أضواء على الثقافة الاسلامية

نادية شريف العمري

مقدمة

مقدمة {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 1. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله شهادة تنجيني من أهوال يوم القيامة، ومن عذاب النار، وتدنيني من رحمة الله ورضوانه، وتدخلني جنة النعيم مع المقربين الأخيار. والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه. وبعد: فإن للثقافة الإسلامية دورا عظيم الأهمية، بالغ الأثر في تحديد معالم الشخصية الإسلامية لدى الفرد، ولدى المجتمع، تلك الشخصية التي تتسم بسمات القوة والهيبة والمجد والرفعة والنبل والكرامة والاتزان، والإيجابية، وتؤهل المسلم لأن يقوم بدوره في تشييد بناء الحضارة الإنسانية، وتعينه على الإسهام في النهضة العلمية والتقنية، ذلك لأن مهمة المسلم في الإصلاح والتهذيب، والتربية والتعليم تجعله في مقام السيادة والإمامة والقيادة والريادة لسائر أمم العالم وشعوب الأرض، وتحمله أمانة السماء إلى الأرض، ورسالة الله إلى البشرية.

_ 1 الآيتان "1، 2" من سورة فاطر.

والمسلم وريث المصطفى المختار عليه الصلاة والسلام في التبليغ والبيان، والنصح والإرشاد، والدعوة والتقويم، وإحقاق الحق، وهدم الباطل، ومحاربة الكفر وأعوانه والضلال وأتباعه؛ إذ إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما؛ وإنما ورثوا العلم، فمن أخذ به، فقد أخذ بحظ وافر. ولا يتمكن المسلم من أداء هذا الدور الجليل العظيم ما لم يكن معتزا بعقيدته، فخورا بمبادئه، مستمسكا بتعاليم دينه، خاضعا لخالقه، مستسلمًا له في كافة الأمور والأحوال، متدبرا آيات القرآن العزيز الحكيم، فاهما سنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- منفذا للأوامر الإلهية مجتنبا النواهي، مدركا حكمة الله في الخلق، وفي الإماتة، وفي البعث والنشور وفي الحساب والعرض، وهو فوق هذا كله لين العريكة، قوي العزيمة، عالي الهمة، شكور صبور غيور على حرمات الله، طيب المأكل، عف اللسان، صادق المقال، غني الجنان، مرتبط بماضيه الزاهر، متبصر في حاضره، عالم بوسائل إصلاحه، لديه القدرة على مواصلة المسير نحو مستقبل تعلو فيه كلمة التوحيد، وترفرف فيه راية الإيمان.. هذا المسلم الذي اتقدت مشاعره للإسلام وحماسه لمبادئه، ووفاء بتعالميه، وولاء لأهله ... هذا المسلم الذي تهذبت عواطفه وحسنت أخلاقه واستقام مسلكه قادر على إرساء قواعد الإيمان في الأرض، وعلى متابعة الخطى في موكب الإسلام، قادر على التصدي لخصوم الإسلام، ورد تحديات الملحدين المغرضين، وإبطال حججهم، ونقض آرائهم، ومحاربة أفكارهم، ورد طعناتهم في نحورهم هذا المسلم ذو الفكر المستنير، والقلب الكبير هو الذي نهل من معين الثقافة الإسلامية، وطاف في أفيائها، وورد منها كل مورد، وجمع من قطافها ما لذ وطاب، ورشف من مائها العذب الزلال.. وعاش في حماها، ورفع رايتها، وتفانى من أجل خدمتها وتوضيحها للناس بيضاء نقية. والثقافة الإسلامية قادرة على إيجاد حياة جماعية تسودها قيم السماء، تلك القيم التي ترفع من شأن الإنسان، وتعلي قدره، وتجعله -بحق- خليفة لله تبارك وتعالى على وجه هذه البسيطة، ينفذ شريعته، ويطبق منهجه، فلا يظلم ولا يطغى، ولا يبغي ولا يتعسف ... هو إنسان يشارك أخاه الإنسان في أصل

الخلقة، وفي وحدة المصير والمآل، وليس له أن يستعلي على غيره، أو أن يعتدي على أحد، أو أن يسلب الآخرين حقوقهم في الحرية والعمل والعلم ... وهكذا فإن الناس في قيم الإسلام وموازينه أبناء علات، كلهم لآدم وآدم من تراب ... هذا المنهج الثقافي، وهذا العطاء الفكري والبذل الروحي والأساس الحضاري، وهذه المبادئ الاجتماعية والقيم الخلقية والآداب المعاشية تفردت بها الثقافة الإسلامية، ولم تستطع أية ثقافة من ثقافات العالم أن تضع الإنسان في مكانه المناسب، بل جعلت منه إما إنسانا مستعبدا مقهورا مظلوما مغلوبا على أمره لا يتمتع بأي حق من حقوقه الإنسانية الطبيعية, وإما إنسانا آخر طاغيا باغيا متسلطا متجبرا بغير حق. وسبب هذا الاختلال والاضطراب في مقياس الثقافات الأخرى يرجع إلى عدم اتصافها بصفة الاتزان والثبات، كما يرجع إلى أنها لا تستمد مبادئها وأسسها من وحي السماء. والثقافة الإسلامية توثق الصلة بين الحاضر والماضي، فالماضي مجيد مشرق نهض به رجال آمنوا بالله ربا، وبمحمد نبيًّا، فبذلوا الغالي والنفيس لتكون كلمة الله هي العليا، ولم يخرج أحدهم من داره وبيته وبلده ليجوب أقصى الشمال، أو أقصى المغرب والمشرق من أجل مكسب مادي، أو منصب دنيوي، ولو كانت المكاسب المادية الدنيوية غاية واحد منهم لخرجوا من جزيرتهم محاربين قبل الإسلام، وقد عرفوا بالقوة والميل إلى الحرب والعنف والشدة، ولكن جهاد السلف الصالح، والرعيل الأول لم يكن ابتغاء مغنم أو لغرض دنيوي، وإنما كان من أجل إعلاء كلمة الحق ولينالوا إحدى الحسنين: إما الشهادة وإما النصر. هذه الصفحة المشرقة البيضاء الناصعة التي سجلها رجال الإسلام الأبطال بأعمالهم المشرفة، لا بد أن تتألق في الحاضر، وأن تواصل المسيرة بتقدم نحو المستقبل في ركب حضاري مستمر لا يقف ولا يكل، لا بد للإسلام من رجال يحمون حماه، ويطبقونه على أنفسهم وفي مجتمعهم عقيدة وشريعة ومنهج حياة، يؤمنون به إيمانا مطلقا، ويتفانون في سبيل خدمته، وفي سبيل توضيح معالمه والدعوة إليه، وإبعاد الشبه والدسائس التي أثارها أعداء الإسلام من

استعمار أو استشراق أو تبشير أو صهيونية، أجل لا بد للإسلام من رجال تقلقهم وتقض مضجعهم الأوضاع الحالية لبعض المسلمين الذين لم يتح لهم أن يثقفوا ثقافة إسلامية، أو الذين تأثروا من قريب أو بعيد بما يثيره العدو من ضلالات وفتن وشبهات. ومهمة قادة الفكر والمصلحين الإسلاميين تعظم في هذا الوقت الحاضر، وتتمثل في تسليط الأضواء على الأسس العامة للإسلام من عقيدة وخلق ونظم وتشريع. وبيان قدرة وإمكانية ديننا العظيم لسد حاجات العصر ومتطلباته. كما تتمثل في الدعوة إلى تحصين عقول الجيل الصاعد من الغزو الفكري الذي تتبناه الحضارة الغربية والشرقية والذي يهدف إلى تمييع الشخصية الإسلامية وهدم البناء الاستقلالي للأمة الإسلامية، وإبعاد آثار الثقافة الإسلامية عن أفكار أبناء الإسلام. كما تتمثل أيضًا في الدعوة إلى النهضة الشاملة في شتى ميادين الحياة: اقتصادية وعمرانية، لأن الإنسان المسلم إيجابي فعال، يؤثر ويبني، يشيد ويعمر، يزرع ويبذر، يعلم ويتعلم، ينفع ويغدق الخير لصالح البشرية جمعاء.. وهكذا فالثقافة الإسلامية تصبغ الإنسان بصبغة استقلالية ذات خلق أصيل وقيم ثابتة، ومن ثم فإنها تضع الأمة الإسلامية في موضع القيادة والزعامة من سائر الأمم والشعوب. قال الله تبارك وتعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ} 1. وقال سبحانه: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 2. وإنه لمن تمام النعمة على المسلمين أن تحظى المكتبة الإسلامية بعدد وافر من كتب الثقافة الإسلامية القيمة التي تبصر الجيل بدوره الجليل وبمهمته

_ 1 الزخرف: 44. 2 آل عمران: 104.

الجسيمة في الحياة الدنيا، وتعينه على فهم دينه فهما واضحا لا لبس فيه ولا غموض، وتسلحه بسلاح العقيدة السمحة والفكر النير الواعي، وتطبعه بطابعه المميز الأصيل في مواجهة التيارات المعادية للإسلام والتي ما برحت ترسم خططها وتنفث سمومها وتجمع مكائدها وتبث مكرها لتشويه الفكر الإسلامي وإبعاد المسلمين عن دينهم وعن عقيدتهم. وقد رأيت أن أشارك في هذا الميدان فأكتب في الثقافة الإسلامية بحثا لعله يعين على تحقيق المنشود، وقد توخيت أن يكون نهج هذا البحث بسيطا غير معقد، وعميقا غير سطحي لأفيد وأستفيد، وليخدم ثقافتنا الإسلامية وفكرنا الإسلامي على النحو المرجو. والله من وارء القصد.

الفصل الأول: في محيط الثقافة

الفصل الأول: في محيط الثقافة المبحث الأول: تعريف الثقافة في الاستعمال اللغوي ... المبحث الأول: تعريف الثقافة في الاستعمال اللغوي: استعمل العرب كلمة "الثقافة" للدلالة على معان متعددة: منها الحذق، ومنها الفطنة والذكاء، ومنها سرعة التعلم والضبط، ومنها الظفر بالشيء والتغلب عليه، ومنها التقويم والتهذيب، يقال: ثقف الشيء ثقفا وثقافا إذا حذقه، ويقال للرجل ثقف، بتسكين القاف وبكسرها وبضمها، ويقال للمرأة ثقاف1، ويقال: رجل ثقف كقفٌ إذا كان ضابطا لما يعلم قائما به. قال تعالى في محكم تنزيله: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} 2, وقال جل من قائل: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ} 3، ذكر القرطبي في تفسيره أن "ثقف" في الآيتين الكريمتين تدل على الأسر، والظفر بالعدو فقال: أي تأسرونهم وتجعلونهم في ثقاف؛ أو تلقونهم بحال ضعف، وتقدرون عليهم وتغلبونهم، وهذا المعنى لازم من اللفظ لقوله تعالى في الآية الثانية: {فِي الْحَرْبِ} ثم قال: والثقاف في اللغة ما يشد به القناة ونحوها. واستشهد ببيت للنابغة الذبياني: تَدْعو قُعَينًا وَقَد عَضَّ الحديدُ بها ... عَضَّ الثِّقافِ عَلَى صُمِّ الأَنابِيبِ4

_ 1 اللسان لابن منظور، القاموس المحيط للفيروزأبادي. 2 البقرة: 191، النساء: 91. 3 الأنفال: 57. 4 الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 8/ 30 بتصرف يسير، والقعن "بالتحريك": قصر فاحش في الأنف، وقعين: حي، مشتق منه، وهما قعينان: قعين في بني أسد وقعين في قيس عيلان. والأنابيب جمع أنبوبة وهي كعب القصبة والرمح.

وتستعمل كلمة التثقيف استعمالا حسيا ماديا واستعمالا آخر معنويا، أما الاستعمال المادي فكقول القائل: تثقيف الرماح أي: تسويتها وتقويم اعوجاجها، وأما الاستعمال المعنوي فكقولنا: تثقيف العقل.

في الاستعمال الاصطلاحي

في الاستعمال الاصطلاحي: في العهد الروماني استعملت كلمة الثقافة للدلالة على العلوم الإنسانية التي تستقل بها كل أمة عن غيرها من الأمم، كعلوم الدين واللغة والآداب التي لها فلسفة معينة، واتجاه مميز، كما استعملت للدلالة على الفنون غير العملية وغير الطبيعية. وفي عصر النهضة الأوروبية أصبح اللفظ يطلق على الآداب، والفنون1. يقول "هنري لاوست": "إن الثقافة هي مجموعة الأفكار والعادات الموروثة التي يتكون فيها مبدأ خلقي لأمة ما، ويؤمن أصحابها بصحتها وتنشأ منها عقلية خاصة بتلك الأمة تمتاز عن سواها". ويعرف "أرنست باركر" الثقافة بـ"أنها ذخيرة مشتركة لأمة من الأمم تجمعت لها وانتقلت من جيل إلى جيل خلال تاريخ طويل، وتغلب عليها بوجه عام عقيدة دينية هي جزء من تلك الذخيرة المشتركة من الأفكار والمشاعر واللغة". ومن التعريفات المنتشرة لديهم: "إن الثقافة هي الكل المركب الذي يتضمن المعارف والعقائد والفنون والأخلاق والقوانين"2. وقد بيَّن "ماثيو أرنولد" في كتابه المسمى "الثقافة والفوضى 1869م" أن الثقافة هي: "محاولتنا الوصول إلى الكمال الشامل عن طريق العلم بأحسن ما في الفكر الإنساني، مما يؤدي إلى رقي البشرية وقال: إن الدين من العناصر التي

_ 1 الحضارة للدكتور حسين مؤنس ص369. 2 وهو تعريف ادوارد تايلور "1871" انظر كتاب ركائز علم الاجتماع ص162.

استعان بها الإنسان في محاولته الوصول إلى الكمال"1. ونحن -المسلمين- ننظر إلى هذا التعريف بعين الناقد البصير الخبير بما يقبل وبما يدع، ذلك لأن ديننا الحنيف ليس مجرد عنصر من العناصر التي يستعين بها الإنسان للوصول إلى الكمال، وإنما هو المفتاح الأول للوصول، إلى كل خير وإلى كل كمال وإلى كل سلام. وقد ذكر الدكتور أحمد شلبي في موسوعته "النظم والحضارة الإسلامية" تعريفا للثقافة قال فيه: "إنها الرقي في الأفكار النظرية، وذلك يشمل الرقي في القانون والسياسة والإحاطة بقضايا التاريخ المهمة، والرقي كذلك في الأخلاق أو السلوك، وأمثال ذلك من الاتجاهات النظرية". فهو يفرق في تعريفه بين العلوم الإنسانية التي تحدد الطابع المميز لكل أمة، وبين العلوم التجريبية التطبيقية فلا يعتبرها داخلة ضمن نطاق الثقافة. وذلك لأن الثقافة تتناول العقيدة والنشاط الإنساني في شتى مجالات الآداب والعلوم والفنون والعادات، والأدب الشعبي وأدب الخاصة، والنظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية كنظم الحكم والإدارة، ونظم الأسرة، ولا يخرج عن هذه الدائرة تخطيط المدن وتطوير القرى ووسائل النقل وأساليب المأكل والمشرب والزينة والزي ووسائل الترفيه النفسي والاجتماعي.

_ 1 ثقافة المسلم في وجه التيارات المعاصرة للدكتور عبد الحليم عويس ص 16.

الفرق بين الثقافة والعلم

الفرق بين الثقافة والعلم: وهناك فرق بين الثقافة والعلم، وهذا الفرق يتمثل في أن العلم عالمي بطبيعته يلتقي مع كل أمة وكل مجتمع، ولكن الثقافة خاصة بكل أمة بعينها، والعلم يرمي إلى تنمية الملكات، وهو في نهاية المطاف وسيلة وإرادة، وقد يستعمل للخير والشر على السواء، وتتشكل وجهته في بوتقة الثقافة نفسها، كذلك فإن هناك فرقا بين الثقافة والمعرفة، فالمعرفة هي المعلومات العامة المنوعة المختلفة المتعارف عليها في كل الثقافات والأوليات العامة البديهية، أما الثقافة فليست معارف فقط، ولكنها موقف واتجاه وعاطفة وأسلوب حياة، أما المعارف

فهي المادة الخام للثقافة، ومكانة الثقافة من التعليم والتربية، مكانة الدرجة الأعلى، فالتعليم قاصر على الإعداد المدرسي والدراسي لتكوين العقلية المؤهلة للثقافة، أما الثقافة فهي الدرجة الأعلى التي تكون الفرد تكوينا ممتازا1.

_ 1 الثقافة للأستاذ أنور الجندي. ص 4.

العلاقة بين الثقافة والحضارة

العلاقة بين الثقافة والحضارة: والثقافة مرتبطة بالحضارة ارتباطا وثيقا، ذلك لأن ثقافة كل أمة هي أساس حضارتها، فهي فكرها وحركتها وأسلوب حياتها. ولهذا فإن من حق كل أمة أن تقتبس الجانب المادي في الحضارة لأمة أخرى بوصفها أدوات ووسائل ومواد أولية، ولا تقتبس ثقافتها لأنها ذاتية وخاصة بهذه الأمة وحدها. ومن الباحثين من فرق بين الجانب الفكري المعنوي في الحضارة وخصوه باسم الثقافة، وبين المجالات المادية النفعية التي تخدم الأغراض العملية المباشرة فآثروا أن يسموها "مدنية"، ومنها مثلا مجالات التقدم الإنساني في الزراعة والصناعة والطرق والعمارة. وليست ثمة فائدة من هذا التفريق بين الثقافة والمدنية، لأن تصور ثقافة من غير مدنية، أو مدنية من غير ثقافة تصور نظري بعيد عن الواقع التاريخي، وأن الجانب الروحي المعنوي والجانب المادي العملي يؤثران -متضافرين- في الرقي الإنساني. اللهم إلا أن يقال: إن الجانب الديني والعلوم الإنسانية من نظم اقتصادية واجتماعية تساعد على تشكيل معالم الشخصية الذاتية لكل أمة من الأمم وليس الأمر كذلك بالنسبة للعلوم التطبيقية وللوسائل النفعية المادية. وهناك تعريفات نوعية للثقافة يركز فيها المتخصصون على جوانب تنتمي إلى تخصصهم الدقيق، فمثلا يرى علماء الإنسان أن الثقافة باعتبارها الركن الركين في فهم الإنسان والجماعات، تمثل: "أسلوب الحياة في مجتمع ما، بما يشمله هذا الأسلوب من تفصيلات لا تحصى من السلوك الإنساني"1. ويرى علماء الاجتماع أنه يقصد بالثقافة "النتاج الإنساني للتفاعل

_ 1 مجلة الفيصل عدد "20"، وانظر ثقافة المسلم ص 17 د. عبد الحليم عويس.

