا تزر وازرة وزر أخرى}، وكانت تقول: إنما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على يهودية يبكي عليها أهلُها فقال: إنهم ليبكون عليها وإنها لتُعذب في قبرها.

وذكره أبو عبد الله عنها بإسناده. قلت: والرواية (إذا ثبتت) لم يمكن إلى دفعها سبيل بالظن، وقد رواه ثلاثة أنفس عن النبي صلى الله عليه وسلم عمر وابن عمر والمغيرة، وليس فيما حكت عائشة من مرور رسول الله صلى الله عليه وسلم على يهودية يبكي عليها أهلها ما يدفع رواية عمر والمغيرة لجواز أن يكون الخبران صحيحين معا، وكل واحد منهما غير الآخر، فأما احتجاج عائشة بقول الله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} فقد حكوا عنهم أنهم كانوا يوصون أهليهم بالبكاء والنوح عليهم، وقد كان ذلك مشهورا من مذاهبهم، وهو موجود في أشعارهم، وقد ذكرنا طرفا من ذلك في كتاب المعالم، فالميت إنما تلزمه العقوبة بما تقدم من أمره في ذلك ووصيته إليهم به. وقد قال صلى الله عليه وسلم: من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرُها ووزر من عمل بها.

[36] (باب رثاء النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن خولة)

[36] (باب رثاء النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن خولة) 280/ 1290 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن يوسف قال: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني عام حجة الوداع من وجع اشتد بي، فقلت: إني قد بلغ بي من الوجع ما ترى وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا، قلت: الشطر؟ فقال: لا، قلت: الثلث؟ قال: الثلث، والثلث كبير -أو كثير- إنك أن تذر ذريتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها حتى ما تجعل في في امرأتك، قلت: يا رسول الله؛ أخلف بعد أصحابي؟ قال: فإنك لن تخلف فتعمل عملا صالحا إلا ازددت به درجة ورفعة، ثم لعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون، اللهم أمض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم، لكن البائس سعد بن خولة، يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة.

قوله: عالة، يريد فقراء جمع عائل، وهو الفقير. وقوله: يتكففون، أي يتعرضون للمسألة بأكفهم. وفي الحديث من الفقه: أنه لم يأمره بالوصية بماله للأقربين، وقد كان أخبره أنه لا يرثه غير ابنة واحدة، ورد ماله إلى العصبة، ولو كانت آية الوصية للأقربين ثابتة غير منسوخة لأمره بذلك، ولكانت تؤخذ من التركة إن لم يوص بها، ولجرت مجرى الاستحقاق من الديون نحوها، وكان ابن عباس يذهب إلى أن الوصية للأقربين المأمور بها في الآية ثابتة، والوصية للوالدين منسوخة بآية المواريث؛ لقوله: {ولأبويه لكل واحد منهما السدس}، وهو قول الحسن وطاوس وقتادة، وإليه ذهب إسحاق بن راهويه، قالوا: نُسخ الوالدان بالفرض لهما في سورة النساء، وبقي الأقربون ممن لا يرث، فأما عامة أهل العلم فإنهم يرون الآية منسوخة في جميع من اشتمل عليه الذكر.

وقوله: يرثى لسعد بن خولة، أن مات بمكة، فإنما كره له ذلك لأن مكة دار هجروها لله عز وجل، فأحبوا أن تكون حياتهم ووفاتهم بغيرها من بقاع الأرض لئلا يكون ذلك منهم عودا فيما تركوه لله عز وجل، وقد ينظر كثير من الناس في مثل هذا الموضع تُربتَه، كما ينظر في حياته لموضع إقامته، وقد جرت سنة الدين بحفظ شعار القرب على الأموات، كما جاء في الشهداء أنهم لا يُغسَّلون، ويدفنون بثيابهم ودمائهم، وكالمحرم إذا مات لا يخمر رأسه ولا يقرب طيبا، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دعا فقال: (اللهم لا تجعل منايانا بمكة)، فلأجل ذلك رثى لسعد بن خولة أن مات بمكة. وفيه دليل على كراهة نقل الموتى من بلد إلى بلد، ولو كان ذلك جائزا لأمر بنقله إلى دار مهاجره، إذ قد رثى له حين أدركته المنية بمكة، فدل تركه ذلك على كراهته له.

[37] (باب ما ينهى عن الحلق عند المصيبة)

[37] (باب ما ينهى عن الحلق عند المصيبة) 281/ 1296 - قال أبو عبد الله: حدثنا الحكم بن موسى، حدثنا يحيى بن حمزة، عن عبد الرحمن بن جابر أن القاسم بن مخيمرة حدثه قال: حدثني أبو بردة بن أبي موسى قال: وجع أبو موسى وجعا فغُشي عليه ورأسه في حجر امرأة من أهله، فلم يستطع أن يرد عليها شيئا، فلما أفاق قال: أنا بريء ممن برئ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن رسول الله عليه السلام برئ من الصالقة والحالقة والشاقة. الصالقة: الصارخة التي ترفع صوتها بالبكاء والنوح، وقد صلقت المرأة وسلقت إذا فعلت ذلك، والحالقة: التي تحلق رأسها في المصيبة، والشاقة: التي تشق ثوبها.

[40] (باب من جلس عند المصيبة يعرف فيه الحزن)

[40] (باب من جلس عند المصيبة يُعرَف فيه الحزنُ) 282/ 1299 - قال أبو عبد الله: حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبد الوهاب، قال: سمعت يحيى قال: أخبرتني عمرة قالت: سمعت عائشة قالت: لما جاء رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قتلُ ابن حارثة وجعفر وابن رواحة جلس يعرف فيه الحزن، وأنا أنظر من صائر شق الباب، فأتاه رجل فقال: نساء جعفر -وذكر بكاءهن- فأمره أن ينهاهن فلم يطعنه، إلى أن كان ذلك ثلاثا، فزعمت أنه قال: فاحث في أفواههن التراب. صائر الباب: شق الباب، كما جاء في الحديث سواء، ومثله صِير الباب.

[42] (باب الصبر عند الصدمة الأولى)

[42] (باب الصبر عند الصدمة الأولى) 283/ 1302 - قال أبو عبد الله: حدثني محمد بن بشار قال: حدثنا غندر قال: حدثنا شعبة، عن ثابت قال: سمعت أنسا، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصبر عند الصدمة الأولى). يريد أن الصبر المحمود المأجور عليه صاحبُه هو ما كان عند مفاجأة المصيبة وهي الصدمة الأولى دون ما بعدها، فإنه إذا طالت الأيام عليها وقع السلو، وصار الصبر حينئذ طبعا فلم يكن للأجر موضع. وقد قال بعض الحكماء: إن الإنسان لا يؤجر على شيء من المصائب (التي) تناله في نفسه من مرض وموت حميم ورُزء مال، لأجل ذوات هذه الأمور، فإن جميع ذلك طبع وجبلة ولا صنع للإنسان فيه، وقد يصيب الكافر مثلُ ما يصيب المسلم، إنما يؤجر الإنسان على نيته واحتسابه الأجر فيها، وتلقي الأمر في ذلك بالرضا وجميل الصبر.

[44] (باء البكاء عند المريض)

[44] (باء البكاء عند المريض) 284/ 1304 - قال أبو عبد الله: حدثني أصبغ، عن ابن وهب، قال: أخبرني عمرو، عن سعد بن الحارث الأنصاري، عن عبد الله بن عمر قال: اشتكى سعد بن عبادة شكوى له، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده مع عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود، فلما دخل عليه ووجده في غاشية فقال: قد قضى؟ فقالوا: لا يا رسول الله، فبكى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رأى القوم بكاءه بكوا وذكر الحديث. قوله: في غاشية، يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون أراد بها القوم الذين كانوا حضروا عنده

الذين هم غاشيته. والوجه الآخر: أن يكون معنى ذلك ما يتغشاه من كرب الوجع الذي به، فخاف أن يكون قد هلك، ولذلك سأل فقال: قد قضى قد قضى؟ يقال: قضى الرجل: إذا مات.

[67] (باب الميت يسمع خفق النعال)

[67] (باب الميت يسمع خفق النعال) 285/ 1338 - قال أبو عبد الله: حدثني عياش، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا سعيد وقال لي خليفة، حدثنا ابن زريع، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (العبد إذا وضع في قبره، وتُوُلي وذهب أصحابه حتى إنه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فأقعداه فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل محمد؟ فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقال: انظر إلى مقعدك من النار، أبدلك الله به مقعدا من الجنة). قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فيراهما جميعا). وأما الكافر أو المنافق فيقول: لا أدري، كنت أقول ما يقول الناس فيقال: لا دريت ولا تليت، ثم يضرب بمطرقة من حديد

ضربة بين أذنيه فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الثقلين. قوله: (لا تليت) هكذا يرويه المحدثون على وزن فعَلْت، وهو غلط، والصواب: ولا ائتليت، على وزن افتعلت، من قولك: ما ألوت هذا ولا استطعته، ويقال: لا آلو كذا، أي لا أستطيعه، كأنه قال: لا دريت ولا استطعت. وفي قوله: إنه ليسمع قرع نعالهم، دليل على جواز دخول المقابر بالنعال وغيرها من أنواع الحذاء.

[66] (باب الصلاة على القبر بعد ما يدفن)

[66] (باب الصلاة على القبر بعد ما يدفن) 286/ 1337 - قال أبو عبد الله: حدثني محمد بن الفضل قال: أخبرنا حماد بن زيد، عن ثابت، عن أبي رافع، عن أبي هريرة أن أسود -رجلا أو امرأة- كان يكون في المسجد، يَقُمُّ المسجد، فمات ولم يعلم النبي صلى الله عليه وسلم بموته، فذكره ذات يوم فقال: ما فعل ذلك الإنسان؟ قالوا: مات يا رسول الله. قال: أفلا آذنتموني؟ فقالوا: إنه كان كذا وكذا، فحقروا شأنه. قال: فدلوني على قبره، فأتى قبره فصلى عليه. قوله: يقم المسجد، معناه: يكنسه وينظفه، والقُمامة: الكُناسة. وفيه دليل على جواز الصلاة على القبر؛ لأنه عليه السلام صلى على القبر بعد أيام، وكان صلى الناس عليه قبل الدفن.

[68] (باب من أحب الدفن في الأرض المقدسة أو نحوها)

[68] (باب من أحب الدفن في الأرض المقدسة أو نحوها) 287/ 1339 - قال أبو عبد الله: حدثنا محمود قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن طاوس (عن أبيه) عن أبي هريرة قال: (أرسل ملك الموت إلى موسى، فلما جاءه صكه، فرجع إلى ربه فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت، فرد الله إليه عينه وقال: ارجع فقل له: يضع يده على متن ثور، فله بكل ما غطت يده، بكل شعرة سنة، فقال: أي رب ثم ماذا؟ قال: ثم الموت، قال: فالآن، فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فلو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر). هذا حديث يطعن فيه الملحدون وأهل الزيغ والبدع ويغمزون به في رواته ونقلته ويقولون: كيف يجوز أن يفعل نبي الله

موسى هذا الصنيع بملك من ملائكة الله جاءه بأمر من أمره فيستعصي عليه ولا يأتمر له؟ وكيف تصل يده إلى الملك ويَخلُص إليه صكُّه ولطمُه؟ وكيف ينهنهه الملك المأمور بقبض روحه فلا يُمضي أمر الله فيه؟ هذه أمور خارجة عن المعقول، سالكة طريق الاستحالة من كل وجه. والجواب: أن من اعتبر هذه الأمور بما جرى به عرفُ البشر واستمرت عليه عادات طباعهم، فإنه يسرع إلى استنكارها والارتياب بها لخروجها عن رسولم طباع البشر وعن سنن عاداتهم، إلا أنه (أمر) مصدره عن قدرة الله عز وجل الذي لا يعجزه شيء ولا يتعذر عليه أمر، وإنما هو مجاوبة بين ملك كريم ونبي كليم، وكل واحد منهما مخصوص لصفة خرج بها عن حكم عوام البشر ومجاري عاداتهم في المعنى الذي خص من أثره الله واختصاصه إياه، فالمطالبة بالتسوية (بيننا) وبينهم فيما تنازعناه من هذا الشأن حتى يكون ذلك على أحكام طباع الآدميين، وقياس أحوالهم غير واجبة في حق النظر، ولله عز وجل لطائف وخصائص يخص بها من يشاء من أنبيائه وأوليائه ويفردهم بحكمها دون سائر خلقه، وقد أعطى موسى النبوة واصطفاه بمناجاته وكلامه، وأمده حين أرسله إلى

فرعون بالمعجزات الباهرة كالعصا، واليد البيضاء، وسخر له البحر فصار طريقا يبسا، جاز عليه قومُه وأولياؤه وغرق فيه خصمه وأعداؤه، وهذه أمور أكرمه الله بها وأفرده بالاختصاص فيها أيام حياته ومدة بقائه في دار الدنيا، ثم إنه لما دنا حين وفاته -وهو بشر يكره الموت طبعا ويجد ألمه حسا- لطف له بأن (لم) يفاجئه به بغتة، ولم يأمر الملك الموكل به أن يأخذه قهرا وقسرا، لكن أرسله إليه منذرا بالموت، وأمره بالتعرض له على سبيل الامتحان في صورة بشر، فلما رآه موسى استنكر شأنه واستوعر مكانه، فاحتجز منه دفعا عن نفسه بما كان من صكه إياه، فأتى ذلك على عينه التي ركبت في الصورة البشرية التي جاء فيها دون الصورة الملكية التي هي مجبول الخلقة عليها، ومثل هذه الأمور مما يعلل به طباع البشر وتطيب به نفوسهم في المكروه الذي هو واقع بهم، فإنه لا شيء أشفى للنفس من الانتقام ممن يكيدها فيريدها بسوء، وقد كان من طبع موسى عليه السلام فيما دل عليه آي من القرآن حما [؟] وحدة، وقد قص علينا الكتاب ما كان من وكزه القبطي الذي قضى عليه، وما كان عند غضبه من إلقائه الألواح، وأخذه برأس

أخيه يجره إليه، وروي أنه كان إذا غضب اشتعلت قلنسوته نارا، وقد جرت سنة الدين بحفظ النفس، ودفع الضرر والضيم عنها، ومن شريعة نبينا صلى الله عليه وسلم ما سنه فيمن اطلع على محرم قوم من عقوبته في عينه فقال: من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد حل لهم أن يفقأوا عينه، ولما نظر نبي الله موسى عليه السلام إلى صورة بشرية هجمت عليه من غير إذن، يريد نفسه ويقصد هلاكه وهو لا يثبته معرفة ولا يستيقن أنه ملك الموت ورسولُ رب العالمين فيما يراوده منه، عمَد إلى دفعه عن نفسه بيده وبطشه، فكان ذلك ذهاب عينه، وقد امتُحن غيرُ واحد من الأنبياء صلوات الله عليهم بدخول الملائكة عليهم في صورة البشر كدخول الملكين على داود في صورة الخصمين؛ لِمَا أراد الله عز وجل من تعريفه إياه بذنبه وتنبيهه على من لم يرضه من فعله، وكدخولهم على إبراهيم عليه السلام حين أرادوا إهلاك قوم لوط، فقال: {قوم

منكرون}، وقال: {فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة}، وكان نبينا صلى الله عليه وسلم أول ما بدئ بالوحي يأتيه الملك فيلتبس عليه أمره، ولما جاءه جبريل عليه السلام في صورة رجل فسأله عن الإيمان لم يثبته، فلما انصرف عنه تبين أمرُه فقال: (هذا جبريل جاءكم يعلمكم أمر دينكم)، فكذلك كان أمر موسى عليه السلام فيما جرى من مناوشته ملك الموت، وهو يراه بشرا، فلما عاد الملك إلى ربه عز وجل مستثبتا أمره فيما جرى عليه رد الله عز وجل عليه عينه، و (أعاده) رسولا إليه بالقول المذكور في الخبر الذي رويناه ليعلم نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى صحة عينه المفقوءة وعودة بصره الذاهب أنه رسول الله بعثه لقبض روحه، فاستسلم حينئذ لأمره وطاب نفسا بقضائه، وكل ذلك رفق من الله عز وجل به، ولطف منه في تسهيل ما لم يكن بد من لقائه والانقياد لمورد قضائه.

وأخبرنا ابن الأعرابي قال: حدثنا أبو داود، حدثنا محمد بن عثمان العجلي، حدثنا خالد بن مخلد، عن سليمان بن بلال، حدثني شريك بن عبد الله بن أبي نمر، عن عطاء، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله عز وجل قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما أفرضت [كذا] عليه، وما زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ولئن سألني لأعطينه، وإن استعاذني لأعيذنه،

وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت. قلت: وفي غير هذه الرواية ولا بد له من لقائي. ومعاني هذه الأمور فيما لطف الله به لخاص أوليائه معلومة ومواضعها من الحكمة والاستصلاح غير مجهولة، فأما بيان القول والتأويل فيما يُستشنع من ألفاظ هذا الحديث فسيقع في موضعه من هذا الكتاب. وما أشبه (معنى) قوله: (ما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت) بترديده رسوله ملك الموت إلى نبيه

موسى عليه السلام فيما كرهه من نزول الموت به لطفا منه بصفيِّه وعطفا عليه. والتردد على الله تعالى غيرُ جائز، وإنما هو مثل يُقرِّب به معنى ما أراده إلى فهم السامع، والمراد به ترديد الأسباب والوسائط من رسول أو شيء غيره كما شاء سبحانه، تنزه عن صفات المخلوقين وتعالى عن نعوت المربوبين الذين يعتريهم في أمورهم الندم والبداء، وتختلف بهم العزائم والآراء {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}.

[72] (باب الصلاة على الشهيد)

[72] (باب الصلاة على الشهيد) 288/ 1344 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن يوسف، حدثنا الليث، حدثنا يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوما فصلى على (أهل) أحد صلاته على الميت، ثم انصرف إلى المنبر فقال: (إني فرط لكم، وأنا شهيد عليكم، وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن). قوله: أنا فرط لكم. قال الأصمعي: الفرط والفارط المتقدم في طلب الماء، قال: أنا أتقدمكم إليه. يقال: فرَطتُ القوم، وأنا أفرُطُهم، وذلك إذا تقدمهم ليوردهم الماء. وفيه من العلم أنه قد صلى على أهل أحد بعد مدة، فدل أن الشهيد يصلى عليه، كما يصلى على من مات حتف أنفه، وإليه ذهب أبو حنيفة، وتأولوا الخبر في تركه الصلاة عليهم يوم أحد على معنى اشتغاله عنهم وقلة فراغه لذلك من أمرهم، وكان يوما صعبا على المسلمين، فعذروا بترك الصلاة على قتلاهم.

[62] (باب الصلاة على النفساء إذا ماتت في نفاسها)

[62] (باب الصلاة على النفساء إذا ماتت في نفاسها) 289/ 1331 - قال أبو عبد الله: حدثنا مسدد، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا حسين، حدثنا ابن بريدة، عن سمرة قال: صليت وراء النبي صلى الله عليه وسلم على امرأة ماتت في نفاسها فقام وسطها. قال بعض أهل العلم: نُرى، والله أعلم أنه إنما قام وسطا منها ليكون حائلا بين القوم وبين موضع العورة منها.

[79] (باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه؟)

[79] (باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه؟) 290/ 1354 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبدان أخبرنا عبد الله، عن يونس عن الزهري قال: أخبرني سالم بن عبد الله أن ابن عمر أخبره أن عمر انطلق مع النبي صلى الله عليه وسلم في رهط قبل ابن صياد (حتى) وجده يلعب مع الصبيان عند أطم بني مغالة -وقد قارب الحلم- فلم يشعر حتى ضرب النبي صلى الله عليه وسلم بيده، ثم قال لابن صياد: أتشهد أني رسول الله؟ فنظر إليه ابن صياد وقال: أشهد أنك رسول الأميين. وقال ابن صياد للنبي صلى الله عليه وسلم: أتشهد أني رسول الله؟ فرفصه وقال: آمنت بالله وبرسله، فقال: ماذا ترى؟ قال ابن صياد: يأتيني صادق وكاذب، فقال النبي صلى الله

عليه وسلم: خلط عليك الأمر، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: إني قد خبأت لك خبيئا. فقال ابن صياد: هو الدخ. فقال: اخسأ فلن تعدو قدرك. فقال عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنقه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن يكنه فلن تسلط عليه، وإن لم يكنه فلا خير لك في قتله. 291/ 1355 - وقال سالم: (سمعت ابن عمر يقول) انطلق بعد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بن كعب إلى النخل التي فيها ابن صياد، وهو يختل أن يسمع من ابن صياد شيئا قبل أن يراه ابن صياد، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع أراه في قطيفة له فيها زَمرة أو رمزة، فرأت أمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتقي بجذوع النخل (فقالت) لابن صياد: يا صاف -وهو اسم ابن صياد-، هذا محمد، فثار ابن صياد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو تركته لبين. قال أبو عبد الله: وقال شعيب في حديثه: رمرمة أو زمزمة. الأُطُم: بناء من الحجارة مرفوع كالقصر، وآطام المدينة: حصونها.

وقوله: فرفصه، إنما هو فرصَّه، هكذا حدثونا به من غير وجه، يريد أنه قد ضغطه حتى ضم بعضه إلى بعض، ومن [من] رص البناء، كقوله عز وجل: {كأنهم بنيان مرصوص}. والدخ: الدخان، قال الراجز: وسال غربُ عينه قلَخَّا .... عند رواق البيت يغشى الدخَّا وقد زعم بعضهم أنه أراد أن يقول: الدخان، فزجره النبي صلى الله عليه وسلم فلم يستطع أن يخرج الكلمة تامة. وقوله: يختل، معناه يطلب أن يأتيه من حيث لا يعلم، فيسمع ما يقوله في خلوته، ومنه ختل الصيد، وهو أن يؤتى من حيث لا يشعر فيصاد، وقد استدل به بعض أهل العلم في أن شهادة المختبئ شهادة (جائزة) وأن السمع شهادة. والرمرمة: تحريك الشتفين، والمرمة: الشفة.

وأما الزمزمة -بالزاي- فهو من داخل الفم إلى ناحية الحلق، والرمز أيضا رمز الشفتين. فأما الزمر فمن داخل الفم أيضا كالصفير ونحوه. وقوله: (لو تركته لبين) أي بين ما في نفسه. وقوله: (اخسأ فلن تعدو قدرك) يحتمل وجهين: أحدهما: يريد أنه لا يبلغ قدره أن يطالع الغيب من قبل الوحي الذي يوحى به إلى الأنبياء، ولا من قبل الإلهام الذي يلقى في رُوع الأولياء، وإنما كان الذي جرى على لسانه من ذلك شيئا ألقاه الشيطان إليه حين سمع النبي صلى الله عليه وسلم يراجع به أصحابه قبل دخوله النخل. والوجه الآخر: أنه أراد بقوله: لن تعدو قدرك، أي لن تسبق قدر الله فيك وفي أمرك. وقد استدل بعض أهل العلم بهذا الحديث على أن إسلام غير البالغ قد يصح، ولولا ذلك لم يكشفه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، وهو إذ ذاك غيرُ بالغ.

وقد يُسأل عن أمره فيقال: كيف يجوز أن يقاره رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يدعي النبوة، ويتركه بالمدينة يساكنه فيها ويجاوره بها، ولم لم يترك عمر أن يفعل ما هم به من ضرب عنقه وهو منكر لنبوته ومدعيها لنفسه؟ والجواب: أنه قد يحتمل ذلك وجهين من التأويل: أحدهما: أنه حين تكلم بهذا القول كان غير بالغ، ولا حكم لقول غير البالغ، ولو ارتد من أولاد المسلمين طفل لم يقتل حتى يبلغ فيستتاب، فإن تاب وإلا قتل بعد بلوغه. والوجه الآخر: أن هذه الصفة إنما جرت له معه أيام مهادنة رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود وحلفاءهم، وذلك أنه كتب بعد مقدمه المدينة بينه وبين اليهود كتابا صالحهم فيه على أن لا يُهاجَوا وأن يتركوا على أمرهم، وكان ابن الصياد من جملتهم، فلم يعرض له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوء فيما كان من قوله ذلك. وقد اختلف الناس في أمره اختلافا شديدا، هل هو الدجال

أم لا؟ واضطربت فيه الروايات والآراء من العلماء، وقد جمعتُها في مسألة مفردة وذكرت فيها تلك الأخبار بأسانيدها، وقد رُوي عن أبي ذر أنه قال: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمه فسألتها فقالت: حملته اثني عشر شهرا، فلما وقع صاح صياح الصبي ابن شهرين، وكان يشب في اليوم الواحد شباب الصبي بشهر، وكان أبو ذر وابن عمر وجابر بن عبد الله يقولون: هو الدجال، وقال آخرون: ليس هو به، وروي أنه قد تاب عن ذلك القول وراجع الإسلام بعد بلوغه، وأنه مات بالمدينة، وأنهم لما أرادوا الصلاة عليه كشفوا عن وجهه حتى رآه الناس فقيل لهم: اشهدوا. وروي عن أبي سعيد الخدري أنه قال: شتمت ابن صياد فقال لي: ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يدخل

الدجال مكة، وقد حججت معك. وقال: لا يولد له وقد ولد لي. واستدل بعضهم على أنه ليس بالدجال بأن تميما الداري حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم بقصة الدجال والجساسة بالمدينة، وابن الصياد إذ ذاك مقيم بين ظهرانيهم.

[79] (باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه؟ وهل يعرض على الصبي الإسلام؟)

[79] (باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه؟ وهل يعرض على الصبي الإسلام؟) 292/ 1359 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبدان قال: أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا يونس، عن الزهري وقال [قال]: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعا؟ ثم يقول: {فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم}). أصل الفطرة في اللغة: ابتداء الخلقة، ومنه قول الله عز وجل: {الحمد لله فاطر السموات والأرض} أي مبتدئهما. ومن ذلك قولهم: فطر ناب البعير إذا طلع أول ما ينبت.

ويروى عن ابن عباس أنه قال: لم أعلم ما فاطر السموات حتى اختصم إلي أعرابيان في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها، (أي) استحدثت حفرها، هذا أصل الفطرة في اللغة، وقد ذهب قوم في معنى الفطرة المذكورة في الحديث إلى أن المراد به الدين، واستدلوا على ذلك ببيان ما استشهد له من الآية حين تلاها عقيب الحديث وهو قوله: {فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم} مع ما تقدمه من قوله: {فأقم وجهك للدين حنيفا} قالوا: فقد اعتورها البيان من أول الآية وآخرها، فدل أن المراد بها الدين، واستشهدوا على ذلك أيضا بقوله: كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء. والجمعاء هي السليمة التي لا عيب فيها ولا نقص، سميت بذلك لاجتماع السلامة لها في أعضائها، لا جدع بها ولا خرم، حتى يحدثهما فيها أربابها، ضرب البهيمة السليمة الخلقة أول ما تنتج مثلا للمولود في سلامة فطرته من الشرك والإلحاد أول ما يولد

حتى يكون ما يكون من ذلك بعد. قلت: وهذا هو حق الظاهر من لفظ الحديث ومعناه، لولا أن أحاديث أخر عارضته، منها حديث أبي بن كعب، وهو حديث صحيح الإسناد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في قوله: {وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين} وكان طُبع يوم طبع كافرا. وحديث عائشة حين أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصبي من صبيان الأنصار يصلي عليه فقالت: طوبى لهذا، لم يعمل سوءا ولم يدر به، فقال: أو غير ذلك يا عائشة، إن الله عز وجل خلق الجنة وخلق لها أهلا وخلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم، وخلق النار وخلق لها أهلا، وخلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم. وحديثها الآخر: قالت يا رسول الله، ذراري المؤمنين. فقال: من آبائهم. قلت: يا رسول الله، بلا عمل، قال: الله أعلم بما كانوا عاملين. قلت: يا رسول الله، فذراري المشركين.

قال: من آبائهم. قلت: بلا عمل، قال: الله أعلم بما كانوا عاملين. فاحتيج من أجل ذلك في حديث أبي هريرة إلى التأويل والتخريج لتتفق الأحاديث كلها ولا تتضاد وتختلف، فكان المعنى الذي تضمنه الخبر: أن كل مولود من البشر إنما يولد في أول مبدأ الخلق وأصل الجبلة على الفطرة السليمة والطبع المتهيئ لقَبول الدين، فلو ترك عليها وخلي وسَوْمَها لاستمر على لزومها ولم ينتقل عنها إلى غيرها، وذلك أن هذا الدين باد حسنه في العقول، ويسره في النفوس، وإنما يعدل عنه من يعدل إلى غيره ويؤثره عليه لآفة من آفات النشؤ [النشوء] والتقليد، ولو سلم المولود من تلك الآفات لم يعتقد غيره ولم يختر عليه ما سواه، ثم تمثل بأولاد اليهود والنصارى في اتباعهم لآبائهم والميل إلى أديانهم، فيزولون بذلك عن الفطرة السليمة وعن المحجة المستقيمة. وحاصل المعنى من هذا الحديث: إنما هو الثناء على هذا الدين، والإخبار عن محله من العقول وحسن موقعه من النفوس،

وليس من إيجاب حكم الإيمان للمولود بسبيل، والله أعلم. وفيه على هذا التأويل وقوع الجمع بين الأخبار وزوال الاختلاف عنها وهو واضح بين والحمد لله. وقد ذكرت في تأويل هذا الحديث خمسة أوجه أخر في مسألة أفردتها، أشبعت الكلام فيها وذكرت أطرافا منها في كتاب معالم السنن، والقدر الذي أتينا به في هذا الكتاب وجيز كاف إن شاء الله.

[92] (باب ما قيل في أولاد المشركين)

[92] (باب ما قيل في أولاد المشركين) 293/ 1383 - قال أبو عبد الله: حدثني حبان قال: أخبرنا عبد الله قال: أخبرنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين فقال: (الله إذ خلقهم أعلم بما كانوا عاملين). قلت: في هذا إثبات علم الله بما كان وبما يكون، وبما لم يكن، وبأن لو كان كيف ما كان يكون، والمعنى أنهم لو بقوا أحياء حتى يكبروا لكانوا يعملون عمل أهل الكفر، فألحقوا في الكفر بآبائهم حكما بسابق علمه في الغيب، يدل على صحة هذا التأويل حديث عائشة قلت يا رسول الله، ذراري المشركين. قال: من آبائهم، قلت: بلا عمل. قال: الله أعلم بما كانوا عاملين.

[82] (باب موعظة المحدث عند القبر وقعود أصحابه حوله)

[82] (باب موعظة المحدث عند القبر وقعود أصحابه حوله) 294/ 1362 - قال أبو عبد الله: حدثني عثمان قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن (سعد) بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن، عن علي رضي الله عنه قال: كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا النبي صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله، ومعه مخصرة، فنكَّس فجعل ينكث بمخصرته ثم قال: (ما منكم من أحد، ما من نفس منفوسة إلا وكتب مكانها من الجنة والنار، وإلا كتبت سعيدة أو شقية)، فقال رجل: يا رسول الله، أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل، فمن كان منا من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، وأما من كان منا من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة؟ قال: أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل الشقاوة {فأما من أعطى واتقى} الآية.

قلت: معنى قولهم: (أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل) مطالبة منهم بموجب أمر تحته تعطيل العبودية، وذلك أن إخباره صلى الله عليه وسلم إياهم عن سبق الكتاب بسعادة السعيد وشقاوة الشقي إخبار عن غيب علم الله فيهم وهو حجته عليهم، فرام القوم أن يتخذوه حجة لأنفسهم في ترك العمل ويتكلوا على الكتاب السابق، فأعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم أن هاهنا أمرين لا يبطل أحدهما الآخر: باطن، هو العلة الموجبة في حكم الربوبية، وظاهر، هو السمة اللازمة في حق العبودية، وإنما هو أمارة مخيلة في مطالعة علم العواقب غير مفيدة حقيقة العلم به، ويشبه أن يكونوا -والله أعلم- إنما عوملوا بهذه المعاملة، وتعبدوا بهذا النوع من التعبد، ليتعلق خوفهم بالباطن المغيب عنهم، ورجاؤهم بالظاهر البادي لهم، والخوف والرجاء مدرجتا العبودية، فيستكملوا بذلك صفة الإيمان، وبين لهم أن كلا ميسر لما خلق له، وأن عمله في العاجل دليل مصيره في الآجل، ولذلك يمثل بقوله عز وجل: {فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى}. وهذه الأمور إنما هي في حكم الظاهر من أحوال العباد، ومن وراء ذلك علم الله فيهم وهو الحكيم الخبير {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون}.

فإذا طلبت لهذا الشأن نظيرا من العلم يجمع لك هذين المعنيين، فاطلبه في باب أمر الرزق المقسوم مع الأمر بالكسب، وأمر الأجل المضروب في العمر مع التعالج بالطب، فإنك تجد المغيب منهما علة موجبة، والظاهر البادي سببا مخيلا، وقد اصطلح الناس خواصهم وعوامهم على أن الظاهر منهما لا يترك للباطن، والكلام في هذا يطول، والذي ذكرناه منه يكفي الفهم الموفق.

[85] (باب ثناء الناس على الميت)

[85] (باب ثناء الناس على الميت) 295/ 1367 - قال أبو عبد الله: حدثنا آدم، حدثنا شعبة، حدثنا عبد العزيز بن صهيب، قال: سمعت أنس بن مالك يقول: مروا بجنازة فأثنوا عليها خيرا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجبت، ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شرا، فقال: وجبت، فقال عمر بن الخطاب: ما وجبت؟ قال: (هذا أثنيتم عليه خيرا فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرا فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض). قلت: وهذا أيضا قد يتصل بما تقدم ذكره في الحديث الأول، وهو من ناحية ظاهر العلم الذي هو أمارة مخيلة، جعل الله تعالى اجتماع قول الناس في ذلك شهادة من الظاهر على الباطن، وأجرى بين الخلق التعارف به والمعاملة عليه.

[91] (باب ما قيل في أولاد المسلمين)

[91] (باب ما قيل في أولاد المسلمين) 296/ 1382 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو الوليد، حدثنا شعبة، عن عدي بن ثابت أنه سمع البراء قال: لما توفي إبراهيم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن له مرضعا في الجنة). هذا يُروى على وجهين: أحدهما: مرضعا -بفتح الميم- أي رضاعا. والوجه الآخر: مرضعا -مضمومة الميم- أي من يتم رضاعه في الجنة. يقال: امرأة مرضع بلا هاء، وأرضعت المرأة فهي مرضعة، إذا بنيت الاسم من الفعل.

[96] (باب ما جاء في قبر النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما)

[96] (باب ما جاء في قبر النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما) 297/ 1389 - قال أبو عبد الله: حدثنا إسماعيل قال: حدثنا سليمان، عن هشام، وحدثني محمد بن حرب قال: حدثنا أبو مروان -يحيى بن زكريا- عن هشام عن عروة، عن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم ليتعذر في مرضه: أين أنا اليوم؟ أين أنا غدا؟ استبطاء ليوم عائشة، فلما كان يومي قبضه الله بين سحري ونحري، ودفن في بيتي. قولها: (يتعذر) التعذر يجري مجرى التمنع والتعسر. ومنه قول امرئ القيس:

ويوماً على ظهر الكثيب تعذرت .... علي وآلت حلفة لم تحلل والسحر: الرئة.

[1] (باب وجوب الزكاة)

ومن كتاب الزكاة [1] (باب وجوب الزكاة) 298/ 1395 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد، عن زكريا بن إسحاق، عن يحيى بن عبد الله بن صيفي، عن أبي معبد، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذا إلى اليمن فقال: (ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك، فأعلمهم أن الله تعالى افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله عز وجل افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد إلى فقرائهم). في هذا الحديث من العلم أنه رتب واجبات الشريعة، فقدم كلمة التوحيد، ثم أتبعها فرائض الصلاة لأوقاتها، وأخر ذكر الصدقة لأنها إنما تجب على قوم من الناس دون آخرين، وإنما تلزم بمضي الحول على المال واستكمال النصاب. وفيه من الفقه أن وجوب الصدقة يتعلق بالمال، فلو تلف المال قبل أن تخرج منه الصدقة لم يلزم صاحب المال إخراجُها من

سائر ماله ما لم يفرط في أدائها وقت الإمكان. وفيه أن صدقة بلد لا تنقل إلى بلد آخر، وإنما تصرف إلى فقراء أهل البلد الذي به المال، وفيه دليل على أن الطفل إذا كان غنيا وجبت في ماله الزكاة، كما إذا كان فقيرا جاز له أخذها، وفيه أنه لا يعطى غيرُ المسلم شيئا من الصدقة، وفيه أنه إذا تبين أن المدفوع إليه الصدقة كان غنيا يوم أخذها، كان عليه إعادتها، وقد يستدل به من لا يرى على المديون زكاة ما في يده إذا لم يفضل عن مبلغ الدين (الذي) عليه قدر نصاب، لأنه ليس بغني إذا كان مستحقا عليه إخراج ما في يده إلى غريمه. قالوا: وقد قسم الناس في هذا الحديث قسمين: غني وفقير، وآخذ ومأخوذ منه، فلا يجتمع الوصفان معا في شق واحد منهما لتضادهما واختلاف (أحكامهما)، وفي ذلك دليل على أن رجلا لو تصدق بعشرة من الإبل على الفقراء، فحال الحول عليهما لم تجب الصدقة فيها، لأنها لو أخذت منهم لوجب ردها عليهم، فلا يجتمع أن يكون آخذا ومأخوذا منه في شيء واحد.

[1] (باب وجوب الزكاة)

[1] (باب وجوب الزكاة) 299/ 1396 - قال أبو عبد الله: حدثنا حفص بن عمر، حدثنا شعبة، عن (ابن) عثمان بن عبد الله بن موهب، عن موسى بن طلحة، عن أبي أيوب، أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أخبرني بعمل يدخلني الجنة، قال: ما له ما له؟ وقال النبي صلى الله عليه وسلم: أرب ما له؟ تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم. قوله: أرب ما له، كلمة تعجب، يقول: سقطت آرابه، وهي أعضاؤه، واحدها إرب، وقد يُدعى بهذا على الإنسان إذا فعل فعلا يتعجب منه، ولا يراد بذلك وقوع العقوبة به، وإنما هو كقولهم: قاتله الله، وكقولهم: ثكلته أمه ونحو ذلك. وفيه وجه آخر: قال النضر بن شميل: يقال: أرِبَ الرجل في الأمر إذا بلغ فيه جهده وفطن له.

وقال الأصمعي: أربت بالشيء إذا صرت فيه ماهرا بصيرا، فيكون المعنى في ذلك على هذا القول التعجب من حسن فطنته والتهدِّي إلى موضع حاجته.

[1] (باب وجوب الزكاة)

[1] (باب وجوب الزكاة) 300/ 1399 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو اليمان قال: أخبرنا شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري قال: حدثنا عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أن أبا هريرة قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أبو بكر، وكفر من كفر من العرب، فقال عمر: كيف تقاتل الناس، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قالها عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله)؟ 301/ 1400 - فقال: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها، فقال عمر: ما هو إلا أن شرح الله صدر أبي بكر فعرفت أنه الحق. قلت: هذا حديث مشكل جدا، وإشكاله من جهة اختصاره، وترك أكثر رواته استقصاء واستيفاء القصة فيه، وكلام أبي هريرة من رواية عبيد الله فيما ذكره من الحادثة، وحكاه من محاجة

أبي بكر وعمر كلام مبهم قد تعلق به الروافض، وادعوا المناقضة وقالوا: قد أخبر في أول القصة عن كفر (من كفر من) العرب وارتدادهم، وإنما يطلق اسم الكفر على من أنكر الدين وخرج من الملة، ثم حكى عن أبي بكر أنه قال: (لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة)، وهذا يوجب أن يكونوا ثابتين على الدين مقيمين للصلاة وإن منعوا الزكاة وفرقوا بينهما في القيام بإحداهما وترك الأخرى منهما، وزعم هؤلاء أن عمر لم يطابقه على الحرب لقيام الدليل عنده على أنها حق، لكن مساعدة لأبي بكر وتقليدا له، وذلك حين يقول: فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق. قالوا: وهذا كلام من

يدعي لأبي بكر العصمة، ويسلم له أفعاله بغير حجة، وليس ذلك لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالوا: وإذا كان هكذا حالُهم عند أبي بكر، فكيف استجاز قتلهم وسبيهم وسبي ذراريهم وهم مسلمون؟ وإن كانوا كفارا مرتدين فما معنى هذا القول في التفرقة بين الصلاة والزكاة والتعلق في استباحة قتالهم، وقد أجمعوا أن المرتد لا يسبى ولا يستعبد وعلى كل حال فلم يخل صنيعه ذلك من عسف وسوء سيرة، وزعموا أيضا أن القوم كانوا متأولين في منع الزكاة محتجين على أبي بكر بقول الله عز وجل: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم} لما وجدوا الخطاب خاصا في مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره بشرط أن يطهرهم ويزكيهم ويصلي عليهم، فإن صلاته

سكن، وهذه الشرائط معدومة في غيره. ولذلك قال شاعرهم: أطعنا رسول الله ما دام بيننا .... فيا عجبا ما بال ملك أبي بكر ومنثل هذه الشبه توجب العذر لمثلهم والوقوف عن قتلهم. وقد كان رأي بعضهم أنه ليس بإمام، وإنما يأخذ الزكاة

رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته أو إمام ينصبه للخلافة بعده، في أشياء من هذا الباب أكثرها تخليط وتغليط لعوام الناس والضعفة منهم. وأول ما يحتاج إليه من بيان هذه الأمور معرفة القصة فيها كيف كانت وصورة الأمر كيف جرت، فنحتاج من أجل ذلك إلى ذكر الروايات وتتبع طرق النقل فيها لتتكشف الحقيقة منها، ونحن فاعلون لذلك بمشيئة الله وعونه. فوجدنا أكثر الروايات في ذلك عن أبي هريرة على الاختصار نحو ما رواه عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وهو الذي ذكره أبو عبد الله، كذلك رواه أبو سلمة بن عبد الرحمن عنه، حدثناه عبد الله بن محمد المسكي، حدثنا محمد بن عبد الله بن الجنيد، حدثنا محمد بن قدامة المروزي، حدثنا النضر بن شميل، حدثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن

أبي هريرة نحو حديث عبيد الله، وكذلك رواه العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه عن أبي هريرة، حدثناه ابن مالك، حدثنا الحسن بن زياد السدي، حدثنا إسماعيل بن أويس، حدثنا مالك، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، وكذلك رواه ابن عجلان، عن أبيه،

عن أبي هريرة، حدثنيه أبو محمد الكراني، حدثنا الحسن بن عبد العزيز المحوِّز، حدثنا أبو عاصم، حدثنا ابن عجلان، عن أبيه، عن أبي هريرة، ح، وحدثناه النجاد، حدثنا الحارث بن أسامة، حدثنا أبو عاصم، عن ابن عجلان، عن أبيه مثله، وكذلك رواه المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة، حدثناه محمد بن بكر، حدثنا أبو مسلم، حدثنا

أبو عاصم، عن المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة، وكذلك روي عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، أخبرناه ابن الأعرابي، حدثناه محمد بن أحمد بن الجنيد الدقاق، حدثنا عبد الغفار بن عبيد الله الكريزي، حدثنا صالح بن أبي الأخضر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة نحوه. فهذه الروايات كلها مختصرة نحو حديث عبيد الله بن عبد الله

بن عقبة، وفي الألفاظ اختلاف يسير لا يتغير له المعنى، ثم إنا قد رويناه من طريق صحيح، عن أبي هريرة من غير اختصار، فذكر فيه الصلاة والزكاة، حدثنيه إبراهيم بن عبد الله الأصبهاني، حدثنا محمد بن إسحاق بن خزيمة، حدثنا محمد بن أبان، عن أبي نعيم، حدثنا أبو العنبس -سعيد بن كثير- حدثني أبي، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، ثم حرمت علي دماؤهم وأموالهم وحسابهم على الله). قلت: وهو كثير بن عبيد -مولى أبي (بكر) - وقد أدخله ابن خزيمة في مسنده الصحيح، وقد روى أنس بن مالك أيضا قصة محاجة أبي بكر وعمر فذكر منها الصلاة والزكاة من طريق يدخل في

الصحيح. أخبرناه ابن الأعرابي، حدثنا محمد بن عبد الملك الدقيقي، حدثنا عمرو بن عاصم الكلابي، حدثنا أبو العوام يعني عمران بن داور القطان، حدثنا معمر بن راشد، عن الزهري، عن أنس قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتد عامة العرب فقال عمر لأبي بكر: أتريد أن تقاتل العرب؟ قال أبو بكر: إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، عصموا مني دماءهم وأموالهم، والله لو منعوني عناقا مما كانوا يعطونه رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه، وقد رواه أيضا محمد بن إسحاق بن خزيمة في مسنده الصحيح قال: حدثنا بندار حدثنا عمرو بن عاصم الكلابي بإسناده سواء. وقد روينا أيضا حديث أنس في غير ذلك بقصة الردة من طريق

صحيح، أخبرناه محمد بن بكر، حدثنا أبو داود، حدثنا سعيد بن يعقوب الطالقاني حدثنا عبد الله بن المبارك، عن حميد، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن يستقبلوا قبلتنا، وأن يأكلوا ذبيحتنا، وأن يصلوا صلاتنا، فإذا فعلوا ذلك حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها، ولهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين). فقد نطقت هذه الأخبار المروية من الطرق الصحاح، حديث أبي هريرة من طريق كثير بن عبيد، وحديث أنس من طريق الزهري، وحديث ابن عمر، أن الزكاة كانت شرطا في الأصل لحقن الدم، فثبت بذلك أن أبا بكر إنما قاتلهم بالنص والتوقيف، لا بالنظر والاستدلال الذي جرى ذكره في خبر عبيد بن عبد الله بن عتبة، ويشبه أن يكون هذا إنما ذكر فيه على سبيل التوكيد والاستظهار عند مراجعة القول في مناظرة عمر لا على سبيل التفرد به وحده، وفي ذلك إسقاط جميع ما أورده الروافض من الشبه، وقد ذكرت

الجواب عن تلك الفصول في كتاب معالم السنن فلم يجب تكريره هاهنا. ومما يجب أن يعلم هاهنا أن الذين يلزمهم اسم الردة من العرب كانوا صنفين: صنف منهم ارتدوا عن الدين ونابذوا الملة وعاودوا الكفر، وهم الذين عناهم أبو هريرة بقوله: (وكفر من كفر من العرب)، وهم أصحاب مسيلمة ومن سلك مذهبهم في إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، والصنف الآخر: هم الذين فرقوا بين الصلاة والزكاة، فأقروا بالصلاة وأنكروا الزكاة، وهؤلاء على الحقيقة أهل بغي، وإنما لم يدعوا بهذا الاسم على الاختصاص به لدخولهم في غمار أهل الردة، فأضيف الاسم في الجملة إلى الردة إذ كانت أعظم الأمرين خطبا، وصار مبدأ قتال أهل البغي مؤرخا بأيام علي بن أبي طالب، إذ كانوا منفردين في عصره لم يختلطوا بأهل شرك، وفي ذلك تصويب رأي علي في قتال أهل البغي ودليل على أنه إجماع من الصحابة كلهم.

فإن قيل: (لو كان منكرو الزكاة في زمان أبي بكر أهل بغي ولم يكونوا بذلك كفارا، لكان سبيل) منكري فرض الزكاة في زماننا هذا سبيلهم في لزوم الاسم إياهم وسقوط حكم الكفر عنهم. قيل: إن من أنكر ذلك في هذا الزمان كافر بإجماع الأمة، والفرق في ذلك بينه وبين أولئك القوم أنهم عُذروا فيما جرى منهم حتى صار قتال المسلمين إياهم على معنى استخراج الحق منهم دون القصد إلى دمائهم وأنفسهم لأمور لا يحدث مثلها في هذا الزمان، منها قرب العهد بزمان الشريعة التي كان يقع فيها تبديل الأحكام، ومنها وقوع الفترة بموت النبي صلى الله عليه وسلم، وكان القوم جهالا بأمور الدين وعهدُهم حديث بالإسلام، فداخلتهم الشبهة فعُذروا ضربا من العذر، فأما اليوم فقد شاع أمر الدين واستفاض العلم بوجوب الزكاة حتى عرفه الخاص والعام، واشترك في معرفته العالم والجاهل، فلا يعذر أحد بتأويل يتأوله في إنكارها، وصار سبيلها سبيل الصلوات الخمس في استفاضة العلم بها، فلا عذر لمن جهلها ولا بُقْيا على من أنكرها، إلا أن يتفق أن يكون رجل في

بعض البلاد المتاخمة لبلاد الكفر حديث عهد بالإسلام لا يعرف حدوده، فإذا أنكر شيئا من معاظم أمر الدين جهلا به لم يكفر ولم يرتفع اسم الدين عنه للعذر فيه. وأما ما جرى من السبي عليهم فهو أمر قد رأته الصحابة في ذلك الوقت من طريق الاجتهاد، وقد استولد علي بن أبي طالب جارية من سبي بني حنيفة فولدت محمد بن علي، ثم لم ينقرض العصر حتى رأوا خلافه، واتفقوا على أن المرتد لا يسبى، وإنما أوردوا الخلاف في أولاد المرتدين، وقد قيل: إنه لم يسب أحد من رجالهم، وقد جيء بالأشعث بن قيس وبعيينة بن حصن فأطلقهما ولم يسترقهما. وفي الحديث من الفقه: وجوب الصدقة في السخال

والفُصْلان والعجاجيل، وأن واحدة منها تجزئ عن الواجب في الأربعين منها إذا كانت كلها صغارا ولا يكلف صاحبها مسنة. وفيه دليل على أن حول النتاج حول الأربعين للأمات، ولو كان يُستأنف بالنتاج (الحول) لم يوجد السبيل إلى أخذ العناق وإلى إيجاب الزكاة فيها، وأن واحدة منها مجزئة (وإليه مال) الشافعي، وهو قول أبي يوسف. وقال مالك: فيها مسنة. وقال محمد بن الحسن: لا شيء فيها. وفيه دليل على أن الردة لا تُسقِط عن المرتد الزكاة إذا وجبت عليه في أمواله. وقوله: (وحسابه على الله) معناه بما يستيسر به من الباطن دون الظاهر البادي من أمره فإنه مأخوذ به، وفيه دلالة على أن توبة

الزنديق مقبولة، وسريرته فيما يبطنه إلى الله موكولة، وهو قول أكثر العلماء، وحكي عن مالك أنه قال: لا تقبل توبتة الكافر المستسر بكفره، وحكي ذلك أيضا عن أحمد بن حنبل.

[3] (باب إثم مانع الزكاة)

[3] (باب إثم مانع الزكاة) 302/ 1402 - قال أبو عبد الله: حدثنا الحكم بن نافع قال: أخبرنا شعيب قال: حدثنا أبو الزناد أن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج حدثه أنه سمع أبا هريرة يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تأتي الإبل على صاحبها على خير ما كانت إذا هو لم يعط منها حقها، تطؤه بأخفافها) قال: (وتأتي الغنم على صاحبها على خير ما كانت، إذا لم يعط فيها حقها، تطؤه بأظلافها، وتنطحه بقرونها)، قال: (ومن حقها أن تحلب على الماء)، قال: (ولا يأت أحدكم يوم القيامة بشاة يحملها على رقبته لها يُعار، فيقول: يا محمد، فأقول: لا أملك لك شيئا، قد بلغت). قوله: (على خير ما كانت)، يريد حسن حالها في القوة والسمن، فتكون أثقل لوطئها وأشد لنكايتها. وقوله: (تُحلب على الماء) أي من حقها أن تُسقي ألبانها المارة ومن ينتاب المياه من أبناء السبيل. واليُعار: صوت الشاة.

[3] (باب إثم مانع الزكاة)

[3] (باب إثم مانع الزكاة) 303/ 1403 - قال أبو عبد الله: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، عن أبيه، عن أبي صالح السمان، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مُثِّل مالُه يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوِّقه يوم القيامة، ثم يأخذ بلهزمتيه -يعني شدقيه- ثم يقول: أنا مالك، أنا كنزك، ثم تلا: {ولا يحسبن الذين يبخلون} الآية. الشجاع: الحية، والأقرع: هو الذي لا شعر على رأسه،

ويقال: هو الذي انحسر الشعر عن رأسه لكثرة سُمِّه، والزبيبتان: يقال: هما زبدتان في شدقيه، ويقال: نقطتان سوداوان فوق عينيه. واللهزمة: اللَّحْي وما يتصل به من الحنك، وفُسر في الحديث الشدق، وهو قريب مما قال.

[4] (باب ما أدي زكاته فليس بكنز)

[4] (باب ما أُدي زكاته فليس بكنز) 304/ 1405 - قال أبو عبد الله: حدثنا إسحاق بن يزيد، حدثنا شعيب بن إسحاق قال الأوزاعي أخبرني يحيى بن أبي كثير أن عمرو بن يحيى بن عمارة أخبره عن أبيه يحيى بن عمارة بن أبي الحسن أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لأيس فيما دون خمس أواق صدقة، ولا فيما دون خمس ذود صدقة، ولا فيما دون خمسة أوسق صدقة). قلت: هذا الحديث أصل في بيان مقادير أنصبة الأموال التي تجب فيها الصدقات، فجعل نصاب الفضة منها خمس أواق وهي مائتا درهم، والأوقية أربعون درهما، يقال: أوقية وأواقي، كما يقال: بُخْتِيَّة وبخاتي. ويقال أيضا في جمعها: أواقٍ بلا ياء.

كما يقال: أضحية وأضاحٍ، وفيه دليل على أن الذهب لا يضم إلى الفضة، وإنما يعتبر نصابها بنفسها، إلا أنهم لم يختلفوا في أن من كانت عنده مائة درهم وعنده عرض للتجارة يسوى مائة درهم وحال الحول عليهما أن أحدهما يضم إلى الآخر، وهذا إجماع خُص به ظاهر الحديث. وفيه دليل أنها إذا كانت ناقصة وزنا تجوز جواز الوازنة رسما، أو كانت دراهم جيادا يؤخذ الناقص منها لزيادة الصرف مكان الوافي لم تجب فيها الصدقة حتى يكون الوزن وافيا والجنس رابحا. وقوله: (ولا فيما دون خمس ذود صدقة)، فإن هذا في صدقة الإبل، والذود من الإبل: ما بين الثلاثة إلى العشرة، ولا واحد له من لفظه، إنما يقال للواحد: البعير، كما يقال للواحدة من النساء: المرأة. والعرب تقول: الذود إلى الذود إبل، تريد أن القليل يضم إلى القليل فيصير كثيرا. وقوله: (وليس فيما دون خمسة أوسق صدقة)، فإنه يريد بها

الحبوب والثمار التي توسق، والوسق: ستون صاعا، وهو تمام وسق حمل الدواب النقالة. وفيه دليل على أن لا صدقة في الخضروات [الخضراوات]، لأنها لا توسق، وإنما شرط الصدقة فيما كان يقدر بالأوساق، وهي خارجة عن هذا المعنى، وفيه بيان أن النوع الذي تجب فيه الصدقة من الحبوب والثمار لا يجب فيه شيء حتى يبلغ خمسة أوسق.

[4] (باب ما أدي زكاته فليس بكنز)

[4] (باب ما أدي زكاته فليس بكنز) 305/ 1407 - قال أبو عبد الله: حدثني إسحاق بن منصور، قال: أخبرنا عبد الصمد، حدثني أبي، حدثنا الجريري، حدثني أبو العلاء بن الشخير، عن الأحنف بن قيس قال: جلست إلى ملأ من قريش، فجاء أبو ذر فسلم ثم قال: (بشر الكانزين برضف يحمى عليه في نار جهنم، ثم يوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نُغْض كتفه ..) وذكر الحديث. الرضف: جمع الرضفة، وهي حجر يحمى بالنار، ونغض

الكتف الشاخص، وأصل النغض: الحركة، وسمي ذلك الموضع من الكتب نغضا؛ لأنه يتحرك من الإنسان في مشيه وتصرفه. يقال: نغض ينغُض، وأنغض الرجل رأسه إذا حركه، ومنه قول الله عز وجل: {فسينغضون إليك رؤوسهم}.

[8] (باب الصدقة من كسب طيب)

[8] (باب الصدقة من كسب طيب) 306/ 1410 - قال أبو عبد الله: حدثني عبد الله بن منير أنه سمع أبا النضر، حدثنا عبد الرحمن -هو ابن عبد الله بن دينار- عن أبيه، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب -ولا يقبل الله إلا الطيب- فإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبه كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل). قوله: (بعدل تمرة) يريد قيمة تمرة. يقال: هذا عَدْل هذا -بفتح العين- أي مثله في القيمة، وعِدْله -بكسرها- أي مثله في النظر، ويقال أيضا: عَدل الشيء ما ليس بجنسه، وعِدله ما كان من جنسه. وقوله: (يتقبلها بيمينه) إنما جرى ذكر اليمين ليدل به على

حسن القبول؛ لأن في عرف الناس أن أيمانهم مرصدة لما عز من الأمور، وشمائلهم لما هان منها، وتربية الصدقة مضاعفة الأجر عليها، وإن كان أريد به الزيادة في كمية عينها ليكون أثقل في الميزان لم ينكر ذلك في معنى مقدر أو حكم معقول.

[10] (باب اتقوا النار ولو بشق تمرة والقليل من الصدقة)

[10] (باب اتقوا النار ولو بشق تمرة والقليل من الصدقة) 307/ 1416 - قال أبو عبد الله: حدثني سعيد بن يحيى، حدثنا أبي، حدثنا الأعمش، عن شقيق، عن أبي مسعود الأنصاري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا بالصدقة، انطلق أحدنا إلى السوق فتحامل فيصيب المد، وإن لبعضهم اليوم لمائة ألف. قوله: فتحامل، يريد تكلف الحمل بالأجرة ليكسب ما يتصدق به.

[11] (باب فضل صدقة الشحيح الصحيح)

[11] (باب فضل صدقة الشحيح الصحيح) 308/ 1419 - قال أبو عبد الله: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا عبد الواحد، حدثنا عمارة بن القعقاع، حدثنا أبو زرعة، حدثنا أبو هريرة قال (جاء) رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أي الصدقة أعظم أجرا؟ قال: (أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا، وقد كان لفلان). فيه دليل على أن بعض المرض يقصر يد المالك عن بعض ملكه، وأن سخاوته بالمال لا تمحو عنه سمة البخل إذا كانت في حال مرضه، ولا تحوز له فضيلة الأجر، ولذلك شرط أن يكون المتصدق صحيح البدن، شحيحا بالمال، يجد له وقعا في قلبه وحزازة في نفسه، لما يأمله من طول العمر، ومخافة من حدوث الفقر. وقوله: لفلان كذا ولفلان كذا، وقد كان لفلان، الإسمان

الأولان كناية عن الموصى له بالمال، والثالث كناية عن الوارث يريد أنه صار للوارث فإنه إن شاء أبطله ولم يجزه. وقوله: (إذا بلغت الحلقوم) يريد النفس، وإن لم يتقدم لها ذكر، ولكن معقولا أنها هي المراد، كقوله: {فلولا إذا بلغت الحلقوم} وقوله: {ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة} يريد الأرض ولم يتقدم لها ذكر. وكقوله: {إنا أنزلناه في ليلة القدر}، ولم يتقدم للقرآن ذكر.

(باب) 309/ 1420 - قال أبو عبد الله: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا أبو عوانة، عن فراس، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة أن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قلن للنبي صلى الله عليه وسلم: أينا أسرع بك لحوقا؟ قال: (أطولكن يدا). قال: فأخذن قصبة يذرعنها، فكانت سودة أطولهن يدا، فعلمنا بعدُ أنما كان طول يدها الصدقة، وكانت أسرعنا لحوقا به، وكانت تحب الصدقة. قلت: معنى طول اليد هاهنا على ما تأولته عائشة مدها إلى

العطاء والصدقة، وقد يكون ذلك أيضا من الطول، ألا ترى أنهن قد رأين أنها أطولهن مساحة يد حين تذارعن القصبة؟ فلم يعتبر ذلك، وصرفت عائشة تأويل الحديث إلى معنى العطاء والصدقة، وفيها الطَّول لفاعلهما، وخروج الخبر على ما قال صلى الله عليه وسلم في لحوقها (به) صلى الله عليه وسلم أولا من أدلة نبوته، إذ لا يعلم الغيب إلا ربه الذي أطلعه عليه وأعلمه إياه صلى الله عليه وسلم.

[17] (باب من أمر خادمه بالصدقة ولم يناول بنفسه)

[17] (باب من أمر خادمه بالصدقة ولم يناول بنفسه) 310/ 1425 - قال أبو عبد الله: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير، عن منصور، عن شقيق، عن مسروق، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة كان لها أجرها بما أنفقت، ولزوجها أجره بما كسب، وللخازن مثل ذلك لا ينقص بعضهم أجر بعض شيئا). قلت: مخرج هذا الكلام إنما هو على العرف الجاري والعادة الحسنة في إطلاق رب البيت لزوجته إطعام الضيف، والطارق والمواساة منه (والتصدق) على السائل، فندب ربة البيت لذلك ورغبها في فعل الجميل وترك الضنة والاستئثار، وأمر أن يكون

ذلك منها على سبيل الإصلاح من غير إفساد ولا إسراف، ومن الخازن كذلك لأن الشيء غالبا إنما يكون تحت يده فحض كلا (منهما) على التعاون لئلا يقصر في استيفاء الحظ منه وحيازة الأجر فيه.

[18] (باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى)

[18] (باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى) 311/ 1426 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبدانه قال: أخبرنا عبد الله، عن يونس، عن الزهري قال: أخبرني سعيد بن المسيب أنه سمع أبا هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، وابدأ بمن تعول). قوله: (ما كان عن ظهر غنى) يريد ما كان عفوا قد فضل عن غنى، والظهر قد يزاد في مثل هذا إشباعا للكلام، كقولهم في الصنيعة إذا تبرع بها صاحبها: أعطى فلان فلانا ألف درهم عن ظهر يد، أي أعطاه تبرعا على غير عوض، وحقيقته أنه إنما أعطاه من أجل أن يتخذ به عنده يدا، والمعنى أن أفضل الصدقة ما أخرجه الإنسان من ماله بعد أن يستبقي منه قدر الكفاية لأهله وعياله، ولذلك يقول: (وابدأ بمن تعول).

وقد قيل فيه وجه آخر: وهو أن يكون أراد بذلك التصدق عليه، يريد إجزال العطاء والإكثار منه، فيكون قد أبقى له بذلك غنى. والأول هو وجه الحديث.

[21] (باب التحريض على الصدقة والشفاعة فيها)

[21] (باب التحريض على الصدقة والشفاعة فيها) 312/ 1431 - قال أبو عبد الله: حدثنا مسلم بن إبراهيم قال: حدثنا شعبة قال: حدثنا عدي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوم عيد فصلى ركعتين لم يصل قبل ولا بعد، ثم مال على النساء، وبلال معه، فوعظهن وأمرهن أن يتصدقن، فجعلت المرأة تلقي القُلْب والخُرْص. القلب: الخلخال، والخرص: حلقة القرط. وفيه من الفقه خروج النساء إلى مصلى العيد وشهودهن الصلاة والدعاء هناك. وفيه أنهن مالكات لأموالهن يتصدقن فيها من غير إذن زوج أو ولي إذا كن رشيدات.

313/ 1433 - قال أبو عبد الله: حدثني صدقة بن الفضل قال: أخبرنا عبدة، عن هشام، عن فاطمة، أن أسماء قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: (لا توكي فيوكى عليك). الإيكاء: شد الوعاء بالوكاء، وهو الخيط الذي يشد به رأس الوعاء والقربة (ونحوهما). يقول: لا تبخلي فتدخري الموجود ضنا به، ولا تقتِّري في الواجب فيقتر عليك ويقطع المادة عنك، وهذا كقوله: (لا تحصي فيحصى عليك).

[24] (باب من تصدق في الشرك ثم أسلم)

[24] (باب من تصدق في الشرك ثم أسلم) 314/ 1436 - قال أبو عبد الله: حدثني عبد الله بن محمد قال: حدثنا هشام، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عروة، عن حكيم بن حزام قال: قلت يا رسول الله، أرأيت أشياء كنت أتحنت بها في الجاهلية من صدقة أو عتاقة أو صلة رحم، فهل فيها من أجر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أسلمت على ما سلف من خير). قوله: أتحنث، معناه أتقرب بها إلى الله عز وجل وحقيقته أطرح الحنث بها عن نفسي. وقوله: (أسلمت على ما سلف من خير) أي: على حيازة

ما سلف لك من خير، أو قبول ما سلف لك من خير، والاحتساب به من عملك. وقد روي أن حسنات الكافر إذا ختم له بالإسلام مقبولة أو محتسبة له، فإن مات على كفره كانت هدرا، أو كما قال في القرآن: {ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله}.

[28] (باب مثل المتصدق والبخيل)

[28] (باب مثل المتصدق والبخيل) 315/ 1443 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو اليمان، قال: حدثنا شعيب، قال: حدثنا أبو الزناد، أن عبد الرحمن حدثه أنه سمع أبا هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (مثل البخيل والمنفق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد من ثُدِيِّهما إلى تراقيهما، فأما المنفق فلا ينفق إلا سبغت أو وفرت على جلده حتى تُخفي بنانه وتعفو أثره، وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئا إلا لزمت كل حلقة مكانها، وهو يوسعها ولا تتسع). قلت: هذا مثل ضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم للجواد المنفق، والبخيل الممسك: وشبههما برجلين أراد كل واحد منهما أن يلبس درعا يستجن بها، فصبها على (رأسه) ليلبسها، والدرع أول ما يلبس إنما يقع في موضع الصدر والثديين إلى أن يسلك لابسها يديه في كميها ويرسل ذيلها على أسفل بدنه فيستمر سفلا، فجعل صلى الله عليه وسلم مثل المنفق مثل من لبس درعاً

سابغة فاسترسلت عليه حتى سترت جميع بدنه وحصَّنته، وجعل البخيل كرجل كانت يداه مغلولتين إلى عنقه ناتئتين دون صدره، فإذا أراد لبس الدرع حالت يداه بينهما وبين أن تمر سُفلا على البدن واجتمعت في عنقه فلزمت ترقوته فكانت ثقلا ووبالا عليه من غير وقاية له أو تحصين لبدنه، وحقيقة المعنى أن الجواد إذا هم بالنفقة اتسع لذلك صدره وطاوعته يداه فامتدتا بالعطاء والبذل، وأن البخيل يضيق صدره وتنقبض يده عن الإنفاق في المعروف والصدقة، وإلى نحوٍ من هذا المعنى أشير، والله أعلم، في قوله عز وجل: {وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء}. وقوله في هذه الرواية: حتى تُخفي بنانه، الرواية الصحيحة: (حتى تُجِنَّ بنانه)، هكذا حدثناه ابن الأعرابي قال: حدثنا سعدان بن نصر، قال: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم فقال فيه: (حتى تجن بنانه) أي تسترها، يقال: جن وأجن بمعنى واحد.

[38] (باب زكاة الغنم)

[38] (باب زكاة الغنم) 316/ 1454 - قال أبو عبد الله: حدثنا محمد بن المثنى الأنصاري قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا ثمامة بن عبد الله بن أنس، أن أنسا حدثه أن أبا بكر كتب له هذا الكتاب لما وجهه إلى البحرين: بسم الله الرحمن الرحيم: هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين، والتي أمر الله (بها) رسوله، فمن سُئِلها من المسلمين على وجهها فليعطها، ومن (سئل) فوقها فلا يعط، في أربع وعشرين من الإبل فما دونها (من) الغنم من كل خمس شاة، فإذا بلغت خمساً

وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها ابنة مخاض، فإذا بلغت ستا وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها ابنة لبون أنثى، فإذا بلغت ستا وأربعين إلى ستين ففيها حقة طروقة الجمل، فإذا بلغت واحدة وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة، فإذا بلغت -يعني ستة وسبعين- إلى تسعين ففيها ابنتا لبون، فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة ففيها حقتان طروقتا الجمل، فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين ابنة لبون، وفي كل خمسين حقة، ومن لم يكن معه إلا أربع من الإبل فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها، فإذا بلغت خمسا من الإبل ففيها شاة.

[33] (باب العرض في الزكاة)

[33] (باب العرض في الزكاة) 317/ 1448 - ومن بلغت صدقته ابنة مخاض، وليست عنده، وعنده ابنة لبون، فإنها تقبل منه، ويعطيه المصدق عشرين درهما أو شاتين، فإن لم يكن عنده ابنة مخاض على وجهها وعنده ابن لبون فإنه يقبل منه وليس معه شيء.

أعلام الحديث الجزء الثاني

(38) (باب زكاة الغنم)

(38) (باب زكاة الغنم) 318/ 1454 - وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاة، فإذا زادت على عشرين ومائة إلى مائتين شاتان، فإذا زادت على المائتين إلى الثلاثمائة ففيهما ثلاث، فإذا زادت على ثلاثمائة، ففي كل مائة شاة، وإذا كانت سائمة الرجل ناقصة من أربعين شاة واحدة، فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربُّها. ولا تخرج في الصدقة هَرِمَة، ولا ذات عَوَار، ولا تَيس إلا ما شاء المصدِّق. وما كان من خَلِيطَين، فإنهما يَتَراجَعَان بالسَّويَّة. ولا يُجمع بين مُتَفِّرِقٍ، ولا يُرَّق بين مُجتمِع، خشية الصدقة.

وفي الرِّقّة رُبع العُشْر، فإن لم يكن إلا تسعين ومائة فليس فيها شيء، إلا أن يشاء ربُّها. فرض قوله: " هذه فريضة الصدقة التي فَرَض رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على المسلمين " معنى الفرض هاهنا: بيان التقدير كقوله عز وجل: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء مالم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة}. يريد تسمية المهر، وتقرير مبلغ كَميَّتِه. والفرض يكون بمعنى الإيجاب، وهو فرض الله تعالى أصل الزَّكاة، وإيجابه إياها جملة، وإنَّما فرض رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بيان المجمل منه وتفصيله في أجناسه، وتقدير مبلغ الواجب في نوع منه. وقوله: " مَنْ سُئِل فَوقَها فلا يُعطِ ". فيه إباحة الدَّفع عن ماله إذا طُولب بما لا يلزمه من الزيادة على المفروض، وفيه إباحة أن يُقاتله عليها إن لم يكن رده عن ماله إلا بذلك، وقد رويناه فيما يُشبه هذا المعنى حديثاً حسناً، ذكره محمد بن إسحاق بن خزيمة في المسند الصحيح، أخبرنيه إبراهيم بن عبدالله قال: حدثنا محمد بن

إسحاق قال: حدّثنا محمد بن عمرو بن تَمَّام المِصري قال: حدثنا يحيى بن بُكْير قال: حدّثني الليث قال: حدّثني هشام بن سَعْدِ بنِ عُبادَةَ عن عباس بن عبدالله بن مَعْبِد بن عباس، عن عاصم بن عُمر بن قَتادة الأنصاري، عن قيس بن سعد بن عُبادة أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بَعَثه ساعياً، فقال أبوه: لا تَخْرُجْ حتى تحدث برسول الله، صلى الله عليه وسلم، عَهداً، فلما أراد الخروج أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: " يا قيسُ، لا تَأتِ يوم القيامة على رقبتك بَعِير له رُغَاءٌ، أو بقرة لها خُوار، أو شاة لها يُعارٌ، ولا تكن كأبي رِغَالٍ " فقال سَعْد " يا رسول الله! وما أبو رِغَال؟ قال: " مُصدِّق / بَعَثَه صَالحٌ فَوَجَدَ بالطائف رجلاً في غُنَيْمة قريبة من الماء شِصَاصٍ، إلا شاةٌ واحدة، وابنٌ صغيرٌ، لا أم له، فَلَبَن تِلك الشاةِ عَيْشُهُ. قال

صاحب الغنم: من أنت؟ قال: رسول الله، فرحَّب به، وقال: هذه غنمي، فَخُذْ أيَّها أحببت، فنظر إلى الشاة اللَّبون، فقال: هذه. فقال الرجل: هذا الغلام كما ترى، ليس له طعام ولا شراب غيرها، قال: إن كنت تُحِبُّ اللبن فأنا أحبُه. قال: خُذْ شاتين مكانها فأبى، فلم يزل يزيدُه حتى بذل له خمس شياهٍ شِصَاصٍ مكانها، فأبى عليه، فلما رأى ذلك عمد إلى فَرسِه، أو إلى قَوسِه. - قُلتُ: الشَّك مني - فرماه فقتله، فقال: ما ينبغي لأحد أن يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، بهذا الخبر قبلي، فأتى صاحب الغنم صالحاً، صلوات الله عليه، فأخبره، فقال صالح: اللهم (الْعَن) أبا رِغالٍ، اللهم (الْعَن) أبا رِغال ". فقال سعد بن عبادة: يارسول الله! أعف قيساً من السِّعاية. الغَنَم الشِّصاصُ: هي القليلات الألبان. يقال: شاه

شَصْوص، وغنم شِصاصُ. وفي الحديث: دليل على جواز أن يتولى المرء إخراج صدقة أمواله الظاهرة بنفسه دون دفعها إلى السلطان، وفيه: دليل على أن الإبل إذا زادت على عشرين ومائة لم تُستأنف لها الفريضة، وأنها إذا زادت بواحدة تغيَّر لها الفرض كسائر الآحاد الزائدة على منتهى الأوقاص، كالسادسة بعد الخمس والثلاثين، والسادسة بعد الخمس والأربعين، فيجب على ذلك في مائة وإحدى وعشرين ثلاث بنات لَبُون، وفيه: من الفقه أن كل واحدة من الشاتين، والعشرين الدرهم أصل في نفسها ليست ببدل، وذلك لأنه قد خيَّره بينهما بحرف، أو وكان معلوماً، أن ذلك لا يجري مجرى تعديل القيمة، لاختلاف ذلك في الازمان والأمكنة، وإنما هو تعويض، قدرته الشريعة، كالصَّاع في المُصرَّاة، والغُرَّة في الجنين،، لأن هذه أمور يتعذر الوقوف على مبلغ الاستحقاق فيها، وكانت لو تُرِكت إلى مايتداعاه الخصمان فيها لطال النزاع، وامتدت الخصومة، فلم يوجد من يفصل الحكم بينهما، ويحملهما على السَّواء. والصدقات إنما تُؤخذ من الأموال على المياه وفي

البوادي، وليس هناك سوق قائمة، ولا مُقوِّم يُرْجَع إلى قوله، فقدَّرت الشريعة في ذلك شيئاً معلوماً، يُجبر به النقص، وتنقطع معه مادة النِّزاع، وعلى هذا القياس، إن زاد التَّباين، وتضاعف حتى جاوز إلى ما وراء السِّنِّ، الذي يلي السِّن الأول، ضوعف الجَبْران بحساب ذلك، كمن وجبت عليه ابنة مخاض، فل تُوجد عنده، ولم تُوجد أيضاً ابنة لبون، وابن لبون، وإنما وُجدَت حِقَّه، فإنها تُؤخذ منه، ويَرُدُّ عليه السَّاعي أربعين درهماً، أو أربع شياه، وإنما لم يُرَدَّ (مع) ابن اللبون شيءٌ على من وجبت عليه ابنة مخاض، لأنه وإن زاد في السن فقد نقص بالذَكورية، وسنة الصدقات أن لا تؤخذ فيها إلا الإناث، فجبر نقص الذُّكُورة بزيادة السن فاعتدلا. وقوله في صدقة الغنم: " فإذا زادت على ثلثمائة، ففي كل مائة شاةٍ شاةٌ "، فإنه أراد بذلك أن تزيد مائة أخرى حتى تبلغ أربعمائة، وذلك أن المائتين لمَّا توالت أعدادها، وعُلّقَتْ زيادة الصَّدقة (الواجبة) فيها بمائة مائة، ثم قيل: " فإذا زادت " عُقِل أن هذه الزيادة اللاحقة بها إنما هي مائة كاملة، لا مادونها، وهو قول عوام الفقهاء إلا ما حُكي عن بعضهم، وهو الحسن بن صالح بن حيٍّ من انه إذا زادت على ثلثمائة واحدة كان فيها أربع

شِيَاه، وهو قول متروك. وقوله: " ولا يُجمَعُ بين مُتَفرِّق، ولا يُفَرَّقُ بين مُجْتَمِع خشية الصدقة "، فإن هذا إنما يَعْرِضُ في زكاة الخُلَطَاء، قال مالك: هو مثل أن يكون لكل واحد منهما أربعون شاة، فإذا أظلمها / المصَدِّق جمعوها لئلا يكون فيها إلا شاة واحدة. " ولا يُرَّق بين مُجَتمع " هو أن الخَليطين إذا كان لكل واحد منهما مائة شاةٍ وشاةٌ، فيكون عليهما ثلاث شياه، فإذا أظلهم المصدّق فرقا غنمهما، فلم يكن على كل واحد منهما إلا شاةٌ. وقال الشافعي رحمه الله: الخطابُ في هذا خطاب المَصَدق وربِّ المال معاً. قال: والخشيَة خَشْيَتان، خشية الساعي أن تقل الصدقة، وخشية رب المال أن تكثُر الصدقة، فأمر كل واحد منهما أن لا يُحدث في المال شيئاً من الجَمع والتَّفريق خَشية الصدقة. وقوله: " وما كان من خَليطَين فإنهما يتراجعان بالسويَّة " فمعناه: أن يكون بين رجلين أربعون شاة، لكل واحد منهما عشرون، قد عرف كل واحد منهما عين ماله، فيأخذ الْمصدِّقُ من

نصيب أحدهما شاةً، فيرجعُ المأخوذ من ماله على خَليطِه بقيمة نصف شاته، وفيه بيان الخُلْطَةِ في الأموال، وعلى أن الخُلطة قد تصح مع تميّز أعيان الأموال. وقال الشافعي: إذا تَمّ بماليهما نصابٌ (واحدٌ وجبت عليهما الزكاة، وقال مالك: ولا تَجب حتى يكون مالُ كُلّ) واحدٍ منهما قَدْرَ نِصاب. وقوله: " ولا يُؤخَذُ في الصدقة هَرِمَةٌ، ولا ذاتُ عَوار، ولا تَيْسُ (الغنم)، إلا ما شاء المُصدق "، فإن حق الفقراء إنما هو في وسط المال، لا يأخُذ المُصدِّق شرار الأموال، كما لا يأخذ كرائمها، ليكون ذلك عدلاً بين الفريقين، لا يُجحف بأرباب الأموال، ولا يَزرى بحقوق الفقراء، وإنما يأخذ ذَات العوار إذا كان في الغنم من الصحيح ما يفي بقدر الواجب من الصدقة فيها، فإن كانت كلها معيبةً أخذ من عَرْضِها، وتيس الغنم فَحلها، وإنما لا يُخذ لنقصه، وفَساد لحمه. وقوله: " إلا ما شاء المُصَدِّقُ "، يُريد السَّاعي، لأن له ولاية النظر، ويَدُه كيد الفقراء، وهو الوكيل لهم، ولذلك يأخذ عمالَتَه

من أموالهم. وقوله: / ((وفي الرقة ربع العشر)) , فإن الرقة الدراهم المضوربة , وتجمع على الرقين , وفي بعض الأمثال: إن الرقين ورق تذهب أفن الأففين. وقوله: ((فإن لم يكن إلا تسعون ومائة , فليس فيها شيء إلا أن يشاء ربها)) , يوهم أنها إذا زادت على ذلك شيئا قبل أن تتم مائتين كانت فيها الصدقة , وليس الأمر كذلك , وإنما ذكر التسعين , لأنه آخر فصل من فصول المائة , والحساب إذا جاوز الآحاد كان تركيبه بالفصول , كالعشرات , والمئين , والألوف , فذكر التسعين ليدل بذلك على أن لا صدقة فيما نقص كمال المائتين , يدل على صحة ذلك قوله: ((لا صدقة في أقل من خمس أواق.)) قلت: ومما ذكر في هذا الحديث من أسنان الإبل مما يحتاج إلى تفسيره. ابنة المخاض: وهي التي عليها حول ودخلت في السنة

الثانية , وحملت أمها , فصارت من المخاض , وهي الحوامل والمخاض: اسم جماعة للنوق الحوامل. ومنها: ابنة اللبون: وهي التي أتى عليها حولان , ودخلت في السنه الثالثة , فصارت أمها لبونا بوضع الحمل فهي ذات لبن. ومنها الحقة: وهي التي أتى ثلاث سنين , ودخلت في السنة الرابعة , فاستحقت الحمل والضراب. ومنها الجذعة: وهي التي لها أربع سنين , ودخلت في الخامسة. وقوله: طروقتا الجمل , فالطروقة: هي التي طرقها الفحل , أي: ضربها , وهي فعولة , بمعى مفعولة , كذلك الحلوبة والجلوبة , ونحوهما.

(36) (باب زكاة الإبل)

(36) (باب زكاة الإبل) 319/ 1452 - قال أبو عبدالله: حدثنا علي بن عبدالله قال: حدثنا الوليد بن مسلم , قال حدثنا الأوزاعي , قال: حدثني ابن شهاب , عن عطاء بن يزيد , عن ابي سعيد الخدري , أن أعربيا سأل رسول الله , صلى الله عليه وسلم , عن الهجرة , فقال: ((ويحك إن شأنها شديد , فهل لك من إبل تؤدي صدقتها؟)) قال: نعم. قال فاعمل من ورراء البحار فإن الله لن يترك من أعمالك شيئا. قوله: ((لن يترك)) , معناه: / لن ينقصك. ومنه قول الله عزوجل: (ولن يتركم أعمالكم) وقوله: ((فاعمل من وراء البحار)) يريد إذا كنت تؤدي فرض الله نفسك ومالك , (فلا) تبال أن تقيم في وطنك , وإن كانت دارك من وراء البحار فلا تهاجر , ودار الهجرة وإنما هي في جزيرة العرب , ومن كانت داره من وراء البحار , لم يصل إلى المدينة إلا بعد قطعها , وعبورها إليها.

(44) (باب الزكاة على الأقارب)

(44) (باب الزكاة على الأقارب) 320/ 1461 - قال أبو عبدالله: حدثنا عبدالله بن يوسف قال: أخبرنا مالك , عن إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة أنه سمع أنس بن مالك , يقول: كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالا , فلما نزلت هذه الآية (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون): قال: يا رسول الله: إن الله , عزوجل يقول: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون): وإن أحب أموالي الي بيرحاء , وإنها صدقة لله أرجو برها , وذخرها عندالله , فضعها يا رسول الله! حيث أراك الله , قال: فقال رسول الله , صلى الله عليه وسلم: (بخ , ذلك مال رابح , ذلك مال رابح , وإني أريد أن تجعلها في الأقربين)) , فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه. قال: وقال حما بن سلمة: قال: ثابت البناني، قال أنس: ففجعلها أبو طلحة لأبي بن كعب ,

وحسان بن ثابت. رائح: رواه يحي بن يحي , وإسماعيل , عن مالك. ورابح رواه روح , وعبدالله بن يوسف. قوله: ((مال رابح)) , معناه , ذو ربح , كقولهم: ناصب. بمعنى ذي نصب , وقد يروى أيضا ((ذلك مال رائح)) , أي قريب , يروح خيره , ليس بعازب وذلك من أنفس ما يكون من

الأموال وأحضره نفعاً, كقول الشاعر: سأبغيك مالا بالمدينة إنني ... أرى عازب الأموال قلت فضائله وفي الحديث: دليل على أن الوقفف يصح , وإن لم يذكر سبله , ومصارف دخله. وفيه: دليل علي جواز أن يعطي الواحد من صدقة المال ففوق مائة درهم. / وذلك أن هذا الحائط كان مشهورا من أمره أن دخله كان يزيد على هذا القدر من المال زيادة كثيرة , ثم إن أبا طلحة جعله بين نفسين , ولا ففرق بين ففرض الصدقة , ونفلها في مقدار ما يجوز إعطاؤه , ويصح استحقاقة للمتصدق عليه.

(45) (باب ليس على المسلم في فرسه صدقة)

(45) (باب ليس على المسلم في فرسه صدقة) قال أبو عبدالله: حدثنا آدم , قال: حدثنا شعبة , قال: حدثنا آدم , قال: حدثنا شعبة , قال: حدثنا عبدالله بن دينار , قال: سمعت سليمان بن يسار , عن عراك بن مالك , عن أبي هريرة , قال: قال النبي , صلى الله عليه وسلم: ((ليس علي المسلم في فرسه وغلامه صدقة)) قلت: هذا إذا لم يكونا للتجارة , وكان الفرس للركوب , والغلام للخدمة , وفيه بيان لا صدقة في الخيل أعيانها , وهذا لا يدففع وجوب صدقة الفطر في الغلام , لأن مطلق الصدقة إنما يعقل منها الصدقات المقدرة في الأموال , وقد روي ذلك مقروناً

بالحديث في بعض الروايات من طريق نافع بن يزيد , عن جعفر بن ربيعة , عن عراك , عن أبي هريرة , عن رسول الله , صلى الله عليه وسلم: ((ليس على المسلم في عبده , ولا فرسه صدقة , إلا صدقة الفطر)) ,حدثنيه الثقة من أصحابنا , قال: حدثنا محمد بن إسحاق بن خزيمة , قال: حدثنا محمد بن سهل بن عسكر , قال: حدثنا ابن أبي مريم , قال حدثنا نافع بن يزيد.

(47) (باب الصدقة على اليتامى)

(47) (باب الصدقة على اليتامى) 322/ 1465 - قال أبو عبدالله: حدثنا معاذ بن ففضالة, قال: حدثنا هشام عن يحي , عن هلال بن أبي ميمونة , حدثنا عطاء بن يسار أنه سمع أبا سعيد الخدري يحدث أن النبي , صلى الله عليه وسلم , جلس ذات يوم على المنبر , وجلسنا حوله , فقال: ((إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها)) , فقال رجل: يا رسول الله! أو يأتي الخير بالشر؟ فسكت النبي , صلى الله علية وسلم , ففقيل له _ما شأنك , تكلم النبي , صلى الله عليه وسلم , ولا يكلمك , فرأينا أنه ينزل عليه. قال: فمسح عنه الرحضاء فقال: ((أين السائل))؟ _وكأنه حمده _ فقال: ((إنه لا يأتي الخير بالشر , وإن مما ينبت الربيع / يقتل أو يلم إلا آكله الخضر , أكلت حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت عين الشمس , فثلطت , وبالت , ورتعت , وإن هذا المال خضرة حلوة , فنعم صاحب

المسلم , ما أعطى منه المسكين واليتيم , وابن السبيل , أو كما قال: ((وإنه من يأخذه بغير حقه ككان الذي يأكل ولا يشبع ويكون شهيدا عليه يوم القيامة)) وقوله ((إنه لا يأتي الخير بالبشر , وإن مما يننبت الربيع يقتل , أو يلم)) , سقط من الكلام ففى الرواية (ما). هو مثل ضربه , صلى الله عليه وسلم , انتظم الجواب عن مسألته , واستثى منها موضع الشبهة بالشرط الذيي ذكر فيه ,يريد أن جمع المال , واكتسابه غير محرم , ولكن الاستكثار منه , (والخروج) من حد الاقتصاد فيه ضار , كما أن الاستكثار من المأكل مسقم من غير تحريم للأكل , ولكن الاقتصا فيه هو المختار المحمود , والمعنى: أن مرعى الربيع , ونباته رخص ناعم , تستحليه , الماشية فتنتفخ بطونها , وربما كان ذلك سببا لهلاكها , وذلك مثل المستكثر من الدنيا الحريص عليها , وعلى جمعها. ومعنى قوله: ((يلم)) يقرب , أو يسرع أن يكون منه التلفف.

وقوله: ((إلا آكله الخضر)) , فإنه مثل المقتصد في طلب الدنيا , القانع منها بقدر الكفاية , والخضر من كلأ الصيفف, وليس من أحرار بقول الربيع الرخص الذي تستكثر من الماشية , وإنما ترتع منه شيئا شيئا , ولا تستكثر منه فتستوبله وجعل ما يكون من ثلطها , وبولها لإخراج ما يكسبه من المال في الحقوق , ووضعه فيها. وفيه: الحض على الإقتصاد في المال والحث على الصداقة والمعروف , وترك الإمساك والادخار. وقوله: ((وإن المال خضرة حلوة)) يريد أن صورة الدنيا ومتاعها حسنة المنظر مونقة , تعجب الناظر ولذلك / أنث , والعرب تسمي الشيء المشرق الناظر خضرا , تشبيها له بالنبات الأخضر. ويقال: إنما سمي الخضر خضرا لحسنه , ولإشراق وجهه. والرحضاء: عرق يرحض الجلد لكثرته ..

(49) باب قوله تعالى

(49) باب قوله تعالى: (وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله) 323/ 1468 - قال أبو عبدالله: حدثنا أبو اليمان , قال: حدثنا شعيب , قال: حدثنا أبو الزناد , عن الأعراج , عن أبي هريرة: أمر رسول الله , صلى الله عليه وسلم , بالصدقة , فقيل: منع ابن جميل , وخالد بن وليد , وعباس بن عبدالمطلب , فقال النبي. صلى الله عليه وسلم: ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيرا فأغناه الله رسوله , وأما خالد , فإنكم تظلمون خالدا. قد احتبس أدراعه وأعبده في سبيل الله , وأما العباس بن عبد المطلب فعم رسول الله , صلى الله عليه وسلم , وهي صدقه ومثلها معها))

قال أبو عبدالله: وقال ابن إسحاق , عن أبي الزناد ((وهي عليه ومثلها)) , وقال ابن جريح: حدثت عن الأعرج بمثله. قوله: ((إنكم تظلمون خالدا , قد احتبس أدراعه , وأعبده في سبيل يتأول على وجوه: أحدهما: انه قد اعتذرر لخالد , ودافع عنه , يقول: إذا كان خالد قداحتبس أدراعه , وأعبده في سبيل الله تبررا , وتقربا إليه , وذلك غير واجب عليه , فكيف يجوز عليه منع الصدقة الواجبة عليه؟ والوجه الثاني: أن خالدا إنما طولب بالزكاة عن أثمان الأدرع , والأعبد على معنى أنها كانت عنده للتجارة , فأخبر النبي , صلى الله عليه وسلم أنه لا زكاة عليه فيها إذ قد جعلها حبسا في سبيل الله. وفي ذلك: إثبات الزكاة في الأموال التي ترصد للتجارة , وقد أوجبها عامة الفقهاء , غير أن بعض المتأخرين خالف في ذلك وهو كالشذوذ منه. وفيه (بيان) جواز إحباس آلات الحرب والسلاح,

وعلى قياسه الثياب والأمتعة التي ينتفع بها مع بقاء أعيانها. وفيه جواز إحباس الحيوان , (و) / الرقيق , والإبل ونحوها. والوجه الثالث: قد أجاز لخالد أن يحتسب بما قد احتسبه من الأدراع , والأعبد في سبيل الله من الصدقة التي أمر بقبضها منه , وذلك لأن أحد أصناف المستحقين للصدداقات في سبيل الله هم المجاهدون , فصرففها في الحال إليهم كصرفها في المال. وفيه على هذا الوجه: دليل على جواز أخذ القيمة عن أعيان الأموال. ووضع الصدقة في صنف واحد من الأصناف. وأما قوله في صدقة العباس: ((هي عليه صدقة ومثلها معها)) فإن هذه لفظه قل المتعابعون فيها لشعيب وقد ذكر أبو عبد الله أن ابن إسحاق ذكره عن أبي الزناد , فقال: ((هي عليه مثلها)) , وذكر ابن جريح أنه قال: ((حدثت عن الأعرج مثله , وهذا أولى لأن العباس رجل من صليبة بني هاشمي , لا تحل له الصدقة فكيف يستأثرها , ويمنعها أهل سهمان الصدقة , وقد رواه ورقاء عن أبي الزناد فقال: وأما العباس _ عم

رسول الله , صلى الله عليه وسلم , _ ((فهي علي , مثلها)) وأخبرناه ابن داسة , فقال: حدثنا أبو داود , قال: حدثنا الحسن بن الصباح , قال: حدثنا أبو داود , قال: حدثنا شبابه , عن ورقاء , ورواه موسى بن عقبة , عن أبي الزناد , فقال هي له ومثلها معها)) حدثنا إبراهيم بن عبدالله , قال: حدثنا ابن خزيمة , قال: حدثني أحمد بن حفص عبدالله , قال: حدثني أبي

قال: حدثني إبراهيم , عن موسى بن عقبة. فأما قوله في روايه ابن إسحاق: ((فهي عليه ومثلها)) , فإن أبا عبيد قد رواه , وقال: أرى _والله أعلم _, أنه كان أخر عنه الصدقة عامين , وليس وجه ذلك إلا أن يكون من حاجة بالعباس إليها , فإنه قد يجوز للإمام أن يؤخرها إذا كان ذلك على وجه النظر , ثم يأخذها منه بعد. وأما قوله في رواية ورقاء: ((فهي علي ومثلها)) فإنه / يتأول على أنه قد كان تسلف منه صدقة عامين , إحدهما: صدقة ذلك العام الذي شكاه العامل فيها , وصدقة عام قبله. وفي ذلك: دليل على جواز تعجيل الصداقة قبل حلول الحلول على المال. وفيه أيضا: دليل على جواز تعجيلها لسنتين , فإن بعض من أجاز الفقهاء لم يجوزه لأكثر من عام واحد. وأما قوله في خبر موسى بن عقبة: ((فهي له ومثلها معها)) , فمحمول على موافقة سائر الأخبار , ومتأول على ما يطابق

الأصول، وتقديره أنه قال: فهي عليه، ومثلها معها. وقد جاء ففي كلامهم: (له) بمعنى (عليه)، كقوله عز وجل: {أولئك لهم اللعنة} أي عليهم، وكقول القائل لصاحبه: له الويل، بمعنى: عليه، وما أشبه ذلك من الكلام.

(50) (باب الاستعفاف عن المسألة)

(50) (باب الاستعفاف عن المسألة) 324/ 1472 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبدان، قال: أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا يونس، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، وسعيد بن المسيب أن حكيم بن حزام، قال: سألت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال لي: يا حكيم إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل، ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى). قال حكيم: فقلت: يا رسول الله! والذي بعثك بالحق، لا أرزأ أحدا بعدك شيئا حتى أفارق الدنيا. قوله: (فمن أخذه بسخاوة نفس)، يريد من أخذه من غير حرص وشره، فلا يمسكه ضنا به، لكن ينفقه ويتصدق به. وقوله: (ومن أخذه بإشراف نفس كان كالذي يأكل ولا يشبع)، يريد أن سبيله في ذلك سبيل من يأكل من ذي سقم وآفة، يأكل فيزداد سقما، ولا يجد شبعا، فينجع فيه الطعام، وأحسبه أراد من به الجوع الكاذب، وهو علة من العلل

يزعم أهل الطب أنها تتولد من غلبة السوداء، أو يخطر ببالي أني قد سمعت في تفسيره شيئا، وهو أنه صفة دابة من الدواب، أو نحو ذلك فيما أراه، والله أعلم. وقوله: (اليد العليا خير من اليد السفلى)، فإنه يفسر على وجهين: أحدهما: أن العليا المنفقة والسفلى السائلة. والوجه الآخر: أن تكون العليا هي المتعففة، روي ذلك عن ابن عمر، وهو أشبه الوجهين ههنا.

(52) (باب من سأل الناس تكثرا)

(52) (باب من سأل الناس تكثرا) 325/ 1474 - قال أبو عبد الله: حدثني يحيى بن بكير، قال: حدثنا الليث، عن عبيد الله بن جعفر، قال: سمعت حمزة بن عبد الله بن عمر، قال: سمعت عبد الله بن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما يزال الرجل يسأل الناس، حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم). المزعة: القطعة من اللحم. يقال: مزعت اللحم إذا قطعته قطعة قطعة. وتمزع الشيء: إذا تقطع. وهذا قد يحتمل وجوها منها: أنه يأتي يوم القيامة ذليلا ساقطا، لا جاه له، ولا قدر، كنى بالوجه عن الجاه والقدر، على معنى قول الناس: لفلان وجه عند الناس، أي قدر ومنزلة. ومنها أن يكون وجهه الذي يلقى به عظما، لا لحم عليه، إما بأن يكون قد نالته العقوبة في وجهه، فعذب حتى سقط لحمه،

على معنى مشاكلة عقوبة الذنوب مواضع الجنابة من الأعضاء كقوله: {الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس} يريد أن الربا الذي أكلوه ربا في بطونهم وأثقلهم، وكقول النبي صلى الله عليه وسلم: (رأيت ليلة أسري بي قوما تقرض شفاههم، كلما قرضت وفت. فقال جبريل: هؤلاء خطباء أمتك الذين يقولون ما لا يفعلون). وإما أن يكون ذلك علامة له، وشعارا يعرف به، وإن لم يكن من عقوبة مسته في وجهه، وقد جاء في بعض الروايات في هذا الخبر أنه قال: يأتي اللهَ يوم القيامة ووجهه عظم كله).

(53) (باب قول الله تعالى)

(53) (باب قول الله تعالى) {لا يسألون الناس إلحافا} 326/ 1476 - قال أبو عبد الله: حدثنا حجاج بن منهال، قال: حدثنا شعبة، قال: حدثني محمد بن زياد، قال: سمعت أبا هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم (قال): (ليس المسكين الذي ترده الأكلة والأكلتان، ولكن المسكين الذي ليس له غنى، ويستحيي أن يسأل الناس إلحافا). معنى هذا الكلام: الحض على الصدقة، وحسن الارتياد لموضعها، وأن يتحرى وضعها فيمن هذا صفته من أهل التعفف، دون الملحفين الملحين في المسألة، والأكلة: اللقمة مضمومة، والأكلة مفتوحة المرة الواحدة من الأكل.

(الباب نفسه) 327/ 1477 - قال أبو عبد الله: حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال: حدثنا إسماعيل بن علية، قال: حدثنا خالد الحذاء، عن ابن أشوع، عن الشعبي، قال: حدثني كاتب المغيرة بن شعبة، قال: كتب معاوية إلى المغيرة أن اكتب إلي بشيء سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم، فكتب إليه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله كره لكم ثلاثا، قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال).

قوله: (كره قيل وقال) يتأول على وجهين: أحدهما: أن يراد به حكاية أقاويل الناس، وأحاديثهم، والبحث عنها، والتتبع لها، فتنمي عليهم، فيقال: قال فلان كذا، وقيل لفلان كذا، مما لا يغني ولا يجدي خيرا، إنما هو الولوع بها، والشغف بذكرها، وهو من باب التجسس المنهي عنه، وقد يتأول أيضا على ما كان منه في أمر الدين فيقول: قيل فيه كذا، وقال فلان كذا، لا يرجع فيه إلى ثبت يقين، لكن يقلد ما يسمعه، ولا يحتاط لموضع اختياره من تلك الأقاويل والمذاهب، فلا يعتقد صحتها بحجة وبيان. وأما كثرة السؤال، فإنه يدخل فيها أمور: منها سؤال الناس أموالهم، والتعرض لما في أيديهم، والاستكثار منه على مذهب الشره والجشع، وترك الاقتصار منه على قدر الحاجة في حال الضرورة. ومنها أن يكون ذلك في سؤال المرء عما نهي عنه من متشابه أور الدين التي قد تعبدنا بالظاهر منها، فلا يعرف عللها على مذاهب أهل الزيغ والتشكك، وبغاة الفتنة الذين وصفهم الله في قوله عز وجل: {فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله}. ومنها ما كانوا يسألون عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

من أمور لم يكن بهم إليها حاجة، فتنزل بهم البلوى فيها، كمن سأل عن الرجل يجد مع أهله رجلا. قال سهل بن سعد الساعدي: فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها، فروي أن الرجل لم يلبث أن ابتلي بذلك، وكما روي من قيام الرجل إليه، فقال: من أبي يا رسول الله؟ فغضب، وقال: (فلان)، وكما روي أنه قال: (إن أشد الناس جرما في الإسلام من سأل عن أمر لم يكن حرم فحرم لأجل مسألته). قلت: وقد جاءت المسائل في كتاب الله عز وجل على ضربين: أحدهما محمود، كقوله تعالى: {يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج}، {ويسألونك عن

المحيض ...} الآية. {ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو}. في نحوها من الأشياء التي بهم إليها حاجة في أمر دينهم، وإليها مرجع قوله عز وجل: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون}. والضرب الآخر منهما: مذموم، كقوله تعالى: {يسألونك عن الساعة أيام مرساها فيم أنت من ذكراها إلى ربك منتهاها}، {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا}. وما أشبه ذلك مما لا ضرورة بهم إلى علمه، وإليه مرجع قوله تعالى: {لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم}. وأما قوله: {وإضاعة المال}، فهي على وجوه، جماعها الإسراف في النفقة، ووضعه في غير موضعه، وصرفه عن وجه الحاجة إلى غيره، كالإسراف في النفقة على البناء، ومجاوزة حد الاقتصاد فيه، وكذلك اللباس والفرش، وتمويه

الأبنية بالذهب، وتطريز الثياب، وتذهيب سقوف البيت، فإن ذلك على ما فيه من التزين والتصنع إذا استعمل مرة لم يمكن بعد ذلك تخليصه وإعادته إلى أصله حتى يكون مالا قائما. ومن إضاعة المال تسليمه إلى من ليس برشيد، وفيه إثبات الحجر على المفسد لماله. ويدخل في إضاعة المال احتمالُ الغبن في البياعات ونحوها من المعاملات. ومن إضاعة المال سوء القيام على ما تملكه من المال، كالرقيق والدواب ونحوها، التي إذا لم تتعهدها ضاعت، ويدخل في النهي عن إضاعة المال قسمة ما لا ينتفع به الشريك القاسم إذا تفرد نصيبه كاللؤلؤة والسيف والحمام والطاحونة ونحوها من الأشياء، فإن القسمة في جميعها باطلة؛ لأنها إضاعة للمال، غير مفيدة نفعا، ولا مثمرة خيرا. وفيه وجه آخر، ومذهب ثان: وهو أن يتخلى الرجل من ملكه وهو محتاج إليه، وهو أن ينفقه، أو يتصدق به، أو يطعمه الناس، يريد به المعروف، ولعله قد يكون عليه الدين يلزمه أن يخرج إلى أصحابه منه، فهذا قد ضيع ماله، وأموال أصحاب الحقوق التي عليه.

فأما صنيع أبي بكر رضي الله عنه في التخلي من ماله كله، فإنه لا يدخل في هذا لأنا قد استثنينا فيما قلناه موضع بقاء الحاجة من صاحبه إليه، وكان أبو بكر غنيا عما أخرجه من يده، غير محتاج إليه لقوة صبره، وحسن توكله، ومن في الأمة مثله حتى يقرن به، أو يقاس عليه؟ وإنما أنفقه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، في وقت خلة الدين وحاجة المسلمين في زمان لا مال لهم غير ماله، ولا خليل يقوم لهم في مثل مقامه. وقد يحتمل أن يتأول معنى (إضاعة) المال على العكس مما تقدم ذكره من الوجوه بأن يقال: إن إضاعة المال حبسه عن حقه، والبخ به عن أهله، على معنى قول بعض حكماء الشعراء فيه: وما ضاع مال أورث المجد أهله .... ولكن أموال البخيل تضيع

(54) (باب خرص التمر)

(54) (باب خرص التمر) 328/ 1481 - قال أبو عبد الله: حدثني سهل بن بكار، قال: حدثنا وهيب، عن عمرو بن يحيى، عن عباس الساعدي، عن أبي حميد الساعدي، قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك، قال: فأهدى ملك أيلة للنبي صلى الله عليه وسلم (بغلة) بيضاء، وكساه بردا، فكتب لهم ببحرتهم، وساق الحديث إلى أن قال: أشرف على المدينة، فقال: هذه

طابة، فلما رأى أحدا قال: هذا جبل يحبنا ونحبه، ألا أخبركم بخير دور الأنصار؟ قالوا: بلى. قال: دور بني النجار، ثم دور بني عبد الأشهل، ثم دور بني ساعدة، أو دور بني الحارث بن الخزرج، وفي كل دور الأنصاري، يعني خير). قوله: كتب لهم ببحتهم، يريد بأرضهم وبلدهم، والعرب تقول: هذه بحرتنا، أي بلدتنا. قال الشاعر: كأن بقاياه ببحرة مالك .... بقية سحق من رداء محبر وقوله: هذه طابة، يريد المدينة، وكانوا يسمونها يثرب، فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم طابة، ومعناها الطيبة. يقال: طيب وطابٌ، وقال الشاعر يمدح

عمر بن عبد العزيز: مبارك الأعراق في الطاب الطابْ .... بين أبي العاص وآل الخطاب وقوله في أحد: (هذا جبل يحبنا ونحبه)، يريد أن هل أحد وهم الأنصار سكان المدينة يحبوننا ونحبهم على مجاز قوله: {وسئل القرية التي كنا فيها} المعنى: أهل القرية، والله أعلم. وقوله: (خير دور الأنصار) يريد القبائل الذين يسكنون الدور، وإنما الدور المحال التي فيها الدور.

(55) (باب العشر فيما يسقى

(55) (باب العشر فيما يسقى من ماء السماء وبالماء الجاري) 329/ 1483 - قال أبو عبد الله: حدثنا سعيد بن أبي مريم قال: حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (فيما سقت السماء والعيون، أو كان عثريا، العشر، وما سقي بالنضح: فنصف العشر). العثري: هو البقل الذي يشرب بعروقه من غير سقي، جعل، صلى الله عليه وسلم، الصدقة فيما تخف مؤنته على الضعف، وفيما لا تخف على النصف، رفقا بأرباب الأموال والفقراء، ونظرا لهم في الوجهين معاً.

(58) (باب من باع ثماره، أو نخله، أو أرضه، أو زرعه، وقد وجب فيه العشر، أو الصدقة فأدى الزكاة من غيره، أو باع ثماره، ولم تجب فيه الصدقة)

(58) (باب من باع ثماره، أو نخله، أو أرضه، أو زرعه، وقد وجب فيه العشر، أو الصدقة فأدى الزكاة من غيره، أو باع ثماره، ولم تجب فيه الصدقة) 330/ 1488 - قال أبو عبد الله: حدثنا قتيبة عن مالك عن حميد عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى تزهي، قيل: ما تزهي؟ قال: حتى تحمار. يقال: أزهت الثمرة، إذا صارت زهوا، وذلك إذا بدت فيها الحمرة، وهو حين بدو صلاحها، وأمان العاهة عليها، وإنما نهى عن ذلك قبل الإزهاء إذا أريد تقيتها على الشجر حتى تدرك وتنضج، فأما بيعها على القطع فجائز، والمعنى في النهي عن بيعها على التبقية قبل الإزهاء: احتياط على الأموال، ونظر للمساكين في حقوقهم، وأنها لا تخرص قبل بدو صلاحها، ولا تباع إلا بعد الخرص، فيعلم قدر العشر الذي هو حق الفقراء،

فيؤخذ من أهل الأموال عند جفاف الثمر، ويخلى بينهم وبين الثمار، توسعة عليهم، ليأكلوه رطبا ويابسا، وإنما سن الخرص في النخيل والكروم دون الحبوب، فإنها تترك في أيدي أربابها إلى أن تدرس وتكال، فتؤخذ بحساب ذلك، وذلك أن الحبوب إنما تؤكل بعد الجفاف غالبا وليست كالأرطاب والأعناب التي يكثر أكل الناس لهما، فاحتيط للفقراء بالخرص فيها لئلا تتلف حقوقهم.

(64) (باب صلاة الإمام ودعائه لصاحب الصدقة)

(64) (باب صلاة الإمام ودعائه لصاحب الصدقة) 331/ 1497 - قال أبو عبد الله: حدثنا حفص بن عمر، قال: حدثنا شعبة، عن عمرو، عن عبد الله بن أبي أوفى، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم، قال: (اللهم صل على آل فلان، فأتاه أبي بصدقته فقال: اللهم صل على آل أبي أوفى). قلت: صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، على المتصدق إنما هي على تأويله قوله: {وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم}، وأصل الصلاة في اللغة: الدعاء، إلا أن

الدعاء يختلف حسب اختلاف أحوال المدعو له، فصلاة النبي صلى الله عليه وسلم لأمته دعاء لهم بالمغفرة، وقبول ما يتقربون به إلى الله من نسك وطاعة، وصلاة الأمة على الرسول ثناء عليه، ودعاء له بزيادة القربة والزلفة، وهذه الصلاة لا تليق بغيره، ولا يستحقها سواه. وقوله عز وجل: {إن الله وملائكته يصلون على النبي} إنما نسقت إحدى الصلاتين على الأخرى جمعا بينهما في الاسم، لا في المعنى، كقوله عز وجل: {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط} إنما نسقت الشهادات بعضها على بعض من طريق الاسم، لا من جهة التسوية في المعنى، لأن شهادة الله تعالى بالوحدانية علم منه بكنه ذاته، وحقائق صفاته، وشهادة الخلق له، إنما هي علم بما أطلعهم عليه من أمره دون ما لم يطلعهم عليه، كما قال تعالى: {ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء}.

(66) (باب: في الركاز الخمس)

(66) (باب: في الركاز الخمس) 332/ 1499 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (العجماء جبار، والبئر جبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس). قوله: (العجماء جبار) فهي البهيمة المنفلتة من صاحبها ليس لها قائد، ولا راكب يصرفها إلى الجهة التي يريدها، وسميت عجماء لعجمتها وعدم نطقها. ومعنى الجبار: الهدر، يقول: إذا جنت لا يلزم فيها دية ولا غرامة، وإن كان معها صاحبها راكبا لها أو قائدا ضمن جنايتها. وقوله: (البئر جبار) يتأول على وجهين: أحدهما أن يراد به البئر يحفرها الرجل بأرض الفلاة للمارة وأبناء السبيل، فيسقط فيها الإنسان فيهلك، كان هدرا لا يلزم حافرَها شيءٌ.

والوجه الآخر: أن يستأجر الرجل من يحفر له بئرا في ملكه، فينهار (عليه) البئر، فإنه هدر لا يلزم الآمرَ في ذلك شيءٌ. وكذلك قوله: (والمعدن جبار) هو أن يستأجر قوما لاستخراج شيء من الجواهر التي في بطون الأرض، فربما انهار عليهم المعدن فلا يكون على من استأجرهم في ذلك غرم. وقوله: (وفي الركاز الخمس) فإن الركاز عند أهل الحجاز المال العادي، وهو ما دفن في الجاهلية في أرض، أو بناء أو نحوهما، فركز فيها، فإذا وجده واجد كان فيه الخمس، وسواء قليله وكثيره بلغ نصابا أو لم يبلغ، ويؤخذ منه الخمس عاجلا لا ينتظر به مرور الحول. فأما المعدن ففيه ربع العشر، وذلك لثقل المؤنة فيه وخفة الأمر في الركاز، وقد جرت سنة الدين في حقوق الأموال أن ما غلظت مؤنته على صاحب المال خفف عنه في قدر الواجب عليه، وما خفت مؤنته وكثر نيله زيد في تقدير الواجب عليه، ويعتبر فيه النصاب، فلا يزكى حتى يبلغ من الورق مائتي درهم، ومن الذهب عشرين مثقالا، ولا يعتبر فيه الحول، بل يخرج الحق منه في مكانه، وشبه بما تخرج الأرض من الزرع إذا

بلغ النصاب أخرج منه الحق عاجلا، وهو قول أكثر أهل الحجاز، وجعله بعضهم مالا مستفادا، ينتظر به الحول، فيخرج منه الحق حينئذ، وهو أحد أقاويل الشافعي، وإليه ذهب إسحاق بن راهويه.

(68) (باب استعمال إبل الصدقة وألبانها لأبناء السبيل)

(68) (باب استعمال إبل الصدقة وألبانها لأبناء السبيل) 333/ 1501 - قال أبو عبد الله: حدثنا مسدد، قال: حدثنا يحيى عن شعبة قال: حدثنا قتادة عن أنس أن ناسا من عرينة اجتووا المدينة، فرخص لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا من ألبانها وأبوالها، فقتلوا الراعي واستاقوا الذود، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتي بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمر أعينهم، وتركهم بالحرة يعضون الحجارة. قول: اجتووا المدينة أي لم يوافقهم المقام بها قد جويت بطونهم والجوى الداء الباطن، وقد جاء في بعض الروايات: دويت بطونهم، أي سقت بطونهم، وألبان

اللقاح قد توصف للمستسقين، فرخص لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يتعاطوا شرب ألبان الإبل وأبوالها، وفيه حجة لمن ذهب إلى أن بول ما يؤكل لحمه طاهر غير نجس، وقد يستدل به من يرى ذلك البول نجسا، على أن التداوي بالشيء المحرم عند الضرورة جائز. وفيه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم أباح ألبان إبل الصدقة لأبناء السبيل، وذلك -والله أعلم- لأن لهم شركا فيها؛ لأنهم أحد الأصناف الثمانية المذكورة في القرآن. فأما قطعه أيديهم وأرجلهم فلأنهم قطاع الطريق، ومن الساعين في الأرض بالفساد، وتلك عقوبتهم الواجبة عليهم. وأما سمر أعينهم، فإن السمر أن تحمي مسامير الحديد

بالنار، فإذا حميت كحل بها المسمور، وقد يروى أنه سمل أعينهم، وسمل العين: فقؤها، وقد يحتمل أن تكون الراء واللام في الحرفين على البدل، وقد روي في بعض الأخبار، ولم يحضرني ذكر إسناده ههنا أنهم كانوا سمروا أعين الرعاة، فكان ما فعل من ذلك بهم امتثالا للقصاص في نوع ما فعلوه. وقد قيل: إن هذا إنما كان قبل أن تنزل الحدود، ثم حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم المثلة، ونهى عنها، وروي ذلك عن ابن سيرين.

(69) (باب وسم الإمام إبل الصدقة بيده)

(69) (باب وسمِ الإمامِ إبِل الصّدقة بيده) 334/ 1502 - قال أبو عبد اللهِ: حدّثنا إبراهيم بنُ المُنذر، قال: حدّثنا الولِيد، قال: حدّثنا أبو عَمرو، قال: حدّثني إسحاق بن عبداللهِ /بنِ أبي طلحة، حدّثني أنسُ بنُ مالك قال: " غدوتُ إلى رسولِ، الله صلّى الله عليه وسلّم، بعبْدِ اللهِ بن أبيِ طلحة ليُحنّكه، فوافيتُه في يدهِ الميسمُ يَسِم إبِلَ الصّدقة. قُلتُ: إنما تُوسَم إبلُ الصّدقةِ لئَلاَّ تَختلطُ بالأموالِ المَملوكة، وتُوسَم أيضاً لكي يتنَزّه صاحبُها من شِرائِها، لئَلاَّ يكونَ عائداً في صَدَقتِه، لأنها شيءٌ أخرجَه لله عزَّ وجلّ، فلا يعُود فيه بحالٍ، كما تَرَك المهاجِرونَ نُزول مَساكِنِهمْ بمكةَ بعْدَ الفَتحِ، لأنهمْ كَانوا تَركوها للهِ عَزّ وجلّ، فلم يعودوا فيها حين وَصَلتْ أيديهم إليها.

وفيهِ، بَيَانُ جَوازِ وَسم البهائِم، وإنّ ذلك ليس من جُملةِ ما نُهيَ عنهُ من المَثلِ، والتَّعذيب للحَيوان. وفيه، تَأكيدُ أَمرِ إشعارِ البُدن، لأن ذلكَ إنما يُفعلُ لتَتَميزّ به عنِ الأموال المملوكة.

(70) (باب فرض صدقة الفطر)

(70) (بابُ فَرضِ صَدَقةِ الفِطر) 335/ 1503 - قال أبو عبدِ اللهِ: حَدّثنا مُحمَّد بن السَّكن قال: حَدّثنا محمدُ بن جهضَم، قال: حدّثنا إسماعيل بنُ جَعفَر، عن عُمَر (بن)، نافع، عن أبيه، عن ابن عُمَر، قال: فَرَض رسول الله، صلى الله عليه وسلم، زكاة الفطرِ صَاعاً من تَمرٍ أو صاعاً من شَعيرٍ على الحُرِّ والعَبدِ والذّكرِ والأنْثَى والصَغيرِ والكَبيرِ من المسلمين، وأمر أنْ تُؤدَّى قَبلَ خُروجِ الناس من الصلاةِ. فيه من العِلمِ: أنَّ وجوبَ صدَقةِ الفِطر وُجوبَ فَرضٍ لا وُجوبَ استحبابْ، وذَلِكَ لقوله: فرض رسولُ الله، صلى الله عليه وسلم.

وفيه: بيانُ وُجوبها على الصّغيرِ الذي لا يطيقُ الصّيامَ كوجوبِها على الكَبير الذي يطيقُه. وفيه: بَيان وُجوبِها على العَبيد، كانوا لخِدمَةٍ أو تِجارَةٍ، وأنّها لا تَجِبُ إلا عن المُسلمين منْهم دونَ الكُفار، وأنها عليه عن عبيدِه الحُضُور والغيّب، وعن عبِيدِ عَبيدِه، وكُلُ ذلكَ بحكمِ العموم، ودخولِه تحتَ الاسم. وفيه: دليلٌ على انّ جميعَ ما يخرُجُ في صَدَقةِ الفِطر من أنواع الحبوب صاعٌ تامٌّ، وذلكَ لأنَّ غالبَ طَعامِهم / التَمر والشَعير، فأُمروا بإخراجِ صاعٍ كاملٍ منه، فَمنْ كان طَعامُه البُرَّ فقِياسه أن لا يُجزِئه أقل من صاعٍ. وفيه: بيان (أن) إخراجها إنما يجبُ أن يكونِ قَبلَ الصلاةِ، وَقدْ قال بعضُ أهلِ العلمِ: إنَ إخراجَها عن الصلاةِ لمْ تجزئه، وَرَخَصَ بعضُهم في إخراجِها بعد الصلاةِ، و (بعد) يوم الفطر، وهو قَولُ ابنِ سيرينَ، والنَّخَعي، وقال حَمّاد: أرجو أن لا يكونَ به بأس.

(73) (باب صدقة الفطر صاعا من طعام)

(73) (باب صَدَقة الفِطر صَاعاً من طعام) 336/ 1506 - قال أبو عبدالله: حَدّثنا عبدُ الله بنُ يوسف، قال: أخبَرنا مَالكٌ، عن زَيد بنِ أَسلمَ، عن عِياضِ بنِ عبداللهِ بن سَعدِ بن أبي سَرحٍ العَامريِّ أنه سمعَ أبا سعيدٍ الخُدريِّ، قال: كُنّا نُخرِجُ زَكاةَ الفطْر صاعاً من طَعامِ، أو صاعاً من شعير، أو صَاعاً من أقطٍ، أو صاعاً من زبيبٍ. في هذا الحديثِ: دليل على أنّ البُر لا يجزئُ فيه أقلَّ من صاعٍ، وذلك لقولِه: صاعاً من طَعامٍ، والطَعام هندَهم على ما ذّكره بَعضُ أهل العلمِ، (وحكاه) عنهم: اسمٌ للبُرِّ خاصّة، والدّليل على أنْه المُراد به في الحديثِ قَولُه على أَثر ذلكَ: أو صاعاً من شَعير، أو صَاعاً من أَقطٍ، أو صاعاً من زَبيب، فعَدَّدَ اصنَافَ الأقواتِ التي كانوا يَقتاتونَها في الحضر والبَدو، ولم يَذكُر فيها الُبُرَّ باسمه الخَاص، وهو أفضلُ أقواتِهم وأغلاها، وإنَّما فعل ذلِك اكتفاء بما تقدم ذكره في أول الحَديث، ثم نسق عليه سائرها بحَرف، أو الفاصِلة بينَ الشَيئين، فدلَّ ذلك على

صِحَّةِ ما وَصفناه، وقد تَضَمنَّ هذا الحديث ذِكرُ الأقِط، فكان فيه بّيانُ جَوازِه إذا كان صاحبه يَقتاتُه. وفيه ذكرُ الزَبيبِ مع تَوفِية الصاع، وقد ذهب بَعض الفُقَهاء إلى أنه يُجزئ من الزَّبيبِ نصفُ صاعٍ، وذلك خلافُ مورد به التوقيفُ. وفي الحَديثِ دَليلٌ على أنَّ القِيَمَ لا يجوزُ / إخراجُها عن أعيانِ هذهِ الأشياءِ المذكورةِ، وذلكَ أنه ذكرَ أشياءَ مُختلِفةَ القِيَم، والتَّعديلُ منها متعذرٌ، فدلَ على أنَّ المُرادَ بها أعيانُها لا قِيمُها.

كتاب المناسك

ومن كتاب المناسِك (1) (باب وُجُوبِ الحَجِّ وَفَضْلِهِ) 337/ 1513 - قال أبو عبد الله: حَدّثنا عبدُ الله بنُ يوسف، قال: أخبَرنا مَالكٌ، عن ابن شِهاب، عن سُلَيمان بنِ يسار، عن عبدالله بنِ عَباس، قال: كان الفضل رديف رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فجاءت امرأةٌ من خَثعم فجَعَل الفضلُ ينظر إليها، وَجَعل النّبيُّ، صلى الله عليه وسلم، يَصرِف وجهَ الفَضل إلى الشّق الآخر، فقالت: يا رَسولَ الله، إنَّ فريضّة الله على عِبادِه في الحَجِ، أدركَت أبي شيخاً كبيراً لا يَثبُتُ على الرَّاحلةِ، أفَأحُجُ عنه؟ قال: " نعم "، وذلكَ في حَجّة الوداعِ. فيه من الفقهِ: جَوازُ حِجِّ الإنسان عن غيرهِ، وهو قَولُ أكثرِ أهل العلمِ ولم يجَوزهُ مالك بنُ أنس، وهو رَاوي الحَديث.، وَالحديثُ حُجَّةٌ عليه. وفيهِ، جوازُ حجِّ المرأةِ عن الرَّجل، وقد أباه بعضُ من يجيزُ

حج المّرءِ عن غيرهِ، من أجلِ أنَ المرأةَ تَلبَس القميص، والسَّراويلاتِ، والخِفافَ، وتغَطي رأسَها، ولا يباح شيءٌ منها للرَّجل. وفيه: دَليل جَواز الحَجِّ على من هذا صِفَته إذا وَجَد من يُطيعه في الحجِّ عنه، لأنه حينئذٍ مُستَطيعٌ به. وقدْ يّقولُ الرَجلُ: أنا مُستطيع أن أَبني دَاري إذا وَجد ما ينفق عليها، أو إذا كَان له من يتولّى بِناءها تَبَرعاً، وإن كان لا يَستَطيع صَنعَة البناءِ بنفسهِ. ومعنى قَولِها: إن فريضةَ الله أدركَتأبيشيخاًكبيراً، أي: انَّه أسلمَ وهو شيخ كبير.

(3) (باب الحج على الرحل)

(3) (باب الحَج على الرّحلُ) 338/ 1518 - قال أبو عبدِ الله /: حدَّثنا عَمرو بنُ عضلي، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدّثنا أيمنُ بن نَابلِ، قال: حدَّثنا القاسِمُ بنُ محمّد، عن عائشة أنها قَالت: يا رسول الله! اعتَمرتُم ولم اعتَمِر. قال: " يا عبدالرحمن اذهبْ بِأختِك فأعمرها من التّنعيم ". فأحْقَبَها على ناقةٍ فاعتَمَرت. قولُه: أحقَبَها، معناه أردَفَها على حقيبةِ الرَّجلِ.

(7) (باب مهل أهل مكة للحج والعمرة)

(7) (باب مُهَل أهل مكة للحج والعُمرة) 339/ 1524 - قال أبو عبدالله: حدَّثنا موسى بنُ إسماعيلَ، قال: حدَّثنا وهيبٌ، قال: حدَّثنا ابنُ طاوسٍ، عن أبيه، عن ابنِ عباس، أن النبي، صلى الله عليه وسلم، وقَّتَ لأهلِ المدينةِ ذا الحليفة، ولأهل الشامِ الجُحفة، ولأهل نَجدٍ قَرنَ المَنازِلِ، ولأهل اليمنِ يَلَملم، هُنَّ لَهنَّ، ولمن أتى عليهنَّ منْ غيرهنَّ ممن أراد الحَج والعُمرةَ، ومن كان دُون ذلك، فمنْ حيثُ أنشَأ، حتى أهل مكةَ من مكةَ. قلت: هذه المواقيت إنما وُقَّتت لتكون حدوداً لا يتجاوزها من أرادَ الإحرامْ في حَجٍ أو عمرةٍ، وهي لا تَمنعْ من تَقديمْ الإحرام قَبلَ بُلوغِها، والمَواقِيت للعِبادات على ضَربَينِ: أحدُهما ما ذكرناه، والآخرُ كَمواقيتِ الصلواتِ التي إنَّما ضُرِبت حدوداً لئلا تقدم الصلاةُ عليها. وقوله: " هُنَّ لَهُنَّ " يريدُ أنَّ هذه المواقيت لَهنَّ، أي

لهذه البلدان المُسماةِ، ولمن أتى عَليهٍنَّ من غير أهلِهنَّ، يريدُ: مِن غَيرِ أهلِ هذه البلدانِ المذكورةِ، كاليمانيِّ إذا جاءَ من طريق الشامِ وكان ميقاتُ إحرامِه الجحفةَ، والنجديِّ إذا جاء من اليمنِ كان ميقاتُه يلملَمَ. وفي قوله: " مِمَّن أراد الحَجَّ والعُمرة " بيانُ أنَّ الإحرام في هذه المواضعِ، إنَّما يجب على مَنْ كَانَ عِندَ مُرورِه بها قَاصِداً حجَّاً، أو عمرةً، دونَ من يَرَى الإحرامَ بعدَ مُجاوَزَتِهِ إياها، فإنَّ مَنْ حَضَرَتْهُ نِيَّةُ الحَج، أو العمرةِ بعدَما جاوَزَها، كانَ لَهُ إنشاءُ مَا نَواه مِن الحج والعُمرةِ من حيثُ حَضرتهُ النيَّة، ولا يَلزَمُهُ دَمٌ / كما يَلزَم من خَرَجَ من بَيتهِ يُريدُ الحَجَّ، أو العُمرةَ، فَطوى الميقَاتَ، وأحرمَ بعدما جَاوزَه. وقوله: " فمن كان دُون ذلك فمن حيثُ أنشأَ " يريدُ: من كَانتْ دَاره دونَ ذلكَ إلى ما يلي الحَرم أنشأَ الحَجَّ من دُويرَة أهلِهِ، ولا يلزَمهُ أن يصعَد إلى الميقاتَ فيحرمُ منهُ، حتى إنَّ أهل مكة (يُهِلون) من جَوفِ مكةَ. قلت: وهذا في الحَج، فأما العُمرة: فإنَّ أهل مكة يَخرجُونَ إلى أدنى الحِلّ، فَيُهلّونَ بما لا يجيزه غَيرُ ذلكَ، وإنَّما وجبَ عليهمُ الخُروج للعمْرة مِن أجل أنَّ الله عزَّ وجلَّ قال: " وَلِلهِ عِلى النَّاسِ حِجُّ البَيتِ " والحِجُّ معناه، القَصدُ، فَلَمَّا كانت أعمالُ العمرَةِ

كُلُّها واقعَةٌ في الحَرَمِ، أوجَبنا عليهِ الخروجَ إلى طَرَفِ الحلِّ للإحرامِ لَهَا، ليصير قاصِداً إلى البيتِ، ولمَّا لم يَكن للحَاجَّ بد مِنَ الخروجِ إلى عَرَفة، للوقوفِ بها، وعندَ منصَرفِه منها يصيرُ قاصِداً إلى البيتِ لم نوجِبُ عليه الخُروجَ إلى طرفِ الحِل. وفي الخَبرِ: دَليلٌ على أنَّ الكافِر إذا دَخلَ مكةَ فأسلَم بها، والغُلامَ إذ دخلها فاحتَلمَ هناك، والعبدُ يدخُلها فيُعتق بمكةَ، وأرادوا الحَج فأحرَموا من جَوفِ مكّةَ أنّه يجزيهمْ، ولا دَمَ عليهم، وهو قَولُ أصحابِ الرأيِ، وعند الشافعي يلزَمُهم دَمٌ، وقد علّق القَولُ فيه.

(16) (باب قول النبي، صلى الله عليه وسلم " العقيق واد مبارك ")

(16) (باب قول النبي، صلى الله عليه وسلم " العَقيقُ وَادٍ مُباركٌ ") 340/ 1534 - قال أبو عبدِ الله: حدَّثَنا الحُميديُّ، قال: حَدَّثنا الوليدُ، وبشرُ بن بكر التَنيسي، قالا: حدَّثنا الأوزاعيُ، قال: حدّثنا يحيى، قال، حدَّثني عكرُمة، أنَّه سمعَ ابنَ عَباسٍ، يقول: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، بِوادي العَقيقِ يقول: " أتاني، آتٍ منْ ربيِ، فقال: صَلِّ في هذا الوادِ المبارِكِ، وقُل: عُمرَةٌ في حَجَّة ". قلت: العَقيقُ: مِيقاتٌ لأهلِ العراقِ، وقد رُوِيَ عن ابنِ

عباسِ أنَّ النبي، صلى الله عليه وسلم، وَقَّتَ لأهلِ المَشرق العقيقَ، وكان الشَّافعي / يستَحبُّ أن يُحرمَ أهلُ العراقِ من العَقيقِ، فإنْ أحرَموا مِن ذاتِ عِرقٍ أَجزأَهم. وفي قوله: " وقُل عُمرةٌ في حَجَّةٍ " تفضِيلٌ للقرآنِ، وقد يحتملُ أن يكونَ " في " بمعنى " مع " كأنَّه قال " عُمرةٌ مَعها حَجَّةٌ. ويَحتملُ ان يَكونَ أرادَ عمرةً مُدرجةً في حِجَّة، على مذهب مَن رأى أنَّ العُمرة مُضمّنٌ في عمَل الحَجِّ، يجزيه لهما طَوافٌ واحدٌ، وسَعيٌ واحِدٌ، ولو قتلَ صيداً كان عليه جزاءٌ واحدٌ.

(17) (باب غسل الخلوق ثلاث مرات من الثياب)

(17) (بابُ غَسلِ الخَلوقِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنَ الثِّيابِ) 341/ 1536 - قالَ أبو عبدِ الله: قال أبو عاصمٍ: أخبرنَا ابنُ جُريجٍ، قال: أخبرَنَا عَطَاءً، أنَّ صَفوانَ بَن يَعلَى بنِ أمَيَّةَ، أخبَرَه أنَّ يَعلى، قال: بينما النبي، صلى الله عليه وسلم، بالجعرَانَةِ _ ومَعهُ نَفرٌ من أصحَابِه _ جاءهُ رَجلٌ، فقالَ: يا رسول اللهِ، كيف تَرى في رَجلٍ أحرَمَ بِعُمرةٍ، وهو مُتَضمّخ بِطيبٍ؟ فَسَكت النَّبي، صلى الله عليه وسلم، ساعة، فَجاءَهُ الوحي، ثمَّ سرى عنهُ فقال: " اغسِلِ الطّيبَ الذي بكَ ثَلاثَ مراتٍ، وانزَع الجُبَّةَ، واصنعْ في عُمرَتِكَ ما تصنَعُ في حَجِّكَ". قلت: قد جَاء في هذا الحديثِ من غَير هذه الروايةِ أنَّ الرَّجلَ

كان مُتَضَمِّخاً بَخَلوقٍ، والرَّجالُ ممنوعونَ مِن استِعمالِ الزَعفرانِ. حدَّثنا بنُ سمّاك قال: حدثنا موسى بنُ سَهلٍ الوَشَّاءِ، قال: حدَّثنا ابنُ عُليَّةَ، عن عبدالعزيزِ بنِ صهيبٍ، عن أنسٍ قال: " نَهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنْ يتَزَعفرَ الرَّجلُ ".

وقد ثَبتَ عن عائشَة، رضي الله عنها، أنَّها قالت: طَيَّبتُ رسول اللهِ، صلى الله عليه وسلم، لحَرمِهِ حينَ أحرَمَ، ولحِلِّهِ حينّ حَلَّ، وقالت: كأني أنظرُ إلى وبيصِ الطيب في مَفرق رسولِ الله، صلى الله عليه وسلم، وهو مُحرِمٌ،، وقدْ ذَكَرهُ أبو عبدِ الله في هذا الكِتابِ، فدلَّ على أن بَقاء أثَرِ الطيبِ بعدَ إحْرامِهِ لا يوجِبُ عليهِ دَماً. وفي قولهِ، " وانزعِ الجُبَّةَ /، بيانُ أنَّه لا (يلبس) الثِّياب المخِيطة، وإذا نَزَعها من رأسِهِ لم يلزَمهُ دَمٌ لذلكَ، ولا جبران. وقَولهِ: " واصنعْ في عُمرَتِكَ ما تصنَعُ في حَجِّكَ " يريدُ: اجتِنابَ النَّساء، والصَّيد، والطِّيب، واللباسِ، كما يجتَنِبُها الحاج، فإنَّ عَمل العُمرَة هوَ عملُ الحَجِّ، خلا أنه لا يجبُ عليهِ الوقوفَ بعَرفةَ مع تَوابِعهِ. وفي الحديثِ أيضاً: دليلٌ على لأنَّ الناسي لإحرامِهِ إذا لَبسَ الثيابَ المخيطةِ لم يَكن عَليهِ شيءٌ، إذ هُو بعِلةِ الجَاهلِ، لأنَّ هذا الرجلَ كان حديثَ العهدِ بالإسلام، جاهلاً لأحكامهِ، فَعَذرَهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، ولم يُلزِمه دماً.

(21) (باب ما لا يلبس المحرم من الثياب)

(21) (بابُ ما لاَ يلبَسُ المُحرِمُ من الثيَابِ) 342/ 1542 - قال أبو عبدِ الله: حدَّثنا عبدُ اللهِ بِنُ يوسُف، قالَ: أخبرنا مالكٌ، عن نافعٍ، عن عبدِ الله بن عُمَرَ، أنَّ رَجلاً قالَ: يا رسول الله! ما يَلبسُ المُحرم من الثِّياب؟ قالَ رسولُ اللهِ، صلى الله عليه وسلم، " لا تَلبسوا القُمصَ، ولا العَمائِمَ، ولا السَّراويلاتِ، ولا البَرانِسَ، ولا الخِفافَ إلا أحَدٌ لا يجِدُ نعلينْ فليَلبس خُفَّينِ وليقطَعهُما أسفلَ من الكَعبين، ولا تَلبسُوا من الثيابِ شيئاً مسَّه زَعفرانٌ، أو ورسٌ. قلت: قد حُرِّمَ على المُحرم أن يلبسَ العَمامةَ والبرنُسَ، فدَخلَ في معناهما كُلُّ ما يغَطِّي الرأسَ من قلنسُوةٍ وَعِصابةٍ يعصبُ بِها رأسهُ وكَارةٍ يَحمِلها فوقَ رأسِهِ فَيَعُمه بها في نحو ذلك من الأشياء. وفيه: أنه إذا لم يجد نَعلين، وعليه خُفّضان، قطَعهما أسفل من الكَعبين، ولم يكن عليه لذلك شيءٌ، وقد زَعمَ بعضُهم أنَّ

قَطعهُما غيرُ جَائز، لأنَّ فيه تضييع المالِ، وهو محظورٌ، منهيُّ عنه، وليسَ الأمرُ في ذلك على ما ذهبَ إليه لأنَّه مأمورٌ بهِ. وما أمرت به الشَريعةُ فهو مُستثنى، خَارجٌ عن جملةِ ما نهتْ عنهُ. وفيه بيانُ أنَّ المُحرم مَنهيٌّ عنه التطيبُ في ثِيابهِ، كما هو منهي عنه في بدنهِ، وفي معناهما الطيبُ في طَعامِهِ، لأنَّ ذلكَ مما ينبغي كالطيبِ في اللباسِ، وكذلك الاكتِحالُ بالكُحلِ الذي فيه طيبٌ.

(23) (باب ما يلبس المحرم من الثياب والأردية والأزر)

(23) (باب ما يَلبَسُ المُحرمُ من الثيابِ والأردِيةِ والأزُرِ) 343/ 1545 - قال أبو عبدِ اللهِ: وذُكرَ عَن محمَّد بنِ أبي بكرٍ المُقَدَّميِّ، قال: حدّثنا فُضيلُ بنُ سُليمانَ، قال: حدَّثنا موسى بنُ عقبةَ، قال: أخبرني كُريبٌ، عن ابنِ عباسٍ قال: انطَلقَ النَّبي، صلى الله عليه وسلم، منَ المدينةِ بَعدَما تَرجَّلَ، وادَّهنَ ولبِسَ إزَارَه، ورِداءَهُ هو وأصحابُهُ، فلَم ينهَ عن شيءٍ من الأردَيةِ، والأُزُرِ، إلا المُزَعفرَةَ التي تَردعُ على الجلدِ. قولهُ: تَردعُ، أي: تَلْطَخُ الجِلدَ، ورَدعُ الزَّعفرانِ: أثَّر لونُه الذي يعلَقُ بالبدَنِ، والثَّوبِ، ونَحوهما.

(26) (باب التلبية)

(26) (بابُ التَلبِيةِ) 344/ 1549 - قالَ أبو عبدِ الله: حدَّثنا علدُ الله بنُ يوسُفَ، قالَ: أخبَرنَا مالكٌ، عن نافعٍ، عن ابنِ عُمرَ أنَّ تلبيةَ رسولِ الله، صلى الله عليه وسلم: " لَبيكَ اللهم لَبّيك، لَبّيك لا شَريكَ لكْ لَبيك، إنَّ الحمدَ والنّعمةَ لك والمُلكَ لا شَريكَ لك ". الاختيار في " إنَّ " الكَسرُ، لأنه أَعمُّ وأوسَعُ. أخبرني أبو (عُمَر)، قال: قال أبو العَبَّاسِ: من قال " إنَّ " فَقَد عَمَّ، ومن قالَ: أنَّ بالفتح فقّد خّصَّ.

(27) (باب التحميد والتسبيح والتكبير قبل الإهلال عند الركوب على الدابة)

(27) (بابُ التَّحميدِ والتَسبيحِ والتَّكبير قبلَ الإهلالِ عندَ الرُّكوب على الدَّابة) 345/ 1551 - قال أبو عبدُ اللهِ: حدّثنا موسى بنُ إسماعيل، قال: حدَّثنا وهيبٌ، قال: حدَّثنا أيوبُ، عن أبي قلابَة، عن أنسٍ، أنَّ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ذَبح بالمدينةِ كَبشينْ أملحَين. الأملحُ: هوَ الّذي فيه بَياضٌ، وَسَوادٌ، ويكونُ البَياضُ فيهِ أكثرَ.

(31) (باب كيف تهل الحائض والنفساء)

(31) (بابُ كَيفَ تُهلُّ الحائضُ والنفساءُ) 346/ 1556 - قال أبو عبد اللهِ: حدَّثنا عبد اللهِ بنُ مَسلَمةَ، قال: حدَّثنا مالكٌ، عن ابنِ شِهابٍ، عن عُروةَ ابنِ الزبير، عن عائشة قالت: خَرَجنا مع النبي، صلى الله عليه وسلم، (في حَجَّةِ الوَداع)، فأهلَلنا بِعُمرةٍ، ثم قالَ النَّبي، صلى الله عليه وسلم،: " من كَان معضهُ هَديٌ فَليُهلَّ بالحَجِّ مَع العُمرةِ، ثم لا يَحِلَّ حتَّى منهُما جَميعاً "، فقدمتُ مكةَ، وأنا حائضٌ، ولم أَطفُ بالبيتِ، ولا بينَ الصفا والمَروةِ، فشكوتُ ذلك إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: " " انقُضِي رأسَكِ، وأمتَشطِي، وأهِلِّي بالحَجِّ وَدعي العُمَرةَ "، فلمَّا قَضينا الحَجَّ أرسَلني النّبيُّ، صلى الله عليه وسلم، مع عبدالرحمنِ بنِ أبي بكر إلى التَنعيم، فاعتَمرتُ، قال: " هذه مكان عُمرَتِكِ " قالت: فَطافَ الذين كانوا أهَلُّوا بالعُمرةِ بالبيتِ (و) بين الصفا والمروة، ثم حلُّوا، ثم طافوا طَوافاً واحِداً بعدَ أنْ رَجعوا من منى، وأما الذين جَمَعوا الحَجَّ والعُمرةَ فإنَّما طّافوا طّوافاً واحداً.

قلتُ: قوله، صلى الله عليه وسلم: " انقُضي رأسَكِ، وامتَشِطي وأَهلِّي بالحَج، ودَعي العُمرةَ " معناهُ مُشكل جِدَّاً، وكان الشافعيُّ يتأوَّلُهُ على أنَّهُ إنَّما أَمرَها بأن تدَعَ عَمَلَ العُمرةِ، وتدخِلَ عليها الحَجَّ، فتكونَ قارنةً، لا أنْ تَدَع العُمرةِ نَفسها، إلا أنَّ قولهُ: " انقضي رأسَكِ وامتشَطي "، لا يُشاكلُ هذه القضية، وقد رَوى بعضُ أهل العلمِ بإسنادٍ له أنّه كانَ مَذهَبُها أنَّ المعتمر إذا دخل مكة كانَ له أنْ يستبيحَ ما يستَبيحُهُ المُحرمُ إذا رَمى جمرةَ العَقبةِ، وهذا شيءٌ لم يُحكَ عن أحَدٍ سواها، ولا يكادُ يُعلمُ وجهُهُ، وكان الشافعيُّ، رحمُ الله، يتأوَّلُ أيضاً أنَ عُمرتَها من التنعيم غيرُ واجبةٍ، لدخولهَا في عقدِ الإحرامِ بالحَجِّ، وإنما أراد النبيُّ، صلى الله عليه وسلم، تَطييبَ نفسهَا بذلك، حين قالت له: " ما بَال نِسائك ينصَرفنَ، بعُمرةٍ، وأنصَرفُ بلا عُمرةٍ "، وظَاهرُ قولِه، صلى الله عليه وسلم: " دعي عُمرتَكِ، وانقضي رأسَكِ، وامتشطي: ثم قولِه لها: " هذه مكانَ عُمرتكِ " يوهِنُ ما تأَوَّلهُ الشافعيُّ، والأمر في ذلكَ مُشكلٌ جداً، إلا أن يتأوَّله مُتأوِّلٌ على الترخيصِ في فسخِ العُمرةِ، كما أذنَ لأصحَابهِ في فسخِ الحجِّ، والله أعلم.

(32) (باب من أهل في زمن النبي، صلى الله عليه وسلم،

(32) (بابُ منْ أهلَّ في زمَنِ النَّبيِّ، صلى الله عليه وسلم، كإهلالِ النَّبيِّ، صلى الله عليه وسلم) 347/ 1557 - قال أبو عبدِ الله: حدَّثنا المكيُّ بنُ إبراهيم، عنِ ابنِ جُريجٍ، قال عطاءٌ، قالَ جابرٌ، أمرَ النبي، صلى الله عليه وسلم، عليَّا أن يُقيمَ على إحرَامه. 348/ 1558 - قالَ: وزادَ محمدُ بنُ بكرِ عنِ ابنِ جريجٍ، قالَ له النبيُّ، صلى الله عليه وسلم. قالَ: " فأهدِ وامكُث حَراما كما أنتَ "

قلتُ: في هذا دليلٌ على أنَ النبي، صلى الله عليه وسلم، كَانَ قارناً لأن الهَديَ إنَّما يجبُ على القارِنِ، أو المُتَمتع دونَ المفْرِد، ولو كانَ علي مُتَمَتعاً لحلّ من إحْرامِهِ للعمرةِ، ثُّمَ استأنفَ للحجِّ إحراماً جديدَاً، فَلمّا أمرهُ بأنْ يمكُثَ على إحرامِهِ دلَّ على أنَّه قارنٌ. وقَولهُ: أهللتُ بما أهلَّ به رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يدلُّ على جوازِ الإحرام على سبيل إرسالِ النيَّةِ فيه من غير تعيين النوعِ الذي تُريدُه من أنواع الحجِ، ثمَّ لهُ تعيينهِ بعد، قبل أن يشرَعَ في شيءٍ من أعمالهِ. وقد يحتَمل أيضاً أن يكونَ علي قد بَلغَه أنَّ النبيُّ، صلى الله عليه وسلم، كان قارناً فنوى القِرانَ وقتَ عَقدِ الإحرامِ، فلمَّا سألَه رسولُ الله، صلى الله عليه وسلم، قالَ لهُ: " أهللتُ بما أهللتَ بِهِ ".

(32) (الباب نفسه)

(32) (الباب نفسه) 349/ 1559 - قالَ أبو عبدِ اللهِ: حدَّثنا محمد بنُ يوسفّ، قال: حدَّثنا سُفيان، عنْ قيسِ بنِ مسلمٍ، عن طارقِ بنِ شهابٍ، عنْ ابي مُوسى، قالَ: بعَثني النَّبيُّ، صلى الله عليه وسلم، إلى قَومي باليَمن، فَجئتُ وهو بالبطحاءِ فقالَ: " بما أهلَلتَ؟ قلتُ: أهللتُ كإهلالِ النَّبي، صلى الله عليه وسلم. قالَ:، " مَعكَ من هَديٍ؟ " قلتُ: لا. فأمرني، فَطُفتُ بالبيتِ وبالصَّفا والمَروةِ، ثُمَّ أمرني فأحللتُ، فأتيتُ امرأةً من قَومي، فمَشَطتني وغَسلتْ رأسي، فقدِمَ عُمرُ فقالَ: إنْ نأخُّذ بِكتابِ الله فإنَّهُ يأمُرنَا بالتَّمامِ. قال الله عزَّ وجَلَّ: " وأَتِمُّوا

الحَجَّ والعُمرةَ للهِ "، وإن نأخذ بسنةِ النَّبي، صلى الله عليه وسلم، فإنَّه لم يَحلَّ حتَّى نحر الهَديَ. قلتُ: وهذا على خِلافِ مذهَب الحَديثِ الأولِ، وقد ذَكّرّ أبو موسى أنَّه أهلَّ كإهلالِ النبي، صلى الله عليه وسلم، على إحرامهِ، فَهُما في الظَاهرِ مختلفانِ، ويُشبهُ أن يكونَ أرادَ بِقولهِ: أهللتُ كإهلالِ النبيِّ، صلى الله عليه وسلم، أي كَما يسُّنهُ لي من الإهلالِ، ويُعيّنهُ من أنواعِ ما يُحرمُ / لَهُ من الحَجِّ على اختلافِ وجُوههِ، ولم يكن مَعَه هديٌ، ولعلهُ لم يكنْ يتَّسعُ لثَمن الهَدي في وقتِه ذلك، فأمرَه صلى الله عليه وسلم، أنْ يَحِلَّ بِعَمل عُمرةٍ،، إذ كَان الإهلالُ بها مضافاً إليه فيما شَرعهُ، وسنّه لأمتِهِ، وكَانَ معَ علي هَديٌ، فأمَرهُ بالمُكثِ على إحرامهِ ليكونَ حلاق الشعرِ عندَ بلوغِ الهدي مَحِلَّهُ وهو إذا رَمى جَمرةَ العَقبةِ. وفي الحديثَينِ معاً! دليل على أنَّ إرسالَ النِّيَّة عندَ الإحرامِ جائزٌ من غيرِ تعيين لِما يحرمُ به، ثُمَّ يصرفُ إلى ما يَعزِمُ عليه بَعدُ من وجوهِ ما يُحرمُ بهِ من نسكٍ. وقد روى أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم، خَرجَ من المدينةِ ينتظرُ القضاء، أي: غيرَ

بَاتٍ للنيّةِ في نوعِ ما احرمَ بهِ، وذلكَ يؤكِّدُ معنى ما قلناهُ جوارِ من إرسالِ النَّيةِ (وقتَ) عقدِ الإحرامِ من غيرِ تعيينٍ فيهِ. وفيهِ: وجهٌ آخرُ، وهو أشبهُ، ذلكَ أنَّه قَد فَسَخ عَليهِ الحجَّ، وكانَ قد أهلَّ بهِ، كما قد فسخِه على غيرهِ من أصحابهِ الذين لم يكن معَهُم هدىٌ.

(35) (باب من لبى بالحج وسماه)

(35) (بابُ من لبَّى بالحَجِّ وسَمَّاهُ) 350/ 1570 - وقد روى أبو عبدِ اللهِ في مثلَ ذلكَ حديثَ جابرٍ، قالَ حدّثنا مُسَددٌ، قالَ: حدّثنا حمادُ بنُ زيدٍ، عن أيوب، قالَ: سمعتُ مُجاهداً، يقولُ: حدَّثنا جابرُ بنُ عبدالله ِ: قَدمنا مع رسولِ اللهِ، صلى الله عليه وسلم، ونحن نقولُ: لبّيك بالحَجِّ، فأمَرنا رسولُ اللهِ، صلى الله عليه وسلم، فجَعَلناها عُمرة.

(34) (باب التمتع والقران والإفراد بالحج، وفسخ الحج لمن معه هدي)

(34) (بابُ التَّمتُع والقِرانِ والإفرَادِ بالحَجِّ، وفسخِ الحَجِّ لِمن مَعَهُ هَديٌ) 351/ 1568 - قالَ أبو عبدِ الله: وقالَ أبو نَعيم: حدَّثنا أبوشهابٍ، عن عطاءٍ، قالَ: حدَّثني جابرُ بنُ عبد الله أنّه حجَّ مع النبيَّ، صلى الله عليه وسلم، يومَ ساقَ البُدنَ مَعهُ، وقد أَهلُّوا بالحَجِّ مفرداً. فقالَ لَهُم: " أُحلُّوا من إحرامكمْ بِطَوافِ البيتِ وبينَ الصَّفا والمروةِ، وقَصِّروا، ثُمَّ أقيموا حلالاً حتى إذا كانَ يومُ التّرويةِ فأهلوا بالحَجِّ، واجلعوا (التي)، قَدِمتم بِها مُتعَةً ". فقالوا: كَيفَ نَجعلُها متعةٌ وقد سمَّينا الحجَّ؟ فقال: " افْعَلوا ما آمُركُم، فلولا أنّي سُقتُ الهدي لفَعلتُ مِثلَ الذي /أمرتُكم بهِ. ولكن لا يَحلُّ مني حَرامٌ حتى يبلغ الهَدي مَحِله ففَعلوا " قلتُ: ففي هذا بَيان أنَّه قد فَسَخ الحَجُّ عليهِمِ، إذ جَعلَهُ عمرةٌ، وكانوا قد سَمَّوهُ حجَّاً، وقد رُوي انّه إنَّما فعلَ ذلك لأنّهم

يتحَرَّجُونَ في الجَاهليةِ أن يعتَمروا في أشهُر الحّجَّ، فصَرَفَ رسولُ الله، صلى الله عليه وسلم، إحرامَهُم بالحَجِّ إلى العُمرةِ إبطالاً لمذهَبهمْ في ذلكَ، وقدْ رُوي هذا المعنى عن ابنِ عبَّاس.

(34) (الباب نفسه)

(34) (الباب نفسه) 352/ 1564 - قَال أبو عبدِ الله ِ: حدَّثنا موسى بنُ إسماعيل، حدَّثنا وهيبٌ، قالَ: حدَّثنا ابنُ طاوُسٍ، عن أبيهِ، عن ابنِ عَباسٍ قالَ: كانوا يَرَونَ أنَّ العُمرة في أشهرٍ الحج، أفجَر الفُجور في الأرضِ، ويجعلونَ المُحَرَّم صَفراً، ويقولونَ: إذا بَرأَ الدَّبَر، وعفا الأثرُ، وانسَلخ صَفَر، حَلَّت العُمرةُ لمن اعتمَر، فقدم النَّبي، صلى الله عليه وسلم وأصحابه صَبيحة رابعةٍ مُهلَّين بالحَجِّ، فأمَرهم أن يجعَلوها عُمرة، فتعاظَمَ ذلك عندَهُم، فقالوا: يا رسولَ الله! أيُّ الحِلِّ؟ قالَ: " الحِلُّ كُلُّه ". قوله: " إذا برأ الدَّبر " يحتَمل أن يكونوا أرادُوا بروء الدَّبرِ من ظهور الإبل إذا انصَرفَت عن الحَجَّ دَبرت ظُهُورها. وقوله: " عفا الأثَرُ " أي: ذهَبَ أثَرُ الدّبر. يقال: عَفا الشيءُ، بِمَعنى دَرسَ وأمَّحى، إلا أنَّ المَعروفَ من هذا في عامَّةِ الرواياتِ: عَفا الوَبرُ، ومعناه: طَرَّ الوَبرُ وكَثر.

يقالُ: عفى الشيءُ، بِمعنى كَثُر. ومنهُ قَوله عزَّ وجَلَّ: " حتَّى عَفَوا " أي: كَثُروا، وقد رَوى ربيعةُ بنُ أبي عبدالرحمنِ، عن الحارِث بنِ بلال، عن أبيهِ، أنّه قالَ: يا رسولِ الله! فَسخُ الحَجِّ لنا خاصة، أو لمن بَعدَنا؟ فقالَ: لكم خَاصَّة. وعلى هذا قول أكثَرِ اهل العلمِ، وقالوا: إنّ المحرمَ بالحجِّ إذا أفسدَ إحرَامه مضى فيه معَ الفَساد، وكانت عليهِ الفِدية إلا أحمدَ ابنَ حنبل، فإنَّ أبا عبد اللهِ الأثرمَ حكى عنهُ أنّه

كانَ يُضَعفُ /حديثَ الحارثِ بنِ بلال بنِ الحَارث ويقولُ: ليسَ الحارثُ بنُ بلال بِمعروفٍ، ولم نَسمع أنّ أحداً روى عنهُ غيرَ ربيعَةَ، وليسَ يردُّ الأحاديثَ الصحاح بهذا، وقد روى فَسخ الحَجِّ جماعةٌ منهم: ابنُ عباس، وجابر، وأنسٌ، وعائشهُ، وحفصَة، وأسماءُ بنتُ أبي بَكرٍ، والبَراءُ بنُ عازبٍ، وكان أحمدُ يجيز ذلكَ لغيرِهم من النَّاس.

(34) (الباب نفسه)

(34) (البَاب نَفسه) 353/ 1561 - قالَ أبو عبدِ اللهِ: حدَّثنا عَثمانُ، قالَ: حدَّثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن إبراهيم، عن الأسودِ، عن عائشة، وذكَرت قِصة خروجهَا في الحَج معَ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأنّ صَفية حاضَت، فقالتْ " مَا أراني إلا حَابستهُم. قال النبي، صلى الله عليه وسلم، عَقرى حَلقَى أو ما طُفتِ يومَ النَّحر "؟ قالت: بلى. قال: " لا بَأسَ: انفري " قَولُه: عَقرَى حَلقَى: دعَا علَيها، بأن يَنالها في بدنها عَقرٌ، وأن يُصيبها في حَلقها داءٌ، هكذا يُروى: عَقرى، على وزنِ فَعلى، وقياسُه في الكلام: عَقراً حَلقاً، علي مذهب الدُّعاء كما يقالُ: تَعساً، ونُكساً، وأخَواتهما، وقد تُفَسَّر هاتانِ الكَلمتانِ تفسيراً آخر، يقالُ: إنَّه دعا عليها بأن تعقٍر، اي تَصيرُ عَاقراً لا تَلدُ. قالَ: ويقالُ امرأةٌ حالقٌ، إذا حَلَقت

قومَها بِشؤمِها. وهكذا قَالهُ بعضُ أهل اللغةِ، وأحسبُهُ النَّضر بن شُميلٍ. وقالَ الأصمَعي: تَقولُ العربُ في الدُّعاءِ عن الإنسان: أصبَحت أمه حَالقاً أو ثَاكلاً، وعلى الوَجهينِ جَميعاً، فإنَّهم قد يُرسلون هذا وأمثاله من الكَلام عندَ استِزادةٍ، واستبطاءٍ في كَلامِهم. وفيهِ: دَليلٌ على أنَّ الحائضَ إذا كانتْ قدْ طافَت طوافَ الإفاضَةِ في حالِ طُهرها لم يكن عليها أن تُعرَّج لطوافِ الوَداعِ.

(34) (الباب نفسه)

(34) (الباب نفسه) 354/ 1566 - قالَ أبو عبدِ الله: حدَّثنا إسماعيلُ، قالَ حدَّثنا مالكٌ، وحدَّثنا عبداللهٍ بنُ يوسفَ، قالَ: أخبَرنا مالكٌ عن نافعٍ، عن ابنِ عمرَ، عن حَفصةَ - زوجِ النبي، صلى الله عليه وسلم - أنّها قالت: يا رَسول الله، ما شأن النَّاسِ حَلُّوا ولم تَحِل أنتِ من عُمرَتك؟ قال: " إني لبَّدتُ رأسي، وقَلَّدتُ هدْيي، فلا أَحلُّ حتى أنحر " قلتُ: هذا يَدل على أنَّه قد كانت هناكَ عمرةٌ، وقد عُلمَ أنَها لم تَكن مُفردة، وإنَّما هي عُمرةٌ مَقرونةٌ بالحَجِّ، فَصحَّ من هذا الحَديثِ، وَ (بدلالةِ)، أحاديثَ أُخر أشهَرها حديثُ أنسٍ أنّه كانَ قارناً.

وقوله: " لبَّدتُ رأسي ". فإنَّ التَلبيد إنَّما (هو) علاجُ الشَّعر بالصمغِ ونحوِه حتى يجتَمعَ، ويتلبَّدَ، فلا يتخَلله الغُبار، ولا يقَعُ فيه الدَّبيب، وإنّما يفعَله من يَطولُ مُكثه، وتتطاولُ الأيامُ به في قَضاء أعمالِ الحَجِّ ومناسِكهِ دونَ المُعتمر، الذي إنَّما هو طَواقٌ وسعيٌ، فإذا هو قد حَلَّ.

(41) (باب من أين يخرج من مكة)

(41) (باب من أين يَخرجُ من مكَّة) 355/ 1578 - قال أبو عبدِ اللهِ: حدَّثنا محمودُ بنُ غيلان، قال: حدّثنا أبو أسامة، قال: حدَّثنا هشامُ بنُ عروة، عن أبيهِ، عن عائشةَ أنّض النبي، صلى الله عليه وسلم، دَخلَ عام الفتح من كداءِ من اعلا مكة، وخَرجَ من كُداً. المُحدِّثون قلَّ ما يُقيمونَ هذين الاسمين، وإنَّما هُما كُديٌّ، وكَداءُ، وهما ثنيتانِ. قالَ الشاعر: انتَ ابنُ مُعتَلج البطاحِ كُدَيِّها وكَدائِها.

(42) (باب فضل مكة وبنيانها)

(42) (بابُ فَضلِ مكة وبُنيانِها) 356/ 1584 - قالَ أبو عبدِ الله: حدّثنا مُسدَّدٌ، قالَ: حدّثنا أبو الأحوص، قال: حدّثنا أشعبُ، عن الأسود بنِ يزيد، عن عائشةَ، رضي الله عنها، قالت: سألتُ النَّبي، صلى الله عليه وسلم، عن الجَدرِ أمِنَ البيتِ هو؟ قالَ: " نعم ". قلتُ: فما لَهم لم يُدخلوه في البَيتِ؟ قالَ: " إنّ قَومَكِ قَصرت بهم النّفقة ". قلتُ: فما شأنُ بابهِ مرتَفعاً؟ قالَ: " فعلَ ذاكَ قَومكِ ليُدخلوا من (شاءُوا) ويمنعوا من (شَاءُوا)، ولولا أنّض قومَكِ حديثٌ عهدهم بالجاهِليّةِ، وأخافُ أن تُنكر قُلوبهم لنَظرتُ أن أُدخلَ الجدرَ في البيتِ، وأن أُلصِقَ بابَهُ بالأرضِ ". الجِدرُ: الجِدارُ، وأرادَ بِهِ الحَجر. وفي الحَديثِ، دليلٌ على أنّض بعضَ الوَاجباتِ قد يَجوز تركُها مالم تكن فَريضةً لازِمةً إذا كان يُخاف عندَ فعلهِ أن يتولدَ منهُ فسادٌ، وَرُجِّي / في تَركهِ نفعٌ، أو صَلاحٌ.

وفي قَولِه " وأنْ أُلصِقَ بابَهُ بالأرضِ ". بيانُ أنّض الناسَ غيرُ مَحجوبين في حقِّ الدِّين مشن دخول البيتِ أي وقتٍ شاءُوا، ولكنّه صلى الله عليه وسلم، إذ لم يفعل ذلك، وَتَركَ أمرهُ على ما كانَ عليهِ في قَديمِ الدّهرِ، وسلّم مِفتاحه إلى بني عبدِ الدَّار، وقالَ: خُذوها خالدةً تالدةً " ثم قالَ في خُطبَتِهِ: " ألا إنَّ كل دمٍ ومأثرةِ تحتَ قَدَمي إلا سقايةَ الحَاجِّ، وسِدانةّ البيتِ فإنَّه لا يجوزُ لأحدٍ أن ينزِعهما من أيديهم، أو يحول بينهم وبينَ ذلك، ولك عَليهم أن يَحفَظوه حِفظَ صِيانةٍ وأن لا يحبسوا الناسَ عنهُ حَبسَ منعٍ وحِمايةٍ " وإذا كانَ الحجر هو جزءا من البيتِ لا يَحلُّ لأحدٍ أن يَحجبَ النَّاسَ عنهُ، كانَ داخِلَ البيتِ بِمثابتهِ، لا فرقَ بينهما، وقد قالَ تعالى: " سواءً العاكِفُ فيها والبادِ " فأمَّا ما يأخذه السدنة من النَّاسِ من جُعْل على فتحِ

بابهِ، والإذنَ في دخولِهِ، فإنَّه لا يطيبُ لهم، وإنَّما يجبُ أجرهم فيما يتَولونه من عِمارَتهِ، وتحصينِ بنائه، وكنسِهِ وتنظيفهِ، وكِسوتهِ، وطيبه، وسائِر مصالحهِ في بيتِ المالِ من الخُمسِ. وقد رُوي عن أبي العالية الرَّياحي في قول الله عز وجل: " واعلمُوا أنَّما غَنِمتُم مِن شَيءٍ فأنَّ لله خُمُسَه " الآية. قال: السّهم المضافُ إلى الله إنَّما هو للكَعبةِ، بيتِ الله. وقال أكثر أهلِ العلمِ: إنَّما هو افتتاح كَلامٍ، بُدئ فيه بِذكرِ اللهِ على سَبيلِ التَبركِ، وأضيفَ هذا المالُ إليهِ لتَشَرّفِهِ وَطيبهِ، وإنّما يُضاف إلى الله تَعالى معالي الأمور، وَمحاسنها، وسهمُ الله وَرسولِه واحدٌ. قلتُ: وقولُ أبي العاليةِ قولٌ حسنٌ، وعلى هذا القياسِ

أمن المساجد، والمشاهد، والمرابط، والمنازل، التي ينتابُها النّاس لإقَامةِ العبَادةِ، أو لنفعٍ (بارتِفاقٍ)، وكذلك الآبار العاديّة والحياض والبرك في المفاوز والبَوادي المسَبّلةُ، فإنَّ كل من حال بينها وبين الناس إلا بِجُعْلٍ، أو نَولٍ يأخُّذه منهم، كانت يَدُهُ / مقصُورةُ إلا أن يكونَ للقيَّم الذي يتَولاها صُنعٌ، أو عَملٌ، كَسَقي الماء للوارِدةِ، وتنظيفِ المَكانِ للنَّازلةِ، ونَحوها من الأمورِ، فإنَّ أجر العاملِ في ذلكَ يلزمُ من استَعملهُ في ذلك، واستَأجرهُ عليهِ.

(42) (الباب نفسه)

(42) (الباب نفسه) 357/ 1585 - قالَ أبو عبدِ الله: حدَّثني عُبيد بن إسماعيل، قالَ: حدّثني أبو أسامةَ، عن هشام، عن أبيه، عن عائشةَ، قالت: قال لي رسولُ الله، صلى الله عليه وسلم، " لَولا حَدَاثة قَومكِ بالكُفر لنقَضتُ البيتَ، ثمَ أبنيهِ على أساسِ إبراهيمَ، فإنّ قريشاً استقصرتْ بناءَهُ، وجعلت له خَلفاً. قوله: " جعَلت لهُ خَلفاً ". يريد باباً من خَلفهِ، يدخُلُ الناس إليه من وجهه، ويخرُجون من خَلفِهِ.

(44) (باب توريث دور مكة وبيعها وشرائها)

(44) (بابُ تَوريثِ دُورِ مكةَ وبَيعها وشِرائها) 358/ 1588 - قالَ ألو عبدِ الله: حدَّثني أصبغُ، قالَ: أخبرني ابنُ وهب، عن يونس، عن ابنِ شِهابٍ، عن علي بنِ حُسينٍ، عن عمرو بنِ عثمان، عن أُسامةَ بن زيدٍ أنّه قالَ: يا رَسولَ الله، أينَ تنزِلُ في دَاركَ بمكَّة؟ فقالَ: " وهل تَرك عَقيلً، من رِباعٍ أو دُورٍ " استَدل به الشافعي - رحمهُ الله - في جَوازِ بيعِ دُورِ مكَّة وإجارتها، وموضعِ الاستدلالِ منه (أنّهُ) أجازَ بيعَ عقيلٍ

الدُّور التي كان وَرثها، وكانَ عقيلٌ وَطالبٌ ورثا أبا طالبٍ، ولم يرثه علي، ولا جَعفر، لأنّهما كانا مُسلمين، وكَان عَقيل، طالبٌ إذ ذاك كافرين فَورثاه، ثمّ أسلم عَقيل، وباع الدُّور والعقار، فاستدل الشَافعي، بذلك على صحةِ ملكه فيها، وعلمي أن أنَّ تلكَ الدُّور لو كانت قائمة على ملك عقيلٍ، لم يَنزلها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لأنَّها دَورٌ هجروها في الله، وتَركوها له، فلم يكونوا ليعودوا فيها بسكناها، ولم (يبلُغنا) عن أحدٍ منَ المُهاجرين أنّضه سكنَ داره بمكة بَعدَما وَصلت أيديهم إليها، زمان الفتحِ وكانَ أولاهُم بذلكَ رسول الله، صلى الله عليه وسلم.

(45) (باب نزول النبي صلى الله عليه وسلم مكة)

(45) (بابُ نزول النبي صلى الله عليه وسلم مكة) 359/ 1589 - قالَ أبو عبدِ الله: حدّثنا أبو اليمان، قالَ أخبرنا شُعيب، عن الزُّهري، قالَ: حدّثني أبو سلمَة، أنّض أبا هريرة قال: قال رسولُ الله، صلى الله عليه وسلم، حينَ أرادَ قُدوم /مكة: " منزِلنا غداً إن شاء الله بخيفِ بني كشنانة حيثُ تَقاسموا على الكُفر ". الخيفُ: هو ما انحدر عن الجبلِ، وارتفعَ عن المسيلِ. ويقالُ: إنَّه وادٍ بِعينه. وجاء في رِواية أخرى أنّ موضع هذا الخيف المحصَّب، وأمّا تَقاسُمهم على الكُفر فإنّ قريشاً تحالفت على أن لا يُكلموا بني هاشم، ولا يُجالسوهم، ولا يناكحوهم، ولا يبايعوهم. حتى يُسلِّموا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فيشبه أن يكون صلى الله عليه وسلم

إنّما اختار النُّزول في ذلكَ المَوطن، شكراً للهِ عزّ وجل على النِّعمة في دخولِ مكةّ ظاهراً، ونقضاً لِما تَعاقدوه بينهم، وتقاسَموا عليهِ من ذلكَ، والله أعلم.

(49) (باب هدم الكعبة)

(49) (بابُ هدمِ الكعبةِ) 360/ 1595 - قالَ أبو عبدِ الله: حدَّثنا عمرو بن علي، قالَ: حدّثنا يحيى بن سعيدٍ، قالَ: حدَّثنا عبيدِ الله بنُ الأخنسِ، حدَّثني ابنُ أبي مليكةَ، عنِ ابنِ عباسٍ، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قالَ: " كأني بهِ أسودَ أفحجَ يقلعُها حجراً حَجراً " يُريدُ بها الكَعبة، كما في خبرٍ آخر، يخربها ذو السويقتين من الحبشةٍ. والأفحجُ: البعيدُ ما بينَ الرجلينِ، وذلكَ من نعوتِ الحُبشانِ، وقيلَ: ذو السُويقتينِ لأنَّ في سِيقانِ الحبشِ حُمُوشةً، نصغرهُما لدِقتهما ونَقصِهما.

(50) (باب ما ذكر في الحجر الأسود)

(50) (باب ما ذكر في الحجر الأسود) 361/ 1597 - قال أبو عبد الله: حدثنا محمد بن كثير، قال: حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم عن عابس بن ربيعة، عن عمر، رضي الله عنه، أنه جاء إلى الحجر فقبله وقال: إني أعلم أنك حجر، لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك. معنى هذا الكلام: تسليم الحكم في أمور الدين، وترك البحث عنها وطلب العلل فيها، وحسن الاتباع فيما لم يكشف لنا عنه من معانيها، وقد توجد أمور الشريعة على ضربين: أحدهما: ما كشف لنا عن علته، وبين وجه الحكمة فيه. الآخر: ما لم يبين ذلك منه، فما كان من هذا الضرب فليس (فيه) إلا التسليم، وترك المعارضة له بالقياس والمعقول: وإنما

فضل ذلك الحجر على سائر الأحجار، كما فضلت تلك البقعة على سائر بقاع الأرض، وكما فضل يوم الجمعة على سائر الأيام، وليلة القدر على سائر الليالي، ولذلك يقول القائل في مكة: ما أنت يا مكة إلا وادي .... شرفك الله على البلاد

وليس لهذه الأمور علة يرجع إليها، وإنما هو حكم الله عز وجل، ومشيئته {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} {له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين}.

(57) (باب الرمل في الحج والعمرة)

(57) (باب الرمل في الحج والعمرة) 362/ 1605 - قال أبو عبد الله: حدثني سعيد بن أبي مريم، قال: أخبرنا محمد بن جعفر، قال: أخبرني زيد بن أسلم، عن أبيه، أن عمر بن الخطاب قال للركن: أما والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استلمك ما استلمتك. فاستلمه ثم قال: وما لنا وللرمل، إنما كنا رأينا به المشركين، وقد أهلكهم الله، ثم قال: شيء صنعه النبي صلى الله عليه وسلم، فلا نحب أن نتركه. قلت: كان عمر رضي الله عنه طلوبا للآثار، بحوثا عنها وعن معانيها، لما رأى الحجر يستلم، ولا يعلم فيه سببا يظهر للحس، ولا تتبين له عائدة في الفعل، ترك فيه الرأي والقياس، وصار إلى الاتباع، ولما رأى الرمل وقد ارتفع سببه الذي

كان أحدث من أجله في الزمان الأول هم بتركه، ثم لاذ بالاتباع، متبركا به، ومتعرضا للفضل فيه، وقد يحدث الشيء من أمر الدين لسبب من الأسباب، فيزول ذلك السبب، ولا يزول حكمه، كالعرايا، والاغتسال للجمعة ونظائرهما. وفي الحديث دليل على أن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم على الوجوب حتى يقوم على خلافه دليل.

(58) (باب استلام الركن بالمحجن)

(58) (باب استلام الركن بالمحجن) 363/ 1607 - قال أبو عبد الله: حدثنا أحمد بن صالح، ويحيى بن سليمان، قالا: حدثنا ابن وهب قال: أخبرني يونس، (عن ابن شهاب)، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، قال: طاف النبي صلى الله عليه وسلم، في حجة الوداع على بعير، يستلم الركن بمحجن. المحجن: عصا خفيفة، عقفاء الرأس، يحرك بها الراكب بعيره، ويتناول بها الشيء، يقال: حجنت الشيء واحتجنته: إذا حزته.

(64) (باب طواف النساء مع الرجال)

(64) (باب طواف النساء مع الرجال) 364/ 1618 - قال أبو عبد الله: قال لي عمرو بن علي: حدثنا أبو عاصم، قال ابن جريج: أخبرني عطاء، قال: كانت عائشة تطوف حَجْرة، من الرجال. يريد به ناحية منتبذة عنهم، وفي بعض الأمثال: ترعى حجرة، وتربض وسطاً.

(75) (باب سقاية الحاج)

(75) (باب سقاية الحاج) 365/ 1635 - قال أبو عبد الله: حدثنا إسحاق بن شاهين قال: حدثنا خالد، عن خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء إلى السقاية فاستسقى، فقال العباس: يا فضل، اذهب إلى أمك فأت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشراب من عندها، فقال: اسقني. قال: يا رسول الله، إنهم يجعلون أيديهم فيه. قال: اسقني، فشرب منه، ثم أتى زمزم، وهم يستقون ويعملون فيها. فقال: اعملوا، فإنكم على عمل صالح، وقال: لولا أن تغلبوا لنزلت حتى أضع الحبل على هذه -يعني عاتقه- وأشار إلى عاتقه. فيه من العلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما حرمت عليه الصدقات الواجبة في الأموال، فأما الصدقة التي سبيلها المعروف، كالمياه التي تكون في السقايات تشربها المارة

واللبن يحلب عند ورد الإبل، يسقاه الواردة، فإنها لم تحرم عليه، وقد استسقى اللبن في مخرجه إلى المدينة، فسقي، فشرب، وجرى في ذلك على المعهود من عادات أبناء السبيل. وفيه: إثبات أمر سقاية الحاج، وتقريره على ما كان عليه. ومما يؤكد ذلك ترخيصه للعباس وأهل السقاية أن يتركوا ليالي منى المبيت بها من أجل سقايتهم. وفي قوله: (لولا أن تغلبوا عليه لنزلت) دليل على أن ظاهر أفعاله فيما يتصل بأمور الشريعة على الوجوب، فترك الفعل شفقا أن يتخذ واجبا، ورغب في الفضل بما استحبه، وتمناه لولا ما استثناه من العذر فيه.

(80) (باب ما جاء في السعي بين الصفا والمروة)

(80) (باب ما جاء في السعي بين الصفا والمروة) 366/ 1648 - قال أبو عبد الله: حدثني أحمد بن محمد، قال: أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا عاصم، قال: قلت لأنس بن مالك: أكنتم تكرهون السعي بين الصفا والمروة؟ فقال: نعم، لأنها كانت من شعائر الجاهلية حتى أنزل الله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما}. الشعائر: المناسك، واحدتها شعيرة، أي: هي شعار للطاعة، وعلامة لها على صفة مخصوصة، وإنما أراد بهذا الكلام أن رفع الحرج في الطواف بين الصفا والمروة إنما هو لما كانوا يجدونه في أنفسهم من مضاهاة أهل الشرك، وذلك غير دال على أن السعي بينهما ليس بواجب.

(81) (باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت وإذا سعى على غير وضوء بين الصفا والمروة)

(81) (باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت وإذا سعى على غير وضوء بين الصفا والمروة) 367/ 1652 - قال أبو عبد الله: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا إسماعيل، عن أيوب، عن حفصة، قالت: كانت أم عطية لا تذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قالت: بيبا، وذكرت حديثا. قولها: بِيَبَا: لغة كقولك: بأبي فلان، أبدلت الهمزة ياء، وقالت امرأة من العرب مات لها ابنان ترثيهما، أنشدنيه

التمار قال: أنشدنا ابن الأنباري: وقد زعمت أني جزعت عليهما .... وهل جزع أن قلت وابيباهما وهل جزع أن قلت شيئا علمته .... وأثنيت ما قد أولياني كلاهما

(91) (باب الوقوف بعرفة)

(91) (باب الوقوف بعرفة) 368/ 1664 - قال أبو عبد الله: حدثنا مسدد، قال: حدثنا سفيان، عن عمرو، سمع محمد بن جبير، عن أبيه، جبير بن مطعم، قال: أضللت بعيرا لي، فذهبت أطلبه يوم عرفة، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم واقفا بعرفة فقلت: هذا والله من الحمس، فما شأنه ههنا؟ الحُمْس: قريش، وكانت تقف بجَمْع، لا تخرج من الحرم، وتقول: لا نخلي الحرم، ولا نقف إلا فيه، وسُموا حمسا لتشددها في أمر دينها. والحماسة: الشدة، وفي صنيعهم ذلك نزل قوله تعالى: {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس} أي: من عرفة، وفي ضمنه الأمر بالوقوف بعرفة لأن الإفاضة -ومعناها التفرق والانتشار- إنما يكون عن اجتماع قبله في مكان.

(92) (باب السير إذا دفع من عرفة)

(92) (باب السير إذا دفع من عرفة) 369/ 1666 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: سئل أسامة وأنا جالس: كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في حجة الوداع حين دفع؟ قال: كان يسير العنق، فإذا وجد فجوة نص. العنق: السير الواسع، ودابة معناق. والنص: فوق العنق، ويقال: هو رافع السير، ومنه سميت منصة العروس، وذلك لارتفاعها. والفجوة: المتسع بين الشيئين.