الاجتماعي وأنها تعني كل الأشكال المادية والروحية في المجتمع، وأنها تشكل عناصر عقلية مشتركة بين أفراد المجتمع، ومن ثم فإنها تفرض على أعضاء المجتمع التزامات معينة وسلوكيات محددة"1. هذه التعريفات تنبع من التركيز الجزئي على بعض الجوانب، بحيث تطغى على بقية الجوانب، لكنها عند اجتماعها يكمل بعضها بعضا. وليس ثمة تعارض بين هذه التعريفات النوعية للثقافة وبين التعريف السابق لها، بل إنه لا وجود للتعارض بين الثقافة والحضارة والمدنية؛ لأنها جميعا تعتبر مظهرا من مظاهر الرقي الإنساني ودليلا على مستواه العقلي.

_ 1 انظر: ركائز علم الاجتماع د. زيدان عبد الباقي ص161.

الثقافة الإسلامية

الثقافة الإسلامية: من الركائز الطبيعية للثقافة الإسلامية ومن مقوماتها المميزة ومن أهدافها المحددة يمكن أن نستنبط تعريفا لها فنقول: "إنها الصورة الحية للأمة الإسلامية. فهي التي تحدد ملامح شخصيتها، وقوام وجودها، وهي التي تضبط سيرها في الحياة، وتحدد اتجاهها فيه. إنها عقيدتها التي تؤمن بها، ومبادئها التي تحرص عليها، ونظمها التي تعمل على التزامها وتراثها الذي تخشى عليه من الضياع والاندثار، وفكرها الذي تود له الذيوع والانتشار"1. وعلى هذا فالثقافة الإسلامية هي الشخصية الإسلامية التي تقوم على عقيدة التوحيد وعلى تطبيق الشريعة الإسلامية والأخلاق الإيمانية المستقاة من مصادر الإسلام الأساسية وهي الكتاب والسنة.

_ 1 لمحات في الثقافة الإسلامية للأستاذ عمر عودة الخطيب ص 13.

الفرق بين الثقافة الإسلامية وغيرها من الثقافات

الفرق بين الثقافة الإسلامية وغيرها من الثقافات: تختلف الثقافة الإسلامية عن غيرها من الثقافات الأخرى غربية كانت أو شرقية من حيث الأسس والمقومات والأهداف، فالثقافة الإسلامية تستمد كيانها من الإسلام متمثلا في كتاب الله وسنة رسوله بينما تقوم الثقافة الغربية على استمداد مصادرها من الفكر اليوناني والقانون الروماني وتفسيرات المسيحية التي وصلتها.

والثقافة الإسلامية تهدف إلى نشر العدل والأخوة الإنسانية بين كافة الأجناس والفئات البشرية، بينما الثقافة الغربية تهدف إلى استغلال الغني للفقير والعظيم للحقير واستعباد الناس بعضهم بعضا واستعمار القوي للضعيف والتسلط على خيرات البلاد واستخدامها وفق ما يحقق لهم النفع والمصلحة الخاصة. ومن هنا يبدو الفرق واضحا بين الثقافة الإسلامية وغيرها من الثقافات الأخرى، كما يتجلى بوضوح خطأ القول بوحدة الثقافة العالمية، "ولو قيل وحدة المعرفة العالمية لكان ذلك مقبولا، لأن المعرفة تضم المعارف والعلوم العامة التي هي ملك للبشرية كلها. ذلك لأن الثقافات ذاتية وخاصة ومتصلة بأممها لا تنفك عنها، وهي من أجل ذلك لا تنصهر ولا تذوب في بوتقة واحدة، ولكنها تتلاقى وتتعارف ويأخذ بعضها من البعض الآخر ما يزيده قوة، ويرفض بعضها من البعض الآخر ما يضاد وجوده أو يتعارض مع الأصول الأساسية لمقومات فكره وكيانه وذاتيته"1.

_ 1 الثقافة للأستاذ أنور الجندي. ص6.

المبحث الثاني: خصائص الثقافة الإسلامية

المبحث الثاني: خصائص الثقافة الإسلامية مدخل ... خصائص الثقافة الإسلامية للثقافة الإسلامية خصائص مميزة تنفرد بها عن سائر الثقافات، وتجعلها ذات شخصية مستقلة وصبغة متفردة وطبيعة خاصة.

أولى هذه الخصائص أنها ربانية المصدر

أولى هذه الخصائص أنها ربانية المصدر: فالثقافة الإسلامية تعتمد على كتاب الله الموحى إلى رسوله -صلى الله عليه وسلم- وهي محصورة في هذا المصدر، بعيدة كل البعد عن الفكر الفلسفي الإنساني. وإن هذا المصدر الرباني يتسم بسمة الخلود والصدق والصحة، ذلك لأن الكتب السماوية الأخرى قد دخلها التحريف، وأدخل عليها شروح وتفسيرات وتصورات وزيادات ومعلومات بشرية، أدمجت في صلبها، فبدلت طبيعتها الربانية، وبقي الإسلام وحده محفوظ الأصل، قال الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الْذَّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَفِظُونَ} 1. وهذا هو السر الذي يعطي الثقافة الإسلامية قيمة التفرد والخلود. ومهمة الرسول -صلى الله عليه وسلم- كانت تبليغ هذا الأصل إلى الناس جميعا، إذ إنه يتلقى من الله رب العباد، وينقل، ويبلغ وينفذ، ويطبق. قال الله سبحانه: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْإيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ, صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} 2. وقال

_ 1 الحجر: 9. 2 الشورى: 52-53.

سبحانه: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى، مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى، وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} 1. ويقول سبحانه: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ، لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ، فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} 2. ويقول عز من قائل: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} 3. هذه الآيات القرآنية العظيمة كلها تدل على أن مصدر الثقافة الإسلامية هو كتاب الله تبارك وتعالى، وهذا الكتاب محل ثقة الناس لأنه مبرأ عن كل نقص أو هوى قد يصاحب العمل الإنساني أو يؤثر في الفكر البشري. وإن هذا المصدر موافق للفطرة الإنسانية، ملب لحاجاتها محقق لمتطلباتها، ملائم لكل جوانبها. ومن البدهي أن الثقافة التي تنبع من كتاب الله والتي تحقق حاجات الإنسان، والتي يطمئن إليها الإنسان ويثق في صحتها تنشئ أرقى ثقافة عرفتها البشرية، وتقدم أشمل منهج للحياة. وهي في هذه الخاصة تختلف اختلافا شاسعا عن الثقافة الغربية التي تستمد مصادرها من الفكر الفلسفي اليوناني والقانون الروماني ومن النصرانية المحرفة، أو من الفلسفة الوضعية. والفلسفة الغربية في العصر الحديث تقوم على اعتبار الطبيعة والواقع والحس مصادر مستقلة وفريدة للمعرفة اليقينية أو المعرفة الحقة. بل إنها تعتبر أن الطبيعة هي التي تنقش الحقيقة في عقل الإنسان وهي التي توحي بها، وترسم معالمها الواضحة، وهي التي تكون عقل الإنسان, والإنسان لا يتلقى من خارج الطبيعة أو مما وراءها، ولا يتلقى من ذاته، إنما يتلقى المعرفة من الطبيعة بما فيها الواقع المحسوس4.

_ 1 النجم: 1-4. 2 الحاقة: 44-47. 3 المائدة: 67. 4 خصائص التصور الإسلامي للأستاذ سيد قطب. ص81.

والثقافة الماركسية تعتبر الحالة الاقتصادية أصلا لكل الأعمال الإنسانية، في تاريخ الجماعة البشرية، وإن تغير الأحوال الاقتصادية يؤثر على حياة الدولة وعلى سياستها، ويؤثر كذلك على العلم والدين، وعلى هذا فإن الثقافة لديها فرع من الحياة الاقتصادية. وهكذا فإننا نجد اضطرابا وخلطا فيما تعتبره الثقافة الغربية مصدرا لها، مما يؤدي إلى اضطراب في فكر الإنسان وفي نفسيته، وهذا ما يورث كآبة نفسية في إحساس الفرد، أو انطلاقا شديدا لا يحده ضابط ولا توقفه قيمة. يقول الأستاذ سيد قطب: "ما الذي قدمته المادية؟ إننا لا نجد بين أيدينا ولا في عقولنا ولا في واقعنا منه شيئا -مضبوطا- فلماذا يا ترى نختاره ونلوذ به وهو هباء لا يثبت على اللمس، ولا يثبت على الرؤية، ولا يثبت على النظر العقلي؟. أما هذا المسخ الذي يثير الاشمئزاز في تصور كارل ماركس وإنجلز للحياة البشرية ودوافعها ومجالها الذي تتحرك فيه، وحصرها في حجر "الاقتصاد" فإن الشعور بالاشمئزاز منه يزداد، عندما يقف الإنسان أمام عظمة الكون المادي نفسه. وما فيه من موافقات عظيمة عجيبة، يبدو فيها كلها كأنما هي تمهيد للحياة البشرية بوجه خاص: فلا يتمالك نفسه من الاحتقار والاشمئزاز لمثل هذا التفكير الصغير الذي لا تروعه عظمة هذا الكون ذاته، ولا تروعه الموافقات الكامنة فيه لاستقبال الحياة البشرية، فإذا به يدير ظهره لكل هذه العظمة، ولكل هذه الروعة، ليخنس في جحر الاقتصاد والآلة والإنتاج، لا بوصفها غاية للإنسان ومحركا فحسب، ولكن بوصفها كذلك العلة الأولى والإله الخالق والرب المتصرف المصرف لهذه الحياة"1. ونذكر هنا نِعَمَ الله علينا، إذ وهبنا الدين الإسلامي الذي هو مصدر لكل خير، ولكل قيمة جديرة أن تبرز وأن تسود.

_ 1 خصائص التصور الإسلامي ومقوماته ص81 وما بعدها.

الخاصية الثانية: الثبات

الخاصية الثانية: الثبات ومعنى الثبات هنا، ثبات المصدر الأول للثقافة الإسلامية، وأن كل ما يتعلق بالحقيقة الإلهية ثابت الحقيقة وثابت المفهوم وغير قابل للتغيير. ذلك لأن القاعدة الأولى التي تقوم عليها الثقافة الإسلامية هي الإيمان بوحدانية الله وبوجوده وبقدرته وهيمنته.. وكل صفاته الفاعلة في الكون والحياة والناس. فهذه العقيدة أو هذه القاعدة ثابتة لا تتغير ولا تقبل التغيير، وما يتفرع عن هذه القاعدة من أن العبودية لله وحده واجبة على الناس جميعا بما فيهم الرسل، وأنه ليس لهم أية خاصة من خصائص الألوهية، حقيقة ثابتة أيضًا لا تتغير ولا تتبدل ولا تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة. وأن الإيمان بالملائكة والكتب المنزلة والرسل واليوم الآخر والقدر خيره وشره من الله ... حقيقة ثابتة. وأن الدين عند الله الإسلام، وأن الله لا يقبل من الناس دينا سواه، حقيقة ثابتة. أن الإسلام يعني إفراد الله بالألوهية والربوبية والأسماء والصفات والاستسلام لمشيئته والرضى بالتحاكم إلى أمره ومنهجه وشريعته.. حقيقة ثابتة.. وأن الإنسان مخلوق مكرم على سائر المخلوقات، وأنه مستخلف في الأرض، وأن الناس من أصل واحد،.. حقيقة ثابتة. وأن غاية الوجود الإنساني إفراد الله بالعبادة حقيقة ثابتة.. وأن الدنيا دار ابتلاء واختبار، وأن الآخرة دار حساب وجزاء حقيقة ثابتة.. هذه وغيرها من القواعد التي تتصل اتصالا مباشرا بالعقيدة الإسلامية حقائق ثابتة لا تتغير ولا تخضع للتغيير. والثمرة المترتبة على ثبات هذه الحقائق في الثقافة الإسلامية ضبط حركة الإنسان، وتقييد تصرفاته ضمن إطار محدد، فلا يخرج عن جادة الهدى، ولا

يحيد عن معالم الأخلاق، ولا يتخلى عن الموازين والقيم الإلهية. وإلا غدا إنسانا شاردا حائرا تائها ضالا لا يتبين ملامح الهداية ولا تتضح أمامه الرؤيا، فتتشابه عليه الأمور، وقد يرى الباطل حقا والحق باطلا، وقد يخبط في تيه الحياة خبط عشواء، وقد يظلم وقد يغش، وقد يتعسف.. لأن الموازين اختلت لديه والمقاييس تغيرت في نظره. وثمرة أخرى تجنيها من ثبات الحقائق في الثقافة الإسلامية هي ضبط الفكر الإنساني، فلا يتأرجح مع الشهوات والأهواء والمؤثرات، ولا يندفع وراء حب أو كره عارض. ولا يتأثر من قول شخص قريب أو بعيد، أو حبيب أو بغيض1. أو كبير أو صغير أو رئيس أو مرءوس، أو صاحب سلطان أو مغمور.. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} 2. وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} 3. وقال جل وعلا: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً} 4. {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} 5. والثقافة الإسلامية بهذه الميزة تختلف اختلافا كبيرا عن ثقافة الغرب "أيًّا كان نوعها" والتي تقوم على مبدأ التطور المطلق الذي يؤدي إلى فكرة وجود النقيض..

_ 1 خصائص التصور الإسلامي للأستاذ سيد قطب. ص83-88. 2 سورة المائدة: 8. 3 سورة النساء: 135. 4 سورة النساء: 105. 5 سورة المؤمنون: 71.

وكان من نتيجة الثقافة الغربية أن جعلت البشرية تسير على غير هدى، تتخبط في تصوراتها وفي أنظمتها، وأوضاعها وتقاليدها.. وكان من نتائجها أيضا أنها قضت على المثل العليا، والقيم السامية في النفس الإنسانية. وبددت الإحساس بالخلق الكريم والمعنى النبيل من أجل تحقيق أكبر قدر من الربح للمرابين وتجار الأهواء1. وكان من أبرز نتائج "مبدأ التطور" الذي ترتكز عليه الثقافة الغربية أن تفلت الإنسان من كل قيمة ثابتة ومن كل مثل مرتبط بهدف ثابت، ونادى بالانطلاق والتجديد في كل شيء، من غير ضوابط أو حدود2. وإن مبدأ التطور الذي لا يتقيد بأي أصل ثابت ولا بأية قيمة ثابتة ليس "حقيقة علمية" وإنما هو فكرة طائشة، وهوى جامع مبعثه الأهواء النفسية والرغبات العاتية. قال الله تبارك وتعالى: {بَلْ يُرِيدُ الإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} 3. ويقول سيد قطب: "إن دارون -وهو يقرر مذهب التطور في خط سير الحياة- لم يكن يبحث، إلا جزئية سطحية من جزئيات هذا الكون تبدأ بعد وجود الحياة. ولا تمتد إلى مصدر الحياة، ولا إلى الإرادة التي صدرت عنها الحياة، وحتى على فرض صحة نظريته، فإن خط التطور يثبت أن هناك إرادة ثابتة من ورائه، وأنه يتم وفق خط مرسوم لا مجال للمصادفة فيه. وأنه جزء من "الحركة" التي هي قانون من قوانين الكون. وحركة الكون ليست فوضى. وإنما تتم حول قاعدة "ثابتة" وتتم في إطار "ثابت". وعلى أي حال فلم يكن لا "المنهج العلمي" ولا "الحقائق العلمية" هي التي أملت على دارون -حين لم يهتد إلى سر الحياة، ولم يستطع تعليلها علميا- أن يهرب من ردها إلى الله، ووجودها ذاته يحتم الاعتراف بموجد لها، وانتظام خط سيرها وتناسقها مع الكون يحتم الاعتراف بأن موجدها لا بد أن يكون مريدا مختارا فيما يريد، عليما خبيرا.. ولكن دارون كان هاربا من "الله" لأنه كان

_ 1 خصائص التصور الإسلامي ومقوماته. ص83-88. 2 الإسلام ومشكلات الحضارة. ص104. 3 سورة القيامة: 5.

هاربا من الكنيسة وإلهها الذي تصول باسمه وتجول ... ومن ثم رد الحياة إلى "الطبيعة" التي لا حد لقدرتها كما يقول.. ومن ثم حاول أن يوهم أن الإثبات لشيء -على الإطلاق- بينما بحثه كله كان في دائرة خط سير الحياة بعد وجود الحياة.. ولم يكن يتناول كل شيء على الإطلاق. والمذهب الماركسي هو أشد المذاهب "الوضعية" معارضة لحقيقة "الحركة داخل إطار ثابت وحول محور ثابت" لأن الاعتراف بهذه الحقيقة البارزة في طبيعة الكون "المادي" ذاته، يفقد المذهب ركيزته الأولى التي يقوم عليها، ويحطم دعواه في "التقدمية" كما يفهمها1. أما مبدأ "النقض" الذي يوصل إليه "مبدأ التطور" فيعني أن كل شيء يهدم نفسه، وأن كل شيء يتحول إلى مقابل ونقيض ومخالف. وهذا المبدأ "الوهمي" الهدام يخالف كل فكرة تقوم على الإيمان والتصديق والثبات، ولكنه بالوقت نفسه ينقض فكرته من حيث الأساس.. فيتضح من هذا أن مبدأ النقض هو مجرد "تحكم" فكري لا رصيد له من الواقع. وبعد هذه الموازنة بين الثقافة الإسلامية المبنية على الثبات، والثقافة الغربية المبنية على مبدأ التطور، نقول: إن الثبات في المبدأ، والثبات في القيم والمثل، لا يجرد الإنسان من كل حول وقوة، ولا يتركه متقوقعا في جحر داره منطويا على نفسه، ولا يحجر على تفكيره ولا يغل يديه ويمنعه من الإنتاج والعمل.. بل يطلق يديه للعمل، وعقله للتفكير ومواهبه للإبداع وطاقاته للإنتاج، ونشاطه للإثمار، ويجعله إنسانا متفاعلا مع الحوادث متفاعلا مع البيئة التي يعيش فيها. متفاعلا مع العلوم والمعارف يؤثر ويتأثر، يبني ويشيد، ويرتقي في سلم الأفضل نحو الخير والتقدم والعزة والسمو والمجد، ينقد ويفكر، يعطي ويغدق، ولكن كل هذه الأنشطة، وكل هذه القوى والتفاعلات، لا تخرج عن محور الثبات في القيم والثبات في الحقيقة، فلا تكون الأمانة التي هي خلق فاضل كريم، ساقطة من حسابه في يوم ما، ولا تكون الرذيلة عنده فضيلة ليصل في ساعة من ساعات حياته إلى ربح أكبر أو مغنم أوسع.. ولا يكون التدني الخلقي

_ 1 خصائص التصور الإسلامي. ص 88.