(94) (باب أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالسكينة عند الإفاضة، وإشارته إليهم بالسوط)

(94) (باب أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالسكينة عند الإفاضة، وإشارته إليهم بالسوط) 370/ 1671 - قال أبو عبد الله: حدثني سعيد بن أبي مريم، قال: حدثنا إبراهيم بن سويد، قال: حدثني عمرو بن أبي عمرو، أخبرني سعيد بن جبير -مولى والبة الكوفي- حدثني ابن عباس أنه دفع مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم وراءه زجرا شديدا، وضربا، وصوتا للإبل، فأشار بسوطه إليهم، وقال: "أيها الناس عليكم بالسكينة والوقار (فإن البر ليس) بالإيضاع". الإيضاع: سير شديد حثيث دون الجهد. يقال: أوضعت بعيري فوضع، ومنه قوله عز وجل: {ولأوضعوا خلالكم}.

(98) (باب من قدم ضعفة أهله بليل فيقفون بالمزدلفة ويدعون ويقدم إذا غاب القمر)

(98) (باب من قدم ضعفة أهله بليل فيقفون بالمزدلفة ويدعون ويقدم إذا غاب القمر) 371/ 1680 - قال أبو عبد الله: حدثنا محمد بن كثير، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا عبد الرحمن بن القاسم، (عن القاسم)، عن عائشة قالت: استأذنت سودة النبي صلى الله عليه وسلم، ليلة جمع، وكانت ثقيلة ثبطة، فأذن لها. الثبطة: البطيئة، قال: ثبطت الرجل عن حاجته إذا حبسته عنها، وكان صلى الله عليه وسلم يقدم ضعفة أهله ليلة جمع قبل حَطْمة الناس، ويرمون الجمرة ليلا، ولم يختلف العلماء في أن الرمي قبل نصف الليل غير جائز. وقال الشافعي: إذا كان الرمي بعد نصف الليل جاز. وفي قول أكثر العلماء: لا يجاز أن يرمي قبل الفجر، واحتج الشافعي بحديث أسماء، وقد ذكره أبو عبد الله.

(98) (الباب نفسه)

(98) (الباب نفسه) 372/ 1679 - قال أبو عبد الله: حدثنا مسدد، عن يحيى، عن ابن جريج، قال: حدثني عبد الله -مولى أسماء- عن أسماء أنها نزلت ليلة جمع عند المزدلفة فقامت تصلي فصلت ساعة ثم قالت: يا بني هل غاب القمر؟ قلت: لا، فصلت ساعة، ثم قالت: هل غاب القمر؟ قلت: نعم، قالت: فارتحلوا، فمضينا فارتحلنا، حتى رمت الجمرة، ثم رجعت، فصلت الصبح في منزلها، فقلت لها: يا هنتاه! ما أرانا إلا قد غلسنا. قالت: يا بني إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن للظعن. الظُّعُن: النساء، وقيل للمرأة ظعينة لأنها تظعن بارتحال زوجها وتقيم بإقامته. (وقوله): يا هنتاء [هنتاه] يريد يا هذه، يقال للمذكر إذا كني عنه: هن، وللمؤنث: هنة.

(100) (باب متى يدفع من جمع)

(100) (باب متى يدفع من جمع) 373/ 1684 - قال أبو عبد الله: حدثنا حجاج بن منهال، قال: حدثنا شعبة عن أبي إسحاق، سمعت عمرو بن ميمون يقول: شهدت عمر صلى بجمع الصبح، ثم وقف، فقال: إن المشركين كانوا لا يفيضون حتى تطلع الشمس، ويقولون: أشرق ثبير، وإن النبي صلى الله عليه وسلم خالفهم ثم أفاض قبل أن تطلع الشمس. قولهم: أشرق ثبير، أي لتطلع عليك الشمس. وثبير: جبل، يقال: أشرق الرجل: إذا دخل في وقت الشروق، كما يقال: أصبح: إذا دخل في وقت الصباح. وأمسى: إذا دخل في وقت المساء. وشروق الشمس: طلوعها. يقال: شرقت الشمس: إذا طلعت، وأشرقت: إذا أضاءت، وكان قول أهل الجاهلية في هذا: أشرق ثبير كيما نغير، أي: ندفع ونفيض.

(103) (باب ركوب البدن)

(103) (باب ركوب البدن) 374/ 1689 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يسوق بدنة، فقال: اركبها، قال: إنها بدنة، قال: اركبها، فقال: إنها بدنة، قال: اركبها ويلك في الثانية أو في الثالثة. هذا القول يدل منه صلى الله عليه وسلم على أن ركوب البدنة عند الحاجة إليه والضرورة فيه مباح، وإطلاقه الإذن له في ركوبها من غير شرط قرنه به، يدل على أنه لا يلزمه في ذلك غرم، لما نقصها إن جهدها السير، وإلحاقه الوعيد بصاحب البدنة في تركه الركوب يؤكد هذا المعنى إذا كان لعلة، إنما امتنع من ركوبها شفقا من إثم أو غرم فيها، فكان ظاهر الخبر أن لسائقها ركوبها على كل حال، إلا أن جابرا روى في هذه القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اركبها بمعروف تجد ظهرا)، فدل أنها إنما يباح ركوبها مع الحاجة والضرورة فيها.

(108) (باب إشعار البدن)

(108) (باب إشعار البدن) 375/ 1699 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن مسلمة، قال: حدثنا أفلح بن حميد، عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها قالت: فتلت قلائد هدي النبي صلى الله عليه وسلم ثم أشعرها، وقلدها -أو قلدتها- ثم بعث بها النبي صلى الله عليه وسلم إلى البيت، وأقام بالمدينة، فما حرم عليه شيء كان له حلالاً.

(111) (باب القلائد من العهن)

(111) (باب القلائد من العهن) 376/ 1705 - قال أبو عبد الله: حدثني عمرو بن علي قال: حدثنا معاذ بن معاذ، قال: حدثنا ابن عون، عن القاسم، عن عائشة قالت: فتلت قلائدها من عهن كان عندي. الإشعار: أن تطعن في سنام البدنة حتى يسيل منه دم، وقد أنكر الإشعار بعض أهل العلم ورآه من جملة المثلة المنهي عنها، وليس الإشعار من المثلة في شيء، وقد أشعر رسول الله صلى الله عليه وسلم بُدنَه في آخر أيام حياته، وكان نهيه عن المثلة أول مَقدَمِه المدينةَ، وإنما الإشعار علامة يعلم بها أنها بدنة لتتميز بها عن الأموال المملوكة، كالوسم بالحديد المحمي بالنار، لتتميز به الأملاك، ولا تختلط الأموال، فالإشعار باب والمثلة باب آخر. والعهن الصوف: ويقال: هو المصبوغ منه.

(121) (باب يتصدق بجلود الهدي)

(121) (باب يتصدق بجلود الهدي) 377/ 1717 - قال أبو عبد الله: حدثنا مسدد، قال: حدثنا يحيى، عن ابن جريج، قال: أخبرني الحسن بن مسلم، وعبد الكريم الجزري، أن مجاهدا أخبرهما أن عبد الرحمن بن أبي ليلى أخبره أن عليا أخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يقوم على بُدنِه وأن يقسم لحومها وجلودها ولا يعطي في جزارتها شيئا. يريد: لا يعطي منها في أجرة الجزار شيئا؛ لأن الأجرة في معنى البيع، ولا مدخل للبيع في شيء من الهدي، إنما هو ليتصدق به أو يؤكل، أو يهدى. والجُزارة: اسم لما يجزر، كالسقاطة والنشارة: اسم لما يسقط من الشيء ولما ينشر من الخشب وغيره.

ليتصدق به أو يؤكل أو يهدى. والجزارة: اسم لما (يجزر) كالسقاطة والنشارة: اسم لما يسقط من الشيء ولما ينشر من الخشب وغيره.

(125) (باب الذبح قبل الحلق)

(125) (باب الذبح قبل الحلق) 378/ 1722 - قال أبو عبد الله: حدثنا أحمد بن يونس، قال: حدثنا أبو بكر، عن عبد العزيز بن رفيع، عن عطاء، عن ابن عباس قال: قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: زرت قبل أن أرمي، قال: لا حرج، قال: حلقت قبل أن أذبح، قال: لا حرج، قال: ذبحت قبل أن أرمي، قال: لا حرج. قلت: هذه رخص جاءت في أعمال محلها كلها يوم النحر، وهي مترتبة في حق الدين والسنة، فالرمي أولها، فإذا رمى الجمرة كان عليه الذبح، ثم الحلق، ثم الطواف، وهذا السائل قد عكس القصة، فطاف أولا، وهو معنى قوله: زرت، وذلك أن الطواف الواجب الذي هو بعد الوقوف يدعى طواف الإفاضة وطواف الزيارة، ثم حلق قبل أن يذبح، والذبح قبل الحلاق لقوله عز وجل: {ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله}.

وكان حق الرمي أن يقدم، فأخره عن جميع هذه الأفعال، وكان ذلك منه على سبيل الجهل والنسيان. والدليل على ذلك ما روي في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن رجلا قال: يا رسول الله لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح، ولم أشعر فنحرت قبل أن أرمي، فقال: لا حرج. وإنما رفع عنه الحرج لأن الإثم موضوع عن الناسي، ثم إنه لم يكن ترك من أعيان هذه المناسك، إنما ترك فيها الترتيب. وفي قوله: لا حرج، دليل على أنه لا يلزم في ذلك دم، ولا فدية، وكان ابن عباس يقول: من قدَّم من نسكه شيئا أو أخره فعليه دم. والمستحب للحاج أن يطوف يوم النحر اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكره له تأخيره عن أيام التشريق.

(127) (باب الحلق والتقصير عند الإحلال)

(127) (باب الحلق والتقصير عند الإحلال) 379/ 1727 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم ارحم المحلقين)، قالوا: والمقصرين يا رسول الله، قال: اللهم ارحم المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله، قال: والمقصرين. قلت: كان عادة أكثر العرب اتخاذ الشعر على الرءوس وتوفيرها وتزييتها، وكان التسبيد والحلق فيهم قليلا، وكانوا يرون ذلك نوعا من الشهرة، وكان يشق عليهم الحلاق، فمالوا إلى القص والتقصير، فلما أمر صلى الله عليه وسلم من لا هدي معه بالإحلال في الحديث الذي تقدم ذكره، وجدوا من ذلك في أنفسهم، فقالوا: كيف نحل وقد سمينا الحج؟ وإنما الحلق بعد أن يبلغ الهدي محله، واستبطأهم في ذلك، وقال لهم: افعلوا ما آمركم به، وقال: لولا أني لبدت رأسي وسقت

معي الهدي لأحللت وحلقت، فلما أحلوا كان منهم من حلق ومنهم من قصر ولم يحلق لما يجد في نفسه منه، فمن أجل ذلك سمح لهم بالدعاء بالرحمة والمغفرة، وقصر بالآخرين إلى أن استعطف عليهم وسئل في أمرهم فعمهم بالدعاء بعد. وقد كان جرى منهم يوم الحديبية نوع من هذا الصنيع، إلى أن قالت له بعض نسائه ورأته غضبان: ما لك يا رسول الله؟ فقال: كيف لا أغضب وأنا آمر بالأمر فلا أطاع، أو كما قال. فقالت له: ابدأ أنت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاحلق رأسك، فلما رأوه فعل

ذلك تبادروا فاحتلق عامتهم إلا من قصر منهم، فاستحق من احتلق من الثناء أكثر ممن قصر، وقد قيل: إن هذا القول إنما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلق في حجته. وقد قيل: إنما جاء هذا فيمن كان لبد رأسه، فإن من لبد رأسه وجب عليه الحلق، ومن لم يفعل كان مخيرا، إن شاء حلق وإن شاء قصر.

(132) (باب الخطبة أيام منى)

(132) (باب الخطبة أيام منى) 380/ 1741 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن محمد قال: حدثنا أبو عامر، قال: حدثنا قرة، عن محمد بن سيرين قال: حدثني عبد الرحمن بن أبي بكرة، ورجل آخر أفضل في نفسي من عبد الرحمن، حميد بن عبد الرحمن، عن أبي بكرة، قال: خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم، يوم النحر، فقال: (أتدرون أي بلد هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. قال: أليست بالبلدة؟ قلنا: بلى. وذكر الحديث. قوله: أليست بالبلدة؟ يريد أليست بالبلدة المحرمة، يدل

على ذلك قوله عز وجل: {إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها}، وقوله: {وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا}، ويقال: إن البلدة اسم خاص لمكة، ولها أسماء. أخبرني محمد بن نافع الخزاعي، قال: حدثنا عمي إسحاق بن أحمد الخزاعي، قال: حدثنا أبو الوليد الأزرقي، قال: أخبرني جدي، عن داود بن عبد الرحمن، عن ابن جريج، عن مجاهد، قال: من أسماء مكة: بكة، وهي أم رُحْم، وهي أم القرى، وهي كوثا، وهي الباسَّة.

(وأخبرني أبو عمر) وقال أبو العباس - محمد بن يزيد النحوي - (عن ابن الأعرابي): ومن أسماء مكة: صلاح. وقال حرب بن أمية لأبي مطر الحضرمي يدعوه إلى حلفه ونزول مكة: أبا مطر هلم إلى صلاح .... فيكفنك المداين من قريش

(140) (باب إذا رمى الجمرتين يقوم مستقبل القبلة ويسهل)

(140) (باب إذا رمى الجمرتين يقوم مستقبل القبلة ويُسهِل) 381/ 1751 - قال أبو عبد الله: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: حدثنا طلحة بن يحيى، قال: حدثنا يونس، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر أنه كان يرمي جمرة، الدنيا بسبع حصيات، يكبر على إثر كل حصاة، ثم يتقدم حتى يُسهل، فيقوم مستقبل القبلة طويلا، ويدعو ويرفع يديه، ثم يرمي الوسطى، ثم يأخذ ذات الشمال، فيسهل، فيقوم مستقبل القبلة ثم يدعو، ويرفع يديه، ويقوم طويلا، ثم يرمي جمرة العقبة من بطن الوادي، ولا يقف عندها، ثم ينصرف ويقول: هكذا رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفعله.

قوله: يُسهِل، أي: ينزل إلى السهل من الوادي. يقال: أسهل القوم إذا نزلوا عن الجبل إلى السهل.

(135) (باب رمي الجمار من بطن الوادي)

(135) (باب رمي الجمار من بطن الوادي) 381/ 1747 - قال أبو عبد الله: أخبرنا محمد بن كثير، قال: أخبرنا سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: (رمى عبد الله من بطن الوادي. فقلت: يا أبا عبد الرحمن! إن ناسا يرمونها من فوقها، فقال: والذي لا إله غيره، هذا مقام الذي أنزل عليه سورة البقرة). قلت: إنما ذكر سورة البقرة في هذا لأن المناسك وأمور الحج إنما ذكر معظمها في سورة البقرة، وقال صلى الله عليه وسلم:

(خذوا عني مناسككم)، فتولى بيانها بفعله. وفيه: أنه سماها سورة البقرة، فإن قوما لم يستحبوا أن يسموها بذلك، وإنما كانوا يقولون: السورة التي يذكر فيها البقرة، والسورة التي يذكر فيها الشعراء، ونحوهما. وفيه: من السنة: أن جمرة العقبة ترمى، ولا يوقف عندها كما يوقف عند اللتين قبلها.

(147) (باب المحصب)

(147) (باب المحصب) 383/ 1766 - قال أبو عبد الله: حدثنا علي بن عبد الله، قال: حدثنا سفيان، قال: عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: (ليس المحصب بشيء، إنما هو منزل نزله رسول الله، صلى الله عليه وسلم). قوله: (ليس المحصب بشيء) يريد: أنه ليس بمنسك من مناسك الحج، إنما نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم للاستراحة، ورقد بها رقدة، ثم ارتحل وهو الذي يسمى التحصيب. قال أبو عبيد: وكان شيئا يفعل ثم ترك. قال: والتحصيب إذا نفر الرجل من منى إلى مكة للتوديع أن يقيم بالشعب الذي يخرجه إلى الأبطح حتى يهجع بها ساعة من الليل، ثم يدخل مكة. قلت: وهو الذي يقال لها: ليلة الحصبة، وهي ليلة النفر.

كتاب العمرة

كتاب العمرة (11) (باب متى يحل المعتمر؟) 384/ 1792 - قال أبو عبد الله: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، عن جرير، عن إسماعيل، عن عبد الله بن أبي أوفى، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (بشروا خديجة ببيت في الجنة من قصب، لا سخب فيه ولا نصب). البيت: القصر. قال ابن الأعرابي: يقال هذا بيت فلان، أي قصره. والقصب: الدر المجوف. ومعنى اشتراطه نفي السخب والنصب، أنه ما من بيت في الدنيا يجتمع فيه السكن إلا كان بين أهله صخب وجلبة، وإلا كان في بنائه وإصلاحه نصب وتعب، فأخبر أن قصور الجنة وبيوتها بخلاف ذلك، ليس فيها شيء من الآفات التي تعتري أهل الدنيا فيها.

(الباب نفسه) 385/ 1796 - قال أبو عبد الله: حدثنا أحمد، قال: حدثنا ابن وهب، قال: حدثنا عمرو، عن أبي الأسود، أن عبد الله -مولى أسماء بنت أبي بكر- حدثه أنه كان يسمع أسماء تقول كلما مرت بالحجون قالت: لقد نزلنا ههنا ونحن يومئذ خفاف، قليل ظهرنا، قليلة أزوادنا، فاعتمرت أنا وأختي عائشة والزبير وفلان وفلان، فلما مسحنا البيت أحللنا، ثم أهللنا من العشي بالحج. قوله: مسحنا البيت، أي طفنا بالبيت، وذلك أن من طاف به مسح الركن فصار اسما لازما للطواف. قال

النابغة: فلا لعمر الذي مسحت كعبته .... وما هريق على الأنصاب من جسد وقال عمر بن أبي ربيعة: ولما قضينا من منى كل حاجة .... ومسح بالأركان من هو ماسح يريد: وطاف بالبيت من هو طائف.

(13) (باب استقبال الحاج القادمين، والثلاثة على الدابة)

(13) (باب استقبال الحاج القادمين، والثلاثة على الدابة) 386/ 1798 - قال أبو عبد الله: حدثنا معلى بن أسد، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة استقبلته أغيلمة بني عبد المطلب، فحمل واحدا بين يديه، وآخر خلفه. أغيلمة: تصغير الغلمة، وكان القياس أن يقال غليمة، ولكنهم ردوها إلى أفعلة فقالوا: أغيلمة، كما قالوا: أصيبية في تصغير صبية، وفيه أنه حمل بين يديه وأردف، فدل على أن لا حرج في الحمل على الدابة ما أطاقت.

(19) (باب: السفر قطعة من العذاب)

(19) (باب: السفر قطعة من العذاب) 387/ 1804 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن مسلمة، قال: حدثنا مالك، عن سمي، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (السفر قطعة من العذاب، يمنع أحدكم طعامه وشرابه ونومه، فإذا قضى نهمته فليعجل إلى أهله). فيه حجة لمن ذهب إلى تغريب الزاني سنة بعد الجلد، إذ سماه عذابا. وقد قال عز وجل: {وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين}، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في البكر: (إذا زنا جلد مائة وغرب سنة). وقوله: (يمنع أحدكم طعامه وشرابه)، يريد أنه يمنعه

الطعام في الوقت الذي يريد أن يأكل فيه، لشغله بمسيره ويمنعه النوع الذي يستوفقه منه لعيشه وغذائه، والنوم -كذلك أيضا- يمنعه في وقته، واستيفاء القدر الذي يحتاج إليه لجمامه وراحته. وفيه: الترغيب في الإقامة وترك الإكثار من السفر، لئلا تفوته الجمعات والجماعات، والحقوق الواجبة، (للأهل والولد والقرابات). وهذا في الأسفار التي هي غير واجبة، ألا تراه يقول: (فإذا قضى نهمته فليعجل إلى أهله)، وإنما أشار إلى السفر الذي يختاره الإنسان لإرب له فيه، ونهمه من تجارة أو ضرب في الأرض للتغلب والجولان، دون السفر الواجب من حج أو غزو أو نحوهما.

كتاب جزاء الصيد

كتاب جزاء الصيد (2) (باب إذا صاد الحلال فأهدي للمحرم الصيد أكله) 388/ 1821 - قال أبو عبد الله: حدثنا معاذ بن فضالة، قال: حدثنا هشام، عن يحيى، عن عبد الله بن أبي قتادة، قال: انطلق أبي عام الحديبية فأحرم أصحابه ولم يحرم. قال: فبينا أنا مع أصحابه ضحك بعضهم إلى بعض، فنظرت فإذا أنا بحمار وحش، فحملت عليه، فطعنته فأثبته، واستعنت بهم فأبوا أن يعينوني، فأكلنا من لحمه، وخشينا أن نقتطع، فطلبت النبي صلى الله عليه وسلم، أرفع فرسي شأوا، وأسير شأوا. يعني: حتى أدركته. قلت: يا رسول الله! أصبت حمار وحش، وعندي منه فاضلة. فقال للقوم: (كلوا)، وهم محرمون.

فيه من الفقه: أن لحم الصيد مباح للمحرم إذا لم يصده ولم يعن عليه. وقوله: أربع فرسي، فإن الرفع ما كان دون الحُضْر. والشأو: الدفعة من السير. وقوله: وعندي منه فاضلة، أي قطعة قد فضلت منه فهي فاضلة، أي باقية معي. وقوله: ضحك بعضهم إلى بعض، ما دل على أنهم لم يخبروه بمكان الصيد، ولم يدلوه عليه، حتى كان هو الذي نظر فرآه، وقد رأى بعض الفقهاء على الدال الفدية. منهم أبو حنيفة ومالك.

(6) (باب إذا أهدى للمحرم حمارا وحشيا حيا لم يقبل)

(6) (باب إذا أهدى للمحرم حمارا وحشيا حيا لم يقبل) 389/ 1825 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن عبد الله بن عباس، عن الصعب بن جثامة الليثي، أنه أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حمارا وحشيا وهو بالأبواء، أو بودان، فرد عليه، فلما رأى ما في وجهه قال: (إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم). قلت: في هذا الحديث دليل على أن المحرم لا يجوز له تملك الصيد بقبوله إياه إن أهدي إليه، وقياسا عليه شراؤه إن بيع منه، ولو كان يجوز ذلك له لما رده النبي صلى الله عليه وسلم، مع

قوله: (أجيبوا الداعي ولا تردوا الهدية). وقوله: (لو أهدي إلي ذراع لقبلت، ولو دعيت إلى كراع لأجبت). وفيه دليل على أن من في يده صيد وأحرم كان عليه إرساله، ورفع ملكه عنه، وقد اختلف الفقهاء فيمن اشترى صيدا وهو محرم. فقال الشافعي: لا يشتري الصيد، فإن اشتراه كان عليه إرساله، وكذلك قال أصحاب الرأي. وكان أبو ثور يقول في المحرم يشتري من المحرم صيدا كان المحرم البائع اصطاده في الإحرام، لم يجز له بيعه، وكان عليه تخلية سبيله، وإن كان قد ملكه قبل ذلك فلا بأس به.

(18) (باب دخول الحرم ومكة بغير إحرام)

(18) (باب دخول الحرم ومكة بغير إحرام) 390/ 1846 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عام الفتح على رأسه المغفر، فلما نزعه جاء رجل فقال: إن ابن خطل متعلق بأستار الكعبة، فقال: (اقتلوه). فيه دليل على أن صاحب الحاجة إذا دخل مكة لم يلزمه الإحرام. وفيه حجة لمن ذهب إلى أن الحرم لا يعصم من القتل الواجب، وإقامة الحد على الجاني، ولا يمهل في ذلك إلى أن يخرج، وقد يحتمل أن يقال على المذهب الآخر: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان مخصوصا بذلك، لقوله في الخطبة التي خطبها: (ألا وإنها لم تحل لي إلا ساعة من نهار، ثم عادت حرمتها كما كانت).

(22) (باب الحج والنذور عن الميت والرجل يحج عن المرأة)

(22) (باب الحج والنذور عن الميت والرجل يحج عن المرأة) 391/ 1852 - قال أبو عبد الله: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن أمي نذرت أن تحج، فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال: (حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ اقضوا الله فالله أحق بالوفاء). فيه دليل على أن الحجة الواجبة من رأس المال كالدين الواجب، وإنما تقضى، وإن لم يوص بها، وذهب بعضهم إلى أنها لا تقضى إلا أن يوصى بها، فإذا أوصى بها كان مقدما على الديون. وقال آخرون: هي أسوة سائر الديون، والقول الأول أولى، وإليه ذهب الشافعي.

(20) (باب المحرم يموت بعرفة ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤدى عنه بقية الحج)

(20) (باب المحرم يموت بعرفة ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤدى عنه بقية الحج) 392/ 1850 - قال أبو عبد الله: حدثنا سليمان بن حرب، قال: حدثنا حماد، عن أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: بينا رجل واقف مع النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة، إذ وقع عن راحلته، فوقصته -أو فأوقصته- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبين، ولا تمسوه طيبا، ولا تخمروا رأسه، فإن الله يبعثه يوم القيامة ملبيا). قوله: وقصته، أي كسرت عنقه، وفيه أن التلبية لا تقطع حتى ترمى الجمرة، وقد ذكرنا هذا الحديث فيما قبل.

كتاب فضائل المدينة

كتاب فضائل المدينة (1) (باب حرم المدينة) 393/ 1869 - قال أبو عبد الله: حدثنا إسماعيل بن عبد الله، قال: حدثني أخي، عن سليمان، عن عبيد بن عمير، عن سعيد المقبري عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حرام ما بين لابتي المدينة على لساني). اللابة: الحرة، يريد: حرتي المدينة، والمدينة بين حرتين، وتجمع على اللاب واللُّوب.

(1) (الباب نفسه)

(1) (الباب نفسه) 394/ 1870 - قال أبو عبد الله: حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، (عن أبيه) عن علي رضي الله عنه قال: ما عندنا إلا كتاب الله وهذه الصحيفة، المدينة حرم ما بين عائر (إلى كذا)، من أحدث فيها حدثنا [حدثا] أو آوى محدثا، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل، ومن تولى قوما بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة

والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل. وقال: ذمة المسلمين واحدة، فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل. قوله: (آوى محدثا) يروى على وجهين، أحدهما بفتح الدال، ويكون معناه الرأي المحدث في أمر الدين والسنة، ومن قال: محدثا -بكسر الدال- فإنه يريد به صاحبه الذي أحدثه وجاء به، يريد من جاء ببدعة في الدين، أو بدل سنة من سنة النبي صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدين بعده الذين أمر بمتابعتهم والتمسك بسنتهم. وقوله: (لا يقبل منه صرف ولا عدل) فإن العدل يفسر تفسيرين: أحدهما الفدية كقوله عز وجل: {وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها}. ويقال: العدل الفريضة، والصرف: النافلة، ويقال: التوبة، ويقال: الصرف الحيلة. وقوله: (ومن تولى قوما بغير إذن مواليه)، فإنه لم يجعل إذن مواليه في ذلك شرطا في جواز ادعاء نسب، أو ولاء، ليس هو منه وإليه، وإنما ذكر الإذن في هذا توكيدا للتحريم؛ لأنه إذا استأذنهم في ذلك منعوه، وحالوا بينه وبين ما يفعل من ذلك.

وقوله: (من أخفر مسلما) فإن الإخفار نقض العهد. يقال: خفرت الرجل إذا أمنته، وأخفر الرجل صاحبه: إذا نقض العهد، وختر بالذمة.

كتاب جزاء الصيد

كتاب جزاء الصيد (27) (باب من نذر المشي إلى الكعبة) 395/ 1865 - قال أبو عبد الله: حدثني محمد بن سلام، قال: حدثنا الفزاري، عن حميد الطويل، حدثني ثابت، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يهادى بين ابنيه قال: (ما بال هذا؟) قالا: نذر أن يمشي. قال: (إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني) ثم أمره أن يركب. فيه: بيان جواز الركوب إذا عجز الناذر عن المشي إلى بيت الله، ولكن اختلف أهل العلم هل يلزمه في ذلك شيء أم لا؟ فقال بعضهم: لا شيء عليه، إذ ليس في الحديث مع الإذن إيجاب شيء. وقال آخرون: إذا نذر المشي مشى ما أطاق، وركب إذا عجز، وعليه الفدية.

(5) (باب من رغب عن المدينة)

كتاب فضائل المدينة (5) (باب من رغب عن المدينة) 396/ 1874 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو اليمان، قال: أخبرنا شعيب، عن الزهري، أخبرني سعيد بن المسيب أن أبا هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (تتركون المدينة على خير ما كانت عليه لا يغشاها إلا العوافي يريد عوافي السباع والطير). العوافي: طلاب الرزق، يقال: اعتفيت الرجل: إذا طلبت معروفه. يقال: رجل عاف، وقوم عفاة.

(5) (باب من رغب عن المدينة)

(5) (باب من رغب عن المدينة) 397/ 1875 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير، عن سفيان بن أبي زهير، أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (تفتح اليمن، فيأتي قوم يُبِسُّون، فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون). قوله: (يبسون) هو أن يقال في زجر الدابة: بس بس، وهو من الزجر إذا سقتها. قال أبو عبيد: وهو من كلام كلام أهل اليمن، وفيه لغتان: بس وأبس.

(6) (باب الإيمان يأزر [يأرز] إلى المدينة)

(6) (باب الإيمان يأزر [يأرز] إلى المدينة) 398/ 1876 - قال أبو عبد الله: حدثني إبراهيم بن المنذر، قال: حدثنا أنس بن عياض، قال: حدثني عبيد الله، عن خبيب بن عبد الرحمن، عن حفص بن عاصم، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الإسلام ليأزر [ليأرز] إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها). قوله: يأزر [يأرز] معناه ينضم إليها ويجتمع بعضه إلى بعض فيها.

(9) (باب لا يدخل الدجال المدينة)

(9) (باب لا يدخل الدجال المدينة) 399/ 1880 - قال أبو عبد الله: حدثنا إسماعيل، قال: حدثني مالك، عن نعيم بن عبد الله المجمر، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (على أنقاب المدينة ملائكة، لا يدخلها الطاعون، ولا الدجال). الأنقاب: جمع نقب، وهو طريق في رأس جبل.

(16) (باب إذا لم يجد الإزار فليلبس السراويل)

كتاب جزاء الصيد (16) (باب إذا لم يجد الإزار فليلبس السراويل) 400/ 1843 - قال أبو عبد الله: حدثنا آدم قال: حدثنا شعبة، قال: حدثنا عمرو بن دينار، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس، قال: خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات فقال: (من لم يجد الإزار فليلبس السراويل). قلت: مطلق الإذن في لبس السراويل يوجب الإباحة بلا فدية، ومرسل اللبس إنما هو اللبس المعهود، دون الاتزار، فإن الاتزار بالسراويل لا يعم ستر العورة غالباً.

(7) (باب ما يقتل المحرم من الدواب)

(7) (باب ما يقتل المحرم من الدواب) 401/ 1829 - قال أبو عبد الله: حدثنا يحيى قال: حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (خمس من الدواب كلهن فاسق، يقتلن في الحرم: الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور). قوله: (كلهن فاسق)، يريد: كل واحدة وواحد منها فاسق، ومعنى الفسق: خبثهن، وكثرة الضرر فيهن.

وفيه دليل على أن المحرم إذا قتلهن لم يلزمه الفداء في شيء منهن، وكل دابة لم تحرم بالحرم لم تحرم على المحرم بحال، ويدخل في معناهن: الحيات والهوام، ذوات السموم والضرر، ويدخل في معنى الكلب العقور: الذئاب، والنمار والأسد الضارية. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دعا على عقبة بن أبي لهب فقال: (اللهم سلط عليه كلبا من كلابك) فافترسه الأسد.

(10) (باب المدينة تنفي الخبث)

كتاب فضائل المدينة (10) (باب المدينة تنفي الخبث) 402/ 1883 - قال أبو عبد الله: حدثنا عمرو بن عباس، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن محمد بن المنكدر، عن جابر، قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فبايعه على الإسلام فجاء من الغد محموما، فقال: أقلني، فأبى -ثلاث مرار- فقال: (المدينة كالكير تنفي خبثها وينصع طيبها). أي يخلص، وناصع كل شيء خالصه. ويقال: إن الكير الزق الذي ينفخ فيه الحداد على الحديد، والكور ما كان مبنيا منه من طين.

(12) (باب)

(12) (باب) 403/ 1889 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبيد بن إسماعيل، قال: حدثنا أبو أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وعك أبو بكر وبلال، وكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول: كل امرئ مصبح في أهله .... والموت أدنى من شراك نعله وكان بلال إذا أقلع عنه رفع عقيرته يقول: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة .... بواد وحولي إذخر وجليل وهل أردن يوما مياه مجنة .... وهل يبدون لي شامة وطفيل قال: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد. اللهم بارك لنا في صاعنا ومدنا، وصححها لنا، وانقل حماها إلى

الجحفة). قالت: وقدمنا المدينة وهي أوبأ أرض الله، وكان بطحان يجري نجلا. تعني ماء آجنا. الإذخر: شجر معروف. والجليل: نبت يقال: إنه الثمام، ومجنة: سوق متجر (ة) كانت بقرب مكة. وشامة وطفيل: عينان هناك، وكنت مرة أحسب أنهما جبلان حتى أثبت لي أنهما عينان. وقوله: (بارك لنا في صاعنا ومدنا) يريد في طعامنا المكيل بالصاع والمد. والنجل: ماء البئر، والآجن: المتغير الريح. ويقال: إن الجحفة كانت إذ ذاك دار اليهود، فلذلك دعا بنقل الحمى إليها.

(2) (باب فضل الصوم)

ومن كتاب الصيام (2) (باب فضل الصوم) 404/ 1894 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الصيام جنة، فإذا كان (يوم صوم أحدكم)، فلا يرفث ولا يجهل، فإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم، والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، الصوم لي وأنا أجزي به، والحسنة بعشر أمثالها). قوله: (الصيام جنة) يحتمل أن يكون أراد به جنة من النار، ووقاية للصائم دونها. ويحتمل أن يكون أراد أنه جنة من المعاصي؛ لأنه يكسر الشهوة ويضعف القوة، فيمتنع به الصائم عن مواقعة المعاصي، فصار كأنه جنة وستر دونها.

وقوله: (فلا يرفث). الرفث: الخنا والفحش، نهاه عن قول الرفث والفحش، لئلا يفسد صومه فيحرم أجره. ويقال: إن الرفث اسم لكل ما يريد الرجل من النساء. وقوله: (فليقل إني صائم) يحتممل وجهين: أحدهما: أن يقول ذلك فيما بينه وبين نفسه، لئلا تحمله النفس على مجازاة الشاتم، فيفسد بذلك صومه. والآخر: أن يقول ذلك بلسانه، ليمتنع الشاتم من شتمه إذا علم أنه معتصم بالصوم، فلا يؤذيه ولا يجهل عليه. والخلوف: تغير ريح الفم، يقال: خلف فمه خلوفا، ومثله: خلف اللحم: إذا أروح وتغير، والمعنى في كونه عند الله أطيب من ريح المسك: الثناء على الصائم، والرضا بفعله، لئلا يمنعه ذلك من المواظبة على الصوم الجالب لخلوف فمه، ولأجل ذلك كره من كره السواك للصائم آخر نهاره، وبيان المعنى كأنه قال: إن خلوف فم الصائم أبلغ في القبول عند الله من ريح المسك عندكم. قوله: (الصوم لي وأنا أجزي به) فيه: تفضيل الصوم لما فيه من الإخلاص، وقد علمنا أن الطاعات كلها لله، وإنما المعنى أن الصوم عبادة خالصة، لا يستولي عليه الرياء والسمعة، لأنه عمل سر، ليس كسائر

الأعمال التي يطلع عليها الخلق، فلا يؤمن معه الشرك، وهذا كما روي أنه قال: (نية المؤمن خير من عمله)، وذلك لأن النية محلها القلب، فلا يطلع عليها غير الله عز وجل، وتقدير هذا الكلام: أن نية المؤمن منفردة عن العمل خير من عمل خال من النية، كما قال عز وجل: {ليلة القدر خير من ألف شهر} أي من ألف شهر ليس فيها ليلة القدر؛ لأن الشيء لا يكون خيرا من نفسه، ومن عدة أمثاله معه. وقوله: (وأنا أجزي به)، ومعلوم أن الله تعالى هو الذي يجزي بالأعمال الصالحة دون غيره، والمعنى: مضاعفة الجزاء من غير عدد ولا حساب، كقوله عز وجل: {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب}، وقد سمى رسول

الله صلى الله عليه وسلم الصوم صبرا، وسمى رمضان شهر الصبر. وقوله على أثره: (والحسنة بعشر أمثالها)، وإنما عقبه به إعلاما أن الصوم مستثنى من هذا الحكم، وإنما هو في سائر الطاعات عموما، دون الصوم المخصوص بهذا الحكم.

(5) (باب هل يقال: رمضان أو شهر رمضان، ومن رأى كله واسعا)

(5) (باب هل يقال: رمضان أو شهر رمضان، ومن رأى كله واسعا) 405/ 1900 - قال أبو عبد الله: حدثنا يحيى بن بكير، قال: حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، أخبرني سالم أن ابن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فاقدروا له). قوله: (إذا رأيتموه) جعل صلى الله عليه وسلم العلة في وجوب الصوم رؤية الهلال، وأوجب على كل قوم أن يعتبروه بوقت الرؤية في بلادهم دون بلاد غيرهم، فإن البلاد تختلف أقاليمها في الارتفاع والانخفاض، فربما روي الهلال في بعضها ولم ير في بعض، فحكم أهل كل إقليم معتبر بأرضهم وبلادهم دون بلاد غيرهم. وقوله: (فإن غم عليكم) أي ستر دونكم بسحاب ونحوها.

يقال: غممت الشيء إذا غطيته فهو مغموم. وقوله: (فاقدروا له) أي قدروا عدده. يقال: قدرت الشيء وقدرته بالتخفيف والتثقيل بمعنى واحد، وقد اختلف الناس في معنى هذا التقدير، فذهب بعضهم إلى أن يقدر له بحساب سير القمر، فيعتبر بإسباع الشهر، وينزل أمره عليها، ويستدل في ذلك بالسرار أيضا. وذهب عامة العلماء إلى أن معنى التقدير فيه استيفاء عدد الثلاثين، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طريق أبي هريرة وابن عمر، وهذا القول هو المرضي الذي عليه الجمهور من الناس والجماعة منهم.

(باب من صام رمضان إيمانا واحتسابا ونية) 406/ 1901 - قال أبو عبد الله: حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا هشام، قال: حدثنا يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه). معنى الإيمان به: التصديق بوجوبه، والتعظيم لحقه، ومعنى الاحتساب فيه أن يتلقى الشهر بطيبة نفس، فلا يتجهم لمورده، وأن لا يستطيل زمانه، لكن يغتنم طول أيامه وامتداد ساعاتها لما يرجوه من الأجر والثواب فيها.

(9) (باب هل يقول: إني صائم إذا شتم)

(9) (باب هل يقول: إني صائم إذا شتم) 407/ 1904 - قال أبو عبد الله: حدثنا إبراهيم بن موسى، قال: حدثنا هشام بن يوسف، عن ابن جريج، أخبرني عطاء، عن أبي صالح الزيات، أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح، وإذا لقي ربه فرح بصومه. قوله: (كل عمل ابن آدم له) معناه أن لنفسه منه حظا، وفيه مدخلا، وذلك لاطلاع الناس عليه، فهو يتعجل بمكانه ثوابا من الناس، ويحوز حظا من الدنيا، وجاها وتعظيما ونحو ذلك من الأمور. وقوله: (الصوم لي)، أي خالص لي، لا يطلع عليه أحد، فيكون لنفس صاحبه منه حظ فيه.

وقد قيل معناه: أن الاستغناء عن الطعام صفة لله تبارك وتعالى، فإنه يطعم ولا يطعم، كأنه قال: إن الصائم إنما يتقرب إلي بأمر هو متعلق بصفة من صفاتي، وهذا على معنى تشبيه الشيء في بعض معانيه، وإن كان لا يجوز أن يكون لله شريك في كنه صفاته، كما لا شريك له في ذاته، عز وجل. وقوله: (للصائم فرحتان: إذا أفطر فرح) يحتمل أن يكون فرحه عند الإفطار سرورا بما وفق له من تمام الصوم الموعود عليه الثواب الجزيل، ويحتمل أن يكون فرحه بالطعام إذا بلغ منه الجوع، لتأخذ منه النفس حاجتها، والله أعلم.

(12) (باب شهرا عيد لا ينقصان)

(12) (باب شهرًا عيد لا ينقصان) 408/ 1912 - قال أبو عبد الله: حدثنا مسدد، قال: حدثنا معتمر، قال: سمعت إسحاق بن سويد، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال مسدد: وحدثنا معتمر، عن خالد الحذاء، حدثني عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (شهرا عيد لا ينقصان، شهرا عيد: رمضان وذو الحجة).

قلت: إنما كان سبب هذا القول من النبي صلى الله عليه وسلم أن الناس إنما يكثر كلامهم واختلافهم من السنة في هذين الشهرين، وهما شهرا عيد: فطرهم عند رمضان، وحجهم في ذي الحجة، فأعلمهم صلى الله عليه وسلم أن هذين الشهرين وإن نقص أعدادهما في مبلغ الحساب فحكمهما على التمام والكمال في حكم العبادة، لئلا تحرج أمته، ولا يقدح في صدروهم شك إذا صاموا تسعة وعشرين يوما، وكذلك إن وقع الخطأ في يوم الحج لم يكن عليهم فيه حرج، ولم يقع في نسكهم منه نقص. وقد قيل: معناه أنه لا يكاد يتفق نقصانهما في سنة واحدة، فإن كان أحدهما ناقصا كان الآخر تام العدد. قال الأثرم: وكان أحمد يذهب إلى هذا، قلت: وفي هذا نظر، والأول هو وجه الحديث، والله أعلم.

(10) (باب الصوم لمن خاف على نفسه العزبة)

(10) (باب الصوم لمن خاف على نفسه العزبة) 409/ 1905 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبدان، عن أبي حمزة عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة قال: (بينا أنا أمشي مع عبد الله، فقال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه (أغض) للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء). الباءة: يريد بها النكاح. والوجاء: أن تدق خصية التيس، أو الثور بين حجرين، فهو موجوء، يريد أن الصوم يقطع الشهوة فيصير بمنزلة الوجاء للفحولة من البهائم، وقد يستدل به على جواز التعالج لقطع الشهوة كتناول الكافور ونحوه من الأشياء.

(11) (باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا")

(11) (باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا") 410/ 1908 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو الوليد، قال: حدثنا شعبة، عن جبلة بن سحيم، قال: سمعت ابن عمر يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الشهر هكذا وهكذا)، وخنس الإبهام في الثالثة. خنس معناها قبض، والانخناس: الانقباض، وقد يكون الخنوس أيضا لازما؛ يقال للرجل إذا كان مع قوم فتخلف عنهم قد خنس. وقال لي بعض شيوخنا: كنت مع نفر من أعراب بني عقيل، فتخلفت عنهم، فلحقني آخر منهم فقال لي: ما لي أراك خانساً.

حدثني ابن مالك قال: حدثنا بشر، قال: حدثنا الحميدي، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا صالح بن صالح، عن الشعبي، قال: وصف رجل آخر فقال: إذا قيل له: هاك انتهس، وإذا قيل له: هات خنس.

(16) (باب قول الله تعالى: {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل})

(16) (باب قول الله تعالى: {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل}) 411/ 1917 - قال أبو عبد الله: حدثني سعيد بن أبي مريم قال: حدثنا أبو غسان -محمد بن مطرف- قال: حدثني أبو حازم، عن سهل بن سعيد [سعد] قال: نزلت {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود} ولم ينزل {من الفجر} فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود، فلا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله عز وجل بعد {من الفجر} فعلموا أنما يعني الليل والنهار.

قلت: خيط الفجر: بياض الصبح، أول ما يبدو ويمتد، كالخيط ثم ينتشر. قال النابغة: ولاح من الصبح خيط أنارا

(20) (باب بركة السحور من غير إيجاب)

(20) (باب بركة السحور من غير إيجاب) 412/ 1922 - قال أبو عبد الله: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا جويرية، عن نافع، عن عبد الله، أن النبي صلى الله عليه وسلم واصل، فواصل الناس، فشق عليهم، فنهاهم، قالوا: فإنك تواصل، قال: (لست كهيئتكم إني أظل أطعم وأسقى). قوله: (أطعم وأسقى) يحتمل وجهين: أحدهما: أن يريد أني أعان على الصوم وأقوى عليه، فيكون ذلك بمنزلة الطعام والشراب لكم. والآخر: أن يكون أراد الطعام الذي يؤكل والشراب الذي يشرب كرامة من الله واختصاصاً، والله أعلم.

(21) (باب إذا نوى بالنهار صوما)

(21) (باب إذا نوى بالنهار صوما) 413/ 1924 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو عاصم، عن يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة بن الأكوع، أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلا ينادي في الناس يوم عاشوراء: (أن من أكل فليتم، أو فليصم، ومن لم يأكل فلا يأكل). قلت: صوم بعض النهار لا يصح ولا يكون صوما، وإنما هو استحباب، ومعناه مراعاة حق الوقت الذي لو أدرك أوله لصامه، وقد يقدم المسافر في نصف نهار الصوم فيمسك عن الطعام بقية النهار في رأي جماعة من العلماء، احتراما للوقت، واحترازا من الفتنة، لئلا يظن به ظن السوء، وقد يحبس المحبوس في الحش والمكان القذر وبحيث لا يجد ماء ولا ترابا، فيمر به وقت الصلاة فيصلي وصلاته غير محسوبة عن فرضه، وكذلك المربوط على الخشبة يصلي إيماء ولا

تحتسب له عن فرضه. والحائض تحرم فتغتسل ولا تطهر به، والمعنى في هذا كله: مراعاة أذمة الأوقات والأمكنة، والتشبه بأهل الطاعة، ومما يدخل في هذا الباب حج الصبي والعبد من غير وجوب، وإذا أدرك الصبي وعتق العبد، وكانا ممن يجب عليهما الحج، لم يكن ما مضى من ذلك محتسبا عن فرضهما. وفيه الحض والترغيب في صيام يوم عاشوراء.

(22) (باب الصائم يصبح جنبا)

(22) (باب الصائم يصبح جنبا) 414/ 1926 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن سمي -مولى أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة- أنه سمع أبا بكر بن عبد الرحمن، قال: كنت أنا وأبي حين دخلنا على عائشة وأم سلمة ح قال: وحدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب، عن الزهري، أخبرني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، أن أباه عبد الرحمن أخبر مروان أن عائشة وأم سلمة أخبرتاه أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم كان يدركه الفجر وهو جنب من أهله ثم يغتسل ويصوم. وقال مروان لعبد الرحمن بن الحارث: أقسم بالله لتقرعن أبا هريرة، ومروان يومئذ على المدينة، فقال أبو بكر: وكره ذلك عبد الرحمن، ثم قدر لنا

أن نجتمع بذي الحليفة وكانت لأبي هريرة هناك أرض فقال له عبد الرحمن: إني ذاكر لك أمرا، ولولا مروان أقسم علي فيه لما ذكرت ذلك، فذكر قول عائشة وأم سلمة فقال: حدثني الفضل بن عباس، وهو أعلم، يريد قوله: من أصبح جنبا فلا يصوم. قلت: سمعت الحسن بن يحيى يقول: سمعت ابن المنذر يقول: أحسن ما سمعت في هذا أن يكون ذلك محمولا على النسخ، وذلك أن الجماع كان في أول الإسلام محرما على الصائم في الليل بعد النوم كالطعام والشراب، فلما أباح الله الجماع إلى طلوع الفجر، جاز للجنب إذا أصبح قبل أن يغتسل أن يصوم ذلك اليوم لارتفاع الحظر، فكان أبو هريرة يفتي بما سمعه من الفضل بن عباس على الأمر الأول، ولم يعلم بالنسخ، فلما سمع خبر عائشة وأم سلمة صار إليه، وقد روي عن ابن المسيب أنه قال: رجع أبو هريرة عن فتياه فيمن أصبح جنبا أنه لا يصوم.

(26) (باب الصائم إذا أكل أو شرب ناسيا)

(26) (باب الصائم إذا أكل أو شرب ناسيا) 415/ 1933 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبدان، قال: أخبرنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا هشام، قال: حدثنا ابن سيرين، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا نسي الصائم فأكل وشرب، فليتم صومه، فإنما الله أطعمه وسقاه). قوله: (أطعمه وسقاه) معناه أن النسيان ضرورة والأفعال الضرورية غير مضافة في الحكم إلى فاعلها، وهو غير مؤاخذ بها، وكذلك هذا في الجماع إذا كان منه في الصوم ناسيا، والكلام ناسيا لا يبطل صلاته، وقد تكلم النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته ناسيا فبنى عليها، والكلام في هذا مطرد إلا أن يكثر النسيان ويتتابع الكلام في الصلاة، فإنهم لا يعذرونه احتياطا للعبادة؛ لئلا يتبتر [ينبتر] نظم الصلاة

وذلك أن العادة إنما جرت في النسيان أن يكون نادرا في وقت دون وقت، فإذا تتابع خرج عن حد العرف، فرد إلى حكم العمد. وأخبرني الحسين بن محمد قال: حدثنا محمد بن إسحاق بن خزيمة قال: حدثنا عتبة بن عبد الله اليحمدي قال: شهدت مالك بن أنس وسأله رجل عن رجل شرب في صلاته، فقال: ولم لا أكل؟! ويروى عن أبي هريرة أنه سئل عن رجل أكل ناسيا فقال: صومه صحيح، فقيل: فأكل ثانية وثالثة. فقال: هذا رجل لم يتعود الصوم.

(29) (باب إذا جامع في رمضان)

(29) (باب إذا جامع في رمضان) 416/ 1935 - قال أبو عبد الله: حدثني عبد الله بن منير، سمع يزيد بن هارون، قال: حدثنا يحيى -وهو ابن سعيد- أن عبد الرحمن بن القاسم أخبره عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عباد بن عبد الله، أنه سمع عائشة تقول: إن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنه احترق، قال: (ما لك؟) قال: أصبت أهلي في رمضان، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم بمكتل يدعى العرق، فقال: أين المحترق؟ قال: أنا. قال: (تصدق بهذا). العرق: جمع العرقة، وهي سفيفة الخصو، يتخذ منها

المكاتل والزبل، وكان ابن المنذر يستدل بقوله: أين المحترق؟ على أن هذه الكفارة صارت عنه خاصة دون أن تكون عنه وعن زوجته، إذ كانت هذه الصفة تتعلق به وحده، والكفارة على زوجته باقية تلزمها كما لزمت الزوج.

(30) (باب إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيء فتصدق عليه فليكفر)

(30) (باب إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيء فتصدق عليه فليكفر) 417/ 1936 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو اليمان، قال: حدثنا شعيب، عن الزهري، أخبرني حميد بن عبد الرحمن أن أبا هريرة، قال: بينا نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم، إذ جاءه رجل، فقال: يا رسول الله هلكت. قال: ما لك؟ قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل تجد رقبة تعتقها؟) قال: لا. قال: (فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟) قال: لا. قال: (فهل تجد إطعام ستين مسكينا؟) قال: لا. فمكث النبي صلى الله عليه وسلم، فبينا نحن على ذلك أتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر، والعرق: المكتل. قال: أين السائل؟ فقال: أنا. قال: خذ هذا فتصدق به. فقال الرجل: أعلى أفقر مني يا رسول الله؟ فوالله ما بين لابتيها، يريد الحرتين، أفقر من أهل بيتي، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، حتى بدت أنيابه، ثم قال: أطعمه أهلك.

قد ذهب غير واحد من أهل العلم إلى أن هذا إنما (كان) خاصا لذلك الرجل، وذهب آخرون إلى أنه منسوخ، إذ كان قول عامة أهل العلم بخلافه. وقال أبو بكر الأثرم: سألت البويطي عن ذلك، فقال: هذا رجل وجبت عليه الرقبة فلم تكن عنده. وقيل له: صم شهرين فلم يطق. فقيل له: أطعم ستين مسكينا، فلم يكن عنده، فأمر له النبي صلى الله عليه وسلم بما يتصدق به، فأخبره أنه ليس بالمدينة أحد أحوج إلى الصدقة منه. وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا صدقة إلا عن ظهر غنى) فلم ير لهذا أن يتصدق على غيره ويترك نفسه، ولم يكن له أن يترك عياله ويطعم غيرهم، فلما نقص عن ذلك الطعام قدر ما أطعم عياله صار طعاما لا يكفي ستين مسكينا، فسقطت عنه الكفارة في ذلك، وكانت باقية عليه إلى أن يجدها.

(33) (باب الصوم في السفر والإفطار)

(33) (باب الصوم في السفر والإفطار) 418/ 1941 - قال أبو عبد الله: حدثنا علي بن عبد الله، قال: حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق الشيباني، سمع ابن أبي أوفى قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فقال لرجل: (انزل فاجدح لي) قال: يا رسول الله! الشمس. قال: (انزل فاجدح). قال: يا رسول الله! الشمس. قال: (انزل فاجدح)، فنزل فجدح له فشرب ثم رمى بيده ههنا ثم قال: (إذا رأيتم الليل أقبل من ههنا فقد أفطر الصائم). الجحد: أن يخاض السويق بعود أو نحوه، ويسمى ذلك العود المجدح وهو المِخْوَض. وفيه استحباب تعجيل الإفطار، وإنما أشار بيده إلى ناحية المشرق، فإن الليل وهو أويِّل الظلمة لا يقبل من ذلك الشق إلا وقد سقط الفرض. ومعنى (أفطر الصائم) دخل في وقت الفطر، كقولك: أصبح الرجل وأمسى ونظائرهما، وقد يكون معناه أنه مفطر في الحكم وإن لم يطعم شيئاً.

(40) (باب متى يقضى قضاء رمضان؟)

(40) (باب متى يقضى قضاء رمضان؟) 419/ 1950 - قال أبو عبد الله: حدثنا أحمد بن يونس، قال: حدثنا زهير، قال: حدثنا يحيى، عن أبي سلمة، قال: سمعت عائشة تقول: كان يكون علي الصوم من رمضان، فما أستطيع أن أقضي إلا في شعبان. فيه دليل على أن تأخير القضاء جائز، موسع عليه في الأشهر العشرة، وأنه ينحصر في شعبان، وتصير أيامه متعينة لقضاء الصوم، ولذلك صار من صار من الفقهاء إلى أنه إن لم يقض الفائت حتى انسلخ شعبان، كان عليه الكفارة، لكل يوم من الفائت مدا من الطعام، وهو قول مالك والشافعي وأحمد بن حنبل، وقد روي ذلك عن ابن عباس، وإنما كانت تؤخره

عائشة رضي الله عنها لاشتغالها بقضاء حقوق رسول الله صلى الله عليه وسلم، في العشرة والخدمة. وفيه دلالة على أن حق الزوج مقدم على سائر الحقوق، ما لم يكن فرضا محصورا بوقت. وفيه دليل على أن للزوج منعها من الخروج إلى الحج.

(42) (باب من مات وعليه صوم)

(42) (باب من مات وعليه صوم) 420/ 1952 - قال أبو عبد الله: حدثني محمد بن (خالد)، قال محمد بن موسى بن أعين، قال: حدثنا أبي، عن عمرو بن الحارث، عن عبيد الله بن أبي جعفر، أن محمد بن جعفر حدثه عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه).

هذا في الصوم الواجب، مثل قضاء رمضان أو صوم النذر، وقد قال بظاهر هذا الحديث أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وقال: يصوم عنه وليه. وقال أصحاب الرأي والشافعي في أكثر الفقهاء: لا يصوم أحد عن أحد، وشبهوه بالصلاة، إذ كل واحد منهما عمل على البدن، وتأولوا الحديث على أنه يكفر عنه بالإطعام فيقوم ذلك مقام الصيام عليه.

(55) (باب حق الجسم في الصوم)

(55) (باب حق الجسم في الصوم) 421/ 1975 - قال أبو عبد الله: حدثنا ابن مقاتل، قال: أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الأوزاعي، عن يحيى بن [أبي] كثير، قال: حدثني أبو سلمة، قال: حدثني عبد الله بن عمرو بن العاص، قال (لي) رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألم أخبر أنك تقوم الليل وتصوم النهار؟) فقلت: بلى يا رسول الله. قال: (فلا تفعل، صم وأفطر، [وقم] ونم، إن لجسدك عليك حقا، وإن لعينك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا، وإن لزورك عليك حقاً).

الزور: الزائر، والمصادر كثيرا ما توضع موضع الأسماء والصفات، كقولهم: رجل صوم أي صائم، ونوم، أي نائم، ومنه حديث أبي رافع أنه وقف على لاحسن بن علي وهو نائم، فقال: أيها النوم، يريد النائم. وفيه أن لرب المنزل إذا نزل به الضيف أن يفطر لأجله إيناسا له وبسطا منه. وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه)، وذلك من إكرامه إياه. والزور أيضا جمع الزائر، كقولهم: راكب وركب، وتاجر وتجر.

(62) (باب الصوم من آخر الشهر)

(62) (باب الصوم من آخر الشهر) 422/ 1983 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو النعمان، قال: حدثنا مهدي بن ميمون، قال: حدثنا غيلان بن جرير، عن مطرف، عن عمران بن حصين، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سأل رجلا فقال: يا فلان، أما صمت سَرَرَ هذا الشهر؟ قال: أظنه قال: يعني رمضان. قال الرجل: لا يا رسول الله. قال: (فإذا أفطرت فصم يومين). هكذا جاء في الحديث (أظنه يعني رمضان)، وجاءت الأحاديث كلها بخلافه، وإنما هو شعبان، إذ لا معنى لأمره إياه بصيام سرر رمضان، إذ كان ذلك مستحقا عليه نحو الفرض في جملة الشهر، وكذلك رواه حماد عن ثابت عن مطرف

والجريري، عن أبي العلاء، عن مطرف، قال: هل صمت من سرر شعبان؟ هكذا قالا، وذكر رمضان وهم. والله أعلم. والسرر والسرار: آخر الشهر، وسمي سررا لاستسرار القمر فيه، وقد يتأول معنى ذلك على أن هذا الرجل قد كان أوجبه على نفسه بنذر فأمره بالوفاء به، أو كان ذلك عادة له قد اعتادها، فأمره أن يحافظ عليها، وإنما تأولناه على هذا المعنى لنهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يستقبل الشهر بيوم أو يومين.

(14) (باب لا يتقدم رمضان بصوم يوم ولا يومين)

(14) (باب لا يتقدم رمضان بصوم يوم ولا يومين) 423/ 1914 - قال أبو عبد الله: حدثنا مسلم، قال: حدثنا هشام، قال: حدثنا يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين، إلا أن يكون رجل كان يصوم صومه فليصم ذلك اليوم).

(59) (باب صوم داود عليه السلام)

(59) (باب صوم داود عليه السلام) 424/ 1979 - قال أبو عبد الله: حدثنا آدم، قال: حدثنا شعبة، قال: حدثنا حبيب بن أبي ثابت، قال: سمعت أبا العباس المكي -وكان شاعرا، وكان لا يتهم في حديثه- قال: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنك لتصوم الدهر وتقوم الليل). فقلت: نعم، قال: (إنك إذا فعلت ذلك هجمت له العين، ونفهت له النفس، لا صام من صام الدهر، صوم ثلاثة أيام صوم الدهر كله). قال: فإني أطيق أكثر من ذلك. قال: (فصم صوم داود، كان يصوم يوما ويفطر يوما، ولا يفر إذا لاقى). قوله: (هجمت له العين) معناه سقطت وغارت. وقوله: (نفهت) معناه أعيت وكلت.

والمعنى أن المؤمن لم يتعبد بالصوم فقط حتى إذا أمعن فيه واجتهد كان قد قضى حق التعبد كله، وإنما تعبد بأنواع من العمل كالجهاد والحج ونحوهما، فإذا استفرغ جهده في الصوم، فبلغ به حد غور العين، وكلال البدن، انقطعت قوته، وبطلت سائر أبواب العبادة، فأمره بالاقتصاد في الصوم ليستبقي بعض القوة لسائر الأعمال. وقوله: (لا صام من صام الدهر) يكون بمعنى الدعاء عليه، وقد تكون أيضا (لا) بمعنى (لم) كقوله {فلا صدق ولا صلى}، وكقول أمية: إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك لا ألما وقوله عند ذكر داود (وكان لا يفر إذا لاقى) يؤيد ما قلناه، يريد أنه كان لا يستنفد وسعه الصوم، وإنما كان يصوم يوما ويفطر يوما، استبقاء لقوته من أجل الجهاد لئلا يضعف، فإنه كان لا يفر إذا لاقى.

(64) (باب هل يخص شيئا من الأيام؟)

(64) (باب هل يخص شيئا من الأيام؟) 425/ 1987 - قال أبو عبد الله: حدثنا مسدد، قال: حدثنا يحيى، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم عن علقمة قال: قلت لعائشة رضي الله عنها: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يختص من الأيام شيئا؟ قالت: لا. كان عمله ديمة، وأيكم يطيق ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطيق؟ قولها: (ديمة) أي دائما، لا ينقطع، ولذلك قيل للمطر الذي يدوم ولا يقلع أياماً: ديمة.

(67) (باب صوم [يوم] النحر)

(67) (باب صوم [يوم] النحر) 426/ 1994 - قال أبو عبد الله: حدثني محمد بن المثنى، قال: حدثنا معاذ، قال: أخبرنا ابن عون، عن زياد بن جبير، قال: جاء رجل إلى ابن عمر، فقال: رجل نذر أن يصوم يوما -أظنه قال الاثنين- فوافق يوم عيد. فقال ابن عمر: أمر الله بوفاء النذر، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم هذا اليوم. قلت: قد استعمل ابن عمر في هذا حكم الورع، فتوقف عن الفتيا فيه. فأما فقهاء الأمصار، فإنهم قد اختلفوا في هذه المسألة على قولين: قالوا في الرجل إذا نذر أن يصوم اليوم الذي يقدم فيه فلان، فقدم يوم العيد، قال بعضهم: إنه لا يصومه، ولا قضاء عليه. وقال آخرون: لا يصومه وعليه القضاء. وكلا

القولين قد حكي عن الشافعي، رحمه الله، وذهب بعض الفقهاء إلى أن الأمر والنهي إذا التقيا في محل قدم النهي. وقد ذهب بعضهم إلى أن النذر في قدوم (فلان) لا يصح؛ لأنه لا يجد محلا من وقت الصوم؛ لأنه إن قدم ليلا فلا يكون عليه صوم؛ لأنه لم يصادف النهار الذي هو محل للصوم، وإن قدم نهارا، فإنه لا يمكن قدومه إلا وقد مضى بعضه، وإنشاء صوم يوم واجب قد مضى بعضه غير ممكن.

كتاب فضل ليلة القدر

كتاب فضل ليلة القدر (5) (باب العمل في العشر الأواخر من رمضان) 427/ 2024 - قال أبو عبد الله: حدثنا علي بن عبد الله، قال: حدثنا سفيان، عن أبي يعفور، عن أبي الضحى، عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله. قولها: (شد مئزره) معناه هجران النساء، ويحتمل أن تكون قد أرادت أيضا الجد والانكماش في العبادة.

(65) (باب صوم يوم عرفة)

كتاب الصوم (65) (باب صوم يوم عرفة) 428/ 1989 - قال أبو عبد الله: حدثني يحيى بن سليمان، قالك حدثني ابن وهب -أو قرئ عليه- أخبرنا عمرو، عن بكير، عن كريب، عن ميمونة أن الناس شكوا في صيام النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة، فأرسلت إليه بحلاب، وهو واقف بالموقف، فشرب منه والناس ينظرون. الحلاب ههنا اللبن المحلوب، وقد يكون الحلاب أيضا الإناء الذي يحلب فيه اللبن وفيه الاستحباب للإفطار بعرفة لمن شهدها، وإنما جاء (الترغيب) لمن غاب عنها.

كتاب صلاة التراويح

كتاب صلاة التراويح (1) (باب فضل من قام رمضان) 429/ 2009 - 430/ 2010 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: حدثنا مالك، عن ابن شهاب، وذكر حديثا ثم قال: وعن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عبد الرحمن بن عبد القاري، أنه قال: خرجت مع عمر بن الخطاب ليلة في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقون، يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط. فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب، ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم. فقال عمر: نعم البدعة هذه. الأوزاع: الجماعات المتفرقة، ولا واحد لها من لفظها. والرهط: ما بين الثلاثة إلى العشرة.

وقوله: (نعم البدعة هذه) إنما دعاها بدعة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسنها لهم، ولا كانت في زمان أبي بكر، وإنما أثنى عليها ورغب فيها بقوله: (نعم) ليدل على فضلها، ولئلا يمنع بهذا اللقب من فعلها. ويقال: نعم كلمة تجمع المحاسن كلها، وبئس كلمة تجمع المساوئ كلها. قلت: وقيام رمضان جماعة سنة في حق التسمية، غير بدعة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر)، وقال: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي).

كتاب الاعتكاف

كتاب الاعتكاف (2) (باب الحائض ترجل رأس المعتكف) 431/ 2028 - قال أبو عبد الله: حدثني محمد بن المثنى، قال: حدثنا يحيى، عن هشام، قال: أخبرني (أبي)، عن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصغي إلي رأسه وهو مجاور في المسجد فأرجله وأنا حائض). المجاور: المعتكف. وفيه بيان أن المعتكف لا يخرج من المسجد إلا لحاجة الإنسان. وفيه دليل على أن من حلف لا يدخل بيتا فأدخل رأسه لم يحنث. وفيه دليل على أن بدن الحائض طاهر غير نجس، وأن لا يجتنب منها إلا موضع الدم.

(7) (باب الأخبية في المسجد)

(7) (باب الأخبية في المسجد) 432/ 2034 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: حدثنا مالك، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة بنت عبد الرحمن (عن عائشة) أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يعتكف فلما انصرف إلى المكان الذي أراد أن يعتكف إذا أخبيةٌ: خباء عائشة، وخباء حفصة، وخباء زينب، فقال: (آلبر تقولون بهن؟) ثم انصرف فلم يعتكف حتى اعتكف عشرا من شوال. قوله: (آلبر تقولون) يريد: آلبر تظنون بهن في صنيعهن هذا؟ والقول في هذا المعنى: الظن كقول الشاعر:

متى تقول القلص الرواسما يلحقن أم عاصم وعاصما أي متى تظن، ولذلك أعمله فيما بعده.

(8) (باب هل يخرج المعتكف لحوائجه إلى باب المسجد؟)

(8) (باب هل يخرج المعتكف لحوائجه إلى باب المسجد؟) 433/ 2035 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو اليمان، قال: أخبرنا شعيب، عن الزهري، أخبرني علي بن الحسين، أن صفية -زوج النبي صلى الله عليه وسلم- أخبرته أنها جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوره في اعتكافه في المسجد في العشر الأواخر من رمضان، فتحدثت عنده ساعة، ثم قامت تنقلب، فقام النبي صلى الله عليه وسلم معها يقلبها، حتى إذا بلغت إلى باب المسجد عند باب أم سلمة، مر رجلان من الأنصار، فسلما على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: (على رسلكما، إنما هي صفية بنت حيي) فقالا: سبحان الله! يا رسول الله! وكبر عليهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان ليبلغ من الإنسان مبلغ الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً).

بلغني عن الشافعي رحمه الله أنه قال في معنى هذا الحديث: إن النبي صلى الله عليه وسلم خاف عليهما الكفر، (لو) ظنا به ظن التهمة، فبادر إلى إعلامهما بمكانها، نصيحة لهما في حق الدين، قبل أن يقذف الشيطان في نفوسهما أمرا يهلكان فيه، هذا أو معناه.

(15) (باب من لم ير عليه إذا اعتكف صوما)

(15) (باب من لم ير عليه إذا اعتكف صوما) 434/ 2042 - قال أبو عبد الله: حدثنا إسماعيل بن عبد الله، عن أخيه، عن سليمان، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن عبد الله بن عمر بن الخطاب أنه قال يا رسول الله، إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أوف بنذرك)، فاعتكف ليلة. فيه دليل على أن الاعتكاف جائز لغير الصوم. وفيه دلالة على أن نذر الجاهلية إذا كان على وفاق حكم الإسلام كان معمولا به. وفيه دلالة على أن من حلف في كفره ثم أسلم فحنث أن الكفارة واجبة عليه، وإليه ذهب الشافعي. وقد يستدل به من يرى على الكافر يسلم وقد أجنب في حال كفره الاغتسال واجباً.

كتاب البيع

ومن كتاب البيع (1) (باب ما جاء في قول الله عز وجل: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله}) 235/ 2047 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو اليمان، قال: أخبرنا شعيب، عن الزهري، قال: أخبرني سعيد بن المسيب، وأبو سلمة أن أبا هريرة قال: إنكم تقولون إن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون ما بال المهاجرين والأنصار لا يحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل حديث أبي هريرة؟ وإن أخوتي من المهاجرين كان يشغلهم سفق بالأسواق، وكنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني، فأشهد إذا غابوا وأحفظ إذا نسوا، وكان يشغل إخوتي من الأنصار عمل أموالهم.

قوله: سفق بالأسواق، يريد: صفق الأكف عند البيع، والسين قد تبدل مكان الصاد مع القاف، وأحرف معدودة. قال الخليل: كل صاد تجيء قبل القاف وكل سين تجيء بعد القاف فلللعرب فيها لغتان: منهم من يجعلهما سينا. ومنهم من يجعلهما صادا. لا يبالون متصلة كانت بالقاف أم منفصلة، بعد أن يكونا في كلمة واحدة، إلا أن الصاد في بعض أحسن والسين في بعض أحسن. وكانوا إذا تبايعوا تصافقوا بالأكف، فيكون ذلك أمارة انتقال الملك وانبرام البيع من المتبايعين، ويشبه أن يكونوا إنما يفعلون ذلك من أجل أن الأملاك إنما تضاف إلى الأيدي، والقبوض تقع بها، فإذا تصافقت الأكف فقد انتقلت الأملاك، واستقرت كل يد منها على ما صار إلى كل واحد من ملك صاحبه، وكان المهاجرون قوما تجارا، لم يكن لهم في ديارهم زرع ولا نخل، وكان معاشهم بالمدينة البيع والشراء في الأسواق، وكان الأنصار أصحاب نخل وزرع، فكانوا يعملون في أموالهم أكثر النهار، فيغيبون عن حضرة

رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما يغيب المهاجرون، فلا يسمعون من حديثه إلا ما كان يحدث به في أوقات شهودهم عنده، وأبو هريرة حاضر دهره فلا يفوته شيء منه، إلا ما شاء الله، ولا يستولي عليه النسيان لصدق عنايته بضبطه وقلة اشتغاله بغيره، ثم قد لحقته الدعوة من رسول الله صلى الله عليه وسلم فتمت له البغية، وقامت له به الحجة على من أنكر أمره واستغرب في ذلك شأنه.

(1) (الباب نفسه)

(1) (الباب نفسه) 436/ 2049 - قال أبو عبد الله: حدثنا أحمد بن يونس، قال: حدثنا زهير، قال: حدثنا حميد، عن أنس، أن عبد الرحمن بن عوف جاء النبي صلى الله عليه وسلم وعليه وضر من صفرة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (مهيم). قال: يا رسول الله، تزوجت امرأة من الأنصار، قال: ما سقت إليها؟ قال: نواة من ذهب أو وزن نواة من ذهب، قال: أولم ولو بشاة. قوله: (مهيم) يقال إنها كلمة يمانية تقع بها المسألة عن حال الإنسان وشأنه، كأنه يقول حين استنكر الصفرة التي رآها عليه: ما شأنك؟ والنواة ههنا زنة خمسة دراهم ذهب، اسم خاص لما يتقدر (منه) بهذا الوزن. كما قالوا في النش: إنه وزن عشرين درهما من الفضة.

قال أبو عبيد: كان بعض الناس يحمل معنى هذا على أنه قدر نواة من ذهب، كان قيمتها خمسة دراهم، ولم يكن ثم ذهب، إنما هي خمسة دراهم تسمى نواة، كما تسمى الأربعون أوقية، وكما تسمى العشرون نشا. قلت: أحسب أبا عبيد لم يقع في روايته وزن نواة من ذهب، وإنما سمعه: وزن نواة فقط، ويشبه أن يكون الصحيح أن النواة إنما هي ما يزن خمسة دراهم ذهبا كان أو فضة. وفي قوله: (أولم ولو بشاة) ما يدل على أن الوليمة وهي طعام العرس واجبة، كما أوجب الإجابة على من دُعي إليها، ويبه أن يكون إنما قدرها بالشاة لمن كان يقدر عليها، فأما من عجز فلا يَحْرَج إن اقتصر على ما هو أقل منها، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أولم على بعض نسائه بالسويق والتمر.

(2) (باب الحلال بين والحرام بين وبينهما مشتبهات)

(2) (باب الحلال بين والحرام بين وبينهما مشتبهات) 437/ 2051 - قال أبو عبد الله: حدثنا محمد بن كثير، قال: أخبرنا سفيان، عن أبي فروة، عن الشعبي، عن النعمان بن بشير، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهة، فمن ترك ما شبه عليه من الإثم كان لما استبان أترك، ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان، والمعاصي حمى الله، من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه). قلت: هذا الحديث أصل في الورع، وفيما يجتنب من الشبه، وكل شيء أشبه الحلال من وجه والحرام من وجه فهو

شبهة، والورع أن يجتنب فلا يقرب، وهو معنى ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك). وتأويل قوله: الحلال بين والحرام بين على معنيين: أحدهما: أن يكون ذلك في شيء من المأكول والمشروب والملبوس، وغيرها مما يملكه الآدميون إذا تيقن أن ذلك كان ملكا له، فإنه على يقين ملكه في ذلك لا يزول عن أصله إلا بيقين زوال الملك، والحرام بين: هو مال غيره وامرأة غيره وخادم غيره، لا يستحل شيئا من ذلك إلا بشرطه من نكاح أو ملك يمين أو هبة أو صدقة أو غير ذلك، وما بين ذلك فهو ما لم يتقدم له أصل من هذين الوجهين تحليل ولا تحريم بتقينه [يتيقنه]، كالشيء يجده في بيته وفي حيزه فلا يدري هو ملكه أو مال غيره، فالورع أن يجتنبه، ولا يحرم عليه أن يتناوله؛ لأن يده عليه قائمة، ومن هذا النحو قوله صلى الله عليه وسلم: (إني لأمر بالتمرة

الساقطة فلا آخذها خوفا أن تكون صدقة)، ورأى تمرة فقال: (لولا أني أخاف أن تكوني من الصدقة لأكلتك)، وقد يشتبه على الرجل في الليلة المظلمة فيطأ جارية غيره على أنها جاريته، فيكون ذلك شبهة في حكم الحلال، ويلزمه في ذلك المهر، ولا يجوز أن يقال: إنه زان، ولا يحد فيه، ولو لم يقدم على ذلك حتى يتثبت في ذلك ويستبرئ الشك فيه لكان قد استعمل الورع واحتاط باليقين في أمره. والمعنى الآخر: أن يكون الشيء الأصل (فيه) الإباحة أو الحظر، فما كان الأصل منه الإباحة، كالماء الذي

يتوضأ به والأرض التي يصلى عليها، ونحو ذلك من الأمور التي وجدت في أصل الفطرة على حكم الإباحة، حتى يطرأ عليها ما يغيرها عن حكمها الأول، فإنه لا يضيق في مذهب الورع استعماله على وجهه ولا يستحب اجتنابه، وإدخال الريب والشك على نفسه فيه، وما كان من ذلك في الأصل ممنوعا لا يستباح إلا بشرائط وأسباب قد أخذ علينا مراعاتها فيه، وفي الاستمتاع به، كالبهيمة لا يحل أكلها إلا بالذكاة، وشرائطها معلومة، والمرأة لا يحل نكاحها إلا بالعقد، وصفة ما يصح في العقد خصال معدودة، فإنه لا يجوز استعمال هذا النوع منه، ولا الاستباحة له ما لم يوجد تلك الأسباب مستوفاة بكمالها، والورع في مثل هذا فرض واجب. فأما الورع المستحب المندوب إليه، فهو ما يقع بين هذين الأصلين، مثل اجتنابم عاملة من يجتمع في ماله الحلال والحرام، كمن عرف بالربا في تجارته، وكمن صناعته صناعة محرمة، كاتخاذ آلات اللهو، ونقش التماثيل الصورة، وكاليهود والنصارى الذين يبيعون الخمور، وإن كانت لهم من غير هذه

الوجوه أملاك وأموال، فإن قضية الورع أن لا يعامل هؤلاء، ويجتنب أكل مالهم، وإن كانت في ظاهر الحكم غير محرمة، ما لم يتيقن أن الذي يأخذه منها ثمن العين المحرمة. وأما الورع المكروه فهو أن لا يقبل رخص الله تعالى التي رخص لعباده فيها، وخفف عنهم العبادة فيها كالإفطار في السفر وقصر الصلاة فيه، وترك إجابة الداعي، ورد الهدية، والتشدد والتشكك بحكم الخواطر، التي جماعها العنت والضيق والحرج. وحمله [وجملة] أمر الورع أنه إنما يقع في غالب الإمكان، لا في نادره، فإن رجلا من خراسان لو دخل بغداد فأراد أن يتزوج امرأة من عرض النساء، لم يكن عليه حظر في مذهب أحد من العلماء، وقد يمكن ولا يستحيل أن يكون أبوه أو جده قد كان دخلها في متقدم الأيام من حيث لم يعلم هذا الرجل ولا بلغه خبره فتزوج بها امرأة ودخل بها وولدت منه ابنة، فتكون هذه

المنكوحة أختاً له أو عمة له، إلا أن مثل هذا الإمكان من حيث لم يكن غالبا، بل كان شيئا نادرا، لم يعتبر في أبواب الورع، ولم يدخل فيها، لكنه من باب التعنت والحرج الموضوعين عن المسلمين نحو الدين. فهذه أقسام الورع وأبوابه. والحديث أصل في رياضة النفوس، وإصلاح الأولاد [؟] من الأخلاق، وكف النفس عن الشهوات، والانقطاع عن مساويء العادات.

(بابُ تَفْسيرِ المُشَبَّهاتِ) 438/ 2053 - قال أبو عبدِ الله: حدَّثنا يحيى بنُ قَزَعَةَ , قال: حدَّثنا مالكٌ , عن ابن شهاب , عن عُروة بنِ الزُّبير , عن عائشةَ , قالت: كان عُتبةُ بن أبي وَقاص , عَهِدَ إلى أخيه سعَد بن أبي وَقاص أن ابن وَليدَة زَمْعَة , مِنِّي فاقبضه إليك. قال: فلما كان عام الفتح أخذه سعد وقال: ابن أخي كان قد عَهِدَ إلي فيه. فقال: عَبْدُ بن زَمْعَة: أخي , وابن وَلِيدة أبي , ولَدَه على فِراشه. فقال النبي , صلى الله عليه وسلم: " هو لك يا عبد بن زمعة " , ثم قال النبي , صلى الله عليه وسلم: "الولد للفراش وللعاهر الحَجَر". ثم قال النبي , صلى الله عليه وسلم , لسَودة بنت زَمْعَة - زوج النبي , صلى الله عليه وسلم - " احتجبي منه " , لما رأى من شبهه بعُتبة , فما رآها حتى لَقِيَ الله.

قلت: كان من عادات أهل الجاهلية مخارجة الولائد وإلزامهن ضرائب معلومة في كل يوم، ثم يسيبونهن يكسبن بأنواع الخدمة من دبغ وغزل وطبخ وكن إلى ذلك يبغين فيؤدين الضرائب، وكان سادتهن لا يمتنعون مع ذلك من الإلمام بهن، فإذا حملت الجارية ووضعت استلحق سيدها ولدها إذا ظن الولد منه، فإذا اشتبه أمر الولد دعى له القافة وكانت قصة وليدة زمعة من هذا النوع، وكان حكم الإسلام أن الولد للفراش , أي: لصاحب الفراش , فحكم النبي , صلى الله عليه وسلم , فيه بظاهر حُكم الدين , وألحَقَ الولد بِزَمْعَة , ثم نظر إلى شَبَه المولود بُعتبة , والشَّبّه مع عدم الفراش نوع من الدلالة , وبه تحكم القافة , فأشار النبي , صلى الله عليه وسلم , إلى سَودة بنت زَمعة أن تحتجب منه , ولا يدخل إليها دخول الإخوة إلى الأخوات , وذلك من باب الوَرَع الباطن , وإن كان في حكم الظاهر قد حكم له بأُخُوَّته , فلو مات كانت تَرِثه , إن لم يكن هناك من يَحجُبها من الإرث.

وفيه من الفِقه: أن الأَمَة فِراش كالحرة إذا كان السيد أقَرَّ بوطئها. وقوله: " وللعاهر الحجر" , معناه: الخيبة , والحرمان , أي: لا يَلحق به الولد , ولم يُرَد به حجارة الرجم , إذ ليس يجِب الرجم على كل زان , إنما يجب على المُحْصَن من الزُّناة.

(الباب نفسه) 439/ 2054 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو الوليد , قال: حدثنا شُعبة , قال: أخبرني عبد الله بن أبي السَّفَر , عن الشَّعْبي , عن عَدِي بن حاتم , قال: سألت النبي , صلى الله عليه وسلم , عن المِعْراض , فقال: " إذا أصاب بِحَدِّه فَكُل , وإذا أصاب بعَرْضِه , فقتل , فلا تأكل منه , فإنه وَقِيذ ". قلت: يا رسول الله , أُرسِلُ كلبي , وأُسَمِّي , فأجد معه كلبا آخر , لم أُسَمِّ عليه , ولا أدري أيهما أخذ. قال: "لا تأكل , إنما سَمّيت على كلبك ولم تسمِّ على الآخر ". المِعراض: نَصْل عريض , له ثِقْل ورزانة , فإذا أصاب بِحَدِّه فقطع , فصارت الرَّمِيَّة مُذَكّاة , وإذا أصاب بعرضه وقَذَ , فصارت مِيتة.

وأما قوله: فأجدُ معه على الصيد كلب آخر , لم أسمِّ عليه. فالمعنى: أنه لم يرسلْه على الطريدة , فيُسمي عليه. فإذا شاركه مالم يرسلْه فيها فلم يَدْرِ أيهما عَقَرَ الصيد , وكان في الأصل على الحظر, لم يَزُل الحظر منه إلى الإباحة , إذ لا يقين فيه , وهذا من واجب الورع , ولازِمِه ليس من قِسْم غيره.

(باب ما يُتَنَزّه من الشبهات) 440/ 2055 - قال أبو عبد الله: حدثنا قَبيصَة , قال: حدثنا سفيان , عن منصور , عن طلحة , عن أنس , قال: مرَّ النبي , صلى الله عليه وسلم , بتمرة مسقوطة فقال: لولا أن تكون من الصدقة , لأكلتُها ". فيه من العِلم: أن التمرة ونحوها من اللَّقَط , لا يُستأسى بها الحول للتعريف , وإن لواجِدِها أكلَها على المكان. وفيه: دلالة على أنه لا يجب في اللُّقطة على واجدها أن يتصدق بها , ولو كان سبيلها أن يتصدق بها لم يَقُل لأكلتُها. وقوله: مَسْقوطة , يريد: ساقطة , والسُّقوط , لازم , لا يَتَعَدّى , إلا أنه أخرجها مُخْرَج مفعول , كما قيل: مِن أحب محبوب , وقد يجيء مفعول بمعنى فاعل , كقوله عزّ وجلّ: [إنه كان وعده مأتيا] , والمعنى آتيا , والله أعلم.

(13) (باب من أحب البسط في الرزق)

(13) (باب مَن أحبَّ البَسط في الرزق) 441/ 2067 - قال أبو عبد الله: حدثنا محمد بن أبي يعقوب الكرماني قال: حدثنا حسان , قال حدثنا يونس , قال: محمد , عن أنس بن مالك , قال: سمعت رسول الله , صلى الله عليه وسلم , يقول: " مَن سَرَّه أن يُبسط له , رِزقُه , ويُنسأ في أَثَره , فليَصِل رَحِمَه ". قلتُ: معنى " الأَثر " في هذا باقي العُمْر. قال كعب بن

زهير: والمرءُ ما عاش ممدودٌ له أمل ٌ لا تنتهي العينُ حتى ينتهي الأثرُ ويقال: نَسَأَ الله في عُمُرك , وأنْسَأَ الله عُمرك. وأصل النسأ: التأخير. ومنه قوله عزّ وجلّ: [إنما النّسيء زيادة في الكفر] وهو تأخير المحَرَّم إلى صَفَر.

(14) (باب شراء النبي صلى الله عليه وسلم بالنسيئة)

(14) (باب شراء النبيّ صلى الله عليه وسلم بالنسيئَة) 442/ 2069 - قال أبو عبد الله: حدّثنا مُسلم بنُ إبراهيم , قال: حدّثنا هشام , قال: حدثنا قتادة , عن أنس قال: وحدثني محمد بن عبد الله بن حَوشَب , قال: حدثنا أسْباط - أبو اليَسع البصري , - قال: حدثنا هشام الدَّستُوائي , عن قتادة , عن أنس أنه مشى إلى النبي , صلى الله عليه وسلم, بخبز شعير , وإهالة سَنِخَة , ولقد رَهَنَ النبي , صلى الله عليه وسلم , دِرْعا له بالمدينة عند يهودي , وأخذ منه شعيرا لأهله. الإهالة: الوَدَك. والسَنِخَة: المتغيرة الريح من طول الزمان.

وفيهِ: جواز الرهن في الحَضَر , وإنما جاء ذكره في الكتاب بشرط السَّفَر , وهو قوله عزّوجلّ: [وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهانٌ مقبوضة]. وفيه: معاملة من يُظنّ في ماله الحرام , مالم يُتيقن أن المأخوذ منه عينُ الحرام , وذلك أن اليهود يستبيحون الربا , وبيع الخمور , ونحوها من الأشياء التي هي محرمة علينا.

(15) (باب كسب الرجل وعمله بيده)

(15) (باب كسبِ الرّجل وعملِه بيدِه) 443/ 2070 - قال أبو عبد الله: حدثنا إسماعيل بن عبد الله , قال: حدثني ابن وَهْب , عن يونس , عن ابن شهاب , أخبرني عروة بن الزُّبير أن عائشة , قالت: لما استُخْلِف أبو بكر الصديق , قال: لقد عَلم قومي أن حِرفتي لم تكن تَعْجِز عن مُؤنة أهلي , وشُغِلْتُ بأمر المسلمين , فيَأكل آل أبي بكر من هذا المال , ويَحْترف , للمسلمين , بإزاء ما يَأكل منه. حرف معنى الحِرفَة في هذا: الكَسْبُ. وقوله: يَحْتَرِف , يريد: أن يكتسب للمسلمين بإزاء ما يأكل من أموالهم.

وفيه: البيان أن للعامل أن يأخذ من عَرَض المال الذي يعمل فيه , ما يَستحِقه لعمالته إذا لم يكن فوقه إمام يَقْطَع له أجرة معلومة , وقد رُوِي عن النبي , صلى الله عليه وسلم , أنه قال: " ما تركت صَدقة بعد نَفَقة أهلي , ومُؤْنَة عامِلي " , ومعنى الآل في هذا الأهل.

(19) (باب إذا بين البيعان , ولم يكتما , ونصحا)

(19) (باب إذا بَيَّن البَيِّعان , ولم يَكْتُما , ونَصَحا) ويذكر عن العَدَّاء بن خالد , قال: كَتَب لي النبي , صلى الله عليه وسلم: " هذا ما اشترى محمد رسول الله من العَداء بن خالد بَيْع المسلم من المسلم , لا داء ولا خِبْثَة , ولا غائلة " قال: وقال قَتادَة ـــــ: الغائلة: الزِّنا , والسرقة , والإباق.

قُلتُ: معنى الغائلة: ما يَغتال حَقك من حيلة , وما يُدَلِّس عليكَ في الغَيب من عَيب. والداء: ما يكون بالرقيق من الأدواء التي يُرِدُّ بها , كالجنون , والجُذام , والبَرَص , ونحوها من الآفات , والخِبْثَة: ما كان خبيث الأصل , مثل أن يُسبى من له عَهْد. يقال: هذا سَبْيٌ خِبَثَة: إذا كان ممن يَحرُم سَبْيُه , وهذا سَبْيٌ طِيَبَة ــــ على وزن الخِيَرَة ــــ إذا كان ممن يَطيب سَبيه , ويَحِل استرقاقه.

(25) (باب موكل الربا)

(25) (باب مُوكِل الرِّبا) 444/ 2086 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو الوليد , حدثنا شعبة , عن عَوْن بن أبي جُحَيْفَة , قال: رأيت أبي , اشترى عبدا حَجاما , فسألته ــــــ يَعني تكسير مَحاجمه ـــــ , فقال: نهى النبي , صلى الله عليه وسلم , عن ثَمَن الكلب , وثَمن الدم , ونهى عن الواشمة , والمَوشومة , وأكل الربا وموكِله , ولَعَن المُصوّرين. قلتُ: نَهيُ النبي , صلى الله عليه وسلم , عن ثَمَن

الكلب , يُوجب فساد بَيع الكلب , لأن العَقْد أحد طَرَفيه الثَّمَن , والآخر المُثَمّن , فإذا بَطَل أحدهما بَطَل الآخرى , وظاهر النهي يُوجبفساد المنهي عنه , إلا أن تقوم دلالة على خِلافه , وهذا هُو مَذْهب العلماء في قديم الدهر وحَديثه , ولا يُمكن أن يُتوصل إلى معرفة فساد الشيء بأمر أبْيَن من النهي عنه. ونَهيُه عن ثَمَن الدم , يُريد: أجْر الحَجَّام , نَهْي تَنْزيه , بدليل حديث محيِّصَة , حين قِيل له: أعّلِفْه ناضحك , ولأنه صلى الله عليه وسلم , احْتَجَم , فأعطى الحَجَّام أجْرَه , ولو كان حَراما لم يُعْطِه. والواشِمَة: هي التي تَشِمُ يَد صاحبتها المَوْشومَة , وذلك أن يُعَلِّمه بدارات ونُقوش غَرْزا بالإبر حتى تَدْمَى , ثم تُحْشَى بإثْمِد ونحوه , فإذا انْدَمَلَت بَقِيَت آثارها خُضْرا , نَهَى الفاعِلَة والمَفْعول

بها ذلك. لأنه من عَمَل الجاهلية. وفيه: تغيير الخَلْق. ومعنى قوله: نَهَى عن الواشمة , أي: فِعْل الواشمة. وأما أكْل الربا , فقد ذَكَر شَانه في كتابه , وأغْلظَ الوعيد له , وسَوَّى رسوله , صلى الله عليه وسلم , بينه , وبين مُوكِلِه , إذ كان لا يَتَوصَّل إلى أكله إلا بمُعاوَنَته ومُشارَكَته إيَّاه فهُما شريكان في الإثْم , كما كانا شريكين في الفِعْل , وإن كان أحدهما مغتَبطا بفِعله لما يَسْتَفْضِلُه من الرِّبح , والآخر مُهْتَضَما بما يَلْحَقُه من النَّقْص. ولله عزّ وجلّ حدود لا تُتَجاوز في وقت العُدْم والوُجْد , وعند اليُسْر والعُسْر , والضرورة لا تلحَقُه بوجه في أن يُوكلَه الربا , لأنه قد يَجِد السبيل إلى أن يَتَوَصَّل إلى حاجته بوجه من وجوه المُعامَلات والمُبايَعات. وأما لعنة المُصَوِّرين , فإنما يَنْصرِف ذلك إلى من يُصَوِّر الحَيوان دون الشَّجَر ونحوها من أشكال الأشياء , وقد رُوِيَ عنه صلى الله عليه وسلم , أنهم يُعَذَّبون في القيامة يقال لهم: " أحْيُوا ما خَلَقْتُم " , وليس في تصوير الشجَر ونحوِها من الفِتنة ما في تصوير الحَيَوان , فإن الأصنام التي عُبِدَت , إنما هي صور الحيوان , تُعْمَلُ , فَتُعْبَدُ من دون الله فالفتنة فيها أشَدُّ , والإثْم أعْظَم.

(30) (باب الخياط)

(30) (باب الخَيَّاط) 445/ 2092 - قال أبو عبد الله: حدّثنا عبد الله بن يوسُف , قال: أخبَرَنا مالك , عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طَلْحَة أنه سَمِعَ أَنَس بن مالك , يقول: إنّ خَيَّاطا دَعَا رسول اللهِ , صلى الله عليه وسلم , لطعام صَنَعَهُ , قال أنس بن مالك: فَذَهَبت مع رسول الله , صلى الله عليه وسلم , فَقَرَّب إليه خُبْزا ومَرَقا فيه دُبًّاءٌ وقَدِيدٌ , فرأيت النبي , صلى الله عليه وسلم , يَتَتَبّع الدُّبَّاء مِن حَوَالَي القَصْعَة , فلم أزَل أحِب الدُّبَّاء مِن يَومِئذ. فيه من الفِقْه: جَوَاز الإجارات , وذلك أنّ قَوما أبْطَلوها , فقالوا: إنها ليست بأعيان مَرْئيَّة , ولا صِفات مَعْلومة , وفي صَنْعَة الخِياطَة معنىً ليس في سائر ما ذَكَرَه أبو عبد الله في كتابه من ذكْر القَيْن والصّائغ والنّجار , وذلك أن , هؤلاء الصُّنَّاع إنما كون منهم الصّنْعَة المُحْصَنَة فيما يَسْتَصْنِعُه صاحِب الحَديد والخَشَب , وصاحب الذّهب والفِضّة , وهي من أمور الصّنْعة تُوقَفُ على حَدِّها ولا يَخْتَلِط بها غَيرها. والخَّياط إنما يَخِيط الثّوب في الأغلب بخُيوط من عنده , فيَجْمَع إلى الصَّنْعة الآلة. أو إحداهما معناها التجارة , والأخرى: معناها الإجارة , وحِصّة إحداهما لا تَتَميَّز مِن حِصَّة الأُخرى ,

وكذلك هذا في الخَرَّاز والصَّباغ إذا كان يَخْرُز , بخيوطه , ويصبغ هذا بصِبْغ من عنده على العادة المُعْتادة فيما بَيْن هؤلاء الصُّناع , وجميعُ ذلك فاسدٌ في القِياس. والأصل في هذا أنّ النبي , صلى الله عليه وسلم , قد وجَدَهم على هذه العادات أول زَمَان الشّريعة , فلم يُغَيِّرها , فصارت , الأمور بِمَعزِل عن موضوع أمْر القياس , فالعَمَل بها ماض , والمُعاملة عليها صحيحة لِما فيها من الإرفاق الذي لو طُولِبوا فيها بغَيْرِه لَشَقَّ عليهم , ودَخَل الضَّرَر في أمْوالهم , والله أعلم.

(34) (باب شراء الدواب والحمير)

(34) (باب شراء الدَّواب والحَمير) 446/ 2097 - قال أبو عبد الله: حدّثني محمد بن بَشَّار , قال: حدّثنا عبد الوهاب , قال: حدّثنا عُبيدُ الله , عن وَهْب بن كَيْسان , عن جابر بن عبد الله , قال: كُنت مع النبي , صلى الله عليه وسلم , في غَزَاة فأَبْطَأَ عليّ , جَمَلي وأعْيَا , فأتى النبي , صلى الله عليه وسلم , فقال: جابر؟ قُلت: نَعَم. قال: ما شَانُك؟ قلت: أبْطَأ عَلَيّ جَمَلِي وأعْيَا , فَجَعَل , يَحْجُنُه بِمِحْجَنِه. ثم قال: " اركبْ " , فركِبْت , فلقد رأيتُه أكُفُّهُ عن رسول الله , صلى الله عليه وسلم , قال: " تَزَوَّجْتَ "؟ قلت: نَعَم. قال: " بِكْرًا أو , ثَيِّبًا "؟ قلتُ: بَلْ ثَيِّبًا. قال: " أفلا جارِيَة تُلاعِبُها وتُلاعِبُك "؟ قلتُ: إنّ لي أخَوَاتٍ فأحْبَبْتُ أن أتَزَوَّجَ امرأة تقُوم عليهنّ. قال: " أما إنّك قادمٌ , فإذا قَدِمْتَ فالكَيْسَ الكَيْسَ ". ثُم قال: " أتَبِيعُ جَمَلَك "؟ قلت: نَعَم , فاشْتَراه منِّي

بأوقيّة ثم قَدِم رسول الله , صلى الله عليه وسلم , قَبلي , وقَدِمت بالغداة , فأمر بلالا أن يزِنَ لي أوقِيَّة فوَزَن لي بلال , فأرْجَح في الميزان , ثم قال لي النبي , صلى الله عليه وسلم ,: "خُذ جَمَلك , ولك ثَمَنه". قوله: " يَحْجُنه بمِحْجَنه " يريد , أنه , يتناوله به ويُحركه للسير. والمِحْجَن: عصا (في طرفها) , عُقَّافة. وقوله: الكَيْس الكيس. ذكره أبو عبد الله في موضع آخر من هذا الكتاب مقرونا بقوله: الكَيْس الكيس , أي: الوَلَد. قلت: وهذا مُشْكِل , وقد يحتمل ذلك وجهين: أحدهما: أن يكون قد حَضَّه على طلب الولد , وأَمَرَه باستعمال الكيس , والرفق فيه , وحسن التَّأني له, وكان جابر لا ولد له إذ ذاك. وقد يحتمل أن يكون قد أمَرَه بالتّوَقّي والحذر عند إصابة أهله , مخافة أن تكون حائضا , وقد طالت الغيبة عليه , امتدت أيام العُزْبة , فإذا باشَرَها لم يجْتَنِب المَأتى , وهو مَوضِع

الوَلَد , فَكَنى عنه بالوَلَد , والكَيْس: شِدّة المُحافظة على الشيء , كقول الشاعر: وفي بَني عبدِ دُبَير كَيْسُ على الطعام ما غنا غُبَيسُ وقد يكون معنى الكَيس: حُسن التّأديب , وكان علي , يقول: أما تَراني كَيِّسا مُكَيّسا بَنَيتُ بعد نافع مُخَيَّسا وفيه من الفقه أنّ الهبة الشائعة جائزة , وذلك أنّ مقدار الرجحان هبة شائعة , غير معلومة القدر.

(36) (باب شراء الإبل الهيم أو الأجرب)

(36) (باب شراء الإبِل الهِيم أو الأجْرَب) 447/ 2099 - قال أبو عبد الله: حدّثنا عليّ , قال: حدّثنا سُفيان , قال: قال عَمْرو: كان ههُنا رجل اسمه نَوَّاس , وكانت عنده إبل هِيم , فذَهب ابن عُمَر فاشترى تلك الإبِل من شَريك له , فجاء إليه شريكه , فقال: بِعنا تلك الإبل , فقال: ممَّن بِعْتَها؟ فقال: مِن شيخ كذا وكذا. فقال: وَيْحَك ذاك -والله- ابنُ عُمَر , فجاءه , فقال: إنّ شريكي باعك إبلا هيما , ولم يَعْرِفك. قال: فاسْتَقْها , فلما ذهب يَسْتاقها قال: دَعْها , رضِينا بقضاء رسول الله , صلى الله عليه وسلم: لا عَدْوى. لستُ أدري ما العدوى من هذا الحديث , وإنما الهِيم جماعة الأَهْيَم والهَيْما: وهو العطشان. ومنه قوله عزّ وجلّ: [فشاربون شُرب الهيم]. قيل: هي التي لا تَرْوى , فإن كان أراد هذا المعنى فما أرى أنّ

للعدوى مَدْخلاً في هذا , إلا أن يكون ذلك داء إذا رَعَت مَعَ سائر الإبل وأو تُرِكت معها ظُنّ بها العدوى , وقد يُحتمل أن يكون ذلك من الهُيام , وهو كالجنون , يُصيبها فلا تلزم القَصْد في سَيْرها , وهذا المعنى أيضا مثل الأوّل , إلا أن يكون يُصيبها ذلك من داء كما قلنا , والله أعلم.

(37) (باب بيع السلاح في الفتنة وغيرها)

(37) (باب بَيْع السّلاح في الفِتْنة وغيرها) 448/ 2100 - قال أبو عبد الله: حدّثنا عبد الله بن مَسْلَمة , عن مالك , عن يَحيَى بن سعيد , ابن أفْلَح عن أبي محمد - مولى أبي قتادة عن أبي قتادة قال: خرجنا مع رسول الله , صلى الله عليه وسلم, عام حُنين , فأَعْطانِيه , فبِعْت الدِّرْع , فابْتَعت به مَخْرَفا في بني سَلِمة , وإنه لأوّل مال تأَثَّلْتُه في الإسلام. المَخْرف: البُستان , وسُمِّي مَخْرَفا لِما يُخْتَرف من ثماره. فأما المِخْرَف - مكسورة الميم - فهو الوِعاء الذي يُجمع فيه خُرْفَة الثمار.

وأمّا قوله: تأَثَّلْته , فمعناه: اتَّخذته أصْل مال , وأثْلَةُ كلّ شيء: أصله. وقد سقط من هذا الحديث شيء , لا يتم الكلام إلا به , وهو أنه قَتل رجلا من الكُفار , فأعطاه النبي , صلى الله عليه وسلم , هذا الدِّرع من سَلَبه , وهو مذكور في الحديث من سائر الروايات.

(40) (باب التجارة فيما يكره لبسه للرجال والنساء)

(40) (باب التجارة فيما يُكره لُبْسُه للرجال والنساء) 449/ 2105 - قال أبو عبد الله: حدّثنا عبد الله بن يوسُف , قال: حدّثنا مالك , عن نافع , عن القاسم بن محمد , عن عائشة أنها أخبرته أنها اشترت نُمْرُقَة فيها تَصاوير , فلما رآها رسول الله , صلى الله عليه وسلم , قام على الباب , فلم يدخله للكراهية. فقلت: يا رسول الله , أتوب إلى الله , وإلى رسوله , ماذا أذنبت؟ فقال: " ما بال هذه النُمْرُقَة "؟ قلت: اشتريتها لتَقعُد عليها وتَوسَّدها. فقال النبي , صلى الله عليه وسلم: " إنّ أصحاب هذه الصُّوَر يوم القيامة يُعَذّبون , فيُقال لهم: أحْيُوا ما خَلَقْتُم. وقال: " إنّ البيت الذي فيه الصّوَر لا تدخله الملائكة ". النُمْرُقَة: الوِسادة. وفيه: بيان أنّ الصور أين ما وُجِدت في سَقْف بيت , أو وَجْه جِدار , أو فِراش , أو بِساط , كان لها شخصٌ ماثِل , أو لم يكُن فهي مُحرّمة. وقوله: " أحْيُوا ما خَلَقْتم " ريد: ما صوّرتم , وأصل الخلق: التقدير , وذلك أنّ الصور المنقوشة إنّما تُصوّر وتُقَدّر بصور الحيوان المخلوقة , فخرج الكلام على هذا المعنى , فقيل: خَلَقْتُم.

(42) (باب كم يجوز الخيار؟)

(42) (باب كَم يَجُوز الخِيار؟) 450/ 2107 - قال أبو عبد الله: حدّثنا صَدَقة , قال: أخبرنا عبد الوهاب , قال: سمعت يَحيَى , قال: سمعت نافعا , عن ابن عُمر , عن النبي , صلى الله عليه وسلم , قال: " المُتبايعان بالخِيار في بَيْعِهما ما لم يَتَفَرّقا , أو يكون البيع خِيارا ". قال نافع: وكان ابن عُمر إذا اشترى شيئا يُعجِبه فارق صاحبه. قلت: ظاهر التّفَرُّق من المُتَبايعين هو التّفرق بأبدانهما عن مقامهما الذي تعاقدا فيه البيع , وعَقَل ابن عُمر ذلك فكان يستعمِلُه , وهو رواي الحديث. ومعنى قوله: وأن يكون البيع خِيارا. هو أن يقول أحدهما لصاحبه , وهما بَعْدُ في المجلس: اختر , فإذا فعل ذلك انقطع الخِيار الأول الذي قد شُرِط فيه التفرق , وبيان ذلك في هذا الحديث من رواية أيوب.

(43) (باب إذا لم يوقت الخيار هل يجوز البيع)

(43) (باب إذا لم يُوَقِّت الخِيار هل يَجُوز البَيْع) 451/ 2109 - قال أبو عبد الله: حدّثنا أبو النُعمان , عن نافع , عن ابن عُمر , قال: رسول الله , صلى الله عليه وسلم: " البَيِّعان بالخِيار ما لم يتفرّقا. أو يقول أحدهما لصاحبه: اختر " , وربما قال: " أو يكون بَيْع خيار ". قلت: وأوْضَح من هذا , ومن الأول رواية الليث بن سعيد , عن نافع , عن ابن عمر.

(45) (باب إذا خير أحدهما صاحبه بعد البيع فقد وجب البيع)

(45) (باب إذا خَيَّر أحدهما صاحبه بعد البيع فقد وَجَب البيع) 452/ 2112 - قال أبو عبد الله: حدّثنا قُتيبة , قال: حدّثنا الليث , عن نافع , عن ابن عُمر , عن رسول الله , صلى الله عليه وسلم , قال: " إذا تبايع الرّجلان فكلّ واحد منهما بالخِيار ما لم يتفرَّقا , وكانا جميعا , أو يُخيِّر أحدهما الآخر , فتبايعا على ذلك فقد وَجَب البيع ". (وإن تفرّقا بعد أن يَتباعيا , ولم يَترك واحد منهما البيع فقد وَجَب البيع). قلت: قوله: " وكانا جميعا " يُبطل كلّ تأويل يَتَأوّلُه من خَالَف ظاهِر الحديث من أهل العراق وغيرهم , وكذلك قوله: " وإن تفرّقا بعد أن يَتَبايعا , ولم يتَرك واحد منهما البيع فقد وَجَب البيع ".

وفيه: أبْيَن دِلالَة على أنّ التَّفَرُّق بالبدَن هو القاطِع للخِيار , وأنّ للمُتَبايعَين أن يَتْرُكا البَيْع بَعْد عَقْدِه , ما داما في مجلسهما , ولَو كان معناه: التَّفَرُّق بالأداء لخلا الحديث عن الفائدة , لأنّ النّاس مُخَلَّوْن وآراءهم في أملاكهم قبل أن يَعْقِدوا عليها عقدا , ويُوجِبوا فيها لأحد حَقا , فأيّ فائدة في ذكر البَيْع إذَن. وإذا كان حقيقة البَيْعِ العَقْدَ فليس بَعد العَقْد تَفرّق إلا التزايل بالأبدان. وأما مالك؛ فقد رَوَى الحديث , ولم يَقُل به؛ فروايته حُجّة عليه , ورأيه في تَرْك القول به متروك , والله الموفّق.

(48) (باب ما يكره من الخداع في البيع)

(48) (باب ما يُكره من الخِداع في البَيْع) 453/ 2117 - قال أبو عبد الله: حدّثنا عبد الله بن يوسُف , قال: أخبرنا مالك , عن عبد الله بن دينار , عن عبد الله ابن عُمر أنّ رجلا ذُكِر للنّبي , صلى الله عليه وسلم , أنه يُخدَع في البُيوع , فقال: " إذا بايعتَ فقُل: لا خِلابة ". الخِلابة: مصدر خَلَبْت الرجل , إذا خَدَعْته , أخْلُبُه خَلْبا وخِلابَة. ويُقال: إنّ هذا الرّجل حَبَّان بن مُنْقِذ , جعل النبيّ , صلى الله عليه وسلم , هذا القول منه بمنزلة شَرْط الخِيار , ليكون له الرَّد إذا تبيَّن أنّه قد خُدِع. وقد قيل: إنه جاء خاصا فيه , وذهب بعضهم إلى أنّ الحُكم فيه عام. قال أحمد بنُ حنبل في بيع المُسترسِل: يُكره غَبْنُه ,

وعلى صاحب السَّلعة أن يَسْتَقْصي له , وقد حُكِي عنه أنه , قال: إذا بايعه فقال: لا خِلابة , فله الرّد. وفرَّق بعض الفقهاء في هذا بين يَسير الغبن وكثيره , فإذا بَلَغ القَدْر الذي لا يتغابن به النّاس كان له الرّد , وإن كان يسيرا فلا ردّ.

(49) (باب ما ذكر في الأسواق)

(49) (باب ما ذُكِر في الأسواق) 454/ 2119 - قال أبو عبد الله: حدّثنا قُتَيْبة , قال: حدّثنا جرير , عن الأعمش , عن أبي صالح , عن أبي هُريرة , قال: رسول الله , صلى الله عليه وسلم: " صلاة أحدكم في جماعة تزيد على صلاته في بيته وسُوقه بِضْعا وعِشرين درجة , ذلك بأنه إذا توضَّأ فأحْسَن الوُضوء , ثمّ أتَى المسجد , لا يُريد إلا الصلاة لا ينْهُزُه إلا الصلاة , لم يَخْطُ خطْوة إلا رُفِع له بها درجة , أو حُطّت عنها بها خطيئة ". قوله: " لا ينهزه " أصل النّهْز: الدّفع. يُقال: لَهَزَه ونَهَزَه , إذا دَفَعَه , ومنه انتِهاز الفُرصة , يريد أنه لا يُزْعِجه , ولا يُنْهِضه إلى المسجد إلا الصلاة.

(49) (الباب نفسه)

(49) (الباب نفسه) 455/ 2120 - قال أبو عبد الله: حدّثنا آدم بن أبي إياس , قال: حدّثنا شُعْبة , عن حُمَيد الطويل , عن أنس , قال: كان النبي , صلى الله عليه وسلم , في السّوق , فقال رجل: يا أبا القاسم! فالتَفَتَ إليه النبي , صلى الله عليه وسلم , فقال: إنّما دَعَوتُ هذا. فقال النبي , صلى الله عليه وسلم: " تَسَمَّوا باسمي , ولا تَكْتَنوا بكُنْيَتي ". قُلت: كان ابن سيرين يرى هذا النهي عامًّا , ولا يُجيز أن يُكنّى أحد بأبي القاسم سواءٌ كان اسمه محمدا , أو غيره من الأسماء. بلغنا عن الشافعي أنه كان يرى ذلك , ويقول: لا يحلّ لأحد أن يَكتَنِي بأبي القاسم , سواء كان اسمه محمدا , أو لم يكن. وقد قيل: إنّ المَكروه من ذلك أن (يُجمَع) بين هذا الاسم وهذه الكنية معا , فإذا لم ُيُجْمَعا فلا بأس بذلك , والله أعلم.

(49) (باب ما ذكر في الأسواق)

(49) (باب ما ذُكِر في الأسواق) 456/ 2122 - قال أبو عبد الله: حدّثنا عليّ بن عبد الله , قال: حدّثنا سفيان , عن عُبيد الله ــــ هو ابن أبي يَزيد ــــ عن نافع بن جُبير بن مُطعم , عن أبي هُريرة , قال: خَرَج النبي , صلى الله عليه وسلم , في طائفة النهار , لا يُكَلّمني , ولا أُكلّمه حتى أتَى سُوق بني قَيْنُقاع , فجلس بفناء بيت فاطمة , فقال: أثَمّ لُكَع , أثَمّ لُكَع؟ فحَبَسْته شيئا , فظننتُ أنها تُلبِسُه سِخابا , أو تُغسِّله , فجاء يشْتَدّ حتى عانقه وقبّلَه وقال: " اللهمّ إني أحِبُّه , فأحْبِبه , وأحِبّ من يُحِبُّه ". قوله: " أثَمّ لُكَع ": يُريد الحَسَن بن علي , رضي الله عنهما , وهذا يقال على معنيَيْن: أحدهما: على معنى الاستصغار , والآخر: على معنى الذمّ , والذي أراه في هذا الحديث هو المعنى الأوّل , سمَّاه لُكْعاً لِصِباه

وصِغَره , وأصله فيما حدّثني أبو رَجاء الغَنَوي , عن أبيه , سوّاز بن عبد الله , قال: (حدّثني أبي) , حدّثنا عبد الوارث بن سعيد , قال: سألتُ نُوح بن جَرير , عن اللُّكْع قال: نحنُ أرباب الحَمير نحنُ أعلم به , هو الجَحْش الرّاضع. فأما إذا أُريد به الذمّ , فكما رُوِي عنه , صلى الله عليه وسلم , من قوله: لا تَقوم السّاعة حتى يكون أسعدَ الناس بالدّنيا لُكْع ابن لُكْع " , أي: لئيم ابن لئيم. والسَّخاب: قِلادة يُتَّخَذ خَرَزها من الطِّيب من غير ذَهَبٍ ولا فِضَّة.

(49) (الباب نفسه)

(49) (الباب نفسه) 457/ 2123 - قال أبو عبد الله: حدّثني إبراهيم بن المُنذِر , قال: حدّثنا أبو ضَمْرَة , قال: حدّثنا موسى , عن نافع , عن ابن عُمَر أنهم كانوا يشترون الطّعام من الرُّكْبان على عَهْد النبيّ , صلى الله عليه وسلم , فبَعَث عليهم من يَمْنَعُهم أن يبيعوه حيث اشتروه حتّى ينقلوه. قُلت: هذا إنّما هو فيما يُشترى منه جَزافا دُون ما يُشترى منه كَيْلا , فإنّ القَبْض في الصُّبْرَة تباع جزافا , إنّما يقعُ بالنّقل , وفي المَكيل بالكَيْل , والقُبوض يَخْتَلِف في الأشياء حسب اختلافها في أنفسها , وعلى حَسَب عادات الناس فيها , فإن كان ما اشتراه من الطّعام كَيْلا , وحَصَل مَقْبوضا , فأراد أن يبيعه بالكَيْل الأوّل لم يَجُز لِنهي النبيّ , صلى الله عليه وسلم , عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصّاعان: صاع البائع , وصاع المُشتري , والمعنى

في ذلك , أنّ مَن ضَمِن شيئا كان له ربحه وفضلُه , وعليه نقْصُه وغُرْمُه , الكَيْل قد يختلف وليس كالوَزْن , فربّما حَصَل في الكَيْل الثاني فَضْل على الأوّل , فيكون ذلك للبائع , لأنّه من ضمانِه دون المُشتري , وربّما نَقَص فيكون عليه إيفاؤه , وذلك أنّ مَن باع شيئا كان عليه تسليمه , وتسليم الطعام المَكِيل إنّما يكون باكتِياله , وليس البائع الأوّل بائع هذا , ولا هو وكيل للبائع الثاني , فالتّسليم على هذا الوجه غير فاصِل. قُلتُ: وإنّما جرى الأمر على هذا في الكَيل , لأنّه يَدخُلُه الاجتِهاد , فصار التفاوُت الذي يقع فيه مُتَجاوَزا عنه , وليس كذلك عيار الوَزْن , فإنّه أمر محصور لا يَتَفاوت , فيجوز على هذا أن يبتاعه بالوزن , ثمّ يَبيعه من حَضَره بالوَزن الأوّل , والله أعلم.

(51) (باب الكيل على البائع والمعطي)

(51) (باب الكيل على البائع والمعطي) 458/ 2126 - قال أبو عبد الله: حدّثنا عبد الله بن يوسف , قال: أخبرنا مالك , عن نافع , عن عبد الله بن عُمَر أن رسول الله , صلى الله عليه وسلم , قال: " من ابتاع طعاما فلا يَبِعْه حتّى يسْتَوفيه ".

(55) (باب بيع الطعام قبل أن يقبض , وبيع ما ليس عندك)

(55) (باب بيع الطّعام قبل أن يُقبض , وبيع ما ليس عندك) 459/ 2135 - قال: حدّثنا عليّ بن عبد الله , قال: حدّثنا سُفيان , قال: الذي حفظناه من عمرِو بن دينار , سَمِع طاووسا , يقول: سمعت ابن عباس , يقول: أمّا الذي نَهى عنه النبي , صلى الله عليه وسلم , فهو الطّعام أن يُباع حتى يُقبَض. قال بان عباس: ولا أحْسِب كلّ شيء إلا مِثله. قُلت: قاسَ ابن عباس ما عدا الطّعام على الطّعام , بِعِلَّة أنّ عَيْن مَبيعِه لم تُقبَض , أو يكون إنّما قاله لنهي النبي , صلى الله عليه وسلم , عن ربح ما لم يُضمن , والشيء المَبيع ضمانُه قبل القبض على البائع , فلم يطِب للمشتري ربحُه.

(54) (باب ما يذكر في بيع الطعام , والحكرة)

(54) (باب ما يُذكر في بيع الطّعام , والحُكْرَة) 460/ 2132 - قال أبو عبد الله: حدّثنا موسى بن إسماعيل , قال: حدّثنا وُهَيْب , عن ابن طاوس , عن أبيه , عن ابن عبّاس , أنّ رسول الله , صلى الله عليه وسلم , نَهى أن يَبيع الرجل طعاما حتى يَستوفيَه. قلتُ لابن عباس: كيف ذاك؟ قال: " ذاك رداهمٌ بدراهم , والطّعام مُرْجأ ". قُلت: معنى قوله: والطعام مُرْجأ , أيّ مُؤجل غيرُ حاضر. يُقال: أرْجأتُ الشيء ورَجأته: إذا أخّرته , وقد يُتكلّم به مهموزا وغير مهموز , وتأوّل ابن عبّاس هذا على السلف , وهو أن يَشتري منه طعاما بمائةٍ دراهم إلى أجَل , فيَبيعه قبل أن يقبضه منه بمائة وعشرين , وهذا غير جائز لأنّه في التّقدير: بيعُ دراهم بدراهم , والطّعام مؤجلٌ غائبٌ غيرُ حاضر.

(58) (باب لا يبيع على بيع أخيه , ولا يسوم على سوم أخيه , حتى يأذن له أو يترك)

(58) (باب لا يبيع على بيع أخيه , ولا يسوم على سَوم أخيه , حتى يأذَن له أو يَترك) 461/ 2140 - قال أبو عبد الله: حدّثنا عليّ بن عبد الله , قال حدّثنا سُفيان , قال: حدّثنا الزُّهري , عن سعيد بن المُسَيَّب , عن أبي هُريرة , رضي الله عنه , قال: نهى رسول الله , صلى الله عليه وسلم , أن يبيع حاضر لبادٍ , ولا تناجَشوا , ولا يَبِع الرجل على بَيْع أخيه , ولا يَخْطُب على خِطْبَة أخيه , ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتَكْفَأ ما في إنائها. وأما نهي بيع الحاضر للبادي , فهو نهي كراهة من أجل منع الناس ما يَرْتفِق به بعضهم من بعض في البيانات, لا نهي إيجاب. وقد جاء في هذا الحديث مقرونا به من رواية أخرى: " دَعوا الناس يَرزق الله بعضهم من بعض ". وصاحب البادية إذا دَخل الحَضر بطعام , أو متاع غيره , فإنه إلا يُقيم ريثما يبيع

الشيء ويَنصرف , فإذا تَوكّل له الحاضر , وتربَّص بمتاعه حتى يبيعه , حَرَم النّاس زيادة الرِّفق فيه , وليس هذا بمخالف لنهيه عن تَلقّي الرُّكبان , والنّظر لهم في أمتعتهم والاحتياط لأموالهم , لأنّ من تلقّاهم ربّما كَذَبهم عن سعر السوق , وخَدَعهم عمَّا في أيديهم , فيستقيموا إلى قوله , فيُخرج الشيء من أيديهم بالوَكْس , ويكون فيه الغَبْن الكثير , وفي ذلك استعمال الغش , وترك النصح لهم , فأمّا إذا دخل البدويّ البلد , وشاهد السّوق والسِّعر فهو بخلاف الأوّل , لأنّ الغِّ فيه مأمون , والغَبْن مرفوع , وإنّما هو منع التجارة الحاضرة بأسعارها الجارية , ادِّخارا للأمتعة , وتربُّصا بها الغلاء. وفيه معنى الحُكرة , المنهيّ عنها , فلذلك تأوَّل النّهي عن تلقّي الرّكبان من تأوَّله من الفُقهاءعلى التّحريم , وكان ابن عبّاس يقول في قوله: " لا يَبيع حاضر لباد " ولا يكون له سِمسارا يَحْمِلُه على الأمْرَين معا البيع والشّراء.

وقال ابن سيرين: هي كلمة جامعة للبَيع والشّراء. وقوله: " لا تناجشوا " فإن النّجش أن يَزيد الرّجل في ثَمَن السِّلعة ولا يُريد شِراءها , ولكن لِيَسمعه غيره فيَزيد لزيادته , وفيه غُرور وخِداع , وأصل النّجَش: الخَتْل , والتناجُش: أن يكون ذلك من اثنين , يَفعل ذلك من أجل صاحبه , ليُكفأ فيه بمثله إذا كان هو البائع. وقوله: ولا يَبِع الرجل على بيع أخيه , فإنما هو بهد أن يَتعاقدا , وهما في مجلِسهما قبل أن يتفرّقا , فإذا جاء بمتاع أجْوَد منه , وأرخَص في السّعر , فعرَضه على المُبتاع , دعَته الرغبة فيه إلى فَسْخ البيع المتقدِّم , وفي ذلك إضرار بالبائع وإبخاس له , فأمّا ما دام المتبايعان متساوِمَين ومُتراوِدَين للبيع , فإنّ ذلك لا يدخُل في النّهي , ولا يُضَيّق على من فعَله , كبيع النبي , صلى الله عليه وسلم. القَدَح والحِلْس فيمن يَزيد. وقوله: " ولا يَخْطُب على خِطْبة أخيه " , فإنه هو أيضا على هذا المعنى , وهو أن يَرْكَن أحدهما إلى الآخر , ويَتواضعا للعَقْد , فأمّا قبل ذلك فلا يُضَيِق عليه. ألا ترى أنّ النبيّ ,

صلى الله عليه وسلم , قال لفاطمة بنت قيْس , لمّا جاءته تستشيره , وقد خطبها أبو الجَهْم , ومُعاوية: أمّا أبو الجهم فلا يَضَع عصاه عن عاتِقه , وأمّا مُعاوية فصُعلوك لا مال له , انكِحي أسامة. قالت: فتزوَّجتُ أسامة فاغتبطت به. وقوله: " ولا تَسأل المرأة طلاق أختها لِتَكْفَأ ما في إناءها " , فإنّ كَفْء الإناء قَلْبه وتحويل ما فيه إلى غيره , وهو مَثل يُريد به الحُظْوَة عند الزّوج , نهَى المرأة إذا رغب فيها الرجل , وعنده امرأة , أن تجعل شَرْط نكاحها طلاقه امرأته التي عنده , فتكون عند ذلك في استِبدادها , بالحَظّ عنده كَمَن قَلَب من إناء غيره ما فيه فحازه لنفسه.

(61) (باب بيع الغرر وحبل الحبلة)

(61) (باب بيع الغَرَر وحَبَل الحَبَلَة) 462/ 2143 - قال أبو عبد الله: حدّثنا عبد الله بن يوسُف , قال: أخبرنا مالك , عن نافع , عن عبد الله بن عُمر أنّ رسول الله , صلى الله عليه وسلم , نَهى عن بيع حَبَل الحَبَلَة , وكان بيعا يَتَبايَعُه أهل الجاهلية , وكان الرّجل يَبتاع الجَزور إلى أن تُنتِج الناقة , ثمّ تُنتِج الذي في بَطْنها. قُلتُ: " ثُمَّ تُنْتِج " , إنّما فَسَد هذا البيع , وبَطَل من أجل الغَرَر , وذلك لأنه لا يَدْري هل تُنْتِج تلك الناقة , أم لا تُنتِج إن بَقِيَت؟ ورُبّما هَلَكت قبل أن تَحْمِل وتَلِد , ولأن الآجال المَجْهولة لا تَجوز في البُيوع والعُقود , ويَجِب أن تكون معلومة.

(64) (باب النهي للبائع أن لا يحفل الإبل والبقر والغنم وكل محفلة)

(64) (باب النهي للبائع أن لا يُحَفِّل الإبِل والبَقَر والغَنَم وكلّ مُحَفَّلَة) 463/ 2150 - قال أبو عبد الله: حدّثنا عبد الله بن يوسُف , قال: أخبرنا مالك , عن أبي الزِّناد , عن الأعْرَج , عن أبي هُرَيرة , أنّ رسول الله , صلى الله عليه وسلم , قال: " لا تصَرّوا الغَنَم , ومن ابتاعها فهو بخير النَظَرَيْن بعد أن يَحْلُبَها إن رَضِيَها أمسَكَها , وإن سَخِطَها ردَّها وصاعا من تَمْر ". 464/ 2149 - قال أبوعبد الله: وحدّثنا مُسَدَّد , حدّثنا مُعْتَمِر , سمعتُ أبي يقول: حدّثنا أبو عثمان , عن عبد الله بن مَسْعود: " مَن اشترى شاة مُحَفَّلَة فرَدَّها , فَلْيَرُدَّ معها صاعا ". أصل التَّصْرِيَة: حَبْس الماء وجَمعه. يقال: صَرَّيْت الماء , إذا حَبَسْته مكان , ومنه (قيل) لمَجْمَع المياه ومَصَبِّها: الصَّراة. فقيل للشّاة أو النّاقة إذا تُرِكت من الحَلب أيّاما حتى يَجتمع اللّبن في ضَرْعِها مُصَرّاة , وذلك غِش قد دَلَّس به صاحبها للمُشتري ليَرغب فيها , فجعل النبيّ , صلى الله عليه وسلم , له الخِيار في

ذلك إذا حَلَبها حَلْبَة أو [اثنتين] , فتَبَيَّن له أن ذلك ليس بِلَبَنِها المُعتاد في كلّ يوم , فإن شاء أمْسَكَها إن رَضِي بالعَيْب , وإن شاء ردَّها. وفيه: بيان أن العيب , لا يَحْرُم بيعه , وأنّ التَّدليس لا يُفْسِد أصل العَقْد , وإنّما يوجِب الخِيار للمُشتري , فإن رَضِيَه رضي البيع , وإن سخِطه كان له أن يفسَخَه , ويَرُدّ معها صاعا من تمر بدلا من اللبن الذي حَلَبَه منها , ولأنّ العَقْد قد وَقَع على الشّاة وعلى لَبَنها. وقد صار اللبن مُسْتَهلَكا , لا يُمكِنه رَدّه بِحاله وبِقَدْر عِياره , ولاختِلاطه باللبن الحادث , وكان لا يُؤمَن أن يَقَع بينهما في ذلك تَداع واختلاف , فجاءت الشّريعة فيها بِعِوَض مُقَدَّر , ينْقَطِع بينهم بذلك النزاع , ويُرفع به الخلاف , ما جاءت به في نظائرها من الأمور التي لا يمكن ضَبْطها وحَصرها بتعديل القِيَم , وهي كالدِّيَة في النّفوس , جُعِلَت مائة من الإبِل , مع اختلاف أحوال الأنفُس في ذواتها من القوّة , والضَّعْف , والكِبَر , والصَّغَر , والجمال , والدَّمامة , والفضائل , والنَّقائص , وكالدِّية في الأصابع مع اختلاف خَلْقِها ومنافعها , وكذلك

الأسنان , سَوَّى بين مَقاديمها وأواخرها , وكالجَنين جُعِلت فيه الغُرَّة , والمُوضِحَة جُعِل فيها خَمْسٌ من الإبِل , وقد تصغُر وتكبُر , وكما جعل صلى الله عليه وسلم مَن وَجَبت عليه بنتُ لَبون وليس عِنده إلا بنت مَخاض أن يُعطِيها المُصَدِّق وشاتَيْن أو عشرين دِرْهما جَبْرا لنُقصان ما بين السّنين , ومعلوم أنّ ذلك قد يَتفاوت ولا يَعْتَدِل في التَّقْويم بكلّ مكان وفي كلّ زمان.

والمُحَفَّلة: هي المُصَرَّاة , وسُمِّيت مُحَفّلة لاجتماع اللبن في ضَرعِها , وكل شيء كَثَّرْتَه فقد حَفَّلْتَه , والحَفْل: والجَمْع الكثير , ومدّة الخِيار فيها ثلاث , وقد ذُكِرت في سائر الرّوايات , وإن لم يَذكرها أبو عبد الله في هذا الحديث. وفيه: دليل على أن بيع الشّاة اللبون بشاة مِثلها غيرُ جائز , لأنّ اللبن يَأخذ بحظٍّ من الثّمن , واللبنان قد يتفاوتان , وما جَرى فيها الرِّبا إذا بِيع بعضه ببعض غير متساويان كان فاسداً ..

(66) (باب بيع العبد الزاني)

(66) (باب بيع العبد الزَّاني) 465/ 215 - قال أبو عبد الله: حدّثنا عبد الله بن يوسُف , قال: حدّثنا الليث , قال: حدّثني سعيد المَقْبُري , عن أبيه , عن أبي هُريرة أنّه سمعه , يقول: قال النبي , صلى الله عليه وسلم ,: " إذا زَنَت أمة أحدكم فتَبَيّن زِناها , فليجلدها ولا يُثَرِّب ". التّثريب: معناه: التّوبيخ والتّعيير , يقول: لا يَتْرك إقامة الحدّ عليها , ويَقتصر على التّوبيخ والتّعيير. وفيه: بيان جَواز إقامة السَّيِّدِ الحَدَّ على البالغين من أرِقّائه إذا زَنوا , ولا يرفعهم إلى السلطان.

(الباب نفسه) 466/ 2153 - قال أبو عبد الله: حدّثنا إسماعيل , قال: حدّثنا مالك , عن ابن شِهاب , عن عُبيد الله بن عبد الله , عن أبي هُريرة , وزَيد بن خالد , أنّ رسول الله , صلى الله عليه وسلم , سُئل عن الأَمَة إذا زَنَت ولم تُحْصَن. قال: " إن زَنَت فاجلدوها , ثُمّ إن زَنَت فاجلدوها , ثمّ إن زَنَت فبيعوها , ولو بضفير ". قال ابن شِهاب: لا أدري أبَعْدَ الثالثة أو الرّابعة؟ الضَّفير: الحَبْل المَضْفور , أيّ: المَفْتول. يُقال: ضَفَرْتُ الحَبْل والشَّعْر , إذا فَتَلته. وقوله: " ولم تُحصِن " , مَشْكِل جدَّا , وقد رُوِي هذا الحَديث من غير طريق , وليس فيه ذِكْر الإحصان , وقد يَحْتَمِل ذلك وجهين:

أحدهما: أن يكون معناه العِتق , فإنّها إن كانت كذلك لم يُقَم عليها حَدّ الحَرائر. والوجه الآخر: أن يكون المُراد به النِّكاح , وظاهر الحديث يوجِب الرَّجْم على الأَمَة إذا زَنَت بعد النّكاح , وسُقوط الرَّجْم عنها كالإجماع , وكان قتادة يَرى نكاح المَمْلوك إحْصانا له , وإليه ذَهَب أبو ثَوْر. واختلف الناس في المملوكة إذا زَنَت , ولا زَوْج لها , فرُوِي عن ابن عباس أنه قال: لا حَدّ عليها حتى تُحصِن , وكذلك قال طاوس , وقرأ ابن عباس [فإذا أُحْصِنَّ فإن أتَين بفاحشة فعليهن نِصف ما على المُحصنات من العذاب] , بضمّ الألف. وقال: أكثر الفُقَهاء: تُجلَد وإن لم تَتَزوَّج. ومعنى الإحصان فيهنّ الإسلام , وقرأها الأعمش , وعاصم , وحمزة , والكِسائي: ــــ مفتوحة الألف ــــ بمعنى أسْلَمن.

(73) (باب إذا اشترط شروطا في البيع لا تحل)

(73) (باب إذا اشترط شروطا في البيع لا تَحِل) 467/ 2168 - قال أبو عبد الله: حدّثنا عبد الله بن يوسُف , قال: أخبرنا مالك , عن هشام بن عُروة , عن أبيه , عن عائشة , رضي الله عنها , قالت: جاءتني بَريرة , فقالت: كاتبتُ أهلي على تسع أواق , في كل عام أوقيّة , فأعينيني. فقلت: إنّ أحبَّ أهلك أن أعُدّها لهم , ويكون ولاؤك لي فَعَلت , فذهبت بَريرة إلى أهلها , فقالت لهم , فأبوا عليها , فجاءت من عندهم ورسول الله , صلى الله عليه وسلم , جالس , فقالت: إني قد عَرضت عليهم فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم , فسمِع النبي , صلى الله عليه وسلم , فقال: يعني لعائشة ـــــ " خُذيها واشْترطي لهما الولاء , فإنّ الولاء لمن أعتَق " , ففَعَلت عائشة , ثمّ قام رسول الله , صلى الله عليه وسلم , في الناس , فحمد الله , أثنى عليه , ثم قال: " أمّا بعد , ما بال رجال يَشْترِطون شُروطا ليست في كتاب الله , ما كان من شَرط ليس في كتاب الله , فهو باطل , وإن كان مائة شرط , قضاء الله أحقّ , وشَرطه أوثَق , وإنّما الوَلاء لمن أعْتَق ". قُلت: قد اختلف الناس في قوله: " اشْتَرطي لهم الولاء " ,

فذهب بعضهم إلى أنّ هذه اللفظة لا تَصِحّ في الرواية , وأنّها شيء تَفَرَّد به مالك , عن هِشام بن عُروة , لم يُتابع عليه. وكان يحيى بن أكْثَم , يقول: هذا لا يجوز على رسول الله , صلى الله عليه وسلم , ولا يُتَوَهّم أنّه يأمر بغُرور أحَد. وتَأَوَّله بعضهم فقال: مَعنى " لهم " في هذا معنى " عليهم " , كقول الله عزّ وجلّ: [أولئك لهم اللعنة] , والمعنى: عليهم اللعنة , وإليه ذَهَب المُزَني. قُلتُ: وليس الأمرُ على ما ذهبوا إليه , وقد تابع مالكا في روايته عن هِشام بن عروة , جرير بن عبد الحميد , وأبو أسامة في غير هذا المَوضِع من الكتاب.

كتاب المكاتب

كتاب المكاتب (3) (باب استعانة المُكاتب وسُؤاله النّاس) 468/ 2563 - قال أبو عبد الله: حدّثنا عُبيد بن إسماعيل , قال: حدّثنا أبو أسامة , عن هشام , عن أبيه , عن عائشة , وذَكَرت القِصّة إلى أن قالت: فَسَمِع بذلك رسول الله , صلى الله عليه وسلم , فقال: " خُذيها فأعتِقيها , واشْتَرِطي لهم الوَلاء , فإنّ الولاء لمن أعْتَق ". ورَوى محمد بن إسحاق بن خُزَيمة حديث جَرير , عن هشام قال: حدّثنا علي ّ بن حُجْر , ويوسُف بن موسى , قال: حدّثنا جرير , عن هشام بن عروة , عن أبيه , عن عائشة , وذَكرت القصة إلى أن قالت: فقال رسول الله ,

صلى الله عليه وسلم: " ابتاعيها فأعتقيها , واشترطي لهم الوَلاء , فإنّ الولاء لِمَن أعتَق " , حدّثنيه ابن سِنان قال: حدّثني ابن خُزَيمة بذلك. فقد اجتمع في هذا ثلاثة طُرُق عن هشام: مالك , وجرير , وأبو أسامة. قُلتُ: وقد رَوَى أيضا أبو عبد الله ما يَشُد حديث مالك.

(5) (باب إذا قال المكاتب: اشترني , أعتقني , فاشتراه لذلك)

(5) (باب إذا قال المُكاتِب: اشترني , أعتِقني , فاشتراه لذلك) 469/ 2565 - من طريق أيمن , عن عائشة. قال: حدّثنا أبو نعيم قال: حدّثنا عبد الواحد بن أيمن قال: حدّثني أبي , أيْمَن , عن عائشة وذكرت قِصة بَريرة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم , قال: " اشتريها فأعتقيها , ودعيهم يشترطوا ما شاءوا " , فاشترتها عائشة فأعتقتها , فاشترط أهلها الولاء , فقال النبي , صلى الله عليه وسلم: " الولاء لِمَن أعتق , وإن اشترطوا مائة شَرط ". وقد رَوَى نافع , عن ابن عُمَر نَحواً من ذلك.

كتاب البيوع

كتاب البيوع (73) (باب إذا اشترط شروطا في البيع لا تَحِلّ) 470/ 2169 - قال أبو عبد الله: حدّثنا عبد الله بن يوسُف , قال: أخبرنا مالك , عن نافع , عن ابن عُمَر , [أنّ] عائشة أرادت أن تشتري بَريرة فتُعتِقها , فقال أهلها: نبيعُكِها على أن ولاءها لنا , فذكرت ذلك لرسول الله , صلى الله عليه وسلم , فقال: " لا يَمنعُكِ ذلك , فإنّما الولاء لمن أعتق ". فاتِّفاق هذه الروايات فيها يدلّ على أن قول يحيى بن أكثم فيه غَلَط. وتأويل المُزَنيّ غير صحيح , وإنّما وجه الحديث , ومعناه: أنّ الولاء لما كان لُحمَة كلُحْمَة النَّسب , وكان الإنسان إذا أعْتَق عبدا ثَبَت ولاؤه له , كما إذا وَلَد ولدا ثَبَت نسبه منه , فلو

نُسِب إلى غيره لم يَنتقِل نسبه إلى والده , كذلك إذا أراد نقل ولائه عن محلِّه في حقِّ الدين إلى غيره لم ينتقل عنه , ولمّا كان هؤلاء القوم جاهلين بحُكم الدين , وكانوا يشترطون في الولاء أمرا لا يجوز في حقّ الشريعة , لم يعبَأ رسول الله , صلى الله عليه وسلم , لقولهم , ولا رأى ذلك قادحا في عَقْدِه البيع , وجَعْلِه بمنزلة اللَّغو من الكلام , وتَرَكَهم يقولون ما شاؤوا من القول فيه , لتكون الإشادة بِرَدّه وإبطاله قولا يخطُب به على الناس , والتعليم فيه أمرا ظاهرا يَرفع عنه على رؤوس الأشهاد , فيكون أبلغ في النكير , وأوكد في التغيير , وكان بعضهم يتأوَّل قوله: " اشترطي لهم الولاء " , على معنى الوعيد الذي ظاهِره الأمر , وباطنه النهي , كقوله عزّ وجلّ: {اعملوا ما شئتم}. وقوله: {وأجلِب عليهم بخَيلك ورَجِلِك}. ويقال: عنى به التّجَلُّد.

(76) (باب بيع الشعير بالشعير)

(76) (باب بيع الشّعير بالشّعير) 471/ 2174 - قال أبو عبد الله: حدّثنا عبد الله بن يوسُف , قال أخبرنا مالك , عن ابن شهاب , عن مالك بن أوس بن الحَدَثان , أخبره أنه التمس صَرْفا بمائة دينار. قال: فدعاني طلحة بن عُبيد الله فتراوضنا حتى اصطرف مني , فأخ الذهب يُقلبها في يده , ثمّ قال: حتّى يأتي خازني من الغابة , وعُمر يَسمع ذلك , فقال: والله لا تُفارقه حتى تأخذ منه. قال رسول الله , صلى الله عليه وسلم: الذهبُ [بالذهب] , رِبًا إلا هاءَ وهاء , والشّعيرُ بالشعير ربًا إلا هاءَ وهاء , والتّمر بالتّمر ربًا إلا هاء وهاء , والبُرُّ بالبرّ ربًا إلا هاءَ وهاء. قوله: " هاءَ وهاء " , معناه: التّقابُض يدا بيد , وهاءَ ممدود , والمَدَّة فيه بَدَل من الكاف في قول الليث بن المُظَفّر , كأنّه

يقول: هاكَ , أي: خُذ , وقد يُروى أيضا هاءِ وهاءِ بالكسر. وهذه المذكورات في الخبر هي الأصول التي يجري فيها الرّبا , وهي نُقود ومطْعوم خُصّت بأن لا يُباع واحد منها بآخر إلا يدا بيد , إلا أنّها إذا اتَّفقت الأجناس كالذَّهب بالذَّهب , والفضّة بالفضّة , والتمْر بالتّمْر , والبُرّ بالبُرّ , لم يَجُز بيع شيء منها بالآخر , إلا سواءً بسواء , وإذا اختلفت الأجناس كالذهب بالفِضّة , والتّمر بالشّعير , جاز بيع واحد باثنين وبأكثر , كيلًا ووزنا , يدًا بيد , ولم يَجُز نَسيئة , وعلى هذا يجري بيع كلّ شيء في الرِّبا , إذا بِيع بما فيه الرِّبا من جِنْسِه , ومن غير جِنْسِه , وكان الظاهر من قوله: هاءَ وهاءَ , يُوجب أن يكون التقابُض يدا بيد , في وقت واحد , إلا أنّ عُمر , رضي الله عنه , قد بيَّن المُراد بذلك , فجَعل التقابض إذا وَقَع في المجلس قبل أن يُفارقه بمنزلة لو أَعْطى بيد وأخذ بأُخرى , فلو أن رجلا صارَف دارهم بدنانير , فأعطى دنانير وقام في حاجة له , فوَكَّل وكيلا بِقَبْض الدَّراهم لم يَجُز ذلك , ولو وَكَّل رجلا بأن يصرِف دراهم بدنانير , فأعطى الوكيل الدراهم , وجاء مُوَكِّله ليَسْتَوفي الدنانير لم يَجُز ذلك , وإن كان المُوَكَّل صاحب المال ووَلِيَّه , ولو كان ذلك في بيع شيء آخر من العُروض والأمتِعَة جاز ذلك , وبَرِيَ المُشتري من الثَّمَن إذا عَلِم أنّه كان وكيلا له فيما باعه منه , وهذا على قول أكثر أهل العِلم.

(77) (باب بيع الذهب بالذهب)

(77) (باب بيع الذَّهب بالذَّهب) 472/ 2175 - قال أبو عبد الله: حدّثنا صَدَقة بن الفَضْل , قال: حدّثنا إسماعيل بن عُلَيَّة , قال: حدّثنا يحيى بن إسحاق , قال: حدّثنا عبد الرحمن بن أبي بَكْرَة , عن أبيه , قال: (قال) , رسول الله , صلى الله عليه وسلم: " لاتبيعوا الذَّهب بالذّهب إلا سواءً بسواء , والفِضّة بالفِضّة إلا سواءً بسواء , وبيعوا الذَّهب بالفِضّة , والفِضّة بالذّهب كيف شئتم ". قلتُ: والرِّبا يدخل في الأشياء على وَجْهين: فما كان جِنْسا واحدا , فإنّ التحريم يقع فيه بالزيادة في الوزن , والنّسأ في الوَقت , وما كان من جِنسين مُختلفين , فالتّحريم يقع فيه من جِهة النسأ , والتّفاضل فيه جائز.

(78) (باب بيع الفضة بالفضة)

(78) (باب بيع الفضّة بالفِضّة) 473/ 2177 - قال أبو عبد الله: حدّثنا عبد الله بن يوسُف , قال: أخبرنا مالك , عن نافع , عن أبي سعيد الخُدْري أنّ رسول الله , صلى الله عليه وسلم , قال: " لا تبيعوا الوَرِق بالوَرِق إلا مثلا بمثل , ولا تُشِفُّوا بعضها على بعض , ولا تبيعوا الذّهب بالذّهب إلا مثلا بمثل , ولا تُشِفُّوا بعضها على بعض , ولا تبيعوا منها غائبا بناجز ". قوله: " ولا تُشِفُّوا بعضها على بعض " , يريد لا تُفضّلوا بعضها على بعض , والشَّفّ ههنا: الزِّيادة , وقد يكون الشَّف أيضا بمعنى النُّقصان والحَرْف من الأضداد , والنَّاجِز: الحاضِر.

(79) (باب بيع الدينار بالدينار نساء)

(79) (باب بيع الدينار بالدينار نَسَاء) 474/ 2178 - قال أبو عبد الله: حدّثنا عليّ بن عبد الله , قال: حدّثنا الضَّحاك بن مُخْلِد , قال: حدّثنا ابن جُرَيج , أخبرني عمرُو بن دينار , أنّ أبا صالح الزيّات , أخبره أنّه سَمِع أبا سعيد الخُدْري , يقول: الدّينار بالدينار , والدِّرهم بالدِّرهم. فقلت له: فإنّ ابن عبّاس لا يقوله. فقال أبو سعيد: سألته فقُلت: سمِعته من النبي , صلى الله عليه وسلم , أو وَجدته في كتاب الله؟ فقال: كلّ ذلك لا أقول , وأنتم أعلم مني برسول الله , وإنّما أخبرني أُسامة أنّ النبيّ , صلى الله عليه وسلم , قال: " لا رِبا إلا في النّسيئة ". قُلتُ: تأوّلوا حديث أسامة على أنّه قد سَمِع من آخِر الحديث , ولم يُدْرِك أوَّله , كأنّه سُئل عن التّمر بالشّعير , أو البُرّ بالتّمْر , أو الذّهب بالفِضّة مُتفاضلا. فقال: إنّما الرِّبا في النّسِيئة في

مثل هذه المسألة , فإنّ الأجناس إذا اختلفت جاز فيها التّفاضُل إذا كانت يدًا بيد , وإنّما يدخُلُها الرِّبا من جِهة النَّسيئة إذا لم يكن يدًا بيد , وإنّما خَرَّجوه على هذا لوُقوع الإجماع من الأُمَّة بخلافِه. ومن النّاس من يزعُم بأنّه منسوخ , والأوّل أصحّ , وذلك أنّ النَّسخ إنّما يقع في أمر كان شريعة , قبل وُرود النّسخ عليه , فأمّا إذا لم يكن أمرا مشروعا قبل , فإنّه لا يُطلق عليه اسم النّسخ , وهذا مما يَغْلَط فيه كثير من أهل العلم , فيضعون التّحريم موضع النّسخ , كمن يزعُم أنّ شُرب الخَمْر منسوخ , ولم يكُن شُربُها قَطّ شريعة , ولا دِينًا فيُنسَخ , إنما كانوا يشربونها على عاداتهم قبل أن يَرِد الحظْر فيها , فلمّا وَرَد النّهي عن شُربها حُرِّمت , وإنّما يُقال فيما هذا سبيله: إنّه حَرَّم هذا بعد الإباحة , ويُقال بالنّسخ في مِثْل الصّلاة إلى بيت المَقْدِس , كانت شريعة , فَحُوِّلت إلى الكعبة , وفيما أشْبَه ذلك من ناسخ أمرِ الدِّين ومنسوخه.

(93) (باب بيع المخاضرة)

(93) (باب بيع المُخاضَرة) 475/ 2207 - قال أبو عبد الله: حدّثني إسحاق بن وَهْب , قال: حدّثنا عُمَر بن يونُس , قال: حدّثنا أبي , قال: إسحاق بن أبي طلحة الأنصاري , عن أنس بن مالك أنه قال: نهى رسول الله , صلى الله عليه وسلم , عن المُحاقَلَة والمُخاضَرة والمُلامسة والمُنابذة والمُزابَنَة. المُحاقلة: بيع الزّرع القائم في الأرض بالحَبِّ اليابس , مأخوذ من الحَقْل , وهو القَراح في لُغة أهل المدينة , ومنه المثل: لا تُنبِت البقْلة إلا الحَقْلة. والمُخاضرة: بيع الثمار وهي خُضَر , لم يَبدُ صلاحها , وهي مُفاعَلة من اثنين , وذلك أنّما تبايعا شيئاً أخضر.

وأمّا بيع المُلامسة , والمُنابذة وفقد فسّرناهما فيما تقدّم من الكتاب. وأمّا المُزابنة: فهي بيع الثّمر في رؤوس النّخل بالتّمر , وذلك لأنه يدْخُله الرِّبا , بأن لا يعلم مساواة أحدهما الآخر , ولو راما التسوية بينهما لتعذّرت , ونبّه رسول الله , صلى الله عليه وسلم , على المعنى في ذلك في حديث سعد بن أبي وقاص , حين سُئل عن الرُّطَب بالتّمر , فقال: أيَنقُص الرُّطَب إذا يَبُس؟ فقالوا: نعم , قال: فلا إذن , فإنّما اعتبر النبي , صلى الله عليه وسلم , التعديل بينهما عند الجفاف , لتعذّر علمه في الحال , وقد ذَكَر هذا الحديث مالك في المُوَطّأ , ولم يذكره أبو عبد الله , لأنّ راويه عن سعيد زيدٌ أبو عياش , وليس في الشهرة والمعرفة بذاك , وإن كان مالك لم يذكر في كتابه متروكا , فالمُزابنة مُحرّمة إلا ما استُثني من جُملتها من .. العرايا ..

(82) (باب بيع المزابنة , وهي بيع التمر بالثمر , وبيع الزبيب بالكرم , وبيع العرايا)

(82) (باب بيع المُزابنة , وهي بيع التّمر بالثّمر , وبيع الزّبيب بالكَرْم , وبيع العرايا) 476/ 2188 - قال أبو عبد الله: حدّثنا عبد الله بن مُسْلَمَة , قال: حدّثنا مالك , عن نافع , عن ابن عُمر , عن زيد بن ثابت أنّ رسول الله , صلى الله عليه وسلم , رَخَّص لصاحب العَرِيَّة أن يبيعها بِخَرْصِها. قال: وحدّثنا.

(83) (باب بيع الثمر على رؤوس النخل بالذهب أو الفضة)

(83) (باب بيع الثّمَر على رؤوس النَّخل بالذّهب أو الفِضَّة) 477/ 2191 - عليُّ بن عبد الله: حدّثنا سُفيان , قال: قال لي يحيى بنُ سعيد , سمعتُ بُشَيرا , قال: سمعتُ سهل بن أبي حَثْمَة , أنّ رسول الله , صلى الله عليه وسلم , نهى عن بيع الثَّمَر بالتَّمْر , ورَخَّص في العَرِيَّة أن تباع بخَرصِها , يأكلها أهلها رطَبا. وقال سفيان مرّة أخرى: إلا أنّه رَخَّص في العَرِيَّة , يبيعها أهلها بخَرصِها , يأكلونها رُطَبا. فاستثنى صلى الله عليه وسلم , العَرِيَّة من جُمْلَة المُزابَنَة , لحاجة النَّاس إليها , ورَخَّص في بيعها بالتَّمْر المَوضوع على الأرض خَرْصا وتقديرا له فيما دون خمسة أَوْسُق , فلم يكن ذلك مُعارضا لخبر التَّحْريم في المُزابَنة , لأنّه استثناء , وتخصيص من جُمْلَتها. والمعنى فيه بَيِّن , وهو ما ذكرنا من الحاجة , والضَّرورة فيه. وقد ذكر أبو عبد الله الحديث في تقدير الجائز بيعه من العَرايا.

(83) (الباب نفسه)

(83) (الباب نفسه) 478/ 2190 - قال أبو عبد الله: حدّثني عبد الله بن عبد الوهَّاب , قال: سمعتُ مالكا , وسأله رجل , وهو عُبيد الله بن الرّبيع: أحَدَّثَك داود , عن أبي سُفيان , عن أبي هُريرة أنّ النبيّ , صلى الله عليه وسلم , رَخَّص في بيع العَرايا في خمسة أوسُق أو دون خمسة أوسُق؟ قال: نعم. وقال الشّافعي رحمه الله: إذا باع من العرايا ما يبلغ خمسة أوسُق لم أفْسَخ البيع , وأسْتَحِبُّ أن يكون ما يتبايعانه أقلّ من خمسة أوسُق , لأنّ الرّاوي شكّ في الخمسة , قال: والذي يلزمه على معنى أصوله أن لا يُجيز خمسة أوسُق منها , ويَفْسَخ البيع فيها , لأنّ

التحريم في المُزابنة يقين , والرُّخصة في الخمسة الأوسق مشكوك فيها , الشّك لا يُزاحِم اليقين , فالذي يجب أن يُعتمد ف قَدْر إباحته منها هو أربعة أوسق. والعَرِيَّة: ما أُعْرِي من جُملة المُزابنة , فرُفِع عنها حُكمها , فعَرِي عن التحريم لجهة التّحليل , وقد اختلف تفسير العلماء لها , وكلّ ما قالوه راجِع إلى هذا المعنى. قال مُحمّد بن إسماعيل , قال موسى بن عُقْبَة: العَرايا نخلات معلومات تأتيها فتشتريها. وقال مالك: العَرِيَّة: أن يُعْرِي الرّجل النَّخلة , ثمّ يَتأذّى بدخوله عليه , فرخّص له أن يشتريها منه بالتّمر. فأمّا أصلها في الاشتقاق , فقد قيل: إنّها من قول القائل: أَعْرَيت الرجل النّخلة , أي: أطعمته ثمرها , يعروها متى شاء , أي: يأتيها فيأكل رُطَبها. يُقال: عَرَوْتُ الرّجل , إذا أتيته تطلب مَعْروفَهُ فأعراني , أي: أعطاني , كما قيل: طلب إليّ فأطلبته وسألني فسألته.

وقد ذهب بعضُ أهل العِلم في معنى العَرِيَّة إلى أنّها النّخلات يُعريها الرّجل من حائطه لرجل , ثم يبدو له فيها فيُبطِلها , ويُعطيه مكانها تمرا , فسُمِّي هذا بيعا في التّقدير على المَجاز , وحقيقته الهِبَة عند قائل هذا القول. قلتُ: وهذا غير صحيح لأنّ الرُّخصة منها جاءت مقرونة بالنّهي في حديث سهل بن أبي حَثْمَة , فلو أنّها استثناء من جملة التحريم في المُزابنة , لم يكن للرخصة معنى , لأنّ للرخصة إنّما تلغي المحظور , والمحظور ههنا المزابنة , فثَبَت أنّ العَرِيّة مستثناة من جملة النّهي.

(85) (باب بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها)

(85) (باب بيع الثّمار قبل أن يبدو صلاحها) 479/ 2193 - قال أبو عبد الله: وقال الليث , عن أبي الزِّناد , كان عروة بن الزّبير يُحدِّث عن سهل بن أبي حَثْمَة أنه حدَّثه عن زيد بن ثابت , قال: كان النّاس في عهد رسول الله , صلى الله عليه وسلم , يتبايعون بالتّمر , فإذا جَذَّ الناس , وحضر تقاضيهم , قال المُبتاع: إنه أصاب التّمر , الدُّمَان , وأصابه مُراض , وأصابه قُشام , عاهات يحتجّون بها , فقال رسول الله , صلى الله عليه وسلم , لمّا كَثُرت عنده الخصومة في ذلك: " فإمّا لا , فلا تتبايعوا حتى يبدو صلاح الثمرة , كالمشورة يُشير بها , لكثرة خُصومتهم ".

قال أبو عبد الله: رواه علي بن بحر , قال: حدّثنا حَكَّام , قال: حدَّثنا عَنْبَسَة , عن زَكَرِيّا , عن أبي الزِّناد , عن عُروَة , عن سهل , عن زَيد. قال الأصمعي: الدُّمَان: أن تَنْشَقَّ النخلة أول ما يبدو قلبها عن عَفَن وسَواد. قال: والقُشام: أن يَنْتَقِض ثمر النّخل قبل أن يصير بَلَحا. والمُراض ـــــ مضمومة الميم ـــــ اسم لأنواع الأمراض , وإنّما تجيء أسماء الأمراض غالبا على فُعال , كالصُّداع , والسُّعال , والنُّحاز , والكُراز , وما أشبهها.

(85) (الباب نفسه)

(85) (الباب نفسه) 480/ 2194 - قال أبو عبد الله: حدّثنا عبد الله بن يوسُف , قال حدّثنا مالك , عن نافع , عن ابن عُمر أنّ رسول الله , صلى الله عليه وسلم , نهى عن بيع الثّمار حتى يبدو صلاحها , نهى البائع والمُبتاع. قُلت: إنّما نهى عن بيعها قبل بُدُوِّ الصلاح إذا كان على معنى التَّبْقِيَة , إذ لا خِلاف في جَواز بيعها إذا كان على شَرْط القَطْع , وإنّما وَقَع النَّهي عنه على هذا الوجه احتياطا للأموال , واحتِرازا من الغَرَر فيها , وذلك أنّها إذا بدا صلاحها أمِنَت العاهة غالبا , ما دامت وهي رِخْوة , رَخْصَة , قبل أن تشتدّ , فإنها بعَرض الآفات والجوائح عليها , غير مأمونة , فالنّهي عن بيعها في ذلك الوقت نظرٌ للفريقين , وصلاحٌ لهما.

(87) (باب إذا باع الثمار قبل أن يبدو صلاحها ثم أصابته عاهة فهو من البائع)

(87) (باب إذا باع الثّمار قبل أن يبدو صلاحها ثمّ أصابته عاهة فهو من البائع) 481/ 2198 - قال أبو عبد الله: حدّثنا عبد الله بن يوسُف , قال: حدّثنا مالك , عن حُمَيد , عن أنس بن مالك أنّ رسول الله , صلى الله عليه وسلم , نهى عن بيع الثمار حتى تُزْهى , قيل: ما تُزْهى؟ قال: حتّى تَحْمَرّ. وقال: أرأيت إذا منع الله الثّمرة , بمَ يأخذ أحدكم مال أخيه!!؟ قوله حتى تُزهى , تفسيره في الحديث: أي: حتى تَحمر , والبَلَح إذا بَدَت فيه الحُمرة أو الصُفرة ولان فهو الزّهو. وفي قوله: " أرأيت إن منع الله الثّمرة " , دليل على أنّ حُكم الثمار إذا لم يُشترط فيها القَطع التَّبْقِيَة , وأنّ على البائع تركها على الشّجر , وأنّ العُرف في ذلك بمنزلة الشَّرْط , ولولا التَبْقِيَة لم يكن لقوله: " أرأيت إن منع الله الثمرة " معنى ولولا بقاؤها على الشّجر , لكان قد أُمِن حدوث الجائحة عليها , ولانقطعت التَّبِعَة عنها , فلم يكن له على أخيه مال يأخذه به.

وفيه: دليل على استحباب وضع الجائحة , وقد أوجبها بعض العلماء , وهو ظاهر ما يوجبه هذا القول من رسول الله , صلى الله عليه وسلم , وأكثر أهل العلم على أنه إنّما أمَرَ به على وجه المعروف , لا سبيل الإيجاب , والله أعلم.

(85) (باب بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها)

(85) (باب بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها) 482/ 2196 - قال أبو عبد الله: حدّثنا مُسَدّد , قال: حدّثنا يحيى ابن سعيد , عن سليم بن حيّان , قال: حدّثنا سعيد بن ميناء , قال: سمعتُ جابر بن عبد الله , قال: نهى النبي , صلى الله عليه وسلم , أن تُباع الثمرةُ حتى تُشْقَح. قيل: ما تُشْقَح؟ قال: تَحْمارُّ , وتَصْفارُّ , ويؤكل منها. والتّشقيح: تغيُّر لونها إلى الصُّفرة , أو الحُمرة , والشُّقْحَة: لونٌ غير خالِص في الحُمرة أو الصُفرة , وإنّما هي تغيّر اللون إلى الكُمودة.

ومنه قولهم: قَبيحٌ شَقيح , أي: متغيّر اللون إلى السّماجة والقُبح. وقوله: تحمارّ وتصفارّ , معناه: ظهور أوائل الحُمرة , أو الصُّفرة فيها , قبل أن تَشيع , وإنما يُقال ذلك في اللون غير المُتمكّن , كقولك: ما زال يحمارُّ ويصفارُّ: إذا كان يتلوّن بالحُمرة , وبالصُفرة أخرى , ثمّ يَزُول.

(89) (باب إذا أراد بيع تمر بتمر خير منه)

(89) (باب إذا أراد بيع تمر بتمر خير منه) 483/ 2201 - قال أبو عبد الله: حدّثنا قُتَيبة , عن مالك , عن عبد المجيد بن سهل بن عبد الرحمن , عن سعيد بن المُسَيَّب , عن أبي سعيد الخُدْري وعن أبي هُريرة أنّ رسول الله , صلى الله عليه وسلم , استعمل رجلا على خيبر , فجاءه بتمر جَنيب , فقال رسول الله , صلى الله عليه وسلم: " أَكُلُّ تمر خيبر هكذا "؟ قال: لا والله , يا رسول الله , إنّا لنأخذ الصاع من هذا بالصّاعين. فقال رسول الله , صلى الله عليه وسلم: " لا تفعل , بِعِ الجَمْع بالدراهم , ثمّ ابتع بالدراهم جَنيبا ". الجَنيب: نوع من التّمر , هو أجود تُمورهم , والجَمْع: نوعٌ منها رديء , ويقال: بل هو أخلاط من التّمور رديئة. أَمَرَه صلى الله عليه وسلم , أن يبيع الجَمْع بالدراهم , ويشتري الجَنيب بها لتكون صفقتين , فلا يدخله الرّبا بزيادة أحدهما , ونُقصان الآخر.

(90) (باب من باع نخلا قد أبرت , أو أرضا مزروعة , أو بإجارة)

(90) (باب من باع نخلا قد أُبِّرَت , أو أرضا مزروعة , أو بإجارة) 484/ 2204 - قال أبو عبد الله: حدّثنا عبد الله بن يوسُف , قال: أخبرنا مالك , عن نافع , عن عبد الله بن عُمَر أنّ رسول الله , صلى الله عليه وسلم , قال: " من باع نخلا قد أُبِّرَت , فثمرها للبائع , إلا أن يشترط المُبتاع ". قُلتُ: تَابير النّخل: هو أن يُنْظَر حتى يَنْشَقّ طَلْعُها , فيوضع في أثنائه شُعَبٌ من طَلْعِ فُحَّال النّخل , فيكون ذلك لقاحا للتّمر , وصلاحا له , جعل صلى الله عليه وسلم , التّمر ما دام مُسْتَكِنًّا في الطّلع , كالولد مُسْتَجِنًّا في بطن الحامل , إذا بِيعت كان الحَمْل تَبَعا لها , فإذا ظَهر تَمَيَّز حُكمه عن والديه , كذلك ثمر النّخل. وفي معناه: كلُّ ثمر بارز يُرى في شجرة , كالعنب , والتفاح , والرّمان , إذا بيعت أصول الشّجر لم تدخل هذه الثّمار في البَيع إلا أن يُشْتَرط , ومثله الزّرع القائم في الأرض إذا بِيعت لم يَدخُل الزّرع في البيع.

(97) (باب بيع الأرض والدور والعروض مشاعا غير مقسوم)

(97) (باب بيع الأرض والدور والعُروض مُشاعا غير مقسوم) 485/ 2214 - قال أبو عبد الله: حدّثنا محمد بن مَحْبوب , قال حدّثنا عبد الواحد , قال: حدّثنا مَعْمَر , عن الزُّهْري , عن أبي سَلَمَة بن عبد الرحمن , عن جابر بن عبد الله , قال: قضى النبي , صلى الله عليه وسلم , بالشُّفْعَة في كل مال لم يُقْسَم , فإذا وَقَعت الحُدود , وصُرِفَت الطّرُق فلا شُفْعَة. فيه: بيان أن لا شُفْعَة في غير المُشاع , وذلك أنّ معناها نفي الضَّرر عن الشّريك لسوء الجوار , وإنّما يتحقق الضّرر مع بقاء الشَّرِكة , ولا ضرر على الجار المُقاسِم , فلا وجه لنزع مِلْكِ المُبتاع من يده بعد استقراره. وقوله: " في كلّ ما لم يُقسَم ". لفظٌ عام , ومُراده خاص في نوع من الأموال , وهو العَقار من الدُّور , والأقْرِحَة من الأرض , والحَوائط والبساتين , وسقوط الشُّفْعَة في غير العَقار

كالإجماع من أهل العلم , إلا أنه قد رُوي عن عطاء أنه قال: الشُّفْعة في كلّ شيء حتى في الثوب. قلت: ويَدخل في ذلك عند طوائف أهل العلم ما لا يَحْتَمِل القِسمة من العَقار كالحَمَّام ونحوه , لأنّه إذا قُسِم ضاع , وبطل نَفْعُه وقد نهى رسول الله , صلى الله عليه وسلم , عن إضاعة المال. فأمّا البئر الواسعة البَدَن , التي إذا قُسِمت , كان كل قسم منها بئرا , فيها عينُ ماء ويختلف فيها الدِّلاء , وكان في بياضها سَعَة لملقى تُرابها , ومجال لمُقام السَّاقية عليها , فالقِسمة فيها واجبة إذا

طلبها الشّريك , والشُّفعة فيها كالشفعة في سائر العقار , فإذا لم تَحْتَمِل البئر القِسمة , فلا شُفعة فيها عند مالك , والشّافعي , وأثْبَتَها أبو حَنيفة , وهو أولى , لأنه إذا كان إزالة الضرر فيما يُمكن إزالته بالقسم واجبة , ففيما لا يُمكن إزالته من ذلك أحقّ وأوجب. وأما قوله: وصُرِفت الطُّرُق , فقد يحتجّ به من يَرى الشفعة واجبة بالطريق إذا كانت واحدة , وهو حُكم الظّاهر , وتأوَّله بعض من لا يَرى فيه الشّفعة على أنه إنّما أراد به الطريق االمُشاع , دون المَقسوم , قال: وذلك أنّ الطريق يكون في غير المقسوم شائعا بين الشّركاء , يدخل كل واحد منهم من حيث شاء , فإذا قُسِم العقار بينهم مَنَع كل واحد منهم أن يتطرَّق شيئا من حقّ صاحبه , وأن يدخل إلى مِلكِه إلا من حيث جُعِل له.

(98) (باب إذا اشترى شيئا لغيره بغير إذنه فرضي)

(98) (باب إذا اشترى شيئا لغيره بغير إذنه فرَضِي) 486/ 2215 - قال أبو عبد الله: حدّثني يعقوب بن إبراهيم , قال: حدّثنا أبو عاصم , قال: حدّثنا ابن جُرَيْج , قال: حدّثني موسى بن عُقبة , عن نافع , عن ابن عُمَر , عن النبي , صلى الله عليه وسلم , قال: خَرَج ثلاثة , يمشون , فأصابهم المَطر , فدخلوا في غار , في جَبَل , فانحَطّت عليهم صخرة .. وساق الحديث إلى أن قال: اللهُمّ إن كُنت تعلم أنّي استأجرتُ أجيرا بفَرَقٍ من ذُرَة , فأعطيته , وأبى أن يأخذ , فعمِدتُ إلى ذلك الفَرَق فزرعته , حتى اشتريتُ به بقرا وراعيها , ثم جاء فقال يا عبد الله! أعطِني حقّي. فقلت: انطلق إلى تلك البقرة وراعيها. قال: أتستهزئ بي؟ فقلت: ما أستهزيء

بك , ولكنّها لك , اللهمّ إن كنت تعلم إنّي فعلت ذلك ابتغاء وجهك , فافرُج عنّا , فكُشِف عنهم. الفَرَق: مكيال معلوم , وفيه من الفِقْه جواز استئجار الرجل بشيء من الطعام معلوم , كجوازه بالدراهم والدنانير , وقد استدل بهذا الحديث أحمد بن حنبل على أنّ المُسْتَودَع إذا اتّجَر بمال الوَديعة فرَبِح , أنّ الربح يكون لربّ المال , وهذا لا يدلّ على ما ذهب إليه , لأنّ هذا شيء قد تَطَوَّع به صاحب الفَرَق , وتَقَرَّب بذلك إلى الله عزّ وجلّ , ولأجل ذلك قد اعتدّ به في حسناته , وتوسّل به إلى ربه تعالى , حين أُطْبِقَت عليه الصّخرة , فسأل الله تعالى أن يُفَرِّجَها عنه. وفي هذه القِصّة , أنه زَرَعَه , واشترى منه بَقَرا , وهذا تَصَرُّفٌ منه في أمر لم يُوَكِّله به , فلا يَسْتَحِق عليه رِبحا , والذي يُشبه في معناه: أنّه تصدّق عليه بهذا المال بعد أن اتّجَر فيه , وثمَّره , وأنماه , ولم يكن يلزمه في الحُكم أن يُعطِيه أكثر من الفَرَق الذي استأجره عليه , فَحَمِد فِعله , وفرَّج عنه. والذي يذهب إليه أكثر الفُقهاء في المُسْتَودَع إذا اتَّجَر بمال الوديعة , والمُضارِب إذا خالَف ربَّ المال , فرَبِحَا أنه ليس لصاحب المال من الرِّبح شيء.

قال أصحاب الرّأي في المُضارِب: هو ضامِن لرأس المال , والرِّبح له , ويتصدّق به , والوَضيعة عليه. وقال الشّافعي: إن كان اشترى السِّلعة بعين المال؛ فالبيع باطِل , وإن كان اشتراها بغير عينه , فالسلعة مِلك للمُشتري , وهو ضامِن له.

(99) (باب بيع الشراء والبيع مع المشركين وأهل الحرب)

(99) (باب بيع الشراء والبيع مع المشركين وأهل الحرب) 487/ 2216 - قال أبو عبد الله: حدّثنا أبو النّعمان , قال: حدّثنا مُعتَمِر بن سُليمان , عن أبيه , عن أبي عُثمان , عن عبد الرحمن بن أبي بكر , قال: كُنّا مع النبيّ , صلى الله عليه وسلم , إذ جاء رجل مُشرك , مُشْعانٌ , طويل بغنم يسوقها. فقال النبي , صلى الله عليه وسلم: " بَيْعا أو عَطِيَّة " أو قال: " أم هِبَة ". قال: لا , بل بيع , فاشترى منه شاة. يُقال: رجلٌ مُشْعان؛ إذا كان شَعِث الرأس مُنتفِش الشَّعْر. وفيه: من الفِقْه جَواز مبايعة المُشرك , وفي ذلك إثبات مِلْكِه على ما في يده. وفيه: أنّه سأله فقال: " عَطِيَّة أم هِبَة " , فدلّ على قبول الهِبة منه لو وَهَبها. وقد رُوي عن رسول الله , صلى الله عليه وسلم , أنه قال لِعيَاض بن حِمار , وقد أَهْدَى إليه في شِرْكه قبل أن يُسلم:

" إنّا لا نَقبل زَبَد المشركين " , يريد عطاءهم وهِبتهم , فيُشْبِه أن يكون ذلك منسوخا , لأنه صلى الله عليه وسلم , قد قبِل هدية غير واحد من الكفار , أهدى له المُقَوقَس ماريّة القُبْطِيّة , وأهدى له البغلة , وأهدى له أُكَيْدِرُ دُومَة فقَبِل هديّته , إلا

أن يَزعُم زاعم أن بين هدايا أهل الشرك وبين هدايا أهل الكتاب فَرْقا , وقد اختلف الناس فيما يُهدى للأئمة , فرُوي عن على بن أبي طالب , رضي الله عنه , أنه كا يوجِب ردّه إلى بيت مال المسلمين , وإليه كان يذهب أبو حنيفة. وقال أبو يوسف: ما أهدى إليه أهل الحرب فهو له دون بيت المال. قٌلت: فأما ما يُهدى لرسول الله , صلى الله عليه وسلم , خاصة فهو في ذلك بخلاف الناس لأن الله تعالى اختصه في أموال أهل الحرب بخاصة لم تكن لغيره من أمته , فقال: {وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كلّ شيء قدير}. فسبيل ما تصل إليه يده من أموالهم على وجه الهدية والصلح سبيل الفيء , يضعه حيث أراه الله , ويفعل به ما يشاء. فأما المسلمون إذا أهدوا إليه , فكان من سنته أن لا يردها , وكان يثيبهم عليها صلى الله عليه وسلم.

(100) (باب شراء المملوك من الحربي وهبته وعتقه)

(100) (باب شراء المملوك من الحربيّ وهبته وعتقه) 488/ 2217 - قال أبو عبد الله: حدّثنا أبو اليمان , قال: حدّثنا شُعيب , قال: حدّثنا أبو الزِّناد , عن الأعرج , عن أبي هريرة , قال: رسول الله , صلى الله عليه وسلم: " هاجر إبراهيم بسارة , فدخل بها قرية , فيها مَلِك , أو جبّار من الجبابرة , فقيل: دخل إبراهيم بامرأة هي من أحسن الناس , فأرسل إليه: أن يا إبراهيم من هذه التي معك؟ قال: أختي , ثمّ رجع إليها , فقال: لا تَكْذِبيني , فإني أخبرتهم بأنك أختي , والله إن على الأرض من مؤمن غيري وغيرك , فأَرْسَل أن أرسِل بها , فأرسَل بها إليه , فقام إليها , فقامت توضَّأُ وتصلي , فقالت: اللهم إن كنت بك وبرسلك , وأحصنت فرجي إلا على زوجي , فلا تُسلِط علي الكافر , فغُطَّ حتى ركض برجله. قال أبو هريرة فقال: والله ما أرسلتم إلا شيطانا , أرجعوها إلى إبراهيم , وأعطوها أجرا , فرجعت إلى إبراهيم , فقالت: أشعرت أن الله كَبَت الكافر , وأَخْدَم وليدة.

قوله: " غُطَّ " , معناه: خفق , وركض برجله من الصرع الذي أصابه. وقولها: " أَخْدَم " , يُريد أعطى خادما , وآجر هي هاجر , وأَبدل من الهاء همزة. وفيه من الفقه: أنّ مَن قال لامرأته أنتِ أختي , لا يُريد بذلك طلاقا لم يكن طلاقا , ولو قال: أنتِ مثل أختي , ولم يُرد بذلك ظِهارا لم يكن ظِهارا. وفيه: مُسْتَدل لمن لم يرَ طلاق المُكره طلاقا , وقد ذكر الله تعالى في قصّة مريم قولهم: {ما كان أبوكِ امرأ سَوءٍ وما كانت أمكِ بَغِيّا}. شُبِّهت برجل صالح من قومها كام يُدعى هارون. وفيه: جواز اتّهاب المسلم من المشرك الحربيّ.

(101) (باب جلود الميتة قبل أن تدبغ)

(101) (باب جلود المَيتة قبل أن تُدبغ) 489/ 2221 - قال أبو عبد الله: حدّثني زُهير بن حَرب , قال: حدّثنا يعقوب بن إبراهيم , قال: حدّثنا أبي , عن صالح , حدّثني ابن شِهاب , أن عُبيد الله بن عبد الله , أخبره , أن عبد الله بن عباس أخبره , أن رسول الله , صلى الله عليه وسلم , مرّ بشاة ميتة , فقال: " هلّا استمتعتم بإهابها "؟ فقالوا: إنها ميتة. قال: " إنّما حُرِّم أكلها ". الإهاب: اسم للجِلد قبل أن يُدبغ , وإطلاقه إباحة الاستمتاع به بعد الدباغ يأتي على أنواع: الانتفاع به بيعا ولبسا , وافتراشا , واتخاذه سقاء في نحوها من المآرب , وقد ذهب بعض الفقهاء , إلى أن جلد الميتة لا يجوز بيعه بحلال وإن دُبِغ , وإنما

يُنتفع به , ويُستعمل ولا يُتخذ منه سِقاء , وإذا مسه الماء نَجُس. وفي الحديث: مُسْتَدَل لمن ذهب إلى أنّ ما عدا المأكول من أجزاء الميتة غير محرم الانتفاع به , كالسِّن , والقَرنِ , ونحوهما.

(102) (باب قتل الخنزير)

(102) (باب قتل الخنزير) 490/ 2222 - قال أبو عبد الله: حدّثنا قُتيبة قال: حدّثنا الليث , عن ابن شِهاب , عن ابن المسيّب أنه سمع أبو هريرة , يقول: قال رسول الله , صلى الله عليه وسلم: " والذي نفسي بيده , ليوشِكَنَّ أن ينزل فيكم ابن مريم حاكما مُقسِطا , فيكسر الصليب , ويقتل الخنزير ويضع الجزية , ويفيض المال حتى لا يقبله أحد ". يريد: إبطال شريعة النصارى في استباحة لحوم الخنازير , وأنها لا تُقتنى للأكل , لكن تُقتل كما تُقتل السِّباع , حتى يقلّ عددها وتَفنى. وقوله: ويضع الجزية , فيه قولان: أحدهما: أنه يحمِل الناس على دين الإسلام , فلا يبقى نصراني , ولا غيره من أهل الكتاب تُجرى عليه الجزية.

والقول الآخَر: أن لا يَبقى في الناس فقير يحتاج إلى المال , وإنما تؤخذ الجزية من أهل الذّمة , في مصالح الدين , وتقوية أهله , وفي الخيل , والكراع , وفي أهل الحاجة , فإذا لم يبقَ للدين خصم , وعُدِمت الوجوه التي تُصرف إليها الجزية , لم يبقَ موضع , فسَقَطَت , ووُضِعت. وقوله: " حَكَما مُقْسِطا " , أي: عادلا. يقال , أقْسَطَ الرجل في حُكمه: إذا عدل , وقَسَط: إذا جار. وقوله: " ويفيض المال " , يريد: أنه يَكثُر , ويَشيع الغِنى في الناس , وكل شيء كَثُر وانتشر , فهو فائض ومستفيض.

(103) (باب لا يذاب شحم الميتة ولا يباع ودكه. رواه جابر عن النبي , صلى الله عليه وسلم)

(103) (باب لا يُذاب شحم الميتة ولا يُباع وَدَكه. رواه جابر عن النبي , صلى الله عليه وسلم) 491/ 2223 - قال أبو عبد الله: حدّثنا الحُمَيدي , قال: حدّثنا سُفيان , قال: حدّثنا عمرو بن دينار , أخبرني طاوس , أنه سمع ابن عبّاس , يقول: بلغ عُمَر أن رسول الله , صلى الله عليه وسلم , قال: " قاتل الله اليهود , حُرِّمَت عليهم الشّحوم , فجَمَلوها فباعوها ". قوله: " فَجَمَلوها " , معناه: أذابوها. يُقال: جَمَلت الإهالة , واجْتَمَلْتُها إذا أذبتها.

وفيه: إبطال الحِيَل والوَسائل التي يُتَوَصَّل بها إلى المَحظور من طريق التأويل , وإنما ضُرِب المَثَل بصَنيع اليهود في الشحوم , واجتمالهم , ليُعلم أنّ الشيء إذا حُرِّم عَيْنه حُرِّم ثمنه. وقد قيل: إنّ سَمْرَة وهو الذي قال عُمر فيه هذا القول لم يَبِع نفس الخَمر , ولكنه خلّلها ثُمّ باعها , فكَرِه ذلك عُمر , وعابه عليه. والله أعلم.

(111) (باب هل يسافر بالجارية قبل أن يستبرئها)

(111) (باب هل يُسافَر بالجارية قبل أن يَسْتَبرئها) 492/ 2235 - قال أبو عبد الله: حدّثني عبدُ الغفّار بن داوود , قال: حدّثنا يعقوب بن عبد الرحمن , عن عمرو بن أبي عمرو , عن أنس بن مالك , قال: قَدِم النبي , صلى الله عليه وسلم , خَيْبَر , فلمّا فَتح الله عليه الحِصْن , ذُكِر له جَمال صَفِيّة بنت حُيَيّ ابن أخطب , وقد قُتِل زوجها , وكانت عروسا , فاصطفاها رسول الله , صلى الله عليه وسلم , لنفسه , فخرج بها حتى بلغنا سدّ الرَّواء حلت , فبنى بها , ثمّ صَنع حَيْسا في نِطْع صغير , ثم قال رسول الله , صلى الله عليه وسلم: " آذِن من حولك " , فكانت تلك وليمة رسول الله , صلى الله عليه وسلم , على صفيّة , ثمّ خرجنا إلى المدينة , قال: فرأيتُ رسول الله , صلى الله عليه وسلم , يُحَوِّي لها وراءه بعباءة , ثم يَجْلس عند بعيره , فيضع رُكبته , فتضع رِجلها على ركبته حتى تركب.

قوله: اصطفاها , يريد أخذها صفيّا , والصفيّ: سهم رسول الله , صلى الله عليه وسلم , من المَغنَم , كان إذا غَنِم الجيش غُنْما , أخذ له رأس المال قبل أن يُقَسِّم جارية, أو دابّة , أو سِلاح , أو ما كان من شيء يختاره فيكون خاصا له , فيُسمّى الصفيّ , فكانت صفيّة من مَغْنم جيش. والحَيْس: أخلاط من تمر وأَقِط وسمن. وقوله: يُحَوِّي لها , معناه: يُهيّء لها مركبا , بأن يُوطئ من ورائه عباءة , ويُسمّى ذلك حَوِيّة ..

(113) (باب ثمن الكلب)

(113) (باب ثمن الكلب) 493/ 2237 - قال أبو عبد الله: حدّثنا عبد الله بن يوسُف , قال: أخبرنا مالك بن أنس , عن ابن شِهاب , عن أبي بكر بن عبد الرحمن , عن أبي مسعود الأنصاري أن رسول الله , صلى الله عليه وسلم , نهى عن ثمن الكلب , ومَهْر البَغِيّ , وحُلوان الكاهن. نَهيُه عن ثمن الكلب يدل على بُطلان بَيعه , لأن البيع إنما هو ثمن ومُثَمّن , فإذا بَطَل أحد الشِّقَّين بَطَل الآخر. ومَهْر البَغِيّ حرام. والبغيّ: هي الفاجرة , والمهر إنما يجبفي وِطء لا حَدّ فيه. والبغي إذا زَنَت أُقيم عليها الحَدّ , فلا وجوب معه للمَهر , فلو أنّ رجلا زنا بِجارية رجل , وهي مُطاوِعة له , لم يكن لصاحب الجارية أن يُلزِمه مهرها , كما يكون له ذلك إذا وَطِئها بشُبهة , لأنه لا حَدّ في الشُّبهة , فلا بُدّ من المهر , والحَدّ واجب في الزّنا , والمَهر فيه ساقط. وحُلوان الكاهِن: ما يأخذه المُتَكَهِّن على كَهانته من جُعل , وهو مُحرم , لأنّ قوله زور , وفِعله باطل.

(113) (الباب نفسه)

(113) (الباب نفسه) 494/ 2238 - قال أبو عبد الله: حدّثنا حَجَّاج بن المِنْهال , قال: حدّثنا شُعبة , قال: أخبرَني عَون بن أبي جُحَيفَة , عن أبيه , أنّ النبي صلى الله عليه وسلم , نهى عن كَسْب الأَمَة. قلت: إنما نهى عن كَسب الأَمة إذا لم يكن لها عمل معلوم مِن خُبز , أو غَزْل , أو نَفْش صوف , ونحوها , وذلك أنها إذا لم يكن لها عمل معلوم , لم يُؤمن أن تبغي , فتكسِب بالفُجور. وقد رُوي أنه صلى الله عليه وسلم , نهى عن كَسْب الأَمة , إلا أن يكون لها عمل واصِب. وفي هذا بيان ما أُجْمِل من النهي عن كَسْب الأَمة.

(112) (باب بيع الميتة والأصنام)

(112) (باب بيع المَيْتَة والأصنام) 495/ 2236 - قال أبو عبد الله: حدّثنا قُتيبة , قال: حدّثنا الليث , عن يزيد بن أبي حَبيب , عن عطاء بن أبي رَباح , عن جابر بن عبد الله أنه سَمِع رسول الله , صلى الله عليه وسلم , يقول عام الفَتح , وهو بمكة: " إنّ الله حَرّم بيع الخمر , والخنزير , والمَيْتة , والأصنام " , فقيل: يا رسول الله! أرأيت شحوم الميْتة , فإنه يُطلى بها السُّفُن , ويُدهن بها الجُلود , ويَسْتَصْبِح بها الناس , فقال: " لا , هو حَرام " , ثم قال رسول الله , صلى الله عليه وسلم , عند ذلك: " قاتل الله اليهود , إنّ الله لمّا حَرّم عليهم الشَّحم , جَمَلوه , ثم باعوه , وأكلوا ثمنه ". بيع الخَمر فاسد بالإجماع , وفي تَحريم بيعها تحريم ثمنها , فلو أراق مسلم خمر المسلم , أو الذِّمِّي , لم يلزمه لها قيمة , والميتة مُحرّمة العين , فبيعها باطل , والنهي يعمّ جميع أجزائها: عَظْمَها , وقَرنها , وصوفها , وجِلدها قبل أن يُدبَغ , سواء كان ذلك من مأكول اللحم , أو غير مأكوله. وفيه: تحريم بيع عظام الفيل , وشعر الخنزير.

وأما بيع الأصنام فإنه فاسد ما دامت صُوَرا مُصوّرة , فإذا طُمِست صُورها , ومُحِقَت , فإن بيع أجزائها , أو أصولها المعمولة منها , فِضّة كانت , أو حديدا , أو خَشَبا , أو مَدَرا , جائز. ويدخل في النّهي عنه كل صورة مصوّرة في رَقّ , أو قِرطاس , أو نحوهما , مما يكون المقصود منه الصورة , وكان الظَّرف تَبَعا له. فأما الصور المصورة في الأواني , والقِصاع , فإنها تَبَع لتلك الظروف , بمنزلة الصور المصوّرة على جُدُر البيوت , وفي السُّقوف , وفي الأنماط , والسُّتور , فالبيع فيها لا يفسُد , وفي معناها الدراهم الشَّاهِيَّة التي فيها الصور والتماثيل. وفيه: دليل على أنّ كل شيء لا يُنتفع به , ولا يُستعمل إلا في اللهو , كالطّنابير , والمَزامير , والطُّبول , التي تُتّخذ للهو , وما أشبهها من المُحرّم , فإذا حُلَّت عنها أوتارها , وغُيِّرَت عن هيئاتها , فكان مما يُنتفع بها في المُباح على حال , جاز بيعها. وأما قوله: في شحوم الميْتة: " لا هو حرام " , فإنّ النَّهي والتحريم , إنّما ينصرفان في ذلك إلى البيع , دون الاستمتاع بها , وعلى هذا قول أكثر العلماء , فلو وقعت فأرة في جَرَّة من دُهْن , أو خابِية من سَمْن , أو زيت , لم يَجُز بيعه , وجاز الانتفاع به في تدهين جِلد , واستِصباح , ونحوه , ويُتوَقّى أن يَمَسَّ الأيدي والثياب , فإن مَسَّ شيئا لم يَجُز أن يُصلِّي فيه حتى يُغْسَل ويُنَظَّف , ولا أعلم خِلافا في أن من ماتت له دابة , كان له أن يُطْعِم لحمها كِلابه وبُزاته إن شاء ذك , فكذلك الدُّهن النّجس.

كتاب السلم

كتاب السَّلَم (باب السَّلَم في وَزن معلوم) 496/ 2240 - قال أبو عبد الله: حدّثني صَدَقَة , قال: حدّثنا ابن عُيَيْنة , قال: أخبرنا ابن أبي نَجِيح , عن عبد الله بن كَثِير , عن أبي المِنْهال , عن ابن عباس قال: قَدِم النبي , صلى الله عليه وسلم , المدينة , وهم يُسْلِفون في التّمر السنتين والثلاث , فقال: " من أسْلَف في شيء , فليُسْلِف في كَيل معلوم , إلى أجل معلوم ". فيه: بيان أن السَّلم لا يجوز حتى يكون ما يُسْلَف فيه معلوما , ومقدار ما يُسْلَفى فيه معلوما , كيلا أو وزنا , وأن تكون المكاييل والأوزان معلومة , والأجَل الذي يُسْلَف إليه معلوما مُسانَهَة , أو

مُشاهرة , مُقَّدَرًا بالأوقات المعلومة دون الآجال المجهولة , كالحَصاد , والدِّراس , وقُدوم الحاج , ونحو ذلك , لأنها تتقدم وتتأخر. وفيه: دليل على جواز السَّلف في الشيء , وإن لم يكن في وقت العَقد موجودا , إذا كان يُتَقَدَّر وُجوده في العادة عند مَحَلّ الأجَل. وقوله: " فليُسلِف في كيل معلوم " , لا يَمنعمن جوازه , لو أسلَف وزنا ـــــ في الشيء الذي أصله الكيل ـــــ تمرا كان ذلك , أو بُرَّا , أو نحوهما , لأن القصد إنما وقع بقوله: في كيل معلوم , أو وزن معلوم , إلى أن يكون الشيء المُسلف فيه محصورا , غير مجهول , والوصف يُسترسل عليه , إذا وقع حَصْره , بما يُمكن أن يُحصَر به , مثل ذلك الشيء. وقد يَستدل به من لا يرى السَّلَم الحاال جائزا , وكذلك من لا يُجيز السَّلم في الحيوان , والاستدلال به لا يصِح في ذلك , لأنه ليس في الخبر منع من السّلَف إذا لم يكن مؤجلا , إنما فيه إيجاب أن يكون الأجل معلوما , إذا اشترط الأجل فيه فلا يكون مجهولا , وليس فيه - أيضا - منع السَّلَف في غير المَكيل والمَوزون , إنما فيه إيجاب أن يكون المَكيل والمَوزون معلومَي المقادير كيلا أو وزنا فقط. ألا ترى أن السَّلَم في الثياب جائز ذَرْعا , وإن لم يكن مَكيلا , ولا موزونا , وليس للذَّرْع في الخبر ذِكر , إنما قَصَد الخبر ومعناه

إخراج السَّلَف عن حَدِّ الجهالة إلى أن يكون معلوما في نوع ما يُسْلَف. وكان الشافعي - رحمه الله - يَحْتَجُّ لإجازة السَّلَم في الحيوان بخبر أبي رافِع أن النبي , صلى الله عليه وسلم , استسلف من رجل بَكْرا , فلما قدِمَت إبْل الصَّدقة أمرني أن أقضيَه إياه , واحتجّوا في ذلك - أيضا - بأن الدِّيَة أسنان معلومة مُؤجّلة في سنين معلومة. واحتجّ الشافعي - أيضا - على أهل العِراق بأنهم أجازوا أن يُكاتِب الرّجل عَبْدهُ على أُرُوش من الرقيق موصوفة , وبما أجازوه من الرقيق والإبِل في الصَّداق. وفي الخبر: دليل على أن عَقْد السلف جائز , وإن لم يُشترط فيه مَحَلّ القَبْض للشيء المُسْلَم فيه , ومن ذَهَب إلى هذا جعل موضع القبض في ذلك حيث نقد الثمن , ولو كان لا يصح السَّلَم , إلا أن يَذكره , لذُكِر, كما ذُكِر الكيل , والوزن , والأجَل.

(باب السَّلَم إلى من لس عنده أصل) 497/ 2244 - قال أبو عبد الله: حدّثنا موسى بن إسماعيل , قال: حدّثنا عبد الواحد , قال: حدّثنا الشَّيْباني , قال: حدّثنا محمد بن أبي المُجالِد , قال: بعثني عبد الله بن شدَّاد, وأبو بُرْدَة , إلى عبد الرحمن بن أبْزى , فقالا: سَلْه هل كان أصحاب النبي , صلى الله عليه وسلم , يُسْلِفون على عهد النبي , صلى الله عليه وسلم , ولم نَسَلهم: ألَهُم حَرْث أم لا؟

قلتُ: هذا إنما أجابه , لأنّ قوما زعموا أنه لا يجوز إسلاف من لا أصل عنده فيما استَسلف فيه من المتاع. 489/ 2245 - قال: وحدّثنا إسحاق , قال: أخبرنا خالد بن عبد الله , عن الشيباني , عن محمد بن أبي المُجالِد بهذا , قال: فنُسْلِفُهم في الحِنطة , والشّعير. قُلتُ: والحِنطة بالمدينة عزيزة.

(4) (باب السلم في النخل)

(4) (باب السَّلَم في النّخل) 499/ 2249 - قال أبو عبد الله: حدّثني محمد بن بشّار , قال حدّثنا غُندُر , قال: حدّثنا شُعبَة , عن عَمرٍو , عن أبي البَخْتَري , قال: سألت ابن عُم عن السَّلَم في النخيل , فقال: نهى عُمر عن بيع الثمر حتى يَصلُح , ونهى عن الوَرِق بالذهب نَساء بناجِز , وسألت ابن عبّاس فقال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم , عن بيع النخل حتى توزن , قلت: وما توزن؟ قال رجل عنده: حتى تُحْرَز.

إنما جُعل الخَرْص وزنا على سبيل التمثيل به بالوزن , لأنه يَحْصُره , ويُخبِر عن مقداره , فكأنه قد وزنه وزنا , ولا تُخْرَص الثمار حتى تشتد , وتصلح للأكل , فتؤمَن عليه العاهة , والفساد , وفائدة الخَرْص , أن تُعلم كِمِيَّة حقوق الفقراء قبل أن ينبسِط في الثمر أيدي أرباب الأموال , ثم يُخلّى بينهم وبينها , ليأكلوه , أو يبيعوها , أو يفعلوا بها ما شاؤوا , ثم يؤخذ منهم العُشْر بمكيله الخَرْص.

كتاب الشفعة

كتاب الشُّفْعَة (2) (باب عرض الشُّفعة على صاحبها قبل البيع) 500/ 2258 - قال أبو عبد الله: حدّثنا مَكِّيّ بن إبراهيم , قال: أخبرنا ابن جُرَيج , قال: أخبرني إبراهيم بن مَيسَرة , عن عمرِو بن الشَّريد , قال: وقفتُ على سعد بن أبي وقّاص , فجاء المِسْوَر بن مَخْرَمَة , فوضع يده على إحدى مَنْكِبَيّ , إذ جاء أبو رافع - مولى النبي صلى الله عليه وسلم - , قال: يا سعد , ابتع مني بيتَيَّ في دارك؟ قال سعد: والله ما أبتاعهما. فقال: المِسْوَر: والله لتبتاعنهما , لا أزيدك على أربعة آلاف مُنَجَّمة , أو قال: مُقَطَّعة. قال أبو رافع: لقد أُعطيت بها خمسمائة دينار , ولولا أني سمعت رسول الله , صلى الله عليه وسلم ,

يقول: " الجار أحَقّ بِسَقَبِه " ما أعطيتُكَها بأربعة آلاف , وأنا أُعطى بها خمسمائة دينار , فأعطاها إياه. السَّقَب: القُرْب , وهو الصًّقَب بالصاد في أشهر اللغتين. قال الشاعر: لا أَمَمٌ دارها ولا صَقَبُ. وفيه: دليل على أن الشُّفعة ثابتة في الطريق كَهِي في البناء , وإنما يكون كذلك إذا كانت واسعة تحتمل القَسْم , وهذان البيتان قد أضافهما البائع إلى دار المُشتري في قوله: في دارك , فطريقهما لا محالة شائعة في العَرَصَة , وهي جزء من الدار , وإنما استحق الشُّفعة من أجلها.

كتاب الإجارة

كتاب الإجارة (5) (باب الأجير في الغَزو) 501/ 2265 - قال أبو عبد الله: حدّثني يعقوب بن إبراهيم , قال: حدّثنا إسماعيل بن عَلَيَّة , قال: أخبرنا ابن جُرَيج , قال: أخبرني عطاء , عن صفوان بن يَعلى , عن يعلى بن أُميّة , قال: غزوت مع النبي , صلى الله عليه وسلم , جيش العُسْرَة , وكان من أوثق أعمالي في نفسي , وكان لي أجير فقاتل إنسانا , فعَضَّ أحدهما إصبَع صاحبه , فانتزع إصبعه , فأندر ثَنِيَّته , فسقطت , فانطلق إلى النبي , صلى الله عليه وسلم , فأهدر ثنيّته , وقال: " أفَيَدَعُ يده في فِيك تقضمها "؟ قال: أحسِبه قال: " كما يَقضِم الفحل ".

قوله: أندر ثنيّته , أي: أسُقَطها حين جَذب يده من تحتها , فندرت السنّ فأهدر صلى الله عليه وسلم , الجِناية فيها , لأنّ صاحبها هو الذي اضطره إلى ذلك , ومن جنى على نفسه لم يؤخذ بجِنايته غيره. وفيه دليل: على أن الفَحْل المُغْتَلِم , وما كان في معناه من الحيوان إذا صال على إنسان , فدفعه عن نفسه حتى يأتي ذلك عليه فيَهلَك , أنه لا غرامة عليه ما لم يقصد به غير التخلص منه , ولم يَعُد وجه المَخْلَص في مثله.

(16) (باب ما يعطى في الرقية على أحياء العرب بفاتحة الكتاب)

(16) (باب ما يُعطى في الرُّقْيَة على أحياء العرب بفاتحة الكتاب) 502/ 2276 - قال أبو عبد الله: حدّثنا أبو النعمان , قال: حدّثنا أبو عَوانَة , عن أبي بِشْر , عن أبي المُتوكّل , عن أبي سعيد , قال: انطلق نفر من أصحاب النبي , صلى الله عليه وسلم , في سَفْرَة سافروها حتى نزلوا على حيّ من أحياء العرب , فاستضافوهم , فأبَوا أن يُضيّفوهم , فلُدِغ سيّد ذلك الحيّ , فشَفَوا له بكل شيء فلا ينفعه شيء , فقال بعضهم: لو أتيتم الرَّهْط الذين نزلوا لعله أن يكون عند بعضهم شيء , فأتوهم , فقال بعضهم: نعم , والله إني

لأرْقي , ولكنّا قد استضفناكم فلم تُضيِّفونا , فما أنا بِراقٍ لكم حتى تجعلوا لنا جُعْلا , فصالحوهم على قطيع من الغنم , فانطلق يتْفِل عليه , ويقرأ {الحمد لله رب العالمين} , فكأنما نُشِط من عِقال , فانطلق يمشي وما به قَلَبَة. فأَوفَوهم جُعْلَهم الذي صالحوهم عليه , فقال بعضهم: اقْسِموا , وقال الذي رَقى: لا تفعلوا حتى نأتي النبي , صلى الله عليه وسلم , فنذكر له الذي كان , فننظر ما يأمرنا , فقدموا على رسول الله , صلى الله عليه وسلم , فقال: " وما يُدريك أنها رُقْيَة "؟. ثم قال: " قد أصبتم , اقسِموا , واضربوا لي معكم بسهم ". قوله: فشَفَوا له بكل شيء , يريد: أنهم عالجوه بكل شيء طلبا للشفاء. يُقال: شفى الله المريض , إذا أبرأه من من مرضه , وشفى له الطبيب إذا عالجه بما يشفيه , أو وصف له الشِّفاء. وقوله: " كأنما نُشِط من عِقال " , قد جاء في بعض اللغات: نَشَط بمعنى حَلّ , وأكثر الكلام على أن يُقال: نَشَطْتُ الشيء إذا عقدته , وأنشَطْته - بالألف- إذا حَلَلْته , وفككت عنه. وقوله: " وما به قَلَبَة ": ما به داء , وإنما سُمّي الداء قلبة , لأن صاحبه يُقَلَّب من أجله , ليُعالج موضع الداء منه. قال النَّمِر

بن تَولَب: * وقد بَرئْتُ فما بالصّدر من قَلَبة * وفيه من العلم: أن أخذ العِوَض على تعليم القرآن جائز. وفيه: جواز بيع المصاحف , وجواز الإجارة على اكتتابها. وفيه: جواز أخذ الجُعل على قراءة القُرآن , ما لم يَتَعَيَّن فرضها عليه , وهو ما عدا ما لا تَجزي الصلاة إلا به منه , ومن كان بين ظهراني قوم لا يُحسِنون من القرآن ما تَجْزيهم به من الصلاة , فقد يَحتمِل أن لا يجوز أخذ العِوض على تعليم القرآن على القدر الذي لا تَجزي الصلاة إلا به منه.

(21) (باب عسب الفحل)

(21) (باب عَسْب الفَحْل) 503/ 2284 - قال أبو عبد الله: حدّثنا مُسَدَّد , قال: حدّثنا عبد الوارث , وإسماعيل بن إبراهيم , عن علي بن الحَكَم , عن نافع , عن ابن عُمر , قال: نهى النبيّ , صلى الله عليه وسلم , عن عَسْب الفَحْل. العَسْب: الكِراء الذي يؤخذ على ضِراب الفَحْل , وإنما حُرِّم ذلك لما فيه من الغَرَر والخَطَر , إذ كان ذلك شيئا غير معلوم ولا يُدرى هل يُلَقِّح أم لا؟ وهل تَعْلَق الرَّمكة , أو الناقة أم لا؟ فنهى عنه إذا كان الكِارء فيه شَرْطا , وقد رَخَّص فيه أقوام إذا كان جُعْلا , أو كرامة. وكان عطاء يقول: لا تأخذ عليه أجرا , ولا بأس أن تُعطِيَه إذا لم تجِد من يُطْرِقه.

(22) (باب إذا استأجر أرضا فمات أحدهما)

(22) (باب إذا استأجر أرضا فمات أحدهما) 504/ 2285 - قال أبو عبد الله: حدّثنا موسى بن إسماعيل , قال: حدّثنا جويرِيَة بن أسماء , عن نافع , عن عبد الله بن عُمر , قال: أعطى رسول الله , صلى الله عليه وسلم , خيبر اليهود على أن يعملوها , ويزرعوها , ولم شَطْر ما يَخرج منها , وأن ابن عُمر حدّثه أنّ المَزارع كانت تُكرى على شيء , سمّاه نافع , لا أحفظه. 505/ 2286 - وأحفظ أن رافِع بن خَديج , حدّث أن رسول الله , صلى الله عليه وسلم , نهى عن كِراء المَزارع. هذا حديث يَقْصُر بيان لفظه عن إيفاء حُكْمه , والوقوف على معناه , وقد أبْطل المُزارعة ثلاثة من زُعماء النِّحَل: فأما أبو حَنيفة , فإنه أبطله وأبطل المُعاملة في الشَّجَر , وقال: هذا غرر. أرأيتَ إن لم تُخرج الأرض , أو النخل شيئا , كان عمله في هذا هَدَرا. وأثبت مالك , والشّافعي المُساقاة في الشَّجَر , وأجازا المُزارعة في البياض الذي بين ظَهرانَي النخل على معنى التَّبَع لها.

وقال مالك: إذا كان ذلك ثُلُثا , أو أقل منه , ولم يُقدّره الشَّافعي بحدّ معلوم , وكل منهم إنما فزِع إلى حديث رافع بن خَديج , واحتَجّ به , وهذا الحديث مُجْمَل , وله عِلل , ذكرها غير واحد من أئمة الحديث , وسبيل المُجْمَل أن يُرَدّ إلى المُفَسَّر , ويُبنى عليه.

وإنما أبطل رسول الله , صلى الله عليه وسلم , من المُزارعة ما كان مجهولا , غير معلوم. وقد رَوى يحيى بن سعيد , عن حنظلة بن قيس , أنه سمع رافعاى , يقول: كُنا نُعطي

الأرض , ونَشرط على الأَكَّار , أن ما يَسْقي الجداول فهو لكم , وما يَسْقي الماذِيان , والربيع فهو لنا , فربنا سَلِم هذا وهلَك ذاك. قال: وكُنا نَكْري الأرض بالناحية منها , فربما يُصاب ذاك وتَسْلم والأرض , ويَسْلم ذاك وتُصاب الأرض. فسألنا عنه رسول الله , صلى الله عليه وسلم , فنهانا عن ذلك , حدّثونا عن عليّ بن عبد العزيز , حدّثنا حَجَّاج بن مِنهال وعن حَمَّاد , عن يحيى بن سعيد. قلت: فإنما نهى النبي , صلى الله عليه وسلم , عما كان سبيله في الغَرَر والخَطَر على ما ذكرناه , والأصل في جوازها قَصّة خيبر , وليس مع مَن جَوَّز المُزارعة في البياض يكون بين ظهرانَي النّخل , ومَنَع من جوازها في القَراح , الذي لا نخل فيه , ولا

شَجَر , حُجَّة توجِب الفرق بينهما , ورواية ابن عُمر في هذا مُجْمَل , لا بيان له , والتفسير في سائر الأحاديث المَرْوِيّة في هذا الباب واقتِصاصها يطول. وقد أجاز المُزارعة أكثر الصحابة والتابعين , فهي جائزة إذا كانت على الشّطْر , أو الثُلُث , أو الرُبُع , ما دام جزءا معلوما شائعا في جميعه , ولمُحمّد بن إسحاق بن خُزَيمة - رحمه الله - كتاب في هذا المسألة , يستوفي بيان عِلْمها , فمن أحَبَّ أن يعرِف عِلَل هذا الحديث , ويَقِف على الخَلَل الذي وقع في رواية ابن عُمر له عن رافِع بن خَديج فليَنظر فيه.

كتاب الحوالة

كتاب الحَوالة (1) (باب الحَوالة وهل يَرجِع في الحَوالة؟) 506/ 2287 - قال أبو عبد الله: حدّثنا عبد الله بن يوسُف , قال: أخبرنا مالك , عن أبي الزِّناد , عن الأعرج , عن أبي هُريرة أن رسول الله , صلى الله عليه وسلم , قال: " مَطْل الغنيّ ظلم , وإذا أُتْبع أحدكم على مليء فليَتْبَع ". فيه بيان: أنّ المُفلِس ليس بظالم , وأنه لا تَبِعَة عليه ما بقي إفلاسه , وأنّ الوجِد إذا مَنَع الحق هو الظالم الذي يجب حَبْسه , لظلمه , ومنعه الحقّ. وقوله: " إذا أُتبِع أحدكم على مليء فليتبع " , معناه: إذا أُحيل على المليء فليتبع. يقال: أتْبَعْتُ غريمي على فلان فتَبِعَه , أي: أحَلْته عليه فاحتال , واشتراطه الملاءة في الحوالة يدل على أنه لا عَوْد للمُحتال على المُحيل إذا أفلس المُحال عليه أو مات , ولولا ذلك لم يكن لشرط الملاءة معنى , إذِ الحَوالة جائزة على كلّ ما كانت له ذِمَّة من غني وفقير , ومليء وغير مليء , وحكمها مأخوذ من اشتقاقها في التّحوّل والزوال من ذِمَّة إلى ذِمَّة.

(3) (باب إن أحال دين الميت على رجل جاز)

(3) (باب إن أحال دَين المَيِّت على رجل جاز) 507/ 2289 - قال أبو عبد الله: حدّثنا المَكِّيّ بن إبراهيم , قال: حدّثنا يزيد بن أبي عُبيد , عن سَلَمة بن الأكوع , قال: كنا جُلوسا عند النبي , صلى الله عليه وسلم , إذ أُتِي بجنازة , فقالوا: صلِّ عليها , فقال: " هل عليه دَيْن "؟ قالوا: لا. قال: " فهل ترك شيئا "؟ قالوا: لا. قال: فصلى عليه , ثم أُتِي بجنازة أخرى , فقالوا يا رسول الله! صَلِّ عليها. قال: " هل عليه دَيْن "؟ قيل: نعم. قال: " فهل ترك شيئا "؟ قالوا: ثلاثة دنانير , فصلى عليها , ثم أُتِي بالثالثة , فقالوا: صلّ عليها. قال: " هل ترك شيئا "؟ قالوا: لا. قال: هل عليه دين؟ قالوا: ثلاثة دنانير. قال: " صلوا على صاحبكم ". قال أبو قَتادة: صَلِّ عليه , وعليَّ دينه , فصلى عليه. قلت: فيه من الفِقه: أنّ ضمان الدِّين عن المَيِّت إذا كان

ذلك معلوماً يُبْرئه سواء خلَّف الميت وفاء أم لم يُخَلَّف , وذلك أن النبي , صلى الله عليه وسلم , إنما امتنع من الصلاة عليه , لارتهان ذِمَّته بالدَّين الذي عليه , فلو لم يَبْرَأ بضمان أبي قَتادة عنه لم يكن لِيُصلى عليه , والعِلَّة المانِعة من الصلاة قائمة في هذه الحالة كقِيامها قبل. وفيه دليل: على فساد قول من ذهب إلى أن المؤدَّى عنه الدَّين يَمْلِكُه أوّلا على الضَّامِن , لأن المَيَّت المضمون عنه الدين لا يصِح له مِلك. وهذا القول يُنسَب إلى مالك بن أنس. قلت: وإنما كان يترُك الصلاة على المَديون الذي لا يَترك وفاء , قبل أن يفتح الله الفتوح , وقبل أن يكون للمسلمين بيت مال ,. وبيانه في حديث أبي هريرة.

كتاب الكفالة

كتاب الكفالة (5) (باب الدَّين) 508/ 2298 - قال أبو عبد الله: حدّثنا يحيى بن بُكَير , قال حدّثنا الليث , عن عُقَيل , عن ابن شِهاب , عن أبي سَلَمة , عن أبي هريرة أن النبي , صلى الله عليه وسلم , كان يؤتى بالرجل المُتوفّى , عليه الدَّين فيَسْأل: " هل ترك لدَينه قضاء "؟ فإن حُدِّث أنه ترك , وفاء صلى عليه , وإلا قال للمُسلمين: صلُّوا على صاحِبكم , فلمّا فَتَح الله عليه الفتوح , قال: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم , فمَن تُوُفِّي من المؤمنين فترك دَيْنا , فعليَّ قضاؤه , ومَن ترك مالا فَلِوَرِثته. قلت: قوله: " فعليَّ قضاؤه " , يعني: إذا لم يكن له مال.

(1) (باب الكفالة في القرض والديون بالأبدان وغيرها)

(1) (باب الكفالة في القرض والديون بالأبدان وغيرها) 509/ 2291 - قال أبو عبد الله: وقال الليث: حدثني جعفر بن ربيعة , عن عبد الرحمن بن هُرمز , عن أبي هريرة , عن رسول الله , صلى الله عليه وسلم , أنه ذكر رجلا من بني إسرائيل , سأل بعض بني إسرائيل أن يُسْلِفَه ألف دينار , فقال: ائتِني بالشهداء أُشهِدهم , فقال: كفى بالله شهيدا. قال: فائتني بالكفيل. فقال: كفى بالله كفيلا. قال: صدقت , فدفعها إليه , إلى أجل مُسمّى , فخرج في البحر فقضى حاجته , ثم التمس مركبا يركبه , يقدم عليه للأجل الذي أجله فلم يجد مركبا , فأخذ خشبة فنقرها , فأدخل فيها ألف دينار وصحيفة , ثم زجَّج , ثم أتى بها إلى البحر , فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه , ثم انصرف , وهو في ذلك يلتمس مركبا يخرج إلى بلده , فخرج الرجل الذي كان أسلفه ينتظر لعل مركبا قد جاء بماله , فإذا بالخشبة التي فيها المال , فأخذها لأهله حطبا , فلما نشرها وجد المال والصحيفة , وذكر الحديث.

قوله: " فدفعها إليه إلى أجل مسمى ". فيه: دليل على دخول الآجال في القروض، وذهب غير واحد من العلماء إلى وجوب الوفاء بها، وإن كان من باب المعروف. وقال آخرون: يُستحب له الوفاء بذلك، فإن أبى لم يُجبر عليه. وقوله: " زجَّج موضعها "، معناه سَوَّى موضع النَّقر وأصلحه , وأحسبه مأخوذا من تَزجيج الحواجب , وهو حذف زوائد الشَّعر , ولَقْط النواجم منهالخارجة عن حَدّ منبَتها , فشَبَّه ما كان من خَرْطِه لموضع النَّقْر , وتسويته بتزجيج الحاجب وتسويته , والله أعلم. قلت: وإن كان مأخوذا من الزَّجّ , بأن يكون النَّقْر قد وقَع في طرف من الخشبة , فشَدّ عليه زَجًّا , ليُمسِكه ويحفظ ما في بطنه , لم يُنكَر ذلك. وفيه دليل: على أن جميع ما يوجد في البحر , مما يَحْمِله الماء على متنه , أو يقذفه إلى الساحل من خَرَز , وعنبر , وطِيب , فإنه لواجِده , ما لم يَعلمه مِلكا لأحد , وقد سُئل ابن عباس عن صدقة العنبر , فقال: لا شيء فيه , إنما هو شيء دَسَرَه , أي: دَفَعَه

فألقاه إلى الساحل , كأنه أشار بهذا القول إلى أن حُكْم ما يوجد , ويُستفاد من البحر خلاف ما يُستفاد من الأموال في البِرّ , ومعلوم أنه كان في دهر رسول الله , صلى الله عليه وسلم , وزمانه , يَخرج اللؤلؤ , والمرجان , والعنبر , ونحوها من متاعه , فلم يُروَ في السُّنن والآثار أنه أوجب في شيء منها عشر , أو خمسا , أو أقل , أو أكثر منهما , فدل أن ذلك عفو. وقد رأينا البحر والبَر يختلف الحُكم فيهما من وُجوه. أحدها: أن مَيْتَة البحر حلال خِلاف ميتة البر , وأن صيد البحر حلال للمُحرم , وصيد البر مُحرّم عليه , وقد عُفِي أيضاعمّا يُصطاد من سُموك البحر وطعامه, وهو قوت أهل السواحل والأسياف , وعلَف دوابهم , وتَحمِل منها السُّفُن مشحونة إلى البلاد , وتكثر قِيمها , وتبلغ الأموال الجسيمة , وهي شيء لا ينقطع , ولا يُعدَم , فلم يختلف العلماء في أنه لا صدقة في شيء منها , فدلّ ما وصفناه منه على مخالفة حُكم البحر أحكام البر. فأما ما يوجد طافيا على الماء من متاع قد غرق فيه للناس , فإن سبيله سبيل اللُّقَطة , يُعَرَّف كما تُعَرَّف اللُّقَط في البر , وليس لآخذه على صاحب المال جُعل , ولا حق , فأما ما يؤخذ طافيا فوق السيول والأودية السائلة في البر من متاع , وخشب , ونحوها , فإنه لا حَظّ لآخذها في شيء منها , إلا أنه يَعلم أنّ الخشب الذي حمله السيل إنما اقتلعه من جبل , أو بَرِّيَّة غير مملوكة , فيكون ذلك حينئذ لمَن سبق إليه.

(2) (باب قول الله عز وجل: {والذي عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم})

(2) (باب قول الله عزّ وجلّ: {والذي عَقَدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم}) 510/ 2294 - قال أبو عبد الله: حدّثني محمد بن الصَّبّاح , قال: حدّثنا إسماعيل بن زكريا , قال: حدّثنا عاصم , قلت: لأنس: أبَلَغَكَ أن النبي , صلى الله عليه وسلم , قال: لا حِلْف في الإسلام؟ فقال: قد حالف النبي صلى عليه وسلم , بين قُريش والأنصار في داري. قلت: روى لنا ابن مالك , عن بِشر بن موسى , عن

الحُمَيْدِيّ , قال: سُفيان بن عُيَيْنة , وذكر هذا الحديث. فَسَّر العلماء: حالَف: آخى بينهم , يريد بذلك: أن معنى الحِلف كان في الجاهلية معنى الأُخُوّة في الإسلام , فأُعطِيت اسمه , إلا أن ذلك جارٍ على أحكام الدين , وعلى حدوده , وكان حِلف الجاهلية إنما هو على ما كانوا يتواضعونه فيما بينهم بآرائهم , وإنما أُبطِل من الحِلف ما خالف أحكام الإسلام ورُسومه , فهو ثابت من وجه , مَنْفي من وجه.

(4) (باب جوار أبي بكر في عهد النبي , صلى الله عليه وسلم , وعقده)

(4) (باب جِوار أبي بكر في عهد النبي , صلى الله عليه وسلم , وعَقْدِه) 511/ 2297 - قال أبو عبد الله: وقال أبو صالح , حدّثني عبد الله , عن يونُس , عن الزُّهْري , قال: أخبرني عُروة بن الزُّبَير , عن عائشة , وذَكَرت قِصّة أبي بكر حين آذاه كفار قريش , وأنه كان يُصلّي , ويقرأ القرآن , فتَتَقَصًّف عليه نساء المشركين , وأبناؤههم , يعجَبون , وينظرون إليه. قولها / تتقصّف , معناه , تزدحم حتى يَسقُط بعضهم على بعض. ويُقال: تقصَّف الشيء إذا تَكسَّر. والقاصِف. الريح الشديدة , تقصِف الشجر.

كتاب الوكالة

كِتاب الوَكالة (2) (باب إذا وَكَّل المُسلم حربيا في دار الحرب - أو في دار الإسلام - جاز) 512/ 2301 - قال أبو عبد الله: حدّثنا عبد العزيز بن عبد الله , قال: حدّثني يوسُف بن الماجِشون , عن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف , عن أبيه , عن جدِّه عبد الرحمن: كاتبتُ أُمَيَّة بن خَلَف: أن يَحْفَظني في صاغِيتي , يعني بمكة , وأحفظه في صاغيته بالمدينة. يريد بالصّاغية الحاشية: والأتباع , ومن يَصغي إليه منهم , أي: يميل. ويُقال: صِغْوُك , مع فلان , أي , مَيْلك , وهواك.

(4) (باب إذا أبصر الراعي أو الوكيل شاة تموت , أو شيئا يفسد ذبح , أو أصلح ما يخاف عليه الفساد)

(4) (باب إذا أبصر الراعي أو الوكيل شاة تموت , أو شيئا يَفسُد ذبح , أو أصْلَح ما يَخاف عليه الفساد) 513/ 2304 - قال أبو عبد الله: حدّثني إسحاق بن إبراهيم , سَمِع المُعتَمر , قال: أنبأنا عُبيد الله , عن نافع , أنه سَمِع ابن كَعب بن مالك , يُحَدِّث عن أبيه: أنه كانت لهم , غنم ترعى بِسَلْع , فأبصرَتْ جاريةٌ لنا بشاة من غنمنا موتا , فكسرت حَجَرا , فذبحتها به. فقال لهم: لا تأكلوا حتى أسأل رسول الله , صلى الله عليه وسلم , أو أُرسِل إليه من يسأله , وأنه سأل النبي , صلى الله عليه وسلم , أو أرسل إليه , فأمره بأكلها. قال عُبيد الله: فتُعجِبني أنها أمَة , وأنها ذَبحت.

فيه من الفقه: أن ذبيحة النساء حلال , وأن الحُرّة والأَمَة فيه سواء , وفي معناهما , الصبي إذا أطاق الذبح. وفيه: أن من ذبح شاة لغيره بغير إذنه , فإن الذبيحة مُذكَّاة. وفيه: جواز الذبح بالحَجَر الذي له حَدّ يَقطع , وبكل شيء يمور مور الحديد , إلا السن , والعظم , للنهي فيهما.

(7) (باب إذا وهب شيئا لوكيل أو شفيع قوم جاز)

(7) (باب إذا وَهَب شيئا لوكيل أو شفيع قوم جاز) 514/ 2307 - قال أبو عبد الله: حدّثنا سعد بن عُفير , قال: حدّثني الليث , قال: حدّثني عُقَيل , عن ابن شِهاب , قال: وزعم عُروة , أنّ مروان بن الحَكَم , والمِسْوَر بن مَخْرَمَة , أخبراه أن رسول الله , صلى الله عليه وسلم , قام حين جاءه وَفْد هوازن مُسلمين , فسألوه أن يَرُد إليهم أموالهم وسَبْيَهم , فقال لهم رسول الله , صلى الله عليه وسلم: " أحَب الحديث إليَّ أصدقه , فاختاروا إحدى الطائفتين ". قالوا: فإنا نختار سَبيَنا. فقام رسول الله , صلى الله عليه وسلم , في المسلمين , فأثنى على الله بما هو أهله , ثم قال: " أما بعد: فإن إخوانكم هؤلاء قد جاؤوا تائبين , وإني قد رأيت أن أرُدّ إليهم سبيهم , فمن أَحَبَّ منكم أن يُطَيِّب لذلك , فليفعل , ومن

أحَبَّ أن يكون على حَظِّه , حتى نُعطيه إيّاه مِن أول ما يُفيء الله علينا فليَفعل ". فقال الناس: قد طَيَّبنا يا رسول الله لهم , فقال رسول الله , صلى الله عليه وسلم: " إنَّا لا ندري مَن أَذِن منكم في ذلك ممن لم يأذن , فارجِعوا حتى يَرفع إلينا عُرفاؤكم أمركم " , فرجع الناس فكلّمهم عُرفاؤهم , ثم رجعوا إلى رسول الله , صلى الله عليه وسلم , فأخبروه أنهم قد طَيَّبوا , وأذِنوا. في هذا الحديث من الفِقه , جَواز سَبْي العَرب , واستِرقاقهم كالعَجَم. وقد استدَّل به من رأى قَبول إقرار الوكيل على المُوَكِّل , لأنّ العُرفاء بمنزلة الوُكلاء فيما أُقيموا له من أمرهم , ولمّا سَمِع رسول الله , صلى الله عليه وسلم , قول العُرفاء , وما نقلوا إليه عن القوم , أنفَذَه عليهم , ولم يرجِع إليهم في المسألة عمّا قالوه , وأَطلَق السبايا لقومهم , وكان في ذلك تحريم فُروجِهنّ على من كانت قد حَلَّت لهم , وإلى هذا ذهب أبو يوسُف , ونفر من أهل العلم. وقال أبو حنيفة , ومحمد بن الحَسَن: إقرار الوكيل جائز عند الحاكم , ولا يَجوز عند غيره.

وقال ابن أبي ليلى: إقرار الوكيل على المُوكِّل باطل , وإليه ذهب الشافعيّ. وفيه: وجوب قَبول أخبار الآحاد.

(8) (باب إذا وكل رجل رجلا أن يعطي شيئا ولم يبين كم يعطي

(8) (باب إذا وَكَّل رجل رجلا أن يُعطِي شيئا ولم يُبيّن كم يُعطي فأعطى على ما يتعارفه الناس) 515/ 2309 - قال أبو عبد الله: حدّثنا المَكِّي بن إبراهيم , قال: حدّثنا ابنُ جُريج , عن عطاء بن أبي رباح , وغيره: يزيد بعضُهم على بعض , ولم يُبَلِّغه كلهم , رجل واحد منهم عن جابر بن عبد الله , قال: كنت مع النبي , صلى الله عليه وسلم , في سَفَر , فكنت على جمل ثفال , وذكر الحديث إلى أن قال: قال رسول الله , صلى الله عليه وسلم: " بِعْنيه " , يعني الجمل. ثم قال: " قد اخذته بأربعة دنانير , ولك ظَهره إلى المدينة " , فلما دنونا من المدينة أخذتُ أرتَحِل , قال: " أين تُريد "؟ قلت: تزوّجتُ امرأة قد خلا منها. قال: فلمّا قدِمنا المدينة , قال: " يا بِلال: اقضِه وزِده " , فأعطاه أربعة الدنانير , وزاده قيراطا. الجمل الثَّفال: هو البطيء السير , الثقيل الحركة.

وفي قوله: " ولك ظَهره إلى المدينة " , دليل على أن ليس كل شَرْط بمُفسِد للبيع , وأجاز بن أحمد بن حنبل , وإسحاق البيع في مثل ذلك , وأثْبَتَ الشّرط. وقال مالك: إن كان المكان قريبا جاز , وإن كان بعيدا لم يَجُز , وكذلك قال فيمن باع دارا على أن له سُكناها مُدَّة , فقال: إن كان ذلك نحو الشّهر , والشّهرين جاز , وإن كانت المُدّة طويلة لم يَجُز. وقوله: امرأة قد خلا منها , يُريد: أنها مُسِنّة , قد خلا منها عُمْرها.

(13) (باب الوكالة في الحدود)

(13) (باب الوكالة في الحدود) 516/ 2316 - قال أبو عبد الله: حدّثنا ابن سَلّام , قال: حدّثنا عبد الوهاب الثَّقفي , عن أيوب , عن ابن أبي مُليكة , عن عُقبة بن الحارِث , قال: جيء بالنعمان , أو ابن النُّعمان شارِبا , فأمر رسول الله , صلى الله عليه وسلم , مَن كان في البيت أن يَضرِبوا. قال: فكُنت أنا فيمن ضربه , فضربناه بالنِّعال والجَريد. فيه من الفِقه: أنّ حدَّ الخَمر أخفّ الحُدود.

وفيه: أنه لم يَسْتَأنِ به الإفاقة , كما يستأني بالحامِل من الزِّنا في وضع الحَمْل.

كتاب الحرث والمزراعة

كتاب الحَرث والمُزراعة (2) (باب ما يُحْذَر مِن عواقب الاشتغال بآلة الزّرع , أو مُجاوزة الحدّ الذي أُمِر به) 517/ 2321 - قال أبو عبد الله: حدّثنا عبد الله بن يوسُف , قال: حدّثنا عبد الله بن سالِم الحِمصيّ , قال: حدّثنا محمد بن زِياد الألْهانيّ , عن أبي أُمامة الباهليّ , قال: ورأى سِكَّة , وشيئا من آلة الحَرث. فقال: سمعت رسول الله , صلى الله عليه وسلم , يقول: " لا يَدخُل هذا بيت قوم إلا دخله الذُّل ". السِّكَّة: الحديدة التي تُحرث بها الأرض. ومعنى الذُّل في هذا: ما يَلزَمُهم من حُقوق الأرض التي تُطالِبه الأئمة , السلاطين بها. وفيه دليل: على أن الأموال الظاهرة تُخرَج حُقوقها إلى

السلاطين , وأنشَدَني بعض أهل العلم في معنى ما جاء به من دُخول الذُّل على أرباب الضَّيْعة: هي العَيش إلا أنّ فيها مَذَلّة فمَن ذَلَّ قاساها ومَن عَزَّ باعها

(6) (باب قطع الشجر والنخل)

(6) (باب قَطْع الشَّجر والنَّخل) 518/ 2326 - قال أبو عبد الله: حدّثنا موسى بن إسماعيل , قال: حدّثتنا جُوَيْرِيَة , عن نافع , عن عبد الله بن عُمر , رضي الله عنه , عن النبي , صلى الله عليه وسلم , أنه حَرَّق نخل بني النَّضير , وقُطَع , وهي البُوَيْرَة , ولها يقول حسّان: وهان على سَراة بني لؤيّ حريق بالبُوَيْرَة مُستطير فيه من العلم: جواز قَطْع الشّجر في بلاد العَدوّ إذا دَعَت الحاجة إليه. وقد قيل: إنّ هذه النّخل كانت مَقاتِل القوم , فقُطِعت لِيَبْرُز مكانها , فيكون مجالا للحَرب. وسَراة القوم / عِلْيَتُهم. والمُستطير: المُنتشر.

(12) (باب ما يكره من الشروط في المزراعة)

(12) (باب ما يُكرَه من الشُّروط في المُزراعة) 519/ 2332 - قال أبو عبد الله: حدّثني صَدَقة بن الفَضل , قال: أخبرني ابن عُيَيْنَة , عن يَحيى , أنه سَمِع حَنظلة الزرقي , عن رافِع , قال: كُنّا أكثر أهل المدينة حَقْلا , وكان أحدنا يُكْري أرضه , فيقول: هذه القطعة لي , وهذه لك , فربّما أخرَجَت ذِه , ولم تُخرِج ذِه , فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم. الحَقل: القَراح من الأرض الذي يُزرع , وفي هذا بيان عِلّة النهي عن المُزراعة , وذلك لما كان يدخلها على هذا الوجه مِن الغَرَر , والجَهالة , فإذا خلا العَقد عن هذا أمثاله جاز , ولم يَفسُد , وهذا لِيؤكِّد ما تقدَّم ذِكره في حديث قبله.

(14) (باب أوقاف النبي , صلى الله عليه وسلم,

(14) (باب أوقاف النبي , صلى الله عليه وسلم, وأرض الخراج ومزارعتهم ومعاملتهم) 520/ 2334 - قال أبو عبد الله: حدّثنا صَدَقة - هو ابن الفضل - قال: حدّثنا عبد الرحمن , عن مالك , عن زيد بن أسلم , عن أبيه , قال: قال عُمر , رضي الله عنه: لولا آخر المسلمين ما فُتحت قرية إلا قسّمتها بين أهلها , كما قسَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم , خَيبر. قلت: كان عُمر , رضي الله عنه , يرى هذا الرأي نَظرًا لآخِر المسلمين , وتحريًّا لمصلحتهم , وكان يتأوّل في ذلك قوله عزّ وجل: {والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غِلًّا للذين آمنوا} الآية , ويعطِفه على قوله: {للفقراء المُهاجرين} ويرى الآخرين منهم أُسوة الأولين.

وقد كان يعلم أنّ المال يَعِزّ , وأنّ الشُّح يغلِب , وأن لا مُلك بعد كِسرى , يُغنَم ماله , وتُحاز خزائنه , فيسَع المسلمين عامة , ويُغني مفاقِرهم , وأشفق أن يبقى آخر الناس لا شيء لهم , فرأى أن يحبس الأرض , وأن لا يُقَسِّمها , كما قد قَسَّم سائر الأموال من النقود والأمتعة , وأن يضع عليها خراجا يدوم نفعها للمسلمين , ويُدِرّ خيرها أبدا , كما فعل ذلك بأرض السّواد , نظرا للمسلمين وشفقة على آخرهم , رضي الله عنه.

(15) (باب من أحيا أرضا مواتا)

(15) (باب من أحيا أرضاً مَواتاً) 521/ 2335 - قال أبو عبد الله: حدّثني يحيى بن بُكير , قال حدّثنا الليث , عن عُبيد الله بن أبي جَعفَر , عن محمّد بن عبد الرحمن , عن عُروة , عن عائشة , رضي الله عنها , عن النبي , صلى الله عليه وسلم , قال: مَن عَمَر أرضا ليست لأحد , فهو أحق بها. قال عُروة: قضى به عُمر في خِلافته. قلت: فيه بيان: أنّ من عَمَر أرضا غير مملوكة لأحد , وأحياها مَلَكَها بذلك , وإن لم يكن السلطان أَذِن له فيه , وذلك لأنّ نبي الله , صلى الله عليه وسلم , أطلق القول فيه , وأرسله من غير شرط , قيَّده به , فقال: من عَمَر أرضا , كما قال في الحديث

الآخر: مَن أحيا أرضا مَيْتة , فهي له. فأما ما كان مِلكا لمالك , ثمّ دَرَسَت مَعالِمُه , وانقطعت عِمارته , فإن مِلك صاحبها لا يزول عنها بخرابها , وسواء كان ذلك بِقُرب العِمارة , أو على بُعد منها , إذ لم يُشترط شيء من ذلك في الحديث.

(18) (باب ما كان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يواسي بعضهم بعضا في الزراعة والثمر)

(18) (باب ما كان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يُواسي بعضهم بعضا في الزراعة والثمر) 522/ 2339 - قال أبو عبد الله: حدّثني محمد بن مُقاتل , قال: أخبرنا عبد الله قال: أخبرنا الأوزاعي , عن أبي النّجاشي - مولى رافع بن خَديج - قال: سمعت رافع بن خَديج , عن عمّه ظُهير بن رافع. قال ظُهَير: لقد نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بِنا رافِقا. قلت: ما قال رسول الله , صلى الله عليه وسلم , فهو حَقّ. قال: دعاني رسول الله , صلى الله عليه وسلم , فقال: " ما تصنعون لمَحاقِلِكم "؟ قلت: نُؤاجِرها على الربيع , وعلى الأوسق من التمر والشعير. قال: لا تفعلوها , ازرعوها أو أزْرِعوها , أو أمسِكوها. قال رافع: قلت: سمعٌ وطاعة. قوله: كان بِنا رافِقا , أي: ذا رافق , كقولك: ناصِب ,

بمعنى ذي نَصَب , وقد يكون بمعنى المرفق , كقول الشاعر: ومنزل هالك مَن تَعَرَّجا يريد مُهلِك مَن تَعَرَّج. وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم , أنه قال: " مَن باع تالِدا سَلَّط الله عليه تالِفا ". والمَحاقِل: المَزارِع. والربيع: الساقية , يريد أن ما سَقاه الربيع فهو خاصّ لرب الأرض. وقوله: " أزْرِعوها " , يريد: امنحوها من يَزرعها لنفسه. يُقال: أَزْرعته أرضا , إذا جعلتها له مزرعة , وأَرْعيته كلأً , إذا جعلتها له مرعى , وأسقيته بئرا , إذا جعلت لها سُقياها.

(18) (الباب نفسه)

(18) (الباب نفسه) 523/ 2343 - قال أبو عبد الله: حدّثنا سُليمان بن حَرب , قال: حدّثنا حماد بن زيد , عن أيوب , عن نافع , أنّ ابن عُمركانيُكري مَزارعه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم , وأبي بكر , وعُمر , وعُثمان , وصدرا من إمارة مُعاوية. ثمّ حدّث عن رافع بن خديج أنّ النبي , صلى الله عليه وسلم , نهى عن كِراء المزارع , فذهب ابن عُمر إلى رافع , فذهبت معه , فسأله فقال: نهى النبي , صلى الله عليه وسلم , عن كِراء المزارع. فقال ابن عمر: قد علمت أنّا كُنّا نُكري مزارعنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم , بما على الأربعاء , وشيء مِن التّبن. الأربعاء: السّواقي , واحدها ربيع , وإنما فسد هذا الكِراء , لأنه شيء مجهول , فأما ما كان الكِراء فيه معلوما , ذهبا أو فِضّة , فلا خِلاف في جوازه.

(13) (باب إذا زرع بمال قوم بغير إذنهم , وكان في ذلك صلاح لهم)

(13) (باب إذا زَرَع بمال قوم بغير إذنهم , وكان في ذلك صلاح لهم) 524/ 2333 - قال أبو عبد الله: حدّثنا إبراهيم بن المُنذر , قال: حدّثنا أبو ضَمْرة , قال: حدّثنا موسى بن عُقبة , عن نافع , عن ابن عُمر , عن النبي , صلى الله عليه وسلم , وذَكَر حديث الغار إلى أن قال: قال الآخر: إنه كانت لي ابنة عمّ , أحببتها كأشد ما يُحِبّ الرجال النساء , فطلبتها , فأبت حتى آتيها بمائة دينار , فبَغَيت حتى جمعتها , وساق الحديث. قوله: بَغَيت , معناه: كَسَبت. وأصل البغي: الطلب , وقَلَّ ما يُستعمل ذلك في طلب الخير وقد جاء مِن ذلك في طلب الخير قول زيد بن عمرو بن نُفَيل: البِرّ أبغي لا الخال.

وجاء أيضاً في شهر رمضان , يقال: " يا باغي الخير أقبِل , ويا باغي الشرّ أدْبِر ".

كتاب المساقاة

كتاب المُساقاة (1) (باب من رأى صدقة الماء وهِبَتَه ووصيّته جائزة مقسوما كان أو غير مقسوم) 525/ 2352 - قال أبو عبد الله: حدّثنا أبو اليَمان , قال: أخبرنا شُعَيب , عن الزُّهْري , قال: حدّثني أنس بن مالك , أنه قال: حُلِبَت لرسول الله , صلى الله عليه وسلم , شاة داجِن , وهو في دار أنس , وشِيب لبنها بماء من التي في دار أنس , فأعطى رسول الله , صلى الله عليه وسلم , القَدَح , فشرِب منه حتى إذا نَزَع القدح من فيه , وعلى يساره أبو بكر , وعن يمينه أعرابيّ , فقال عُمَر وخاف أن يُعطيه الأعرابي: أعْطِ أبا بكر يا رسول الله عندك , فأعطى الأعرابيّ الذي عن يمينه , ثم قال: " الأيمن فالأيمن ". قلت: كانت العادات في قديم الدهر وحديثه جارية بتقديم الأيمن فالأيمن في مُناولة الكؤوس , والطِّيب , والتُّحَف , وكان ذلك سُنّة الأدب عند ملوكهم ورؤسائهم , وخواصّهم ,

وعوامّهم , ولذلك يقول عمرو بن كُلثوم: صَدَدْتِ الكأس عنّا أُمّ عمرو وكان الكأس مجراها اليمينا ولأجل ذلك قال عُمر: أعطِ أبا بكر يا رسول الله , خوفا من أن يعطيه الأعرابي , جَريا على العُرف , والعادة في مثله , ويُشبه أن يكون المعنى في ذلك من جهة سُنّة الدين أن اليمين مُفضّلة على الشمال ومُقدّمة عليها , وقد اُمِروا أن يأكلوا بأَيمانهم , وأن يشربوا بها , وأن تكون المُعاطاة بها دون الشمال , وإذا ثبتت لها الفضيلة في نفسها ثبتت للشِّق الذي يليها , وللناحية التي هي أقرب إليها , فاستحقّ الأعرابي التقديم لقُرب الجِوار , وما استُحِق بسبب الجِوار لم يُراعَ فيه الأفضل فالأفضل , كالشُّفعة بصَقْب الدار , إنما يُراعى

فيه الأقرب فالأقرب , وكذلك بِرّ الجار في الهدية , والإتحاف , ونحوه , وقد رُوي عن النبي , صلى الله عليه وسلم , أنّ رجلا قال له: يا رسول الله , إنّ لي جارين , فإلى أيهما أُهدي؟ فقال: إلى أقربهما بابا. وفي إعراب الأيمن وجهان: نصب النون على إضمار , ناوِل الأيمن , أو عليك بالأيمن. ورفعها على معنى الأيمن أولى , فرفع الأيمن بالابتداء. والدواجِن: ذوات البيوت من الشاء التي لا تَخرج إلى المرعى.

(2) (باب من قال أن صاحب الماء أحق بالماء حتى يروى)

(2) (باب من قال أن صاحب الماء أحق بالماء حتى يروى) 526/ 2354 - قال أبو عبد الله: حدّثنا يحيى بن بُكير , قال: حدّثنا الليث , عن عُقيل , عن ابن شِهاب , عن ابن المُسَيَّب , وأبي سَلَمة , عن أبي هريرة أن رسول الله , صلى الله عليه وسلم , قال: " لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا فضل الكلأ ". قلت: هذا في الرجل يحفر البئر في الأرض المَوات , فيَملِكها بالإحياء , وبقرب البئر مَوات فيه كلأ ترعاه الماشية , فلا يكون لهم مُقام , إذا مُنعوا الماء , فأمر صلى الله عليه وسلم صاحب البئر أن لا يمنع الماشية الراعية هناك فضل مائه , لئلا يكون مانعا للكلأ , والنهي في هذا على التحريم عند مالك بن أنس , والأوزاعي , والشافعي. وقال آخرون: ليس النهي فيه على التحريم , إنما هو من باب المعروف , كأمره الجار أن لا يمنع جاره من غَرز خشبة في جداه , ونحو ذلك من حقوق المعروف.

(6) (باب سكر الأنهار)

(6) (باب سَكْر الأنهار) 527/ 2359 - قال أبو عبد الله: حدّثنا عبد الله بن يوسف , قال: حدّثنا الليث , قال: أخبرني ابن شِهاب , عن عُروة , عن عبد الله بن الزُّبير أنه حدّثه أن رجلا من الأنصار خاصم الزبير عند النبي , صلى الله عليه وسلم , في شِراج الحَرَّة التي يسقون بها النخل , فقال الأنصاري: سَرِّح الماء يمر , فأبى ذلك , فاختصماء عند النبي , صلى الله عليه وسلم , للزبير: " اسقِ يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك " , فغضب الأنصاري , فقال: أن كان ابن عمّتك , فتلوّن وجه رسول الله , صلى الله عليه وسلم , ثم قال يا زُبير: " اسقِ , ثمّ احبس الماء حتى يرجع إلى الجَدْر ". فقال الزبير: والله إني لأحسِب هذه الآية نزلت في ذلك: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يُحَكّموك فيما شجر بينهم} الآية. شِراج الحَرَّة: مجاري الماء الذي يسيل منها , واحدها شَرج. وفيه من العلم: أن أصل مياه الأودية والسيول التي لا تُملك منابعها , ولم تُستنبط بعمل فيها وحَفر , الإباحة , وأنّ من سَبَق إلى شيء , وأحْرَزَه كان أحق به.

وفيه دليل على أن أهل الشرب الأعلى مُقدّمون على من هو أسفل منهم , لإحرازهم السَّبق , وأنه ليس للأعلى أن يحبسه عن الأسفل إذا كان قد أخذ حاجته منه. وقد ذهب بعضهم في معنى ما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم , مِن قوله الآخِر بعد الأول إلى أنه نَسَخ الحكم الأول بحكمه الآخِر , وقد كان له في الأصل الحكم بأيهما شاء , إلا أنه قدّم الأخفّ والأسهل أخذا بالمُسامحة , وإيثارا لحُسن الجِوار , فلمّا رأى الأنصاري يجهل موضع حقّه , نسخ الأول بالآخر حين رآه أصلح , وفي الزجر له أبلغ. وقال بعضهم: إنما كان القول الأول من رسول الله , صلى الله عليه وسلم , على وجه المشورة للزُّبير , وعلى سبيل المُسامحة لجاره ببعض حقّه , دون أن يكون ذلك حكما منه عليه , فلمّا خالفه الأنصاري استقصى للزبير حقّه وأمره باستيفائه منه. وإلى نحوٍ من هذا أشار أبو عُبَيد. وفيه دليل على أن للإمام أن يعفو عن التعزير , كما له أن يُقيمه على من وَجَب عليه. وقد قيل: أن عقوبته قد وقعت في ماله , وكانت العقوبات قد تقع بعضها إذ ذاك في الأموال , كقوله صلى الله عليه وسلم في

مانع الصدقة: " إنّا آخذوها , وشَطْر ماله , عَزْمة من عَزمات ربنا " , وكما أَمَر بِشَقّ الزِّقاق , وكسر الجِرار عند تحريم الخمر , تغليظا فيها , وتأكيدا لمعنى التحريم لها.

(8) (باب شرب الأعلى إلى الكعبين)

(8) (باب شِرب الأعلى إلى الكعبين) 528/ 2362 - قال أبو عبد الله: حدّثنا محمد - هو ابن سلَّام - قال: أخبرنا مَخْلَد , قال: أخبرني ابن جُريج , قال: حدّثني ابن شِهاب , عن عُروة بن الزُّبير أنه حدّثه أنّ رجلا من الأنصار خاصم الزبير في شِراج الحَرَّة , يسقي بها , فقال رسول الله , صلى الله عليه وسلم: " اسق يا زبير " فأمره بالمعروف , ثم أرسل إلى جارك. قال الأنصاري: أن كان ابن عمّتك , فتلوّن وجه رسول الله , صلى الله عليه وسلم , ثمّ قال: "اسقِ يا زُبير , ثمّ احبس حتى يرجع الماء إلى الجَدْر" , واستوعى له حقّه , فقال الزبير: والله إن هذه الآية لنزلت في ذلك: {فلا وربّك لا يُؤمنون حتّى يُحكّموك فيما شَجَر بينهم}. فقال ابن شِهاب: فقَدَّرتِ الأنصار والناس قوله: اسقِ , ثم احبس حتى يرجع إلى الجَدْر , وكان ذلك إلى الكعبين.

قلت قوله: " فأمَره بالمعروف " , إشارة إلى العادة المعروفة التي كانت جرت بينهم في مقدار الشِّرب , والشّريعة إذا صادفت شيئا معهودا , فلم تُغيّره عن صورته , فقد قرَّرَته , وصار ذلك أمرا واجبا , يُحمَل الناس عليه , ويُحكم به عليهم. وقوله: " واستَوعى له حقّه " , يُريد: أنه استوفاه كله , وهو مأخوذ من الوِعاء , كأنه جَمَعَه في وِعائه. والجَدْر: الجِدار , يريد: جِذْم الجِدار الذي هو الحائل بين جدر المَشارات. وقد رواه بعضهم: حتى يَبلُغ الجَذْر -بالذال معجمة- يريد له: مبلغ تمام الشِّرب من جَذْر الحِساب , هكذا رواه الليث بن المُظَفّر , والأصحّ هو الأول.

كتاب الصلح

كتاب الصُّلْح (12) (باب إذا أشار الإمام بالصُّلح فأبى , حَكَم عليه بالحُكم البَيّن) 529/ 2708 - قال أبو عبد الله: حدّثنا أبو اليَمان , قال: أخبرنا شُعَيب , عن الزُّهْري , أخبرني عُروة بن الزّبير , أنّ الزبير كان يُحدّث أنه خاصم رجلا من الأنصار , قد شَهِد بدرًا , إلى رسول الله , صلى الله عليه وسلم , في شِراج من الحَرَّة كانا يسقيان به كلاهما. فقال رسول الله , صلى الله عليه وسلم , للزبير: " اسقِ يا زبير , ثم أرسِل إلى جارك " , فغضِب الأنصاري , فقال: يا رسول الله! أن كان ابن عمّتك , فتلوّن وجه رسول الله , صلى الله عليه وسلم , ثم قال: " اسق " ثم قال: " احبِس حتى يبلُغ الجَدْر " , فاستوعى رسول الله , صلى الله عليه وسلم , يومئذ حقه للزبير , وكان قبل ذلك أشار على الزبير برأي سَعَة له وللأنصاري , فلمّا أحْفَظ الأنصاري رسول الله صلى الله عليه وسلم , استوعى للزبير حقّه في صَريح الحُكم.

قوله: أن كان ابن عمّتك , معناه: لَأنْ كان ابن عمّتك , أو لأجل أن كان ابن عمّتك , كقوله عزّ وجلّ: {أن كان ذا مال وبنين}. والمعنى ألأن كان ذا مال وبنين , يقول: {إذا تُتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين}. وقوله: فلمّا أحْفَظ الأنصاري رسول الله , صلى الله عليه وسلم , هذا يُشبه أن يكون من كلام الزُّهْري , وليس من نفس الحديث , وقد كان من عادته أن يصل بعض كلامه بالحديث إذا رواه , ولأجل ذلك قال له موسى بن عُقبة فيما يُروى: مَيِّز قولك من قول رسول الله , صلى الله عليه وسلم , ومعنى أَحْفَظ: أغْضَب. وفلان مُضْمَر على حِفْظَة , أي: على سِخْطَة.

قال العجاج: * وحِفْظَةٍ أكنَّها ضميري * وفيه: أنه صلى الله عليه وسلم حَكَم على الأنصاري في حال غضبه لِما كان من قوله: أن كان ابن عمّتك , مع نهيه الحاكم أن يَحكم وهو غضبان , وذلك أنه ليس كغيره من البَشَر , قد عَصَمَه الله من أن يقول في السُّخْط والرِّضا إلا حقًّا , فليس يُقاس إليه من البشر أحد , صلى الله عليه وسلم.

(10) (باب من رأى أن صاحب الحوض والقربة أحق بمائه)

كتاب المُساقاة (10) (باب من رأى أن صاحب الحَوض والقِربة أحقّ بمائه) 530/ 2368 - قال أبو عبد الله: حدّثني عبد الله بن محمد , قال: حدثنا عبد الرزّاق , قال: أخبرنا مَعْمَر , عن أيوب , وكَثير بن كَثير , يزيد أحدهما على الآخر , عن سعيد ابن جُبير قال ابن عبّاس: قال النبي , صلى الله عليه وسلم: " يرحم الله أمَّ إسماعيل لو تركت زمزم , أو قال: لو لم تَغرِف من الماء لكانت عينا مَعينا , وأقبل جُرْهُم , فقالوا: أتأذنين أن ننزل عندك؟ قالت: نعم , ولا حقّ لكم في الماء. قالوا: نعم ". قوله: " لو لم تَغتَرِف من الماء لكانت مَعينا " , يريد: أنها لو لم تَشُحّ , ولم تحرِص عليه , ولم تدَّخِره لكانت عينا تجري , والمَعين: الظاهر , لكنها لمّا غرفتت في السِّقاء لضعف يقينها , وقلة ثقتها بأنها تَسْتَخلف , وبأن الله سيَمُدُّها حُرِمت ذلك. وفي قولها: " ولا حقّ لكم في الماء " , دليل على أنّ مَن أنْبَط

ماء في فلاة من الأرض , فإنه قد مَلَك تلك البُقعة بالإحياء , وأنه ليس لأحد أن يحول بينه وبينها , أو يُشاركه فيها إلا بإذنه , خلا أنه لا يَمنع فضل مائه بعد غِناه عنه. وإنما اشترطت هاجر عليهم أن لا يتملّكوا الماء فيكونوا أُسْوَتها , دون فَضْل الماء الذي هو حقّ السّابِلة والنّازِلهه في حُكم الدين والشّريعة , والله أعلم.

(10) (الباب نفسه)

(10) (الباب نفسه) 531/ 2369 - قال أبو عبد الله: حدّثني عبد الله بن محمد , قال: حدّثنا سفيان , عن عمرو , عن أبي صالح السّمّان , عن أبي هريرة , عن النبي , صلى الله عليه وسلم , قال: " ثلاثة لا يُكلّمهم الله يوم القيامة , ولا ينظر إليهم: رجل حَلَف على سِلعة لقد أعطى بها أكثر مما أعطى , وهو كاذب , ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر , ليقتطع بها مال رجل مُسلم , ورجل منع فضل ماء فيقول الله: اليوم أمنعُك فضلي , كما منعتَ ما لم تعمله يداك. قوله: " بعد العَصْر " وتخصيصه ذلك الوقت باليمين الفاجِرة وتعظيمه الإثم والجَرح فيه , وقد عُلِم أنّ اليمين الفاجِرة , مُحرّمة في كل وقت وأوان مما يُسأل عنه , وقد يحتمل ذلك وُجوها: منها: أن الله عزّ وجلّ قد عَظَّم شأن هذا الوقت , وأكَّد أمر الصلاة المفروضة فيه , وقدَّمها على سائر الصلوات في حقّ المُحافظَة , فقال:

{حافِظوا على الصلوات والصلاة الوُسطى} فرُوِي على معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: أنها صلاة العصر. ورُوي عن علي بن أبي طالب , وعن عائشة في جماعة من الصحابة أن الصلاة الوُسطى هي العصر. وق رُوي أنّ ملائكة الليل والنهار يجتمعون في تلك الصلاة , ويُرفع فيها الأعمال التي اكتسبها العِباد من لَدُن أول النهار , فهو خِتام الأعمال وسائقها , والأمور بخواتيمها , فيُشْبِه أن يكون - والله أعلم - إنما جرى ذكر هذا الوقت في الحديث خصوصا , وغُلِّظت العقوبة فيه , لتُحذر اليمين الفاجرة , ولا يُقْدَم عليها , فإن من تركها تحرُّجا في ذلك الوقت تركها كذلك في سائر الأوقات , ومن تَجَرَّأ عليها فاعتادها في غيره من الأوقات لم يَتحرّج مِن فِعلها في ذلك الوقت , ومِن خصوصية الوقت بعد العصر أنه وقت يَختم فيه

صحيفته بما كان منه في نهاره , من طاعة , ومعصية , ويُرفع على أثر ذلك عمله إلى الله تعالى , ومما يؤكد تعظيم حرمة هذا الوقت قول الله تعالى في شهادة أهل الذِّمة: {تحبِسونهما من بعد الصلاة فيُقسِمان بالله} قالوا: أرادوا به صلاة العصر. وقد قيل في ذلك: أنّ الناس بالحِجاز كانوا يحلِفون بعد صلاة العصر , لأنه وقت اجتماع الناس. وقد روى وَكيع , عن الأعْمَش , عن أبي صالح , عن أبي هُريرة , عن النبي , صلى الله عليه وسلم , في هذا الحديث , فقال: " ورجل بايع رجلا بِسلعة بعد العصر , فحلف له بالله لَأخَذها بكذا وكذا , فصدّقه وهي على غير ذلك " وقد ذكره أبو عبد الله في هذا الكتاب , إلا أنّ هذا الحَرْف لم يقع

ذِكره في رواية سفيان من هذا الحديث , فيَحتمل إلى ما ذكرناه من الوُجوه أن يكون إنما خصّ ما بعد العصر بهذا الحُكم , لأنه آخر النهار , وهو الوقت الذي ينصرف فيه التجار والباعة إلى منازلهم , بما كسبوه بياض نهارهم من رِبح وفضل , وربما يتَّفِق أن يكون التاجر في بعض الأيام لا يَستنفِق سُوقا , ولا يستفضِل رِبْحا , فإذا أمسى ونفقته في غالب العادة إنما هي كسب يومه , ورِبح نهاره , ويكره أن يجعلها من صُلب ماله , وأصل بضاعته , فتَنْفَق له في ذلك الوقت الصّفقة فيُروِّجها باليمين الكاذبة حِرصا على ما ينال فيه من رِفق , فيوتِغ بذلك دينه , ونسأل الله السلامة من آفة الحِرص , وأن يرزقنا تعظيم ما عظّمه الله من أمر الدنيا بفضله ورحمته. وقوله: " أمنعُك فضلي , كما مَنَعت فضل ما لم تعمله يداك " , فإن فيه كالدليل على أنّ الأمر في ذلك من باب الأمر في ذلك من باب الأمر بالمعروف , لا على سبيل الوجوب. ومعنى قوله: " لم تَعمله يداك " , أي: أن الله عزّ وجلّ هو الذي خلق الماء , وأنزله من السماء , وأنبعه من العُيون , كقوله: {أفرأيتم الماء الذي تشربون ءأنتم أنزلتموه من المُزن أم نحن المنزِلون}. يقول: إذا كنت لم تُعطَ الماء بكدّك وكدحِك , وإنما

هو سُقيا من الله عزّ وجلّ , ورِزق ساقه إليك , فاسمح به لأخيك ولا تَبخل بفضله عليه يُبارَك لك فيه , تستحق المزيد منه , ولا تُحرَم الثواب عليه.

(13) (باب بيع الحطب والكلأ)

(13) (باب بيع الحَطَب والكَلَأ) 532/ 2375 - قال أبو عبد الله: حدّثني إبراهيم بن موسى , قال: أخبرناهشام , أن ابن جُرَيج أخبرهم , قال: أخبرني ابن شِهاب , عن علي بن الحُسين بن علي , عن أبيه الحسين بن علي , عن علي بن طالب , رضي الله عنه , أنه قال: أصبت شارِفا أخرى , فأنخْتُهما يوما عند باب رجل من الأنصار , وأنا أريد أن أحمِل عليهما إذخِرا لأبيعه , ومعيصائغ من بني قَينُقاع , فأستعين به على وليمة فاطمة , وحمزة بن عبد المطلب يشرب في ذلك البيت , ومعه قَينَة تُغَنِّيه , فقالت:

* ألا يا حَمْزَ للشُّرُف النّواءِ * فقام إليها حمزة بالسيف فجَبّ أسْنِمتهما , وبَقَر خواصِرهما , ثم أخذ من أكبادهما , فذهب بها. قال ابن شِهاب , قال علي: " فنظرت إلى منظر أفظَعَني , فأتيتُ به نبي الله , صلى الله عليه وسلم , وعنده زيد بن حارثة فأخبرته الخبر , فخرج ومعه زيد , فانطلقت معه , فدخل على حمزة فتغَيَّظ عليه , فرفع حمزة بصره , وقال: هل أنتم إلا عبيد آبائي , فرجع رسول الله , صلى الله عليه وسلم , يُقَهقِر حتى خرج عنهم , وذلك قبل تحريم الخمر. الشَّارِف: المُسِنّة من النوق , والشُّرُف: جمع الشارف ,

والنواء: السِّمان , والنَّيّ: السمين. يقال: نَوَت الناقة تنوِي نَواية , ونِواية: إذا سمِنت فهي ناوية , ونوق نَواء , أي: سِمان. وقوله: يُقهقِر , أي: ينكِص على عقبيه. يقال: رجع القَهْقَرى , إذا رجع وراءه , ووجْهه إليك. قلت: وقد ذُكر في هذا الحديث أن ذلك منه كان قبل تحريم الخمر , ولذلك عَذَر حمزة في قوله: هل أنتم إلا عبد آبائي , وكان ثَمِلا , فلم يؤاخِذْه به رسول الله , صلى الله عليه وسلم , ولو قال مثل ذلك القول في مثل تلك الحال مُسلِم بعد تحريم الخمر , لم يُعذر في ذلك ولوجبت عليه التوبة مع العقوبة فيه , والله أعلم.

(12) (باب شرب الناس وسقي الدواب من الأنهار)

(12) (باب شرب الناس وسَقي الدواب من الأنهار) 533/ 2371 - قال أبو عبد الله: حدّثنا ابن يوسُف , قال: أخبرنا مالك بن أنس , عن زيد بن أسلم , عن أبي صالح السَّمّان , عن أبي هريرة أن رسول الله , صلى الله عليه وسلم , قال: " الخيل لرجل أجْر , ولرجل سِتر , وعلى رجل وِزْر , فأما الذي له أجْر , فرجل ربطها في سبيل الله , فأطال لها مَرْج , أو روضة , فما أصابت في طِيَلِها ذلك من المَرْج , أو الروضة , كان له حسنات , ولو أنه انقطع بِطِيَلِها , فاستَنَّت شَرَفا أو شَرَفَين , كانت آثارها وأرواثها حسنات له , ولو أنها مَرّت بنهر فشربت منه , ولم يُرِد أن يسقي , كان ذلك حسنات له فهي لذلك أجر , ورجل ربطها فخرا , ورِياء , ونِواء لأهل الإسلام فهي على ذلك وِزْر , وسُئل رسول الله , صلى الله عليه وسلم , عن الحُمُر فقال: " ما أنزل الله عليّ فيها شيئا إلا هذه الآية الجامعة الفاذَّة:

{فمن يعمل مِثقال ذرّة خيرا يره ومن يعمل مِثقال ذرّة شرا يره}. قوله: أطال لها في مَرْج , أي: شَدّها في طِوَلِها وهو حبل طويل , يُشَدّ أحد طرفيه في أخِيَّة , أو وَتِد , ثم تُعلّق يد الفَرَس في الطرف الآخر منه , ليدور فيه , ولا يَعير, فيذهب على وجهه. وقوله: فما أصابت في طِيَلِها , يريد: الطِّول , وكلاهما لغة. وقوله: " فاسْتَنّت شَرَفا أو شَرَفين " , أي: عَدَت. يقال: سَنّ الفرس , واستنّ: إذا لَجَّ في عَدْوِه مُقبِلا ومُدبِرا. والشَّرَف: ما أشْرف من الأرض. وقوله: " ربطها تَغنِّيا وتعفُّفا " أي: طالبا بنتاجها الغِنى والعِفّة. ومنه الحديث: " ليس منّا من لم يتغنّ بالقرآن " أي: لم يَستَغنِ به.

وقوله: " ونِواء لأهل الإسلام " , أي: مُعارضَة لهم ومُعاداة , يقال: ناوأت الرجل مُناوأة ونِواء , إذا عاديته. قالوا: وأصله أنه ناء إليك , ونُؤت إليه , أي: نهض إليك , ونهضت إليه. ويقال: في مَثَل: إذا ناوأتَ الرجال فاصبر. وقد يُستدل بقوله: " ولم ينْس حقّ الله في رِقابها , ولا ظهورها " من يوجِب في الخيل الصدقة. وقوله: " في الحُمُر " هذه الآية الجامعة الفاذَّة " , فإنما يراد به صدقة الحُمُر , وإنما سمّاها جامعة , لاشتمال اسم الخير على جميع أنواع الطاعات: فرائضها ونوافلها , وجعلها فاذّة , لخلوها من بيان ما تحتها من الأسماء , وتفصيل أنواعها. والفذّ: الواحد الفرد , يقال: فَذَّ الشيء , فهو فاذّ , وفَذَّ الرجل عن أصحابه: إذا شَذّ عنهم وبقي فرداً وحده.

(11) (باب لا حمى إلا لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم)

(11) (باب لا حِمى إلا لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم) 534/ 2370 - قال أبو عبد الله: حدّثنا يحيى ب بُكير , قال: أخبرنا الليث , عن يونس , عن ابن شِهاب , عن عُبيد الله بن عبد الله بن عُتبة , عن ابن عبّاس , أنّ الصًّعب بن جَثَّامة, قال: إن رسول الله , صلى الله عليه وسلم , قال: " لا حِمى إلا لله ولرسوله " وقال: بلغنا أن رسول الله

صلى الله عليه وسلم , حَمَى النَّقيع , وأن عُمَر حَمَى الشّرَف والرَّبذَة. قوله: " لا حِمى إلا لله ولرسوله " , يريد أنه لا حِمى إلا على معنى ما أذِن الله لرسوله أن يحميه , وكان الرجل العزيز من أهل الجاهلية , يأتي الأرض الخِصبة , فيُوفي بكلب على نَشَز منها , فيَسْتعوي له , فيَحمي مَدَى صوت الكلب من كل وجه , ويَمنَع الناس أن يرعوه معه , والذي حماه رسول الله , صلى الله عليه وسلم , والأئمة بعده إنما فعلوه على النظر للمسلمين , وتقوية للخيل , والكُراع من غير أن تضيق المراعي عن مواشيهم وظُهورهم , فللأئمة أن يفعلوه على نحو ذلك. والنَّقيع: موضِع معروف من أرض المدينة , مُستنقَع للماء , يَنبُت فيه الكلأ عند نضوبه عنه.

(14) (باب القطائع)

(14) (باب القَطائع) 535/ 2376 - قال أبو عبد الله: حدّثنا سُليمان بن حَرب , قال: حدّثنا حمّاد , عن يحيى بن سعيد , قال: سمعت أنسا , قال: أراد رسول الله , صلى الله عليه وسلم , أن يُقطِع من البحرين , فقالت الأنصار: حتى تُقطِع لإخواننا من المُهاجرين مِثل الذي قُطِع لنا. قال: " سترون بعدي أثَرة , فاصبروا حتى تلقوني ". قلت: الإقطاع إنما هو عطاء يُعطيه الإمام أهل السّابِقة والفضل , وإنما يُسمّى إقطاعا إذا كان ذلك أرضا , أو عَقارا , أو ما كان في معناهما , مما له أصل , وهو نوع من التمليك , وإذا ملَكَه المُستقطِع صار مِلكا له , يورَث كسائر أملاكه , وإنما يُعطيه الإمام من الفيء , فلا يُعطي من حقّ مسلم , ولا من حقّ ذي عهد. وما كان نفعه عاجلا , وخيره عاما للمسلمين , لم يَجُز فيه الإقطاع ويُشبه أن يكون إقطاعه من البحرين إنما هو على أحد وجهين: إمّا أن يكون ذلك من الموات الذي لم يملكه أحد فيُمتَلك

بالإحياء , وإما أن يكون ذلك من العِمارة من حقّه في الخُمْس , فقد رُوي أنه افتَتح البحرين , فترك أرضها, ولم يقسمها , كما فتح أرض بني النضير , فتركها , ولم يقسِمها كما قَسَم خَيبَر. وذهب أكثر أهل العلم إلى أن العامِر من الأرض , الحاضر النفع والأصول من الشّجَر , كالنّخل , ونحوها , والمياه التي في العُيون , والمعاد الظاهر , كالمِلح , والقَير , ونحوها لا يجوز إقطاعها , وذلك أنّ الناس كلهم شركاء في الماء والمِلح , وما كان في معناهما , مما يستحقه الآخِذ له بالسبق إليه , فليس لأحد أن يحتجِبها لنفسه , ويَحظُر منافعها على شُركائه المسلمين , وقد كان رسول الله , صلى الله عليه وسلم , أقطَع أبيض بن حَمَّال المِلح الذي

بِمأربِ , فقيل: إنه كالماء العِدّ فرَدَّه. وقال: فلا إذًا. فأما إقطاع المعادن التي لا يُتَوصّل إلى نيلها , ونفعها , إلا بكدح , واعتِمال , واستخراج لما في بواطنها , فإن ذلك لا يوجب المِلْك الباتّ , ومن أُقطِع شيئا منها , كان له ما دام يعمل فيه , فإذا قَطَع العمل عاد إلى أصله , فكان للإمام إقطاعه لغيره. وقوله: " سترون بعدي أثَرة " , أي: استِئثارا عليكم , واستِبدادا بالحَظّ دونكم. يقال: آثرتُ الرجل بالشيء أُوثِره إيثارا , والاسم منه الأثَرة , والأثْرة , وكم بين قوم {يؤثِرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} وبين قوم يستأثرون بحقوق غيرهم , ويقتطعونها دونهم , والله يغفر لنا , ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان , ونسأله أن لا يجعل في قلوبنا غِلا للذين آمنوا إنه رؤوف رحيم.

كتاب الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس

كتاب الاستِقراض وأداء الديون والحَجْر والتفليس (7) (باب حُسن القضاء) 536/ 2393 - قال أبو عبد الله: حدّثنا أبو نُعيم , قال: حدّثنا سُفيان , عن سَلَمة , عن أبي سَلَمة , عن أبي هريرة , قال: كان لرجل على النبي , صلى الله عليه وسلم , سِنٌّ من الإبِل , فجاءه يتقاضاه , فقال: أعطوه , فطلبوا سِنّه , فلم يجدوا له إلا سِنًّا فوقها , فقال: أعطوه. فقال: أوفَيتَني أوفى الله بك. قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إنّ خِياركم أحسنكم قضاء ". فيه من الفِقه: جواز استِقراض الحيوان. وفيه: جواز السَّلَف في الحيوان , وفي كل ما يُضبط في صفة معلومة , يوجد غالبا عند حُلول الحقّ. وفيه: أنّ مَن أَقرض دراهم , فأُعطي خيرا ممادفع طاب له ذلك , ولم ذلك ربًا , ما لم يكن شرطا في أصل القرض , وقد كَرهَه قوم , ورأوه نوعا من الرِّبا , والنبي , صلى الله عليه وسلم , لا يُطعِم أحدا الرِّبا.

(11) (باب الصلاة على من ترك دينا)

(11) (باب الصلاة على مَن ترك دينا) 537/ 2399 - قال أبو عبد الله: حدّثني عبد الله بن محمد قال: حدّثنا أبو عامِر , قال: حدّثنا فُلَيح , عن هِلال بن عليّ , عن عبد الرحمن بن أبي عَمْرة , عن أبي هريرة أن النبي , صلى الله عليه وسلم , قال: " ما مِن مؤمن إلا وأنا أولى به في الدنيا والآخرة , اقرؤوا إن شئتم: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم} فأيما مؤمن مات , وترك مالا فليَرِثه عَصَبته من كانوا , ومَن ترك دَينا , أو ضَياعا فليأتني , فأنا مولاه ". الضَّياع: أصله المصدر من قولك: ضاع الشيء , يضيع ضَيعة , وضَياعا , ثم جُعِل اسما لكل ما هو يُرصَد أن يضيع من وَلد وعيال , لا كافِل لهم , ولا قَيِّم بأمرهم , وهذا كقوله: " مَن تَرَك

كَلًّا فإليّ " , والكلّ: العِيال. ومَن لا يكفي نفسه من ضَعَفَة الأهل. وقوله: " فأنا مولاه " , يريد: أنا وليّه , والكافِل له. والمولى , يتصرف معناه على وجوه: منها الناصر , ومنها الحليف , ومنها ابن العمّ , ومنها الوليّ القَيِّم بالأمر , ومنه الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: " أيما امرأة تزوّجت بغير إذن مولاها , فنِكاحها باطل " , يريد وليّها الذي يلي العَقْد عليها من عَصَبَتها.

(12) (باب مطل الغني ظلم)

(12) (باب مَطْل الغَنيّ ظُلم) 538/ 2400 - قال أبو عبد الله: حدّثنا مُسدَّد , قال: حدّثنا عبد الأعلى , عن مَعْمَر , عن هَمَّام بن مُنَبِّه - أخي وَهْب - أنه سمِع أبا هُريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَطْل الغنيّ ظُلْم ". قال أبو عبد الله: ويُذكر عن النبي , صلى الله عليه وسلم: " لَيُّ الواجِد يُحِلّ عِرضه وعُقوبته ". قوله: " مَطْل الغني ظُلم " , في دلالته أنّ مَن ليس بغني واجِد

للوفاء لم يكن ظالما , وإذا كان مُعدِما , لم يجب أن يُعاقب عقوبة الظَّلَمة بالحَبْس , والمنع من التصرّف. وفيه دليل: على أنّ مَن وجبت عليه زكاة ماله لوفاء النِّصاب , وكمال الحَول فلم يُؤدِّها حتى تُلِف ماله , فإنّ الزكاة لازِمة له , وإنما يُخرِجها إذا ثاب له مال , وإنما كان ظالما بمنعه الحقٌ مع الوَجْد. وقوله:" لَيّ الواجد يُحِلّ عِرضه وعُقوبته " , فإنّ الليّ المَطْل. يقال: لواني حقّي ليًّا ولِيَّانًا: إذا مطلك حقّك , والواجِد هو الغنيّ من الوُجد , وهو السَّعَة والقُدرة على المال , ومعنى إحلال عِرضه: هو أن يقال له: أنت ظالم , ونحو ذلك من القول. وعُقوبته أن يحبسه حتى يَستخرج حقّه منه.

(14) (باب إذا وجد ماله عند مفلس في البيع والقرض والوديعة فهو أحق به)

(14) (باب إذا وَجَد ماله عند مُفلِس في البيع والقَرض والوَديعة فهو أحقّ به) 539/ 2402 - قال أبو عبد الله: حدّثنا أحمد بن يونس , قال: حدّثنا زُهير , قال: حدّثنا يحيى بن سعيد , قال: أخبرني أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حَزْم , أن عُمر بن عبد العزيز , أخبره أنه سمع أبا هريرة , يقول: قال رسول الله , صلى الله عليه وسلم , أو قال سمعت رسول الله , صلى الله عليه وسلم , يقول: " مَن أدرك ماله بعينه عند رجل , أو إنسان , قد أفلس , فهو أحقّ به من غيره ". قلت: هذه سُنّة النبي , صلى الله عليه وسلم , سَنّها في استدراك حقّ من باع على حُسن الظنّ بالوفاء , فأخلَف موضِع ظنّه , وظهر على إفلاس من غريمه , ثم إن في الأصول أنّ الأعيان والذِّمَم , إذا تقابلت كانت الأعيان مُقدّمة على الذِّمَم , وقد قال بموجب هذا الحديث غير واحد من العلماء , إلا أن بعضهم يجعله أحقّ بمتاعه , ما لم يقبِض من الثمن شيئا , فإذا اقتضى من الثمن

شيئاً , صار أسوة الغرماء في الباقي , وإلى هذا ذهب مالك بن أنس , ومَدّ الشافعي الحُكم في ذلك على عمومه , فجعله أحقّ بجميع متاعه , وبكلّ جُزء منه سواء كان اقتضى شيئا من الثمن , أو لم يكن اقتِضاء , وكذلك إذا غيَّر الشيء عن هيئته , فاستَبدل اسما غيره أخصّ به , مثل أن تكون حِنطَة فطُحِنت , فتُسمى دقيقا , أو شاء , فذُبِحت , فتُسمى لحما , وكذلك إذا مات الغريم مُفلِسا , فإنه يرى صاحب السّلعة أحقّ بها كهُو لو كان أفلس حيا , وإنما رَغِب عن هذا القول من رَغِب عنه , من قيل أنه زَعَم أنّ المُبتاع إذا اشترى الشيء , وقبِضه فقد صار من ضمانِه كسائر أملاكه , فلا يجوز أن يُنقَض عليه مِلكه , لئلا يُؤدّى ذلك إلى مُخالفة الأصول في مِثله. قلت: الحديث - إذا صحَّ وثَبَت - صار أصلا يجب أن يُقَرَّ على موضعه وأن لا يُحمَل على أصل آخر , أو يُقاس عليه , وقد وجدنا الرجل يَبتاع الشيء , ويقبِضه فيصير من ضمانه , ثم يطرأ عليه حقّ الشّفيع , فيُنقَض عليه مِلكُه , وقد تُنكَح المرأة على مَهْر معلوم فتقبِضه , وتتصرّف فيه بالعتق إن كان رقيقا فيَنفذ , ثم يُطلِّقها الزوج قبل الدخول فينتَقِض عليها الملك في النصف من المهر , ولم يكن في شيء من هذا مخالفة الأصول , وقد قال أهل العِراق: لو وُهِب من رجُل هِبَة , فلم يُعَوِّض منها , كان للواهِب

أن يرتجِعَها فلم يعبؤوا لمخالفة ذلك سائر الأصول مع قوله صلى الله عليه وسلم: " العائد في هِبَتِه كالعائد في قَيئه ". فأمّا من وجد عين ماله من الودائع , والعَواري , واللُّقَطات , ونحوها من أنواع الأموال , فإنه لا خلاف أنه أحقّ بها , سواء وجدها عند مُفلِس أو غيره , فتأويل الحديث عليها غير مُثمِر فائدة , لأن الإجماع قد أغنى في ذلك عمّا سواه , ودلالة شرط الإفلاس المذكورة في الحديث يمنع من صرفه إلى الوجه الذي تأوّلوه عليه.

(16) (باب من باع مال المفلس أو المعدم فقسمه

(16) (باب مَن باع مال المُفلِس أو المُعدِم فقَسَمه بين الغُرماء أو أعطاه حتّى يُنفِق على نفسه) 540/ 2403 - قال أبو عبد الله: حدّثنا مُسَدَّد , قال: حدّثنا يزيد ابن زُرَيع , قال: حدثنا حُسين المُعَلِّم , قال: حدّثنا عطاء بن أبي رَباح , عن جابر بن عبد الله , قال: أعتق رجل غُلاما له من دُبُر. فقال النبي , صلى الله عليه وسلم: " مَن يَشتريه مِنّي؟ " فاشتراه نُعَيم بن عبد الله , فأخذ ثمنه فدفعه إليه. وهذا الحديث يَجمَع نوعين من الأحكام؛ جواز بين المُدْبِر , وبيع مال المُفْلِ عليه. وفيه: أنه دفع الثّمن إليه. وفي بعض الروايات أنه قال: " أنفِقه على نفسك " , وقد أجاز بيع المُدْبر على الأحوال , كلها الشّافعي , وأحمد بن حَنبل , ورُوِي ذلك عن مُجاهِد وطاوُس , وكان مالك يُجيز بيعه إذا أحاط الدَّين برقبة صاحبه.

(18) (باب الشفاعة في وضع الدين)

(18) (باب الشّفاعة في وَضع الدَّين) 541/ 2405 - قال أبو عبد الله: حدّثنا موسى , قال: حدّثنا أبو عَوانة , عن مُغيرة , عن عامر , عن جابر , قال: أُصيب عبد الله , وترك عِيالا ودَينا , وترك تمرا ليس له وفاء , فطَلبتُ إلى أصحاب الدَّين أن يضعوا بعضا من دَينه , فأبوا , فأتيت النبي , صلى الله عليه وسلم , فاستشفعتُ به عليهم , فأبوا , فقال - يعني: النبي صلى الله عليه وسلم -: " صَنِّف تمرك , كلّ شيء على حِدَته , عِذق ابن زيد على حِدَته , والليِّن على حِدَته , والعَجْوة على حِدَته , واللِّين على

حِدته ثم ّ أحضِرهم حتى آتيك , ففعلتُ ثم جاء فقَعد عليه , وكال لكلّ رجل حتى استوفى , وبقِي التمر كما هو كأنه لم يُمَسّ ". 542/ 2406 - وغَزوتُ مع النبي , صلى الله عليه وسلم , على ناضح لنا , فأزحَف الجمل , فتخلّف عليّ , فوكزه النبي صلى الله عليه وسلم , من خَلفِه , وقال: " بعينه ولك ظهره إلى المدينه " , فلمّا دنونا استأذنت قلت: يا رسول الله إني حديث عهد بعُرس. قال: " فما تزوّجت؟ بكرا أم ثيّبا " قلت: ثيّبا , أُصيب عبد الله , وترك جواري صغارا , فتزوجت ثيّبا تعلمهنّ وتؤدبهنّ , ثمّ قال: "ائت أهلك " , فقدمت فأخبرت خالي ببيع الجمل , فلامني. فأخبرته بإعياء الجمل , وبالذي كان من النبي , صلى الله عليه وسلم , ووكْزِه إيّاه , فلما قدِم النبي , صلى الله عليه وسلم , غدوت إليه بالجمل , فأعطاني ثمن الجمل , والجمل , وسهمي مع القوم ". فيه من العلم: جواز أن يشفع الإمام والحاكم إلى صاحب الحقّ في وضع الشّطر من حقّه. وعِذق ابن زيد: نوع معروف من التّمر , والعِذق: النّخلة - بفتح العين - والعِذق - بكسرها - الكِباسة.

واللين: جمع اللينة، وهو مأخوذ من اللون، ومن هذا قول الله عز وجل: {ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها}. وليس ذلك بجيد التمر. والعجوة: من أجود تمور المدينة. وقد قيل: إن أهل المدينة يسمون النخل كلها ما خلا البرنيَّ والعجوةَ - الألوانَ. وقوله: فأزحف، معناه أنه أعيا وكل. يقال: أزحفه السير فزحف، وهو أن يجر فرسنه من الإعياء. فأما قول الله عز وجل: {إذا لقيتم الذين كفروا زحفا} فهو من قولك: أزحفت للقوم: إذا ثبت لهم، والمعنى: إذا وافقتموهم للقتال، فلا تولوهم الأدبار، أي: لا تنهزموا حتى تدبروا. وقوله: فوكزه، الوكز قد يكون ضربا بالعصا ويكون بجُمع الكف: وهو معنى ما حكي في القرآن من فعل موسى عليه السلام في قوله: {فوكزه موسى فقضى عليه}. وفي قوله: "بعنيه ولك ظهره إلى المدينة"، دليل على أن الشرط إذا كان معلوما في نوع من مجوَّزات الشريعة لم يكن مفسداً للبيع.

(19) (باب ما ينهى عن إضاعة المال)

(19) (باب ما ينهى عن إضاعة المال) 543/ 2408 - قال أبو عبدالله: حدثني عثمان: حدثنا جرير، عن منصور، عن الشعبي عن وراد _مولى المغيرة بن شعبة - عن المغيرة بن شعبة، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنعا وهات، وكره لكم، قيل، وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال). قوله: (وعقوق الأمهات)، لم يخص الأمهات بالعقوق، لأن عقوق الاباء غير محرم، لكنه نبه بأحدهما على الآخر، إذ كان بر الأم مقدما على بر الأب في نوع من أنواع حقوقهما، وهو في باب التحفي بها، واللطف والإحسان إليها , وحق الأب مقدم في الطاعة، وحسن المتابعة لرأيه، والنفوذ لأمره، وقبول الأدب منه. ووأد البنات: دفنهن أحياء، وكانت قبائل من العرب تفعل

ذلك. ومن هذا قوله عز وجل: {وإذا الموؤدة سئلت بأي ذنب قتلت}. وقوله: (ومنعا وهات) يريد منع الواجب عليك من الحقوق، وأخذ مالا يحل لك من أموال الناس. وقد فسرنا قوله: (قيل، وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال)، أشبعنا بيانها فيما تقدم من الكتاب.

كتاب الخصومات

كتاب الخصومات (1) (باب ما يذكر في الأشخاص والخصومة بين المسلم واليهود) 544/ 2411 - قال أبو عبدالله: / حدثني يحيى بن قزعة، قال: حدثنا إبراهيم بن (سعد)، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، وعبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: (لا تخيروني على موسى فن الناس يصعقون يوم القيامة فأصعق معه، فأكون أول من يفيق، فإذا موسى باطش جانب العرش، فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي، أو كان ممن استثنى الله). يقال: صعق الرجل يصعق، إذا أصابه فزع، فأغمي عليه. وقوله: (باطش جانب العرش)، يريد: قابض عليه بيده، وأراد بالاستثناء قوله عز وجل: (فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله). وقد قيل: إنه عوفي من

الصعق لما كان صعقه بالطور، وقد جاء مرويا في هذا الحديث من رواية أخرى، فلا أدري أكان ممن استثنى الله، أو حوسب بصعقته الأولى.

(4) (باب كلام الخصوم بعضهم في بعض)

(4) (باب كلام الخصوم بعضهم في بعض) 545/ 2419 - قال أبو عبدالله: حدثنا عبدالله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عبدالرحمن بن عبد القارئ أنه قال: سمعت عمر ابن الخطاب، رضي الله عنه، يقول: سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرؤها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، أقرأنيها، فكدت أعجل عليه، ثم أمهلته حتى انصرف، ثم لببته بردائه، فجئت به رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقلت: إني سمعت هذا يقرأ على غير ما أقرأتنيها. فقال لي: (أرسله) ثم قال له: (اقرأ)، فقرأ. فقال: (هكذا أنزلت)، (ثم قال لي: اقرأ)، فقرأت. فقال: (هكذا أنزلت، إن القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرءوا منه ما تيسر). قلت: قد تكلم الناس قديما وحديثا في معنى قوله: أنزل القرآن على سبعة أحرف، وذهبوا في تأويله إلى وجوه مختلفة، أبينها في النظر أنه أراد أن القرآن أنزل مرخصا للقارئ وموسعاً له أن يقرأ

بسبعة أحرف، يقرأ ما تيسر له منها، كأنه يقول: أنزل القرآن على هذا من الشرط /، أو أنزل مأذونا للقارئ أن يقرأ على أي هذه الوجوه شاء. قلت: وليست هذه التوسعة عامة في جميع آي القرآن وألفاظه وحروفه، وإنما هو في بعضها، وهو ما اتفق فيه المعنى، أو تقارب دون ما تباين منها واختلف، وإنما وقعت هذه السهولة في القراءات إذ ذاك، لعجز كثير منهم عن أخذ القرآن على وجه واحد، وكانوا قوما أميين، ولو كلفوا غير ذلك، وأخذوا بأن يقرءوه على قراءة واحدة لشق عليهم، ولأدى ذلك إلى النفرة والنبوة عنه، فلما زالت الأمية التي كانت فيهم، وصاروا يقرءون، ويكتبون، وقدروا على حفظ القرآن لم يسعهم أن يقرءوه على خلاف ما أجمعت عليه الصحابة، وكتبوه في المصحف، وذلك لارتفاع الضرورة الداعية إليه، فلم يستجيزوا القرآن إلا على معنى خط المصحف المكتوب بإجماع الصحابة، واتفاق الإملاء منهم. وقد اختلف العلماء في تفسير الحرف ومعناه. فذهب بعضهم إلى أن معنى الحرف الجهة، كقوله تعالى: {ومن الناس من يعبد الله على حرف} أي: على جهة من الرغبة في مال، والطمع في نفع، وبيان ذلك ما ذكره الله عز وجل على أثره، فقال: {فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه}

وقال بعضهم: معنى الحرف ههنا اللغات، يريد: أنه نزل على سبع لغات من لغات العرب، وهي أفصح اللغات وأعلاها في كلامهم، قالوا: وهذه اللغات متفرقة في القرآن غير مجتمعة في الكلمة الواحدة. وقال بعضهم: معنى الحرف ههنا الإعراب باسمه، لأنه موضعه ومحله، ثم استعمل ذلك، فقيل: فلان يقرأ بحرف عاصم، وحرف أبي عمرو، أي: بالوجه الذي اختاره من الإعراب والمذهب / الذي ذهب فيه، وهذا كما قيل للغة: لحن، وقد روى أن القرآن نزل بلحن قريش، أي: بلغتها، وكما قيل للقصيدة كلمة، ونحو ذلك من عاداتهم في تسمية الشيء باسم الجزء منه. وقال بعضهم: بل الحروف هي الأسماء والأفعال المؤلفة من

الحروف التي تنتظم منها كلمة، فيقرأ على سبعة أوجه كقوله: {وعبد الطاغوت} قراء على سبعة أوجه. وكقوله: {نرتع ونلعب} قراء ذلك على سبعة أوجه. فإن سئل على هذا المعنى، فقيل: كيف يجوز إطلاق هذا العدد على نزول الآية أو الكلمة، وهي إذا نزلت مرة حصلت منزلة إلا أن ترفع، ثم تنزل بحرف آخر؟، كما إذا وجد الشيء مرة كان موجودا، إلا أن يعدم بعد ذلك، ثم يوجد، والمقروء من القرآن بحضرتنا، لم يرفع، ولم تنسخ تلاوته بعد نزوله. قيل: قد روى أن جبريل عليه السلام كان يدارس رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كل سنة في شهر رمضان ويعارضه إياه، فينزل في كل عرضة بحرف إلى أن استوفى هذا العدد، فحصل القرآن منزلا على معنى استيفاء هذا العدد. وحدثتا إسماعيل بن محمد الصفار قال: حدثنا

الرمادي، قال: حدثنا عبدالرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: (أقرأني جبريل عليه السلام على حرف فراجعته، فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف).

كتاب اللقطة

كتاب اللقطة (8) (باب لا تحتلب ماشية أحد بغير إذنه) 546/ 2435 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا، مالك عن نافع، عن عبد الله بن عمر أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: (لا يحلبن أحدكم ماشية امريء، بغير إذنه، أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته، فتكسر خزانته، فينتقل طعامه؟ فإنما تحرز لهم ضروع مواشيهم أطعماتهم، فلا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه.). المشربة: شبه الغرفة مرتفعة عن وجه الأرض، / يحرز الرجل فيها متاعه، شبه النبي، صلى الله عليه وسلم، ضروع المواشي في حفظها الألبان على أربابها بالمشربة التي تحفظ ما أودعت من متاع ونحوه. وفيه: إثبات القياس، ورد الشيء إلى نظيره بالشبه الموجود بينهما. وقد يحتمل أن يستدل به على وجوب قطع من حلب لبناً من

الماشية الراعية لرجل على سبيل السرقة فبلغ قيمة اللبن قدر ما يقطع فيه اليد، إن لم يمنع منه الجماع، وذاك أن تكون الماشية محفوظة بما يحفظ مثلها، ومحروسة براع وكلاب ونحوها، فيحتمل أن يكون إذا تغفل الراعي من يحلبها، فيختبئ لها في وهدة من الأرض حتى يحلبها هناك سرقة، واستسرارا من ربها، أن يكون عليه القطع، فأما إذا كانت في مراحها، فحلبها سرقة، وكان قيمة اللبن قدر ما يقطع فيه اليد قطع، إلا على مذهب من لا يرى في الأطعمة الرطبة والفواكه ونحوها قطعاً.

(10) (باب هل يأخذ اللقطة ولا يدعها تضيع حتى لا يأخذها من لا يستحق)

(10) (باب هل يأخذ اللقطة ولا يدعها تضيع حتى لا يأخذها من لا يستحق) 547/ 2437 - قال أبو عبد الله: حدثنا سليمان بن حرب، قال: حدثنا شعبة، عن سلمة بن كهيل، قال: سمعت سويد بن غفلة، قال: سمعت أبي بن كعب، يقول، وجدت صرة على عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فيها مائة دينار، فأتيت بها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: (عرفها حولا) فعرفتها حولا، ثم أتيته، فقال: (عرفها حولا) فعرفتها حولا، ثم أتيته، فقال: (عرفها حولا)، ثم أتيته في الرابعة، فقال: (اعرف عدتها ووكاءها ووعاءها، فإن جاء صاحبها، وإلا استمتع بها). قال أبو عبد الله: وحدثنا عبدان، قال: أخبرنا أبي عن شعبة، عن سلمة بهذا، قال: لقيته بعد مكة، فقال: لا أدري ثلاثة أحوال، أو حولا واحدا.؟

في هذا الحديث من الفقه: أن أخذ اللقطة جائز، وذلك أنه لم ينكر عليه السلام على أبي أخذها والتقاطها. وفيه: أن اللقطة إدا كانت مما تبقى مدة السنة، من غير فساد / يلحقه بطول اللبث، فإنها تعرف سنة، فإن جاء صاحبها، وإلا فهي للملتقط يستمتع بها، وليس في الخبر أن عليه أن يتصدق بها، والاستمتاع ذو جهات، فله أن ينصرف فيها على جهاته كلها، إن شاء أكل، إن شاء باع، أو وهب، وإن شاء تصدق على أن يغرمها لصاحبها إذا جاء يوما ما. وفيه: أن الغني والفقير سواء في جواز الاستمتاع بها. قال الشافعي: وأبي بن كعب من مياسير أهل المدينة. وإنما أمره بمعرفة عددها، ووعائها، ووكائها، وهو الخيط الذي يشد به الكيس، والصرة، ونحوهما لأحد أمرين: إما ليكون إذا جاء صاحبها، فاعترفها بصفتها، ووقع في نفسه صدقه بإصابة النعت - والصفة - لها على بصيرة من أمرها ردها على صاحبها. وإما ليكون مميزا لها بتلك العلامات من جملة ماله، ولا تختلط به، فيشتبه عليه الأمر فيها إن عاش، أو على ورثته إن مات. وقوله: ثم أتيته الرابعة، يشبه أن يكون وهما. ألا ترى أن الراوي يشك فيه: فقال: لا أدري ثلاثة أو حولا، وفي سائر الروايات إنما هو حول واحد، وعليه العمل عند عامة العلماء.

كتاب المظالم

كتاب المظالم (10) (باب من كانت له مظلمة عند الرجل فحللها له هل يبين مظلمته) 548/ 2449 - قال أبو عبد الله: حدثنا آدم بن أبي إياس، قال: حدثنا ابن أبي ذئب، قال حدثنا سعيد المقبري، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء، فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه، فحمل عليه). قوله: (فليتحلله منه)، يريد: فليستوهبه منه، وليطلب إليه تحليله له، ومعناه أن يقطع دعواه عنه، ويترك مظلمته قبله، وذلك أن ما حرمه الله تعالى من الغيبة، واستباحة العرض، لا يمكنه تحلليله له، وإباحة المحظور منه في حق الدين، وإنما يقع التحليل في ذلك بأن يقطه دعواه عنه، فيما ناله من الضرر /، ولحقه من الأذى في نفسه، وقد روينا عن ابن سيرين أن رجلا

جاءه، فقال: يا أبابكر: اجعلني في حل فقد اغتبتك، فقال: إني لا أحل ما حرمه الله، ولكن ما كان من قبلنا فأنت منه في حل. قلت: وإذا وقع التحليل من حقوق المال، فإنما يصح ذلك في أمر معلوم، يقف عليه المستحل منه، فإن كان مجهولا لم يصح التحليل. وقال بعض العلماء: إنما يصح ذلك في المنافع التي هي أعراض، مثل أن يكون قد غصبه دارا فسكنها، أو دابة فركبها، أو ثوبا فلبسه، أو كانت أعيانا فتلفت، فإذا تحلله منها صح التحليل فيها، فإن كانت الدار قائمة، والدراهم في يده حاصلة، لم يصح فيها التحليل إلا أن يهب أعيانها به، فتكون هبة مستأنفة، ومعنى أخذ الحسنات والسيئات، أن يجعل ثواب الحسنات لصاحب المظلمة، ويجعل عقوبة السيئات على الظالم بدل حقه قبله. وكان بعض أهل العلم يقول: إذا اغتاب رجلا فإن كان بلغ المقول فيه ذلك، فلا بد من أن يستحله، وإن كان لم يبلغه الخبر، فإنه يستغفر الله ولا يخبره.

(12) (باب إذا أذن له أو أحله ولم يبين كم هو)

(12) (باب إذا أذن له أو أحله ولم يبين كم هو) 549/ 2451 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن يوسف قال: أخبرنا مالك، عن أبي حازم بن دينار، عن سهل بن سعد الساعدي أن النبي، صلى الله عليه وسلم، أتى بشراب فشرب منه، وعن يمينه غلام، وعن يساره الأشياخ. فقال للغلام (أتأذن لي أن أعطي هؤلاء)؟ فقال الغلام: لا والله يا رسول الله، لا أثر بنصيبي منك أحدا فتله رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في يده. قوله: فتله، معناه: دفعه إليه. وأصل التل: ضربك الشيء على المكان بقوة. ومن ذلك: قوله عز وجل: {وتله للجبين} أي: صرعه على الجبين.

(13) (باب إثم من ظلم شيئا من الأرض)

(13) (باب إثم من ظلم شيئا من الأرض) 550/ 2425 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو اليمان، قال: أخبرنا شعيب، عن الزهري قال: حدثني طلحة بن عبد الله أن عبد الرحمن بن عمرو بن / سهل، أخبره أن سعيد بن زيد، قال: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: (من ظلم من الأرض شيئا طوقه الله من سبع أرضين). قوله: طوقه، يتأول على وجهين: أحدهما: أن يكلف نقل ما ظلم منها في القيامة إلى المحشر، فيكون ذلك كالطوق في عنقه، وقد روى معنى ذلك في بعض الحديث. والوجه الآخر: أن يعاقب بالخسف إلى سبع أرضين، وقد رواه أبو عبد الله مسندا.

551/ 2454 - قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا عبد الله بن المبارك، قال: حدثنا موسى بن عقبة، عن سالم، عن أبيه، قال: قال النبي، صلى الله عليه وسلم: (من أخذ من الأرض شيئا بغير حقه خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين). وفيه دليل: على أن من ملك (أرضا ملك) أسفلها منتهى الأرض، وله أن يمنع من يحفر تحتها سربا، أو يتخذ بيتا أو نحوه، سواء أضر ذلك بوجه الأرض المملوكة، أو لم يضر به.

(15) (باب قول الله تعالى: {وهو ألد الخصام})

(15) (باب قول الله تعالى: {وهو ألد الخصام}) 552/ 2457 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، رضي الله عنها، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: (إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم). الألد: ذو اللداد والجدال. يقال: رجل ألد، وقوم لد، ويقال: إنه مأخوذ من لديدي الوادي، وهما جانباه كأنه إذا منع من جانب جاء من جانب آخر. والخصم: المولع بالخصومة، الماهر فيها. ومنه قوله عز وجل: {وتنذر به قوما لدا}. وقال: {بل هم قوم خصمون}.

(18) (باب قصاص المظلوم إذا وجد مال ظالمه)

(18) (باب قصاص المظلوم إذا وجد مال ظالمه) 553/ 2460 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو اليمان قال: حدثنا شعيب عن الزهري، قال خبرني عروة، عن عائشة، قالت: جاءت هند بن عتبة بن ربيعة، فقالت: يا رسول: إن أبا سفيان رجل مسيك، فهل علي حرج أن أطعم من الذي له عيالنا؟ فقال: (لا حرج (عليك) أن تطعميهم بالمعروف). قوله: مسيك، يريد: بخيل شديد التمسك لما في يده، وفعيل من أبنية المبالغة، كالسكير، والخمير، والضليل، ونحوها. / وقد جاء في رواية أخرى: إنه رجل شحيح. وقوله: (من الذي له)، تريد من ماله الذي له في بيتي، أو في يدي فأذن لها في ذلك، فكان فيه دليل: على جواز أن يأخذ

الرجل حقه من تحت يده، إذا كان له على رجل حق فمنعه، وفي يده له مال، كان له استيفاؤه منه، وإن كان من غير جنس حقه، لأن معلوما أن بيت الرجل الشحيح، لا يجمع كل ما يحتاج إليه عياله من طعام، وإدام، ونحوهما، على مر الأيام، ومضي الأوقات حتى يستغني به عما سواه. وفيه: جواز الحكم على الغائب. وفيه: جواز حكم الحاكم بعلمه. وفيه: دليل على أن السارق إذا سرق من غريمه فأريد قطع يده، فادعى أنه إنما اقتص من حقه لم يقطع للشبهة فيه، وذلك إذا قامت له البينة بما ادعاه من الحق عليه، فإن أخذت معه السرقة، فادعى أن له عليه حقا، ولم يقم عليه بينة لم يلتفت إلى قوله، ولم يسقط عنه الحد. وقوله: (لا حرج أن تطعمهم بالمعروف)، يريد: المعروف من قدر الكفاية، ويكون ذلك أيضا على معنى أن من المعروف أن يأكل عيال الرجل من ماله.

(18) (الباب نفسه)

(18) (الباب نفسه) 554/ 2461 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: حدثنا الليث، قال حدثني يزيد، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر، قال: قلنا للنبي، صلى الله عليه وسلم: إنك تبعثنا فننزل بقوم لا يقروننا فما ترى فيه؟ فقال لنا: (إن نزلتم بقوم فأمر لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا، فإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف). قلت: هؤلاء المبعوثون إنما يأخذون ممن نزلوا بهم بحق الضيافة، على معنى أبناء السبيل، وحق الضيافة من المعروف الذي يكره تركه، ويذم مانعه، وليس من الواجب الذي يجبر عليه المنزل به، ويقتضى من ماله إلا عند الضرورة وإعواز الطعام، فإن لهم أن يأخذوه من حيث يوجد على القيمة في مثل موضعه، ولو كانوا هؤلاء عمالا، كان على المبعوث إليهم / طعامهم، ومركبهم، وسكناهم، يأخذونه بحق العمل الذي يتولونه فيهم، وذلك أنه لا مقام لهم إلا بإقامة هذه الحقوق، وإنما كان يلزم ذلك لمن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يبعثهم في زمانه، وليس إذ ذاك للمسلمين بيت مال يحمل كلهم، ويزيح عللهم، فأما اليوم فإنما تعطى أرزاقهم، ويكفون مِؤنهم من بيت المال، وليس لهم حق في

أموال المسلمين، وإلى نحو من هذا ذهب أبو يوسف، فيما كان شرط من الضيافة على أهل نجران، وزعم أنها إنما كانت أيام رسول الله، صلى الله عليه وسلم، خاصة دون غيره، وأنه ليس بهن أن يطالبوهم بشيء بعد ذلك. قلت: وقد كان عمر بن الخطاب حين ضرب الجزية على نصارى الشام، جعل عليهم الضيافة لمن نزل بهم، فإذا كانت الضيافة مشروطة على قوم من أهل الذمة مع الجزية، فمنعوها، كان للضيف أن يأخذ حقه من عرض أموالهم.

(16) (باب إثم من خاصم في باطل وهو يعلمه)

(16) (باب إثم من خاصم في باطل وهو يعلمه) 555/ 2458 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، قال: أخبرني عروة بن الزبير أن زينب - بنت أم سلمة - أخبرته أن أمها أم سلمة - زوج النبي، صلى الله عليه وسلم، (أخبرتها) عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أنه سمع خصومة بباب حجرته، فخرج إليهم فقال: (إنما أنا (بشر) وإنه يأتيني الخصم، فلعل بعضهم أن يكون أبلغ من بعض، فأحسب أنه صدق، وأقضي له بذلك، فمن قضيت له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من النار، فليأخذها، أو فليتركها). في هذا الحديث من الفقه: أن على الإمام والحاكم أن يحكم بالظاهر مما يسمعه من المتداعيين من قول، ويقيمانه من بينة، فإذا وقع صدق ذلك في قلبه، وحسب أنه الحق، وجب عليه إنفاذ الحكم به. وفيه: أن حكم الحاكم لا يحل حراما، ولا يحرم حلالا، وأنه لا يحل لأحد أن يأخذ حقا حكم له به حاكم من جهة الظاهر،

وهو يعلم أنه باطل سواء كان ذلك مالا، أو دما، أو فرجا، / أو غيرها من شيء. وفيه دليل: على أن ليس كل مجتهد مصيبا. وفيه: أن إثم الخطأ موضوع عنه، إذا كان قد وضع الاجتهاد موضعه.

(20) (باب لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره)

(20) (باب لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره) 556/ 2463 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن ابن شهاب، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: (لا يمنع جار جاره أن يضع خشبة في جداره)، ثم يقول أبو هريرة: مالس أراكم عنها معرضين، والله لأرمين بها بين أكتافكم. قلت: هذا القول من أبي هريرة يدل على أنه عنده على الوجوب، كأنه يقول: إن لم تقبلوه فتتلقوه بأيديكم راضين، حملته على رقابكم كارهين، وهذا غاية الإيجاب والإلزام، فو قال به قائل كان مذهبا، وليس ذلك بأعجب من إيجاب الشفعة بنوع من الجوار، وقد روي عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (مازال جبريل يوصيني بالجار حت ظننت أنه سيورثه). وروي عنه أنه قال له رجل: إن لي جارين فإلى أيهما أهدى؟: إلى أقربهما بابا، فأما عامة أهل العلم فإن الأمر في ذلك عندهم على سبيل المعروف المرغب فيه، والمندوب إليه، وذلك لأن غرزه خشبة في جداره إنما هو دخول في ملكه، واستعمال لماله من غير إذنه. وقد

قال صلى الله عليه وسلم: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة نفسه)، فدل على أن أمره بذلك إنما هو على طريق المعونة، والإرفاق، دون الإباحة له أن يقتطع ماله ويدخل عليه في ملكه، وإذا وجب حسن الجوار من أحد الشقين وجب مثل ذلك في الشق الآخر، فيدل ما ذكرناه على أن الأمر في ذلك ليس على سبيل الاستحقاق، إنما هو على معنى الاستحباب، والله أعلم.

(25) (باب الغرفة والعلية المشرفة وغير المشرفة في السطوح وغيرها)

(25) (باب الغرفة والعلية المشرفة وغير المشرفة في السطوح وغيرها) 557/ 2468 - قال أبو عبد الله: حدثنا يحيى بن بكير، قال: حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عبيد الله بن عبدالله بن أبي ثور، عن ابن عباس، عن عمر في قصة إيلاء النبي، صلى الله عليه وسلم، من نسائه قال: / فدخل مشربة له، فاعتزل فيها. قال عمر: فدخلت عليه، فإذا هو مضطجع على رمال حصير، ليس بينه وبينه فراش، ثم رفعت بصري في بيته، فوالله ما رأيت فيه شيئا يرد البصر غير أهبة ثلاثة، وساق الحديث إلى أن ذكر تخيير النبي، صلى الله عليه وسلم، نساءه، فاخترنه، وأنه لما مضت تسع وعشرون، نزل منها ودخل عليهن، وذكر الحديث. المشربة: كالغرفة المرفوعة عن وجه الأرض، وأراد برمال الحصير، ضلوعه المتداخلة التي هي بمنزلة الخيوط في الثوب النسيج. يقال: رملت الحصير وأرملته. ومنه قول الشاعر: * كأن نسج العنكبوت المرمل *

والأهبة: جمع الإهاب. يقال: إهاب وأهبة، وهو جمع على غير قياس، وإنما جاز ذلك في أحرف، كقولهم: أديم، وأدم، وأفيق، وأفق، والهاء مزيدة. وفي الحديث من الفقه: أنه خير نساءه فاخترنه، ولم يكن ذلك طلاقا، وقد اختلف ثلاثة من الصحابة في مسألة التخيير: عمر، وعلي، وزيد بن ثابت. أخبرنا ابن الأعرابي، قال: حدثنا الزعفراني، قال: حدثنا أبو عباد، قال: حدثنا جرير بن حازم، قال: حدثنا عيسى بن عاصم، عن زاذان، قال: كنا عند علي فذكر الخيار قال: كان عمر يقول: إن اختارت زوجها فليس بشيء، وإن اختارت نفسها فواحدة وهو أحق بها.

وقلت: إن اختارت نفسها فواحدة بائنة، وان اختارت زوجها فواحدة، وهو أحق بها، فأرسل إلى زيد بن ثابت، فخالفهما، وقال إن اختارت نفسها فثلاث، وإن اختارت زوجها فواحدة. قلت: قول عمر أصوب لموافقته الحديث وإليه ذهب الشافعي.

(30) (باب النهبى بغير إذن صاحبه)

(30) (باب النهبى بغير إذن صاحبه) 558/ 2474 - قال أبو عبد الله: حدثنا شعبة،، قال: حدثنا عدي بن ثابت ن قال: سمعت عبد الله بن يزيد الأنصاري، وهو جده أبو أمه، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن النهبى والمثلة. النهبى: اسم مبني من النهب /، كالعمرى من العمر، ومعلوم أن نهب أموال المسلمين محرم على كل حال، وإنما يتأول هذا في الجماعة يغزون، فإذا غنموا انتهبوا، فأخذ كل رجل منهم ما وقع بيده من الغنيمة، فاستأثر به، ولم يرده في المغنم، ليأخذ كل واحد منهم حصة في القسم، وقد يكون ذلك أيضا في الشيء تشاع الهبة فيه، فينتهبه القوم، كل منهم على قدر قوته، فنهى عن ذلك، وإنما سبيله أن يقسم بين الجماعة على السواء، وكذلك الطعام يقدم لهم، فلكل واحد منهم أن يأكل مما يليه بالمعروف، ولا ينتهب، ولا يستلب، ولذلك صار من صار إلى كراهة أخذ النثار في عقود الإملاك ونحوه. والمثلة: العقوبة في الاعضاء والجوارح مثل جدع الأنف والأذن. وفقء العين ونحوها.

(29) (باب إذا اختلفوا في الطريق الميتاء، وهي الرحبة تكون بين الطريق، ثم يريد أهلها البنيان، فترك منها للطريق سبعة أذرع)

(29) (باب إذا اختلفوا في الطريق الميتاء، وهي الرحبة تكون بين الطريق، ثم يريد أهلها البنيان، فترك منها للطريق سبعة أذرع) 559/ 2473 - قال أبو عبد الله: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا جرير بن حازم، عن الزبير بن خريت، عن عكرمة، سمعت أبا هريرة قال: قضى النبي صلى الله عليه وسلم، إذا تشاجروا في طريق بسبعة أذرع. قلت: وجه ذلك أن يكون في الطرق الشارعة، التي هي معبر للناس، ومجتاز للحمولة دون الروائع، والطرق التي تكون لأهل الدار الواحدة، يسلك كل واحد من أهلها في طريقه إلى بيته، وقد يكون ذلك في الطريق الواسع من شوارع المسلمين، يقعد في حافتيه قوم من الباعة يرتفقون بها، فإن كان

القارع المتروك منه للمارة سبعة أذرع لم يمنعوا من القعود فيه، والارتفاق به، وإن كان ذلك أقل، منعوا لئلا تضيق الطريق عن أهلها. وقد يكون ذلك في القرى التي يزدرع فيها الأرضون والأقرحة، فربما خرجوا من حدود أرضهم إلى ساحاتها، فيحرثونها للزرع فتضيق به الطرق، وإذا كان ما يبقى منها غير محروثة سبعة أذرع، لم يعرض لهم في ذلك إذا لم يكن ما / يأخذونه منها ملكا لغيرهم، لكن تكون تلك المساحات مشتركة بينهم، أو يكون ذلك بينهم على سبيل الإحياء إن كانت غامرة، فأما الطرق إلى البيوت التي يقتسمونها في دار يكون منها مدخلهم إليها، فإن هذا التقدير غير معتبر فيه، وإنما يقدر لكل واحد منهم ما لا يضيق منها عن مدخله وما يتسع للمر السقاء وقربته، والحمال وحمله، ولا يضيق عن مسلك الجنازة فيه، ونحوها من المأرب التي لابد لأرباب البيوت منها في معاشهم ومحياهم ومماتهم.

(30) (باب النهبى بغير إذن صاحبه)

(30) (باب النهبى بغير إذن صاحبه) 560/ 2475 - قال أبو عبد الله: حدثني سعيد بن عفير قال: حدثنا الليث، قال حدثني عقيل، عن ابن شهاب، عن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني، وهو مؤمن، ولا يشرب الخر حين يشرب، وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق، وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن). قلت: وجه ذلك أنه إنما نفى عنه حقيقة الإيمان وكماله، وذلك أنه ارتكب هذه الخصال مع علمه بتحريم الله إياها عليه، وتغليظه العقوبة فيها، فإنه غير مؤمن بها في الحقيقة، ولا مصدق بالوعيد فيها، ولو كان مخلصا في إيمانه لم يقدم عليها، ولكان الإيمان يمنعه من ذلك، والدين يعصمه من مواقعته، فإنما سلبه في هذا اسم الثناء عليه بالإيمان، دون نفس الإيمان الذي يقع به الخروج من الملة، وكان بعضهم يرويه: لا يشرب الخمر حين يشرب - بكسر الباء - على معنى النهي. يقول إذا كان مؤمنا فلا يستبيح شرب الخمر، وكذلك الزنا والسرقة والنهبة، إذ كان من صفات المؤمن أن يتوقاها، ولا يستبيحها.

وقد يكون معناه: الإنذار بزوال الإيمان، والتحذير لسوء العاقبة، وأنه ستؤديه هذه الأمور إذا استمر عليها إلى الخروج من الإيمان، والوقوع في ضده، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه).

(32) (هل تكسر الدنان التي فيها خمر أو تخرق الزقاق؟)

(32) (هل تكسر الدنان التي فيها خمر أو تخرق الزقاق؟) 561/ 2479 - قال: أبو عبد الله: حدثي إبراهيم بن المنذر، قال: حدثنا أنس بن عياض، عن عبيد الله، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، رضي الله عتها، كانت اتخذت على سهوة لها سترا فيه تماثيل، فهتكه، النبي صلى الله عليه وسلم، فاتخذت منه نمرقتين، وكانت في البيت يجلس عليهما. السهوة: كالصفة تكون بين يدي البيت. قال الأصمعي: قال أبو عبيد، وقال غيره من أهل العلم: هي شبيهة، بالرف والطاق، يوضع فيه الشيء. وفيه: دليل على أن موضع التصوير (إذا نقض) حتى تنقطع أوصاله جاز استعماله.

(34) (باب إذا كسر قصعة أو شيئا لغيره)

(34) (باب إذا كسر قصعة أو شيئا لغيره) 562/ 2481 - قال أبو عبد الله: حدثنا مسدد، حدثنا يحيى بن سعيد، عن حميد، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين مع خادم بقصعة فيها طعام، فضربت بيدها، فكسرت القصعة، فضمها، وجعل فيها الطعام وقال (كلوا) وحبس الرسول والقصعة حتى فرغوا، فدفع القصعة الصحيحة، وحبس المكسورة. قلت: وفي غير هذه الرواية أنه قال: (قصعة بقصعة)، فصار بعض الناس إلى إيجاب القصعة بالقصعة، والكوز بالكوز، والثوب بالثوب، والشاة بالشاة.

وروي عن شريح أنه حكم على رجل أتلف شاة لآخر، فقال: عليه شراؤها، أي: مثلها. وروى عنه أيضا أنه حكم بمثل ذلك في قوس نزع فيها رجل فكسرها. ولم يكن من النبي، صلى الله عليه وسلم، على وجه الحكم لخصم على آخر، إنما هو شيء كان بين أهله في بيته وملكه، انكسرت قصعة، فرد أخرى لتكون مكانها، وإنما يكون الشيء حكما فيما له مثل من الأشياء المتشابهة الأجزاء كالدراهم، والدنانير، والحبوب، / والأدهان، والألبان، ونحوها، دون ما خالفها كالحيوان، والثياب، والأمتعة، والأواني، ونحوها.

(35) (باب إذا هدم حائطا فليبن مثله)

(35) (باب إذا هدم حائطا فليبن مثله) 563/ 2482 - قال أبو عبد الله: حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا جرير بن حازم، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: كان رجل في بني إسرائيل، يقال له جريج، يصلي فجاءته أمه، فدعته، فأبى أن يجيبها، فقالت: اللهم لا تمته حتى تريه وجوه المومسات، وذكر القصة في شأن الراعي والغلام. يريد بالمومسات البغايا، والمومسة: البغي.

كتاب الشركة

كتاب الشركة (1) (باب الشَّرِكَةِ في الطَّعَام والنَّهد والعروض) 564/ 2483 - قال أبوُ عبدِ الله: وَرَوَى في حديثٍ بإسنادِه أَنَّ رَسولَ الله , صلَّى الله عليه وسلَّم , بَعَث بَعْثاً , وأَمَّرَ عليهم أبا عُبَيْدة , ففَنِيَت أَزوادُهم , فأَمَر أبو عُبَيْدة بِبَقِيَّة الزَّاد , فجُمِعَت , فكان مِزْودٌ من تَمْر , فكَانَ يَقُوتُهم كُلَّ يَومٍ قَلِيلاً قَلِيلاً. 565/ 2484 - وفي حَديثٍ آخَرَ: أَنَّه خفَّت أَزوادُهم , فَأَملَقُوا. 566/ 2486 - وفي حَديثٍ آخَرَ مِنْ هَذَا البَابِ: أنَّ النَّبِيَّ , صلَّى الله عليه وسلَّم , قال: إنَّ الأشْعَريِّينَ إذَا أَرمَلُوا في الغَزْو جَمَعُوا مَا كَان عِنْدَهم في ثَوبٍ واحدٍ , ثم اقْتَسَموا بَينَهم في إناءٍ واحدٍ بالسَّويَّة , فَهُم مِنّيِ وأنا مِنْهم. قُلتُ: حَذَفْتُ أَسانِيدَها للتَّخْفِيف.

وفي هذه الأحاديث: دليل على جواز المناهدة , وخلط الأزواد في الأسفار إذا علموا أن ذلك أرفق بهم , وأكفى لهم. قوله: أملقوا , يريد: إعواز الطعام , ومن ذلك قوله عز وجل: (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ) وقوله: أرملوا , أي: فنيت أزوادهم. يقال. أرمل القوم فهم مرملون.

(3) (باب قسمة الغنم)

(3) (باب قسمة الغنم) 567/ 2488 - قال أبو عبد الله: حدثنا علي بن الحكم الأنصاري , قال حدثنا أبو عوانة , عن سعيد بن مسروق, عن عباية بن رفاعة بن رافع بن خديج , عن جده , قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم , بذي الحليفة , فأصاب الناس جوع , فأصابوا إبلاً وغنماً , قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم , في أخريات القوم , فعجلوا , وذبحوا , ونصبوا القدور , فأمر النبي وصلى الله عليه وسلم , بالقدور فأكفئت , ثم قسم , فعدل عشرةً / من الغنم ببعير , فند منها بعير , (فطلبوه) , فأعياهم , وكان في القوم خيل يسيرة فأهوى رجل منهم بسهم , فحبسه الله , ثم قال: ((إنّ لهذه الإبل أوابد كأوابد الوحش , فما غلبكم منها , فاصنعوا به هكذا)). فقال

جدي: إنا نرجو , أو نخاف العدو غداّ - وليست معنا مدى أفنذبح بالقصب؟ فقال: ((ما أنهر , الدم وذكر اسم الله عليه , فكلوا ليس السن والظفر , وسأحدثكم عن ذلك؛ أما السن فعظم , وأما الظفر فمدى الحبشة)). قلت: إنما كفأوا القدور من أجل أنهم ذبحوا الغنم قبل أن تقسم , فلم يطب لهم ذلك , إذ كان سبيله سبيل النهبى. وقوله: ((أوابد)) , يريد: ما ينفر منها عن الإنس ويتوحش يقال: أبد الوحشي: أبد الوحشي يأبد أبودا , وتأبد تأبداً. وفيه من الفقه: أن الإنسي إذا توحش كان ذكاته ذكاة الوحشي , كما أنه إذا تأنس الوحشي كان ذكاته ذكاة الإنسي. وقوله: ((ما أنهر الدم)) , معناه: ما أسال الدم , ولم يخنق فيكون وقيذاً. ومنه: النهر الذي هو مجرى الماء. وقوله: ((ليس السن والظفر)). ليس ههنا بمعنى الاستثناء , واعراب ما بعده من النصب فيه , ثم قال: ((أما السن فعظم)) , وهذا يدل على ان النهي عن الذكاة بالعظم كان مقدماً , وكان ذلك عند القوم المخاطبين به متقرراً , فأحال بهذا القول على معلوم قد سبق , وقد يحتمل أن يكون المعنى في ذلك هو أن العظم غالباً لا يقطع مذابح الشاة قطعاً , يمور فيها (كالحديد) إنما يجرح , ويدمي فتزهق النفس من غير أن يتيقن وقوع الذكاة.

وقد قيل: إنما نهى عن الذكاة بالعظم الحي القائم في عصوه , فيكون ذلك بمنزلة ما يعالجه الإنسان بيده وأنامله , فيكون حتفاً دون العظم البائن منه , ودون السن المنزوع من مركزه , فإنه إذا كان له شباة, وحد يمور مور الحديد كانت الذكاة به واقعةً كالحجر , والخزف , والقصب , / ونحوها , وإلى نحو من هذا المعنى ذهب أصحاب الرأي, وأما أكثر العلماء فعلى تحريم الذكاة به أصلاً. قلت: وإنما جاء النهي عنه , والتحريم فيه إذا كان الشيء مقدوراً على ذكاته , ولا يدخل فيه سن الجوارح المعلمة , وأظفارها ومخالبها , وهى مستثناة عن هذه الجملة , ولو اتخذ الرامي لنشابة قطبة, أو نصلاً من عظم , فرمى به , فأصاب صيداً كان ذكياً , لا أعلم فيه خلافاً. وقوله: ((وأما الظفر فإنه مدى الحبشة)) , فإن ظاهر هذا الكلام يوهم أن مدى الحبشة لا يقع بها الذكاة , ولا خلاف أن مسلماً لو ذكى شاة بمدية حبشي , أو زنجي كافر أو غيرهما من أجيال الكفار بإذنهم , كانت الذكاة بها حاصلة , ومعنى الكلام أن

الحبشة يدمون مذابح الشاة بأظفارهم , ويجرحونها بها , فيحلونها محل المدى التي يستعملها المسلمون , وأهل الكتاب في ذبائحهم , والظفر لا يقع به الذكاة , وإنما تزهق النفس بالظفر خنقاً وتعذيباً , فنهى عن الذبح بالظفر , وضرب المثل في ذلك بالحبشة , إذ كانت جرت عادتهم باستعمال الأظفار مكان المدى.

(5) (باب تقويم الأشياء بين الشركاء بقيمة عدل)

(5) (باب تقويم الأشياء بين الشركاء بقيمة عدل) 568/ 2491 - قال أبو عبد الله: حدثني عمران بن ميسرة , قال: حدثنا عبد الوارث , قال: حدثنا أيوب , عن نافع , عن ابن عمر , قال: قال رسول الله , صلى الله عليه وسلم ,: ((من أعتق شركا له من عبد)) أو قال: ((شقصاً)) أو قال: ((نصيباً)). وكان له ما يبلغ ثمنه بقيمة العدل , فهو عتيق , وإلا فقد منه ما عتق. قال: لا أدري. قوله: عتق من ما عتق. قول من نافع , أو في الحديث عن النبي , صلى الله عليه وسلم. قلت: هذا الشك إنما عرض من قبل أيوب. وقد رواه مالك , عن نافع , عن ابن عمر , فلم يشك فيه , وجعله من نفس الحديث.

كتاب العتق

كتاب العتق (4) (باب إذا أعتق عبداً بين اثنين أو أمةً بين الشركاء) 569/ 2522 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن يوسف , قال: حدثنا مالك , عن نافع , عن ابن عمر أن رسول الله , صلى الله عليه وسلم قال: ((من أعتق شركاً له في عبد / , فكان له ما يبلغ ثمن العبد , قوم العبد قيمة عدل , وأعطى شركاؤه حصصهم , وعتق عليه العبد , وإلا فقد عتق منه ما عتق.)). ورواه عبيد الله بن عمر , عن نافعٍ نحواً منه.

(الباب نفسه) 570/ 2523 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبيد بن إسماعيل , عن أبي أسامة , عن عبيد الله , عن نافع , عن ابن عمر , قال: قال رسول الله , صلى الله عليه وسلم: ((من أعتق شركاً له في مملوك , فعليه عتقه كله إن كان له مال يبلغ ثمنه)) وقد روى معنى ذلك عن سالم , عن ابن عمر. (الباب نفسه) 571/ 2521 - قال أبو عبد الله: حدثنا علي بن عبد الله , قال: حدثنا سفيان , عن عمرو, عن سالم ,عن أبيه , عن النبي , صلى الله عليه وسلم قال: ((من أعتق عبداً بين اثنين , فإن كان موسراً قوم عليه ثم يعتق.)). فقوله: ((فإن كان موسراً)) , شرط يدل على أنه اذا كان غير موسر كان الحكم بخلافه.

(14) (باب الشركة في الرقيق)

كتاب الشركة (14) (باب الشركة في الرقيق) 572/ 2503 - قال أبو عبد الله: حدثنا مسدد , قال: حدثنا جويرية بن أسماء , عن نافع عن ابن عمر , عن النبي , صلى الله عليه وسلم , قال: ((من أعتق شركاً له في مملوك , وجب عليه أن يعتق كله , إن كان له مال قدر ثمنه , يقال قيمة عدل , ويعطى شركاؤه حصصهم , ويخلى سبيل المعتق. وهذا أيضا , يدل على مادل عليه الحديث الأول.

(5) (باب تقويم الأشياء بين الشركاء بقيمة عدل)

(5) (باب تقويم الأشياء بين الشركاء بقيمة عدل) 573/ 2492 - قال أبو عبد الله: حدثني بشر بن محمد، قال: أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا سعيد، عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن بشير بن نهيك، عن أبي هريرة، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: (من أعتق شقيصا من مملوكه، فعليه خلاصه في ماله، فإن لم يكن له مال قوم المملوك قيمة عدل، ثم استسعى غير مشقوق عليه). وقال بعض من روى هذا الحديث: تفسير قوله: (غير مشقوق عليه)، أي: لا يستغلى عليه الثمن. وقال إبراهيم بن معقل قال أبو عبد الله: (غير مشقوق عليه)، غير مكاتب.

قلت: هذا من طريق سعيد بن أبي عروبة. وقال: محمد بن إسماعيل وابن أبي عدي، قد رواه شعبة/، عن قتادة فلم يذكر ... 207 ب فيه السعاية. قال: أبو داود: ورواه يحيى بن سعيد، عن سعيد بن أبي عروبة، ولم يذكر فيه السعاية، فقد اضطرب سعيد في ذكر السعاية مرة يذكرها، ومرة لا يذكرها. وأخبرني الحسن بن يحيى، عن ابن المنذر، قال: هذا الكلام من فتيا قتادة ليس من نفس الحديث. قال: وحدثنا علي بن الحسن، قال: حدثنا المقريء.

قال: حدثنا همام وذكر الحديث. ثم قال همام: كان قتادة يقول: إن لم يكن له مال استسعى، فبين همام أن ذكر السعاية إنما هو من قول قتادة. وفيه بيان ما اختلف الرواة فيه. وقد تأوله بعض الناس، فقال: معنى السعاية أن يستسعى العبد لسيده، أي: يستخدم لمالكه، ولذلك قال: غيره مشقوق عليه، أي: لا يحمل من الخدمة فوق ما يلزمه بحصة الرق. والشقيص والشقص واحد كالنصيف والنصف.

(16) (باب من عدل عشرة من الغنم بجزور في القسم)

(16) (باب من عدل عشرة من الغنم بجزور في القسم) 574/ 2507 - قال أبو عبد الله: حدثني محمد، قال: أخبرنا وكيع، عن سفيان، عن أبيه، عن عباية بن رفاعة، عن جده رافع بن خديج، قال: قلت: يا رسول الله: إنا نرجو أو نخاف أن نلقى العدو غدا، وليس معنا مدى، أفنذبح بالقصب؟ فقال: (اعجل وأرني، ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه، فكلوا ليس السن والظفر). هكذا قال: وأرني، وإنما هو وأرن- مهموزا- على وزن وعرا، ومعناه: خف، وأعجل لئلا تختنق الذبيحة، فإن الذبيحة إذا كان بغير حديد احتاج صاحبه إلى خفة يد، وسرعة في إمرار الآلة على المريء، والحلقوم، والأوداج، والإتيان بها عليها، قطعا قبل أن تهلك الذبيحة بما ينالها من ألم الضغط فتكون وقيدًا، وأصله

من أرن يأرن، إذا نشط وخف، وقد ذكرنا في تفسير هذا الحرف وجوها غير هذا في كتاب غريب الحديث.

(11) (باب مشاركة الذمي والمشركين في الزراعة)

(11) (باب مشاركة الذمي والمشركين في الزراعة) 575/ 2499 - قال أبو عبد الله: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا جويرية بن أسماء، عن نافع عن ابن عمر، قال: أعطى/ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، خيبر اليهود على أن يعملوها، ويزرعوها، وله شطر ما يخرج منها. معنى قوله: (أن يعملوها)، أي: يعملوا في النخل منها، ويزرعوا بياض (أرضها)، ولذلك سموا المساقاة معاملة. وفيه: إثبات المزارعة والمساقاة معا. وقد استدل به بعض الناس في جواز مضاربة المسلم الذمي، قال: وذاك لأنها قياس المعاملة والمزارعة في أن أحد الشقين منها المال، والشق الآخر العمل. قلت: وإنما كره من كره مضاربة اليهودي والنصراني من أجل أنهم قد يشترون الخمر والخنزير، ويربون في بياعاتهم، ذلك مما لا يجوز للمسلم أن يفعله، ولا يصح له العقد عليه، وليس كذلك سبيل المعاملة في الشجر والمزارعة في بياض الأرض، لأن العمل من اليهودي كهو من المسلم، إذا كان ذلك شيء معلوما لا يختلف، وعلى نحو هذا المعنى جاز للمسلم أن يؤاجر نفسه من الكافر إذا كان العمل الذي يعمله معلوما كالبناء والخياطة ونحوهما،

فإن كان غير معلوم لم يجز، لأن قد يستعمله فيما لا يحل للمسلم أن يفعله، ويدخل بذلك عليه في دينه غضاضة، ويلزمه فيه حرج. وقوله: (وله شطر ما يخرج منها)، دليل على أن رب الأرض والشجر إذا بين حصة نفسه من الثمر والزرع، فقال: لي النصف أو الثلث، أو ما شرط، كان الباقي منها للعامل، كما لو بين حصة العامل، فقال: له الشطر أو غيره، كان الباقي لرب الأرض، أو الشجر، وأنه لا فرق بين ذلك في الشقين. وقد قال بعض الفقهاء: إذا سمى لنفسه حصة معلومة، لم يكن الباقي من الثمر للعامل، حتى يسمي له حصته.

كتاب الرهن

كتاب الرهن (2) (باب من رهن درعه) 576/ 2509 - قال أبو عبد الله: حدثنا مسدد، قال: حدثنا عبد الواحد، قال: حدثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة أن النبي، صلى الله عليه وسلم، اشتري من يهودي طعاما إلى أجل، ورهنه درعه. قلت: فيه: جواز الرهن في الحضر، وإنما ذكر الرهن/ في الكتاب حال السفر، وهو قوله تعالى: {وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كتابا فرهان مقبوضة}، فدلت السنة على أن حكم الحضر في ذلك حكم السفر. وفيه: جواز أخذ الكفيل في السلف، وفيه: جواز معاملة من في ماله شبهة ما لم يعلم أن الذي يأخذه منه عين المحرم. وفيه: جواز رهن السلاح من الذمي، وذلك أن من آمنته فأنت في أمن منه، وليس كذلك الحربي.

(3) (باب رهن السلاح)

(3) (باب رهن السلاح) 577/ 2510 - قال أبو عبد الله: حدثنا علي بن عبد الله قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا عمرو، سمعت جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (من لكعب بن الأشرف، فإنه آذى الله ورسوله)؟ فقال محمد بن مسلمة: أنا، فأتاه، فقال: أرنا أن تسلفنا وسقا، أو وسقين. فقال: أرهنوني نساءكم. فقالوا: كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب؟ قال: فأرهنوني أبناءكم. قالوا: كيف نرهنك أبناءنا فيسب أحدهم، فيقال: رهن بوسق أو وسقين؟، هذا عار علينا ولكن نرهنك اللأمة قال سفيان: يعني السلاح، فوعده أن يأتيه فقتلوه، ثم أتوا النبي، صلى الله عليه وسلم، فأخبروه. اللأمة: الدرع. يقال: استلأم الرجل: إذل لبس الدرع، وجمع السلاح على نفسه، وكان كعب بن الأشرف عاهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن لا يؤذيه، وأن لا يعين عليه، وخرج إلى مكة، ثم عاد معلنا لعداوته وأنشأ فيه شعرًا أوله:

أذاهب أنت لم تحلل لمرقبة وتارك أنت أم الفضل بالحرم في أبيات يهجوه فيها، فأمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بقتله حين نقض العهد، وأخفر الذمة.

(4) (باب: الرهن مركوب ومحلوب)

(4) (باب: الرهن مركوب ومحلوب) 578/ 2512 - قال أبو عبد الله: حدثني محمد بن مقاتل، قال: أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا زكرياء، عن الشعبي، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (الرهن يركب بنفقته إذا كان مرهونا، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونا، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة). اختلف/ العلماء في تأويل هذا الكلام، فذهب أحمد بن حنبل، وإسحاق ابن راهويه إلى أن للمرتهن أن ينتفع من الرهن بالحلب والركوب بقدر النفقة. قال أحمد: وليس له أن ينتفع منه بشيء سواهما. وعند الشافعي: أن منفعة الرهن لصاحبه، ونفقته عليه، واحتج بحديث ابن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غنمه،

وعليه غرمه)، واحتج بأن ضمانه من ماله، فنفعه له، وذلك أنه لا يرى الرهن مضمونا.

(1) (باب في العتق وفضله)

كتاب العتق (1) (باب في العتق وفضله) 579/ 2517 - قال أبو عبد الله: حدثنا أحمد بن يونس، قال: حدثنا عاصم بن محمد، قال: حدثني واقد بن محمد، قال: حدثني سعيد بن مرجانة،- صاحب علي بن الحسين-، قال: قال لي أبو هريرة: قال النبي، صلى الله عليه وسلم: (أيما رجل أعتق امرأ مسلما استنقذ الله بكل عضو منه عضوا من النار). قال سعيد بن مرجانة: فانطلقت به إلى علي بن الحسين، فعمد علي بن الحسين إلى عبد له، قد أعطاه به عبد الله بن جعفر عشرة آلاف درهم، أو ألف (دينار)، فأعتقه. قلت: إذا كان أعضاء العتيق وجوارحه فداء لأعضاء المعتق وجوارحه، فليجتهد أن لا يكون العتيق ناقص الأعضاء؛ بالعور والشلل، أو معيبا عيبا يضر بالعمل، ويخل بالسعي والاكتساب،

لكن يكون سليم الأعضاء، صحيح الجوارح، لينال به الثواب الموعود في هذا الحديث. قلت: وربما كان ناقص الأعضاء زيادة في الثمن كالخصي، إذ كان يصلح لما لا يصلح له غيره من حفظ الحرم ونحوه، فلا يكره ذلك حينئذ على أنه لا يخل بالعمل الذي يحتاج إليه في الكسب والمعاش. وقد سئل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقيل: أي الرقاب أفضل؟ فقال: أغلاها ثمنا، وأنفسها عند أهلها.

(باب أي الرقاب أفضل؟) 580/ 2518 - وقد رواه أبو عبد الله، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن أبي مراوح، عن أبي ذر، قال: سألت النبي، صلى الله عليه وسلم: أي العمل/ أفضل؟ قال: (إيمان بالله، وجهاد في سبيله) قلت: فأي الرقاب أفضل؟ قال: (أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها). قلت: فإن لم أفعل؟ قال: تعين ضائعا، أو تصنع لأخرق) قلت: فإن لم أفعل؟ قال: (تدع الناس من الشر، فإنها صدقة تصدق بها على نفسك). الأخرق: هو الذي ليس في يده صنعة.

(10) (باب بيع الولاء وهبته)

(10) (باب بيع الولاء وهبته) 581/ 2535 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو الوليد، قال: حدثنا شعبة، قال: أخبرني عبد الله بن دينار، سمعت ابن عمر، يقول: نهي النبي، صلى الله عليه وسلم، عن بيع الولاء، وعن هبته. قلت: قد يتضمن النهي عن بيع الولاء وجوها. منها: أن يبيع الرجل ولاء عتيقه بمال يأخذه عليه، وكانت (العرب) تفعل ذلك. ومنها: أن يبيع ما يرثه بعد موته بمال يستحقه بولائه. ومنها: أن يبيع الرجل من صاحبه نسمة ويشترط عليه أن يعتقها على أن يكون ولاؤها للبائع، فيضع لأجل ذلك من الثمن، فيكون ذلك بيع الولاء على ما جرت عليه قصة بريرة في اشتراط أهلها الولاء على عائشة. ومنها: أن يبيع المعتق ولاء مواليه بعوض يأخذه عليه، فينتقل إلى قوم آخرين فيواليهم، وهذا كله داخل في نهي النبي، صلى الله عليه وسلم،

ويدخل في ذلك أيضا ولاء السائبة، فإن قوما زعموا أن السائبة يضع ولاءه حيث شاء، فالولاء كالنسب، إذا استقر لم يزل بعوض، ولا غير عوض إلا ما استثناه الإجمال من جر الولاء إلا في قول بعض التابعين.

(11) (باب إذا أسر أخو الرجل أو عمه هل يفادى إذا كان مشركا)

(11) (باب إذا أسر أخو الرجل أو عمه هل يفادى إذا كان مشركا) 582/ 2537 - قال أبو عبد الله: حدثنا إسماعيل بن عبد الله، قال حدثني إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة، عن موسى بن عقبة، عن ابن شهاب، حدثني أنس بن مالك أن رجالا من الأنصار استأذنوا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إيذن فلنترك لابن أختنا عباس فداءه. فقال: (لا تدعون منه درهما). / كان عباس بن عبد المطلب حضر يوم بدر مع قريش، فأسر فيمن أسر منهم، ففاداهم النبي، صلى الله عليه وسلم، وأطلقهم، فأراد الأنصار أن يسوغوا له الفدية إيجابا لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، ثم لقرابتهم من العباس، وكانت جدته امرأة من بني النجار، تزوجها هاشم بن عبد مناف، فولدت له عبد المطلب فلذلك قالوا: ابن أختنا، فلم يجبهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى ذلك، ولم يأذن لهم أن يحابوه فيها، وكان

العباس ذا مال، فاستوفيت منه الفدية، وصرفت مصرفها من حقوق الغانمين. وفي هذه القصة من إسار العباس وعقيل معه دليل على أن الأخ لا يعتق على أخيه إذا ملكه، كما يعتق عليه الوالد والولد، وذلك أن عقيلا قد أسر مع العباس، ولذلك يقول العباس: خرجنا نستعين برسول الله، صلى الله عليه وسلم، حين أتاه مال البحرين، فقال: إني فاديت نفسي وفاديت عقيلا. وكان لعلي حق في تلك الغنيمة، فلم يعتق عليه عقيل، والسبي يوجب الرق في الصغير والكبير، إلا أن النبي، صلى الله عليه وسلم، كان مخيرا بين أن يقتل البالغين، وبين أن يفاديهم، أو يمن عليهم إذا لم يرد أن يسترقهم (لقوله) عز وجل: {فإما منا بعد وإما فداء}.

(17) (باب كراهية التطاول على الرقيق، وقوله عبدي وأمتي)

(17) (باب كراهية التطاول على الرقيق، وقوله عبدي وأمتي) 583/ 2552 - قال أبو عبد الله: حدثني محمد، قال: حدثنا عبد الرازق، قال: أخبرنا معمر، عن همام بن منبه أنه سمع أبا هريرة يحدث عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (لا يقل أحدكم: أطعم ربك، وضئ ربك، اسق ربك، وليقل: سيدي مولاي. ولا يقل أحدكم: عبدي، أمتي، وليقل: فتاي وفتاتي وغلامي). إنما منع صلى الله عليه وسلم أن يقال: أطعم ربك، اسق ربك، لأن الإنسان مربوب متعبد، بإخلاص التوحيد لله عز وجل، وترك الإشراك معه، فكره له المضاهاة بالاسم، لئلا يدخل/ في معنى الشرك، والحر والعبد في هذا بمنزلة واحدة، فأما مالا تعبد عليه من سائر الحيوان والجماد، فلا بأس بإطلاق هذا الاسم عليه عند الإضافة، كقولك: رب الدابة، ورب الدار، والثوب، ونحوها، ولم يمنع العبد أن يقول: سيدي، ومولاي، لأن مرجع السيادة إلى معنى الرئاسة على من تحت يده، والسياسة له، وحسن التدبير لأمره، ولذلك سمي الزوج سيدا. قال الله عز وجل:

{وألفيا سيدها لدى الباب}. وقال النبي، صلى الله عليه وسلم، في الحسن بن علي: (إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين) وكان ما جرى منه- رضوان الله عليه- في ذلك المقام حسن تدبير ونظر سياسة، وإن كان أحق بالأمر، وأولى به. وقد قال بعض أهل اللغة: إنما سمي السيد سيدا لأنه يملك السواد الأعظم، أو يليهم، أو كما قال من هذا النحو. وأما المولى فكثير التصرف في الوجوه المختلفة من ولي، وناصر، وابن عم، وحليف، ومعتق، وجماع ذلك كله في معنى الاشتقاق: ولاية أمر وإصلاحه، فلم يمنع أن يوصف بها الإنسان، ويضاف إليها، ولكن لا يقال السيد على الإطلاق، ولا المولى من غير إضافة إلا في صفة الله عز وجل، وكذلك العبد يكره لمالك الرقبة أن يقول: عبدي، لأن هذا الاسم من باب المضاف ومقتضاه العبودية له، وصاحبه الذي هو مالكه عبد الله، متعبد بأمره ونهيه، فإدخال مملوكه تحت هذا الاسم يوهم الشرك، ويوجب معنى المضاهاة، فلذلك استحب له أن يقول: فتاي، وفتاتي، ونحو ذلك من القول، والمعنى في ذلك كله راجع إلى البراءة من الكبر، والتزام الذل والخشوع، وهو الذي يليق بسمة العبيد،

وبصفات المربوبين، لا يحسن بعبد أن يقول: فلان عبدي، وإن كان قد ملك قيادة في الاستخدام له، والاستخذاء لطاعته، امتحانا، وابتلاء من الله لخلقه. وقال تعالى: {وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتبصرون}. وقد روى أبو عبد الله/ على أثر هذا الحديث حديثا حسنا ذكرته، ليكون من قارئ هذا الكتاب على بال.

(16) (باب العبد إذا أحسن عبادة ربه ونصح سيده)

(16) (باب العبد إذا أحسن عبادة ربه ونصح سيده) 584/ 2548 - قال: حدثنا بشر بن محمد، قال: أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا يونس، عن الزهرى، سمعت سعيد بن المسيب يقول: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم،: (للعبد المملوك الصالح أجران، والذي نفسي بيده، لولا الجهاد في سبيل الله (والحج)، وبر أمي، لأحببت أن أموت، وأنا مملوك). قلت: وعلى هذا المعنى امتحان الله عز وجل أنبياءه وأولياءه: ابتلى يوسف بالرق، ودانيال حين سباه بخت نصر في جملة

من بني إسرائيل وكذلك ما روي من أن الخضر وقع في الرق حين سأله سائل بوجه الله، فلم يكن عنده ما يعطيه، فقال له: سألتني بوجه الله، ولا أملك إلا وقتي، فبعني، واستنفق ثمني، أو كما قال.

كتاب الهبة

كتاب الهبة (3) (باب من استوهب من أصحابه شيئا) 585/ 2569 - قال أبو عبد الله: حدثنا ابن أبي مريم، قال: حدثنا أبو غسان، قال: حدثني أبو حازم، عن سهل، أن النبي، صلى الله عله وسلم، أرسل إلى امرأة من المهاجرين، وكان لها غلام نجار، فقال: (مري عبدك فليفعل، لنا أعواد المنبر)، فأمرت عبدها، فذهب، فقطع من الطرفاء، فصنع له منبرا، فلما قضاه أرسلت إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قد قضته فقال: (أرسلي به إلي)، فجاءوا به فاحتمله النبي، صلى الله عليه وسلم فوضعه حيث ترون. قوله: قضاه، يريد: صنعه وأحكمه، وكل صنع في تمام وإحكام فهو قضاء، ومنه قوله تعالى: {فقضاهن سبع سماوات}. وقوله: (فليفعل لنا أعوادا) يريد، فليفعل لنا فعلا في

أعواد، أي: من نجر وتسوية وخرط يكون منها منبر، والظاهر من حق الكلام والمستعمل في مثله أن يقال: فليصنع لنا، أو فليجعل لنا، وذلك أن لفظ الفعل جملة تحتها أقسام، وجنس تتفرع منه أنواع، وتمام البيان إنما يقع بتنزيل الكلام منازله، وتسمية كل شيء بخاص اسمه، واللام له من لقبه، وإذا عدل بالكلام عن سننه، لم يستقل بإفادة المراد/ حتى يعان بغيره، من نحو إضمار فيه أو حذف منه، أو تقديم أو تأخير. والعبارة عما يعالج من الأشياء، ويعتمل، تقع بثلاثة ألفاظ: هي الفعل، والصنع، والجعل، فأجمعها في الفعل، وأوسعها في الاستعمال الجعل، وأخصها في الترتيب الصنع. فنقول فعل فلان خيرا، وجعل شرا، وفعل حسنا، وفعل قبيحا، وهذا على الإبهام والإجمال، وغالب المعنى فيه يرجع إلى الصفات التي تقع تحت الأفعال، من استحسان تصورها، أو استقباح لها، ولفظ الجعل يسترسل على الأعيان والصفات معا، فيقال: جعل فلان لنفسه دارا، وجعل لداره بابا، كما يقول: جعل لنفسه جاها في الناس، وقدرا، ومنزلة عندهم. قال الله تعالى: {وجعل الظلمات والنور}، بمعنى: خلق أعيانها. وقال: {وجعلنا من الماء كل شيء}. كما قال: {ويجعلون لله البنات} بمعنى الصفة، تعالى الله عن ذلك علوا

كبيرا، ولفظ الصنع يستعمل غالبا فيما يدخله التدبير، ويجري الأمر فيه على نوع من التسوية والتقدير، ولذلك اختير من جملة هذه الألفاظ في صفة الله سبحانه وتسميته إذا اشتق له الاسم من أفعال، الصانع على الإطلاق، ولم يقولوا: الفاعل، ولا الجاعل، ومن أجل لك قيل لمن يعمل الأعمال الصناعية التي يدخلها الفكر والتدبير، الصناع وهذا شرح الجملة، ويحتاج في تفصيل أقسامه إلى بسط، يخرج به الكتاب عن قصد ما أنشيء له.

(3) (الباب نفسه)

(3) (الباب نفسه) 586/ 2570 - قال أبو عبد الله: حدثني عبد العزيز بن عبد الله، قال: حدثني محمد بن جعفر، عن أبي حازم، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، وذكر القصة في عقره الحمار، والقوم محرمون، فأكلوا منه. قال: فأدركنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فسألناه عن ذلك، فقال: (معكم منه شيء)؟ فقلت: نعم، فناولته العضد، فأكلها حتى نفذها، وهو محرم. وقال: وحدثني به زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي قتادة. قوله: نفذها، يريد: أكلها حتى أتى عليها. يقال: نفد الشيء: إذا فني، وأنفذ القوم: إذا نفذت أزوادهم، فهم منفذون. وفيه: أن لحم الصيد لا يحرم على المحرم مالم/ يصده، أو لم يكن صيد بمعونة منه.

(5) (باب قبول هدية الصيد)

(5) (باب قبول هدية الصيد) 587/ 2572 - قال أبو عبد الله: حدثني سليمان بن حرب قال: حدثنا شعبة، عن هشام بن زيد عن أنس بن مالك قال: أنفجنا أرنبا بمر الظهران، فسعى القوم فلغبوا، فأدركتها، فأخذتها، فأتيت بها أبا طلحة، فذبحها، وبعث إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بوركها أو فخذيها، (قال فخذيها)، لاشك (فيه)، فقبله. قلت: وأكل منه؟ قال: وأكل منه، ثم قال بعد: قبله. قوله: أنفجنا، يريد أثرناها. يقال: أنفجتها فنفجت وانتفجت، إذا ثارت فوثبت في عدوها. وقوله: فغلبوا، يريد: أعيوه. واللغوب: الإعياء.

(12) (باب الهبة للولد)

(12) (باب الهبة للولد) 588/ 2586 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن يوسف قال: حدثنا مالك، عن [ابن شهاب]، عن حميد بن عبد الرحمن، ومحمد بن النعمان بن بشير، أنهما حدثاه عن النعمان ابن بشير أن أباه أتى، رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: إني نحلت ابني هذا غلاما. فقال: (أكل ولدك نحلت مثله)؟ (قال: لا. قال: (فارجعه). قوله: (فارجعه)، يدل على وقوع القبض له متقدما. وفيه: بيان جواز رجوع الوالد فيما ينحل ولد من نحل وعطية، وهو مستثنى من جملة نهيه عن العودة في الهبة. ومن قوله (العائد في هبته كالعائد في قيئه). وحكم الولد في هذا خلاف حكم الأجانب، وقد قال

صلى الله عليه وسلم، (أنت ومالك لأبيك). وروى ابن عمر، وابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (لا يحل للرجل أن يعطى عطية، أو يهب هبة، فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده).

(15) (باب هبة المرأة لغير زوجها، وعتقها)

(15) (باب هبة المرأة لغير زوجها، وعتقها) 589/ 2591 - قال أبو عبد الله حدثني: عبيد الله، بن سعيد قال: حدثنا عبد الله بن نمير، قال: حدثنا هشام بن عروة، عن فاطمة، عن أسماء أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: (انفقي ولا تحصي، فيحصى الله عليهك، ولا توعي فيوعى الله عليك). قوله: (لا توعي)، يريد: لا تخبئي الشيء في الوعاء، فتدخريه ولا تنفقيه. يقال: أوعيت الشيء إذا جعلته في الوعا. ومنه قوله سبحانه: {وجمع فأوعى}. يقول: إن مادة الرزق متصلة باتصال النفقة، ومنقطعة بانقطاعها، فلا تمنعي/ فضل الزاد فتحرمي مادة الرزق، وكذلك قوله: (لا تحصي فيحصي الله عليك، وذلك أنها تحصي ما تحصى للتبقية والذخر، فيحصى عليها بقطع البركة، ومنع الزيادة، وقد يكون مرجع الإحصاء إلى المحاسبة عليه، والمناقشة في الآخرة.

(28) (باب قبول الهدية من المشركين)

(28) (باب قبول الهدية من المشركين) 590/ 2615 - قال أبو عبد الله بن محمد، قال: حدثنا يونس بن محمد، قال: حدثنا شيبان، عن قتادة، قال: حدثنا أنس، قال: أهدي للنبي، صلى الله عليه وسلم، جبة سندس، وكان ينهى عن الحرير، فعجب الناس منها، فقال: (والذي نفسي، بيده لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا)، وقال سعيد، عن قتادة، عن أنس، أن أكيدر دومة، أهداها، له. قلت: إنما ضرب لهم المثل بالمناديل، لأنها ليست من علية اللباس، وإنما هي وقاية تبتذل في صون التخات، وتستعمل في أنواع من المرافق، فلا تقصد باللبس، والزينة كسائر الثياب،

وقد جرت العادة باتخاذها، لتمتسح بها الأيدي، وينفض بها الغبار عن أطراف البدن، ويغطى بها ما يهدى في الأطباق، وقد تتخذ لفافا لحر الثياب والمتاع، فصار سبيلها سبيل الخادم، وسبيل سائر الثياب سبيل المخدوم، فلأجل ذلك ضرب المثل بها، إذ كانت دون سائر جنس الكسوة واللباس. وفيه من الفقه: جواز قبول هدية الكفار، وقد روي أن النبي، صلى الله عليه وسلم، رد هدية عياض بن حمار، وقال: (إن لا نقبل زبد المشركين)، فيحتمل أن يكون ذلك للفرق بين المشركين، وغيرهم من الكفار، وذلك أن ليس كل كافر مشركا. المشرك: من عبد وثنا، أو أشرك مع الله في ربوبيته شيئا. وأكيدر: رجل من أهل الكتاب كان يؤدي إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الجزية. ويحتمل أن يكون الرد إنما كان في أول الزمان، فنسخ ذلك بالقبول آخر الزمان، وقد كان له صلى الله عليه وسلم في أموال الكفار حقوق، وكان له صلى الله عليه وسلم في أموال الكفار

حقوق، وكان الفيء له يصرفه حيث يشاء، فعلى أي وجه حصل ف يده لم يكن يجب عليه الامتناع منه. فأما المسلمون فإنه كان إذا أهدوا له هدية قبلها، وأثابهم/ عليها.

(29) (باب الهدية للمشركين)

(29) (باب الهدية للمشركين) 591/ 2620 - قال أبو عبد الله، حدثني عبيد بن إسماعيل، قال: حدثنا أبو أسامة، عن هشام، عن أبيه، عن أسماء بنت أبي بكر، قال: قدمت علي أمي، وهي مشركة في عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فاتسفتيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقلت: هي راغبة، أفأصل أمي؟ قال: (نعم: صلي أمك). قولها: (راغبة)، تريد: أنها طالبة بري، ومعترضة له، وأصل الرغبة: الحرص على الشيء، والطلب له. وفيه: أن الرحم الكافرة توصل ببر المال ونحوه كالرحم المسلمة. وفيه مستدل لمن رأى وجوب نفقة الأب الكافر، والأم الكافرة على الولد المسلم.

(33) (باب من استعار من الناس الفرس)

(33) (باب من استعار من الناس الفرس) 592/ 2627 - قال أبو عبد الله: حدثنا آدم، قال حدثنا شعبة، عن قتادة، قال: سمعت أنسا، يقول: كان فزع بالمدينة، فاستعار النبي، صلى الله عليه وسلم، فرسا من أبي طلحة: يقال له المندوب، فركب، فلما رجع، قال: (ما رأينا من شيء، وإن وجدناه لبحرا). قوله: (وإن وجدناه، (إن) هاهنا بمعنى: (ما) النفي، واللام في قوله: (لبحرا)، بمعنى: (إلا)، كأنه قال: ما وجدناه إلا بحرا. والعرب تقول: إن زيد لعاقل، تريد: ما زيد إلا عاقل، وعلى هذا قرأ من قرأ: {إن هذان لساحران}، بتخفيف إن، المعنى: ما هذان إلا ساحران، وقد قرأ به حفص، عن عاصم. والبحر: من نعوت الخيل. قال الأصمعي: يقال: فرس، بحر، وغمر، وحت، وسكب، إذا كان واسع

الجري. قال إبراهيم ابن عرفة النحوي: إنما شبهه بالحبر على معنى أن جريه لا ينفذ كما لا ينفد ماء البحر.

(32) (باب ما قيل في العمرى والرقبى)

(32) (باب ما قيل في العمرى والرقبى) 593/ 2625 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا شيبان، عن يحى، عن أبي سلمة، عن جابر، قال: قضى النبي، صلى الله عليه وسلم، بالعمرى أنها لمن وهبت له. قلت: تفسير (العمرى) أن يقول الرجل لصاحبه: أعمرتك داري، أي: جعلتها لك مدة عمرك، فإذا قال هذا واتصل به القبض، كان تمليكا لرقبتها، ولذلك سماها صلى الله عليه وسلم هبة في قوله: (إنها لمن وهبت له) وإذا صارت هبة له فهي له، حياته، ولورثته بعده.

(34) (باب الاستعارة للعروس عند البناء)

(34) (باب الاستعارة للعروس عند البناء) 594/ 2628 - وقال أبو نعيم، قال: حدثنا عبد الواحد بن أيمن، قال: حدثني أبي، قال: دخلت على عائشة/، وعليها درع قطر ثمن خمسة دراهم، فقالت: ارفع بصرك إلى جاريتي انظر إليها، فإنها تزهى أن تلبسه في البيت، وقد كان لي منه درع على عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فما كانت امرأة تقين بالمدينة إلا أرسلته إلي، فتستعيره. القطر: ضرب من البرود غليظ. وقولها: تزهى أن تلبسه، أ: تتكبر عن ذلك. يقال: زهي الرجل، يزهى: إذا دخله الزهو، وهو الكبر. وقولها: (تقين) معناه: تزين بالزفاف. والمقينة: هي التي تزين العرائس.

(35) (باب فضل المنيحة)

(35) (باب فضل المنيحة) 595/ 2629 - قال أبو عبد الله: حدثني بن بكير، قال: حدثنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قل: نعم المنيحة اللقحة الصفي منحة، والشاة الصفي تغدو بإناء، وتوح بإناء. المنيحة في هذا تجري مجرى الصدقة، وهي في الأصل عارية يشرب درها، وترد رقبتها. والمنيحة- أيضا: العطية، واللقحة: الناقة ذات اللبن، والصفي: الغزيرة، وصفايا الإبل: الغزار منها.

(35) (الباب نفسه)

(35) (الباب نفسه) 596/ 2630 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا بن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن أنس، قال: لما قدم المهاجرون مكة أعطت أم أنس رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عذاقا، فأعطاهن النبي صلى الله عليه وسلم، أم أمن مولاته أم سلمة بن زيد. قال ابن شهاب: فأخبرني أنس بن مالك أ، النبي، صلى الله عليه وسلم، لما فرغ من قتال أهل خيبر، وانصرف إلى المدينة، رد المهاجرون إلى الأنصار، منائحهم، فرد النبي، صلى الله عليه وسلم، إلى أمه عذاقها، وأعطى أم أيمن من حائطه، وفي رواية أخرى: من خالصه. والعذاق: جمع العذق، وهي النخلة، كما يقال: كلب، وكلاب. وحبل وحبال. وهي منائح منحوها المهاجرين.

(الباب نفسه) 597/ 2633 - قال أبو عبد الله: قال محمد بن يوسف، حدثنا الأوزاعي، قال: (حدثني الزهري قال: (حدثني الزهري قال: حدثني عطاء بن يزيد، قال: حدثني أبو سعيد، (قال)، جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسأله عن الهجرة. فقال: (ويحك، إن الهجرة شانها شديد، فهل لك من إبل)؟ قال: نعم (قال: فتعطي صدقتها)؟ قال: نعم. قال: فهل تمنح منها)؟ قال: نعم. قال: (فتحلبها يوم وردها)؟ قال: نعم. قال: (فاعمل من وراء البحار، فإن الله لن يترك من عملك شيئا). قوله: (لن يترك) معناه: ينقصك. يقال: وتره يتره إذا نقصه. ومن ذلك قول النبي، صلى الله عليه وسلم،: (من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله). قال الكسائي في قوله: (فكأنما وتر أهله وماله)، وهو من الوتر، وهو أن يجني على أهله وماله، فيذهب بأهله وماله.

وقوله: (فاعمل من وراء البحار). يقول: إذا كان هذا صنيعك، فألزم أرضك، وإن كانت من وراء البحار، فإنك لا تحرم أجر الهجرة، وذلك أنه قد جمع بين أقطار الخير: الصدقة الواجبة، والمنيحة التي هي بر وصلة، وسقي اللبن يوم الورد، وهو معونة ومعروف.

(37) (باب إذا حمل رجل على فرس فهو كالعمرى والصدقة)

(37) (باب إذا حمل رجل على فرس فهو كالعمرى والصدقة) 598/ 2636 - قال أبو عبد الله: حدثنا الحميدي، قال: حدثنا سفيان، قال: سمعت مالكا يسأل زيد بن أسلم، فقال: سمعت أبي، يقول: قال عمر: حملت على فرس في سبيل الله، فرأيته يباع، فسألت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: (لا تشتره، ولا تعد في صدقتك). قلت: قد يحتمل أن يكون المعنى في ذلك: أنه شيء أخرجه من ملكه إلى الله عز وجل، وتخلى عنه لوجه الله، وكان في نفسه منه شيء، وكانت تنازعه إليه، فلما وجده يباع أحب معاودته، فأشفق صلى الله عليه وسلم، أن تفسد نيته ويحبط أجره، فنهاه عن ذلك، وشبهه بالعود في الصدقة، وإن كان ذلك بالثمن للمعنى القائمة في نفسه من الرغبة الداعية إليه، وهذا كتحريمه على المهاجرين معاودة دورهم بمكة، وحظره سكناها عند القدرة عليها أيام الفتح، وقد دعا صلى الله عليه وسلم، فقال: (اللهم لا تجعل منايانا بمكة). وقال في حديث سعد بن أبي وقاص حين

اعتل بمكة، وخاف أن يموت بها: (إنك تبقى حتى ينفع الله بك أقواما، ويضر بك آخرين، لكن البائس سعد بن خولة). يرثى له أن مات بمكة. وقال: (اللهم أتم لأصحابي هجرتهم، ولا تجعلهم مرتدين على أعقابهم). قلت: وقد يخطر بالبال أن ليس/ من هذا الباب ما يشتريه الرجل بالثمن من غلة أرض قد كان تصدق بها، لأن الذي يشتريه منها غير العين المتصدق بها، والمعنى القائم في النفس من انتزاع إلى أصلها معدوم فيها، وإنما هي شيء حادث من الأصل مستخلف، وقد ابتاع عثمان بن عفان، رضي الله عنه، بئر رومة، فتصدق بها على المسلمي، ثم كانت دلوه مع دلائهم فيها. فأما إذا تصدق بالشيء لا على سبيل الإحباس لأصله، لكن على البر، والصلة لعين من الأعيان، فإنه يجري مجرى الهبة، فلا بأس عليه في ابتياعه من صاحبه.