والسلوكي علامة خير في لحظة ما ... بدعوى التطور والانطلاق. ولا يترك تراثه وماضيه بحجة التطور أيضا، لأن التراث جزء من شخصية المجتمع والأمة. ومن ثمرات مبدأ "الثبات" في الثقافة الإسلامية أنه يعطي الفكر الإسلامي والمجتمع الإسلامي الحصانة القوية المنيعة ضد دعوات الضلال الهدامة، وبخاصة ضد الشيوعية الملحدة أو الماركسية التي أفلتت من العقيدة وأفلتت من القيم السامية. ومن مزايا مبدأ "الثبات" في الثقافة الإسلامية أيضًا أنه يبث الطمأنينة في حياة الفرد وفي حياة المجتمع، فالفرد يعمل وينتج ضمن إطار محدد، وأفراد المجتمع كلهم يسيرون في دائرة واحدة وباتجاه موحد، فلا تتصادم المصالح، ولا تتباعد النزعات، ولا تختلف الأغراض، كل فرد في المجتمع الإسلامي يشعر بسلام نفسي داخلي وبسعادة قلبية، ويشعر بسلام حينما يتعامل مع غيره طالما أن الهدف موحد والغاية واحدة.. وفي هذا المجتمع الإسلامي تتجلى المنافسة الكريمة في أبهى صورها، إنها منافسة بالحق وللوصول إلى الحق.. وللتقدم في ترقية وسائل الحياة، ووسائل المعاش، فهناك حركة دائبة، ممتدة من الأمس إلى اليوم إلى الغد، مطردة النمو والتقدم. ومما يثمره مبدأ "الثبات" في الثقافة الإسلامية -الثبات في الموازين والمعايير التي توزن بها أعمال الناس جميعا، فلا محاباة ولا تفاضل ولا مداهنة ولا ملاينة، فالعظيم والحقير سواء أمام المبادئ الإسلامية وأمام الأنظمة الإسلامية. وأعظم بقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأسامة بن زيد وقد جاء يشفع للمرأة المخزومية التي سرقت: "وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها"، وهل هناك فوق هذه الموازين الثابتة موازين؟ وهل هناك فوق هذه القيم الثابتة من قيم؟ فالثبات يضمن لأفراد المجتمع كلهم على حد سواء مبادئ ثابتة يتحاكمون إليها. فلا تطلق الأيدي لتعبث في أموال الآخرين أو أعراضهم ثم لا يجدون مبدأ ثابتا يفصل بينهم ويحكم حياتهم.. وإلا لغدت الحياة فوضى، خالية من معنى الحياة والفضيلة والسلام النفسي والجماعي. قال الله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ

الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} 1, وقال سبحانه: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} 2, وقال: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} 3. وإذا استقر هذا الإطار في ذهن الفرد وفي ذهن الجماعة استطاعت الحياة -فكرا وأسلوبا ووسائل- أن تتحرك في داخله بحرية ومرونة واستجابة لكل تطور فطري صحيح مستمد من التصور الكلي الثابت القويم. ولعل هذه الميزة التي تتصف بها الثقافة الإسلامية هي التي ضمنت للمجتمع الإسلامي تماسكه وقوته مدى سنوات عديدة رغم الضربات العنيفة التي وجهت إليه، ورغم الحروب الصليبية التي استمرت أكثر من ألف عام، ورغم الحملات الشنيعة من المغول والتتار.. التي استهدفت القضاء على قوى المجتمع الإسلامي وإبادة المسلمين، ورغم الدعايات الباطلة والشبهات السيئة التي تتأثر من حين لآخر لتشويه تعاليم الإسلام ومبادئ الإسلام وأنظمة الإسلام. يقول الأستاذ محمد أسد "ليوبولد فايس" في كتابه "الإسلام على مفترق الطرق": "يخبرنا التاريخ أن جميع الثقافات الإنسانية وجميع المدنيات، أجسام عضوية تشبه الكائنات الحية.. إنها تمر في جميع أدوار الحياة العضوية، التي يجب أن تمر بها، إنها تولد، ثم تشب وتنضج، ثم يدركها البلى في آخر الأمر، فالثقافات كالنبات الذي يذوي ثم يستحيل ترابا تموت في أواخر أيامها، وتفسح المجال لثقافات أخر ولدت حديثا". "أهذه إذن حال الإسلام؟ ربما ظهرت كذلك عند إلقاء أول نظرة سطحية.. ومما لا شك فيه أن الثقافة الإسلامية شهدت نهضة مجيدة وعهدا من الازدهار. وكان لها من القوة ما يلهم الرجال جلائل الأعمال وأنواع التضحية، ولقد غيرت معالم الشعوب، وأوجدت دولا جديدة، ثم سكنت وركدت

_ 1 الجاثية: 18. 2 الأنعام: 253. 3 المائدة: 50.

وأصبحت كلمة جوفاء.. وها نحن أولاء اليوم نشهد انحطاطها التام ولكن هل هذا كل ما في الأمر؟ "إذا كنا نعتقد أن الإسلام ليس مدنية من المدنيات الأخر، وليس نتاجا بسيطا لآراء البشر وجهودهم، بل هو شرع سنة الله لتعمل به الشعوب في كل مكان وزمان فإن الموقف يتبدل تماما. وإذا كانت الثقافة الإسلامية نتيجة لاتباعنا شرعا منزلا.. فإننا حينئذ لا نستطيع أبدا أن نقول: إنها كسائر الثقافات خاضعة لمرور الزمن، ومقيدة بقوانين الحياة العضوية.. ثم إن ما يظهر انحلالا في الإسلام ليس إلا موتا وخلوا يحلان في قلوبنا، التي بلغ من خمولها وكسلها أنها لا تستمع إلى الصوت الأدبي، ثم ليس ثمة علامة ظاهرة تدل على أن الإنسانية -مع نموها الحاضر- قد استطاعت أن تبتعد عن الإسلام.. إنها لم تستطع أن تبني فكرة الإخاء الإنساني على أساس عملي، إنها لم تستطع أن تشيد صرحا اجتماعيا يتضاءل التصادم والاحتكاك بين أهله فعلا على مثال ما تم في النظام الاجتماعي الإسلامي.. إنها لم تستطع أن ترفع قدر الإنسان ولا أن تزيد في شعوره بالأمن، ولا في رجائه الروحي وسعادته"1. "ففي جميع هذه الأمور نرى الجنس البشري في كل ما وصل إليه، مقصرا كثيرا عما تضمنه المنهج الإسلامي.. فأين ما يبرر القول إذن بأن الإسلام قد ذهبت أيامه؟ أذلك لأن أسسه دينية خالصة، والاتجاه الديني زي غير شائع اليوم؟ ولكن إذا رأينا نظاما بُني على الدين قد استطاع أن يقدم منهاجا عمليا للحياة أتم وأمتن وأصلح للمزاج النفساني في الإنسان، من كل شيء آخر يمكن العقل البشري أن يأتي به عن طريق الإصلاح والاقتراح أفلا يكون هذا نفسه حجة بالغة في ميدان الاستشراف الديني"؟ "لقد تأيد الإسلام -ولدينا جميع الأدلة على ذلك- بما وصل إليه الإنسان من أنواع الإنتاج الإنساني، لأن الإسلام كشف عنها وأشار إليها، على أنها مستحبة قبل أن يصل إليها الناس بزمن طويل".

_ 1 الإسلام على مفترق الطرق ص103.

"ولقد تأيد أيضا بما وقع في أثناء التطور الإنساني من قصور وأخطاء وعثرات، لأنه كان قد رفع الصوت عاليا واضحا بالتحذير منها، من قبل أن تحقق البشرية أن هذه أخطاء.. وإذا صرفنا النظر عن الاعتقاد الديني نجد -من وجهة نظر عقلية محضة- كل تشويق إلى أن نتبع الهدي الإسلامي بصورة عملية وبثقة تامة". نحن لا نحتاج إلى فرض إصلاح على الإسلام -كما يظن بعض المسلمين- لأن الإسلام كامل بنفسه من قبل. أما الذي نحتاج إليه فعلا، فهو إصلاح موقفنا من الدين بمعالجة كسلنا، وغرورنا، قصر نظرنا، وبكلمة واحدة: معالجة مساوئنا. "إن الإسلام غني عن كل تحسين، وإن كل تغيير في مثل هذه الحال يطرأ على مدركاته وعلى تنظيمه الاجتماعي بافتئات من ثقافة أجنبية -ولو بإشراق ضئيل- سيكون مدعاة إلى الأسف الشديد وسترجع الخسارة حتما علينا نحن"1. وعلى هذا فكل دعوى لتغيير القيم الثابتة، أو الأسس الإسلامية الثابتة، باسم التجديد أو الإصلاح أو التطور.. دعوى معادية للجنس الإنساني تقف حائلا دون الازدهار الحضاري، والوعي الديني، والتقدم الراقي في أسلوب الحياة والمعاش.. ذلك لأن الثقافة الإسلامية تدعو إلى الحركة وإلى البناء وتنهى عن الجمود وعن الكسل والتواكل والتخلف والتقصير، ولو نظرنا إلى الكون لوجدناه في حركة دائمة وفي تغير دائم. ولكنه يتحرك مع المحافظة على حقيقته الأصلية.. وعلينا نحن المسلمين أن نعمل وأن نجد وأن نجتهد وأن نرتقي في أسباب الكمال والتقدم. مع المحافظة على شخصيتنا الإسلامية وعلى أصالتنا التاريخية وعلى قيمنا النبيلة وعلى عقيدتنا الإلهية. وأية دعوة للانسلاخ عن مبادئنا دعوى هدامة عدائية.. فلنقدر مسئوليتنا تجاه أنفسنا وتجاه البشرية كلها.

_ 1 الإسلام على مفترق الطرق ترجمة عمر فروخ ص109-112، وانظر خصائص التصور الإسلامي ص 102-104.

الخاصية الثالثة: الشمول

الخاصية الثالثة: الشمول تمتاز الثقافة الإسلامية بميزة "الشمول" ذلك لأنها قدمت للبشرية تصورا اعتقاديا كاملا، ومنهجا للحياة الواقعية شاملا لكافة جوانبها..وهو منهج صالح للتطبيق في كل زمان وفي كل مكان. أما الشمول العقيدي فيتمثل ببيان حقيقة التوحيد الذي يعطينا تفسيرا مفهوما وواضحا لوجود هذا الكون ابتداء، ولكل حركة فيه، كما يعطينا تفسيرا واضحا ووافيا لكل ظاهرة من ظواهر الحياة ونشوئها وتكوينها، وتكوين الإنسان من عقل وجسم وروح.. هذا التصور مستمد من كتاب الله تبارك وتعالى، وهو يعرف الناس بربهم تعريفا دقيقا كاملا وشاملا.. يعرفهم بذاته سبحانه، وبصفاته العليا وأسمائه الحسنى، كما يعرفهم بأثر الألوهية في الكون وفي الإنسان وفي سائر الكائنات الحية. وهذا التعريف بالوجود الإلهي والوحدانية والتفرد بالخلق وكل الصفات الإلهية يدخل إلى النفس الإنسانية، ويؤثر فيها بحيث يشعر الإنسان بعظمة الله دائما، ويحس برقابته في كل عمل وفي كل قول.. {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} 1. هذا التصور الشامل "للوجود" يرد الإنسان إلى خالقه، فيتلقى منه العقيدة والقيم والمبادئ والأنظمة وسائر ما يواجه به الحياة.. والإنسان في ظل هذا التصور يستطيع أن يعيش لآخرته وهو في دنياه، وأن يعمل لله وهو يعمل لمعاشه، وأن يزاول أوجه نشاطه الإنساني، وهو مرتبط بالله تبارك وتعالى، ينال الأجر والمثوبة، ومن ثمرات هذه الميزة أنها تمنح القلب

_ 1 الآية 255 من سورة البقرة.

والعقل الراحة والطمأنينة وتصله اتصالا مباشرا بالله تبارك وتعالى خالق الإنسان والكون وواهب الحياة.. فلا يبقى الإنسان حائرا وحيدا، ضعيفا بدرب الحياة بل يجد الملجأ والملاذ.. يجد المعين والقوي والمعطي والمعز، والموجد والعظيم يجد الله دائما معه يعينه إلى الوصول إلى الحق الساطع الذي لا ريب فيه، ويلهمه السداد خائفا حذرا غير آمن من مكره. {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} 1. ومن ثمرات "الشمول" أنه يشعر العبد برقابة الله تبارك وتعالى له في كل تصرفاته فيولد في نفسه عنصر الأخلاق الذاتي.. فهو يخلص لله في عمله، ويخلص لله في عبادته ولا يتجاوز دائرة الحل ولا يتعداها إلى المحرمات وإلا فإنه يستحق العقاب الذي يخشاه ويفر منه. ومن الثمرات أيضا أنه يعصم الإنسان من الالتجاء إلى غير الله تبارك وتعالى..كما يعصمه من أن يستمد التشريعات والأنظمة من غير كتابه الذي هو كتاب هداية وشريعة ومنهاج كامل للحياة. {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ، مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} 2.

_ 1 سورة البقرة: 186. 2 آل عمران: 3، 4.

خاصية التوازن

خاصية التوازن: تتسم الثقافة الإسلامية بسمة "التوازن" ذلك لأنها تقوم على أسس عقدية متوازنة، وعلى مناهج متوازنة لا إفراط فيها ولا تفريط، ولا مغالاة ولا تقصير. ففي مجال العقيدة يقوم التصور الإسلامي على أساسين متوازيين أولهما الإيمان بالغيب. والثاني الإيمان بعالم الشهادة. أما الإيمان بالغيب فيتمثل بالإيمان بوجود الله وبألوهيته وربوبيته، والإيمان باليوم الآخر وما يتضمن من أهوال وحساب، وموقف وصراط، وجنة ونار.

وأما الإيمان بعالم الشهادة فيتمثل بالإيمان بحقيقة الإنسان والكون وسائر المخلوقات الحية. وهذا الإيمان بشقيه يتلاءم مع فطرة الإنسان، التي تريد أن تركن إلى قوة عظيمة مغيبة غير مرئية تستمد منها العون وتجد في صلتها بها الأمن والطمأنينة، قوة أعظم من أن يحيط بها الإدراك الحسي، ولكن آثارها من قدرة وإبداع وخلق تدل على وجودها وهيمنتها وصفاتها العظمى. ويقول الأستاذ سيد قطب: "إن العقيدة التي لا غيب فيها ولا مجهول ولا حقيقة أكبر من الإدراك البشري المحدود، ليست عقيدة، ولا تجد فيها النفس ما يلبي فطرتها وأشواقها الخفية إلى المجهول المستتر وراء الحجب المسدلة كما أن العقيدة التي لا شيء فيها إلا المعميات التي لا تدركها العقول ليست عقيدة، فالكينونة البشرية تحتوي على عنصر الوعي، والفكر الإنساني لا بد أن يتلقى شيئا مفهوما له، له فيه عمل، يملك أن يتدبره ويطبقه، والعقيدة الشاملة هي التي تلبي هذا الجانب وذاك وتتوازن بها الفطرة، وهي: تجد في العقيدة كِفاء ما هو مودع فيها من طاقات وأشواق1. والثقافة الإسلامية بهذه الصفة توازن بين عبودية الإنسان لله الواحد تبارك وتعالى، وبين مقام الإنسان الكريم في الكون. فهناك فصل تام بين حقيقة الألوهية والربوبية وما تقتضيه من صفات وأسماء وبين حقيقة العبودية. قال الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 2, وقال: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 3. والإنسان حينما يحقق مرتبة العبودية لله وحده يكون قد وصل إلى مقام كريم نبيل، لأن الله تبارك خاطب نبيه بالعبودية ووصفه بأنه عبد الله في مقامين من أجل المقامات: أولهما حينما أسري به إلى المسجد الأقصى وعرج به إلى السماء قال الله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ

_ 1 خصائص التصور الإسلامي ص 134. 2 الشورى: 11. 3 الحديد: 3.

الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1. والمقام الثاني: مقام الوحي إليه والتلقي من الله رب العالمين، وهذا من أوقع المقامات وأعزها إلى قلب الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأعظمها قدرا عند المؤمنين قال الله تعال: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى, مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} 2. والعبودية هي أرقى حالة يصل إليها الإنسان قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونَ} 3, ولهذه الميزة ثمرة مهمة، ذلك لأن الإنسان الذي يحقق العبودية لله وحده يترفع ويتحصن من أن يخضع لعبد مثله أو لمخلوق له خاصية العبودية، ولهذا فإن المؤمن لا تنحني جبهته إلا لله رب العباد، كما لا يستعلي على غيره ولا يستكبر ولا يبغي الفساد في الأرض، وبهذا تتجلى المساواة في مقام العبودية بأعظم وأدق وأروع معنى، إذ الناس كلهم متساوون في هذه الخاصة، وهم كلهم إخوة على صعيد واحد أمام الخالق العظيم.. وهم جميعا يتلقون العقيدة من الله، ويتلقون منهج حياتهم فوق الأرض من الله سبحانه.. وليس لفرد أن يشرع أو أن يجعل نفسه مصدرا لسلطة تعلو هامات العباد. قال الله تبارك وتعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ، لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} 4. {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ

_ 1 الإسراء: 1. 2 النجم: 10، 11. 3 الذاريات: 56. 4 المائدة: 73-75.

مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ، إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 1. وهنا تظهر عظمة الثقافة الإسلامية وسموها على غيرها من الثقافات، فقد كانت الأساطير اليونانية والعبرية تدمج في بعض الأحيان بين الحقيقة الإلهية وحقيقة العبودية، وقد دخل هذا التصور القبيح في أذهان الأوروبيين فظل يسيطر عليهم بعد أن دخلوا في الديانة المسيحية حتى إنهم حرفوا الديانة المسيحية على ضلالات الأساطير. "فالأسطورة الإغريقية كانت تتصور كبير الآلهة "زيوس" غاضبا على الإله "برومثيوس" لأنه سرق سر النار المقدسة "سر المعرفة" وأعطاه للإنسان من وراء ظهر كبير الآلهة لئلا يرتفع مقامه فيهبط كبير الآله ويهبط معه مقام "الآلهة"! ومن ثم أسلمه إلى أفظع انتقام وحشي رهيب. والأسطورة العبرانية التي تصور الإله خائفا من أن يأكل الإنسان من شجرة الحياة -بعد ما أكل من شجرة المعرفة- فيصبح كواحد من الآلهة! ومن ثم يطرد الإنسان من الجنة ويقيم دونه ودون شجر الحياة حراسا شدادا ولهيب سيف متقلب"2. {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا} 3. إن "التوازن" ميزة تنفرد بها الثقافة الإسلامية بين سائر الثقافات الأخرى، وهي وحدها التي تضع الإنسان في المكان المناسب له، مكان فيه راحة نفسية واستقرار وجداني وسعادة قلبية وهو أصلح مكان لهذا المخلوق. فإن الثقافة الإسلامية بهذه الخاصية تحصن المسلم من أن يتلقى من تعاليم

_ 1 المائدة: 116-118. 2 خصائص التصور الإسلامي للأستاذ سيد قطب ص157. 3 الكهف: 5.

الغرب أو أن يأخذ من غير حضارته، وإذا أخذ شيئا منها فبمنتهى الحذر والتأني، لأن الأفكار الأسطورية دخلت إلى أذهان الغربيين وأثرت بمناهجهم الفكرية، عن عمد منهم أو عن غفلة. يقول الأستاذ سيد قطب، رحمه الله تعالى: "إن التصورات الأوربية التي مكنت فيها تلك التصورات الأسطورية المختلفة، ودخلت في صميمها، بل دخلت في مناهج تفكيرها.. إن هذه التصورات الأوربية وما قام عليها من مناهج التفكير، وما نتج منها من مذاهب وأفكار، كلها تصطدم -اصطداما ظاهرا أو خفيا- مع التصور الإسلامي ومناهج الفكر الإسلامية، وإن أي استعارة من تلك التصورات أو مناهج التفكير أو نتاجها من المذاهب والأفكار، تحمل في صميمها عداء طبيعيا للتصور الإسلامي وللفكر الإسلامي، ولا تصلح بتاتا للاقتباس منها أو الاستعانة بها، بل هي كالسم الذي يتلف الأنسجة ويؤذي الأعضاء، ويقتل في النهاية إذا كثر المقدار"1.

_ 1 خصائص التصور الإسلامي للأستاذ سيد قطب. ص170.

خاصية الإيجابية

خاصية الإيجابية: تمتاز الثقافة الإسلامية بأنها "إيجابية" ذلك لأن الإنسان، في مدلول الثقافة الإسلامية يعبد الله السميع البصير الخالق الرازق الفعال لما يريد ... له الأسماء الحسنى والصفات العليا، وكل أسمائه وصفاته سبحانه وتعالى كاملة الإيجابية والفاعلية. قال جل من قائل: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 1, وقال سبحانه: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً} 2. وقال: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ

_ 1 الأعراف: 54. 2 فاطر: 44.

تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ, تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} 1. والثقافة الإسلامية "إيجابية" لأنها تلزم الإنسان بالعمل حسب طاقاته وإمكاناته ومواهبه، وتحذر بشدة من التواكل والتخاذل والتباطؤ والتكاسل ... ولهذا فهي لا ترضى للمسلم أن يكون كسولا يعيش على هامش الحياة دون أن يؤثر في الكون تأثيرا فاعلا إيجابيا، بل يجب أن يؤثر في المحيط حوله، وأن يؤثر في الناس، وأن يؤثر في دنياه ودنيا غيره ... وأن يكون إيجابيا في عقيدته متفاعلا معها، مدركا لمعانيها يحيا بكل عنصر من عناصرها، ينبض قلبه بحبها، ويسارع ليتمثل كل ركن من أركانها، فيجسده واقعا يرقى به نحو الأكمل والأفضل دائما، ويعايشه إحساسا ومشاعر وحيوية وجمالا وبهاء ... كما يكون إيجابيا في دعوته إلى الله على بصيرة وهدى. إيجابيا في مسارعته لأداء العبادات والفرائض. ولهذا فليس المسلم في عرف الثقافة الإسلامية ذلك الإنسان السلبي الذي يعيش بعيدا عن أحداث الحياة وقضاياها، لا يهمه في دنيا المسلمين أمر ولا يهزه خطب ولا يثيره حدث ولا تحرك وجدانه قضية. ويقنع بركيعات يركعها نافلة في ليل أو نهار، أو أذكار يؤديها منعزلا عن حياة الجماعة الإسلامية ... وإنما هو ذلك الإنسان المسلم الإيجابي في عقيدته، الإيجابي في دعوته، المهتم بأمر المسلمين وشئونهم، الذي يسعى جاهدا لتغيير كل واقع لا يخضع لحكم الله ولا يدين بدين الحق، وهو الذي يتمكن من أن يغير نفوس الآخرين الذين رضوا بالحياة الدنيا عن الآخرة، فانحصرت اهتماماتهم في أهواء عابرة، ونسوا أنفسهم وضيعوا فرائض الله وتهاونوا في أداء العبادات وتقاعسوا عن أداء الحقوق إلى أصحابها، وأهل الحق عليهم. إن المسلم لا يهدأ له بال ولا يرتاح له ضمير، ولا تقر له عين ولا تطمئن له نفس حتى يرى راية الإسلام عالية خفاقة, وحتى يحس إحساسا حقيقيا أن القرآن الكريم يحكم ضمير الفرد، ويحكم تصرفات المسلمين ويحكم واقع المجتمع المسلم.

_ 1 آل عمران: 26-27.

هذا هو المسلم في عرف الثقافة الإسلامية، وهذا ما تثيره الثقافة الإسلامية في نفسية المسلم من أحاسيس ومشاعر، إنه ليس إنسانا سلبيا يحسن إن وجد الناس قد أحسنوا، ويسيء إن وجد الناس قد أساءوا، كلا إنما هو إنسان يعمل في محيط هدفه ومبدئه وقيمه، وقد حدد الرسول -صلى الله عليه وسلم- معالم شخصية الفرد المسلم بقوله: "لا تكونوا إمعة تقولوا إن أحسن الناس أحسنا وإن أساءوا أسأنا، بل وطنوا أنفسكم، إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا فلا تسيئوا". قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} 1. وقال جل من قائل: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} 2. وقال سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} 3. فهذه الآيات الكريمة وغيرها كثير تبين سمة الإيجابية التي يجب أن يتصف بها المسلم، لأنها ميزة مهمة من مزايا ثقافته الإسلامية، وما اتصفت به الثقافة يجب أن يبرز إلى الوجود ويتمثل في واقع الحياة سلوكا بناء وقولا مؤثرا وعاطفة بليغة وخلقا فعالا، وقوة حقيقية وطاقة معمرة تصون الحقوق، وتعطي المحروم، وتأخذ على يد الظالم، وتمنع الطغيان. والثقافة الإسلامية بخاصتها الإيجابية تشعر الفرد بأنه مكلف وأن عليه أن يبذل قصارى جهده. وهو مع ذلك مزود بالاستعدادات والمواهب والإمكانات، وأن الله سبحانه وتعالى سيعينه على عمله واجتهاده، يسدد خطاه، ويؤيده بنصره، وقد أبان له طريق الخير ووجهه نحوه، وأوضح له طريق الشر وأمره

_ 1 الحجرات: 15. 2 النور: 55. 3 آل عمران: 110.

باجتنابه، وإن قدر الله ينفذ عن طريق حركة الإنسان، وتفاعله مع الواقع ومع الحياة والأحداث. قال الله جل ثناؤه: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} 1 , وقال سبحانه: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} 2. ومن ثمرات إيجابية الثقافة الإسلامية أنها تشعر الفرد المسلم بضخامة مسئوليته وبأهميته في الحياة الدنيا وفي أحداثها ووقائعها، وأنه لم يخلق عبثا, وليس شيئا تافها وإنما هو قدر من أقدار الله، بتحركه تتحقق إرادة الله ومشيئته، وإن وجوده فوق الأرض يستوجب عملا إيجابيا بناء مستمرا دائما في ذات نفسه، وفي الآخرين من حوله، وهو خليفة الله في أرضه، والخلافة تقتضي شكر المنعم المتفضل دائما بأداء الواجبات الروحية والمالية، وأن يحرص على تطبيق منهج الله وشريعته في الحياة الإنسانية، وأن يجاهد بنفسه وماله، بيده ولسانه، بقلمه وفؤاده لدفع الفساد عن الأرض. ومن ثمرات إيجابية الثقافة الإسلامية أيضا أنها تعلي من شأن الفرد المسلم وترفع من قيمته في نظر نفسه وفي نظر الآخرين، المحبين، والمغرضين، وترفع من اهتماماته وغاياته وأهدافه، فيأبى أن يزاحم الناس من أجل مطالب قريبة، أو يقاتلهم حرصا على منافع شخصية، إذ المسلم أبعد هدفا من هذا كله.. إنه يحمل عبئا ثقيلا وأمانة عظيمة ورسالة قدسية تحلو في سبيلها التضحيات، ويعذب من أجل العذاب والجهاد. وهو يعمل بصمت وجدية وإخلاص من أجل أن يلقى الله تعالى وقد أدى الأمانة وسلك سبيل المصطفى عليه الصلاة والسلام، ونهج في الدعوة نهجه ودعى إلى هديه.

_ 1 سورة الرعد: 11. 2 سورة التوبة: 14، 15.

خاصية الواقعية المثالية

خاصية الواقعية المثالية: تمتاز الثقافة الإسلامية بميزة فريدة عظيمة تميزها عن سائر الثقافات، هذه

الميزة هي "الواقعية المثالية" ذلك لأن الثقافة الإسلامية تقوم أساسا على تصور اعتقادي يمتاز بالوضوح والصحة، والصدق والواقعية، ويفسر الحقائق الوجودية والآثار الإيجابية تفسيرا صادقا واقعيا، لا غموض فيه، ولا لبس، ولا مغالاة فيه ولا مجافاة للواقع. فالعقيدة الإسلامية تبين حقيقة التوحيد الإلهي، وأنه سبحانه هو الخالق المتصرف بالكائنات ... وما نرى من سماء وأفلاك، وبحار وأنهار، وإنسان ونبات، وحيوان وطير، أدلة على وجود الله وتفرده بالخلق والقدرة والإبداع.. سبحانه له الأسماء الحسنى والصفات العليا.. قال الله جل شأنه: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ، وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ، يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ، وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ، وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ، وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ، وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ، وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ، وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ، وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 1. فالثقافة الإسلامية "واقعية"، لأنها تقوم على التصور العقيدي للحقيقة الإلهية، وعلى بيان آثار قدرة الله في المخلوقات المشاهدة المرئية2. وهي "واقعية" أيضا، لأنها تعرف الإنسان على حقيقة الكون، وتدعوه للتعامل معه على النحو الذي بينته العقيدة الإسلامية.. فالكون ما هو إلا هذا

_ 1 سورة الروم: 17-27. 2 خصائص التصور الإسلامي للأستاذ سيد قطب ص190.

الوجود الخارجي الذي ندركه، والذي يتكون من السماوات والأرض والنجوم والكواكب والليل والنهار، والنور والظلام، والمطر والأحوال التي يتعرض لها هذا الكون. فالكون -في المحيط الثقافي الإسلامي- كل الخلائق التي أبدعها الله، وهي خاضعة له مسخرة بأمره عابدة له.. قال سبحانه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} 1. وقال: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ، هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ} 2. والثقافة الإسلامية "واقعية"، لأنها تفسر حقيقة الإنسان، فهو إنسان مخلوق له وجوده الواقعي وهو جزء من الكيان البشري الذي له حقيقة واقعية موجودة. والإنسان ذلك المخلوق الكريم يتكون من كيان خاص له جسمه وعقله وروحه ونفسه وقلبه، وله أشواقه وميوله وأهدافه، وله غرائزه ومتطلباته، وهو في عيشته يشبع غرائزه وينمي ميوله ويسعى لتحقيق أهدافه. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} 3.

_ 1 الأنعام: 1. 2 يونس: 3، 5، 6. 3 سورة النساء: 1.

والإنسان السوي في اعتبار الثقافة الإسلامية هو ذلك الإنسان العاقل المفكر المتزن الذي يلبي أشواقه الروحية، وتطلعاته العاطفية، ويشبع غريزته الفطرية في حدود ما شرع الله وما أباح، وهو الذي يؤثر في غيره، ويبذل الخير للناس ويحملهم على قول الحق والجهر به، وعلى عمل المعروف ويحببهم فيه، ويبعدهم عن الشر ومواطنه.. وقد خالف الفطرة الإلهية والسنة المحمدية كل من قبع في صومعة منقطعا عن الحياة وما فيها من شئون وأحداث بدعوى التفرغ للعبادة يظن أنه كيان روحي فقط، وقد خالف الفطرة الإلهية والنهج المحمدي كل من يظن أنه جسم ولحم ودم وعصب وغريزة فقط، وعليه أن يطلق العنان لغرائزه تجوب في كل المواطن وتنال من كل مأثم، اعتقادا منه أن الحياة الدنيا فرصته الوحيدة، فيلغتنمها لإشباع غرائزه وتحقيق أهوائه، غير مبالٍ بما يقترف من معاصٍ وآثام، وما يصدر منه من جنح وجرائم.. هذا الإنسان الغبي، وذلك الإنسان المغالي كلاهما خارجان عن الفطرة السليمة والشرع القويم، لأنهما فقدا الاتزان والتعقل والحكمة في التصرف وفي السلوك وفي الاعتقاد.. وخير دليل على ما أقول قصة أولئك النفر الثلاثة الذين أتوا بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال أحدهم: إني سأقوم الليل ولا أنام، وقال الآخر: أمَّا أنا فسأصوم ولا أفطر. وقال الثالث: أما أنا فلن أتزوج النساء.. فلما سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمقالتهم، بيَّن لهم فساد رأيهم وانحراف تصورهم وردهم إلى الحقيقة والواقعية قائلا: "أما إني والله لأخشاكم وأتقاكم له ولكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني". والثقافة الإسلامية "واقعية" لأنها تقدم منهجا واقعيا شاملا للحياة البشرية فوق الأرض. إذ إن الأحكام المنهجية والمعالجات الواقعية التي استنبطت من كتاب الله وسنة رسوله تتعامل مع الإنسان ذي الوجود الواقعي، وتتعامل مع الحياة الإنسانية على حقيقتها وواقعيتها. هذا المنهج الواقعي قد أخذ باعتباره فطرة الإنسان وميوله، ورغائبه ونزعاته واستعداداته وفضائله، وقوته وضعفه. وهو لا يقلل من قيمة الإنسان ولا يهدر من كرامته، ولا يستهين بدوره في الحياة، أو في عبادته لله تبارك وتعالى، أو في

خضوعه له. وكذلك لا يرفع من قيمته ومن مكانته ويجعله في مرتبة أعلى أو أقدس من الإنسان، بل هو مخلوق لله، وقد خلق ليقر بوحدانية الله، وليخلص له العبادة1. ونلاحظ أن هذا المنهج الواقعي قادر على أن يأخذ بالإنسان إلى أرفع مستوى وأعلى قمة يمكن أن يبلغها الإنسان، إنها مرتبة العبودية لله تعالى وإنها لمرتبة طاهرة رفيعة قد أرادها الله لبني البشر. قال تعالى: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا، أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا، انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا، تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا} 2. {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا، أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا، أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا، أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَأُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} 3. في هذه الخصائص التي سبق عرضها ومناقشتها تظهر قيمة الثقافة الإسلامية، وتبرز مكانتها الرفيعة السامية من بين سائر الثقافات الأخرى.. تلك الثقافات التي تقلل من منزلة الفرد وتحط من قدره. ولا ترفعه إلى المرتبة اللائقة به، لأنها تعتبر الإنسان المكون من الجسم والروح غلطة منكرة.. وأن الإنسان المثالي -في نظرها الخاطئ- هو الذي تخلى عن رغباته وأهوائه. كما تظهر جدية الثقافة الإسلامية وقوتها، وقدرتها على توجيه الإنسان والمجتمع الوجهة الخيرة الجادة الدائبة العاملة. إذ إنها تنمي الاستعدادات الفطرية والمواهب الإنسانية وتدعو إلى التعاون على التقوى، وإلى التعاون لإنتاج كل ما من شأنه أن يسعد البشرية ويخدم الإنسانية..

_ 1 خصائص التصور الإسلامي. ص194. 2 الفرقان: 7-10. 3 الإسراء: 90-93.