كتاب الشهادات

كتاب الشهادات (3) (باب شهادة المختبيء) 599/ 2639 - قال أبو عبد الله: حدثني عبد الله بن محمد، قال: حدثنا سفيان، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة: جاءت امرأة رافعة القرظي إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فقالت: كنت عند رفاعة، فطلقني، فأبت، فتزوجت عبد الرحمن ابن، الزبير وإنما معه مثل هدبة الثوب. فقال: (أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟! لا، حتى تذوقي عسيلته، ويذوق عسيلتك) وأبو بكر جالس عنده، وخالد بن سعيد بالباب ينتظر أن يؤذن له. فقال: يا أبا بكر، ألا تسمع إلى هذه ما تجهر به عند النبي، صلى الله عليه وسلم. قولها: مثل هدبة الثوب، تريد، أنه لا متعة لها منه، وكأنها ادعت عليه العنة. وقوله: (لا، حتى تذوقي عسيلته)، يريد به الوطء، كنى بالعسيلة عن لذة الجماع، وهي تصغير العسل. ويقال: إن العسل

يؤنث في بعض اللغات، وقد يحتمل أن يكون أدخل (الهاء) إشارة إلى اللإلمامة الواحدة، أو الواقعة الواحدة التي تحله للأزواج، فأنث الكناية لتأنيث ما تحتها من الضمير. وفيه: دليل على أن لا خيار لامرأة الخصي إذا بقي له ما يقع به الوطء وإن كان ضعيفاً.

(17) (باب الشهادة على الأنساب والرضاع

(17) (باب الشهادة على الأنساب والرضاع المستفيض والموت القديم) 600/ 2644 - قال أبو عبد الله: حدثنا آدم: قال: حدثنا شعبة، قال: حدثنا الحكم، عن عراك بن مالك، عن عروة بن الزبير، عن عائشة، رضي الله عنها، قال: استأذن علي أفلح، فلم آذن له. فقال: أتحجبين، مني، وأنا عمك؟ فقلت: كيف ذلك؟ فقال: أرضعتك امرأة أخي بلبن أخي. فقالت: سألت عن ذلك رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: (صدق أفلح، ائذني له). في هذا الحديث من الفقه: إثبات التحريم بلبن الفحل، وأن زوج المرضعة الذي ثار لبنها منه بمنزلة الوالد للمرضعة، وأن أخاه بمنزلة العم لها.

(7) (الباب نفسه)

(7) (الباب نفسه) 601/ 3645 - قال أبو عبد الله: حدثنا مسلم بن إبراهيم قال: حدثنا همام، قال: حدثنا قتادة، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس قال النبي، صلى الله عليه وسلم، في ابنة حمزة، قال: يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب، هي ابنة أخي من الرضاعة). قلت: (هذا اللفظ عام، ومعناه خاص، وتفصيله أن الرضاع يجري عمومه في تحريم المرضعة: وذوي أرحامها على المرضع مجرى النسب، ولا يحرم في المرضع، وذوي أرحامه مجرى النسب، وذلك أنه إذا أرضعته صارت أما له، فحرم عليه نكاحها، ونكاح ذوات محارمها، وهي لا تحرم على أبيه، ولا على أخيه ولا على ذوي أنسابه غير أولاده، وأولاد أولاده، فعلى هذا يجري الأمر في هذا الباب عموما في أحد الشقين، وخصوصا في الشق الآخر.

(7) (الباب نفسه)

(7) (الباب نفسه) 602/ 2647 - قال أبو عبد الله: حدثنا محمد بن كثير قال: أخبرنا سفيان، عن أشعث بن أبي الشعثاء، عن أبيه، عن مسروق، أن عائشة، رضي الله عنها، قالت: دخل علي النبي، صلى الله عليه وسلم، وعندي رجل فقال: (يا عائشة: من هذا)؟ قلت: أخي من الرضاعة. قال: (يا عائشة، انظرن من إخوانكن، فإنما الرضاعة من المجاعة). ومعنى هذا الكلام: أن المصة والمصتين لا تسد الجوع، ولا تقوت البدن، وإنما تمسك الرمق فقط، وكذلك الرضاع بعد الحولين، وإن بلغ خمس رضعات، لا يشبع حتى يطعم الثفل. يقول: فإنما يكون للر ضاع حكم التحريم إذا كان في الحولين، وكان قدر ما ترد به المجاعة، وهو ما قدرته السنة، وحدته بخمس رضعات، وما كان دون ذلك لم يقع به التحريم.

(9) (باب لا يشهد على شهادة

(9) (باب لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد) 603/ 2650 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبدان، قال: حدثنا عبد الله، قال: أخبرنا أبو حيان التيمي، عن الشعبي، عن النعمان بن بشير، قال: سألت أمي أبي بعض الموهبة لي من ماله، ثم/ يدا له، فوهبها لي، فقالت: لا أرضى حتى تشهد النبي، صلى الله عليه وسلم، فأخذ بيدي، وأنا غلام فأتى بي النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: إن أمه بنت رواحة، سألتني بعض الموهبة بهذا. فقال: (ألك ولد سواه)؟ قال: نعم، فأراه. قال: (لا تشهدني على جور). قال: وقال أبو حريز، عن الشعبي: (لا أشهد على جور). معنى الجور في هذا: العدول عن التسوية بين الأولاد في

البر، كما يجب عليهم أن يكونوا سواء في الطاعة والخدمة، وإلى هذا المعنى ذهب أكثر أهل العلم مع كراهتهم إيثار بعض الولد على بعض، وقد يظن أن المعنى في ذلك: هو ما يقع في نفس المفضول بالبر من الكراهة والسخطة، فيحمله على الجفاء، وقطيعة الرحم. واحتج من أنفذ ذلك بأن أبا بكر، رضي الله عنه، فضل عائشة بجاد عشرين وسقا على سائر أولاده، وذهب بعضهم إلى أن هذا الفعل محرم لا يجوز، وهو قول أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه؛ لأن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، سماه جورا، ولم يشهد عليه، وليس وراء هذا في النكير غاية. واختلفوا إذا أراد قسمة النحل بن أولاده، فذهب بعضهم إلى التسوية بين الذكور والإناث. وقال آخرون: لا يجوز التسوية بينهما، لكن يقسم على سهام الميراث، وهو قول شريح وإليه ذهب أحمد بن حنبل.

(الباب نفسه) 604/ 2651 - قال أبو عبد الله: حدثنا آدم، قال: حدثنا شعبة، قال: حدثنا أبو جمرة، قال: سمعت زهدم بن مضرب، قال: سمعت عمران بن حصين، قال: قال النبي، صلى الله عليه وسلم: (خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم). قال (عمران): لا أدري أذكر مرتين أم ثلاثا. قال النبي، صلى الله عليه وسلم: (إن بعدكم قوما يخونون، ولا يؤمنون، ويشهدون ولا يستشهدون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن). القرن: أهل عصر متقاربة أسنانهم، واشتق لهم هذا الاسم من الاقتران في الأمر الذي يجمعهم، ويقال: إنه لا يكون قرنا حتى يكونوا في زمان نبي، أو رئيس يجمعهم على ملة، أو رأي، أو مذهب. وقوله: (ويشهدون ولا يستشهدون)، فقد يكون هذا في إعارة الشهادة بالزور من غير إشهاد، أو استشهاد. وفيه دليل: على أن من شهد لرجل، أو عليه عند حاكم من

الحكام قبل أن يستشهد كانت شهادته هدرا لا توجب حكما، وقد يحتمل ذلك وجها آخر، وهو الشهادة على المغيب من أمر الخلق، فيشهد على قوم أنهم في النار، ولقوم آخرين بغير ذلك، على مذاهب أصحاب الأهواء في مثل ذلك، وليس هذا، (وقد روي عن)، النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (خير الشهداء من يأتي بشهادته قبل أن يسألها)، وليس هذا بمخالف للحديث الأول، وإنما وجه الحديث، ومعناه: أنه لا يزال مستعدا لأدائها، إذ هي أمانة عنده، فهو يتعرض لها أبدا متى يقيمها، ويؤدي الحق فيها. وقد قيل: إنه إنما جاء في الرجل تكون عنده الشهادة، وقد نسيت صاحب الحق فيذكره بها، خروجا من الأمانة فيها، وقد يموت الرجل، فيترك أطفالا ولهم على الناس حقوق، ولا علم للوصي بها، فتجيء من عنده الشهادة فيخبرهم بذلك، ويبذل شهادته لهم، فيحيا بذلك حقهم ولا يتوى مالهم، فإنما حمد بذل الشهادة قبل المسألة في مثل هذه المواضع.

(15) (باب تعديل النساء

(15) (باب تعديل النساء بعضهن بعضا) 605/ 2661 - قال أبو عبد الله: حدثني عبد العزيز بن عبد الله، قال: حدثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح، عن ابن شهاب، حدثني عروة بن الزبير، وسعيد بن المسيب، وعلقمة بن وقاص، وعبيد الله ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وذكرت قصة الإفك، قالت: وكان النساء إذ ذاك خفاقا لم يهبلهن، اللحم، إنما يأكلن العلقة من الطعام، وذكرت الحديث إلى أن قالت: وانطلق- يعني صفوان بن المعطل- يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش موغرين في نحر الظهيرة، وهم نزول، فهلك من هلك. وكان الذي تولى كبر الإفك عبد الله بن أبي بن سلول.

قال عروة: أخبرت أنه كان يتحدث به عنده، فيقره، ويسمعه، ويستوشيه إلى أن قالت: فدعا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بريرة، فقال: (أي بريرة! هل رأيت من شيء يريبك)؟ قالت: والذي بعثك بالحق ما رأيت عليها أمرا أغصه أكثر من أنها جارية حديثة السن، تنام عن عجين أهلها، فتأتى الداجن فتأكله، وقصت القصة إلى أن قالت: فأخذ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ما كان يأخذه من البرحاء، حتى إنه ليتحدر منه من العرق مثل الجمان في يوم شات من ثقل القول الذي أنزل عليه. قالت: فسري عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم وهو يضحك. قالت: وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، سأل زينب بنت جحش عن أمري، فقالت: يا رسول الله: أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت إلا خيرا. قالت: وهي التي تساميني من أزواج النبي، صلى الله عليه وسلم، فعصهما الله بالورع. قالت: فطفقت أختها حمنة، تحارب لها، فهلكت فيمن هلك.

(الباب نفسه) 606/ 2661 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو الربيع- سليمان بن داود- وأفهمني بعضه أحمد، قال: حدثنا فليح بن سليمان، عن ابن شهاب بإسناده الأول، قالت عائشة: وذكرت قصة مسيرها مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأنهم نزلوا منزلا. قالت: فلمست صدري، فإذا عقد من جزع أظفار قد انقطع، وذكرت القصة إلى أن قالت: وكان الذي تولى الإفك عبد الله بن أبي بن سلول، قالت: فقام رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فاستعذر من عبد الله بن أبي، وذكر الحديث. وقولها: (لم يهبلهن اللحم) أي: لم يكثر عليهن، ولم يركب بعضه بعضا حتى يرهلن. ويقال: أصبح فلان مهبلا: إذا كان مورم الوجه، مهبجا. والعلقة: البلغة من القوت. وأصل العلقة شجر يبقى في الشتاء، تعلق به الإبل، أي: تجتزيء به، حتى يدرك الربيع. يقال: علقت الإبل تعلق، إذا تبلغت بعلقة الشجر. وقولها: موغرين، أي/ في وغر الهاجرة، وهو حين تتوسط الشمس السماء. يقال: وغرت الهاجرة وغرا، وأوغر/ الرجل،

أي: صار في ذلك الوقت، كما قيل: أظهر من الظهر، وأصبح، وأمسى. وقولها: كبر الإفك، تريد: معظم الإفك، وكبر الشيء: معظمه. وقولها: يستوشيه، تريد أنه كان يستنبطه ويستخرجه. يقال: استوشيت الحديث، إذا استخرجت سره وباطنه. وقولها: (أغمصه عليها)، معناه: أعيبه عليها، وأنقمه منها. والداجن: الشاة التي تحبس في البيوت لدرها، لا تخرج إلى المراعي، وسميت داجنا لأقامتها. يقال: دجنت دجناـ ودجونا، فهي داجن. والبرحاء: مبنية من البرح، وهو أشد ما يكون من الكرب. يصيب المحموم. والجمان: اللؤلؤ الصغار، ويقال: بل هو من الفضة يتخذ أمثال اللؤلؤ. وقولها: (فسري عنه)، تريد انكشاف ما كان خامره من الكرب، يقال: سروت الثوب عن بدني، إذا نزعته، وسروت الجل عن الدابة كذلك. وقولها: (أحمي سمعي وبصري)، معناه: لا أكذب فيما سمعت، أو فيما أبصرت، فيعاقبني الله في سمعي وبصري، لكني أصدق في ذلك حماية لهما، وذبا عنهما.

وقولها: (وهي التي تساميني)، أي: تعاليني، مفاعلة من السمو، معناه: تنازعني الحظوة عند رسول الله، صلى الله عليه وسلم. وقولها: (وطفقت أختها تجارب لها)، تريد أنها كانت تعرضها لأن تغري بي. يقال: حربت فلانا تحريبا: إذا جريته على إنسان، وأغريته به. وقلوها: جزع أظفار، فغنما هو ظفار بلد نسب إليه الجزع. وقولها: فاستعذر من عبد الله بن أبي، أي: طلب من يعذره منه، أي: ينصفه منه. يقول: من يعذرني من فلان، ومن عذيري من فلان، ويتأول ذلك على وجهين: أحدهما: من يقوم بعذره فيما يأتيه إلى من المكروه. والوجه الآخر: من يقوم بعذري، (إن) عاقبته على سوء فعله.

(24) (باب إذا تسارع قوم في اليمين)

(24) (باب إذا تسارع قوم في اليمين) 607/ 2674 - قال أبو عبد الله: (حدثني إسحاق بن نصر) حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن/ همام، عن أبي هريرة أن النبي، صلى الله عليه وسلم، عرض على قوم اليمين، فأسرعوا، فأمر أن يسهم بينهم في اليمين أيهم يحلف. قوله:؛ (يسهم)، معناه: يقرع: ومنه قول الله عز وجل: {فساهم فكان من المدحضين}. وإنما يفعل ذلك إذا تساوت درجاتهم في أسباب الاستحقاق، مثل أن يكون الشيء في يدي اثنين؛ كل واحد منهما يدعيه كله، فيريد أحدهما أن يحلف عليه، ويستحقهن فيريد الآخر مثل ذلك فيقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة خلف واستحقه.

(27) (باب من أقام البينة بعد اليمين)

(27) (باب من أقام البينة بعد اليمين) 608/ 2680 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك. عن هشام بن عروة، عن أبيه، زينب، عن أم سلمة أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: (إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، فمن قضيت له بحق أخيه، فإنما أقطع له قطعة من النار، فلا يأخذها. قوله: ألحن، معناه: أفطن، واللحن- متحركة الحاء-، الفطنة واللحن- الحاء ساكنة-: الزيغ في الأعراب. يقال: لحن، يلحن، لحنا: إذا فطن- الحاء من الماضي مكسورة-ولحن- بفتح الحاء- يلحن لحنا. وفيه: دليل على أن حكم الحاكم لا يحل حراما، ولا يحرم حلالا، وسواء في ذلك المال وغيره من الحقوق. وفيه: دليل على أن الحاكم إنما يحكم بالظاهر من البينة، وإن من علم من المخصوم أنه قد أخطأ في الحكم، فأعطاه شيئا، ليس له، فعليه أن لا يأخذه، ولا يستحله. وفيه: دليل على أن البينة مسموعة بعد اليمين.

(30) (باب القرعة في المشكلات)

(30) (باب القرعة في المشكلات) 609/ 2686 - قال أبو عبد الله: حدثنا عمر بن حفص بن غياث قال: حدثنا، أبي قال: حدثنا لأعمش، قال: حدثني الشعبي أنه سمع النعمان بن بشير، يقول: قال النبي، صلى الله عليه وسلم: (مثل المدهن في حقوق الله، والواقع فيها مثل قوم استهموا سفينة، فصار بعضهم في أسفلها، وبعضهم في أعلاها (فكان الذين في أسفلها يمرون بالماء على الذين في أعلاها)، فتأذوا به، فأخذ فأسا/ فجعل ينقر أسفل السفينة، فقالوا: مالك؟ قال: تأذيتم بي، ولا بد لي من الماء، فإن أخذوا على يديه أنجوه، ونجوا أنفسهم، وإن تركوه أهلكوا أنفسهم. الإدهان: المصانعة، والمحاباة في غير حق، ومنه قوله جل وعز: {ودوا لو تدهن فيدهنون} والاستهام: الاقتراع. وفيه: إثبات القرعة في سكنى السفينة، وفيما أشبهها من التي ينزلها أبناء السبيل، إذا تنازعوا وتشاحوا أقرع بينهم، وذلك إذا كان نزولهم معا، فأما إذا سبق بعضهم، فنزل منزلا، فإنه أحق به، وليس للاحق أن يزعج السابق عن مكانه.

(2) (باب ليس الكاذب الذي يصلح بين الناس)

كتاب الصلح (2) (باب ليس الكاذب الذي يصلح بين الناس) 610/ 2692 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح، عن ابن شهاب، أن حميد بن عبد الرحمن أخبره أن أمه أم كلثوم بنت عقبة أخبرته أناه سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: (ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، فينمي خيرا، أو يقول خيرا.). يقال: نمى الرجل الخبر، إذا رفعه، وبلغة على وجه الإصلاح، وإنما إذا بلغه على وجه الإفساد. وفيه: الرخصة لأن يقول في الإصلاح بين المسلمين مال يسمعه من الذكر الجميل، والقول الحسن، ليستل به من قلب أخيه السخيمة. والدلالة على أنه ليس فيه بكاذب، ولا آثم.

(5) (باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود)

(5) (باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود) 611/ 2695 - قال أبو عبد الله: حدثنا آدم، قال: حدثنا ابن أبي ذئب، قال: حدثنا الزهري، عن عبيد الله بنعبد الله، عن أبي هريرة، وزيد بن خالد الجهني، قالا: جاء إعرابي، فقال: فقال يا رسول الله: أقض بيننا بكتاب الله، فقام خصمه فقال: صدق، أقض بيننا بكتاب الله. فقال الأعرابي: إن ابني كان عسيفا على هذا، فزنى بامرأته. فقالوا: إن على ابنك الرجم، ففديت ابني منه بمائة من الغنم ووليدة، ثم سألت أهل العلم، فقالوا: إنما على ابنك جلد ماة، وتغريب عام. أما الوليدة والغنم فرد عليك وعلى ابنك/ جلد مائة، وتغريب عام، وأما أنت يا أنيس- لرجل- فاغد على امرأة هذا فارجمها، فغدا عليها أنيس فرجمها.

وقوله: (لأقضين بينكما بكتاب الله)، يريد: لأقضين بما فرضه الله، وأوجبه، إذ ليس في كتاب الله ذكر الرجم، منصوصا عليه، متلوا كذكر الجلد، وقد جاء الكتاب بمعنى الفرض، كقوله: {كتاب الله عليكم}. وقوله: {كتب عليكم الصيام} و {كتب عليكم القصاص} ومعناه: فرض عليكم. وقد يحتمل ذلك وجها آخر، وهو أن يكون ذلك قد فرض أول ما فرض بالكتاب، فنسخت تلاوته، وبقى حكمه على ما روي عن عمر ابن الخطاب، رضي الله عنه، أنه قال: قرأناها فيما أنزل الله: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة). والعسيف: الأجير. وفي الحديث من الفقه: أن الرجم إنما يجب على المحصن، دون من زنى ولم يحصن. زفيه: أن الصلح الفاسد منتقض، وما أخذ عليه من

العوض مردود، وكذلك هذا في البيوع والعقود إذا وقعت على فساد. وفيه: أنه لم ينكر عليه قوله: (فسألت أهل العلم)، ولم يعب الفتوى عليهم في زمانه، وهو مقيم بين أظهرهم. وفيه: إثبات نفي الزاني وتغريبه بعد الجلد سنة. وفيه: أنه لم يأمر بالجلد بعد وجوب الرجم. وفيه: أنه حين جاء مخبرا عن ابنه بالزنا لم يجعله قاذفا لامرأة الرجل. وفيه: دليل على جواز الوكالة في إقامة الحدود. وفيه: دليل على أنه لا يجب على الإمام حضور المرجوم بنفسه. ولم يذكر في هذا الحديث من رواية ابن أبي ذئب اعتراف المرأة، وقد رواه مالك، عن الزهري بمثل إسناده، فقال فيه: وأمر أنيسا الأسلمي أن يأتي امرأة الآخر، فإن اعترفت رجمها.

(6) (باب كيف يكتب (هذا ما صالح فلان بن فلان فلان بن فلان، وإن لم ينسبه إلى قبيلته أو نسبه)

(6) (باب كيف يكتب (هذا ما صالح فلان بن فلان فلان بن فلان، وإن لم ينسبه إلى قبيلته أو نسبه): 612/ 2698 - قال أبو عبد الله: حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا غندر، قال: حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، قال: سمعت البراء بن عازب، قال: لما صالح رسول الله، صلى الله عليه وسلم/ أهل الحديبية، كتب علي، رضي الله عنه كتابا بينهم، فكتب محمد رسول الله. فقال المشركون: لا تكتب محمد رسول الله، لو كنت رسولا لم نقاتلك. فقال لعلي: امحه. فقال علي: ما أنا بالذي أمحاه، فمحاه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بيده، وصالحهم على أن يدخل هو وأصحابه ثلاثة أيام، ولا يدخلوها إلا بجلبان السلاح، فسألوه: ما جلبان السلاح؟ قال: (القراب بما فيه).

(7) (باب الصلح مع المشركين)

(7) (باب الصلح مع المشركين) 613/ 2700 - قال أبو عبد الله: وقال موسى بن مسعود، حدثنا سفيان بن سعيد، عن أبي إسحاق، عن البراء: صالح النبي، صلى الله عليه وسلم، المشركين يوم الحديبية على ثلاثة أشياء: على أن من أتاه من المشركين رده إليهم، ومن أتاهم من المسلمين لم يردوه، وعلى أن يدخلها من قابل، ويقيم بها ثلاثة أيام، ولا يدخلها إلا بجلبان السلاح: السيف، والقوس، ونحوه، فجاء أبو جندل يخجل في قيوده فرد إليهم. وقال مؤمل، عن سفيان: إلا بجلب السلاح. قوله: (أمحاه)، يقال: محوت الشيء أمحوه وأمحاه محوا. والجلبان تفسيره ما في الحديث أنه القراب بما فيه، ومن إعادة العرب أن لا يفارقهم السلاح في السلم والحرب، وإنما اشترطوا أن

تكون السيوف في القرب، ليكون ذلك أمارة للسلم، فلا يظن أنهم يدخلونها قهرا. والقراب: شيء يخرز من الجلود، يضع فيه الراكب سيفه وسوطه، ويلعقه من ورائه، وأكثر المحدثين يروونه جلبان- مضمومة اللام، مشدة الباء- وزعم بعض أهل اللغة أنه سمي بذلك لجفائه. قالوا: يقال: امرأة جلبانة: إذا كانت جافية الخلقة. قلت: وقد يحتمل أن يكون ذلك جلبان السلاح- ساكنة اللام غير مشددة الباء- جمع جلب. بدليل قوه في رواية مؤمل، عن سفيان: إلا بجلب السلاح، وجلب السلاح كجلب الرحل، إنما هو نفس خشب الرحل، وأحناؤه من غير أغشيته، كأنه أراد به نفس السلاح/، وهو السيف خاصة من غير أن يكون معه أدوات الحرب من لأمة ورمح، وجحف ونحوها، ليكون علامة للأمن. وقد جاء جربان السيف في هذا المعنى. قال الأصمعي: الجربان: قراب السيف. وأنشد:

وعلى الشمائل أن يهاج بنا جربان كل مهند عضب فلا ينكر أن يكون ذلك من باب تعاقب اللام والراء والله أعلم. وقوله: فجاء أبو جندل يحجل في قيوده، أي: يرسف، مشية المقيد، والأصل في ذلك أن يرفع رجلا، ويقوم على أخرى، فيقال: قد حجل الرجل، وذلك أن المقيد لا يمكنه أن ينقل رجليه معا. وإنما (رد) أبا جندل إلى أبيه سبيل بن عمرو، لأنه كان يأمن عليه القتل، والله أعلم.

(6) (باب كيف يكتب: هذا ما صالح فلان بن فلان فلان بن فلان، وإن لم ينسبه إلى قبيلته أو نسبه)

(6) (باب كيف يكتب: هذا ما صالح فلان بن فلان فلان بن فلان، وإن لم ينسبه إلى قبيلته أو نسبه) 614/ 2699 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء، وذكر القصة في العمرة، ومقام النبي، صلى الله عليه وسلم، بمكة ثلاثة أيام. قال: فخرج النبي، صلى الله عليه وسلم، فتبعتهم ابنه حمزة: يا عم، فتناولها علي، فأخذ بيدها، وقال لفاطمة، دونك ابنة عمك احمليها، فاختصم فيها علي، وزيد، وجعفر. فقال علي: أنا أحق بها، وهي ابنة عمي. وقال جعفر/ ابنة عمي، وخالتها تحتي. وقال زيد: ابنة أخي، فقضى بها النبي، صلى الله عليه وسلم، لخالتها، وقال: (الخالة بمنزلة الأم). وقال لعلي: (أنت مني وأنا منك). وقال لجعفر: (أشبهت خلقي وخلقي). وقال لزيد: (أنت مولانا).

في هذا الحديث من الفقه: أن النساء أولى بالحضانة من الرجال وأن الرجال والعصبة إنما حقهم في ولايات العقود، وإيالة المال، ونحوها من الأمور، والأصل أن الأم أولى بالحضانة من الأب، لأنها أحنى على الولد، وأهدى إلى ما يصلحه ويرفقه، فإذا عدمت الأم، فالجدة أم الأم لما لها من الولادة، فإذا اجتمعت العمة، فالخالة أولى لأنها تدلي بالأم، والعمة إنما تدلي بالأب، والأم مقدمة على الأب، فكان من يدلي بها مقدما على من يدلي به.

(8) (باب الصلح في الدية)

(8) (باب الصلح في الدية) 615/ 2703 - قال أبو عبد الله: حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، قال: حدثني حميد، أن أنسا حدثهم أن الربيع- وهي ابنة النضر- كسرت ثنية جارية، فطلبوا الأرش، وطلبوا العفو فأبوا، فأتي النبي، صلى الله عليه وسلم، فأمر بالقصاص. فقال أنس بن النضر: أتكسر ثنية الربيع يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها؟ فقال: (يا أنس، كتاب الله القصاص) فرضي القوم وعفوا. فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: (إن من عباد الله من، لو أقسم على الله لأبره). قوله عليه السلام: (كتاب الله القصاص) معناه: فرض الله الذي فرضه على لسان نبيه، وأنزله عليه من وحيه، وقد تقدم بيان أن الكتاب قد يكون بمعنى الفرض والإيجاب. وقال

بعضهم: أراد به قول الله تعالى: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} إلى قوله: {والسن بالسن} وهذا على قول من يرى أن شرائع الأنبياء لازمة لنا، وأن النبي، صلى الله عليه وسلم، كان يحكم بما في التوراة. وقيل: إن هذا إشارة إلى قوله: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} وعمومه يأتي على السن وغيرها من الأعضاء والجوارح.

كتاب الشروط

(54) (كتاب الشروط) (4) (باب إذا اشترط البائع ظهر الدابة إلى مكان مسمى جاز) 616/ 2718 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا زكرياء، قال: سمعت عامرا، يقول: حدثني جابر، وذكر قصة بيع الجمل من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: فبعته، واستثنيت حملانه إلى أهلي. قال أبو عبد الله: وقال شعبة، عن مغيرة، عن عامر، عن جابر: أفقرني رسول الله ظهره إلى المدينة، قال: وقال إسحاق، عن جرير، عن مغيرة، فبعته على أن لي فقار ظهره حتى أبلغ المدينة. الإفقار: إعارة الظهر، واشتق ذلك من فقار الظهر. وقوله: استثنيت حملانه، بيان جواز هذا الشرط في عقد البيع، وأنه لا يدخل البيع في حد الجهالة.

(11) (باب الشروط في الطلاق)

(11) (باب الشروط في الطلاق) 617/ 2727 - قال أبو عبد الله: حدثنا محمد بن عرعرة، حدثنا شعبة، عن عددي بن ثابت، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، قال: نهى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن التلقي، وأن يبتاع المهاجر للأعرابي، وأن تشترط المرأة طلاق أختها، وأن يستام الرجل على سوم أخيه. ابتياع المهاجر الأعرابي، أن يكون الذي قد هاجر مقيما في البلد، /فإذا جاء الأعرابي السوق يبتاع توكل له المهاجر، فتنصح، واستقصى له على الباعة، فيحرم الناس بذلك رفقا، ينالونه من الأعراب والطراء. وقوله: وأن تشترط المرأة طلاق أختها، فإنما يريد ضربتها المسلمة، فهي أختها في الدين، ولم يدر الأخت من قبل النسب، لأنه لو أراد أن يجمع بينهما في النكاح لم يحل له ذلك.

(14) (باب إذا اشترط في المزارعة: إذا شئت أخرجتك)

(14) (باب إذا اشترط في المزارعة: إذا شئت أخرجتك) 618/ 2730 - قال أبو عبد الله: حدثني أبو أحمد قال: حدثنا محمد بن يحيى أبو غسان الكناني، قال: أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر، قال: لما فدع أهل خيبر عبد الله بن عمر قام خطيبا، فقال: إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كان عامل يهود خبير على أموالهم وقال: نقركم ما أقركم الله، وإن عبد الله بن عمر خرج إلى ماله هناك، فعدي عليه من الليل، ففدعت يداه ورجله. قلت: إنما اتهم أهل خيبر بأن سحروا عبد الله ففدعت

يداه ورجله، وأصل الفدع في الرجل، وهو زيغ (بينها) وبين عظم الساق. يقال: رجل أفدع: إذا التوت رجله من ذلك الموضع. والكوع في اليد أن تعوج اليد من قبل الكوع، وهو رأس الزند مما يلي الإبهام.

(15) (باب الشروط في الجهاد، والمصالحة مع

(15) (باب الشروط في الجهاد، والمصالحة مع أهل الرب، وكتابة الشروط) 619/ 2731 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد اله بن محمد، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: أخبرني الزهري، قال: أخبرني عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة، ومروان، فصدق كل واحد منهما حديث صاحبه، قالا: خرج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، زمن الحديبية، حتى كانوا ببعض الطريق، قال النبي، صلى الله عليه وسلم: (إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة، فخذوا ذات اليمين، فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقترة الجيش، فانطلق يركض نذيرا لقريش، وسار النبي، صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها، بركت به راحلته، فقال الناس: حل حل فألحت. فقالوا: خلأت القصواء. فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: (ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل) / ثم

زجرها، فوثبت، فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية، على ثمد قليل الماء يتبرضه الناس تبرضا، فلم يلبث الناس حتى نزحوه، وشكي إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، العطش، فانتزع سهما من كنانة، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فوالله مازال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه، فبينا هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعى 2 ع في نفر من قومه من خزاعة- وكانوا عيبة نصح رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من أهل تهامة، فقال: إني تركت كعب بن لؤي، وعامر بن لؤي، نزلوا أعداد مياه الحديبية، معهم العوذ المطافيل، وهم مقاتلوك، وصادوك، عن البيت. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشا نهكتهم الحرب وأضرب بهم فغن شاءوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس، فإن

أظهر فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جموا، وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده، لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، ولينفذن الله أمره .. وساق الحديث إلى أن قال: فقام عروة ابن مسعود فقال: أي قوم، هل تتهموني؟ قالوا: لا. قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ، فلما بلحوا على جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني؟ قالوا: بلى. قال: دعوني آتية فأتاه. فقال: إني والله لأرى وجوها وأشوابا من الناس خليقا أن يفروا، ويدعوك، وجعل يكلم النبي، صلى الله عليه وسلم، ويأخذ بلحيته، والمغيرة بن شعبة قائم على رأسه، ومعه السيف، وعليه المغفر، وكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي، صلى الله عليه وسلم، ضرب يده بنعل السيف، وقال: أخر يدك. فقال عروة: من هذا؟ قالوا: المغيرة بن شعبة. فقال: أي غدر، ألست أسعى في غدرتك؟ وقص الحديث إلى أن قال: /فجاء سهيل بن عمرو، فقال: هات اكتب بيننا وبينكم كتابا، فدعا النبي، صلى الله عليه وسلم، الكاتب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (بسم الله الرحمن الرحيم). فقال سهيل: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو، ولكن اكتب باسمك اللهم كما

كنت تكتب. فقال المسلمون: والله، لا نكتبها إلا (بسم الله الرحمن الرحيم) فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: (اكتب باسمك اللهم)، ثم قال: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله) فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن اكتب محمد بن عبد الله، فقال: (والله إني لرسول الله وإن كذبتموني). اكتب محمد بن عبد الله، فقال سهيل: وعلى أنه لا يأتيك منا رجل، وإن كان على دينك، إلا رددته إلينا، فقال المسلمون: سبحان الله! كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما؟ فبينا هم كذلك إذ دخل أبو جندل (بن) سهيل بن عمرو يرسف في قيوده، حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال سهيل: هذا أول ما أقاضيك عليه أن ترده إلي. فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: فأجزه لي، فأبى سهيل، وقال مكرز: بلى قد أجزناه لك. وساق الحديث إلى أن قال: ثم رجع إلى المدينة، فجاءه أبو بصير رجل من قريش، وهو مسلم، فأرسلوا في طلبه رجلين، فقالوا: العهد، فدفعه إلى الرجلين فخرجا به حتى ذا الحليفة، فضرب أحد الرجلين بسيفه

حتى برد، وفر الآخر، فجاء أبو بصير فقال، يا نبي الله: _قد والله- أوفى الله ذمتك، قد رددتني إليهم، ثم نجاني الله منهمز قال النبي، صلى الله عليه وسلم: (ويل أمه مسعر حرب، لو كان له أحد .. وذكر الحديث.

كتاب المغازي

(64) (كتاب المغازي) (35) باب غزوة الحديبية. وقول الله تعالى {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة} 620/ 4178 - قال أبو عبد الله: حدثني عبد الله بن محمد، قال: حدثنا سفيان، قال: سمعت الزهري يحدث هذا الحديث، حفظت بعضه،/ وثبتني معمر، عن عروة بن الزبر، عن المسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم، يزيد أحدهما على صاحبه قالا: خرج النبي، صلى الله عليه وسلم، عام الحديبية .. وساقا القصة قالا: إن قريشا قد جمعوا لك جموعا، وقد جمعوا لك الأحابيش. فقال: (أشيروا أيها الناس علي، أترون أن أميل إلى ذراري هؤلاء الذين يريدون أن يصدونا عن البيت، فإن يأتونا كان الله قد قطع عينا من المشركين، وإلا تركناهم محرومين. قال أبو بكر: يا رسول الله! خرجت عامدا لهذا، البيت لا تريد قتل أحد ولا حربا تتوجه له، فمن صدنا عنه قابلناه. قال: امضوا على اسم الله. القترة: غبرة سوداء. وقوله: حل حل، زجر للناقة إذا حثثتها على السير.

يقال لها: حل- ساكنة اللام- فإذا ثنيت، قلت: حل حل- بكسر اللام والتنوين في الأول، وبسكونها في الآخر، كقولك: بخ بخ، وصه صه، ونحو ذلك من من مثنى الأسماء، ومثله في الزجر حوب. وقوله: فألحت، يريد: لزمه المكان لم تنبعث. وأما قوله: خلأت القصواء، الخلاء في الإبل كالحران في الخيل، والقصواء اسم ناقته، وكانت مقصودة الأذن، وهو أن يقطع طرف من الأذن. يقال: ناقة قصواء، جاء بلفظ فاعل، ومعناه: مقصوة، ولم يقولوا: جمل أقصى. وقوله: ما خلأت القصواء، ولكن حبسها حابس الفيل، يريد: أن الخلاء لم يكن لها بخلق فيما مضى، ولكن الله حبسها عن دخول مكة، كما حبس الفيل عنها، حين جاء به أبرهة الحبشي، يريد هدم الكعبة، واستباحة الحرم، والمعنى في ذلك- والله أعلم- أنهم لو استباحوا مكة لأتى القتل على قوم- في علم الله- أنهم سيسلمون، أو سيخرج من أصلابهم ذرية مؤمنون، فهذا موضع/ التشبيه لحبسها بحبس الفيل. وقوله: حتى نزل على ثمد، الماء القليل. يقال: ماء مثمود، إذا نزف لكثرة السقاة. وقوله: يتبرضه الناس تبرضا، أي: يأخذونه قليلا قليلا. والبرض: اليسير من العطاء.

وقوله: وكان عيبة نصح رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يريد: أنه كان موضع سره، وثقته، الذي يأتمنه على أمره، وذلك أن الرجل غنما يودع عيبته حر المتاع، ومصون الثياب، فضرب المثل في ذلك بالعيبة. وقوله: نزلوا أعداد مياه الحديبية، فإنها جمع العد، وهو الماء الدائم الذي لا ينقطع. يقال: ماء عد، ومياه أعداد، والعوذ: الحديثات النتاج، واحدها عائذ. والمطافيل: الأمهات التي معها أطفالها، يريد: أن هذه القبائل قد احتشدت لحربك، وساقت أموالها معها. وقوله: (نهكتهم الحرب)، أي: بلغت فيهم، وأضرت بهم. يقال: نهكته: إذا هزلته. ومعنى (جموا): استراحوا، من الجمام. وقوله: (حتى تنفرد سالفتي)، معناه: حتى تبين سالفتي، أي: رقبتي، والسالفة: مقدم العنق. وقوله: فلما بلحوا علي، معناه: امتنعوا علي. يقال: بلح الغريم: إذا قام عليك فلم يؤد حقك، وبلحت الركية: إذا انقطع ماؤها. وقوله: أرى أشوابا من الناس، يريد: أخلاطاً

والشوب: الخلط. وفي غير هذه الرواية أوشابا، وهم الأخلاط، يقال: هم أوشاب، وأشابات: إذا كانوا من قبائل شتى مختلفين. وأما قوله: وجعل يكلم النبي، صلى الله عليه وسلم، ويأخذ بلحيته، فإن ذلك عادة من عادات العرب يستعملونها كثيرا، وأكثر من يفعل ذلك/ أهل اليمن، ويجري ذلك عندهم مجرى الملاطفة، وكان المغيرة يمنعه من ذلك تعظيما لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، وإكبارا لقدره، إذ كان إنما يفعل ذلك الرجل بنظيره، وبمن هو مساو له في المنزلة، دون الرؤساء والأجلة، وكان صلى الله عليه وسلم لا يمنعه من ذلك تألفا له، واستمالة لقلبه. وقوله: أي عذر، يريد، المبالغة في وصفه بالغدر، وهذا كقول أبي سفيان حين وقف على حمزة قتيلا، فقال: ذو عقق، يصفه بالعقوق، وقطيعة الرحم. وقوله: باسمك اللهم فإن الميم في قول النحويين بدل من الياء كأنه قال: ياالله. وفي إجابة النبي، صلى الله عليه وسلم،

إياهم إلى ما التمسوه من ترك التسمية جواز بعض المسامحة في أمور الدين، واحتمال اليسير من الضيم فيه مالم يكن ذلك مضرا بأصوله، وقادحا في جملته إذا رجعي بذلك سلامة في الحال لأهله، وانتظر به صلاح في عواقبه، وعلى هذا المعنى أيضا: ما كان من محوه موضع ذكر النبوة عن اسمه، واقتصاره على اسمه واسم أبيه إذا لم يكن انتسابه إليه نافيا لنبوته، وعلى هذا المعنى: ما كان من مصالحة المشركين على أن يرد إليهم من جاءه مسلما منهم، ورده أبا جندل إلى أبيه، ووجه ذلك- والله أعلم-: أن الله تعالى قد أباح التقية للمسلم إذا خاف الهلاك، على نفسه، ورخص له أن يتكلم بالكفر مع إضمار الإيمان، والتورية بالقول. فلم يكن في رده إليهم إسلاما له للهلاك مع وجود السبيل إلى الخلاص بالتقية، وإنما رد أبا جندل إلى أبيه: لأن الغالب من أمره أنه لا يقتله لكن يستبقيه، وينتظر به الرجعى، فكان يسير الفساد في الأمر الخاص محتملا في جنب الكثير من الصلاح في الأمر العام الشام النفع، والله أعلم. وقد ذكر/ في هذه القضية أنه صالحهم على رد النساء إليهم إذا جئن مسلمات، إلا أن الله عز وجل قد نقض الصلح في أمره لقوله: {فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن} فأمر أن يعاضوا عن النساء مهورهن. ثم نسخ العضو بعد. وفيه: دليل على جواز نسخ السنة للكتاب.

وقوله: (يرسف في قيوده)، أي: يتحامل برجله، مشية المقيد. وقوله: (ويل امه مسعر حرب)، كلمة تعجب يصفه بالإقدام، في الحرب والإيقاد لنارها، واشتقاقه من؛ سعرت النار: إذا أوقدتها. وقوله: (قد جمعوا لك الأحابيش)، فإن الأحابيش أحياء من القارة انضموا إلى (بني) ليث في محاربتهم قريشا، والتحبش: التجمع. وقوله: (كان الله قطع هينا) فالمحفوظ منه: قطع عنقا، أي: جماعة من أهل الكفر، فيقل عددهم، وتهن بذلك قوتهم. وفي الحديث من العلم: أن للحاج أن يقاتل من صده عن البيت؛ من عدو، وقاطع، ونحوهما، وأن الحج لا يجب عليه أن شاء أن لا يفعله، وهو معذور إذا منع من بلوغ نيته قصد له، والله أعلم.

(54) (كتاب الشروط)

(54) (كتاب الشروط) (18) (باب ما يجوز من الشروط والثنيا في الإقرار) 621/ 2736 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو اليمان، قال: حدثنا شعيب، قال: حدثنا أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: (إن لله تسعة وتسعين اسما- مائة إلا واحدة- من أحصاها دخل الجنة). الإحصاء في هذا يحتمل وجوها؛ أظهرها العد لها حتى يستوفيها، يريد أنه لا يقتصر على بعضها، لكن يدعو الله بها كلها، ويثني على الله بجميعها، فيستوجب بذلك الموعود عليها من الثواب. والجوه الآخر: أن معنى الإحصاء فيها: الإطاقة: قال الله تعالى: {علم أن لن تحصوه} أي: لن تطيقوه.

وقال النبي، صلى الله عليه وسلم: / (استقيموا ولن تحصوا) أي: لن تطيقوا أن تبلغوا كنه الاستقامة، ولكن اجتهدوا في ذلك مبلغ الوسع والطاقة، والمعنى: أن من أطاق القيام بحق هذه الأسماء، والعمل بمقتضاها، وهو بان يعتبر معانيها، فيلزم نفسه مواجبها، وإذا قال: الرزاق وثق بالرزق، ويرجو رحمته إذا قال: الرحيم، ومغفرته إذا قال: الغفار، ويعلم أن الخير والشر منه لا شريك له إذا قال: الضار النافع، وعلى هذا المثال في سائر الأسماء. وفيه وجه ثالث: وهو أن يكون معناه، من عقلها أحاط علما بمعانيها من قول العرب: فلا ذو حصاة، أي: ذو عقل ومعرفة.

كتاب الوصايا

(55) (كتاب الوصايا) (1) (باب الوصايا) 622/ 2741 - قال عبد الله: حدثنا عمرو بن زرارة، قال: أخبرنا إسماعيل، عن ابن عون، عن إبراهيم، عن الأسود قال: ذكروا عند عائشة أن عليا كان وصيا، فقالت: متى أوصى إليه، وكنت مسندته إلى صدري؟ -أو قالت: حجري-، فدعا بالطست، ولقد انخنث في صدري، فما شعرت إليه مات، فمتى أوصى إليه؟ قولها: انخنث، معناه انثنى ومال، ومنه سمي المخنث، وذلك لتثنيه وتكسره.

(3) (باب الوصية بالثلث)

(3) (باب الوصية بالثلث) 623/ 2743 - قال أبو عبد الله: حدثنا قتيبة بن سعيد، قال: حدثنا سفيان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن ابن عباس، رضي الله عنه، قال: لو غض الناس إلى الربع، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (الثلث والثلث كثير، أو كبير). قوله: لو غض النسا، معناه: لو نقصوا في الوصية شيئا من الثلث. ومنه قول الشاعر: بميزان قسط لا تغض شعيرة أي: لا تنقص.

(19) (باب ما يستحب لمن توف فجاءة أن

(19) (باب ما يستحب لمن توف فجاءة أن يتصدقوا عنه، وقضاء النذور عن الميت) 624/ 2760 - قال أبو عبد الله: حدثنا إسماعيل، قال: حدثني مالك، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، رضي الله عنها، أن رجلا قال للنبي، صلى الله عليه وسلم: إن أمي افتلتت نفسها، وإنها لو تكلمت تصدقت، أفأتصدق/ عنها؟ قال: (نعم، تصدق عنها). قولها: افتلتت نفسها، يريد: أنها ماتت فلتة، أي فجأة، وكل شيء أخذ مغافصة فقد [افتلت] افتلاتا.

(20) (باب الإشهاد في الوقف والصدقة)

(20) (باب الإشهاد في الوقف والصدقة) 625/ 2762 - قال أبو عبد الله: حدثنا إبراهيم بن موسى، قال: أخبرنا هشام بن يوسف، أن ابن جريج أخبرهم، قال: أخبرني [يعلى] أنه سمع عكرمة، يقول: أنبأنا ابن عباس أن سعد بن عبادة، قال: يا رسول الله: إن أمي توفيت، وأنا غائب عنها، فهل ينفعها شيء إن تصدقت [به] عنها؟ قال: (نعم)، [قال] فإني أشهدك أن حائطي المخراف صدقة عليها. المخراف: المثمرة، سماها مخرافا لما يخترف من ثمارها، كما قيل: امرأة مئناث ومذكار، وشجرة ميقار ونحوها من النعوت، وقد يستوي في هذا نعت الذكور والإناث.

(32) (باب نفقة القيم للوقف)

(32) (باب نفقة القيم للوقف) 626/ 2776 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: حدثنا مالك، عن أبي الزناد، عن أبي هريرة أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: (لا يقتسم ورثتي دينارا، وما تركت بعد نفقة نسائي، ومؤنة عاملي فهو صدقة). بلغني عن سفيان بن عيينة أنه كان، يقول: إن أزواج النبي، صلى الله عليه وسلم في معنى المعتدات، إذ كن لا يجوز لهن أن ينكحن أبدا، فجرت لهن النفقة، وتركت حجرهن لهن يسكنها. وأما قوله: (ومؤنة عاملي)، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يأخذ من الصفايا التي كانت له من أموال بني النضير وفدك نفقته، ونفقة أهله، وكان غالب ذلك من فدك، ويصرف الباقي منها في مصالح المسلمين: ثم وليها

أبو بكر بعده كذلك، ثم عمر كمثل، فلما صار الأمر إلى عثمان أقطعها أقاربه استغناء عنا بمناله، وإنما أراد صلى الله عليه وسلم بالعامل الخليفة بعده، وقد روي عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (إذا أطعم الله نبيا طعمة فهي للذي يقوم من بعده)، وعلى هذا تأولوا ما كان من صنيع عثمان، حين أقطع مروان وغيره من أقاربه تلك الأموال، فلم تزل باقية في أدي بني مروان حتى ردها عمر بن عبد العزيز، رحمه الله.

(35) (باب قول الله عز وجل: {يا أيها الذين

(35) (باب قول الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت} إلى قوله تعالى: والله لا يهدي القوم الفاسقين}) 627/ 2780 - قال أبو عبد الله: /قال لي علي بن عبد، الله: حدثنا بحيى بن آدم، قال: حدثنا ابن أبي زائدة، عن محمد بن أبي القاسم، عن عبد الملك بن سعيد بن جبير، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري، وعدي بن بداء، فمات

السهمي بأرض ليس بها مسلم، فلما (قدما) بتركته، فقدوا جاما من فضة، مخوصا بذهب، فأخلفهما رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ثم وجد الجام بمكة، فقالوا: ابتعناه من تميم وعدي، فقام رجلان من أوليائه، فحلفا لشهادتنا أحق من شهادتهما، وأن الجام لصاحبهم. قال: وفيهم نزلت هذه الآية: {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم}. قلت: قد اختلف الناس (في) هذه الآية، وهل هي ثابتة أو منسوخة؟ واختلف فيها قول من أثبتها في بعض معانيها، وأحكامها، وبيان المراد فيها. فممن ذهب إلى أن الآية ثابتة غير منسوخة عائشة، والحسن البصري وروي ذلك عن إبراهيم النخعي، وهو

قول الأوزاعي. وقال أحمد بن حنبل: لا تقبل شهادة أهل الكتاب إلا مثل في هذه المواضع للضرورة، ويقال: إن المائدة آخر ما نزل من القرآن لم ينسخ منها شيء. وقال مالك، والشافعي: شهادة الذمي لا تقبل على مسلم بوجه، ولا على كافر، ويتأول من ذهب إلى هذا القول الآية على معنى الوصية، دون الشهادة، لأن نزول الآية إنما كان في الوصية، وكان تميم وصاحبه وصيين، لا شاهدين، والشهود لا يحلفون، وقد حلفهما رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وإنما عبر بالشهادة عن الأمانة التي تحملاها في قبول الوصية، وهو معنى قوله: {ولا نكتم شهادة الله}، أي: أمانة الله. قالوا: ومعنى قوله: {أو آخرون من غيركم} أي: من غير قبيلتكم، وذلك أن الغالب في الوصية أن الموصي يشهد

أقرباءه، وعشيرته دون الأجانب والأباعد، واحتجوا لهذا التأويل، بقوله: {فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى}./قالوا فقوله: {ولو كان ذا قربى} يدل على أن المراد بقوله: {منكم} أي: من ذوي قراباتكم، واحتجوا لذلك أيضا بقوله: {ذوا عدل منكم}، وأهل الذمة كفار ليس فيهم عدل. وقال أهل العربية والنحو: قوله: {شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت} تقديره: شهادة، هذه الحال شهادة اثنين، فتحذف شهادة، ويقوم اثنان مقامهما. وفي الحديث: حجة لرد اليمين على المدعي إذا نكل المدعى عليه.

كتاب الجهاد

(56) ومن كتاب الجهاد (1) (باب فضل الجهاد والسير) 628/ 2783 - قال أبو عبد الله: حدثنا علي بن عبد الله، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثني منصور، عن مجاهد، عن طاوس، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا). قلت: كانت الهجرة على معنيين: أحدهما: أن الآحاد من القبائل كانوا إذا أسلموا، وأقاموا في ديارهم بين ظهراني قومهم فتنوا وأوذوا، فأمروا بالهجرة ليسلم لهم دينهم، ويزول الأذى عنهم. والمعنى الآخر: أن أهل الدين بالمدينة كانوا في قلة من العدد، وضعف من القوة، فكان الواجب على من أسلم من الأعراب، وأهل القرى أن يهاجروا، فيكونوا بحضرة الرسول،

صلى الله عليه وسلم، وإن حدث حادث، وحزب أمر استعان بهم في ذلك، وليتفقهوا في الدين، فيرجعون إلى قومهم، فيعلمونهم أمر الدين والأحكام، فلما فتحت مكة استغنوا عن ذلك، إذ كان معظم الخوف على المسلمين من أهل مكة، فلما أسلموا أمن المسلمون أن يغزوا في عقر دارهم، فقيل لهم: أقيموا في أوطانكم وقروا على نية الجهاد، فإن فرضه غير منقطع مدى الدهر، فكونوا مستعدين، لتنفروا إذا استنفرتم، وتجيبوا إذا دعيتم

(3) (باب الدعاء بالجهاد والشهادة للرجال

(3) (باب الدعاء بالجهاد والشهادة للرجال والنساء) 629/ 2788 - قال عبد الله: حدثنا عبد الله بن يوسف، عن مالك، عن اسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك أنه سمعه يقول: كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم/ يدخل على أم حرام بنت ملحان، فنام يعني عندها، فاستيقظ وهو يضحك، قالت: فقلت، يا رسول الله: ما يضحكك؟ قال: (ناس من أمتي عرضوا علي غزاة، يركبون ثبج هذا البحر) وذكر الحديث. ثبج البحر: متنه ومعظمه، وثبج كل شيء: وسطه، يريد: أنه قد بشر في رؤياه بأن ملك أمته يتسع حتى يركبوا غزاة في البحر، فيلججوا فيه إلى البلاد التي وراءه، فيفتحونها.

(6) (باب الحور العين وصفتهن)

(6) (باب الحور العين وصفتهن) 630/ 2796 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن محمد، قال: حدثنا معاوية بن عمرو، قال: حدثنا أبو إسحاق، عن حميد، قال: سمعت أنس بن مالك، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: (لروحة في سبيل الله، أو غدوة، خير من الدنيا وما فيها، ولقاب قوس أحدكم من الجنة، أو موضع قيد، -يعني: سوطه-، خير من الدنيا وما فيها، ولو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت إلى أهل الأرض، لأضاءت ما بينهما، ولملأته ريحا، ولنصفيها على رأسها خير من الدنيا وما فيها). قاب القوس: ما بين السيف والمقبض، وقيد السوط، وقاده: قدره والنصيف: الخمار.

(9) (باب من ينكب في سبيل الله)

(9) (باب من ينكب في سبيل الله) 631/ 2802 - قال أبو عبد الله: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا أبو عوانة، عن الأسود بن قيس، عن جندب بن سفيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان في بعض المشاهد، وقد دميت إصبعه. فقال: (هل أنت إلا إصبع دميت، وفي سبيل الله ما لقيت؟). قد اختلف الناس في هذا، وما أشبهه من الرجز الذي جرى على لسان النبي، صلى الله عليه وسلم، في بعض أسفاره، وفي أوقاته، وفي تأويل ذلك، مع شهادة الله عز وجل له بأنه لم يعلمه الشعر، ولا ينبغي له، فذهب بعضهم إلى أن الرجز ليس بشعر، ولا يكون الشعر إلا بيتا مقفي آخره، بعد تمام أوصاله على أحد الأعاريض المشهورة من أنواعه، وأن النبي، صلى الله عليه وسلم، لم ينشد قط بيت شعر تاما. ألا تراه حين ذكر قول طرفة، قال:

ويأتيك من لم تزود بالأخبار /فقدم الحرف المؤخر لئلا يستقيم عروض البيت. قال: حين ذكر قول العباس بن مرداس: بين الأقرع وعيينة. وذهب بعضهم إلى أن هذا الكلام، وما أشبهه من سائر القول، وإن استوى على وزن الشعر، فإنه لم يقصد به الشعر إذا لم يكن مصدره عن نيه له، وروية فيه، وإنما هو اتفاق كلام يقع

أحيانا، فيخرج الشيء منه بعد الشيء على بعض أعاريض الشعر، وقد وجد منه في كتاب الله عز وجل الذي {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد} كقوله: {وجفان كالجواب وقدور راسيات} وهو ما لا يشك فيه أنه ليس بشعر، وإن اتزن الكلام فيه بزنة الشعر، وحكة عمرو بن بحر أنه سمع بعض المرضى وهو يتضور، ويقول: إذهبوا بي إلى الطبيب وقالوا: قد اكتوى، فخرج مرسل كلامه على وزن الشعر: فاعلات مفاعل فاعلات مفاعل، وذكر من هذا النوع أشياء قد يكثر وجودها في كلام الناس. وقال بعضهم: معنى قول الله تعالى: {وما علمناه الشعر وما ينبغي له} الرد على المشركين في قولهم: {بل افتراه، بل هو شاعر} والبيت الواحد من الشعر لا يلزمه هذا الاسم، ولا يوجب أن يكون به شاعرا. فيخالف معنى الآية هذا مع قوله: {إن من الشعر حكمة} وإنما الشاعر هو الذي يقصد الشعر، ويشبب، ويصف، ويمدح، ويتصرف تصرف الشعراء في هذه

الأفانين وقد برأ الله رسوله من ذلك، وصان قدره عنه، وأخبره أن الشعر لا ينبغي له، وإذا كان مراد الآية هذا المعنى لم يدفع أن يجري على لسانه الشيء اليسير، منه فلا يلزمه الاسم المنفي عنه، والله أعلم.

(14) (باب من أتاه سهم غرب فقتله)

(14) (باب من أتاه سهم غرب فقتله) 632/ 2809 - قال أبو عبد الله: حدثني محمد بن عبد الله، قال: حدثنا حسين بن محمد أبو أحمد، قال: حدثنا شيبان، عن قتادة، عن أنس بن مالك أن أم حارثة بن سراقة أتت النبي، صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا نبي الله: ألا تحدثني/ عن حارثة، وكان قتل يوم بدر، أصابه سهم غرب، فإن كان في الجنة صبرت، وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء. قال: (يا أم حارثة: إنها جنان في الجنة، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى). يقال: أصابه سهم غرب: إذا أتاه من حيث لا يشعر، ولم يعرف راميه. وفيه: أنه لم يعنفها على قولها: اجتهدت عليه في البكاء،

والفردوس جاء في الرواية أنها أعلا الجنان وأوسطها، فأما حقه في التسمية، فأجمع ما قيل فيه أنه البستان الذي يجمع كل ما يكون في البساتين من شجر، وزهر، ونبات مونق. ويقال: الفردوس جنة ذات كروم. ويقال: كرم مفردس، أي: معرش، وقيل: أصل الفردوس البستان بالرومية، فنقل إلى لفظ العربية.

(18) (باب الغسل بعد الحرب والغبار)

(18) (باب الغسل بعد الحرب والغبار) 633/ 2813 - قال أبو عبد الله: حدثنا محمد، قال: أخبرنا عبدة، عن هشان بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لما رجع يوم الخندق ووضع [السلاح]، واغتسل، فأتاه جبريل، وقد عصب رأسه الغبار. فقال: وضعت السلاح؟، فوالله ما وضعته. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (فأين)؟ قال: هاهنا أومأ على بني قريظة (ٌال): فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: عصب رأسه الغبار، معناه: ركب رأسه الغبار، وعلق به. يقال: عصب الريق بفمي: إذا جف، فبقيت منه لزوجة تمسك الفم.

(28) (باب الكافر يقتل المسلم، ثم يسلم، فيسدد

(28) (باب الكافر يقتل المسلم، ثم يسلم، فيسدد بعد ويقتل) 634/ 2826 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر، يدخلان الجنة، يقاتل هذا في سبيل الله، فيقتل، ثم يتوب الله على القاتل، فيستشهد). قوله: (يضحك الله سبحانه) الضحك الذي يعتري البشر عندما يستخفهم الفرح أو يستفزهم الطرب، غير جائز على الله سبحانه، وهو منفي عن صفاته، وإنما هو مثل ضربه لهذا الصنيع الذي يحل محل العجب/ عند البشر، فإذا رأوه أضحكهم، ومعناه في صفة الله سبحانه: الإخبار عن الرضا بفعل أحدهما، والقبول للآخر، ومجازاتهما على صنيعهما الجنة مع اختلاف أحوالهما، وتباين مقاصدهما، ونظير هذا ما رواه أبو عبد الله.

كتاب التفسير

(65) (كتاب التفسير) (6) (باب {ويؤثرون على أنفسهم ...} الآية) 635/ 4889 - في موضع آخر من هذا الكتاب، قال: حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن كثير، قال: حدثنا أبو أسامة، قال: حدثنا فضيل بن غزوان، قال: حدثنا أبو حازم الأشجعي، عن أبي هريرة، قال: أتى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أصابني الجهد، فأرسل إلى مسائه، فلم يجد عندهم شيئا. فقال رسول الله: (ألا رجل يضيف هذا الليلة رحمه الله؟، (فقام) رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله، فذهب إلى أهله فقال لامرأته: ضيف رسول الله، لا تدخري شيئا. قالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية. قال: فإذا أرادت الصبية العشاء، فنوميهم وتعالى فأطفئي السراج، ونطوي بطوننا الليلة ففعلت، ثم غدا الرجل على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: لقد عجب الله أو ضحك من

فلان وفلانة فأنزل الله تعالى: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة}. قال أبو عبد الله: معنى الضحك: الرحمة، وهذا من رواية الفربري، ليس عن ابن معقل. قلت: قول أبي عبد الله قريب، وتأويله على معنى الرضا لفعلهما أقرب وأشبه، ومعلوم أن الضحك من ذوي التمييز يدل على الرضا، والبشر والاستهلال منهم دليل على قبول الوسيلة، ومقدمة إنجاح الطلبة، والكرام يوصفون عند المسألة بالبشر، وحسن اللقاء، فيكون معنى في قوله: (يضحك الله إلى رجلين)، أي: يجزل العطاء لهما، لأنه موجب الضحك ومقتضاه. قال زهير: تراه إذا ما جئته متهللا كأنك تعطيه الذي أنت سائله

وإذا ضحكوا، وهبوا، وأجزلوا. قال كثير: غمر الرداء إذا تبسم ضاحكا غلقت لضحكته رقاب المال وقال الكميت أو غيره: /فأعطى ثم أعطى ثم عدنا فأعطى ثم عدت له فعادا مرارا ما أعود إليه إلا تبسم ضاحكا وثنى الوسادا وقد يكون معنى ذلك أيضا: أن يعجب الله ملائكته، ويضحكهم من صنيعهما وذلك أن الإيثار على النفس أمر نادر في العادات، مستغرب في الطباع، وهذا يخرج على سعة المجاز، ولا

يمتنع على مذهب الاستعارة في الكلام، ونظائره في كلامهم كثيرة.

(56) (كتاب الجهاد)

(56) (كتاب الجهاد) (28) (باب الكافر يقتل المسلم، ثم يسلم، فيسدد بعد ويقتل) 636/ 2827 - قال أبو عبد الله: حدثنا الحميدي، قال: حدثني سفيان، قال: حدثنا الزهري قال: أخبرنا عنبسة بن سعيد، عن أبي هريرة، قال: أتيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو بخيبر بعدما افتتحوها، فقلت: يارسول الله، أسهم ليه. فقال بعض بني سعيد بن العاص: لا تسهم له يا رسول الله. فقال أبو هريرة: هذا قاتل ابن قوقل. فقال ابن سعيد بن العاص: واعجبا لوبر تدلى علينا من قدوم ضأن: ينعى علي قتل رجل مسلم أكرمه الله على يدي، ولم يهني على يديه. فقال: فلا أدري أسهم له، أو لم يسهم له.

الوبر: دويبة، يقال: إنها تشبه السنور، وأحسب أنها تؤكل، وذلك لأني وجدت بعض السلف يوجب فيها الفدية. وقدوم ضأن: اسم موضع جبل، أو ثنية، أو نحوها وهو في أكثر الروايات ضأل باللام. وقوله: ينعى علي، معناه: يعيب علي. يقال: نعيت على الرجل فعله: إذا عبته عليه.

(37) (باب فضل النفقة في سبيل الله)

(37) (باب فضل النفقة في سبيل الله) 637/ 2841 - قال أبو عبد الله: حدثنا سعد بن حفص قال: حدثنا شيبان، [عن يحيى]، عن أبي سلمة، أنه سمع أبا هريرة، رضي الله عنه، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: (من أنفق من زوجين في سبيل الله، دعاه خزنة الجنة- كل خزنة باب- أي: فل هلم، فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: (إني لأرجو أن تكون منهم). قوله: (أي فل): يريد فلا، فرخم، كقولك: يا حار: إذا رخمت حارثا، ويا مال/؛ إذا رخمت مالكاً، وكقول الشاعر

في لجة أمسك فلانا عن فل والعرب تقول في النداء: يا فلان، وأي فلان، وآفلان، وأراد بالزوجين، أن يشفع إلى كل ما ينفقه من شيء مثله، إن كان دراهم فدرهمين، وإن كان دنانير فدينارين، وكذلك إن كان سلاحا، أو غيره. وقوله: لا توى عليه، يريد: لا ضياع، ولا خسارة عليه، وأصله من قولك: توي المال: إذا هلك، يتوى، وتوي حق فلان على غريمه إذا ذهب توى. يقول: إن هذا لا بأس عليه أن يترك بابا، ويدخل من آخر.

(44) (باب الجهاد ماض مع البر والفاجر)

(44) (باب الجهاد ماض مع البر والفاجر) 638/ 2852 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو نعيم قال: حدثنا زكرياء، عن عامر، قال: حدثنا عروة البارقي، أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: (الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة: الأجر والمغنم). قلت: فيه: ترغيب في اتخاذ الخيل، والغزو عليها في سبيل الله. وفيه: من العلم: أن الجهاد لا ينقطع أبدا إلى يوم القيامة. وفيه: إثبات السهم للفرس، يستحقه الفارس من أجله. وفيه: إعلام أن المال الذي يكتسب بإيجاف الخيل من خير وجوه الأموال وأطيبها، والعرب تسمي المال خيرا. ومنه قول الله تعالى: {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا} أي: مالا. وقال المفسرون في قوله: {إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي} أي: الخيل.

(40) (باب فضل الطليعة)

(40) (باب فضل الطليعة) 639/ 2846 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا سفيان، عن محمد بن المنكدر، هن جابر، قال: قال النبي، صلى الله عليه وسلم: (من يأتيني بخبر القوم؟ يوم الأحزاب)؟، قال الزبير: أنا، ثم قال: (من يأتيني بخبر القوم)؟ فقال الزبير: أنا، فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: (إن لكل نبي حواريا)، وحواري الزبير. الحواري: الناصر، ومنه سمي أصحاب عيسى الحواريين، لأنهم أنصاره وخواصه. ويقال: إنهم سموا الحواريين، لأنهم كانوا قاصرين، فاتشق لهم هذا/ الاسم من تحوير الثياب، وهو تبييضها، ومنه قيل: الخبز الحوارى.

(46) (باب اسم الفرس والحمار)

(46) (باب اسم الفرس والحمار) 640/ 2855 - قال أبو عبد الله: حدثنا علي بن عبد الله، قال: حدثنا معن بن عيسى، قال: حدثنا أبي بن عباس بن سهل، عن أبيه، عن جده، كان للنبي، صلى الله عليه وسلم، في حائطنا فرس، يقال له: اللحيف. قلت: إن هذا الفرس إنما سمي لحيفا لطول ذنبه، يلحف به الأرض. قال طرفه: يلحفون الأرض هداب الأزر

(الباب نفسه) 641/ 2856 - قال أبو عبد الله: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، قال: حدثنا يحيى بن آدم، قال: حدثنا أبو الأحوص، عن إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن معاذ، قال: كنت ردف النبي، صلى الله عليه وسلم، على حمار يقال له: عفير .. وذكر حديثا. عفير: تصغير أعفر، وهو الذي يحي لونه عفرة الأرض، والعفرة: بياض ليس بالناصع، وكان القياس أن يقال في تصغير أعفر: أعيفر، إلا أنهم أخرجوه عن بناء الأصل، فقالوا: عفير، مما قيل في تصغير أسود: سويد. وفيه: جواز الإرداف: والحمل عليها ما أقلت.

(47) (باب ما يذكر من شؤم الفرس)

(47) (باب ما يذكر من شؤم الفرس) 642/ 2858 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو اليمان قال: حدثنا شعيب، عن الزهري قال: أخبرني سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنما الشؤم في ثلاثة: في الفرس والمرأة والدار.

(الباب نفسه) 643/ 2859 - قال أبو عبد الله: وحدثنا عبد الله بن مسلمة، قال: حدثنا مالك، عن أبي حازم بن دينار، عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: (إن كان في شيء، يعني الشؤم، ففي المرأة، والفرس والمسكن). قلت: اليمن والشؤم سمتان لما يصيب الإنسان من الخير والشر، والنفع والضر، ولا يكون شيء من ذلك إلا بمشيئة الله وقضائه، وإنما هذه الأشياء محال وظروف جعلت مواقع لأقضيته، ليس لها بأنفسها وطباعها فعل، ولا أتثير في شيء، إلا أنها لما كانت أعلم الأشياء التي يقتنيها الناس، وكان الإنسان في غالب أحواله/ لا يستغني عن، دار سكنها وزوجة يعاشرها، وفرس يرتبطه، وكان لا يخلو من عاض مكروة في زمانه ودهره أضيف اليمن والشؤم إليها إضافة مكان ومحل، وهما صادران عن مشيئة الله سبحانه، وقد قيل: إن شؤم المرأة أن لا تلد، وشؤم الفرس أن لا يحمل في سبيل الله، وشؤم الدار سوء الجوار. وقد روى قتادة، عن أبي حسان الأعرج أن رجلين دخلا

على عائشة فقالا: إن أبا هريرة يحدث عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (إنما الطيرة في المرأة، والدابة، والدار). فطارت شققا، وقال: إنما قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (كان أهل الجاهلية يقولون: إن الطيرة في الدابة والمرأة والدار)، ثم قرأت: {ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها}. حدثنيه أحمد بن الحسين التيمي، قال: حدثنا عبد الله بن مسلم، قال: حدثني محمد بن يحيى القطعي، قال: حدثنا عبد الأعلى، عن سعيد، عن قتادة.

(51) (باب سهام الفرس)

(51) (باب سهام الفرس) 644/ 2863 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبيد بن إسماعيل، عن أبي أسامة، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، جعل للفرس سهمين ولصاحبه سهما. فيه: بيان أن الفارس يأخذ في المغنم ثلاثة أسهم: سهما باسمه وسهمين باسم فرسه، وذلك لما يلزمه من زيادة مؤنة الفرس، ولما لفرسه من الغناء والمعونة. وأما ما جاء في سائر الروايات من قوله عليه السلام: (للفارس سهمان) فإنما هما سهما فرسيه، وسهمه لنفسه ثابت، والمجمل يرد إلى المفسر.

(61) (باب بغلة النبي صلى الله عليه وسلم،

(61) (باب بغلة النبي صلى الله عليه وسلم، البيضاء، قاله أنس) 645/ 2874 - قال أبو عبد الله: حدثنا محمد بن المثنى قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، قال: حدثني أبو إسحاق، عن البراء، قال له رجل: يا أبا عمارة وليتم يوم حنين. قال: لا، والله، ما ولى النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن ولى سرعان الناس، فلقيهم هوازن بالنبل والنبي، صلى الله عليه وسلم، على بغلة بيضاء، وأبو سفيان بن الحارث آخذ بلجامها، والنبي، صلى الله عليه وسلم، /يقول: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب). قلت: قد تقدم الكلام في تأويل ما جرى على لسان رسول الله، صلى الله عليه وسلم: من يسير الشعر نحو البيت والبيتين من الرجز، فأما البيت التام من الشعر المقصد على الأعاريض التامة فلا يحفظ أن شيئا منه جرى على لسانه.

وأما قوله: (أنا النبي لا كذب)، فقد كان يرويه بعض العلماء: أنا النبي لا كذب- بنصب الباء- ومتابعة الإعراب فيه، وذلك يخرجه عن وزن الشعر، ويكفي مؤنة التأويل له. وقد يسأل فيقال: كيف رسول الله، صلى الله عليه وسلم، هذا القول، وقد نهى عن الاعتزاء والافتخار بالآباء، وأبطل مذاهب الجاهلية في ذلك، وقد يتأول هذا على وجهين: أحدهما: أنه إنما أشار بهذا القول إلى رؤيا كان رآها عبد المطلب. فأخبر بها قريشا، فعبرت أن سيكون له ولد يسود الناس ويملكهم، ويهلك أعداؤه على يده، وكان أمر تلك الرؤيا مشهورا في قريش، فغنما أذكرهم النبي، صلى الله عليه وسلم، بقوله: (أنا ابن عبد المطلب)، أمر تلك الرؤيا لتقى بذلك منة من كان قد انهزم من أصحابه فيرجعوا واثقين بأن سيكون الظفر في العاقبة له. ويقال: إنه إنما أشار بذلك إلى خبر، كان متناقلا على وجه الزمان، أخبر به سيف بن ذي يزن عبد المطلب وقت وفادته

عليه في جماعة قريش، وهو أن يكون من ولده نبي، وكان ذلك مما تناقلته أقيال اليمن، كابرا عن كابر، إلى أن بلغ سيفا، والخبر مشهور قد أمليناه في دلائل النبوة. والوجه الآخر: أن يكون (الاعتزاء) المنهي عنه ما كان في غير جهاد الكفار، وقد رخص رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في الخيلاء في الحرب، مع نهيه عنها في غير المقام، وذلك لأنه يرهب العدو، ويفت في عضده، وقد كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، نصر بالرعب، فإذا أخبر باسمه واسم/ آبائه، وآباءهم مشهده ومقامه ألقى الرعب في قلوبهم، فكان ذلك سببا لقهرهم وهلاكهم، ولما بارز علي بن أبي طالب مرحبا، رضي الله عنه، يوم خيبر اعتزى، فقال: أنا الذي سمتني أمي حيدره. وكان السبب في هذا القول، ما روي أن مرحبا قد أنذر بأن قاتله رجل، يقال له: حيدر وكان علي، رضي الله عنه، حين ولدته أمه سمته أسدا، وكان أبو طالب في وقت مولده غائبا، فلما خبره سماه عليا، فغلب عليه الاسم، وعرف به، فغنما قال علي ذلك، ينذر به مرحبا، بأنه سيقتله. والأسد. يسمى حيدرا، فعدل عن الاسم المشهور إليه لهذا المعنى، والله أعلم.

(65) (باب غزو النساء وقتالهن مع الرجال)

(65) (باب غزو النساء وقتالهن مع الرجال) 646/ 2880 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو معمر، قال: حدثنا عبد الوارث قال: حدثنا عبد العزيز، عن أنس، قال يوم أحد: انهزم الناس عن النبي، صلى الله عليه وسلمن قال: ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر، وأم سليم، وإنهما لمشمرتان، أرى خدم سوقهما تنقزان. وقال غيره: تنقلان القرب على متونهما، ثم تفرغان في أفواه القوم. الخدم: الخلاخيل، واحدتها خدمة، والمخدم: موضع الخلخال عند مفصل الساق. وقوله: تنقزان، معنى النقز: الوثب، وأحسبه تزفران. والزفر: حمل القرب الثقال. ويقال للقربة نفسها الزفر: وذلك قيل للإماء: الزوافرن وذلك لأنهن يزفرن القرب. وقد روى أبو عبد الله هذا اللفظ في حديث آخر من هذا الباب.

(66) (باب حمل النساء القرب إلى الناس في

(66) (باب حمل النساء القرب إلى الناس في الغزو) 647/ 2881 - قال: حدثنا عبدان قال: أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا يونس، عن ابن شهاب، قال ثعلبة بن أبي مال: إن عمر بن الخطاب قسم مروطا بين نساء من نساء المدينة، فبقى مرط. فقال له بعض من عنده: يا أمير المؤمنين، أعط هذا ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي عندك- يريدون أم كلثوم بنت علي- فقال عمر: أم سليط أحق، وأم سليط من نساء الأنصار، ممن تابع رسول الله، صلى الله عليه وسلم. (قال عمر): /فإنها كانت تزفر لنا القرب يوم أحد.

(70) (باب الحراسة في الغزو في سبيل الله)

(70) (باب الحراسة في الغزو في سبيل الله) 648/ 2886 - قال أبو عبد الله: حدثنا يحيى بن يوسف، قال: أخبرنا أبو بكر، عن أبي حصين، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: (تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط لم يرض). قال: وزاد عمرو، يعني: ابن مرزوق. قال: 649/ 2887 - أخبرنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، عن أبيه، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي،

صلى الله عليه وسلم، قال: (تعس عبد الدينار، (وعبد) الدرهم، وعبد الخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا اتنقش. الخميصة: كساء مربع، لها أعلام، أو خطوط. وقوله: (تعس) معناه: عثر فسقط لوجهه. يقال: تعسا لفلان، يدعا عليه بذلك. وقوله: (وانتكس)، أي: خر لوجهه. ومنه قولك: نكست الشيء إذا قلبته والشيء منكوس. وأما قوله: (وإذا شيك فلا اتنفش)، فمعناه: إذا أصابته الشوكة فلا قدر على إخراجها، ولا استطاع ذلك. يقال: نقشت الشوك، إذا استخرجته، ومنه سمى المنقاش. وفي بعض الأمثال: لا تنقش الشوكة بمثلها، فإن ضلعها معها، وينشد:

لا تنقشن من رجل غيرك شوكة فتقي برجلك رجل من قد شاكها يقول: لا تخرجها من رجل غيرك، وتجعلها في رجلك.

(71) (باب فضل الخدمة في الغزو)

(71) (باب فضل الخدمة في الغزو) 650/ 2889 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، قال: حدثني محمد بن جعفر، عن عمرو بن أبي عمرو- مولى المطلب بن حنطب- أنه سمع أنس بن مالك، يقول: خرجت مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى خيبر أخدمه، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم، راجعا، وبدا له أحد، قال: (هذا جبل يحبنا ونحبه)، ثم أشار بيده إلى المدينة، فقال: (اللهم إني أحرم ما بين لابتيها كتحريم إبراهيم مكة. اللهم بارك لنا في صاعنا ومدنا). قوله: (هذا جبل يحبنا ونحبه)، الحب والبغض غير جائز على الجبل نفسه، /لأنه حجر جماد وإنما هو كناية عن أهل الجبل، وهم سكان المدينة، يريد به الثناء على الأنصار، والإخبار عن حبهم النبي، صلى الله عليه وسلم، وحبه إياهم، وهو على مجاز قوله عز وجل: {واسأل القرية} يريد- والله أعلم- أهل القرية، ويروى أن جارية ليزيد بن عبد الملك كانت حملت إليه من المدينة، فحظيت عنده أنشدته ليلة:

لعمرك إنني لأحب سلعا وسلع: جبل بالمدينة، فقالت: لا أحب الحجارة، إنما أحب من بها. قوله: (ما بين لابتيها)، فإنه أراد الحرتين، واحدتهما: لابة، وتجمع على اللوب. وقوله: (اللهم بارك في صاعنا ومدنا)، إنما أراد به الطعام الذي يكال بالصيعان والأمداد، دعا لهم بالبركة في أقواتهم.

(72) (باب فضل من حمل متاع صاحبه في السفر)

(72) (باب فضل من حمل متاع صاحبه في السفر) 651/ 2891 - قال أبو عبد الله: حدثنا إسحاق بن نصر، قال: حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن همام، عن أبي هريرة، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: (كل سلامى عليه صدقة، كل يوم يعين الرجل في دابته، ويحامله عليها، أو يرفع، أو قال: يربع عليها متاعة صدقة، والكلمة الطيبة، وكل خطوة يمشيها إلى الصلاة صدقة، ودل الطريق صدقة). قوله: (كل سلامى عليه صدقة)، يريد بذلك كل ما في البدن، وأصل السلامة عظم في فرسن البعير. (ويحامله عليها)، أي: يعاونه على الحمل، فيحملانه بينهما. وقوله: (يربع)، معناه: يحمل ويرفع، ومنه الحديث: أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مر بقوم يربعون حجراً، فقالوا:

هذا حجر الأشداء، أي: يرفعون حجرا يتداولون حمله بينهم يمتحنون به الشدة والقوة.

(74) (باب من غزا بصبي للخدمة)

(74) (باب من غزا بصبي للخدمة) 652/ 2893 - قال أبو عبد الله: حدثنا قيبة، قال: حدثنا يعقوب، عن عمرو، عن أنس بن مالك قال: كان النبي، صلى الله عليه وسلم، فكنت أسمعه كثيرا، يقول: (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والبخل والجبن، وضلع الدين، وغلبة الرجال). قلت: أكثر الناس لا يفرقون/ بين الهم والحزن، وهما على اختلافهما في الاسم متقاربان في المعنى، إلا أن الحزن إنما يكون على أمر قد وقع، والهم إنما هو فيما يتوقع، ولما يكن بعد. وضلع الدين: ثقله وغلظه. ويقال: رجل ضليع، إذا كان بديناً قوياً.

(78) (باب التحريض على الرمي)

(78) (باب التحريض على الرمي) 653/ 2900 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو نعيم قال: حدثنا عبد الرحمن بن الغسيل، عن حمزة بن أبي أسيد، عن أبيه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم، ويم بدر حين صففنا لقريش، وصفوا لنا: (إذا أكثبوكم فعليكم بالنبل). قوله: (أكثبوكم)، معناه: دنوا منكم من الكثب، وهو القرب، وف بعض النسخ المسموعة: حين أسففنا لقريش، مكان صففنا، فإن كان محفوظا، فمعناه: القرب منهم، والتدلى عليهم، كأن مكانهم الذي كانوا فيه أهبط من مصاف هؤلاء. ومنه قولهم: أسف الطائر في طيرانه: إذا انحط إلى أن يقارب وجه الأرض، ثم يطير صاعدا.

(الباب نفسه) 654/ 2899 - قال أبو عبد الله: حدثنا بن مسلمة، قال: حدثنا حاتم بن إسماعيل، عن يزيد بن أبي عبيد، قال: سمعت سلمة بن الأكوع، قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم، على نفر أسلم ينتضلون، فقال: (ارموا بني إسماعيل)، دليل على صحة قول من قال من النسابة: إن اليمن من ولد إسماعيل.

(80) (باب المجن ومن يترس بترس صاحبه)

(80) (باب المجن ومن يترس بترس صاحبه) 655/ 2905 - قال أبو عبد الله: حدثنا قبيصة، قال: حدثنا سفيان، عن سعد بن إبراهيم، قال: حدثني عبد الله بن شداد، قال: سمعت عليا يقول: ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يفدي رجلا بعد سعد، سمعته يقول: (ارم، فداك أبي وأمي). قلت: التفدية من النبي، صلى الله عليه وسلم، دعاء، وأدعيته خليق أن تكون مستجابة، وقد يوهم هذا القول أن فيه إزراء بحق الوالدين، وإنما جاز ذلك، /لأن والديه ماتا كافرين، وسعد رجل مسلم، ينصر الدين، ويقاتل الكفار، فتفديته بكل كافر جائز غير محظور.

(82) (باب الحمائل وتعلي السيف بالعنق)

(82) (باب الحمائل وتعلي السيف بالعنق) 656/ 2908 - قال أبو عبد الله: حدثنا سليمان بن حرب، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس، قال: كان صلى الله عليه وسلم أحسن الناس، أشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ليلة، فخرجوا نحو الصوت، فاستقبلهم النبي، صلى الله عليه وسلم، وقد استبرأ الخبر، وهو على فرس عري، وفي عنقه السيف، وهو يقول: (لم تراعوا، لم ترعوا، ثم قال: (وجدناه بحرا)، أو قال: (إنه لبحر). الفزع في الكلام يكون على معنيين: أحدهما: الخوف، والآخر، بمعنى الإغاثة، ومنه: قوله، صلى الله عليه وسلم، للأنصار/ (إنكم لتقلون عند الطمع، وتكثرون عند الفزع).

وقوله: (لم تراعوا)، يريد: لا تخافوا. والعرب تتكلم بهذه الكلمة هكذا تضع (لم) موضع (لا) وقال الهذلي: رفوفي وقالوا يا خويلد لم ترع ويقال: إن تقديره لم يكن خوف فتراعوا. وقوله: وجدناه بحرا، معناه: أنه جواد واسع الجري، كماء البحر، أو كأنه يسبح في جربه، كما يسيح ماء البحر إذا ركب بعض أمواجه بعضا، والجواد من الخيل. هو الذي يبذل ما في وسعه من الحضر. ومن ذلك قولهم: جاد السحاب: إذا مطر فأغزر.

(83) (باب ما جاء في حلية السيوف)

(83) (باب ما جاء في حلية السيوف) 657/ 2909 - قال أبو عبد الله: حدثنا أحمد بن محمد، قال: أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا الأوزاعي، قال: سمعت سليمان بن حبيب، يقول: سمعت أبا أمامة، يقول: لقد فتح الفتوح قوم ما كانت حلية سيوفهم الذهب، ولا الفضة، إنما كانت حليتهم العلابي، والآنك، والحديد. العلابي: جمع العلباء، وهو عصب العنق، وهما علباوان. والعلباء: أمتن ما يكون في البعير من الأعصاب، والآنك الأسرب.

(84) (باب من علق سيفه بالشجر في السفر عند القاتلة)

(84) (باب من علق سيفه بالشجر في السفر عند القاتلة) 658/ 2910 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو اليمان، حدثنا شعيب، عن الزهري، قال: حدثني سنان بن أبي سنان الدؤلي، أن جابر بن عبد الله أخبره أنه غزا مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قفل معه فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاه، فنزل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، تحت سمرة، فعلق بها سيفه ونمنا نومة، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يدعونا، وإذا عنده أعرابي، فقال: إن هذا اخترط على سيفي، وأنا نائم فاستيقظت، وهو في يده صلتا. من يمنعك مني؟ فقال: الله، وجلس.

(87) (باب تفرق الناس عن الإمام عند القائلة والاستظلال بالشجر)

(87) (باب تفرق الناس عن الإمام عند القائلة والاستظلال بالشجر) 659/ 2913 - وروى موسى بن إسماعيل، عن إبراهيم بن سعد، عن الزهري، (عن سنان، أن جابر بن عبد الله، أخبره) قال: فشام السيف، فها هو ذا جالس، ثم لم يعاقبه. العضاه: الشجر ذات الشوك، وهي أبر شجر الحجاز. ويقال: أن واحدتها عضاهة، من باب ما تسقط الهاء من واحده ف جمعه، كمان قالوا: شجرة وشجر، وبقرة وبقر، والسمرة أيضا شجرة ذات شوك وورقها أثبت، وظلها كثيف. ويقال: هي شجر الطلح. وقوله: (وهو في يده صلتا)، يريد أنه قد جرده في يده. يقال: أصلت الرجل سيفه: إذا جرده من غمده. وقوله: فشام السيف. يقال ذلك على معنيين: أحدهما: إذا اخترطه وسله. والآخر: إذا غمده فرده في غمده.

(89) (باب ما قيل في درع النبي صلى الله عليه وسلم، والقميص في الحرب)

(89) (باب ما قيل في درع النبي صلى الله عليه وسلم، والقميص في الحرب) 660/ 2915 - قال أبو عبد الله: حدثنا محمد بن المثنى قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال النبي، صلى الله عليه وسلم، وهو في قبة: (اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم)، فأخذ أبو بكر بيده، فقال: حسبك يا رسول الله، فقد ألححت على ربك، وهو في الدرع، فخرج، وهو يقول: {سيهزم الجمع ويولون الدبر*بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر}. قلت: قد يشكل معنى الحديث على كثير من الناس، وذلك إذا رأوا نبي الله، صلى الله عليه وسلم، وهو يناشد ربة في استنجاز الوعد، ويلح في الدعاء، وأبو بكر يسكن منه، ويقول له: حسبك، فقد ألححت على ربك، وهذا يوهم أن حال أبي بكر في الثقة بربه والطمأنينة إلى وعده أرفع من حاله، وهذا ما لا يجوز أن يكون بحال بتة، والمعنى في مناشدته صلى الله عليه وسلم،

وإلحاحه عليه في الدعاء، والمسألة، الشفقة على قلوب أصحابه، وتقوية منتهم، إذ كان أول مشهد شهدوه في لقاء العدو، وكان أصحابه في قلة من العدد، مكثورين بأضعاف من أعدائهم، فابتهل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في الدعاء، وألح في المسألة ليسكن بذلك ما في نفوسهم، إذ كانوا يعلمون أن (وسيلته)، مقبولة، ودعوته مستجابة، فلما قال له أبو بكر: حسبك يا رسول الله، فقد ألححت على ربك، كف عن الدعاء والمسألة، إذ قد علم أنه قد استجيب دعاؤه، بما وجده أبو بكر في نفسه من المنة القوة حتى قال له هذا القول. ويدل على صحة ما تأولنا تمثله على إثر ذلك بقوله تعالى: {سيهزم الجمع ويولون الدبر}، فهذا معنى الحديث ووجهه.

(95) (باب قتال الترك)

(95) (باب قتال الترك) 661/ 2928 - قال أبو عبد الله: حدثنا سعيد، بن محمد قال: حثنا يعقوب، قال: حدثنا أبي، عن صالح، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا الترك، صغار الأعين، حمر الوجوه، ذلف الأنوف، كأن وجوههم المجان المطرقة). قوله: ذلف الأنوف. الذلف: قصر الأنف وانبطاحه. والمجان المطرقة: هي التي ألبست الأطرقة من الجلود، وهي الأغشية منها، شبه عرض وجوههم، ونتوء وجناتهم بظهور الترسة.

(97) (باب من صف أصحابه عند الهزيمة ونزل عن دابته فاستنصر)

(97) (باب من صف أصحابه عند الهزيمة ونزل عن دابته فاستنصر) 662/ 2390 - قال أبو عبد الله: حدثنا عمرو بن خالد، قال: حدثنا زهير، قال: حدثنا أبو إسحاق، قال: سمعت البراء، وسأله رجل: أكنتم فررتم يا أبا عمارة يوم حنين؟ قال: لا، والله (ما ولى) رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولكنه خرج شبان أصحابه، وأخفافهم حسرا، فأتوا قوما رماة جمع هوازن، وبني نصر ما يكاد يسقط لهم سهم، فرشقوا رشقا ما يكادون يخطئون، فأقبلوا هنالك إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، وذكر الحديث.

قوله: أخفافهم: جمع اخف. يقال: رجل خف وشيء خف، أي خفيف. يريد: القوم الذين ليس معهم سلاح يثقلهم، وأداة للحرب تقيهم وتمنعهم. ومنه قوله امرئ القيس: *يزل الغلام الخف عن صهواته* يريد الغلام الخفيف البدن، والحسر جمع الحاسر وهو الذي لا سلاح له ويقال: هو الذي لا درع له وقد يكون أيضا الذي لا مغفر على رأسه. والرشق: الرمي، مصدر رشقته رشقا، والرشق الوجه من الرمي.

(102) (باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، الناس إلى الإسلام والنبوة)

(102) (باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، الناس إلى الإسلام والنبوة) 663/ 2942 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن مسلمة، حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه، عن سهل، يعني ابن سعد الساعدي، قال: قال النبي، صلى الله عليه وسلم، لعلى حين بعثه إلى خبير: (ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم، فوالله لأن يهدي بك رجل واحد خير لك من حمم النعم). النعم: إذا أطلق أريد به الإبل وحدها، وإذا كان معها غيرها من البقر والغنم دخل في هذا الاسم معها. وحمر الإبل: أعزها، وأنفسها، يريد: لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك أجرا وثوابا من أن يكون لك حمرُ النعم، فتتصدق بها.

(130) (باب التكبير عند الحرب)

(130) (باب التكبير عند الحرب) 664/ 2991 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد اله بن محمد، حدثنا سفيان، عن أيوب، عن محمد، عن أنس، قال صبح النبي، صلى الله عليه وسلم، خيبر، وقد خرجوا بالمساحي على أعناقهم، فلما رأوه قالوا: هذا محمد والخميس، محمد والخميس، فلجأوا إلى الحصن، فرفع النبي، صلى الله عليه وسلم، يديه، وقال: (الله أكبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين)، وأصبنا حمرا فطبخناها، فنادى منادي النبي، صلى الله عليه وسلم، إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر، فأكفئت القدور بما فيها). الخميس ههنا: الجيش، يريدون أنه جاء بالجيش ليقاتلهم. واختلف في سبب تحريم الحمر، فروي عن ابن أبي أوفى أنه قال: لما حرمت، تحدثنا أنه إنما نهى عنها لأنها لم تخمس.

وقال بعضهم: إنما نهي عنها لأنها كانت تأكل العذرة، وروى عن ابن عباس أنه قال: لا أدري، أنهى عنها من أجل أنهى كانت حمولتهم، فكره أن تذهب، أو حرمة بمعنى البتة. قلت: أولى الأقاويل ما اجتمع عليه أكثر الأمة وهو تحريم أعيانها، ويؤكد ذلك قوله حين أمر المنادي أن ينادي أن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر، وهذا غاية في مبالغة التحريم على وجه التأبيد، والله أعلم.

(103) (باب من أراد غزوة بغيرها ومن أحب الخروج يوم الخميس)

(103) (باب من أراد غزوة بغيرها ومن أحب الخروج يوم الخميس) 665/ 2947 - قال أبو عبد الله: حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، أن عبد الله بن كعب، قال: سمعت كعب بن مالك، يقول: لم يكن يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، غزوة إلا روى بغيرها غير تبوك. التورية في الشيء أن تستر الذي تريده، وتظهر غيره، أخذت من وراء الشيء كأنك تركت الشيء يليك، وتجاوزت إلى ما وراءه.

(111) (باب عزم الإمام على الناس فيما يطيقون)

(111) (باب عزم الإمام على الناس فيما يطيقون) 666/ 2964 - قال أبو عبد الله: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن أبي وائل، قال: قال عبد الله: لقد أتاني اليوم رجل، فسألني عن أمر ما رديت ما أرد عليه. قال: أرأيت رجلا مؤديا نشيطا، يخرج مع أمرائنا في المغازي، فيعزم علينا في أشياء لا نحصيها، فقلت له: والله ما أدري ما أقول لك، إلا أنا كنا مع النبي، صلى الله عليه وسلم، فعسى أن لا يعزم علينا يف الأمر إلا مرة حتى نفعله، وإن أحدكم لن يزال بخير ما اتقى الله، وإذا شك في نفسه سأل رجلا، فشفاه منه، وأوشك أن لا تجدوه، والله الذي لا إله إلا هو ما أذكر ما غبر من الدنيا إلا كالثعلب شرب (صفوه)، وبقي كدره.

قوله: (مؤدياً) المؤدي الرجل التام السلاح، الكامل أداة الحرب وقوله: في أشياء لا نحصيها، يريد لا نطيقها والثغب: ما اطمأن من متون الأرض الصلبة، يجتمع فيها الماء.

(106) (باب الخروج في رمضان)

(106) (باب الخروج في رمضان) 667/ 2953 - قال أبو عبد الله: حدثنا على بن عبد الله، قال حدثنا سفيان، قال: حدثني الزهري، عن عبيدا لله، عن ابن عباس، قال: خرج النبي، صلى الله عليه وسلم، في رمضان، فصام حتى إذا بلغ الكديد أفطر قلت: هذا يجمع أمرين. أحدهما: أن من شهد أول الشهر مقيما، كان له أن يسافر فيما يستقبله من الشهر، ويفطر إن شاء ذلك، خلاف قول من زعم أن من شهد أول الشهر مقيما، لزمه أن يفرط، وإن خرج في سفر، وعلى هذا تأويل قول الله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} وإنما هو عند عامة العلماء، على شهود الشهر كله، دون شهود بعضه. والآخر: أن الفطر في السفر أفضل من الصيام، وذلك أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لا يفعل في المباح الذي هو مخير فيه أفضل الأمرين. وفيه: أنه قد صام في بعض سفره إلى أن الكديد فأفطر.

(108) (باب السمع والطاعة للإمام)

(108) (باب السمع والطاعة للإمام) 668/ 2955 - قال أبو عبد الله: حدثنا مسدد، قال: حدثنا يحيى، عن عبيد الله، قال: حدثني نافع، عن ابن عمر، عن النبي، صلى الله عله وسلم: (السمع والطاعة حق ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة). قلت: فيه: بيان أن الطاعة إنما تجب بالمعروف دون المنكر. وفيه: دليل على أن يمين المكره غير لازمة، وقد اختلف الناس فيما يأمر به الولاة من العقوبات، هل يسمع المأمور أن يفعل ذلك من غير ثبت، أو علم يكون عنده بوجوبها عليه؟ فحكى أبو جعفر الطحاوي، عن أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد، أنهم قالوا: ما أمر به الولاة من ذلك غيرهم من الناس يسعهم أن يفعلوه فيما كان ولا يهتم إليه. قال: ثم قال محمد في رواية محمد بن

سماعة، إنه لا يسع المأمور أن يفعله، حتى يكون الذي يأمره به عدلا، وحتى يشهد بذلك عنده عدل سواه على أن على المأمور ذلك، إلا في الزنا، فإنه لا يفعله حتى يشهد معه ثلاثة سواه. قلت: وقد روينا عن الشعبي ما يشبه معنى القول الأول: أخبرني ابن الزئبقي، قال: حدثنا الفضل بن عمرو، قال: حدثنا محمد بن سلام الجمحي، قال: حدثنا عبد الله بن وهب السهمي، قال: سمعت أصحابنا، قالوا: أرسل عمر بن هبيرة، وهو على العراق إلى الفقهاء من فقهاء الكوفة، وإلى فقهاء البصرة، وكان ممن أتاه من

البصرة الحسن، وفيمن أتاه من الكوفة الشعبي، فدخلوا عليه، فقال لهم: إن أمير المؤمنين يزيد يكتب إلي في أمور أعمل بها فما تريان؟ قال: فقال الشعبي: أصلح الله الأمير، أنت مأمور، والتبعة على امرك. فأقبل على الحسن: فقال: ما تقول؟ فقال: قد قال هذا. قال: قل. قال: اتق الله يا عمر، فكأنك بملك قد أتاك فاستنزلك، فأخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك، إن الله ينجيك من يزيد، وإن يزيد ينجيك من الله، فإياك أن تعرض لله بالمعاصي، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ثم قام فاتبعه الآذان، وقال: أيا الشيخ! ما حملك على ما استقبلت به الأمير؟. قال: حملني عليه ما أخذ الله عز وجل على العلماء، ثم تلا: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه}. قال: فخرج عطاياهم، وفضل الحسن. قلت: وقد روي عن أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، ما يؤيد مذهب محمد بن الحسن في رواية محمد بن سماعة عنه، حدثنيه أبو بكر الرازي، حدثنا بشر بن موسى، حدثنا

الحميدي، حدثنا يعلي بن عبيد، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن أبي برزة، قال: مررت على أبي بكر الصديق، وهو يتغيظ على رجل من أصحابه فقلت، يا خليفة رسول الله: من هذا الذي تتغيظ عليه؟ قال: ولت تسأل عنه؟ قلت: لأضرب عنقه. قال: فوالله لأذهب غضبه. ما قلت؟، ثم قال: ما كانت لأحدٍ بعد محمد نبي الله، صلى الله عليه وسلم. قلت: قد قيل في هذا الحديث: إن الرجل كان سب أبا بكر، وروى فيه من غير من هذا الطريق أنه قال لأبي برزة: لو قلت ذلك لك أكنت تفعله؟ فقال: نعم. فقال: ما كان ذلك لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. يريد أن أحداً لا

يلزم قوله، ولا تجب طاعته في قتل مسلم إلا بعد أن يعلم انه حق إلا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لأنه لا يأمر إلا بالحق، ولا يحكم بغير عدل. وقد يتأول أيضا على أنه لا يجب القتل في سب أحد إلا في سب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(109) (باب يقاتل من وراء الإمام ويتقى به)

(109) (باب يقاتل من وراء الإمام ويتقى به) 669/ 2956 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو اليمان، قال: اخبرنا شعيب، حدثنا أبو الزناد، أن الأعرج حدثه انه سمع أبا هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: (نحن الآخرون السابقون). 670/ 2957 - وبهذا الإسناد: (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني، وإنما الإمام جنة، يقاتل من ورائه، ويتقى به، فإن أمر بتقوى، وعدل، كان له بذلك أجر، وإن قال بغيره كان عليه منه. قوله: (من يطع الأمير فقد أطاعني)، كانت قريش ومن يليهم من العرب، لا يعرفون الإمارة، ولا يدينون لغير رؤساء قبائلهم، فلما كان الإسلام، وولى عليهم الأمراء، أنكرته نفوسهم، وامتنع بعضهم من الطاعة، فإنما قال صلى الله عليه وسلم لهم هذا القول، يعلمهم أن طاعته مربوطة بطاعته، ومن

عصاهم فقد عصى أمره، ليطاوعوا الأمراء الذين كان يوليهم، فلا يستعصوا عليهم. قلت: وإذا كان إنما وجبت طاعتهم لطاعة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فخليق أن لا يكون طاعة من كان منهم مخالفا لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، فيما يأمره به واجبة. وفي قوله (وإنما الإمام جنة) كالدليل على ما ذهب إليه أبو حنيفة، وأن من أطاعهم في أمر، ثم تبين له خطأهم فيما أمروه من ذلك انه معذور، وأن التبعة على الآمر، وهو شبيه بما قاله الشعبي. وفي وجه آخر: وهو أن يكون أراد أنه جنة في القتال، وفيما يكون منه في أمره دون غيره. وأما قوله: (فإن أمر بتقوى وعدل كان له بذلك أجر، وإن قال بغيره كان عليه منه). فمعنى (قال) هاهنا (حكم). يقال: قال الرجل، واقتال: إذا حكم. ويقال: إنه مشتق من اسم القيل، وهو الملك الذي ينفذ قوله وحكمه.

(122) (باب قول النبي، صلى الله عليه وسلم: نصرت بالرعب مسيرة شهر)

(122) (باب قول النبي، صلى الله عليه وسلم: نصرت بالرعب مسيرة شهر) 671/ 2977 - قال أبو عبد الله: حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: (يبعث بجوامع الكلم، ونصرت بالرعب، فبينا أنا نائم أوتيت مفاتيح خزائن الأرض، فوضعت في يدي). قال أبو هريرة: وقد ذهب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأنتم تنثلونها. قوله: / (بعثت بجوامع الكلم)، معناه: إيجاز الكلام في إشباع للمعاني، يقول الكلمة القليلة الحروف، فتنتظم الكثير من المعنى، وتتضمن أنواعا من الأحكام. وفيه: الحض على حسن التفهم، والحث على الاستنباط لاستخراج تلك المعاني، ونبش تلك الدفائن المودعة فيها. وقوله: (أوتيت مفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي)، يحتمل أن يكون هذا القول إشارة إلى ما فتح لأمته من الممالك، فغنموا أموالها، واستباحوا خزائن ملوكها المدخرة كخزائن كسرى وقيصر وغيرهما من الملوك.

ويحتمل أن يكون المراد به معادن الأرض، التي فيها الذهب والفضة وأنواع الفلز، جعلت في يده بمعنى العدة أن ستفتح تلك البلدان التي فيها هذه المعادن والخزائن فتكون لأمته، ولذلك يقول أبو هريرة: فقد ذهب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأنتم تنتثلونها، أي: تثيرونها من مواضعها، وتستخرجونها. يقال نثلث البئر وانتثلتها، إذا استخرجت ترابها وهو النثيل. وفيه دليل: على ان للأئمة استخراج المعادن، وإقطاعها لمن يعمل فيها، ويطلب نيلها. وفي قوله: (نصرت بالرعب)، دليل على أن الفيء لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، يضعه حيث شاء، لأنه شيء وصل إليه بالنصرة التي أوتيها من قبل الرعب الذي ألقي في قلوبهم من. والفيء: كل مال لم يوجف عليه بخيل، ولا ركاب، وهو ما فرج، عنه أهلوه، وتركوه من اجل الرعب الذي رهقهم منه، وكذلك كل مال صالحوه عليه من جزية، أو خراج من وجوه الأموال.

(131) (باب ما يكره من رفع الصوت في التكبير)

(131) (باب ما يكره من رفع الصوت في التكبير) 672/ 2992 - قال أبو عبد الله: حدثنا محمد بن يوسف، قال: حدثنا سفيان، عن عاصم، عن أبي عثمان، عن أبي موسى الأشعري، قال: كنا مع النبي، صلى الله عليه وسلم، فكنا إذا أشرفنا على واد هللنا وكبرنا، ارتفعت أصواتنا فقال: يا أيها الناس، اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم، ولا غائبا، إنه معكم، إنه سميع قريب. قوله: (اربعوا على أنفسكم)، يريد أمسكوا عن الجهر، وقفوا عنه، وأصل هذه الكلمة من قولك: ربع الرجل بالمكان: إذا وقف عن السير وأقام به. ويقال للرجل اربع على نفسك، واربع عليك، أي: قف. وقيل: معناه: ارفق بنفسك. ويقال: معناه: انتظر.

(139) (باب ما قيل في الجرس ونحوه في أعناق الإبل)

(139) (باب ما قيل في الجرس ونحوه في أعناق الإبل) 673/ 3005 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عباد بن تميم، أن أبا بشير الأنصاري، أخبره أنه كان مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في بعض أسفاره، وقال عبد الله: حسبت أن قال: والناس في مبيتهم، فأرسل رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر، أو قلادة إلا قطعت). يقال: إنما كره ذلك من أجل الأجراس التي تعلق فيها.

ويقال: إنما كره ذلك من اجل أنهم كانوا يزعمون أنها تدفع العين.

(146) (باب أهل الدار يبيتون، فيصاب الولدان والذراري)

(146) (باب أهل الدار يبيتون، فيصاب الولدان والذراري) 674/ 3012 - قال أبو عبد الله: حدثنا علي بن عبد الله، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس، رضي الله عنه، عن الصعب بن جثامة، مر النبي، صلى الله عليه وسلم، بالأبواء، أو بودان وسئل عن أهل الدار يبيتون من المشركين، فيصاب من نسائهم وذراريهم قال: (هم منهم)، وسمعته يقول: (لا حمى إلا لله ولرسوله). قوله: (هم منهم)، يريد: في حكم الدين، فإن ولد الكافر محكوم له بالكفر، ولم يرد بهذا القول إباحة دمائهم تعمدا لها، وقصدا لها، وإنما هو إذا لم يكن الوصول إلى الآباء إلا بهم، فإذا أصيبوا لاختلاطهم بالآباء، لم يكن عليهم في قتلهم شيء، وقد

نهى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن قتل النساء والصبيان، إذا كان ذلك عن القصد لقتلهم، مع تميزهم عن البالغين من الرجال، إلا أن النساء إذا قاتلن قتلن وذلك أنه إنما وجب الكف عنهن لان لا قتال فيهن، فإذا قاتلن فقد ارتفع الحظر. وأصل دماء الكفار الإباحة إلا بشرائط الحقن. وقوله: (لا حمى إلا لله ولرسوله)، معناه: لا حمى إلا على الوجه الذي إذن الله ورسوله فيه، وذلك على قدر الحاجة، ووجه المصلحة من غير منع حق المسلم، فإن المسلمين شركاء في الماء والكلأ، وكان أهل الجاهلية إذا عز الرجل منهم حمى الأرض التي تليه، فلا يرعى كلاها، ولا يستباح فضل مائها، فإنما أبكل هذا النوع من الحمى دون غيره، وقد حمى عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، بعد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لخيل

المسلمين، فلو كان لا يجوز ذلك لغير الرسول، صلى الله عليه وسلم، لم يفعله عمر، رضي الله عنه.

(155) (باب قتل النائم المشرك)

(155) (باب قتل النائم المشرك) 675/ 3022 - قال أبو عبد الله: حدثنا على بن مسلم قال: حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، قال حدثني أبي، عن أبي إسحاق، عن البراء، قال: بعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، رهطا من الأنصار إلى أبي رافع اليهودي ليقتلوه، فانطلق رجل منهم، فدخل الحصن الذي هو فيه، قال: فضربته، فصاح، فوضعت سيفي في بطنه، ثم تحاملت عليه حتى قرع العظم، ثم خرجت وأنا دهش، فأتيت سلما لأنزل منه فوقعت فوثئت رجلي، فخرجت إلى أصحابي، فقلت: ما أنا ببارح حتى أسمع الناعية، فما برحت حتى سمعت نعايا أبي رافع تاجر أهل الحجاز، قال: فقمت وما بي قلبة حتى أتينا النبي، صلى الله عليه وسلم، فأخبرناه. قوله: (نعايا أبي رافع)، هكذا يروى، وإنما هو في حق الكلام أن يقال: نعاء أبا رافع، أي انعوا أبا رافع، كقولهم: دراك، أي: أدركوا. ومثل هذا قول شداد بن أوس:

*يا نعاء العرب* يريد: انعوا العرب. وقوله: وما بي قلبة، أي: ما بي داء تقلب له رجلي لتعالج. ويقال: وثئت رجله، مضمومة الواو على المفعول، ولم يسم فاعله.

(157) (باب الحرب خدعة)

(157) (باب الحرب خدعة) 676/ 3030 - قال أبو عبد الله: حدثنا صدقة بن الفضل، قال: حدثنا ابن عينية، عن عمرو، سمع جابر بن عبد الله، قال: قال النبي، صلى الله عليه وسلم: (الحرب خدعة). معناه: إن الخداع في الحرب مباح، وإن كان محظورا في غيرها من الأمور، ويروى هذا على وجوه خدعة- بفتح الخاء، وسكون الدال- وهي أجودها. وخدعة:- بضم الخاء- وخدعة- بضم الخاء وفتح الدال، فالأول معناه: أنها خدعة واحدة، من خدع فيها مرة لم يقل. ومعنى خدعة، أي: بها يخدع الرجال، إذ هي محل الخداع وموضعه، كما قيل: لعبة، لما يلعب به من شيء. فأما خدعة- مضمومة الخاء، مفتوحة الدال، فمعناه أنها تخدع الرجال، تمنيتهم الظفر، ولا تفي لهم به، كما قيل: ضحكة، وهزأة: إذا كان يتهزأ بالناس: ويضحك منهم.

(164) (باب ما يكره من التنازع والاختلاف في الحرب، وعقوبة من عصى إمامه)

(164) (باب ما يكره من التنازع والاختلاف في الحرب، وعقوبة من عصى إمامه) 667/ 3039 - قال أبو عبد الله: حدثنا عمرو بن خالد، قال: حدثنا زهير، قال: حدثنا أبو إسحاق، قال: سمعت البراء بن عازب يحدث، قال: جعل النبي، صلى الله عليه وسلم، على الرجالة يوم أحد، وكانوا خمسين رجلا، عبد الله بن جبير، (وقال: إن رأيتمونا تخطفنا الطير، فلا تبرحوا مكانكم حتى أرسل إليكم) .. وذكر الحديث. قوله: تخطفنا الطير، مثل، يريد به الهزيمة. يقول إن أريتمونا قد زلنا عن مكاننا، وولينا منهزمين، فلا تبرحوا أنتم وهذا كقولهم: فلان ساكن الطير، إذا كان هادئا وقورا، وليس هناك طير، ويقال للرجل إذا أسرع وخف: قد طار طيره، ونحو ذلك من الكلام.

(166) (باب من رأى العدو فنادى بأعلى صوته: يا صباحاه، حتى يسمع الناس)

(166) (باب من رأى العدو فنادى بأعلى صوته: يا صباحاه، حتى يسمع الناس) 678/ 3041 - قال أبو عبد الله: حدثنا المكي بن إبراهيم، قال: حدثنا يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة، قال: خرجت من المدينة ذاهبا نحو الغابة، فلقيني غلام لعبد الرحمن بن عوف، قال: أخذت لقاح رسول الله، صلى الله عليه وسلم. قلت: من اخذها؟ قال: غطفان: وفزارة، فصرحت ثلاث صرخاتن أسمعت ما بين لابتيها: يا صباحاه ثم اندفعت حتى ألقاهم، فجعلت أرميهم وأقول: أنا ابن الأكوع، واليوم يوم الرضع، فاستنقذتها منهم .. وذكر الحديث اللقاح: النوق ذوات الدر، واحدتها: لقحة. وقوله: اليوم يوم الرضع، يريد: يوم هلاك اللئام. من قولهم: لئيم راضع، وهو الذي رضع اللؤم من ثدي أمه. يقال: راضع ورضع، كما يقال: راكع وركع، وخاشع وخُشع.

(170) (باب هل يستأسر الرجل؟ ومن لم يستأسر، ومن ركع ركعتين عند القتل)

(170) (باب هل يستأسر الرجل؟ ومن لم يستأسر، ومن ركع ركعتين عند القتل) 679/ 3045 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو اليمان: قال: اخبرنا شعيب، عن الزهري، قال: أخبرني عمرو بن أبي سفيان بن أسيد بن جارية الثقفي أن أبا هريرة، قال: ك بعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عشرة رهط سرية، وأمر عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري، فنفر إليهم بنو لحيان قريب من مائتي رجل، كلهم رام، فلما رآهم عاصم، وأصحابه لجأوا إلى فدفد، وأحاط بهم القوم، فرموهم بالنبل حتى قتلوا عاصما في سبعة، قال: وبعث ناس من كفار قريش إلى عاصم، حين حدثوا أنه قتل، ليؤتوا بشيء منه يعرف، وكان قد قتل رجلا من عظمائهم يوم بدر، فبعث على عاصم مثل الظلة من الدبر، فحمته من رسولهم قال: وأسر خبيب بن عدي فانطلقوا به إلى مكة، فلما خرجوا به من الحرم ليقتلوه في الحل، قال: ذروني أركع ركعتين فركعهما، وقال: اللهم أحصهم عددا:

ما إن أبالي حين أقتل مسلما .... على أي شق كان لله مصرعي وذل في ذات الإله وإن يشأ .... يبارك على أوصال شلو ممزع الفدفد: رابية مشرفة. والظلة: السحابة. والدبر: الزنابير. واحدتها دبرة. وفي بعض الكلام (لسعتني) دبيرة بأبيرة تصغير الدبرة. وقوله: أحصهم عددا: دعا عليهم بالهلاك، بقوله: لا تبق منم أحدا، وواحد الأوصال: وصل، وهو العضو، والشلو: العضو أيضا، الممزع: يقال: مزعت اللحم مزعة مزعة، أي، قطعة قطعة.

(187) (باب إذا غنم المشركون مال المسلم ثم وجده المسلم)

(187) (باب إذا غنم المشركون مال المسلم ثم وجده المسلم) 680/ 3068 - قال أبو عبد الله: حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا يحيى، عن عبيد الله، قال: أخبرني نافع أن عبد لابن عمر أبق، فلحق بالروم، فظهر (عليه) خالد بن الوليد، فرده على عبد الله، وأن فرسا لابن عمر عار، فلحق بالروم، فظهر عليه، فردوه على عبد الله. يقال: عار الفرس: إذا تفلت، فذهب على وجهه. ومنه قيل: رجل عيار إذا: كان خالعا بطالا. ويقال: راع الفرس، وراعت الخيل، إذا عادت إلى أصحابها، ومعنى ظهر عليه: غلب عليه. وفيه من الفقه: أن للمسلمين إذا/ غنموا، فكان في الغنيمة مال لمسلم، فإنه مردود عليه. وقال بعض الفقهاء: إن كان قبل القسم رد عليه، وإن كان بعده لم يرد، ولا فرق بين الأمرين، لأن القسمة لا تبطل الملك، ولا تبدل الحكم.

كتاب فرض الخمس

(57) (كتاب فرض الخمس) (1) (باب فرض الخمس) 681/ 3094 - قال أبو عبد الله: حدثنا إسحاق بن محمد الفروي، قال: حدثنا مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن مالك بن أوس بن الحدثان، قال: بينما أنا جالس عند أهلي، حين متع النهار، إذا رسول عمر بن الخطاب يأتيني، فقال: أجب أمير المؤمنين، فانطلقت معه حتى أدخل على عمر، فإذا هو جالس على (رمال) سرير، ليس بينه وبينه فراش، متكئ على وسادة من أدم، فسلمت عليه، ثم جلست، فقال، يا مال .. وذكر حديثا. قال: ثم أتاه حاجبه يرفأ، فقال: هل لك في عثمان، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير، وسعد ابن وقاص، يستأذنون، قال: نعم. فدخلوا، ثم قال: هل لك في علي: وعباس؟ قال: نعمن فدخلا. فقال عباس: يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا، وهما فيما أفاء الله على رسوله من (مال) بني النضير. فقال الرهط، عثمان، وأصحابه، يا أمير المؤمنين! اقض بينهما، وأرح أحدهما من الآخر. فقال عمر: تيدكم. أنشدكم بالله الذي بإذن تقوم السماء والأرض. هل تعملون أن رسول الله، صلى الله

عليه وسلم، قال: (لا نورث، ما تركنا صدقة)؟ قال الرهط: قد قال ذلك، فأقبل عمر على علي، وعباس فقال: أنشدكما (الله)، تعلمان أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال ذلك؟ قال عمر: فإني أحدثكم عن هذا الأمر، إن الله قد خص رسوله في هذا الفيء بشيء، لم يعطه أحدا غيره، ثم قرأ: {وما أفاء الله على رسوله منهم}، إلى قوله: {قدير} فكانت هذه خالصة لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، فكان ينفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال، ثم يأخذ ما بقي فيجعل مجعل مال الله، ثم توفي الله نبيه. فقال أبو بكر: أنا ولي رسول الله، فقبضها، فعمل فيها ما عمل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ثم توفى الله أبا بكر، فكنت أنا ولي أبي بكر (فقبضتها) سنتين من إمارتي، أعمل فيها بما عمل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وما عمل فيها أبو بكرن ثم جئتماني تكلمان وأمركما واحد. فقلت لكما: إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: (لا نورث ما تركنا صدقة)، فلما بدا لي أن أدفعها إليكما، قلت: إن شئتما دفعتها إليكما، على أن عليكما عهد الله وميثاق لتعملان فيها بما عمل فيها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وبما عمل فيها أبو بكر، وبما عملت فيها منذ وليتها، فقلتما: ادفعها إلينا، فبذل دفعتها إليكما، ثم أقبل على علي، وعباس، فقال: أنشدكما

الله، هل دفعتها إليكما بذلك؟ قالا: نعم. قال: فتلتمسان مني قضاء غير ذلك؟ فوالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض، لا أقضي فيها قضاء غير ذلك، فإن عجزتما عنها، فادفعاها إلي، فإني أكفيكماها. قوله: متع النهار: يريد، أنه طال ارتفاعه، والماتع: الطويل، ومنه قولهم في الدعاء: أمتع الله بك، أي: أطال مدة الانتفاع بك. ورمال السرير: ما مد على وجهه من خيوط، وشريط، ونحوهما. وقوله: يا مال، يريد: يا مالك، فرخم. كما قيل: يا حار، يريد: يا حارث: ويا صاح، يريد: يا صاحب. وقوله: تيدكم، يريد على رسلكم، وأصله من التؤدة. يقول: ألزموا تؤدتكم، وكان أصلها (تأدا)، فكأن قال: تادكم، فأبدل الياء من الهمزة. قلت: وهذه القصة مشكلة جدا، وذلك أن عليا، وعباسا قد أخذا هذه الصدقة من عمر على الشريطة التي شرطها عليهم، وقد اعترفا بأنه صلى الله عليه وسلم قد قال: (ما ت ركنا صدقة)، وشهد المهاجرون بذلك وهم حضور، فما الذي بدا لهما بعد حتى تنازعا وتخاصما؟ والمعنى في ذلك، أنما إنما طلبا القسمة

فيها، إذ كان يشق عليهما أن لا يكون احدهما يرى فيها رأيا، ويعمل فيها عملا حتى يستأذن صاحبة في ذلك، فطلبا أن يقسم بينهما ليستبد كل واحد منهما بالتدبير فيما يصير إليه منها، فمنعهما عمر القسم لئلا يجري عليها اسم الملك، لأن القسم إنما يقع في الأملاك. وقال لهما: إن عجزتما، فرداها علي، فهذا وجه الحديث، ومعناه، والله أعلم.

(5) (باب ما ذكر من درع النبي صلى الله عليه وسلم، وعصاه وسيفه وقدحه وخاتمه)

(5) (باب ما ذكر من درع النبي صلى الله عليه وسلم، وعصاه وسيفه وقدحه وخاتمه) 682/ 3107 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن محمد، قال: حدثنا محمد بن عبد الله الأسدي، قال: حدثنا عيسى بن طهمان، قال: أخرج إلينا أنس نعلين جرداوين، لهما قبالان، فحدثني ثابت بعد، عن أنس أنهما نعلا النبي، صلى الله عليه وسلم. قوله: (جرداوين)، يريد: خلقين، وثوب جرد، أي خلق، وقبال النعل: ما يشد فيه الشسع.

(5) (الباب نفسه)

(5) (الباب نفسه) 683/ 3111 - قال أبو عبد الله: حدثنا قتيبة بن سعيد، قال: حدثنا سفيان، عن محمد بن سوقه، (عن منذر)، عن ابن الحنفية قال: لو كان علي ذاكرا عثمان، ذكره يوم جاءه ناس فشكوا سعاة عثمان، فقال لي علي: اذهب إلى عثمان، فاخبره أنها صدقة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فمر سعاتك يعملون بها، فأتيته بها، فقال: أغنها عنا: فأتيت عليا فأخبرته، فقال: ضعها حيث أخذتها. قلت: يريد صحيفة بعث بها إليه معه. وقوله: أغنها عنا، كلمة معناها: الترك والإعراض.

قال ابن الأنباري: ومن هذا قوله سبحانه: {فكروا وتولوا واستغنى الله} المعنى تركهم، لأن كل من استغنى عن شيء تركه.

(7) (باب قول الله تعالى {فأن لله خمسة وللرسول}، يعني: للرسول قسم ذلك)

(7) (باب قول الله تعالى {فأن لله خمسة وللرسول}، يعني: للرسول قسم ذلك) 684/ 3115 - قال أبو عبد الله: حدثنا محمد بن يوسف، قال: حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن جابر بن عبد الله، قال: ولد لراجل منا غلام فسماه القاسم. فقالت الأنصار: لا نكنيك أبا القاسم، ولا ننعمك عينا، فأتوا النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: (أحسنت الأنصار سموا باسمي ولا تكتنوا بكنيتي، فإنما أنا قاسم). قوله: لا ننعمك عينا، معناه: لا نكرمك، ولا نقر عينك بهذا الاسم. تقول العرب في الكرامة وحسن القبول: نعم ونعمة عين، ونعام عين-مضمومة النون-. فأما النعمة، فمعناها: التنعم، والنعمة: ما أنعم الله به

على العبد من فضله. ويقال: كم من ذي نعمة لا نعمة له، أي: لا متعة له بماله. وفي هذا البيان أنه لا يجوز لأحد أن يكتني بأبي القاسم سواء كان اسمه محمدا أم لا، وإليه ذهب ابن سيرين، وكذلك كان/ يقول الشافعي فيما بلغنا عنه.

(8) (باب قول النبي، صلى الله عليه وسلم: أحلت لكم الغنائم)

(8) (باب قول النبي، صلى الله عليه وسلم: أحلت لكم الغنائم) 685/ 3120 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو اليمان، قال: أخبرنا شعيب، قال: حدثنا أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: (إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعدهن والذي نفي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله). قلت: أما كسرى فقد قطع الله دابره، واتفقت كنوزه في سبيل الله وأورث الله، المسلمين أرضه ودياره، والحمد لله رب العالمين. وأما قيصر، هو صاحب ملك الروم، فقد كانت الشام بحياله، وكان بها مشتاه ومربعه، وبها بيت المقدس، وهو الموضع الذي لا يتم نسك النصارى إلا فيهن ولا يمل على الروم أحد من ملوكهم حتى يكون قد دخله سرا أو جهرا، وكانت الشام متجر قريش وممتارها، وكان معظم عناية المسلمين من حملة مملكته بها، وقد أجلى عنهان واستبيحت خزائنه وأمواله التي كانت

فيها، ولم يخلفه أحد من القياصرة بعده إلى أن ينجز الله تمام وعده في فتح قسطنطينة آخر الزمان، فقد وردت الأخبار عن نبينا، صلى الله عليه وسلم، وسينجز الله وعده، ولا قوة إلا به.

(15) (باب: ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين ما سأل هوازن النبي، صلى الله عليه وسلم-برضاعه فيم- فتحلل من المسلمين)

(15) (باب: ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين ما سأل هوازن النبي، صلى الله عليه وسلم-برضاعه فيم- فتحلل من المسلمين) 686/ 3133 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب، حدثنا حماد، حدثنا أيوب، عن أبي قلابة، قال: وحدثني القاسم بن عاصم الكليني- وأنا لحديث القاسم أحفظ- عن زهدم، قال: كنا عند أبي موسى، فأتى بدجاجة، وعنده رجل من بني تيم الله احمر، كأنه من الموالين فدعاه للطعام، فقال إني رأيته يأكل شيئا فقذرته، فحلفت أن لا آكل، فقال: هلم، فلأحدثكم عن ذلك، إني أتيت النبي، صلى الله عليه وسلم، في نفر من الأشعريين نستحمله، فقال: (والله لا أحملكم، وما عندي ما أحملكم) وأتى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بنهب إبل،

فسأل عنا، فقال: (أين النفر الأشعريون)؟ فأمر لنا بخمس ذود غُر الذري، فلما انطلقنا قلنا: ما صنعنا؟ لا يبارك لنا، فرجعنا إليه فقلنا: إنا سألناك أن تحملنا، فحلفت أن لا تحملنا أفنسيت؟ فقال: (لست أنا حملتكم، ولكن الله حملكم، وإني والله (إن شاء الله) لا أحلف على يمين، فأرى غيرها خيرا منها، إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها). قوله: أتي بنهب، يريد بغنيمة. والنهب: المغنم. وكان أبو بكر الصديق، رضي الله عن، يوتر قبل النوم. يقول: أحرزت نهبي، وأبتغي النوافل. يريد: سهمه من الغنيمة. وقوله: غر الذرى، يريد أن ذرى الأسنمة منن بيض، أي من سمنهن، وكثرة شحومهن، والذرى: جمع الذروة، وذروة، كل شيء أعلاه. وقوله: وتحللتها، يريد الكفارة. يقال: تحلل الرجل في يمينه: إذا استثنى، فقال: إن شاء الله. قال النمر بن تولب:

*وأرسل أيماني ولا أتحلل* ومعنى التحلل: التفصي من عهدة اليمين، والخروج من حرمتها إلى ما يحل له منها، وقد يكون ذلك مرة بالاستثناء مع العقد، ومرة بالكفارة عند الحنث. وقوله: (لست أنا حملتكم ولكن الله حملكم) يحتمل وجوها: منها أن يكون قد أراد بذلك إزالة المنة عنهم، وإضافة النعمة فيها إلى الله تعالى ولو لم يكن له في ذلك صنع لم يكن لقوله: (لا

أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها) وجة. ويحتمل أن يكون معنى ذلك أنه قد كان أنسيبها، والناسي بمنزلة المضطر وفعله غير مضاف إليه، إنما يضاف إلى الله عز وجل، كما جاء في الصائم إذا أكل ناسيا، فإن الله أطعمه وسقاه. ويحتمل أن يكون معناه: أن الله قد حملكم حين ساق هذا النهب، ورزق هذا المغنم، فقد كنت عجزت عن حملكن إذا لم أحد ما أحملكم عليه، فلما رزق الله تعالى: وأغنم هذه الإبل لم يسعني أن أمنعكموها، فالله هو الذي حملكم، إذ يسر سببه، وأمكن منه، إذ ليس لي مال أحمد عليه أبناء السبيل، فيضاف ملكه إلي. إلا أن يرد عليه مال في ثاني/ الحال، فيعطيهم منه، ويحملهم عليه، وهذه وجوه مختلفة، ومعنى الحديث هو الوجه الأول، والله أعلم.

(الباب نفسه) 687/ 3134 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعث سرية فيها عبد الله قبل نجد، فغنموا إبلا كثيرة، وكانت سهامهم اثني عشر بعيرا، أو أحد عشر بعيرا، ونفلوا بعيرا. معنى النفل: عطية يخص بها الإمام من أبلى بلاء حسنا، وسعى سعيا حميدا، كالسلب إنما يعطي القاتل لغنائه وكفايته. واختلفوا من أين يعطى النقل؟ فقيل: إنه من رأس المغنم قبل أن يخمس. وقيل: بل هو من الخمس الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم، يضعه حيث أراه الله عز وجل من مصالح الدين، وهو معنى قوله عليه السلام: (مالي مما أفاء الله علي إلا الخمس، والخمس مردود عليكم).

(15) (الباب نفسه)

(15) (الباب نفسه) 688/ 3136 - قال أبو عبد الله: حدثنا محمد بن العلاء، قال: حدثنا أبو أسامة، قال: حدثنا يزيد بن عبد الله، عن أبي بردة، عن أبي موسى، قال: قدمنا على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حين افتتح خيبر من الحبشة، فأسهم لنا، أو قال: أعطانا منها، وما قسم لأحد غاب عن فتح خيبر منها شيئا لمن شهد معه، إلا أصحاب سفينتينا مع جعفر وأصحابه قسم لهم معهم. هذا يحتمل أن يكون إنما أعطاهم عن رضي ممن شهد الوقعة، فاستطاب نفوسهم عن تلك السهام لحاجتهم إليها. ويحتمل أن يكون قد أعطاهم من الخمس الذي هو حقه، وقد أسهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يوم بدر لعثمان، رضي الله عنه، وكان قد تخلف على ابنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لمرضها، وقال: إن عثمان في حاجة رسولك.

(16) (باب ما من صلى الله عليه وسلم على الأسارى من غير أن يخمس)

(16) (باب ما مَنَّ صلى الله عليه وسلم على الأسارى من غير أن يخمس) 689/ 3139 - قال أبو عبد الله: حدثنا إسحاق بن منصور، قال: أخبرنا عبد الرزاق، وقال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن محمد بن جبير، عن أبيه أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال في أساري بدر: (لو كان المطعم بن عدي حيا، ثم كلمني في هؤلاء/ النتنى لتركتهم له). هذا يدل على أن للإمام أن يمن على الأسارى من غير فداء ولا مال. والنتنى: جمع النتن، مثل زمن وزمنى. يقال: نتن الشيء ينتن فهو نتن وأنتن.

(18) (باب من لم يخمس الأسلاب، ومن قتل قتيلا فله سلبه من غير أن يخمس. وحكم الإمام فيه)

(18) (باب من لم يخمس الأسلاب، ومن قتل قتيلا فله سلبه من غير أن يخمس. وحكم الإمام فيه) 690/ 3142 - قال أبو عبد لله، حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن يحيى بن سعيد، عن ابن أفلح، عن أبي محمد- مولى أبي قتادة-، عن أبي قتادة .. وذكر قصة القتيل الذي قتله يوم حنين، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (من قتل قتيلا له عليه بينة، فله سلبه)، فقمت فقلت: من يشهد لي؟، ثم جلست، فقمت فقلت: من يشهد لي؟. فقال رجل: صدق يا رسول الله: وسلبه عندي، فأرضه عني. فقال أبو بكر: لاها الله، إذن لا يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله يعطيك قلبه. فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: (صدق) فأعطاه. قال: فبعت الدرع، فابتعت مخرفا في بني سلمة، وإنه لأول مال تأثلته. قوله: (لاها الله إذن) هكذا [يروونه]، وإنما هو في

كلامهم، لاها الله ذا، والهاء فيه بمنزلة الواو، كأنه يقول: لا والله يكون ذا، والمخرف: البستان، وسمي مخرفا لما يخترف من ثمار نخيله. وقوله: تأثلته، أي: اتخذته أصل مال، وأصل كل شيء أثلته.

(19) (باب ما كان النبي، صلى الله عليه وسلم، يعطي المؤلفة قلوبهم وغيره من الخمس ونحوه)

(19) (باب ما كان النبي، صلى الله عليه وسلم، يعطي المؤلفة قلوبهم وغيره من الخمس ونحوه) 691/ 3151 - قال أبو عبد الله: حدثنا محمود بن غيلان، قال: حدثنا أبو أسامة، قال: حدثنا هشام، قال: أخبرني، عن أسماء بنت بكر، قالت: كنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على رأسي، [وهي] مني على ثلثي فرسخ. وقال أبو ضمرة، عن هشام، عن أبيه، أن النبي، صلى الله عليه وسلم، أقطع الزبير أرضا من أموال بني النضير. قلت: أما إقطاع أرض المدينة فلست أدري يصح ذلك، وأهل المدينة أسلموا راغبين في الدين، وكل من أسلم

عن رغبة أحرز ماله وداره، والافتيات عليهم في أموالهم غير جائز، إلا أن يكون ذلك على الوجه الذي جاء فيه الأثر عن ابن عباس أن الأنصار جعلت لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، مالا يبلغه المأمن من أرضيهم، فيحتمل أن يكون/ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إنما أقطع الزبير أرضا منها، فأحياها الزبير وعمرها، وقد دل قول أسماء أنها كانت تنقل منها النوى، أنه كان فيها نخله، فلا ينكر أن يكون الزبير قد غرس فيها نخلا، فطالت، وبسقت، وأثمرت، لأن هذا الإقطاع إنما كان أيام حياة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقد بقي الزبير إلى أيام علي، رضي الله عنهما، وهلك يوم الجمل، ولعل تلك المدة، تقارب ثلاثين سنة أو نحوها، والنخل يثمر قبل هذه المدة وأرض المدينة منزه، والنخل يسرع نشوؤها في مثل ذلك المكان، وأما إقطاعه إياه من أرض بني النضير فوجه ذلك بين، وهو أن يكون ذلك من ماله وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، اصطفاها، فكان ينفق منها إلى أهله، ويرد فضلها في نوائب المسلمين، وقد روي عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أنه كان أعطاه الأنصار حين

دخوله المدينة، كل قبيلة منهم نخلات، فلما أجلي بنو النضير ردها إليهم، فلا يبعد أن يكون قد أقطع الزبير منها، والله أعلم

كتاب الجزية والموادعة والموادعة باب الجزية مع أهل الذمة والحرب

(58) (كتاب الجزية والموادعة والموادعة باب الجزية مع أهل الذمة والحرب) 629/ 3156 - قال أبو عبد الله: حدثنا علي بن عبد الله، قال: حدثنا سفيان، قال: سمعت عمرا، قال: كنت جالسا مع جابر ابن زيد، وعمرو بن أوس، [حدثهما] بجالة، قال: كنت كاتبا لجزء بن معاوية، عم الأحنف، فأتى كتاب عمر بن الخطاب قبل موته بسنة: فرقوا بين كل ذي محرم من المجوس، ولم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس. 639/ 3157 - حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أخذها من مجوس هجر.

يدل على أن رأيه، ورأي من معه من الصحابة في زمانه أن الجزية لا تقبل إلا من أهل الكتاب، ولو كانت الجزية في رأي الصحابة مقبولة من جميع أصناف أهل الكفر، لما كان لتوقف عمر، ومن معه في ذلك معنى. وأما أمره بالتفرقة بين كل ذي محرم؛ فإن السنة في أهل الذمة أن لا يكشفوا عن باطن أمورهم، وعما يستخلون به من مذاهبهم/ في الأنكحة، وفي غيرها من شأنم، وإنما وجه ما روي عن عمر من هذا أن يمنعوا من إظهاره للمسلمين، وإنشائه في مشاهدهم، وأن يشيدوا بذكرها كالإشادة بذكر أنكحه المسلمين، (إذا) عقدوها في المجالس التي يجتمعون فيها (للإملاك)،

وهذا كما شرط على النصارى أن لا يخرجوا شعانينهم، وأن لا يظهروا صلبهم لئلا، يفتتن بهم ضعفة المسلمين، ثم لا يكشف لهم عن شيء مما يستخلون به من باطن كفر، وفساد مذهب، هذا وجه الحديث ومعناه، والله أعلم.

(5) (باب إثم من قتل معاهدا بغير جرم)

(5) (باب إثم من قتل معاهدا بغير جرم) 469/ 3166 - قال أبو عبد الله: حدثنا قيس بن حفص، قال: حدثنا عبد الواحد، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا مجاهد، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: (من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاما). قوله: (لم يرح رائحة الجنة)، يريد: لم يجد ريحها. يقال: راح يراح، إذا وجد الريح. ويروى أيضا لم يرح- بضم الياء وكسر الراء- من أراح يريح، والأول أجود.

(12) (باب الموادعة والمصالحة مع المشركين بالمال وغيره، وإثم من لم يف بالعهد)

(12) (باب الموادعة والمصالحة مع المشركين بالمال وغيره، وإثم من لم يف بالعهد) 695/ 3173 - قال أبو عبد الله: حدثنا مسدد، حدثنا بشر- هو ابن المفضل، حدثنا يحيى، عن بشير بن يسار، عن سهل بن أبي حثمة، قال: انطلق عبد الله بن سهل، ومحيصة ابن مسعود بن زيد إلى خيبر، وهي يومئذ صلح، فتفرقا، فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل، وهو يتشحط في دمه قتيلا فدفنه، ثم قدم المدينة فانطلق عبد الرحمن بن سهل، ومحيصة، وحويصة ابنا مسعود إلى رسول الله، صلى الله عليه

وسلم، فذهب عبد الرحمن يتكلم، فقال: (كبر كبر) - وهو أحدث القوم- فسكت فتكلما، فقال: أتحلفون وتستحقون قاتلكم- أو صاحبكم؟ قالوا: وكيف نحلف، ولم نشهد، ولم نر؟ قال: فتبرئكم يهود بخمسين؟ فقالوا: كيف نأخذ أيمان قوم كفار؟ فعقله النبي، صلى الله عليه وسلم، من عنده. قلت: قد جعل النبي، صلى الله عليه وسلم، الحكم في القسامة خلاف/ الحكم في الأيمان لسائر الدعاوي، وذلك أنه بدأ فيها بالمدعين، ومن سنته أن تكون البينة على المدعي، واليمين على المدعي عليه، فلما أبى المدعون اليمين ردها على المدعى عليهم، فلما لم يرضوا بأيمانهم عقله من عنده، إذ كان من سنته أن لا يترك دم حرام هدرا، وهو عاقلة المسلمين، وولي أمرهم، ومما خالفت القسامة فيها سائر الدعاوي أنه اوجب في القسامة خمسين يمينا، وليس في شيء من الأحكام أكثر من يمين واحدة إلا في اللعان، فإن الزوجين يشهد كل واحد منهما بالله أربع شهادات، ومعناها: الأيمان، لأن الشاهد لا يكلف تكرير الشهادة، ولا يلزمه أن يقول في شهادته: أشهد بالله. والشهادات تختلف في الذكران والإناث، فيكون عدد الشهود في الإناث على لتضعيف، وهذه الأمور معدومة في أمر اللعان فدل على معنى هذه الشهادات الأيمان. وقد يستدل من يرى أن القسامة القصاص بقوله:

(وتستحقون قاتلكم أو صاحبكم). وإلي ذهب مالك. وذلك أن ظاهره نفس القاتل، دون الدية التي تؤخذ منه. فأما الشافعي فإنه لا يوجب فيها إلا الدية، ولا يرى الدعوى في القسامة مسموعة، حتى يكون هناك لوث، وهو شاهد حال يدل نوعا من الدلالة على صدق المدعين، وذلك مثل الحال في العداوة القائمة بين اليهود وبين المسلمين، والدار دار اليهود، لا يخالطهم فيها غيرهم، فيورك القتل عليهم، ووجد القتيل يتشحط في الدم بين ظهرانيهم، فتكاد هذه الدلائل تقضي بأنهم قتلته، فإذا لم يكن لوث لم تجب القسامة. وفي قوله: (كبر كبر)، أدب وإرشاد إلى أن الأكبر هو أولى بالتقدمة في الكلام، والتبدية بالإكرام. وقوله: يتشحط، أي: يضطرب في الدم.

(15) (باب ما يحذر من الغدر)

(15) (باب ما يحذر من الغدر) 696/ 3176 - قال أبو عبد الله: حدثنا الحميدي قال: حدثنا الوليد بن مسلم قال: حدثنا عبد الله بن العلاء بن زبر قال: (قال: سمعت بسر بن عبيد الله أنه سمع أبا إدريس) قال سمعت/ عوف ابن مالك قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وهو في قبة من أدم فقال: اعدد ستا بين يدي الساعة: موتى، ثم فتح بيت المقدس، ثم موتان يأخذ فيكم كقعاص الغنم، ثم استفاضة المال حتى يعطى الرجل مائة دينار فيظل ساخطا، ثم فتنة لا يبقى بيت من العرب إلا دخلته، ثم هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر فيغدرون فيأتونكم تحت ثمانين غابة، تحت كل غابة اثنا عشر ألفا. الموتان: الموت. يقال: وقع الموتان في الناس وفي المواشي ونحوها، ومثله الموات.

والقعاص: المعجل. يقال: أقعص الفارس الرجل: إذا طعنه فقتله في مكانه، ومات فلان قعصا: إذا أصابته ضربة (أو رمية) فمات على المكان. واستفاضة المال: كثرته، وأصله التفرق والانتشار. يقال: فاض الماء، وفاض الحديث واستفاض: إذا انتشر. والهدنة: الصلح. والإمام يهادن قوما من الكفار على أن لا يغزوهم مدة من الزمان، وبين الرجلين مهادنة، لا يعرض أحدهما لصاحبه، وبنو الأصفر هم الروم. والغابة أصلها الغيضة، فاستعيرت للرايات ترفع لرؤساء الجيوش، وشبه ما يشرع من الرماح بالغابة. وفي رواية أخرى: ثمانين غاية، والغاية: الراية.

(17) (باب إثم من عاهد ثم غدر)

(17) (باب إثم من عاهد ثم غدر) 697/ 3179 - قال أبو عبد الله: حدثنا محمد بن كثير، قال: حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن علي، رضي الله عنه، قال ما كبتنا عن النبي، صلى الله عليه وسلم، إلا القرآن وما في هذه الصحيفة. قال النبي، صلى الله عليه وسلم: (المدينة حرام ما بين عائر إلى كذا، فمن أحدث حدثا، أو آوى محدثا، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه عدل، ولا صرف. وذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلما، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل). /قد فسرنا أكثر ما في هذا الحديث فيما تقدم من الكتاب إلا قوله: (يسعى بذمتهم أدناهم) وهو أن يجير الواحد من المسلمين كافرا؛ كان المجير حرا، أو عبدا، أو امرأة، فإن جواره ماض، ليس لأحد منهم أن يخفر ذمته، وليس له أن يجبيره أبدا، لكن مدة معلومة، ولا له أيضا أن يعقد ذمة لأمة من الكفار، فإن ذلك يؤدي إلى تعطيل الجهاد، وأمن أهل الكفر، ولكن يكون ذلك منه للواحد، وللنفر منهم، والقبيلة إذا طلبوا الأمان، ليسلموا، أو يستمهلوا، لينظروا في أمورهم، أو نحو ذلك من أنواع المصلحة.

كتاب بدء الخلق

(59) (كتاب بدء الخلق) (1) (باب ما جاء في قوله تعالى: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه}) 698/ 3194 - قال أبو عبد الله: ومن كتابه- رحمه الله عليه- حدثنا قتيبة، قال: حدثنا مغيرة بن عبد الرحمن القرشي، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (لما قضى الله الخلق كتب في كتاب، فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي غلبت غضبي). قوله: (لما قضى الله الخلق)، يريد لما خلق الله الخلق. ومنه قول الله عز وجل: {فقضاهن سبع سنوات في يومين} أي: خلقهن، وكل صنعة وقعت في شيء على سبيل إتقان، وإحكام فهو قضاء. وأما قوله: (فهو عنده فوق العرش)، كان بعض أهل العلم، يقول: إن معناه دون العرش استعظاما، لأن يكون شيء من الخلق فوق عرش الله، وكان يحتج في ذلك بقوله تعالى: {إن

الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها} ومعناه فما دونها. والذي قاله المحققون في تأويل الآية قولان: أحدهما: أنه أراد بقوله: {فما فوقها} أي: أكبر منها في الذات وهو الظاهر. والآخر: فما فوقها في الصغر، لأن المطلوب ههنا والغرض الصغر. وقال بعضهم: فوق، يزاد في الكلام ويلغى، قوله تعالى: {فاضربوا فوق الأعناق} وفوق العنق: عظام الرأس، إنما معناه: فاضربوا الأعناق. وكقوله تعالى: {فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك} / وأجمعوا أن الابنتين ترثان الثلثين، فلم يكن لحرف فوق فيه أثر. قلت: وهذا أيضا، لا يتوجه في معنى الحديث، لأنك إذا نزعت منه هذا الحرف وألغيته لم يصح معنى الكلام، لأنه لا يجوز أن يقول: (فهو عنده العرش)، كما يصلح أن يقال: فإن كن

نساء اثنتين، وكما يقول: فاضربوا الأعناق، والقول فيه- والله أعلم- أنه أراد بالكتاب أحد شيئين: إما القضاء الذي قضاه وأوجبه، كقوله تعالى: {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي}، أي: قضى الله وأوجبه، ويكون معنى قوله: فهو عنده فوق العرش، أي: فعلم ذلك عند الله فوق العرش، لا ينساه، ولا ينسخه ولا يبدله، كقوله عز وجل: {قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى}. وإما أن يكون أراد بالكتاب اللوح لمحفوظ، الذي فيه ذكر أصناف الخلق والخليقة، وبيان أمورهم، وذر آجالهم وأرزاقهم، والأقضية النافذة فيهم، ومآل عواقب أمورهم، ويكون معنى قوله: فهو عنده فوق العرش، أي: فذكره عنده فوق العرش، وتضمن فيه الذكر أو العلم، وكل ذلك جائز في الكلام، سهل في التخريج على أن العرش خلق الله عز وجل مخلوق ولا يستحيل أن يمسه كتاب مخلوق، فإن الملائكة الذين هم حملة العرش، قد روي أن العرش على كواهلهم، وليس يستحيل أن يماسوا العرش إذا حملوه، وإن كان حامل العرش، وحامل حملته في الحقيقة هو الله، جل وعز.

وليس معنى قول المسلمين: إن الله على العرش، هو أنه تعالى مماس، له أو متمكن فيه. أو متحيز في جهة من جهاته، لكنه بائن من جميع خلقه، وإنما هو خبر جاء به التوقيف، فقلنا به، ونفينا عنه التكييف إذ {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}.

(4) (باب صفة الشمس والقمر)

(4) (باب صفة الشمس والقمر) 699/ 3200 - قال أبو عبد الله: حدثا مسدد حدثنا عبد العزيز بن المختار، قال: حدثنا عبد الله الداناج، قال:/ حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: (الشمس والقمر مكوران يوم القيامة). معنى التكوير في الشيء البسيط: لف بعضه، على بعض كالثوب، ونحوه، وهكذا قال أهل التفسير في قوله عز وجل: {إذا الشمس كورت} قالوا: جمع ضوؤها، ولفت كما تلق العمامة. يقال: كرت العمامة على رأسي أكورها كورا، وكورتها تكويرا: إذا لفقتها. قلت: وقد روي في هذا الحديث زيادة لم يذكرها أبو عبد الله، أخبرنا ابن الأعرابي، قال: حدثنا عباس الدوري، قال: حدثنا يونس بن محمد، قال: حدثنا عبد العزيز بن المختار، عن عبد الله الداناج، قال: شهدت أبا

سلمة بن عبد الرحمن بن عوف في جامع البصرة، وجاءه الحسن، فجلس إليه، قال: فحدث. قال: حدثنا أبو هريرة، عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (إن الشمس والقمر ثوران مكوران في النار يوم القيامة) قال: فقال الحسن كلاما، فقال: إني أحدث عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: فسكت الحسن. وقد سألوا فقالوا: ما ذنب الشمس والقمر؟ والجواب: أنه ليس كونهما في النار عقوبة لهما، ولكنه تعيير

وتبكيت لعبدتهما الذين عبدوهما في الدنيا، ليعلموا أن عبادتهم إياهما كانت باطلا، ورأيهم في ذلك رأيا فائلا. قلت: وهذا كما سألوا فيما روي من قوله، صلى الله عليه وسلم: (الذباب كله في النار). فقالوا: وما ذنب الذباب؟ والمعنى في ذلك ليكون عقوبة لأهل النار، يتأذون بها، كما يتأذون بالحيات والعقارب التي في النار نعوذ بالله من سخطه، وأليم عذابه.

(5) (باب ما جاء في قول تعالى: {وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته})

(5) (باب ما جاء في قول تعالى: {وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته}) 700/ 3206 - قال أبو عبد الله: حدثنا مي بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن جريج، عن عطاء عن عائشة، رضي الله عنها: قالت: كان النبي، صلى الله عليه وسلم إذا رأى مخيلة في السماء أقبل، وأدبر، ودخل وخرج، وتغير وجهه فعرفته عائشة ذلك، فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: (وما أدري لعله ما قال قوم عاد: {فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم} الآية. المخيلة: السحابة التي/ يخال بها المطر، وهي الخال أيضا. يقال: رأيت خالا في السماء. وقوله: سري عنه، يريد: كشف عنه ما خامره من الوجل. يقال: سروت الثوب عني، وسروت الجل عن الفرس: إذا نزعته عنه.

(6) (باب ذكر الملائكة)

(6) (باب ذكر الملائكة) 701/ 3207 - قال أبو عبد الله: حدثني هدبة بن خالد، قال: حدثنا همام، عن قتادة، قال: حدثنا أنس بن مالك، عن مالك بن صعصعة، قال: قال النبي، صلى الله عليه وسلم: (بينا أنا عند البيت، بين النائم واليقظان، فأتيت بطست من ذهب .. وذكر حديث المعرج إلى أن قال: فأتينا السماء السادسة، فأتيت على موسى فسلمت، فقال: مرحبا بك من أخ ونبي، فلما جاوزت بكي، فقيل: ما أبكاك؟ قال: يا رب هذا الغلام الذي بعث بعدي، يدخل الجنة من أمته أفضل مما يدل من أمتي، وساق الحديث. قد وقع أطراف من هذا الحديث في مواضع متفرقة من هذا الكتاب، على حسب ترتيب مصنفه، وذكرت معانيها في مواضعها، والذي يشكل معناه من هذا الفصل بكاء موسى عليه السلام. وقوله: (يارب هذا الغلام الذي بعث بعدي يدخل الجنة من

أمته أفضل مما يدخل من أمتي)، ولا يجوز أن يتأول بكاؤه على معنى المحاسبة والمنافسة فيما أعطيه من الكرامة، فإن ذلك لا يليق بصفات الأنبياء، وأخلاق الأجلة من الأولياء، وإنما بكى صلى الله، عليه وسلم، لنفسه وأمته حين بخس الحظ منهم، إذ قصر عددهم عن مبلغ عدد أمة محمد، صلى الله عليه وسلم، وذلك من ناحية الشفقة على أمته، وتمني الخير لهم، وقد يليق هذا بصفات الأنبياء وشمائلهم. والبكاء على ضروب: فقد يكون مرة من حزن وألم، ومرة من استنكار، أو عجب. وتارة من سرور وطرب. وأما قوله: هذا الغلام، فإنه ليس على معنى الازدراء به، والاستصغار لشأنه، إنما هو على معنى تعظيم المنة لله عليه، فيما أناله من النعمة، وأحقه له من الكرامة من غير طول عمر بلغه في عبادته، وأفناه مجتهدا في طاعته، وقد تسمي العرب الرجل المستجمع/ السن غلاما ما دامت فيه بقية من قوة، وذلك في لغتهم مشهور.

(الباب نفسه) 702/ 3208 - قال أبو عبد الله: حدثنا الحسن بن الربيع، قال: حدثنا أبو الأحوص، عن الأعمش، عن زيد بن وهب، قال: قال عبد الله: حدثنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو الصادق، المصدوق، قال: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثمم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكا، ويؤمر بأربع كلمات، ويقال له: اكتب عمله، ورزقه، وأجله، وشقى، أم سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، وإن الرجل منكم ليعمل حتى ما يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع، فيسبق عليه كتابه، يعني: فيعمل بعمل أهل النار، ويعمل حتى ما يكون بينه وبين النار إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة.

قوله: (يجمع خلقه في بطن أمه)، جاء تفسيره عن ابن مسعود؛ حدثنا أبو العباس الأصم، قال: حدثنا السري بن يحيى، قال: حدثنا قبيصة، قال: حدثنا عمار بن [رزيق]، قال: قلت للأعمش: ما يجمع في بطن أمه؟ قال: حدثني خيثمة، قال: قال عبد الله: إن النطفة إذا وقعت في الرحم، فأراد الله أن يخلق منها بشرا، طارت في بشر المرأة تحت كل ظفر وشعر، ثم تمكث أربعين ليلة، ثم تنزل دماً في الرحم،

فذلك جمعها. وفي الحديث: بيان أن ظاهر الأعمال من الحسنات والسيئات أمارات، وليس بموجبات، وأن مصير الأمور في العاقبة إلى ما سبق به القضاء، وجرى ب القدر في التأدية.

(الباب نفسه) 703/ 3222 - قال أبو عبد الله: حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا محمد بن أبي عدي، عن شعبة، عن حبيب بن أبي ثابت، عن زيد بن وهب، عن أبي ذر، قال: قال النبي، صلى الله عليه وسلم: (قال لي جبريل: من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة، ولم يدخل النار). فيه: إثبات دخول، ونفي دخول، وكل واحد منهما متميز عن الآخر بنعت ووقت، والمعنى: أن من مات على الإسلام من أهل هذه الصفة، فإن مصيره الجنة، يبقى/ فيها خالدا، وإن ناله قبل ذلك من العقوبات ما ناله. وأما قوله: ولم يدخل النار، فمعناه: دخول التخليد فيها على التأبيد، وإنما تأولنا الحديث على هذا الوجه، لئلا تبطل معاني الآيات والأحاديث الكثيرة التي جاءت في الوعيد مع صحة مخارج تلك الأحاديث، وعدالة نقلتها، وسبيلنا أن نتحرى التوفيق [بين] الآي المختلفة بترتيب بعضها على بعض، لأن الله عز وجل يقول: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلاقا كثيرا} فأخبر أن الاختلاف عن القرآن منفي، وليس يمكن نفي

الاختلاف عنه إلا بهذا الوجه، فعلمنا أنه واجب، وكذلك سبيل الأحاديث التي هي بيان الكتاب، إذا صحت مخارجها لم يجز عليها التناقض والاختلاف، فكان الواجب أن يسلك بها الآي المختلفة في الظاهر، لئلا تتناقض، ولا تتهاتر.

(7) (باب إذا قال أحدكم: {آمين} والملائكة في السماء فوافقت إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه}

(7) (باب إذا قال أحدكم: {آمين} والملائكة في السماء فوافقت إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه} 704/ 3226 - قال أبو عبد الله: حدثنا أحمد بن صالح، قال: حدثنا ابن وهب، قال: أخبرنا عمرو، أن بكير بن الأشج، حدثه أن بسر بن سعيد، حدثه أن زيد بن خالد الجهني، حدثه أن أبا طلحة، حدثه أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: (لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة) قال بسر: فمرض زيد بن خالد، فعدناه، فإذا نحن في بيته بستر فيه تصاوير. فقلت لعبيد الله الخولاني، وكان معنا حين حدثه زيد بن خالد بهذا الحديث: ألم تحدثنا في التصاوير؟ فقال: إنه قال: إلا رقم في ثوب أل سمعته؟ قلت: لا. قال: بلى، قد ذكر. قلت: أصل الرقم الكتابة، يقال: رقمت الكتاب أرقمه

رقماً. ومنه قول الله عز وجل: {كتاب مرقوم} والصورة غير الرقم ولعله أراد أن الصورة المنهي عنها إنما هي ما كان له شخص ماثل دون ما كان منسوجا في ثوب، أو معمولا في وجهه، وقد ذهب إليه قوم، ولكن حديث القاسم بن محمد، عن عائشة يفسر هذا التأويل، وقد ذكرناه فيما مضى.

(الباب نفسه) 705/ 3231 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: حدثني/ عروة، عن عائشة أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: (انطلقت وأنا مهموم، إذا عرضت نفسي على ابن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فناداني ملك الجبال، فسلم علي، ثم قال: يا محمد: إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين. قال النبي، صلى الله عليه وسلم: (بل أرجوا أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله، لا ويشرك به شيئا). الأخشبان: جبلا مكة، وسميا أخشبين لصلابتهما، وغلظ حجارتهما، ورجل أخشب: إذا كان صلب العظام، عاري اللحم.

(7) (الباب السابق نفسه)

(7) (الباب السابق نفسه) 706/ 3133 - قال أبو عبد الله: حدثنا حفص بن عمر، قال: حدثنا شعبة، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله: {لقد رأى من آيات ربه الكبرى}، قال: رأى رفرفا خضرا، سد أفق السماء. الرفرف: يقال: إنها ثياب خضر تبسط، واحدتها رفرفة. وفي القرآن: {متكئين على رفرف خضر}. قيل: إنها رياض الجنة، وقيل: هي الوسائد. ويقال: رفرف الثوب: ماثني منه. والذي أريد بالرفرف هنا الثياب الخضر، وقد جاء في بعض الروايات أنه رأى جبريل في حلتي رفرف، قد ملأ ما بين السماء والأرض. وقد يحتمل أن يكون أراد بالرفرف أجنحته، وأنه بسطها كما تبسط الثياب، والله أعلم.

(7) (الباب السابق نفسه)

(7) (الباب السابق نفسه) 707/ 3238 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: حدثنا الليث، قال: حدثني عقيل، عن ابن شهاب، سمعت أبا سلمة، قال: أخبرني جابر بن عبد الله أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم، يقول في قصة المبعث: (ثم فتر الوحي، فبينا أنا أمشي سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري قبل السماء، فإذا الملك الذي جاءني بحراء قاعد على كرسي، بين السماء والأرض، فجئت منه حتى هويت إلى الأرض، فأتيت أهلي فقلت زملوني زملوني، فأنزل الله تعالى: {يا أيها المدثر}. قوله: (جئت من)، معناه: رعبت. جئت الرجل وجث بمعنى واحد، فهو مجؤوث ومجثزث، أي: مرعوب.

(8) (باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة)

(8) (باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة) 708/ 3245 - قال أبو عبد الله: حدثنا محمد بن مقاتل/، قال: حدثنا عبد الله، قال: أخبرنا معمر، عن همام بن مببه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (أول زمرة تلج الجنة، صورهم، على صورة القمر ليلة البدر، لا يبصقون فيها، ولا يمتخطون، ولا يتغوطون، آنيتهم فيها الذهب، وأمشاطهم من الذهب والفضة، ومجامرهم الألوة ورشحهم المسك). الألوة: العود الذي يتبخر به. وأخبرني أبو عمر، عن أبي العباس، عن ابن الأعرابي: واللية: البخور. 709/ 3246 - قلت: وفي رواية أخرى، ذكرها أبو عبيد الله على أثره: (ووقود مجامرها الألوة (8)، كأنه أراد به الجمر الذي يطرح عليه البخور.

ويورى لأعرابي وقف على قبر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حدثان وفاته، فقال: هلا دفنتم رسول الله في سفط .... من الألوة أحوى ملبساً ذهبا.

(10) (باب صفة النار وأنها مخلوقة)

(10) (باب صفة النار وأنها مخلوقة) 710/ 3259 - قال أبو عبد الله: حدثنا محمد بن يوسف، قال: حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن ذكوان، عن أبي سعيد، قال: قال النبي، صلى الله عليه وسلم: (أبردوا بالصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم). الإبراد: أن تفيء الأفياء، وينكسر وهج الحر ويسمى ذلك بردا بالإضافة إلى حر الظهيرة. وفيح جهنم: سطوع حرها، وارتفاع لهيبها، وقد يحتمل أن يكون أراد به المثل، فشبه بحر جهنم، يحذرهم أداة وضرره. يقول: كما تحذرون فيح جهنم، فاحذروا حر الظهيرة وأذاها.

(10) (الباب نفسه)

(10) (الباب نفسه) 711/ 3267 - قال أبو عبد الله: حدثنا علي، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا الأعمش، عن أبي وائل، عن أسامة، قال: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: (يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتابه في النار، فيدور كما يدور الحمار برحاه، فيجامع أهل النار عليه فيقولون: أي، فلان ما شأنك؟ ألست تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه). قوله: فتندلق أقتابه، معناه: تندر/، وتسقط من جوفه. ومنه قولهم: اندلق السيف من غمده، إذا خرج من غير أن يسل. ويقال: أدلقته، فاندلق بسرعة. والأقتاب: الأمعاء، واحدها: قتب.

(11) (باب صفة ابليس وجنوده).

(11) (باب صفة ابليس وجنوده). 712/ 3268 - قال أبو عبد الله: حدثنا إبراهيم بن موسى، قال: أخبرن عيسى، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، قالت: سحر النبي، صلى الله عليه وسلم، وقال الليث: كتب إلى هشام أنه سمعه، ووعاه عن أبيه عن عائشة، قالت: سحر النبي، صلى الله عليه وسلم، حتى كان يخيل إليه أن يفعل الشيء وما يفعله، حتى كان ذات يوم دعا ودعا، قم قال: أشعرت أن الله أفتاني فيما فيه شفائي؟، أتاني رجلان، فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي فقال أحدهما للآخر: ما وجع الرجل؟ قال: مطبوب. قال: ومن طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم. قال: فبماذا؟ قال: في مشط، ومشاقة،

وجف طلعة ذكر. قال: فأن هو؟ قال: في بئر ذروان، فخرج إليها النبي، صلى الله عليه وسلم، ثم رجع فقال لعائشة: نخلها كأنها رؤوس الشياطين. فقال: استخرجته؟ فقال: (لا. أما أنا؛ فقد شفاني الله، وخشيت أن يثير ذلك على الناس شرا)، ثم دفنت البئر.

كتاب الطب

(76) (كتاب الطب) (49) (باب هل يستخرج السحر؟) 713/ 5765 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن محمد، قال: سمعت أبن ع يينة، يقول: حدثنا به ابن جريج، قال: حدثني آل عروة، عن عروة، فسأل هشاما عنه، فحدثنا عن أبيه، عن عائشة: كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، سحر، حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن .... وذكر الحديث. وقال: (في مشط ومشاطة). وقال فيه: فأتى البئر، حتى استخرجه وقالت عائشة: فقلت: أفلا، أي: تنشرت؟ فقال: أما الله فقد شفاني وأكره أن أثير على أحد من الناس شرا). قول: مطبوب، يريد مسحور، والطب: السحر، والمشاطة: ما يخرج من الشعر، والمشاقة: مشاقة الكتان

وجف الطلعة: قشرها الذي يدعى الكفرى. وأما قوله في نخلها: (كأنه رؤوس الشياطين) ففيه قولان: أحدهما: أنه مستدقه كرؤوس الحيات، والحية يقال لها: الشيطان. والآخر: /أنها وحشة المنظر، سمجة الأشكال، كأنها فيما يتصور استبشاعا لها، واستقباحا لصورها، رؤوس الشياطين، المشوهة، الخلق، الهائلة المنظر. وقد أنكر قوم من أصحاب الطبائع السحر، وأبطلوا حقيقته، ودفع آخرون من أهل الكلام هذا الحديث، وقالوا: لو جاز أن يعمل في نبي الله السحر، أو يكون له فيه تأثير، لم يؤمن أن يؤثر ذلك فيما يوحى إليه من أمور الدين والشريعة، ويكون في ذلك ضلال الأمة. والجواب: أن السحر ثابت وحقيقته موجودة، وقد اتفق أكثر

الأمم؛ من العرب، والفرس، والهند، وبعض الروم، على إثباته، وهؤلاء من أفضل سكان واسطة الأرض، وأكثرهم علما وحكمة، وقد ذكر الله عز وجل أمر السحر في كتابه في قصة سليمان، وما كان الشياطين يعملونه من ذلك، ويعلمون الناس منه، فقال: {ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت}، وأمر بالاستعاذة منه، فقال: {ومن شر النفاثات في العقد} ورد في ذلك عن النبي، صلى الله عليه وسلم، وعن الصحابة، رضي الله عنهم، أخبار كثيرة، لا ينكرها لكثرتها إلا من أنكر العيان، وجحدوا الضروة، ولذلك فرع الفقهاء في كتبهم من الأحكام في السحرة وما يلزمهم من العقوبات فيما يأتونه من أفعالهم، كما فعلوه في سائر الجنايات التي يقترفها الجناة من أهل العبث والفساد، ولا يبلغ مالا أصلا له، ولا حقيقة هذا المبلغ من الشهرة والاستفاضة، فنفي السحر جهل، والاشتغال بالرد على من نفساه لغو وفضل. فأما ما زعموه من دخول الضرر على النبوة من أجل إثبات السحر، وتأثيره في أهلها، ووقوع الوهن في أمرها، فليس الأمر في ذلك على ما قدروه، والأنبياء صلوات الله عليهم يجوز عليه من الأعراض والعلل، ما يجوز على غيرهم إلا فيما خصهم الله به من العصمة في أمر الدين الذي أرصدهم/ له، وبعضهم به، وليس تأثير السحر في أبدانهم بأكثر من القتل، وتأثير السم والأمراض.

وعوارض الأسقام فيهم، وقد قتل زكريا، وابنه يحيى عليهما السلام، وسم نبينا، صلى الله عليه وسلم في الشاة التي أهديت له بخيبر، وقال آخر عمره: (ما زالت أكلة خيبر تعادني، فهذا أوان قطعت أبهري). وقال عبد الله بن مسعود: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محموم فقلت: يا رسول الله! إنك لتوعك وعكا. فقال (أجل. إني أوعك وعك رجلين منكم). فلم يكن شيء مما ذكرنا قادحا في نبوتهم، ولا دافعا لفضيلتهم، وإنما هو امتحان وابتلاء. وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنا معشر الأنبياء يضاعف علينا البلاء، كما يضاعف لنا الثواب) أو ما يقال. ولم يكن أحد يلقى من عداوة الشيطان وكيده ما يلقاه النبي،

صلى الله عليه وسلم، وقد أخبر الله تبارك وتعالى في محكم كتابه أن الشيطان يكيد الأنبياء أشد الكيد، ويعرض لهم بأبلغ ما يكون من العنت، فقال: {وما أرسلنا من قبلك من رسول الله ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته} أي: في قراءته، كيدا له، وتلبيسا على أمته. وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه شريك بن طارق: ما من احد منكم إلا وله شيطان. فقيل: ولك يا رسول الله؟ فقال: (ولي إلا أن الله أعانني عليه فأسلم). والسحر من عمل الشيطان، يفعله في الإنسان بنفثه، وهمزه ووسوسته ويتولاه الساحر بتعليمه إياه، ومعونته عليه، فإذا تلقاه عنه استعمله في غيره بالقول، والنفث في العقدة. وللكلال والقول تأثير بين في النفوس والطباع، ولذلك صار الإنسان يحمى ويغضب إذا سمع الكلام المكروه، وربنا حم الإنسان يحمى ويغضب إذا سمع الكلام المكروه، وربما حم الإنسان من غم يصيبه، وبقول يسمعه، وقد مات فيم رويناه من الأخبار قوم بكلام سمعوه، ولقول امتعضوا منه، ولولا أن يطول الكتاب لذكرنا منها أخبارا بأسانيدها، وعزينا إلى أصحابها.

فأما ما يتعلق من أمره صلى الله عليه وسلم بالنبوة، فقد/ عصمه الله في ذلك، وحرس وحيه أن يلحقه الفساد والتبديل، وإنما كان يخيل إليه من أنه يفعل الشيء ولا يفعله في أمر النساء خصوصا، وفي إتيان أهله قصرة، إذا كان قد أخذ عنهن بالسحر، دون ما سواه من أمر الدين والنبوة، وهذا من جملة ما تضمنه قوله عز وجل: {فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه} الآية. فلا ضرر إذن مما لحقه من السحر على نبوته، ولا نقص فيما أصابه منه على دينه وشريعته، والحمد الله على ذلك. وقوله: ألا تنشرت، فإن النشرة معروفة، وهي ضرب من علاج المصاب بمس الجن، وعمل السحر، ينشر به ذلك القارض تنشيرا، وقد يجلل صاحبه بصبوب من مياه مختلفة المواضع، ينفث فيه، ويرقى به، وقد كرهه غير واحد من العلماء.

وأخبرني أبو محمد الكراني، قال: حدثنا عبد الله بن شبيب، قال: حدثنا زكريا بن يحيى المنقري، قال: حدثنا الأصمعي، قال: قال أبو عمرو بن العلاء: النشرة:

سحر. وأنشد لجرير: أدعوك دعوة [ملهوف])، كأن به .... مسا من الجن أو ريحا من النشر - النهاية -

(59) (كتاب بدء الخلق)

(59) (كتاب بدء الخلق) (11) (باب صفة إبليس وجنوده) 714/ 3269 - قال أبو عبدالله؛ حدَّثنا إسماعيل قال: حدَّثني أخي , عن سليمان , عن يحيى بن سعيد , عن سعيد بن المسيَّب , عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال؛" يعقِدُ الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عُقدٍ ", وذكر الحديث. قافيةُ الرأس: القَفَا , وقافية كل شئ: آخره , ومنه قافية الشِّعر وهو ما يقفُو البيت من آخر حروفه.

(11) (الباب نفسه)

(11) (الباب نفسه) 715/ 3273 - قال أبو عبدالله: حدَّثنا محمد قال: أخبرنا عبدةُ , عن هشام بن عروة , عن أبيه , عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إذا طلع حاجب الشمس فأخِّروا الصلاة حتى تبرُزَ وإذا غاب حاجِبُ الشمس فَدَعوا الصلاة حتى تغيب ". 716/ 3273 - ولا تحيَّنوا بصلاتكم طلوع الشمسِ ولا غُروبها , فإنها تطلع بين قرني شيطانِ/أو الشيطان ". قوله:" بين قرني شيطان" يتأول على وجوه ,أحدها أن الشيطان ينتصب في محاذاة مطلع الشمس حتى إذا طلعت كانت بين فودي رأسه وهما قرناه , أي جانبا رأسه , فتقع العبادة له إذا سجدت عبدة الشمس لها. وقيل: إن قرن الشيطان: جمعه وأصحابه , وكل نشوء زمان قرن. وقيل: معنى القرن: القوة. من قولك: أنا مقرن لهذا

الأمر , أي: مطيق له , قوي عليه. والقرون لذوات القرون كالأسلحة. يقول: إن الشمس تطلع حين قوة الشيطان واستحواذه على عبدة الشمس. وقيل: إن معنى القرن في هذا اقترانه بها , والوجه الأول أشبه لانتظامه معنى التثنية في القرنين.

(الباب نفسه) 717/ 3276 - قال أبو عبدالله: حدثنا يحيى بن بكير قال: حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ يقول: من خلق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينتهِ ". قلت: وفي رواية محمد بن سيرين , عن أبي هريرة زيادة لم يذكرها أبو عبدالله لا يستغنى عنها في بيان معنى الحديث. حدثنا ابن السماك قال: حدثنا عبد الملك بن محمد الرقاشي قال: حدثنا أبو عامر العقدي قال: حدثنا سعيد بن عبد الرحمن , عن محمد بن سيرين , عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يزال الناس يتساءلون حتى يقولوا:

هذا الله خلق الخلق. فمن خلق الله؟ قال أبو هريرة: فقد سئلت اليوم عنها مرتين. وحدثنا ابن السماك قال: حدثنا محمد بن سليمان الواسطي قال: حدثنا معلى بن أسد قال: حدثنا وهيب , عن أيوب عن محمد , عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لا يزال الناس يسألون عن العلم حتى يقولوا: هذا الله خلقنا , فمن خلق الله؟ قال: فبينما أبو هريرة ذات يوم آخذ بيد رجل وهو يقول: صدق الله ورسوله صدق الله ورسوله. قال أبو هريرة: لقد سألني عنها رجلان وهذا الثالث. قلت:/ وجه الحديث ومعناه ترك الفكر فيما يخطر بالقلب من وساوس الشيطان , والامتناع من قبولها واللياذ بالله عز وجل في الاستعاذة منه والكف عن مجاراته في حديث النفس ومطاولته في

المحاجة والمناطرة والاشتغال بالجواب على ما يوجبه حق النظر في مثله لو كان المناظر عليه بشرا وكلمك في مثل هاك فإن من ناظرك وتسمع كلامه ويسمع كلامك لا يمكنه أن يغالطك فيما يجري بينكما من الكلام حتى يخرجك من حدود النطر ورسوم الجدل فإن باب السؤال والجواب وما يجري فيه من المعارضة والمناقضة معلوم والأمر فيه محدود محصور , فإذا رعيت الطريقة وأصبت الحجة وألزمتها خصمك انقطع وكفيت مؤنته وحسمت شغبه , وباب ما يوسوس به الشيطان إليك غير محدود ولا متناه لأنك كلما ألزمته حجة , وأفسدت عليه مذهبا راغ إلى نوع آخر من الوساوس التي أعطي التسليط فيها عليك فهو لا يزال يوسوس إليك حتى يؤديك إلى الحيرة والضلال فأرشد النبي صلى الله عليه وسلم عندما يعرض من وساوسه في هذ الباب إلى الإستعاذة بالله من شره والانتهاء عن مراجعته وحسم الباب فيه بالإعراض عنه والاستعاذة بذكر الله والإشتغال بأمر سواه , وهذا حيلة بليغة وجنة حصينة يخزى معها الشيطان ويبطل كيده. قلت: ولو أراد النبي صلى الله عليه وسلم محاجته وأذن في مراجعته والرد عليه فيما يوسوس به لكان الأمر على كل موحد سهلاً في قمعه وإبطال قوله , فإنه لو يقدر أن يكون السائل عن مثل هذا واحدا من البشر لكان جوابه والنقض عليه متلقى من سؤاله ومأخوذا

من فحوى كلامه وذلك انه اذا قال: هذا الله خلق فمن الذي خلقه؟ فقد نقض بأول كلامه آخره وأعطى أن لا شئ يتوهم دخوله تحت هذه الصفة من ملك وإنس/ وجن ونوع من أنواع الحيوان الذي يتأتى منه فعل لأن جميع ذلك واقع تحت اسم الخلق ,فلم يبق للمطالبة مع هذا محل ولا قرار. وأيضا فلو جاز على هذه المقدمة أن يسأل فيقال من خلق الله؟ فيسمى شئ من الأشياء يدعى له هذا الوصف للزم أن يقال: ومن خلق ذلك الشئ ولامتدّ القول في ذلك إلى مالا يتناهى , والقول بما لا يتناهى فاسد , فسقط السؤال من أصله. ومما كان يقال) لمن) يسأل هذا السؤال إنما وجب إثبات الصانع الواحد لما اقتضاه أوصاف الخليقة من سمات الحدث الموجبة أن لها محدثا فقلنا إن لها خالقا ونحن لم نشاهد الخالق عيانا فنحيط بكنهه ولم يصح لنا أن نصفه بصفات الخلق فيلزمنا أن نقول إن له خالقا , والشاهد لا يدل على مثله في الغائب , وإنما يدل على فعله , والاستدلال إنما يكون بين المختلفات دون المشتبهات, والمفعول لا يشبه فاعله في شئ من نعوته الخاصة, فبطل ما يقع في الوهم من اقتضاء خالق لمن خلق الخلق كله , ولو صرنا نكثر في هذا لدخلنا في نوع ما نهينا عنه فيما رويناه من الحديث فإذن ننتهي إلى ما أمرنا به من حسم هذا الباب في مناظرة الشيطان لجهله وقلة إنصافه وكثرة شغبه ,

وقد تواصى الحكماء فيما دونوه ورسموه من حدود الجدل وآداب النطر بترك مناظرة من هذا صفته وأمروا بالسكوت والإعراض عنه.

(الباب نفسه) 718/ 3280 - قال أبو عبدالله: حدثنا يحيى بن جعفر قال حدثنا محمد بن عبدالله الأنصاري قال: أخبرني ابن جريج قال: أخبرني عطاء , عن جابر , عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا استجنح أو كان جنح الليل فكفوا صبيانكم فإن الشياطين تنتشر حينئذ , فإذا ذهبت ساعة العشا فخلوهم وأغلق بابك واذكر اسم الله وأطفئ مصباحك واذكر اسم الله وأوك سقاءك واذكر اسم الله وخمّر إناءك واذكر اسم الله ولو تعرض عليه شيئا. قوله: استجنح. هو أن تقبل ظلمة الليل وجنح الليل أول ما يظلم. /وقوله: خمر إناءك. يريد غط رأسه وقوله:"ولو تعرض عليه شيئا ", يريد إن لم تطبقه بغطاء فلا أقل من أن تعرض عليه شيئا ,يقال: عرضت العود على الإناء أعرضه بكسر الراء في قول عامة الناس إلا الأصمعي فإنه كان يقول: أعرضه , مضمومة الراء خاصاً في هذا.

(الباب نفسه) 719/ 3288 - قال أبو عبدالله: وقال الليث (حدثني) خالد ابن يزيد , عن سعيد بن أبي هلال أن أبا الأسود أخبره عن عروة , عن عائشة , عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" الملائكة تحدث في العنان- والعنان: الغمام, بالأمر يكون في الأرض, فتسمع الشياطين الكلمة فتقرها في أذن الكاهن , كما تقر القارورة فيزيدون معها مائة كذبة ". العنان: قد فسر في الحديث أنه الغمام. وقوله:" فتقرها في أذن الكاهن ", كما تقر القارورة. قال ابن الأعرابي يقال: قررت الكلام في أذن الأبكم إذا وضعت فمك على سماخه فنفثته فيه. وقوله:" كما تقر القارورة ",يريد: تطبيق رأس القارورة برأس الوعاء الذي يفرغ منه فيها.