المبحث الثالث: أهمية دراسة الثقافة الإسلامية

المبحث الثالث: أهمية دراسة الثقافة الإسلامية مدخل ... المبحث الثاني: أهمية دراسة الثقافة الإسلامية إن دراسة أي علم من العلوم يؤثر في ترقية مشاعر الفرد ونمو مداركه وتفتح أحاسيسه، وتنبه مواهبه وانطلاق طاقاته، وصقل ميوله وازدياد حركته ونشاطه، كما يؤثر أيضا في إحداث تفاعل ذاتي في داخل نفس الفرد، وقد يتخذه قاعدة يبني عليها معارف جديدة، أو ينطلق منه إلى آفاق بعيدة. وقد يؤدي به إلى اكتشاق حقائق علمية مجهولة. وبهذا تتسع دائرة المعارف الإنسانية وتزداد العلوم دقة وعمقا وعطاء وإنتاجا.. وبقدر ما تكون الدراسة دقيقة وعميقة وبقدر ما يكون البحث وافيا شاملا بقدر ما تعم الفائدة من العلم والبحث.. فكيف إذا كانت الدراسة تتعلق بكيان الفرد وبشخصيته الإسلامية، وبماضيه المجيد، وبتراثه العظيم وبالأسباب والعوامل التي تربط بين تاريخه وواقعه ومستقبله، وبالظروف التي أحاطت بتلك الشخصية عبر قرون عديدة من الزمن.. إن المسلم الذي يدرس ثقافته دراسة واعية ناضجة يشعر بأنه ليس كيانا مستقلا ولا فردا قائما بذاته يعيش حقبة من الزمن ثم يعتريه الموت والبلى، كلا، وإنما هو لبنة مهمة مؤثرة فاعلة في بنيان ضخم امتد قرونا طويلة وسيمتد إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.. وهو بهذا الشعور، وبهذا الإحساس يستطيع أن يضيف إلى ما عمله السابقون ويستطيع أن يمثل الشخصية الإسلامية في عالم الضمير وفي واقع حياته الخاصة وفي واقع مجتمعه، ويستطيع أيضا أن يوصل الأمانة إلى من بعده، ويمدهم بمعارف جمة وحقائق علمية ثابتة، ويمهد لهم سبيل الاستمرار في تشييد النهضة العظيمة. إن المسلم ليس فردا مستقلا يعيش من أجل هواه النفسي ومأربه الشخصي

وأمنيته القريبة، وإنما يعيش من أجل تحقيق هدف أمثل وأكمل وأعظم، إنه يعيش لتحقيق "عبادة الله في الأرض"، يعيش ليبين للآخرين سبيل السعادة الحقة والراحة الكبرى في الدنيا والآخرة.. لذا فهو يمنح الناس جميعًا كل ما يستطيع من عطاء وكل ما يملك من قوة وخير. وتتجلى أهمية دراسة الثقافة الإسلامية في النقاط التالية: 1- بيان الازدهار الحضاري للأمة الإسلامية. 2- تأثير الثقافة الإسلامية بالغرب. 3- بيان الأدواء التي حلت بالأمة الإسلامية. 4- تفاعل المسلم مع مبادئه وقيمه. 5- الأساسيات التي تقوم عليها الثقافة الإسلامية. 6- دور الثقافة الإسلامية في العصر الحديث.

الازدهار الحضاري للأمة الإسلامية

الازدهار الحضاري للأمة الإسلامية: لقد عاشت الأمة الإسلامية قرونًا طويلة عزيزة الجانب، مهيبة في سلطانها وسياستها، تتقدم الركب الحضاري الإنساني، وتحمل بيدها مشعل الهداية والنهضة العلمية والخلقية والإدارية.. بكل مقوماتها، فالعلوم الدينية والدنيوية قطعت شوطا بعيد المدى من الرقي والرفعة، والحالة الاقتصادية في أوج تطورها وازدهارها، تدر الأرباح الطائلة، وقد يسير الإنسان من المشرق إلى المغرب ومن الشمال إلى الجنوب، لا يجد في أقطار البلاد الإسلامية فقيرا محتاجا أو مظلوما مهيض الجناح. في هذه الفترة الزمنية حملت الأمة الإسلامية الحضارة إلى العالم كله، وإلى الدنيا بأسرها، حملتها بالعلم والخلق، ولم تحملها بالسيف والقوة، ولم يكن ثمة إكراه على العقيدة الخالدة، لأن المبدأ الذي نتمسك به هو قوله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} 1, ولكن الجمال والجلال والقيم والمثل العليا لا بد أن تؤثر

_ 1 سورة البقرة: 256.

في النفس الإنسانية وبخاصة إذا كانت تعيش في ضيق وشظف، وبخاصة إذا ما قارنت هذا الرقي وهذه القيم أوضاع مناقضة لها من حيث الجوهر والأسلوب من جور وظلم واستعباد الإنسان أخاه الإنسان، ومن تسلط القوي على الضعيف، ومن استغلال الغني للفقير. وهكذا دخل الناس في دين الله أفواجا حينما رأوا صفاء العقيدة وسموها وحسن تطبيقها، وحماس المؤمنين بها وثقتهم بعدلها وعطائها، أدركوا تماما أن هذا الدين هو الذي ينشئ الفرد والجماعة، إنشاء جديدا، وأدركوا أنه هو الدين الذي يخرجهم من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.

تأثر الغرب بالثقافة الإسلامية

تأثر الغرب بالثقافة الإسلامية: استمدت بذور النهضة الأوربية غذاءها من علماء المسلمين الذين تعلم الغربيون على أيديهم في جزر البحر الأبيض وفي الأندلس1 ... وسعى الغرب لإصلاح الأوضاع الدينية للكنيسة تأثرا بعقيدة التوحيد الإسلامي، وثاروا على الكنيسة التي كانت تقف موقف المعادي المحارب لكل اكتشاف علمي، بعد ما رأو سماحة الإسلام ودعوته الملحة لطلب العلم ونشره في كافة الأوساط، واعتبار العلم دعامة مهمة وقوية لبناء عقيدة الفرد ... ووقف الغربيون في وجه الإمبراطوريات، حينما بهرتهم عدالة الإسلام، ونادوا بحقوق الإنسان تأثرا بمبدأ الإسلام الذي يدعو للمساواة بين الإنسان وأخيه الإنسان، وأنه لا يفضل عربي على عجمي ولا أبيض على أسود إلا بالتقوى، وبما يقدم من عمل خير كريم لإصلاح المجتمع.. وهكذا فإن النهضة الأوربية بكل ما دعت إليه وما نادت به ما هي إلا أصداء لتأثرها بالإسلام عقيدة وشريعة ومنهاج حياة.. إنها تأثرت به تأثرا كبيرا وعميقا ولكنها أرادت أن تكوِّن لنفسها شخصية مستقلة عن الدين الإسلامي، فلمت شتات أمرها وأسكتت أفواه العارفين للحق، ودعت إلى النهضة الأوربية، فقام للباطل دولة وصولة: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} 2.

_ 1 أساليب الغزو الفكري ص5. 2 يونس: 99.

الأدواء التي حلت بالمسلمين

الأدواء التي حلت بالمسلمين: حينما بدأ الغرب في نهضته، بدأ الشرق الإسلامي في كبوته، وكان لذلك أسباب بعضها يرجع إلى المسلمين أنفسهم، وبعضها يرجع إلى أسباب خارجة عن إرادتهم. أما الأسباب التي ترجع إلى المسلمين أنفسهم: فتتجلى بأن الله تعالى لم يكن مبدلا نعمه التي أنعمها على عباده حتى يبدلوا ما بأنفسهم من خير إلى شر ومن هدى إلى ضلال ومن قوة عسكرية وإدارية إلى ضعف ينتاب الجهاز العسكري والإداري، ومن قوة خلقية وتمسك بالقيم والمبادئ إلى فساد خلقي واستمتاع بالمغنيات وبالشعر الرخيص، ومن إقامة شعائر الله وتطبيق حدوده إلى التهاون في إقامة الشعائر وإلى الاستهانة بإقامة الحدود، ومن القيام بالجهاد إلى التقاعس عن هذه الفريضة والركون إلى ملذات الحياة الدنيا والاستمتاع بمباهجها.. وهكذا حصل التغيير النفسي والتبديل الذي أتى من المسلمين أنفسهم. فطبق الله سنته فيهم: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} 1, {فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} 2, {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} 3, ونسي المسلمون أن الله جعلهم خير أمة لما اتصفوا به من إقامة حدود الله، ولما عاهدوا الله عليه من أمر بالمعروف ونهي عن المنكر. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} 4, {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} 5, {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} 6, {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} 7.

_ 1 الأنفال: 53. 2 النحل: 112. 3 الرعد: 11. 4 فاطر: 3. 5 النحل: 81. 6 آل عمران: 104. 7 آل عمران: 110.

ويمكن أن ألخص أهم عوامل ضعف المسلمين التي ترجع إلى أنفسهم في النقاط التالية: 1- بعد المسلمين عن كتاب الله وسنة رسوله، وركونهم إلى الملذات العاجلة المحرمة شرعا، وانتشار العادات الفاسدة، كالكهانة والسحر، وكعادة الاختلاط بين الرجال والنساء في العمل، وفي السهرات الأسرية. 2- تعطيل حدود الله الواجب تطبيقها على من تجرأ على حرمات الله. 3- التهاون في إقامة شعائر الله، كالتهاون في أداء الصلوات على وقتها أو في جماعة. 4- محاولة استيراد أنظمة غريبة عن مبادئنا الإسلامية وتطبيقها في المجتمع الإسلامي بدلا من تطبيق شريعة الله، ظنًّا منهم أن هذه الأنظمة المستوردة أكثر ملاءمة للعصر الحديث. 5- الشعور الانهزامي الذي وسوس لبعض المسلمين بأن ما عند الناس أفضل مما نملك من قيم ومثل وخلق وعلم. 6- تقليد كثير من المسلمين للغرب والشرق غير الإسلامي بالأقوال والأعمال التي شاعت واشتدت وطأتها على المسلمين فأصبحت شريعة يحتكم إليها، كحفلات الزواج والمآتم مثلا. 7- الفرقة التي لعبت دورا كبيرا في تمزيق أوصال الوطن الإسلامي وانفصام عرى الأمة الإسلامية، وكان للمبادئ الجوفاء المستوردة أثر كبير في هذه الفرقة، ومن أهم تلك المبادئ غير الإسلامية: المناداة بالقومية، والدعوة للوطنية، والدعوة للعلمانية، وغير ذلك مما نَهَش في جسم الأمة فقطعها إربا إربا ... 8- التخلف عن مضمار العلم التجريبي1 الذي بلغ مرتبة لا يستهان بها في العالم

_ 1 ومن الأمور الثابتة تاريخيا أن العرب هم البناة الأولون للعلم التجريبي، فبرز في علم الطب ابن سينا وابن رشد وفي علم الحساب والنجوم، مسلم بن أحمد، وأول من نبغ في الكيمياء جابر بن حيان، وأول من نبغ في الجبر وقدم حلولا هندسية لمعادلات من الدرجة الثانية، محمد بن موسى الخوارزمي، وأول من استنبط صناعة الزجاج من الحجارة، واخترع محاولة الطيران عباس بن فرناس، وأول من عارض نظرية إقليدس وبطلموس بشأن الأبعاد وكان على وشك أن يكتشف العدسة المكبرة ابن الهيثم، وكان الذي أنشأ حساب المثلثات الحديث البيروني وأمثال هؤلاء كثير من أعلام الفكر الإسلامي الذين كانت لهم مكانة رفيعة في العلم التجريبي في وقت كان الغرب فيه يتخبط في ظلام الجهل ويعتمد أساسا على تتبع آثارهم وترجمة مؤلفاتهم. وقد اعترف بذلك "روجر بيكون" الذي تعلم هذا المنهج في الجامعات الإسلامية في الأندلس وجاء سميه "فرنسيس بيكون" بعد ذلك ليؤكد هذا الاعتراف ويشرح هذا المنهج الذي كان أبرز دعائم النهضة الأوربية الحديثة في المجال العلمي. والقضية مستفيضة لدى الباحثين من شرقيين وغربيين. فليعلم من ذلك أن تخلف المسلمين اليوم إنما هو تخلفهم عن بعض خصائصهم الذاتية في الكشف العلمي.

غير الإسلامي، ورضي المسلمون بالاعتماد على غيرهم في هذه العلوم دون أن ينشئوا لأنفسهم مؤسسات علمية جماعية محاولة للإبداع في العلوم التجريبية والكونية. وإذا وجد من المسلمين من يصل إلى معرفة شيء من أسرار العلوم فإن العلماء غير الإسلاميين قادرون على طمس اللمسات الإسلامية، وجعل ما وصل إليه المسلم داخلا ضمن إطار معارفهم يخدم شخصيتهم، ويحقق أغراضهم. 9- انحراف البعثات العلمية عن أغراضها الحقيقية التي بعثت من أجلها، وعدم الاستفادة من الحقائق العلمية سواء كان في مجال التسلح وصناعة الأسلحة والتدريب عليها أو في مجال التقنية العلمية، والاكتفاء بالانجراف في تيار الفساد الخلقي والاجتماعي، وهذا يعود بالوبال والخسران على المجتمع الإسلامي بعامة. هذه هي أهم العوامل الداخلية التي أدت إلى إضعاف الروح الإسلامية في نفوس أبنائها. أما العوامل الخارجية فسيأتي الحديث عنها إن شاء الله تعالى مفصلا في موضوع التيارات المعادية للإسلام. ولكن المسلمين بما أوتوا من عقيدة التوحيد الصافية السائغة، وبما تعهد الله سبحانه من حفظ كتابه العظيم الذي هو النبع الخالد للإسلام عقيدة ومنهج حياة، فإنهم سيتغلبون على كل قوة مادية مهما عظمت وسيحطون كل الوسائل التي توجه لطعنهم.. وسينتصرون على جميع دعاة البغي والعدوان مهما تآزرت ضدهم، بشرط أن يتحصن المسلمون بثقافتهم الإسلامية وأن يعتزوا بقيمهم ومبادئهم وأن ينقلوا تعاليم دينهم إلى الواقع العملي فيطبقوها على أنفسهم وعلى مجتمعهم.

تفاعل المسلم مع ثقافته

تفاعل المسلم مع ثقافته: ومن هنا تبرز أهمية دراسة الثقافة الإسلامية، تلك الدراسة التي تجعل من المسلم قوة منفعلة مع مبادئه وقيمه، قوة تثبت كيان الأمة الإسلامية على وجه البسيطة، قوة تقلع الباطل من جذوره. قوة ترفع راية التوحيد، وتعلن للملأ جميعا أننا بالإسلام نحيا ومن أجله نموت، أننا أمة لنا خصائصنا المتميزة، ولنا وجودنا الحضاري ولنا تاريخنا العريق، الذي يحمل أروع صفحات المجد والعزة.. وإننا فوق هذا كله أمة لها من الأيادي البيضاء على البشرية جمعاء ما لا ينكره إلا مكابر جاحد. وأن المبادئ الإسلامية والأصول العقيدية التي صنعت لنا المجد الزاهر والحضارة العريقة الأولى ما زالت موجودة بيننا وقادرة بإذن الله على أن تضعنا في المكان نفسه الذي كنا فيه أيام الراشدين، وأيام الأمويين في المشرق والأندلس، وأيام العباسيين والأيوبيين والعثمانيين فاتحي القسطنطينية. وعلى هذا فالثقافة الإسلامية إنما هي فكرنا، وهي درعنا الواقي في مجابهة الصراع الفكري العالمي، وهي الحصن المنيع الذي يرد عنا كل التحديات الحضارية التي تهدد كياننا الحضاري وشخصيتنا الثقافية، ومن واجب كل مسلم أن يدرك بوضوح وعمق معنى الثقافة الإسلامية، وأن يتجاوب مع المبادئ الإسلامية، وأن يطبق المنهج الإسلامي على نفسه وعلى أسرته وعلى مجتمعه ... وإننا حينما نقف متمسكين بثقافتنا الإسلامية، متفاعلين مع مبادئها الحضارية، ملتزمين حدود الله، عارفين بكل ما يدور حولنا من مؤامرات ومخططات شرقية شيوعية ملحدة، أو غربية علمانية، وحينما نكون أقوياء في عقيدتنا، متراصين في صفوفنا، فإننا نستطيع أن نحمي أنفسنا من خطر أعدائنا، وحينذاك تتهاوى كل معاول العدو وأسلحته وقد باءت بالإخفاق الذريع.

الأساسيات التي تقوم عليها الثقافة الإسلامية

الأساسيات التي تقوم عليها الثقافة الإسلامية: 1- تستطيع الثقافة الإسلامية أن تقدم تصورا إسلاميا شاملا للحياة، بما فيها من إنسان وكون. 2- إن الثقافة الإسلامية تصل حاضرنا ومستقبلنا بماضينا الزاهر المجيد ماديا وروحيا.

3- إن الثقافة الإسلامية كفيلة بإحياء الانتماء إلى الإسلام مبدأ وشريعة وإلى الأمة الإسلامية سلوكا وخلقا. ومن هذه الأساسيات وغيرها تستمد الثقافة الإسلامية مكانتها وأهميتها في حياة الفرد المسلم والجماعة المسلمة.