(الباب نفسه) 720/ 3289 - قال أبو عبد الله: حدثنا عاصم بن علي قال: حدثنا ابن أبي ذئب , عن سعيد المقبري ,عن أبيه , عن أبي هريرة , عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "التثاؤب من الشيطان , فإذا تثاءب أحدكم فليرده ما استطاع. فإن أحدكم إذا قال: ها , ضحك الشيطان ". معنى هذا الكلام تحذير السبب الذي يتولد منه الثوباء وهو التوسع في المطعم والإستكثار من الأكل حتى تكتظ به المعدة فيكون من الثوباء , وإنما أضيف إلى الشيطان لأنه هو الذي يدعو الإنسان إلى إعطاء النفس شهوتها من الطعام ويزين له ذلك , فإذا قال: "ها" يعني بالغ في التثاؤب ضحك الشيطان فرحاً بذلك.

(الباب نفسه) 721/ 3292 - قال أبو عبد الله: حدثني سليمان بن عبدالرحمن قال: حدثنا الوليد قال: حدثنا الأوزاعي قال حدثني يحيى ابن أبي كثير قال: حدثني عبدالله بن أبي قتادة/ , عن أبيه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الرؤيا الصالحة من الله والحلم من الشيطان ,فإذا حلم أحدكم فليبصق عن يساره , وليتعوذ بالله من شرها فإنها لا تضره " قوله: "الرؤيا الصالحة من الله " ,يريد أنها بشارة من الله يبشر بها عبده ليحسن به ظنه , ويكثر عليها شكره, وأراد بالحلم الرؤيا الكاذبة التي يريها الشيطان الإنسان ليحزنه فيسوء ظنه بربه ويقلّ حظه من شكره ولذلك أمره أن يبصق عن يساره ويتعوذ بالله

من شرها كأنه يقصد به طرد الشيطان وإخزاءه. يقال: حلم الرجل يحلم حلماً إذا رأى في منامه شيئاً, وحلم يحلم حلماً إذا توقّر فلم يخفَّ إذا سمع ما يكره, وحلم الأديم يحلم إذا أصابه فساد قبل أن يدبغ.

(15) (باب خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال)

(15) (باب خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال) 722/ 3302 - قال أبو عبدالله: حدثنا مسدد قال: حدثنا يحيى ,عن إسماعيل قال: حدثني قيس ,عن عقبة بن عمرو وأبي مسعود قال: أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده نحو اليمين فقال:" الإيمان (يمانٍ) هاهنا ألا إن القسوة وغلظ القلب في الفدَّادين عند أصول أذناب الإبل حيث يطلع قرنا الشيطان في ربيعة ومضر ". قوله:" الإيمان يمانٍ ",ثناءٌ على أهل اليمن لإسراعهم إلى الإيمان وحسن قبولهم إياه. وجعله يمانيا لظهوره من شقِّ اليمن, ولذلك قيل الركن اليماني ,يُراد الركن الذي يلي شقَّ اليمن , وكما قال الشاعر:

* وسُهيلٌ إذا استقلَّ يمان ٍ * يريد: طلوعه من قبل اليمن. وقد رويَ في هذا الحديث من غير هذه الرواية: " أتاكم أهل اليمن ألين قلوباً وأرقُّ أفئدة ً " يريد -والله اعلم - بلين القلب سرعة خلوص الإيمان إلى قلوبهم وحسن قبولهم له. ويقال: الفؤاد غشاء القلب , والقلب حبَّتُه وسويداؤهُ وإذا رقَّ الغشاء أسرع نفوذ الشئ إلى ما وراءه. وقوله: " وغلظ القلوب في الفدَّادين " , فإن الفدَّادين يُفسّر على وجهين: أحدهما: أن يكون جمعاً للفدَّاد وهو شديد الصوت / من الفديد وذلك من دأب أصحاب الإبل ومن يعالجها من أهلها وهذا إذا رويته بتشديد الَّدال من فدَّ يفدُّ: إذا رفع صوته.

والوجه الآخر: أنه جمع الفدَّان وهو آلة الحرث؛ السّكّة وأعوادها , وذلك إذا رويتها بتخفيف الدَّال يريد أهل الحرث , وإنما ذمَّ ذلك وكرهه لأنه يشغل عن أمر الدين ويلهي عن الآخرة فيكون معها قساوة القلب.

(15) (باب خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال)

(15) (باب خير مال المسلم غنمٌ يتبع بها شعف الجبال) 723/ 3308 - قال أبو عبدالله: حدثني عبيد بن إسماعيل قال: حدثنا أبو أسامة , عن هشام , عن أبيه , عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اقتلوا ذا الطُّفيتين فإنه يلتمس البصر ويصيب الحبل". أراد بذي الطُّفيتين من الحيَّة التي في ظهرها خطَّان كالخوصتين. ويقال: الطُّفى خوص المقل وهو شرُّ الحيَّات فيما يُقال.

وقوله: يلتمس البصر. قال أبو سعيد الضرير: معناه يطمس البصر. وقوله: يصيب الحبل , هو أنها إذا لحظت الحامل أسقطت.

(الباب نفسه) 724/ 3309 - قال أبو عبدالله: حدثنا مُسدَّدٌ قال: حدثنا يحيى ,عن هشام قال: حدثني أبي ,عن عائشة: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الأبتر وقال:" إنه يصيب البصر ويذهب الحبل ". قلت: هذا يؤكد تفسير أبي سعيد في اللمس أنه طمسُ البصر. والأبتر حيَّةٌ قصيرة الذنب , والبتر: شِرار الحيَّات.

(15) (الباب نفسه)

(15) (الباب نفسه) 725/ 3312 - 726/ 3313 - وذكر عن مالك بن إسماعيل عن جرير بن حازم , عن نافع , عن ابن عمر أنه كان يقتل الحيَّات , فحدثه أبولبابة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل جنَّان البيوت فأمسك عنها. يقال: إن الجِنَّان هذه الحيَّات الطِّوال البيض وقلَّ ما تضرُّ شيئاً فلذلك أمسك عن قتلها.

كتاب أحاديث الأنبياء

(60) (كتاب أحاديث الأنبياء) (1) (باب خلق آدم وذرِّيته) 727/ 3327 - قال أبو عبدالله: حدثنا قتيبة قال: حدثنا جرير عن عمارة , عن أبي زرعة , عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة أهل الجنة:" أمشاطهم الذهب ورشحهم المسك ومجامرهم الألوَّة والأنجوج عود الطيب. قد فسرنا الألوَّة في حديث قبل هذا وهو العود , والأنجوج: هو الألنجوج. ويقال له أيضاً يلنلجوج وهو عود الطيب.

(الباب نفسه) /728/ 3330 قال أبو عبد الله: حدثنا بشر بن محمد قال أخبرنا عبدالله قال اخبرنا معمر عن همام , عن أبي هريرة , عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه. يعني لولا بنو إسرائيل لم يخنزِ اللحم ولولا حوَّاء لم تخُن أنثى زوجها. قوله: لم يخنزِ اللحم , معناه لم يَنتُن. يقال: خنز اللحم يخنزُ وخَزُنَ يخزَنُ إذا أنتن وتغيَّر.

(الباب نفسه) 729/ 3335 - قال أبو عبدالله: حدثنا عمر بن حفص بن غياث قال: حدثنا أبي قال: حدثنا الأعمش قال: حدثني عبدالله بن مرَّة ,عن مسروق , عن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لا تُقتل نفسٌ ظلماً إلا على ابن آدم الأول كفلٌ من دمها لأنه أول من سنَّ القتل". الكِفل: النصيب. ومنه قول الله عز وجل: (يؤتكم كفلين من رحمته).

(2) (باب الأرواح جنود مجندة)

(2) (باب الأرواح جنودٌ مُجنَّدة) 730/ 3336 - قال أبو عبدالله: وقال الليث , عن يحيى بن سعيد عن عمرة , عن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" الأرواح جنودٌ مُجنَّدة, فما تعارف منها ائتلف , وما تناكر منها اختلف ". هذا يتأول على وجهين: أحدهما: أن يكون إشارةً إلى معنى التشاكل في الخير والشر والصلاح والفساد. فإن الخير من الناس يحنُّ إلى شكله والشرير يميل إلى نظيره ومثله , فالأرواح إنما تتعارف لغرائب طباعها التي جُبلت عليها من الخير والشرِّ, فإذا اتفقت الأشكال تعارفت وتآلفت وإذا اختلفت تنافرت وتناكرت , ولذلك صار الإنسان يُعرف بقرينه ويُعتبر حالهُ بأليفه وصحيبه.

والوجه الآخر: أنه إخبارٌ عن بدء الخلق في حال الغيب على مارُوِيَ في الأخبار أن الله خلق الأرواح قبل الأجسام فكانت تلتقي فتشامُّ , فصار كلٌ منها إنما يُعرف ويُنكر على ما سبق له من العهد المُتقدِّم والله أعلم.

(6) (باب قول الله تعالى

(6) (باب قول الله تعالى: (وإلى عادِ أخاهم هوداً قال يا قومِ اعبُدُوا الله) 731/ 3344 - قال أبو عبدالله: وقال ابن كثير. عن سفيان, عن أبيه , عن ابن أبي (نُعم ٍ) , عن أبي سعيدٍ قال: بعث عليٌّ إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذهيبة ٍ, فقسمها بين أربعة ٍ: الأقرع/ بن حابس الحنظليِّ ,ثم المُجاشعي , وعُيينة بن حصن الفزاري وزيدٍ الطائي ,

ثم أحد بني نبهان وعلقمة بن علاثة العامري ,ثم أحد بني كلاب ,فغضبت قريش والأنصار قالوا: يعطي صناديد أهل نجد ويدعنا. قال:"إنما أتألَّفهم ",فأقبل رجل غائر العينين مشرف الوجنتين ,ناتئ الجبين ,كثُّ اللحية, محلوقٌ , فقال: اتق الله يا محمد. فقال:"من يطيعُ الله إذا عصيت؟ , أيامنني الله على أهل الأرض ولا تأمنوني؟ فسأله رجل قتله ,أحسبه خالد بن الوليد ,فمنعه ,فلما ولَّى قال:" إنه من ضئضئ هذا أو قال في عقب هذا: قوم يقرءون القرآن , لا يجاوز حناجرهم ,يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية ,يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان لئن أنا أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد ". الصناديد: الرؤساء ,واحدهم صنديد , والضئضئ هاهنا النسل والعقب إذا كثروا. وقوله:" لا يجاوز حناجرهم", أي: لا يرفع في الأعمال الصالحة. وقوله:" يمرقون من الدين "المروق النفوذ حتى يخرج من الطرف الآخر والدين هاهنا الطاعة , يريد أنهم يخرجون من طاعة

الأئمة كما يخرج السهم من الرمية وهذا نعت الخوارج الذين لا يدينون الأئمة ويخرجون على الناس يستعرضونهم بالسيف. فإن قيل: أليس قد قال:" لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد", فكيف لم يدع خالداً أن يقتله وقد أدركه؟ قيل: إنما أراد به إدراك زمان خروجهم إذا كثروا , وامتنعوا بالسلاح ,فاعترضوا الناس بالسيف ولم تكن هذه المعاني مجتمعة إذ ذاك , فيوجد الشرط الذي علَّق به الحكم , وإنما أنذر صلى الله عليه وسلم بأن سيكون ذلك في الزمان المستقبل وقد كان , كما قال صلى الله عليه وسلم , وأول ما نجم من ذلك في أيام علي بن أبي طالب رضي الله عنه ثم اتصل إلى زماننا هذا. والذُّهيبة: إنما أنَّثها على نيِّة القطعة من الذهب وقد يؤنث الذهب في بعض / اللغات.

(8) (باب قول الله تعالى: (واتخذ الله إبراهيم خليلا)

(8) (باب قول اللهِ تعالى: (واتخذ الله إبراهيم خليلا ً) 732/ 3349 - قال أبو عبدالله: حدثنا محمد بن كثير قال: أخبرنا سفيان قال: حدثنا المُغيرة بن النعمان قال: حدثني سعيد بن جبير , عن ابن عباس, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إنكم محشورون حُفاة ً عُراة ً غُرلا ً", ثم قرأ: (كما بدأنا أول خلق ٍ نُعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين). وأول من يُكسا يوم القيامة إبراهيم , وإن ناساً من أصحابي يؤخذ منهم ذات الشمال ,فأقول: يعني أُصيحابي. فيقول: إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم فأقول كما قال العبد الصالح: (وكنت عليهم شهيداً مادمت فيهم) إلى قوله: (فإنك أنت العزيز الحكيم).

قوله:" غُرلا ً" وهو جمع الأغرل وهو الأقلف ومثله الأرغل بتقديم الراء على الغين. وقوله:" مازالوا مرتدِّين على أعقابهم ", لم يُرد به الردّة عن الإسلام, ولذلك قيِّده بقوله: على أعقابهم , وإنما يُعقل من الارتداد الكفر إذا أًُطلق من غير تقييدٍ ومعناه التخلف عن بعض الحقوق الواجبة والتأخر عنها كقولك: نكص على فلانٌ على عقبيه. وقولك: ارتدَّ على عقبه إذا تراجع إلى وراءٍ ولم يرتدَّ بحمد الله ومنِّه أحدٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما ارتدَّ قومٌ من جُفاة العرب الذين كانوا دخلوا في الإسلام أيام حياته رغبة ً ورهبة ً كعُيينة بن حصن جيء به أبا بكرٍ أسيراً وبالأشعث بن قيس فلم يقتلهما ولم يسترقّهُما , فعاودا الإسلام بعد , وإنما توعَّد الله عز وجل بالخلود في النار من مات على ارتداده فقال: (ومن يرتدد منكم عن دينه فيمُت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون). وقوله:" أُصحابي" ,إنما صغَّر ليدل بذلك على قلَّة عدد من هذا وصفه.

(الباب نفسه) 733/ 3350 - قال أبو عبدالله: حدثنا إسماعيل بن عبدالله قال: حدثني أخي عبدالحميد ,عن ابن أبي ذئب, عن سعيد المقبري/, عن أبي هريرة , عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترةٌ وغَبَرةٌ فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك لا تعصني؟ فيقول أبوه: فاليوم لا أعصيك. فيقول إبراهيم: رب إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون ,فأيُّ خزي ٍ أخزى من أبي الأبعد؟ فيقول الله: إني حرّمت الجنة على الكافرين ,ثم يقول يا إبراهيم: ما تحت رجلك؟ فينظر فإذا بِذيخ ٍ مُلتَطخ ٍ فيؤخذ بقوائمه فيُلقى في النار ". الذَّيخُ: ذكرُ الضِّباع. قال الشاعر: وذِفرَى كَكَاهلِ ذِيخِ الخَلِيفِ أصاب فريقَةَ ليل ٍ فعَاثَا

(8) (باب قول الله تعالى: (واتخذ الله إبراهيم خليلا)

(8) (باب قول الله تعالى: (واتخذ الله إبراهيم خليلا ً) 734/ 3358 - قال أبو عبدالله: حدثنا محمد بن محبوب قال: حدثنا حماد بن زيد ,عن ايوب, عن محمد ,عن ابي هريرة وذكر حديث سارة وأنها لما أدخلت على ذلك الجبار, فذهب يتناولها بيده فأُخذ فقال: ادعي الله لي ولا أضرك ,فدعت الله فأُطلق , فأخدمها هاجر , قال أبو هريرة: تلك أمكم يا بني ماء السماء. قوله: "أخدَمها هاجر" ,يريد أنه وهب لها خادماً وهي هاجر. وقوله: يا بني ماء السماء ,يريد؛ العرب وذلك أنهم يعيشون بماء السماء يتبعون مواقع القطر في بواديهم. ويقال: إنه إنما أراد زمزم أنبطها الله لهاجر فعاشوا به فصاروا كأنهم أولادها.

(9) (باب يزفون: النسلان في المشي)

(9) (باب يزفُّون: النسلان في المشي) 735/ 3364 - قال أبو عبدالله: حدثنا عبدالله بن محمد قال: حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمرٌ ,عن أيوب السَّختياني وكثير ابن كثير بن المطلب بن أبي وداعة يزيد أحدهما على الآخر, عن سعيد ابن جبير قال ابن عباس. . وذكر قصة هاجر وإسماعيل وأنها عطشت وعطش ابنها وجعلت تنظر إليه يتلَّوى أو يتلبَّط , , وذكر الحديث إلى أن قال: فمرَّت بهم رفقةٌ من جُرهُم , فنزلوا في أسفل مكة فرأوا طيرا عائفاً فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على ماء لعهدنا بهذا الوادي وما فيه من ماء فأرسلوا جَريَّاً أو جَرِيين فإذا هم بالماء فرجعوا فأخبروهم بالماء فأقبلوا فنزلوا معهم حتى إذا كان بها أهل أبياتٍ منهم وشبَّ الغلام وتعلَّم العربية منهم وأنفسهم, فلما أدرك زوَّجوه امرأةً منهم , وجاء إبراهيم بعدما تزوَّج إسماعيل يُطالع ترِكتَه. . وذكر القصة بطولها. قوله: يتلَّوى , معناه يتقلَّب ظهراً لِبطن ٍ.

وقوله: يتلبَّط , يريد: أنه كان يتصرَّع مًتقلباً من جنب إلى جنب من قولك: لبطت الرجل , إذا صرعته ولبط به إذا ضرب به الأرض. والعائف من الطير هو الذي يتردّد على الماء يحوُمُ ولا يمضي. يقال: عاف الطائر يعيفُ عيفاً , ومن زجر الطير عاف يعيف عيافة ً , والجريُّ هاهنا الرسول والجريُّ الأجير أيضاً وهو الوكيل أيضاً. وقوله: أنفسهم معناه أعجبهم , فرغبوا في مصاهرته. وقوله: يُطالع تركته , يريد: ولده والأصل في ذلك بيض (النعام) تتركها بالعراء فتُسمَّى تَركَة ً وتَرِيكة ً.

(9) (باب يزفون: النسلان في المشي)

(9) (باب يزفُّون: النَّسلان في المشي) 736/ 3365 - قال أبو عبدالله: وحدثنا عبد الله بن محمد قال: حدثنا أبو عامر قال: حدثنا إبراهيم بن نافع ,عن كثير بن كثير ,عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس رضي الله عنه. . وذكر القصة وقال فيها: فخرج يعني إبراهيم بإسماعيل وبأمه ومعهم شنَّةٌ فيها ماء , وأن الماء فني , ذهبت - يعين هاجر-,فصعدت الصفا , فنظرت هل تُحِسُّ أحداً, فلم تُحِسَّ أحداً. قال: فنظرت فإذا الصبي كأنه ينشغ للموت. الشَّنَّة: القِربة البالية , والنَّشغ: الشهيق من ناحية الصدر حتى يكاد يبلغ الغشيَ.

(10) (باب)

(10) (باب) 737/ 3366 - قال أبو عبد الله: حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا عبد الواحد قال: حدثنا الأعمش قال: حدثنا إبراهيم التيمي , عن أبيه قال: سمعت أبا ذرٍّ قال: قلت يا رسول الله أيُّ مسجد في الأرض أول؟ قال: المسجد الحرام. قلت: ثم أيّ؟ قال المسجد الأقصى. قلت: كم كان بينهما؟ قال: أربعون سنة ً ,ثم أينما أدركتك/ الصلاة فصلِّ. قلت: يُشبه أن يكون المسجد الأقصى أول ماوضع بناءه بعض أولياء الله قبل داود وسليمان , ثم بناه سليمان وداود وزادا فيه فدسّعاه فأضيف إليهما بناؤه لأن المسجد الحرام بناه إبراهيم

عليه السلام وبينه وبين داود وسليمان عدَّةٌ من الأنبياء: ابنه إسحاق ويعقوب ويوسف وموسى صلوات الله عليهم ومدَّة أعمار هؤلاء القرون أكثر من أربعين سنة ً , بل أضعافها , فليس وجه الحديث إلا ما قلناه والله أعلم. وقد نُسب هذا المسجد إلى إيليا والله اعلم أهو اسم من بناه أم غيره ولست أحُقُّ المعنى في إضافته إليه.

(10) (باب)

(10) (باب) 738/ 3371 - قال أبو عبدالله: حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال: حدثنا جرير ,عن منصور ,عن المنهال , عن سعيد ابن جبير ,عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يُعوِّذُ الحسن والحسين ويقول: إن أباكما كان يُعوِّذُ بهما إسماعيل وإسحاق: أعوذ بكلمات الله التامة من شر كل شيطان وهامة , ومن كل عينٍ لامّة. كلمات الله التامة تمامها إنما هو فضلها وبركتها وأنها تمضي وتستمر لا يردُّها شيٌ ولا تخفق معها طلِبةٌ. والهامّة: الواحدة من الهوامّ ذوات السموم. واللامّة: ذات اللحم وهي كل داءٍ وآفةٍ تلمُّ بالإنسان من خَبَلٍ وجنونٍ ونحوهما.

(11) (باب قول الله عز وجل: (ونبئهم عن ضيف إبراهيم إذ دخلوا عليه)

(11) (باب قول الله عزّ وجلّ: (ونبِّئهم عن ضيف إبراهيم إذ دخلوا عليه) 739/ 3372 - قال أبو عبدالله: حدثنا أحمد بن صالح قال: حدثنا ابن وهب قال: أخبرني يونس ,عن ابن شهاب عن أبي سلمة ابن عبد الرحمن وسعيد بن المسيب , عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" نحن أحقُّ بالشَّكِّ من إبراهيم إذا قال: (ربِّ أرني كيف تُحيي الموتى؟ قال: أو لم تؤمن؟ قال: بلى ولكن ليطمئن قلبي) , ويرحم الله لوطاً لقد كان يأوي إلى ركن شديدٍ , ولو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي". مذهب هذا الحديث التواضع والهضم من النفس وليس في قوله:" نحن أحقُّ بالشَّكِّ من إبراهيم " , اعتراف بالشك على نفسه , ولا على إبراهيم عليه السلام , لكن ففيه نفيُ الشك عن

كل واحد /منهما يقول: إذا لم أشكُّ أنا ولم أُرتب في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى فإبراهيم أولى بأن لا يشكَّ فيه وأن لا يرتاب, وفيه الإعلام أن المسألة من قِبَل إبراهيم لم تعرض من جهة الشك , لكن من قِبَل طلب زيادة العلم واستفادة معرففة كيفية الإحياء ,والنفس تجد من الطمأنينة بعلم الكيفية مالا تجده بعلم الآنيَّة والعلم في الوجهين حاصل والشك مرفوع. وقد قيل: إنما طلب الإيمان بذلك حسًّا وعياناً لأنه فوق ماكان عليه من الاستدلال والمُستدلُّ لا يزول عنه الوساوس والخواطر. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ليس الخبر كالمعاينة",وحُكِىَ لنا عن ابن المبارك في قوله: (ولكن ليطمئن قلبي) قال: ليرى من أدعوهم إلى طاعتك منزلتي منك ومكاني فيجيبوني إلى طاعتك. وقوله: "لو لبثثُ في السجن طول مالبث يوسف لأجبت الداعي",يريد بذلك قوله: (ارجع إلى ربك فاسأله مابال النسوة اللاتي قطعن أيديهن) , فلم يُسرع الإجابة إلى الخروج حين أُذن له في ذلك لئلا يكون سبيله سبيل المُذنب يُمنُّ عليه بالعفو, وأراد أن يُقيم الحُجَّة عليهم في حبسهم إياه ظُلماً, فأراد رسول الله

صلى الله عليه وسلم تفضيله بذلك ,والثناء عليه بحسن الصبر وقوَّة العزم والتواضع ,لا يُصغِّر كبيراً ,ولا يضع رفيعاً ولا يُبطل لذي حقٍّ حقّا , ولكنه يوجب لصاحبه فضلاً , ويكسبه جلالاً وقدراً.

(17) (باب قول الله تعالى: (وإلى ثمود أخاهم صالحا)

(17) (باب قول الله تعالى: (وإلى ثمود أخاهم صالحاً) 740/ 3381 - قال أبو عبدالله: حدثنا عبدالله قال: حدثنا وهبٌ قال: حدثنا أبي ,سمعت يونس, عن الزهري, عن سالم أن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم مثل ما أصابهم ". قوله:" أن يصيبكم",أضمر ففيه الحذر, أي: حذراً أن يصيبكم مثل ما أصابهم كقولك: لا تقرب الأسد أن يفترسك ,أي: حذراً أن يفترسك , وأراد بالقوم الذين ظلموا أنفسهم قوم ثمود لما مرَّ صلى الله عليه وسلم بديارهم في غزوة تبوك. /وفي معناهم سائر الأمم التي نزلت بها مثلات الله عز وجلَّ.

(20) (باب قول الله تعالى: (وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين)

(20) (باب قول الله تعالى: (وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين) 741/ 3391 - قال أبو عبدالله: حدثنا عبدالله بن محمد الجعفي قال: حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر, عن همام, عن أبي هريرة ,عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"بينما أيوب يغتسل عرياناً خرَّ عليه رجل من جرادٍ من ذهبٍ, فجعل يحثي في ثوبه فناداه ربُّه يا أيوب: ألم أكن أغنيتك عمَّا ترى؟ قال: بلى يارب ولكن لا غنى بي عن بركتك". يقال: هذا رجل من جرادٍ, أي: جماعة من الجراد ,كما يُقال: سِربٌ من الظِّباء ,وعانةٌ من الحمير, وخيطٌ من النعام من أسماء الجماعات التي لا واحد لها من لفظها. وفيه دليلٌ على أن من نُثِرَ عليه دراهم أو نحوها في إملاك أو نحوه كان أحقَّ بما نُثِرَ عليه إن شاء أخذها لنفسه وإن شاء جعلها لغيره.

(24) (باب قول الله تعالى: (وهل أتاك حديث موسى)

(24) (باب قول الله تعالى: (وهل أتاك حديثُ موسى) (وكلَّم الله موسى تكليماً) 742/ 3394 - قال أبو عبدالله: حدثنا إبراهيم بن موسى قال: حدثنا هشام بن يوسف ,قال: حدثنا معمر, عن الزهري, عن سعيد بن المسيب, عن أبي هريرة قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أُسريَ به: فرأيت موسى فإذا رجلٌ ضرب كأنه من رجال شنوءة ورأيت عيسى فإذا هو رجلٌ ربعة أحمر كأنه خرج من ديماس.

الضرب من الرجال: الخفيف اللحم , والديماس: السرب. ويقال: أراد به الحمَّام , يريد بذلك إشراق لونه ونضارته.

(27) (باب حديث الخضر مع موسى عليهما السلام)

(27) (باب حديث الخضر مع موسى عليهما السلام) 743/ 3401 - قال أبو عبد الله: حدثنا علىٌّ قال: حدثنا سفيان قال: حدثنا عمرو بن دينار قال: أخبرني سعيد بن جبير , عن ابن عباس ,عن أُبيِّ بن كعب ,عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة موسى والخضر عليهما السلام قال:" فمرَّت بهما سفينةٌ, فكلَّموهم أن يحملوهم ,فعرفوا الخضر, فحملوه بغير نولٍ .. وذكر الحديث. قوله:"بغير نولٍ", يريد بغر أجر, والنَّول: الأجر, والنَّوال: العطية.

(27) (باب حديث الخضر مع موسى عليه السلام)

(27) (باب حديث الخضر مع موسى عليه السلام) 744/ 3402 - قال أبو عبد الله: حدثنا محمد بن سعيد بن الأصبهاني قال: أخبرنا ابن المبارك , عن معمرٍ ,عن همَّام ابن مُنبِّه , عن أبي هريرة ,عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إنما سُمِّى الخضر لأنه جلس/على فروةٍ بيضاء فإذا هي تهتزُّ خضراء." الفروة: جلدة وجه الأرض أنبتت فصارت خضراء بعد أن كانت جرداء. ويقال: بل أراد به الهشيم من نبات الأرض اخضرَّ بعد يبسه وبياضه.

(29) (باب (يعكفون على أصنام لهم)

(29) (باب (يعكفون على أصنامٍ لهم) 745/ 3406 - قال أبو عبد الله: حدثنا يحيى بن بكير قال: حدثنا الليث ,عن يونس, عن ابن شهاب ,عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ,عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نجني الكَبَاث وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: عليكم بالأسود منه. فإنه أطيبه قالوا: أكنت ترعى الغنم؟ قال: وهل من نبيّ إلا رعاها؟ الكبَاث: ثمرُ الأراك ويقال له البرير. وقوله:"وهل من نبي إلا رعاها؟ "يريد أن الله عز وجل لم يضع النُبوُّة في المُتملِّكة وأبناء الدنيا والمترفين منهم وإنما جعلها في رِعاء الشاء وأهل التواضع من أصحاب الحِرَف, كما رُوِيَ أن أيوب كان خياطاً. وزكريا نجاراً, وقد قصَّ الله علينا من نبأ موسى وشعيب واستئجاره إياه في رعية الغنم والله أعلم حيث يجعل رسالته.

(31) (باب وفاة موسى , وذكره بعده)

(31) (باب وفاة موسى , وذكره بعده) 746/ 3409 - قال عبد الله: حدثنا عبد العزيز بن عبدالله قال: حدثنا إبراهيم بن سعد , عن ابن شهاب ,عن حميد بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" احتج آدم وموسى فقال له موسى: أنت آدم الذي أخرجتك خطيئتك من الجنة. قال له آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه, ثم تلومني على أمر قُدِّرَ علىَّ قبل أن أُخلق؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فحجَّ آدم موسى مرَّتين ". قلت: إنما حَجَّةُ آدم في دفع اللوم ,إذ ليس لأحدٍ من الآدميين أن يلوم أحداً ,وقد جاء في الحديث:"انظروا إلى الناس كأنكم عبيدٌ ولا تنظروا إليهم كأنكم أربابٌ",فأما الحُكم الذي تنازعاه فهما في ذلك على السواء لا يقدر أحد أن يُسقط الأصل الذي هو القدر ولا أن يُبطل الكسب الذي هو السبب ومن فعل واحداً

منهما خرج عن القصد إلى أحد الطرفين من مذهب/القدر أو إلى الجبر. وفي قول آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه, ثم تلومني على أمر قُدِّرَ علىَّ قبل أن أُخلق استقصار لعلم موسى يقول: إذ جعلك الله بالصفة التي أنت بها من الاصطفاء بالرسالات والكلام فكيف يسعك أن تلومني على القدر المقدور الذي لا مدفع له. فقال صلى الله عليه وسلم:"فحجَّ آدم موسى".وحقيقته أنه دفع حجة موسى التي ألزمه بها اللوم وذلك أن الابتداء بالمسألة والاعتراض إنما كان من موسى. لم يكن من آدم إنكار لما اقترفه من الذنب وإنما عارضه بأمر كان فيه دفع اللوم, مكان أصوب الرأيين ما ذهب إليه آدم بعصيه المصطفى صلى الله عليه وسلم وقد كنا تأولنا الحديث على غير هذا المعنى في كتاب معالم السنن وهذا أولى الوجهين والله أعلم.

(35) (باب قوله تعالى: {وإن يونس لمن المرسلين}

(35) (باب قوله تعالى: {وإن يونس لمن المُرسلين} إلى قوله: {فمتَّعناهم إلى حين} 747/ 3416 - قال أبو عبدالله: حدثنا أبو الوليد قال: حدثنا شعبة , عن سعد بن إبراهيم , سمعت حميد بن عبد الرحمن , عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لا ينبغي لعبدٍ أن يقول: أنا خير من يونس بن متَّى ". قوله:" لا ينبغي أن يقول: أنا خير من يونس بن متَّى ",يريد ليس لعبد أن يُفضِّل نفسه على يونس. ويحتمل أن يكون أراد: لا ينبغي لأحد أن يُفضِّلني عليه , وإنما خصَّ يونس لأن الله عز وجل لم يذكره في جملة أولي العزم من الرسل. وقال: (ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم) وقال: (وذا النون إذ ذهب مغاضباً فظنَّ أن لن نقدر

عليه) الآية .. فقصَّر به عن مراتب أولي العزم والصبر من الرسل. يقول صلى الله عليه وسلم: إذا لم يكن آذن لكم أن تفضِّلوني على يونس فلا يجوز لكم أن تُفضِّلوني على غيره من ذوي العزم من أجلَّة الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين وهذا منه صلى الله عليه وسلم على مذهب التواضع أيضاً والهضم من النفس وليس بِمُخالفٍ لقوله:" أنا سيد ولد آدم " لأنه لم يقل ذلك مُفتخراً ولا متطاولاً/به على الخلق إنما قال ذاكراً للنعمة ومعترفاً بالمِنَّة فيه وأراد بالسيادة ما يُكرَّم به في القيامة من الشفاعة وقد ذكرنا هذا فيما تقدَّم من الكتاب.

(48) (باب (واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها)

(48) (باب (واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها) 748/ 3439 - قال أبو عبدالله: حدثنا إبراهيم بن المنذر قال: حدثنا أبو ضمرة قال: حدثنا موسى ,عن نافع قال عبد الله: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بين ظهري الناس المسيح الدَّجال فقال: إن الله ليس بأعور إلا أن المسيح الدَّجَّال أعور العين اليمنى كأن عينه عنبةٌ طافية. العنبة الطافية: هي الحبة الكبيرة التي خرجت عن حد نبتة أخواتها في العنقود , يريد أن حدقته قائمة كذلك.

(الباب نفسه) 749/ 3442 - قال أبو عبدالله: حدثنا أبو اليمان قال: أخبرنا شعيب. عن الزهري قال: أخبرني أبو سلمة أن أبا هريرة قال: سمعت رسول الله عليه وسلم يقول:"أنا أولى الناس بابن مريم والأنبياء أولاد علَّات ليس بيني وبينه نبيٌّ". أولاد العلَّات: الأخوة من أب واحد , (وأمهات شتَّى). وأولاد الأعيان: الأخوة من أب واحد وأم واحدة, يريد أن أصل دين الأنبياء واحد, وإن كانت شرائعهم مختلفة, كما أن أولاد العلَّات أبوهم واحدٌ وإن كانت أمهاتهم شتَّى.

(الباب نفسه) 750/ 3445 - قال أبو عبدالله: حدثنا الحميدي قال: حدثنا سفيان قال: سمعت الزهري يقول: أخبرني عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس سمع عمر يقول على المنبر: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبده ,فقولوا: عبد الله ورسوله. الإطراء: المدح بالباطل وذلك أنهم دعوه ولداً لله ,سبحانه وتعالى عما يشركون , واتخذوه إلها وذلك من إفراطهم في مدحه ,واطرائه ولهذا المعنى والله أعلم يهضم نفسه في الأحاديث التي تقدَّم ذكرها فقال:" لا تفضلوني على يونس بن متَّى" شفقاً أن يطرُوهُ وأن يقولوا فيه الباطل.

(49) (باب نزول عيسى ابن مريم عليهما السلام)

(49) (باب نزول عيسى ابن مريم عليهما السلام) 751/ 3448 - قال أبو عبد الله: حدثنا إسحاق/قال: حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال: حدثنا أبي, عن صالح , عن ابن شهاب أن سعيد بن المسيب سمع أبا هريرة قال: (قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم:"والذي نفسي بيده ليُوشكنَّ أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً عدلاً, فيكسر الصليب, ويقتل الخنزير, ويضع الحرب. ويفيض المال حتى لا يقبله أحدٌ". قلت: معنى قتل الخنزير ,تحريم اقتنائه وأكله. وفيه دليل على نجاسة عينه وأن سؤره محرَّم ,والشيء الطاهر المنتفع به لا يؤمر بقتله وإتلافه. ومعنى "وضع الحرب" أن تكون الأديان كلها واحدة ,هذا إن كان هذا الحرف محفوظاً لأنه جاء في سائر الروايات "ويضع الجزية" لأن الدِّين يصير واحداً وهو دين الإسلام ,فلا يبقى

ذِمِّي يؤدي الجزية. وقد قيل: إن معناه أن المال يفيض ويكثر حتى لا يبقى فقيرٌ ولا محتاج يكون مصرف الجزية إليه ,فتُوضع الجزية استغناءً عنها وهو معنى قوله:" ويفيض المال حتى لا يقبله أحدٌ".

(50) (باب ما ذكر عن بني إسرائيل)

(50) (باب ما ذُكر عن بني إسرائيل) 752/ 3451 - قال أبو عبد الله: حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا أبو عوانة قال: حدثنا عبد الملك ,عن ربعي بن حراش قال: قال عقبة بن عمرو لحذيفة: ألا تحدثنا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: إني سمعته يقول: إن رجلاً كان فيمن كان قبلكم أتاه الملك لقبض روحه فقيل له: هل علمت من خير؟ قال: ما أعلم. قيل له: انظر. قال: ما أعلم شيئاً غير أني كنت أُبايع الناس في الدنيا وأُجازيهم , فأُنظر المُوسر وأتجاوز عن المُعسر , فأدخله الله الجنة. 753/ 3452 - وسمعته يقول: إن رجلا حضره الموت ,فلما يئس من الحياة أوصى أهله إذا أنا متُّ فاجمعوا لي حطباً كثيراً, فأقِدوا به ناراً حتى إذا أكلت لحمي وخلصت إلى عظمي فا متحشت , فخُذُوها فاطحنوها , ثم انظروا يوماً راحاً فاذروه في اليمِّ , ففعلوا ,ففجمعه الله ,فقال له: لِمَ فعلت ذلك؟ قال: من خشيتك ,ففغفر الله له /. قال عقبة بن عمرو وأنا سمعته يقول ذاك وكان نبَّاشاً.

قوله:"أُجازيهم",وجه الكلام ففي هذا ,أتجازاهم , أي: أتقاضاهم حقّاً فأُنظر الموسر وأتجاوز عن المعسر, والمُتجازي في كلامهم المُتقاضي. وقوله: فامتحشت ,يريد: احترقتُ. وقوله:"يوماً راحاً",يريد يوماً ذا ريحٍ. يُقال: يومٌ راحٌ أي: ذُو ريحٍ , كما قيل: رجلٌ مالٌ. أي: ذُو مالٍ , وكبشٌ صافٌ , أي: ذُو صوفٍ. واليمُّ: البحر , وفي غير هذه الرواية:" فاذروني في الريح فلعلِّي أضِلُّ الله " يريد: فلعلِّي أُفوته. يقال: ضلَّ الشئ ,إذا فات وذهب. ومنه قول الله عز وجل: (قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى) أي: لا يفوته. وقد يُسأل عن هذا فيقال: كيف يُغفر له وهو مُنكرٌ للبعث, والقدرة على إحيائه وإنشاره؟ فيُقال: إنه ليس بمنكرٍ للبعث إنما هو رجلٌ جاهلٌ ظنَّ أنه إذا فعل به هذا الصنيع تُرِكَ فلم يُنشر ولم يُعذب. ألا تراه يقول: فجمعه. فقال: لِمَ فعلت ذلك؟ فقال: من خشيتك , فقد تبيَّن أنه رجل مؤمنٌ بالله, فعل ما فعل من خشية الله إذا بعثه إلا أنه جهل ,فحسب أن هذه الحيلة تنجيه مما يخافه.

(الباب نفسه) 754/ 3460 - قال أبو عبد الله: حدثنا علي بن عبد الله قال: حدثنا سفيان ,عن عمرو , عن طاوس, عن ابن عباس قال: سمعت عُمر يقول: قاتل الله فُلاناً ألم يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لعن الله اليهود حرِّمت عليهم الشُّحوم, فجملوها فباعوها. قوله: فجملوها ,يريد: أذابوها. والجميلة الودَك. وفيه دليل على أن المأكول والمشروب المُحرَّمين لا يجوز بيعهما ,كما لا يجوز أكلهما.

(50) (الباب نفسه)

(50) (الباب نفسه) 755/ 3461 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو عاصم الضحَّاك بن مخلد قال: حدثنا الأوزاعي ,عن حسان بن عطية ,عن أبي كبشة , عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"بلِّغوا عني ولو آية وحدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب عليَّ/ متعمِّداً فليتبوَّأ مقعده من النار ". قوله:" بلغوا عني ولو آية ", أمر وجوب. وقوله:" وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج " , أمر إباحة. ورفعه الحرج عن حديث بني إسرائيل ليس على معنى إباحة الكذب عليهم وإنما معناه أنك إذا حدثت عن بني إسرائيل على البلاغ وكان ذلك حقَّاً أو غير حقٍّ, لم يكن عليك فيه حرج وذلك لبعد المسافة فيما بيننا وبينهم من الزمان ولأن شرائعهم لا تلزمنا, فالغلط عليهم لا يدخل علينا فساداً في ديننا. وأما الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يجوز أن

نُحدِّث به عن بلاغ ولا أن يُقبل إلا عن ثقة يُسنده إلى رسول صلى الله عليه وسلم ليؤمن به الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن شريعته واجبة علينا. وقوله (لازم) لنا ومسافة الزمان متصلة باتصال الواسطة من النقلة فيما بيننا وبينه.

(51) (باب حديث أبرص وأعمى وأقرع في بني إسرائيل)

(51) (باب حديث أبرص وأعمى وأقرع في بني إسرائيل) 756/ 3464 - قال أبو عبد الله: (حدثني محمد) حدثنا عبد الله بن رجاء قال: حدثنا همَّام ,عن إسحاق بن عبد الله قال: حدثني عبد الرحمن بن أبي عمرة أن أبا هريرة حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" إن ثلاثة في بني إسرائيل: أبرص وأقرع وأعمى بدا الله أن يبتليهم ,فأعطى أحدهم ناقةً عُشراء والآخر بقرة حاملاً والثالث شاةً والداً .. وذكر الحديث بطوله. قوله:" بدا الله أن يبتليهم ",معناه قضى الله أن يبتليهم وهو معنى البدء لأن القضاء سابق وليس ذلك من البداء في شئ , والبداء على الله غير جائز. وقد رواه بعضهم بدا لله وهو غلطٌ. والناقة العشراء: هي التي أتى على حملها عشرة أشهر. والشاة الوالد: هي ذات الولد.

(53) (باب حديث الغار)

(53) (باب حديث الغار) 757/ 3465 - قال أبو عبد الله: حدثني إسماعيل بن خليل قال: حدثنا علي بن مسهر ,عن عبيد الله بن عمر ,عن نافع ,عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بينما نفر ثلاثة يمشون إذ أصابهم مطر /, فأووا إلى غار, فانطبق عليهم وذكر القصة إلى أن قال: فقال أحدهم: اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أجير عمل لى على فرق من أرُزٌ, فذهب وتركه وإني عمدت إلى ذلك الفرق فزرعته فصار من أمره أني اشتريت منه بقراً, وإنه أتاني يطلب أجره فقلت: اعمد إلى تلك البقرة فسُقها ,فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرِّج عنَّا ,فانساخت الصخرة. هكذا رواه: انساخت بالخاء المعجمة وإنما هو بالحاء غير مُعجمة وأصله انصاحت ,أي: انشَّقت. يقال: انصاح الثوب انصياحاً إذا تشقَّق من قبل نفسه. والصاد أخت السِّين.

(54) (باب)

(54) (باب) 758/ 3469 - قال أبو عبدالله: حدثني عبد العزيز بن عبد الله قال: حدثني إبراهيم بن سعد , عن أبيه ,عن أبي سلمة ,عن أبي هريرة , عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنه قد كان فيما مضى قبلكم من الأمم مُحدِّثون ,فإن كان في أُمتي منهم فإنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه ,المُحدِّث الملهم يُلقى الشيءُ في روعه ,فكأنه قد حُدِّث به , يظن فيصيب ويخطر الشيء بباله فيكون كذلك وهو منزلة جليلة من منازل الأولياء ومرتبة عظيمة من مراتب الأصفياء. حدثني ابو محمد الكوراني قال: حدثنا الحسن بن عبد العزيز الجروى قال: حدثنا أبو عاصم ,عن عمر بن محمد بن زيد ,عن سالم بن عبد الله قال: ما قال عمر لشيء قطُّ إني أظن إلا كان كما ظنَّ.

أخبرني إسماعيل بن أسد قال: إسحاق بن إبراهيم قال: حدثنا الحارث بن مسكين قال: حدثنا عبد الله بن وهب قال: أخبرني يحيى بن أيوب ,عن محمد بن وجلان عن نافع ,عن ابن عمر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعث جيشاً فأَمَّر عليهم رجلاً يُدعى سارية , فبينما عمر يخطب الناس يوماً جعل يصيح وهو على المنبر يا سارية الجبل , يا سارية الجبل , فقدِمَ رسول الجيش فسأله فقال يا أمير المؤمنين: لقينا عدُّونا فهزمونا ,فإذا صائح يصيح يا سارية الجبل يا سارية الجبل , فهزمهم الله.

(54) (باب)

(54) (باب) 759/ 3478 - قال / أبو عبد الله: حدثنا أبو الوليد قال: حدثنا أبو عوانة ,عن قتادة , عن عقبة بن عبد الغافر, عن أبي سعيد ,عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً كان قبلكم رَغَسَه الله مالاً. . وذكر حديث الرجل الذي قال لبنيه: إذا مُتَّ فأحرقوني ,ثم اسحقوني ثم أذروني في يوم عاصف. قوله:" رَغَسَهُ الله مالاً ",يريد أعطاه الله مالاً نامياً , يقال: رجل مرغوس , إذا كان في ماله نماءٌ وبركةٌ ورواه لنا بعض شيوخنا: راسه الله مالاً وهو غلط , فإن كان محفوظاً فإنما هو راشَهُ الله مالاً, والرّيش والرِّياش المال.

(54) (باب)

(54) (باب) 760/ 3482 - قال أبو عبد الله: حدثني عبد الله بن أسماء , قال: حدثنا جويرية بن أسماء ,عن نافع , عن عبد الله قال: عُذِّبت امرأةٌ في هرَّةٍ ,سجنتها حتى ماتت , فدخلت فيها النار , لا هي أطعمتها ولا سقتها, إذ حبستها ولا هي تركتها فتأكل من خشاش الأرض. خشاش الأرض: هوامُّها وحشراتها.

(54) (باب)

(54) (باب) 761/ 3485 - قال أبو عبد الله: حدثنا بشر بن محمد قال: حدثنا عبد الله قال: أخبرنا يونس ,عن الزُّهري قال: أخبرني سالمٌ أن ابن عمر حدَّثه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: بينما رجل يجرُّ إزارهُ خُيلاءً خُسِفَ (به) ,فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة. التجلجل: السُّؤُوخ في الأرض مع اضطرابٍ شديدٍ وتدافُعٍ من شقٍّ إلى شقٍّ.

(54) (باب)

(54) (باب) 762/ 3486 - قال أبو عبد الله: حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا وهيب قال: حدثنا ابن طاوس ,عن أبيه ,عن أبي هريرة , عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد كل أمة أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم. بيد: كلمة معناها الاستثناء كأنه قال: غير أنَّا أو إلاَّ أنَّا أو لكن نحن أوتينا الكتاب بعدهم وأوتيه سائر الأمم قبلنا كأنه استثنى هذه الفضيلة الخاصة لهم.

كتاب المناقب

(61) (كتاب المناقب) (1) (باب قول الله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) 763/ 3495 - قال أبو عبد الله: حدثنا قتيبة بن سعيد , قال: حدثنا المغيرة وهو ابن عبد الرحمن ,عن /أبي الزِّنَاد, عن الأعرج ,عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" الناس تبعٌ لقريش في هذا الشأن, مسلمهم تبعٌ لمسلمهم وكافرهم تبعٌ لكافرهم ". 764/ 3496 - الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فَقِهُوا تجدون من خير الناس أشد الناس كراهية لهذا الشأن حتى يقع فيه. قلت: معنى هذا الحديث تفضيل قريش على قبائل العرب وتقديمها في الإمامة والإمارة.

وقوله: " مسلمهم تبعٌ لمُسلمهم ",معناه الأمر بطاعتهم ومتابعتهم. يقول: من كان مسلماً فليتبعهم ولا يخرج عليهم. وأما قوله:" وكافرهم تبعٌ لكافرهم ",فليس معناه معنى الفضل الأول في الأمر بالمتابعة ,فيكون الكافر تبعاً للكافر منهم ,كما يكون المسلم تبعا للمسلم منهم , وإنما معناه الإخبار عن حالهم في متقدِّم الزمان, يريد أنهم لم يزالوا متبوعين في زمان الكفر وكانت العرب تُقدِّم قريشاً وتعظِّمُها ,وكانت دارهم موسِماً, والبيت الذي هم سدنته منسكاً, وكانت لهم السقاية والرفادة يُطعمون الحجيج ويُسقونهم فحازوا به الشرف والرئاسة عليهم. وقوله:"خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقِهوا",يريد أن من كانت له مأثرةٌ وشرفٌ في الجاهلية فأسلم وحَسُن إسلامه, وفَقِهَ في الدِّين ,فقد أحرز مأثرته القديمة وشرفه التليد إلى ما استفاده من المزيد بحق الدين , ومن لم يسلم فقد هدَمَ شرفُه ,وضيَّع قديمه , ثم أخبر أن خيار الناس هم الذين يحذرون الإمارة, ويكرهون الولاية حتى يقعوا فيها وهذا يحتمل وجهين: أحدهما: أنهم إذا وقعوا ففيها عن رغبة وحرص عليها زالت عنهم فضيلة حسن الاختيار ,وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم

لعبد الرحمن بن سمرة:" يا عبد الرحمن لا َتَسَل الإمارة" وكقوله /" تطلبون الإمارة ,ثم تكون وبالاً عليكم ,فنعمت المُرضعة وبئست الفاطمة أو كما قال , وكقوله: من جُعِلَ قاضياً فقد ذُبح بغير سكِّين ". والوجه الآخر: أن خيار الناس الذين يحذرون الإمارة ويكرهون الولايات حتى يقعوا فيها ,فإذا وقعوا فيها وتقلَّدوها زال معنى الكراهة ,فلم يُجز أن يكرهوها لأنهم إذا كان قيامهم بها على كرهٍ ضيَّعوا حقوقها ولم يقوموا بالواجب من أمرها , فإن من كره شيئاً تركه يقول: إذا وقعوا فيها فليُقبلوا عليها وليجتهدوا في القيام بحقوقها فعل الرَّاغب فيها غير الكارِهِ لها.

فأما قوله في رواية أخرى عن أبي هريرة:" الناس تبعٌ لقريشٍ خيارهم تبعٌ لخيارِهم وشرارُهم تبعٌ لشرارِهم", فقد يحتمل معناه على ما فسرناه قبل ,ويحتمل أن يكون المعنى أنهم كانوا خياراً سلَّط الله عليهم الخيار, وإذا كانوا شراراً سلَّط الله عليهم الأشرار, وهو معنى ما روي عن بعض الصحابة ," كما تكونون كذلك يولَّى عليكم " وكما روى عن بعضهم:" عُمَّالكم أعمالكم ".

(2) (باب مناقب قريش)

(2) (باب مناقب قريش) 765/ 3502 - قال أبو عبد الله: حدثنا يحيى بن بكير قال: حدثنا الليث ,عن عقيل ,عن ابن شهاب ,عن ابن المُسيَّب ,عن جُبير بن مُطعِمٍ قال: مشيت أنا وعثمان بن عفان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا يا رسول الله: أعطيتَ بني المُطلَّب وتركتنا وإنما نحن وهو بمنزلةٍ واحدةٍ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما بنو هاشم وبنو المُطلِّب شيءٌ واحد ". قلت: هذا في أكثر الروايات "شيءٌ واحد" وقلَّ ما يُستعمل الأحد إلا في النفي كقولك: ما جاءني من القوم أحدٌ. ويقول في الإثبات: قد جاءني منهم واحدٌ , فأما الأحد في الإثبات من غير إضافةٍ له إلى شيءٍ بعدهُ فهو الواحد الذي قد تناهى فضله وشرفه فلا يكون له نظير في الفضل ولا شريك فيه. وقد يروى أيضاً "إنما بنو هاشم وبنو المُطلِّب سى واحد",أي: سواء ,يُقال للشيئين المُتكافئين / هُما سِيَّانِ

أي: مِثلاَنِ , وفيه من الفقه أن الفيءَ لرسول الله صلى عليه وسلم يَضَعُهُ حيث يشاء يُقدِّم من يشاء ويؤخِّر ويزيد منه في العطاء وينقص على ما أراه الله من ذلك.

(6) (باب ذكر أسلم وغفار ومزينة وجهينة وأشجع)

(6) (باب ذكر أسلم وغِفارٍ ومُزينة وجُهينة وأشجع) 766/ 3513 - قال أبو عبد الله: حدثنا محمد بن غرير الزهري قال: حدثنا يعقوب بن إبراهيم ,عن أبيه ,عن صالح أن عبدالله أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال على المِنبر: غِفارٌ غفر الله لها وأسلم سالمها وعُصيَّةُ عصت الله ورسوله ". يُقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لهاتين القبيلتين لأن

دخولهما في الإسلام كان سِلماً من غير حرب وكانت غِفارٌ تُزَنُّ بسرقة الحجاج ,فأحب صلى الله عليه وسلم أن يمحو عنهم تلك السيئة وأن يُعلم أنَّ ما سلف منها مغفورٌ لهم. وأما عُصيَّة فهم الذين قُتلوا القرَّاء ببئر معونة بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سريَّة فقتلوهم ,فكان يقنت عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلواته ويلعن رِعلا وذكوان ويقول:" وعُصيّة عصت الله ورسوله ".

(8) (باب ما ينهى من دعوى الجاهلية)

(8) (باب ما يُنهى من دعوى الجاهلية) 767/ 3518 - قال ابو عبد الله: حدَّثني محمد بن سلام قال: اخبرنا مخلد بن يزيد قال: أخبرنا ابن جريج قال: أخبرني عمرو بن دينار أنه سمع جابراً يقول: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ثاب معه ناس من المهاجرين حتى كثروا وكان من المهاجرين رجل لعَّاب فكسع أنصارياً ,فغضب الأنصاري غضباً شديداً حتى تداعوا فقال الأنصاري: يا (للأنصار) وقال المهاجرىُّ: ياللمهاجرين ,فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما بال دعوى الجاهلية؟ ثم قال: ما شأنهم , فأخبر بكسعة المهاجري الانصاري. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دَعُوها فإنها خبيثةٌ. وقال عبد الله بن أبيّ: أقد تداعوا علينا؟ لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنَّ الأعزُّ منها الأذلَّ, فقال عمر: ألا نقتل يا نبي الله هذا الخبيث؟ لعبد الله , فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" لا يتحدث الناس أنه يقتل أصحابه ".

الكسعُ: يكون ضرباً وطعناً من وراء. وأما قوله:"لا يتحدَّث / الناس أنه يقتل أصحابه ",فإن في هذا الكلام باباً عظيماً من سياسة أمر الدّين والنظر في عواقب أموره وذلك أن الناس إنما يدخلون في الدين ظاهراً ولا سبيل إلى معرفة ما في نفوسهم ,فلو عُوقب المنافق على باطن كفره وظاهر حالة الإسلام لوجد أعداء الدين سبيلاً إلى تنفير الناس عن الدخول فيه والقبول له بأن يقولوا لإخوانهم وذويهم, مايؤمنكم إذا دخلتم في دين هذا النبي وحُصِّلتم في كفِّه وأنتم مؤمنون به ومخلصون له أن يدَّعي عليكم كفر الباطن وجحد السريرة وأن يقول لكم: قد أًوحي إليَّ في أمركم وجاءني الخبر عن سرِّكم أنكم منافقون, فيستبيح بذلك دماءكم وأموالكم, فلا تُغرِّروا بأنفسكم ولا تُسلّموها للهلاك , فيكون ذلك سبباً لنفور الناس عن الدين وزهادتهم فيه.

(17) (باب ما جاء في أسماء رسول الله عليه وسلم)

(17) (باب ما جاء في أسماء رسول الله عليه وسلم) 768/ 3532 - قال أبو عبد الله: حدثني إبراهيم بن المنذر قال: حدثني معن , عن مالك , عن ابن شهاب ,عن محمد بن جبير بن مطعم , عن أبيه قال: قال رسول الله عليه وسلم: لي خمسة أسماء ,أنا محمد وأحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا الحاشر الذي يُحشرُ الناس على قدمي وأنا العاقب. قوله:" لي خمسة أسماء",معناه أن هذه الأسماء مذكورة في كتب الله تعالى ,فأي اسم وُجد منها فهو اسمه وصفته, أما محمد وأحمد فهما مشهوران ,وأما الحاشر فقد ذكر تفسيره في الحديث وهو الذي يُحشر الناس على قدميه ,ومعنى حشر الناس على قدمه أنه يُحشر أول الناس ,ثم يُحشر الناس على أثره كقوله:" أنا أول من

تنشقُّ عنه الأرض " والعاقب الآخر. يريد: أني خاتم الأنبياء جاء عقبهم. يقال: عقبت القوم أعقبهم , إذا جئت آخرهم.

(الباب نفسه) 769/ 3533 - قال أبو عبدالله: حدثنا علي بن عبد الله قال: حدثنا سفيان ,عن أبي الزناد, عن الأعرج ,عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ألا تعجبون كيف يصرف الله/عني شتم قريش ولعنهم يشتمون مُذمَّماً وأنا محمد". فيه من الفقه: أن الحدَّ لا يجب في كناية القذف وهو قول أكثر أهل العلم وأوجبه مالك في الكنايات , كما أوجبه في الصريح.

(22) (باب خاتم النبوة)

(22) (باب خاتم النبوة) 770/ 3541 - قال أبو عبد الله: حدثني محمد بن (عبيد الله) قال: حدثنا حاتم (عن) الجعيد قال: سمعت السائب ابن يزيد قال: ذهبت بي خالتي إلى رسول الله صلى عليه وسلم فدعا لى بالبركة وقمت خلف ظهره ,فنظرت إلى حاتم بين كتفيه مثل زرِّ الحجلة. قال (ابن عبيد الله): الحجلة من حجل الفرس الذي بين عينيه , وقال ابراهيم بن حمزة: رزُّ الحجلة: الرَّاى قبل الزَّاى. قلت: ولست أدري ما معنى الكلام الذي ذكره في تفسير رزِّ الحجلة وما الفرس وما بين عينيه من ذلك؟

وقد كنا ذكرنا هذا الحديث قبل, وحكينا قول من زعم أن رزَّ الحجلة بيض الحجل ورواية إبراهيم بن حمزة تدل على ذلك وهو مأخوذ من قولك: أرّزت الجرادة, اذ هي أثاخت ذنبها في الأرض فباضت سراتها.

(23) (باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم)

(23) (باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم) 771/ 3548 - قال أبو عبدالله: حدثنا عبد الله بن يوسف قال: حدثنا مالك بن أنس, عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن, عن أنس بن مالك أنه سمعه يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بالطويل البائن, ولا بالقصير, وليس بالأبيض الأمهق, وليس بالآدم وليس بالجعد القَطَطِ ولا بالسَّبط. الأبيض الأمهق ,هو الذي يحكى لونه لون الجصِّ. والمقه مثل المهق وهو أشد بياضاً منه وقيل: إنه الذي يضرب بياضه إلى الزُّرقة. والجعد القطط من الشعر: ما تجعَّد وتفلفل كشعور السُّودان. والسِّبط: المُسترسل منه الذي تكسَّر.

(الباب نفسه) 772/ 3555 - قال أبو عبد الله: حدثني يحيى قال: حدثنا عبد الرزاق قال: حدثنا ابن جريج قال: أخبرني ابن شهاب, عن عروة , عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها مسروراً تبُرق أسارير وجهه فقال: ألم تسمعي ماقال: مُجزِّزُ المُدلجيُّ لزيدٍ وأسامة/ورأى أقدامهما إن بعض هذه الأقدام من بعض. أسارير الوجه ,يقال: إنها خطوط في الجبين ,واحِدُها سرٌّ, ويجمع على الأسارير. قالوا: ويظهر ذلك عند الفرج. وفيه اثبات أمر القافة ,وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يظهر الفرح إلا فيما كان حقاً. وكان زيد أبيض وجاء أسامة أسود, فارتاب الناس بأمرهما ,فمرَّ بهما مُجزِّزُ وهما تحت قطيفة قد بدت من تحتها أقدامهما فقال: إن بعض هذه الأقدام من بعض, فكان في إظهار رسول الله صلى الله عليه وسلم السرور بذلك وحكاية ما سمعه من قوله , التقرير له وإمضاء السُّنة والله أعلم.

(25) (باب علامات النبوة)

(25) (باب علامات النبوة) 773/ 3571 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو الوليد قال: حدثنا سلم بن زرير قال: سمعت أبا رجاء قال: حدثنا عمران بن حصين أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في مسير , فأدلجوا ليلهم حتى إذا كانوا في وجه الصبح عرَّسوا وساق الحديث إلى أن قال: (وجعلني) رسول الله صلى الله عليه وسم في ركوب بين يديه وقد عطشنا عطشاً شديداً ,فبينما نحن نسير إذا نحن بامرأةٍ سادلةٍ رجليها بين مزادتين فقلنا: انطلقي إلى رسول الله عليه وسلم فقالت: وما رسول الله؟ فلم نُملّكها من أمرها حتى استقبلنا بها النبي صلى الله عليه وسلم, فحدثته أنا مُؤتمةٌ, فمسح في العزلاوين, فشربنا عطاشاً أربعين رجلاً حتى روينا وملأنا كل قربةٍ معنا وإداوةٍ وهي تكاد تنضُّ من الملء قال: وجمع لها من الكسر

والتمر حتى أتت أهلها ,فهدى الله ذلك الصِّرم بتلك المرأة , فأسلمت وأسلموا. قوله:" فأدلجوا ليلهم ",أي: ساروا الليل كله. والتعريس: نزول استراحةٍ من غير مُقامٍ, وأكثر ما يكون ذلك سحراً. والرُّكوب جمع الرَّاكب كقولك: شاهدٌ وشهودٌ. والعزلاء: عروة المزادة. وقوله: سادلةٌ رجليها , يريد مرسلةً رجليها. وقولها: انها مُؤتمةٌ ,/ أي: ذات أيتام. وقوله: تنضُّ من الملء, أي: تكاد تنشقُّ فيخرج منها الماء. يقال: نضَّ الماء من العين ,إذا نبع وكذلك نضَّ العَرَقُ, وفلانٌ يستنضُّ معروف فلانٍ. أي: يستخرجه. وأما البضُّ بالباءِ فمعناه القطر. والصِّرم النَّفر النزول على الماء. فأما الصِّرمة فالقطعة من الإبل. وفيه من العلم أن آنية أهل الشرك على الطهارة مالم تعلم فيها نجاسة ولم يعلم منهم ترك توقِّي النجاسات. وفيه أن الضرورة بالعطش تُبيح للإنسان الماء المملوك لغيره على عِوَض يُعطيه إياه وقد جمع لها رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكسر والتمر ,فكانت عِوَضاً عمَّا شَرِبُوه وأخذوه من ذلك الماء وإنما لم يبِن أثر النُّقصان فيه

من ناحية البركة التي نزلت عليه بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم , والطعام عند عدمه قياس الماء في الاستباحه مع ردِّ العِوَض على صاحِبه والله أعلم.

(الباب نفسه) 774/ 3576 - قال أبو عبد الله: حدثنا موسى بن اسماعيل قال: حدثنا عبد العزيز بن مسلم قال: حدثنا حُصين , عن سالم بن أبي الجعد , عن جابر بن عبد الله قال: عَطِش الناس يوم الحُديبية وكان النبي صلى الله عليه وسلم بين يديه رِكَوةٌ فتوضأ , فجَهِش الناس نحوه قال: مالكم؟ قالوا: ليس عندنا ما نتوضأ به ولا نشرب إلا ما بين يديك, فوضع يده في الرِّكوة , فجعل الماء يفور من أصابعه كأمثال العُيون. فشربنا وتوضأنا. قلت: كم كنتم؟ قال: لو كنَّا مِايَةَ ألفٍ لكفانا , كُنَّا خمس عشرة مِاية. قوله: جَهِش النَّاس ,يريد أنهم فزعوا إليه ويُقال: إن ذلك أكثر ما يكون مع جَزَعٍ وبكاءٍ. يُقال: أجهشت نفسي للشئٍ وجهشت بمعنى واحدٍ.

(الباب نفسه) 775/ 3578 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن يوسف, قال: أخبرنا مالكٌ عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة أنه سمع أنس بن مالك يقول في قصة مجئ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دار أبي طلحة مع أصحابه: أن أُمَّ سُليم جاءته بخُبزٍ/ فأمر به فَفُتَّ وعصرت عُكَّةً فأدمته وساق الحديث. العُكَّة: وعاء للسَّمن لطيفٌ. وقوله: أدمته. أي: أصلحته بالإدام. يقال: أدمتُ الخُبز, آدمه وخُبزٌ مأدومٌ.

(الباب نفسه) 776/ 3595 - قال أبو عبد الله: حدثني محمد بن الحكم قال: حدثنا النَّضر قال: حدثنا اسرائيل قال: أخبرنا سعد الطائي قال: أخبرنا مُحِلُّ بن خليفة |, عن عديِّ سعد حاتم قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: إن طالت بك حياة لتَرَينَّ الظَّعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوّف بالكعبة لا تخاف أحداً إلا الله ,قلت: فيما بيني وبين نفسي فأين دُعَّار طَيِّاءٍ الذين سَعَّروا البلاد؟ الدُّعَّار: جمع داعرٍ وهو الخبيث من الرِّجال. وقوله: سعَّروا البلاد ,يعني أوقدوها بالسَّعير ,أى: بنار الشرِّ والفتنة. وقد يستدلُّ به من يوجب الحج على المرأة إذا لم يكن معها ذو محرمٍ ,غير أن عند أصحاب هذه المقالة أن يكون معها نسوةٌ ثِقَاتٌ.

(الباب نفسه) 777/ 3598 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو اليمان قال: أخبرنا شعيب , عن الزهري قال: حدثني عروة بن الزبير أن زينب بنت أبي سلمة حدثته أن أم حبيبة بنت أبي سفيان حدثتها عن زينب بنت جحش قالت: قلت يا رسول الله: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: "نعم إذا كثُرَ الخبث". الخبث: الزِّنا ,فيما يُفسِّر من هذا الحديث.

(الباب نفسه) 778/ 3601 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد العزيز الأويسي قال: حدثنا إبراهيم ,عن صالح بن كيسان , عن ابن شهاب , عن ابن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ستكون فتنةٌ, القاعد فيها خير من القائم, والقائم خير من الماشي, والماشي خير من السَّاعي ,من تشرَّف لها تستشرفه , يريد من طلع لها بشخصه طالعته بشرِّها".يقال: استشرفت الشيء إذا

رفعت رأسك فنظرت إليه, كقول الشاعر: تطاللت فاستشرفته فرأيته فقلت له آأنت زيد الأرانب / وحقيقته أصابته بعينها.

(الباب نفسه) 779/ 3606 - قال أبو عبد الله: حدثنا يحيى بن موسى قال: حدثنا الوليد قال: حدثني ابن جابر قال: حدثني بسر بن (عبيد الله) الحضرمي قال: حدثني أبو إدريس الخولاني أنه سمع حذيفة بن اليمان يقول: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير, وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني, وساق الحديث إلى أن قال: وهل بعد ذلك الشر خيرٌ؟ قال: "نعم. وفيه دخنٌ". قلت: فهل بعد هذا الخير شرٌّ؟ قال: "نعم. دُعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها" قلت: يا رسول الله. صِفهم لنا. قال:" هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا ". الدَّخن: الدُّخان , يريد أن الخير الذي يكون بعد الشرِّ لا يكون محضاً خالصاً ولكن يكون معه شوبٌ وكدورةُ بمنزلة الدُّخان في النار.

وقوله:" هم من جلدتنا ,يريد من أنفسنا أو من قومنا , والجلد غشاء البدن , وإنما أراد به العرب ,فإن السُّمرة غالبةٌ عليهم واللون إنما يظهر في الجلد.

(الباب نفسه) 780/ 3610 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو اليمان قال: أخبرنا شعيب, عن الزهري قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن أبا سعيد الخدري قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم قسماً أتاه ذو الخويصرة وهو رجل من بني تميم فقال: يارسول الله: اعدل. فقال:" ويلك من يعدل إذا لم أعدل".فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله ائذن لي أضرب عنقه. فقال:"دعه, فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم, يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم ,يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شئ (ثم ينظر إلى رصافه فما يوجد فيه شئ, ثم ينظر إلى نضيَّه - وهو قِدحُه - فلا يوجد فيه شئ) ,ثم نظر الى قُذَذِه فلا يوجد فيه شئ قد سبق الفرث والدَّم , آيتُهُم رجلٌ أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة/أو مثل البضعة تدردر. الرِّصاف: العقب الذى يلوى فوق مدخل النَّصل في السَّهم واحدتها رصفة. والنَّضيُّ: ما بين النَّصل والرِّيش من القدح. والقُذَذُ: جمع قُذَّة , وهي ريش السَّهم. يقال: هو أشبه به

من القُذَّة لأنها تحذى على مثال واحد. وقوله:" يمرقون من الدِّين "المروق, سرعة نفوذ السَّهم من الرَّميَّة حتى يخرج من الطرف الآخر ,والدِّين هاهنا الطاعة ,يريد خروجهم من طاعة الأئمة كما يخرج هذا السهم من الرَّميَّة وهي الطَّريدة التي تُرمى لا يعلق به شئ من دمها أو فرثها. وقوله:" تَدَردَرُ",معناه تتحرَّك وتجئ وتذهب ومنه دردور الماء.

(الباب نفسه) 781/ 3615 - قال أبو عبد الله: حدثنا محمد بن يوسف قال: حدثنا أحمد بن يزيد بن ابراهيم أبو الحسن الحرَّاني قال: حدثنا زهير بن معاوية قال: حدثنا أبو إسحاق قال: سمعت البراء بن عازب في حديث الرَّحل قال: سمعت أبا بكر يُحدِّث بمخرجه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وساق الحديث إلى أن قال: فقلت: نم يا رسول الله وأنا أنفض لك ما حولك. قال: وإذا أنا بِراعٍ فحلب في قعب كُثبةً من لبنٍ ,فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رضيت واتبعنا سراقة بن مالك فدعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم فارتطمت به فرسه إلى بطنها أرى في جلد من الأرض شكَّ زهير وذكرنا في الحديث قوله: أنفض لك ما حولك ,يريد أحرسك وأطوف هل أرى أحداً من الطلب, والكثبة: القليل من اللبن. وقوله: ارتطمت به فرسه ,أي: ساخت قوائمها كما تسوخ (في الوحل) ورطمت الشئ إذا أوحلته فارتطم, والجلد: الأرض الصلبة المستوية المتن.

كتاب فضائل الصحابة

(62) (كتاب فضائل الصحابة) (2)) باب مناقب المهاجرين وفضلهم) 782/ 3652 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن رجاء قال: حدثنا إسرائيل ,عن أبي اسحاق ,عن البراء قال: اشترى أبو بكر من عازب رحلاً بثلاثة عشر درهماً فقال: مُرِ البراء فليحمل إليَّ رحلي فقال عازب: لا , حتى تحدثنا كيف صنعت أنت/ورسول الله حين خرجت من مكة وذكر القصة. فاستدل بعض أهل العلم على جواز ما يأخذه شيوخ السوء من المُحدِّثين على الحديث قال: وذلك أن عازباً لم يحمل رحله إلى بيته حتى حدثه أبو بكر بقصة مخرجه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. قلت: ولم يكن هذا من أبي بكر رضي الله عنه ولا من عازب على مذهب هؤلاء فإن هؤلاء القوم إنما اتخذوا الحديث بضاعة يبيعونها ويأخذون عليها أجراً, فهو شرطٌ معلوم لهم في أن لا يُحدِّثوا إلا بجعل وكان ما التمسه أبو بكر من حمل الرَّحل من باب

المعروف , والعادة المعلومة في الشئ الذي له ثقل أو عظم حجم أن يحمله تلامذة التجار وخدمهم إلى رحل المبتاع , ومن المعروف أيضاً في ذلك أنهم يُنيلونه على نقله مبرّةً, وكلُّ ذلك يجري مجرى العُرف الدائر بينهم والمُستحسن في عاداتهم, إلا أن عازباً لحرصه على معرفة القصة في مخرجه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم واستفادته علمها ,تعجّل الفائدة وقدَّم المسألة فيها ولو لم يكن هناك نقلُ رحلٍ ولا حمل ثقل لكان لا يمنعه أبو بكر الفائدة من علم القصة فهل يسمح شيوخ السوء بما عندهم من هذه الأحاديث إذا لم يرشوا بنيلٍ ولم يلمظوا بشئٍ ,والقدوة في هذا قول الله تعالى: (اتبعوا من لا يسألكم أجراً وهم مهتدون) ,وقوله: (قل ما اسألكم عليه من أجرٍ وما أنا من المُتكلِّفين) وقوله: (ويا قوم لا أسألكم عليه مالاً إن أجرىَ إلا على الله) وما أشبهها من الآي. وكقوله: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتُبيِّنُنُّه للناس ولا تكتمونه) الآية. . وقال رسول الله

صلى الله عليه وسلم: (من سئل عن علم فكتمه أُلجِمَ بلجامٍ من نار) في نحوه من الأحاديث ,ثم هو مذهب عامَّة السلف الصالح والمرضييِّن من الخلف رضي الله عنهم.

(61) (كتاب المناقب)

(61) (كتاب المناقب) (25) (باب علامات النّبوة في الإسلام) 783/ 3620 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو اليمان قال: أخبرنا شعيب ,عن عبد الله بن أبي حسين قال: حدثنا نافع بن جبير عن ابن عباس ,قال: قدم مسيلمة/ومعه بشرٌ كثير, فجعل يقول: إن جعل لي مُحمّد الأمر من بعده تبعته, فأقبل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيده قطعة جريد حتى وقف عليه في أصحابه فقال: لو سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها ولن تعدو أمر الله فيك ولئن أدبرت ليعقِرنَّك الله. قوله: ليعقِرنَّك الله ,معناه ليُهلِكنَّك الله , وأصله من عقر النَّخل وهو أن تُقطع رؤوسها فتيبس ,يقال: عقرت النَّخلة عقراً, والعقر أيضاً عقرُ الإبل وهو أن تضرِب قوائمها بالسيف فتعرقب.

(الباب نفسه) 784/ 3622 - قتل أبو عبد الله: حدثنا محمد بن العلا قال حدثنا حماد بن أسامة ,عن بريد بن عبد الله بن أبي بردة, عن جدِّه أبي بُردة, عن أبي موسى ,عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: رأيت في المنام أني أُهاجر من مكة إلى أرض بها نخل, فذهب وهلىِ إلى أنها اليمامة أو هجر فإذا هي يثرب. قوله: ذهب وهلي, يريد ذهب وهمي إلى ذلك. يقال: وهل الرجل يهل إذا وهم الشئ. وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم سمَّاها يثرب وقد نهى أن تُدعى المدينة يثرب وسمَّاها طابة وإنما كرهَ ذلك والله أعلم لما فيه من معنى التثريب وكان صلى الله عليه وسلم يُغيِّر الأسماء القبيحة إلى الأسماء الحسنة ويُشبه أن يكون إنما أطلق هذا الاسم عليها قبل نهيه عن تسميتها يثرب , بل هو الذي يجوز أن يظن به لا غير , لأنه

لا يجوز أن يكون قد غيَّر اسمها إلى القبيح بعدما حلَّاها بالاسم الحسن, وللعرب في هذا الباب مذهبٌ معروفٌ وهو الميل إلى الأسماء الحسنة والتبُّرك بها والتفاؤل بحسنها والنُّفور عن الأسماء القبيحة والتَّطيُّر بها , فكأنه إنما وسَمَهَا بطابة لتكون داعيةً لرغبة الناس في المقام واستطابة العيش بالتوطُّنِ بها.

(الباب نفسه) 785/ 3628 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو نعيم قال: حدثنا عبد الرحمن بن سليمان بن حنظلة بن الغسيل قال: حدثنا عكرمة, عن ابن عباس قال: خرج /رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرَضِه الذي مات فيه في ملحفةٍ قد عصَّب بعصابة دسماء. العصابة: العمامة. ومنه الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يمسحوا على العصائب ,يريد العمائم ومنه قول الفرزدق: ورَكبٍ كأن الرَّيح تطلب عندهم لها تِرَةٌ من جذبها بالعصائب

الدَّسماء: السوداء , وقد رُوِيَ عن عثمان رضي الله عنه أنه رأى صبياً تأخذه العين فقال:" دسِّموا نُونَتَهُ ", أراد بالنُّونَةِ النُّقرة التي في الذقن.

(26) (باب قول الله تعالى: (يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون)

(26) (باب قول الله تعالى: (يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقاً منهم ليكتمون الحقَّ وهم يعلمون) 786/ 3635 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن يوسف قال: أخبرنا مالك , عن نافع , عن ابن عمر أن رجلاً وامرأةً من اليهود زنيا فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرُجِمَا. قال عبد الله: فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة. هكذا قال: يحني من حنيت الشئ أحنيه حنياً إذا عطفته والمحفوظ بالجيم والهمز يجنأ أي: يكبُّ عليها. يقال منه: جنأ يجنأ جُنُوءاً.

(27) (باب سؤال المشركين أن يريهم النبي صلى الله عليه وسلم آية , فأراهم انشقاق القمر)

(27) (باب سؤال المشركين أن يريهم النبي صلى الله عليه وسلم آيةً , فأراهم انشقاق القمر) 787/ 3636 - قال أبو عبد الله: حدثني صدقة بن الفضل قال: أخبرنا ابن عيينة , عن ابن أبي نجيحٍ, عن مجاهد, عن أبي معمر, عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: انشقَّ القمر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم شقَّتين فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اشهدوا.

(الباب نفسه) 788/ 3637 - قال أبو عبد الله: وحدثني عبد الله بن محمد قال: حدثنا يونس قال: حدثنا شيبان , عن قتادة , عن أنس وقال لي خليفة: حدثنا يزيد بن زُريع قال: حدثنا سعيد عن قتادة , عن أنس أنه حدثهم أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية فأراهم انشقاق القمر. قلت: انشقاق القمر. آية عظيمة لا يكاد يعدلها شئٌ من آيات الأنبياء صلوات الله عليهم وذلك أنه أمر ظهر في ملكوت السماء خارج عن جملة طباع ما في العالم المُركَّب من الطبائع الأربع فيطمع في نيله بحيلة وعلاج وتأليف وتركيب ونحوها من الأمور التي يتعاطاها المحتالون ويتصنَّع لها المُتكلفون/ فلذلك صار الخطب فيه أعظم والبرهان به أظهر وأبهر. وقد أنكر هذا الخبر منكرون وقالوا: لو كان له حقيقة لم يجز أن يخفى أمره على عوامِّ الناس ولتواترت به الأخبار عن قرن إلى قرن لأنه أمر مصدره عن حسٍّ ومشاهدة , فالناس فيه شركاء وهم مطالبون بفطر العقول , ومن جهة دواعي النفوس بذكر كل أمر

عجيب ونقل كل خبر غريب , فلو كان لما روي من ذلك أصلٌ لكان قد خُلِّد ذكره في الكتب ودوِّن في الصحف ولكان أهل السِّير وأهل التنجيم والحفظة على الأزمان وأهل العناية بالتاريخ يعرفونه , ولا ينكرونه , إذ كان لا يجوز الإطباق منهم على تركه وإغفاله مع جلالة شأنه وجلاء أمره. والجواب: أن الأمر في هذا خارج عمَّا ذهبوا إليه من قياس الأمور النادرة الغريبة إذا ظهرت لعامّة الناس واستفاض العلم بها عندهم , وذلك أن هذا شئٌ طلبه قوم خاصٌّ من أهل مكة على ما رواه أنس بن مالك فأراهم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ليلاً لأن القمر آية الليل ولا سلطان له بالنهار وأكثر الناس في الليل تنام ومُستكنُّون بأبنية وحجب. والأيقاظ البارزون منهم في البوادي والصَّحارى قد يتفق أن (يكونوا) في ذلك الوقت مشاغيل بما يُلهيهم من سمر وحديث وبما يهمّهم من شغل ومهنة ولا يجوز أن يكونوا لا يزالون مقنعي رؤوسهم رافعين لها إلى السماء مترصِّدين مركز القمر من الفلك لا يغفلون عنه حتى إذا حدث بجرم القمر حدثٌ من الإنشقاق أبصروه في وقت انشقاقه قبل التئامه واتِّساقه وكثيراً ما يقع للقمر الكسوف فلا يشعر به الناس حتى يخبرهم الآحاد منهم والأفراد من جماعتهم , وإنما كان ذلك في قدر اللحظة التي هي

مدرك البصر , ولو أحبّ الله أن تكون معجزات نبيّه عليه السلام أموراً واقعةً/ تحت الحسِّ قائمةً للعيان حتى يشترك في معاينته الخاصة والعامة لفعل ذلك ولكنه سبحانه قد جرت سُنَّته بالهلاك والاستئصال في كل أمّة أتاها نبيُّها بآيةٍ عامة يُدركها الحسُّ فلم يؤمنوا بها وخصَّ هذه الأمة بالرحمة فجعل آية نبيها التي دعاهم إليها وتحدَّاهم بها عقليَّة , وذلك لما أُتوُه من فضل العقول وزيادة الأفهام ولئلا يهلكوا فيكون سبيلهم سبيل من هلك من سائر الأمم المسخوط عليهم المقطوع دابرهم , فلم يبق لهم عين ولا أثرٌ والحمد لله على لطفه بنا وحسن نظره لنا وصلى الله على نبيه المصطفى وعلى آله وسلم كثيراً.

(28) (باب)

(28) (باب) 789/ 3642 - قال أبو عبد الله: حدثنا علي بن عبد الله قال: حدثنا سفيان قال: حدثنا شبيب بن غرقدة قال: سمعت الحيَّ يتحدثون عن عروة أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه ديناراً يشتري له به شاة فاشترى له به شاتين ,فباع إحداهما بدينار (فجاء بدينار) وشاة, فدعا له بالبركة في بيعه , وكان لو اشترى التراب أُربح فيه. قلت: أمر الوكالة مبني على النظر للموكِّل والحيطة له فيما وُكِّل فيه , ولا أعلم خلافاً في أن من وَكَّل رجلاً بأن يشتري له شيئاً بعينه بدينارين فاشتراه له بدينار أن بيعه جائز لأنه قد ائتمر له فيما وكَّله به وزاده خيراً, فهذا إذا اشترى بالدينار شاتين كان فعله جائزاً لما ذكرناه من المعنى, وأما بيعه إحدى الشاتين فقد يحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم قد جعل ذلك إليه ووكَّله به وإن لم يكن مذكوراً في الخبر, وأما حكم الظاهر من الحديث وعدم بيان التفويض.

فدلالته جواز بيع الرجل ملك غيره بغير إذنه إذا أجازه مالكه فيما بعد, وإليه ذهب مالك وأبو حنيفة واسحاق بن راهويه ولم يُجزه الشافعي.

(62) (كتاب فضائل الصحابة)

(62) (كتاب فضائل الصحابة) (1) (باب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم) 790/ 3649 - قال أبو عبد الله: حدثنا علي بن عبد الله قال: حدثنا سفيان , عن عمرو , قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: حدثنا أبو سعيد الخدري قال: قال رسول/الله صلى الله عليه وسلم: يأتي على الناس زمان فيغزو فيه فئام من الناس, وذكر الحديث. الفئام: الجماعات, ومنه قول الفزدق: فئام ينهضون إلى فئام.

(5) (باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لو كنت متخذا خليلا ... "قاله أبو سعيد)

(5) (باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لو كنتُ مُتَّخذاً خليلاً ... "قالهُ أبو سعيد) 791/ 3661 - قال أبو عبد الله: حدثني هشام بن عمار قال: حدثنا صدقة بن خالد قال: حدثنا زيد بن واقد ,عن بُسر بن عُبيد الله ,عن عائذ الله أبي إدريس, عن أبي الدرداء قال: كنت جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبل أبو بكر آخذاً بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركُبِتِه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما صاحبكم فقد غامر وذكر الحديث وفيه فجعل وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمعَّر.

قوله:" غامر" معناه: خاصم, فدخل غمرة الخصومة وغمره الشئ مُعظمه كغمرَة الماء وغمرة الحرب ونحوهما , ورجلٌ مُغامرٌ إذا كان يُلابس الحروب وكذلك هو لابس الخصومات ونحوها من الأمور. وقوله: يتمعَّر , معناه يتغيَّر من الضجر وأصله من قولهم: أمعر المكان , إذا أجدب ,يريد أنه قد ذهبت نضارته ورونقه فصار كالمكان الأمعر.

(5) (باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:" لو كنت متخذا خليلا ... ")

(5) (باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:" لو كنت متخذاً خليلاً ... ") 792/ 3664 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبدان قال: حدثنا عبد الله عن يونس عن الزهري قال: أخبرني ابن المسيب عن أبي هريرة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"بينا أنا نائمٌ رأيتني على قليبٍ عليها دلوٌ, فنزعت منها ما شاء الله , ثم أخذها أبو بكر بن أبي قُحافة فنزع ذنوباً أو ذنوبين وفي نزعه ضعفٌ, والله يغفر له , ثم استحالت غرباً, فأخذها ابن الخطاب فلم أرَ عبقرياً من الناس ينزع نزع عمر, حتى ضرب النَّاس بِعَطَن. القليب: البئر تُحفر فيُقلب تُرابها قبل أن تُطوى. والغرب: دلو السَّانية , وهي أكبر من الذنوب. والعبقريُّ: كل شيء بلغ النهاية في معناه , وقد يكون ذلك في الخير والشر. والعطن: مناخ الإبل إذا صدرت عن الماء رِواءً - وهذا/

مثل ضربهُ في ولاية أبي بكر وعمر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. والذَّنوبان: هما سنتان وليهما أبو بكر وضعف نزعه: إنما هو اشتغاله بقتال أهل الرِّدة فلم يتفرَّغ لافتتاح الأمصار وجباية الأموال , وكان جودة نزع عمر طول أيامه وما فتح الله في عهده من الممالك, وأغنمه من الأموال, فحسنت بها أحوال المسلمين وأخصبت رحالهم.

(الباب نفسه) 793/ 3668 - قال أبو عبد الله: حدثنا إسماعيل بن عبد الله قال: حدثني سليمان بن بلال ,عن هشام بن عروة قال: أخبرني عروة بن الزبير وعن عائشة رضي الله عنها في قصة وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن أبا بكر خطب الناس وأخبرهم بوفاته فنشج الناس يبكون واجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة فقال حباب بن المنذر: منا أمير ومنكم أميرٌ. فقال أبو بكر: لا ولكنا الأمراء وأنتم الوزراء, هم أوسط العرب داراً وأعربهم أحساباً. وذكر الحديث. قوله: فنشج الناس. النشيج: بكاءٌ معه صوت. وقول الأنصار: منا أمير ومنكم أمير ,إنما قالوا ذلك على عادة العرب الجارية بينهم أن لا يسود القبيلة إلا رجل منها ولم يعلموا إذ ذاك أن حكم الإسلام بخلافه, فلما ثبت عندهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الخلافة في قريش ,أذعنوا له وبايعوا أبا بكر.

وقوله: هم أوسط العرب داراً, أراد به سطة النَّسب. ومعنى الدَّار: القبيلة. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم:"خير دور الأنصار بنو النَّجار ثم بنو فلان ثم بنو فلان ,يريد خير قبائل الأنصار بنو النَّجار"وقوله: (وأعربهم أحساباً) يريد: أنهم أشبه شمائل وأفعالاً بالعرب. قال شمر: النسب: الآباء, والحسب: الفِعالُ وأنشد للمَتُلَمِّس:

ومن كان ذا نسب كريم ولم يكن له حسب كان اللئيم المُذَمَّما والحسب: مأخوذ من الحساب إذا حسبوا مناقبهم, فمن كان يَعُدُّ لنفسه ولاية ومناقب أكثر كان أحسب.

(الباب نفسه) 794/ 3637 - قال أبو عبد الله: حدثنا آدم قال: حدثنا شعبة ,عن الأعمش قال: سمعت ذكوان يحدث عن أبي سعيد الخدري قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:" لا تسبوا أصحابي , فلو أن أحدكم أنفق مثل أُحدٍ ذهباُ ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه ". النَّصيف: النَّصفُ, كالثمين بمعنى الثُّمن, والعشير بمعنى العُشر يقول: إن المُدَّ الذي يُنفقه الواحد منهم من التمر ويتصدق به مع الحاجة إليه أفضل من الكثير الذي يُنفقه مع السعة والوجد. وقد يُروى: ما بلغ مذَّ أحدهم -بفتح الميم- يريد الفضل والطول.

(الباب نفسه) 795/ 3674 - قال أبو عبد الله: حدثني محمد بن المسكين أبو الحسن قال: حدثنا يحيى بن حسان قال: حدثنا سليمان, عن شريك بن أبي نمر, عن سعيد بن المسيب, أخبرني أبو موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج حتى دخل بئر أريس فتوضأ, فقمت إليه ,فإذا هو جالس على رأس البئر وتوسط قُفَّها. وذكر الحديث بطوله. يريد بالقُفِّ: الدَّكَّةُ التي جعلت حول البئر. وأصل القُفِّ: ما ارتفع من متون الأرض ويُجمَع على القِفاف.

(6) (باب مناقب عمر بن الخطاب أبي حفص القرشي العدوي رضي الله عنه)

(6) (باب مناقب عمر بن الخطاب أبي حفص القرشي العدوي رضي الله عنه) 796/ 3679 - قال أبو عبد الله: حدثنا حجاج بن المنهال قال: حدثنا عبد العزيز بن الماجشون قال: حدثنا محمد بن المنكدر, عن جابر بن عبد الله قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:"رأيتني دخلت الجنة وسمعت خشفةً فقلت من هذا؟ فقال: هذا بلال ". أصل الخشفة الحركة ومعناها هاهنا ما يسمع من حسِّ وقع القدم.

(الباب نفسه) 797/ 3692 - قال أبو عبد الله: حدثني الصَّلت بن محمد قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم قال: أخبرنا أيوب, عن ابن أبي مليكة عن المسور بن مخرمة قال: قال عمر رضي الله عنه لما طُعِن: والله لو أن لي طِلاع الأرض ذهباً لافتديت به من عذاب الله قبل أن أراه. طِلاع الأرض: ملؤها, أي: ما يطلع عليها ويُشرف فوقها من الذهب.

(8) (باب قصة البيعة ,والإتفاق على عثمان بن عفان رضي الله عنه)

(8) (باب قصة البيعة ,والإتفاق على عثمان بن عفان رضي الله عنه) 798/ 3700 - قال أبو عبد الله: حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا أبو عوانة ,عن حصين ,/عن عمرو بن ميمون قال: لما طُعِن عمر قال يا ابن عباس: انظر من قتلني؟ فجال ساعة, ثم جاء فقال: غلام المغيرة. فقال: الصَّنع؟ قال: نعم. فقال: قاتله الله ,كنت أمرت به معروفا, الحمدلله الذي لم يجعل منيَّتي بيد رجل يدَّعي الإسلام. وقال في وصيته: أوصي الخليفة بعدي بأهل الأمصار فإنهم ردء الإسلام وجباة المال وغيظ العدو. وذكر الحديث بطوله. يقال: رجل صنع وامرأةٌ صناع: إذا كان في أيديهما صناعة ,ردأ وكان هذا الغلام نجاراً. والرِّدءُ: العون.

(9) (باب مناقب علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي أبي الحسن - رضي الله عنه)

(9) (باب مناقب علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي أبي الحسن - رضي الله عنه) 799/ 3701 - قال أبو عبد الله: حدثنا قتيبة قال: حدثنا عبد العزيز ,عن أبي حازم ,عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" لأعطين الراية غداً رجلاً يفتح الله على يديه",فبات الناس يدوكون ليلتهم أيُّهم يُعطيها. قوله يدوكون, معناه يخوضون في ذلك ويتداولون الرأي فيه أيُّهم يستنبطه. وأصله من الدَّوك وهو كالدَّقِّ والسَّحق. يقال: دكت الطيب دوكاً, ومنه سُمِّي صلاَّية الطَّيب مداكاً. شبَّه الأمر في ذلك بمن دقَّ شيئاً يستخرج لُبُّه ويعلم باطنه.

(الباب نفسه) 800/ 3706 - قال أبو عبد الله: حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا غندر, عن شعبة قال: سمعت إبراهيم بن سعد, عن أبيه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لعليٍّ:"أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ". هذا إنما قاله رضي الله عنه حين خرج إلى تبوك فلم يستصحبه فقال:"تخلفني مع الذريّة"فضرب له المثل باستخلاف موسى هارون على بني إسرائيل حين خرج إلى الطُّور ولم يرد به الخلافة بعد الموت, فإن المضروب به المثل وهو هارون كان موته قبل وفاة موسى صلوات الله عليهما وإنما كان خليفته في حياته في وقتٍ خاص, فليكن كذلك الأمر فيمن ضرب له المثل به.

(10) (باب مناقب جعفر بن أبي طالب الهاشمي رضي الله عنه)

(10) (باب مناقب جعفر بن أبي طالب الهاشمي رضي الله عنه) 801/ 3708 - قال أبو عبد الله: حدثنا أحمد بن أبي بكر قال: حدثنا محمد بن إبراهيم بن دينار أبو عبد الله الجهني, عن ابن أبي ذئب, عن سعيد المقبري/عن أبي هريرة قال: يقولون أكثر أبو هريرة وإني كنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشبع بطني حين لا آكل الخبير ولا ألبس الحبير ولا يخدمني فلان وفلان. الخبير: الخبز المأدوم والخبرة: الإدام. والحبير: الثياب المُحبَّرة كالبرود اليمانية ونحوها.

(20) (باب مناقب عمار وحذيفة رضي الله عنهما)

(20) (باب مناقب عمَّار وحذيفة رضي الله عنهما) 802/ 3743 - قال أبو عبد الله: حدثنا سليمان بن حرب قال: حدثنا شعبة, عن مغيرة ,عن إبراهيم قال: ذهب علقمة إلى الشام, فلما دخل المسجد قال: اللهم يسِّر لي جليساً صالحاً, فجلس إلى أبي الدرداء فقال له: ممن أنت؟ قال: من أهل الكوفة. قال: قلت: بلى. قال: أليس فيكم أو منكم الذي أجاره الله على لسان نبيّه؟ -يعني من الشيطان- يعني عمَّاراً. قلت: بلى. قال: أليس فيكم أو منكم صاحب السواك أو السَّواد؟ قال: بلى. وذكر الحديث. قوله: صاحب السر ,يريد بذلك ما أسرَّ إليه النبي صلى الله عليه وسلم من أسماء المنافقين وأطلعه عليه من أمرهم. وأما صاحب السَّواد: فهو عبد الله بن مسعود.

والسَّواد: السِّرار وهو ما رُوِيَ أن النبي صلى الله عليه وسلم يختصُّ عبد الله اختصاصاً شديداً, لا يحجبه إذ جاءه ولا يرُدُّه إذا سأله.

(15)؛ باب مناقب سعد بن أبي وقاص الزهري)

(15)؛ باب مناقب سعد بن أبي وقاص الزهري) 803/ 3728 - قال أبو عبد الله: حدثنا هاشم حدثنا عمرو بن عون قال: حدثنا خالد بن عبد الله ,عن إسماعيل ,عن قيس قال: سمعت سعداً يقول: إني لأول العرب رمَى بسهمٍ في سبيل الله وكنَّا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم ومالنا طعام إلا ورق الشجر حتى إن أحدنا ليضع كما يضع البعير أو الشاة ماله خلطٌ, ثم أصبحت بنو أسد تُعزِّرني على الإسلام, لقد خِبتُ إذاً وضلَّ عملي وكانوا وشوا به إلى عمر, قالوا: لا يحسن يُصلِّي. قوله: تُعزِّرني ,معناه تؤدبني. ومنه التعزير الذي هو التأديب على الريبة ونحوها ,والمعنى: إنه يُعلِّمني الصلاة ويُعيِّرني بأن لا أحسِنَهَا. وقد رُوِيَ في هذا من غير هذه الرواية أنه /قال: أما إني

أَركُدُ في الأوليين وأَحذِفُ في الأخريين, وما آلو عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر: كذاك الظن بك أبا إسحاق.

(27) (باب مناقب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه)

(27) (باب مناقب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه) 804/ 3762 - قال أبو عبد الله: حدثنا سليمان بن حرب قال: حدثنا شعبة ,عن أبي إسحاق ,عن عبد الرحمن بن يزيد قال: سألنا حذيفة عن رجل قريب السَّمت والهدي من النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما أعلم أحداً أقرب سمتاً وهدياً ودلاَّ بالنبي صلى الله عليه وسلم من ابن أمِّ عبدٍ. السَّمت: حُسنُ الهيئة. والهدي: الطريقة والمذهب. والدَّلُّ: قريب من الهدي كأنه يريد به أشكال الحركة والمشي والتصرُّف ونحو ذلك من الشمائل.

كتاب مناقب الأنصار

(63) (كتاب مناقب الأنصار) (11) (باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: اقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم) 805/ 3799 - قال أبو عبد الله: حدثني محمد بن يحيى، حدثنا شاذان أخو عبدان قال: حدثنا أبي قال: حدثنا شعبة، عن هشام بن زيد قال: سمعت أنس بن مالك يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أوصيكم بالأنصار فإنهم كرشي وعيبتي). قوله: كرشي وعيبتي، يريد أنهم بطانتي وخاصتي. وضرب المثل بالكرش لأنه مستقر غذاء الحيوان الذي يكون به بقاؤه وقد يكون الكرش عيال الرجل وأهله. ويقال: لفلان كرش منثورة، أي: عيال كثيرة.

والعيبة: هي التي يخزن فيها المرء حر ثيابه، ومصونها ضرب المثل بها، يريد أنهم موضع سره وأمانته.

(11) (الباب نفسه)

(11) (الباب نفسه) 806/ 3800 - قال أبو عبد الله: حدثني أحمد بن يعقوب قال: حدثنا ابن الغسيل قال: سمعت عكرمة يقول: سمعت ابن عباس يقول: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده ملحفة متعطفا (بها) على منكبه وعليه عمامة دسماء. وذكر الحديث. قوله: متعطفا بها، يريد مرتديا بها. والعطاف: الرداء. والدسماء: السوداء. وقد ذكرناه قبل.

(12) (باب مناقب سعد بن معاذ رضي الله عنه)

(12) (باب مناقب سعد بن معاذ رضي الله عنه) 807/ 3803 - قال أبو عبد الله: حدثني محمد بن المثني قال: حدثنا فضل بن مساور ختن أبي عوانة قال: حدثنا أبو عوانة، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: اهتز العرش لموت سعد بن معاذ. هذا يتأول على وجهين: أحدهما: / أن يكون أراد بالعرش السرير الذي حمل عليه ومعنى الاهتزاز: الحركة والاضطراب وكان ذلك فضيلة له، كما كان رجف الجبل وحركته فضيلة لمن عليه وهو ماروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان على حراء ومعه أبو بكر وعمر وعثمان فتحرك

الجبل فقال: اثبت حراء، فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد. والوجه الآخر: أن يكون المراد به عرش الله عز وجل والمراد به حملة العرش. ومعنى الاهتزاز: السرور والاستبشار. ومنه اهتزاز النبات إذا حسن واخضر، وكذلك اهتزاز الأرض في قوله عز وجل: {فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت}. وبعض ذلك من بعض قريب. قال: وعن الأعمش قال: حدثنا أبو صالح، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله. فقال رجل لجابر: فإن البراء يقول: اهتز السرير. فقال:

أنه كان بين الحيين ضغائن، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ. قلت: وهذا يصحح لك وجه القول الثاني الذي ذكرناه وأراد جابر بقوله / كان بين الحيين ضغائن، أن سعدا من الأوس، فالخزرج لا تقر لها بالفضيلة والبراء من الخزرج.

(الباب نفسه) 808/ 3804 - قال أبو عبدالله: حدثني محمد بن عرعرة قال: حدثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن أبي سعيد الخدري أن أناسا نزلوا على حكم سعد بن معاذ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إن هؤلاء نزلوا على حكمك. قال: فإني أحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم. قال: حكمت بحكم الله أو بحكم الملك. هذا يروى على وجهين: أحدهما: بحكم الملك، يريد الله الذي له الملك والملكوت وهو الأشبه بالصواب، فإن الحكم له وله الخلق والأمر. والوحه الآخر: بحكم الملك الذي نزل بالوحي في أمرهم. وفيه من الفقه: أن من نزل من أهل الكفر على حكم رجل من المسلمين نفذ حكمه عليه ما وافق الحق ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (حكمت / فيهم بحكم الملك).

(18) (باب مناقب أبي طلحة رضي الله عنه)

(18) (باب مناقب أبي طلحة رضي الله عنه) 809/ 3811 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو معمر قال: حدثنا عبد الوارث قال: حدثنا عبد العزيز، عن أنس قال: لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبو طلحة بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم مجوب عليه بحجفة له وكان رجلا راميا سديدا القد، فكسر يومئذ قوسين أو ثلاثا. قال: ولقد رأيت عائشة وأم سليم وإنهما لمشمرتان، أرى خدم سوقهما تنقزان القرب على متونهما، تفرغان في أفواه القوم. قوله: مجوب عليه بحجفة، يعني مترس عليه يقيه بالحجفة وهي الترس. والجوب: الترس. وقوله: سديد القد، أراه شديد المد، يريد النزع في القوس ولذلك اتبعه قوله: وكسر قوسين أو ثلاثا. وقد يحتمل أن تكون الرواية شديد القد - بكسر القاف - يريد

به وتر القوس. وقوله: أرى خدم سوقهما. فالخدم: جمع الخدمة وهي الخلخال. والمخدم: موضع الخلخال من الساق. وقوله: تنقزان القرب، إنما هو تزفران القرب، أي: تحملانهما. ويقال للإماء السقاءات: الزوافر. فأما النقز: فهو الوثب. يقال: نقز نقزانا، إذا وثب وثبا متقاربا. وأما القز: فهو الوثب البعيد. وقد روي أن إبليس ليقز القزة ما بين المشرق والمغرب.

(19) (باب مناقب عبد الله بن سلام رضي الله عنه)

(19) (باب مناقب عبد الله بن سلام رضي الله عنه) 810/ 3813 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن محمد قال: حدثنا أزهر السمان، عن ابن عون، عن ابن سيرين، عن قيس بن عباد، عن رجل قال: رأيت رؤيا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقصصتها عليه: رأيت كأني في روضة ذكر من سعتها وخضرتها -، وسطها عمود من حديد، أسفله في الأرض وأعلاه في السماء، في أعلاه عروة. فقيل لي: ارقه. قلت: لا أستطيع، فأتاني منصف، فرفع ثيابي من خلفي فرقيت وهو عبد الله بن سلام. المنصف: الوصيف. قال عمر بن أبي ربيعة: قالت لها ولأخرى من مناصفها لقد وجدت به فوق الذي وجدا

كتاب الأدب

(78) (كتاب الأدب) (54) (باب ماي يكره من التمادح) 811/ 6061 - قال أبو عبد الله: حدثنا آدم قال: شعبة، عن خالد، عن / عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه أن رجلا ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأثنى رجل خيرا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ويحك قطعت عنق صاحبك. يقول: مرارا إن كان أحدكم لا محالة فليقل: أحسب كذا وكذا إن كان يرى أنه كذلك وحسيبه الله ولا يزكى على الله أحداً.

(63) (كتاب مناقب الأنصار)

(63) (كتاب مناقب الأنصار) (19) (باب مناقب عبد الله بن سلام رضي الله عنه) 812/ 3812 - قال: وقال سعد: ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على وجه الأرض: إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام. قلت: قول سعد: ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على وجه الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام، وقد علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك فيه، وأوجب له الجنة مع التسعة من أصحابه الذين هو عاشرهم، لا تنفي ما قد سمعه في ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن كره التزكية لنفسه ولزم التواضع ولم ير لنفسه من الإستحقاق ما رآه لأخيه. ويحكى عن سفيان الثوري أنه كان يقول: أنا أخير بين الصحابة وأقدم العشرة وأروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال من أنهم في الجنة وأرجو ذلك لهم ولا أشهد لغير رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه في الجنة.

قلت: معنى هدا القول من سفيان هو أن باب التخيير بين الصحابة مستفاد من باب المعرفة بفضائلهم، فاذا وقفت على فضائلهم ووقفت على منازلهم ومراتبهم في التقديم والتأخير، وأما القطع لهم بدخول الجنة فمن باب علم الغيب ولا يتوصل إلى ذلك من جهة أخبار الآحاد لأنها إنما تفيد العلم الظاهر، ووقوع التصديق به إنما يكون بغالب حسن الظن وقد استأثر الله بالمغيب، ولا سبيل إلى مطالعته إلا بكتاب ناطق أو خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم من طريق التواتر لا يرتاب بصحته. وقوله: (وحسيبه الله،) يعني أن الله محاسبه على أعماله ويعاقبه على ذنوبه إن شاء. وقوله: ويحك قطعت عنق صاحبك، فإنما كره ذلك شفقا من إعجاب المقول / له بذلك والاعتزاز بقوله فيجد في نفسه الاستطالة والكبر وذلك جناية عليه وتعزيز بذنبه، فيصير كأنه قطع عنقه فأهلكه.

24 (باب حديث زيد بن عمرو بن نفيل) 813/ 3826 - قال أبو عبد الله: حدثني محمد بن أبي بكر قال: حدثنا فضيل بن سليمان قال: حدثنا موسى بن عقبة قال: حدثني سالم بن عبد الله، عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم لقى زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح قبل أن ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي، فقدمت إلى النبي صلى الله عليه وسلم سفرة فأبى أن يأكل منها، ثم قال زيد: إني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم ولا آكل إلا مما ذكر اسم الله عليه. قلت: امتناع زيد بن عمرو من أكل ما في السفرة إنما كان من

أجل خوفه أن يكون اللحم الذي فيها مما ذبح على الأنصاب فتتنزه من أكله، وقد كان رسول الله عليه وسلم لا يأكل من ذبائحهم (التي) كانوا يذبحونها لأصنامهم. فأما ذبائحهم لمأكلتهم فإنا لم نجد في شيء من الأخبار أنه كان يتنزه منها ولأنه كان لا يرى الذكاة واقعة إلا بفعلهم قبل نزول الوحي عليه وقبل تحريم ذبائح أهل الشرك، فقد كان بين ظهرانيهم مقيما معهم ولم يذكر أنه كان يتميز عنهم إلا في أكل الميتة. وكانت قريش وقبائل من العرب تتنزه في الجاهلية من أكل الميتات ولعله صلى الله عليه وسلم لم يكن يتسع إذ ذاك لأن يذبح لنفسه الشاة ليأكل منها الشلو أو البضعة ولا كان فيما استفاض من أخباره أنه كان يهجر اللحم ولا يأكله، واذا لم يكن بحضرته إلا ذكاة أهل الشرك ولا يجد السبيل إلى غيره، ولم ينزل عليه في تحريم ذبائحهم شيء، فليس إلا أكل ما يذبحونه لمأكلتهم بعد أن يتنزه من الميتات تنزيها من الله عز وجل لها واختيارا من جهة الطبع لتركها استقذارا (لها) وتقززا منها وبعد أن يتجنب الذبائح لأصنامهم عصمة من الله عز وجل له لئلا يشاركهم في تعظيم الأصنام بها، وقد أنكح رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته زينب أبا العاص بن الربيع / وهو مشرك وقد هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وبقيت عند أبي العاص بمكة مدة طويلة إلى أن

لحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد، وكان عند عمر بن الخطاب امرأتان مشركتان طلقهما يوم الحديبية حين نزل قوله تعالى: {ولا تمسكوا بعصم الكوافر}. وقوله: {لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن} فكان أمر الطعام قبل وقوع تحريم ذبائح أهل الشرك على وتيرة أمر المناكح في الإباحة وقد كان صلى الله عليه وسلم يتنزه في أمر طعامه وشرابه عن كل خبيث من الأطعمة وذي ضير أو ذي رائحة كريهة وعما ليس منها بطيب في نفسه في مخرج كسبه وذلك أن الله عز وجل قال: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا}. وقال صلى الله عليه وسلم: (إنا معشر الأنبياء أمرنا أن نأكل

طيباً وأن نعمل صالحا) وكان لا يأكل الصدقة لأنها أوساخ الناس وقدم إليه الضب فلم يأكله من غير تحريم له وقال: (لم يكن من طعام قومي فأجدني أعافه)، وكان لا يأكل الثوم

والبصل والكراث لحدة رائحتها، ورخص لأصحابه في أكلها إذا نضجت طبخا. وقال: (إني أناجي من لا تناجون)، يريد الملك، وكان يكره أن يطعم شيئا له رائحة، ودخل على نسائه فقلن له: إنا نجد منك ريح المغافير، وهو يتحلب من بعض الشجر، له رائحة، فساءه ذلك فقال لهن: إني شربت عسلا. فقلن: جرست نحلة العرفط، فحرم على نفسه العسل حتى عوتب على ذلك بقوله: {لم تحرم ما أحل الله لك} فوجب بهذه الأمور ومقتضاها أن لا تكون نفسه تسامحه في حال من الأحوال أن يتناول شيئا من أطعمة القوم وأغذيتهم إلا ما كان ذاته طاهرة ومخرجه طيبا، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يزل عند الله مكتوبا نبيا، ولم يزل على شريعة إبراهيم / صلوات الله عليه، وقد كان يخلو في غار حراء ويتحنث فيه الليالي ذوات العدد من غير وحي أو نزول أمر فيه، لكن كرامة

من الله عز وجل وزلفة له وتقربا منه بالعمل الصالح إليه وعلى شاكلة ذلك الأمر فيما جعله قوتا له وقياما لينتظم المعنيين معا بقوله: (أمرنا معشر الأنبياء أن لا نأمل إلا طيبا ولا نعمل إلا صالحا). وقد أباح الله لنا طعام أهل الكتاب وأحل لنا ذبائحهم، والنصارى يذبحون باسم المسيح ويشركون في ذلك بالله عز وجل. ثم لم يحرم علينا ما يذبحونه في قول أكثر أهل العلم وأن كان غير واحد من العلماء قد قال: إنهم إذا ذبحوا باسم المسيح أو لغير اسم الله لم تحل ذبائحهم، وكره بعضهم أيضا ما يذبحون للكنائس والبيع ولأيامهم التي يعبدون فيها، وإنما استطابوا من ذبائحهم ما كان منها لأقواتهم، وقد كره بعض أهل العلم أن يولي المسلم الكتابي ذبح الشاة التي هي ملك للمسلم ولم ير أن يذكيها إلا مسلم، وإنما رأى أن تحل ذبائحهم ما كان ملكا لهم فتولوا ذكاتها وتأولوا الآية من قوله عز وجل: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} على هذا المعنى دون ما كان ملكا للمسلم، إذا كان له فيمن يتولى ذبحها وذكاتها من المسلمين مندوحة. وقد حكي عن مالك بن أنس أنه كان لا يرى أن تؤكل الشحوم من ذبائح اليهود لأنها محرمة عليهم وأحسبه ذهب في ذلك إلى قوله عز وجل: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} وليست الشحوم من طعامهم.

(72) (كتاب الذبائح والصيد)

(72) (كتاب الذبائح والصيد) (22) (باب ذبائح أهل الكتاب وشحومها من أهل الحرب وغيرهم) 814/ 5508 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو الوليد قال: حدثنا شعبة، عن حميد بن هلال، عن عبد الله بن مغفل قال: كنا محاصرين قصر خيبر، فرمى انسان بجراب فيه شحم فنزوت لآخذه، فالتفت (فإذا) النبي صلى الله عليه وسلم فاستحييت. قلت: فهذا من صنعيهم ما يدل على أن ذكاتهم تبيح الشحوم، كما تبيح اللحم / من الذبيحة، وإنما امتنع عبد الله بن مغفل من أخذه استحياء من النبي صلى الله عليه وسلم لئلا يظن به الاستيثار على أصحابه. وفيه دليل على أن ذكاة أهل الحرب من أهل الكتاب كذكاة من له ذمة منهم في بلاد الإسلام.

(63) (كتاب مناقب الأنصار)

(63) (كتاب مناقب الأنصار) (27) (باب القسامة في الجاهلية) 815/ 3845 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو معمر قال: حدثنا عبد الوارث (حدثنا قطن أبو الهيثم حدثنا أبو يزيد المدني عن عكرمة عن ابن عباس) أول قسامة كانت في الجاهلية لفينا بني هاشم كان رجل من بني هاشم استأجر رجلا من فخذ أخرى، فانطلق معه في إبله، فمر رجل من هاشم قد انقطعت عروة جوالقه فقال: أغثني بعقال أشد به عروة جوالقي لا تنفر الابل، فأعطاه عقالا فشد به عروة جوالقه، فلما نزلوا عقلت الابل إلا بعيرا واحدا فقال الذي استأجره: ما شأن هذا البعير لم يعقل من بين الابل؟ فقال: ليس له عقال. قال: فأين عقاله؟ قال: فحذفه بعصا كان فيها أجله، فمر به رجل من أهل اليمن فقال: أشهد الموسم؟ فقال:

ما أشهد، وربما شهدته. قال: أنت مبلغ عني رسالة مرة من الدهر؟ قال: نعم. قال: إذا أنت شهدت الموسم فنار يالقريش فاذا أجابوك فناد يالبني هاشم، فإن أجابوك فسل أبي طالب فأخبره أن فلانا قتلني ومات المستأجر، فلما قدم الذي استأجره أتاه أبو طالب فقال: ما فعل صاحبنا؟ قال: مرض فأحسنت القيام عليه ووليت دفنه. قال: قد كان أهل ذاك منك، فمكث حينا، ثم أن الرجل الذي أوصى إليه أن يبلغ عنه وافى الموسم. قال: يالقريش. قالوا: هذه قريش. قال: يالبني هاشم. قالوا: هذه بنو هاشم. قال: أين أبو طالب؟ قال: أمرني فلان أن أبلغك رسالة أن فلانا قتله في عقال. فأتاه أبو طالب فقال: اختر منا إحدى ثلاث: إن شئت أن تؤدي مائة من الإبل فأنك قتلت صاحبنا، وإن شئت حلف خمسون من قومك أنك لم تقتله، فإن أبيت قتلناك به، فأتى قومه / فقالوا: نحلف، فأتته امرأة من بني هاشم كانت تحت رجل منهم قد ولدت له فقالت: يا أبا طالب: أحب أن تجيز ابني هاشم برجل من الخمسين ولا تصبر يمينه حيث تصبر الأيمان ففعل، فأتاه لرجل منهم فقال: يا أبا طالب: أردت خمسين رجلا أن يحلفوا مكان ماية من الإبل، يصيب كال رجل بعيران فاقبلهما عني ولا تصبر يميني حيث تصبر الأيمان

فقبلهما، وجاء ثمانية وأربعون فحلفوا. فقال ابن عباس: فوالذي نفسي بيده ما حال الحول ومن الثمانية والأربعين عين تطرف. قلت: إنما كتبنا هذا الخبر بطوله، واقتصصناه بتمامه. لما يجمعه من أمور منها ما يدخل في أمر الدين وأحكام الشريعة ومنها ما يدخل في باب الاعتبار والاتعاظ ليكون ردعا للظالم وسلوة للمظلوم فالذي يدخل منه في أمر الدين وأحكامه أن القسامة أمر كان أهل الجاهلية يستعملونه ويحكمون به فيما بينهم، وكانوا يشيطون بها الدم إذا امتنع المدعى عليهم من الدية، وإن الإسلام قد قررها وأثبت الحكم بها إلا أن القائلين بها من الفقهاء قد اختلفوا في صورتها والشرائط التي تتعلق بها فقال مالك والشافعي: لا تكون القسامة إلا مع لوث ومع نوع من الدلالة مخيلة.

وذهب مالك إلى أنها تشيط الدم. وقال الشافعي: القسامة لا توجب الدم إنما توجب النية. ومما يستفاد من العلم بهذا الخبر أن دية النفس لم تزل كانت ماية من الإبل. وأن الأيمان في الحرم إذا وقعت في الأمور التي لها شأن كانت بين الركن والمقام، ومن هاهنا استدل الشافعي على أنه لا يحلف بين الركن والمقام على أقل من عشرين دينارا، وعلى ذلك تأول عبد الرحمن بن عوف حين مر على قوم يحلفون بين الركن والمقام /

فقال: أعلى عظيم من المال؟ فكان ذلك متقدرا بعشرين دينارا، وقد يحسب بعض الناس أنه إنما ذهب إليه من جهة استحقاق الاسم، فجعل العظيم من المال ما كان مبلغه عشرين دينارا، وناقضوه على هذا بقوله فيمن أقر عن الحاكم بعظيم من المال على الإبهام من غير بيان كمية، ثم لا يوجب عليه بحق هذا الإقرار إلا ما يقربه من دراهم فما فوقه أو هو دونه. ولم يذهب الشافعي في هذا إلا اعتبار الاسم، لكن إلى العرف القائم والعادة الجارية في قديم الدهر في أنه لا يكون اليمين بين الركن والمقام في أقل من عشرين دينارا أو مائتي درهم وهو قدر ما تجب فيه الزكاة. ألا ترى أن المبلغ الذي افتدى به الرجل من اليمين حتى لم تصبر الأيمان عشرون دينارا وهي قيمة بعيرين وذلك أن الإبل كانت تقوم عندهم هذا التقويم، إذ جعل على أهل الذهب ألف دينار بدلا من الماية من الإبل وعلى أهل الفضة عشرة الآف درهم من صرف العشرة بدينار، ومعنى الصبر في اليمين الإيجاب والإلزام حتى

لا يسعه أن يحلف، وأصل الصبر في اللغة الحبس، فاليمين المصبورة ما حبس عليها صاحبها وحكم عليه بها. وأما ما فيه من باب الاتعاظ والاعتبار، فإن من عجيب أمر الله عز وجل ولطيف حكمته أنه جعل دعاء المظلوم منهم وسيلة له في استدراك ظلامته، وجعل الحرم والأشهر الحرم مظنة لاستجابة دعائه وإعدائه على الظالم فيها وكان ذلك أمرا معلوما عندهم يرهب المظلوم به الظالم ويتوعده عليه، فكان لا يكاد يخلفهم ذلك ولا يخفر بهم وكان وجه الحكمة في ذلك والله أعلم أن يتحاجزوا فيما بينهم ويتمانعوا من الظلم والبغي، إذ لم يكن فيهم إذ ذاك نبي ولا لهم كتاب ولا كانوا يؤمنون / بالبعث والحساب، فلوا تركوا مع ذلك سدى هملا لأكل القوي منهم الضعيف، واهتضم الظالم المظلوم، ولكان عقباه الدمار ولبطلت هذه العواقب التي أظهرها الله آخر الزمان وخروج النبي الأمي من أصلابهم والمؤمنين من ذرياتهم فأقام عمود الحق بهم وثبت أركان الدين بحميد مقامهم، وإلى هذا مرجع قول الله عز وجل: {جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم}. وقد جاءت أخبار في هذا الباب كثيرة م ظهور استجابة أدعية

المظلومين في أيام الجاهلية وإعدائهم على الظلمة، ونذكر منها خبرا واحدا يجمع فنونا منها. حدثنا الحسين بن علي التمار قال: حدثنا محمد بن القاسم بن بشار قال: حدثني أبي قال: حدثنا محمد بن أبي يعقوب الدينوري، عن المعافى بن عمران، عن شهاب بن خراش، عن نضيل بن أبي الأشعث، قال: قسم عمر بن الخطاب قسما فنظر إلى رجل أعمى يقوده قائد فيتعب قائده لبلادته فقال عمر: والله ما رأيت منظرا أسوأ من هذا قط. قال له قائده: يا أمير المؤمنين أتعرف هذا؟ قال: لا. فمن هو؟ قال: هذا ابن الضبعاء الذي بهله بريق. قال عمر: بريق نبز فما اسمه؟ قال: عياض. قال: ادعو لي عياضا. فجاء عياض فقال له عمر: يا عياض ما قصة هذا الرجل الضرير؟ فقال يا أمير المؤمنين: هذا أمر كان في الجاهلية قال: فهو أجدر أن يحدث به في الإسلام.

قال: إني جاوزت بني الضبعاء وكانوا عشرة وكانوا يظلمونني ويؤذونني فأمهلتهم حتى دخل الشهر الحرام يعني رجبا، ثم أومأت إليهم وقلت: (أقتل) بني الضبعاء إلا واحدا. ثم ارم في الرجل فذره قاعدا أعمى إذا قيد يعيي القائدا قال: فهلكوا والله يا أمير المؤمنين كلهم إلا هذا / الأعمى الذي رأيت فإني استثنيته. فقال عمر: ما أعجب هذا. فقال: أنا أحدثك يا أمير المؤمنين بأعجب منه فقال: حدث القوم يسمعوا فقال: إني جاوزت رجلا من أهل اليمن يقال له ابن تقاصف فكان يؤذيني ويمنعني حقي ويسعى علي بالمكروه، فأمهلت حتى دخل الشهر الحرام، ثم أشرت إليه وقلت:

إلاه كل آمن وخائف وسامعا هتاف كل هاتف (إن الخناعي أبا تقاصف) لم يعطني حقي ولم يناصف فاجمع مع الأحبة الا لاطف ثم ارمهم في جوف كل راجف فبينما هم يا أمير المؤمنين بعين يعالجون حفرا لهم فانهار عليهم فموتوا والله كلهم. فقال عمر: ما أعجب هذا. فقال رجل:

يا أمير المؤمنين أنا أحدثك بأعجب منه، كان رجل من حي فمات أهله فورثهم وجاور قوما من بني مؤمل، فحسدوه وقصدوه بالمكروه ومنعوه حقه فأمهل حتى دخل الشهر الحرام ثم مد نحوهم وقال: اللهم ارم بني مؤمل وارم على اقفائهم بمثكل بصخرة صما أو بجحفل إلا رياحا إنه لم يفعل قال: فبيناهم يسيرون بين صدين تدهدهت صخرة فسقطت عليهم (فقتلتهم) إلا رياحا الذي استثناه، فإنه كان ينهاهم عن الظلم فيخالفونه فقال عمر: ما أعجب هذا!! ثم قال: أتدرون لم كان كذلك؟. قالوا: أن أعلمنا يا أمير المؤمنين فأخبرنا. قال: لأنهم كانوا أهل جاهلية. فأجيب دعاء بعضهم على بعض لينحجز بعضهم عن ظليمة بعض وأنتم أخركم الله فقال: {بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر}.

(33) (باب إسلام أبي ذر الغفاري رضي الله عنه)

(33) (باب إسلام أبي ذر الغفاري رضي الله عنه) 816/ 3861 - قال أبو عبد الله: حدثنا عمرو بن عباس قال: حدثنا المثنى، عن أبي جمرة، عن ابن عباس في قصة قدوم أبي ذر مكة وإسلامه وأنه بقي يومين لا يتعرف إلى أحد، فمر به علي فقال: أما نال للرجل أن يعرف منزله فأقامه وذهب به وذكر الحديث. قوله: أما نال / للرجل، معناه أما حان. وفي حديث خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أن أبا بكر قال له: قد نال الرحيل يا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يعني حان.

(34) (باب إسلام سعيد بن زيد رضي الله عنه)

(34) (باب إسلام سعيد بن زيد رضي الله عنه) 817/ 3862 - قال أبو عبد الله: حدثنا قتيبة بن سعيد قال: حدثنا سفيان، عن اسماعيل، عن قيس قال: سمعت سعيد بن زيد ابن عمرو بن نفيل يقول: لو أن أحدا ارفض للذي صنعتم بعثمان لكان محقوقاً.

(35) (باب إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه)

(35) (باب إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه) 818/ 3867 - قال: وحدثني محمد بن المثنى قال: حدثنا يحيى قال: حدثنا إسماعيل قال: حدثنا قيس قال: سمعت سعيدا: لو أن أحدا انفض لما صنعتم بعثمان لكان محقوقا أن ينفض. قوله: ارفض، يعني زال عن مكانه وتفرق أجزاؤه، وكذلك انفض. قول الله عز وجل: {لانفضوا من حولك} وفض الجيش وفله واحد. فإن (رواه) راو انقض - بالقاف - كان معناه تقطع وتكسر، والفضض: ما تكسر من الحجارة وتقطع منها. وقوله: لكان محقوقا أن ينفض، أي واجبا، يقال: حق عليك أن تفعل كذا وأنت حقيق أن تفعله، ومحقوق أن تفعل ذلك.

(40) (باب قصة أبي طالب)

(40) (باب قصة أبي طالب) 819/ 3883 - قال أبو عبد الله: حدثنا مسدد قال: حدثنا يحيى، عن سفيان قال: حدثنا عبد الملك قال: حدثنا عبد الله بن الحارث قال: حدثنا العباس بن عبد المطلب قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما أغنيت عن عمك فإنه كان يحوطك ويمنعك قال: هو في ضحضاح من النار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل. الضحضاح: ماء يبلغ الكعب. يريد أنه خفف عنه العذاب بسببي وإنما يناله العذاب وتأخذه النار على قدر ذلك من جسده.

(42) (باب المعراج)

(42) (باب المعراج) 820/ 3887 - قال أبو عبد الله: حدثني هدبة بن خالد قال: حدثنا همام بن يحيى، عن قتادة، عن أنس بن مالك، عن مالك بن صعصعه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم حدثه ليلة أسري به قال: بينما أنا في الحطيم وربما قال في الحجر إذ أتاني آت فقد قال: وسمعته يقول: فشق / ما بين هذه الى هذه، أي: من قصه إلى شعرته، وذكر حديث المعراج إلى أن قال: ثم صعد بي حتى أتى السماء السادسة، فاستفتح فقيل: من هذا؟ قال: جبريل , قيل: من معك؟ قال: محمد. قيل: قد أرسل إليه؟ قال: نعم. قال: مرحبا به ونعم المجيء جاء، فلما خلصت فإذا موسى فسلمت عليه ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، فلما تجاوزت: بكى. قيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي أن غلاما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخل من أمتي. وساق الحديث إلى أن قال: ثم رفعت إلى سدرة المنتهى فإذا نبقها مثل قلال هجر وإذا ورقها مثل

آذان الفيلة إلى أن قال: ثم أمرت بخمسين صلاة كل يوم. قال: إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم وإني قد جربت الناس قبلك وعالجت بني اسرائيل أشد المعالجة فارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك، فرجعت إلى ربي فوضع عني عشرا وذكر بقية الحديث إلى أن قال: أمرت بخمس، ونادى مناد إني أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي. الحطيم: الحجر، وإنما قيل له الحطيم من جداره فلم يسو ببناء البيت وترك خارجا منه محطوم الجدار. والشعرة: العانة. وقوله: (فقد) معناه قطع , والقد: القطع، ومثله القط. وقوله: (قد أرسل إليه) قد تقدم تفسيره، وذكرنا أن معناه هل أرسل إليه ليعرج به إلى السماء؟ إذ كان الأمر في بعثه رسولا معلوما عندهم قبل ذلك والله أعلم. وفيه وجه آخر: وهو أنه لا ينكر أن يكونوا لم يعلموا ذلك من بعثته لأنهم عباد الله موكلون بالعبادة، مرتبون لما أمروا به، مقصورون على ما أرصدوا له من الأمر الذي هم بإزائه لا غير،

وليس عليهم إذا لم يعلموا نفص ولا لوم، إذ كانوا غير مأمورين بأن يؤمنوا بمحمد أمر خطاب، كما أمر محمد أن يؤمن بهم، ووجوب طلب العلم لا يعدو / الإنس والجن، وإنما حظ الملائكة الاجتهاد في العبادة دون طلب العلم وتتبع وجوهه. وأما بكاء موسى عليه السلام فقد تقدم ذكره وتقسيم ضروب البكاء بوجوهه، وأنه لم يكن على معنى المحاسدة له والمنافسة فيما أوتيه من الكرامة. وقوله: فإذا نبقها مثل قلال هجر، يريد أن حب ثمرها في الوفور والكبر مثل قلال هجر. والقلال: الجرار، وهي معروفة عند المخاطبين بها معلومة القدر. وهي التي حد بها الكثير من الماء في قوله صلى الله عليه وسلم: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا والتحديد لا يقع بالأمر المجهول.

وقوله: (ثم أمرت بخمسين صلاة)، فإنه يشبه أن يكون الأمر الأول غير مفروض حتما لو كان عزيمة لم يكن لهما في ذلك مراجعة ولا معاودة وإنما فعلا ذلك على علم منهما بموضع البقيا والتخفيف، وباب مسألة الله تعالى والشفاعة إليه باب الحاجة والافتقار وهو نوع من العبادة وقد كان لموسى صلى الله عليه وسلم من تقدمة المعرفة بأمور المتعبدين من الأمم ربما يعرض من الموانع في سوء احتمال اطباعهم إياها وقلة استقلالهم بها مالم يكن لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فخشي من جهة النصح والشفقة ما أشار به عليه وأرشده إليه من طلب التخفيف عن أمته والله جواد كريم وبعباده رءوف رحيم. وقد أنجحت الطلبة ونودي قد خففت عن عبادي وأجري الحسنة عشرا، فالصلوات خمس في التخفيف عددا وخمسون في التضعيف مثوبة وأجرا والحمد لله على مننه وإحسانه.

(44) (باب تزويج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة، وقدومها المدينة، وبنائه بها)

(44) (باب تزويج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة، وقدومها المدينة، وبنائه بها) 821/ 3894 - قال أبو عبد الله: حدثني فروة بن أبي المغراء قال: حدثنا علي بن مسهر، عن هشام، عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: تزوجني النبي صلى الله عليه وسلم وأنا ابنة ست سنين. فقدمنا المدينة فنزلنا في بني الحارث بن خزرج فوعكت فتمرق شعري فوفى جميمة، فأتتني أمي أم رومان وإني لفي أرجوحة / ومعي صواحب لي، فصرخت: جميمة، فأتيتها ما أدري ما تريد مني، فأخذت بيدي حتى (أوقفتني) على باب الدار وإني لأنهج حتى سكن بعض نفسي، ثم أخذت شيئا من ماء فمسحت به وجهي ورأسي، ثم أدخلتني الدار وإذا نسوة من الأنصار في البيت فقلن: على الخير والبركة، فأصلحن من شأني، فلم يرعني إلا رسول الله صلى

الله عليه وسلم فأسلمتني إليه وأنا يومئذ ابنة تسع سنين. قولها: وعكت، يعني حممت، والوعك: الحمى، وتمرق الشعر: سقوطه من علة، ومثله التمرط. وقولها: وإني لأنهج. يقال: أنهج الرجل: إذا علاه البهر والنفس من الإعياء ونحوه. وقولها: لم يرعني إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني لم يفاجئني إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يقال ذلك في الشيء لا تتوقعه فيهجم عليك في غير حينه أو من غير موضعه.

(الباب نفسه) 822/ 3895 - قال أبو عبد الله: حدثنا معلى قال: حدثنا وهيب، عن هشام بن عروة، عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: (أريتك في المنام مرتين أريت أنك في سرقة من حرير). السرقة: القطعة من السرق وهو الحرير، وكان الأصمعي يقول: السرق، دخيل في العربية من كلام الفرس وأصله في كلامهم سره، أي: جيد ى، ووصف أعرابي رجلا فقال: (له لسان أرق من ورقه وألين من سرقة).

(45) (باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة)

(45) (باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة) 823/ 3905 - قال أبو عبد الله: حدثني يحيى بن بكير قال: حدثنا الليث. عن عقيل قال ابن شهاب: أخبرني عروة بن الزبير، عن عائشة قالت: خرج أبو بكر مهاجرا نحو أرض الحبشة حتى إذا (بلغ) برك العماد لقيه بن الدغنة وهو سيد القارة فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي وأريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي. فقال ابن الدغنة: فإن مثلك لا يخرج، أنت تكسب المعدم وتصل الرحم وتحمل الكل

وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق، فأنا لك جار، / ارجع فاعبد ربك ببلدك، فرجع وارتحل معه ابن الدغنة فطاف في أشراف مكة، فلم تكذب قريش بجواره وقالوا له: مر أبا بكر فليعبد ربه في داره وليصل فيها وليقرأ ما شاء ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن به فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فلبث أبو بكر يعبد ربه في داره، ثم بدا له فابتنى مسجدا بفناء داره، فكان يصلي فيه ويقرأ القرآن فيتقذف عليه نساء المشركين وأبناؤهم يعجبون منه وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلا بكاء لا يملك عينه إذا قرأ القرآن، فأفزع ذلك أشراف - قريش يعني من المشركين - فأرسلوا إلى ابن الدغنة في ذلك وقالوا: إنا قد كرهنا أن نخفرك ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان. فقال لابن الدغنة: إني أرد جوارك وأرضى بجوار الله / والنبي صلى الله عليه وسلم يومئذ بمكة فقال للمسلمين: إني أريت دار هجرتكم ذات نخل بين لابتين، فهاجر من هاجر قبل المدينة وساق الحديث إلى أن ذكرت مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو المدينة معه أبو بكر. قالت: ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار في جبل ثور وكمنا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شاب ثقف لقن فيدلج من عندهما بسحر، فيصبح مع قريش كبايت، فلا يسمع أمرًا يكتادان

به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حتى يختلط الظلام ويرعى عليهما عامر بن فهيرة - مولى أبي بكر - منحه من غنم فيريحها عليهما حين يذهب ساعة من الليل فيبيتان في رسل منحتهما ورضيفها حتى ينعق بهما عامر بن فهيرة تعني: بغلس قالت: واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلا من بني عبد بن عدي هاديا خريتا. والخريت: الماهر بالهداية قد غمس حلفا في آل العاص بن وائل السهمي وهو على دين كفار قريش فأمناه فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما. / وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل، فأخذ بهما طريق السواحل.

(2) (الباب نفسه)

(2) (الباب نفسه) 824/ 3906 - قال ابن شهاب: فأخبرني عبد الرحمن بن مالك المدلجي وهو ابن أخي سراقة بن مالك بن جعشم أن أباه أخبره أنه سمع سراقة بن جعشم. يقول: جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله وأبي بكر دية كل واحد منهما لمن قتله أو أسره، فينما أنا جالس في مجلس قومي أقبل رجل منهم فقال: إني رأيت آنفا أسودة بالساحل أراها محمدا وأصحابه، ثم ذكر أنه ركب في طلبهم. قال: فركبت فرسي، فرفعتها تقرب بي حتى دنوت منهم، فعثرت بي، فخررت عنها، فقمت فأهويت إلى كنانتي، فاستخرجت منها الأزلام، فاستقسمت بها أضرهم أم لا؟، فخرج الذي أكره، فركبت فرسي وعصيت الأزلام تقرب بي، حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها، ثم زجرتها،

فنهضت، فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة إذ لأثر يديها غبار ساطع في السماء مثل الدخان. قال: وعرضت عليهما الزاد والمتاع فلم يرزآني ولم يسألاني إلا أن قال: أخف عنا. وذكرت القصة في دنوهما من المدينة. قال: فأوفى رجل من يهود على أطم من آطامهم، فبصر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معشر العرب هذا جدكم الذي تنتظرون. وذكرت باقي الحديث. قوله: أنت تكسب المعدم، يعني تعطيه المال وتملكه اياه. يقال: كسبت الرجل مالا وأكسبته إياه. وأفصح اللغتين حذف الألف. وقوله: وتحمل الكل. يعني المنقطع به، وأصل {الكل} العيال ومن لا يقوم بأمر نفسه. ومنه قوله الله عز وجل: {وهو كل على مولاه} والكل أيضا اليتيم ومعناه راجع إلى الأول. وقوله: فلم تكذب قريش بجواره، يعني لم ترد بجواره، وكل من كذب بشيء فقد رده.

وقوله: يتقذف عليه نساء المشركين / وأبناؤهم. تصحيف والمحفوظ منه فيتقصف، أي: تزدحم عليه حتى يسقط بعضهم على بعض. وأصل القصف: الكسر. وانقصفت القناة: إذا انكسرت وقصفت الريح الشجرة. هكذا حدثنا في هذه القصة الحسن بن عبد الرحيم قال: حدثنا اسحاق بن ابراهيم قال: حدثنا حرملة بن يحيى قال: أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب، أخبرني عروة بن الزبير عن عائشة. وذكر الحديث بطوله وقالت: فتقصف عليه نساء المشركين وأبناؤهم وهذا هو المحفوظ. وأما تتقذف: فلا وجه له هاهنا إلا أن يجعل من القذف، يتدافعون فيقذف بعضهم بعضا فيتساقطون عليه وفي هذا بعد. وقولهم: إنا كرهنا أن نخفرك، معناه كرهنا أن ننقض ذمتك.

يقال: خفرت الرجل: إذا حفظته. وأخفرته: إذا كان بينك وبينه عهد فنقضته. وقوله: بين لابتين، واحدتهما لابة وهي الحرة، يريد المدينة وهي بين حرتين، والحرة، شبه الجبل من حجارة خشنة سود. وقوله: وهو غلام ثقف. الثقافة: حسن التلقي للأدب. يقال: غلام ثقف وثقف. واللقن: الحسن التلقي لما يعلمه ويسمعه. وقوله: يدلج من عندهما بسحر، أي: يخرج في ذلك الوقت منصرفا إلى مكة. يقال أدلج الرجل إذا سار الليل كله وأدلج - الدال مشددة - إذا سار سحرا. وقوله: يكتادان به: هو من الكيد، أخرجه على وزن الافتعال. والمنحة: الشاة ذات اللبن، يمنحها الرجل صاحبه فيشرب من لبنها فيرد رقبتها. والرسل: اللبن. والرضيف: أن تحمى الحجارة فتلقى في اللبن. الحليب، فتذهب وخامته وثقله. وقوله: حتى ينعق بها. النعيق: دعاء الغنم بلحن تزجرها به. والخريت: الديل الماهر بالهداية، كما جاء في تفسيره في

الحديث. ويقال: إنه مأخوذ من خرت الإبرة كأنه يهتدي لمثل خرتها. وقوله: قد غمس حلفا في آل / العاص بن وائل هو في الرواية التي ذكرناها من طريق حرملة، قد غمس يمين حلف: يريد أنه كان حليفا لهم وكانوا إذا تحالفوا غمسوا أيديهم في دم أو خلوف أو نحوهما من شيء فيه تلوين فيكون ذلك تأكيدا للحلف. وقوله: إني قد رأيت أسودة بالساحل. هو جمع سواد الإنسان وهو شخصه. وقوله: فرفعتها تقرب بي، بالتقريب دون الحضر في سير الدابة وفوق سير العادة. والأزلام: أقلام كانوا يكتبون على بعضها نعم وعلى بعضها لا، فكانوا إذا أرادوا أمرا استقسموا بها، فإذا خرج سهم الأنعام تموا لوجههم وإذا خرج السهم الآخر أحجموا عن قصدهم. وواحد الأزلام: زلم، ومعنى الاستقسام طلب معرفة قسمي الخير والشر والنفع والضر في الأمر الذي هم بسبيله. وقوله: غبار ساطع في السماء هو في سائر الروايات عثان، والعثان: الدخان.

وقوله: فلم يرزآني، يعني لم يأخذا مني شيئا ولم ينقصاه من مالي. والأطم: بناء معمول من حجارة كالقصر ويجمع على الآطام. وقول اليهودي: هذا جدكم الذي تنتظرون، يعني حظكم ودولتكم التي كنتم تتوقعونها.

(الباب نفسه) 825/ 3909 - قال أبو عبد الله: حدثني زكريا بن يحيى، عن أبي أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن أسماء أنها حملت بعبد الله بن الزبير قالت: فخرجت وأنا متم، فأتيت المدينة، فنزلت بقباء، فولدته بقباء، وكان أول مولود في الاسلام، يعني المدينة. المتم من ذوات الحمل: هي التي تمت لها مدة الحمل وشارفت الوضع /

(45) (الباب نفسه)

(45) (الباب نفسه) 826/ 3915 - قال أبو عبد الله: حدثنا يحيى بن بشر قال: حدثنا روح قال: أخبرنا عوف، عن معاوية بن قرة، حدثني أبو بردة بن أبي موسى الأشعري، عن عبد الله بن عمر قال: قال عمر لأبي موسى وددت أنه برد لنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: الاسلام وأن كل شيء (عملناه) بعده نجونا منه كفافا رأسا برأس. قوله: بردلنا /، يعني سلم لنا، وأصله في الكلام الثبوت. يقال: برد الشيء: إذا ثبت، وبرد لي على الغريم حق إذا وجب ويقال: ما برد لك على فلان فهو علي.

(45) (الباب نفسه)

(45) (الباب نفسه) 827/ 3917 - قال أبو عبد الله: حدثني أحمد بن عثمان قال: حدثنا شريح بن مسلمة قال: حدثنا إبراهيم بن يوسف، عن أبيه، عن أبي اسحاق، عن البراء بن عازب، عن أبي بكر في قصة مخرجه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة قال: وأقبل راع في غنيمة فقلت: هل لي في غنمك من لبن؟ قال: نعم. فحلب كنفة من لبن. هكذا قال في هذا الحديث وهو غلط وإنما هو كثبة من لبن، يريد القليل منه، وقد ذكرناه فيما قبل.

(45) (الباب نفسه)

(45) (الباب نفسه) 828/ 3920 - قال أبو عبد الله: حدثنا دحيم قال: حدثنا الوليد قال: حدثنا الأوزاعي قال: حدثنا أبو عبيد، عن عقبة بن وساج قال: حدثني أنس بن مالك قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فكان أسن أصحابه أبو بكر، فغلفها بالحناء والكتم حتى قنا لونها. القاني: من الألوان الشديد الحمرة الذي يضرب إلى السواد. يقال: قنأ يقنأ قنوءا. والكتم: يقال إنه الوسمة بل هو نبت آخر.

(45) (الباب نفسه)

(45) (الباب نفسه) 829/ 3921 - قال ابو عبد الله: حدثني أصبغ قال: حدثنا ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة أن أبا بكر تزوج امرأة من كلب يقال لها: أم بكر، فلما هاجر أبو بكر طلقها، فتزوجها ابن عمها الشاعر الذي قال هذه القصيدة رثى كفار قريش: وماذا بالقليب قليب بدر من الشيزى تزين بالسنام وماذا بالقليب قليب بدر من القينات والشرب الكرام تحيا بالسلامة أم بكر وهل لي بعد قومي من سلام يحدثنا الرسول بأن سنحيا وكيف حياة أصداء وهام

الشيزى: شجر يتخذ منه الجفان وكانوا يسمون الرجل المطعم جفنة لأنه يطعم الناس في الجفان. والقينات: واحدتهن قينة وهي المغنية. الشرب: جمع الشارب، يعني الندماء الذي يجتمعون للشرب. وأما قوله: تحيا بالسلامة أم بكر. فإنه يدل على معنى السلام الذي هو التحية السلامة. ومصدر قولهم: سلم الرجل سلاما وسلامة. ألا تراه كيف عطف عليه في المصراع الآخر بالسلام؟ يريد وهل لي بعد هلاك قومي من سلام؟ والأصداء: جمع الصدى وهو ما كان يزعمه أهل الجاهلية من أن روح الانسان تصير طائرا يقال له الصدى. ويقال إنه الذكر من الهام وذلك من ترهات أهل الجاهلية وأباطيلهم.

(46) (باب مقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة)

(46) (باب مقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة) 830/ 3931 - قال أبو عبد الله: حدثني محمد بن المثنى قال: حدثني غندر قال: حدثنا شعبة، عن هشام، عن أبيه، ى عن عائشة أن أبا بكر دخل عليها وعندها قينتان تغنيان بما تعازفت الأنصار يوم بعاث. يريد بالقنيتين جاريتين لا مغنيتين. يقال للحرة من الجواري قينة، وللأمة المملوكة قينة وللمغنية قينة وللماشطة التي تزين العرائس قينة. ويوم بعاث: يوم مذكور من أيام الجاهلية كان للأوس على الخزرج. وقوله: تعازفت، يحتمل أن يكون من عزف اللهو وضرب المعازف على تلك الأشعار وإنشادها، يتذامرون بذلك على القتال ويحتمل أن يكون من العزيف وهو أصوات الوغا كعزيف

الرياح وهو ما يسمع من دويها. ومنه عزيف الجن وهو جرس أصواتها فيما يقال والله أعلم.

كتاب المغازي

(64) كتاب المغازي (4) (باب قول الله تعالى {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ..}) 831/ 3953 - قال أبو عبدالله: حدثني محمد بن عبدالله بن حوشب قال: حدثنا عبدالوهاب قال: حدثنا خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر: " إني أنشدك عهدك ووعدك اللهم إن شت لم تعبد " فأخذ أبو بكر بيده وقال: حسبك، فخرج وهو يقول: {سيهزم الجمع ويولون الدبر}. قلت: قد بينا أن ابتهال النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء يوم بدر، ومناشدته ربه إنما كان من أصحابه لتسكن إلى ذاك نفوسهم، وتطمئن قلوبهم، إذ كان بدر / أول يوم لقوا فيه العدو وكان المسلمون في قلة من العدد ورثاثة من الحال وأعداؤهم في وفور من العدد والعدة وكانوا يثقون بأنه إذا دعا الله وابتهل أجيب، فكان مناشدته ربه وإلحاحه في الدعاء لذاك، فلما رأى صلى الله عليه وسلم أبا بكر

قد سكن إلى ذلك وقد قال له: حسبك، اقصر عن الدعاء وأقبل يبشرهم بالنصر، وتلا قوله {سيهزم الجمع ويولون الدبر} ولولا أن الأمر على ماتأولناه لكان أبو بكر أصح يقينا منه وأقوى عزيمة وهذا مالا يجوز لمسلم أن يتوهمه بوجهه.

(8) (باب قتل أبي جهل)

(8) (باب قتل أبي جهل) 832/ 3961 - قال أبو عبدالله: حدثنا ابن نمير قال: حدثنا أبو أسامة قال: حدثنا اسماعيل قال: حدثنا قيس، عن عبدالله أنه أتى أبا جهل وبه رمق يوم بدر. فقال أبو جهل: هل أعمد من رجل قتلتموه؟ قوله: أعمد من رجل. قال أبو عبيد يقول: هل زاد على رجل قتله قومه، أي هل كان إلا هذا؟ يقول: إن هذا ليس بعار قال: وحكاه (أبوعبيدة) عن العرب.

(الباب نفسه) 833/ 3962 - قال أبو عبدالله: وحدثنا أحمد بن يونس قال: حدثنا زهير، عن سليمان التيمي، عن أنس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: من ينظر ماصنع أبو جهل؟ فانطلق ابن مسعود فوجده (قد ضربه) ابنا عفراء حتى برد. قال: أنت أبو جهل؟ قال: فأخذ بلحيته قال: وهل فوق رجل قتلتموه أو رجل قتله قومه؟ قلت: وهذا يؤكد ماحكاه أبو عبيد من كلام العرب في هذا المعنى. 834/ 4020 - قال: قال أبو مجلز: قال أبو جهل: فلو غير أكار قتلني، يريد الأنصار لأنهم أصحاب نخل وزرع.

(8) (الباب نفسه)

(8) (الباب نفسه) 835/ 3975 - قال أبو عبدالله: حدثني أحمد بن محمد قال: أخبرنا عبدالله قال: أخبرنا هشام بن عروة، عن أبيه أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا للزبير يوم اليرموك: ألا تشد؟ فنشد معك. فقال: إني إن شددت كذبتم. يقال: كذب الرجل في القتال وهلل وعرد إذا حمل ثم كاع وانصرف.

(8) (الباب نفسه)

(8) (الباب نفسه) 836/ 3976 - قال أبو عبدالله: حدثني عبدالله بن محمد، سمع روح بن عبادة، حدثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة قال: ذكر / لنا أنس بن مالك، عن ابي طلحة أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أمر يوم بدر بأربعه وعشرين رجلا من صناديد قريش، فقذفوا في طوى من أطواء بدر. الصناديد: العظماء. يقال: رجل صنديد. وكان الحسن يقول في دعائه: اللهم إنا نعوذ بك من صناديد القدر، يريد ما يأتي به القدر من البلايا العظام. والطوى: البير المطوية، وهي التي قد ضرست بالحجارة لئلا تنهار والاطواء: جمع الطوي.

(8) (الباب نفسه)

(8) (الباب نفسه) 837/ 3980 - قال أبو عبدالله: حدثني عثمان قال: حدثنا عبدة، عن هشام، عن أبيه، عن ابن عمر قال: وقف النبي صلى الله عليه وسلم على قليب بدر فقال: هل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟ ثم قال: إنهم الآن يسمعون ما أقول، فذكر لعائشة فقالت: إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم: إنهم الآن ليعلمون أن الذي كنت أقول لهم الحق، ثم قرأت: {إنك لا تسمع الموتى}. 838/ 3976 - قلت: في حديث قتادة، عن انس، عن أبي طلحة الذي رويناه قبيل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال لهم هذا القول. قال عمر: يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح لها؟ فقال: والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم. قال قتادة: أحياهم الله حتى أسمعهم توبيخاً وتصغيراً ونقمة وحسرة وندامة. قلت: تأويل قتادة في هذا أحسن من رأي عائشة وادعائها على ابن عمر الغلط، وحديث أبي طلحة يؤكد ما رواه ابن عمر.

(10) (باب)

(10) (باب) 839/ 3991 - قال أبو عبدالله: وقال الليث، حدثني يونس، عن ابن شهاب، حدثني عبيدالله بن عبدالله بن عتبة أن أباه كتب إلى عمر ابن عبدالله بن الأرقم الزهري يأمره أن يدخل على سبيعة بنت الحارث الأسلمية، فيسألها عن حديثها وعما قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتب عمر إلى عبدالله بن عتبة يخبره أن سبيعة أخبرته أنها كانت تحت سعد ابن خولة، فتوفى عنها في حجة الوداع وهي حامل، فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته، فلما تعلمت من نفسها، تجملت للخطاب، فدخل عليها ابو السنابل بن بعكك ـــــ رجل من بني عبدالدار فقال: مالي أراك تجملت للخطاب ترجين النكاح؟ وإنك والله ما أنتِ بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشر , قالت سبيعة: فلما قال ذلك، جمعت علي ثيابي حين أمسيت، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي وأمرني بالتزوج إن بدا لي.

قوله: تعلت من نفاسها، معناه: ارتفعت من نفاسها وطهرت من دمها. وقوله: ما أنت بناكح. يقال: امرأة ناكح، أي ذات زوج، كما يقال: حائض وطالق ولا يقال ناكحة إلا إذا أرادوا بناء الاسم من الفعل، فيقال: نكحت فهي ناكحة، وفيه أن للمرأة أن تنكح حين وضع حملها وإن لم تتعل من نفاسها. ودم النفاس لا يمنع من عقد النكاح، كما لا يمنع دم الحيض منه، وإلى هذا الحديث ذهب في انقضاء العدة بوضع الحمل عمر بن الخطاب وابن مسعود وأكثر الصحابة وهو قول عامة فقهاء

الأمصار وتأولوا قوله عز وجل {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن اربعة اشهر وعشرا} في الحول دون الحوامل. وروى عن علي وابن عباس: أنها تعتد آخر الأجلين، وتفسيره أن تمكث حتى تضع حملها، فإن كانت مضت من مدة الحمل من وقت وفاة زوجها أربعة أشهر وعشراً فقد حلت. وإن وضعت قبل ذلك تربصت إلى أن تستوفي المدة من الأيام والليالي.

(12) (باب)

(12) (باب) 840/ 4019 - قال أبو عبدالله: حدثني إسحاق قال: حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد قال: حدثنا ابن أخي ابن شهاب؟ عن عمه، أخبرني عطاء بن يزيد الليثي أن عبيدالله بن عدي بن الخيار أخبره أن المقداد بن عمرو الكندي ــــــ وكان ممن شهد بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ـــــــ أخبره أنه قال لرسول صلى الله عليه وسلم: أرأيت إن لقيت رجلا من الكفار، فاقتتلنا، فضرب إحدى يدي، فقطعها، ثم لاذ مني بشجرة فقال: أسلمت / لله أقتله يا رسول الله؟ فقال: لا تقتله. فقال: يا رسول الله: إنه قطع إحدى يدي، ثم قال ذلك بعد ما قطعها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

لا تقتله، فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال؟ قلت: معنى هذا أن هذا الكافر مباح الدم بحكم الذين قبل أن يقول كلمة التوحيد فإذا قالها حقن دمه فصار محظور الدم بمنزلة المسلم الذي قطعت يده , فإن قتله المسلم بعد ذلك صار مباحا بحق القصاص بمنزلة دم الكافر بحق الدين ولم يرد بقوله: إنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قالها إلحاقا له بحكمه في الكفر على ما يتأوله الخوارج ومن يكفر المسلم بالكبيرة تكون منه.

(12) (باب)

(12) (باب) 841/ 4024 - قال أبو عبدالله: وقال الليث، عن يحيى، عن سعيد بن المسيب: وقعت الفتنة الأولى، يعني مقتل عثمان، فلم يبق أحد من أصحاب بدر، ثم وقعت الثانية، يعني الحرة، فلم يبقى من أصحاب الحديبة أحد، ووقعت الثالثة فلم ترتفع للناس طباخ. هكذا قال: وإنما هو فلم ترتفع، وفي الناس طباخ، أي: خير. وأصل الطباخ: القوة والسمن، ثم استعمل في غيرهما فقالوا: فلان لا طباخ له، أي: لا خير له ولا عقل. قال حسان: المال يفشى رجالا لا طباخ لهم ... كالسيل يغشى أصول الدندن البالي

(16) (باب قتل أبي رافع عبدالله بن ابي الحقيق، ويقال سلام بن أبي الحقيق)

(16) (باب قتل أبي رافع عبدالله بن ابي الحقيق، ويقال سلام بن أبي الحقيق) 842/ 4039 - قال أبو عبدالله: حدثني يوسف بن موسى قال: حدثني عبيدالله بن موسى، عن إسرائيل، عن ابي اسحاق، عن البراء في قصة قتل أبي رافع بن أبي الحقيق اليهودي، قال عبدالله بن عتيك: فأضربه ضربةً أثخنته ولم أقتله، ثم وضعت ضبيب السيف في بطنه، حتى أخذ في ظهره، فعرفت أني قتلته. قوله: ضبيب السيف، هكذا قال وما أراه محفوظاً، إنما هو ظبة السيف وهو حرف حد السيف في طرفه ويجمع على الظبات والظبين /، وإنما الضبيب فلا أدري له معنى يصح في هذا، إنما هو من سيلان الدم من الفم. يقال: ضبت لثته ضبيباً.

(17) (باب غزوة أحد)

(17) (باب غزوة أحد) 843/ 4043 - قال أبو عبدالله: حدثنا: عبيدالله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي اسحاق، عن البراء قال: لقينا المشركين ــــــ يعني يوم أحد ـــــ فهزموا حتى رأيت النساء يسندن في الجبل، رفعن عن سوقهن، قد بدت خلاخيلهن. وذكر الحديث بطوله. يقال: سند الرجل يسند: إذا صعد فيه. والسند: ما ارتفع من الأرض في قبل واد.

(22) (باب ذكر أم سليط)

(22) (باب ذكر أم سليط) 844/ 4071 - قال أبو عبدالله: حدثني يحيى بن بكير قال: حدثنا الليث، عن يونس، عن ابن شهاب وقال ثعلبة بن أبي مالك: أن عمر بن الخطاب قسم مروطاً بين نساء ــــــــ يعني من نساء أهل المدينة ــــ فبقي منها مرط جيد، فقال له بعض من عنده: ياأمير المؤمنين، أعط هذا بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ــــــ يريدون أم كلثوم بنت علي ـــ فقال عمر: أم سليط من نساء الأنصار ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال عمر: فإنها كانت تزفر لنا القرب يوم أحد.

(23) (باب قتل حمزة بن عبدالمطلب رضي الله عنه)

(23) (باب قتل حمزة بن عبدالمطلب رضي الله عنه) 845/ 4072 - قال أبو عبدالله: حدثني أبو جعفر محمد بن عبدالله عن حجين بن المثنى قال: حدثنا عبدالعزيز بن عبدالله ابن أبي سلمة، عن عبدالله بن الفضل، عن سليمان بن يسار، عن جعفر بن عمرو بن أمية الضمري قال: خرجت مع عبيد الله بن عدي بن الخيار، فلما قدمنا حمص قال لي: هل لك في وحشي فنسأله عن قتل حمزة؟ قلت: نعم وكان وحشي يسكن حمص، فسألنا عنه. فقيل لنا: هو ذاك في ظل قصره كأنه حميت وعبيدالله معتجر بعمامته ما يرى إلا عينه ورجله، فكشف عبيد الله عن وجهه,

ثم قال: ألا تخبرنا بقتل حمزة؟ قال: نعم، لما أصطف الناس خرج سباع فقال: هل من مبارز؟ فخرج اليه حمزة فقال: يا ابن أم أنمار، مقطعة البظور أتحاد الله ورسوله! قال: ثم شد عليه، فكان: كأمس الذاهب. قال: وكمنت لحمزة تحت صخرة، فلما دنا مني رميته بحربتي، فأضعها في ثنيته، حتى (خرجت) من بين وركيه. الحميت: الزق، وأكثر ما يقال ذلك في أوعية السمن / أو الزيت وهو النحي أيضا. والاعتجار بالعمامة: لفها على الرأس من غير تحنيك، وكذلك الاعتجاز بالثوب إنما هو التلفف به. وإنما سب سباعا بالمقطعة لأن أمه كانت خافضة. والثنة: العانة. وقوله: أتحاد الله ورسوله! معناه: المعاندة، وأصل المحادة أن يكون هذا في حد وصاحبه في حد.

(19) (باب غزوة الخندق وهي الأحزاب)

(19) (باب غزوة الخندق وهي الأحزاب) 846/ 4101 - قال أبو عبدالله: حدثنا خلاد بن يحيى قال: حدثنا عبدالواحد بن أيمن، عن أبيه، عن جابر قال: إنا يوم الخندق نحفر، فعرضت كبدة شديدة، فجاءوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذه كبدة عرضت في الخندق، فقام وبطنه معصوب بحجر، ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقاً، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المعون، فضرب فعاد كثيباً أهيل او أهيم. الكبدة: ان كانت محفوظة، فهي القطعة الصلبة من الأرض، وأرض كبداء ومثله قوس كبداء. أي: شديدة. والأهيل: هو الذي ينهال فيسيل من لينه ويتساقط من جوانبه، والأهيم مثله. والهيام من الرمل: ما كان دقاقاً يابساً. والمحفوظ من هذا أنهم عرضت لهم كدية: وهي القطعة الصلبة من الأرض لا يحيك (فيها) المعول. ويقال: أكدى الحافر: إذا حفر حتى يبلغ كدية لا تنحفر.

(الباب نفسه) 847/ 4102 - قال أبو عبدالله: حدثني عمرو بن علي قال: حدثنا أبو عاصم قال: أخبرنا حنظلة بن أبي سفيان قال: أخبرنا سعيد بن مينا قال: سمعت جابر بن عبدالله - رضي الله عنه - قال: لما حفر الخندق رأيت النبي صلى الله عليه وسلم خمصاً، فانكفيت إلى امرأتي، فأخرجت الى جرابا فيه صاع من شعير ولنا بهيمة داجن فذبحتها وطحنت، ففزعت إلى عناقي ـ فقطعتها في برمتها، ثم (وليت) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - فساررته فقلت يا رسول الله: ذبحنا بهيمة لنا وطحنت صاعا من شعير كان عندنا، فتعال أنت ونفر من قومك، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا أهل الخندق إن جابراً قد صنع سوراً، فحى هلا بكم. وذكر الحديث. قال جابر: فبسق النبي صلى الله عليه وسلم فيه وبارك وهم ألف، فأقسم بالله لأكلوا حتى تركوه وانحرفوا وإن برمتنا لتغط وإن عجيننا ليخبز كما هو.

الخمص: ضمور البطن من الجوع. وانكفيت: انقلبت، وأصله الهمز. والبهيمة، وهي الصغيرة من أولاد الغنم وقد ذكر أنها كانت عناقاً. والداجن من الغنم: مايربى في البيوت ولا يخرج إلى المراعي. والدجن: الإقامة بالمكان. والسؤر: بلسان الفرس: العرس. وقوله: فحى هلا: كلمة استدعاء، وفيها حث واستعجال. وقوله: لتغط، يعني أنها ممتلئة تفور، فيسمع لها غطيط. وكان نبي الله صلى الله عليه وسلم قد عوده الله تعالى أن يبارك له في الطعام القليل فيكثر، فجعل أكثر أسباب معجزاته ما يتجلى للبصائر على التدبر والتأمل دون ما يتكشف للأبصار ويتراءى للعيان على ماجرت به عادة الأمم المتقدمة التي سبق لها من الله تعالى القضاء لها بالهلاك كقوم صالح حين أخرجت لهم الناقه من الصخرة ونحوها من الآيات رفقاً من الله تعالى بهذه الأمة وحفظاً لنبيه فيها، وذلك لما أعطوه من وفارة العقول وزيادة الأفهام، فهي الأمة المرحومة، والله بعبادة رءوف رحيم.

(الباب نفسه) 848/ 4104 - قال أبو عبدالله: حدثنا مسلم بن إبراهيم قال: حدثنا شعبة، عن ابي إسحاق، عن البراء قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم ينقل التراب يوم الخندق، حتى أغمر بطنه أو اغبر بطنه يقول: والله لولا الله ما اهتدينا. اما قوله: اغبر، فمعروف من الغبار، وأما اغمر فإن كان محفوظا، فمعناه حتى وارى التراب جلدة بطنه. ومنه غمار الناس وهو جمعهم إذا تكاثف واترس بعضهم ببعض، ورجل غمر: وهو الذي يلتبس عليه الرأي، ومنه غمرة الوجه وهو ما يطلى به من شيء يلونه.

(29) (الباب نفسه)

(29) (الباب نفسه) 849/ 4108 - قال أبو عبدالله: حدثنا إبراهيم بن موسى قال: أخبرنا هشام عن معمر، عن الزهرى /، عن سالم، عن ابن عمر قال: دخلت على حفصة ونسواتها تنطف. قال: وقال محمود ونوساتها. قلت: نسواتها، ليس بشيء، إنما هو نوساتها تنطف، يريد ذؤابتها تقطر وكل شيء جاء وذهب فقد ناس، والنوس: الاضطراب. وقد قيل إنما سمى ذا تواس القيل بالتومتين في أذنيه كانتا تنوسان. ومنه قول الشاعر:

على البعير نائساً (ذباذبي)

(34) (باب حديث الإفك)

(34) (باب حديث الإفك) 850/ 4145 - قال أبو عبدالله: حدثني عثمان بن أبي شيبة قال: حدثنا عبدة، عن هشام، عن أبيه قال: ذهبت أسب حساناً عند عائشة فقالت: لا تسبه فإنه كان ينافح عن النبي صلى الله عليه وسلم. يعني أنه كان يذب بلسانه عنه. وأصل النفح: الضرب، وأكثر ما يقال ذلك فيما كان منه شزراً عن بعد. يقال: نفحه بالسيف، وقد يكون النفح أيضا من رمح الدواب إذا رمحت بحد حافرها.

(الباب نفسه) 851/ 4146 - قال أبو عبدالله: حدثني بشر بن خالد قال: حدثنا محمد بن جعفر، عن سليمان، عن أبي الضحى، عن مسروق قال: دخلت على عائشة وعندها حسان ينشدها أبياتاً له: حصان رزان ماتزن بريبة ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل فقالت له عائشة: لكنك لست كذاك. قال مسروق، قلت: تأذنين له أن يدخل عليك، وقد قال الله تعالى: {والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم}. يقال: ــــــ امرأة حصان ـــــــ بفتح الحاء ـــــ إذا كانت عفيفة،

وفرس حصان ــــ بكسر الحاء ــــ ويقال: رجل رزين، وامرأة رزان. وقوله: لا تزن بريبة، يقال: أزننت الرجل (بالشر) اذا اتهمته به. وقوله: غرثى، يعني جائعة. يقال: رجل غرثان وامرأة غرثى، يريد أنها لا تغتاب الناس، فتكون بمنزلة من يأكل لحومهم فيشبع منها، لكنها غرثى جائعة منها.

(35) (باب غزوة الحديبية)

(35) (باب غزوة الحديبية) 852/ 4156 - قال أبو عبدالله: حدثني إبراهيم بن موسى قال: حدثنا / عيسى، عن إسماعيل، عن قيس أنه سمع مرداساً الأسلمي يقول: وكان من أصحاب الشجرة: يقبض الصالحون الأول فالأول، وتبقى حفالة كحفالة التمر والشعير لا يعبأ الله بهم شيئاً. حفالة التمر: رديئة، وهو آخر ما يبقى منه، وهي الحثالة أيضا والفاء والثاء تتعاقبان كقولهم: جدف وجدث، ثوم وفوم. والحثالة ــــــ بالثاء ــــــــ أشهرهما.

(الباب نفسه) 853/ 4160 - قال أبو عبدالله: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنا مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رضى الله عنه -، فَلَحِقَتْه امْرَأَةٌ شَابَّةٌ فَقَالَتْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: هَلَكَ زَوْجِي وَتَرَكَ صِبْيَةً صِغَاراً، وَاللَّهِ مَا يُنْضِجُونَ كُرَاعاً، وَلاَ لَهُمْ زَرْعٌ وَلاَ ضَرْعٌ، وَخَشِيتُ أَنْ تَاكُلَهُمُ الضَّبُعُ، وَأَنَا ابنةُ خُفَافِ بْنِ إِيْمَاءَ الْغِفَارِىِّ، وَقَدْ شَهِدَ أَبِي الْحُدَيْبِيَةَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَوَقَفَ مَعَهَا عُمَرُ، وَلَمْ يَمْضِ، ثُمَّ قَالَ مَرْحَباً نَسَبٍ قَرِيبٍ. ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى بَعِيرٍ ظَهِيرٍ مَرْبُوطاً فِي الدَّارِ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ غِرَارَتَيْنِ مَلأَهُمَا طَعَاماً، بَيْنَهُمَا نَفَقَةً وَثِيَاباً، ثُمَّ نَاوَلَهَا بِخِطَامِهِ ثُمَّ قَالَ: اقْتَادِيهِ فَلَنْ يَفْنَى حَتَّى يَاتِيَكُمُ اللَّهُ بِخَيْرٍ. فَقَالَ رَجُلٌ: أَكْثَرْتَ لَهَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ عُمَرُ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، وَاللَّهِ إِنِّي لأَرَى أَبَا هَذِهِ وَأَخَاهَا قَدْ حَاصَرَا حِصْناً زَمَاناً، فَافْتَتَحَاهُ، ثُمَّ أَصْبَحْنَا نَسْتَفِيءُ سُهْمَانَهُمَا فِيهِ. قولها: ما ينضجون كراعا، يريد أنهم لا يكفون أنفسهم خدمة

ما يأكلونه، والضبع: من أسماء السنة والجدب. والبعير الظهير: هو القَوِىّ الظهر، الشديد على الرحلة. وقوله: نستفاء يعني نسترجعها وهي الفيء وسمي فيئا، لأنه مال استرجعه المسلمون من أيدي الكفار.

(الباب نفسه) 854/ 4177 - قال أبو عبدالله: حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مسلمة قال: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: كَانَ يَسِيرُ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رضى الله عنه - يَسِيرُ مَعَهُ لَيْلاً، فَسَأَلَهُ عُمَرُ عَنْ شَيءٍ فَلَمْ يُجِبْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ سَأَلَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ فَقَالَ عُمَرُ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ عُمَرُ، نَزَرْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، كُلُّ ذَلِكَ لاَ يُجِيبُكَ. قوله: نزرت رسول الله: أي: ألححت عليه في المسألة. وعطاءٌ منزور: إذا استُخرج بعد شدة سؤال وإلحاح. ومنه قول الشاعر: فخذ عفو ما أتاك لا تنزرنه فعند بلوغ الكد رنق المشارب

(الباب نفسه) 855/ 4186 - قال أبو عبدالله: حَدَّثَنِي شُجَاعُ بْنُ الْوَلِيدِ سَمِعَ النَّضْرَ بْنَ مُحَمَّدٍ قال: حَدَّثَنَا صَخْرٌ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عُمَر كان يَسْتَلْئِمُ لِلْقِتَالِ، فَأُخْبَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُبَايَعُ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَانْطَلَقَ حَتَّى بَايَعَ في حديثٍ ذكره. قوله: كان يستلئم، يعني أنه كان يلبس اللأمة، وهي الدرع. قال عنترة: *طبٌ بأخذ الفارس المستلئمِ *

(الباب نفسه) 856/ 4189 - قال أبو عبدالله: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ إِسْحَاقَ هو حسنويه البقال المروزي قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَابِقٍ قال: حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا حَصِينٍ قَالَ: قَالَ أَبُو وَائِلٍ: لَمَّا قَدِمَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ مِنْ صِفِّينَ أَتَيْنَا نَسْتَخْبِرُهُ فَقَالَ: مَا وَضَعْنَا أَسْيَافَنَا عَلَى عَوَاتِقِنَا لأَمْرٍ يُفْظِعُنَا إِلاَّ أَسْهَلَ بِنَا إِلَى أَمْرٍ نَعْرِف قَبْلَ هَذَا الأَمْرِ، مَا نَسُدُّ مِنْه خُصْماً

إِلاَّ انْفَجَرَ عَلَيْنَا خُصْمٌ مَا نَدْرِى كَيْفَ نَاتِي لَهُ. الخُصم: الجانب من الشيء ويُجمع على الأخصام. وقوله: أسهل بنا أي أفضى بنا إلى سهولة.

(38) (باب غزوة خيبر)

(38) (باب غزوة خيبر) 857/ 4196 - قال أبو عبدالله: حَدَّثَني عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ قال: حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِى عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ - رضى الله عنه - قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلَى خَيْبَرَ فَسِرْنَا لَيْلاً، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ لِعَامِرٍ: أَلاَ تُسْمِعُنَا مِنْ هُنَيْهَاتِكَ؟ وَكَانَ عَامِرٌ رَجُلاً شَاعِراً فَلم يَزَل يَحْدُو بِالْقَوْمِ: لاهُمَّ لَوْلاَ أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا ... ... وَلاَ تَصَدَّقْنَا وَلاَ صَلَّيْنَا فَأَلْقِيَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا ... ... وَثَبِّتِ الأَقْدَامَ إِنْ لاَقَيْنَا إِنَّا إِذَا صِيحَ بِنَا أَبَيْنَا ... ... وَبِالصِّيَاحِ عَوَّلُوا عَلَيْنَا قوله: من هنيهاتك، يريد من أراجيزك وهي تصغير هنة، بناها بنية الأرجوزة أو الكلمة أو نحوها، وجعل أصلها من الهاء، كما قال قوم في تصغير السِّنة: سنيهة.

وقالوا: أجرت الدار مسانهة. وقالوا: نخلة سنهاء، إذا كانت سنة تحمل وسنةً لا. وقال آخرون في تصغير الهن: هنيء، وفي الهنة هنية كما قالوا في تصغير السنة: سنية. وقد قيل: إن تصغير الهن الهنؤ، كما قيل في الفم أصله فمؤ. وقيل أيضا: أصله فاه، ولذلك قيل في تصغيره فؤية وفي الجمع أفواه ومعنى عولوا علينا: أجلبوا بالصوت علينا من العويل. يقال: أعولت المرأة وعوَّلت.

(الباب نفسه) 858/ 4201 - قال أبو عبدالله: حَدَّثَنَا آدَمُ قال: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ - رضى الله عنه - يَقُولُ: سَبَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَفِيَّةَ، فَأَعْتَقَهَا فَتَزَوَّجَهَا. فَقَالَ ثَابِتٌ لأَنَسٍ: مَا أَصْدَقَهَا؟ قَالَ: أَصْدَقَهَا نَفْسَهَا فَأَعْتَقَهَا. قوله: فأعتقها وتزوجها، يدل ظاهره على أن العتق متقدم للنكاح. وأما قول أنس: أصدقها نفسها فأعتقها، يحتمل أن يكون جعل عتقها صداقها، كما جاء في سائر الروايات أنه جعل صداقها، فيجوز على هذا أن يُعتق الرجل أمته على أن ينكحها، ويكون عتقها عوضا عن بُضعها، ويحتمل أن يكون معناه أنه لم يجعل لها صداقا، وإنما كانت في معنى الموهوبة التي كان النبي صلى الله

عليه وسلم مخصوصاً بها، إلا أنها لما استبيح نكاحها بالعتق صار العتق كالصداق لها على معنى قول الشاعر: أُخذن اغتصابا خطبة عجرفية وأُمهرن أرماحا من الخط ذُبَّلا

(الباب نفسه) 859/ 4207 - قال أبو عبدالله: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ قال: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَهْلٍ قَالَ: لما الْتَقَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُشْرِكُونَ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ فَاقْتَتَلُوا، فَمَالَ كُلُّ فريقٍ إِلَى عَسْكَرِهِمْ، وَفِى الْمُسْلِمِينَ رَجُلٌ لاَ يَدَعُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاذَّةً وَلاَ فَاذَّةً إِلاَّ اتَّبَعَهَا فَضَرَبَهَا، فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَا أَجْزَأَ أَحَدُهُمْ مَا أَجْزَأَ فُلاَنٌ. فَقَالَ: «إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ». فَقَالُوا: أَيُّنَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِنْ كَانَ هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: لأَتَّبِعَنَّهُ، فَإِذَا أَسْرَعَ وَأَبْطَأَ كُنْتُ مَعَهُ. حَتَّى جُرِحَ فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ، فَوَضَعَ نِصَابَ سَيْفِهِ بِالأَرْضِ، وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ، ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَيْهِ، فَقَتَلَ نَفْسَهُ /، فَجَاءَ الرَّجُلُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ: «وَمَا ذَاكَ؟». فَأَخْبَرَهُ. فَقَالَ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، وَإِنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ،

فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهْوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ». قوله: شاذة ولا فاذة يعني من انفرد عن جماعتهم وشذ عنهم، إلا أن الشاذ هو الذي كان مع الجماعة ففارقهم، والفاذة هو الذي لم يكن قد اختلط بهم. وقوله: ما أجزأ أحدهم ما أجزأ فلان: يريد ما كفى أحد كفايته ولا سعى سعيه. وذباب السيف: حد رأسه، وكذلك ذباب السكين، وحد كل شيء ذبابه. لا جعلنا الله من المغترين بظاهر من الجميل، مضمون باطنه بخلافه، ووهب لنا من سعة رحمته ما لا ينقص من فضله إنه ذو فضل عظيم.

(الباب نفسه) 860/ 4230 - قال أبو عبدالله: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ قال: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ قال: حَدَّثَنَا بُرَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ في حديث ذكره عن أسماء بنت عميس حدثت به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن الهجرة إلى الحبشة وأنها قدمت مع جَعْفَرَ بْنَ أَبِى طَالِبٍ في سَفِينَةِ إِلَى المدينة قَالَتْ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ أَبَا مُوسَى وَأَهل السَّفِينَةِ يَاتُونني أَرْسَالاً، يَسْأَلُونني عَنْه. قولها: أرسالا، يريد أفواجاً متفرقين وهو جمع الرسل، وكل شيء أرسلته فهو رَسَل كالهَمَل فيما أهملته والسبل فيما أسبلته.

(الباب نفسه) 861/ 4234 - قال أبو عبدالله: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قال: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو قال: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ حَدَّثَنِي ثَوْرٌ قَالَ: حَدَّثَنِي سَالِمٌ -مَوْلَى ابْنِ مُطِيعٍ- أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - يَقُولُ: فتَحْنَا خَيْبَرَ،، ثُمَّ انْصَرَفْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى وَادِى الْقُرَى، وَمَعَهُ عَبْدٌ لَهُ يُقَالُ لَهُ: مِدْعَمٌ، فَبَيْنَا هُوَ يَحُطُّ رَحْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ أتاه سَهْمٌ عَائِرٌ حَتَّى أَصَابَه، فَقَالَ النَّاسُ: هَنِيئاً لَهُ الشَّهَادَةُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «وَالَّذِى نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَصَابَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنَ الْمَغَانِمِ لَمْ يُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَاراً». السهم العائر: هو الجائر عن قصده، ومن هذا عيار الفرس إذا ذهب على / وجهه كأنه منفلت. والشملة: كساء يشتمل به الرجل ويُجمع على الشمال ويروى

عن علي -رضي الله عنه- أن رجلا من عظماء أهل اليمن دخل عليه فلم يرفع منه فقال له الرجل: ألا تعرفني يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم، كان ابوك ينسج شماله بيمينه.

(الباب نفسه) 862/ 4235 - قال أبو عبدالله: حَدَّثَني سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ قال: حدثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ أَخْبَرَنِي زَيْدٌ عَنْ أَبِيهِ أَنَّه سَمِعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رضى الله عنه - يَقُولُ: أَمَا وَالَّذِى نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْلاَ أَنْ أَتْرُكَ آخِرَ النَّاسِ بَبَّاناً لَيْسَ لَهُمْ شَيءٌ، مَا فُتِحَتْ عَلَيَّ قَرْيَةٌ إِلاَّ قَسَمْتُهَا كَمَا قَسَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ، وَلَكِنِّى أَتْرُكُهَا خِزَانَةً لَهُمْ يَقْسِمُونَهَا. قوله: ببانا قال أبو عبيد ورواه عن عبد الرحمن بن مهدي، عن هشام بن سعد، عن زيد حتى يكونوا ببانا واحدًا. قال ابن

مهدي: يعني شيئا واحدا. قال أبو عبيد: وذاك الذي أراد فيما نُرى ولا أحسب هذه الكلمة عربية ولم أسمعها في غير هذا الحديث.

(الباب نفسه) 863/ 4239 - قال أبو عبدالله: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قال: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي جَدِّى أَنَّ أَبَانَ ابْنَ سَعِيدٍ أَقْبَلَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: هَذَا قَاتِلُ ابْنِ قَوْقَلٍ. قَالَ أَبَانُ لأَبِي هُرَيْرَةَ: وَاعَجَباً لَكَ وَبْرٌ تَدَادَأَ مِنْ قَدُومِ ضَانٍ. تَنْعَى عَلَيَّ امْرَأً أَكْرَمَهُ اللَّهُ بِيَدِي، وَمَنَعَني أَنْ يُهِينَنِي بِيَدِهِ. الوبر: دُويبة في قدِّ السنور. وقوله: تدأدأ، يريد تدهده. قلب الهاء همزة , وجاء في غير هذه الرواية تدلى. وفي رواية أخرى: تحدر وقد تكون

الدأدأة: صوت وقع الحجارة في المسيل كأنه يقول: وبر هجم علينا وقدوم ضأن، أحسبه جبلا، وقد يروى قدوم ضال ولست أحق واحدا منهما. وقوله: تنعى عليَّ، معناه تعيب عليَّ. يقول: نعيت على الرجل خلقه إذا عبته.

(45) (باب بعث النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد إلى الحرقات من جهينة)

(45) (باب بَعْثُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ إِلَى الْحُرَقَاتِ مِنْ جُهَيْنَةَ) 864/ 4269 - قال أبوعبدالله: حَدَّثَنا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ قال: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قال: أَخْبَرَنَا حُصَيْنٌ قال: أَخْبَرَنَا أَبُو ظَبْيَانَ قَالَ: سَمِعْتُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ - رضى الله عنهما - يَقُولُ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْحُرَقَةِ، فَصَبَحْنَا الْقَوْمَ فَهَزَمْنَاهُمْ وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ / رَجُلاً مِنْهُمْ، فَلَمَّا غَشِينَاهُ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. فَكَفَّ الأَنْصَارِىُّ، وَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِي حَتَّى قَتَلْتُهُ، فَلَمَّا قَدِمْنَا بَلَغني النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «يَا أُسَامَةُ أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ؟» قُلْتُ: كَانَ مُتَعَوِّذاً. فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ. قلت: كان متعوذا، فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم.

قلت: فيه من الفقه أن المشرك إذا قال: لا إله إلا الله رفع عنه السيف وحرم دمه. ويشبه أن يكون أسامة إنما تأول في الإقدام على قتله أن لا توبة للمُرهق واعتَبر في ذلك قوله تعالى: {فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا} وقوله: {الآن وقد عصيت قبل} وقوله: {وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن} وما أشبهها وهو معنى قوله: كان متعوذا ولذلك عذره النبي صلى الله عليه وسلم فلم يلزمه دية ولا روى في هذا الحديث أنه أمره بكفارة.

(48) باب أين ركز النبي صلى الله عليه وسلم الراية يوم الفتح؟

(48) باب أَيْنَ رَكَزَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الرَّايَةَ يَوْمَ الْفَتْحِ؟ 865/ 4280 - قال أبوعبدالله: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ قال: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ أنَّ أَبا سُفْيَانَ لما أَسْلَمَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني لِلْعَبَّاسِ: «احْبِسْ أَبَا سُفْيَانَ عِنْدَ حَطْمِ الْجَبَلِ حَتَّى يَنْظُرَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ». فأَقْبَلَتْ كَتِيبَةُ الأَنْصَارِ وعَلَيْها سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ ومَعَهُ الرَّايَةُ. فَقَالَ سَعْدُ يا أَبَا سُفْيَانَ: الْيَوْمَ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَا عَبَّاسُ حَبَّذَا يَوْمُ الذِّمَارِ. حطم ما حطم منه أي: ثُلم من عُرضه، فبقي منقطعا. والملحمة: المقتلة. يقال: لُحِم الرجل: إذا قُتل، وأراد بيوم الذمار يوم القتال، يتمنى أن يكون له يد، فيحمي قومه ويدفع عنهم.

(48) (الباب نفسه)

(48) (الباب نفسه) 866/ 4286 - قال أبو عبدالله: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ قال: حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضى الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَعَلَى رَاسِهِ الْمِغْفَرُ، فَلَمَّا نَزَعَهُ جَاءَه رَجُلٌ فَقَالَ: ابْنُ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ. فَقَالَ «اقْتُلْهُ». قلت: لبسه المغفر، يدل على أنه لم يكن محرما. وفيه دليل على أن صاحب الحاجة إذا أراد دخول مكة لم يلزمه الإحرام من المواقيت. وفيه أن الحرم / لا يعصم من القتل الواجب ومن إقامة الحد فيه وابن خطل هذا، كان بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهٍ مع رجل من الأنصار أمَّره عليه، فلما كان ببعض الطريق وثب على أميره الأنصاري فقتله.

(48) (الباب نفسه)

(48) (الباب نفسه) 867/ 4287 - قال أبو عبدالله: حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ قال: أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ أَبِى مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنه - قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَحَوْلَ الْكَعبةِ سِتُّونَ وَثَلاَثُمِائَةِ نُصُبٍ، فَجَعَلَ يَطْعُنُهَا بِعُودٍ فِي يَدِهِ وَيَقُولُ: «جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ، جَاءَ الْحَقُّ، وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ». النُصُب: الصنم المنصوب للعبادة. ومنه قوله عزوجل: {وما ذبح على النصب} ويجمع على الأنصاب كقوله عزوجل: {... والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه} والأنصاب أيضا: أعلام الطريق يهتدى بها، سميت أنصابا لأنها رُفعت فانتصبت للأبصار.

(54) باب قول الله تعالى: (ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين)

(54) باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) 868/ 4322 - قال أبو عبدالله: قَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ كَثِيرِ بْنِ أَفْلَحَ عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ عن أَبَي قَتَادَةَ في قصة القتيل الذي أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم سَلَبَهُ يوم حنين قال فَقَالَ رَجُلٌ: سِلاَحُ هَذَا الْقَتِيلِ عِنْدِي فَأَرْضِهِ مِنْهُ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: كَلاَّ لاَ تُعْطِهِ أُصَيْبِغَ مِنْ قُرَيْشٍ، وَتَدَعَ أَسَداً مِنْ أُسْدِ اللَّهِ يُقَاتِلُ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ قَالَ: فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَدَّاهُ إِلَيَّ، فَاشْتَرَيْتُ مِنْهُ خِرَافاً فَكَانَ أَوَّلَ مَالٍ تَأَثَّلْتُهُ. قوله: أُصيبغ من قريش، يصفه بالمهانة والضعف. والأصبغ: نوع من الطير، وقد يجوز أن يكون شبهه بنبات ضعيف يقال له: الصبغاء، وذلك أول ما يطلع من الأرض، فيكون أول ما يلي الشمس منه أُصيغر.

والخراف: اسم ما يُخترف من الثمر كالخُرفة، أقام الثمر مُقام الأصل وإنما جاء في سائر الروايات، فاشتريت به مخرفا: أي بستانا. وقوله: تأثلته، يعني جعلته أصل مال. وأُثلة كل شيء: أصله.

(56) (باب غزوة الطائف)

(56) (باب غزوة الطائف) 869/ 4324 - قال أبو عبدالله: حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِىُّ قال: حدثنا سُفْيَانَ قال: حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ زَيْنَبَ بنتِ أم سَلَمَةَ عَنْ أُمِّهَا أُمِّ سَلَمَةَ - رضى الله عنها - دَخَلَ عَلَىَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَعِنْدِى مُخَنَّثٌ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الطَّائِفَ غَداً فَعَلَيْكَ بِابْنَةِ غَيْلاَنَ، فَإِنَّهَا تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «لاَ يَدْخُل هَؤُلاَءِ عَلَيْكُم». قوله: تُقبل بأربع وتدبر بثمان، يريد أربع عكن في البطن من قدامها، فإذا أقبلت رؤيت مواضعها شاخصة متكسرة

الغضون وأراد بالثماني أطراف هذه العكن من ورائها عند منقطع الجنين ويشبه أن يكون هذا إنما كان يؤذن له على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم على معنى أنه من جملة غير أولىِ الإربة من الرجال، فلم يكن يُرى بأس بدخوله عليهن، فلما سمع صلى الله عليه وسلم هذا الكلام ورأى أنه يفطن لمثل هذا من النعت أمر بأن يحجب فلا يدخل عليهن.

(الباب نفسه) 870/ 4330 - قال أبو عبدالله: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قال: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ قال: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَاصِمٍ قَالَ: لَمَّا قَسَمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ يَومَ حنينٍ، وَلَمْ يُعْطِ الأَنْصَارَ شَيْئاً، فَكَأَنَّهُمْ وَجَدُوا إِذْ لَمْ يُصِبْهُمْ مَا أَصَابَ النَّاسَ فَخَطَبَهُمْ فَقَالَ: «أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلاَّلاً فَهَدَاكُمُ اللَّهُ، وَمُتَفَرِّقِينَ فَأَلَّفَكُمُ اللَّهُ وَعَالَةً، فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ بِي؟». كُلَّمَا قَالَ شَيْئاً قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ. ثم قَالَ: «لَوْلاَ الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِياً وَشِعْباً لَسَلَكْتُ وَادِىَ الأَنْصَارِ وَشِعْبَهَا، الأَنْصَارُ شِعَارٌ وَالنَّاسُ دِثَارٌ». قوله: عالة، يريد فقرًا. يقال: رجل عايل، وهو الفقير وقوم عالة، وعال الرجل: إذا افتقر. وعال يعول إذا جار، وأعال يعيل إذا كثر عياله.

وأما قوله: لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار، فإنه قد سأل عنه سائل فقال: ما معنى هذا الكلام ووجهه وكيف كان / يجوز أن ينتقل عمن هو منهم فيدعى إلى الأنصار ونسبه غير نسبهم ودار مولده ومنشئه غير دارهم والانتقال عن الأنساب محظور غير جائز بحال؟ ومعنى هذا عندي أنه إنما أراد به تألف الأنصار واستطابة نفوسهم والثناء عليهم في دينهم ومذهبهم حتى رضي أن يكون واحدا منهم لولا ما يمنعه من سمة الهجرة التي لا يجوز تبديلها في حق الدين، ولا يسعه العود فيها، إذ كان عليه التمسك بها واجبا والنسبة إليها واجبة لازمة. والأنساب على وجوه: نسب ولادىٌّ ونسب بلادىٌّ، ونسب من جهة الدين اعتقادىٌّ ونسب صناعىٌّ. فيقال في نسبه الولادىِّ سَلْمِىٌ وأسدىٌّ، وفي البلادىِّ: كوفيٌ ومصريٌ وإلى الأديان والمذاهب: سنىٌّ وقدرىٌّ. وفي ملل الكفر يهودي ونصراني وإلى الصناعات والمهن صيدانىٌ وصيرفىٌ، ومعقول أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد به الانتقال عن نسب آبائه إليهم، إذ كان ذلك أمرا لا يجوز في دينه وشريعته، ثم إنه صلى الله عليه وسلم كان أفضل

منهم نسباً وأكرمهم أصلاً ومحتدًا. وأما الدين والمذهب فلأنه لا موضع فيه للانتقال، إذ كان دينه ودينهم واحدا، وهو صلى الله عليه وسلم نبىُّ الأمة وولي الدعوة، والمهاجرون والأنصار تبع له في ذلك، فلم يبق إلا قسمان، وهما نسب البلاد والأوطان، ونسب الصناعة والامتهان، وقد يجوز في كل واحد من الأمرين أن ينتقل منه إلى غيره وكانت المدينة دارا للأنصار، وكانت الهجرة إليها أمرا واجبا وانتقاله إليها طاعة وعبادة، ولولا أنه كان مأمورا بها ومحمولا عليها لم يكن ليترك بلاده ويفارق أوطانه، فقد يحتمل أن يكون أراد بهذا القول: لولا أن هذه النسبة في الهجرة نسبة دينية لا يسعني تركها لانتقلت عن هذا الاسم إليكم، ولانتسبت إلى داركم. وأن نزيل بلد من البلدان، / قد ينتسب إليه إذا طال مقامه فيه، ويتعرف إلى الناس به، وقد جرت به العادة في قديم الدهر وحديثه.

أخبرنا ابن داسة قال: حدثنا ابن أبي قماش قال: سمعت ابن عائشة يقول: قال المعتمر بن سليمان قلت لأبي: تكتب التيمي ولست بتيمي. قال: تيمي الدار، وسمعت ابن عائشة يقول: كان جعفر بن سليمان الضبعي لم يكن من ضبيعة كان نزيلا فيهم. فأما استحداث الأنساب والألقاب بالصناعات والمهن ' فالأمر في ذلك أوسع من ذاك. أخبرنا ابن الأعرابي قال: حدثنا عباس بن محمد

الدوري عن يحيى بن معين قال: عيسى بن أبي عيسى الذي يروى عن الشعبي يقال له الخياط والحناط والخباط، كان كوفيا، نزل المدينة وكان خياطا، ثم ترك ذلك وصار حناطا، ثم ترك ذلك، ثم صار يبيع الخبط. وفيه وجه آخر: وهو أن العرب كانت تعظم شأن الخؤولة وتكاد تلحقها بالعمومة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "ابن أخت القوم منهم" وأنشدني أبو عمر: عليك إن الخال يَسْرِى: الى ابن الأخت بالشبه المبين. وكانت أم عبدالمطلب امرأة من بني النجار، ولذلك قالت الأنصار حين أسروا العباس يوم بدر: لا نطالب ابن أختنا بالفداء، فقال

صلى الله عليه وسلم: " لا تخففوا عنه درهما " فقد يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم ذهب هذا المذهب إن كان أراد به نسب الولادة والله أعلم. وقوله: لو سلك الأنصار واديا أو شعبا لسلكت وادي الأنصار وشعبهم، فإن العادة قد جرت بأن يكون المرء مع قومه وقبيلته في رحلته ونزوله وأرض الحجاز كثيرة الأودية والشعاب، فإذا تفرقت بالسفر الطرق سلك كل فريق منهم واديا أو شعبا، فكان كل واحد منهم مع قومه إلى أن يفضي بهم إلى الجادة، فيجتمعوا فيها. وفيه وجه / آخر: وهو أن يكون أراد بالوادي الرأي والمذهب، كما يقال: فلان في واد وأنا في واد، وعلى هذا يتأول قول الله عزوجل: {ألم تر أنهم في كل واد يهيمون}

(58) باب بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بنى جذيمة.

(58) باب بَعْثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى بَنِى جَذِيمَةَ. 871/ 4339 - ... قال أبو عبدالله: حَدَّثَنا مَحْمُودٌ قال: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قال: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِىِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: بَعَثَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى بَنِى جَذِيمَةَ، فَدَعَاهُمْ إِلَى الإِسْلاَمِ فَلَمْ يُحْسِنُوا أَنْ يَقُولُوا أَسْلَمْنَا. فقالوا: صَبَانَا، صَبَانَا. فَجَعَلَ خَالِدٌ يَقْتُلُ وَيَاسِرُ، وَدَفَعَ إِلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنَّا أَسِيراً، وأَمَرَ كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا أن يَقْتُلَ أَسِيرَه فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لاَ أَقْتُلُ أَسِيرِى، وَلاَ يَقْتُلُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِى أَسِيرَهُ، فَذَكَرْنَا، للنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ». مَرَّتَيْنِ. قلت: إنما نقم رسول الله صلى الله عليه وسلم من خالد

موضع العجلة، وترك التثبت في أمرهم إلى أن يتبين المراد من قولهم: صبأنا، لأن الصبأ معناه الخروج من دين، يُقال: صبأ الرجل فهو صابئٌ، إذا خرج من دين كان فيه إلى دين آخر، ولذلك كان المشركون يدعون رسول الله صلى الله عليه وسلم الصابئ وذلك لمخالفته دين قومه وقولهم: صبأنا، كلام يحتمل أن يكون معناه خرجنا من ديننا إلى دين آخر غير الإسلام من يهودية أو غيرهما من الأديان والنحل، فلما لم يكن هذا القول صريحا في الانتقال إلى دين الإسلام نفَّذ خالد الأمر الأول في قتالهم، إذ لم يوجد شريطة حقن الدم بصريح الاسم. وقد يحتمل أن يكون خالدٌ إنما لم يكف عن قتالهم بهذا القول من قبل أنه ظن أنهم عدلوا عن اسم الإسلام إليه أنفة من الاستسلام والانقياد، فلم ير ذلك القول منهم إقرارا بالدين، وقد روي أن

ثمامة بن أثال لما أسلم ودخل مكة معتمرا قال له كفار قريش: صبأت. فقال: لا، ولكن أسلمت. قلت: وهذا نظير حديثه الآخر أنه صلى الله عليه وسلم بعث خالداً إلى أناس من خثعم، فاستعصموا / بالسجود، فقتلهم، فوداهم النبي صلى الله عليه وسلم بنصف الدية، وإنما عذر خالدا في هذا لأن السجود لا تمحض دلالته على قبول الدين، لأن كثيرا من الأمم يعظمون رؤساءهم بالسجود لهم ويظهرون لهم الخضوع والانقياد بأن يخروا على وجوههم. وفيه دليل على أن الكافر إذا لاذ بالصلاة لم يكن ذلك منه إسلاما حتى يصف الدين قولاً بلسانه.

(60) (باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن قبل حجة الوداع)

(60) (باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن قبل حجة الوداع) 872/ 4341 - قال أبو عبدالله: حَدَّثَنَا مُوسَى يعني ابن إسماعيل قال: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ قال: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ عَنْ أَبِى بُرْدَةَ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَبَا مُوسَى وَمُعَاذَ ابْنَ جَبَلٍ إِلَى الْيَمَنِ، وَبَعَثَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى مِخْلاَفٍ. قَالَ: فَجَاءَ معاذٌ يَسِيرُ عَلَى بَغْلَتِهِ حَتَّى انْتَهَى إِلَيْهِ، وَإِذَا هُوَ جَالِسٌ، وَرَجُلٌ عِنْدَهُ قَدْ جُمِعَتْ يَدَاهُ إِلَى عُنُقِهِ فَقَالَ لَهُ مُعَاذٌ: يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ، أَيَّمَ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا رَجُلٌ كَفَرَ بَعْدَ إِسْلاَمِهِ. قَالَ لاَ أَنْزِلُ حَتَّى يُقْتَلَ. فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ ثُمَّ نَزَلَ فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، كَيْفَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ قَالَ أَتَفَوَّقُهُ تَفَوُّقاً وذكر الحديث.

المِخلاف في لسان أهل اليمن كالرستاق من الرساتيق. وقوله: أيم هذا؟ يريد أيما هذا أو من هذا؟ وأصله أي أُدخل عليه ما ثُم قيل أيم هو وأيم هذا بإسقاط الأف، كما قيل إيش هذا، بإسقاط الياء وإنما هو أي شيء هذا. وقوله: أتفوقه تفوقا. يقول: لا أقرأ وردي منه مرةً فوق واحدة، ولكني أقرأ منه شيئا بعد شيء في آناء الليل والنهار، وهو مأخوذ من فواق الناقة، وذلك أن تحلب، ثم تترك ساعة حتى تدر، ثم تحلب. وفيه لغتان: فُواق وفَواق.

(60) (الباب نفسه)

(60) (الباب نفسه) 873/ 4344 - قال أبو عبدالله: حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ قال: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قال: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِى بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَدَّهُ أَبَا مُوسَى، وَمُعَاذاً إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ: «يَسِّرَا وَلاَ تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلاَ تُنَفِّرَا، وَتَطَاوَعَا». فَقَالَ أَبُو مُوسَى يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنَّ أَرْضَنَا بِهَا شَرَابٌ مِنَ الشَّعِيرِ الْمِزْرِ، وَشَرَابٌ مِنَ الْعَسَلِ الْبِتْع. فَقَالَ «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ». قد جاء المرز والبتع مفسرين / في الحديث. وقوله: كل مسكر حرام، إشارة إلى النوع الذي يُسكر من الأشربة ما كانت على اختلاف أسمائها وجواهرها وأصولها دخل فيها ما يتخذ من ذلك من العنب والتمر والذرة والعسل وغيرها من الثمار والحبوب، ودل على أن ما وجد فيه صفة السكر فهو محرم العين ويأتي ذلك على قليله وكثيره.

(61) (باب بعث علي بن أبي طالب عليه السلام وخالد بن الوليد إلى اليمن قبل حجة الوداع)

(61) (باب بعث علي بن أبي طالب عليه السلام وخالد بن الوليد إلى اليمن قبل حجة الوداع) 874/ 4349 - قال أبو عبدالله: حَدَّثَنا أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانُ قال: حَدَّثَنَا شُرَيْحُ بْنُ مَسْلَمَةَ قال: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ إِسْحَاقَ قال: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ - رضى الله عنه - يقول: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، قَالَ: ثُمَّ بَعَثَ عَلِيًّا بَعْدَ ذَلِكَ مَكَانَهُ فَقَالَ: مُرْ أَصْحَابَ خَالِدٍ، مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ أَنْ يُعَقِّبَ مَعَكَ فَلْيُعَقِّبْ، وَمَنْ شَاءَ فَلْيُقْبِلْ. فَكُنْتُ فِيمَنَ عَقَّبَ مَعَهُ، قَالَ فَغَنِمْتُ. التعقيب: أن يعود الجيش بعد القفول ليصيبوا غرة من العدو.

(61) (الباب نفسه)

(61) (الباب نفسه) 875/ 4350 - قال أبو عبدالله: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قال: حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ قال: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سُوَيْدِ بْنِ مَنْجُوفٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ - رضى الله عنه - قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلِيًّا إِلَى خَالِدٍ لِيَقْبِضَ الْخُمُسَ وَكُنْتُ أُبْغِضُ عَلِيًّا، وَقَدِ اغْتَسَلَ، فَقُلْتُ لِخَالِدٍ: أَلاَ تَرَى إِلَى هَذَا؟ فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: «يَا بُرَيْدَةُ أَتُبْغِضُ عَلِيًّا؟» فَقُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: «لاَ تُبْغِضْهُ، فَإِنَّ لَهُ فِي الْخُمُسِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ». قلت: معنى قوله: وقد اغتسل، يريد أنه وقع على جارية صارت له في القسمة، فاغتسل منها للجناية، فاعتذر له النبي صلى الله عليه وسلم بأن له في الخمس أكثر من ذلك. وقد روى هذا الحديث من غير هذا الطريق بأتم بيانا من هذا. قال بريدة: كنت في جيش فغنموا، فبعث أمير الجيش إلى

رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ابعث من يخمسها، فبعث عليا وفي السبي وصيفة من أفضل السبي، فوقعت في الخمس، ثم خُمِّسَ، فصارت في أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، ثم خمس، فصارت في أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ثم خمس فصارت في آل علي، فأتانا ورأسه يقطر. وذكر الحديث. قلت: فقد تضمنت هذه القصة أمرين كلاهما مشكل: أحدهما: أنه قسم لنفسه. والآخر: أنه أصابها / قبل الاستبراء. والجواب: أن ما يقسم بالولاية من الأشياء التي هي من هذا الجنس، يجوز أن يقع ذلك ممن هو شريك فيه، كما يقسم الإمام بالإمامة الغنائم بين أهلها وهو منهم، ومن ينصبه الإمام لذلك كان مقامه مقام الإمام. وأما الاستبراء: فقد يحتمل أن تكون الوصيفة كانت غير بالغة، وقد ذهب غير واحد من العلماء إلى ترك الاستبراء في غير البوالغ، وروِى عن القاسم بن محمد وسالم بن عبدالله أن غير البوالغ لا تستبرأ، وبه قال الليث بن سعد وقد حكي عن

أبي يوسف ذلك ولعله بلغهم رأىُ علي في هذا، فجعلوه قدوة، ومما يشبه هذا المعنى في رأىِ الصحابة أن ابن عمر كان لا يرى الاستبراء في العذراء وإن كانت بالغة. وقد يحتمل أن تكون الوصيفة عذراء، فرأى علىٌّ فيها هذا الرأىَ، والله أعلم. وفيه من الفقه: أن شهادة العدو ومن في قبله شنآن وبغض من صاحبه غير مقبولة عليه.

(61) (الباب نفسه)

(61) (الباب نفسه) 876/ 4351 - قال أبو عبدالله: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ قال: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ عن عَبْدُ الرَّحْمَنِ ابْنِ أَبِي نُعْمٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِىَّ يَقُولُ: بَعَثَ عَلِيُّ بْنُ أَبِى طَالِبٍ - رضى الله عنه - إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْيَمَنِ بِذُهَبَةٍ فِي أَدِيمٍ مَقْرُوظٍ لَمْ تُحَصَّلْ مِنْ تُرَابِهَا، فَقَسَمَهَا بَيْنَ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ: بَيْنَ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصن، وَالأَقْرَعَ بْنِ حَابِسٍ وَزَيْدِ الْخَيْلِ، وَالرَّابِعُ إِمَّا عَلْقَمَةُ وَإِمَّا عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: كُنَّا نَحْنُ أَحَقَّ بِهَذَا مِنْ هَؤُلاَءِ، وَقَامَ رَجُلٌ غَايِرُ الْعَيْنَيْن، مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ، نَاشِزُ الْجَبْهَةِ، مَحْلُوقُ الرَّاسِ، مُشَمَّرُ الإِزَارِ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ اتَّقِ اللَّهَ. قَالَ: «وَيْلَكَ أَلَسْتُ أَحَقَّ أَهْلِ الأَرْضِ أَنْ يَتَّقِىَ اللَّهَ؟». قَالَ: ثُمَّ وَلَّى الرَّجُلُ، قَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلاَ أَضْرِبُ عُنُقَهُ؟ قَالَ: «لاَ، لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ يُصَلِّي». فَقَالَ

خَالِدٌ: وَكَمْ مِنْ مُصَلٍّ يَقُولُ بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أَنْقُبَ عن قُلُوبِ النَّاسِ، وَأَشُقَّ بُطُونَهُمْ» قَالَ: ثُمَّ نَظَرَ / إِلَيْهِ وَهْوَ مُقَفٍّ فَقَالَ: «إِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمٌ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ رَطْباً، لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ». وَأَظُنُّهُ قَالَ: «لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ ثَمُودَ». الأديم المقروظ، هو المدبوغ بالقرظ، وهو ورق السلم. وقوله: لم تحصل من ترابها، أي: لم تخلص، ولم يميز بينها وبينه. وقوله: لعله أن يصلي: فيه دلالة من طريق المفهوم على أن تارك الصلاة مقتول والمقفى هو المولي عنك. يقال: قفَّى الرجل: إذا ولاك قفاه. والضيضئ: الأصل: ويقال: هو الولد والنسل، والمروق: نفوذ السهم من الرمية حتى يخرج من الجانب الآخر. وقوله: لا يجاوز حناجرهم، أي: لا يقبل ولا يُرفع في الأعمال الصالحة ومعنى الرطب من القراءة أن يواظب عليها فلا يزال لسانه رطبا بها. ويكون أيضا من تحسين الصوت بالقراءة ويكون أيضا من الثقافة والحذق بالقراءة، فيجري لسانه بها ويمر عليها مراً لا يتعثر ولا

يتكسر كل هذه الوجوه محتملة، وهذا شبيه بما روى من قوله صلى الله عليه وسلم: "من أراد أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل فليقرأ بقراءة ابن أم عبد" والدين هاهنا الطاعة دون الملة. وأما قوله: "لأقتلنهم قتل ثمود" فيقال: إذا كان قتلهم واجبا فكيف منع خالدا من قتل هذا؟ قيل: لعلمه بأن الله سيمضي قضاءه فيه حتى يخرج من نسله من يستحق القتل لسوء أفعالهم ومروقهم من الدين ليكون قتلهم عقوبة لهم، فيكون أدل على الحكمة وأبلغ في المصلحة والله أعلم.

(65) (باب غزوة سيف البحر، وهم يتلقون عيرا لقريش وأميرهم أبو عبيدة)

(65) (باب غزوة سيف البحر، وهم يتلقون عيرا لقريش وأميرهم أبو عبيدة) 877/ 4362 - قال أبو عبدالله: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قال: حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرٌو أَنَّهُ سَمِعَ جَابِراً - رضى الله عنه - يَقُولُ: غَزَوْنَا جَيْشَ الْخَبَطِ وَأُمِّرَ أَبُو عُبَيْدَةَ، فَجُعْنَا جُوعاً شَدِيداً فَأَلْقَى الْبَحْرُ حُوتاً مَيِّتاً، لَمْ نَرَ مِثْلَهُ، يُقَالُ لَهُ الْعَنْبَرُ، فَأَكَلْنَا مِنْهُ نِصْفَ شَهْرٍ، فَأَخَذَ أَبُو عُبَيْدَةَ عَظْماً مِنْ عِظَامِهِ فَمَرَّ الرَّاكِبُ تَحْتَهُ. وَأَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِراً يَقُولُ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: كُلُوا. فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ ذَكَرْنَا ذَلِكَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «كُلُوا رِزْقاً أَخْرَجَهُ اللَّهُ، أَطْعِمُونَا إِنْ كَانَ مَعَكُمْ». فَأَتَاهُ بَعْضُهُمْ به فَأَكَلَهُ. فيه بيان أن طعام البحر ومييته ذَكِىّ، طفا على الماء أو ألقاه البحر إلى الساحل، وفي أكل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك دليل على أن لم يتجه لهم من أجل الضرورة، بل كان مباحاً لهم مع

ارتفاعها، وعلى هذا سائر حيوان البحر على اختلاف أصنافها إلا الضفدع لما جاء فيه من الخبر خصوصا. وسمي جيش الخبط لأنهم اضطروا من الجوع إلى أن يأكلوا الخبط، وهو ما يُخبط من ورق الشجر، أي: يضرب بالعصى حتى يتحات ويسقط.

(70) (باب وفد بني حنيفة، وحديث ثمامة بن أثال)

(70) (باب وفد بني حنيفة، وحديث ثمامة بن أثال) 878/ 4376 - قال أبو عبدالله: حَدَّثَنَا الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: سَمِعْتُ مَهْدِىَّ بْنَ مَيْمُونٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا رَجَاءٍ الْعُطَارِدِىَّ يَقُولُ: كُنَّا -يعني في الجاهلية- نَعْبُدُ الْحَجَرَ، فَإِذَا لم نجد حَجَراً هُوَ أَخْيَرُ مِنْهُ أَلْقَيْنَاهُ وَأَخَذْنَا الآخَرَ، فَإِذَا لَمْ نَجِدْ حَجَراً جَمَعْنَا جُثْوَةً مِنْ تُرَابٍ، ثُمَّ جِئْنَا بِالشَّاةِ فَحَلَبْنَاهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُفْنَا بِهِ، فَإِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَجَبٍ قُلْنَا مُنَصِّلُ الأَسِنَّةِ. فَلاَ نَدَعُ رُمْحاً فِيهِ حَدِيدٌ وَلاَ سَهْماً فِيهِ حَدِيدٌ إِلاَّ نَزَعْنَاهُ فَأَلْقَيْنَاهُ. الجثوة: القطعة من التراب، تجمع فتكون كومة وجمعها الجثى. وقوله: منصل الأسنة، يقال: نصلت الرمح: إذا جعلت له نصلا وأنصلته: إذا نزعت منه النصل، وكانوا لا يتقاتلون في الأشهر الحرم، يضعون السلاح وينزعون منه الحديد والنصال.

(74) (باب قدوم الأشعريين وأهل اليمن)

(74) (باب قدوم الأشعريين وأهل اليمن) 879/ 4388 - قال أبو عبدالله: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قال: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِىٍّ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ ذَكْوَانَ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَتَاكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ، هُمْ أَرَقُّ أَفْئِدَةً وَأَلْيَنُ قُلُوباً، الإِيمَانُ يَمَانٍ وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ». قوله: أرق أفئدة: وصف الأفئدة بالرقة والقلوب باللين، وذلك أن الفؤاد غشاء القلب، وإذا رق نفذ القول وخلص على ما وراءه، وإذا غلظ تعذر وصوله إلى داخله، فإذا صادف القلب لينا علق به ونجع فيه. وقوله: الإيمان يمان، فيه ثناء على أهل اليمن لمبادرتهم إلى الدعوة وإسراعهم إلى / قبول الإيمان. وقوله: الحكمة يمانية، فيه ثناء على الأنصار، ومعنى الحكمة الفقه، وأكثر فقهاء الصحابة الأنصار.

(77) (باب حجة الوادع)

(77) (باب حجة الوادع) 880/ 4405 - قال أبو عبدالله: حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ قال: حَدَّثْنَا شُعْبَةُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُدْرِكٍ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ عَنْ جَرِيرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَنْصَتَ النَّاسَ فَقَالَ: «لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِى كُفَّاراً، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ». يتأوله الخوارج ومن يذهب مذهبهم على الكفر الذي هو الخروج من الملة ويكفرون بالكبيرة كالقتل والزنا ونحوهما من المعاصي، وتأويله عند العلماء على معنى الزجر عن هذا الفعل والتغليظ فيه يقول: لا تشبهوا بالكفار في قتل بعضهم بعضا ولا تكونوا مثلهم في هذا الصنيع، وقيل: معناه التكفر بالسلاح وهو التلبس به، وأصله من الكفر وهو ستر الشيء وتغطيته. وأخبرني إبراهيم بن فراس قال: سمعت موسى بن هارون يقول: هؤلاء أهل الردة قتلهم أبو بكر الصديق، رضي الله عنه.

(77) (الباب نفسه)

(77) (الباب نفسه) 881/ 4406 - قال أبو عبدالله: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قال: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ قال: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ مُحَمَّدٍ أظنه عَنِ ابْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الزَّمَانُ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَةِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ: السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلاَثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِى بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ، أَىُّ شَهْرٍ هَذَا؟» قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ يُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ. قَالَ: «أَلَيْسَ ذُو الْحِجَّةِ؟». قُلْنَا: بَلَى. قَالَ: «أَىُّ بَلَدٍ هَذَا؟». قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ. قَالَ «أَلَيْسَ الْبَلْدَةَ». قُلْنَا: بَلَى. وذكر الحديث. قوله: الزمان قد استدار كهيئته، كان أهل الجاهلية يخالفون بين أشهر السنة بالنسئ الذي كانوا يعتادونه ويقطعون به نسقها فيقدمون ويؤخرون كتأخيرهم المحرم إلى صفر، وقد ذكر الله سبحانه ذلك في كتابه فقال: {إنما النسئ زيادة في الكفر يضل به

الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما}. / إنما كانوا يفعلون ذلك لأسباب تعرض لهم وذحول ودماء تقع بينهم، فربما استعجلوا الحرب، فاستحلوا الشهر المحرم، ثم حرموا من أجله شهر صفر بدلا عنه، وإذا استحلوا رجبا حرموا من أجله شعبان، وعلى هذا القياس في سائر الشهور، فيتحول حسابهم في شهور السنة ويتبدل إذا أتى على ذلك عدة من السنين حتى يتصرم ذلك الحساب ويستدير ويعود الأمر إلى أصل الحساب، فيستقبل أول السنة من لدن المحرم، فاتفق عام حج النبي صلى الله عليه وسلم استدارة الزمان وعوده إلى أصل ما أنشئ عليه حساب أشهر السنة أولا، فوقع الحج في شهر ذي الحجة. وقد ذهب قوم من العلماء إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما تأنى بالحج وأخره مع الامكان إلى السنة التي حج فيها للذي كان وقع من النسئ فيها حتى وافوا السنة التي حج فيها استدارة الزمان وعود الأمر في ذلك إلى أصل الحساب، فحج فيها حجة الوداع. وأما قوله: ورجب مضر بين جمادى وشعبان، فإنما حده بها من أجل الشبهة التي كانت تعرض بالنسئ الواقع في الشهور فتتبدل

معها أسماؤها، فحصره بهذا الوصف ليرتفع الإشكال وأضاف شهر رجب إلى مضر لمحافظتها، كانت على تحريم شهر رجب وتأكيدها الأمر فيه خصوصا من بين الأشهر الحرم. وأما قوله: أليست البلدة؟ فقد تقدم تفسيره قبل، وذكرنا أنها اسم خاص لمكة.

(79) (باب حديث كعب بن مالك)

(79) (باب حديث كعب بن مالك) 882/ 4418 - قال أبو عبدالله: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قال: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ ابْنِ مَالِكٍ يعني أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: سَمِعْتُ كَعْباً وذكر قصة تخلفه عن رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فقال فيها: وَتَفَارَطَ الْغَزْوُ، وَهَمَمْتُ أَنْ أَرْتَحِلَ فَأُدْرِكَهُمْ، وَلَيْتَنِي فَعَلْتُ، فَلَمْ يُقَدَّرْ لِي ذَلِكَ، فَكُنْتُ إِذَا خَرَجْتُ فِي النَّاسِ، فَطُفْتُ فِيهِمْ، أَحْزَنَنِي أَنِّي لاَ أَرَى إِلاَّ رَجُلاً مَغْمُوصاً عَلَيْهِ النِّفَاقُ. قوله: تفارط الغزو، يريد تباعد وأيست من اللحاق برسول الله، وكل شيء سبق فقد فرط. ومنه الحديث: "أنا فرطكم على الحوض"، يعني سابقكم إلى الماء، والفرط والفارط: السابق. وقوله: مغموصا عليه النفاق، أي: مظنونا به النفاق ومطعونا عليه في دينه.

وفي هذه أن كعبا قال: ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه حتى تنكرت في نفسي الأرض، فما هي التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة. وفيه دليل على أن للإمام أن يؤدب بعض أصحابه بالهجران وبالإمساك عن الكلام، وأن له أن يفعل ذلك فيما جاز مدة الثلاث.

(82) (باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر)

(82) (باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر) 883/ 4425 - قال أبو عبدالله: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ قال: حَدَّثَنَا عَوْفٌ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِى بَكْرَةَ قَالَ: لَمَّا بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ أَهْلَ فَارِسَ قَدْ مَلَّكُوا عَلَيْهِمْ بِنْتَ كِسْرَى قَالَ: «لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً». فيه من العلم: أن النساء لا يلين الإمارة ولا القضاء بين الناس. وفيه دليل: على أن المرأة لا تزوج نفسها ولا تلي العقد على غيرها من النساء.

(83) (باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته)

(83) (باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته) 884/ 4428 - قال أبوعبدالله: وَقَالَ يُونُسُ عَنِ الزُّهْرِىِّ قَالَ: عُرْوَةُ قَالَتْ عَائِشَةُ - رضى الله عنها -: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي مَرَضِهِ الَّذِى مَاتَ فِيهِ: «يَا عَائِشَةُ مَا أَزَالُ أَجِدُ أَلَمَ الطَّعَامِ الَّذِى أَكَلْتُ بِخَيْبَرَ، فَهَذَا أَوَانُ وَجَدْتُ انْقِطَاعَ أَبْهَرِى مِنْ ذَلِكَ السَّمِّ». الأبهر عرق في الصلب. ويقال: إن القلب متصل به.

(83) (الباب نفسه)

(83) (الباب نفسه) 885/ 4437 - قال أبوعبدالله: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قال: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِىِّ قَالَ عُرْوَةُ: أنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهْوَ صَحِيحٌ يَقُولُ: «إِنَّهُ لَمْ يُقْبَضْ نَبِيٌّ قَطُّ حَتَّى يَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ ثُمَّ يُحَيَّي أَوْ يُخَيَّرَ». فَلَمَّا اشْتَكَى وَحَضَرَهُ الْقَبْضُ وَرَاسُهُ عَلَى فَخِذِ عَائِشَةَ، غُشِيَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَفَاقَ شَخَصَ بَصَرُهُ نَحْوَ سَقْفِ الْبَيْتِ ثُمَّ قَالَ: «فِي الرَّفِيقِ الأَعْلَى». فَقُلْتُ: إِذاً لاَ يُجَاوِرُنَا. فَعَرَفْتُ أَنَّهُ حَدِيثُهُ الَّذِى كَانَ يُحَدِّثُنَا وَهْوَ صَحِيحٌ. الرفيق: الصاحب المرفق، وهو هاهنا بمعنى الرفقاء، يعني الملائكة. يقال: للواحد والجماعة / رفيق، كما قيل: للجماعة صديق وعدو. قال الله تعالى: {وهم لكم عدو}

(83) (الباب نفسه)

(83) (الباب نفسه) 886/ 4438 - قال أبوعبدالله: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قال: حَدَّثَنَا عَفَّانُ عَنْ صَخْرِ بْنِ جُوَيْرِيَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ: دَخَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا مُسْنِدَتُهُ إِلَى صَدْرِى، وَمَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ سِوَاكٌ رَطْبٌ يَسْتَنُّ بِهِ، فَأَبَدَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَصَرَهُ، فَأَخَذْتُ السِّوَاكَ فَقَصَمْتُهُ وَنَفَضْتُهُ وَطَيَّبْتُهُ، ثُمَّ دَفَعْتُهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَنَّ بِهِ، فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يسْتَنَّ قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهُ، فَمَا عَدَا أَنْ فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَفَعَ يَدَهُ أَوْ إِصْبَعَهُ ثُمَّ قَالَ «فِى الرَّفِيقِ الأَعْلَى». ثَلاَثاً ثُمَّ قَضَى، وَكَانَتْ تَقُولُ: مَاتَ بَيْنَ حَاقِنَتِي وَذَاقِنَتِي. قولها: أبَّده بصره، تريد أتبعه بصره لا يرتد طرفه عنه. وقولها: فقصمته. أصل القصم: الكسر. والقصامة: من السواك ما تكسر من شعب رأسه وتفتت منه والاستنان: الاستياك. والحاقنة: نقرة الترقوة، وهما حاقنتان، أي: نقرتا

الترقوتين. والذاقنة: ما يناله الذقن من الصدر، وهذا كحديثها الآخر: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سحرى ونحرى، وقد فسرناه فيما مضى من الكتاب.

(83) (الباب نفسه)

(83) (الباب نفسه) 887/ 4453 - قال أبو عبدالله: حدثنا يحيى بن بكير قال: حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب أخبرني أبو سلمة عن عائشة وذكر حديثا. 888/ 4454 - قَالَ: وَحَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ في قصة وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وأخبرني سعيد بن المسيب قلت: أنا لا أدرى من يقول ذلك: أبو سلمة أو الزهري أن عُمَرَ قَالَ: وَاللَّهِ مَا هُوَ إِلاَّ أَنْ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ تَلاَ قول الله عزوجل: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) فَعَقِرْتُ حَتَّى مَا تُقِلُّنِي رِجْلاَىَ، وَحَتَّى أَهْوَيْتُ إِلَى الأَرْضِ وعرفت حِينَ سَمِعْتُهُ تَلاَهَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ مَاتَ. قوله: فعقرت يعني تحيرت، أخبرني أبو عمر عن أبي العباس عن ابن الأعرابي قال: يقال: عقر الرجل وبحر وبقر: إذا تحير، فلم يهتد لوجه الأمر.

(الباب نفسه) 889/ 4459 - قال أبو عبدالله: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قال: حدثَنَا أَزْهَرُ قال: أَخْبَرَنَا / ابْنُ عَوْنٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنِ الأَسْوَدِ قَالَ: ذُكِرَ عِنْدَ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَوْصَى إِلَى عَلِيٍّ، فَقَالَتْ: مَنْ قَالَهُ؟ لَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَإِنِّي لَمُسْنِدَتُهُ إِلَى صَدْرِى، فَدَعَا بِالطَّسْتِ فَانْخَنَثَ فَمَاتَ، وَمَا شَعَرْتُ، فَكَيْفَ أَوْصَى إِلَى عَلِيٍّ؟ قولها: انخنث، تريد أنه مال إلى أحد شقيه. ومنه الحديث: "أنه نهى عن اختناث الأسقية " وهو أن تثنى أفواهها ليشرب منها، وسمي المخنث لانخناثه وتثنيه في مشيه وحركاته.

(83) (الباب نفسه)

(83) (الباب نفسه) 890/ 4462 - قال أبوعبدالله: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قال: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- قَالَ: لَمَّا ثَقِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ يَتَغَشَّاهُ، فَقَالَتْ فَاطِمَةُ: وَاكَرْبَ أَبَاهُ!! فَقَالَ: «لَيْسَ عَلَى أَبِيكِ كَرْبٌ بَعْدَ الْيَوْمِ». قوله: ليس على أبيك كرب بعد اليوم، تكلم فيه غير واحد من أهل العلم ويدخل فيهم من لا يعد من أهل العلم وهو إسحاق بن إ براهيم الموصلي فيما يعيب به أصحاب الحديث في كتاب له، وزعم أنهم لا يعرفون معنى هذا الكلام، ثم قال: إنما كان كربه شفقة على أمته لما علم من الاختلاف والفتن التي تقع بعده. قلت وهذا ليس بشيء ولو كان قاله لوجب انقطاع شفقته علي الأمة بعد موته لقوله: "ليس على أبيك كرب بعد اليوم" وشفقته دائمة على الأمة أيام حياته وباقية بعد وفاته لأنه مبعوث إلى الغابرين منهم قرنا بعد قرن إلى قيام الساعة صلى الله عليه وسلم، وإنما هو

ما كان يجده من كرب الموت وعلزه وكان بشرا يناله الوصب، فيجد له من الألم مثل ما يجده الناس أو أكثر وإن كان صبره عليه واحتماله له أحسن، وقد روي عن عبدالله بن مسعود قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محموم فقلت يا رسول الله: إنك توعك وعكا شديدا. فقال: " أجل، إنا معشر الأنبياء يضاعف علينا البلاء، كما يضاعف لنا الأجر ". فمعنى قوله: "ليس على أبيك كرب بعد اليوم" أي: لا يصيبه بعد اليوم نصب ولا وصب يجد له كربا / إذا أفضى إلى دار الآخرة والسلامة الدائمة والنعيم المقيم. (ومن كتاب التفسير) قلت: إلى هاهنا انتهت رواية إبراهيم بن معقل. وحدثنا بما بعده من الكتاب محمد بن خالد بن الحسن قال:

(1) (باب ما جاء في فاتحة الكتاب)

(1) (باب ما جاء في فاتحة الكتاب) 891/ 4474 - حدثنا محمّدُ بنُ يُوسُف الفِرَبْرِىّ قال: حَدَّثَنَا محمد بن إسماعيل قال: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قال: حَدَّثَنَا يَحْيَى بن سعيد عَنْ شُعْبَةَ حَدَّثَنِي خُبَيْبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّى فِي الْمَسْجِدِ فَدَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ أُجِبْهُ، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي. فَقَالَ: «أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ عزوجل: (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ) ثُمَّ قَالَ لِي: لأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ السُّوَرِ فِي الْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ». ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِى، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ من المَسجِد قُلْتُ: أَلَمْ تَقُلْ «لأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ». قَالَ: «(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِى وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ».

قوله: ألم يقل الله عزوجل: {استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم} يدل على أن حكم لفظ العموم أن يجرى على جميع مقتضاه. وفيه دليل: على أن الخصوص والعموم إذا تقابلا كان العام منزلا على الخاص، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم الكلام في الصلاة فكان ظاهر ذلك على العموم في الأعيان والأزمان، ثم الكلام الذي هو إجابة الدعاء من النبي صلى الله عليه وسلم مستثنى منه. وقوله: هي أعظم سور القرآن. يعني بذلك عظم المثوبة على قراءتها وذلك لما تجمع هذه السورة من الثناء على الله عزوجل والدعاء والمسألة. وقد روِى عن محمد بن علي بن الحسين أنه قال: سورة الحمد أولها ثناء ووسطها إخلاص وآخرها مسألة الله عزوجل. وقوله: هي السبع المثاني والقرآن العظيم، فإنها إنما سميت مثاني لأنها تثنى في كل ركعة من الصلاة.

وفيه دلالة أن الصلاة لا تجزئ / إلا بها، وأن قراءتها في كل ركعة واجبة. وقيل: سميت المثاني لأنها استثنيت لهذه الأمة، لم تنزل على من قبلها. وفيه بيان: أنها القرآن العظيم، وأن الواو في هذه الآية ليست بواو العطف الموجبة الفصل بين الشيئين وإنما هي الواو التي تجيء بمعنى التخصيص والتفضيل، كقوله عزوجل: {فيهما فاكهة ونخل ورمان} وكقوله: {من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال} ونحو ذلك، والله أعلم.

(4) باب قول الله تعالى: (وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون).

(4) باب قَوْلِ الله تَعَالَى: (وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ). 892/ 4478 - قال أبو عَبدِالله: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قال: حَدَّثَني سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ - رضى الله عنه - قَالَ: قَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: «الْكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ، وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ». قوله: الكمأة من المن، لم يرد أنها من نوع المنِّ الذى أنزل على بني إسرائيل، فإن المروى في الأخبار أنه كان يسقط عليهم

كالترنجبين وإنما معناه أن الكمأة شيء ينبت بنفسه من غير استنبات ومؤنة تتكلف له، فهو بمنزلة المن الذي كان يسقط عليهم، فيكون قوتا لهم، وإنما نالت الكمأة هذا الثناء لأنها من الحلا ل الذي ليس في اكتسابه شبهة. وقوله: وماؤها شفاء للعين، فإنما هو بأن يربي به الكحل أو التوتياء ونحوهما مما يكتحل به، فينتفع بذلك، وليس بأن يؤخذ بحتا فيكتحل ويتداوى به لأن ذلك يؤذي العين ويقذيها.

(11) (باب: {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا})

(11) (باب: {قولوا آمنَّا بالله وما أُنزِلَ إلينا}) 893/ 4485 - قال أبو عبدالله: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قال: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ قال: حدثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ، وَيُفَسِّرُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ لأَهْلِ الإِسْلاَمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لاَ تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلاَ تُكَذِّبُوهُمْ، قُولُوا: (آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلينا) الآيَةَ. قلت: هذا الحديث أصل في وجوب التوقف عما يشكل من الأمور والعلوم، فلا يقضى عليه بجواز أو بطلان ولا بتحليل ولا تحريم / وقد أمرنا أن نؤمن بالكتب المنزلة على الأنبياء إلا أن

قراء الكتب من اليهود والنصارى قد حرفوا وبدلوا ولا سبيل لنا إلى العلم بما هو صحيح منه، وأن ما يحكونه عن تلك الكتب هل هو مستقيم؟ فأمرنا بالتوقف فيه، فلا نصدقهم لئلا نكون شركاء معهم فيما حرفوه وبدلوه منه ولا نكذب به، فلعله يكون صحيحا فنكون منكرين لما أمرنا أن نؤمن، ونقول: آمنا بما أنزل الله من كتاب، وعلى هذا كان توقف السلف رحمهم الله، عن بعض ما أشكل عليهم من الأحكام وتعليقهم القول فيه، كما سئل عنه عثمان بن عفان، رضي الله عنه، من الجمع بين الأختين من ملك اليمين فقال: أحلتهما آية وحرمتهما آية. وكما سئل عبدالله بن عمر، عن رجل نذر أن يصوم كل يوم اثنين، فوافق ذلك يوم عيد فقال: أمر الله بالوفاء بالنذر ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم العيد، فهذا مذهب من سلك طريق الورع منهم، وإن كان غيرهم قد اجتهدوا

واعتبروا معاني الأصول، فرجحوا أحد المذهبين على الآخر، وكل على ما ينويه من الخير ويؤمه من الصلاح مشكور. وقد سئل علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- عن الجمع بين الأختين بملك اليمين، فحرم الجمع بينهما، وإلى هذا ذهب أكثر الفقهاء وكان معنى من حرم ذلك أن المراد بإحدى الآيتين بيان ما حرم علينا، والمراد بالآية الأخرى مدح المؤمنين على حسن الائتمار لما أمروا به والانتهاء عما نهوا عنه من غير تفصيل ولا تعيين، ولأن إحدى الآيتين أخص في المعنى وهي قوله: {وأن تجمعوا بين الأختين} والأخرى أعم وهي قوله: {أو ما ملكت أيمانكم} فقضوا بالأخص على الأعم.

(23) (باب يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى -إلى قوله- عذاب أليم)

(23) (باب يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى -إِلَى قَوْلِهِ- عذاب أليم) 894/ 4498 - قال أبو عبدالله: حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِىُّ قال: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قال: حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ: سَمِعْتُ مُجَاهِداً قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - يَقُولُ: كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ الْقِصَاصُ، وَلَمْ تَكُنْ فِيهِمِ الدِّيَةُ. وقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِهَذِهِ الأُمَّةِ: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ / بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْءٌ) فَالْعَفْوُ أَنْ تُقْبَلَ الدِّيَةَ فِي الْعَمْدِ: (فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ) يَتَّبِعُ بِالْمَعْرُوفِ وَيُؤَدِّي بِإِحْسَانٍ، (ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) مِمَّا كُتِبَ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ. قلت: العفو في هذه الآية يحتاج إلى تفسير؛ وذلك أن ظاهر العفو يوجب أن لا تبعة لأحدهما على الآخر .. فما معنى الاتباع بالمعروف والأداء بالإحسان؟

والمعنى في قوله: {فمن عفي له من أخيه شيءٌ} أي: من ترك له القتل، ورضي منه بالدية، فاتباع بالمعروف، أي: فعلى صاحب الدم اتباع بالمعروف، أي: مطالبة بالدية وعلى القاتل أداءٌ إليه بإحسان، وفي الآية دليل على أن ولي الدم مخير بين أن يقتل أو يأخذ الدية. وبيان ذلك في حديث أبي شريح الخزاعي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "من قتل له قتيل فهو بين خيرتين: إن شاء قتل وإن شاء أخذ الدية".

(28) (باب: {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد -إلى قوله- يتقون})

(28) (باب: {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد -إلى قوله- يتقون}) 895/ 4509 - قال أبو عبدِالله: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قال: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ حُصَيْنٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَدِىٍّ قَالَ: أَخَذَ عَدِىٌّ عِقَالاً أَبْيَضَ وَعِقَالاً أَسْوَدَ حَتَّى كَانَ بَعْضُ اللَّيْلِ نَظَرَ فَلَمْ يَسْتَبِينَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: جَعَلْتُ تَحْتَ وِسَادَى العِقالَ. قَالَ: «إِنَّ وِسَادَكَ إِذاً لَعَرِيضٌ أَنْ كَانَ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ وَالأَسْوَدُ تَحْتَ وِسَادِك». قلت: إنما فعل هذا في ليل الصوم متأولا قوله: {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} فجرى في ذلك على ظاهر الاسم المطلق، ولم يعتبره بما

هو مضمن به من قوله: {من الفجر}. وقوله: "إن وسادك لعريض"، يريد إن نومك إذًا لطويل، كنى بالوساد عن النوم، إذ كنى بالوساد عن النوم، إذ كان النائم قد يتوسده، والعرض في مثل هذا إذا لم يرد به خلاف الطول، كان معناه السعة والكثرة.

(28) (الباب نفسه)

(28) (الباب نفسه) 896/ 4510 - قال أبو عبدالله: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قال: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مُطَرِّفٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَدِىِّ بْنِ حَاتِمٍ - رضى الله عنه - قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَا الْخَيْطُ / الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ أَهُمَا الْخَيْطَانِ؟ قَالَ: «إِنَّكَ لَعَرِيضُ الْقَفَا إِنْ أَبْصَرْتَ الْخَيْطَيْنِ». ثُمَّ قَالَ: «لاَ بَلْ هُوَ سَوَادُ اللَّيْلِ وَبَيَاضُ النَّهَارِ». قوله: عريض القفا، إنما يقال ذلك لمن ينسب إلى البله والغفلة. يقال: فلان عريض القفا، إذا كان قليل الفطنة، غليظ الفهم، وقد يتأول على غير هذا الوجه، وهو أنه إذا كان يأكل حتى يسفر فيتبين له الخيط الأسود من الخيط الأبيض، كان كمن تغذى، ثم صام بقية نهاره، فتدوم له كُِدنة بدنه وعرض قفاه، فلا ينهكه الصوم ولا ينقص شيئاً من لحمه.

(35) (باب ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس)

(35) (باب ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس) 897/ 4520 - قال أبو عبدالله: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَازِمٍ قال: حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قالت: كَانَتْ قُرَيْشٌ وَمَنْ دَانَ دِينَهَا يَقِفُونَ بِالْمُزْدَلِفَةِ، وَكَانُوا يُسَمَّوْنَ الْحُمْسَ، وَكَانَ سَائِرُ الْعَرَبِ يَقِفُونَ بِعَرَفَاتٍ، فَلَمَّا جَاءَ الإِسْلاَمُ أَمَرَ اللَّهُ تعالى نَبِيَّهُ أَنْ يَاتِيَ عَرَفَاتٍ، ثُمَّ يَقِفَ بِهَا، ثُمَّ يُفِيضَ مِنْهَا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ). قلت: القبائل التي كانت تدين بذلك مع فريش يقال: إنهم بنو عامر ابن صعصة وثقيف وخزاعة وكانوا إذا أحرموا لا يأقطون الأقط ولا يسلؤون السمن وإذا أحرم أحدهم لم يدخل من باب بيته، وإنما سموا حمسا لأنهم تحمسوا في دينهم، أي: تشددوا، والحماسة: الشدة.

وفي قوله: {ثم أفيضوا من حيث افاض الناس}.بيان أنهم مأمورون بالوقوف بعرفة، لأن الإفاضة، ومعناها التفرق والانتشار لا تكون إلا عن اجتماع في مكان، وكان الناس وهم أكثر قبائل العرب يقفون بعرفات ويفيضون منها، فأمروا أن يفيضوا منها.

(38) باب: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما ياتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم الباساء والضراء - إلى قوله - قريب).

(38) باب: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَاتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَاسَاءُ وَالضَّرَّاءُ - إِلَى قَوله - قَرِيبٌ). 898/ 4524 - قال أبو عبدالله: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى قال: حدثَنَا هِشَامٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ يَقُولُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما -: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) خَفِيفَةً، قال: ذَهَبَ بِهَا هُنَالكَ، وَتَلاَ: (حَتَّى / يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِين آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ). 899/ 4525 - فَلَقِيتُ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ له. قَالَ: فَقَالَتْ عَائِشَةُ: مَعَاذَ اللَّهِ، وَاللَّهِ مَا وَعَدَ اللَّهُ رَسُولَهُ مِنْ شَىْءٍ قَطُّ إِلاَّ أَعلمَ أَنَّهُ كَائِنٌ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ، وَلَكِنْ لَم يَزَلِ الْبَلاَءُ بِالرُّسُلِ

حَتَّى خَافُوا أَنْ يَكُونَ مَنْ مَعَهُمْ يُكَذِّبُونَهُمْ، فَكَانَتْ تَقْرَأُ (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِّبُوا) مُثَقَّلَةً. قلت: أما وجه القراءة بتخفيف الذال في قوله: {كُذِبوا} فمعناه: "حتى إذا استيأس الرسل" من إيمان قومهم وتصديقهم إياهم وظن قومهم أنهم قد كُذبوا فيما وعدوا والرسل لا تظن ذلك، وهو قراءة عاصم وحمزة والكسائي بتخفيف الذال. وأما قراءة عائشة بتشديد الذال، فمعناه: حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم وخافوا أن يكون من معهم قد ارتابوا، فلا يصدقونهم، ومعنى الظن في هذا ضد اليقين على مذهبها. وذهب أصحاب المعاني من المتأخرين إلى أن الظن هاهنا اليقين، والمعنى: حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم وعلموا أن القوم قد كذَّبوهم، فلا يصدقونهم ولا يؤمنون بهم جاءهم النصر.

فإن قيل: فما وجه ما ذهب إليه ابن عباس من تأويل الآية وقوله: ذهب بها هنالك؟ قيل: أما الذي لا يُشك فيه من مذهبه أنه لم يجوز على الرسل صلوات الله عليهم أن يكذبوا بالوحي الذي يأتيهم من قبل الله عزوجل، وأن يشكوا في صدق الخبر عنه أو يرتابوا، لكنه قد يحتمل أن يقال: إنهم عند تطاول مدة البلاء عليهم وإبطاء نجز العدة عنهم وشدة مطالبة القوم إياهم بما كانوا يعدونهم من النصرة، دخلتهم الريبة، حتى توهموا أن الذي جاءهم من الوحي لعله كان حسبانا منهم ووهما، فارتابوا بأنفسهم وظنوا عليها الغلط في تلقي ما ورد عليهم من القول، فيكون معنى الكذب في هذا متأولا على الغلط كقول القائل لصاحبه: / كذبتك نفسك، وكقولك: كذب سمعي، وكذب بصري وقد قال صلى الله عليه وسلم للرجل الذي وصف له العسل: "صدق الله وكذب بطن أخيك"، وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم أول ما بُدئ بالوحي يرتاب بنفسه ويشفق أن يكون الذي يتراءاه أمرا غير موثوق به إلى أن

ثبت الله قلبه وسكن بذلك جأشه وشرح به صدره، فانزاح عنه الريب وخلفه اليقين، ومرجع الأمر في هذا الباب أن الذي عرض من الريبة إنما ينصرف إلى الوسائط التي هي مقدمات الوحي لا إلى نفس الوحي وأصله بعد حصول العلم به والله أعلم.

(41) (باب: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا - إلى قوله - بما تعملون خبير})

(41) (باب: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً - إِلَى قوله - بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}) 900/ 4531 - قال أبوعبدالله: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قال: حَدَّثَنَا رَوْحٌ قال: حَدَّثَنَا شِبْلٌ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ} قَالَ جَعَلَ اللَّهُ لَهَا تَمَامَ السَّنَةِ سَبْعَةَ أَشْهُرٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً وَصِيَّةً، إِنْ شَاءَتْ سَكَنَتْ فِي وَصِيَّتِهَا، وَإِنْ شَاءَتْ خَرَجَتْ قبله، وَهْوَ قَوْلُ اللَّهِ عزوجل: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} فَالْعِدَّةُ كَمَا هِي وَاجِبة عَلَيْهَا.

معنى قوله: {وصية لأزواجهم} أي: فليوصوا وصية لأزواجهم. ومعنى قوله: {متاعا إلى الحول غير إخراج} أي: متعوهن متاعا، فلا تخرجوهن، ثم نسخ ذلك بقوله: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا} وكانت المرأة ينفق عليها ما لم تخرج من بيت زوجها، فإذا خرجت قطعت النفقة عنها.

(الباب نفسه) 901/ 4532 - قال أبوعبدالله: حَدَّثَنَا حِبَّانُ قال: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ قال: حدثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَوْنٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ ذكرت حديث سُبَيْعَةَ لعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى فقال: أي: كأنه أنكره فَلَقِيتُ مَالِكَ بْنَ عَامِرٍ أَوْ مَالِكَ بْنَ عَوْفٍ قُلْتُ: كَيْفَ كَانَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَهْىَ حَامِلٌ؟ فَقَالَ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: أَتَجْعَلُونَ عَلَيْهَا التَّغْلِيظَ / وَلاَ تَجْعَلُونَ لَهَا الرُّخْصَةَ لَنَزَلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ الْقُصْرَى بَعْدَ الطُّولَى. قوله: أتجعلون عليها التغليظ ولا تجعلون لها الرخصة، أراد بالتغليظ طول العدة بالحمل إذا زادت مدته على مدة الشهور لغير الحامل، وقد يمتد ذلك حتى يجاوز تسعة أشهر إلى أربع سنين. يقول: فإذا جعلتم عليها التغليظ، فاجعلوا لها الرخصة إذا وضعت لأقل من الأربعة الأشهر والعشر التي هي عدة المتوفى عنها غير الحامل.

وقوله: نزلت سورة القصرى بعد الطولى، يعني قوله تعالى في سورة الطلاق: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} والتي في الطولى: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزوجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا}. فكان ابن مسعود يحمل ذلك على النسخ، وكان ابن عباس يجمع عليها العدتين، فتعتد أقصاهما، وذلك لأن إحداهما لا تدفع الأخرى، فلما أمكن الجمع بينهما جمع ولم يحمل الأمر فيهما على النسخ. وأما عامة الفقهاء: فإن الأمر عندهم فيهما محمول على التخصيص لقيام الدليل عليه من خبر سبيعة، وقد وضعت بعد موت زوجها سعد بن خولة بأيام، ثم حلت، قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: انكحي فقد حللت.

(65) (باب: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا})

(65) (باب: {وَأُولاَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً}) 902/ 4909 - قال أبو عَبدِ الله: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ حَفْصٍ قال: حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ جَالِسٌ عِنْدَهُ فَقَالَ: أَفْتِنِي فِي امْرَأَةٍ وَلَدَتْ بَعْدَ زَوْجِهَا بِأَرْبَعِينَ لَيْلَةً. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: آخِرُ الأَجَلَيْنِ. قُلْتُ أَنَا: (وَأُولاَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَنَا مَعَ ابْنِ أَخِي، فَأَرْسَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ غُلاَمَهُ إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَذَكَرت حَدِيث سُبَيْعَةَ. قلت: في قول أبي هريرة: أنا مع ابن أخي، دليل على أن للتابعي أن يدخل مع الصحابي في الاختلاف.

(43) (باب: {وقوموا لله قانتين}) أي: مطيعين

(43) (باب: {وقوموا لله قانتين}) أي: مطيعين 903/ 4534 - قال أبوعبدالله: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قال: حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ شُبَيْلٍ عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ،/ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: كُنَّا نَتَكَلَّمُ فِي الصَّلاَةِ يُكَلِّمُ أَحَدُنَا أَخَاهُ فِي حَاجَتِهِ، حَتَّى نَزَلَتْ: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ. قلت: قد ذكر في تفسير القانت أقاويل، أصحها وأجمعها أن القانت الداعي في حال القيام، وإذا دعا الرجل قائما. وقد قيل: القانت المطيع. وقيل: القانت العابد. وقيل: الذاكر لله. والقول الأول يجمع هذا كله.

وقوله: (فأمرنا بالسكوت) ليس السكوت في الآية تفسيرا للقنوت، فيكون الساكت قانتا، ولكنهم لما أمروا بالذكر شغلوا عن الكلام وانقطعوا عنه فقيل: فأمرنا بالسكوت. وأما الصلاة الوسطى: ففي أكثر الروايات أنها العصر. وقد قيل: إنها صلاة الفجر، وقيل: هي صلاة الظهر، وأغرب ما جاء فيها أنها صلاة المغرب. روى ذلك عن قبيصة بن ذؤيب قيل: وإنما سميت الوسطى لأنها ليست بأكثر الصلوات في عدد الركعات ولا بأقلها، لكنها واسطة ثلاث بين أربع واثنتين والواو في قوله: {والصلاة الوسطى} بمعنى التخصيص والتفضيل لهذه الصلاة خاصة وإن كان سائر الصلوات مأمورا بالمحافظة عليها وذلك كقوله عزوجل: {فيهما فاكهة ونخل ورمان}، وقد دخل النخل والرمان في جملة الفاكهة وإنما خص النخل والرمان تفضيلا لهما على سائر الفاكهة.

(55) (باب: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه})

(55) (باب: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ}) 904/ 4546 - قال أبو عبدالله: حَدَّثَنَا إسحاق بن منصور قال: أخبرنا روح قال: حَدَّثَنَا شُعْبَةَ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ مَرْوَانَ الأَصْفَرِ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أحسبه ابْنُ عُمَرَ: {إِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} نسختها الآيَةَ التي بعدها. قلت: قد يجري اسم النسخ على ما عفي عنه من الأشياء ووضع عن الأمة التعبد به، وهذا خبر / وقد اختلف الناس في نسخ الأخبار، فذهب كثير منهم إلى أن النسخ لا يجري فيها لأنه يؤدي إلى الخلف.

وذهب آخرون: إلى إجازته ما لم يكن مقتضيا كذبا. والصحيح من المذهب في ذلك: أن النسخ لا يجري فيما أخبر الله تعالى عنه أنه كان وأنه فعل ذلك فيما مضى، لأنه يؤدي إلى الكذب والخلف. فأما ما تعلق من الأخبار بالأمر والنهي فالنسخ فيه جائز عند جماعة من الناس، وسواء كان ذلك خبرا عما مضى أو عن زمان مستقبل. وفرق بعضهم بين ما أخبر أنه فعله وبين ما أخبر أنه يفعله. قالوا: وذلك أن ما أخبر الله أنه يفعله يجوز أن يعلقه يجوز أن يعلقه بشرط، واخباره عما فعله لا يجوز دخول الشرط فيه وهذا أصح هذه الوجوه، وعليه تأول ابن عمر الآية والله أعلم. ويجري ذلك مجرى العفو والتخفيف عن عباده وهو كرم منه وفضل وليس بخُلف.

(باب: {مِنْه آياتٌ محكمات}) 905/ 4547 - قال أبوعبدالله: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ قال: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التُّسْتَرِىُّ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنِ الْقَاسِمِ ابْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ: تَلاَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَذِهِ الآيَةَ: {هُوَ الَّذِى أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَاوِيلِهِ وما يَعلَم تَأويلَه إلا الله والرَّاسِخُونَ في العِلْم يَقُولُون آمنَّا به كُلٌّ مِنْ عِندِ رَبِّنَا وما يَذَّكَّر إلّا أُولُوا الأَلْبَابِ} قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ، فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّاهم اللَّهُ، فَاحْذَرُوهُمْ». هذه الآية مشكلة جدا وأقاويل المتأولين فيها مختلفة، فأما الآيات المحكمات فهي المحكمات فهي التي يعرف بظاهر بنائها تأويلها، ويعقل واضح أدلتها باطن معانيها.

وقيل: المحكم: الناسخ. فأما المتشابه: فقد اختلفت الأقاويل فيها وجماعها ما اشتبه / منها، فلم يتلق معناه من لفظه، ولم يدرك حكمه من تلاوته، وذلك على ضربين: ما إذا رد إلى المحكم واعتبر به عقل مراده وعلم معناه. والضرب الآخر: هو ما لا سبيل إلى معرفة كنهه والوقوف على حقيقته ولا يعلمه إلا الله عزوجل، وهو الذي يتبعه أهل الزيغ ويطلبون سره، ويتبعون تأويله، ويكثر خوضهم في ذلك، فلا يبلغون كنهه، ويرتابون بأمره، فيفتنون به، وهو الذي أشير إليه بقوله: فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سماهم الله فاحذروهم. ومعنى ذلك: كل شيء استأثر الله بكنه علمه، وتعبدنا بظاهر منه -وذلك كالإيمان بالقدر والمشيئة وعلم الصفات ونحوها من الأمور التي لم يطلع على سرها ولم يكشف لنا عن مغيبها، فالغالي في طلب علمها والباحث عن عللها طالب للفتنة ومتبع لها لأنه غير مدرك شأوها ولا منته إلى حد منها تسكن إليه نفسه، ويطمئن به قلبه، وينشرح له صدره وذلك أمر لم يكلفه ولم يتعبد به، فالخوض فيه عدوان والتعرض له فتنة والعلماء الراسخون في العلم يقولون: "آمنا به"، اطلعنا علي كنه حقيقته أم لا، "كل من عند ربنا"

أي: جائز أن يتعبدنا الله بما هذا سبيله من العلم غير مستحيل ذلك في الحكمة، فيسلم الأمر ولا يتعدى الحد (وما يذكر إلا أولو الألباب) وهم ذوو العقول أولو التأمل والتدبر للقرآن، وأهل البصائر العالمون بمنازل العلوم ومراتبها واختلاف أقسامها في الظهور والغموض.

(6) (باب: {قل فاتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين})

(6) (باب: {قل فَاتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}) 906/ 4556 - قال أبو عبدالله: حَدَّثَنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ قال: حَدَّثَنَا أَبُو ضَمْرَةَ قال: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - أَنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِرَجُلٍ مِنْهُمْ وَامْرَأَةٍ زَنَيَا، فَقَالَ لَهُمْ: «كَيْفَ تَفْعَلُونَ بِمَنْ زَنَى مِنْكُمْ؟». قَالُوا: نُحَمِّمُهُمَا وَنَجْلِدُهُمَا. فَقَالَ: «لاَ تَجِدُونَ فِى التَّوْرَاةِ الرَّجْمَ؟». فَقَالُوا: / لاَ نَجِدُ فِيهَا شَيْئاً. فَقَالَ لَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلاَمٍ: كَذَبْتُمْ (فَاتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) فَوَضَعَ مِدْرَاسُهَا الَّذِى يُدَرِّسُهَا كَفَّة عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ، فَطَفِقَ يَقْرَأُ مَا دُونَ يَدِهِ وَمَا وَرَاءَهَا، وَلاَ يَقْرَأُ آيَةَ الرَّجْمِ، فَنَزَعَ يَدَهُ عَنْ آيَةِ الرَّجْمِ فَقَالَ: مَا هَذِهِ؟ فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَالُوا: هِي آيَةُ الرَّجْمِ، يعني فَأَمَرَ بِهِمَا فَرُجِمَا قال: فَرَأَيْتُ صَاحِبَهَا يَحني عَلَيْهَا يَقِيهَا الْحِجَارَةَ. قوله: نحممهما، يعني نسود وجوههما بالحمم. والمِدراس: صاحب دراسة كتبهم. ومِفعَل ومِفعال من أبنية المبالغة

في الفعل الذي يشتق منه الاسم. وقوله: يحني عليها -رواه بالحاء- وأكثر الرواة يخطونها -بالجيم والهمز- يجنأ عليها، أي: يميل. وقد ذكرنا هذا الحرف فيما تقدم. وفيه من الفقه: أن الإحصان قد يقع بنكاح أهل الكفر كما يقع بنكاح أهل الإسلام وأن الذميين إذا زنيا يرجمان كالمسلمين، وإنما رجمهما صلى الله عليه وسلم بكتاب الله وبما أحى الله إليه يدل على ذلك قوله تعالى: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} وإنما احتج عليهم بالتوراة استظهارا بالحجة، وإحياء لحكم الله الذي كانوا يكتمونه ويحرمون القول فيه، والله أعلم. وفيه أنه لم يتعرض لهم حتى جاءوه متحاكمين إليه.

(15) (باب: {ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا})

(15) (باب: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً}) 907/ 4566 - قال أبوعبدالله: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قال: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِىِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ - رضى الله عنهما - أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذكر قصة ذهابه في عِيادةِ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ ومَا كانَ من قَولِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ له حين مرَّ بمجلسه قال: فقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «يَا سَعْدُ أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالَ أَبُو حُبَابٍ؟» قَالَ سَعْدُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اعْفُ عَنْهُ، فَوَالَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ، لَقَدْ جَاءَ اللَّهُ بِالْحَقِّ، ولَقَدِ اصْطَلَحَ أَهْلُ هَذِهِ الْبَحْرَةِ عَلَى أَنْ يُتَوِّجُوهُ فَيُعَصِّبُوه بِالْعِصَابَةِ، قَلَّمَا أَتَى اللَّهُ بِالْحَقِّ الَّذِى أَعْطَاكَ اللَّهُ شَرِقَ بِذَلِكَ. البحرة: البلد، وقوله: فيعصبوه بالعصابة، يعني يرئسوه ويسودوه عليهم وكان الرئيس يسمى معصبا لما يعصب برأسه من

الأمور ويقال: بل كان الرؤساء منهم / يعصبون رؤوسهم بعصابة يعرفون بها. وقوله: شَرِق يذلك، أي: غصَّ به. يقال: غصَّ الرجل بالطعام، وشرق بالماء وشجي بالعظم.

(1) (باب: {وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى})

(1) (باب: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لاَ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى}) 908/ 4574 - قال أبو عبدالله: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قال: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: يخْبرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عزوجل: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لاَ تُقْسِطُوا فِى الْيَتَامَى}. فَقَالَتْ: يَا ابْنَ أُخْتِي، هَذِهِ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِى حِجْرِ وَلِيِّهَا، تُشْرِكُهُ فِي مَالِهِ، يُعْجِبُهُ مَالُهَا وَجَمَالُهَا، فَيُرِيدُ وَلِيُّهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، بِغَيْرِ أَنْ يُقْسِطَ فِي صَدَاقِهَا، فَيُعْطِيَهَا مِثْلَ مَا يُعْطِيهَا غَيْرُهُ، فَنُهُوا أَنْ يَنْكِحُوهُنَّ، إِلاَّ أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ، وَيَبْلُغُوا بهُنَّ أَعْلَا سُنَّتِهِنَّ فِى الصَّدَاقِ، فَأُمِرُوا أَنْ يَنْكِحُوا مَا طَابَ لَهُمْ مِنَ النِّسَاءِ سِوَاهُنَّ. قولها: بغير أن يقسط في صداقها، يعني بغير أن يعدل فيه، فيبلغ به سنة مهر مثلها. يقال: أقسط الرجل في الحكم: إذا عدل. وقَسَط: إذا جار. قال الله عزوجل: {وأقسطوا إن الله يحب المقسطين}

وقال: {وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا} وتأويل الآية وبيان معناها: أن الله سبحانه خاطب أولياء اليتامى فقال: وإن خفتم من أنفسكم المشاحة في صدقاتهن وأن لا تعدلوا، فتبلغوا بهن صدقة أمثالهن، فلا تنكحوهن وانكحوا غيرهن من الغرايب اللواتي أحل الله خطبتهن من واحدة إلى أربع وإن خفتم أن تحوزوا -إذا نكحتم من الغرايب- أكثر من واحدة فاقتصروا منهن على واحدة أو ما ملكتم من الإماء.

(11) (باب: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم})

(11) (باب: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِى الأَمْرِ مِنْكُمْ}) 909/ 4584 - قال أبوعبدالله: حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ قال: حدثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ يَعْلَى بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما -: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِى الأَمْرِ مِنْكُمْ}. قَالَ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ قَيْسِ، إِذْ بَعَثَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي سَرِيَّةٍ. قلت: قد قيل في أولي الأمر أنهم أمراء السرايا. وقيل: هم العلماء قال الشافعي: والقول الأول أشبه لأن قريشاً كانوا

لا يعرفون الإمارة ولا ينقادون / للأمير، فأمروا بالطاعة، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أطاع أميري فقد أطاعني"

(16) (باب: {{ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم})

(16) (باب: {{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ}) 910/ 4590 - قال أبوعبدالله: حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ قال: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قال: حَدَّثَنَا مُغِيرَةُ بْنُ النُّعْمَانِ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ قَالَ: آيَةٌ اخْتَلَفَ فِيهَا أَهْلُ الْكُوفَةِ يعني قوله عزوجل: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً} فرحلت فيها إلى ابن عباس فسألته عنها فقال نزلت: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خالداً فيها}. هِي آخِرُ مَا نَزَلَ وَمَا نَسَخَهَا شَيءٌ. قلت: القرآن كله في مذاهب أهل العلم بمنزلة الكلمة الواحدة، وما تقدم نزوله وما تأخر في وجوب العمل به سواء، ما لم يقع بين الأول والآخر منافاة، ولو جُمع بين قوله عزوجل: {إن لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} وبين قوله: {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها} وألحق به قوله: {لمن يشاء} لم يكن متناقضا، فشرط المشيئة قائم في الذنوب كلها ما عدا الشرك.

وأيضاً فإن قوله: {فجزاؤه جهنم} يحتمل أن يكون معناه: فجزاؤه جهنم إن جازاه الله ولم يعف عنه، فالآية الأولى خبر لا يقع فيه الخُلف. والآية الأخرى وعيد يرجى فيه العفو والله أعلم. وقال بعض علماء السلف عند قراءة هذه الآية: هذا وعيد شديد في القتل حظر الله به الدماء.

(10) (باب: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان})

(10) (باب: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ}) 911/ 4617 - قال أبوعبدالله: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قال: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ قال: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ قَالَ: قَالَ أَنَسُ - رضى الله عنه -: مَا كَانَ لَنَا خَمْرٌ غَيْرُ فَضِيخِكُمْ هَذَا الَّذِى تُسَمُّونَهُ الْفَضِيخَ. فَإِنِّي لَقَائِمٌ أَسْقِي أَبَا طَلْحَةَ وَفُلاَناً، إِذْ جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: هَلْ بَلَغَكُمُ الْخَبَرُ؟ فَقَالُوا: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: حُرِّمَتِ الْخَمْرُ. قَالُوا: أَهْرِقْ هَذِهِ الْقِلاَلَ يَا أَنَسُ. قَالَ: فَمَا سَأَلُوا عَنْهَا وَلاَ رَاجَعُوهَا بَعْدَ خَبَرِ الرَّجُلِ. الفضيخ: البسر، يُفضخ أي يشدخ ويترك في وعاء حتى ينش. والفضخ: الكسر، والقِلال: جمع القلة وهي الآنية التي كانوا يشربون فيها.

والقُلة: أيضاً الجرة يقلها / القوي من الرجال. وفيه دليل على وجوب قبول أخبار الآحاد. وفيه دليل على أن الخمر لا يجوز استصلاحها بالعلاج لتصير خلا ولو رأوه صلاحا لم يريقوه ولو كان يصير مالا ما ضيعوه.

(12) باب: (لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم)

(12) باب: (لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) 912/ 4621 - قال أبو عبدالله: حَدَّثَني مُنْذِرُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجَارُودِىُّ قال: حَدَّثَنَا أَبِي قال: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُوسَى بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَنَسٍ - رضى الله عنه - قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خُطْبَةً مَا سَمِعْتُ مِثْلَهَا قَطُّ. قَالَ: «لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيراً». قَالَ: فَغَطَّى أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وُجُوهَهُمْ لَهُمْ خَنِينٌ.

وقد يجعلون الحنين والخنين واحدا إلا أن الحنين من الصدر والخنين -بالخاء معجمة- من الأنف. ومنه قول الشاعر: *فلن يرجع الموتى خنين المآتم*

(13) (باب: {ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام})

(13) (باب: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلاَ سَائِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ}) 913/ 4623 - قال أبو عبدالله: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قال: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ عَامِرٍ الْخُزَاعِىَّ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ، وهو أَوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ». القُصب: المعا. والأقصاب: الأمعاء. والسوائب: ما سيبوه من النعم لآلهتهم، فحموا ظهورها لا تَحمِل، فتركوها ترعى، لا تُمنع من كلأ ولا ماء.

(14) (باب: {وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتنى كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شئ شهيد})

(14) (باب: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ}) 914/ 4625 - قال أبوعبدالله: حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قال: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قال: أَخْبَرَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ النُّعْمَانِ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلى أن قَال «أَلاَ وَإِنَّهُ يُجَاءُ بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أُصَيْحَابِي. فَيقولُ: إِنَّكَ لاَ تَدْرِى مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ. إِنَّ هَؤُلاَءِ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ فَأَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وأنت على كل شيء شهيد}». قوله: أصيحابي، هو تصغير الأصحاب وفيه تقليل عددهم، كما يقال: أُبيَّات من الشعر، في تصغير الأبيات وأُثيَّاب

في تصغير الأثواب، وقد يلزم هذا كل من رأى رسول الله عليه وسلم وشاهده / من طريق الانتماء إليه، ولم يرد به خواص أصحابه الذين لزموه وعُرفوا بصحبته، فقد صانهم الله وعصمهم من التغيير والتبديل. وليس معنى الارتداد على الأعقاب الرجوع عن الدين والخروج عن الملمة [الملة]، إنما هو التأخر عن بعض الحقوق والتقصير فيها، ولم يرتد أحد من الصحابة بعده والحمد لله وإنما ارتد قوم من جفاة الأعراب مثل عيينة بن حصن جيء به أسيرا إلى أبي بكر، فجعل ولدان المدينة يطعنون في كَشحه ويقولون له: ارتددت، فكان يقول: ما ارتددت ولم أكن أسلمت، وجيء بالأشعث بن قيس فأطلقهما ولم يسترقهما وإنما كان هؤلاء من المؤلفة قلوبهم ممن لا بصيرة لهم بالدين ولا معرفة لهم بأحكامه وذلك لا يوجب قدحا في الصحابة المشهورين، رضوان الله عليهم أجمعين.

(5) (باب: {فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم})

(5) (باب: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ}) 915/ 4658 - قال أبوعبدالله: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قال: حَدَّثَنَا يَحْيَى قال: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قال: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ حُذَيْفَةَ فَقَالَ: مَا بَقِي مِنَ الْمُنَافِقِينَ إِلاَّ أَرْبَعَةٌ. فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ: فَمَا بَالُ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ يَنقُرونَ بُيُوتَنَا وَيَسْرِقُونَ أَعْلاَقَنَا؟ قَالَ: أُولَئِكَ الْفُسَّاقُ. قوله: ينقرون، يعني ينقبون. والنقر أكثره إنما يكون في الصخور والخشب. والأعلاق: نفائس الأموال، وكل شيء له قيمة أو له قدر في نفسه ومزية فهو عِلق.

(9) (باب: {ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا})

(9) (باب: {ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا}) 916/ 4665 - قال أبوعبدالله: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ قال: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ غَدَوْتُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقُلْتُ أَتُرِيدُ أَنْ تُقَاتِلَ ابْنَ الزُّبَيْرِ فَتُحِلُّ حَرَمَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: مَعَاذَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ ابْنَ الزُّبَيْرِ وَبَنِى أُمَيَّةَ مُحِلِّينَ، وَإِنِّي وَاللَّهِ لاَ أُحِلُّهُ أَبَداً. وقَالَ: إِنَّ ابْنَ الْعَاصِ بَرَزَ يَمْشِي الْقُدَمِيَّةَ، يَعْنِي عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ، وَإِنَّهُ لَوَّى ذَنَبَهُ، يَعْنِى ابْنَ الزُّبَيْرِ. قوله: محلين، يعني مستبيحين القتال في الحرم، وكان ابن الزبير يُدعى المُحِل، ولذلك قال بعض شعراء قريش يشبب بأخته: ألا من لقلب مُعَنى غَزِل / بذِكر المحلة أخت المُحِل

فقوله: يمشي القدمية، يعني التبختر وهو مثل، يريد أنه قد برز في الأمر وبلغ الغاية إلى أم هامته، والآخر لوى ذنبه، أي: لم يُتم لما أراده، لكن زاغ عن ذلك وحاد عنه.

(9) (الباب نفسه)

(9) (الباب نفسه) 917/ 4666 - قال أبوعبدالله: حَدَّثَني مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ مَيْمُونٍ قال: حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ قال: دَخَلْنَا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: أَلاَ تَعْجَبُونَ من اِبْنِ الزُّبَيْرِ قَامَ فِي أَمْرِهِ هَذَا؟ فَقُلْتُ: لأُحَاسِبَنَّ نَفْسِي لَهُ مَا حَاسَبْتُهَا لأَبِي بَكْرٍ وَلِعُمَرَ، وَلَهُمَا كَانَا أَوْلَى بِكُلِّ خَيْرٍ مِنْهُ فَإِذَا هُوَ يَتَعَلَّى عَنِّي وَلاَ يُرِيدُ ذَلِكَ فَقُلْتُ: مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنِّي أَعْرِضُ هَذَا مِنْ نَفْسِي، فَيَدَعُهُ، وَمَا أُرَاهُ يُرِيدُ خَيْراً، وَإِنْ كَانَ لاَ بُدَّ لأَنْ يَرُبَّنِي بَنُو عَمِّي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَرُبَّنِي غَيْرُهُمْ. قوله: يتعلى عني: يترفع علي. وقوله: يربني أي: يكون ربا علي وأميرا. ومعنى قوله: لأحاسبن نفسي له ما حاسبتها لأبي بكر ولعمر، يعني لأناقش نفسي في معونته ولأستقصين عليها في النصح له والذب عنه.

(12) (باب: {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم}).

(12) (باب: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فلن يغفر الله لهم}). 918/ 4670 - قال أبو عبدالله: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بن أُبيّ جَاءَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فسَأَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِيُصَلِّيَ عليه فَقَامَ عُمَرُ فَأَخَذَ بِثَوْبِه فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تُصَلِّي عَلَيْهِ وَقَدْ نَهَاكَ رَبُّكَ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَيْهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا خَيَّرَنِي اللَّهُ فَقَالَ: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} وَسَأَزِيدُهُ عَلَى السَّبْعِينَ». فقَالَ إِنَّهُ مُنَافِقٌ. قَالَ: فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَنْزَلَ اللَّهُ عزوجل: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ}. فيه حجة لمن رأى الحكم بدليل الخطاب ومفهومه وذلك أنه جعل السبعين بمنزلة الشرط، فإذا جاوز هذا العدد كان الحكم / بخلافه.

وكان رأى عمر في معارضته التصلب في الدين والشدة على المنافقين، وقصده صلى الله عليه وسلم الشفقة على من تعلق بطرف من الدين والتألف لابنه عبدالله ولقومه وعشيرته من الخروج، وكان رئيسا عليهم ومعظما فيهم، فلو ترك الصلاة عليه قبل ورود النهي عنها لكان سبة على ابنه وعارا على قومه، فاستعمل صلى الله عليه وسلم أحسن الأمرين وأفضلهما في مبلغ الرأي وحق السياسة في الدعاء إلى الدين والتألف عليه إلى أن نهي عنه، فانتهى صلى الله عليه وسلم.

(20) باب: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم}

(20) باب: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} 919/ 4679 - قال أبوعبدالله: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قال: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِىِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ السَّبَّاقِ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ الأَنْصَارِىَّ - رضى الله عنه - قَالَ: أَرْسَلَ إِلَىَّ أَبُو بَكْرٍ مَقْتَلَ أَهْلِ الْيَمَامَةِ وَعِنْدَهُ عُمَرُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ عُمَرَ أَتَانِي فَقَالَ: إِنَّ الْقَتْلَ قَدِ اسْتَحَرَّ يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِالنَّاسِ، وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ فِى الْمَوَاطِنِ فَيَذْهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْقُرْآنِ، إِلاَّ أَنْ تَجْمَعُوهُ، وَإِنِّي لأَرَى أَنْ يُجْمَعَ الْقُرْآنَ قال زيد: فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنَ الرِّقَاعِ وَالأَكْتَافِ وَالْعُسُبِ وَصُدُورِ الرِّجَالِ، حَتَّى وَجَدْتُ مِنْ سُورَةِ التَّوْبَةِ آيَتَيْنِ مَعَ خُزَيْمَةَ ابن ثابتٍ الأَنْصَارِىِّ، لَمْ أَجِدْهُمَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرِهِ: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} ... إلى آخرهما.

العسب: جمع العسيب، وهو سعف النخل، وكانوا يكتبون فيها. ومنه قول امرئ القيس: *كوحي زبور في عسيب يمان* وقوله: قد استحر القتل، معناه كثر واشتد، ووزنه استفعل من الحر، والمكروه يضاف أبدا إلى الحر، والمحبوب ينسب إلى البرد ومنه المثل: ولّ حارها من تولى قارها. وقوله: حتى وجدت من سورة التوبة آيتين مع خزيمة بن ثابت لم أجدهما مع غيره، هذا مما يشكل أمره ويخفى معناه على كثير من الناس، فيتوهمون أن بعض القرآن إنما أخذ عن الأفراد والآحاد من الناس ولم يستوثق له بالإجماع ولم يقدم في بابه الاحتياط الذي يؤمن معه الغلط ويرتفع به الاختلاف / وذلك أن هذا الحديث لم يستوف فيه قصة جمع القرآن وكيفيته ولم يستوعب ذكره وصفته. وقد كان كتب إليَّ بعض إخواني من بلخ في هذا الباب،

فأخرجت لهم مسألة مستوفاة تشتمل على ذكر أكثر ما يلزم معرفته منه. والقدر الذي يحتاج إلى ذكره هاهنا هو أن يعلم أن القرآن كان مجموعا كله في صدور الرجال أيام حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومؤلفا هذا التأليف الذي نشاهده ونقرؤه، فلم يقع فيه تقديم ولا تأخير ولا زيادة ولا نقصان إلا سورة براءة كانت من آخر ما نزل من القرآن لم يبين لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم موضعها من التأليف حتى خرج من الدنيا، فقرنها الصحابة بالأنفال وبيان ذلك في خبر ابن عباس قال: قلت لعثمان: ما حملكم على أن عمدتم إلى براءة وهي من المئين وإلى الأنفال وهي من المثاني، فقرنتم بينهما ولم تجعلوا بينهما سطرا فيه بسم الله الرحمن الرحيم، ووضعتموها في السبع الطوال؟ فقال عثمان: ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان تنزل عليه السورة التي يُذكر فيها كذا وكذا، فإذا نزلت عليه الآيات يقول: ضعوا هذه الآيات في موضع كذا وكذا، وكانت الأنفال أول ما أنزل عليه بالمدينة، وكانت براءة من آخر القرآن نزولا وكانت قصتها تشبه قصتها، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين أمرها، فظننت أنها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما وجعلتهما في السبع الطوال.

أخبرناه ابن الأعرابي قال: حدثنا سعدان بن نصر قال: حدثنا إسحاق بن يوسف الأزرق، حدثنا عوف عن يزيد الفارسي، عن ابن عباس قال: قلت لعثمان وذكر القصة. قلت: هذا يدلك على أن الجمع كان حاصلا والتأليف أيام حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان موجودا، ومما يؤكد ذلك ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ في صلاته سورة الأعراف وقرأ سورة / البقرة في صلاة الكسوف ومعلوم أن نزولهما لم يكن جملة. وقوله صلى الله عليه وسلم: "شيبتني هود

وأخواتها" وهي متفرقة الآي في النزول، فدل على أن الجمع قد سبق وفاته صلى الله عليه وسلم وهو جمع النظم والتلاوة، وقد ثبت أن أربعة من الصحابة كانوا جمعوا القرآن كله في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم. 920/ 5003 - وقد ذكره أبو عبدالله قال: حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ قال: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ قال: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عن أَنَسَ - رضى الله عنه - قال: يعني جَمَعَ الْقُرْآنَ عَلَى عَهْدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم أَرْبَعَةٌ كُلُّهُمْ مِنَ الأَنْصَارِ: أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو زَيْدٍ.

قلت: وقد كان لهم في ذلك شركاء من الصحابة وإن كان هؤلاء أشد اشتهارا به وأكثر تجريدا للعناية بقراءته، ومما يبين ذلك أن أصحاب القراءات من أهل الحجاز والشام والعراق، وكل منهم قد عزا قراءته التي اختارها إلى رجل من الصحابة قرأها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يستثن من جملة القرآن شيئا، فأسند عاصم قراءته إلى علي بن أبي طالب وعبدالله بن مسعود رضي الله عنهما. وأسند عبدالله بن كثير قراءته إلى أبي بن كعب وكذلك أبو عمرو بن العلاء يسند قراءته إلى أبي. وأما عبدالله بن عامر فإنه أسند قراءته إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه وكل هؤلاء يقولون قرأنا على النبي صلى الله عليه وسلم وأسانيد هذه القراءات متصلة ورجالها ثقات وهذا مما يبين لك أن جمع القرآن كان متقدما لزمان أبي بكر رضي الله عنه، وإنما جمع أبو بكر القرآن في الصحف والقراطيس وحوَّله إلى ما بين

الدفتين شهرا له وإذاعة في زمانه وتخليدا لرسمه مستأنف الزمان، وكان قبل في الأكتاف ورقاع الأدم والعسب وصفايح الحجارة ونحوها مما كانت تكتب العرب فيه من الظروف، ويشبه أن تكون العلة في ترك النبي صلى الله عليه وسلم جمع القرآن في مصحف واحد، كما فعله من بعده من الصحابة أن النسخ كان قد يرد على المنزل منه / فيرفع الشيء بعد الشيء من تلاوته، كما يرفع من بعض أحكامه. أخبرنا محمد بن هاشم قال: حدثنا الدبري عن عبدالرزاق عن الثوري عن عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش قال: قال لي أبي بن كعب: كأين تعدون سورة الأحزاب؟ فقلت: إما ثلاثا وسبعين أو أربعا وسبعين.

فقال: أقط إن كانت لتقارِى أو لتوازِى سورة البقرة أو أطول منها. يريد أنه نسخ معظمها ورفع رسمها فيما رفع من القرآن. وقال عمر في آية الرجم قرأناها: {الشيخ والشيخة فارجموهما البتة} قلت: فلو كان قد جمع بين الدفتين كله، وسارت به الركبان وتناقلته الأيدي في البقاع والبلدان، ثم قد نسخ بعضه ورفعت تلاوته لأدى ذلك إلى اختلاف أمر الدين ووجود الزيادة والنقصان فيه وأوشك أن تنتقض به الدعوة وتتفرق فيه الكلمة وأن يجد الملحدون السبيل إلى الطعن عليه والتشكيك فيه، فأبقاه الله عزوجل على الجملة التي أنزل عليها من التفرق في ظروفه وحفظه من التبديل والتغيير إلى أن ختم الدين بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قيض لخلفائه الراشدين عند الحاجة إليه جمعه بين الدفتين ويسر

لهم حصره كله باتفاق من إملاء الصحابة وإجماع من آرائهم حين لم يكن بقي للنسخ منه مترقب، ولا لشيء من أحكامه متعقب. فإن قيل: إذا كان القرآن محفوظا في الصدور كما قلتموه فما كان حاجتهم إلى استخراجه من الأكتاف والعسب واللخاف التي لا وثيقة في أعيانها ولا أمان من وقوع الغلط والتبديل فيها؟ قيل: إنما فعلوا ذلك استظهارا وأخذا بالوثيقة في معارضة المكتوب منه في تلك النسخ بالمحفوظ في الصدور من حملته ولم يقنعوا بأن يقتصروا في ذلك على أحد الأمرين منهما دون الاستظهار بالآخر. / وقد يحتمل أن يكون ذلك من أجل أنه صلى الله عليه وسلم لما أرخص في القراءة بالأحرف السبعة وقال: "كلها كاف شاف". وقد اختلفت القراءات منهم على حسب اختلاف لغاتهم، فأشفقوا أن يخالف شيء منها في الخط والهجاء شيئا من المكتوب في النسخ الأول، فأحبوا أن يوفقوا بين الأمرين لئلا يخرج شيء من ذلك عن لغة قريش التي نزل بها القرآن لأنها هي الأصل والعمدة في التنزيل ولم يكن ذلك منهم أول مقدمة العلم بكونه قرآنا، فتكون المعرفة به مستفادة من جهة تلك النسخ فقط.

فإن قيل: فكيف تصنعون بقول زيد في هذه الرواية حتى وجدت من سورة التوبة آيتين مع خزيمة بن ثابت لم أجدهما مع غيره؟ قيل: إن سورة براءة من آخر ما نزل من القرآن على ما رويناه عن عثمان، وحفاظ القرآن من الصحابة إنما كانوا يحفظون منه ما كان منزلا وما كانت تلاوته ظاهرة، دون ما لم يكن استفاض العلم بنزوله منه، فقد يحتمل أن تكون هاتان الآيتان لم تكونا محفوظتين فيما بلغ زيدا إلا من قبل خزيمة بن ثابت في ذلك لقرب العهد بنزولهما، فألحقهما زيد بآخر السورة، إذ وافق ذلك المكتوب في الظروف المدون فيها المنزل من القرآن، فصدق أحدهما الآخر، وقد روى أبو عبدالله فيما يشبه هذا خبرا آخر عن زيد.

كتاب فضائل القرآن

كتاب فضائل القرآن (3) (باب جمع القرآن) 921/ 4988 - قال أبو عبدالله: حدثنا موسى بن إسماعيل عن إبراهيم بن سعد عن ابْنِ شِهَابٍ قال: وَأَخْبَرَنِي خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ سَمِعَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قَالَ: فَقَدْتُ آيَةً مِنَ الأَحْزَابِ حِينَ نَسَخْنَا الْصُّحُف قَدْ كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ بِهَا فَالْتَمَسْنَاهَا فَوَجَدْنَاهَا مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} فَأَلْحَقْنَاهَا فِي سُورَتِهَا فِي الْمُصْحَفِ. قوله: كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها: يبين لك أن تتبُّعَه آي القرآن من مظانه إنما كان للاستظهار والتوكيد، لا لاستحداث / العلم به بدئا، والذي اعتمده عوام العلماء في جمع القرآن هو أن جميع ما وضع بين الدفتين إنما كان عن اتفاق من أبي بكر وعمر وهما من الخلفاء الراشدين المأمور بالاقتداء بهما ووافقهما عثمان على ذلك، وكان إمام هدى وكان زيد بن ثابت

كاتب الوحي وهو الذي كان يلي جمعه وتدوينه، ثم اتفق الملأ من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، على أن ما بين الدفتين قرآن منزل على الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يختلفوا في شيء منه، فهذا هو الحجة في جمع القرآن لا تفاريق أخبار الآحاد والأفراد في الأوقات المختلفة وقد تذكر بعض مقامات الأمور في مبادئ كونها غير مستوفاة الشرائط، ثم تنضم إليها أشياء أخر تكون مجموعها علة للحكم، ولا ينكر أن يكون غير خزيمة أيضا قد حفظ الآيتين، كما حفظهما خزيمة وثبت العلم به عند الصحابة حين استبروا معرفة ما حصل عليه الإجماع فيما وضعوه بين الدفتين، وإنما كان ما ذكره حكاية عن نفسه ومبلغ علمه في الحال المتقدمة، ولا يدفع ذلك أن يكون قد تظاهر به الخبر من قِبَل غيره ومن جهات شتى حتى اشتركوا كلهم في علمه، فصار ذلك شهادة من الجم الغفير به، فثبت به الإجماع وزال اعتبار ما قبله من رواية الآحاد والأفراد والحمد لله.

(2) (باب: {وكان عرشه على الماء})

(2) (باب: {وكان عرشه على الماء}) 922/ 4684 - قال أبو عبدالله: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قال: حدثَنَا شُعَيْبٌ قال: حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «قَالَ اللَّهُ تعالى: {أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ} وَقَالَ: {يَدُ اللَّهِ مَلأَى لاَ يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} وَقَالَ: {أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُذ خَلَقَ السَّمَاءَ وَالأَرْضَ؟ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَدِهِ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَبِيَدِهِ الْمِيزَانُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ}. قوله: "لا يغيضها نفقة" يريد لا ينقصها، وأصله من غاض الماء إذا ذهب في الأرض. ومنه قولهم: هذا غيض من فيض، أي قليل من كثير. ويقال: غضت الماء، إذا فجرته إلى مَغيض فهو لازم / ومتعد، كما يقال: نقص الشيء ونقصته وزاد وزدته. وقوله: سحاء، أصل السح السيلان يريد كأنها لامتلائها

تسيل بالعطاء أبدا، والسح والصب مَثَل في هذا. وقوله: بيده الميزان يخفض ويرفع، والميزان هاهنا أيضا مثل، وإنما هو قسمته بالعدل بين الخلق يخفض من يشاء، أي: يضعه، ويرفع من يشاء ويوسع الرزق على من يشاء، ويقتر على من يشاء، كما يصنعه الوزان عند الوزن، يخفض مرة ويرفع أخرى. /

(1) (باب: {الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام})

(1) (باب: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ}) 923/ 4697 - قال أبو عبدالله: حَدَّثَنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ قال: حَدَّثَنَا مَعْنٌ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَفَاتِحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ اللَّهُ: لاَ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إِلاَّ اللَّهُ، وَلاَ يَعْلَمُ مَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ إِلاَّ اللَّهُ وَلاَ يَعْلَمُ مَتَى يَاتِي الْمَطَرُ أَحَدٌ إِلاَّ اللَّهُ، وَلاَ تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىِّ أَرْضٍ تَمُوتُ، وَلاَ تعْلَمُ نفسٌ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ». مفاتيح الغيب: خزائنه، وعلى هذا تفسير قوله تعالى: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو}. وقال الزجاج: معناه (عنده) الوصلة إلى علم الغيب وكل ما لا يُعلم إذا استعمل يقال فيه: افتح عليِّ. وقوله: ولا يعلم

ما تغيض الأرحام إلا الله. معنى غاض: نقص. وقال أهل التفسير ما نقص الحمل من تسعة أشهر وما زاد على التسعة

(1) باب: {إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين}

(1) باب: {إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} 924/ 4701 - قال أبو عبدالله: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قال: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا قَضَى اللَّهُ الأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتِ الْمَلاَئِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَاناً لِقَوْلِهِ صلصلةٌ عَلَى صَفْوَانٍ فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا: الذّىِ قَالَ الْحَقَّ وَهْوَ الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ. الصلصلة: صوت الحديد إذا حرك. يقال: صلَّ الحديد وصلصل إذا تداخل صوته. والخُضعان: مصدر خضع خضوعا وخُضعانا، كما قيل: غفر غُفرانا وكفر الرجل كُفرانا. وقوله: فزع عن قلوبكم، أي: ذهب الفزع عنها، كأنه نُزع الفزع عن قلوبهم.

وفيه إثبات الكلام في صفة الله عزوجل: / إن كلامه قول يُسمع سبحانه {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}

(3) (باب: {ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم})

(3) (باب: {ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم}) 924/ 4704 - قال أبو عبدالله: حَدَّثَنَا آدَمُ قال: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ قال: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ الْمَقْبُرِىُّ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أُمُّ الْقُرْآنِ هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ». قلت: أم القرآن هي فاتحة الكتاب، وكان ابن سيرين لا يقول: أم القرآن ويقول: إنما هي فاتحة الكتاب، وأم الكتاب: اللوح المحفوظ. قلت: ودل الحديث على خلاف قوله ويقال: إنما سميت أم القرآن، لأنها أصل القرآن وأم كل شيء أصله، ومن هذا سميت مكة أم القرى، كأنها أصل القرى ومعظمها. وقيل: للحمى أم ملدم كأنهم جعلوها معظم الأوجاع، واللدم: الضرب، فشبهوا ما يكون من الحمى بالضرب الذي يؤلم.

وقيل: إنما سميت أم القرآن لأن علمه يتولد وينشعب منها. وقيل: بل سميت بذلك لأنها تتقدم القرآن، أي: تؤمه، وكل ما تقدم شيئا فقد أمَّه. والمثاني قيل سميت بذلك: لأنها تثنى في كل ركعة، وقيل: لأنها استثنيت لهذه الأمة لم تنزل على من قبلها. وقيل: سميت بذلك لأنها يثنى بها ما يقرأ من القرآن. فأما قوله عزوجل: {الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني}، فإنها السور السبع، سميت مثاني لذكر الأقاصيص فيها مثناة.

(4) (باب قوله: {الذين جعلوا القرآن عضين})

(4) (باب قوله: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ}) 926/ 4706 - قال أبو عبدالله: حَدَّثَنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - {كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ * الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ}: آمَنُوا بِبَعْضٍ وَكَفَرُوا بِبَعْضٍ، الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. قوله: {كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ} من مشكل القرآن، وذلك أن الكاف هاهنا للتشبيه شيء بشيء ولم يتقدم ذكر المشبه به. قلت: والمشبه به مضمر كأنه قال: {إني أنا النذير المبين} عذابا، {كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ} ويروى أن المشركين قالوا: أساطير الأولين. وقالوا: سحر. وقالوا: شاعر. وقالوا: / كاهن فقسموا القرآن هذه الأقسام وعضوه أعضاء، أي: فرقوه فِرَقا، وتأول ابن عباس الآية في اليهود والنصارى ,

اقتسموه، فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه. وقيل: في واحد العضين: عِضَة، كما جمعوا البرة: بُرين والعزة: عزين.

(11) (باب: {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا})

(11) (باب: {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا}) 927/ 4718 - قال أبو عبدالله: حَدَّثَنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانَ قال: حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ عَنْ آدَمَ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رضى الله عنهما يَقُولُ: إِنَّ النَّاسَ يَصِيرُونَ جُثاً، كُلُّ أُمَّةٍ تَتْبَعُ نَبِيَّهَا. هذا في القيامة، يعني جماعات واحدتها جثوة، وكل شيء جمعته من تراب ونحوه فهو جثوة. فأما الجثى: في قوله عزوجل: {ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا} فهو جمع الجاثي على ركبته، يقال: جاثٍ وجثى، كما قيل: قاعد وقعود.

(23) (باب: {ويسألونك عن الروح})

(23) (باب: {ويسألونك عن الروح}) 928/ 4721 - قال أبو عبدالله: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ قال: حَدَّثَنَا أَبِي قال: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنه - قَالَ: بَيْنَا أَنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي خَرِب وَهْوَ مُتَّكِئٌ عَلَى عَسِيبٍ إِذْ مَرَّ الْيَهُودُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: سَلُوهُ فسألوه عَنِ الرُّوحِ، يعني فنَزَلَ الْوَحْيُ {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً}. قوله: ما رابكم إليه؟ هكذا تقول العامة وإنما هو ما إربكم إليه، أي: ما حاجتكم إليه. والإرب الحاجة. وأما الروح: فقد اختلفوا فيما وقعت عنه المسألة من الأرواح. فقال بعضهم: الروح هاهنا جبريل عليه السلام. وقال بعضهم: هو ملك من الملائكة بصفة وصفوها من عظم خلقه، له سبعون ألف لسان، يسبح الله ويقدسه بها.

وذهب أكثر أهل التأويل إلى أنهم سألوه عن الروح الذي به تكون حياة الجسد. وقال أهل النظر منهم: إنما سألوه عن كيفية الروح ومسلكه في بدن الإنسان، وكيف امتزاجه بالجسم واتصال الحياة به وهذا شيء لا يعلمه إلا الله عزوجل، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها / ائتلف وما تناكر منها اختلف" وقال: "أرواح الشهداء في صور طير خضر تعلق من ثمر الجنة"، فأخبر أنها كانت منفصلة من الأبدان، فاتصلت بها، ثم انفصلت عنها وهذا من صفة الأجسام.

(1) (باب: {وأنذرهم يوم الحسرة})

(1) (باب: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ}) 929/ 4730 - قال أبو عبدالله: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ قال: حَدَّثَنَا أَبِي قال: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قال: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ - رضى الله عنه - قَالَ: قَالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «يُؤْتَى بِالْمَوْتِ كَهَيْئَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ فَيُنَادِى مُنَادٍ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ فَيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، هَذَا الْمَوْتُ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَأَىهُ، ثُمَّ يُنَادِى يَا أَهْلَ النَّارِ، فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، فَيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَأَىهُ، فَيُذْبَحُ ثُمَّ يَقُولُ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، خُلُودٌ فَلاَ مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ، خُلُودٌ فَلاَ مَوْتَ ثُمَّ قَرَأَ: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِىَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ} الأملح من الشاء: ما كان في صوفه بياض وسواد فيه أكثر. وقوله: فيشرئبون، يعني يطلعون، وإذا رفع الإنسان رأسه إلى شيء ومد عنقه وتطاول لينظر إليه قيل: قد أشرأبَّ.

(21) (سورة الأنبياء)

(21) (سورة الأنبياء) 930/ 4739 - قال أبو عبد الله: حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا غندر قال: حدثنا شعبة، عن أبي إسحق، سمعت عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد الله قال: بني إسرائيل والكهف، ومريم، وطه والأنبياء هن العتاق الأول، وهن من تلادي. التلاد: ما كان قديم الملك من المال والقنية. يقال: ماله طارف ولا تالد، أي ماله: ما له قديم ولا حديث. والعتاق: جمع عتيق. وأخبلاني أبو عمر، عن أبي العباس أحمد بن يحيى قال: العرب تجعل كل شيء بلغ الغاية في الجودة عتيقاً

يريد تفضيل هذه السور لما تتضمن من ذكر القصص وأخبار أجلة الأنبياء صلوات الله عليهم وأخبار الأمم وأنها من أول ما قرأها وحفظها من القرآن. وقد يحتمل أن يكون أراد أنها من أوائل السور المنزلة في أول الإسلام، لأنها كلها مكية.

(1) (باب: {والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين})

(1) (باب: {والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين}) 931/ 4745 - قال أبو عبد الله:/ حدثنا إسحق قال: حدثنا محمد بن يوسف قال: حدثنا الأوزاعي قال: حدثنا الزهري، عن سهل بن سعد قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عويمرا وامرأته بالملاعنة بما سمى الله في كتابه، فلاعنها ثم قال: يا رسول الله إن حبستها فقد ظلمها، فطلقها، فكانت سنة لمن كان بعدهما في المتلاعنين، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (انظروا، فإن جاءت به أسحم، أدعج العينين، عظيم الأليتين، خدلج الساقين فلا أحسب عويمرا إلا قد صدق عليها، وإن جاءت به أحيمر كأنه وحرة، ولا أحسب عويمرا إلا قد كذب عليها، فجاءت به على النعت الذي نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم من تصديق عويمر، فكان بعد ينسب إلى أمه).

قوله: (فطلقها)، يدل على وقوع الفرقة باللعان، ولولا ذلك لصارت في حكم المطلقات، وأجمعوا على أنها ليست في حكم المطلقات، فيكون له مراجعتها إن كان الطلاق رجعيا ولا يحل له أن يخطبها إن كان بائنا ولا تحل له إلا بعد زوج إن كانت مبتوتة، وإنما اللعان فرقة فسخ. وقوله: (فكان سنة لمن كان بعدهما في المتلاعنين)، يريد التفرقة بينهما لا يجتمعان بعد التلاعن. وقوله: إن جاءت به أسحم، فإن السحمة: شدة السواد. يقال: غراب أسحم، أي: شديد السواد. والخدلج الساقين: الغليظهما، وساق خدلجة، أي: ممكورة. والوحرة: شبه الوزغة. وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر الشبه في الولد بالوالد، ثم لم يحكم به وذلك من أجل ما هو أقوى من الشبه وكذلك قال في ابن وليدة زمعة لما رأى الشبه بعتبة: (واحتجبي منه يا سودة) وقضى بالولد للفراش لأن الفراش أقوى من الشبه وحكم بالشبه في حكم القافة، إذ لم يكن هناك شيء هو أقوى من الشبه.

كتاب الطلاق

كتاب الطلاق (30) (باب التلاعن في المسجد) 932/ 5309 - / قال أبو عبد الله: وحدثنا يحيى قال: حدثنا عبد الرازق قال: حدثنا ابن جريج قال: أخبرني ابن شهاب عن حديث سهل بن سعد وذكر القصة وقال: فتلاعنا في المسجد وأنا شاهد، فلما فرغا قال: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها، فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله (صلى الله عليه وسلم حين فرغ من التلاعن، ففارقها عند النبي) صلى الله عليه وسلم فقال: ذاك تفريق بين كل متلاعنين. قلت: وفيه أنه لم يعنفه على إيقاع الطلاق الثلاث، ولو كان بدعة لأنكره. وفي الحديث: بيان أن اللعان يجب بالحمل.

(65) (كتاب التفسير)

(65) (كتاب التفسير) (2) (باب: {والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين}) 933/ 4746 - قال أبو عبد الله: حدثنا سليمان بن الربيع قال: حدثنا فليح، عن الزهري، عن سهل بن سعد وذكر القصة قال: وكانت حاملا فأنكر حملها.

(3) (باب: {ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين})

(3) (باب: {ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين}) 934/ 4747 - قال أبو عبد الله: وحدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا ابن أبي عدي، عن هشام بن حسان قال: حدثنا عكرمة، عن ابن عباس أن هلال بن أمية قذفته امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك ابن سحماء. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: البينة وإلا حد في ظهرك وذكر القصة في تلاعنهما. قال: ثم قامت، يعني المرأة، فشهدت، فلما كانت عند الخامسة وقفوها وقالوا: إنها موجبة. قال ابن عباس: فتلكأت ونكصت حتى ظننها أنها ترجع، ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم، فمضت. وذكر الحديث. وفيه بيان وجوب اللعان بإنكاره الحمل. وفيه أن الزوج إذا قذفها، ثم امتنع من اللعان وجب عليه الحد.

وفيه أن فرقة اللعان إنما تقع بالخامسة، وأنه ما لم يستوف عدد الخمس، وإن أتى بمعظمها لم تقع. وفيه أن الزوج إذا قذف امرأته برجل بعينه، ثم تلاعنا، فإن اللعان يسقط عنه الحد ويصير ذكره المقذوف به في التقرير تبعا لا يعتبر بحكمه، وذلك لأنه مضطر إلى ذكر من يقذفها به ليدفع بذلك الضرر عن نفسه، فلم يحمل أمره على القصد له بالقذف. وقد قال صلى الله عليه وسلم لهلال: (البينة أو حد في ظهرك)، ثم لم يرو في شيء من الأخبار أنه عرض لهلال بعقوبة ولا ذكر أنه عفا/ عنه شريك بن سحماء، فدل على سقوط الحد عنه.

(4) (باب: {والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين})

(4) (باب: {والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين}) 935/ 4748 - قال أبو عبد الله: وحدثنا مقدم بن محمد بن يحيى قال: حدثني عمي القاسم بن يحيى، عن عبيد الله وقد سمع منه عن نافع، عن ابن عمر أن رجلا رمى امرأته، فانتفى من ولدها في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلاعنا، كما قال الله، ثم قضى بالولد للمرأة وفرق بين المتلاعنين. قد يحتج بقوله: (وفرق بين المتلاعنين) من يرى فرقة اللعان غير واقعة حتى يفرق بينهما الحاكم، ومن أوقعها بنفس اللعان يزعم أن هذا إخبار عن وقوع الفرقة المتقدمة التي قد وقعت بلعان الزوج وإعلام أنها فرقة أبدية لا اجتماع لهما بعد. وإنما أضيف التفريق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن اللعان قد جرى بحضرته، كما يقال: حكم الحاكم بثبوت حق

فلان إذا شهد عنده الشهود بذلك أو أقربه المدعى عليه، وإنما يثبت الحق بالاعتراف أو بشهادة الشهود، ثم يضاف إثباته إلى الحاكم إذا كانت الشهادة عنده تقام، فعلى هذا الوجه أضيف التفريق إليه والله أعلم.

(6) (باب: {لولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم})

(6) (باب: {لولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم}) 936/ 4750 - قال أبو عبد الله: حدثنا يحيى بن بكير قال: حدثنا الليث، عن يونس، عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب، وعلقمة بن وقاص وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن حديث عائشة وذكرت قصة الإفك قالت: وكان أبو بكر ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره فقال: والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة، فأنزل الله عز وجل: {ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يأتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفو وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم}. قال أبو بكر: بلى والله، إني أحب أن يغفر الله لي، فرجع

إلى مسطح بالنفقة التي كان ينفق عليه وقال: والله لا أنزعها منه أبدا. قوله: {ولا يأتل} معناه لا يحلف. يقال: آل الرجل يؤلي إيلاء، وائتلى/ يأتلي ائتلاء إذا حلف، والاسم منه الألوة والإلوة مكسورة الألف. وقوله: {أن يؤتوا}، معناه أن لا يؤتوا.

(8) (باب: {إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم})

(8) (باب: {إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم}) 937/ 4752 - قال أبو عبد الله: حدثنا إبراهيم قال: أخبرنا هشام أن ابن جريج أخبرهم قال ابن أبي مليكة: سمعت عائشة تقرأ: {إذ تلقونه بألسنتكم}. قوله: تلقونه أكثر القراء يقرءونه تلقونه من التلقي للشيء وهو أخذه وقبوله، وكانت عائشة رضي الله عنها تقرأه تلقونه بكسر اللام وترك التشديد في القاف من الولق وهو الإسراع إلى الكذب. يقال: ولق الرجل يلق ولقاً.

(1) (باب: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين})

(1) (باب: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين}) 938/ 4780 - قال أبو عبد الله: حدثنا إسحاق بن نصر قال: حدثنا أبو أسامة عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول الله عز وجل: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، بله ما أطلعتم عليه، ثم قرأ: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} قوله: بله، كلمة تكون بمعنى كيف وبمعنى دع. وتقال أيضا بمعنى أجل كأنه يريد به دع ما أطلعتم فإنه سهل أو يسير في جنب ما ذخرته لهم وحكى الليث أنها تقال بمعنى: فضل، كأنه يقول: هذا الذي غيبته عن علمكم فضل ما أطلعتكم عليه منها.

(9) (باب: {إن تبدوا شيئا أو تخفوه فإن الله كان بكل شيء عليما لا جناح عليهن في آبائهن ولا أبنائهن ولا اخوانهن ولا أبناء اخوانهن ولا أبناء أخواتهن ولا نسائهن ولا ما ملكت أيمانهن واتقين الله إن الله كان على كل شيء شهيدا})

(9) (باب: {إن تبدوا شيئا أو تخفوه فإن الله كان بكل شيء عليما لا جناح عليهن في آبائهن ولا أبنائهن ولا اخوانهن ولا أبناء اخوانهن ولا أبناء أخواتهن ولا نسائهن ولا ما ملكت أيمانهن واتقين الله إن الله كان على كل شيء شهيدا}) 939/ 4796 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو اليمان قال: أخبرنا شعيب، عن الزهري، حدثني عروة بن الزبير أن عائشة قالت: استأذن علي أفلح أخو أبي القعيس بعد ما أنزل الحجاب فقلت: لا آذن له حتى استأذن فيه النبي صلى الله عليه وسلم، فإن أخاه أبا القعيس ليس هو أرضعني ولكن أرضعتني امرأة أبي القعيس، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله: إن أفلح أخا أبي القعيس استأذن فأبينت أن آذن (له)، حتى استأذنك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وما يمنعك أن تأذني عمك؟ قلت يا رسول الله: إن الرجل ليس هو أرضعني ولكن أرضعتني امرأة أبي القعيس قال: ائذني له، فإنه عمك تربت يداك.

في هذا الحديث من الفقه/ إثبات اللبن للفحل. وأن زوج المرضعة الذي ثاب لبنها منه بمنزلة الوالد للمرضعة وأخوه بمنزلة الهم لها في التحريم. وقوله: تربت يداك، كلمة يدعى بها على الإنسان، ولا يراد بذلك وقوع الأمر. يقال: ترب الرجل: إذا افتقر، وأترب بالألف إذا استغنى.

(1) (باب: {والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم})

(1) (باب: {والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم}) 940/ 4803 - قال أبو عبد الله: حدثنا الحميدي قال: حدثنا وكيع قال: حدثنا الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن أبي ذر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله: {والشمس تجري لمستقر لها}. قال: مستقرها: تحت العرش. قلت: قال أهل التفسير وأصحاب المعاني فيه قولان، قال بعضهم: معناه أن الشمس تجري لمستقر لها أي: لأجل أجل أجل لها وقدر قدر لها، يعني انقطاع مدة بقاء العالم. وقال بعضهم: مستقرها: غاية ما تنتهي إليه في صعودها وارتفاعها لأطول يوم في الصيف، ثم تأخذ في النزول حتى تنتهي إلى أقصى مشارق الشتاء لأقصر يوم في السنة.

وأما قوله: مستقرها تحت العرش، فلا ينكر أن يكون لها استقرار تحت العرش من حيث لا ندركه ولا نشاهده، وإنما هو خبر عن غيب، فلا نكذب به ولا نكيفه لأن علمنا لا يحيط به، ويحتمل أن يكون المعنى أن علم ما سألت عنه من مستقرها تحت العرش في كتاب كتب فيه مبادئ أمور العالم ونهاياتها، والوقت الذي ينتهي إليه مدتها، فينقطع دوران الشمس وتستقر عند ذلك، فيبطل فعلها وهو اللوح المحفوظ الذي يبين فيه أحوال الخلق والخليقة وآجالهم ومآل أمورهم، والله أعلم بذلك.

(الباب نفسه) 941/ 4802 - قال أبو عبد الله: وحدثنا أبو نعيم قال: حدثنا الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن أبي ذر قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد عند غروب الشمس فقال يا أبا ذر: أتدري أين تغرب الشمس؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش، فذلك قوله: {والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم} وفي هذا إخبار عن سجود الشمس تحت العرش، فلا ينكر أن يكون ذلك عند/ محاذاتها العرش في مسيرها والخبر عن سجود الشمس والقمر لله عز وجل قد جاء في الكتاب. قال سبحانه: {ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم} الآية. وليس في هذا إلا التصديق والتسليم وليس في سجودها لربها تحت العرش ما يعوقها عن الدأب في سيرها والتصرف لما سخرت له. سبحان الذي أحاط بكل شيء علما، وأحصى كل شيء عددا وتبارك الله رب العالمين وأحسن الخالقين. قلت: فأما قول الله عز وجل: {حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة} فإنه ليس بمخالف لما جاء في

هذا الخبر من أن الشمس تذهب حتى تسجد تحت العرش لأن المذكور في الآية إنما هو نهاية مدرك البصر إياها حال الغروب، ومصيرها تحت العرش للسجود إنما هو بعد غروبها فيما دل عليه لفظ الخبر، فليس بينهما تعارض وليس معنى قوله: {تغرب في عين حمئة} أنها تسقط في تلك العين فتغمرها، وإنما هو خبر عن الغاية التي بلغها ذو القرنين في مسيره حتى لم يجد وراءها مسلكا، فوجد الشمس تتدلى عند غروبها فوق هذه العين أو على سمت هذه العين، وكذلك يتراءى غروب الشمس لمن كان في البحر وهو لا يرى الساحل، يرى الشمس كأنها تغيب في البحر وإن كانت في الحقيقة تغيب وراء البحر. (وفي) هاهنا بمعنى: (على) وحروف الصفات يبدل بعضها مكان بعض، وهو كثير في الكلام. وأخبرنا أو رجاء الغنوي والحسن بن عثمان البناني

قالا: (نا محمد بن الجهم السمري) حدثنا عبد الله بن عمر قال: حدثنا الحكم بن ظهير، عن زيد بن رفيع، عن ميمون بن مهران قال: حاج ابن عباس عمرو بن العاص عند معاوية في آية فقال عمرو: تغرب في عين حامية. وقال ابن عباس: حمئة، فتنازعا في ذلك. فقال ابن عباس: وما يدريك وإنما نزل القرآن في بيتي ولم يدر معاوية أيهما على الصواب. قال: فخرج ابن عباس، فإذا رجل/ من الأزد فقال له: بلغني ما كان بينك وبين عمرو، ولو كنت عندك لرفدتك بأبيات قالها تبع قال: وما قال؟ قال: قال تبع:

بلغ المشارق يبتغي أسباب أمر من حكيم مرشد فرأى مغار الشمس عند غروبها في عين ذي خلب وثأط حرمد قال: فقال ابن عباس: يا غلام أكتبها.

(باب: {وما قدروا الله حق قدره} 742/ 4811 - قال أبو عبد الله: حدثنا آدم قال: حدثنا شيبان، عن منصور، عن إبراهيم، عن عبيدة، عن عبد الله قال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد: إنا نجد أن الله يجعل السموات على أصبع والأرضين على أصبع، والشجر على أصبع والماء والثرى على أصبع وسائر الخلائق على أصبع فيقول: أنا الملك، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقا لقول الحبر، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون} قلت: الأصل في هذا وما أشبهه من أحداث الصفات والأسماء أنه لا يجوز ذلك إلا أن يكون بكتاب ناطق أو خبر مقطوع بصحته، فإن لم (يكونا) فيما يثبت من أخبار الآحاد المستندة

إلى أصل في الكتاب أو في السنة المقطوع بصحتها، أو بموافقة معانيها، وما كان بخلاف ذلك، فالتوقف عن إطلاق الاسم به هو الواجب، ويتأول حينئذ على ما يليق بمعاني الأصول المتفق عليها من أقاويل أهل الدين والعلم مع نفي التشبيه فيه. هذا هو الأصل الذي نبني عليه الكلام ونعتمده في هذا الباب. وذكر الأصابع لم يوجد في شيء من الكتاب، ولا من السنة التي شرطها في الثبوت ما وصفناه. وليس معنى اليد في الصفات بمعنى الجارحة حتى يتوهم بثبوتها ثبوت الأصابع، بل هو توقيف شرعي أطلقنا الاسم فيه على ما جاء به الكتاب من غير تكييف ولا تشبيه، فخرج بذلك عن أن يكون له أصل في الكتاب أو في السنة أو أن يكون على شيء من معانيها. وقد روى/ هذا الحديث غير واحد من أصحاب عبد الله من غير

طريق عبيدة، فلم يذكروا فيه قوله تصديقا لقول الحبر. واليهود مشبهة وفيما يدعونه منزلا في التوراة ألفاظ تدخل في باب التشبيه ليس بالقول بها من مذاهب المسلمين، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ما حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم قولوا: آمنا بما أنزل الله من كتاب والنبي صلى الله عليه وسلم أولى الخلق بأن يكون قد استعمله مع هذا الحبر والدليل على صحة ذلك أنه لم ينطق فيه بحرف تصديقا له أو تكذيبا، إنما ظهر منه في ذلك الضحك المخيل للرضا مرة وللتعجب والإنكار أخرى، ثم تلا الآية، والآية محتملة للوجهين معا وليس فيها للإصبع ذكر. وقول من قال من الرواة: تصديقا لقول الحبر ظن وحسبان والأمر فيه ضعيف، إذ كان لا لمحض شهادته لأحد الوجهين وربما استدل المستدل بحمرة اللون على الخجل، وبصفرته على الوجل.

وذلك غالب مجرى العادة في مثله، ثم لا يخلو ذلك من ارتياب وشك في صدق الشهادة منهما بذلك لجواز أن تكون الحمرة لهيج دم وزيادة مقدار له في البدن، وأن يكون الصفرة لهيج مرار وثوران خلط ونحو ذلك، فالاستدلال بالتبسم والضحك في مثل هذا الأمر الجسيم قدره، الجليل خطره غير سائغ مع تكافؤ الوجهين في الدلالة، المتعارضين فيه. ولو صح من طريق الرواية كان ظاهر اللفظ منه متأولا على نوع من المجاز أو ضرب من التمثيل قد جرت به عادة الكلام بين الناس في عرف تخاطبهم، فيكون المعنى في ذلك على تأويل قوله عز وجل: {والسموات مطويات بيمينه} أي: قدرته على طيها وسهولة الأمر في جمعها، وقلة اعتياصها عليه بمنزلة من جمع شيئا في كفه، فاستخف حمله ولم يشتمل بجميع كفه عليه، لكنه يقله ببعض أصابعه وقد يقول الإنسان في الأمر الشاق إذا أضيف إلى الرجل القوي المستقل بعباده/، إنه ليأتي عليه بأصبع واحدة أو إنه يعمله بخنصره أو إنه (يقله) بصغرى أصابعه أو ما أشبه ذلك من الكلام الذي يراد الاستظهار في القدرة عليه والاستهانة به.

وكقول الشاعر: الرمح لا أملأ كفي به واللبد لا أتبع تزواله يريد أنه لا يتكلف أن يجمع كفه فيشتمل بها كلها على الرمح، لكن يطعن به خلسا بأطراف أصابعه، وفيما يضاد هذا المذهب قيس بن الخطيم يصف طعنة: ملكت بها عكفي فأنهرت فتقها يرى قائم من دونها ما وراءها يريد الاستيفاء لها بجميع كفه واستنفاد قوته فيها من قولك: ملكت العجين: إذا أنعمت عجنه وبالغت في علاجه.

(3) (باب: {والأرض جميعا قبضته يوم القيامة، والسماوات مطويات بيمينه} (1)

(3) (باب: {والأرض جميعا قبضته يوم القيامة، والسماوات مطويات بيمينه} (1) 943/ 4812 - ويؤكد ما ذهبنا إليه حديث أبي هريرة الذي رواه أبو عبد الله في أثره قال: حدثنا سعيد بن عفير قال: حدثني الليث بن سعد قال: حدثني عبد الرحمن بن خالد، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة أن أبا هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يقبض الله الأرض ويطوي السموات بيمينه، ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض. فهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم ولفظه جاء على وفاق الآية من قوله عز وجل: {والسموات مطويات بيمينه} ليس فيه ذكر الأصابع وتقسيم الخليقة على أعدادها، فدل أن ذلك من تخليط اليهود وتحريفهم، وأن ضحك رسوب الله صلى الله عليه وسلم إنما كان على معنى التعجب منه والتنكير له والله أعلم.

(45) (باب سورة الجاثية)

(45) (باب سورة الجاثية) 944/ 4826 - قال أبو عبد الله: حدثنا الحميدي قال: حدثنا سفيان قال: وحدثنا الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: قال الله عز وجل: يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار. قوله: أنا الدهر، معناه أنا صاحب الدهر، ومدبر الأمور التي تنسبونها إلى الدهر، فإذا سب ابن آدم الدهر من أجل أنه فاعل هذه الأمور، عاد سبه إلي، لأني فاعلها وإنما الدهر زمان ووقت جعلت ظرفا لمواقع الأمور/ وكان من عادة أهل الجاهلية إذا أصابهم شدة من الزمان أو مكروه من الأمر أضافوه إلى الدهر وسبوه فقالوا: بؤسا للدهر، وتبا للدهر، ونحو ذلك من القول، إذ كانوا لا يثبتون لله ربوبية، ولا يعرفون للدهر خالقا، وقد حكى الله ذلك من قولهم حين قالوا: {وما يهلكنا إلا الدهر} ولذلك سموا الدهرية وكانوا يرون الدهر أزليا قديما لا أول له، فأعلم الله تبارك وتعالى أن الدهر محدث يقلبه بين ليل ونهار لا فعل له في شيء من خير أو شر، لكنه ظرف للحوادث ومحل لوقوعها وأن الأمور كلها بيد الله تعالى ومن قبله يكون حدوثها وهو محدثها ومنشئها سبحانه لا شريك له.

(باب: {وتقول هل من مزيد} 945/ 4849 - قال أبو عبد الله: حدثنا محمد بن موسى القطان قال: حدثنا أبو سفيان الحميري سعيد بن يحيى بن مهدي قال: حدثنا عوف، عن محمد، عن أبي هريرة رفعه وأكثر ما (يوقفه أبو سفيان يقال لجهنم: هل امتلأت؟ وتقول: هل من مزيد، فيضع الرب قدمه عليها فتقول: قط قط. قلت: قد أضيف القدم في هذه الرواية إلى الرب سبحانه إلا أن الراوي كان يقفه مرة ويرفعه أخرى وأكثره الوقف على ما ذكر في الحديث وقد رواه أيضا من طريق أنس، فلم يصرح بإضافته إلى الرب سبحانه.

(الباب نفسه) 946/ 4848 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن (أبي) الأسود قال: حدثنا حرمي قال: حدثنا شعبة، عن قتادة، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يلقى في النار وتقول: هل من مزيد، حتى يضع رجله أو قال: قدمه فتقول: قط قط. فذكر الرجل والقدم من غير إضافة كما ترى. وروى نحوا منه من طريق همام، عن أبي هريرة. 947/ 4850 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن محمد قال: حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، عن همام، عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: تحاجت الجنة والنار، فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين، وقالت الجنة: مالي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم. قال الله تعالى للجنة: أنت

رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي/ وقال للنار: إنما أنت عذاب أعذب بك من أشاء من عبادي ولكل واحدة منهما ملؤها. فأما النار: فلا تمتلئ حتى يضع رجله فتقول: قط قط فهنالك تمتلئ ويزوى بعضها إلى بعض ولا يظلم الله من خلقه أحدا. وأما الجنة: فإن الله ينشئ لها خلقا. هكذا قال: فلا تمتلئ حتى يضع رجله على تعليق الإضافة وهذه جملة ما أورده أبو عبد الله في كتابه من ذكر القدم والرجل ومخارجها في الرواية كما ترى، إما صريح الإضافة من غير رفع وإما رفع من غير تصريح بالإضافة، فيشبه أن يكون من ذكر القدم والرجل وترك الإضافة، إنما تركها تهيبا لها وطلبا للسلامة من خطأ التأويل فيها. وكان أبو عبيد- وهو أحد أئمة أهل العلم- يقول: نحن نروي هذه الأحاديث ولا نريغ لها المعاني ونحن أحرياء بأن لا نتقدم فيما تأخر عنه من هو أكثر علما وأقدم زمانا وسنا، ولكن الزمان الذي نحن فيه قد جعل أهله حزبين: منكر لما يروى من نوع هذه الأحاديث رأسا، ومكذب به أصلا، وفي ذلك تكذيب العلماء الذين رووا هذه الأحاديث وهم أئمة الدين ونقلة السنن والوسائط بيننا وبين الرسول صلى الله عليه وسلم، والطائفة الأخرى مسلمة للرواية فيها ذاهبة في تحقيق الظاهر منها مذهبا يكاد يفضي بهم إلى

القول بالتشبيه، ونحن نرغب عن الأمرين ولا نرضى بواحد منهما مذهبا فيحق علينا أن نطلب لما يرد من هذه الأحاديث إذا صحت من طريق النقل والسند تأويلا يخرج على معاني أصول الدين، ومذاهب العلماء، ولا تبطل الرواية فيها أصلا؛ إذ كانت طرقها مرضية ونقلتها عدولا. فذكر القدم هاهنا يحتمل أن يكون المراد به من قدمهم الله تعالى للنار من أهلها، فيقع بهم استيفاء عدد أهل النار وكل شيء قدمته فهو قدم، كما قيل لما هدمته: هدم، ولما قبضته قبض، ومن هذا قوله: {أن لهم قدم صدق عند ربهم} أي: ما قدموه من الأعمال الصالحة/، وقد روى معنى هذا عن الحسن ويؤيده قوله في الحديث: وأما الجنة: فإن الله ينشئ لها خلقا، فاتفق المعنيان في أن كل واحدة من الجنة، الجنة والنار تمد بزيادة عدد يستوفي بها عدة أهلها، فتمتلئ عند ذاك. وقد تأول بعضهم الرجل على نحو من هذا. قال: والمراد به استيفاء عدد الجماعة الذين استوجبوا دخول النار.

قال: والعرب تسمي جماعة الجراد رجلا، كما سموا جماعة الظباء سربا، وجماعة النعام خيطا وجماعة الحمير عانة. قال: وهذا وإن كان اسما خاصا لجماعة الجراد، فقد يستعار في جماعة الناس على سبيل التشبيه والكلام والمستعار والمنقول من موضعه كثير، والأمر فيه عند أهل اللغة مشهور. قلت: وفيه وجه آخر وهو أن هذه الأسماء أمثال يراد لها إثبات معان لاحظ لظاهر الأسماء فيها من طريق الحقيقة وإنما أريد بوضع الرجل عليها نوع من الزجر لها والتسكين من غربها، كما يقول القائل للشيء، يريد محوه وإبطاله: جعلته تحت رجلي ووضعته تحت قدمي وخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح فقال: ألا إن كل دم ومأثرة في الجاهلية فهو تحت قدمي هاتين إلا سقاية الحاج وسدانة البيت، يريد محو تلك المآثر وإبطالها، وما أكثر ما تضرب العرب الأمثال في كلامها بأسماء الأعضاء وهي لا تريد أعيانها كقولهم في الرجل يسبق منه القول أو

الفعل ثم يندم عليه قد سقط في يده، أي: ندم وكقولهم: رغم أنف فلان إذا ذل. وعلا كعبه: إذا جل، وجعلت كلام فلان دبر أذني وجعلت يا هذا حاجتي بظهر، ونحوها من ألفاظهم الدائرة في كلامهم وكقول امرئ القيس في وصف طول الليل: فقلت له لما تمطى بجوزه وأردف أعجازا وناء بكلكل وليس هناك صلب/ ولا عجز ولا كلكل وإنما هي أمثال ضربها لما أراد من بيان طول الليل واستقصاء الوصف له، فقطع الليل تقطيع ذي أعضاء من الحيوان قد تمطى عند إقباله وامتد بعد بدوام ركوده وطول ساعاته. وقد تستعمل الرجل أيضا في القصد للشيء والطلب له على سبيل جد وإلحاح. يقال: قام فلان في هذا الأمر على رجل وقام على ساق إذا جد في الطلب وبالغ في السعي وهذا باب كثير التصرف

ومخرج الحديث على ما تراه من الوقف والتعليق. فإن قيل: فهلا تأولت اليد والوجه على هذا النوع من التأويل وجعلت الأسماء فيهما أمثالا كذلك. قيل: إن هذه الصفات مذكورة في كتاب الله عز وجل بأسمائها وهي صفات مدح والأصل أن كل صفة جاء بها الكتاب أو صحت بأخبار التواتر أو رويت من طريق الآحاد وكان لها أصل في الكتاب، أو خرجت على بعض معانيه، فإنا نقول بها ونجريها على ظاهرها من غير تكييف. وما لم يكن له منها في الكتاب ذكر ولا في التواتر أصل ولا له بمعاني الكتاب تعلق، وكان مجيئه من طريق الآحاد وأفضى بنا القول إذا أجريناه على ظاهره إلى التشبيه، فإنا نتأوله على معنى يحتمله الكلام، ويزول معه معنى التشبيه وهذا هو الفرق بين ما جاء من ذكر القدم والرجل والساق وبين اليد والوجه والعين وبالله العصمة ونسأله التوفيق بصواب القول ونعوذ به من الخطأ فيه إنه رؤوف رحيم.

(باب) 948/ 4854 - قال أبو عبد الله: حدثنا الحميدي قال: حدثنا سفيان قال: حدثوني عن الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية: {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون أم خلقوا السموات والأرض بل لا يوقنون} كاد قلبي أن يطير. قلت: إنما كان انزعاجه عند سماع هذه الآية لحسن تلقيه معنى الآية ومعرفته بما تضمنته من بليغ الحجة/ فاستدركها واستشف معناها بذكي فهمه وهذه الآية مشكلة جدا. وقال أبو إسحاق الزجاج في هذه الآية: هي أصعب ما في هذه السورة. قال بعض أهل اللغة: ليس هم بأشد خلقا من خلق السموات والأرض لأن السموات والأرض خلقتا من غير شيء وهم خلقوا من آدم وآدم خلق من تراب. قال: وقيل فيها قول آخر: (أم خلقوا من غير شيء) أم خلقوا لغير شيء، أي: خلقوا باطلا لا يحاسبون ولا يؤمرون ولا ينهون.

قلت: وهاهنا قول ثالث. هو أجود من القولين اللذين ذكرهما أبو إسحاق، وهو الذي يليق بنظم الكلام وهو أن يكون المعنى: أم خلقوا من غير شيء، فوجدوا بلا خالق، وذلك مالا يجوز أن يكون؛ لأن تعلق الخلق بالخالق من ضرورة الاسم، فلابد له من خالق، فإذ قد أنكروا الإله الخالق، ولم يجز أن يوجدوا بلا خالق خلقهم، أفهم الخالقون لأنفسهم؟ وذلك في الفساد أكثر، وفي البطلان أشد لأن مالا وجود له، فيجوز أن يكون موصوفا بالقدرة، كيف يخلق، وكيف يتأتى منه الفعل؟ وإذا بطل الوجهان معا قامت الحجة عليهم بأن لهم خالقا فليؤمنوا به إذا. ثم قال: {أم خلقوا السموات والأرض، بل لا يوقنون} أي: إذا جاز لهم أن يدعوا خلق أنفسهم في تلك الحال، فليدعوا خلق السموات والأرض وذلك شيء لا يمكنهم أن يدعوه بوجه، فهم منقطعون، والحجة لازمة لهم من الوجهين معا، ثم قال: {بل لا يوقنون}، فذكر العلة التي عاقتهم عن الإيمان وهي عدم اليقين الذي هو موهبة من الله عز وجل ولا ينال إلا بتوفيقه ولهذا كان انزعاج جبير بن مطعم حتى قال: كاد قلبي أن يطير والله أعلم. وهذا باب لا يفهمه إلا أرباب القلوب.

(باب) 949/ 4855 - قال أبو عبد الله: حدثنا يحيى قال: حدثنا وكيع، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عامر، عن مسروق قال: قلت لعائشة: يا أمتاه، هل رأى محمد ربه؟ فقالت: لقد قف شعري/ مما قلت. من حدثك أن محمدا رأى ربه فقد كذب، ثم قرأت: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير}. {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو وراء حجاب} ولكنه رأى جبريل في صورته مرتين. قولها: قف شعري، معناه اقشعر جلدي حتى قام (ما) عليه من الشعر إعظاما لهذا القول وإنما سأل مسروق عن ذلك لقوله عز وجل: {لقد رأى من آيات ربه الكبرى}. قوله: {ما كذب الفؤاد ما رأى}. وقوله: {ثم دنا فتدلى فكان قاب

قوسين أو أدنى} ونحوهما من الآي الموهمة للرؤية، فاستشهدت بالآيتين تلتهما، وإنما المراد بهما نفي الرؤية في دار الدنيا دون الآخرة. وقوله: يا أمتاه، فإنهم يقولون في النداء يا أبه ويا أمه إذا وقفوا وإذا وصلوه قالوا: يا أبت كقوله: {يا أبت افعل ما تؤمر}. فإذا فتحوا للندبة قالوا: يا أبتاه ويا أمتاه والهاء للوقف ولا يقولون: يا أبتي ويا أمتي، وزعموا أن الهاء فيه بمنزلة قولهم: رجل ربعة وغلام يفعة.

(باب) {فكان قاب قوسين أو أدنى} 950/ 4856 - قال أبو عبد الله: وحدثنا أبو النعمان قال: حدثنا عبد الواحد قال: حدثنا الشيباني قال: سمعت زرا، عن عبد الله: {فكان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى} قال: حدثنا ابن مسعود أنه رأى جبريل له ستماية جناح. قلت: تأول هذه الآية على معنى رؤيته جبريل في صورته التي خلق عليها والدنو منه عند المقام الذي رفع إليه وأقيم فيه. وقوله: {دنا فتدلى} المعنى به جبريل تدلى من مقامه الذي جعل له في الأفق الأعلى فاستوى أي: وقف وقفة، ثم (دنى فتدلى)، أي: نزل حتى بينه وبين المصعد الذي رفع إليه محمد قاب قوسين أو أدنى فيما يراه الرائي ويقدره المقدر. وقال بعضهم: (دنا جبريل فتدلى محمدا ساجدا لربه)

(باب) {لقد رأى من آيات ربه الكبرى} 951/ 4858 - (قال أبو عبد الله حدثنا قبيصة حدثنا): سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله: {لقد رأى من آيات ربه الكبرى} قال: رأى رفرفا أخضر قد سد الأفق. / يريد رأى جبريل على صورته على رفرف، والرفرف يفسر أنه بساط ويقال: فراش. ويقال: بل هو ثوب كان لباسا له. وقد روي في حديث آخر: أنه رأى جبريل في حلتي رفرف.

(2) (باب {أفرأيتم اللات والعزى}

(2) (باب {أفرأيتم اللات والعزى} 952/ 4860 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن محمد قال: حدثنا هشام بن يوسف قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن حميد عبد الرحمن، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حلف فقال في حلفه باللات والعزى فليقل لا إله إلا الله، ومن قال لصاحبه تعال أقامرك فليتصدق. إنما أوجب قول لا إله إلا الله على من حلف باللات والعزى شفقا من الكفر أن يكون قد لزمه لأن اليمين إنما تكون بالمعبود الذي يعظم، فإذا حلف بهما فقد ضاهى الكفار في ذلك وأمر أن يتداركه بكلمة التوحيد المبرئة من الشرك. وأما قوله: فليتصدق، فقد قيل معناه: يتصدق بالمال الذي يريد أن يقامر عليه، وحكي ذلك عن الأوزاعي. وقيل: يتصدق بصدقة من ماله كفارة لما جرى على لسانه من هذا القول.

(4) (باب {وما آتاكم الرسول فخذوه}

(4) (باب {وما آتاكم الرسول فخذوه} 953/ 4886 - قال أبو عبد الله: حدثنا محمد بن يوسف قال: حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله عز وجل. قد فسرنا الواشمات والمستوشمات، فأما المتنمصات: فمن النمص وهو لقط الشعر عن الوجه بالمنماص وهو المنقاش. والمتفلجات: هن اللواتي يعالجن ثغورهن لتتفلج. يقال: ثغر أفلج.

(3) (باب {إذا جاءك المؤمنات يبايعنك}

(3) (باب {إذا جاءك المؤمنات يبايعنك} 954/ 4892 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو معمر قال: حدثنا عبد الوارث قال: حدثنا أيوب، عن حفصة بنت سيرين، عن أم عطية قالت: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ علينا: {أن لا يشركن بالله شيئا} ونهانا عن النياحة، فقبضت امرأة يدها فقالت: أسعدتني فلانة، أريد أن أجزيها، فما قال لها النبي صلى الله عليه وسلم شيئا، فانطلقت فرجعت، فبايعها. قولها: أسعدتني فلانة، يقال: أسعدت المرأة صاحبتها/ إذا قامت في مناحة فقامت معها تراسلها في نوحها، والإسعاد خاص في هذا المعنى، والمساعدة عامة في سائر الأمور. ويقال: إن (أصل) المساعدة مأخوذ من وضع الرجل يده على ساعد صاحبه إذا تعاونا على أمر.

(6) (باب {ويؤثرون على أنفسهم}

(6) (باب {ويؤثرون على أنفسهم} 955/ 4889 - قال أبو عبد الله: حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن كثير قال: حدثنا أبو أسامة قال: حدثنا فضيل بن غزوان قال: حدثنا أبو حازم الأشجعي، عن أبي هريرة قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: أصابني الجهد، فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا رجل يضيف هذا الليلة يرحمه الله؟ فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله فذهب إلى أهله فقال لامرأته. ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا تدخريه شيئا، فقالت: والله ما عندي ألا قوت الصبية. قال: فإذا أرادت الصبية العشاء فنوميهم وتعالي فأطفئي السراج ونطوي بطوننا الليلة، ففعلت، ثم غدا الرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لقد عجب الله- أو ضحك من فلان وفلانة، فأنزل الله عز وجل: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} قال أبو عبد الله: معنى الضحك الرحمة.

قلت قوله: عجب الله، إطلاق العجب لا يجوز على الله تعالى ولا يليق بصفاته وإنما معناه الرضا، وحقيقته أن ذلك الصنيع منهما حل من الرضا عند الله والقبول له محل العجب عندكم في الشيء التافه إذا رفع فوق قدره وأعطى به الأضعاف من قيمته. وقول أبي عبد الله: معنى الضحك: الرحمة، فتأويله على معنى الرضا أشبه وأقرب، وذلك أن الضحك من الكرام يدل على (الرضا) والاستهلال منهم مقدمة انجاح الطلبة وقبول الوسيلة. والأجواد يوصفون عند المسألة بالبشر وحسن اللقاء كقول زهير: تراه إذا ما جئته متهللا كأنك معطيه الذي أنت سائله وإذا ضحكوا/ وهبوا وأجزلوا العطية. قال كثير: غمر الرداء إذا تبسم ضاحكا علقت لضحكته رقاب المال

وقد يكون معنى العجب في هذا أن يعجب الله ملائكته من (صنيعهما) وذلك أن الإيثار على النفس أمر نادر في العادة، مستغرب في الطباع، فيكون المعنى أنه عجب منه ملائكته وهذا على مذهب الاستعارة وسعة المجاز سائغ غير ممتنع.

(1) (باب {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم}

(1) (باب {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم} 956/ 4912 - حدثنا إبراهيم بن موسى قال: حدثنا هشام بن يوسف، عن ابن جريج، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب عسلا عند زينب بنت جحش ويمكث عندها، فتواطأت أنا وحفصة عن أيتنا دخل عليها فلتقل له: أكلت مغافير. قال: لا، ولكني كنت أشرب عسلا عند زينب بنت جحش، فلن أعود له وقد حلفت لا تخبري بذلك أحدا. المغافير: نوع من الصمغ ويتحلب من بعض الشجر، يحل بالماء ويشرب، يقال له رائحة، ويقال للشجر إذا ظهر ذلك عليه قد أغفر، وواحد المغافير: مغفور، ويقال: خرج القوم يتمغفرون إذا

خرجوا يجتنونه من شجره، كان النبي صلى الله عليه وسلم يكره أن توجد منه رائحة وتوقى كل طعام ذي ريح، فصدق القائلة له من أزواجه ذلك، فحرم العسل على نفسه.

(7) (باب {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم}

(7) (باب {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم} 957/ 4911 - قال أبو عبد الله: حدثنا معاذ بن فضالة قال: حدثنا هشام، عن يحيى، عن ابن حكيم، عن سعيد بن جبير أن ابن عباس قال في الحرام: يكفر. وقال ابن عباس: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة}. قلت: يذهب ابن عباس إلى أن الكفارة تلزمه في تحريم الطعام وأكثر العلماء على خلافه وفي الآية ما يدل على أن الكفارة إنما علقت باليمين في قوله: {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم}. وفي الخبر الذي تقدم ذكره عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم قال: قد حلفت، فتعليق الكفارة باليمين أولى، وأكثر أهل

التفسير على أن الآية إنما نزلت في تحريم مارية القبطية حين حرمها على نفسه وقال لحفصة: لا تخبري عائشة، فلم تكتم السر/ (وأخبرتها)، ففي ذلك نزل قوله: {وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا}.

(2) (باب {تبتغي مرضاة أزواجك ..})

(2) (باب {تبتغي مرضاة أزواجك ..}) 958/ 4913 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله قال: حدثنا سليمان بن بلال، عن يحيى، عن عبيد بن حنين عن ابن عباس في قصة الإيلاء قال: جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مشربة له وإنه لعلى حصير ما بينه وبينه شيء وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف وإن عند رجليه قرظا مصبورا. المشربة: شبه الغرفة، والقرظ: ورق السلم يدبغ به الأدم. يقال: أديم مقروظ، والمصبور المجموع صبرة.

(1) (باب {عتل بعد ذلك زنيم})

(1) (باب {عتل بعد ذلك زنيم}) 959/ 4918 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو إسماعيل قال: حدثنا سفيان، عن (معبد) بن خالد قال: سمعت حارثة بن وهب الخزاعي قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ألا أخبركم بأهل الجنة؟: كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره، ألا أخبركم بأهل النار، كل عتل جواظ مستكبر. العتل: الغليظ العنيف، والجواظ. قال أبو زيد: هو الكثير اللحم، المختال في مشيه. يقال: جاظ يجوظ جوظانا.

(2) (باب {يوم يكشف عن ساق})

(2) (باب {يوم يكشف عن ساق}) 960/ 4919 - قال أبو عبد الله: حدثنا آدم قال: حدثنا الليث، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يكشف ربنا عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقا واحدا. قلت: وهذا الحديث مما قد تهيب القول فيه شيوخنا، فأجروه على ظاهر لفظه ولم يكشفوا عن باطن معناه على نحو مذهبهم في التوقف عن تفسير كل ما لا يحيط العلم بكنهه من هذا الباب، فروي عن ابن عباس أنه قال عن شدة وكرب. قال: فيحتمل أن يكون معنى قوله: يكشف ربنا عن ساقه، أي: عن قدرته التي تنكشف عند الشدة والمعزة.

قال: حدثنا الحسن بن عبد الرحيم قال: حدثنا عبد الله بن زيدان أن البجلي قال: حدثنا أبو كريب قال: حدثنا عبد الله بن المبارك، عن أسامة بن زيد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: سئل عن قوله عز وجل: {يوم يكشف/ عن ساق}. فقال: إذا خفي عليكم شيء من القرآن، فاتبعوه في الشعر، فإنه ديوان العرب، أما سمعتم قول الشاعر: اصبر عناق إنه شر باق قامت الحرب بنا على ساق وهو يوم كرب وشدة.

وقال غيره من أهل التفسير والتأويل في قوله {يوم يكشف عن ساق} أي: عن الأمر الشديد، وأنشدوا: قد شمرت عن ساقها فشدوا وجدت الحرب بكم فجدوا وقال بعض الأعراب: عجبت من نفسي ومن إشفاقها ومن طرادي الطير عن أرزاقها في سنة قد كشفت عن ساقها وإنما جاء ذكر الكشف عن الساق على معنى الشدة، فيحتمل والله أعلم أن يكون معنى الحديث أنه يبرز من أمر القيامة وشدتها ما

يرتفع معه سواتر الامتحان، فيتميز عند ذلك أهل اليقين والإخلاص، فيؤذن لهم في السجود وينكشف الغطاء عن أهل النفاق، فتعود ظهورهم طبقا لا يستطيعون السجود. وقد تأوله بعض الناس فقال: لا ينكر أن يكون الله سبحانه وتعالى قد يكشف لهم عن ساق لبعض المخلوقين من ملائكته أو غيرهم، فيجعل ذلك سببا لبيان ما شاء من حكمه في أهل الإيمان وأهل النفاق. قلت: وفيه وجه آخر لم أسمعه من قدوة، وقد يحتمله معنى اللغة، سمعت أبا عمر يذكر عن أبي العباس أحمد بن يحيى النحوي فيما عد من المعاني المختلفة الواقعة تحت هذا الاسم. قال: والساق: النفس. قال: ومنه قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين راجعه أصحابه في قتال الخوارج فقال: والله لأقاتلنهم ولو تلفت ساقي، يريد نفسه. فقد يحتمل على هذا أن يكون المراد به التجلي لهم وكشف الحجب حتى إذا رأوه سجدوا له، ولست أقطع به القول ولا أراه واجبا فيما أذهب إليه من ذلك، وأسأل الله أن يعصمنا من القول بما لا علم لنا به.

وقوله: فيعود ظهره طبقا واحدا، معناه أن يجسو ظهره فلا ينثني للسجود. وقد جاء في غير هذه الرواية: وتصير ظهورهم طبقا/ واحدا كأن فيها السفافيد.

(1) (باب)

(1) (باب) 961/ 4922 - قال أبو عبد الله: حدثنا يحيى قال: حدثنا وكيع، عن علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن جابر قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: جاورت بحراء، فلما قضيت جواري هبطت، فنوديت. وذكر الحديث.

(5) (باب {والرجز فاهجر})

(5) (باب {والرجز فاهجر}) 962/ 4926 - قال أبو عبد الله: وحدثنا عبد الله بن يوسف قال: حدثنا الليث، عن عقيل قال ابن شهاب: سمعت أبا سلمة قال: أخبرني جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن فترة الوحي، فبينما أنا أمشي سمعت صوتا من السماء، فرفعت بصري، فإذا الملك الذي جاءني بحراء قاعد على كرسي بين السماء والأرض، فجئثت منه حتى هويت على الأرض، فجئت أهلى فقلت: زملوني، زملوني، فأنزل الله تعالى: {يا أيها المدثر} إلى قوله: {فاهجر}. قال أبو سلمة: والرجز الأوثان، ثم حمي الوحي وتتابع. معنى المجاورة: الاعتكاف وكان صلى الله عليه وسلم يعتكف الأيام ذوات العدد بغار حراء ويتعبد فيه. وقوله: فجئثت، معناه رعبت. يقال: جئث الرجل وجث فهو مجئوث ومجثوث، أي: مرعوب. وقوله: زملوني: معناه غطوني بالثياب. يقال: تزمل الرجل إذا التف بثوبه. وقول أبي سلمة: الرجز: الأوثان، هكذا يفسر وحقيقة الرجز في اللغة العذاب وتأويله على هذا كأنه قال: ما يؤدي إلى عذاب الله فاهجر.

(3) (باب {كأنه جمالات صفر})

(3) (باب {كأنه جمالات صفر}) 963/ 4933 - قال أبو عبد الله: حدثنا عمرو بن علي قال: حدثنا يحيى قال: حدثنا سفيان قال: حدثني عبد الرحمن ابن عباس سمعت ابن عباس: {ترمي بشرر كالقصر}، كنا نعمد إلى الخشبة ثلاث أذرع فنرفعه للشتاء، فنسميه القصر: {كأنه جمالات صفر} حبال السفن تجمع حتى تكون كأوساط الرجال. القصر على هذا التفسير جمع قصرة وهو الغليظ من الشجر ومن قرأه القصر- بفتح الصاد- فهو جمع قصرة، أي كأنها أعناق الإبل.

وقوله: حبال السفن، فإنما يكون كذلك إذا قرأنا جمالات- بضم الجيم- وهي جمع جمالة وهي القلس من قلوس سفن البحر، فأما الجمالات/- بكسر الجيم- فهي جمع جمال، والهاء مزيدة، كما قيل في جمع الرجال: رجالات، وكما قيل في جمع بيوت: بيوتات ونحوها.

(80) سورة (عبس)

(80) سورة (عبس) 964/ 4937 - قال أبو عبد الله: حدثنا آدم قال: حدثنا شعبة قال: حدثنا قتادة قال: سمعن زرارة بن أوفى يحدث عن سعد بن هشام، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مثل الذي يقرأ القرآن وهو حافظ له مع السفرة الكرام ومثل الذي يقرأه وهو يتعاهده وهو عليه شديد، فله أجران. السفرة: الكتبة وهم الملائكة واحدهم سافر، كما قيل كاتب وكتبة وقيل للكتاب: سفر، لأنه يسفر عن الشيء، أي يبينه ويوضحه. وأما قوله: مثل الذي يقرأ، فمعناه صفة الذي يقرأ على الوجه الذي ذكره من سهولة القراءة أو تعذرها، وقد يوضع المثل موضع الصفة كقوله تعالى: {مثل الجنة التي وعد المتقون}. يريد صفة الجنة والمعنى كأنه قال: صفة الذي يقرأ القرآن وهو حافظ له كأنه مع السفرة الكرام في قراءته القرآن، وفيما يستحقه من الثواب أو نحو ذلك مما يجمعه وإياهم من الفضيلة، وصفة الذي يقرأ وهو عليه شديد أنه يستحق أجرين.

(16) (باب مناقب أبي بن كعب رضي الله عنه)

كتاب مناقب الأنصار (16) (باب مناقب أبي بن كعب رضي الله عنه) 965/ 3809 - قال أبو عبد الله: حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا غندر قال: حدثنا شعبة، سمعت قتادة، عن أنس بن مالك قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي: إن الله أمرني أن أقرأ عليك: {لم يكن الذين كفروا}. قال: وسماني؟. قال: نعم، فبكى. وجه ذلك: أن تكون قراءته على أبي ليحفظها أبي من فيه، وكان أبي مقدما على قراء الصحابة وقد قال صلى الله عليه وسلم: أقرأكم أبي.

(1) (باب قوله {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره})

(1) (باب قوله {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره}) 966/ 4962 - قال أبو عبد الله قال: حدثني مالك، عن زيد بن أسلم، عن أبي صالح السمان، عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحمر؟ قال: ما أنزل الله علي فيها إلا هذه الآية الفاذة الجامعة: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره}. قلت: قد تقدم تفسير هذا الحديث وذكرنا فيه معنى قوله: الفاذة الجامعة. فأما قوله تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن/ يعمل مثقال ذرة شرا يره}، فليس معناه أنه يرى عين عمله من خير أو شر، إنما معناه، أنه يرى جزاء ما عمل من خير أو شر كقوله: {وما تفعلوا من خير يعلمه الله} وتأويله يعلمه الله ويجازي عليه.

(3) (باب جمع القرآن)

كتاب فضائل القرآن (3) (باب جمع القرآن) 967/ 4986 - قال أبو عبد الله: حدثنا موسى بن إسماعيل، عن إبراهيم بن سعد قال: حدثنا ابن شهاب عن عبيد بن السباق أن زيد بن ثابت قال: أرسل إلي أبو بكر في جمع القرآن وذكر القصة قال: فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف. اللخاف: صفايح الحجر الرقاق، واحدتها: لخفة.

(11) (باب فضل الكهف)

(11) (باب فضل الكهف) 968/ 5011 - قال أبو عبد الله: حدثنا عمرو بن خالد قال: حدثنا زهير قال: حدثنا أبو إسحاق، عن البراء قال: كان رجل يقرأ سورة الكهف وإلى جانيه حصان مربوط بشطنين، فتغشته سحابة، فجعلت تدنو وتدنو، وجعل فرسه ينزو، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك، فقال: تلك السكينة تنزلت بالقرآن. الحصان: الفرس الفحل. يقال: فرس حصان- بكسر الحاء- وامرأة حصان- بفتحها- أي: عفيفة. والشطم: الحبل، يريد كأنه ربطه بحبلين.

(19) (باب من لم يتغن بالقرآن)

(19) (باب من لم يتغن بالقرآن) 969/ 5023 - قال أبو عبد الله: حدثنا يحيى بن بكير قال: حدثني الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم يأذن الله عز وجل لشيء ما أذن لنبي يتغنى بالقرآن. قوله: ما أذن، يعني: ما استمع. يقال: أذنت للشيء آذن له: إذا استمعت له أذنا- بفتح الذال- ويقال: إن اشتقاقه من الأذن لأن السماع يقع بها لذوي الآذان. وقوله يتغنى بالقرآن، معناه يحسن الصوت به وذلك لأنه غنى إذا حسن الصوت له كان أوقع في النفوس وأنجع في القلوب.

وقال سفيان: يتغنى، معناه يستغنى به. وفيه وجه ثالث: ذهب إليه أبو سعيد بن الأعرابي في قوله: ليس منا/ من لم يتغن بالقرآن. قال: كانت العرب تولع بالغناء والنشيد في أكثر أحوالها، فلما نزل القرآن أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون هجيراهم مكان الغناء فقال: ليس منا/ من لم يتغن بالقرآن.

(23) (باب استذكار القرآن وتعاهده)

(23) (باب استذكار القرآن وتعاهده) 970/ 5032 - قال أبو عبد الله: حدثنا محمد بن عرعرة قال: حدثنا شعبة، عن منصور، عن أبي وائل، عن عبد الله قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: بئس ما لأحدهم أن يقول: نسيت آية كيت وكيت، بل نسي واستذكروا القرآن، فإنه أشد تفصيا من صدور الرجال من النعم. قوله: بل نسي، بمعنى أنه عوقب بالنسيان على ذنب كان منه، أو على سوء تعهده القرآن والقيام بحقه حتى نسيه. وقد يحتمل ذلك معنى آخر: وهو أن يكون خاصا في زمان النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل، ثم ينسخ الشيء منه بعد نزوله ويرفع، فيذهب رسمه وتلاوته، ويسقط حفظه عن حملته، فيقول القائل منهم: نسيت آية كيت وكيت، فنهاهم عن هذا القول لئلا يتوهموا على محكم القرآن الضياع وأعلمهم أن الذي يكون من ذلك إنما هو بإذن الله، وبما رآه من الحكمة والمصلحة في نسخه ومحوه عن قلبه والله أعلم.

وقوله: أشد تفصيا، يعني ذهابا وانفلاتا. ويقال للرجل إذا تخلص من بلية: قد تفصى منها، والاسم: الفصية.

(25) (باب تعليم الصبيان القرآن)

(25) (باب تعليم الصبيان القرآن) 971/ 5036 - قال أبو عبد الله: حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال: حدثنا هشيم قال: حدثنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: جمعت المحكم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت له: وما المحكم؟ قال: المفصل. قلت: يقال إنما سمي المفصل محكما لأنه لم ينسخ منه شيء، وسمي مفصلا لكثرة ما يقع فيه من فصول التسمية بين السور. واختلفوا في أول المفصل فقال بعضهم. أول المفصل سورة (ق). وقال بعضهم: أولها سورة محمد صلى الله عليه وسلم.

(28) (باب الترتيل في القراءة)

(28) (باب الترتيل في القراءة) 972/ 5043 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو النعمان قال: حدثنا مهدي بن ميمون قال: حدثنا واصل، عن أبي وائل قال: غدونا على عبد الله فقال رجل: قرأت المفصل البارحة، فقال: هذا كهذ الشعر، إنما سمعنا القراءة وإني أحفظ القرناء التي كان يقرأ بهن النبي صلى الله عليه وسلم ثماني عشرة سورة من المفصل وسورتين/ من آل (حا ميم).

قوله: هذا كهذ الشعر، معناه سرعة القراءة والمرور فيها من غير تأمل للمعنى، كما ينشد الشعر، إنما تعد أبياته وقوافيه، أصل الهذ: سرعة القطع. ومنه قول الشاعر: ضربا هذا ذيك وطعنا وخضا

(31) (باب حسن الصوت بالقراءة للقرآن)

(31) (باب حسن الصوت بالقراءة للقرآن) 973/ 5048 - قال أبو عبد الله: حدثنا محمد بن خلف أبو بكر قال: حدثنا عبد الحميد بن عبد الرحمن أبو يحيى الحماني قال: حدثنا بريد بن عبد الله ابن أبي بردة، عن جده أبي بردة، عن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: يا أبا موسى: لقد أوتيت مزمارا من مزامير (آل) داود. قلت: أراد بآل داود، نفس داود خاصة لأنه لم يذكر أن أحدا من آل داود كان أعطي من حسن الصوت ما أعطي داود. وأخبرني أبو رجاء الغنوي قال: حدثنا أبي قال: حدثنا عمر بن شبة قال: سمعت أبا عبيدة وسئل عن رجل أوصى

لآل فلان بمال، هل لفلان نفسه من ذلك الشيء؟ فقال: نعم. قال الله تعالى: {أدخلوا آل فرعون أشد العذاب}. ففرعون أولهم، وأنشد: ولا تبك بعد ميت أجنة علي وعباس وآل أبي بكر يعني أبا بكر نفسه. ويقال: آل الرجل، أهله، وذلك إذا كان من أوساط الناس، فأما الرئيس العظيم من الناس فآله:- أشياعه وأتباعه. وقيل: آل الرجل، أهل بيته الأدنون. أخبرنا ابن الاعرابي قال: حدثنا عباس الدوري قال: حدثنا شاذان قال: حدثنا شريك، عن الأعمش، عن

زيد قال: قلت لزيد بن أرقم من آل محمد؟: قال آل علي وآل جعفر وآل عباس وآل عقيل.

(8) (باب ما يكره من التبتل والخصاء)

ومن كتاب النكاح (8) (باب ما يكره من التبتل والخصاء) 974/ 5073 - قال أبو عبد الله: حدثنا أحمد بن يونس قال: حدثنا إبراهيم بن سعد قال: حدثنا ابن شهاب، سمع سعيد بن المسيب يقول: سمعت سعد بن أبي وقاص يقول: رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل ولو أذن له لاختصينا. التبتل: ترك النكاح، والانقطاع عنه. يقال: رجل متبتل، وأصله البتل، القطع. ومنه قولهم في الصدقات: بتة بتلة، يريدون أنها منقطعة عن الأملاك/ خارجة منها وكان التبتل من شريعة النصارى، فأما نبينا صلى الله عليه وسلم فقد نهى عنه ودعا إلى النكاح، وحض عليه ليكثر النسل والعدد ويدوم بهم الجهاد ولا ينقطع.

(13) (باب من جعل عتق الأمة صداقها)

(13) (باب من جعل عتق الأمة صداقها) 975/ 5086 - قال أبو عبد الله: حدثنا قطيبة بن سعيد قال: حدثنا حماد بن زيد، عن ثابت وشعيب بن الحبحاب، عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتق صفية وجعل عتقها صداقها. قلت: قد ذهب غير واحد من الفقهاء أن ذلك خاص للنبي صلى الله عليه وسلم وقد كان مخصوصا في باب المناكح بأمور لم يشركه فيها أحد من أمته. وقد تأوله بعضهم على معنى السلب، أي لم يجعل لها صداقا غير عتقها. وقيل: أنه أراد بصداق العتق قيمة رقبتها، فإذا أعتق الرجل أمته على أن تزوج نفسها منه وقع العتق ولم يلزمها أن تنكحه وعليها قيمتها، فإن شاءت أن تنكحه وتكون القيمة التي له عليها مهرا جاز ذلك. وذهب أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه إلى ظاهر الحديث وقالا: إذا (أعتقها) على ذلك لزمها التزوج ومان عتقها عوضا عن بضعها، وهو قول سعيد بن المسيب والحسن وإبراهيم النخعي.

(14) (باب تزويج المعسر)

(14) (باب تزويج المعسر) 976/ 5087 - قال أبو عبد الله: حدثنا قتيبة قال: حدثنا عبد العزيز ابن أبي حازم، عن أبيه، عن سهل بن سعد الساعدي قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله جئت أهب لك نفسي، فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم طأطأ رأسه، فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئا، جلست، فقام رجل من أصحابه فقال: يا رسول الله إن لم يكن لك فيها حاجة، فزوجنيها. فقال: وهل عندك شيء؟ فقال: لا والله يا رسول الله. فقال: اذهب إلى أهلك، فانظر هل تجد شيئا؟ فذهب، ثم رجع فقال: والله ما وجدت شيئا. فقال: انظر ولو خاتما من حديد، فذهب، ثم رجع. فقال: لا والله يا رسول الله ولا خاتما من حديد. فقال: ماذا معك من القرآن؟ قال: سورة كذا وسورة كذا عددها فقال: تقرأهن عن ظهر قلبك؟ قال: نعم. قال: اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن.

فيه من الفقه: أن المهر لا حد لأقله/، وفيه أن المال غير معتبر في باب (الكفاءة) وفيه أن الأجرة على تعليم القرآن جائزة. وفيه أن ما جاز عليه الإجارة جاز أن يكون مهرا. والباء في قوله: بما معك، معناه التعويض، كما تقول: بعتك هذا الثوب بدينار أو بعشرة دراهم ولو كان معناه أنه زوجه إياها من أجل حفظه القرآن تفضيلا له، لحصلت المرأة موهوبة بلا مهر وهذا خصوصية للنبي صلى الله عليه وسلم ليست لغيره. وفيه دليل على أن العقد قد يصح بغير لفظ النكاح والتزويج. ألا تراه يقول: قد ملكتكها بما معك من القرآن وأكثر أهل العلم على إبطال النكاح على تعليم القرآن، وأجازه الشافعي قولا بالحديث، وهو قول أحمد بن حنبل إلا أنه (قال) أكرهه.

(15) (باب الأكفاء في الدين)

(15) (باب الأكفاء في الدين) 977/ 5089 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبيد بن إسماعيل قال: حدثنا أبو أسامة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على ضباعة بنت الزبير فقال لها: لعلك أردت الحج. قالت: والله ما أجدني إلا وجعة. فقال لها: حجي واشترطي وقولي: اللهم محلي حيث حبستني. قلت: في هذا الحديث دليل على أن الإحصار لا يقع إلا بعدو مانع وأن المرض وسائر العوائق لا يقع بها الإحلال ولو كان يقع بها الإحلال لما احتاجت إلى هذا الشرط وهو قول ابن عباس حين قال:

لا حصر إلا حصر العدو. وكذلك روى معناه عن ابن عمر وذهب بعض أهل العلم إلى أن ذلك شيء خاص كان لها، كما كان الإذن في فسخ الحج خاصا لأصحابه. قلت: وفي قوله: محلي حيث حبستني، دليل على أن المحصر يحل حيث يحبس وينحر بدنة هناك حرما كان أو حلا.

(18) (باب الحرة تحت العبد)

(18) (باب الحرة تحت العبد) 978/ 5097 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن يوسف قال: حدثنا مالك، عن ربيعة بن عبد الرحمن، عن القاسم بن محمد، عن عائشة قالت: كان في بريرة ثلاث سنن: أعتقت، فخيرت. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الولاء لمن أعتق) ودخل رسول الله عليه وسلم وبرمة على النار، فقرب إليه خبز وأدم من أدم البيت فقال: ألم أر البرمة؟ فقيل: لحم تصدق على بريرة وأنت لا تأكل الصدقة. قال: هو لها/ صدقة ولنا هدية. قال الشافعي: الأصل في المكافأة حديث بريرة، وذلك لأن زوجها كان عبدا، فلما استفادت الحرية فضلتها بها، فكان الخيار في المقام معه أو الفراق. وقوله صلى الله عليه وسلم: هو لها صدقة ولنا هدية، يريد أنه إنما كان صدقة قبل الاستحقاق، فلما ملكته بالقبض بطل معنى الصدقة وصار لنا بالإذن منها في أكله بمعنى الهدية. وفيه دليل: على أن من قدم إلى رجل طعاما، فإن له أن يستوفيه أكلا، وإن شاء أن يطعمه غيره، كان له ذلك، وإن شاء

أن يحمله إلى منزله فعل، ذلك لأنه إذا كان بمنزلة الهدية المقبوضة كان له أن يتصرف فيه تصرف الملاك، وهذا إذا كان قد خلى بينه وبين ذلك، فإن كان قد أضافه، فأجلسه على مائدته كان له أن يأكل منها بالمعروف ولا يحمل منها شيئا إلا بإذنه ولا يطعم غيره إلا بإذنه. وقد استحسن بعض أهل العلم لأهل المائدة الواحدة أن يناول بعضهم بعضا مما بين أيديهم. قال: فإن أكلوا على مائدتين لم يكن لأهل إحدى المائدتين أن يناولوا أهل المائدة الأخرى. وذهب بعض أهل العلم إلى أن من قدم إلى رجل طعاما ليأكله فإنه لا يجري مجرى التمليك، وله أ، يحول بينه وبين إذا شاء وهذا على قول من يذهب إلى أن الرجل إذا غصب طعاما لرجل، ثم أطعمه إياه وهو لا يعلم أنه عين ماله، فإنه لا يبرأ منه.

(20) (باب {أمهاتكم اللاتي أرضعنكم})

(20) (باب {أمهاتكم اللاتي أرضعنكم}) 979/ 5101 - قال أبو عبد الله: حدثنا الحكم بن نافع قال: حدثنا شعيب، عن الزهري قال: أخبرني عروة بن الزبير، عن زينب بنت أبي سلمة لما مات أبو لهب اريه بعض أهله بشر حيبة. قال له: ماذا لقيت؟ قال أبو لهب: لم ألق غير أني سقيت في هذه بعتاقتي ثوبية. قوله: بشر حيبة، يعني بشر حال. يقال: بات الرجل بحيبة سوء، أي بحال سوء وكانت ثوبية قد أرضعت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقوله: سقيت في هذه، يريد الوقبة التي بين السبابة والإبهام.

(27) (باب لا تنكح المرأة على عمتها)

(27) (باب لا تنكح المرأة على عمتها) 980/ 5109 - قال أبو عبد الله: /حدثنا عبد الله بن يوسف قال: أخبرنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها.