دور الثقافة الإسلامية في العصر الحديث

دور الثقافة الإسلامية في العصر الحديث: إن أصول الثقافة الإسلامية حقائق كلية كبرى صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان وهي غير قابلة للتغيير، وأي دعوة تدعو إلى تغيير ولو حرف واحد منها هي دعوة باطلة مضلة، يجب القضاء عليها في مهدها، ذلك لأن هذه الأصول إنما هي كتاب الله وسنة رسوله، وما فيها من قواعد وأحكام واضحة صريحة وفي تنفيذها على النحو الذي أراده الله تحقيق لمصلحة العباد. ويتفرع عن هذه الأسس والأصول مسائل معاشية وتطبيقات سلوكية في مجالات الاجتماع والاقتصاد والسياسة، وهذه المسائل يمكن أن تتخذ أشكالا مختلفة في التطبيق، وأذكر مثالا توضيحيا على ذلك "الشورى" في الإسلام وهي من المبادئ الثابتة شرعا والمقررة في نصوص القرآن الكريم، وفي تطبيق هذا المبدأ التزام لأمر الله، ولكن أسلوب التطبيق وكيفية التنفيذ يمكن أن يختلف باختلاف الأزمان والبيئات والأعراف ذلك لأننا لا نجد نصا ملزما يبيِّن أسلوبا معينا في تنفيذ قاعدة الشورى، والذي يحدد هذا الأسلوب حسب مقتضيات العصر هو الفكر الإسلامي، أو الثقافة الإسلامية. وعلى هذا فالثقافة الإسلامية يمكن أن تقوم بدور تطوير الأساليب والوسائل لتطبيق الأحكام الشرعية، والقواعد الثابتة التي لا تختلف باختلاف العصر والمجتمع.. وأذكر مثالا آخر يبيِّن دور الثقافة في تطوير المناهج والطرق "الربا" فإنه محرم شرعا ولعن الله المتعاملين به وكاتبه وشاهديه، وعلى هذا فكل مؤسسة وكل بنك يقوم على أساس التعامل بالربا يعتبر محرما، ولا يجوز لدولة إسلامية أن تسمح لإقامة البنوك الربوية في أرضها وديارها، ولكن هناك نظام آخر مصرفي يقوم على غير الربا كالمؤسسات المصرفية الإسلامية والتي تسمى "البنوك اللا ربوية"، ويأتي دور الثقافة الإسلامية هنا في غاية الأهمية، فهي التي تبيِّن الأسس العامة، لإنشاء مثل هذه المصارف الإسلامية، وهي التي تحدد الخدمات

المصرفية التي يمكن أن تقدمها هذه البنوك دون اللجوء إلى عملية الربا في أية جهة من اتجاهاتها1. وهناك مثال آخر حيوي وعصري هو "عقد التأمين التجاري" وهو من العقود التي نظمتها التشريعات الوضعية، وبعد التكييف الفقهي لهذا العقد استبان أنه يهدف إلى الحصول على المال في حالة تحقق الخطر، وأن شركات التأمين تبتغي اكتساب أكبر قدر من الأرباح من جراء هذا العقد، وهو فوق هذا كله بيع نقد غير محدد بنقد بالذمة. فهو يتضمن من هذه الناحية الغرر والربا، ولهذا فإن "التأمين التجاري" غير معتبر شرعا، ولكن هناك أنواعا من التأمين تقوم على فكرة التعاون والتكافل الاجتماعي، ولا يهدف المؤمن من وراء هذا التعامل الربح، كتأمين الحكومة المعاش للموظف. وعلى العلماء من الفقهاء والمتخصصين بالاقتصاد الإسلامي وغيرهم من رجال الفكر في الإسلام أن يقوموا بوزن العقود الجديدة وسائر ضروب التعامل الطارئة المستخدمة بالمعيار الإسلامي ويبينوا للناس ما يحل وما يحرم من ذلك وما يتفق مع الأحكام وما يجافيها. وبذلك يصبح المسلمون على بينة من أمرهم، فإن العلم دين، والقضايا المستحدثة إن كانت مخالفة للشريعة فلا يجوز التعامل بها. وبهذا الدور الذي تقوم به الثقافة الإسلامية في الوقت المعاصر، فإنها تخدم الأهداف العامة للشريعة الإسلامية في كافة ميادين الحياة. فالثقافة الإسلامية التي تقوم بواجب بناء الإنسان المسلم، تقوم في الوقت نفسه بواجب الدفاع عن حصنه ضد التيارات المعادية، وبما أن هذه التيارات قد تتطور وتلبس أثوابا جديدة، وتتخذ شعارات لها رنينها، وتظهر بأسماء براقة، وتوجد أساليب حديثة، فإن الثقافة الإسلامية يجب أن تقدم الوسيلة الدفاعية المتطورة. وأن تستعد لكل خصم يريد أن يزيف الحقائق الإسلامية، أو يشوه

_ 1 عقد التأمين في الفقه الإسلامي والقانون المقارن، تأليف د. عباس حسني ص5.

تكامل ونقاء التصور الإسلامي المنسجم1. حينما حاول الشيوعيون نشر مبادئهم الهدامة في الشرق الإسلامي استعملوا كلمة "الاشتراكية" لتحل محل الشيوعية ظنًّا منهم أن استعمال تعبير مغاير يخفي نواياهم ومكائدهم يحقق لهم أغراضهم الخبيثة في البلاد الإسلامية، ولكن الاشتراكية لم تحقق لهم النجاح المنشود؛ حتى في أخص مجال يدعون إليه وهو النظام الاقتصادي وملكية الدولة لوسائل الإنتاج، فلجئوا إلى استعمال تعبير آخر متطور ومخالف للأول وهو "اليسارية" زاعمين أن هذا المبدأ يمثل الأسلوب الثوري المعارض في أي بلد وجد، وليس له علاقة في رفض دين التوحيد، وإشاعة الإباحية والفوضوية الخلقية والاجتماعية.. وهكذا فإن التيارات المعادية للفكر الإسلامي تلبس كل يوم لباسا جديدا، وتتخذ أسلوبا متغيرا، وهي في حقيقة أمرها تهدف إلى طعن المسلمين في ديارهم، وفي عقيدتهم وفي أخلاقهم، كما تهدف إلى تشويه البناء الإسلامي الكامل. ولهذا فإن الثقافة الإسلامية يجب أن تتخذ الوسائل المتغيرة المتطورة التي تتناسب مع كل عصر وتتلاءم مع كل بيئة، لتحمي الإنسان المسلم، ولتحمي العقيدة الإسلامية، ولترد كيد الأعداء2. والثقافة الإسلامية زاد ضروري لكل مسلم يريد أن يعيش حياة إسلامية في ظل عقيدة التوحيد، وهي سلاح قوي بيد كل مسلم يملك العزم الإيماني والإرادة القوية ليواجه تحديات العصر، ويتغلب عليها. قال تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} 3, فخير زاد للإنسان المسلم الواعي ثقافة إسلامية تحصن عقله ونفسه وأسرته، ليتقدم في ركب الحياة ويعايش أحداث العصر.

_ 1 ثقافة المسلم في وجه التيارات المعاصرة د. عبد الحليم عويس ص25. 2 المصدر السابق. 3 سورة البقرة: 197.

ما الذي تقدمه الثقافة الإسلامية للإنسان المعاصر

ما الذي تقدمه الثقافة الإسلامية للإنسان المعاصر: لقد وصلت الإنسانية اليوم في الجانب العلمي إلى كنوز ضخمة من كنوز المعرفة والتقنية "Tec hnology" ولكنها لم تصل إلى الأمن والاطمئنان الذاتي

في الجانب الإيماني الروحي بل ما زالت تحس بالفراغ الداخلي الذي يولد قلقا نفسيا رهيبا، واضطرابا روحيا مريرا. ذلك لأن الإنسان الغربي حينما وجد أن المنهاج التجريبي مفيد، في مجال العلوم الطبيعية، امتلكه الغرور والعجب، وأراد أن يتخذ الواقعية المنطقية منهاجا له في مجال الفكر والروحانيات، فاعتمد على الحواس كوسيلة من وسائل المعرفة، فما لمسه ورآه آمن به وما غاب عن بصره ولمسه وسمعه أنكره وجحده. ولم يقف في يوم ما ليفكر في أن عالم الروحانيات يختلف اختلافا شاسعا عن عالم المادة، وما يقع تحت الحواس من العوالم الكونية، لا تدركه الحواس في عالم ما وراء المادة، وما وراء الطبيعة. وكان هذا الجهل في تفهم عالم الروحانيات أثرا من آثار الثقافة الغربية وسببا في شقاء الإنسان الغربي.. ونشأ عن هذه الثقافة أن انقطعت الصلة بين القيم الخلقية، والآفاق الإيمانية من جهة وبين الإنسان من جهة ثانية، ومن ثم فإن حياته قد تحولت إلى مادة يدور في فلكها، وإلى أرقام حسابية يلهث من أجل تحصيل أكبر رقم حسابي.. أما الإيمان بوحدانية الإله، أما تحكيم القيم والمثل في حياته العملية والعاطفية، فهذا لا وجود له عند الإنسان الغربي المعاصر.. ونتج عن عدم إيمانه بالروحانيات قلق نفسي أحسه الفرد الغربي داخل كيانه، وشعور بالضياع أخذ ينتابه صباح مساء، كما أحس بالاضطراب بين واقعه الذي يغرق بالمادة والعبث واللهو وبين نداءات فطرية خفيفة بين الحين والآخر تدعوه للالتزام بشيء من القيم والمثل في حياته.. وإذا نظرنا إلى هذا الإنسان من زاوية الثورات التي قام بها ضد الظلم والاستبداد فإننا نجد أنه قد وضع نفسه تحت شعارات جوفاء لا تسمن ولا تغني من جوع. وفي هذا التيه الذي يتخبط فيه الإنسان المعاصر غير المسلم حاول أن يتقمص شخصيات مختلفة لعلها توصله إلى شاطئ الأمان، وتمنحه سعادة ضائعة، وراحة نفسية مفقودة.. فتقمص الشخصية العلمية التي حددها هكسلي "Huxley"، ثم الشخصية الجنسية التي رسمها "فرويد" ثم شخصية الرجل

الاقتصادي التي وصفها "ماركس".. وفي جميع هذه المحاولات لم يتحقق للفرد الغربي ما يريد، ولم يصل إلى السعادة الحقيقية ولا إلى الاطمئنان النفسي، بل على خلاف ذلك زادته هذه المحاولات وتلك الثقافات حيرة وقلقا وضياعا1. وعلى هذا يمكننا أن نقول: إن الثقافة الغربية قد أورثت الإنسان الغربي الانحراف الخلقي والضياع الذاتي، والخواء الإيماني والفراغ الروحي.. وهذا ما يؤدي إلى عذاب نفسي داخلي يحس فيه الفرد في أعماقه، فيختل التوازن في شعوره ومداركه، التوازن الذي يجب أن يتحقق بين الواقع المادي للحياة وبين القيم التي يؤمن بها، ولكن الإنسان الغربي يفقد هذا التوازن بين الواقع المادي الذي يعيشه وبين القيم التي تخلى عنها حتى اندثرت في طيات النسيان، وغدت الحياة كلها في تصوره لذة عاجلة ومتعة عابرة.. ولم يبق أي أثر للقيم الروحية وللتصور الفكري.. وهكذا فقد شوهت الثقافة الغربية معالم الإنسانية لدى الفرد الغربي2. وكذلك وحَذْوُك الفشل بالفشل فإن الثقافة الشيوعية شوهت معالم الفرد الشيوعي ومسخت كيانه وجعلته نقطة تدور في دائرة فراغية حتى إذا ما تحسس نفسه وجدها أشلاء متهافتة متناثرة.. هذه الثقافة تفقد الإنسان ذاتيته وتقضي على مستقبله، وتجعله يلهث وراء سراب، فلم يصب من الدنيا حظًّا جديرا بالكدح، ولا يأمل في غد مشرق، ولا في آخرة تعوضه ما فاته في دنياه3. وهكذا رأينا كيف تتهاوى جميع الثقافات المعاصرة، وتتساقط حاملة عنوان الإخفاق والخذلان، دون أن تحقق للإنسان المعاصر أدنى راحة وأدنى أمن، وهنا يأتي دور الثقافة الإسلامية لإنقاذ البشرية مما تعانيه من قلق وحيرة واضطرابات نفسية. فالثقافة الإسلامية هي الدواء وهي العلاج للآلام الحقيقية التي يعانيها الإنسان المعاصر -غربيا كان أو شرقيا، رأسماليا كان أو شيوعيا..

_ 1 خصائص التصور الإسلامي لسيد قطب. ص82. 2، 3 من تفسير ظلال القرآن. المجلد الثاني ص250.

يقول "C.Wright Mills" "إن زماننا لهو زمان القلق وعدم الاهتمام واللا مبالاة بصورة لا تسمح للعقل أن يفعل مفعوله الهادئ، ولا تسمح للحياء أو الشعور الرقيق النبيل أن يفعل مثله"1. ويقول البروفسور "Z.Bouman": "مهما تختلف محاولات الإصلاح بين كونها جسورة أو خجولة، بعيدة المرمى أو حذرة فإنها جميعا تتفق على أن الأفكار الموجهة للحضارة أو الثقافة الجديدة، "المنشودة" يجب ألا يبحث عنها في الأشكال العادية أو المألوفة فإن المطلوب عمله ضرورة: لهو شيء أبعد مدى بكثير من مجرد إعادة تشكيل أو إعادة تنظيم للآراء السائدة"1. وهكذا فإن الكتاب والمفكرين الغربيين يدركون تماما الاضطراب الفكري والقلق النفسي الذي وصل إليه الإنسان المعاصر الغربي، وهذا الاضطراب ناتج عما حشر في الفكر الغربي من زيف، وما زين له من باطل، وناتج أيضا عن انحراف الإنسان نفسه عن الفطرة السليمة حتى أصبح الوصول إلى الحقيقة أمرا متعذرا صعبا يحتاج إلى ثقافة جديدة تختلف عما عرفه الغربيون والشرقيون من ثقافات مألوفة قاصرة عن إيجاد السلام النفسي والاطمئنان إلى حياة سعيدة.. وهذه الثقافة التي تخيلها "بومان" والتي قال عنها: إنها أبعد بكثير من إعادة تشكيل وإعادة تنظيم للآراء السائدة.. ما هي إلا الثقافة الإسلامية، لكنه ما استطاع أن يصل إلى تحديد اسمها لأنه لم يتلق الصورة الحية الصادقة عن ثقافتنا الإسلامية.. أجل إنها هي وحدها التي تنقذ الإنسانية مما تعانيه من قلق وحيرة، وهي وحدها البديلة للآراء السائدة في أوربا وأمريكا وفي البلاد الخاضعة للأنظمة الشيوعية. يقول الكسيس كاريل في كتابه "الإنسان.. ذلك المجهول": "إن الحضارة العصرية تجد نفسها في موقف صعب لأنها لا تلائمنا. فقد أنشئت دون أية معرفة بطبيعتنا الحقيقية، إذ إنها تولدت من خيالات الاكتشافات العملية، وشهوات الناس وأوهامهم، ونظرياتهم ورغباتهم، وعلى الرغم من أنها أنشئت

_ 1 مجلة المسلم المعاصر - عدد "16" بحث عن الدعوة للالتزام خالد إسحاق.

بمجهوداتنا إلا أنها غير صالحة بالنسبة لحجمنا وشكلنا"1. إن مصير الإنسان في تلك الحضارة مصير مؤلم يتخبط فيه، ونهاية مفجعة تتمثل في حلول انتحارية ومشكلات معقدة وتصرفات شاذة وتطورات مفسدة.. وكانت المذاهب الهدامة والقوانين الوضعية قد حفزت الكثير من مفكري الغرب العقلاء إلى الدعوة بحرارة لإيجاد ديانة أو البحث عنها، لكون فيها خلاص الناس ويتحقق بها الهناء الذي يتوق إليه الناس في هذا العصر. وأشير هنا إلى أقوال الذين بحثوا بإمعان وأوصلتهم نزاهة بحثهم -رغم أنهم من الأعداء- إلى أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي يستطيع أن ينقذ الإنسانية المعذبة التي تسير نحو الهاوية. يقول "برناردشو": "إنه لن ينتعش العالم من كبوته إلا إذا أخذ بتعاليم الديانة الإسلامية، ولا بد من هذه النتيجة من نحو قرنين من الزمان"2. ويقول "جواكيم راي يولف": "إننا إذا طالعنا مبادئ الإسلام ودرسنا قواعده بنظر عميق وبصيرة نافذة تجلت لنا حقيقة ناصعة وهي أن المسلمين المعاصرين قد بعدوا عن هذه المبادئ السامية بعدا شاسعا، وإن ظهرت فيهم روح قوية ذات عزيمة ثابتة توجههم للتمسك بركائز الإسلام، فإن قوتهم ستبلغ عنان السماء، ويكونون باعتبار الأخلاق والعلم والاجتماع منارة العالم كله. ولا يهمني الآن خطورة سياسة الإسلام، بل أود أن أبحث ناحية من نواحيه المختلفة عله يتأمل فيها أحد من الأوروبيين، إن هذه الأحكام والشرائع تتعلق بما فرضه القرآن الكريم على معتنقيه من التمسك بمبادئ الحق والخير وأوضح مثال على ذلك المحافظة على الصحة الجسمية العامة وبذلك أستطيع أن أقول: إن القرآن يمتاز بهذا الاعتبار امتيازا بارزا عن الكتب السماوية بتأكيد، بالانسجام الكامل والوضوح التام وهذا ما يوجب على الأمم الأوروبية التي تدعي الثقافة والحضارة أن

_ 1 نقلا عن: مجلة حضارة الإسلام السنة العشرون العدد الثاني مقال بعنوان هذا الدين جمال وكمال للأستاذ محمد إبراهيم بخات. 2 كتاب "قالوا في الإسلام" ص35.

تغبط المسلمين، إن فضائل التعاليم الإسلامية بارزة بروز الشمس وخاصة أسسها.. وثمة سؤال يأتي في هذا السياق، وهو: لماذا حاد المسلمون عن طريق الإسلام وانصرفوا عن التعاليم القرآنية ونبذوها وراء ظهورهم"1. ذلك قول حق على لسان غير المسلم يشهد أن المستقبل للإسلام، لأنه الدين الوحيد الذي يواكب الحضارة، بل يحقق الحضارة الصحيحة. ويقول المؤرخ "ولز": كل دين لا يسير مع المدنية في كل طور من أطوارها فاضرب به عرض الحائط ولا تبال به لأن الدين الذي لا يسير مع المدنية جنبا إلى جنب لهو شر مستطير على أصحابه يجرهم إلى الهلاك، وإن الديانة الحقة التي وجدتها تسير مع المدنية أنَّى سارت هي الديانة الإسلامية، وإذا أراد الإنسان أن يعرف شيئا من هذا فليقرأ القرآن الكريم، وما فيه من نظريات علمية وقوانين وأنظمة لربط المجتمع فهو كتاب ديني علمي اجتماعي، تهذيبي، خلقي، تاريخي.. وإذا طلب مني أحد أن أحدد له الإسلام فسأقول له: الإسلام هو المدنية، وهل في استطاعة إنسان أن يأتي بدور من الأدوار التي ظهر فيها الإسلام مغايرا للمدنية والتقدم"2. فهذه شهادة ناطقة بالحق معبرة بصدق عن روعة الإسلام وحضارته المعطاءة، وهذه شهادة تنم عن حقائق جلية تؤيدها وقائع الحضارة الغربية المفلسة من القيم العليا والمثل السامية الموافقة للفطرة الإنسانية. وعلى هذا فإن الثقافة الإسلامية هي وحدها التي تحقق الرخاء والهناء للإنسان المعاصر بما تملك من مصادر أصلية حقيقية تعطي تصورا متكاملا وشاملا عن الحياة، فهي تحدد علاقة الإنسان بربه، وعلاقة الإنسان بالكون، كما تحقق الانسجام في علاقات الكائنات، وتجعلها جميعا بما فيها الطبيعة مخلوقة لله الذي تفرد بالربوبية والألوهية. والثقافة الإسلامية تهب الإنسانية حياة روحية سعيدة لا تستلزم الهروب إلى الصومعة أو إلى الدير، ولكنها تدعو إلى أداء الطاعة والعبادة مع الجماعة.