(27) (الباب نفسه)

(27) (الباب نفسه) 981/ 5108 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبدان قال: حدثنا عاصم، عن الشعبي، سمع جابرا قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تنكح المرأة على عمتها أو خالتها. إنما نهى عن الجمع بينهما لئلا يقع بينهما التنافس في الحظوة عند الزوج، فيؤدي ذلك إلى قطيعة الرحم، وفي معنى خالتها وعمتها خالة أبيها وعمته، وعلى هذا القياس: كل امرأتين لو كانت إحداهما رجلا لم تحل له الأخرى، وهذا في النسب خصوصا دون الصهر وذلك أنه قد يجوز للرجل أن يجمع بين المرأة وبين امرأة أبيها ولو تقدر أن تكون هذه المرأة ابنا لم يجز له أن ينكح امرأة أبيه.

(28) (باب الشغار)

(28) (باب الشغار) 982/ 5112 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن يوسف قال: حدثنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الشغار. والشغار أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته ليس بينهما صداق. وهذا التفسير يروي مقرونا بالحديث فيقال: إنه من قول نافع. وممن أبطل هذا النكاح مالك، والشافعي، وأحمد ابن حنبل، وأصل الفروج الحظر، وهو لا يرتفع بالأمر المحظور وإنما يرتفع بالأمر المأذون فيه.

وقد جوز هذا النكاح بعض الفقهاء وقالوا: ليس فيه شيء أكثر من إبطال المهر، والنكاح لا يبطل بفساد المهر، فالعقد صحيح ولكل واحدة منهما مهر مثلها، وهذا غلط، وذلك لأن المهر ليس شيئا غير العقد ولا العقد شيئا غير البدل وهو المهر وهو إذا فسد مهرا فسد عقدًا.

(36) (باب من قال: لا نكاح إلا بولي)

(36) (باب من قال: لا نكاح إلا بولي) 983/ 5130 - قال أبو عبد الله: حدثنا أحمد بن أبي عمرو قال: حدثني أبي قال: حدثني إبراهيم، عن يونس، عن الحسن في قوله: {فلا تعضلوهن} قال: حدثني معقل ابن يسار أنها نزلت فيه قال: زوجت أختا لي من رجل، فطلقها حتى إذا انقضت عدتها جاء يخطبها فقلت له: زوجتك وفرشتك، وأكرمتك، فطلقتها، ثم جئت تخطبها، لا والله/ لا تعود إليك أبدا وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه، فأنزل الله تعالى هذه الآية: {فلا تعضلوهن}. فقلت: الآن أفعل يا رسول الله. قال: فزوجتها إياه. قوله: فرشتك، يعني جعلتها لك فراشا. يقال: فرشت الرجل إذا فرشت له، كما تقول: وزنت الرجل وكلته: إذا وزنت له وكلت له.

ومعنى العضل: منع الولي وليته من النكاح وحبسها عنه وأصله من قولهم: عضلت الناقة، فهي معضل إذا احتبس ولدها في بطنها وكذلك الدجاجة إذا احتبس بيضها ونشب فلم يخرج. قال الشافعي: وهذه الآية أدل شيء على أن المرأة لا تزوج نفسها ولو كان لها إلى ذلك سبيل لم يتحقق معنى العضل.

(41) (باب لا ينكح الأب وغيره البكر والثيب إلا برضاهما)

(41) (باب لا ينكح الأب وغيره البكر والثيب إلا برضاهما) 984/ 5136 - قال أبو عبد الله: حدثنا معاذ بن فضالة قال: حدثنا هشام، عن يحيى، عن أبي سلمة أن أبا هريرة حدثهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا تنكح البكر حتى تستأذن قالوا يا رسول الله: وكيف إذنها؟ قال: أن تسكت. قلت: الأيم في هذا الحديث الثيب، ولذلك لم يجز العقد عليها إلا بأمرها وهو معنى الاستئمار، أي طلب الأمر من قبلها، وأمرها لا يكون إلا بنطق، فأما الاستئذان فهو طلب الإذن وإذنها قد يعلم بسكوتها وهو إذا سكتت استدل به على رضاها.

(41) (الباب نفسه)

(41) (الباب نفسه) 985/ 5137 - قال أبو عبد الله: حدثنا عمرو بن الربيع بن طارق قال: أخبرنا الليث، عن ابن أبي مليكة، عن أبي عمرو- مولى عائشة- عن عائشة أنها قالت يا رسول الله: إن البكر تستحيي. قال: رضاها صمتها. وكان الشافعي- رحمه الله- يقول: للأب أن يزوج البالغ البكر وإن لم تستأذن، وكذلك الجد إذا لم يكن أب، وليس ذلك لغير الأب من الأولياء، وهو قول مالك وابن أبي ليلى وأحمد بن حنبل ومعنى الاستئذان عندهم في هذا إنما على استطابة النفس دون الوجوب واحتج الشافعي في ذلك بما رواه عن مالك، عن

عبد الله بن الفضل، عن نافع بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الأيم أحق بنفسها من (وليها) والبكر/ تستأمر في نفسها وإذنها صماتها. قال: ودليل قوله: الأيم أحق بنفسها من مليها، أن ولي (البكر) أحق بها من نفسها، وذلك عن طريق دلالة المفهوم، والمراد بالأيم الثيب لأنه قابلها بالبكر.

(42) (باب إذا زوج الرجل ابنته وهي كارهة، فنكاحه مردود)

(42) (باب إذا زوج الرجل ابنته وهي كارهة، فنكاحه مردود) 986/ 5138 - قال أبو عبد الله: حدثنا إسماعيل قال: حدثني مالك، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عبد الرحمن ومجمع ابني يزيد بن حارثة، عن خنساء بنت خدام الأنصارية أن أباها زوجها وهي ثيب فكرهت ذلك، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم (فرد) نكاحه. قلت: وهذا أيضا مما يستدل به أصحاب الشافعي وذلك أن الثيوبة إنما ذكرت في هذا الحديث ليعلم أنها علة للحكم فدل على أن حكم البكر بخلاف ذلك.

(36) (باب من قال: لا نكاح إلا بولي)

(36) (باب من قال: لا نكاح إلا بولي) 987/ 5127 - قال أبو عبد الله: حدثنا أحمد بن صالح قال: حدثنا عنبسة قال: حدثنا يونس، عن ابن شهاب قال: أخبرنا عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها أن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء، فذكر ثلاثة منها. قالت: ونكاح رابع يجتمع الناس الكثير، فيدخلون على المرأة، لا تمنع من جاءها، فإذا حملت وضعت حملها، جمعوا لها، فدعوا لهم القافة، ثم ألحقوا (ولدها) بالذي يرون، فالتاطته ودع ابنه لا يمتنع من ذلك، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم بالحق هدم نكاح الجاهلية إلا نكاح الناس اليوم. قولها: التاطته، تعني استلحقته. وأصل اللوط: اللصوق ومنه قول أبي بكر في عمر: اللهم والولد ألوط، أي ألصق بالقلب.

(45) (باب لا يخطب على خطبة أخيه حتى ينكح أو يدع)

(45) (باب لا يخطب على خطبة أخيه حتى ينكح أو يدع) 988/ 5143 - قال أبو عبد الله: حدثنا يحيى بن بكير قال: حدثنا الليث، عن جعفر بن ربيعة، عن الأعرج قال: قال أبو هريرة: يأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخوانا. 989/ 5144 - ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك. قوله: إياكم والظن فإنه يريد تحقيق ظن السوء دون ما يهجس في القلب من خواطر الظنون، فإنها لا تملك، ولذلك قال: فإن الظن أكذب الحديث إذا قال عن ظنه ما لا يتيقنه، فحكم به على الغيب، فيقع الخبر عنه حينئذ كذبا. والتجسس: البحث عن باطن أمور الناس، وأكثر/ ذلك في الشر.

والتحسس- بالحاء- طلب الخير وأصل من الحس، يريد أن يتبعه بحسه. ويقال: خرج القوم يتجسسون الأخبار ويتحسبونها ويتحسسونها كل ذلك واحد. وقوله: ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك، إنما يتحقق النهي عنه إذا كان قد ركن كل واحد منهما إلى صاحبه وأراد العقد، فأما قبل ذلك فلا يدخل في النهي وهو خاطب من الخطاب وقد خطب معاوية وأبو الجهم فاطمة بنت قيس الفهرية، فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم تستشيره في أمرها، فخطبها لأسامة بن زيد، فتركتهما ونكحته.

(47) (باب الخطبة)

(47) (باب الخطبة) 990/ 5146 - قال أبو عبد الله: حدثنا (قبيصة) قال: حدثنا سفيان عن زيد بن أسلم قال: سمعت ابن عمر يقول: جاء رجلان من المشرق، فخطبا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن من البيان لسحرا. قوله: إن من البيان لسحرا: البيان بيانان: بيان يقع به الإبانة عن المراد بأي لغة كان وبأي لسان أبان ولم يرد بالسحر هذا النوع منه. والضرب الآخر منه: بيان بلاغه وحذق وهو ما دخلته الصنعة بالتحبير له والتحسين لألفاظه حتى يروق السامعين ويستميل به قلوبهم، فهو الذي يشبه بالسحر إذا خلب القلوب وغلب على النفوس حتى ربما حول الشيء عن ظاهر صورته وصرفه عن قصد جهته، فيبرزه للناظرين في معرض غيره، وهذا قد يمدح مرة ويذم أخرى. فأما المدح فهو إذا صرف إلى الصدق ونصر به الحق. وقد روي عن عمر بن عبد العزيز أن رجلا سأله حاجة فاعتاص عليه قضاؤها، فرفق الرجل له القول في ذلك، فقال: إن هذا هو

السحر الحلال وأنجزها له. وأما الضرب المذموم منه: فهو أن يقصد به الباطل وأن يلحد به إلى اللبس والتورية حتى يوهمك القبيح حسنا والمنكر معروفا، وهذا هو المذموم المشبه بالأمر المذموم وهو السحر. وقال بعض أهل اللغة: أصل السحر: الخداع. وأنشد قول الشاعر: / ونسحر بالطعام والشراب أي: نخدع، واحتج أيضا بقول لبيد: فإن تسألينا فيم نحن فإننا عصافير من هذا الأنام المسحر

يريد: المعلل المخدوع. وقال: أصل السحر: صرف الشيء عن حقيقته إلى غيره. ومنه قوله تعالى: {فأنى تسحرون} أي: تصرفون وحكى محمد بن سلام الجمحي، عن يونس قال: العرب تقول: ما سحرك عن وجه كذا؟ أي ما صرفك عنه.

(52) (باب الشروط في النكاح)

(52) (باب الشروط في النكاح) 991/ 5151 - قال أبو عبد الله: حدثنا هشام بن عبد الملك قال: حدثنا ليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير عن عقبة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أحق ما أوفيتم من الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج. قلت: قد تختلف الشروط في عقود النكاح، فمنها ما يجب الوفاء به ومنها ما لا يجب. فأما الذي يجب الوفاء به فهو المهر والنفقة وحسن العشرة، وقد شرط الله تعالى هذه الأمور لهن على الأزواج في قوله: (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} وأما الذي لا يلزم من الشروط: فهو ما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اشتراطه كقوله: لا يحل لامرأة أن تسأل طلاق أختها لتكفأ ما في إنائها ونحو ذلك من شروط الضرار. وقد اختلف

العلماء في المرأة إذا اشترطت على الزوج أن لا يخرجها من دارها وأن لا يدخل عليها إلا نهارا دون الليل أو ليلا دون النهار، أو لا يتزوج عليها امرأة، أولا يتسرى أو نحوها من الأمور، فكان الشرط في مثل هذه الأمور عند أكثرهم باطلا. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كانت مائة شرط، وقد جعل الله للرجال من أزواجهن أن يكن حيث يكون أزواجهن من حضر أو سفر ما لم يخرج ذلك عن عرف، ولا اتصل بضرر يلحقهن أو خوف عليهن في مثل ركوب بحر أو مقام في برية، وموضع خسف، وجعل لهم أن يدخلوا عليهن في كل وقت من ليل أو نهار. وقد روى أن كل شرط في نكاح، فالنكاح يهدمه إلا الطلاق، وكذلك هذا في عدد نكاح الأربع من الحراير، وإباحة التسري عن الإماء بلا عدد محصور. /وقال الشافعي- رحمه الله- إذا نقصت المرأة عن مهر مثلها

شيئاً في شيء من هذه الشروط أعطيت تمام مهر مثلها وبطل الشرط. وقد روي عن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- أنه قال: (المسلمون عند شروطهم إلا شرط أحل حراما أو حرم حلالا) فيرون أنه أشار بذلك إلى كل أمر تشارطاه فيما بينهما مما لم يحظره الدين، ولم تحرمه الشريعة، فعلى الزوج الوفاء به وروي نحو من ذلك عن ابن مسعود وإليه ذهب الأوزاعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه.

(71) (باب حق إجابة الوليمة والدعوة)

(71) (باب حق إجابة الوليمة والدعوة) 992/ 5174 - قال أبو عبد الله: حدثنا مسدد قال: حدثنا يحيى، عن سفيان قال: حدثني منصور، عن أبي وائل عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فكوا العاني، وأجيبوا الداعي، وعودوا المريض. العاني: الأسير، والداعي: الذي أمر بإجابته صاحب الوليمة خصوصا، وذلك لما فيه من الإشادة بالنكاح والإظهار لأمره.

(71) (الباب نفسه)

(71) (الباب نفسه) 993/ 5173 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن يوسف قال: أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها. قلت: وفيه من الشرط أن لا يكون بحضرتهم منكر. ورأى أبو مسعود الأنصاري صورة في البيت، فانصرف ودعا ابن عمر أبا أيوب، فرأى في البيت سترا على الجدار فقال ابن عمر: غلبنا عليه النساء فقال: من كنت أخشى عليه، فلم أكن أخشى عليك والله لا أطعم لكم طعاماً، فرجع.

(77) (باب قيام المرأة على الرجال في العرس وخدمتهم بالنفس)

(77) (باب قيام المرأة على الرجال في العرس وخدمتهم بالنفس) 944/ 5182 - قال أبو عبد الله: حدثنا سعيد بن أبي مريم قال: حدثنا أبو غسان قال: حدثني أبو حازم، عن سهل قال: لما عرس أبو أسيد الساعدي، دعا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فما صنع لهم طعاما ولا قربه إليهم إلا امرأته أم أسيد بلت تمرات في تور من حجارة من الليل، فلما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من الطعام ماثته له، فسقته تحفه بذلك. قوله: ماثته: يريد مرسته بيدها. يقال: مثت الشيء أمثته. وأموثه: إذا دفته في ماء أو نحوه، فانماث أي ذاب وانحل.

(82) (باب حسن المعاشرة مع الأهل)

(82) (باب حسن المعاشرة مع الأهل) 995/ 5189 - قال أبو عبد الله: حدثنا سليمان بن عبد الرحمن وعلي بن حجر قالا: أخبرنا عيسى بن يونس قال: حدثنا هشام بن عروة، عن عبد الله بن عروة، عن عروة، عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: جلست إحدى عشرة امرأة، فتعاهدن وتعاقدن أن لا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئا: قالت الأولى: زوجي لحم جمل، غث على رأس جبل، لا سهل فيرتقي، ولا سمين فينتقل. قالت الثانية: زوجي لا أبث خبره، إني أخاف أن لا أذره، إن أذكره أذكر عجره وبجره. قالت الثالثة: زوجي العشنق إن أنطق أطلق وإن أسكت أعلق. قالت الرابعة: زوجي كليل تهامة، لا حر ولا قر ولا مخافة ولا سآمة.

قالت الخامسة: زوجي إن دخل فهد، وإن خرج أسد ولا يسأل عما عهد. قالت السادسة: زوجي إن أكل لف وإن شرب اشتف وإن اضطجع التف ولا يولج الكف ليعلم البث. قالت السابعة: زوجي عياياء طباقاء، كل داء له داء، شجك أوفلك أو جمع كلا لك. قالت الثامنة: زوجي المس مس أرنب والريح ريح زرنب. قالت التاسعة: زوجي رفيع العماد، طويل النجاد، عظيم الرماد، قريب البيت من الناد. قالت العاشرة: زوجي مالك، وما مالك، مالك خير من ذلك، له إبل كثيرات المبارك، قليلات المسارح، إذا سمعن صوت المزهر أيقن أنهن هوالك. قالت الحادية عشرة: زوجي أبو زرع، وما أبو زرع، أناس من حلي أذني، وملأمن شحم عضدي، وبجحني فبجحت إلى نفسي، وجدني في أهل غنيمة بشق، فجعلني في أهل صهيل وأطيط ودأيس ومنق، فعنده أقول فلا أقبح، وأرقد فأتصبح، وأشرب فأتقمح. وقال بعضهم: فأتقنح. أم أبي زرع، فما أم أبي زرع عكومها رداح وبيتها فساح.

ابن أبي زرع، فما ابن أبي زرع، مضجعة كمسل شطبة وتشبعه ذراع الجفرة. بنت أبي زرع، فما بنت أبي زرع، طوع أبيها وطوع أمها، وملء كسائها وغيظ جارتها. جارية أبي زرع،/ وما جارية أبي زرع لا تبث حديثنا تبثيثا ولا تنقث ميرتنا تنقيثا ولا تملأ بيتنا تعشيشا. قالت: خرج أبو زرع والأوطاب تمخض، فلقى امرأة معها ولدان لها كالفهدين (يلعبان) من تحت خصرها، برمانتين، فطلقني ونكحها، فنكحت بعده رجلا سريا، ركب شريا، وأخذ خطيا، وأراح علي نعما ثريا، وأعطاني من كل رائحة زوجا وقال: كلي أم زرع وميرى أهلك، فلو جمعت كل شيء أعطانيه ما بلغ أصغر آنية أبي زرع. قالت عائشة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كنت لك كأبي زرع لأم زرع.

قال: وقال سعيد بن سلمة، عن هشام، ولا تغش بيتنا تغشيشا. قلت: قد فسر أبو عبيد هذا الحديث في كتاب غريب الحديث ونحن نذكر ما نحتاج إلى ذكره منه ونضم إليه ما يجب أن يضم إليه من زيادة بيان وشرح معنى إن شاء الله. قال أبو عبيد: قولها: لحم جمل غث، يعني المهزول على رأس جبل تصف قلة خيره وبعده مع القلة، كالشيء في قلة الجبل الصعب لا ينال إلا بالمشقة. قلت: معنى البعد في هذا أن يكون قد وصفته بسوء الخلق والترفع بنفسه والذهاب بها تيها وكبرا، تريد أنه مع قلة خيره ونزارته يتكبر على العشيرة، وينأى بجانبه، فيجمع إلى منع الرفد الأذى وسوء الخلق.

وقولها: ولا سمين فينتقل، تريد أنه ليس في جانبه طرق فتحتمل سوء عشرته، لذلك يقال: انتقلت الشيء أي: نقلته. وقول الثانية: أذكر عجره وبجره. قال أبو عبيد: العجر: أن يتعقد العصب أو العرق حتى تراها ناتئة من الجسد. والبجر نحوها إلا أنها في البطن خاصة، واحدتها: بجرة. ومنه قيل: رجل أبجر إذا كان عظيم البطن وامرأة بجراء. قلت: فسر أبو عبيد اللفظ ولم يذكر المعنى، وإنما أرادت بالعجر والبجر عيوبه الباطنة وأسراره الكامنة. وأخبرني أحمد بن عبدوس قال: حدثنا الكديمي بإسناده/ وذكر طلحة أن علي بن أبي طالب وقف عليه وهو صريع فقال: إلى الله أشتكي عجري وبجري فقلت

للأصمعي: وما عجري وبجري؟ قال: همومي وأحزاني. وقول الثالثة: زوجي العشنق، والعشنق: الطويل. تقول: ليس عنده أكثر من طول بلا نفع، فإن ذكرت ما فيه من العيوب طلقني وإن سكت عنه تركني معلقة لا أبما ولا ذات بعل. ومنه قول الله تعالى: {فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة}. وقول الرابعة: زوجي كليل تهامة، لا حر ولا قر ولا مخافة ولا سآمة. تقول: ليس عنده أذى ولا مكروه، وإنما هذا مثل لأن الحر والقر كلاهما فيه أذى إذا اشتدا. ولا مخافة ولا سآمة. تقول: ليس عنده غائلة ولا شر أخافه ولا أسامه. وقول الخامسة: زوجي إن أكل لف، وإن شرب اشتف، فإن اللف في المطعم: الإكثار منه مع التخليط من صنوفه حتى لا يبقى منه شيئا. والاشتفاف: أن يستقصي ما في الإناء ولا يسئر فيه سؤرا وإنما أخذ من الشفافة وهي البقية تبقى في الإناء من الشراب، فإذا شربها صاحبها قيل: اشتفها.

قال أبو عبيد: وقولها: لا يولج الكف ليعلم البث. قال: أحسبها كان بجسدها عيب تكتئب به لأن البث هو الحزن وكان لا يدخل يده في ثوبها ليمس ذلك العيب تصفه بالكرم. قلت: ليس وجه الكلام ما ذهب إليه أبو عبيد وإنما شكت قلة تعهده إياها، واستقصرت حظها منه. تقول: إنه يتلفف منثئيا عنها إذا نام ولا يقرب منها فيولج كفه داخل ثوبها فيكون منه إليها ما يكون من الرجل إلى أهله. ومعنى البث: ما تضمره المرأة من الحزن على عدم الحظوة منه ولا معنى لما توهمه من الداء بجسدها فيتأول ترك التفقد منه لذلك على معنى الكرم، وذلك أن (أول) الكلام ذم واستلام، فكيف يكون آخره مدحا ووصفا له بالكرم. وقول السادسة: زوجي غياياء أو عياياء/ طباقاء, قال أبو عبيد: أما غياياء- بالغين- فليس بشيء إنما هو عياياء- بالعين- والعياياء من الإبل الذي لا يضرب ولا يلقح وكذلك هو في الرجال. قال: والطباقاء: الغبي الأحمق الفدم.

قلت: أصل الطباقاء ما قاله الأصمعي فيما حدثني به أبو رجاء الغنوي، عن أبيه، عن الأصمعي قال: الطباقاء هو الذي أمره مطبق عليه وأنشد جميل: طباقاء لم يشهد خصوما ولم ينخ قلاصا إلى أكوارها حين تعطف وقول السابعة: زوجي إن دخل فهد، وإن خرج أسد، فإنها تصفه بكثرة النوم والغفلة في منزله على وجه المدح له وذلك أن الفهد كثير النوم. يقال: أنوم من فهد، والذي أرادت به أنه ليس يتفقد ما ذهب من ماله ولا يلتفت إلى معايب البيت وما فيه فهو كأنه ساه عن ذلك. وقولها: وإن خرج أسد، تصفه بالشجاعة. تقول: إذا خرج إلى البأس ومباشرة الحرب ولقاء العدو أسد فيها. يقال: أسد

الرجل واستأسد بمعنى: القوة والشجاعة وعدم تهيب المواقف. وقول الثامنة: زوجي المس مس أرنب، والريح ريح زرنب، فإنها تصفه بحسن الخلق، ولين الجانب، كمس الأرنب إذا وضعت يدك على ظهرها. وقولها: والريح ريح زرنب، فإن فيه معنيين قد يكون أن تريد طيب ريح جسده ويكون أن تريد طيب الثناء في الناس. وانتشاره فيهم كريح الزرنب، وهو نوع من أنواع الطيب معروف. وقول التاسعة: زوجي رفيع العماد، فإنها تصفه بالشرف وسناء الذكر، وأصل العماد: عماد البيت وجمعه عمد وهي العيدان التي تعمد بها البيوت، وإنما هذا مثل، تعني أن بيته (رفيع) في حسبه رفيع في قومه. وأما قولها: طويل النجاد: فإنها تصفه بامتداد القامة والنجاد: حمائل السيف، فهو يحتاج إلى قدر ذلك من طوله.

وقولها: عظيم الرماد، فإنها تصفه بالجود وكثرة الضيافة من لحم الإبل وغيره من اللحوم، فإذا فعل ذلك عظمت ناره وكثر وقودها، فيكون الرماد في كثرة على قدر ذلك. قلت: قد يكون/ إيقاده النار لمعالجة الطعام واشتواء اللحوم ليطعمها الأضياف كرما، وأمدح له أن تكون ناره لا تطفأ ليلا لتهتدي الضيفان، فيكثر غشيانهم إياه. كقول الشاعر: متى تأته تعشو إلى ضوء ناره تجد خير نار عندها خير موقد والأجواد المطعمون يعظمون النيران في ظلم الليل. ويوقدونها على التلال، ومشارف الأرض، ويرفعون على الأيدي منها الأقباس لتهتدي بسناها الأضياف. أنشدني أبو عمر قال: أنشدنا أبو العباس قال: أنشدنا ابن الأعرابي:

ومستنبح بات الصدى يستتيهه فتاه وجوز الليل مضطرب الكسر رفعت له نارا ثقوبا زنادها تليح إلى الساري هلم إلى القدر ويروى: حضأت له نارا. وقولها: قريب البيت من النادي، يعني أنه ينزل بين ظهراني الناس ليعلموا مكانه، فينزل الأضياف ولا يستبعد منهم ويتوارى فرارا من نزول النوائب والأضياف به. وقول العاشرة: زوجي مالك وما مالك مالك خير من ذلك، له إبل كثيرات المبارك، قليلات المسارح. تقول: إنه لا يوجههن ليسرحن نهارا إلا قليلا، ولكنهن يتركن بفنائه، فإن نزل به ضيف، لم تكن الإبل غائبة عنه ولكنها بحضرته، فيقريه من ألبانها ولحومها. وقولها: إذا سمعن صوت المزهر أيقن أنهن هوالك. المزهر: العود الذي يضرب به، فأرادت المرأة أن زوجها قد عود إبله إذا نزل به الضيفان أن ينحر لهم ويسقيهم الشراب، ويأتيهم بالمعازف، فإذا سمعت الإبل الصوت علمن أنهن

منحورات وذلك قولها: أيقن أنهن هوالك. وقول الحادية عشر: زوجي أبو زرع وما أبو زرع أناس من حلي أذني، تريد حلاني قرطة وشنوفا تنوس أذني. والنوس: الحركة من كل شيء متدل. يقال منه ناس ينوس وأناسه غيره إناسة. وقولها: وملأ من شحم عضدي لم ترد به العضد خاصة، إنما أرادت الجسد كله. تقول: أسمنني بإحسانه إلي؛ فإذا سمنت العضد سمن سائر الجسد. وقولها: وبجحني فبجحت إلى نفسي، أي فرحني ففرحت نفسي وقد بجح الرجل يبجح إذا فرح. وقولها: وجدني في أهل/ غنيمة بشق. قال أبو عبيد والمحدثون يقولون: بشق، يعني أن أهلها كانوا أصحاب غنم،

ليسوا أصحاب خيل ولا إبل. وشق: موضع. قال: فجعلني في أهل صهيل وأطيط، تعني أنه طهب بي إلى أهله وهم أهل خيل وإبل لأن الصهيل: أصوات الخيل والأطيط: أصوات الإبل. وقولها: ودأيس ومنق، تريد أنهم أصحاب زرع، فهم يدوسونه إذا حصد وينقونه من خلط، وزؤان ونحو ذلك. وقولها: فعنده أقول فلا أقبح، وأشرب فأتقمح. تقول: لا يقبح علي قولي، بل يقبل مني. وأما التقمح في الشرب، فإنه مأخوذ من الناقة المقامح. قال الأصمعي: هي التي ترد الحوض فلا تشرب. قال أبو عبيد: وأحسب قولها: فأتقمح. أي أروي حتى أدع الشراب من شدة الري. قال: وبعض الناس يروي هذا الحرف: وأشرب فأتقنخ ولا أعرف هذا الحرف ولا أرى المحفوظ إلا بالميم. وقولها: أم أبي زرع فما أم أبي زرع عكومها رداح،

فالعكوم: الأحمال، والأعدال:: هي التي فيها الأوعية من صنوف الأطعمة والمتاع، واحدها: عكم. وقولها: رداح. تقول: هي عظام كثيرة الحشو، ومنه قيل للكتبة إذا عظمت رداح، وللمرأة إذا كانت عظيمة الأكفال رداح. وقولها: ابن أبي زرع وما ابن أبي زرع مضجعة كمسل شطبة، فإن الشطبة: أصلها ما شطب من جريد النخل وهو سعفه، وذلك أنه يشقق منه قضبان دقاق: وتنسج منه الحصر، فأخبرت المرأة أنه مهفهف ضرب اللحم، شبهته بتلك الشطبة، وهذا مما يمدح به الرجل. وقولها: وتشبعه ذراع الجفرة، فإن الجفرة الأنثى من أولاد الغنم، والذكر: جفر. والعرب تمدح بقلة الطعم. وقولها: جارية أبي زرع وما جارية أبي زرع لا تبث حدثينا تبثيثا. وبعضهم يرويه لا تنث حديثنا تنثيثا- بالنون- وأحدهما قريب المعنى من الآخر، أي: لا تظهر سرنا. وقولها: لا تنقث ميرتنا تنقيثا، تعني الطعام، أي: لا تأخذه فيذهب، تصفها بالأمانة والتنقيث: الإسراع بالسير. وقولها: ولا تملأ بيتنا تعشيشا، فإن هذا الحرف رواه أبو عبيد/ ولم يفسره. والتعشيش- بالعين غير معجمة- مأخوذة من

قولك: عشش الخبر: إذا تكرج وفسد، تريد أنها تحسن مراعاة الطعام المخبوز وتعهده بان تطعم منه أولا فأولا طريا ولا تغفل أمره فيتكرج ويفسد. وقولها: خرج أبو زرع والأوطاب تمخض. فالأوطاب: أسقية اللبن، واحدها: وطب. قالت: فلقى امرأة معها ولدان كالفهدين يلعبان من تحت خصرها برمانتين، يعني أنها ذات كفل عظيم، فإذا استلقت نتأ الكفل بها من الأرض، حتى تصير تحت خصرها فجوة يجري فيها الرمان. وقولها: فنكحت بعده رجلا سريا ركب شريا، تعني الفرس أنه يستشري في سيره، أي: يلح ويمضي بلا فتور ولا انكسار، وأرادت بالخطى: الرمح لأنه يأتي من بلاد ناحية البحرين يقال لها الخط. وقولها: نعما ثريا، تعني الإبل. والثرى: الكثير من المال

وغَيره, ومنه الثَّروة في المال وهو الوفُور والكثرة فيه. قلت: وفيه من العلم حُسن العِشرة مع الأهلِ واستحباب محادثتهم بما لا إثم فيه. وفيه أن بعضهن قد ذكرن عيوب أزواجهن, فلم يكن ذلك غِيبة؛ إذ كانوا لا يُعرفون بأعيانهم وأسمائهم, وإنما الغيبة أن يقصد الأعيان من الناس, فيُذكروا بما يكرهونه من القول ويتأذون به.

(86) (باب لا تأذن المرأة في بيت زوجها لأحد إلا بإذنه)

(86) (باب لا تأذن المرأة في بيت زوجها لأحد إلا بإذنه) 996/ 5195 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو اليمان قال: أخبرنا شعيب قال: حدثنا أبو الزناد , عن الأعرج, عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه, ولا تأذن في بيته إلا بإذنه وما أنفقت من نفقة عن غير أمره, فإنه يُؤدّى شطره. قوله: لا تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه, إنما هو التطوع دون صيام الفرض في شهر الصوم, فإن كان ذلك قضاء للفائت من فرض الشهر , فإنها تستأذنه أيضا في ذلك ما بين شوال إلى شعبان, فإنها إذ ذاك تقضي الفرض من غير استئذان وهو الواجب الذي لا يسعها غير ذلك. وقد رُوي عن عائشة أنها قالت: كان يكون علي الصوم فلا أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان, وهذا يدل على أن حق الزوج

محصور الوقت, فإذا اجتمع مع سائر الحقوق التي/ تدخلها المهلة كالحجّ ونحوه قُدِّم عليها. أما قوله: ما أنفقت من غير أمره , فإنه يؤدى إليه شطره, فظاهر معناه أنها إذا أنفقت على نفسها من ماله بغير إذنه فوق ما يجب لها من القوت بالمعروف, وهو ما يكفيها من الطعام والكسوة التي تجب لمن هي في مثل حالها غَرمت شطره, يعني قدر الزيادة على الواجب لها وذلك أن نفقة المرأة نفقة معاوضة, فهي تتقدر بما يوازيها من العوض, فإن جاوزت ذلك ردت الفضل عن مقدار الواجب لها.

كتاب النفقات

كتاب النفقات (5) (باب نفقة المرأة إذا غاب عنها زوجها) 997/ 5360 - وقد روى أبو عبد الله في معناه حديثًا آخر يخالف معناه ما ذكرنا من هذا التأويل , فال: حدثني يحيى قال: حدثنا عبدالرزاق , عن معمر, عن همام قال: سمعت أبا هريرة , عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما أنفقت المرأة من كسب زوجها عن غير أمره, فله نصف أجره. وهذا إنما يتأول على أن تكون المرأة قد خلطت الصدقة من ماله بالنفقة المستحقة لها حتى كانت شطرين, فرغب الزوج في الإفراج عن حصة الصدقة وأن يطيب نفسًا عنها, لينقلب أجرها له, وهذا لا يدفع أن تكون غرامة زيادة ما أنفقت لازمة لها إن لم يطب الزوج نفسًا عنها

(88) (باب كفران العشير وهو الزوج وهو الخليط من المعاشرة)

(88) (باب كفران العشير وهو الزوج وهو الخليط من المعاشرة) 998/ 5197 - قال أبو عبدالله: حدثنا عبدالله بن يوسف قال: أخبرنا مالك , عن يزيد بن أسلم, عن عطاء بن يسار, عن عبدالله بن عباس وذكر قصة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في خسوف الشمس, قال: فلما سلَّم قالوا: يا رسول الله رأيناك تناولت في مقامك هذا, ثم رأيناك تكعكعت , قال: إني رأيت الجنة, فتناولت منها عقودًا ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا, ورأيت النار فلم أرَ كاليوم منظرًا قط, ورأيت أكثر أهلها النساء. قالوا: لمَ يا رسول الله؟ قال: بكفرهن. قيل: يكفرن بالله!! قال: يكفرن العشير ويكفرن الإحسان. قوله: تكعكعت, يعني: نكصت على عقبيك وتأخرت, وأصله من كعَّ الرجل إذا جبن وأنقبض عن الشيء وكاع مثله. والعشير: الزوج, وسُمي عشيرًا لأنه يعاشرها, كما سُمي حليلًا لأنه يُحالها في موضع؟ واحد, وهي تُسمى حليلته لهذا المعنى.

(101) (باب إذا تزوج الثيب على البكر)

(101) (باب إذا تزوج الثيب على البكر) 999/ 5214 - قال أبو عبدالله: حدثني يوسف بن راشد, قال: حدثنا أبو أسامة, عن سفيان قال: حدثنا أيوب, وخالد, عن أبي قِلابة, عن أنس قال: من السنة إذا تزوج الرجل البكر على الثيب أقام عندها سبعًا وقسم, وإذا تزوج الثيب على البكر أقام عندها ثلاثًا ثم قسم. قال أبو قلابة: ولو شئت لقلت: إن أنسًا رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. قلت: السَّبْع, تخصيص للبكر لا تحتسب بها عليها وتستأنف القسمة فيما يُستقبل, وكذلك الثلاث للثيب يكون ذلك عفوًا لكل واحدة منهما بلا قصاص وهذا والله أعلم من المعروف الذي أمر الله به عشرتهن. فقال: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) وذلك أن البِكر لما فيها من الحياء ولزوم الخَفَر تحتاج إلى فضل إمهال وصبر

وحُسن تأتٍ, ورفقٍ ليتوصل الزوج إلى الأرب منها في مدة السبع؛ والثيب قد جربت الرجال, فلم تحتج معها إلى معاناة هذه الأمور, خلا أنها من حيث استجدت الصحبة أكرمت بزيادة الوصلة وهي مدة الثلاث.

(102) (باب من طاف على نسائه في غسل واحد)

(102) (باب من طاف على نسائه في غسل واحد) 1000/ 5215 - قال أبو عبدالله: حدثنا عبد الأعلى بن حمَّاد قال: حدثنا يزيد بن زريع قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, عن أنس بن مالك حدثهم أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يطوف على نسائه في الليلة الواحدة , وله يومئذ تِسع نِسوة. قلت: يشبه أن يكون هذا قبل أن يُسن القسم لهن, وإن كان ذلك بعد القسم فلا شيء في العدل أكثر من التسوية بينهن وتوفية كل واحدة منهن حقها, وقد سألوا عن إباحة الزيادة من عدد النساء للنبي صلى الله عليه وسلم على مبلغ العدد الذي أُبيح منهن لأمته وعن المعنى ذلك؟ وفي إباحة الموهوبة له؟ وهذا باب له وقع في القلوب وعلق بالخواطر من النفوس, وللشيطان مجال في الوسواس به إلا عند من أيِّد بفضل عقل وأمد بزيادة علم. وأول ما ينبغي أن يحصل من تقدمة العلم في هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بشرًا مخلوقًا على طباع بني آدم في باب الأكل والشرب والنوم والنكاح وسائر مآرب الإنسان التي لا بَقاء

له/ إلا بها. ولا صلاح لبدنِه إلا بأخذ الحظ منها, والناس مختلفون في تركيب طباعهم, ومبلغ قُواهم, ومعلوم بحكم المشاهدة وبالامتحان من جهة دلائل عِلْم الطب أن من صَحَّت خِلقته وقويت بِنْيتُه , فاعتدل مِزاج بَدنِه حتى أن يكون نُعوتِه ما نطقت به الأخبار المتواترة من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما نُعت به فيها من صلاح الجسم ونضارة اللون وإشراب الحُمرة وإشعار الذراعين, والصدر, مع قوة الأسر وشِدّة البطش كان دواعي هذا الباب له أغلب, ونِزاع الطبع منه إليه أكثر لأن هذه الفطرة التي لا أفضل منها كمال الخِلقة ولا أقْوم منها في اعتدال البِنْية وكان ما عداها من الخلق وخالفها من النعوت منسوبًا إلي نقص الجبلَّة وضعف النحِيزة, وكانت العرب خصوصا تتباهى بقوة (النكاح وكثرة الولادة, ويذم من كان بخلاف هذا النعت من عدم) النكاح وقصر الشَّبر ولذلك قالت في أمثالها: من يَطُل فعل أبيه

يَنتطق به ومنه قول بعض شعرائهم: فلو شاء ربي كان فعل أبيكم ... طويلًا كفعل الحارث بن سدوس وكانت الخنساء إحدى نساء العرب الموصوفات بالجزالة وكمال العقل ويقال: إنه لم يكن في العرب أنثى أشعر منها, وقد خطبها دُريد بن الصِّمّة وهو أحد رجالات العرب وشجعانها؛ فردّته عن خِطبتها. وقالت في ذلك قصيدة هي المشهورة في ديوان شعرها موضع الحاجة إلى الذكر قولها: معاذ الله يَنْكِحُنى حَبَرْكَى ... قصير الشِّبر من جُشَم بن بَكر

فازدرته هذا الازدراء وسمَّته لذلك حَبَرْكا: وهو المتناهي في الضعف والوهن؛ إذ كان من صِفتِه عندها ضعف الشَّبر, ومعنى الشبر النكاح. ودعا/ رسول الله صلى الله عليه وسلم لعليّ حين بَنَى بفاطمة -رضي الله عنهما- فقال: بارك الله في شَبْركما. ولما تنافر عامر وعلقمة قال أحدهما لصاحبه: أنا ولود وأنت عاقر وأنا عفيف وأنت عاهر, فتمدَّح بأولاده, كما تمدّح بالعِفّة وذمَّه بالعُقْر, كما ذمَّه بالعُهر والفجور وكان قلَّة الرُّزءِ من الطعام والاجْتِزاء بالعُلْقة من ذلك والاكتفاء باليسير منه في مذهب الحَمْد عِندهم والثناء والمدْح به مضاهيًا لمذْهَبِهم في المدحِ بالقوَّة على النكاح وكثرة النَّسل والوِلادِ

وعلى العكس منه أن يكون رَغيبا أكولًا, ولذلك قال الأعشى يمدح رجلًا: تكفيه حُزّة فِلْذٍ إن ألم بها من الشواء ويُروى شُربه الغُمَر

وفي الحديث الذي تَروِيه عائشة في وصف النساء أزواجهن: قالت المرأة: ابن أبي زَرْع, فما ابنُ أبي زَرْع: مَضْجِعُه كمسَلِّ شًطْبَة وتُشْبِعُه ذِراع الجَفْرة, تمدحه بقلّة الطُّعم كما ترى, وقال الأعشى في قصيدته يمدح هذا الرجل ويصفه بقلّة الشَّرَة على الطعام وحُسن الصبر عنه والطّيِّ دونه: لا يتأرَّى لما في القِدر يرقُبُه ولا يَعَض على شُرسُوفِه الصَّفَر

يريد: أنه لا يعتريه الجوع حتى يجد مسَّه ويتأذَّى به. وقال متمَّم بن نُويرة: لقد كفّن المِنهالُ تحت ردائه فتى غير مِبْطَان العَشيَّات أرْوعا فهذا مذهبهم في هذا الشأن ومعانيهم في هذا الباب, فتأمل كيف اختار الله لنبيه صلى الله وعليه وسلم في كل واحد من الأمرين, فجمع له الفضائل التي يزداد من أجلها في نفوسهم جلالة وفي عيونهم قدْرًا وفخامة, ومن النَّقائض التي يُزدرى بها أهلها نزاهة وبراءة ومعلوم من/ شأنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يطوي الأيام

ولا يأكل ويصومها, فيواصل بالليل ويُقلُّ الطعم إذا أكل وكان يتجوَّع حتى يتهشَّم من الخواء بطنه, فينحني لذلك مشهور عنه بأخبار التواتر التي لا يعرض الوهم فيها ولا يجوز الغلط عليها, هذا إلى ما بعثه الله به من الشريعة الحنيفية الهادمة لما كان عليه الأمر في دين النصارى من التبتل والانقطاع عن النكاح وهجران النساء, فدعا إلى المُناكحة والمواصلة وحَضَّ عليهما وقال: تناكحوا تكاثروا. وقال: من استطاع منكم الباءة, فليتزوج, فكان صلى الله عليه وسلم أولاهم بإتيان ما دعا (إليه) واستيفاء الحظ منه ليكون داعية للاقتداء به ووسيلة للإيتِسَاء بفعله. فأما ما أبيح من زيادة القدر على أربع, فأمر لا ينكر في دين ولا عقل, أما ما جَرَت به السنة - سُنّة الدين - فقد كان لسليمان بن دواد عليه السلام مائة امرأة كان يطوف عليهن, وقد روى ذلك أبو عبدالله في هذا الكتاب قال:

(119) (باب قول الرجل لأطوفن الليلة على نسائي)

(119) (باب قول الرجل لأطوفن الليلة على نسائي) 1001/ 5242 - حدثنا محمود قال: حدثنا عبدالرزاق, قال: أخبرنا معْمر, عن ابن طاوس, عن أبيه, عن أبي هريرة قال: قال سليمان بن داود: لأطوفن الليلة بمائة امرأة تَلِد كل امرأة غلامًا يقاتل في سبيل الله. فقال له الملَك: قل إن شاء الله, فلم يقل ونسى, فأطاف بهن, فلم تَلِد منهن إلا امرأة نصف إنسان. قال النبي صلى الله عليه وسلم: لو قال إن شاء الله لم يَحْنَث وكان (أرجى) لحاجته. وأما العقل: فحكمه الاحتذاء في هذا الباب حذو الحاجة وتدبيره بحسب المصلحة من غير تحديد له بشيء معلوم وإنما قُصِر بسائر الأمة على أربع من الحرائِر من غير تجاوز لهن لعلة الخوف عليهم أن لا يعدلوا فيهن وأن/ لا يقوموا بحقوقهن إذا زاد عددهن على الأربع؛ إذ عَلِم تعالى أن ذلك ليس في وسعهم وطاقتهم وكان الجز عن حقوقهن مأمونا على النبي صلى الله عليه وسلم, والخوف زائلًا في أن يعدل بينهن. والدليل على أن العِلة في ذلك ما ذكرناه

قوله تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا). يقول: ألا تَجُوروا, فعلَّق الحكم بالعلة المقرونة به في الذكر وهي الخوف, وكانت هذه لم يجد هذا المعنى عنده مَحَلاًّ, ومما يُبَيِّن لك أنه لا عبرة بمُفرد العدد وكمّيته في القلة والكثرة أن النساء من ملك اليمين قد أُبِحْن للأمة بلا عدد محدود ولا غاية متناهية, فلو كان ذلك من أجل نفس الاستمتاع بهن ونَيل اللذة منهن وقضاء الوَطَر فيهن, لَوجب أن يُسوى بينهن وبين الحرائر في العدد لأن المتعة في النوعين معًا بمنزلة واحدة, فدلّ على أن الاماء إنما أبحن من غير شرْط في العدد من أجل أنه ليس لهن حق التسوية والتعديل على سادتهن, كما للحرائر على أزواجهن, وفي ذلك بيان ما قلناه. قلت: وفي التأويل ذلك وجه آخر وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم من حيث كان لا يجوز عليه فعل الزنا ومواقعة الفاحشة ولا تطلع النفس إلى ما في أمته من النساء وسع عليه الأمر في عدد المناكح ليأخذ منها حظًا لا يُبقي لنفسه استشراف إلى غير من عنده من النساء , وهذه الأمور جائزة على غيره من الأمة, فقَصُرَ بحظوظهم عن مبلغ ما أبيح له من عددهن/ فقد قال الشافعي - رحمه الله - في هذا الباب قولاً حسنًا. قال: إن الله عز وجل لِما

خصَّ به رسوله من وحيه, وأبَان (من فضله من المباينة) وبين خَلقه بما فرض عليهم من طاعته, وفرض عليه أشياء خفَّفها عن خلقه ليزيده بها إن شاء الله قُربة إليه, وأباح له أشياء حظرها على خلقه زيادة في كرامته وتبيينًا لفضيلته, فمن ذلك أن كل من ملك زوجة فليس عليه تخييرها وأمره الله عز وجل أن يُخير نساءه فاخترنه وقال: (لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ) قالت عائشة: ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أُحِلَّ له النساء, يعني اللائي حُظرن عليه. وقال عز وجل: (وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) وقال عز وجل: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ) الآية. فأبانهن من نساء العالمين وخصّه بأن جعله (أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) , فهذه الأمور التي ذكرناها كلها معان يصح فيها التأويل ولا يستحيل شيء منها في مذهب الدين وعُرف العقول والحمد لله.

وأما الموهبة: فقد وقعت في خلال الكلام الذي ذكرناه الإبانة عن معناها, وتخصيص النبي صلى الله عليه وسلم بالأثَرة فيها, ثم إن معلومًا من شأن النبي صلى الله عليه وسلم وحاله في عدم اليُسر وقلة ذات اليد وأنه لم يكون بحيث يتَّسع لاقتناء الولائد والاماء والاستكثار من عددهن, فيستغنى بمكانهن عن زيادة العدد على الأربع من الحرائر ومعقول أن للحرائر من الفضل في الدين والعقل أدب العشرة/ وصراحة النسب ما ليس للإماء وكان أفضل الأمرين أملكهما له وأولاهما به, فصرف زيادة حظه من النساء في الحرائر منهن دون الإماء. وعلى هذا المعنى ذَهب من ذَهب من العلماء إلى أنه لم يكن له نكاح حرائر الذِّمِّيات. وقد قال صلى الله عليه وسلم: كل سبب ونسب منقطع في القيامة إلا سببي ونَسَبي. ومما خصّ به في هذا الباب وأبين فيه من سائر أمته أن أزواجه ممنوعات من النكاح بعده ولذلك سُمّينَ أمهات المؤمنين وذلك أن الأمر في باب النساء والحُرم لما جَرَت سُنّة الدين وقضايا العقول فيه

على الاختصاص الأستئثار بهن والمحافظة عليهن الذبِّ عنهن حتى صارت هذه الأمور من أفضل ما يُثنى به على الرجال في سياستهن وكانت الغيرة من حميد الخصال حتى عدها رسول الله صلى الله عليه وسلم من شعب الإيمان وقال: الغيرة من الإيمان. وقال لسعد: أنت غير وأن أغيرُ منك والله أغير منا, جعل للنبي صلى الله عليه وسلم الحظ الأوفى منها والقسم الأوفر منها حِصصها وبقي ذلك عليه بعد وفاته, فلم يُجعل إلى نكاح أزواجه سبيل بعد وفاته وجُعلن كالمعتدات مَاعشْنَ وجاءت هذه المعاني كلها على مطابقة ما وصفناه من أحكام هذا الباب في سُنة الدين وقضية العقول, ولمَا كان أمر المال والقِنة وحكم الطعام والقوت على خلاف ذلك من الإباحة في أصله والإفاضة به على من تعرَّض له وتصدى لنيله جرى صلى الله عليه وسلم في ذلك على استقلال الحظ منه والإيثار على

نفسه وتوفير الحظ على غيره ليَجرِي أمره في الوجهين على المذهب الحميد عنه/ أهل الشرف الفضل, وعلى العادة المرضية عندهم, وقد اختار الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم من كل خَلْق وخُلُق أفضله وأحسنه, فلم يشهره في خلقته بطول بائن ولا يقصر شائن ولم يَبتَلهِ بآفة في بدنه من نقص عضو أو تشويه خَلْق أو وضاعة في نسب أو شراسة في خُلُق ومذهب, كل ذلك ليدل به على صدق نبوته وتحقيق الأمر في بيان رسالته والله أعلم حيث يجعل رسالاته والحمد لله على ما هدانا له من دينه وأكرمنا به من حُبِّ نبيه صلى الله عليه وسلم كثيرًا.

(106) (باب المتشبع بما لم ينل , وما ينهى من افتخار الضرة)

(106) (باب المُتشبِّع بما لم يَنَل , وما يُنهى من افتخار الضرة) 1002/ 5219 - قال أبو عبد الله: حدثنا سليمان بن حرب قال: حدثنا حماد بن زيد, عن هشام, عن فاطمة, عن أسماء, عن النبي صلى الله عليه وسلم, ح قال: وحدثني محمد بن المثنى قال: حدثنا يحيى, عن هشام قال: حدثتني فاطمة, عن أسماء أن امرأة قالت: يا رسول تلله إن لي ضَرَّة فهل عليَّ جُناح إن تشبَّعتُ من زوجي غير الذي يعطيني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المُتشبِّع بما لم يُعطَ كلابِس ثوبي زور". هذا يُتأول على وجهين: أحدهما: أن الثوب مثل, ومعناه أن المُتشبِّع بما لم بُعطَ صاحب زور وكذب, كما تقول للرجل إذا وصف بالبراءة من العُيوب: إنه طاهر الثوب, نقي الجيب ونحوه من الكلام, والثوب في ذلك مَثَل, والمراد به نفسه وكما يُقال في ضد ذلك: لبس

ثوب غّدْر, يُكنَى بالثوب عن فعله, وعلى هذا المعنى قوله عزل وجل: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) قيل في تأويله: عملك فأصلح/ ومثله في الكلام كثير. والوجه الآخر: أن يكون به الثوب نفسه, وقد رُوِي لنا في هذا عن نعيم بن حماد قال: كان يكون في الحي الرجل له هيئة وشارة, فإذا احتيج إلى شهادة الزور, شهد لهم فتُقبَل لِنُبْلِهِ وحُسن ثوبيه فيقال: قد أمضاها بثوبيه, يعني الشهادة, فأضيف الزور إليهما فقيل: لابِس ثَوبي زور.

(107) (باب الغيرة)

(107) (باب الغيرة) 1003/ قال أبو عبدالله: وقال ورَّاد, عن المغيرة قال سعد بن عبادة: لو رأيت رجلًا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مُصفح. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تعجبون من غَيرة سعد؟ لأنا أغير منه والله أغير مني". قوله: غير مصُفَح, يريد أنه يضربه بحدّ السيف للقتل والإهلاك, لابصفحِه وهو عُرضُهُ للزجر والإرهاب. يقال: أصفَحتُ بالسيف, أصفح به, إذا ضربت بعُرضِه. ومعنى الغَيرة من الله عزل وجل مُفسّر في حديث رواه أبو عبدالله على أثر هذا الحديث

(الباب نفسه) 1004/ 5223 - قال: حدثنا أبو نعيم قال: حدثنا شيبان, عن يحيى, عن أبي سلمة أنه سمع أبا هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله يغار وغَيْرة الله أن يأتي المؤمن ما حرَّم الله عز وجل. قلت: وهذا أحسن ما يكون من تفسير غَيْرة الله عز وجل وأبيَنُه.

(111) (باب لا يخلون رجل بامرأة إلا ذو محرم, والدخول على المغيبة)

(111) (باب لا يَخْلونَّ رجل بامرأة إلا ذو محرم, والدخول على المغيبة) 1005/ 5232 - قال أبو عبدالله: حدثنا قُتيبة بن سعيد قال: حدثنا الليث, عن يزيد بن أبي حبيب, عن أبي الخير, عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إياكم والدخول على النساء. فقال رجل من الأنصار: أفرأيت الحمو؟ قال: الحِمْو: الموت. معنى قوله: الحِمْو الموت, أي احذر الحِمْو, كما تحذر الموت. والحِمْو: واحد الأحماء وهم الأصهار من قِبَل الزوج. يقال لواحدهم: حَِمْو/ على قِنْو ودَلو. ويقال أيضًا: حَمَى على مثال قَفًا وعصًا. وقال هشام بن المغيرة المخزومي وطلَّق امرأته

أسماء بنت مُخرَّبة, فتزوَّجها أخوه أبو ربيعة, فندم هشام على فراقها فقال: ألا أصبحت أسماء حَجرًا محرمًا وأصبحت من أدنى (حُموَّتها) حَما يريد أنه صار أخًا لزوجها. فأما الأصهار من قِبَل المرأة فهم الأختان وكل ذي رَحِم من محارم المرأة من الرجال والنساء الذين تَحرُم عليهم وتضع خِمارها عندهم أختان, والأحماءُ مِثل الأختان من أهل بيت الرجل, والأصهار تجمع الفريقين معًا وهذا على حكم اللغة لا تختلف فيه أهلها, وقد جرى في ذلك بعض الفقهاء على عُرف العامة فقال: إذا أوصى الرجل لأختاه دُفِع إلى أزواج بنات المُوصى وأخواته وكل من تحرم عليه من ذات رَحِم مَحْرَم وهو قول محمد بن الحسن.

(118) (باب لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها)

(118) (باب لا تُباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها) 1006/ 5240 - قال أبو عبدالله: حدثنا محمد بن يوسف قال: حدثنا سفيان, عن منصور, عن أبي وائل, عن عبدالله بن مسعود قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تباشر المرأة المرأة, فتنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها. يُستدل بهذا الحديث على الجواز السَّلَم في الرقيق وسائر الحيوان لأن ضبطها يُمكن بالصفة الحاضرة, كما يقع ذلك بالعيان , وإذا كان بيع العين جائزًا؛ إذا هو معلوم كان بيع الصِّفة جائزًا؛ إذ هو محصور.

(121) (باب طلب الولد)

(121) (باب طلب الولد) 1007/ 5246 - قال أبو عبد الله: حدثنا محمد بن الوليد قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا شعبة, عن سيار, عن الشعبي, عن جابر بن عبدالله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا دخلت ليلًا فلا تدخل على أهلك حتى تستحِدَّ المغيبة وتمتشط الشَّعِثة./ قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فعليك بالكَيْس الكَيْس. الاستحداد: الاحتلاق بالحديد, يعني إصلاح المرأة من شأنها إذا أتاها زوجها من غَيْبة. والكيس: يجري هاهنا مجرى الحذر وقد يكون بمعنى الرفق في الأمر وحُسْن التأتي له.

(1) (باب قول الله تعالى:)

كتاب الطلاق (1) (باب قول الله تعالى:) 1008/ 5251 - قال أبو عبدالله: حدثنا إسماعيل بن عبدالله قال: حدثني مالك, عن نافع, عن عبدالله بن عمر أنه طلَّق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم, فسأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مُرْهُ فليراجعها, ثم ليمسكها, حتى تطهر, ثم تحيضو ثم تطهر, ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلَّق قبل أن يمَسَّ, فتلك العِدَّة التي أمر الله أن تُطلق لها النساء. قلت: فيه دليل على أن الأقراء التي تعتد بها المطلقة هي الاطهار وذلك لقوله: فتلك العِدَّة, فعقَّب تلك (بعد) الطهر , وقد تقدم ذِكر الحيض الأول الذي كان أوقَع فيه الطلاق,

ثم أتبعه ذِكر الطهر الثاني, ثم ذكر الحيض بعدهما ثالثًا, ثم ذكر الطهر رابعًا, ثم ألصق به قوله: فتلك العدّة التي أمر الله أن تطلق لها النساء, فدل أن الطهر هو العدَّة. واللام في قوله: لعدتهن, بمعنى (في) أي: طلقوهن في وقت عدتهن, كما يقول: كتبت لعشر من الشهر, أي في وقت خلا فيه من الشهر عشر ليال. وفي الحديث: دليل على أن الطلاق في وقت الحيض بدعة. وفيه دليل على أنه مع كونه بدعة واقع, ولولا ذلك لم يُؤمر بالمراجعة. وفيه دليل: على أن من طلق امرأته في طهر, فد كان مسَّها فيه, مطلق لغير السُّنة. ومعنى اشتراطه مُضى الطهر الأول والتربص بها الطهر الثاني تحقيق معنى المراجعة/لوقوع الجماع لأنه إذا كان جامعها في ذلك الطهر لم يكن طلاقها للسنة, فتحتاج إلى أن يتربص بها الطهر الثاني بعد الحيض, ليصح فيه إيقاع الطلاق السني والله أعلم.

(2) (باب إذا طلقت الحائض تعتد بذلك الطلاق)

(2) (باب إذا طُلقت الحائض تعتد بذلك الطلاق) 1009/ 5252 - قال أبو عبدالله: حدثنا سليمان بن حرب قال: حدثنا شعبة, عن أنس بن سيرين قال: سمعت ابن عمر قال: طلق ابن عمر امرأته وهي حائض, فذكر عمر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: ليراجعها. قلت: تُحتسب؟ قال: فمه. وعن قتادة, عن يونس بن جبير, عن ابن عمر قال: مُره فليراجعها. قلت: تحتسب؟ قال: أرأيت إن عجز واستحمق؟ يُريد أنه يعتدّ بالتطليقة الأولى ويحتسب بها من الثّلاث. وقوله: أرأيت إن عجز واستحمق؟ يُريد أرأيت إن عجر واستحمق أيسقط عجزه وحمقه حكم الطلاق؟ وهذا من المحذوف الجواب المدلول عليه بالفحوى.

(8) (باب (لم تحرم ما أحل الله لك؟))

(8) (باب (لِمَ تُحرِّم ما أَحَلَّ الله لك؟)) 1010/ 5268 - قال أبو عبدالله: حدثنا فَزْوَةُ بن أبي المغراء قال: حدثنا علي بن مسهر, عن هشام بن عروة, عن أبيه, عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يحب الحَلْواء والعسل, وكان إذا انصرف من العصر دخل على نسائه, فدخل على حفصة بنت عمر, فاحتبس أكثر مما كان يحتبس, فغِرتُ فسألت عن ذلك فقيل لي: أهدت لها امرأة من قومها عُكة وعسل, فسقت النبي صلى الله عليه وسلم منه شربةً فقلت: أما والله لنَحْتالنَّ له. فقلت لسودة بنت زمعة: إنه سيدنو منك, فإذا دنا فقولي: أكلت مَغافير؟ فإنه سيقول لكِ: لا. فقولي له: ما هذه الرِّيح التي أجد؟ فإنه سيقول لكِ: سقتني حفصة شربة عسل فقولي له: جَرَست نحله العُرفُط وذكر الحديث. المغافير: واحدها مغفور وهو نوع من الصُّموغ التي تتحلب من الشجر. ويقال: هو شيء يتحلب من العرفط حلو كالناطف وله ريح/مُنكرة. والعُرفُط: من شجر العِضَاه. والعضاه: كل شجر له شوك. وقولها: جرست نحله العُرفُط, أي: أكلت.

ويقال للنَّحل: جَوارسُ, يعني أواكِل, وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكره أن يوجد منه شيءٍ من الأطعمة والأشربة, وكان يتوقاها لأجل من يناجي من الملائكة وقال: إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم.

(11) (باب الطلاق في الإغلاق والكره والسكران والمجنون وأمرهما والغلط والنسيان في الطلاق والشرك وغيره ..)

(11) (باب الطلاق في الإغلاق والكره والسَّكران والمجنون وأمرهما والغلط والنسيان في الطلاق والشِّرْك وغيره ..) 1011/ 5271 - قال أبو عبدالله: حدثنا أبو اليمان قال/ حدثنا شعيب, عن الزهري قال: أخبرني أبو سلمة وسعيد بن المسيب, عن أبو هريرة رضي الله عنه قال: أتي رجل مِنْ أسلَم رسول الله صلى الله عليه وسلم, فناداه فقال يا رسول الله - وهو في المسجد -: إن الآخر قد زنا, يعني نفسه, فأعرض عنه, فتنحى (لِشِقِّ) وجهه الذي أعرض قِبَله حتى فعل ذلك أربعًا, فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه فقال: هل بك جُنون؟ قال: لا. فقال النبي صلى الله عليه وسلَّم: اذهبوا به, فارجموه وكان قد أحصَن. 1012/ 5272 - وعن الزُّهري قال: أخبرني من سمع جابر بن عبدالله الأنصاريّ قال: كنت فيمن رجمه, فرجمناه بالمصلى بالمدينة, فلمَّا أذلقتْه الحجارة جَمَزَ, حتى أدركناه بالحرة, فرجمناه حتى مات.

وقوله: فتنحى قِبَل وجهه, معناه قصد الجهة التي إليها وجهه ونحا نحوها من قولك: نحوت الشيء أنحُوه. وقوله: أَذلقْته الحجارة, يعني أصابته الحجارة بذلقها, وذلق كل شيء حدُّه. وقوله: جَمَزَ معناه ففرَّ مُسرعًا. وفيه من الفقه: أنه إنما ردّه كرَّة بعد أُخرى لأنه اتهمه بجنونٍ أو آفةٍ في عقله وأنه لم يطالبه بالإقرار في أربعة مجالس مختلفةٍ, كما ذهب إليه بعض الفقهاء.

(24) (باب الإشارة في الطلاق والأمور)

(24) (باب الإشارة في الطلاق والأمور) 1013/ 5295 - قال أبو عبدالله: / وقال الأويسي: حدثنا إبراهيم بن سعد, عن شعبة بن الحجاج, عن هشام بن زيد, عن أنس بن مالك: عدا يهودي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على جارية, فأخذ أوضاحًا كانت عليها ورضخ رأسها, (فأتى بها) أهلُها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي في آخر رمق وقد أُصمِتَت فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قتلك؟ فلان لغير الذي قتلها. فأشارت برأسها: أن لا. قال: ففلانٌ لقاتلها. فأشارت, أي نعم. فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم. فرضخ رأسه بين حجرين. الأوضاح: الحلُّي من الفضة, وسميت أوضاحًا لبياض لونها. والوضح: البياض وفيه اعتبار المماثلة في القصاص وقد ذكر في غير هذه الرواية أن اليهودي لما أخذ أقر بقتلها, فقتل.

(25) (باب اللعان)

(25) (باب اللعان) 1014/ 3501 - قال أبو عبدالله: حدثنا علي بن عبدالله قال: حدثنا سفيان قال أبو حازم سمعته من سهل بن سعد الساعدي يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بعثت أنا والساعة كهذه من هذه أو كهاتين وقرن بين السبابة والوسطى. قوله: كهذه من هذه, يريد أن ما بيني وبين الساعة من مستقبل الزمان بالقياس إلى ما مضى منه مقدار فضل الوسطى على السبابة ولو كان أراد غير هذا المعنى لكان قيام الساعة مع بعثته في زمان واحد.

(36) (باب قول الإمام: اللهم بين)

(36) (باب قول الإمام: اللهم بَيِّن) 1015/ 5316 - قال أبو عبدالله: حدثني إسماعيل قال: أخبرني عبدالرحمن بن القاسم, عن القاسم بن محمد, عن ابن عباس أن عاصم بن عدي أتاه رجل من قومه, فذكر أنه وجد مع امرأته رجُلاً, فذهب به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره وكان رجلاً مُصفرًا, قليل اللحم, سبط الشعر, /وكان الذي وجد عند أهله آدم خدْلاً كثير اللحم, جعدًا قططًا, وذكر الحديث. الخدْل: المكتنز اللحم. يقال: ساقٌ خدله, أي ممكورة كأنها طُويت طيًّا.

(46) (باب تحد المتوفى عنها أربعة أشهر وعشرا)

(46) (باب تُحدُّ المتوفى عنها أربعة أشهر وعشرًا) 1016/ 5336 - قال أبو عبدالله: حدثنا عبدالله بن يوسف قال: أخبرنا مالك, عن عبدالله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم, عن حميد بن نافع قال: قالت زينب بنت أم سلمة: سمعت أم سلمة تقول: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله: أن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفنكْحَلُهُا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا, مرتين أو ثلاثًا, كل ذلك يقول: لا, ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما هي أربعة أشهر وعشر وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمى بالبعرة على رأس الحول. 1017/ 5337 - قال حُميد فقلت لزينب: وما ترمى بالبعرة على رأس الحول؟ فقالت زينب: كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشًا ولبست شرّ ثيابها ولم تمس طيبًا حتى تم لها سنة, ثم يؤتى بدابة حمار أو شاة أو طائر فتفت ضبه, فقل ما تفتض بشيء إلا مات, ثم تخرج, فتعطى البعرة, فترمى بها, ثم تراجع بعدما شاءت من طيب أو غيره. وسُئل مالك: ماتفتض .. ؟ قال: تمسح به جلدها.

الحِفْش: بيت صغير لا يكاد يتسع للتقلُّب والمجال. ومنه التحفش: وهو التجمع والتقبض. وقولها: تَفْتَضّ, هو من فضضت الشيء إذا كسرته أو فرقته, ومنه قوله الله عز وجل: (لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ). والمعنى: أنها كانت تكسر ما كانت فيه من الحداد بتلك الدابة. وقال مالك: معنى ذلك أن تمسح بها جلدها. وقال الأخفش: تفتض, معناه تتنظف به وتتنقَّى. قال: وهو مأخوذ من الفِضَّة تشبيهًا له بنقائها وبياضها. ومعنى الرَّمي بالبَعرة أي/ أن حِداد السنة في جَنب ذِمام الزوج بمنزلة البَعْرة.

(48) (باب القسط للحادة عند الطهر)

(48) (باب القُسْط للحادَّة عند الطهر) 1018/ 5341 - قال أبو عبدالله: حدثنا عبدالله بن عبدالوهاب قال: حدثنا حماد بن زيد, عن أيوب, عن حفصة, عن أم عطية قالت: كنا نُنهى أن نحدَّ على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرًا ولا نكتحل ولا نتطيب ولا نلبس ثوبًا مصبوغًا إلا ثوب عصب, وقد رُخص لنا عند الطهر إذا (اغتسلت) إحدانا من محيضها ثم, في نُبذةٍ من كُسبٍ وأظفار, وكنا نُنهى عن اتباع الجنائز. العَصبُ من الثياب: البُرود والحِبَر ونحوها, وسُمي عصبا لأن غزله يُعصب ويُصبغ قبل أن يُنسج. والكُست: هو كستير القُسْط الهندي. والنُّبذة: اليسير من كل شيء.

(69) (كتاب النفقات)

(69) (كتاب النفقات) (10) (باب حفظ المرأة زوجها في ذات يده والنفقة) 1019/ 5365 - قال أبو عبدالله: حدثنا على بن عبدالله قال: حدثنا سفيان قال: أخبرني ابن طاوس, عن أبيه وأبو الزِّناد, عن الأعرج, عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: خير نساءٍ ركبن الإبل نساء قريش. وقال: صالح نساء قريش أحْنَاهُ على ولد في صغَره وأرعاه على زوج في ذات يده. قوله: أحناه من الحنِّو وهو العطف والشفقة. وقوله: أرعاه من الإرعاء وهو الإبقاء. يقال: رعاه من الرِّعاية يرعاه رِعاية وأرعى عليه من الإبقاء ارعاء.

كتاب الأطعمة

كتاب الأطعمة (باب الخُبز المرقق, والأكل على الخِوان والسُّفرة) 1020/ 5388 - قال أبو عبدالله: حدثنا محمد قال: حدثنا أبو معاوية قال: حدثنا هشام, عن أبيه, وعن وهب ابن كيسان قال: كان أهل الشام يُعَيِّرون ابن الزبير يقولون: يا ابن ذات النطاقين, فقالت له أسماء: يا بُني إنهم يُعيِّرونك بالنطاقين هل تدري ما كان النطاقان؟ إنما كان نِطاقي/ شققته نصفين, فأَوكَيتُ قِربة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحدهما وجعلت في سُفرَته آخَر. قال: وكان أهل الشام إذا عَيَّروه بالنطاقين يقول: إيهًا والإله: تلك شَكاَةٌ ظاهِرٌ عنك عَارُها. قوله: إيهًا, معناه الاعتراف بما كانوا يقولونه والتقرير لذلك من قولهم تقول العرب في استدعاء الشيء إيهًا وإيه وإيه غير مُنَوَّن. وقوله: تلك شكاة, إنما هو مِصْراع بيت الهُذَلي وهو قوله:

وعَيَّرها الواشُون أني أحبها وتلك شكاة ظاهر عنك عارُها يقول: لا بأس بهذا القول ولا عار فيه عليك, ومعنى ظاهر عنك, أنه قد ارتفع عنك ولم يتعلق بك والظهور على الصعود على الشيء ولا الارتفاع فوقه. ومنه قوله: (وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ)

(12) (باب المؤمن يأكل في معى واحد)

(12) (باب المؤمن يأكل في مِعىً واحد) 1021/ 5396 - قال أبو عبدالله: حدثنا إسماعيل قال: حدثني مالك, عن أبي الزناد, عن الأعرج, عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يأكل المسلم في مِعىً واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء. ومعنى هذا الكلام: أن المؤمن الممدوح بإيمانه بالمُستحق لشرائط كماله يُقِلُّ الطَّعم ويكتفِي باليسير منه ويؤثِر على نفسه لما يرجو من ثوابه, وأن الكافر يستكثر منه ويستأثر به لا يدَّخر للآخرة ولا ينظر للعاقبة وبذلك وُصفوا في قوله تعالى: (وَيَاكُلُونَ كَمَا تَاكُلُ الْأَنْعَامُ) وقوله: (وَتَاكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا) , وليس وجه الحديث أن من كان كثير الأكل لا يُشبعه القليل من الطعام, كان ناقص الإيمان, فقد ذُكر عن غير واحد من أفاضل السلف وصالحي الخلف: أنهم كانوا يستوفون الطعام وينالون منه النيل الصالح, فلم يكن ذلك وَصْمةً في دينهم ولا نقصًا/ في إيمانهم.

وقد قيل: إن معناه أن في المؤمن البركة تضاعف له, فيُشبعه القليل, وفي الكافر عدم البركة فلا يشبعه إلا الكثير. وقد رُوي أن ذلك إنما قيل في رجل بعينه.

(الباب نفسه) 1022/ 5397 - قال أبو عبدالله: حدثنا سليمان بن حرب قال: حدثنا شُعبة, عن عَدِي بن ثابت, عن أبي حازم, عن أبي هريرة أن رجلاً كان يأكل أكلًا كثيرًا فأسلم, فكان يأكل أكلًا قليلًا, فذُكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن المؤمن يأكل في مِعىً واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء. يعنى أن المؤمن يأكل بُلْغة وقُوتًا عند الحاجة, والكافر يأكل شهوة وحرصًا للذة, وجَريًا على ذميم العادة. وقد قيل: إن الناس في الأكل على طبقات, فطائفة يأكلون كل ما وجدوا مطعُومًا عن حاجة (إليه) وعن غير حاجة وهذا فِعل أهل الجهل والغفلة الذين شاكلت طِباعهم طباع البهائم. وطائفة يأكلون إذا جاعوا, فإذا ارتفع الجوع أمسكوا وهذه عادة المقتصدين من الناس المتماسكين منهم في الشمائل والأخلاق. وطائفة يتجوَّعون ويرتاضون الجوع قمعًا لشهوات النفوس, فلا يأكلون إلا عند الضرورة ولا يزيدون منه على ما يَكسِر غَربَ الجوع وهذا من عادة الأبرار وشمائل الصالحين الأخيار.

(13) (باب الأكل متكئا)

(13) (باب الأكل متَّكئًا) 1023/ 5398 - قال أبو عبدالله: حدثنا أبو عبدالله: حدثنا أبو نُعيم قال: حدثنا مِسعَر, عن علي بن (الأَقْمر) , سمعت أبا جُحَيفة يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا آكل متكئًا. المتكئ: هو الذي اقتعد وسادة أو اعتمد وِطاءً, وإنما يفعل ذلك من ينصب الموائد وينقل الألوان ويستكثر من الطعام يقول صلى الله عليه وسلم: / إني لا أفعل ذلك, لكني آكل العُلقة وأجتزئ باليسير من الطُّعم, فأقعد مُسْتَوفِزًا وأقوم عنه مستعجلًا.

(18) (باب النهش, وانتشال اللحم)

(18) (باب النهش, وانتشال اللحم) 1024/ 5404 - قال أبو عبدالله: حدثني عبدالله بن عبدالوهاب قال: حدثنا حماد قال: حدثنا أيوب, عن محمد, عن ابن عباس: تَعَرَّق رسول الله صلى الله عليه وسلم كَتِفًا, ثم قام فصلَّى ولم يتوضأ. 1025/ 5405 - وعن أيوب وعاصم, عن عِكرمة, عن ابن عباس قال: انتشل النبي صلى الله عليه وسلم عَرْقًا من قِدر, فأكل, ثم صلى ولم يتوضأ. التعرق: أخذ ما على العَرق من اللحم. وقوله: انتشل, يعني أنه أخرج اللحم من القِدْر قبل أن يستحكم نُضجه وهو النشيل. ويقال للعُود الذي يُستخرج به اللحم من القِدر المِنشل.

(23) (ما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يأكلون)

(23) (ما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يأكلون) 1026/ 5413 - قال أبو عبدالله: حدثنا قُتيبة قال: حدثنا يعقوب, عن حازم قال: سألت سهل بن سعد: هل أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم النقِيَّ؟ فقال سهل: ما رأى رسول الله عليه وسلم (القى)؟ من حين ابتعثه الله حتى قبضه الله. قال قلت: كيف كنتم تأكلون الشعير غير منخول؟ قال: كنا نطحنه ونثفُخُه, فيطير ما طار وما بقِي ثريناه, فأكلناه. قوله: ثريناه, أي بللناه بالماء, وأصله من الثرى وهو التراب النَّدِي.

(8) (باب التلبينة للمريض)

كتاب الطب (8) (باب التلبينة للمريض) 1027/ 5689 - قال أبو عبدالله: حدثنا حِبَّان بن موسى قال: أخبرنا عبدالله قال: حدثنا يونس بن يزيد, عن عقيل, عن ابن شهاب, عن عروة, عن عائشة أنها كانت تأمر بالتلبين للمريض وللمحزون على الهالك وكانت تقول: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن التلبينة تُجِمُّ فؤاد المريض, وتذهب ببعض الحُزن. التلبينة: ذكر الأصمعي أنها حساء يعمل من دقيق أو من نُخالة ويجعل فيه عسل. قال بعضهم: ولا أراها سميت تلبينة إلا تشبيها لها باللبن / لبياضها ورقَّتها.

(32) (باب الحلوى والعسل)

كتاب الأطعمة (32) (باب الحلوى والعسل) 1028/ 5431 - قال أبوعبدالله: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي, عن أبي أسامة, عن هشام قال: أخبرني أبي, عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحب الحلواء والعسل. قلت: حُبُّه صلى الله عليه وسلم الحلواء ليس على معنى كثرة التشهي لها شدَّة نزاع النفس إليها, تأنُّق الصنعة في اتخاذها فعل أهل الشره والنهم, وإنما هو أنه هو أنه كان إذا قُدَّم إليه الحلواء نال منها نيلًا صالحًا من غير تعذير, فيعلم بذلك أنه قد يُعجبُهُ طعمها وحلاوتها. هذا وجه الحديث ومذهبه, وفيه دليل على جواز اتخاذ الحلاوات والأطعمة من أخلاط شتى وكان بعض أهل الورع يكره ذلك ولا

يترخصُ لأن يأكل من الحلاوة إلا ما كان حلوًا بطبعه وجَوهره كالعسل والتمر ونحوها من غير أن يُخلطا بلتٍ أو دسم, واسم الحلواء لا يقع إلا على ما دخلته الصَّنعة وجمع أن يكون حلاوة ودسمًا مستهلكين في ثفل

(43) (باب العجوة)

(43) (باب العَجْوة) 1029/ 5445 - قال أبو عبدالله: حدثنا جُمعه بن عبدالله قال: حدَّثنا مروان قال: أخبرنا هاشم بن هاشم قال: أخبرنا عامر بن سعد وعن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من تصبَّح كل يوم بسبع تمراتٍ عجوة, لم يضره في ذلك اليوم سمٌّ ولا سِحر. قوله: تصبَّح, يعني أكلها صباحًا قبل أن يطعم شيئًا, وكونها عوذةٌ من السُّم والسحر إنما هو من طريق التبرك لدعوةٍ سبقت من النبي صلى الله عليه وسلم فيها, لا لأن من طبع التمر أن يصنع شيئًا من ذلك والله أعلم.

(48) (باب من أدخل الضيفان عشرة عشرة والجلوس على الطعام عشرة عشرة)

(48) (باب من أدخل الضيفان عشرة عشرة والجلوس على الطعام عشرةً عشرة) 1030/ 5450 - قال أبو عبدالله: حدثنا الصَّلتُ بن محمد قال: حدثنا حماد بن زيد, عن الجعد أبي عثمان, عن أنس, وعن سنان بن أبي ربيعة, عن أنس أن أم سُليم أمَّه عمدت إلى مُدٍّ/ من شعير جشَّتْه وجعلت منه خطيفةً وعصرت عليه عُكّه عندها, ثم بعثتني إلى النبي صلى الله عليه وسلم فدعوته. الخطيفة: سمعت أبا عمر يقول: هي الكَبُولاء ويقال أنما سميت خطيفة لأنها تُخطف بالملاعق والأصابع.

(54) (باب ما يقول إذا فرغ من طعامه)

(54) (باب ما يقول إذا فرغ من طعامه) 1031/ 5458 - قال أبو عبدالله: حدثنا أبو نعيم قال: حدثنا سفيان, عن ثور, عن خالد بن معدان, عن أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع مائدته قال: الحمد لله كثيرًا طيبًا مباركًا فيه غير مكْفِى ولا مُودّع ولا مُستغنى عنه ربّنا. قوله: غير مكفى, أي غير محتاج إلى الطعام (فَيُكفي) , لكنّة يُطعم ويكفي, وقوله: ولا مودع, أي: غير مستغني عنه ولا متروك الطلب إليه والرغبة فيما عنده وكل من استغنى عنه شيء تركه. ومن هذا المعنى قول الله عزَّ وجل: (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى) قيل فيه: ما تركك منذ أرسلك وما أبغضك منذ أحبك وقيل: ما أخلاك ربُّك من صنعه.

(58) (باب إذا حضر العشاء فلا يعجل عن عشائه)

(58) (باب إذا حضر العشاء فلا يعجل عن عشائه) 1032/ 5465 - قال أبو عبدالله: حدثنا محمد بن يوسف قال: حدثنا سفيان, عن هشام بن عُروة, عن عائشة, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أقيمت الصلاة وحضر العشاء فابدؤوا بالعشاء. هذا مُضمن بشرطٍ, وهو أن يكون صائمًا قد خوى. أو بعيد العهد بوجود الطعام قد تاقت نفسه إليه حتى يعوقه ذلك عن إيفاء الصلاة حقها. فقيل له: خُذ حاجتك من الطعام لتطمئن نفسك وتسكن إلى الصلاة.

كتاب العقيقة

كتاب العقيقة (1) (باب تسمية المولود غداة يولد لمن يعق عنه وتحنيكه) 1033/ 5467 - قال أبو عبدالله: حدثنا إسحاق بن نصر قال: حدثنا أبو أسامة قال: حدثني بُريد, عن أبي بردة عن أبي موسى قال: ولد لي غلامٌ فأتيتُ به النبي صلى الله عليه وسلم, فسماه إبراهيم وحنكه بتمره, ودعا له بالبركة ورفعه/ إلىَّ وكان أكبر ولد أبي موسى. فيه بيان أنه سمَّى المولود حين حنَّكه ولم يؤخِّره إلى مضيِّ الأسبوع على ما يذهب إليه كثير من الناس. وقد روى من طريق الحسن, عن سمرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم في المولود, يخلق يوم سابعه ويُسمى. وممن ذهب من الفقهاء إليه واستحب أن تكون أن تكون التسمية يوم السَّابع: مالك بن أنس.

(2) (باب إماطة الأذى عن الصبي في العقيقة)

(2) (باب إماطة الأذى عن الصَّبي في العقيقة) 1034/ 5471 - قال أبو عبدالله: حدثنا أبو النعمان قال: حدثنا حماد بن زيد, عن أيوب, عن محمد, عن سلمان بن عامر قال: مع الغلام عقيقته. 1035/ 5472 - وقال أصبغُ: أخبرني ابن وهب, عن جرير بن حازم, عن أيوب السختياني, عن محمد بن سيرين قال: حدثنا سلمان بن عامر الضبيِّ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: مع الغلام عقيقته, فأهريقُوا عنه دمًا وأميطوا عنه الأذى. العقيقة: اسم الشاةِ التي تذبح عن المولود ويقال: سُميت عقيقة لأنها تُعقُّ مذابحها, أي تُشقّ وتقطع. ويقال بل أصُل العقيقة الشَّعر الذي يحلق, وقد يستدل بقوله: فأهريقُوا عنه دمًا, من يرى الشاة الواحدة مجزية في الغلام. وإليه ذهب مالك بن أنس

وذهب الشافعي وأحمد وإسحاق إلى حديث أم كُرْز: عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة وأما قوله: وأميطوا عنه الأذى, فَفِيه أقاويل: قال محمد بن سيرين: لمَّا سمعنا هذا الحديث طلبنا من يعرف معناه فلم نجد. أخبرنا محمد بن هاشم, عن الدَّبَريِّ, عن عبدالرزاق, عن معمر.

وقيل: إن المراد بالأذى شعره الذي عَلِق به دم الرحم, فيُماط عنه بالحلق. وقيل إنهم كانوا يُلَطِّخون رأس الصبي بدَم العقيقة وهو أذى, فنهى عن لطخه بالدم.

(3) (باب الفرع)

(3) (باب الفَرَع) 1036/ 5473 - قال أبو عبدالله: حدثنا عبدان قال: حدثنا عبدالله قال: أخبرنا معمر, أخبرنا الزُّهريّ, عن ابن المسَيَّب, عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا فرع ولا عَتِيرة. والفرَع: أول النِّتاج كانوا يَذبحونه لطواغيتهم. والعتيرة في رجب. قد جاء تفسير العتيرة: النسيكة التي تُعتَر, أي: تُذبح وكان أهل الجاهلية يذبحونها في رجب ويسمونها الرَّجيبة, فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عنها. وكان ابن سيرين من أهل العلم يذبح العتيرة في شهر رجب.

وأما الفَرَع: فهو أول ما تلِده الناقة, وكانوا يذبحون ذلك لآلهتهم في الجاهلية, فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك من فعلهم.

(2) (باب صيد المعراض)

كتاب الذبائح والصيد (2) (باب صيد المِعْرَاض) 1037/ 5476 - قال أبو عبدالله: حدثنا سليمان بن حرب قال: حدثنا شُعبة, عن عبدالله بن أبي السفر, عن الشعبي قال: سمعت عَدِيَّ بن حاتِم قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عم المعراض فقال: إذا أصاب بحَدّه فَكْل, وإذا أصاب بعَرضِه فقَتَل, فإذا وَقِيد, فلا تأكل. فقلت: أُرسِل كَلبي. قال: (إذا) أَرسلتَ كلبَكَ وسمَّيت فكُل. قلت: أُرسِلُ كلبي. قال: فلا تأكل, فإنه لم يُمسك عليك, إنما أمسك على نفسه. قلت: أرسل كلبي, فأجد معه كلبًا آخر قال: لا تأكل, فإنك (إنما) سمَّيت على كلبك ولم تسمِّ على آخر.

(3) (باب ما أصاب المعراض بعرضه)

(3) (باب ما أصاب المِعْراض بعَرضِه) 1038/ 5477 - قال أبو عبدالله: وحدثنا قَبيصة قال: حدثنا سفيان, عن منصور, عن إبراهيم, عن همام بن الحارث, عن عَدِي بن حاتم قال: قلت يا رسول الله: إنا نُرسل الكلاب المُعلَّمة. قال: كل ما أمسَكْن عليك. قلت: وإن قَتلن؟ قال: وإن قتلن. قلت: إنا نرمي المعراض قال: كُلُّ ما خَرَق, وما أصاب بعَرضه فلا تأكل. المِعْراض: نَصْل عريض له ثِقَل ورزانة, إذا (وقع) بالصيد من قِبَل حَدّه, فجَرَحَه أو قطع شيئًا من جلده ذكَّاه, وهو معنى قوله: فخرق -وإن أصاب بعرضه فقتل الصيد فهو وقيذ؛ لأن عَرضه لا يخرق ولا يسلك إلى داخله وإنما قتله بثقله ورزانته, كما إذا أصابه بحَجَر أو مَدَر أو نحوهما. وقوله: وإذا أصاب بعرضه/ فقتل, فإنه وَقيذ, إنما اشترط القتل في كونه وَقيذًا, لأنه إذا كان قد أثبته ولم يقتله, فأدرك ذكاته, حلَّ له أكاه, فلم يكن وقيذًا.

وقوله: إذا أرسلت كلبك وسمَّيت فكُل, فإن ظاهره يُوجب أنه إذا لم يكن سمَّى لم يَحلَّ أكله. وإليه ذهب أصحاب الرأي إلا أنهم قالوا: إن لم يكن تَركُه التسمية عَمدًا جاز أكله, وتأوله من لا يرى التسمية باللسان إرساله للكلب على قصد الاصطياد لا يكون في ذلك لاهيًا أو لاعبًا لا قصد له في ذلك. وقوله: فإن أكل فلا تأكل, فيه البيان أن الكلب إذا أكل من الصيد حَرُم أكله لأنه إنما أمسكه على نفسه. وإنما قال الله عز وجل: (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) وكذلك الحكْم في الفهد (وما) كان معناهُما من جوارح السِّباع واختلفوا في جوارح الطير فقال بعضهم: حكمها حكم الكلاب في أن لا تُؤكل. وذهب آخرون: إلى أنه يُؤكل وإن كانت منه لأنه البازي يُعلم بالطعم, والكلب يعلَّم بترك الطعم. فأما إذا خالط الكلب المعلم, الذي أرسله صاحبه كلاب أُخر فشاركته في قتل الصيد, فإنه لا يُؤكل لأن أصل المصيد على الحظر فلا يُؤكل إلا بيقين وقوع الذكاة, فهما تيقَّن (وقوعها) على الشرط الذي أباحته الشريعة, وإلا فهو على أصله في الحظر.

(8) (باب الصيد إذا غاب عنه يومين أو ثلاثة)

(8) (باب الصيد إذا غاب عنه يومين أو ثلاثة) 1039/ 5484 - قال أبو عبد الله: حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا ثابت بن يزيد قال: حدثنا عاصم, عن الشعبي, عن عدي بن حاتم, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أرسلت كلبك وسمَّيتَ فأمسَك وقتل فكُل, فإن أَكَل فلا تأكل, فإنما أمسك على نفسه وإذا خالط كلابًا لم يُذكر اسم الله عليها فأمسكن وقتلن, فلا تأكل فإنك لا تدري أيها قَتل وإن رميت الصيد فوجدته بعد يوم أو يومين ليس به إلا أَثرُ/ سَهمِك فكل وإن وقع في الماء فلا تأكل.

(8) (الباب نفسه)

(8) (الباب نفسه) 1040/ 5485 - وقال عبد الأعلى, عن داود, عن عامر, عن عَدِي أنه قال للنبي صلى عليه وسلم: يَرمي الصيد, فيقتفِر أثرهُ اليومين والثلاثة ثم يجده ميتًا وفيه سهمه. قال: يأكل إن شاء. قلت: إنما نهاه عن أكله إذا وجده في الماء لإمكان أن يكون الماء هو الذي أهلكه, فيكون خروج نفسه به لا بالسهم الذي هو آلة الذكاة, وكذلك إذا رأى فيه أثرًا لغير سهمه لأنه لا يدري من الذي رماه من مُسلم أو مجوسي أو غيرهما, ولعلَّ المسلم الذي رمى إنما قصد بالرمي غيره, فضاف السهم إليه فأصابه. فأما إذا رَمَياه وهما مسلِمان, فانتَظمه السهمان, فإنهما شريكان فيه وكذلك إذا أرسلا كلبين معلَّمين فأصاباه معًا, فهما شريكان فيه, كما إذا أصاباه بالسهمين سواء.

وقوله: يُقتَفر, معناه يتبع. يقال: اقتفرت الشيء إذا اتبعت أثره. وفيه دليل على أنه أغفل تتبعه وأتى عليه شيءٌ من الوقت, ثم وُجِد مَيتا, فإنه لا يأكله وإن كان فيه سهمه, وذلك إذا تتبَّعه فلم يلحقه إلا بعد اليوم واليومين فهو معذور والذكاة واقعة بإصابة السهم في وقت كونه ممتنعًا غير مقدور عليه, فأما إذا لم يتبعه لأدركه قبل أن يموت, فذكاه ذكاة المقدور عليه في الحَلْق واللَّبَّة, فإذا أغْفَل ذلك مع القدرة عليه وصار في حكم الميتة المقدور على ذكاتها تُحرج في بعض أعضائها وتترك حتى تهلك بألم الجراحة.

(14) (باب آنية المجوس والميتة)

(14) (باب آنية المجوس والميتة) 1041/ 5496 - قال أبو عبدالله: حدثنا أبو عاصم, عن حيوة بن شُريح قال: حدثني أبو إدريس الخولاني قال: حدثني أبو ثعلبة الخشني قال: قلت يا رسول الله: إنا بأرض أهل الكتاب نأكل في آنيتهم. قال: لا تأكلوا في آنيتهم إلا أن لا تجدوا بدًا, فإن تجدوا بدا فاغسلوه وكلوا. هذا إنما جاء في أواني المجوس ومن يذهب مذهبهم في مسَّ بعض النجاسات واستعماله في طُهورهم كأبوال البقر ونحوها وكذلك فيمن يعتاد أكل لحوم الخنازير, فإنه لا تستعمل أوانيهم إلا بعد إعواز غيرها وعند الضرورة المؤدية إليها وبعد الغُسل والتنظيف لها. فأما من كان مذهبه توقى النجاسات والتنزه منها, فإن أصل آنيتهم وثيابهم على الطهارة حتى يظهر خلافها.

وكان مالك بن أنس فيمن استعار منهم قِدرًا قد نصبوها مرارا وتداخلها ودك الخنزير: يُغلى الماء على النار وتغسل به في الاحتياط.

(الباب نفسه) 1042/ 5497 - قال أبو عبدالله: حدثنا المكي بن إبراهيم قال: حدثنا يزيد بن أبي عبيد, عن سلمة بن الأكوع قال: لما أمسوا يوم فتحوا خيبر أوقدوا النيران. قال النبي صلى الله عليه وسلم: علام أوقدتم النيران؟ قالوا: لحوم الحُمُر الإنسية. قال: أهريقوا ما فيها وكسروا قدورها. فقام رجل من القوم فقال: نهريق ما فيها وتغسلها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم أوذاك. قوله: كسروا قدورها. فيه دليل على أن بعض العنف والتغليظ عند ظهور المنكر وغلبة أهله جائز ليكون ذلك حسمًا لموادِّه وقطعًا لدواعيه وقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بشقّ المشاعل والزقاق عند تحريم الخمر, وهي أموال وظروف قد يصلح أن تستعمل وينتفع بها في غير باطل ولكن ذلك لما اتصل بالمصلحة العامة لم يُراع فيه المعنى الخاص الذي هو حق الملك لأعيان معدودين وكان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يرى العقوبة في/ الأموال كَهِي في الأبدان إذا رأى ذلك في الرَّدع أبلغ, وعن المنكرات

أزجر, وسلك مالك بن أنس هذا الطريق في بعض مذاهبه. ورأى الأوزاعي وأحمد بن حنبل أن يُحرق رحل الغال ومتاعه في المغانم وهذا إنما يستعمله الأئمة ومن يقيمونه مقامهم وليس لآحاد الناس وإن بلغوا في الصلاح كل مبلغ أن يتعاطوا شيئًا من ذلك لما يتوقع من فتنته ويتخوف من وقوع الفساد بسببه ولا للأئمة أم يفعلوا شيئًا من ذلك مع وقوع الغُنية عنه. ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له: نُهريق ما فيها وتغسلها. قال: أو ذاك. وذلك أنه لما رآهم قد سلّموا الحكم وقبلوا الحق وضع عنهم الإصر الذي أراد أن يُلزمهم إياه عقوبة على فعلهم ومراعاة الحدود أولى والانتهاء إليها أوجب. قال الله تعالى (تِلْكَ حُدودُ الله فلا تَعْتَدُهَا ومَنْ يَتَعَدَّ حُدودَ الله فأولئك هم الظالمون)

(13) (باب أكل الجراد)

(13) (باب أكل الجراد) 1043/ 5495 - قال أبو عبدالله: حدثنا أبو الوليد قال: حدثنا شُعبة, عن أبي يعفور قال: سمعت ابن أبي أوفى يقول: غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم سبع غزوات أو ستًّا- كنا تأكل معه الجراد. قلت: أكل الجراد مباح على عُموم الأحوال عند أكثر العلماء لا يفرقون بين ما مات منه بعد أن يؤخذ وبين ما وجد منه ميتًا, وسكوت الحديث عن تفصيل أمره دليل على التسوية فيه على اختلاف أحواله. وذهب مالك بن أنس في الجراد إلى أن ما وُجد منه حيًا ثم قطع أو شوى شيًّا فلا بأس بأكله, وما أخذ حيًّا فغفل عنه حتى يموت فلا يؤكل وإنما هو بمنزلة ما وجد ميتَا قبل أن يُصاد لأنه من صيد البر وأنَّ ذكاته قَتله.

وقال اللَّيث بن سعد: أكره الجراد ميتًا/, فأما ما أُخذ وهو حيُّ فمات, فلا يرى بأكله بأسًا. وقال مالك في المجوسي: يصطاد الجراد لا يؤكل. وأكثر أهل العلم على إباحته والمسلم والمجوسي في صيده سواء لأن ميتته بمنزلة الذّكي. قلت: وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أُحلت لنا ميتتان ودمان إلا أن أصحاب الحديث لا يرتضون طريقه.

(21) (باب ذبيحة الأعراب ونحوهم)

(21) (باب ذبيحة الأعراب ونحوهم) 1044/ 5507 - قال أبو عبدالله: حدثنا محمد بن عبيد الله قال: حدثنا أسامة بن حفص المديني, عن هشام بن عُروة, عن أبيه, عن عائشة -رضي الله عنها- أنَّ قومًا للنبي صلى الله عليه وسلم: أنَّ قومًا يأتوننا باللحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا؟ قال: سموا عليه وكُلُوه. قالت: وكانوا حديثي عهد بالكفر فيه من العلم: أن ما يوجد في أيدي الناس من اللحوم في أسواق بلدان المسلمين وما يحمل إليها على أيدي الأعراب والأكراد وما كان من بلادهم من أهل الإسلام متاخمةً لبلاد أهل الكفر وكان عهدهم حديثًا بالإسلام, فإن الظاهر من أمره الإباحة, وكذلك الألبان والأجبان التي تعقد بالأنافخ, وقد يحتمل أن تكون ميتةً أو من ذكاة المجوس, لأن غالب الظن بمن كان من أهل دين الإسلام أنه لا يُطعم المسلمين اليته, وكذلك هذا فيما يحمل من

البراري من الطير والعصافير المذبوحة ونحوها, هذا مما لم يعلم سبب يعرض من أجله الشَّك في شيء منها, فإذا كان شيءٌ من ذلك فالورع أن يُجتنب حتى يستبرأ أمره (فيُعلم من أين مخرجه) وكذلك الأمر في طعام البلدان التي حاز ضياعها بعض الولاة على سبيل الغصب تستبرأ ويتفقد الأمر فيها. وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بعثت/ إليه أم عبدالله أخت شداد بن أوس بقدح لبن عند فِطره وذلك في طول النهار وشدّة الحر, فردّ إليها الرسول: أني لك هذا اللبن؟ قالت: من شاةٍ لي, فردَّ إليها الرسول: أني لك هذه الشاة؟ ألا ترى لما ارتاب سأل وبحث عن الطعام وأصله حتى استبان الأمر فيه.

(25) (باب ما يكره من المثلة والمصبورة والمجثمة)

(25) (باب ما يُكره من المُثلةِ والمصبُورة والمُجثَّمة) 1045/ 5513 - قال أبو عبدالله: حدثنا أبو الوليد قال: حدثنا شُعبة, عن هشام بن زيد قال: دخلت مع أنس بن مالك على الحَكَم بن أيوب, فرأى غلمانًا أو فتيانًا نصبوا دجاجةً يرمونها. فقال أنس: نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تُصْبَر البهائم. قوله: تُصْبَر: تُحبس على القتل. وأصل الصَّبر الحبس. ومنه يمين الصّبر ويدخل ذلك في باب المثلة. وقد روى أنه نهى عن المجثمة وهي الصبورة بعينها, وبين المُجثَّة والجاثمة فرق, فالجاثمة هي التي جثمت بنفسها, فإذا صِيدت على تلك الحال لم تُحرَّم, والمُجثمة: هي التي رُبطت وحُبست قهرًا, فإذا رميت حتى تهلك حَرُمت.

(26) (باب لحم الدجاج)

(26) (باب لحم الدجاج) 1046/ 5517 - قال أبو عبدالله: حدثنا يحيى قال: حدثنا وكيع, عن سفيان, عم أيوب, عن أبي قِلابة, عن زَهْدَم الجرمي, عن أبي موسى قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يأكل دجاجًا. فيه أنه صلى الله عليه وسلم أكل لحوم الطّير وهي من رقيق الطّعام وناعمه على خلاف من أنكر من أهل التقشف تناول الأطعمة الرَّقيقة. وفيه أنه لم يتنزه من أكلها مع إحاطة العلم بها وقد تتناول من العَذرة ونحوها من الأشياء التي هي غير نظيفة ومع نهيه عن لحوم الجلاَّلةِ إلا أنًّ الجَلاَّلة هي التي غالب علفها الجلة وهي العذرة,

فأما إذا لم تكن غالب العَلَف فليس من جُملة الجلالة المنهي عنها. وقد يحتمل أن يكون ما أكله النبي صلى الله عليه وسلم/ من الدجاج محبوسًا في بيت يَعلِف الحَبَّ ونحوه من طِيبِ العلَف ولم يكن مُرسلًا أماكن النجاسات.

(30) (باب جلود الميتة)

(30) (باب جُلود الميتة) 1047/ 5531 - قال أبو عبدالله: حدثنا زُهير بن حرب قال: حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال: حدثنا أبي, عن صالح قال: حدثني ابن شهاب أن عبيد الله بن عبدالله أخبره أن عبدالله بن عباس أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ بشاة ميتة فقال: هلا استمتعتم بإهابها؟ قالوا: إنها ميتة. قال إنما حَرُمَ أكلها. الإهاب: الجِلد. وظاهر الحديث على أن ما عدا اللحم والمأكول من أجزائها غير محرَّم وإلى (هذا) ذهب ابن عباس, وقد يحتجُّ بهذا الحديث من لا يرى الدِّباغ عامِلًا في تطهير جِلدِ غير المأكول من أجل أنه زعم أن الإباحة إنما جاءت في إهاب الشاء وهي مأكولة, وزعموا أن الدباغ لا يزيد في التطهير على الذكاة, لكنه يَخْلُفُها, والذكاة لا تطهر غير الحيوان المأكول اللحم, فالدِّباغ الذي يخلُفها أولى بأن لا يطهِّره. ومن أطلق الحُكم فيه نوع الحيوان الطاهر الذات مُشْفَعًا

به قبل الموت كان الدباغ شاملًا بالتطهير مقام الحياة فيه. وقوله: هلاَّ استمتعتم بإهابها, دليل على جواز الانتفاع بها في جميع أنواع المتع على اختلاف أحوالها.

(31) (باب المسك)

(31) (باب المِسْك) 1048/ 5534 - قال أبو عبدالله: حدثنا محمد بن العلاء قال: حدثنا أبو أسامة، عن يزيد، عن أبي بُردة، عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مثَّل الجليس الصالح والسَّوء كحامل المِسْكِ ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يُحْذِيَك، وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحًا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحًا خبيثة. قوله: يُحذيك/، يعني يَهَبُ لك الشيء منه يقال: أحذيت الرجل أُحذيه: إذا أعطيته الشيء وأتحفته به. ويقال: للهدية على البشارة الحُذيَّا. تقول: ما الحذيا إن أخبرتك بما يسرُّك؟ فيقول: كذا وكذا. وفيه دليل على طهارة المِسك وجواز بيعه.

(33) (باب الضب)

(33) (باب الضَّبِّ) 1049/ 5537 - قال أبو عبدالله: حدثنا عبدالله بن مسْلَمَة، عن مالك، عن ابن شهاب، عن أبي أمامة بن سهل، عن عبدالله بن عباس، عن خالد بن الوليد أنه دخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت ميمونة فأتي بضَبٍّ محنوذ. المحنوذ: المشويُّ على رَضْفِ الحجارة. ومنه قول الله عز وجل: (جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ)

(4) (باب ما يشتهى من اللحم يوم النحر)

كتاب الأضاحي (4) (باب ما يشتهى من اللحم يوم النحر) 1050/ 5549 - قال أبو عبدالله: حدثنا صَدَقة قال: حدثنا، يعني ابن (عليَّة)، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر: كم كان ذبح قبل الصلاة فليُعِد. فقام رجل فقال يا رسول الله: إن هذا يوم يُشتهى فيه اللحم -وذكر جيرانه- وعندي جذعَة خير من شاتَيْ لحم، فرخص له، فلا أدري الرخصة من سواه أم لا؟، ثم انكفأ النبي صلى الله عليه وسلم إلى كبشين فذبحهما، وقام الناس إلى غنيمة فتوزعوها أو يقال: فتجزعوها. قوله: تجزَّعوها، يعني اقْتسموها قِطَعًا وحصَصًا. والجزعة: القطعة من الشيء ويقال البقية منه.

(2) (باب الخمر من العنب وغيره)

كتاب الأشْرِبَة (2) (باب الخمر من العِنَب وغيره) 1051/ 5579 - قال أبو عبدالله: حدثنا الحسن بن صَبَّاح قال: حدثنا محمد بن سابق قال: حدثنا مالك بن مِغْول، عن نافع، عن ابن عمر قال: لقد حرِّمت الخمر وما بالمدينة منها شيء. يُريد: خمر العنب، وكانت الأعناب بها قليلة، إنما كان خمرهم الفَضِيخ وهو البُسْر يُفضَخ والتمر, فإذا نشَّ شُرِبَ، وإنما أراد أن الحكم في التحريم لم يتعلق بغير الخمر المعروفة عندهم، فكلُّ ما أسكر من شراب فهو حرام. وقد ذهب بعض الناس إلى أن الخمر إنما هي من عصير العنب/ فقط. وذهب غير واحد من فقهاء الكوفة إلى إنما هي من العنب

والرطب. وقد رُوِي عن عمر أنه قال: إنما الخمر من هاتين الشجرتين، يعني الكَرمَة والنخلة، والمعنى الذي أراده بهذا القول: أن معظم الخمر إنما هو من عصير هاتين الشجرتين ولم يدفع أن تكون الخمر من غيرهما.

(5) (باب ما جاء في أن الخمر ما خامر العقل من الشراب)

(5) (باب ما جاء في أن الخمر ما خامَر العقل من الشراب) 1052/ 5588 - قال أبو عبدالله: حدثنا أحمد بن أبي رجاء قال: حدثنا يحيى، عن أبي حيان التيمي، عن الشعبي، عن ابن عمر قال: خطب عمر على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنه قد نزل تحريم الخمر وهي خمسة أشياء؛ العنب والتمر والحنطة والشعير والعسل. والخمر: ما خامر العقل. قال: قلت: يا أبا عمرو فشيء يصنع بالسند من الرزّ. قال: ذلك لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قال: على عهد عمر. قلت: هذا يدل على أن قول عمر: الخمر من هاتين الشجرتين، معناه معظم الخمر من هاتين الشجرتين، كما تأولناه، وإنما عَدَّ عمر هذه الأنواع الخمسة من الخمور لاشتهار أسمائها في زمان عمر، ولم تكن جماعتها توجد بالمدينة الوجود العام، فإن الحنطة كانت بها عزيزة، والعسل مثلها أو أعزُّ منها، إنما كان يتخذ

شراب العسل باليَمن، وكانوا يسمُّونه البتع، فعدَّ عمر ما عرف منها وجعل ما في معناها مما يُتَّخذ من الأرز أو غيره خمرًا بمثابتها، إذ كان يُخامر العقل فيُسْكِرُ كإسكارها. وفي قوله: الخمر ما خامر العقل، دليل على جواز الاسم بالقياس وأخذه من طريق الاشتقاق. وزعم قوم أن العرب لا تعرف النبيذ المُتخذ من التمر خمرًا. فيقال: إن الصحابة الذين سمَّوا الفَضِيخَ خمرًا عرب فُصحاء، فلو لم يصلح هذا الاسم لها لم يُطِلقُوه عليها.

(4) (باب الخمر من العسل, وهو البتع)

(4) (باب الخمر من العسل, وهو البِتْع) 1053/ 5586 - قال أبو عبدالله: حدثنا أبو اليمان قال: أخبرنا شعيب, عن الزُّهري قال: أخبرني أبو سلمة بن عبدالرحمن أن عائشة قالت:/ سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البِتْع- وهو نبيذ العسل وكان أهل اليمن يشربونه- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل شراب أسكر فهو حَرام. قلت: أشار صلى الله عليه وسلم إلى الشراب الذي هو جِنس المشروب وجعله حراما, فدخل فيه قليله وكثيره بأي اسم سُمي وبأية صفة حُدَّ وهو معنى قول عمر: والخَمْر ما خامر العقل. وفيه إبطال قول من زعم أن الإشارة بالمسكر في قوله صلى الله عليه وسلم ما أسكر كثيره فقليله حرام, إنما وقعت إلى الشَّربة الآخرة أو إلى الجُزء الذي يظهر السكر على شاربه عند شربه. قُلت: ومعلومٌ من طريق العادة والمعقول أنَّ الإسكار لا يختص بجزء من الشَّراب دون جزء, وإنما تُوجد أجزاء السُّكر في

أجزاء المشروب, على سبيل التعاون كالشبع بالمأكول والريّ بالماء المشروب, وكل أمر يؤدي إلى نقض المعارف فهو منقوض وليس في المعارف أن يكون فعل الجُزء من الشيء أكثر من فعل كُلَّه, وهذا مُحالٌ وليس يخلو الشراب الذي يسكر كثيره إذا كان في الإناء من أن يكون حلالاً أو حرامًا, فإن كان حراما لم يجز أن يشرب منه قليلٌ وإن كان حلالاً لم يجز أن يحرم منه شيءٌ. فإن قيل: إنَّ الشراب حلالٌ في نفسه ولكن الله تعالى نهى أن يُشرب منه ما يُزيل العُقول. قيل: فينبغي أن تكون الشربة التي تزيل العقل وتُسكر معلومةً يعرفها كل شارب, إذ غير جائز أن يحرم الله على خلقه شيئًا ويتعبدهم به ولا يجعل لهم السبيل إلى معرفة ما حرَّم, ومعلوم أن طباع الناس مختلفة, فقد يسكر الواحد بالمقدار الذي لا يسكر صاحبه بشرب مثله, وإذا قِيس هذا بطبائع الناس لم يضبط ولم يعلم, والتعبد لا يقع إلا بالأمر/ المعلوم وإلا لم تقم له الحُجَّة وما أدى إلى هذا كان بادي العوار ظاهر الفساد. وقال قائل: إن الناس لما اختلفوا في الأشربة وأجمعوا على تحريم خمر العنب واختلفوا فيما سواه, لزمنا ما أجمعوا على تحريمه وأبحنا ما سواه وهذا خطأ فاحش, وقد أمر الله المتنازعين أن يردوا ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول, فكل مختلف فيه من الأشربة مردود إلى تحريم الله وتحريم رسوله الخمر, وقد ثبت عن رسول الله صلى

الله عليه وسلم قوله: كُلُّ شراب أسكر فهو حرام, فأشار إلى الجنس بالاسم العام والنعت الخاص الذي هو علة الحُكم, فكان ذلك حجّةً على المختلفين, ولو لزم ما ذهب إليه هذا القائل للزم مثله في الربا والصرف ونكاح المتعة لأن الأمة قد اختلفت فيها. فلو قال قائل: كان الرِّبا مباحًا قبل أن يحرم, فلما حرم نظرنا إلى ما أجمعوا عليه, فحرمناه وأبحنا ما اختلفوا فيه, فلا بأس بالدرهم والدرهمين يدًا بيد, وإنما يحرم منه ما يكون غائبًا بناجز, وكذلك الأمر في المتعة, فلما لم يلزم هذا وكان الحُكم لما ورد به التحريم في الفضة بالفضة إلا مِثلاً بمثل, يدًا بيد, ولما ثبت من تحريم المتعة ولم يلتفت إلى ما سوى ذلك كان الأمر كذلك في اختلافهم في الأشربة لما قال صلى الله عليه وسلم: كل شراب أسكر فهو حرام, وما أسكر كثيره فقليله حرام وكل مسكر خمر في عدَّة أحاديث لانشك في ثبوتها لم يلتفت إلى الاختلاف ولم يُعتد به, وليس الاختلاف حُجّةً. وبيان السُّنة حجة على المختلفين من الأولين والآخرين.

(23) (باب اختناث الأسقية)

(23) (باب اختِناثِ الأسقية) 1054/ 5625 - قال أبو عبدالله: حدثنا آدم قال: حدثنا ابن أبي ذئب, عن/ الزهري, عن عُبيد الله عن عبد الله بن عتبة, عن أبي سعيد الخدري قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اختناث الأسقية, يعني أن تكسر أفواهها فيشرب منها. والتفسير: أحسبه عن الزَّهري. قلت: ومن هذا اشتق اسم المخنث وذلك لتكسره وتثنيه. ويقال: إنما نهى عن ذلك لأنه قد يغير ريح السّقاء ويكون ذلك أيضًا من أجل ما عساه يكون في السّقاء من أذى ينزل إلى جوفه وهو لا يشعر.

(28) (باب آنية الفضة)

(28) (باب آنية الفضة) 1055/ 5634 - قال أبو عبدالله: حدثنا إسماعيل قال: حدثني مالك بن أنس, عن نافع, عن زيد بن عبدالله بن عُمر, عن عبدالله بن عبدالرحمن بن أبي بكر الصديق, عن أم سلمة -زوج النبي صلى الله عليه وسلم- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجرُ في بطنه نار جهنم. أصل الجرجرة: هدير الفحل إذا اهتاج. ويقال: جَرْجَر الفحل إذا هدر في شقشقته, ومثله جرجرة الرَّحا. وفي إعرابه وجهان: أحدهما: أن ترفع النار, أي كأنه يصوت في بطنه نار جهنم. والوجه الآخر: أن ينصبها, أي كأنه يجرع في شربه نار جهنم لقوله عزَّ وجل: (إنَّما يَأكلون في بُطونهم نَارًا).

وقال الشّافعي -رحمة الله-: أكره أن يُشربَ في الإناء المُضبب بالفضة لئلا يكون شاربًا على فضَّة ولم يكره علم الحرير في الثوب وإن كان النهي قد جاء عن لُبسه للرجال, فأباح قليله ولم يبح قليل الفضة في الإناء, وقد يجوز أن يكون الفرق بينهما أن لباس الحرير قد أبيح لجنس الإناث وأبيح لبعض الذُّكران عند الضرورة لمن به حكة ولمن كان بإزاء جرب, فيكون واقيةً له, فرخَّص في قليله إذا كان علمًا في ثوب وأما الشرب في الفضة, فإنما حرم من أجل/ المخيلة والسَّرَفِ وهو محرم على الرجال والنساء جميعًا, فلم يرخص في قليله وجعل حكمه حُكم كثيره.

(30) (باب الشرب من قدح النبي صلى الله عليه وسلم وآنيته)

(30) (باب الشُّربُ من قدح النبي صلى الله عليه وسلم وآنيته) 1056/ 5637 - قال أبو عبدالله: حدثنا سعيد بن أبي مريم قال: حدثنا أبو غسان, قال: حدثني أبو حازم, عن سهل بن سعد قال: ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم امرأة من العرب, فأمر أبا أُسيد الساعدي أن يُرسل إليها, فأرسل إليها, فقدمت, فنزلت في أُجم بني ساعدة, فخرج النبي صلى الله عليه وسلم, فدخل عليها, فإذا امرأة منكسة رأسها, فلما كلّمها صلى الله عليه وسلم قالت: أعوذ بالله منك. فقال: قد أعذتك مني فقالوا لها: أتدرين من هذا؟ قالت: لا. قالوا: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء ليخطبك قالت: كنت أنا أشقى من ذلك. الأُجُم والأطم واحد الآجام والآطام وهي أبنيةٌ عاليةٌ شبه القصور. وفيه دليل جواز نظر الخاطب إلى وجه المخطوبة إذا أراد أن يتزوجها.

(6) (باب ما جاء فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه)

(6) (باب ما جاء فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه) 1057/ 5590 - قال أبو عبدالله: وقال هشام بن عمار: حدثنا صدقة بن خالد قال: حدثنا عبدالرحمن بن يزيد بن جابر قال: حدثنا عطية بن قيس الكلابي, حدثني عبد الرحمن بن غنم الأشعري قال: حدثني أبو عامر قال: أخبرنا أبو مالك الأشعري: والله ما كذبني, سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لينزلن أقوام إلى جنب علم يروح عليهم بسارحة لهم,

يأتيهم (يعني الفقير) (لحاجةٍ فيقولوا) ارجع إلينا غدًا, فيبيتهم الله ويضع العلم ويمسخ آخرين قردةً وخنازير إلى يوم القيامة. العَلَم: الجبل المرتفع. وفيه بيان أن المسخ قد يكون في هذه الأُمة وكذلك الخسف, كما كانا في سائر الأمم, خلاف قول من زعم أن ذلك لا يكون وإنما مسخها بقلوبها.

كتاب المرضى

كتاب المرضى (1) (باب ما جاء في كفارة المرض) 1058/ 5641 - قال أبو عبدالله: حدثنا عبدالله بن محمد قال: حدثنا عبدالملك بن عمرو بن حلحلة, عن عطاء بن يسار, عن أبي سعيد الخُدري, عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزنٍ ولا أذى ولا غمٍ حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه. النصب: التعب. والوصب: المرض والسقم. وقوله: يُشاكها, أي: يصاب بها. يقال: شاكت رجلي شوكةٌ, إذا دخلت في رجلك, وشكت الشوكة: إذا وطئت عليها فأصابك حدّها.

(8) (باب ترخيص النبي صلى الله عليه وسلم في الأوعية والظروف بعد النهي)

كتاب الأشْربة (8) (باب ترخيص النبي صلى الله عليه وسلم في الأوعية والظروف بعد النهي) 1059/ 5596 - قال أبو عبدالله: حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا عبدالواحد قال: حدثنا الشيباني، سمعتُ عبدالله بن أبي أوفى: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الجَرِّ الأخضر. قلت: أيشرَب في الأبيض؟ قال: لا. قلت: لم يعلق الحُكم في قوله بخضرة الجر وبياضه إنما تعلَّق بالإسكار وذلك أن الجرار أوعية متينة قد تغيَّر فيها الشراب ولا يُشعر به، فنُهوا عن الانتباذ فيها وأمروا أن ينتبذوا في الأسقية لرقتها، فإذا تغير الشراب لم يلبث أن ينشقَّ السِّقاء فيكون أمارة يُعلم بها تغيُّره، فيُجتنب، وإنما جرى ذِكر الخُضرة من أجل أن الجِرار التي كانوا ينتبذون فيها كانت خضرًا، فأشير إليها بالعُرف الجاري فيها والأبيض بمثابتِه، والآنية لا تحرم شيئًا ولا تحله. وعَلَم الحُكم في تحريم الشِّراب ظهور الشدَّة فيها، فإذا ظَهرت حَرُم ومالم تظهر فهو على أصل الإباحة.

(1) (باب ما جاء في كفارة المرض)

كتاب المرضى (1) (باب ما جاء في كفارة المرض) 1060/ 5643 - قال أبو عبدالله: حدثنا مُسدَّد قال: حدثنا يحيى، عن سفيان، عن سعد -هو ابن إبراهيم- عن عبد الله ابن كعب، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مثَل المؤمن كالخامَة من الزرع تُفيئها (الريح) مرَّة وتعدلها مرَّة ومثل المنافق كالأرزة لا تزال حتى يكون انجعافُها مرة واحدة.

(1) (باب ما جاء في كفارة المرض. وقول الله تعالى: (من يعمل سوءا يجز به))

(1) (باب ما جاء في كفارة المرض. وقول الله تعالى: (مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ)) 1061/ 5644 - قال أبو عبد الله: حدثنا إبراهيم بن المنذر قال: حدثني محمد بن فليح قال: حدثني أبي، عن هلال بن علي، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة قال/ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مثل المؤمن كمثل خامة زرع من حيث أتتها الريح كفأتها، فإذا تعدلت تكفأ بالبلاء. والفاجر كالأرزة صمَّاء معتدلة حتى يقصمَها الله إذا شاء. الخامة: أول ما ينبت من الزرع على ساق. والأرزة: مفتوحة الراء من الشجر واحدة الأرَز. ويقال: هو شجر الصنوبر. والانجعاف: الانقلاع. يقال: جعفت الرجل، إذا صرعْته. وقوله: كفأتها، يعني قلبْتها. والصماء: الصلبة المُكتنزة ليست بجوفاء خوَّارة. يقال: حجر أصم وصخرة صماء. والقَصْم: الكَسْر.

(19) (باب تمني المريض الموت)

(19) (باب تمنِّي المريض المَوت) 1062/ 5673 - قال أبو عبدالله: حدثنا أبو اليمان قال: أخبرنا شعيب، عن الزهري قال: أخبرني أو عبيد -مولى عبدالرحمن بن عوف- أن أبا هريرة قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لن يدخل أحدًا عمله الجنة. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل ورحمة، فسددوا وقاربوا ولا يتمنَّ أحدكم الموت إما مُحسنًا فلعله أن يزداد خيرًا، وإما مسيئًا فلعله أن يٍسْتعتب. قوله: يتغمدني الله، معناه يغمرني الله برحمة منه وإذا اشتملت على شيء فغطيته من تحتك، فقد تغمدته. وقد يحتمل أن يكون معناه أنه صار له كالغمد للسيف؟ وقوله: يستعتب، يعني يسترضي، يريد التوبة والإنابة. يقال: استعتبت الرجل، إذا استرضيته، فأعتبني، أي: صار إلى الرضا عني. ومنه قوله تعالي: (وَإِن يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ).

(1) (ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء)

كتاب الطب (1) (ما أنزل الله داءً إلا أنزل له شِفاء) 1063/ 5678 - قال عبد الله: حدثنا محمد بن المثنى قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري قال: حدثنا/ عمر بن سعيد بن أبي حُسين قال: حدثنا عطاء بن أبي رباح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء. فيه إثبات الطب وإباحة التداوي في عوارض الأسقام، وفيه الإعلام أن تلك الأدوية تشفى وتنْجَع بإذن الله عز وجل.

(3) (باب الشفاء في ثلاث)

(3) (باب الشفاء في ثلاث) 1064/ 5681 - قال أبو عبد الله: حدثنا محمد بن عبد الرحيم قال: أخبرنا سُريج بن يونس قال: حدثنا مروان بن شُجاع، عن سالم بن الأفْطَس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أحْسب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الشفاء في ثلاثة: في شَرطَة مِحْجم أو شربة عسل أو كَيَّة نار، وأنا أنهى أمتي عن الكيِّ. قلت: هذه القسمة في التداوي منتظمة جملة ما يتداوى به الناس وذلك أن الحَجْم يستَفْرغ الدم وهو أعظم الأخلاط وأنجحها شفاء عند الحاجة إليه، والعسل مُسهل، وقد يدخل أيضًا في المعجونات المُسهلة ليحفظ على تلك الأدوية قواها فيسهل الأخلاط التي في البدن. وأما الكيِّ؛ فإنما هو الداء العضال الخِلطُ الباغي الذي لا يُقدَر على حَسْم مادَّته إلا به وقد وصفه النبي صلى الله عليه

وسلم، ثم نهى عنه نهي كراهة لما فيه من الألم الشديد والخطَر العظيم، ولذلك قالت العرب في أمثالها: آخر الداء الكي، وقد كوى صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ على أبجَلِهِ واكتوى غير واحد من الصحابة بعده.

(4) (باب الدواء بالعسل، وقول الله تعالى: (فيه شفاء للناس))

(4) (باب الدواء بالعسل، وقول الله تعالى: (فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ)) 1065/ 5683 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو نُعيم قال: حدثنا عبدالرحمن بن الغسل، عن عاصم بن عمر بن قتادة قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: إن كان في شيء من أدويتكم أو يكون في شيء من أدويتكم خير ففي شَرْطة محْجم أو شَربة عسل أو لذْعَة بنار توافق الداء وما أُحِبُّ أن أتكتوي. وقد ذكرنا في مسألة أفردناها في الطب وبيان ما جاء في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم من وصف التداوي والعلاج أن الطب على نوعين: الطب القِياسي وهو طب/ اليونانيين الذي استعمله أكثر الناس في واسطة بلدان أقاليم الأرض، وطب العرب والهند وهو الطب التجاربي وذكرنا من شرح الجملة هناك ما فيه غنية وبلاغ إذا تأملت أكثر ما يصِفه النبي صلى الله عليه وسلم من الداء، فإنما هو على مذهب العرب إلا ما خص به العِلم النبوي الذي طريقه

الوحي، فإن ذلك فوق كل ما يدركه الأطباء أو يحيط بحُكمِه الحُكماء والألباء، وقد يكون بعض تلك الأشفية من ناحية التبرك بدعائه وتعويذه ونفثه وكل ما قاله من ذلك وفعله صوابٌ وحَسَنٌ بعصمة الله إياه أن يقول إلا صدقًا وأن يفعل إلا حقًا.

(الباب نفسه) 1066/ 5684 - قال أبو عبد الله: حدثنا عباس بن الوليد قال: حدثنا عبد الأعلى قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أبي المتوكل، عن أبي سعيد أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أخي يشتكي بطنه فقال: اسقه عسلًان ثم أته الثانية فقال: اسقه عسلًا، ثم أتاه فقال: قد فعلت. فقال: صدق الله وكذب بطن أخيك، اسقه عسلًا، فسقاه، فبرأ.

(24) (باب دواء المبطون)

(24) (باب دواء المبطون) 1067/ 5716 - قال أبو عبدالله: حدَّثنا محمد بن بشار قال: حدَّثنا محمد بن جعفر قال: حدَّثنا شُعبةُ, عن قتادة, عن أبي المتوكل عن أبي سعيد قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنَّ أخي استطلق بطنه فقال: اسقه عسلاً, فسقاه, فقال: إني سقيته, فلم يزده إلا استطلاقا. فقال: صدق الله وكذب بطن أخيك. قلت: هذا مما يحسب كثير من الناس أنه مخالف لمذهب الطب والعلاج وذلك أن الرجل إنما جاءه يشكو إليه استطلاق البطن فكيف يصف له العسل وهو مطلق؟ قلت: ومن عرف شيئا من أصول الطب ومعانيه علم صواب هذا التدبير/ وذلك أن استطلاق بطن هذا الرجل أنما كان من هيضة حدثت من الامتلاء وسوء الهضم والأطباء كلهم يأمرون صاحب الهيضة بأن يترك الطبيعة وسومها لا يمسكها وربما أمدت بقوة مسهلة حتى تستفرغ تلك الفضول, فإذا فرغت تلك الأوعية من تلك الفضول, فربما أمسكت من ذاتها وربما عولجت بالأشياء القابضة والمقوية إذا خافوا سقوط القوة, فخرج الأمر في

هذا مذهب الطب مستقيما حين أمر صلى الله عليه وسلم بأن تُمد الطبيعة بالعسل لتزداد استفراغا حتى إذا قذفت تلك الفضول وتنقت منها وقفت وأمسكت وقد يكون ذلك أيضًا من ناحية التبرك تصديقًا لقول الله عزَّ وجلَّ: (فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ). وما يصفه النبي صلى الله عليه وسلم من الدواء لشخص بعينه فقد يكون ذلك بدُعائه وتبريكه وحُسن أثره ولا يكون ذلك حكمًا عامًا في الأعيان كلها, فعلى هذا المذهب يجب حمل مالا يخرج على مذهب الطّب القياسي وإليه يجب توجيهه والله أعلم.

(7) (الحبة السوداء)

(7) (الحبة السوداء) 1068/ 5688 - قال أبو عبدالله: حدثنا يحيى بن بكير قال: حدثنا الليث, عن عقيل, عن ابن شهاب قال: أخبرني أبو سلمة وسعيد بن المسيب أن أبا هريرة أخبرهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: في الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا السام. قال الزهري: السام: الموت والحبة السوداء: الشونيز. قلت: وهذا من عموم اللفظ الذي يراد به الخصوص؛ إذ ليس يجتمع في طبع شيء من النبات والشجر جميع القوى التي تقابل الطبائع كلها في معالجة الأدواء على اختلافها وتباين طبائعها وإنما أراد أنه شفاء من كل داء يحدث من الرطوبة والبلغم وذلك أنه/ حار يابس, فهو شفاء بإذن الله للداء المقابل له في الرطوبة والبرودة وذلك أن الدواء أبدا بالمضاد والغذاء بالمشاكل.

(7) (الباب نفسه)

(7) (الباب نفسه) 1069/ 5687 - قال أبو عبدالله: حدثنا عبدالله بن أبي شيبة قال: حدثنا عبيد الله قال: حدثنا إسرائيل, عن منصور, عن خالد بن سعد قال: خرجنا ومعنا غالبُ بن أبجَرَ, فمرض في الطريق, فقدمنا المدينة وهو مريض, فعاده ابن أبي عتيق فقال لنا: عليكم بهذه الحبيبة السوداء, فخذوا منها خمسًا أو سبعًا, فاسحقوها ثم اقطروها في أنفه بقطرات زيت في هذا الجانب وفي هذا الجانب, فإنَّ عائشة حدثتني أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن في الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا من السام.

قلت: أما السَّعُوطُ بها على ما وصفه ابن أبي عتيق فليس ذلك في الحديث وإنما هو شيء من قبل نفسه, ثم روى عن عائشة ما رواه غيره ولم يزد عليه شيئا, ولعل (صاحبه) الذي وصف له السعُوط كان مزكومًا والمزكوم ينتفع برائحة الشونيز.

(17) (باب من اكتوى أو كوى غيره, وفضل من لم يكتو)

(17) (باب من اكتوى أو كوى غيره, وفضل من لم يكتو) 1070/ 5705 - قال أبو عبدالله: حدثنا عمران بن ميسرة قال حدثنا ابن فضيل قال حدثنا حصين, عن عامر عن عمران بن حُصين قال: لا رُقية إلا من عين أو خُمة, فذكرته لسعيد بن جبير قال: حدثنا ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عرضت عليَّ الأمم وساق الحديث إلى أن قال: فإذا سوداءٌ قد ملأ يعني آفاق السماء, قيل: هذه أمَّتك ويدخل الجنة من هؤلاء سبعون ألفًا بغير حساب هو الذين لا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون: فقال عكاشة بن محصن: أمنهم أنا يا رسول الله قال: نعم. فقال آخر: أمنهم أنا, قال: سبقك بها عكاشة. قوله: لا رُقية إلا من عين أو حمةٍ, معناه لا رقية أولى وأشفى من رقية العين وكان صلى الله عليه وسلم يرقي/ولديه الحسن والحسين -رضي الله عنهما- فيقول: أعيذكما بكلمات الله التامة من

شر كل شيطان وهامةٍ ومن كل عين لامة. والحمةُ: سم كل شيء يلدغ أو يلسع, وقد ثبت أن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رقى لديغًا بفاتحة الكتاب وأخذ عليه جعلا, فطيبه له رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ما أدراك أنها رُقية؟ فإذا كانت الرُّقية بالقرآن وبأسماء الله فهي مباحة وإنما جاءت الكراهة فيما كان منها بغير لسان العرب, فإنه يكون كفرا أو قولاً يدخله شرك. فأما قولهم: هم الذين لا يسترقون, فليس في ثنائه على هؤلاء ما يبطل جواز الرقية التي قد أباحها ووجه ذلك أن يكون تركها من ناحية التوكل على الله والرضا بما يقضيه من قضاء وينزله من بلاء, وهذا من أرفع درجات المؤمنين المتحققين بالإيمان, وقد ذهب هذا

المذهب من صالحي السلف أبو الدرداء وغيره من الصحابة, وروى ذلك عن أبي بكر الصديق وعبدالله بن مسعود, وقد يحتمل أن يكون الذي كره من الرقية ما كان منها على مذهب التمائم التي كانوا يتعلقونها والعوذ التي كان أهل الجاهلية يتعاطونها يزعمون أنها ترفع عنهم الآفات ويرون معظم السبب في ذلك من قبل الجن ومعونتهم, وهذا النوع من الرقى محظور على أهل الدين, محرم عليهم التصديق بها والاعتقاد لشيء منها. وأما الطيرة: فلا خفاء بأمرها, وبما يجب من اجتنابها وإضافة الخير والشر فيها إلى الله عزّ وجل لا شريك له.

(19) (باب الجذام)

(19) (باب الجُذام) 1071/ 5707 - قال أبو عبدالله: حدثنا عفان: حدثنا سليم بن حيان قال: حدثنا سعيد بن ميناء قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا عدوى ولا طيرة ولا صفر وفِرَّ/ من المجذوم فرارك من الأسد. قوله: لا عدوى, يريد أن شيئًا لا يعدى من قبل ذاته وطبعه وما كان من ضرر وفساد, فإنما هو بمشيئة الله وقضائه وقدره ولذلك قال صلى الله عليه وسلم حين قيل: جرب بعير, فأجرب مائة بعير, فمن أعدى الأول يريد أن الأول إذا كان مضافًا إلى الله عزّ وجل, فالثاني بمثابته. وقد قيل في هذا وجه آخر وهو أن المراد به بعض الأدواء والعاهات دون بعض, وذلك كالطاعون يقع ببلد فيهرب منه خوفًا من العدوى, فنهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إذا كان ببلد فلا تدخلوه, وإذا كان بالبلد الذي أنتم به فلا تخرجوا منه, أي: كأنكم تظنون أن الفرار من قدر الله ينجيكم منه.

ومعنى قوله: لا تدخلوه, أي: ليكون أسكن لنفوسكم وأطيب لعيشكم. والنوع الآخر منه: ما كان مثل الجُذام ونحوه, فإن المجذوم تشتد رائحته حتى يتضرر به من أطال مجالسته ومؤاكلته وربما نزع ولده إليه ولذلك جعل للمرأة الخيار إذا وجدت الزوج مجذومًا. وقد ذهب بعضهم في معنى ذلك إلى أنه إنما أمره بالفرار منه لأنه إذا رآه صحيح البدن سليمًا من الآفة التي به عظمت حسرته على ذلك واشتدَّ أسفه ما ابتلي به ونسي سائر نعم الله عليه, فأمر بالفرار منه لئلا يكون سببًا للزيادة في محنة أخيه وبلائه. وأما الهامة: فإنما أراد بها إبطال قول أهل الجاهلية في أن عظام الموتى تصير هامة فتطير وكانوا يسمون ذلك الطائر: الصدى وكان ذلك من ترهاتهم وأباطيلهم. وأما قوله: ولا صفر, فقد اختلفوا في تفسيره فقال بعضهم: هو حيةٌ تكون في البطن تصيب الماشية/والناس. قال: وهي أعدى من الجرب.

وقال آخرون: معناه إبطال النسيء في أشهر الحرم وكانوا المُحَرَّم ويرِّحمون مكانه شهر صفر. وأما الطيرة: فمعروفة وقد تقدم الكلام فيها فيما مضى من الكتاب.

(21) (باب اللدود)

(21) (باب اللَّدود) 1072/ 5713 - قال أبو عبد الله: حدثنا على بن عبدالله قال: حدثنا سفيان، عن الزهري، أخبرني عبيد الله عن أم قيس قال: دخلت بابن لي على النبي صلى الله عليه وسلم وقد أعلقت عليه من العُذْرة فقال: علامَ تَدْغَرْنَ أولادكن بهذا العِلاق .. عليكن بهذا العود الهندي، فإن فيه سبعة أشفية منها ذات الجَنْب يسعط من العذرة ويلدُّ من ذات الجنب. وسمعت الزهري يقول: بيَّن لنا اثنين ولم يبين خمسة. قلت لسفيان: فإن معمرًا يقول: أعلقت (عليه) قال: لم يحفظ. إنما قال: أعلقت عنه، حفظته من في الزهري. قلت: أكثر المحدثين يروونه أعلقت عليه، كما روى معمر،

والصواب: ما حفظه سفيان. قال ابن الأعرابي: يقال: أعلقت عن الصبي، إذا عالجت منه العذرة وهي وجع الحلق وذلك أن تحنِّك بالإصبع، أي: ترفع حنكه بإصبعك. وقوله: علامَ تدغرن أولادكن، فإن الدغر: الدفع. يقول: لم تدفعن ذلك بأصابعكن فتؤلمنهم وتؤذينهم بذلك. وقوله: بهذا العلاق. صوابه أن يقال بهذا الإعلاق مصدر أعلقت عنه وأراد بالعود الهندي القسط. قلت: وقد سألت الأطباء عن هذا العلاج، فلم يثبتوه إلا أن محمد بن العباس بن جهضم المصري ذكر لي أنه قد قرأ لبعض قدماء الأطباء: إن ذات الجنب إذا حدثت من البلغم نفع منه القسط البحَري والله أعلم.

(28) (باب الحمى من فيح جهنم)

(28) (باب الحُمّى من فيح جهنم) 1073/ 5723 - قال أبو عبد الله: حدثنا يحيى بن سليمان قال: حدثني ابن وهب قال: حدثني مالك، عن نافع، عن ابن عمر/، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الحُمّى من فَيح جهنم فأطفئوها بالماء.

(28) (الباب نفسه)

(28) (الباب نفسه) 1074/ 5725 - قال أبو عبد الله: حدثنا محمد بن المثنى قال: حدثنا يحيى (حدثنا هشام) قال: أخبرني أبي، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الحُمَّى من فيح جهنم فأبردوها بالماء. قلت: هذا مما قد غلِط فيه بعض يُنتسب إلى العلم فانغمس في الماء لما أصابته الحمى، فاحتقنت الحرارة في باطن جسده، فأصابته علّة صعبة كاد يهلك فيها، فلما خرج من علّته قال قولًا فاحشًا لا يُحسن ذكره وذلك لجهله بمعنى الحديث، وذهابه عنه بتبريده الحُمِّيات الصفراوية بسقي الماء الصادق البرد ووضع أطراف المحموم فيه أنفع العلاج وأسرعه إلى إطفاء نارها، وكسر لهيبها، وإنما أمر بإطفاء الحمى وتبريدها بالماء على الوجه دون الانغماس وغط الرأس فيه.

(28) (الباب نفسه)

(28) (الباب نفسه) 1075/ 5724 - وقد روى أبو عبد الله في هذا الكتاب ما يشبه هذا المعنى قال: حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن هشام، عن فاطمة بنت المنذر أن أسماء بنت أبي بكر كانت إذا أتيت بالمرأة قد حمت تدعو لها، أخذت الماء، فصبّته بينها وبين جيبها وقالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نبردها بالماء. وقد روي من غير هذا الطريق فأبردوها بماء زمزم وهذا إنما هو من ناحية التبرك به، وقد قال صلى الله عليه وسلم في زمزم إنها

طعام طُعم وشفاء سُقم، وبلغني عن الأنباري أنه كان يقول: معنى قوله: فأبردوها بالماء، أي: تصدقوا بالماء عن المريض يشفه الله لما روي أن أفضل الصدقة سقي الماء.

(30) (باب ما يذكر في الطاعون)

(30) (باب ما يُذْكر في الطاعون) 1076/ 5729 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن يوسف قال: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن عبدالحميد بن عبد الله بن زيد بن الخطاب، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل، عن عبدالله بن عباس أن عمر بن الخطاب/ -رضي الله عنه- خَرج إلى الشام حتى إذا كان بِسَرَغ لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام: وساق الحديث في استشارته إياهم واختلاهم عليه إلى أن قال: فنادى (عمر) في الناس إني مُصبح على ظَهْر، فأصبحوا عليه. قال أبو عبيدة: أفرارًا من أقدار الله؟ فقال عمر: لو غير قالها يا أبا عبيدة: نعمر: نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل

هبطت واديًا له عُدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة، أليس إن رعيْت الخصبة رَعيتها بقدر الله وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله. قال: فجاء عبد الرحمن بن عوف وكان متغيِّبًا في بعض حاجته فقال: إن عندي في هذا عِلمًا، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا سمعتم به بأرض، فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها فِرارًا منه. قال: فحَمِد الله عمر، ثم انصرف. قوله: عدوتان. يقال لشاطئ الوادي العُدوة. ويقال: إن أكثر ما يكون ذلك صلابة يقال: عِدوة -بكسر العين-وعُدوة- بضمها وقرئ: () بالوجهين معًا. وفيه أن عمر -رضي الله عنه- قد استعمل الحَذَر وأثبت القدر معًا وهو طريق السنة ونهج السلف الصالح رحمة الله عليهم. ومعنى قوله: إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، أي: ليكون أسكن لنفوسكم وأقطع لما يوسوس به الشيطان إليكم، وإذا كنتم به فلا تخرجوا فرارًا منه، فتكونوا قد عارضتم القدر وادعيتم الحول والقوة في الخلاص منه.

(35) (باب رقية العين)

(35) (باب رقية العين) 1077/ 5739 - قال أبو عبد الله: حدثنا محمد بن خالد قال: حدثنا محمد بن وهب بن عطية الدمشقي قال: حدثنا محمد بن حرب قال: حدثنا محمد بن الوليد الزبيدي قال: أخبرنا الزهري، عن عروة بن الزبير، عن زينب/ -بنت أبي سلمة- عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في بيتها جارية في وجهها سَعفة فقال: استرقوا لها، فإن بها النظرة. الأصل في السُّفْع بالناصية، يريد أن بها مسًا من الجن وأخذًا منها بالناصية.

وقوله: فإن بها النظرة, يريد بها العين ويقال: عيون الجن أنفذ من أسنّة الرّماح وقد روينا أنه لما مات سعد بن عبادة سمعوا قائلاً من الجن يقول: قتلنا سيد الخزرج ... سعد بن عبادة رمينا بسهمين ... فلم نخطى فؤاده

(36) (باب العين حق)

(36) (باب العين حق) 1078/ 5740 - قال أبو عبدالله: حدثنا إسحاق بن نصر قال: حدثنا عبدالرزاق, عن معمر, عن همّام, عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: العين حقُّ. معنى قوله: العين حقّ, أي: الإصابة بالعين حقُّ وأن لها تأثيرًا في النفوس والطباع إبطالاً لقول من يزعم من أصحاب الطبيعة أنه لا شيء إلا ما تدركه الحواس والمشاعر الخمسة وما عداها فلا حقيقة له. قلت: والفرق بين الرقية التي أمر النبي بها صلى الله عليه وسلم وبين ما كرهه ونهى عنه من رقية العزَّامين وأصحاب النشر ومن يدعي تسخير الجن لهم أن ما أمر به صلى الله عليه وسلم وأباح استعماله منها هو ما يكون بقوارع القرآن والعوذ التي يقع منها ذكر الله عز وجل وأسماؤه على ألسن الأبرار من الخلق والأخيار الطاهرة نفوسهم, فيكون ذلك سببًا للشفاء بإذن الله, وهو الطب الروحاني, وعلى هذا كان معظم الأمر في الزمان المتقدم الصالح أهله وبه كان يقع الاستشفاء واستدفاع أنواع البلاء, فلما عزَّ وجود

هذا الصنف من أبرار الخليقة وأخيار البرية فزع الناس إلى الطِّب الجسماني حين لم يجدوا للطب الروحاني نجوعًا في العلل والأسقام لعدم المعاني التي كان يجمعها الرقاة والمعوذون والمستشفون بالدعوات الصالحة والبركات/ الموجودة فيهم. وأما التي نهى عنها صلى الله عليه وسلم, فهي أمور مشتبهة مركبة من حق وباطل, يجمع إلى ظاهر ما يقع فيها من ذكر الله تعالى ما يُستسرُّ به من ذكر الشياطين والاستعانة بهم والتعوذ بمردتهم وإلى نحو هذا المذهب ينحو أكثر من يرقي من الحية ويستخرج السم من بدن الملسوع. ويقال: إن الحية لما بينها وبين الإنسان من العداوة الجوهرية تؤالف الشياطين؛ إذ هي أعداءٌ لبني آدم والعداوة بين الجنسين وبين الآدمي عداوة جوهرية فإذا عزم على الحية بأسماء الشياطين أجابت وخرجت من أماكنها ومكامنها, وكذلك اللديغ إذا رُقي بتلك الأسماء سالت سمومها وجرت في مواضعها من بدن الإنسان فلذلك كُره من الرقي مالم يكن بذكر الله وأسمائه وبكتابه وباللسان الذي يُعرف بيانه ويفهم معناه ليكون بريئًا من شوب الشرك والله اعلم.

(24) (باب الشروط في الرقية بفاتحة الكتاب)

(24) (باب الشروط في الرقية بفاتحة الكتاب) 1079/ 5737 - قال أبو عبدالله: حدثنا سيدان بن مُضارب أبو محمد الباهلي قال: حدثنا أبو معشر يوسف بن يزيد بن البراء قال: حدثني عبيد الله بن الأخنس أبو مالك, عن ابن مليكة, عن ابن عباس أن نفرًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مروا بماء فيهم لديغ أو سليم, فعرض لهم رجل من أهل الماء فقال: هل فيكم من راقٍ؟ فانطلق رجلٌ منهم, فقرأ بفاتحة الكتاب على شاء فبرأ, فجاء بالشاء إلى أصحابه, فكرهوا ذلك وقالوا: أخذت على كتاب الله أجرًا حتى قدموا المدينة فقالوا يا رسول الله: أخذ على كتاب الله أجرًا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله عزّ وجل. السليم: اللديغ, وفي تسميته سليمًا قولان: أحدهما: أن يكون ذلك منه على مذهب التفاؤل ليسلم,/ كما قيل للفلاة مفازة وهي مهلكة, أي: ليفوز صاحبها وينجو من الهلكة فيها.

والقول الآخر: أنه أسلم وترك للإياس من برئه. وفي قوله: إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله ما يقطع الشبهة في جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن وجواز كونه مهرًا في النكاح وعلى جواز بيع المصحف الذي فيه القرآن والإجارة عقد معاوضة كالبيع.

(44) (باب الفأل)

(44) (باب الفأل) 1080/ 5755 - قال أبو عبدالله: حدثنا عبدالله بن محمد قال: حدثنا هشام قال: حدثنا معمر, عن الزهري, عن عبيد الله بن عبدالله بن عتبة, عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا طيرة, وخيرها الفأل. قال: وما الفأل يا رسول الله؟ قال: الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم. أخبرني أبو محمد الكراني قال: حدثنا عبدالله بن شبيب قال: حدثنا زكريا بن يحيى المنقري قال: حدثنا الأصمعي قلت لابن عون: ما الفأل؟ قال: أن تكون مريضًا, فتسمع يا سالم, أو تكون باغيًا فتسمع يا واجد.

قلت: إنما صار الفأل خير أنواع هذا الباب لأن مصدره عن نُطق وبيان, فكأنه خير جاءك عن غيب. واما سُنوح الطير وبروحها؛ فليس فيه شيء من هذا المعنى, وإنما هو تكلف من المتطير وتعاط لما لا أصل له في نوع علم وبيان؛ إذ ليس للطير والبهائم نطق ولا تمييز, فيستدل بنطقها على مضمون معنى فيه؛ وطلب العلم من غير مظانة جهل, فلذلك تُركت الطيرة واستؤنس بالفأل.

(46) (باب الكهانة)

(46) (باب الكهانة) 1081/ 5759 - قال أبو عبدالله: حدثنا قتيبة, عن مالك, عن ابن شهاب, عن أبي سلمة, عن أبي هريرة: أن امرأتين رمت إحداهما الأخرى (بحجر) , فطرحت جنينها, فقضى فيه النبي صلى الله عليه وسلم بغرة عبدٍ أو وليدة. 1082/ 5760 - وعن ابن شهاب, عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في الجنين/يقتلُ في بطن أمه بغُرة عبدٍ أو وليدة. فقال الذي قضي عليه: كيف أغرم من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل مثل ذلك بطل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما هذا من إخوان الكهان. فسَّر الفقهاء الغرة بالنسمة من الرقيق عبدٍ أو أمة وقوموها نصف عُشر دية (أب) الجنين. وكان أبو عمرو بن العلاء يقول: لا يُقبل في دية الجنين إلا عبدٌ أبيض أو أمةٌ بيضاء. وكان يقول: لولا أن فيه معنى غير الاسم لقال: عبدٌ أو أمةٌ وإنما قال: غُرَّة للبياض.

وقوله: ولا استهل, فمعنى الاستهلال: رفع الصوت: يقال: أهل الرجل واستهل, إذا رفع صوته وقوله: ومثل ذلك بطل, فقد يُروى: ومثل ذلك يُطل, أي: يهدر. من قولك: طلَّ دم الرجل يُطل طلاً ولم يعبه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقوله: إنما هذا من إخوان الكهان لأجل السجع نفسه وقد يوجد في تضاعيف كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم من السجع مالا يخفى ولكنه إنما عاب منه رده الحُكم وتزيينه القول فيه بالسجع على مذهب الكهان في ترويج أباطيلهم بالأساجيع التي يُولعون بها فيروجون بها الباطل ويوهمون الناس أن تحتها طائلاً.

(54) (باب لا عدوى)

(54) (باب لا عدوى) 1083/ 5774 - قال أبو عبدالله: حدثنا أبو اليمان قال: حدثنا شعيب, عن الزهري قال: حدثني أبو سلمة بن عبدالرحمن أن أبا هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يُورد الممرض على المصح. قوله: لا يورد الممرض على المصح, ظاهره مخالف لقوله: لا عدوى, وقد يجمع بينهما فيوفق بين الخبرين على الوجه الذي ذكرته قبل وهو أن ذلك إنما جاء في الأدواء التي تشتد سهك رائحتها وينضج منها نظف, فإذا بركت الإبل في مبارك المرضى منها وتحاكت أجسادها, علق بها ذلك النظف/ وسرت روائح المجربين فيمن يُساكنهم ويؤاكلهم ويطول مقامه معهم, فيكون منها ظهور تلك الأدواء, فإنما نهى أن يورد الممرض وهو الذي إبله مراض على المُصح الذي إبله صحاح, فيتضرر بمجاورته على الوجه الذي بيناه.

وفيه وجه آخر: وهو أن يكون إنما نهى عن ذلك لكي إن كان في علم الله وقدره أن الصِّحاح تَجْرَب، لم يظن أن جَرَب المرضى هو الذي أعداها. والله أعلم.

(58) (باب إذا وقع الذباب في الإناء)

(58) (باب إذا وقع الذباب في الإناء) 1084/ 5782 - قال أبو عبد الله: حدثنا قُتيبة قال: حدثنا إسماعيل بن جَعفر، عن عتبة بن مسلم -مولى بني التَّيم- عن عُبيد بن حنين -مولى بني زريق- عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا وقع الذباب في إناء أحدكم، فليغمسه كله، ثم ليطرحه، فإن في أحد جناحيه شفاء وفي الآخر داء. قلت: وهذا مما يُنكره من لا يثبِتُ من الأمور إلا ما أدركه بحسه ومشاهدته ومن لا يعرف منها إلا ما صح عنده بالعُرف الجاري والتجربة القائمة، فأما من شَرَح الله قلبه بنور معرفته وأثلج صدره بثبوت نبوة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يستنكر ذلك ولا يَدْفعه إذا ثبتت به الرواية وليس لا يصح الشيء إلا بوجود نظيره

إنما يصح الشيء بوجود دليله وقيام الدلالة من طريق العقل، وصحة الرواية في أخباره من طريق النقل يوجبان التسليم ويقطعان مادة الأشاغيب؛ وكيف لا يتعجَّب صاحب هذه المقالة من النَّحلة!! قد جمع الله في جِرمِها الشفاء والسم معًا، فتعسّل من أعلاها وتَسم من أسفلها بحُمَتِها. والحية وهي حَتْف الإنسان وسمها قاتله، ثم صار لحمها مما يستشفى به في التِّرياق الأكبر من سُمها وفي كثير من الأدواء الفادحة معروف ذلك عند الأطباء؛ بل عند كثير من أوساط العوام، وقد يدخل الذباب في أدوية العين ويُسحَق مع الإثمد/ فيجلوا البصر ويقَويه وقد يؤمر من عضّه الكلب أن يستر وجهه عن الذباب، فإنه إن وقع عليه أسرع في هلاكه، فهذا يدلك من أقاويل الأطباء اجتماع الشفاء والسم معًا وليس بنا حاجة مع قول

الرسول صلى الله عليه وسلم الصادق المصدوق الذي يأتيه الوحي بأسرار الغيب إلى الاستشهاد بأقاويل الطب الذين إنما وصلوا إلى ما وصلوا إليه من علْمه بمقدمات التجارب والامتحان ومن قول أستاذهم بْقراط في أول كتابه: التجربة خطر.

كتاب اللباس

كتاب اللباس (4) (باب ما أسفل الكعبين فهو في النار) 1085/ 5787 - قال أبو عبد الله: حدثنا شعبة قال: حدثنا سعيد بن أبي سعيد المقْبُري، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما أسفل من الكعبين من الإزار في النار. يُريد أن الموضع الذي يناله الإزار من أسفل الكعبين من رِجله في النار، كنَّى بالثوب عن بدَن لابسه.

(5) (باب من جر ثوبه من الخيلاء)

(5) (باب من جرَّ ثوبه من الخُيلاء) 1086/ 5790 - قال أبو عبد الله: حدثنا سعيد بنت عُفَيْر قال: حدثني الليث قال: حدثني عبد الرحمن بن خالد، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله أن أباه حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بَيْنَا رجل يجرّ إزاره خُسِف به، فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة. يريد بالتجليل السُؤوخ في الأرض والهوِيَّ فيها مع تدافع واضطراب.

(28) (باب لبس القسي)

(28) (باب لبس القسيِّ) 1087/ 5838 - قال أبو عبد الله: حدثنا محمد بن نقاتل قال: أخبرنا عبدالله قال: أخبرنا سفيان، عن أشعث بن أبي الشعثاء قال: حدثنا معاوية بن سويد بن مقرن، عن البراء بن عازب قال: نهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن المياثر الحُمر (وعن) القَسِّيُّ. المياثر الحُمْر: مراكب تتخذ من الحرير وقد تكون المياثر من الخز والنمور ونحوها، وسميت مياثر لوثارتها وهي مراكب العجم نهى عنها كراهية لزيّهم، ولما فيها من السرف والخيلاء وإنما كانت مراكبهم اللبود ونحوها/ أمر بأن يقتصر عليها ويتجاوز إلى ما عداها. والقَسِّيُّ: ثياب منسوبة إلى بلاء يقال لها: القسُّ وهي مضلعة من حرير ويقال عي القزّية، أي: المتخذة من القزّ. وفيه كراهية الحمرة في لباس الرجال.

(37) (باب النعال السبتية وغيرها)

(37) (باب النعال السبتية وغيرها) 1088/ 5851 - قال أبو عبدالله: حدثنا عبدالله بن مسلمة، عن مالك، عن سعيد المقبري، عن عبيد بن جريج قال: قلت لعبدالله بن عمر: رأيتك تلبس النعال السبتية. فقال: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس النعال التي ليس فيها شعر ويتوضأ فيها. النعال السبتية: هي التي دبغت بالقرظ. ويقال: إنما قيل لها السبتية لأنها قد سُبت ما عليها من الشعر. يقال: سَبَت الرجل رأسه، إذا حَلقه، وقد يُمكن أن يستدل بلباسه صلى الله عليه وسلم السبتية من الحذاء، على أن الدباغ لا تأثير له في شعر الميتة وأن الشعر ينجُس بموت الحيوان، فلذلك اختار أن يلبس من النعال ما لا شعر عليه؛ إذ كانت من النعال قد تكون من جلود الميتات المدبوغة والمُذَكَّياتِ المذبوحة.

(40) (باب ينزع نعله اليسرى)

(40) (باب ينزع نعله اليسرى) 1089/ 5856 - قال أبو عبدالله: حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا انتعل أحدكم فليبدأ باليمين وإذا نزع فليبدأ بالشمال، لتكون اليمنى أولهما تُنعل وآخرهما تنزع.

(39) (باب لا يمشي في نعل واحدة)

(39) (باب لا يمشي في نعل واحدة) 1090/ 5855 - وقال: لا يمشي أحدكم في نعل واحدة، لِيُحْفِهما جميعًا أو لينعلهما جميعا. قلت: أمرُه صلى الله عليه وسلم بلبس النعل في رجله اليمنى أولا إنما هو لاستحبابه التيامن في كل شيء من أمره وتفضيله اليمنى على اليسرى، والحذاء كرامة للرجل ووقاية لها من الأذى، وإذا كانت اليمنى أفضل من اليسرى استحقت التبدية في لُبس النعل بها والتأخير في نزعها ليتوفر بدوام لُبسها حظها من الكرامة. وأما نهيه عن المشي في النعل الواحدة، فإن معلومًا أن المشي قد يشق على هذه الحال لأن وقع إحدى الرجلين من الماشي على الحَفاء إنما يكون مع التوقي لأذى يصيبه وحجر يُنَكِّبه ويكون في وضعه الرِّجل الأخرى على خلاف ذلك من الاعتماد بها الوضع لها من غير محاشاة وتقية، فيختلف من أجل ذلك مشيه ويحتاج لذلك أن ينتقل عن سجية المشي المعتاد، فلا يأمن عند ذلك من العثار مع سماجته في الشكل وقُبح منظره في العيون، إذ كان يُتصور فاعل ذلك عند الناس بصورة من إحدى رجليه أقصر من الأخرى.

قلت: وقد يدخل في النهي عن ذلك كل لباس شفع كالخفين ولبس الرداء على المنكبين لا يرسل الرداء على أحد الشقين ويخلى الآخر وهو فعل الأغثار من عوام الناس. وقد أبدع عوام الناس في أواخر الزمان لبس الخواتيم في اليدين وليس ذلك من جملة هذا الباب, ولا هو بحميد في مذاهب أهل الفضل والنبل وربما ظاهر بعضهم بلبس العدد من الخواتيم زوجين زوجين وكل ذلك مكروه ومستهجن في حميد العادات ورضي الشمائل, ولبس العلية من الناس. وفي الجملة فليس يستحسن أن يتختم الرجل إلا بخاتم واحدٍ منقوش, فيلبس للحاجة إلى نقشه, لا لحسنه وبهجة لونه.

(45) (باب خواتيم الذهب)

(45) (باب خواتيم الذهب) 1091/ 5865 - قال أبو عبدالله: حدثنا مسدد قال؛ حدثنا يحيى, عن عبيد الله قال: حدثني نافع, عن عبدالله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتمًا من ذهب وجعل فصه مما يلي كفه, فاتخذه الناس, فرمى به, واتخذ خاتمًا من ورقٍ أو فضة. قلت: لم تكن الخواتم من لباس العرب وإنما هي من زي العجم, فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب إلى ملوك الأرض يدعوهم إلى الله. فقيل له: إنهم لا/ يقرءون إلا كتابًا مختومًا, فاتخذ خاتمًا واستصنعه من الذهب وذلك أنه أشرف جواهر الأرض وأبقاها على مر الزمان, فلما رأى الناس تتابعوا في اتخاذ الخواتيم منه, رمى به, وحرَّم على الذكور لباس الذهب لما في ذلك من الفتنة وزيادة المؤونة واتخذ خاتما من فضة وكان يجعل فصه مما يلي كفه وذلك أبعد من التزين به وكان له صلى الله عليه وسلم خاتمان من فضة, كان فص أحدهما منها وذلك لكراهته التزين ببعض الجواهر المتلونة ببعض الأصباغ الرائعة المناظر التي تميل إليها النفوس وكان فص الآخر حبشيا, وذلك ما لا بهجة له ولا زينة فيه, ويستحب أن لا يبلغ بوزن الخاتم مثقال من فضة.

(50) (باب نقش الخاتم)

(50) (باب نقش الخاتم) 1092/ 5872 - قال أبو عبدالله: حدثنا عبد الأعلى قال: حدثنا يزيد بن زُريع قال: حدثنا سعيد, عن قتادة عن أنس بن مالك أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يكتب إلى رهطٍ أو أناس من الأعاجم فقيل له: إنهم لا يقبلون كتابًا إلا عليه خاتم, فاتخذ خاتمًا من فضة نقشه: محمد رسول الله, فكأني بوبيص أو ببصيص الخاتم في إصبع رسول الله صلى الله عليه وسلم أو في كفه. يقال: وبص الشيء وبيصًا وبصَّ بصيصا, إذا برق وتلألأ.

(64) (باب تقليم الأظافر)

(64) (باب تقليم الأظافر) 1093/ 5891 - قال أبو عبدالله: حدثنا أحمد بن يونس قال: حدثنا إبراهيم بن سعد قال: حدثنا ابن شهاب, عن سعيد بن المسيب, عن أبي هريرة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: الفِطرة خمس: الخِتانُ والاستحدادُ, وقص الشارب وتقليم الأظافر ونتف الآباط.

(65) (باب إعفاء اللحى)

(65) (باب إعفاء اللِّحى) 1094/ 5893 - قال أبو عبدالله: حدثنا محمد قال: أخبرنا عبدةُ قال: حدثنا عبيد الله بن عمر, عن نافع, عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنهكوا الشوارب واعفوا اللحى. معنى الفِطرة هاهنا السنة وقد عدَّ الختان منها وذهب بعض الناس إلى أن الختان فرض. قال: وذلك/ لأنه شعار للدّين, ولولا أنه فرض لازم لم يجز كشف العورة له والنظر إليها بسببه, فدل ذلك على وجوبه وافتراضه. وأما الاستحداد: فالاحتلاق بالحديدة وكان عادة السلف حلق العانة وقل ما كانوا يتناءرون وقوله: أنهكوا الشوارب, يعني مبالغة القص. والنهك: المبالغة في كل ما تعالجه من شيء وقد يستعمل ذلك في القتال والضرب, كما يستعمل في الأكل والشرب والطعام. وقوله: أعفوا اللحى, يريد وفروها من قولك: عفا النبت إذا طر وكثر.

(68) (باب الجعد)

(68) (باب الجعد) 1095/ 5900 - قال أبو عبدالله: حدثنا إسماعيل قال: حدثني مالك بن أنس, عن ربيعة بن أبي عبدالرحمن, عن أنس بن مالك أنه سمعه يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بالطويل البائن, ولا بالقصير, وليس بالأبيض الأمهق وليس بالآدم وليس بالجعد القطط ولا بالسبط أ. هـ الأمهق: هو الأبيض الذي يضرب بياضه إلى زرقة ومثله الأمقه. والجعد القطط هو الذي تجعد شعره وتفلفل كشعور الزنج والحبش (والسبط) الذي يسترسل شعرهم فلا ينكسر منه شيء لغلظه.

(الباب نفسه) 1096/ 5908 - قال أبو عبدالله: حدثنا عمر بن علي قال: حدثنا معاذ بن هانيء قال: حدثنا همام قال: حدثنا قتادة, عن أنس بن مالك أو عن رجل, عن أبي هريرة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم ضخم القدمين. 1097/ 5910 - وقال هشام, عن معمر, عن قتادة, عن أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم شثن القدمين والكفين. الشثن: الغليظ الكفين وأوسعهما.

(72) (باب القزع)

(72) (باب القزع) 1098/ 9520 - قال أبو عبدالله: حدثنا محمد قال: حدثنا مخلدٌ قال: أخبرني ابن جريج قال: أخبرني عبيد الله ابن حفص أن عمر بن نافع أخبره عن نافع أنه سمع ابن عمر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن القزع. قال عبيد الله قلت: وما القزع؟ فأشار لنا عبيد الله قال: إذا حُلق الصبي وترك هاهنا شعر وهاهنا, وهاهنا وأشار لنا عبيد الله إلى ناصيته وجانبي رأسه/. القزع: هو ما فسَّره عبيد الله أو غيره ومثله الذؤابة تترك في وسط الرأس ويحلق سائره وكذلك الطرة والصُّدغ ونحوهما, وأصل القزع: قطع السحاب المتفرقة, شبه تفاريق الشعر في رأسه إذا حلق بعضه وأبقى بعضه بطخارير السحاب ومثل ذلك نهيه عن القنازع وهو أن يؤخذ الشعر ويترك منه شيءٌ في أماكن لم يؤخذ, واحدتها: قنزوعة.

(68) (باب الجعد)

(68) (باب الجعد) 1099/ 5913 - قال أبو عبدالله: حدثنا محمد بن المثنى قال: حدثني محمد بن أبي عدي, عن ابن عون, عن مجاهد عن ابن عباس رواه قال: أما إبراهيم فانظروا إلى صاحبكم وأما موسى فرجل آدم جعد على جمل أحمر مخطوم بخلبة كأني أنظر إليه إذ انحدر في الوادي يلبى. الخُلب: كل حبل أجيد فتله من ليف أو قنب أو غير ذلك ما كان. ويقال: بل هو ليف المقل. وفيه بيان أن موسى عليه السلام قد حج البيت خلاف ما تكذب اليهود, فتزعم أنه لم يحج البيت قط ولا كان اتخذه منسكًا.

(90) (باب نقض الصور)

(90) (باب نقض الصور) 1100/ 5952 - قال أبو عبدالله: حدثنا معاذ بن فضالة قال: حدثنا هشام, عن يحيى عن عمران بن حِطان أن عائشة حدثته أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك في بيته شيئًا فيه تصاليب إلا نقضه. قلت: وفي سائر الروايات إلا قضبه, أي: قطعه, والتصاليب: أشكال الصليب وإنما كان يفعل ذلك لأن النصارى يعبدون الصليب, فكره أن يكون شيء من ذلك في بيته.

(89) (باب عذاب المصورين يوم القيامة)

(89) (باب عذاب المصوِّرين يوم القيامة) 1101/ 5950 - قال أبو عبدالله: حدثنا الحُميدي قال: حدثنا سفيان قال: حدثنا الأعمش, عن مسلم, عن مسروق قال: سمعتُ عبدالله قال: سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورون. قلت: المصور هو الذي يصوّر أشكال الحيوان، فيَحْكيها بتَخْطيطٍ لها وتشكيل/ فأمَّا النقاش: الذي ينقش أشكال الشجر ويعمل التداوير والخواتيم ونحوها فإني أرجو أن لا يدخل في هذا الوعيد وإن كان جملة هذا الباب مكروهًا وداخلًا فيما يلهى ويشغل القلب بما لا يغني، وإنما عظُمت العقوبة بالصورة لأنها تعبد من دون الله وبعض النفوس نحوها يَنزع.

(83) (باب وصل الشعر)

(83) (باب وصْلِ الشعر) 1102/ 5935 - قال أبو عبدالله: حدثنا أحمد بن المقدام قال: حدثنا فُضيل بن سليمان قال: حدثنا منصور بن عبدالرحمن قال: حدثتني أمي عن أسماء بنت أبي بكر أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إني انكحْتُ ابنتي، ثم أصابتها شكوى، فتمزق شعرها وزوجها يستحثني بها أفأصل رأسها؟ فسَبَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الواصلة والمستوصلة.

(الباب نفسه) 1103/ 5934 - قال أبو عبدالله: حدثنا آدم قال: حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرَّة قال: سمعتُ الحسن بن مسلم بن ينَّاق يُحدِّث عن صفية بنت شيبة، عن عائشة أن جارية من الأنصار تزوجت وأنها مَرِضَت، فَتَمَعَّط شعرها، فأرادوا أن يَصِلوها، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لعن الله الواصلة والمستوصلة. قوله: تَمزَّق من المُزوق وهو خُروج الشعر من أصله وتَمعَّط قريبٌ منه. وأصلُ المَعطِ: المد، كأنه مدَّ شعرها بالنتف ونحوه. ويقال: ذِئبٌ أمعط، إذا سقط شعره، فبقي أجرد، ومثله: تمرَّط الشعر، إذا تمرَّد الجلد وتجرَّد مما عليه من الشعر وإنما نهى عن ذلك لمِا فيه من الغش الخداع ولو رخَّص في ذلك لاتخذ وسيلة إلى أنواع من الغش والفساد، وإنما عَظُمَ الوعيد في هذا باللعن وفي النامصة والواشرة والواشمة ونحوها مما تقدم ذكره ومضى تفسيره قبل من

جهة أن هذه الأمور تغيير/ للخِلقة وتَعاطٍ لإلحاق الصنعة من الآدمي بالخِلقة من الله عز وجل، وحكم الجُزء في ذلك حكم الكُل، ولَعلّه قد يدخل في هذا المعنى صنعة الكيمياء فإن من تعاطاها إنما يروم أن يُلحق الصَّنعة بالخِلقة وكذلك هو في كل مصنوع يشبَّه بمطبوع وهو بابٌ من الفساد عظيم.

(87) (باب المستوشمة)

(87) (باب المستوشمة) 1104/ 5948 - قال أبو عبدالله: حدثنا عبدالرحمن، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبدالله بن مسعود: لعن الله الواشمات والمستوشمات والمُتنمصات والمتفلجات للحُسْن، المُغيّرات خلق الله، مالي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله. وقد تقدم في تفسير هذه الألفاظ فيما مضى وقد رخص أكثر العلماء في القرامل وذلك أن أمرها لا يشتبه في إحاطة علم الناس بأنها استعارة فلا يظن بها تغيير الصورة.

(91) (باب ما وطيء من التصاوير)

(91) (باب ما وطِيء من التصاوير) 1105/ 5955 - قال أبو عبدالله: حدثنا مُسدد قال: حدثنا عبدالله بن داود، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة: قَدِم النبي صلى الله عليه وسلم من سَفَر وعلَّقتُ دُرنوكًا فيه تماثيل، فأمرَني أن أنزعه فنزعته. الدرنوك: أصله ثياب غلاظ لها خمل، وقد تبسط مرةً فتسمى بساطًا، وتُعلَّق أخرى فتسمى سِترًا.

(13) (باب من وصل وصله الله)

كتاب الأدب (13) (باب من وصل وصله الله) 1106/ 5988 - قال أبو عبدالله: حدثنا خالد بن مَخلد قال: حدثنا (سليمان) قال: حدثني عبدالله بن دينار، عن أبي صالح عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الرَّحِم شُجْنَةٌ من الرحمن فقال الله: من وصلَكِ وصلته ومن قطعك قطعته. معنى الشُجْنة: الوصْلة، وأصلها الغُصن من أغصان الشجر. يقال: شَجَر مُتَشجِّن إذا التفَّ بعضه ببعض. ومن هذا قولهم: الحديث ذو شجون. ويقال: شِجنة. وشُجْنة -بالكسر والضم معًا- وقد روى أيضًا: توضع/ الرحم يوم القيامة لها حجنة كحجنة المِغزل، يعني صنَّارة المغزل وهي الحديدة العقفاء التي يعلق بها الخَيط، ثم يُفْتل المِغزَل.

(14) (باب تبل الرحم ببلالها)

(14) (باب تبل الرحم ببلالها) 1107/ 5990 - قال أبو عبدالله: حدثنا عمرو بن عباس قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا شعبة، عن إسماعيل بن أب خالد، عن قيس بن أبي حازم أن عمرو بن العاص قال: سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم جِهارًا غير سِرٍ يقول: إن آل أبي، قال عمرو في كتاب محمد بن جعفر بياض لَيسُوا بأوليائي، إنما وليي الله وصالحُو المؤمنين. زاد عنبسة بن عبدالواحد، عن بيان، عن قيس، عن عمرو بن العاص، سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم: ولكن لهم رحم سأبلُّها ببلالها.

البلال: مصدر بَلَلْت الشيء أبله بَلًا وبلالًا، ويقال: بَلَلْتُ رَحمي: إذا ندَّيتها بالصلة، وقد يتأول ذلك على الشفاعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم في القيامة وليس معنى الوِلاية التي نفاها ولاية الدين ولكن ولاية القرب والاختصاص.

(23) (باب حسن العهد من الإيمان)

(23) (باب حُسْن العَهْد من الإيمان) 1108/ 6004 - قال أبو عبدالله: حدثنا عبيد بن إسماعيل قال: حدثنا أبو أسامة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قال: ما غِرتُ على امرأة ما غِرتُ على خديجة ولقد هَلَكَتْ قبل أن يتزوجني بثلاث سنين لما كنت أسمعه يذكرها ولقد أمره ربه أن يُبشرها ببيتٍ في الجنة من قصب وإن كان ليذبح الشاة، ثم يهدي في خلتِها منها. الُخلّة: هاهنا بمعنى الأخلاء، وُضع المصدر موضع الاسم كقول الشاعر: ألا أبلِغا خُلَّتي مالِكًا بأن خليلك لم يُقتلِ

وما كان من المصادر يستوي فيه الرجال والنساء والآحاد والجماعات يقال: رجلٌ وامرأة خُلة وقوم خلة كقولهم: ماء غور ومياه غور. وأراد بالقصب قصب اللؤلؤ وهو المجوف منه.

(29) (باب إثم من لا يأمن جاره بوائقه)

(29) (باب إثم من لا يأمن جاره بوائقه) 1109/ 6016 - قال أبو عبدالله: حدثنا عاصم بن علي قال: حدثنا ابن أبي ذئب, عن سعيد, عن أبي شُريح أن النبي صلى الله عليه وسلم / قال: والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن. قيل: من يا رسول الله؟ قال: من لا يأمن جاره بوائقة. البوائق: جمع البائقة وهي الغائلة وأكثر ما يوصف بها الأمر الشديد. يقال: باقهم الدّهر يبوقهم بووقا, إذا نزل بهم بعض حوادث الدهر وفي كلام أبي فرعون الأعرابي وكان فصيحًا, فانباق على الدهر بكلكله, يريد نزول مكاره الدهر به وكان ابن هبيرة يقول في دعائه: اللهم إني أعوذ بك من بوائق الثقات.

(31) (باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره)

(31) (باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره) 1110/ 6019 - قال أبو عبدالله: حدثنا عبدالله بن يوسف قال: حدثنا الليث قال: حدثني سعيد المقبرىّ, عن أبي شريح العدويُّ قال: سمعتْ أذناي وأبصرت عيناي حين تكلم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته قال؛ وما جائزته؟ قال: يوم وليلة والضيافة ثلاثة أيام, فما كان وراء ذلك فهو صدقة عليه ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت. قوله: جائزته يوم وليلة, معناه أنه يتكلف له إذا نزل به الضيف يومًا وليلة فيتحفه ويزيده في البر على ما يحضره في سائر الأيام وفي اليومين الآخرين يقدم له ما حضر, فإذا مضى الثلاث فقد قضى حقه, فإن زاد عليه استوجب به أجر الصدقة.

(34) (باب طيب الكلام)

(34) (باب طيب الكلام) 1111/ 6023 - قال أبو عبدالله: حدثنا أبو الوليد قال: حدثنا شعبة قال: أخبرني عمرو, عن خيثمة, عن عدي بن حاتم قال: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم النار فتعوذ منها وأشاح بوجهه, ثم قال شعبة: أما مرتين فلا أشك, ثم قال: اتقوا النار ولو بشق تمرةٍ, فإن لم تجد فبكلمة طيبة. يقال: أشاح الرجل بوجهه, إذا صرف وجهه عن الشيء فعل الحذر منه الكاره له, كأنه صلى الله عليه وسلم كان يراها ويحذر وهج سعيرها, فنحى وجهه عنها, والشياح: الحذار كقول الشاعر: شايحن منه أيما شياح

(35) (باب الرفق في الأمر كله)

(35) (باب الرفق في الأمر كله) 1112/ 6025 - قال أبو عبدالله: حدثنا عبدالله بن عبدالوهاب قال: حدثنا حماد بن زيد, عن ثابت, عن أنس بن مالك أن أعرابيًا بال في المسجد فقالوا إليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تزرموه, ثم دعا بدلو من ماء, فصب عليه. (قوله عليه وسلم: لا تزرموه, يعني: لا تقطعوا عليه بوله. يقال: أزرمت على الرجل بوله, وزرمه البول إذا انقطع, ومثله: زرم الدمع إذا انقطع, والزرم المنقطع) , ويقال: هو المتحاشي المنقبض. وأنشدني أبو عمر قال أنشدني أبو العباس, عن ابن الأعرابي: وشاعرٍ جاءوا به عَبمُّ .... إذا يُقال هاتِ يزرئمُّ

وفي الحديث من العلم: رفق النبي صلى الله عليه وسلم بالأعرابي تألفا له على الدين مع صيانته المسجد من زيادة النجاسة لو هُيج الأعرابي عن مكانه, فأقبل وأدبر, وفيه أنه رأى الذنوب كافيًا في غسل بوله ولم يأمره بحفر المكان ونقل التراب.

(38) (باب لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشا ولا متفاحشا)

(38) (باب لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشًا ولا متفاحشًا) 1113/ 6030 - قال أبو عبدالله: حدثنا محمد بن سلام قال: حدثنا عبدالوهاب, عن أيوب, عن عبدالله بن أبي مليكة, عن عائشة: أن يهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: السام عليكم فقالت عائشة: عليكم ولعنكم الله وغضب عليكم. قال: مهلاً يا عائشة عليك بالرفق وإياك والفحش. قالت: أو لم تسمع ما قالوا؟ قال: أو لم تسمعي ما قلت؟ رددت عليهم, فيستجاب لي فيهم ولا يستجاب لهم فيَّ. قلت: فسروا السام بالموت في لسانهم كأنهم دعوا عليه

بالموت, وكان قتادة يرويه السآم عليكم -ممدود الألف من السآمة, أي: تسأمون دينكم. وأما قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة: إياك والفحش, ولم يكن من عائشة إفحاش في القول إلا دعاءً عليهم بما كانوا أهلاً له من غضب الله وهم الذين بدءُوا بالقول السيء, فجازتهم على ذلك, فإنما الفحش مجاوزة القصد في الأمور والخروج منها إلى الإفراط. ولذلك قال الفقهاء: يصلى في الثوب أصابه الدم إذا لم يكن فاحشًا, أي؛ كثير القدر لا يتعافاه الناس فيما بينهم. وفي الحديث من الفقه: أن من دعا على رجل بالهلاك وبما أشبه ذلك من المكروه لم يكن/ حكمه حكم المفتري فيما يلزمه من حدّ, أو تعزير, وذلك أن السَّاب إنما يريد شينه وعيبه بسبه أو عارًا يلصقه به وإنما هذا شيء دعا الله به عليه والله عز وجل لا يستجب دعاء الظالم فيه, فلم يجد الدعاء بالهلاك ونحوه منه محلاًّ, كما يجد الشتم من عرض المشتوم موقعًا؛ إذا أضاف الأمر القبيح إليه, وقد

استعدى بنو عجلان عمر بن الخطاب على النجاشي الشاعر حين هجاهم فقال لهم أنشدوني ما قال فيكم, فأنشدوه قوله: إذا الله عادى أهل لؤمٍ ودقةٍ فعادى بني العجلان رهط ابن مقبل فقال عمر: إن كان ظالمًا فلا يستجاب له وإن كان مظلومًا فسوف يستجاب له. وهذا على معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: يستجاب لي فيهم ولا يستجاب لهم فيَّ. ويدخل في هذا الباب حديثه الآخر.

(38) (الباب نفسه)

(38) (الباب نفسه) 1114/ 6032 - قال أبو عبدالله: حدثنا عمرو بن عيسي قال: حدثنا محمد بن سواء قال: حدثنا روح بن القاسم , عن محمد بن المنكدر, عن عروة, عن عائشة: أن رجلاً استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم, فلما رآه قال: بئس أخو العشيرة أو بئس ابن العشيرة, فلما جلس تطلق النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه وانبسط إليه, فلما انطلق الرجل قالت له عائشة: يا رسول الله حين رأيت الرجل قلت: كذا وكذا, ثم تطلقت في وجهه وانبسطت إليه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عائشة متى عهدتني فحَّاشًا, إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره. قلت: يجمع هذا الحديث علمًا وأدبًا وليس قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته بالأمور التي يسمهم بها ويضيفها إليهم من المكروه غيبةً وإثمًا, كما يكون ذلك من بعضهم في بعض؛ بل

الواجب عليه أن يبين ذلك ويُفصح به ويعرف الناس أمره فأن ذلك من باب النصيحة والشفقة على الأمة ولكنه لمِا جُبِل عليه من الكرم وأعطيه من حُسْن الخُلُق، أظهر له من البَشاشة ولم يَجْبَهْه بالمكروه لِيَقْتدى به أمته في اتقاء شرّ من هذا سبيله وفي مُدَاراته لِيسْلَمُوا من شرّه وغائلته، صلى الله عليه وسلم.

(39) (باب حسن الخلق والسخاء وما يكره من البخل ..)

(39) (باب حُسْن الخُلق والسخاء وما يُكره من البُخْل ..) 1115/ 6037 - قال أبو عبدالله: حدثنا أبو اليمان قال: أخبرنا شُعيب، عن الزهري قال: حدثنا حُميد بن عبدالرحمن أن أبا هُريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يتقارب الزمان وينقص العمل ويُلقي الشُحّ يكثر الهَرجُ. قال: وما الهرج؟ قال: القتل القتل. قوله: يتقارب الزمان فيه أقوال: أحدها: أن يكون أراد به قُربَ زمان الساعة. يقول: إذا كان آخر الزمان ودنا مجيءُ الساعة كان من اشتراطها الهرجُ والشُحُّ ونقص الأعمال.

ويحتمل أن يكون أراد به قِصَر مُدَّة الأزمنة ونقصها عما جَرَت به العادة فيها وذلك من علامات الساعة إذا طلعت الشمس من مَغْربها وهو معنى الحديث الآخر: يتقارب الزمان حتى تكون السنة كالشهر والشهر كالجمعة والجمعة كاليوم واليوم كالساعة والساعة كاحتراق السَّعفة. وفيه وجه ثالث: وهو أنه أراد بتقارب الزمان قصر أزمنة الأعمار. ووجه رابع: وهو أن يكون أراد به تقارب أحوال الناس في الشر والفساد. وقوله: "العمل" هكذا. قال: العمل، فإن كان محفوظًا ولم يكن منقولًا عن العُمْر إليه, فمعناه الطاعات تَقِلُّ الرغبة

فيها ويشتغل الناس بالدنيا والسعي فيها، وقد يكون معنى ذلك ظهور الخيانة في الأمانات والصناعات، فيُنقص منها ولا تؤدَّى الأمانة فيها. وقوله: الهَرْج: القَتل، فحقيقة الهرج القتل في الفتنة ويقال: إن أصل الهرج القتل بلسان الحبشة.

(44) (باب ما ينهى عن السباب واللعن)

(44) (باب ما ينهى عن السِّباب واللعن) 1116/ 6046 - قال أبو عبدالله: حدثنا محمد بن سنان قال: حدثنا فُليج بن سليمان قال: حدثنا هِلال بن علي، عن أنس قال: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحِشًا ولا لعَّانًا ولا سبَّابًا، كان يقول عند المعتبة: / ماله تَرِب جَبينُه. الدعاء بتَتْريب الجَبين يحتمل وجهين. أحدهما: أن يخرَّ لوجهه فيُصيبَ التراب جبينه. والآخر: أن يكون دعاء له بالطاعة ليُصلّي فيترب جبينه. والأول أشبه لأن الجبين نفسه لا يُصلى عليه الإنسان. أخبرني أبو عمر عن أبي العباس قال: الجبينان هما اللذان يكتنفان الجبهة من ناحيتهما. ومنه قوله عز وجل: (وَتَلَّهُ لِلْجَبِين).

وعلى هذا يكون معنى تَرِبَ جبينه، أي: صرع لجبينه، فيكون سقوطُ رأسه على الأرض من ناحية الجبين. والمَعْتَبَة: السُّخْط، مصدر عَتَبْت على الرجل أعتِب عليه عَتْبًا ومعتبة.

(50) (باب ما يكره من النميمة)

(50) (باب ما يُكره من النميمة) 1117/ 6056 - قال أبو عبدالله: حدثنا أبو نعيم قال: حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن همام قال: كنا مع حُذيفة فقيل له: أن رجلًا يرفع الحديث إلى عثمان. فقال حذيفة: سعمتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يدخل الجنة قتَّات. القتات: النمَّام. وكان أبو عمر يُفَرق بين القتَّات والنمَّام والقسَّاس. قال: النمام الذي يكون مع القوم يتحدثون (فيَنُمُّ) حديثهم. والقتات الذي يتسمَّع على القوم وهم لا يعلمون، والقساس الذي يقُسُّ الأخبار، أي: يسأل الناس عنها، ثم ينثو بها على أصحابها.

(57) (باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر)

(57) (باب ما ينهى عن التحاسد والتدابُر) 1118/ 6065 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو اليمان قال: أخبرنا شُعيب، عن الزُّهري قال: حدثني أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا ولا يحلُّ للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام. معنى التدابر: التهاجر وهو أن يولِّي كل واحد منهما صاحبه دُبره وقال المؤرِّج: معنى التدابر في هذا الحديث الاستئثار، وأنشد الأعشى: ومستدبرٍ بالذي عنده عن العاذلات وإرشادها أي: مُستأثِرٍ (برأيه)

قلت: وهذا في هجران من يدعوك إلى هجرة عتب أو جفوة أو ما أشبه ذلك من باب الأخلاق وحقوق المعاشرة، فأما من أتي معصية أو جنى على الدين وأهله جنايةً/ فقد حلّت الرخصة في عقوبته بالهجران أكثر من ذلك، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهجران كعب بن مالك مع الرهط الذين تخلَّفوا عن غزوة تبوك، فهجروهم خمسين يومًا لايكلمونهم حتى نزلت توبتهم وكان أمره أن لا يقرب أهله في هذه المدة وقد آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسائه شهرًا وصعد مَشْرَبَةً له، فلم ينزل إليهن حتى انقضى الشهر.

(58) (باب (ياأيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم))

(58) (باب (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اِجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْم)) 1119/ 6066 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن يوسف قال: أخبرنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث. قوله: إياكم والظن، يعني تحقيق الظن والحكم بما يقع في القلب منه، كما يُحكم بيقين العلم في الأمور المعلومة وذلك أن أوائل الظنون إنما هي خواطر لا يملك دفعها والأمر والنهي إنما يردان بتكليف الشيء المقدور عليه دون غيره مما لا يُملك ولا يُستطاع.

(66) (باب من تجمل للوفود)

(66) (باب من تجمل للوفود) 1120/ 6081 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن محمد قال: حدثنا عبد الصمد قال: حدثني أبي قال: حدثني يحيى ابن أبي إسحاق قال لي سالم بن عبد الله: ما الإستبراق؟ قلت: ما غلظ من الديباج وخشن منه. قال: سمعت عبد الله يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما يلبس الحرير من لا خلاق له, فكان ابن عمر يكره العلم في الثوب لهذا الحديث. قلت: مذهب ابن عمر في هذا مذهب الورع وكذلك كان يتوخى في أكثر مذاهبه الاحتياط في أمر الدين وكان ابن عباس يقول في روايته: إلا علمًا في ثوب وذلك لأن مقدار العلم لا يقع عليه اسم اللبس ولو أن رجلا حلف أن لا يلبس غزل فلانة, فانُّخِذَ له قميص أو رداء من غزلها وغزل أخرى معها نظر, فإن كان حصة غزل المحلوف عليها لو انفردت كان يبلغ إذا نسج أدنى شيء مما يقع على مثله اسم اللبس حنث وإن لم يبلغ قدر ذلك لم يحنث. والعلم لا يبلغ هذا القدر, فكان قول ابن عباس أشبه والله أعلم.

(67) (باب الإخاء والحلف)

(67) (باب الإخاء والحلف) 1121/ 6083 - قال أبو عبد الله: / حدثنا محمد بن الصباح قال: حدثنا إسماعيل بن زكريا قال: حدثنا عاصم قال: قلت لأنس بن مالك: أبلغك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا حلف في الإسلام؟ فقال: قد حالف النبي صلى الله عليه وسلم بين قريش والأنصار في داري. قلت: قال سفيان بن عيينة: فسر العلماء قوله: حالف أي: آخى وهذا هو الصحيح لثبوت الخبر أنه صلى الله عليه وسلم قال: لا حلف في الإسلام وإنما كانوا يتحالفون في الجاهليه لأن الكلمة لم تكن مجتمعة, وكان يحالف قومًا آخرين منهم لتكون أيديهم واحدة, فأما اليوم فقد جمع الله بالاسلام الكلمة, وألف بين القلوب, فلا حاجة بالمسلمين إلى الحِلْف.

(73) (باب من أكفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال)

(73) (باب من أكفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال) 1122/ 6104 - قال أبو عبد الله: حدثنا إسماعيل قال: حدثنا مالك, عن عبد الله بن دينار, عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أيما رجل قال لأخيه كافر فقد باء (بها) أحدهما. قلت: وهذا إذا قاله من غير تأويل, فإن كان المقول له مستحقًا لهذه الصفة وإلا فقد باء بها القائل وهذا على مذهب قوله عز وجل: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ولم يرد به القائل نفسه؛ لكن خصمه المقول له ولكن العرب تلطف القول وتكنى ليكون أعف في اللفظ وأحسن في الأدب.

(75) (باب ما يجوز من الغضب والشدة لأمر الله تعالى)

(75) (باب ما يجوز من الغضب والشدة لأمر الله تعالى) 1123/ 6113 - قال أبو عبد الله: حدثنا محمد بن زياد قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا عبد الله بن سعيد قال: حدثني سلم أبو النضر -مولى عمر بن عبيد الله- عن بسر بن سعيد عن زيد بن ثابت قال: احتجر رسول الله صلى الله عليه وسلم حجيرة خصفة -أو حصيرًا, فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فيها. قال: فتتبع إليه رجال وجاءوا يصلون بصلاته, ثم جاءوا ليلةً وأبطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلم يخرج إليهم, فرفعوا أصواتهم وحصبوا الباب, فخرج إليهم مُغْضَبًا فقال لهم: مازال بكم صنيعكم حتى ظننت أن سيكتب عليكم, فعليكم بالصلاة في / بيوتكم فإن خير صلاة المرء

في بيته إلا الصلاة المكتوبة. قوله: احتجر, يعني أنه اتخذ شبه حجرة. والخصفة ما يعمل منه جلال التمر, ويكون ذلك من سعف المقل وغيره, وغضب النبي صلى الله عليه وسلم غضب شفقة على الأمة وخوف عليهم أن سيفرض ذلك, فلا يقوموا بحقه فيعاقبوا عليه. وقد حكى الله عن قوم ألزموا أنفسهم أنواعًا من الطاعات لم تكن واجبة عليهم, ثم لم يرعوها, فلحقتهم اللاَّئمة فقال (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا). ومعنى قوله: حتى ظننت أن سيكتب عليكم, معنى الظن هاهنا الخوف, أي: خفت أن ستكتب عليكم. وفيه من العلم: كراهة الخروج إلى المشاهد والمساجد المشهورة والاجتماع بها في ليالٍ معلومة من الشهر أو الجمعة إلا

المساجد الثلاثة التي خصها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: لا تُشد الرِّحال إلا إلى ثلاثةِ مساجد: مسجد الحرام ومسجدي هذا ومسجد بيت المقدس. وفيه بيان: أن أفضل صلاة النافلة ما كان منها في البيوت والأكنان المستورة.

(76) (باب الحذر من الغضب)

(76) (باب الحذر من الغضب) 1124/ 6114 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن يوسف قال: أخبرنا مالك, عن ابن شهاب, عن سعيد بن المسيب, عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ليس الشديد بالصرعة, إنما الشديد (الذي) يملك نفسه عند الغضب. الصرعة: الذي يصرع الرجال على وزن فعلة -بضم الفاء وفتح العين والهاء- للمبالغة في الصفة. يقال: رجل صُرعة وضحكة ولعنة وهزاة في نظائرها من هذا الباب.

(76) (الباب نفسه)

(76) (الباب نفسه) 1125/ 6116 - قال أبو عبد الله: حدثنا يحيى بن يوسف قال: أخبرنا أبو بكر, عن أبي حصين, عن أبي صالح, عن أبي هريرة أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: / أوصني. قال: لا تغضب, فردد مرارًا قال: لا تغضب. معنى قوله: لا تغضب, هو أن يحذر أسباب الغضب وأن لا يتعرض للأمور التي تجلب عليه الضجر فتغضبه. فأما نفس الغضب, فطبع في الإنسان لا يمكنه نزعه وإخراجه من جبلته وقد يكون معنى قوله: لا تغضب, أي: لا تفعل ما يأمرك به الغضب ويحملك عليه من القول والفعل. وقد قيل: أن أعظم أسباب الغضب الكبر, وإنما يغضب الإنسان لما يتداخله من الكبر عندما يخالف في أمر يريده أو يعارض في شيء يهواه, فيحمله الكبر على الغضب لذلك, فإذا تواضع وذل في نفسه ذهبت عنه عزة النفس وماتت سورة الغضب, فسلم بإذن الله من شره.

(78) (باب إذا لم تستح فاصنع ما شئت)

(78) (باب إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت) 1126/ 6120 - قال أبو عبد الله: حدثنا أحمد بن يونس قال: حدثنا زهير قال: حدثنا منصور, عن ربعي بن حراش قال: حدثنا أبو مسعود قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: أن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت. معنى قوله: النبوة الأولى, أن الحياء لم يزل ممدوحًا على ألسن الأنبياء الأولين ومأمورًا به, لم ينسخ فيما نسخ من الشرائع, فالأولون والآخرون فيه على منهاجٍ واحدٍ. وقوله: إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت, لفظه لفظ أمرٍ ومعناه الخبر. يقول: إذا لم يكن (لك) حياءٌ يمنعك من القبيح صنعت ما شئت, يريد ما تأمرك به النفس وتحملك عليه مما لا تحمد عاقبته, وحقيقته: من لم يستحِ صنع ما شاء.

وفيه وجهٌ آخر: وهو أن يكون أراد به افعل ما شئت من شيءٍ لا يُستحيا منه, أي: ما يُستحيا منه فلا تفعله. وفيه وجهٌ ثالثٌ: وهو أن يكون معناه الوعيد, كقولهِ عز َّوجل َّ (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ).

(81) (باب الانبساط إلى الناس)

(81) (باب الانبساط إلى الناس) 1127/ 6129 - قال أبو عبد الله: حدثنا آدم قال: حدثنا شعبة قال: حدثنا أبو التياح قال: سمعت أنس بن مالك يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم/ ليخالطنا حتى يقول لأخ لي صغير: يا أبا عمير ما فعل النغير؟ النغير: تصغير النغر وهو طوير له صوت. وفيه من الفقه جواز صيد المدينة وأنه ليس حرمتها كحرمة مكة في تحريم صيدها. وفيه تكنية الصبي الصغير، وفيه جواز السجع في الكلام.

(81) (الباب نفسه)

(81) (الباب نفسه) 1128/ 6130 - قال أبو عبد الله: حدثنا محمد قال: حدثنا أبو معاوية قال: حدثنا هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: كنت ألعب بالبنات عند النبي صلى الله عليه وسلم وكانت لي صواحب يلعبن معي وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل يتقمعن منه، فيسربهن إلى، فيلعبن معي. قولها: فيسربهن إلى، أي يرسلهن إلى، ويحوشهن إلى سرب ماقبلي. وفيه: أن اللعب بالبنات ليس كالتلهي بسائر الصور التي جاء فيها الوعيد وغنما رخص لعائشة فيها لأنها إذ ذاك كانت غير بالغ، ومعنى الكراهة فيها قائم للبوالغ.

(83) (باب لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين)

(83) (باب لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين) 1129/ 6133 - قال أبو عبد الله: حدثنا قتيبة قال: حدثنا الليث، عن عقيل، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين. وهذا لفظه خبر ومعناه أمر. يقول: ليكن المؤمن حازما حذرا لا يؤتى من ناحية الغفلة، فيحرج مرة بعد أخرى، وقد يكون ذلك في أمر الدين، كما يكون في أمر الدنيا وهو أولاهما بالحذر. وقد يرويه بعضهم: لا يلدغ المؤمن- بكسر الغين- في الوصل، فيتحقق معنى النهي فيه على هذه الرواية.

(90) (باب ما يجوز من الشعر والرجز والحداء، وما يكره منه)

(90) (باب ما يجوز من الشعر والرجز والحداء، وما يكره منه) 1130/ 6149 - قال أبو عبد الله: حدثنا مسدد قال: حدثنا إسماعيل قال: حدثنا أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس ابن مالك- رضي الله عنه- قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعض نسائه ومعهن أم سليم فقال: ويحك يا أنجشة!! رويدك سوقا بالقوارير. قوله: سوقا بالقوارير، قد روى أن أنجشة هذا اسم غلام أسود كان حاديا/ وكان في سوقه عنف، فأمره أن يرفق بالمطايا، فيسوقهن كما تساق الدابة إذا كان حملها القوارير. وفيه وجه آخر: وهو أنه كان حسن الصوت بالحداء، فكره أن يسمعهن الحداء، فإن حسن الصوت يحرك من نفوسهن، فشبه ضعف عزائمهن وسرعة تأثير الصوت فيهن بالقوارير في شرعة الآفة إليها. وهذا المعنى مذكور في حديث آخر رواه أبو عبد الله.

(16) (باب المعاريض مندوحة عن الكذب)

(16) (باب المعاريض مندوحة عن الكذب) 1131/ 6211 - قال أبو عبد الله: حدثنا إسحاق قال: حدثنا حبان قال: حدثنا همام قال: حدثنا قتادة قال: حدثنا أنس بن مالك قال: كان للنبي صلى الله عليه وسلم حاد يقال له أنجشة وكان حسن الصوت فقال النبي صلى الله عليه وسلم: رويدك يا أنجشة لا تكسر القوارير. يقول قتادة، يعني ضعفة النساء.

(92) (باب ما يكره أن يكون الغالب على الإنسان الشعر حتى يصده عن ذكر الله والعلم والقرآن)

(92) (باب ما يكره أن يكون الغالب على الإنسان الشعر حتى يصده عن ذكر الله والعلم والقرآن) 1132/ 6155 - قال أبو عبد الله: حدثنا عمر بن حفص قال: حدثنا أبي قال: حدثنا الأعمش قال: سمعت أبا صالح، عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: لأن يمتليء جوف رجل حتى يريه، خير له من أن يمتليء شعرا. قلت: سقطت منه كلمة وهي قوله: قيحا. قوله: يريه، أي: يفسد جوفه، قال أبو عبيدة: هو أن يأكل القيح جوفه. وقال الأصمعي: هو الورى على مثال الرمي. يقال: رجل مورى- غير مهموز- وهو أن يدوى جوفه. وأنشد: ورى *قالت له وريا إذا تنحنحا*

(95) (باب ما جاء في قول الرجل: ويلك)

(95) (باب ما جاء في قول الرجل: ويلك) 1133/ 6167 - قال أبو عبد الله: حدثنا عمرو بن عاصم قال: حدثنا همام، عن قتادة، عن أنس أن رجلا من أهل البادية أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله: متى الساعة؟ قال: ويلك ما أعددت لها؟ قال: ما أعددت لها إلا أني أحب الله ورسوله، قال إنك مع من أحببت (فقلنا) ونحن كذلك. قال: نعم، ففرحنا يومئذ فرحا شديدا. قلت: كان سؤال الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قيام الساعة على وجهين: أحدهما: على معنى التعنت له والتكذيب بها. والآخر: على سبيل التصديق بها والشفق بها، فلما قال البدوي: متى الساعة؟ امتحنه/ صلى الله عليه وسلم مستبرما.

حاله بقوله: ما أعددت لها؟ ليعلم هل هو ممن يسأل عنها عنتا أو ممن يسأل شفقا وحذرا، فلما ظهر له إيمانه بالله ورسوله وتصديقه بالبعث. قال له: أنت مع من أحببت، فألحقه بحسن النية من غير زيادة عمل بأصحاب الأعمال الصالحة.

(97) (باب قول الرجل للرجل: اخسأ)

(97) (باب قول الرجل للرجل: اخسأ) 1134/ 6173 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو اليمان قال: أخبرنا شعيب، عن الزهري قال: أخبرني سالم بن عبد الله، عن عبد الله بن عمر، أخبره أن عمر بن الخطاب انطلق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رهط من أصحابه قبل ابن صياد، فقال له: أتشهد أني رسول الله؟ فقال: أشهد أنك رسول الأميين. ثم قال ابن صياد: أتشهد أني رسول الله، فرضه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: آمنت بالله وبرسله. وذكر الحديث. قلت: قد ذكرنا هذا الحديث فيما مضى من الكتاب وتكلمنا بما حضرنا من القول فيه. وأما هذه اللفظة (فرضه) فقد وقعت في هذه الرواية- بالضاد المعجمة- التي معناها الكسر وهو غلط والصواب: فرصه رسول الله صلى الله عليه وسلم- بالصاد- أي: قبض عليه بيديه، فضم بعضه إلى بعض، ومن هذا قوله عز وجل: {كأنهم بنيان مرصوص}.

(100) (باب لا يقل: خبثت نفسي)

(100) (باب لا يقل: خبثت نفسي) 1135/ 6179 - قال أبو عبد الله: حدثنا محمد بن يوسف قال: حدثنا سفيان، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يقولن أحدكم خبثت نفسي ولكن ليقل لقست نفسي. قلت: لقست وخبثت واحد في المعنى تقول: لقست نفسي ومقست وتبثرت، بمعني خبثت، وإنما كره من ذلك اسم الخبث، فاختار اللفظة البريئة من البشاعة السليمة منها، وكان من سنته تبديل الاسم القبيح بالحسن.

(95) (باب ما جاء في قول الرجل: ويلك)

(95) (باب ما جاء في قول الرجل: ويلك) 1136/ 6164 - قال أبو عبد الله: حدثنا محمد بن مقاتل أبو الحسن قال: أخبرنا عبد الله قال: أخبرنا/ الأوزاعي قال: حدثني ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله هلكت. وذكر القصة في وقوعه على أهله في رمضان وأن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بعرق فقال: خذه، فتصدق به. فقال يا رسول الله عليه وسلم أتى بعرق فقال: خذه، فتصدق به. فقال يا رسول الله: أعلى غير أهلي، فو الذي نفسي بيده ما بين طنبي المدينة، يعني أحوج مني. قوله: طنبي المدينة، يعني لابتيها. وأصله من أطناب الثوب، شبه المدينة بفسطاط مضروب وشبه لابتيها بأطناب الفسطاط.

(101) (باب لا تسبوا الدهر)

(101) (باب لا تسبوا الدهر) 1137/ 6182 - قال أبو عبد الله حدثنا عياش بن الوليد قال: حدثنا عبد الأعلى قال: حدثنا معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تسموا العنب الكرم.

(102) (باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: إنما الكرم قلب المؤمن)

(102) (باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: إنما الكرم قلب المؤمن) 1138/ 6183 - قال: وحدثنا علي بن عبد الله: حدثنا سفيان قال: حدثني الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويقولون الكرم إنما الكرم قلب المؤمن. قلت: نهيه عن تسمية شجر العنب كرما وهو اسمه المشهور عندهم، إنما معناه التوكيد لتحريم الخمر وتأيد النهي عنها وسلبها الفضيلة بتغيير نعتها المأخوذ عندهم من اسم الكرم؛ إذا كان في تسليم هذا الاسم تقرير لدعواهم فيها وتسويغ لما كانوا يتوهمونه من التكرم في سقيها وشربها، فأمر بأن لا تدعى كوما وأن تسمى مواضعها وأشجارها حدائق الأعناب. وقال: إنما الكرم قلب المؤمن لما فيه من نور الإيمان وتقوى الإسلام قال صلى الله عليه وسلم: الكرم التقوى. وهو معنى قوله عز وجل: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم}.

(109) (باب من سمي بأسماء الأنبياء)

(109) (باب من سمي بأسماء الأنبياء) 1139/ 6195 - قال أبو عبد الله حدثنا سليمان بن حرب قال: حدثنا شعبة، عن عدي بن ثابت قال: سمعت البراء قال: لما مات إبراهيم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن له مرضعا/ في الجنة. هذا روى على وجهين:- مرضعا- بضم الميم- أي: من يتم رضاعه وقد روى في حديث إنه له من يتم رضاعه في الجنة. ويروى إن له مرضعا في الجنة- بفتح الميم- ومعناه أن له رضاعًا في الجنة.

(109) (الباب نفسه)

(109) (الباب نفسه) 1140/ 6194 - قال أبو عبد الله حدثنا ابن نمير قال: حدثني محمد بن بشر قال: حدثنا إسماعيل قلت لابن أبي أوعى رأيت إبراهيم ابن النبي قال: مات صغيرا ولو قضي أن يكون بعد محمد نبي عاش ابنه ولكن لا نبي بعده.

(114) (باب أبغض الأسماء إلى الله)

(114) (باب أبغض الأسماء إلى الله) 1141/ 6205 - قال أبو عبد الله حدثنا أبو اليمان قال: حدثنا شعيب قال: حدثنا أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخنى الأسماء يوم القيامة عند الله رجل يسمى ملك الأملاك.

(114) (الباب نفسه)

(114) (الباب نفسه) 1142/ 6206 - قال أبو عبد الله وحدثنا علي بن عبد الله قال: حدثنا سفيان، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رواية قال: أخنع الأسماء عند الله، الحديث. قوله: أخنى الأسماء إن كان محفوظا، فمعناه أفحش الأسماء وأقبحها من الخنا وهو الفحش. وأما أخنع، فمعناه أوضعها لصاحبه وأذلها له عند الله. يقال: خنع الرجل خنوعا، إذا تواضع وذل.

(117) (باب قول الرجل للشيء: ليس بشيء، وهو ينوي أنه ليس بحق)

(117) (باب قول الرجل للشيء: ليس بشيء، وهو ينوي أنه ليس بحق) 1143/ 6213 - قال أبو عبد الله حدثنا محمد بن سلام قال: حدثنا مخلد بن يزيد قال: أخبرنا ابن جريج قال ابن شهاب: أخبرني يحيى بن عروة يقول: إنه سمع عروة يقول: قالت عائشة: سأل أناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكهان. فقال رسول صلى الله عليه وسلم: ليسوا بشيء. قالوا يا رسول الله: فإنهم يحدثون أحيانا بالشيء يكون حقا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تلك الكلمة من الحق يخطفها الجنى، فيقرها في أذن وليه قر الدجاجة، فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة. قوله: ليسوا بشيء، معناه نفي ما يتعاطونه من علم الغيب، أي: ليس/ قولهم بشيء صحيح يعتمد، كما تعتمد أقوال الأنبياء وأخبارهم فيما يخبرون به من علم الغيب الذي يوحى إليهم وهذا كما يقول القائل لصاحبه إذا عمل عملا من غير إحكام له وإتقان لصنعته: ما عملت شيئا، فإذا قال قولا غير سديد: لم تقل شيئا، وما أشبه ذلك من هذا الباب. وقوله: قر الدجاجة، هكذا رواه في هذا الحديث من هذا

الطريق وقد رواه فيما تقدم، كما تقر القارورة، فلست أبعد أن يكون الصواب من الرواية قر الزجاجة ليلائم معناه معنى القارورة في الحديث الآخر. وإن صحت الرواية في الدجاجة، فمعناه صوت الدجاج من قرت الدجاجة تقر قرا وقريرا وقد قرت قطعت صوتها كقول الشاعر: *وإن قرقرت هاج الهوى قرقريها* قال: الشيخ أبو سليمان: ورواه الفربري، عن أبي عبد الله: قر الدجاجة- بكسر القاف- كأنه حكاية صوتها.

قلت: قد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن إصابة الكاهن أحيانا في بعض أقواله إنما هو من جهة استراق السمع يأتيه ربيبه من الجن، فيلقي إليه الكلمة التي سمعها استراقا من الوحي، فيزيد إليها أكاذيب يقيسها على ما كان سمع، فربما أصاب على وجه الاعتبار لما لم يسمع بما سمع، وربما أخطأ وهو الغالب من أمرهم وهؤلاء الكهان فيما علم من أمرهم بشهادات الامتحان، قوم لهم إذهاب حادة ونفوس شريرة وطباع نارية، فألفتهم الشياطين لما بينهم من التناسب في هذه الأمور وساعدتهم بما في وسعه من القدرة وأعطوه من التسليط في أوطارهم ومطالبهم، فهم يفزعون إليهم في الأمور ويستفتونهم في الحوادث التي يتحاكم فيها إليهم، فيرجمون حسب/ ما تلقنهم إخوانهم الشياطين وبذلك وصفهم الله تعالى فقال: {هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون}. ثم قال: {والشعراء يبتعهم الغاوون} الآية. فوصلهم به في

الذكر، ولذلك أن تجد الكهان يسجعون في كلامهم، فيقطعونه تقطيع قوافي الشعر وتجد الواحد بعد الواحد من فحولة الشعراء يدعي أن له خليلا من الجن يملى عليه الشعر ويقوله على لسانه، كما جاء من ذلك في شعر الأعشى من ذكره مسحلاً وجهنام.

وحدثني محمد بن الحسين الآبري قال: حدثنا محمود بن الصباح المازني قال: حدثني الحسن بن بشر بن الأخنس قال: حدثنا عبد الله بن معية الرقي قال: حدثنا الوليد زرزر، عن أبي حمزة الثمالي، عن زاذان، عن جرير بن عبد الله قال: كنت في سفر في الجاهلية، فأضللنا الطريق، فصرت إلى مظال وخيام، فقلت: المنزل، فنزلت، فقدموا لنا ألبان الوحش وإذا هم حي من الجن، ثم دعوا شيخا منهم فقالوا: يا مسحل، فأقبل رجل أسود، فقالوا: غننا، فأنشد يقول: نأتك أمامة إلا سؤلا .... وبدلت منها بطيف خيالا

ثم غني: أتهجر غانية أم تلم .... أم الحبل واه (بها) منجدم فقلت: هذا لطرفة والأعشى، فقال: كذبا، ما قالا من هذا شيئا، أنا الذي كنت ألقي الشعر على ألستنهما. وحدثني ابن الزئبقي قال: حدثنا محمد بن زكريا التستري قال: حدثنا أبو حاتم قال: حدثنا الأصمعي قال: قال ابن شبرمة لما مات الفرزدق جاء شيطانه إلى في النوم فقال لي: تقبلني تكون أشعر العرب. قال قلت: من أنت؟ قال: أنا شيطان الفرزدق. قلت: اخس.

وقد ذكر الله عز وجل أمرهم في كتابه وبين حالهم في التطابق على عداوة أنبيائه وأوليائه فقال: {وكذلك/ جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا}. فهذا بيان أمر حزب أهل الضلال والافتراء على الله والمتكلفين لما لبسوا منه، المتشبهين بأنبياء الله الذين اصطفاهم لدينه وائتمنهم على وحيه، وقد وصف الله تعالى أنبياءه الذين برأهم من هذه الآفات وميز بينهم وبين الأولياء في خواص نعوتهم بان الأنبياء لا يتكلفون القول ولا يطلبون على ما يخبرون به الأجر، فقال عز وجل: {قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين} وقال: اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون}. والكاهن يتكلف الكذب، والزور ويختلق ما يقول عن املاء من الشياطين ويطلب الأجر والعوض عليه ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن حلوان الكاهن وهو ما يأخذه من الجعل على ما يفتريه من القول، والنبي لا يتكلف إنما يتبع الوحي ويؤدى الأمانة ولا يأخذ الرشوة ولا يطلب عليها الإتاوة ولذلك ترى الأنبياء يقولون في كثير مما

يسن عنهم: لا نعلم حتى يوحي إليهم، ولا ترى الكهان يمتنعون من التقول والثألي في جميع ما يسألون عنه، فهما حزبان: حزب الهدى وصفتهم ما ذكرناه وأولياؤهم الملائكة والصالحون من خلق الله، وحزب الضلالة وأولياؤهم الشياطين والأشرار من خلق الله كقوله: {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}.

(125) (باب ما يستحب من العطاس وما يكره من التثاؤب)

(125) (باب ما يستحب من العطاس وما يكره من التثاؤب) 1144/ 6223 - قال أبو عبد الله حدثنا آدم بن أبي إياس قال: حدثنا ابن أبي ذئب قال: حدثنا سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله يحب العطاس ويكره/ التثاؤب، فإذا عطس، فحمد الله، فحق على كل مسلم أن يشمته وأما التثاؤب فغنما هو من الشيطان فليرده ما استطاع. قوله: إن الله يحب العطاس ويكره التثاؤب، معني المحبة والكراهة فيهما إنما يتصرف إلى الأشياء الجالبة لهما وذلك أن العطاس غنما يكون مع خفة البدن وانفتاح السدد، وعدم الكظة والتثاؤب إنما يغلب على الإنسان عند امتلاء البدن وثقله وسببه الإكثار من المآكل والتخليط فيه.

وقوله: فحق على كل مسلم أن يشمته، فإنه يريد أنه من فرض الكفاية، فإذا شمته واحد من القول سقط عن الباقين. حدثني محمد بن احمد بن عمرو الزئبقي قال: حدثنا أبي عن محمد بن حرب الهلالي قال: حدثني قزعة قال: سمعت مسلمة بن عبد الملك بن مروان يقول: ما تثاءب نبي قط وإنما لمن علامة النبوة.

(كتاب الاستئذان) (باب بدء السلام) 1145/ 6227 - قال أبو عبد الله: حدثني يحيى بن جعفر قال: حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن همام، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: خلق الله آدم على صورته طوله ستون ذراعا، فلما خلقه قال: اذهب، فسلم على أولئك، لنفر من الملائكة جلوس، فاسمع ما يحيونك، فإنها تحيتك وتحية ذريتك. فقال: السلام عليكم. فقالوا: وعليكم السلام ورحمة الله، فكل من يدخل، يعني الجنة على صورة آدم، فلم يزل الخلق ينقص بعد حتى الآن. قوله: "خلق الله آدم على صورته" الهاء: وقعت كناية بين اسمين ظاهرين، فلم يصلح أن تصرف إلى الله عز وجل لقيام

الدليل على أنه ليس بذي صورة سبحانه (ليس كمثله شيء)، فكان مرجعها إلى آدم، والمعنى أن ذرية آدم إنما خلقوا أطوارا كانوا في مبدأ الخلقة نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم صاروا صورا أجنة إلى أن تتم مدة الحمل/، فيولدون أطفالا وينشئون صغارا إلى أن يكبروا، فيتم طول أجسامهم. يقول: إن آدم لم يكن خلقه على هذه الصفة، لكنه أول ما تناولته الخلقة وجد خلقا تاما طوله ستون ذراعا، وقد كنا ذكرنا في معنى هذا الحديث وجوها أربعة أو خمسة، وهذا الوجه كاف بين.

(11) (باب الاستئذان من أجل البصر)

(11) (باب الاستئذان من أجل البصر) 1146/ 6242 - قال أبو عبد الله: حدثنا مسدد قال: حدثنا حماد بن زيد، عن عبيد الله بن أبي بكر، عن أنس بن مالك أن رجلا اطلع في بعض حجر النبي صلى الله عليه وسلم، فقام إليه النبي صلى الله عليه وسلم بمشقص أو بمشاقص، فكأني أنظر إليه يختل الرجل ليطعنه. المشقص: نصل عريض. والختل: أن يأتيه من حيث لايراه. وقد يستدل به من لا يرى قصاصا على من فقأ عين الناظر المطلع عليه في بيت ويجعلها هدرا.

(12) (باب زنا الجوارح دون الفرج)

(12) (باب زنا الجوارح دون الفرج) 1147/ 6243 - قال أبو عبد الله: حدثنا الحميدي قال: حدثنا سفيان، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس قال: لم أر شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، عن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فزنا العين النظر وزنا اللسان المنطق، والنفس تمنى وتشتهى والفرج يصدق ذلك أو يكذبه. قوله: ما رأيت أشبه باللمم، يريد اللمم المعفو عنه المستثنى في الكتاب وهو قوله عز وجل: {الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم} ومعناه ما يلم به الإنسان من شهوات النفس، وإنما سمي النظر والمنطق زنا لأنهما من مقدمات الزنا، وحقيقته إنما يقع بالفرج. وقال الشافعي- رحم الله- إذا قال لرجل: زنت يدك، كان قذفا، كما يقول: زنا فرجك.

قال بعض أصحابه: يجب أن لا يكون هو قذفا، واحتج بهذا الحديث وقال كما يقول: زنت عينك ولم يختلفوا أنه/ ليس بقذف. قلت: يشبه أن يكون الشافعي إنما جعله قذفا لأن الأفعال من فاعليها تضاف إلى الأيدى كقوله عز وجل: {وما أصابكم من مصيبة فيما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير} وكقوله: {ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد} وليس بمقصور على جناية الأيدى دون غيرها من الأعضاء، فكأنه إذا جعل اليد زانية صار الزنا وصفا للذات لأن الزنا لا يتبعض ولا يجوز أن يحمل على معنى الكناية في قوله، لان المكاني لا تكون قذفا عنده.

(16) (باب تسليم الرجال على النساء والنساء على الرجال)

(16) (باب تسليم الرجال على النساء والنساء على الرجال) 1148/ 6248 - قال أبو عبد الله: حدثنا عبد الله بن مسلمة قال: حدثنا ابن أبي حازم، عن أبيه، عن سهل قال: كنا نفرح بيوم الجمعة. قلت: ولم؟ قال: كانت لنا عجوز ترسل إلى بضاعة قال ابن مسلمة: نخل بالمدينة، فتأخذ من أصول السلق، فتطرحه في قدر وتكرر حبات من شعير، فإذا صلينا الجمعة، انصرفنا، فسلمنا عليها، فتقدمه إلينا، فنفرح من أجله، وما كنا نقيل ولا نتعذى إلا بعد الجمعة. قوله: وتكركر، معناه تطحن أو تجش، وأصله من الكر، ضوعف عود الرحى ورجوعها في الطحن مرة بعد أخرى وقد تكون الكركرة بمعنى الصوت كالجرجرة للرحى، والكركرة أيضا شدة الصوت للضحك حتى يفحش وهو فرق القرقرة.

(17) (باب إذا قال: من ذا فقال: أنا)

(17) (باب إذا قال: من ذا فقال: أنا) 1149/ 6250 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو الوليد- هشام بن عبد الملك- قال: حدثنا شعبة، عن محمد بن المنكدر قال: سمعت جابرا يقول: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في دين كان على أبي، فدققت الباب. فقال: من ذا؟ فقلت: أنا. فقال أنا. أنا، كأنه كرهها. قلت: قوله: أنا، لا يتضمن الجواب عما سأل ولا يفيد العلم بما استعلم وكان الجواب أن يقول: أنا جابر، ليقع بتعريف الاسم تعيين الشخص الذي وقعت المسألة عنه، فلما قال: أنا، لم يزد عليه، صار كأنه/ تعرف إلى نفسه، فاستقصره عليه، فكان ذلك معنى الكراهة.

(47) (باب إذا كانوا أكثر من ثلاثة فلا بأس بالمسارة والمناجاة)

(47) (باب إذا كانوا أكثر من ثلاثة فلا بأس بالمسارة والمناجاة) 1150/ 6290 - قال أبو عبد الله: حدثنا عثمان قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن أبي وائل، عن عبد الله قال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الآخر، حتى يختلطوا بالناس اجل أن يحزنه. قلت: قد أخبر صلى الله عليه وسلم بالسبب في ذلك وهو أن الواحد من الثلاثة إذا بقي فردا وصاحباه يتناجيان، حزن لذلك أن لم يكن أسوتهم في النجوى، ولعله قد يسوء ظنه بهما فيما يستخليان به من الحديث، فيخطر بباله أنهما يدبران عليه سوءا، فأرشد صلى الله عليه وسلم إلا الأدب في ذلك، بقيا على الثالث، ومحافظة على حقه

وإكراما لمجلسه، وكان أبو عبيد ابن حرب يقول: إنما يكره ذلك في السفر لأنه مظنة التهم، فيخاف الثالث أن يكونا يدسان عليه غائلة أو مكروها، فأما إذا كانوا بحضرة الناس، فإذا هذا المعنى مأمون. وقوله: أجل أن يحزنه، أي: من أجل أن يحزنه وقد يتكلم به مع حذف من كقول الشاعر: أجل أن الله قد فضلكم .... فوق من أحكى صلبا بإزار

كتاب الدعوات

كتاب الدعوات (2) (باب أفضل الاستغفار) 1151/ 6306 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو معمر قال: حدثنا عبد الوارث قال: حدثنا الحسين قال: حدثنا عبد الله بن بريدة قال: حدثني بشير بن كعب العدوي قال: حدثني شداد بن أوس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: سيد الاستغفار أن يقول: اللهم أنت ربي لا إل إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك، ووعدك ما استطعت، أعوذ بك منشر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء لك بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. قال: من قالها بالنهار موقنا، فمات من يومه قبل أن يمسي، فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل موقنا بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة. قوله: وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، يريد أنا على ما عاهدتك عليه وواعدتك من الإيمان/ بك وإخلاص الطاعة لك ما استطعت من ذلك، وقد يكون معناه أني مقيم على ما عهدت إلي من أمرك،

ومتمسك به، ومتنجز وعدك في المثوبة والأجر عليه، واشتراطه الاستطاعة في ذلك معناه الاعتراف بالعجز والقصور عن كنه الواجب من حقه عز وجل. وقوله: أبوء لك بنعمتك علي وأبوس لك بذنبي، يريد الاعتراف بالنعمة والاستغفار من الذنب. يقال: قد باء فلان بذنبه، إذا احتمله كرها لا يستطيع دفعه عن نفسه. ومنه قوله عز وجل: {فباءوا بغضب على غضب}.

(4) (باب التوبة)

(4) (باب التوبة) 1152/ 6309 - قال أبو عبد الله: حدثني هدبة بن خالد قال: حدثنا همام قال: حدثنا قتادة، عن أنس قال (قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم: لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره وقد أضله في أرض فلاة. قوله: لله أفرح، معناه أرضى بالتوبة وأقبل لها، والفرح الذي يتعارفه الناس في نعوت بني آدم غير جائز على الله عز وجل، إنما معناه الرضا كقوله عز وجل: {كل حزب بما لديهم فرحون} أي: راضون والله أعلم. وقوله: سقط على بعيره، يعني عثر على موضعه وظفر به ومنه قولهم: على الخبير سقطت.

(10) (باب الدعاء إذا انتبه من الليل)

(10) (باب الدعاء إذا انتبه من الليل) 1153/ 6316 - قال أبو عبد الله: حدثنا علي بن عبد الله قال: حدثنا ابن مهدي، عن سفيان، عن سلمة، عن كريب، عن ابن عباس قال: بت عند ميمونة، فقام النبي صلى الله عليه وسلم، فأتى حاجته، وغسل وجهه ويديه، ثم نام، ثم قام، فأتى القربة، فأطلق شناقها، ثم توضأ وضوءا بين وضوئين، لم يكثر وقد أبلغ، فصلى، فقمت فتمطيت كراهية أن يرى أني كنت أبقيه. شناق لقربة: ما تشد به القربة من رباط أو سير أو خيط ونحوه. وقوله: أبقيه، معناه أرقبه وأنظره. يقال: بقيت الشيء أبقيه بقياً.

(39) (باب التعوذ من المأثم والمغرم)

(39) (باب التعوذ من المأثم والمغرم) 1154/ 6368 - قال أبو عبد الله: حدثنا معلى بن أسد قال: حدثنا وهيب، عن هشام بن عروة، عن، أبيه، عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: اللهم اغسل عني خطاياي بماء الثلج والبرد، ونق قلبي، كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس وباعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب. وإنما اشترط ماء الثلج والبرد لأنهما ماءان مقطوران على الطهارة، لم يمرسا بيد ولم يخاضا برجل وذلك أوفى لصفة الطهارة وأبعد لهما من مخالطة شيء من أنواع النجاسة. وقوله: كما نقيت وكما باعدت، إشباع وتأكيد في البيان على مذهب العرف الجاري بين المتخاطبين في كلامهم وليس بشرط يتقيد به كلام أو يتحدد به فعل والله عز وجل غني عن أن تضرب له الأمثال وأن يدل على معاني الأمور بالنظائر والأشباه.

(61) (باب الدعاء في الساعة التي في يوم الجمعة)

(61) (باب الدعاء في الساعة التي في يوم الجمعة) 1155/ 6400 - قال أبو عبد الله: حدثنا مسدد قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم قال: حدثنا أيوب، عن محمد، عن أبي هريرة قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: في الجمعة ساعة لا يوافقها مسلم وهو يصلى، يسأل الله خيرا إلا أعطاه. وقال بيده قلنا: يقللها، يزهدها. قوله: يزهدها، يعني يقللها، والزهيد: القليل من كل شيء ورجل مزهد، أي: مقل، وهذه الساعة يتأولونها على وجهين: أحدهما: أنها ساعة الصلاة.

والآخر: أنها آخر ساعة من النهار عند ذو الشمس للغروب، ويتأول على هذا الوجه قوله: وهو قائم يصلى، أي يدعو، لأن ذلك الوقت ليس بحين صلاة. وقد قال صلى الله عليه وسلم: إن أحدكم في صلاة مادام ينتظر الصلاة، فيكون بانتظاره الصلاة قد لزمه اسم الصلاة.

كتاب الرقاق

كتاب الرقاق (7) (باب ما يحذر من زهرة الدنيا، والتنافس فيها) 1156/ 6427 - قال أبو عبد الله: حدثنا إسماعيل قال: حدثني مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله/ صلى الله عليه وسلم: إن أكثر ما يخاف عليكم ما يخرج الله لكن من بركات الأرض. قيل: وما بركات الأرض؟ قال: زهرة الدنيا. فقال له رجل: هل يأتي الخير بالشر؟، فصمت النبي صلى الله عليه وسلم حتى ظننا أنه ينزل عليه، ثم قال: لا يأتي الخير إلا بالخير، إن هذا المال خضرة حلوة وإن ما أنبت الربيع يقتل حبطا أو يلم. وذكر الحديث. الحبط: أن تستكثر الماشية من المرعى حتى تنتفخ بطونها وتربو، فربما كان في ذلك هلاكها. وقوله: أو يلم، معناه أو يقارب الهلاك، وقد فسرنا سائر هذا الحديث فيما مضى.

(9) (باب ذهاب الصالحين، ويقال: الذهاب المطر)

(9) (باب ذهاب الصالحين، ويقال: الذهاب المطر) 1157/ 6434 - قال أبو عبد الله: حدثنا يحيى بن حماد قال حدثنا أبو عوانة، عن بيان، عن قيس بن أبي حازم، عن مرادس الأسلمي قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: يذهب الصالحون الأول فالأول وتبقى حفالة كحفالة الشعير أو التمر لا يباليهم (الله) بالة. الحفالة والحثالة: الرذالة من كل شيء. ويقال: هي آخر ما يبقى من الشعير والتمر وأردأه. والثاء والفاء يتعاقبان كقولهم: ثوم وفوم وجدث وجدف. وقوله: يا يباليهم الله بالة، أي: لا يرفع لهم قدرا ولا يقيم لهم وزنا. يقال: باليت الشيء مبالاة وبالة.

(15) (باب الغنى غنى النفس)

(15) (باب الغنى غنى النفس) 1158/ 6446 - قال أبو عبد الله: حدثنا أحمد بن يونس قال: حدثنا أبو بكر قال: حدثنا أبو حصين، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس. العرض: مفتوحة الراء، واحد أعراض الدنيا، وهو كل ما ينفع به من عرض متاعها وحطامها. والعرض: ساكنة الراء، واحد العروض وهي الأمتعة التي يتبايع بها ويتجربها.

(17) (باب كيف كان عيش النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وتخليهم عن الدنيا)

(17) (باب كيف كان عيش النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وتخليهم عن الدنيا) 1159/ 6452 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو نعيم بنحو من نصف هذا الحديث، قال: حدثنا عمر بن ذر قال: حدثنا مجاد أن أبا هريرة كان يقول: والله الذي لا إله إلا هو إن كنت لأعتمد بكبدي على/ الأرض من الجوع وإن (كنت) لأشد الحجر على بطني من الجوع، وذكر حديثا فيه طول. قد أشكل الأمر في (شد) الحجر على البطن من الجوع على قوم حتى توهموا أنه تصحيف، فزعموا أنه إنما هو الحجز جمع الحجزة التي بها الإنسان وسطه.

قال: الشيخ أبو سليمان- رحمة الله عليه- ومن أقام بالحجاز وعرف عادات القوم، علم أنه الحجر، واحد الحجارة، وذلك أن المجاعة تصيبهم كثيرا، فإذا خوى البطن تهزم، فلم يمكن معه الانتصاب، فيعمد إلى صفائح رقاق في طول الكف أو أشف منها، فيربطها حينئذ على البطن وشيد بحجزة فوقها، فتعتدل قامة الإنسان بعض الاعتدال.

(25) (باب الخوف من الله)

(25) (باب الخوف من الله) 1160/ 6481 - قال أبو عبد الله: حدثنا موسى قال: حدثنا معتمر قال: سمعت أبي قال: حدثنا قتادة، عن عقبة بن عبد الغافر، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ ذكر رجلا فيمن كان سلف أو قبلكم آتاه الله مالا وولدا، فلما حضر قال لبنيه: أي أب كنت؟ قالوا: خير. قال: فإنه لم يبتئر عند الله خيرا. فسرها قتادة: لم يدخر وإن يقدم على الله يعذبه، فانظروا، فإذا مت فأحرقوني حتى (إذا) صرت فحما فاسحقوني أو قال: فاسهكوني وذكر الحديث. قوله: لم يبتئر. وتفسير قتادة أن معناه لم يدخر، صحيح في

المعنى وأصله من قولك: بأرت الحفيرة أبأرها بأرا وبأرت الشيء وابتأرته إذا خبأته. وقوله: اسهكوني، فإن السهك دون السحق، وهو أن يفت الشيء أو يدق قطعا صغارا.

(26) (باب الانتهاء عن المعاصي)

(26) (باب الانتهاء عن المعاصي) 1161/ 6482 - قال أبو عبد الله: حدثني محمد بن العلاء قال: حدثنا أبو أسامة، عن بريد بن عبد الله بن أبي بردة، عن أبي بردة عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قوما فقال: رأيت الجيش بعيني وأنا النذير/ العريان، فالنجاء، فأطاعه طائفة، فأدلجوا على مهلم فنجوا وكذب طائفة، فصبحهم الجيش، فاجتاحهم. هكذا رواه محمد بن خالد، فقال: العربان، فإن كان محفوظا فمعناه لمفصح بالإبراز، لا يكنى ولا يورى. يقال: رجل عربان، أي: فصيح اللسان. ويقال: أعرب الرجل بحاجته إذا أفصح بها.

وقد روي لنا: أنا النذير العريان، ومعناه أن الربيئة إذا كان على مرقب عال، فبصر بالعدو، نزع فألاح به ينذر الوقم، فبقى عرياناً. والإدلاجُ: سير أول الليل. وقوله: فاجتاحهم، معناه استأصلهم. ومنه الجائحة التي تفسدُ الثمار وتهلكها.

(31) (باب من هم بحسنة أو بسيئة)

(31) (باب من هم بحسنة أو بسيئة) 1162/ 6491 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو معمر قال: حدثنا عبد الوارث قال: حدثنا أبو عثمان جعد قال: حدثنا أبو رجاء العطاردي، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروى عن ربه قال، قال إن الله عز وجل كتب الحسنات والسيئات فمن هم بحسنة فلم يعملها، كتبها له عنده حسنة كاملة، فإن هم بها فعملها، كتب الله له عنده عشر حسنات إلى سبع مائة (ضعف) إلى أضعاف كثيرة، ومن هم بسيئة فلم يعملها، كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هم بها فعملها كتبها الله له سيئة واحدة. قوله: ومن هم بسيئة فلم يعملها، كتبها الله له عنده حسنة كاملة، هذا إذا لم يعملها تاركا رها مع القدرة عليها، لا إذا هم بها فلم يعملها مع العجز عنها وعدم القدرة عليها، ولا يسمى الإنسان تاركاً للشيء الذي لا يتوهم قدرته عليه.

(35) (باب رفع الأمانة)

(35) (باب رفع الأمانة) 1136/ 6497 - قال أبو عبد الله: حدثنا محمد بن كثير قال: أخبرنا سفيان قال: حدثنا الأعمش، عن زيد بن وهب، حدثنا حذيفة، حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر، حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم علموا من السنة، وحدثنا عن رفعها، قال: ينام الرجل النومة، فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أترها مثل الوكت، ثم ينام نومة، فيقبض، فيبقى أثرها مثل المجل (كالجمر) دحرجته على رجلك فنط، فتراه منتبرا وليس فيه شيء، فيصبح الناس يتبايعون، فلا يكاد أحدٌ يؤدي الأمانة، فيقال: إن في بني فلانٍ رجلا أمينا، ويقال للرجل: ما أعتقله، وما أظرف وما أجلده وما في قلبه مثقال حبة خردلٍ من إيمان، ولقد أتى على زمان ولا أبالي أيكم (بايعت)، لئن كان مسلما رده على

الإسلام وإن كان نصرانيا رده على ساعيه، وأما اليوم فما كنت أبايع إلا فلانا وفلانا. قلت: ذكر أبو عبيد هذا الحديث في كتابه وفسره قال: قوله: جذر قلوب الرجال. الجذر: الأصل من كل شيء. قال: والمجل: أثر العمل في الكف، يعالج بها الإنسان الشيء حتى يغلط جلدها. يقال: مجلت ومجلت يده. وأما المنتبر، فالمنتط قال: وتأوله بعض الناس على بيعة الخلافة. وهذا خطأ في التأويل وكيف يكون على بيعة الخلافة وهو يقول: لئن كان نصرانيا رده على ساعيه، فهل يبايع النصراني؟ قال: وإنما مذهبه فيه أن أراد مبايعة البيع والشراء، إنما ذكر الأمانة وأنها قد ذهبت من الناس، يقول: فلست أثق اليوم بأحد أئتمن على بيع ولا شراء إلا فلانا وفلانا. وقوله: رده على ساعيه: يعني الوالي الذي عليه يقول: ينصفني منه إن لم يكن له إسلام وكل من ولي شيئاً على قومٍ فهو ساعٍ عليهم وأكثر ما يقال ذلك في ولاة الصدقة: هم السعاة.

(الباب نفسه) 1164/ 6498 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو اليمان، قال حدثنا شعيب، عن الزهري، أخبرني سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنما الناس كالإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة. هذا يتأول على وجهين: أحدهما: أن الناس في أحكام الذين سواء، لا فضل فيها لشريف على مشروف. ولا لرفيع منم على (وضيع)، كالإبل المائة لا تكون فيا راحلة وهي الذلول التي ترحل وتركب، جاءت فاعلة بمعنى مفعولة، أي: مرحولة يريد انها كلها حمولة تصلح للحمل ولا تصلح للركوب والسير. والعرب تقول للمائة من الإبل إبل. ويقال لفلان إبل، أي: مائة من الإبل وإبلان إذا كانت له مائتان.

والوجه الآخر: يقول (إن) أكثر الناس أهل نقص وجهل، فلا تستكثر من صحبتهم ولا تواخ منهم إلا أهل الفضل وعددهم قليل بمنزلة الراحلة في الإبل الحمولة. ودليل ذلك قوله عز وجل: {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} وقوله: {ولكن أكثرهم يجهلون}.

(36) (باب الرياء والسمعة)

(36) (باب الرياء والسمعة) 1165/ 6499 - قال أبو عبد الله: حدثنا مسدد قال: حدثنا يحيى، عن سفيان قال: حدثني سلمة بن كهيل ح وحدثنا أبو نعيم قال: حدثنا سفيان، عن سلمة قال: سمعت جندبا يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: من سمع سمع الله به ومن يرائى يرائى الله به. يقول: من عمل عملا على غير إخلاص، وإنما يريد أن يراه الناس ويسمعوه جوزى على ذلك بأن يشهره الله ويفضحه فيشيدوا عليه ما كان يبطنه ويسره من ذلك.

(38) (باب التواضع)

(38) (باب التواضع) 1166/ 6502 - قال أبو عبد الله: حدثني محمد بن عثمان قال: حدثنا خالد بن مخلد قال: حدثنا سليمان بن بلال: حدثني شريك بن عبد الله بن أبي نمر، عن عطاء عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله عز وجل قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه وما يزال عبدي يتقرب إليً بالنوافل حتى (أحبه) فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده (التي) يبطش بها ورجله التي يمشي بها، إن سألني لأعطينه وإن استعاذني لأعيذنًه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته.

قوله: "فكنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها"، هذه أمثال ضربها. والمعنى -والله أعلم- توفيقه للأعمال التي يباشرها بهذه الأعضاء وتيسير المحبة له فيها، فيحفظ جوارحه عليه ويعصمه عن مواقعة ما يكره الله من إصغاء إلى اللهو بسمعه ونظر إلى ما نهى عنه ببصره وبطش إلى مالا يحل له بيده، وسعى في الباطل برجله وقد يكون معناه سرعة إجابة الدعاء والإنجاح في الطلبة وذلك؟ أن مساعي الإنسان إنما تكون بهذه الجوارح الأربع. وقوله: ما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن، فإنه أيضا مثل، والتردد في صفة الله عز وجل غير حائز والبداء عليه في الأمور غير سائغ وتأويله على وجهين: أحدهما: أن العبد قد يشرف في أيام عمره (على المهالك) مرات ذوات عدد من داء يصيبه وآفة تنزل به، فيدعو الله فيشفيه منا ويدفع مكروهها عنه، فيكون ذلك من فعله كتردد من يريد امرا، ثم يبدو له في ذل ويتركه ويعرض عنه ولا بد له من لقائه إذا

بلغ الكتاب أجله، فإنه قد كتب الفناء على خلقه واستأثر بالبقاء لنفس، وهذا على معنى ما روى أن الدعاء يرد البلاء والله أعلم. وفيه وجه أخر: وهو أن يكون معناه ما رددت رسلي في شيء أنا فاعله ترديدي إياهم في نفس المؤمن، كما روى من قصة موسى وملك الموت صلوات الله عليهما وما كان من لطمه عينة وتردده إليه مرة أخرى وحقيقة المعنى في الوجهين معاً عطف الله على العبد ولطفه به وشفقته عليه والله أعلم.

(40) (باب طلوع الشمس من مغربها)

(40) (باب طلوع الشمس من مغربها) 1167/ 6506 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو اليمان قال: اخبرنا شعيب قال: حدثنا أبو الزناد، عن الأعرج عبد الرحمن، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الساعة فقال لتقومن الساعة وقد رفع (أحدكم) أكلته إلى فيه فلا يطعمها، ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه. يقال: لاط الرجل حوضه وألاطه إذا مدره وهو أن يعمل من لوط حجارة فيسد خصاصه بالمدر ونحوه لئلا يتسرب الماء.

(41) (باب من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه)

(41) (باب من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه) 1168/ 6507 - قال أبو عبد الله: حدثنا حجاج قال: حدثنا همام قال: حدثنا قتادة، عن أنس، عن عبادة بن الصامت، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أحب لقاء الله أحب الله لقاءة، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، فقالت عائشة أو بعض أزواجه وإنا لنكره الموت. قال: ليس ذلك ولك المؤمن إذا حضره الموت يبشر برضوان الله وكرامته، فليس شيء أحب إليه مما أمامه، فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا حضر بشر بعذاب الله وعقوبته، فليس شيء أكره (إليه) مما أمامه فكره لقاء الله وكره الله لقاءه. قلت: قد تضمن الحديث من تفسير اللقاء ما فيه كفاية وغنيةٌ عن غيره وشرح هذا المعنى إنما إيثار العبد الآخرة على الدنيا واختيار ما عند الله على ما بحضرته فلا يركن إلى الدنيا ولا يحب طول المقام فيها، لكن يستعد للارتحال عنها ويتأهب للقدوم على الله تعالى. وكراهته اللقاء ما كان على ضد هذا المعنى من ركونه إلى الدنيا

وإخلاده إلى حياتها وتركه الاستعداد للموت. واللقاء على وجوه منها الرؤية والمعاينة. ومنها البعث والنشور كقوله عز وجل: {قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله}. أي: بالبعث والنشور. واللقاء: الموت كقوله تعالى: {قل ان الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم}. وقوله: {من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت} أي: خاف الموت، والرجاء المخافة هاهنا.

وقال ابن الأحمر: لقاؤك خير من ضمان وفتنة .... وقد عشت أياما وعشت لياليا

(44) (باب يقبض الله الأرض يوم القيامة، رواه نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم)

(44) (باب يقبض الله الأرض يوم القيامة، رواه نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم) 1169/ 6520 - قال أبو عبد الله: حدثني يحيى بن بكير قال: حدثنا الليث، عن خالد، عن سعيد بن أبي هلال، عن زيد بن أسم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفأها الجبار بيده، كما يكفأ أحدكم خبزته في السفر نزلا لأهل الجنة، فأتى رجل من اليهود فقال: بارك الرحمن عليك يا أبا القاسم ألا أخبر بنزل أهل الجنة يوم القيامة؟ قال: بلى. قال: تكون الأرض خبزة واحدة، كما قال يعني النبي صلى الله عليه وسلم، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلينا، ثم ضحك حتى بدت نواجذه، ثم قال: ألا أخبرك بإدامهم؟ قال: إدامهم بالام ونون. قالوا: وما هذا؟ قال: ثورونون يأكل من زيادة كبدهما سبعون ألفا.

قلت: هكذا رووه لنا وتاملت النسخ المسموعة من أبى عبد الله من طريق حماد بن شاكر وإبراهيم بن معقل والفربري، فإذا كلها متفقة على نحو واحد باللام ونون. فاما النون فهو الحوت على وفاق ما فسر في الحديث. واما باللام فإنه شيء مبهم وقد دل الجواب من اليهودي على أنه اسم للثور وهو ما لم ينتظم لم يصح أن يكون على التفرقة اسماً لشيء، فيشبه أن يكون اليهودي أراد أن يعمى الاسم، فقطع الهجاء وقد احد الحرفين فقال: يالام وإنما هو في حق الترتيب لام ياء هجاء: لأي على وزن لعا، أي ثور. يقال للثور الوحشي اللأى، وجمعه الآلاء، فصحف فيه الرواة فقالوا: باللام-بالباء- وإنما هو يالام بحرف العلة وكتبوه بالهجاء المضاعف، فأشكل واستبهم كما ترى وهذا أقرب ما يقع لي فيه إلا أن يكون ذل بغير لسان العرب، فإن المخبر به يهودي، فلا يبعد أن يكون إنما عبر عنه بلسانه، ويكون ذلك في لسانهم بلا وأكثر العبرانية فيما يقوله أهل المعرفة بها مقلوب عن لسان العرب-بتقديم الحروف وتأخيرها- وقد قيل: إن العبراني هو العرباني، فقدموا

وأخروا الراء والله أعلم بصحته. وقوله: كما يكفأ أحدكم خبزته في السفر، يريد خبزة الملة التي يصنعها السفر، فإنها لا تدحى كالرقاقة وإنما تقلب على الأيدي حتى تستوي.

(44) (الباب نفسه)

(44) (الباب نفسه) 1170/ 6521 - قال أبو عبد الله: حدثنا سعيد بن أبي مريم قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثني أبو حازم قال: سمعت سهل بن سعد قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضائء عفراء كقرصة نقي، قال سهل أو غيره: ليس فيها معلم لأحد. العفرة: بياض ليس بالناصع. والنقي: الحوار، نقي من القشر والنخالة. وقوله: ليس فيها معلم لأحد يريد ان تلك الأرض مستوية ليس فيها حدب يرد البصر ولا بناء يستر ما وراءه، والمعلم: واحد معالم الأرض، أي أعلامها التي يهتدى بها في الطرق.

(45) (باب الحشر)

(45) (باب الحشر) 1171/ 6522 - قال أبو عبد الله: حدثنا معلى بن أسد قال: حدثنا وهيب، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يحشر الناس على ثلاث طرائق: راغبين راهبين، اثنان على بعير وثلاثة على بعير وأربعة على بعير وعشرة على بعير ويحشر بقيتهم النار تقيل معهم حيث قالوا، وتبيت معهم حيث باتوا، وتصبح معهم حيث أصبحوا وتمسى معهم حيث أمسوا. قلت: الحشر المذكور في هذا الحديث إنما يكون قبل قيام الساعة، يحشر الناس أحياء إلى الشام. فأما الحشر الذي يكون بعد البعث من القبور، فإنه على خلاف هذه الصورة من ركوب الإبل والمعاقبة عليها، إنما هو على ما ورد في الخبر أنهم يبعثون يوم القيامة حفاة عراة بهما غرلا وقد قيل: إن هذا البعث دون الحشر، فليس بين الحديثين تدافع، ولا تضاد.

وقوله: وعشرة على بعير، يعني أنهم يعتقبون البعير الواحد يركب بعضهم ويمشي الباقون عقبا بينهم.

(45) (الباب نفسه)

(45) (الباب نفسه) 1172/ 6527 - قال أبو عبد الله: حدثنا قيس بن حفص قال: حدثنا خالد بن الحارث قال: حدثنا حاتم بن أبي صغيرة عن عبد الله بن أبي مليكة قال: حدثني القاسم بن محمد بن أبي بكر أن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يحشرون حفاة عراة غرلا قالت عائشة: فقلت يارسول الله: الرجال والنساء ينظر بعظمهم إلى بعض فقال: الأمر أشد من أن يهمهم ذلك.

(51) (باب صفة الجنة والنار)

(51) (باب صفة الجنة والنار) 1173/ 6558 - قال أبو عبد الله: حدثنا أبو النعمان قال: حدثنا حماد، عن عمرو، عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يخرج من النار بالشفاعة كأنهم الثعارير. قلت: وما الثعارير قال: الضغابيس. الثعارير: يقال إنها ثمر الطراثيث وفسره في هذا الحديث الضغابيس والضغابيس يقال إنها هناة في أصول الثمام طوال رخصة تؤكل.

(الباب نفسه) 1147/ 6560 - قال أبو عبد الله: حدثنا موسى قال: حدثنا وهيب قال: حدثنا عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار يقول الله تعالى: من كان في قلبة مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجوه فيخرجون، قد امتحشوا وعادوا حمما، فيلقون في نهر الحياة، فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل أو قال: في حمأة السيل. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألم تروا أنها تنبت صفراء ملتوية. قوله: امتحشوا، يعني احترقوا وحميل السيل ما يحمله السيل من الغثاء، والحبة- بكسر الحاء- بذور النبات. والحمأة: الطين الأسود المنتن.

(35) (باب في الحوض)

(35) (باب في الحوض) 1175/ 6576 - قال أبو عبد الله: حدثني عمرو بن علي قال: أخبرنا محمد بن جعفر قال: حدثنا شعبة، عن المغيرة، قال: سمعت أبا وائل، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أنا فرطكم على الحوض وليرفعن رجال منكم، ثم ليختلجن دوني، فأقول: يارب أصحابي. فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. الفرط والفارط هو الذي يسبق إلى الماء، فيستقي لهم ويقرى في الحياض، حتى يردوا فيشربوا. وقوله: ليختلجن دوني، أي يعدل بهم عن الحوض وأصل الخلج الجذب وكل شيئين فرق بينهما فقد خلج أحدهما عن صاحبه.

(53) (الباب نفسه)

(53) (الباب نفسه) 1167/ 6585 - قال أبو عبد الله: وقال أحمد بن شبيب بن سعيد الحبطي قال: حدثنا أبي، عن يونس، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة أنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يرد علي يوم القيامة رهط من أصحابي فيحلؤون عن الحوض فأقول يا رب أصحابي. فيقول: إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك، إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى. قوله: يحلؤون، أي: يمنعون عن الحوض ويذادون عنه. يقال حلات الرجل عن الماء إذا منعته أن يرد. كقول الشاعر: محلأٍ عن سبيل الورد مصدود

(53) (الباب نفسه)

(53) (الباب نفسه) 1177/ 6587 - قال أبو عبد الله: حدثنا إبراهيم بن المنذر قال: حدثنا محمد بن فليح قال: حدثنا أبي قال: حدثني هلال، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: بينا أنا قائم إذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل بيني وبينهم (فقال: هلم) فقلت: إلى أين؟ قال: إلى النار والله قلت: ما شأنهم؟ قال: انهم ارتدوا بعدك على ادبارهم القهقرى، فلا أراه يخلص إلا مثل همل النعم. الهمل من النعم: ما لا يرعى ولا يستعمل، يترك مهملا لا يتعهد حتى يضيع ويهلك، وقد يكون المهمل أيضاً بمعنى الضوال.

كتاب القدر

كتاب القدر (6) (باب إلقاء العبد النذر إلى القدر) 1178/ 6608 - قال أبو عبدالله: حدّثنا أبو نعيم / قال: حدثنا سفيان عن منصور, عن عن عبدالله بن مرّه, عن ابن عمر قال: نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن النذر. قال: " إنه لايردُّ به شيئًا وإنما يستخرج من البخيل". قُلت: هذا باب غريب من العلم وهو أن ينهى عن الشيء أن يُفْعل, حتَّى إذا فعل وقع واجبًا. وفي قوله: وإنما يستخرج به من البخيل دليل على وُجوبِ الوَفاءِ بالنَّذْر.

كتاب الأيمان والنذور

كتاب الأيمان والنَّذُور (1) باب قوله تعالى: (لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ ..) 1179/ 6622 - قال أبو عبدالله: حدثنا أبو النعمان - محمد بن الفضل - قال: حدثنا جرير بن حازم قال: حدثنا الحسن قال: حدثنا عبدالرحمن بن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا حَلفْت على يمين, فرأيت غيرها خيرًا منها, فكفّر عن يمينك وَاتِ الذي هو خيرٌ ". قُلتُ: فيه جوازُ تقديم الكَفَّارة قبل الحِنْث وهو إذا كانت الكفَّارة عِتقاً أو طعاماً, فأما إذا لم يجدها فليس له أن يصوم قبل الحنْث لأن الصوم بَدلٌ عن واجب ولا وجوب للأصل مالم يحْنث فلا معنى للبدل. (1) (الباب نفسه) 1180/ 6625 - قال أبو عبدالله: وحدّثنا إسحاق بن

(1) (الباب نفسه)

إبراهيم قال: أَخبرنا عبدالرازق قال: أَخبرنا معْمر, عن هَمّام بن منبّه قال: حدثنا أبو هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم: والله لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يُعطى كفارته التي (فرض) الله عليه. (1) (الباب نفسه) 1181/ 6626 - قال أبو عبدالله: وحدّثنا اسحاق قال: أخبرنا يحيى بنُ صالح قال: أخبرنا معاوية, عن يحيى, عن عكرمة, عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من استَلج في أهله بيمين الحديث. استَلجْ: من اللَجاج, يريد أن يُقيم عليها ولا يتحلل منها بالكفارة.

(3) (باب كيف كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم؟)

(3) (باب كيف كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم؟) 1182/ 6636 - قال أبو عبدالله: حدّثنا أبو اليمان قال: أخبرنا شُعيب, عن الزُّهري قال: أخبرني عُروة, عن أبي عامِلاً, فجَاءه العامِلْ حين فَرغَ من عمله فقال: يارسُول الله هذا لكُم, وهذا أُهْدِي إليّ. فقال له: أَفلا قعدْت في بيت أبيك وأمك فنظرت أيُهدى لك أم لا؟ / ثم قام رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عشيّة بعد الصلاة, فتَشهّد وأّثنى على الله بما هو أهله, ثم قال: أما بعد: فما بالُ العامل نستعمله, فيَأتينا ويقول: هذا من عملكم وهذا أهدى لي. أفلا قعد في بيت أبيه وأمه, فنظر: هل يهدى له أم لا؟ فوالذي نفسي بيده لايَغُلُّ أحدكم منها شيئًا إلا جاء به يوم القيامة يحملهُ على عُنقه إن كان بعيراً جاء به له رُغاء, وإن كانت بقرة جاء بها لها خُوار, وإن كانت شاة جاء بها تيْعر, فقد بلّغتُ. قوله: تيْعر من اليعار وهو صوت الشّاء. وفيه من الفقه: أنّ

(3) (الباب نفسه)

هَدية العامل مردودة إلى بيت المال, وفيه دليل أنّ هدية الغريم لصاحب الدّين تجري مجرى الرّبا إلا أن يقتص من الحق, وكذلك سكنى المُرتهن الدّار المرهونة في يده إلا أن يكون يُكرى مثلها. وفيه إبطال كُل ذريعة وتلجئة, يتوصل بها إلى نفع لو انفرد بنفسه ولم يضمن بغيره لم تَطِب نَفْسُ صاحبه به. (3) (الباب نفسه) 1183/ 6632 - قال أبو عبدالله: حذَثنا يحيى بن سليمان قال: حدثني ابن وهب قال: أخبرني حَيْوه, قال حدّثني

(3) (الباب نفسه)

أبو عقيل -زُهرة بن معبد- أنه سمع جَدّه عبدالله بن هشام قال: كُنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عُمر بن الخطاب, فقال له عمر: يارسول الله لأنت أحبُّ إلى من كل (شيء) إلا نفسي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك. فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إليّ من نفسي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الآن ياعمر. قلت: حُبّ الإنسان نفسه طَبْعٌ وحبه غيره اختيار بتوسُّط الأسباب, وإنما أراد صلى الله عليه وسلم بقوله لعُمر, حُبّ الإختيار, إذ لاسبيل إلى قلب الطّباغ وتغْييرها عمّا جُبلت عليه يقول: لاتصدق في حُبي حتى تَفْدى في طاعتي وتُوثر رضاي على هواك وإن كان فيه هلاكك. (3) (الباب نفسه) 1184/ 6643 - قال أبو عبدالله: (حدّثنا عبد الله بن

(4) (باب لاتحلفوا بآبائكم)

مسْلمة, عن مالك, عن عبدالرحمن بن عبدالله بن عبالرحمن, عن أبيه, عن أبي سعيد أن رَجُلاً سمع رجلاً يقرأ) قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد) يُرددها, فلما أصبح جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , فذكر ذلك له, وكأن الرجل يتقالها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده أنها لتَعْدل ثُلث القرآن. قوله: يتقَالُّها, يعني يستقلها. وقوله: "إنها لتعدل ثُلث القرآن", أي: في الفضيلة والأجر, وليس يجوز تفضيل شيء من القرآن على شيء منه لذاته, فإن المفضول منقوص, وإنما فضّلت هذه السُورة في فضل ثوابها, إذ هي سورة الإخلاص ليس فيها شيء من العمل, إنما هي التوحيد والتفريد لاغير. (4) (باب لاتحلِفُوا بآبائِكم) 1185/ 6647 - قال أبو عبدالله: حدّثنا سعيد بن غفير

(9) باب قول الله تعالى (وأقسموا بالله جهد أيمانهم)

قال: حدّثنا ابن وهب, عن يونس, عن ابن شهاب قال: (قال) سالم قال: ابن عمر: سمعت (عُمَر) يقول: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم, إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم. قال عمر: فوالله ماحلفت بها منذ سمعته ذاكرًا ولا آثرا. قوله: آثرا, إنما هو من قولك: أثرت الحديث آثره, فأنا آثر إذا حدثت به عن غيرك. يقول: لم أحلف بأبي من قبل نفسي ولا حدثت به عن غيري. وقوله: ذاكرًا, ليس من الذّكر بعد النّسيان, إنما يريد مُحدثاً به من قولك: ذَكرت كذا, وثُلت كذا ونحوهما. (9) باب قول الله تعالى (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ) 1186/ 6656 - قال أبو عبدالله: حدّثنا إسماعيل قال:

(11) (باب عهد الله عز وجل)

حدثني مالك, عن ابن شهاب, عن ابن المسيب, عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لايموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد تمسُّه النار إلا تحلّه القسم. يريد بتحلة القسم قول الله عزّ وجل (وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا) يقال: حللت اليمين تحليلا وتحله إذا أبررتها. يقول: أنه حلل لايبقى في النار إلا بقدر مايُبر الله قسمه. وموضع القسم في قوله: (وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا). كأنه قال: / وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا وقال بعضهم: هو معطوف على قوله: (فَوَرَبِّك لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِين). (11) (باب عهد الله عزّ وجل) 1187/ 6659 - قال أبو عبدالله: حدّثنا محمد بن بشار قال: حدثنا ابن عدي, عن شعبة, عن سليمان ومنصور

(17) باب قول الله تعالى: (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا) إلى قوله ... (ولهم عذاب أليم)

عن أبي وائل, عن عبدالله, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من حلف على يمين كاذبة ليقتطع مال رجل مسلمٍ أو قال أخيه: لقي الله وهو عليه غضبان, فأنزل الله تصديقه (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ) الآية. 1188/ 6660 - قال سُليمان في حديثه: فمرّ الأشعثُ بن قيس فقال: مايُحدِّثكم عبدالله؟ قالوا له. فقال الأشعَثُ: نزلت فيّ وفي صاحب لي في بئر كانت بيننا. قُلت: فيه حُجُةٌ لمن رأى العهد يمينا وهو أن يقول: وعهْدِ الله, وقد جعله أبو حنيفه ومالك والأوزاعي يمينًا إذا حُنث كُفر. وقال الشافعي: إن أراد به يمينًا وإلا فلا. (17) باب قول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً) إلى قوله ... (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) 1189/ 6676 - قال أبو عبدالله: وحدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا أبو عوانة, عن الأعمش, عن أبي

كتاب كفارات الأيمان

وائل, عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حلف على يمينِ صَبْرٍ يقَتَطِعُ بها مال امرئ مسلم لقى الله وهو عليه غَضْبان. قُلتُ: يمين الصَّبْرِ, هي يمين الحكم يُصْبر عليها حتى يحلف. وأصلُ الصبر: الحبس, أي: يجبر عليها حبْرًا. وفيه حُجة لمن لم يَرَ في الغَمُوس كفارة. كتاب كفَّارات الأَيْمان (9) (باب الاستِثْناء في الأَيْمان) 1190/ 6718 - قال أبو عبدالله: حدَّثنا قتيبة بن سعيد قال: حدَّثنا حمّاد, عن غَيْلان بن جرير, عن أبي بُردَة بن أبي موسى, عن أبي موسى الأشعري قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في رَهط الأشعريين أستَحْمله. فقال: والله لا أحملُكم, ماعندي ماأحمْلُكم, ثم لبثنا ماشاء الله, فأتى بشَائِل, فأمر لنا بثلاثة ذَوْدٍ, وذكر الحديث. قوله: أتى بشائل, جاء بلَفْظ الواحد, والمراد به الجميع كالسَّامر والنادي. يقال: ناقةُ شائلٌ ونوق شَوْلُ إذا قلّت ألبانُها, وأصله من

كتاب الفرائض

قولك: شال الشّيْءُ, إذا ارتفع كالميزان/ ونحوه, يعني بذلك ارتفاع ألبانِها. يقال: شَائِل وشَوْلُ كما قيل: صاحب وصحب وراكب ورَكُب. وقد جَاء في غير هذه الرواية, فأتى بشَوائل وهي جَمْع شائِل. كتاب الفَرائض (5) (باب مِيرَاثِ الوَلَد من أبِيه وأُمِّه) 1191/ 6732 - قال أبو عبدالله: حدَّثنا مُوسى بنُ إسماعيل قال: حدَّثنا وُهْيب قال: حدَّثنا ابن طاو, عن أبيه عن ابن عبَّاس, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ألحِقُوا الفرائض بأَهلِها فما بقى فهو لأَوْلَى رَجُل ذَكَر)). ((قوله: الحقوا الفرائض بأهلها)) أي: بذَوي السِّهام الذين يرِثون سِهامًا مِعلومة. وقَولُه: ((قما بَقِى فهو لأَوْلى رَجُل ذكر)) , أي: لأَقْرب رَجُل من العَصبَة. والوَلْي: القُربُ. ومنه سُمِّى قَيِّم المرأة في العَقْد عليها وقَيِّم الطِّفل في حِفظِ مالِه وتدبير أمره وليًّا وذلك أنهما أقرَب الناسِ إليهما وأَولاَهُما بما يَليان من شأنهما.

(14) باب (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد ..) الآية

وقولُه: رجل ذكر, إنما كرر البيان في نَعْتِهِ بالذُّكورة ليُعلم أنَّ العَصبة إذا (كان) عَمًّا أو ابن عم أو من كان في مَعناهُما, فكان معه أختٌ له أنَّ الأخت لاترثُ شيئًا, ولا يكون باقي المال بينهما للذَّكر مِثلُ حَظِّ الأُنْثيَيْنِ كما يكون ذَلِك فِيمَن يرِث بالولادة. (14) باب (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ ..) الآية 1192/ 6744 - قال أبو عبدالله: حدّثنا عُبَيْدُالله بنُ موسى عن إسْرائيل, عن أبي اسحاق, عن البراءِ قال: آخِرُ آيةٍ نزلت خاتِمةُ سورة النساء: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ). قُلت: الكلالة في قول عامّة أهل العلْمِ مَنْ عدا الوالد والوَلد من الوَرثةِ. (20) (بابُ مِيراثِ السَّائبة) 1193/ 6753 - قال أبوعبدالله: حدّثنا قَبِيصةُ قال:

كتاب الحدود

حدثنا سفيان, عن أبي قَيْس, عن هُزَيْل, عن عبدالله -رضي الله عنه- قال: إنَّ أهل الإسلام لايسيِّبون وإنّ أهل الجاهليِّة كانوا يسيِّبون. قُلتُ: معناه إبطال حكم السَّائبة في الوَلاءِ والمِيراثِ, وهو أن يُعتق الرجلُ مملُوكَه سائِبةً, / فلا يكون له عليه وَلاءٌ ولايكون له منه مِيرَاثٌ على عادة أهل الجاهليَّةِ في ذلك, وقد ذهب إليه بعض أهلِ العلم فقال: السَّائبة يضع ميراثَهُ حيث شَاءَ. وقَولُ عامّة أهل العلم بخلافِه والولاء لمن أُعتق وسَواءٌ في ذلم السائبة وغيرُ السائبة. كتاب الحدود (7) (باب لعن السارق إذا لم يُسمَّ) 1194/ 6783 - قال أبو عَبدالله: حدَّثنا عُمر بن حفص بن غِياث قال: حدَّثنا الأّعَمشُ قال: سَمِعتُ

أبا صالح, عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لَعَن الله السَّارق, يسرقُ البيضةَ فَتُقْطعُ يَدُه, ويسرِق الحَبْل فتُقطعُ يَدُه. قال الأعمشُ: كانوا يَرَوْنَ أنه بَيْض الحديد, والحَبْل: كانوا يرون أنه مما يَسْوى دراهم. قُلتُ: تَأويلُ الأعمش هذا غَيرُ مطابقٍ لمذهب الحديث ومَخْرج الكلام فيه, وذلك أنه ليس بالسائغ في الكلام أن يقال في مثل ما ورد فيه هذا الحديث من اللوم والتثريب: أخزى الله فلانا عَرَّض نفسه للتلف في مَالٍ له قدر ومزية, وفي عَرَض له قِيمة. إنَّما يُضْرَب المَثَل في مِثْلهِ بالشيء الوَتِح الذي لاوَزنَ له ولا قيمة, هذا عادة الكلام وحكم العرف الجاري في مثله. وإنَّما وجه الحديث وتأويله: ذَمُّ السرقة وتهجينُ أمرِها وتحذيِرٌ سوءِ مغَبَّتها فيما قلَّ وكَثُرَ من الملا. يقول: إن سرقة الشيء اليسير الذي لاقيمة له كالبيضة المذرة, والحَبْل الخَلِقُ الذي لاقيمة له إذا تعاطاها المُسْتَرق, فاستَمرت بِه العادة لم يَنْشَبْ أن يؤديه ذلك إلى سَرِقَة مافَوقَها, حتى يبلُغ قَدْرَ مايقطَع فيه اليد, فتقطع يده. يقول: فَلْيَحذَر هذا الفعل وليتَوقّهْ قَبْل أن تَمْلِكَهُ العادة ويَمْرُنَ عليها ليسلم من سوء مغبته ووَخيمِ عاقِبتهِ.

(13) (باب قول الله تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) وفي كم يقطع؟)

(13) (باب قول الله تعالى: (والسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) وفي كم يُقطع؟) 1195/ 6790 - قال أبو عبدالله: حدثنا إسماعيل بن أبي أُويس, عن ابن وهب, عن يُونس, عن ابنِ شِهاب, عن عُروةَ بن الزُّبير وعَمرة, عن عائشة, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تُقطع يَدُ/ السَّارق في رُبْع دينار. 1196/ 6795 - قال أبو عبدالله: وحدثنا إسماعيل قال: حدثني مالك بن أنس, عن نافع, عن ابن عُمر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم: قَطَع في مَجِنٍّ ثمنه ثلاثة دراهم. قُلتُ: فيه البيانُ الواضِحُ أن اليد قد تُقطع فيما دون عشرة دراهم وليس أحدُ الحديثين بمخالف للآخر لأن الأصل في النّقد كان في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم الدنانير, وعلى ذلك جرت العادة في كَتَبَهِ وثائق البِيَاعَات: دراهم وزْن سَبْعَة إذا كانت

(17) (باب ميراث الملاعنة)

الأثمانُ دراهم, وكان صرف الدينار إذ ذاك اثني عَشَر دِرْهَمًا فيَخُصُ الرُّبْعَ من الدنانير ثلاثةُ دراهم, والحديثَان مُتَّفقان ليس بينهما خِلافٌ. كتاب الفَرائِض (17) (بابُ مِيراثِ المُلاعَنة) 1197/ 6738 - قال أبو عبدالله: حدَّثنا يَحْيَى بن قَزعة قال: حدثنا مالك, عن نافع, عن ابنِ عُمر, أنَّ رجلًا لاعَن امرأتَه في زمان النَّبي صلى الله عليه وسلم بينهما وألحق الوَلَد بالمرأة. قولُه: انْتَقل من ولدها, يعني انْتَفى منه يُقالُ: نَقلت الرجل عن نسبٍ كان يَعتزي إليه, أي نَفَيْتهُ. ومنه قَولُ المُتلمِّس:

(26) (باب لايرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم)

أرى عُصَمًا في نَصْل بُهثةَ رائما ... وينقُلُني عن آلِ زَيْدٍ فبيسما (26) (باب لايَرِثُ المسلم الكافِر ولا الكافرُ المُسلم) 1198/ 6764 - قال أبو عبدالله: حدَّثنا أبو عاصم, عن ابن جُريْج, عن ابن شهاب, عن علي بن حُسين, عن عَمْرو بن عثمان, عم أسامة بن زيد أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: لايّرِث المُسلم الكافر ولا الكافِرُ المسلم. قُلتُ: عُمومُ هذا القول يمنعُ التَّوارثَ بين كل مُسلم وكافر سواء كان الكافرُ على دينٍ يُقَرُّ عليه أو كان مُرتدَّاً يحب قتلُه وكذلِك يأتي عُمومه على كل مالٍ كان لع تَليدِ مِلْكه أو حديث كَسْبه بعدها.

(31) (باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت)

وقد ذهب بعض السلف إلى توريث المُسلم من الكافر. وقال: نَرثُهم ولايرِثُوننا, كما نَنْكحُ نساءهم ولايَنْكِحُونَ نِساءَنا وعُمومُ الخَبَر يَمنع منه. وذهب بعض الفقهاء إلى أنَّ ماكسبه المرَتدُّ فهو لورثته وماكان من قديم مِلْكه فهو فَيْءٌ. كتاب الحدود (31) (باب رَجْم الحُبلى من الزّنا إذا أَحصنت) 1199/ 6830 - قال أبو عبدالله: حدّثنا عبدالعزيز بن عبدالله قال: حدثنا ابراهيم بنُ سعد, عن صالح (عن ابنِ) شِهابٍ, عن عُبَيْد بن عبدالله بن عتبة بن مسعود, عن ابن عباس

- رضي الله عنه - قال: خَطَبَ عُمر - رضي الله عنه - فقال في خطبته: ثم إنه بلغَني أنَّ قائلًا منكم يقول: والله لو مات عُمَر بايعت فلانا, فلا يغْتَرَّنَّ امرؤٌ أن يقول: إنما كانت بيعْة أبي بَكْر فَلْتةً وتمَّت, ألا وإنها قد كانت كذلِكَ, ولكن الله وقَى شرَّها وليْس فيكم من تُقطع الأعناق إليه مِثلُ أبي بَكْر, وذكَر القِصّة إلى أن قا: فَتَشهَّد خطيب الأنصار فقال: أما بعد: فَنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام, وأنتم معشرُ المُهاجرين رَهْط وقدْ دَفّتْ دَافةٌ من قومكم, فإذا هم يُريدُونَ أن يَخْترلونا من أصلنا وأن يحْضُنُونا من الأمْر, فلمَّا سكت أَردتُ أن أتكلّم وكنت زورت مقالةً أعجبتني أريدُ أن أقدمها بين يدي أبي بكر وكنت أداري منه بعض الحدّ, فلمّا أَردتُ أن أتكلَّم قال أبوبكر: على رِسْلِكَ, فكرِهت أن أغضبَه, فتكلم أبو بكر, فكان هو أحلم مني وأوقر, والله ماترك من كلمة أعبتني في تزويري إلا قال في يَدِيهتِهِ مِثلَها أو أفضلِ منها حتى سَكت وساق الكلام إلى أن قال: فقال قائِلْ الأنصار: أنا جُذَيْلُها المُحكَّك, وعُذيْقها المُرَجَّب, منا أميرٌ ومنكم أميرٌ يامعشر قُريش, فكثُر اللّغط, وارتفعت الأصوات, حتى فَرِقتُ من الإختلاف فقُلتُ: ابسط يدَك يا أبا بكر, فبسط يدَه, فبايعْتُه وتابعَه المُهاجرون, ثم بايعته الأنصار وذكر الحديث إلى أن قال: فمَن بَايع رَجُلًا من غير مشورة من المسلمين, / فلا يتابع هو ولا الذي بايَعَهُ, تَغِرةً أن يُقتلا. قولهُ: إنّما كانت بيْعه أبي بكر فَلتهً, فإن معنى الفَلتةِ: الفُجَاءة.

وقوله: وليْس فيكم من تُقْطَعُ الأعناق إليه مِثْل أبي بكر, يُريد أنَّ السابق مِنكم الذي لايلحَق شَأوه في الفَضْل أحدٌ لايكون مِثلًا لأبي بكر لأنه قد أَبَدَّ على كل سابق, فلذلك مَضْت بيْعَتُهُ على حالِ فُجاءة ووقى الله شرَّها, فلا يطمعن بعده أحد في مثل ذلك ولا يبايعُنَّ إلا عن مّشورة واتفاق رَايٍ. وقوله: تّغِرَّة أن يقتلا, معناه: حّذّرا من القتل, وهو مصدر قولك غّرَّرتُ بالرجل تغريرا وتَغِرَّة, يُريد أنه إذا فعل ذلك فقد غَرَّر بنفسه وبِصاحبه وعرضها للقتل, وسُئل سَعد بن ابراهيم عن تفسير التَّغِرَّة. فقال: عقوبتهما أن لايُؤمَّرَ واحد منهما. وقوله: وأنتم مَعْشر المهاجرين رَهط وقد دَفَّت دَافَّةٌ من قومكم, يريدُ أنكم قومٌ طَرَأَةٌ وغُرباء, أقبلْتم من مَكَّة إلينا. والدَّافَّة: الرُّفقَة يدفّون في سَيرهم, والدّفيف: السير ليس بالشديد. والرَّهطُ: مابين الثَّلاثة إلى العشرة, أي: إن عَددكُم بالإضافة إلى الأنصار عّددٌ قليل. وقولُه: يُريدون أن يحضنُونا من الأمر, أي: يُخرِجونا من الأمر وأن يَستَأثِروا به علينا.

يُقال: حضنْتُ الرجل في الأمر, إذا اقتطعتُه دونه وعَزلته عنه. وقولُه: وكنت زورتُ مقالةً, يعني هيأتها وحسَّنتها. وقولُه: أنا جُذَيْلُها المحكك وعذيقُها المرجَّب, فإن الجُذيل تصغير الجّذْل, وهو عُود ينصب للإبل الجَرْبَى تحتكُّ به من الجَرَب, فأراد أنه (يُستشفَى بِرأيه, كما) تُستشْفَى الإبل بالإِحتكاك بِذلك العُود. والعُذَيق: تَصْغير العَذْق, والعَذق - بفتح العين - النخلة, وهي إذا كانت كريمة فمالت بَنَوْا لها من جانبها المائل بناء رفيعًا يعمدها لئلا تسقُط/ فذلك التّرجيب. وقَولُه: منا أمير ومنكم أمير, فإنما قال ذلك لأن أكثر العرب لم تكن تعرف الإمارة, إنما كانت تعرف السيادة, يكون لِكُلِّ قبيلة سيِّد, فلا تُطيعُ إلا سيِّد قومها فَجرى هذا القول منه على العادة المعهودة لهم في ذلك حين لم يعرف أن حكم الإسلام بخلافه, فلما بلغه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((الخلاقة في قُريش)) أمسك عن ذلك, فأقبلت الجماعة إلى البيعة وبذلوا من أنفُسِهم الطّاعة.

(27) (باب إذا أقر بالحد ولم يبين, هل للإمام أن يستر عليه؟)

(27) (باب إذِا أقرّ بالحدِّ ولم يُبيِّن, هل للإمام أن يستر عليه؟) 1200/ 6823 - قال أبو عبدالله: حدَّثنا عبدالقدوس بن محمد قال: حدَّثنا عمرو بن عاصم الكلابي قال: حدَّثنا همَّام بن يحيى قال: حدَّثنا إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة, عن أنس بن مالك قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم. فجاءه رجلٌ فقال: يارسول الله إني أصبْت حَدَّا فأقِمْهُ عليّ. قال: ولَم يسأله عنه قال: حضرت الصَّلاة, فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلّم, فلما قضَى الصَّلاة, قام إليه الرجلُ, فقال: يارسول الله إني أصبت حدَّا. فأقِم فيَّ كتاب اللهِ. قال: اليس قد صلَّيت معنا؟ قال: نعم. قال: فإن الله قد غفر لَكَ ذَنبك أو قال: حدَّك. قُلتُ: فيه من العِلم أنَّه لايُكشف عن الحدود وأنَّها تُدْرَأ ماوُجِد السبيل إليه, وهذا الرَّجُل لم يُفصِحْ بأمر يُلزَم به في الحُكْمِ إقامة الحدَّ عليه, إنما قال: إني أصبت حّدَّا ولعلّه أصاب بعض صغائر الذُّنوب أو نوعًا من اللمم الذي لايجب في مثله الحدُّ, فظنّ أنه حَدٌّ, فلم يَكشِفه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم, كما قال في حديث آخر: ((لعلَّك قَبَّلْتَ أو باشَرْت)) ورأى التعرض منه

(41) (باب ماجاء في التعريض)

لإقامة الحدِّ عليه توبةً منه, وقد صلى معه فقال: ((أليسْ قد صَلْيت معنا؟ فقال: نعم. (قال) فإنَّ الله قد غفر لك ذَنبك أو حدّك وهو تأويل قوله عزّ وجل: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) وقد يكون ذلك بأن يُعلِمَه الله/ بَوْحي منه أنه قد غَفَر له ذَنبه, ولو كان أفصَحَ له بأَمر يُوجب حدَّا لإقامه عليه ولم يعف عنه والله أعلم. (41) (باب ماجَاء في التَّعْريضِ) 1201/ 6847 - قال أبو عبدالله: حدثنا إسماعيل قال: حدثني مالكٌ, عن ابن شهاب, عن سعيد بن المُسيّب. عن أبي هُريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جَاءَه أعرابي فقال: يارسول الله إن امرأتي ولدت غُلاما أسود. فقال: هلْ لَكَ من إبلٍ؟ قال: نعم. قال: ماألوانها؟ قال: حُمر. قال: فيها أورق. قال: نعم. قال: فأنَّي كان ذلك؟ قال: أراه عِرْقُ نزعه. قال: فلعل ابنك هذا نَزَعَهُ عرق. في هذا الحديثِ من العِلْم: أنَّ التّعريض بالقذف لا يُوجِب

كتاب الديات

حدّا, وفيه إثبات الشّبه والقيَاس به, وإنّما سأله عن ألوان الإبلِ وهي حَيوان تَجْري طِباعُ بعضها على مُشاكله بعض في اللّون والخِلْقة, ثم قد يندُر منها الشيئُ لعلة أو عارض سبب, فردّ إليها أمر الآدمِيِّين فيما يظْهر فيهم من اخْتِلافِ الخَلْق والألوانِ من أجل نوادر الطِّباع ونَوازع العروق وهذا أصلٌ في قياس الشَّبَه, وفيه الرَّجرُ عن تحقيق ظنِّ السّوء. وفيه تقديم حُكم الفراش على اعِتبارِ الشّبِه. كتاب الدِّيَاتِ (2) باب قَول اللهِ تعالى: (وَمَنْ أَحيَاهَا ..) 1201/ 6875 - قال أبو عَبدِاللهِ: حَدَّثنا عَبدُالرَّحمن بنُ المُبارك قال: حدَّثنا حمَّاد بنُ زيد: قال: حدَّثنا أَيوبُ ويُونُس, عن الحَسَن, عن الأحنف بن قيس, قال: ذهبتُ لأَنصرُ هذا الرَّجُل, فَلقِيني أبَو بَكْرة قال: أين تُرِيدُ؟ قُلتُ: لأَنصُر هذا الرَّجُلَ, قال ارجِع, فإنّي سمعتُ رسَول الله صلى الله عليه وسلّم يَقُول: إذا التقى المُسلِمان بسِيْفَيْهما فالقَاتِلُ

والمقْتولُ في النَّار. قُلتُ: يارسول اللهِ هذا القَاتِلُ, فما بالُ المقْتُول؟ قال: إنَّه كان حرِيصًا على قَتْل صاحِبه. قولُه: ((القَاتِلُ والمَقْتولُ في النَّار)) , هذا إنَّما يَكون كذلك إذا لم يكونا يتقاتَلان على تأويل إنَّما يتقاتلان على عَداوة بَيْنَهُما أو عَصَبيَّة أو طَلبَ دُنْيا أو نحوِها من / الأمور, فأمَّا من قاتل أهلَ البَغْي على الصِّفَة التي يَجِبُ قِتالُهم عليها, فقُتِل أو دَفع عن نفسه وحَرِيمهِ فَقَتل, فإنه لايَدْخُل في هذا الوَعيدِ لأنّه مأمُور بالقِتَال للذَّبِّ عن نَفسِه غيرُ قاصدٍ به قَتْلَ صاحبه. ألا تراه يقولُ: ((إنَّه كان حَريصًا على قَتْلِ صاحبه)) ومن باغِيًا أو قاطَع طَريقٍ من المُسلمين فإنه لايحرصُ على قتله, إنَّما يدفَعُه عن نفسِه, فإذا انتَهى صاحِبُه كَفَّ عنه ولم يتبعْه. فبانَ أَنَّ الحديثَ لم يَرِدْ في أهلِ هذه الصَّفةِ, فأمَّا مَنْ خَالف هذا النَّعْتِ فهو الذِي يَدخُل في الحَديثِ الذي ذَكَرناه ويُؤكِّد ذَلِك حديثُ ابن عبَّاس.

(9) (باب من طلب دم امرئ بغير حق)

(9) (باب من طلب دم امرئ بغير حقٍّ) 1203/ 6882 - قال أبو عبدالله: حدَّثنا أبو اليَمان قال: أخبرنا شُعيب عن عبدالله بن أبي حسين قال: حدَّثنا نَافِعُ بنُ جُبَيْر, عن ابن عباس أنَّ النبي صلّى الله عليه وسلم قال: أبغَضُ الناس إلى الله ثلاثَةٌ: مُلحدٌ في الحرام, ومبتغٍ في الإسلام سُنَّة الجاهلية, ومُطَّلبٌ دم امرئ بغَيْر حَقّ ليُهَريق دّمهُ. (14) (باب القصاص بَيْن الرِّجال والنِّساء في الجِراحاتِ) 1204/ 6886 - قال أبو عبدالله: حدَّثنا عمرُو بنُ عَليَّ قال: حدَّثنا يَحْيَى قال: حدَّثنا سُفيان قال: حدَّثنا مُوسى بنُ أبي عَائِشة, عن عُبيد الله بن عبدالله, عن عائشة قالت: لدّدْنَا النبي صلَّى الله عليه وسلم في مرضه فقال: لاتَلُدُّوني. فقُلنا: كَراهِيَة المَرِيض للدواءِ. فلمَّا أفاق (قال) لايَبقَى أحدٌ مِنكُم إلا لُدَّ

(10) (باب العفو في الخطأ بعد الموت)

غير العَبَّاس, فإنه لم يَشهدكم. قُلتُ: فيه حُجَّةٌ لَمن رَأَى في اللّطمةِ والسَّوطِ ونَحْوهما من الضَّربِ والإيلام, والقِصاصَ على وَجْه التَّحرِّي وإن لم يُوقف على حّدّه, لأن اللُّدُود يتَعذَّر ضَبطُه وتَقديرُه على حدٍّ لايُتَجاوَز. وفيه دَليلٌ: على أنَّ الشُّركاءَ في الجنَاية يُقَصُّ من كُلّ واحدٍ منهم إذا كانت أفعالُهم لاتَتَمَيَّز كالنَّفَر يَشْتركُون في قَتْل نَفس واحدةٍ, أو قَكْع يَدِ رَجُل, أو ماأَشبه ذَلك مِمَّا لايَتميّز فيه الفِعلُ, ولايتجزَّأُ ولَيسَ كَذلِك الجِنَاية في أخْذِ المَالِ, لأنَّها قد تَتَبعَّضُ/وتَتَجزَّأُ, فلو أن جَماعة اشتركُوا في سَرِقَة رُبعْ دينارٍ لم يُقْطَعُوا ما لم يبلغ المَالُ المسْروق مايُخصّ كلُ واحدٍ منهم رُبْعَ دينارٍ, ولو اشْتَركوُا في قَتل نفْس واحدةٍ كانوا مقتولين بها. (10) (باب العَفْو في الخَطَأِ بعدَ المَوتِ) 1205/ 6883 - قال أبو عبدالله: حدَّثني محمدُ بنُ حَرْب قال: حدَّثنا أبو مَرْوان- يَحْيى بنُ أبي زَكَرِبَّا الواسِطي, عن هِشام, عن عُروةَ, عن عائشة قالت: صرخ إبليس يومَ أحد في النَّاس: ياعبادَ الله أُخْراكُم, فرجعت أولاهُم على أخراهم,

(20) (باب دية الأصابع)

(فاجتلدت هي وأُخْرَاهم) حتّى قَتلُوا اليَمان. فقال حُذيْفَةُ: أبي أبي, فقلوه. فقال حُذَيْفَة: غَفَر الله لكُم. فيه من الفِقْه: أَنَّ المسلم إذا قَتَلَ صاحِبَه خَطَأَ غَيْر قاصدٍ لقتله, فإنه لاشيءَ عليه, فكذلم القَوْم يزدَحمون في بعض الطُّرُق أو في يَوْم جمعة أو في طوافِ البيت ونحوها من المواطن, فيُصيبُ بَعضَهُمْ ضَغْطٌ فَيَهْلك, فإنَّهُ لايُؤخذ منهم أحدٌ بدَمه إلا أن يُعَلم أن قد فَعَل ذلك قَصدًا إلى إهلاكِه, فإنه مَأخوذٌ بما جَنَاه. (20) (باب دِيَة الأصابعِ) 1206/ 6895 - قال أبو عبدالله: حدّثنا آدمُ قال: حدَّثنا شُعْبةُ, عن قَتادة, عن عِكْرمة, عن ابنِ عَبَّاس, عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: هَذِه وهذه سواء, يعني الخِنْصَر والإبهام. قُلتُ: هّذَا أَصلٌ في كُلِّ شيءٍ من الجنايات لايُضبَطُ, فيُعلم

(22) (باب القسامة)

قَدْرُهُ ويُوَقفُ على كَمَّيته, فإنّه إذا كان كذلك ولم يَكن اعتباره من طَريق المعْنى كام الحُكْم فيه مُعتَبرًا من طريقِ الاسْم كالأصابعِ والأسْنانِ ونحوها من الأعضاءِ والجَوَارح ذَواتِ العَدد في بدن الإنسان وكانَت دِياتُها مُتَساوية وإن اخْتلف جَمالُها ومَنافعُها ومَبلغ أفعالِها فيما أُرصِدَت له من الأُمور ومَعْلُومٌ أن للإبهْام من القُّوة والمنفَعَةِ ماليس للخِنْصَر, ثم جُعِلتْ دِيتُها سَواءً على المعْنى الذي قُلناه. وكذلك الأَمرُ/ في المواضِع قليلها وكَثيرها سَواءٌ, وقد تأخذ من الرَّأسِ والوَجْه مساحةً أكْثَرَ وأقلَّ وكَذلك الأمر في الجنين, ودِيَته ذَكَرَهُ وأُنثاه سَواء, والعِلَّة في جميع ذَلِك أنَّه لايُضبطُ ولا يُحاطُ به أحاطة حَصْر, ولايُوقَفُ عليه وعَلى دَقَائِق مَعانيه, فحُمل الأَمرُ في ذلك على جُملةِ الاسْم, والله أعلم بالمصالح وأَحصى للمبالغِ في كل مَعْلوم: (أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) (وَأَحْصَى كُلّ شَيْء عَدَدًا). (22) (باب القَسَامَة) 1207/ 6899 - قال أبو عبدالله: حدَّثنا قُتَيْبة بنُ سعيد قال: حدَّثنا أبو بِشْر -إسماعيل بنُ ابراهيم الأَسديّ- قال: حدَّثنا

(24) (باب العاقلة)

الحجَّاجُ بنُ أبي عُثمَان قال: حدَّثنى أبو رَجَاء من آل أبي قلابة قال: حدَّثني أبو قِلابة في قِصّة القَسَامَةِ أنَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: يَعْني لأهل القَتيل بِمَن تَظُنُّونَ أو مَنْ تَروْن قَتله؟ قالوا: أنتُم قَتَلْتُمْ هذا؟ قَالوُا: لاَ. قال: أَترضَونَ نَفَل خَمْسِين من اليَهُود ماقَتَلُوه؟ فقالوا: مايُبالون أن يقْتلُونَا أَجمعِين, ثم يَنْفُلون. قال: أَفَتَسْتَحِقُّونَ الدِّية بإيمانِ خَمْسِين منكم؟ قالوا: ماكُنَّا لِنَحْلِف, فَودَاه من عِندِه. مَعْنى النَّفل: اليمين. وقوله: ينْفلوم معَناه يَحْلفُون, وأصله من قَوْلك: نَفَلْتُ الرجل عن نسبه, أي نفيته منه. وقولُه: (أَفَتَسْتَحِقُّونَ الدِّية بإيمانِ خَمْسِين منكم) , يَدُلُّ على أَنَّ القَسامةَ لايُستَحَقُّ بها الدَّمْ, إنما توجب الدِّية لاغَيْر. (24) (باب العَاقِلَة) 1208/ 6903 - قال أبو عبدالله: حدَّثنا صدقَةُ بنُ الفَضْل قال: حدَّثنا ابنُ عيينة قال: حدَّثنا مُطَرِّف قال: سَمِعْتُ

الشّعْبِيَّ قال: سَمِعتُ أبا جُحيفَة: قال: سألتُ علِيًا هل عِنْدكُم شيء مما ليسَ في القُران؟ وقال مرَّةً: مِمَّا لَيْسَ عِند النَّاس. فقال: والَّذي فلق الحَبَّة وبَرَأَ النَسمة ماعِندنا الاَّ مافي القرآن إلَّا فَهمًا يُعْطَى رَجلٌ في كِتابِهِ وما في الصَّحيفَة. قُلت: ومافي الصَّحيفةِ؟ قال: العَقْلُ وقَكَاكُ الأسير وأن لايُقَتل/ مُسلِمٌ بكافر. قَولُه: إلَّا فَهمًا يُعْطَى رَجلٌ في كِتابِهِ, يعني مايُفهم من فَحوى كلامه ويُسْتَدْرَكُ من باطن معانيه التي هي غيْر الظَّاهر من نصه والمتلقى من لفْظهِ ويْدخُل في ذلك جَميع وجوهِ القياس والاسْتنباط التي يُتوصل إليها من طَرِيق الفهم والتَّفهُّم. وقولُه: ((العقل وفَكاك الأسير)) , فإنه أرادَ بالعقلِ ماتتحمَّله العاقِلَة من دِيَة القَتيل خَطَأ, وذلك أنّ ظاهره يُخالف الكِتاب وهو قولُه: (ولاتَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخرَى) وإنّما هو تَوْقِيفٌ من جِهَة السُّنَّةِ أُريد به المَعُونَة وقُصِد فيه المَصْلحة ولو أُخِذَ قَاتِلُ بالخَطَأ بالدَّيةِ لأوشَكَ أن يأتي ذلك على جميع مالِه, فيحْتَاج ويَفْتقِر, وذلك لأَنَّ تَتَابُعَ الخَطَأ منه غَيْر مَأمونٍ والخَطأ في حُكم الدِّين عنه مَوضُوعٌ, ولو تُرِك الدَّمُ فلم يُعَوَّض عنه أولياءُ القَتيل لَصَار هَدَرًا والدَّمُ لايَذْهَب بَاطِلا. فقيل لِعَصَبة القَاتِل: تَرافَدُوا وتَعَاوَنُوا, فأدُّوا عنه الدَّيةَ, ولم يُكلفُوا منه إلا الشَّيء اليَسيرُ الذي لايُجحفُ بهم وهو قَدْرُ نِصْفِ دِينَار أو رُبْع دِينَار على حَسَب الوسع

والجدَة, وقد حُقِن الدَّم وكان فيه إصلاحُ ذَات البينْ, ثم إنّ العَصَبة الذين هم العَاقِلة يَرثون صاحِبَهم الذي يَدُونَ عنه مرّه المَالَ كُلَّه إذا لم يكُن أصحابُ سِهَام, والفاضل عَنْهم منه إذا كانَوُا. وهَذِه الأُمور كلُّها خارجةٌ على معَاني الحِكمة وسُبُل المَصْلحة والحمدلله. وأمَّا فَكَاك الأسير: فإنه نَوعٌ من المعُونة, وبابٌ من حُقوق المعْروف زَائِدٌ على الحُقُوقِ الوَاجِبَة في الأموالِ من الصَّدقات المَفْروضَةِ. فأُلحِقَ بالعَقْل لأنَّ سبيلهُما واحدٌ في إنقاذِ النَّفْس التي قد أَشرَفَت على الهَلَكة وتَخْليصِها منها. وقَولُه: وأن لا (يُقَتل) مؤمنٌ/ بِكافِر, فإنما أَدخلَه في جُملة مااستَثْناه عن ظَاهر القُرآن, لأنَّ عُموم الكِتاب يُوجبُ القودّ على كُلِّ مَنْ قَتَل نفسا مُسلمةً أو كافَرةٌ, وهو حقّ الظّاهر من قوله: (النَّفْس بالنَّقْسِ) , فخَصَّت السنة نَفْسَ المُسلم إذا قَتَل الكافِرَ بأنْها غير مَقْتولة به, فلأجل ذلك اشترط خُروجَ هَذه الخِلالِ من الكتاب, أي: من نصّه, وظاهره, وإن كانت على وِفاق حُكْمِهِ ومعْنَاه.

(25) (باب جنين المرأة)

(25) (باب جَنين المرأة) 1209/ 6905 - قال أبو عبدالله: حدَّثنا موسى بن إسماعيل قال: حدَّثنا وُهيب قال: حدَّثنا هشام, عن أبيه, عن المُغيرة بن شُعبة, عن عمر -رضي الله عنه- أنه استشارهم في إملاص المرأة فقال: المغيرة: قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالغُرَّة عَبْدٍ أو أمة, فشهد محمد بن مسلمة أنه شهد النبي صلى الله عليه وسلم قضى به. إملاصُ المرأة: إسقاطُها الولد. وأصل الإملاص: الإزلاقُ وكل شيء يزلِق من الكفّ فهو مَلِص. يقال: مَلِصَ الشيء بين يدي مَلَصًا. والغُرَّة: النسَمة من الرقيق ذَكَرًا كان أو أنثى.

كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم

كتاب استتابة المُرتدِّين والمُعاندين وقتالهم (1) (باب إثم من أشرك بالله) 1210/ 6921 - قال أبو عبدالله: حدَّثنا خَلاد بن يحيى قال: حدَّثنا سفيان, عن منصور والأعمش, عن أبي وائل, عن ابن مسعود قال: قال رجل: يارسول الله أنؤاخذ بما عَمِلنا في الجاهلية؟ قال: من أحْسَنَ في الإسلام لم يُؤاخذ بما عَمِل في الجاهلية ومن أساء في الإسلام أُخِذ بالأول والآخر. قلت: ظاهر هذا الحُكم خِلاف ما أجمعت عليه الأمة من (أنَّ) الإسلام يَجُبُّ ما قبله. قال الله تعالى: (قُلْ لِلّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَا قَدْ سَلَف) وَوَجه هذا الحديث وتأويله: أنَّه إذا أَسلم مرة لم يُؤاخذ بما كان سَلَف من كُفْرِه ولم يُعاقَب عليه وإن أساءَ في الإسلام غَايةَ الإساءَة ورَكِبَ أشدَّ ما يكون من المعاصي مادامَ ثابِتًا على إسلامِهِ

كتاب الإكراه

وإنما يُؤخذ بما جَنَاه في الإسلام من المعصية ويُعيّر بما كان منه في الكفر ويُبَكَّتُ به كأنه يقال له: أليس قد فعَلت كَيت/ وكَيت وأنت كافِر؟ فهَلّا مَنَعك إسلامُك من مَعَاودَة مثلِهِ إذ أسلّمْت؟ ثم يُعاقَب على قّدْر مايَستحقُهُ من المعصية التي اكتْسَبَها في الإسلام ولا يجوز أن يُعاقب عُقوبة الكفار؛ لأن المسلم لا يخَلُد في النار والكافر مُخَلّد فيها أبدًا. كتاب الإكراه (2) (باب في بَيْعِ المُكْرَه ونَحْوِه في الحقِّ وغيره) 1211/ 6944 - قال أبو عبدالله: حدَّثنا عبدالعزيز بن عبدالله قال: حدَّثني الليث, عن سعيد المَقْبُريِّ, عن أبيه, عن أبي هريرة قال: بينما نحن في المسجد؛ إذ خَرَج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: انطَلِقُوا إلى يهودَ, فخرجنا حتى جئنا بيت المِدْرَاسِ فقال: يا معشر يهود: أسلموا تسلمُوا.

كتاب التعبير

فقالوا: قد بلغت يا أبا القاسم. فقال: اعلموا أنما الأرض لله ورسوله وأني أريدُ أن أُجلِيَكُم, فَمْن وجد منكم بماله شيئًا فلْيَبعه, وإلا فاعلموا أنما الأرض لله ولرسوله. استدلَّ أبو عبدلله به في جَوَاز بَيْع المُكْره, وهذا ببَيْع المُضْطَر أَشْبَه وإنما المُكره على البَيْع هو الذي يُحْمَل على بَيْع الشيء شاء أم أبَى, واليهود لو لم يَبيعوا أراضيِهم لم يُحْمَلوا عليه, وإنما شَحُّوا على أموالِهِم, فاخْتَاروا بَيعها, فصاروا كأنهم اضْطُرُّوا إلى بَيعها كمن رَهِقَه دَينٌ واضْطُرَّ إلى بَيع ماله, فيكُون ذلك جائزًا ولو أُكْرِهَ عليه لم يَجُزْ. كتاب التَّعبير (26) (باب القَيْد في المنام) 1212/ 7017 - قال أبو عبدالله: حدَّثنا عبد الله بن الصَّبَّاح

قال: حدَّثنا مُعْتمر قال: سَمِعْت عَوفًا قال: حدَّثنا محمد بن سيرين أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا اقترب الزمان لم تَكَد تَكذِب رُؤْيا المؤمن, ورؤيا المؤمن جزء من ستة أربعين جُزءًا من النبوة, وما كان من النبوة فإنه لا يَكْذِب قال محمد: وأنا أقول هذه. قال: وكان يقال: الرُّويا ثلاث: حديثُ النفس, وتخويفُ الشيطان, وبُشرى من الله, فمن رأى شيئًا يكرهُه فلا يَقُصُّه على أحد وليقُم فليُصَلّ. قال: وكان/ يكره الغُلَّ في النوم, وكان يُعجبهم القَيْد (يقال" القَيْد) ثَبَاتٌ في الدين. ورواه قتادة ويونس وهشام وأبو هلال, عن ابن سيرين عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم وأدرجه بعضهم كُلَّه في الحديث, وحديث عَوفٍ أبْيَنُ. وقال يونس: لا أحسبه إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم في القَيْد. قوله: إذا اقْترب الزمان فيه قولان: أحدهما: أن يكون معناه تقارُب زمان الليل والنهار وقت استوائهما أيام الربيع, وذلك وقت اعتدال الطبائع الأربع غالبًا, وكذلك هو في الخريف والمُعَبِّرون يقولون: أصدقُ الرؤيا ما كان وقت

اعتدال الليل والنهار, (وإدراكِ الثمار) ويَنْعها. والوجه الآخر: أن اقترابَ الزمان انتهاء أمده إذا دنا قيام الساعة. وأما قوله: رؤيا المؤمن جزءٌ من ستة وأربعين جزءًا من النبوة, فقد كان بعض أهل العلم يقول في تأويله قولًا لا يكاد يتحقق من طريق البُرهان. قال: وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثد بقي مُنذُ أول ما بدئ بالوحي إلى أن تُوفِّي ثلاثًا وعشرين سنة, أقام منها بمكة ثلاث عشرة سنة وبالمدينة عشر سنين, وكان يُوحى إليه في منامه في أول الأمر بمكة ستةُ أشهر وهي نصف سنة, فصارت هذه المُدَّة جزءًا من ستة وأربعين جزءًا من أجزاء مُدَّة زمان النبوة. قلت: وهذا وإن كان وجهًا قد تحتمله قِسمة الحساب والعدد, فإن أول ما يجب فيه أن يَثْبت ما قاله من ذلك خبرًا وروايةً, ولم نسمع فيه خبَرًا, ولا ذكر قائل هذه المقالة فيما بلغني عنه في ذلك أثرًا, فهو كأنه ظنٌ وحُسبان, والظن لا يغني من الحق شيئًا. ولئن كانت هذه المدة محسوبة من أجزاء النبوة على اذُهب إليه من هذه القسمة, لقد كان يجب أن تُلحق بها سائر الأوقات التي كان يُوحى إليه في منامه في تضاعيف أيام حياته, وأن تُلتَقط فتُلفَّق وتُزاد في أصل الحساب, وإذا صِرنا إلى هذه القضية بطلت هذه القسمة وسقط هذا الحساب من أصله. وقد ثبث عن رسول الله

صلى الله عليه وسلم في عدَّة أحاديث من روايات كثيرة أنه كان يرى الرُّؤى المختلفة في أمور الشريعة ومُهِمَّات أسباب الدين, فيقَصُّها على أصحابه, وكان يقول لهم إذا أصبح, من رأى منكم رؤيا؟ , فيقُصُّونها عليه. وقال لهم: "رأيتُ ليلة القدر, فخرجت لأخبركم بها, فتلاحى رجلان في المسجد فأُنسِيتها, فاطلبوها في الوتر من العشر الأواخر من الشهر" , وقال يوم أحد: رأيتُ في سيفي ثُلمة, وكأني مردفٌ كبشا, فتأول ثُلمة السيف يصاب في أصحابه وأنه يُقتل كبش القوم, فكان أبيَّ بن خلف.

وقال: رأيتُ كأني أنزع على قليب بدلو بكرة, فجاء أبو بكر, فأخذ مني, فَنَزع نزَعًا ضعيفًا والله يغفر له, ثم جاء عمر فاستحالت في يده غربًا فلم أرَ عبْرِيًّا يفرِي فَرِيه, فكأن ذلك مُتأولًا على خلافتهما. وقال حين سُحِر: رأيتُ رجلين أتياني, فقعد أحدهما عند رأسي, وقعد الآخر عند رجلي, فقال: أحدهما لصاحبه: ما بال الرجل؟ قال: مطبوب. قال: في مُشط ومُشاقة وجُفِّ طَلْعَة في بئر ذَرْوان, فجاءها رسول الله عليه وسلم, فاستخرجها في أشياء كثيرة العدد, وكان بعض أمور الشريعة عن رؤيا أُريَها بعض أصحابه كرؤيا عمر بن الخطاب وعبد الله بن زيد الأذان في منامهما, فكان ذلك بمنزلة الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه

وسلم, ولذلك صار شريعة ودينًا. ومنها رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم أشياء ذات عدد ذكرها في الحديث, وهذه بعد الهجرة وإلى من هذه كلها مانطق به الكتاب من رؤيا الفتح في قوله: (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ) الآية, وقال: (ومَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا التي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) فدلَّ ماذكرناه من هذا وما تركناه من هذا الباب على ضعف هذا التأويل, ونقول: إن هذا الخبر صحيح وجُملة مافيه حقٌّ وليس كل ما يخفى علينا علَّته لا تلزمنا حجُّته, وقد نرى أعداد ركعات الصلوات وأيام الصيام رَمْيَ الجمار محصورة في حسابٍ معلوم وليس يُمكننا أن نصل من علمها إلى أمر يُوجب حصرها تحت هذه الأعداد ثون ما هو أكثر منها أو أقل, فلم يكن ذهابنا عن معرفة ذلك قادحًا في موجب الاعتقاد منا في اللازم من أمرها. وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: "إن الهدى الصالح والسَّمت الصالح جزءٌ من خمسة عشر جزءًا من النبوة"

(48) (باب تعبير الرؤيا بعد صلاة الصبح)

وتفصيل هذا العدد وحصر النبوة به متعذِّر لا يمكن الوقوف عليه, وإنما فيه هاتين الخصلتين من هدي الأنبياء وشمائلهم وأخلاقهم, فكذلك الأمر في الرؤيا أنه جزءٌ من ستة وأربعين جزءًا من النبوة. ومعنى الحديث تحقيق الرؤيا, وأنها مما كان الأنبياء يُثْبتُونه ويُحققونه, وأنها كانت جزءًا من أجزاء العلم الذي كان يأتيهم , والأنبياء التي كانت ينزل بها الوحي عليهم, والله أعلم. (48) (باب تعبير الرُؤيا بعد صلاة الصُّبح) 1213/ 7047 - قال أبو عبدالله: حدَّثنا مُؤمّل بن هشام قال: حدَّثنا إسماعيل بن إبراهيم قال: حدَّثنا عوف قال: حدَّثنا أبو رجاء قال: حدَّثنا سَمُرة بن جُنْدُب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: هل رأى أحد منكم من رؤيا؟ قال: فيَقُصُّ عليه من شاء أن يَقُصّ, وأنه قال لنا ذات غَدَاةٍ: إنه أتاني الليلة آتيان وأنهما ابتعثاني, وأنهما قالا لي انطلق،

وإني انطلقتُ معهما، وإنا أتينا على رجل مضطجع، وإذا آخرُ قائم عليه بصخرة، وإذا هو يهوي بالصخرة لرأسه فيَثْلغ رأسَهُ فيتدَهدَأ هذا الحجر ها هنا، فيتبعُ الحجرَ فيأخُذُه، فلا يَرجعُ إليه، حتى يصحَّ رأسُه كما كان، ثم يعودُ عليه فيفعل به مثلَ ما فَعَلَ به المرّةَ الأولى. قال: قلتُ لهما: سبحان الله ما هذانِ؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق، قال: فانطلقنا، فأتينا على رجل مستَلْقٍ لقَفاهُ، وإذا آخرُ قائمٌ عليه بكَلُّوبٍ من حديد، وإذا هو ناتاءُ أحدِ شِقّي وجهه فيُشرشِر شِدْقه إلى قَفاه ومِنْخَره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه, قال: وربما قال أبو رجاء: فيشُقُّ. قال: ثم يتحول إلى الجانب الآخر فيفعل به مثل ما فعل بالجانب الأول، فما يَفرُغ من ذلك الجانب حتى يصحَّ ذلك الجانب كما كان، ثم يعودُ عليه فيفعل مثلَ ما فعل المرّة الأولى. قال: قلت: سبحانَ الله ما هذان؟ قال: قالا: انطلق انطلق، فانطلقنا، فأتينا على مثل التنُّور. قال: فأحسَبُ أنه كان يقول: فإذا فيه لَغَطٌ وأصواتٌ، قال: فاطلعْنا فيه، فإذا فيه رجالٌ ونساءٌ عراة، وإذا هم يأتيهم لَهَبٌ من أسفلَ منهم، فإذا أتاهم ذلك اللهب ضَوْضَوْا. قال: قلتُ لهما: ما هؤلاء؟ قال: قالا لي: انطلق، قال: فانطلقنا، فأتينا على نهر حسِبتُ أنه كان يقول: أحمر مثل الدم، فإذا في النهر رجلٌ سابحٌ يَسبَح، وإذا على شَط النهر رجلٌ قد جَمَعَ عندَه حجارةً كثيرةً، وإذا ذلك السابحُ يسبحُ ما

يسبحَ، ثم َّ يأتي ذلك الذي قد جمعَ عندَه الحجارةَ، فيفغَر له فاهُ فيلقمُهُ حجراً. قال فينطلقُ, فيسبَح، ثم يرجعُ إليه، كلما رَجَعَ إليه, فغَرَ له فاهُ, فألقمه حجراً. قال: قلت لهما: ما هذان؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق، قال: فانطلقنا، فأتينا على رجل كريهِ المرآةِ، كأكرهِ ما أنتَ راءٍ رجلا مرآةً، فإذا عندَهُ نار له يحُشُّها ويسعى حولها. قال: قلت لهما: ما هذا؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق، فانطلقنا، فأتينا على روضةٍ معْتمة فيها من كل نَور الربيع، وإذا بينَ ظهري الروضة رجلٌ طويلٌ، لا أكادُ أرى رأسَه طولاً في السماء، وإذا حَولَ الرجل من أكثرِ ولدانٍ رأيتهم قط، قال: قلت لهما: ما هذا ما هؤلاء؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق، قال: فانطلقنا فانتهينا إلى روضةٍ عظيمة، لم أرَ روضةً قط أعظمَ منها ولا أحسن، قال: قالا لي: ارْقَ فيها، قال: فارتقينا فيها، فانتهينا إلى مدينة مبنيّة بلبنِ ذهبٍ ولبنِ فضةٍ، فأتينا بابَ المدينةِ فاستفَتحنا ففتحَ لنا فدخلناها، فتلقانا فيها رجالٌ شطرٌ من خَلْقِهم كأحسنِ ما أنتَ راءٍ، وشطرٌ كأقبحِ ما أنت راءٍ، قال: قالا لهم: اذهبوا فقَعوا في ذلك النهر، قال: وإذا نهرٌ معترِض يجري كأنَّ ماءه المحضُ من البياض فذهَبوا فوقعوا فيه، ثمَّ رجعوا إلينا قد ذَهبَ ذلك السوءُ عنهم، فصاروا في أحسَنِ صورة. قال: قالا لي: هذه جنة عدنٍ وهذاك منزلك، قال: فسمَا بصري صُعُداً, فإذا قصرٌ مثل الرَّبابةِ البيضاء. قال: قالا لي: هذاك منزِلك، قال: قلت لهما: بارك الله فيكما, ذراني فأدخُله، قالا: أما الآن فلا، وأنتَ داخِله. قال: قلتُ لهما: فإني قد رأيتُ منذ الليلةِ عَجبا، فما هذا الذي رأيت؟ قال: قالا لي: أما إنا سنُخبرُك، أما الرجلُ

الأولُ الذي أتيتَ عليه يُثلَغ رأسه بالحجر، فإنه الرجلُ يأخذ القرآن فيرفضه وينام عن الصلاة المكتوبة. وأما الرجلُ الذي أتيتَ عليه، يُشرشَرُ شِدقُهُ إلى قفاه، ومنخَرُه إلى قفاه، وعينه إلى قفاه، فإنه الرجلُ يغدو من بيته، فيكذب الكِذبَةَ تبلغُ الآفاق. وأما الرجالُ والنساءُ العراةُ الذين في مثل بناءِ التنور، فإنهم الزُّناة والزواني. وأما الرجل الذي أتيتَ عليه يَسبح في النهر ويُلقم الحجارة، فإنه آكِلُ الرِّبا. وأما الرجلُ الكريه المرآةِ، الذي عند النار يحشُّها ويسعى حولها، فإنه مالكٌ خازن جهنم. وأما الرجلُ الطويلُ الذي في الروضة فإنه إبراهيم، وأما الولدانُ الذين حَوله فكلُّ مولودٍ ماتَ على الفطرة. قال: فقال بعضُ المسلمين: يا رسول الله، وأولاد المشركين؟ فقال رسول الله: وأولاد المشركين. وأما القوم الذين كانوا شَطرٌ منهم حسنٌ وشطرٌ قبيحٌ، فإنهم قوم خلطوا عملاً صالحا وآخرَ سيئا، تجاوز الله عنهم. قوله: فيَثْلَغْ رأسه, يعني أنه يَشْدَخُه. يُقال: ثَلَغْتُ رأسه أثلَغه ثلْغًا إذا شَدَخْته. وقوله: فيتدهدأ الحَجَر, يعني يَتَدَحْرَج. يقال: تدَهْدَأ الشيء إذا تدَحْرج ودهدأته إذا دحرجته. قوله: فيُشرشر شدقه إلى قفاه, يعني يشقِّقه ويُقطِّعه. وقوله: ضوضؤا, يعني ضجُّوا وصاحوا. والضوضاء: الضجيج والصوت.

وقوله: يَحُشُّها, يعني أنه يُحرك نارها لتَتَّقِد, يقال: حَشَشتُ النار أحشُّها حشًّا. وقوله: فأتينا على روضة مُعْتَمَّة, يعني وافية النبات والعَميم الطويل من النبات كقول الأعشى: *مُؤَزَّرٌ بعميم النبتِ مُكتَهل* ويقال: جارية عميمة, أي طويلة القَدِّ. وقوله: كأن ماءها المحض في البياض, فالمحض: اللبن الخالص الذي لا يشوبه شيء من الماء. وقوله: مثل الربابَة البيضاء, فإن الربابة السحابة التي رَكَب بعضها بعضًا وجَمعُها الرباب. وأما قول القائل: يارسول الله, وأولاد المشركين؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأولاد المشركين. فإن ظاهر هذا الكلام أنه ألحق بأولاد المسلمين في حُكْم الآخرة, وإن كان قد حَكَم لهم بحكم آبائهم في الدنيا

وذلك أنه سئل عن ذراري المشركين فقال: "هم من آبائهم" وللناس في أطفال المشركين اختلاف. وعامة أهل السنة على أن حكمهم حكم آبائهم في الكفر. وقد ذهبت طائفة منهم إلى أنهم في الآخرة من أهل الجنة, وقد رُوي آثار عن نفر من الصحابة واحتجُّوا لهذه المقالة بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة, فأبواه يُهودانه ويُنصرانه ويُمجّسانه" واحتجوا بقول الله عز وجل: (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ) واحتجوا بقول الله عز وجل: (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ) قال بعض أهل التفسير: إنهم أطفال الكفار واحتجوا

(47) (باب من لم ير الرؤيا لأول عابر إذا لم يصب)

لذلك بأن اسم الولدان مشتق من الولادة ولا ولادة في الجنة, فكانوا هم الذين نالتهم الولادة في الدنيا. (47) (باب من لم ير الرؤيا لأول عابر إذا لم يصب) 1214/ 7046 - قال أبو عبدالله: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قال: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ, عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ, عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَجُلًا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ فِي الْمَنَامِ ظُلَّةً تَنْطُفُ السَّمْنَ وَالْعَسَلَ, وَأَرَى النَّاسَ يَتَكَفَّفُونَ مِنْهَا, فَالْمُسْتَكْثِرُ وَالْمُسْتَقِلُّ وَإِذَا سَبَبٌ وَاصِلٌ مِنْ الْأَرْضِ إِلَى السَّمَاءِ, فَأَرَاكَ أَخَذْتَ بِهِ فَعَلَوْتَ ثُمَّ

أَخَذَ بِهِ رَجُلٌ آخَرُ, فَعَلَا بِه, ثُمَّ أَخَذَ بِهِ رَجُلٌ, فَعَلَا بِهِ, ثُمَّ أَخَذَ بِهِ رَجُلٌ آخَرُ, فَانْقَطَعَ ثُمَّ وُصِلَ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, بِأَبِي أَنْتَ وَاللَّهِ لَتَدَعَنِّي فَأَعْبُرَهَا. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اعْبُرْ. قَالَ: أَمَّا الظُّلَّةُ فَالْإِسْلَامُ, وَأَمَّا الَّذِي يَنْطُفُ مِنْ الْعَسَلِ وَالسَّمْنِ, فَالْقُرْآنُ حَلَاوَتُهُ تَنْطُفُ, فَالْمُسْتَكْثِرُ مِنْ الْقُرْآنِ وَالْمُسْتَقِلُّ. وَأَمَّا السَّبَبُ الْوَاصِلُ مِنْ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ فَالْحَقُّ الَّذِي أَنْتَ عَلَيْهِ تَاخُذُ بِهِ, فَيُعْلِيكَ اللَّهُ, ثُمَّ يَاخُذُ بِهِ رَجُلٌ مِنْ بَعْدِكَ, فَيَعْلُو بِهِ, ثُمَّ يَاخُذُ بِهِ رَجُلٌ آخَرُ فَيَعْلُو بِهِ ثُمَّ يَاخُذُهُ رَجُلٌ آخَرُ فَيَنْقَطِعُ بِه, ثُمَّ يُوَصَّلُ لَهُ فَيَعْلُو بِهِ, فَأَخْبِرْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ, بِأَبِي أَنْتَ, أَصَبْتُ أَمْ أَخْطَاتُ؟ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَصَبْتَ بَعْضًا وَأَخْطَاتَ بَعْضًا. قَالَ: فَوَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَتُحَدِّثَنِّي بِالَّذِي أَخْطَاتُ. قَالَ: لَا تُقْسِمْ. الظُّلَّة: السحابة, وكل ما أظلك من فوقك من سقيفة ونحوها فهو ظلَّة. وقوله: يَنطِف, يعني يقطر. وقوله: يتكففون, يعني أنهم يأخذون منه بأكفهم, والسبب: الحبل. والواصل بمعنى الموصول واختلف الناس في تأويل قوله صلى الله عليه وسلم: "أصبتَ بعضًا وأخطأت بعضًا". فقال بعضهم: إنما صَوّبه في تأويل الرؤيا وخطّأه في الافتيات

كتاب الفتن

بالتعبير بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال بعضهم: موضع الخطأ في ذلك أن المذكور في الرؤيا شيئان وهما السَّمن والعسل, فعبرهما على شيء واحد وهو القرآن, وكان حقّه أن يَعْبُر كل واحد منهما على انفراده, وأنهما الكتاب والسنة لأنها بيان الكتاب الذي أُنزِل عليه. وبلغني هذا القول أو قريب من معناه عن أبي جعفر الطَّحاوِي. وفي قوله: لاتقسم, دليل على أن أمره صلى الله عليه وسلم بإبرار المُقْسم خاص بالمراد, وإنما إبراره يلزم فيما يجوز الإطِّلاع عليه دون ما لايجوز. ألا تراه منعه العلم فيما اتصل بأمر الغيب الذي لم يجز الاطلاع عليه. (ومن كتاب الفتن) مما لم أسمعه من طريق الفِربْري.

(2) (باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "سترون بعدي أمورا تنكرونها")

(2) (باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "سترون بعدي أمورًا تُنكرُونها") 1215/ 7055 - قال أبو عبدالله: حدّثنا إسماعيل قال: حدَّثني ابن وهب, عن عمرو, عن بكير, عن بُسْر بن سعيد, عن جُنادة بن أبي أمية قال: دخلنا على عُبادة بن الصامت وهو مريض. قلنا: أصلحك الله, حّدث بحديث ينفعك الله به, سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم, قال: دعانا النبي صلى الله عليه وسلم, فبايعناه, فكان أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعُسرنا وأَثَرَةٍ علينا وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كُفرًا بَواحًا عندكم من الله فيه برهان. الأثرة: الاستئثار بالحظ وبخس الواجب لم من الحق. وقوله: إلا أن تروا كفرًا بواحًا, معنى البواح: الصُّراح, من قولك: باح بالشيء يبوح به بُوُوحًا وبواحًا, إذا صرح به, يريد القول الذي لا يحتمل التأويل, فإذا كان كذلك حل قتالهم, ومادام

(16) (باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الفتنة من قبل المشرق")

يحتمل وجْهًا من التأويل لم يجز ذلك , وهو معنى قوله: عندكم من الله فيه برهان, يريد نص آية أو توقيف لا يحتمل التأويل كقوله عز وجل: (قّدْ جَاءَكُم بُرهَانٌ مِن رَبِّكُم) أي كتاب الله, والله أعلم. (16) (باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الفتنة من قبل المَشرق") 1216/ 7094 - قال أبو عبدالله: حدّثنا علي بن عبدالله قال: حدّثنا (أزهر) بن سعد, عن ابن عَون, عن نافع, عن ابن عمر قال: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم قال: اللهم بارك لنا في شامنا, اللهم بارك لنا في يمننا. قالوا: يارسول الله وفي نجدنا. قال: اللهم بارك لنا في شامنا, اللهم بارك لنا في يمننا. قالوا: يارسول الله وفي نجدنا, فأظنه قال في الثالثة: هناك الزلازل والفتن, وبها يطلع (قرن) الشيطان"

(27) (باب لا يدخل الدجال المدينة)

نجْد: ناحية المشرق, ومن كان بالمدينة كان نجده بادية العراق ونواحيها وهي مشرق أهلها. وأصل النجد: ما ارتفع من الأرض. والغَوْر: ما انخفض منها وتهامة كلها من الغَوْر, ومنها مكة, والفتنة تبدو من المشرق ومن ناحيتها يخرج يأجوج ومأجوج والدجال في أكثر ما يروى من الأخبار. (27) (باب لا يدخل الدَّجَّال المدينة) 1217/ 7132 - قال أبو عبدالله: حدّثنا أبو اليَمَان قال: أخبرنا شعيب عن الزُهْريّ قال: أخبرني عبيد الله بن عبدالله بن عتبة أن أبا سعيد قال: حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم يوما حديثًا طويلًا عن الدَّجَّال وكان فيما حدَّثناه به أنه قال: يأتي الدَّجَّال وهو مُحرَّم عليه أن يدخل نِقاب المدينة, فينزل بعض السِّباخ التي تلي المدينة, فيخرج إليه يومئذ رجل, وهو خير الناس, أو من خيار الناس فيقول: أشهد أنك الدَّجَّال الذي حدَّثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثه. فيقول الدَّجَّال: أرأيتم إن قتلْت هذا, ثم أحييته, هل تَشُكّون في الأمر؟ فيقولون: لا. فيقتله, ثم يُحييه. فيقول: والله ما كنت قبل أشدَّ بصيرة مني اليوم, فيُريدُ الدَّجَّال أن يقتله فلا يُسَلَّط عليه. قوله: نِقاب المدينة, ثم قال على أثره: بعض السِّباخ, فإن كان أراد به اسم بقعة بعينها, وإلا فالنقاب الطريق في الجبل, كأنّه

أراد أن الدجال لا يدخل المدينة من طرقها. وقد يُسأل عن هذا, فيُقال: كيف يجوز أن يُجري الله تعلى آياته على أيدي أعدائه؟ وإحياء الموتى آية عظيمة من آيات أنبيائه. فكيف مَكَّن منه الدَّجَّال, وهو كذاب مفترٍ على الله يدعي الربوبية لنفسه؟ فالجواب: أن هذا جائز على سبيل الامتحان لعباده إذا كان منه ما يدل على أنه مُبطلٌ, غير مُحِقٍّ في دعواه, وهو أن الدَّجَّال أعور عين اليمنى "مكتوب على جبهته كافر, يقرأه كل مسلم" , فدعواه داحضة مع وسم الكفر ونقص العَوَر الشاهدَين بأنه لو كان ربًّا لقدر على رفع العَوَر عن عينه ومحو السِّمة عن وجهه, وآيات الأنبياء التي أُعطوها الأنبياء بريئة عما يعارضها, ونقائضها, فلا يشتبهان بحمد الله.

(21) (باب إذا قال عند قوم شيئا ثم خرج بخلافه)

(21) (باب إذا قال عند قوم شيئًا ثم خَرَج بخِلافِه) 1218/ 7111 - قال أبو عبدالله: حدّثنا سليمان بن حرب قال: حدّثنا حمَّاد بن زيد, عن أيوب, عن نافع قال: لما خَلَع أهل المدينة يزيد بن معاوية, جمع ابن عمر حَشَمه وولده فقال: إني سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يُنصب لكل غادِر لواءٌ يوم القيامة, وأنَّا قد بايعنا هذا الرجل على بيعة الله ورسوله ثم يُنصب له القتال وإني لا أعلم أحدًا منكم خلعه ولا بايع في الأمر إلا كانت الفصيل بيني وبينه. الفصيل: القطيعة والهجران. وأصله من الفصل بين الشيئين, ويقال: طعن الرجل صاحبه وكانت الفصيل, وهو أن يكونا في جيش يتقاتلون, فيطعنه, فينهزم الجيش, فذاك الفصيل ومعناه التفريق. وقوله: إنَّا بايعنا هذا الرجل على بيعة الله ورسوله, يعني على شرط ما أمر الله به ورسوله من البيعة, والبيعة: الفِعلة من البيع

كتاب الأحكام

وذلك أن من بايع سلطانًا فقد أعطاه الطاعة, وأخذ منه العطية, فأشبهت البيع الذي هو مُعاوضة من أخذ وعطاء. ويقال: إن الأصل في ذلك أن العرب كانت تبايعت الأمتعة تصافقت بالأكف عند العقد عليها, وكذلك يفعلونه إذا تحالفوا وتعاقدوا, فشبَّهوا مُعاهدة الولاة التَّماسك بالأيدي بالبيع وسمَّوها بيعة. كتاب الأحكام (1) باب قول الله تعالى: (وأَطِيعُوا اللهَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُم) 1219/ 7137 - قال أبو عبدالله: حدّثنا عبْدَان قال: أخبرنا عبدالله, عن يونس, عن الزُّهرِيّ قال: أخبرني أبوسلمة بن عبدالرحمن أنه سمع أبا هريرة يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من أطاعني فقد أطاع الله, ومن عصاني فقد عصى الله, وأطاع أميري فقد أطاعني, ومن عصى أميري فقد عصاني. قلت: كانت قريش ومن يليها من العرب لايعرفون الإمارة, فكانوا يَتَمنَّعُون على الأمراء, فقال رسول الله صلى

(4) (باب السمع والطاعة للإمام مالم تكن معصية)

الله عليه وسلم هذا القول يحضهم على طاعتهم والانقياد لهم فيما يأمرون به من المعروف إذا بعثهم في السرايا وإذا ولَّاهم البلدان والقرى, فلا يخرجوا عليهم بالسيف ولا يحملوا عليهم السلاح لئلا تتفرق الكلمة ولا تُنقض الدعوة. (4) (باب السمع والطاعة للإمام مالم تكن معصية) 1220/ 7142 - قال أبو عبدالله: حدّثنا مُسدَّد قال: حدّثنا يحيى, عن شعبة, عن أبي التَّيَّاح , عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اسمعوا وأطيعوا وإن استُعمل عليكم عبدٌ حبشي كأن رأسه زبيبة" هذا في الأمراء والعُمَّال ذون الخلفاء والأئمة, فإن الحبشة لا تُولى الخلافة ولا يُستخلف إلا قرشي لما جاء من الحديث فيه.

(9) (باب من شاق الله شق الله عليه)

وقد ذهب بعض المتكلمين إلى أن الخلافة قد يجوز أن تكون في سائر قبائل العرب وأفناء العجم, وهذا خلاف السنة وقول الجماعة. (9) (باب من شاقَّ الله شقَّ الله عليه) 1221/ 7152 - قال أبو عبدالله: حدّثنا إسحاق الواسطي قال: حدّثنا خالد. عن الجُريجي, عن طريف أبي تميمة, قال: شهدت صفوان وجُندبًا وأصحابه وهو يوصيهم فقالوا: هل سمعتَ من رسول الله عليه شيئًا؟ قال: سمعته يقول: من سمَّع سَمَّع الله به يوم القيامة, ومن يشاقق يُشقق عليه يوم القيامة.

(13) (باب هل يقضي القاضي أو يفتي وهو غضبان)

قوله: من سمَّع يُسَمع الله به يوم القيامة, يريد أنه من راآى بعمله وسمَّع به الناس ليُكرموه بذلك ويُعظّموه شَهَّره الله يوم القيامة وفضحه حتى يرى الناس ويسمعوا ما يُحلّ به من الفضيحةعقوبة على ماكان معه في الجنيا من حُبِّ الشُهرَة والسُّمعة. وقوله: ومن يُشاقق يُشَقِّق الله عليه, يكون على وجهين: أحدهما: أن يُضارَّ الناس ويحملهم على ما يَشُقّ عليهم من الأمر. والآخر: أن يكون ذلك من شقاق الخلاف؛ وهو أن يكون في شِقٍّ منهم وفي ناحية من جماعتهم. (13) (باب هل يقضي القاضي أو يُفتي وهو غضبان) 1222/ 7158 - قال أبو عبدالله: حدَّثنا آدم قال: حدَّثنا شُعبة قال: حدَّثنا عبدالملك بن عُميرقال: سمعتُ عبدالرحمن بن أبي بَكرةَ قال: كَتَبَ أبو بكرة إلى ابنه وكان بِسِجِسْتَان أن لا تقْضِ بين اثنين وأنت غضبان, فإني سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لايَقضِينَّ حَكَمٌ بين اثنين وهو غضبان" قلتُ: الغضب يغير الطباع ويفسد الرأي ويضر بالعقل,

(43) (باب كيف يبايع الإمام الناس)

ولذلك قالت العرب: الغضب غُولُ العقل, يعني أنه يَغول العقل ويُذهبه, فتقلُّ معه الإصابة ولا يؤمن معه الخطأ في الحكم. قلت: وفي معنى الغضب كل ماغير طبع الإنسان من جوع أو مرض وحزن ونحوها, لا يقضيحتى يَسكُن جَاشُه وتزول هذه الأعراض عنه. (43) (باب كيف يُبايِع الإمام الناس) 1223/ 7207 - قال أبو عبدالله: حدَّثنا عبدالله بن محمد بن أسماء قال: حدَّثنا جُوَيرية, عن مالك عن الزُهرِيِّ أن حُميد بن عبدالرحمن أخبره عن المسور بن مخْرمة في قصة بيعة عثمان -رضي الله عنه- قال: طَرَقَني عبدالرحمن بن عوف بعد هَجْعٍ من الليل, فضرب الباب فقال: ادْع لي عليا فدعوته, فناجاه حتى ابهارَ الليل وذكر القصة بطولها. يقال: أتيته بعد هجع من الليل, أي بعد طائفة من الليل, ومثله بعد هزع وهزيع منه. وقوله: حتى ابهار الليل, يعي حتى مضى نصف الليل, وبُهرَة كل شيء وسَطَه.

كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة

(51) (باب الاستخلاف) 1224/ 7219 - قال أبو عبدالله: حدَّثنا ابراهيم بنموسى قال: أخبرنا هشام, عن مَعْمَر, عن الزُّهرِيِّ قال: أخبرني أنس بن مالك أنه سمع خطبة عمر الآخرة حين جلس على المنبر وذلك الغد من يوم توفي النبي صلى الله عليه وسلم, فتشهَّد وأبو بكر صامت لا يتكلم. قال: كنت أرجو أن يعيش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يَدْبُرَنا. -يريد بذلك أن يكون آخرهم- فإن يَكُ محمدٌ قد مات, فإنّ الله قد جعل بين أظهركم نوراً تهتدون به. وذكر الحديث. قوله: يَدْبُرَنا, يعني يخلفنا بعد موتنا ويبقى خِلافَنا. يقال للرجل إذا مشاخلف صاحبخ هو يَخْلُفه ويَذْنُبُه ويَدْبُره. كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة (1) (باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "بُعِثتُ بجوامع الكلم") 1225/ 7273 - قال أبو عبدالله: حدَّثنا عبدالعزبز بن عبدالله قال: حدَّثنا إبراهيم بن سعد, عن ابن شهاب, عن

(5) (باب ما يكره من التعمق والتنازع والغلو في الدين والبدع)

سعيد بن المُسَيب, عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بَيْنَا أن نائم رأيتني أُتِيت بمفاتيح الأرض, فوُضِعَتْ في يدي". قال أبو هريرة: فقد ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنتم تَرْغَثُونها أو كلمة تشبهها. قوله: تَرْغَثُونها, يعني تستخرجون دَرَّها وتَرتَضعونها. الرٌّغاب: الرضاع, وناقة رَغوث, وكذا الشاة, أي عَزيرة اللبن. (5) (باب ما يكره من التعَمُّق والتنازع والغلو في الدين والبدع) 1226/ 7302 - قال أبو عبدالله: حدَّثنا محمد بن مُقاتل قال: أخبرنا وَكيعٌ, عن نافع بن عمر, عن ابن أبي مُليكة قال: كاد الخيِّران أن يهلكا أبو بكر وعمر, لما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وفد بني تميم أشار أحدهما بالأقرع بن حابس, وأشار الآخر بغيره فقال أبو بكر لعمر: إنما أردت خلافي. فقال: ما أردت خلافك, فارتفعت أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم, فنزلت (لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتكُمْ فَوْق صَوْت النَّبِيّ) إلى قوله (وَأَجْرعَظِيم). قال ابن أبي مُليكة, قال ابن الزبير: فكان عمر

(7) (باب ما يذكر من ذم الرأي وتكلف القياس)

بعد, ولم يذكر ذلك عن أبيه, يعني أبا بكر إذا حدث النبي صلى الله عليه وسلم بحديث حدثه كأخي السِّرار لم يسمعه حتى يستفهمه. سمعتُ أبا عمر يذكر عن أبي العباس أحمد بن يحيى قال قوله: كأخي السِّرار , يعني كالسِّرار وأخي الصلة. قلت: وقد يكون معناه كصاحب السِّرار. (7) (باب ما يُذكر من ذَمِّ الرأي وتكلف القياس) 1227/ 7308 - قال أبو عبدالله: حدَّثنا موسى بن إسماعيل قال: حدَّثنا أبو عَوانَة, عن الأعمش, عن أبي وائل قال: قال سهل بن حُنيف: يا أيها الناس اتّهِموا رأيكم عن دينكم, لقد رأيتُني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد

أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لردَدْته وماوضعنا سيوفنا على عواتقنا إلى أمر يفظعنا إلا أسهلن بنا إلى أمر نعرفه غير هذا الأمر. قال: وقال أبو وائل: شهدتُ صفِّين وبئست صِفُّون. قوله: أسهلن بنا, يعني أفضين بنا إلى سهولة. وأما قوله: وبئست صِفُّون, فإنما أعرَبَه لأنه أجراه مجرى الجمع وماكانمن الواحد على بناء المع, فإعرابه كإعراب الجمع, كقولك: دخلت فلسطين, وهذه فلسطون وأتيت قنَّسرين وهذه قنسرون, ويصرفونها مصارف الإعراب, ومن هذا النحو قوله عز وجل: (كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّين وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ)

كتاب التوحيد

كتاب التوحيد (7) (باب قول الله تعالى: (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)) 1228/ 7384 - قال أبو عبدالله: حدَّثنا ابن أبي الأسْود قال: حدَّثنا حرمِي قال: حدَّثنا شعبة, عن قتادة عن أنس, وقال لي: خَلِيفة, حدَّثنا يزيد بن زُرَيع, حدَّثنا سعيد, عن أنس, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يزال يلقى فيها, وتقول: هل من مزيد؟ حتى يضع فيها رب العزة قدمه, فينزوي بعضها إلى بعض, ثم تقول: قدْقدْ بعزتك وكرمك, ولا تزال الجنة تَفضُل حتى يُنشئ الله لها خلقًا, فيُسكنهم أفضل الجنة. قد ذكرنا معنى القدم في هذا الحديث وتأويله فيما مضى.

(20) (باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا شخص أغير من الله")

وقوله: قدْقدْ, معناه حَسْب. يقال: قدي وقدني بمعنى حسبي كقول الشاعر: قَدِي اليوم من وَجْد على هالكٍ قَديِ ويقال في معناه قطِي وقطْني. (20) (باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا شخص أغْيَرُ من الله") 1229/ 7416 - قال أبو عبدالله: حدَّثنا موسى بن إسماعيل قال: حدَّثنا أبو عَوَانه قال: حدَّثنا عبدالملك, عن وَرَّاد -كاتب المُغيرة- قال: قال سعَدُ بن عُبادة: لو رأيتُ

(107) (باب الغيرة)

رَجُلًا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مُصْفح, فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أتعجبون من غيرة سعد لأنا أغير منه والله أغير مني, ومن أجْل الله حرَّم الله الفواحش ما ظهر منها ومابطن, ولا أحد أحبَّ إليه العذر من الله, ومن أجل ذلك بعث المنذرين والمبشرين, ولا أحد أحب إليه المدْحة من الله, ومن أجل ذلك وعد الجنة. قال أبو عبدالله: وقال عُبيد الله بن عمرو, وعن عبدالملك: لاشخص أغير من الله. قلت: إطلاق الشخص في صفة الله غير جائز, وذلك لأن الشخص لا يكون إلا جسمًا مؤلفًا وإنما يُسمى شخصًا ماكان له شُخوصٌ وارتفاعٌ ومثل هذا النعت منفيٌ عن الله سبحانه وتعالى وخليق أن لا تكون هذه اللفظة صحيحة وأن تكون تَصْحيفًامن الرَّاوي. والدليل على ذلك أن أبا عَوَانة قد روى هذا الخبر عن عبدالملك فلم يذكر هذا الحرف, وروتْه أسماء بنت أبي بكر, عن النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: لا شيء أغْيَرُ من الله, هكذا رواه أبو عبدالله قال: كتاب النكاح (107) (باب الغَيرَة) 1230/ 5222 - حدَّثنا موسى بن إسماعيل قال: حدَّثنا

همَّام, عن يحيى, عن أبي سَلَمَة أن عُروة بن الزبير حدَّثه عن أمه أسماء أنها سمِعَت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: لا شيء أغْيَرُ من الله. 1231/ 1223 - وعن يحيى أن أبا سَلَمة حدَّثه أن أبا هريرة حدَّثه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم مثله. فدلَّت رواية أسماء وأبي هريرة قوله: لا شيء أغير من الله, على أن الشخص وَهْمٌ وتَصْحِيف, والشيء والشخص في السطر الأول من الاسم سواء فمَن لم يُنعم الاستماع لم يأمن الوهم, وليس كل الرواة يُراعون لفظ الحديث حتى لا يَتَعدُّوه؛ بل كثير منهم يُحدّث على المعنى وليس كلهم بفَقِيه. وفي الكلام آحاد الرواة منهم جَفاءٌ وتعجرُف. وقد قال بعض السلف من كبار التابعين في كلام له: "نعم المرءُ ربّنا, ولو أطعناه ما عصانا" ولفظ المرء إنما يُطلق على الذكور الآدميِّين كقول القائل: "المرء بأصْغرَيه", والمرء مخبوء تحت لسانه, ونحو ذلك كلامهم. وقائل هذه الكلمة لم يقصد به المعنى الذي لا يليق بصفات الله سبحانه, ولكنه أرسل الكلام على بديهة الطَّبع من غير تأمل ولا تنزيل له على المعنى

(23) (باب قول الله تعالى: (تعرج الملائكة والروح إليه)

الأخص به, وحريٌّ أن يكون لفظ الشخص إنما جرى من الراوي على هذا السبيل إن لم يكن من قبل التصحيف, ثم إن عبيد الله بن عمر قد تَفرَّد به عن عبدالملك, ولم يتابع عليه فاعتوَره الفساد من هذه الوجوه, فدلَّ ذلك على صحة ما قلناه, والله أعلم. كتاب التوحيد (23) (باب قول الله تعالى: (تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ) 1232/ 7430 - قال أبو عبدالله: حدَّثنا خالد بن مُخلَد قال: حدَّثنا سليمان قال: حدَّثني عبدالله بن دينار, عن أبي صالح, عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من تصدَّق بِعَدْل تمرة من كسبٍ طيبٍ ولا يصعد إلى الله إلا

(35) (باب قول الله تعالى (يريدون أن يبدلوا كلام الله))

الطيب, فإن الله يتقبلها بيَمينه, ثم يُرَبِّيهَا لصاحبها كما يُربِّي أحدكم فَلُوَّه حتى تكون مثل الجبل. عَدْلُ التمرة ما يعادلها في قيمتها. ويقال: عَدْل الشيء مثله في القيمة, وعدله مثله في المنظر. وقوله: "يتقبلها بيَمينه" ذِكر اليَمين في اهذا معناه حَسن القَبول, فإن العادة قد جَرَت من ذَوِي اللأدب أن تُصان اليمين عن مَسِّ اللأشياء وإنما يباشر بها الأشياء التي لها قَدْر ومَزِيه وليس فيما يُضاف إلى الله عز وجل من صفة اليدين شمال لأن الشمال مَحَل النقص والضعف وقد روي في الخبر "كلتا يديه يمين" وليس معنى اليد عندنا الجارحة, إنما هو صفة جاء بها التوقيف, فنحن نُطلقها على ماجاءت ولا نُكيّفها وننتهي إلى حيث انتهى بنا الكتابُ والأخبارُ المأثورة الصحيحة, وهو مذهب أهل السنة والجماعة. (35) (باب قول الله تعالى (يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ)) 1233/ 7508 - قال أبو عبدالله: حدَّثنا عبدالله بن أبي

الأَسْود قال: حدَّثنا مُعتَمر قال: سَمعتُ أبي قال: حدَّثنا قتادة, عُقبة بن عبدالغافر , عن أبي سعيد, عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر رجلًا فيم سلف أو فيمن كان قبلكم قال كلمة يعني أعطاه الله مالًا وولدًا, فلما حضره الموت قال لبنيه: أيَّ أبٍ كنت لكم؟ قالوا: خَيرَ أب قال: فإنه لم يَبْأر أو يبتئر عند الله خيرًا وإن يَقدِر الله (عليه) يُعذبه, فانظروا إذا مت, فاحرقوني حتى إذا صرت فحمًا, فاسحقوني أو قال: فاسْحَكوني. وذكر الحدبث. وفي نسخة أخرى: فاسحلوني. قد تقدم ذكر هذا الحديث فيما مضى, وفي بعض ألفاظه اختلافٌ, وفسَّر قتادة قوله: لم يبتئر أي لم يدَّخر. فأما قوله: اسحلوني, فمعناه أبردوني بالمِسْحَل وهو المبرد. ويُقال لسُقاطة الذهب والفضة عند السَّحْل كالبُراية من البَرْي والنُشارة من النشر. وأما قوله اسْحَكوني, فهو السَّحق, أُبدِلَت القاف كافًا ومِثله السَّهك, وقد ذكرناه في حديث قبل.

(37) (باب ما جاء في قوله عز وجل:) وكلم الله موسى تكليما))

(37) (باب ما جاء في قوله عزّ وجلّ:) وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا)) 1234/ 7517 - قال أبو عبدالله: حدّثنا عبدالعزيز بن عبدالله قال: حدّثني سُليمان, عن شَريك بن عبدالله أنّه قال: سَمِعت أَنَس بن مالك يقول ليلة أسرى برسول الله صلَّى الله عليه وسَلَّم من مسجد الكَعبة أنّه جاءه ثلاثةُ نَفَر قبلَ أن يُوحَى إليه وهو نائِمٌ في المسجد الحرام. فقال أوَّلُهم: أيّهم هُو؟ فقال: أوسَطهم, وهو خَيرُهم. فقال آخِرُهم خُذُوا خَيرَهم, فكانت تلك اللّيلةَ, فلم يَرَهُم حتى أَتوه ليلةُ أُخرى فيما يَرَى قلبهُ وتَنامُ عَينُه, ولا ينامُ قلبُه, وكذلك الأنبياء تنامُ أعينهم ولا تنام قُلوبهم, فلم يُكَلِّموه حتى احْتَملُوه فوضَعَوُه عند بئر زمزم, فتولَّاه منهم جِبريل, فشَقَّ جِبريل مابين نَحرِه إلى لبَّتهِ حتى فَرغَ من صَدره وجَوفه, فغسله من مَاءِ زمزم بِيدِه حتى أنقَى جَوفَه, ثم أتَى بطَستٍ من ذَهَبٍ فيه تَورٌ من ذَهَبٍ مَحشُوٌ إيمانًا وحِكمةً, فحَشَا به صَدره, ولغادِيدَه, يَعني عُروقَ حَلقِه, ثم أطبَقه, ثم عَرَج به إلى السماء الدنيا, فضَرَب بابًا من أبوابها, فَنَاداه أهلُ السماء: من هذا؟ فقال: جِبريل, قالوا: ومَن معَك؟ قال: مَعِي محمد. قال: وقد بَعِث إليه؟ قال: نعم. قالوا: فَمَرحبًا به وأهلًا, يَستَبشِر به

أهلُ السماء, لا يَعلَم أهلُ السماء بما يُريدُ الله به في الأرضِ حتى يُعلِمَهم, فوَجَد في السماء الدنيا آدم, فقال له جبريل: هذا أبوك آدم, فسلَّم عليه وردَّ عليه آدم وقال: مَرحبًا وأهلًا يا بُنيَّ, نِعمَ الابن أنتَ, فإذا هو في السماء الدنيا/ بَنْهرَين يطَّرِدَان فقال: ما هذان النَّهران ياجبريل؟ قال: (هذان): النِّيل والفراتُ عنصرهما, ثم مضى به في السماء, فإذا هو بِنَهْر آخر عليه قَصْرٌ من لؤلوءٍ وزَبَرجد, فضرب يَدَه, فإذا هو مِسكٌ أذْفَرُ. قال: ماهذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي خبَأ لك ربك, ثم عرج به إلى السماء الثانية فقالت الملائكة له مِثلَ ما قالت له الأولى: من هذا؟ قال: جبريل, قالوا: ومن معك؟ قال: محمد. قالوا: وقد بُعِث إليه؟ قال: نعم. قالوا: مرحبًا به وأهلًا, ثم عَرَج به إلى السماء الثالثة وقالوا له مثل ما قالت الأولى والثانية, ثم عَرَج به إلى الرابعة فقالوا له مثل ذلك, ثم عرج به إلى السماء الخامسة فقالوا مثل ذلك, ثم عرج به إلى السماء السادسة فقالوا له مثل ذلك, ثم عرج به إلى السماء السابعة فقالوا له مثل ذلك, كل سماء فيها أنبياء قد سمَّاهم مِنهُم إدريسُ في الثانية وهارون في الرابعة, وآخر في الخامسة لم أحفظ اسمَه, وإبراهيمُ في السادسة, وموسى في السابعة بتفضيل كلام الله, فقال موسى: رَبَّ لم أظن أن يرفع عليَّ أحدًا, ثم عَلَا به فوق ذلك بما لا يَعلَمه إلا الله, حتى جاء سِدرة المنتهى ودَنَا الجَبَّار ربُّ العِزَّة فتَدلَّى حتى كان منه قَابَ

قوسَين أو أَدنَى، فأوحى إليه فيمَا يُوحىِ الله خمسين صلاة على أُمّتِك كل يوم وليلة, ثم هَبَط حتى بلغ موسى فاحْتبَسه موسى فقال: يا محمد ماذا عَهِد إليك ربك؟ قال عَهِد إلي خمسين صلاة كلَّ يوم وليلة. قال: إنَّ أُمَّتَك لا تستطيع ذلك, فارجع فليُخفِفّ عنك ربك وعنهم, فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل كأنه يستشيره في ذلك فأشار إليه جبريل أن نعم إن شِئت, فَعَلَا به إلى الجَبَّار فقال وهو مكانه: ياربّ خفف عنا فإن أمتي لا تستطيع هذا, فوضع عنه عَشْر صلوات/ ثم رَجَعَ إلى موسى فاحْتبَسه, فلم يَزَل يُردِّده موسى إلى ربِّه حتى صَارت إلى خَمس صلوات, ثم احْتَبَسه موسى عند الخَمس فقال: يا محمد, والله لقد رَاودتُ بَني إسرائيل قَومي على أدنى من هذا, فضَعُفُوا فتركُوه, فأُمَّتُك أضعفُ أجسادًا وقلوبًا وأبدانًا وأبصارًا وأسماعًا, فارجع فليُخَفِّف عنك ربك, كل ذلك يلتفت النبي إلى جبريل ليشير به عليه, ولا يكره ذلك جبريل, فرَفَعَه عند الخامسة فقال: يا ربِّ إنَّ أمتي ضُعفاء؛ أجسادهم وقلوبُهم وأسماعُهم وأبدانُهم, فخَفِّف عنَّا, فقال الجَبَّار: يامحمد. قال: لَبَّيْك وسَعْدَيْك. قال: إنه لايُبدَّلُ القَولُ لَدَيّ, كما فَرضْت عَليك في أمَّ الكتاب, فكُلُّ حَسَنَةٍ بعَشْر أمثالِها, فهي خَمسُون في أمَّ الكتاب, وهي خمَسٌ عليك, فرجع إلى موسى فقال: كيف فعلتَ؟ فقال: خَفَّفَ عنّا, أعطانا بكل حَسَنةٍ عَشر أمثالِها, قال موسى: قد والله راودت بني إسرائيل على

أدنى من ذلك, فتركُوه, ارجع إلى ربِّك فليُخفِّف عنك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا موسى قد والله استَحْيَيْتُ من ربِّي مما اخْتَلَفْتُ إليه. قال: فاهبِط باسْمِ الله, فاستَيْقَظَ وهو في المسجد الحرام. قُلتُ: إنّما سردنا هذه القصة بطولها، ولم نختصر موضع الحاجة منها لبَشَاعَة ماوَقع فيها من الكلام الذي لا يَلِيقُ بصِفَة الله تعالى، ولا يَنبغي لِمُسلم أن يعتقدَه على ظاهِره, وهو قولُه: "وَدَنَا الجَبَّار ربُّ العِزّة فتدلَّى حتى كان قَابَ قَوسَين أو أدنى"، وذلك أنّ هذا يُوجب تحديد المسافة بين أحد المذكورين وبين الآخر، وتمييز مكان كل واحد منهما، هذا إلى ما في التَّدَلِّي من التَّشبيه والتَّمثيل له بالشَّيء الذي يعَلُو من فوق إلى أسفل, فمن لم يبلغه من هذا الحديث إلا الفصل مقطوعا عن غيره ولم يعتبره بأول القصة/ وآخرها اشتبه عليه وجه الحديث ومعناه, وكان قُصَاراه إمّا رَدُّ الحديث على وَجهِه، وإمَّا حملُه على أسوأ مايكون من التأويل الذيهو عَين التَّشبيه, وكلاهما خَطّتان مرغوبٌ عنهما, وليس في هذا الكتاب حديثٌ أشنع ظاهرًا وأبشع مَذاقًا من هذا الحديث, فلأجل ذلك سَردتُه من أولِهِ إلى آخرِه لِيَعتَبر النَّاظرُ أوّله بآخره, فلا يَشْكِل عليه بإذن الله معناه, وذلك أنه قد ذكر في أول الحديث وآخره أنه رُؤيا أُريهَا رسول الله صلى الله عليه وسلم. ألَا تراه يقول في أول الحديث: جاءه ثلاثةُ نَفَر قَبَل أن يُوحَى إليه وهو نائمٌ في المسجد الحرام وبعض الرؤيا مَثَل يَضرَب لِيُتأوّل على الوجه الذي يجب أن يَصرَف إليه معنى التَّعبير

في مثله, وبعضها كالُمشاهدة والعِيَان, ثم إن القِصة بطولها إنما هي حِكاية يَحكيها أنس بن مالك ويُخبِر عنها من تلقاء نفسه لم يَعزُها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا رَوَاها عنه ولا أضافَها إلى قوله, فحَاصل الأمر في التَّدلِّي وإطلاق اللفظ على الوجه الذي تضمنه الخَبَر أنه رايُ إما أنس بن مالك, وإما رَاوِيه شَريكُ بن عبدالله بن أي نَمِر, فإنه كثير التفرُّد بمناكير الألفاظ في مثل هذه الأحاديث إذا رَواها من حيث لا يتابعه عليه سائر الرواة, وأيُّهما صَحَّ هذا القول عنه وأضيف إليه فقد خالفه فيه عامة السلف المتقدمين والعلماء وأهل التفسير والتأويل منهم ومن المتأخرين. والذي قيل في هذه الآية أقوال. أحدها: أنه دنا, يعني جبريل من محمد عليه السلام, فتَدلَّى, أي: فَقَرُب منه. وقال بعضهم: إن/ معنى قوله: ثم دنا

فتَدَلَّى , على التقديم والتأخير, أي تدلَّى ودنا, وذلك أن التدلِّي سَببُ للدُّنُوِّ. وقال بعضهم: تدلَّى له, يعني جبريل. بعد الانتصاب والارتفاع حتى رآه النبي صلى الله عليه وسلم مُتَدَلِيًا, كما رآه مُنْتَصِبًا, وكان ذلك من آيات قدرة الله حيث أقدره على أن يتدلَّى في الهواء من غير اعتمادٍ على شيء ولا تمسُّك بشيء. وقال بعضهم: معنى ثوله: دنا -يعني جبريل- فتدلَّى- محمد صلى الله عليه وسلم- ساجدًا لربه شُكْرًا على ما أراه من قدرته وأناله من كرامته, ولم يثبُت في شيء مما رُوِيَ عن السلف أن التدلِّي مضاف إلى الله سبحانه جلَّ ربنا عن صفات المخلوقين ونُعُوت المَربُوبِين المحدودين. وقد رُوِيَ هذا الحديث عن أنس من غير طريق شَرِيك بن عبدالله, فلم تُذكَر فيه هذه الألفاظ البشعة, فكان ذلك مما يُقوِّي الظن أنها صادرة من قِبَل شَرِيك والله أعلم

(24) باب قول الله تعالى (وجوه يومئذ ناضرة, إلى ربها ناظرة)

وفي هذا الحديث لفظةٌ أخرى تفرَّد بها شَريك أيضًا لم يذكرها غيره. وهي قوله: "فقال وهو مكانه" والمكان لا يضاف إلى الله سبحانه وتعالى, إنما هو مكان النبي صلى الله عليه وسلم ومقامه الأول الذي أقيم فيه. وههنا لفظة أخرى في قِصاة الشفاعة رواها قتادة, عن أنس. (24) باب قول الله تعالى (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَة, إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) 1235/ 7440 - قال أبو عبدالله: وقال حَجَّاج بن مِنهال قال: حدَّثنا همَّام بن يحيى قال: حدثنا قَتَادَة عن أنس, عن النبي صلى الله عليه وسلم وذَكر قصة الشفاعة إلى أن قال: فيأتونني -يعني أهل المحشر- يسألوني الشفاعة, فأستأذن على ربي في داره فيُؤذن لي وذَكر الحديث. وقوله: في داره, يُوهِم مكانًا كاللَّفظة الأولى في القِصة المتقدِمة, وهي قوله في مكانه. ومعنى قوله: "فأستأذنُ على ربي في داره, فيُؤذَن لي عليه, أي في داره التي دَوَّرها لأوليائه وهي الجنة كقوله عز وجل (لَهُمْ دَار السَّلَام عِنْد رَبّهمْ)

وكقوله: (وَاَللَّه يَدْعُو إِلَى دَار السَّلَام) وكما يُقال: بيتُ الله, وحَرَم الله, ويريدون بيتَ الله الذي جعله مثابةً للناس, والحَرَم الذي جعله آمنًا لهم, ومثله رُوحُ الله على سبيل التفضيل له على سائر الأرواح, وإنما ذلك في ترتيب الكلام كقوله عز وجل: (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) فأضاف الرسول إليهم وإنما هو رسول الله أرسله إليهم. (الباب السابق نفسه) 1236/ 7439 - قال أبو عبدالله: حدَّثنا يحيى بن بُكير قال: حدَّثنا اللَّيث , عن خالد بن يزيد, عن سعيد بن أبي هلال, عن زيد, عن عطاء بن يسار, عن أبي سعيد الخُدْرِيِّ, عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة يوم القيامة قال: ثم يُؤتى بالجسْر, فيُجْعل بين ظَهْرَي جهنم, قلنا: يارسول الله وما الجسْر؟ قال: مَدْحَضةٌ مَزِلَّة, غليه خطَاطِيفُ ومكلاليبُ وحَسَكَة مُفَلْطَحة لها شوكة عَقِيفة تكون بنجْد يُقال لها السَّعدان المؤمن عليها لطرَّف وكالبرق, وكالريح, وكأجاويد الخيل, والركاب, فناجٍ مُسَلَّمٌ وناجٍ مَخدُوش ومكدوس في نار جهنم. قوله: مَدْحَضةٌ -يعني تُدحَضُ عليه الأقدام- أي: تَزِلُّ. ومنه قولهم: أدحضتُ حُجَّة الرجل, أي أبطلتها, وذلك بأن يُزلَّها عن موضعها. وأجاويد الخيل: جماعة الأجواد, وهي جمع الجواد

(50) (باب ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وروايته عن ربه)

إلا أن الغالب في جماعة الخيل الجياد, وفي جماعة الناس الأجواد من الجود. والمكدوس: المدفوع في جهنم. ويقال: تكدَّس الإنسان على رأسه إذا دُفع من ورائه فسقط. والتكدُّس في سير الدواب أن يركب بعضها بعضًا. (50) (باب ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وروايته عن ربه) 1237/ 7536 - قال أبو عبدالله: حدثني محمد بن عبدالرحيم قال: حدَّثنا أبو زيد -سعيد بن الربيع الهروي - قال حدَّثنا شعبة, عن قتادة, عن أنس, عن النبي صلى الله عليه وسلم يرويه عن ربه عز وجل قال: إذا تقرَّب العبد إليَّ شبرًا, تقرَّبتُ إليه ذراعًا, وإذا تقرَّب إليَّ ذراعًا تقرَّبتُ منه باعًا, وإذا أتاني مشيًا أتيتته هرولة. 1238/ 7537 - قال أبو عبدالله: وحدَّثنا مُسَدَّد, عن يحيى عن التَّيْميِّ, عن أنس, عن أبي هريرة قال: ربَّما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا تقرَّب العبد مني شبرًا تقرَّبتُ منه ذراعًا, وإذا تقرَّب مني ذراعًا تقرَّبتُ منه باعًا أو بُوعًا.

قوله: "إذا تقرَّب العبد إليَّ شبرًا, تقرَّبتُ إليه ذراعًا" هذا مَثَل ومعناه حُسن القَبول ومضاعفة الثواب على قدر العمل الذي يَتقرَّب به العبد إلى ربع, حتى يكون ذلك مُمثّلًا بفعل من أقبل نحو صاحِبِه قدْرَ شِبر, فاستقبله صاحبه ذِراعًا, وكمن مشى إليه فهَرْوَل إليه صاحبه قبولًا له وزيادة, وفي إكرامه, وقد يكون معناه التوفيق له التيسير للعمل الذي يُقرِّبه منه, والله أعلم. البَوْعُ: مصدر باعَ يَبُوع بَوعًا, إذا مَدَّ باعه وبَسَط يده لإدْنائه من نفسه, وقد يحتمل أن تكون الرِّواية بُوعًا مضمومة الباء جمع باع, كما قيل: دار ودُورٌ وساق وسُوقٌ. قال الشيخ أبو سليمان حمد بن محمد الخطَّابي -رحمه الله- هذا منتهى القول فيما تيسَّر من تفسير أحاديث الجامع الصحيح, وقد اختصرنا الكلام في عامَّتها إلا في مواضع لم نجد من إشباع القول فيها بُدًّا لإشكالها وغُموض معانيها, ووجدت صاحب الكتاب لم يُرتّب ماوضع فيه من الأحاديث ترتيب الكتب المُصنَّفة في أبواب الفقه والعلم, فيَضمَّ كل نوع منه إلى الفقه ويضعه في بابه ولا يخلطه بغيره, كما فعله أبو داود في كتابه, فوقع كلامنا في تفسيرها على حسب ذلك اتِّباعًا لمذهبه وحِفظًا لرسمه, وأسأل الله أن ينفعنا والمسلمين بها وأن يتجاوز عن الزلل إن عرض فيها, وصلى الله على محمد وآله أجمعين.

آخر كتاب أعلام الحديث. والحمد لله حقَّ حمده على تسهيله, وله الشكر دائمًا على تحصيله. ووافق الفراغ منه في شهر جمادى الأولى سنة ثلاث وستين وخمسمائة, وحسبنا الله ونعم الوكيل, وصلواته على النبي محمد وآله أجمعين.

§1/1