_ 1 عن مقالة له نشرت بالمجلة الألمانية "دي هايف" ترجمها نشار أحمد الأعظمي ونشرها بجريدة الرائد بالعددين 23، 24 السنة "15"، تحت عنوان "شهادة الأقوام على صدق الإسلام". 2 كتاب "الإسلام أبدًا" ص 22، 23 منقول عن مجلة حضارة الإسلام عدد "2" السنة العشرون.

والثقافة الإسلامية تربأ بالإنسان أن يندفع وراء أطماع قريبة أو جشع مادي كما أنها لا تفسح مجالا لحصول منازعات وخصومات وصراعات من أجل جر مكاسب مادية أكبر كما تصنع الثقافة المادية. وفوق هذا كله فإن الثقافة الإسلامية تتيح لكافة المسلمين المؤمنين حياة راقية تتدرج في مدارج الكمال والتقدم العلمي لكي يبقى المسلم محافظا على التوازن بين الحياة الفردية والحياة الجماعية، بين المادة والروح، بين الدنيا والدين. والثقافة الإسلامية هي وحدها التي تلبي الحاجات المعقولة، وتحقق الرغبات الضرورية للجنس البشري، وهي في الوقت ذاته تمنع من الانحراف الخلقي، أو الانهيار النفسي، أو الجنوح السلوكي بما تتضمنه من توجيهات ربانية وإرشادات إلهية في القيام بالتكاليف التي تهدف إلى رفع الإنسان في سلم الارتقاء الذاتي والروحي والفكري والعاطفي، بحيث يصبح المسلم المثقف ثقافة إسلامية قوة خير موجهة تألف وتؤلف وتؤدي واجبها راضية وتأخذ حقها قانعة.. وهنا تكمن عظمة الثقافة الإسلامية التي تتمثل في إقامة مجتمع صالح يعيش أفراده بأخلاقية حقيقية بين أخذ وعطاء، وأمر بمعروف ونهي عن المنكر، وإقرار للحق ورفع للظلم، وترفع عن الرذائل والدنايا وتجنب للخبث والفحش.. وبهذا تتجلى مثالية الإنسان وواقعيته فهو يأخذ من الطيبات بحدود ما أحل الله، ويبتعد عن كل خلق ذميم أو قول بذيء أو فعل مشين، كما تتجلى شخصية المسلم المتميزة. وشخصيته الجماعية المرتبطة بالجماعة الإسلامية المتماسكة بها، المتعاونة معها، الراعية لتحقيق مصالح غيرها.. كما ترعى تحقيق مصالحها تماما وهكذا تبقى الذات الإنسانية في إطار الثقافة الإسلامية في المستويين الفردي والاجتماعي عاملة ومؤثرة بتوازن والتزام. وهذا العطاء الذي تغدقه الثقافة الإسلامية على الإنسان المسلم عطاء متفرد متميز، لم تصل إليه أية ثقافة شرقية أو غربية. والثقافة الإسلامية تقدم الكثير والكثير للبشرية، إنها إنسانية العطاء.. "وإن المجتمعات الصناعية المتقدمة منهجيا وتجريبيا وماديا، كالمجتمعات

الأوروبية والأمريكية تجد في الثقافة الإسلامية مكانا، وتجد من يأخذ بيدها في هذا المكان، فيرقى بها في المرتقى الصاعد إلى القمة العالية الرفيعة، تلك القمة التي حققها الإسلام في فترة حية من فترات التاريخ الإنساني"1. وقبل كل شيء فإن الثقافة الإسلامية وحدها هي التي تحرر البشر من عبودية البشر، لأنها تستمد تصورها ومبادئها، وموازينها وقيمها، وشرائعها وقوانينها، وأوضاعها وتقاليدها من الله سبحانه، فإذا أوجبت طاعة التشريع فإنما هي طاعة الله وحده، وإذا أمرت بتنفيذ نظام فإنما تأمر بالخضوع لله رب العالمين.. وحده لا شريك له.

_ 1 تفسير الظلال لسيد قطب. المجلد الثالث ص 150.

الفصل الثاني: ركائز الثقافة الإسلامية

الفصل الثاني: ركائز الثقافة الإسلامية مدخل ... الفصل الثاني: ركائز الثقافة الإسلامية المبحث الأول - الإيمان والعقيدة المبحث الثاني - التشريع ومصادره أ- القرآن الكريم ب- السنة الشريفة

المبحث الأول: الإيمان والعقيدة

المبحث الأول: الإيمان والعقيدة ... المبحث الأول: الإيمان الإيمان بالله تعالى أساس شخصية الأمة المسلمة: قال الله تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ, تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ, وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ, يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} 1. إن الإيمان بوجود الله ووحدانيته وتفرده بالخلق أساس الشخصية الإسلامية وسر قوتها وقوام حياتها ومفتاح حضارتها وباعث نهضتها، فبالإيمان خرج المسلمون من الجزيرة العربية يحملون راية التوحيد ويشيعون النور والعدل والأمن في أرجاء العالم. وبالإيمان انتصر المسلمون على الحملات الصليبية التسع التي أرادت أن تحصد البلاد والعباد. وبالإيمان انتصر المسلمون على التتار الذين زحفوا على الشرق الإسلامي كالريح العقيم: {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} 2, وألقوا المؤلفات الإسلامية في الفرات حتى غلب لون الحبر لون الماء، وأرادوا أن يدمروا الحضارة الإنسانية كلها لولا أن هيأ الله مسلمين مخلصين من الشام ومصر فردوهم على أعقابهم خاسرين في "عين جالوت" وكان مفتاح النصر كلمة "واإسلاماه" أطلقها القائد "قطز" فألهبت المشاعر واستجاشت العزائم وأيقظت الهمم3.

_ 1 سورة إبراهيم: 24-27. 2 سورة الذاريات: 42. 3 الإيمان والحياة د. يوسف القرضاوي ص16.

والأمة الإسلامية اليوم وهي تواجه خطرًا شديدًا، وعدوًّا شرسًا، لا بد أن تتسلح بسلاح الإيمان وحسن الصلة بالله والإخلاص له في السر والعلن حتى تتمكن من التغلب على العدو الماكر، وحتى تتمكن من استعادة مجدها القديم، ولكي تأخذ بأسباب السعادة والتقدم والقوة.. "نحن أمة مؤمنة" هذه قضية يجب أن تتنبه إليها أقلام المفكرين وتتجه إليها مشاعر الأدباء والكتاب، وقادة الحرب والمعارك، وأرباب الأموال وأصحاب المشروعات. "نحن أمة مؤمنة" يجب أن يكون شعارنا في كل تقدم، وفي كل ازدهار ونمو وإصلاح وعمران.. "نحن أمة مؤمنة" يجب أن ترعاها الأم في بيتها والأستاذ في مدرسته والشاب في نشاطه.. كي تتضافر الجهود وتتحد الأهداف في سبيل تثبيت الإيمان في القلوب، وحماية هذه الحقيقة التي كانت سببا في كل مجد وعز. معنى الإيمان: الإيمان ما استقر في النفس أو ملك على الإنسان قلبه وعقله وأحاسيسه ومشاعره ووجدانه، فإذا فكر فضمن نطاق الإيمان، وإذا تكلم فبوحي الإيمان، وإذا عمل فمن أجل الإيمان.. وللإيمان ركائز يقوم عليها، هي التصديق القلبي الذي لا يدانيه ريب ولا يقاربه شك، والإقرار اللساني بالشهادتين وما يترتب عليهما والعمل الظاهري بالجوارح، وليس من الإيمان في شيء مجرد الإعلان باللسان، لأن هذا شأن المنافق. قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ, يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} 1. وليس من الإيمان في شيء أن يتظاهر الإنسان بأن يؤدي بعض الشعائر الدينية على مرأى من الناس ليقال عنه إنه مؤمن وإنه كذا وكذا، فهذا هو المرائي. وليس من الإيمان في شيء أن يعرف الإنسان حقيقة الإيمان معرفة ذهنية

_ 1 سورة البقرة: 8-9.

فقط, فكم من أناس عرفوا حقائق الإيمان ولم يؤمنوا قال سبحانه وتعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} 1. وقد أقر أبو طالب بنبوة الرسول عليه الصلاة والسلام ونباهة شأنه ولكنه لم يؤمن به خوف اللوم والمسبة فأعلن: ودعوتني وزعمت أنك صادق ... ولقد صدقت وكنت ثَمَّ أمينا وعرفت دينك لا محالة أنه ... من خير أديان البرية دينا لولا الملامة أو حذار مسبة ... لوجدتني سمحا بذاك مبينا وهذا هرقل عظيم الروم يقول: لو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه ولو كنت عنده لجلست عند قدميه. وجاء في فتح الباري: عن ابن إسحاق عن بعض أهل العلم أن هرقل قال: ويحك.. والله إني لأعلم أنه نبي مرسل ولكني أخاف الروم على نفسي ولولا ذلك لاتبعته، فقد وجد من هؤلاء التصديق والتسليم والإقرار إلى حد كبير ولكن العلماء متفقون على أنهم كافرون. والحق أن الجزء الذي يمتاز به الإيمان ويتضح هو التزام الطاعة مع التبري من كل دين سوى الإسلام.. فإذا التزم الطاعة فقد خرج عن ضلالة الكفر ودخل في هدى الإسلام، وبهذا تبين وجه كفر هؤلاء الكفرة مع تصديقهم ومعرفتهم وذلك لأن أبا طالب وإن جهر بحقية دين محمد -صلى الله عليه وسلم- لكنه لم يلتزم طاعته ولم يدخل في دينه ولذا قال: لولا الملامة أو حذار مسبة، فآثر النار على العار، وهكذا هرقل تمنى لقاءه وبجَّلَه وعظَّمه بظهر الغيب لكنه خشي الروم أشد خشية فلم يلتزم طاعته، وكذلك حال الكفار الذين أخبر الله سبحانه عنهم بقوله: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} 2, ومع معرفتهم أعرضوا عن كلمة الحق ولم يدينوا بدين الإسلام، ولذا يقال: إن الإسلام من الإرادات بمعنى أنه لا يكفي فيه الإذعان الفكري الخالص3. وعلى هذا فالإيمان في حقيقته عمل نفسي ووجداني داخلي، وإدراك وجزم

_ 1 سورة النمل: 3. 2 البقرة: 146. 3 لمحات في رسائل التربية الإسلامية وغاياتها د. محمد أمين المصري ص153-154.

ويقين، وانقياد إرادي. قال الله جل شأنه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} 1. وقال: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} 2. وقال: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 3. ولا بد أن يتبع المعرفة القلبية والتصديق الوجداني والإذعان النفسي الداخلي والإقرار اللساني التزامًا بالمبادئ الخلقية والسلوكية والجهاد في سبيلها بالمال والنفس, قال الله تعالى في وصف المؤمنين: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ, الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ, أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} 4. وقال: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ, الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ, وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ, وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} 5. وللإيمان أركان هي: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقضاء خيره وشره من الله. وإن أسمى هذه الأركان وأعظمها أثرًا الإيمان بالله تبارك وتعالى ورسله، أما الإيمان بالكتب فهو منبثق عن الإيمان بالله ورسله. والإيمان بالبعث والقضاء متعلق بهما أيضا، فإذا آمن الإنسان بالإله الواحد الخالق المدبر، فإنه لا بد أن يترتب على إيمانه هذا الإيمان بالكتب ثم بالقدر ومسئولية الإنسان والجزاء والحساب.

_ 1 الحجرات: 15. 2 النساء: 65. 3 النور: 51. 4 الأنفال: 2-4. 5 المؤمنون: 1-4.

الإيمان بالله تعالى: إن حاجة الإنسان إلى الإيمان بوجود الله وبوحدانيته وبقدرته حاجة أساسية سواء من الناحية العقلية أو من الناحية الفطرية أو من الناحية العاطفية، فالإنسان منذ أن وجد على سطح البسيطة وهو يتساءل: من أين جاء، وإلى أين يذهب ومتى يذهب، وكيف وجد؟ ... هذه الأسئلة ذاتية تنبعث على لسانه وتتحرك في ذهنه حالما يبدأ يدرك وجوده ويحس الكائنات حوله، الأمر الذي يجعل الإيمان حيًّا في النفوس متفاعلًا معها. وإذا قارن الإنسان نفسه مع سائر المخلوقات الكونية أدرك أنه مخلوق صغير بالنسبة للكون ولمظاهر الطبيعة وللسنن المستمرة، وهذا ما يشعره بضعفه فيلجأ إلى الإيمان بالله يستمد منه القوة في الحياة، والعون في التعامل مع السنن الكونية. قال الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 1. وإذا خففت العادة من الشعور الفطري في ساعات الرخاء واللهو فإنه يعود إلى الظهور عند الشدة والبأساء، أو عند النوائب والكوارث، أو عند الضيق والمرض. قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} 2. وتبدو الفطرة قوية جلية حينما يفاجأ الإنسان بالسؤال عن مصدر هذا الكون ومدبره فلا يملك بفطرته إلا أن ينطق بحماسة "الله": {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 3, {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ

_ 1 الروم: 30. 2 يونس: 22. 3 العنكبوت: 61.

السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ, فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنى تُصْرَفُونَ} 1. وسبل المعرفة للإيمان بالله تعالى تختلف من إنسان إلى آخر، فهناك من يستجيب لداعي فطرته فيؤمن ويلتزم، وهناك من يصل إلى الإيمان عن طريق السببية وذلك بالإيمان أن وراء هذا الكون المنظم المنسجم إلها عظيمًا خالقًا، قال الله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ, الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} 2. ولكن العقل وحده من غير تأييد الرسل وهدايتهم قد يضل سبيل الهداية، وقد يهبط إلى الدرك الأسفل من السخف والنظر، فيتخذ من الأحجار والأشجار ومظاهر الطبيعة آلهة، فيجثو أمامها، ويخضع لها، ويستذل لما يبهره من أشكالها وأحوالها، ولذلك فلا بد من رسالة الرسل لتحمي العقول البشرية من الضلال والانحراف، وتردها إلى الصراط المستقيم. قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ, وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ, فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ, فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ, فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ, إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 3. والمعرفة البشرية لا يمكن أن تتوجه إلى ذات الله سبحانه وتعالى، لأن

_ 1 يونس: 31-33. 2 آل عمران: 190-191. 3 سورة الأنعام: 74-79.

العقل البشري المخلوق المحدود بمكان وزمان عاجز عن إدراك الأبدي الأزلي الخالق العظيم، ولا عجب، فهناك في عالم المادة أشياء مخلوقة لم يعرف الإنسان كنهها وماهيتها كالمغناطيس والكهرباء، وككثير من الأفلاك السماوية، وعدم المعرفة بذاتها وحقائقها لا تستدعي في إنكار وجودها، بل من الجهل بمكان أن ينكر الإنسان شيئًا لعدم إحاطة حواسه به، إذ إن وجود الشيء لا يتوقف على إدراك حقيقته. والمعرفة البشرية يمكن أن تتجه إلى آثار الله سبحانه ومخلوقاته التي تحيط بنا أينما نظرنا وكيفما نظرنا، فالأرض والسماء، والأفلاك والنبات، والإنسان والحيوان والماء كل هذه أدلة ناطقة على وجود الله وتفرده بالخلق ووحدانيته بالتصرف. قال الله تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ، لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} 1. ولا شك أن الفطرة السليمة والعقل الواعي يقف مبهورا أمام كل هذه الآيات، والقرآن الكريم يلفت النفس الإنسانية إلى الدلائل الكونية الثابتة التي تشير إلى قدرة الخالق. وحدانية الله: وهو تعالى إله واحد ليس له شريك ولا مثيل في ذاته أو صفاته أو أفعاله سبحانه وتعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} 2، وكل ما في الكون من إبداع ونظام يدل على وحدانية مبدعه ووحدانية مدبره. قال الله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} 3. {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا

_ 1 سورة الأنعام: 102-103. 2 سورة البقرة: 163. 3 الأنبياء: 23.

بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} 1. وهو سبحانه واحد في ربوبيته، وهو واحد في ألوهيته، فلا خشية إلا منه ولا اعتماد إلا عليه ولا خضوع إلا لحكمه.. ولا يملك أحد من المخلوقات ضرًّا ولا نفعًا وحتى الرسل والأنبياء عباد الله، اصطفاهم سبحانه لحمل رسالته إلى الخلق ولدعوتهم إلى الإيمان. قال الله سبحانه: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ, وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 2. ومن هنا كانت كلمة "لا إله إلا الله" عنوان التوحيد والإخلاص، ومفتاح العقيدة الإسلامية، وهي تشتمل على معان عظيمة جليلة، تخص الله سبحانه بكل قدرة وبكل حكم وبكل سلطان. وهي منهج كامل متفرد عن سائر المناهج والأنظمة، هي إيذان بمجتمع مستقل متميز بعقيدته ونظامه لا عنصرية فيه ولا إقليمية ولا طبقية، لأنه ينتمي إلى الله وحده، ولا يعرف الولاء إلا له سبحانه. وقد أدرك زعماء الجاهلية وجبابرتها ما تنطوي عليه دعوة "لا إله إلا الله" من تقويض لعروشهم ومن القضاء على سلطانهم وطغيانهم، فأجمعوا كيدهم وحاربوا كل من يؤمن بها وكل من يدعو إليها. ولكن العلي العظيم سبحانه قد أتم نوره وأعز جنده وارتفعت كلمة الحق فوق كل بلد، وعشقها كل قلب صاف، وكل عقل نير، ولأن لها كل إنسان واعٍ ناضج متفتح المشاعر والأحاسيس.. الإيمان بصفات الله تعالى: ويلزم من الإيمان بوجود الله وبوحدانيته الإيمان بأنه تعالى متصف بكل كمال يليق بذاته العلية، وأنه منزه عن كل نقص، قال سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 3, {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي

_ 1 المؤمنون: 91. 2 آل عمران: 79-80. 3 سورة الشورى: 11.

الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} 1. وهو العزيز الفعال لما يريد، الذي لا يغلبه شيء ولا يقهر إرادته شيء {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 2. وهو القدير الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء، ويحيي العظام وهي رميم. وهو الحكيم الذي لا يخلق شيئًا عبثًا. ولا يترك شيئا سدى، ولا يفعل فعلا أو يشرع شرعًا إلا لحكم، عرفها من عرفها وجهلها من جهلها. وهو الرحيم الذي سبقت رحمته غضبه، ووسعت رحمته كل شيء، كما وسع علمه كل شيء، وقد حكى القرآن الكريم دعاء الملائكة: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} 3. وقال سبحانه: {عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} 4, وقال جل ذكره: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} 5, {خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلى, الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى, لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى, وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى, اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} 6. {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ, هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ, هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ

_ 1الأنعام: 59. 2 آل عمران: 26. 3 غافر: 7. 4 الأعراف: 156. 5 الزمر: 53. 6 طه: 4-8.

الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 1. وهو سبحانه مع عباده جميعًا بعلمه وإحاطته: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ} 2, مع المؤمنين خاصة بتأييده ومعونته {إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} 3. والكون كله صامته وناطقه، أحياؤه وجماده، ناطق بعظمة الله ومنقاد لأمره، ومسبح بحمده {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} 4، {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} 5. وأود أن أشير هنا إلى ما ذكره الأستاذ أبو الأعلى المودودي في أن الإنسان يكون على أربع درجات باعتبار الإيمان والإسلام: 1- الذين يؤمنون إيمانا يجعلهم مطيعين له. متبعين لأحكامه اتباعًا كاملًا، يحذرون ما قد نهى عنه، كما يحذر الإنسان الإمساك بجمرة متقدة من النار في يده. ويسارعون إلى العمل بما فيه رضاه، كما يسرع الإنسان إلى كسب الأموال فهؤلاء هم المؤمنون حقًّا. 2- الذين يؤمنون بالله، ولكن لا يجعلهم إيمانهم مطيعين له، متبعين لأحكامه اتباعًا كاملًا. فهؤلاء وإن كان إيمانهم لم يبلغ درجة الكمال ولكنهم مسلمون على كل حال. يعاقبون بقدر معصيتهم، كأنهم بمنزلة المجرمين وليسوا بمنزلة البغاة المتمردين. لأنهم يعترفون للملك بملكه ويخضعون لقانونه. 3- الذين لا يؤمنون بالله ولكنك تراهم ظاهرا يأتون بأعمال تشابه أعمال المسلمين، فهم البغاة في حقيقة الأمر. وأما أعمالهم التي تراها صالحة في الظاهر فليست بطاعة لله ولا اتباع لقانونه. فلا عبرة بها ومثلهم كمثل رجل لا

_ 1 سورة الحشر الآيات: 22، 23، 24. 2 الحديد: 4. 3 النحل آخر آية. 4 الإسراء: 44. 5 الحج: 18.

يعترف للملك بملكه، ولا يخضع لقانونه، فإذا صدرت عنه بعض أعمال لا تخالف قانون الملك لا يحكم عليه بكونه وفيًّا للملك ومطيعًا لقانونه. بل هو عاصٍ لأمره خارج على قانونه. 4- الذين لا يؤمنون بالله ويأتون أيضًا بأعمال سيئة مخالفة لأحكامه وقانونه فهم شر الناس، بغاة مفسدون. فالظاهر من هذه القسمة أن الإيمان هو الذي ينحصر فيه نجاح الإنسان وسعادته في الدنيا والآخرة، ولا يتولد الإسلام، إلا من بذر الإيمان فحيث لا يكون الإيمان يكون الكفر. والكفر ضد الإسلام، أي الخروج على أمر الله تعالى باختلاف درجاته1. الإيمان بالنبوة: إن الإيمان بالله تعالى وبتدبيره للعالم وتكريمه للإنسان يستلزم الإيمان بالنبوة، ذلك لأن الله سبحانه الذي خلق الإنسان وسخر له ما في الكون جميعًا لم يتركه يتخبط على غير هدى، بل من تمام الحكمة والفضل أن يهديه سبيل الحق والخير، ويهيئ له الزاد الروحي كما هيأ له الزاد المادي، وأن ينزل الوحي من السماء ليحيي به القلوب كما أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها2. والإيمان بالنبوة أو الصلة بين الله تعالى والمجتمع الإنساني عن طريق الأنبياء من خصائص الدين ومزاياه. قال الله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 3. وقال سبحانه: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ

_ 1 مبادئ الإسلام للأستاذ أبي الأعلى المودودي ص26-27. 2 الإيمان والحياة د. يوسف القرضاوي ص32. 3 سورة البقرة: 213.

لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} 1, وقال جل من قائل: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} 2, {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} 3. والمسلمون مطالبون أن يؤمنوا بجميع الأنبياء والرسل، وأن دعوتهم واحدة وإن اختلفت مناهجهم وشرائعهم باختلاف الأزمان والبيئات.. قال الله تعالى: { ... وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} 4. وقال جل ذكره: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} 5. وقال: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} 6. ويقول الرسول، صلى الله عليه وسلم: "مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى بيتًا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة فأنا تلك اللبنة وأنا خاتم النبيين" 7. والأنبياء في الاعتبار الإيماني وفي الميزان الإلهي ليسوا آلهة ولا أبناء آلهة ولا أنصاف آلهة، وإنما هم بشر مثلنا، يأكلون كما نأكل وينامون كما ننام ويمشون في الأسواق، إلا أنهم معصومون عن الكبائر وسفاسف الأمور بعصمة الله تعالى واقتضائه، لما يحملون من رسالة وبما يؤدون من دعوة.

_ 1 الحديد: 25. 2 النساء: 165. 3 الإسراء: 15. 4 البقرة: 285. 5 البقرة: 136. 6 الشورى: 13. 7 رواه مسلم.

قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} 1. الوحي: تتم الصلة بين الله تبارك وتعالى وبين الأنبياء بالوحي، ولكن ماذا تعني كلمة الوحي؟ الوحي في اللغة: إعلام في خفاء، ولذلك سمي الإلهام وحيًا2. وقال الراغب الأصفهاني "أصل الوحي الإشارة السريعة، ولتضمن السرعة قيل أمر وحي، وذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز والتعريض، وقد يكون بصوت مجرد عن التركيب أو بإشارة بعض الجوارح وبالكتابة"3. الوحي في الشرع: قال ابن الأنباري: "إنما سمي وحيًا لأن الملك أسره على الخلق وخص به النبي الذي بعثه الله إليه"4. وقال الراغب: يقال للكلمة الإلهية التي تلقى إلى الأنبياء وحي.. وعلى هذا: فالوحي يعني إلقاء الله تبارك وتعالى الكلام أو المعنى في نفس الرسول بخفاء وسرعة، وظاهرة الوحي مرافقة للنبوة وهي خارقة للعادة.. كلمة الوحي في القرآن الكريم: وردت كلمة "الوحي" في القرآن الكريم بمعناها اللغوي والشرعي فمن الأول قول الله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا} 5.. وقوله سبحانه: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ} 6.

_ 1 الكهف: 110. 2 لسان العرب لابن منظور مادة "وحي". 3 المفردات في غريب القرآن. 4 لسان العرب. 5 سورة النحل: 68. 6 القصص: 7.

{وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} 1. {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} 2. كما وردت كلمة الوحي في القرآن بمعناها الاصطلاحي، من ذلك مثلا قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا, وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا, رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} 3. ونلحظ على ضوء ما مر أن معنى الوحي في الشرع أخص استعمالًا منه في اللغة. الوحي ظاهرة مميزة للأنبياء: إن الإيمان بالنبوة يستدعي الإيمان بالوحي، لأنه ظاهرة مميزة للأنبياء جمعيًا، وقد أوحى الله سبحانه إلى سائر الأنبياء والمرسلين من لدن آدم عليه السلام إلى محمد صلوات الله عليهم جميعًا. ولذلك فقد أدرك ورقة بن نوفل بما أوتي من معرفة مسبقة بأوصاف الوحي أن ما ألم بمحمد -صلى الله عليه وسلم- في غار حراء إنما كان وحيًا، فجزم القول للسيدة خديجة -رضي الله عنها- "هذا الناموس الذي نزل على موسى" وخص موسى بالذكر مع أن الوحي نزل عليه وعلى غيره من الرسل كعيسى عليه السلام مثلا وذلك لإجماع أهل الديانتين اليهودية والنصرانية على الإيمان بنزوله على موسى. ولم يقل ورقة: إنه الذي نزل على عيسى، لأن اليهود ينكرون نبوة عيسى4.

_ 1 المائدة: 111. 2 الأنفال: 12. 3 النساء: 163-165. 4 فتح الباري: 1/ 20.

ورأي اليهود هذا معروف في الجزيرة العربية لاستيطان بعضهم في أجزاء منها فجاءت النسبة إلى موسى عليه السلام، أبلغ في إعلان التيقن، والتأكيد على أنه ملك الوحي، وأقطع حكما بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنفى للشك، وأبعد عن الاحتمال والتأويل الذي قد يجر إليه قذف الموضوع في لجة الخلاف. الإيمان بالوحي: إن الإيمان بالوحي يتوقف إلى حد كبير على الإيمان بالغيب، فلا بد من إطلاق سراح العقل من قيد المادة والحواس الخمس التي تقيد التفكير البشري بعالم محسوس محدود، وليس في هذا عجب ولا غرابة، فإن العلم نفسه -وبعد أن قطع شوطا كبيرا من المعرفة يقف عاجزا عن إيجاد تفسيرات لبعض المظاهر الطبيعية من ذلك أشعة "إكس" مثلا، فهي أشعة موجودة ولكنها لا تدرك بالحواس وقد استطاع الإنسان أن يستخدم أمواج "الكهراطيسية" لتقريب البعيد فيتمكن من التقاط الصوت ومن الاستماع إليه بطريق جهاز صغير عن بعد آلاف الأميال ومع ذلك فلم يدرك حقيقة "الكهراطيس" ... فهذا الإنسان الذي عرف تلك الحقائق وانتفع بها ينبغي أن يكون أكثر تفهما وتقبلا لحادثة الوحي وأقوى إيمانا برسل الله وبقدرة الله سبحانه الذي بيده ملكوت السماء والأرض والذي خلق الإنسان ومنحه العقل والحواس والعلم وقوة الملاحظة ودقة الإدراك.. ومن أنكر وجود "الوحي" لأنه لا يرى فقد أهدر كرامته وأهدر إنسانيته، لأنه لم يقدر البون الشاسع بين ضعف الإنسان وجهله وعقله المخلوق وقدرته المحدودة، وبين علم الله الواسع المحيط، وأنه سبحانه خالق مدبر متصرف متفرد بالإحياء والإماتة. "وإن حواس الكائنات الحية تختلف في إدراكها للأشياء، وهي تحكم بما يسمى بقانون العتبات، أي أن لكل حاسة عتبة دنيا لا تحس ما دونها من المخلوقات والموجودات، وعتبة عليا لا تحس بما فوقها من هذه الموجودات، فهي لا تحس إلا بما بين العتبتين، وهاتان العتبتان مختلفتان في الإنسان عنهما في سائر الكائنات الأخرى، وهكذا قد تلتقط أُذن الكلب أصواتا لا تلتقطها أذن الإنسان وقد ترى عين الحصان أشياء لا تراها عين الإنسان وهكذا.. قلنا هذا لتقريب ظاهرة الوحي إلى الأذهان، ولنبين أنها غير مستحيلة عقلا، وإلا فهي إحدى الظواهر الخارقة التي يتصل الإيمان بها بالإيمان بالله تعالى

خالق الأكوان والعجائب فيها، والذي لا يعجزه أن يخرق السنن والنواميس التي خلق الوجود عليها"1. قال الله سبحانه: {فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ, وَمَا لا تُبْصِرُونَ, إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ, وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ, وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ, تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 2. فالآيات الكريمة تشير إلى وجود أشياء لا تراها العين البشرية ومن جملتها الوحي الذي يدركه الرسول وحده دون سائر الآدميين. أنواع الوحي: قال الله تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} 3. ومن خلال ما تسلطه الآية الكريمة من أضواء على الوحي يمكن أن نصنف الوحي إلى أنواع متعددة هي: النوع الأول: أن يلقي الله المعنى في قلب النبي -صلى الله عليه وسلم- مباشرة ويكون ذلك في اليقظة أو المنام. وهذا ما يستخلص من قوله تعالى: {إِلاَّ وَحْيًا} وتحت هذا النوع يندرج قسمان: القسم الأول: إلقاء الله المعنى إلى قلب النبي يقظة، ويتم ذلك من غير واسطة الملك مع خلق علم ضروري عند النبي أن هذا المعنى قد قذفه الله قطعا فهو نور ينبلج في القلب فلا يندفع ولا يحتمل الشك ولا التأويل. ويشير إلى هذا المعنى قول الله تبارك وتعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} 4. وقد فسر علماء التفسير قوله تعالى: {بِمَا أَرَاكَ اللهُ} بما أعلمك:

_ 1 معالم الثقافة الإنسانية. د. عبد الكريم عثمان ص57. 2 سورة الحاقة: 38-43. 3 سورة الشورى: 51. 4 سورة النساء: 105.

1- قال الإمام الفخر الرازي: "بما أعلمك الله، وسمى ذلك العلم بالرؤية لأن العلم اليقيني المبرأ من جهات الريب يكون جاريا مجرى الرؤية في القوة والظهور. وكان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقول: لا يقولن أحد قضيت بما أراني الله تعالى، فإن الله تعالى لم يجعل ذلك إلا لنبيه، وأما الواحد منا فرأيه يكون ظنًّا ولا يكون علمًا"1. 2- قال الآلوسي رحمه الله: "بما أراك الله: أي بما عرَّفك وأوحى به إليك"2. 3- قال صاحب المنار: "بما أراك الله.. أعلمك علما يقينا كالرؤية في القوة والظهور، وما ذلك إلا الوحي الذي يفهم منه مراد الله فهما قطعيًّا"3 فمعنى الآية -بناء على هذا- لتحكم بين الناس بما أعلمك أو عرَّفك الله تعالى بوحي منه.. القسم الثاني: الرؤيا الصادقة. وفي قصص الأنبياء كثير من حوادث الرؤيا الصادقة منها قصة إبراهيم مع ابنه إسماعيل: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} 4. النوع الثاني: يستخلص من قول الله تعالى: {أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} وقد حصل لسيدنا موسى -عليه السلام- إذ كلم الله موسى تكليما من غير واسطة، ولم يره موسى. قال تعالى: {وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} 5. النوع الثالث: أن يرسل الله ملك الوحي جبريل عليه السلام إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فيوحي إليه ما أمره أن يوحيه، ويحصل له علم ضروري بأنه ملك الوحي يبلغه عن الله تعالى وهذا النوع يستخلص من قوله تعالى: {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} وقد حصل هذا لسيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- ولجميع الرسل قال تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى

_ 1 التفسير الكبير: 4/ ص115. 2 روح المعاني: 2/ ص30. 3 المنار 3/ 60. 4 الصافات: 102. 5 النساء: 164.

لِلْمُؤْمِنِينَ} 1. ومن الوحي بغير واسطة ما ألقاه الله تبارك وتعالى على النبي -صلى الله عليه وسلم- ليلة الإسراء والمعراج من أمره بالصلاة.. نزول القرآن الكريم بواسطة جبريل: أنزل الله القرآن الكريم بواسطة الملك جبريل على محمد -صلى الله عليه وسلم- في اليقظة، قال الله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} 2. وقال: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَّبِّكَ بِالْحَقِّ} 3. وأطلق عليه اسم روح القدس، والروح الأمين لأنه كان يتنزل بما يحيي موات القلوب فهو بمثابة الروح، ويرى الرازي: أن إضافة الروح إلى القدس في الآية لأنه مجبول على الطهارة والنزاهة من العيوب، وروحانيته أتم وأكمل من سائر الملائكة فخص بهذه الإضافة دونهم. ويرى الراغب الأصفهاني: أنه خص بذلك لاختصاصه بالنزول بالقدس من الله تعالى. أي بالنزول بما يطهر به نفوسنا من القرآن والحكم والفيض الإلهي. وهذا أرجح لتعلقه بأمر ظاهر في مهمته4. أساليب اتصال جبريل عليه السلام بالرسول صلى الله عليه وسلم: لقد اتصل جبريل بالرسول -عليه الصلاة والسلام- بأساليب شتى منها: 1- ظهر جبريل للرسول -صلى الله عليه وسلم- بصورته الملكية الحقيقية مرتين: الأولى: يوم أن جاءه الوحي لأول مرة في غار حراء. وقال له "اقرأ". والثانية: حينما عرج به ليلة الإسراء والمعراج، إلى السموات السبع،

_ 1 سورة البقرة: 96. 2 سورة الشعراء: 193. 3 سورة النحل: 102. 4 الرسالة والرسول للدكتور نور الدين العتر ص67.

عند جنة المأوى، قال تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى، مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى، وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى، عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى، ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى، وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى، ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى، فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى، فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى، مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى، أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى، وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى، عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى، إِذْ يَغْشَى الْسِدْرَةَ مَا يَغْشَى، مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} 1. 2- كان الوحي يأتيه من الملك صوتا مدويا قويا يشبه صلصلة الجرس يقرع سمعه قرعا، ويحيط به الصوت من كل مكان, قال عليه الصلاة والسلام: "أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشد علي فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال".. 3- أن يأتيه الملك بصورة رجل عادي. وفي هذه الحالة كان الصحابة الكرام يرون شخصًا أمامهم لا يعرفونه وليس عليه أثر من سفر فيسأل الرسول -صلى الله عليه وسلم- ويصدقه، فيعجبون لسائل يسأل ثم يصدق المجيب. 4- وقد يلقي الملك في فؤاد الرسول -صلى الله عليه وسلم- وعقله معنى خاصًّا من غير أن يرى أو يسمع. قال عليه الصلاة والسلام: "إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ولا يحملن أحدكم استبطاء الرزق أن يطلبه بمعصية الله فإن الله تعالى لا ينال ما عنده إلا بطاعته..". خصائص الوحي: إن للوحي خصائص يتميز بها وهي توضح جليًّا أن الوحي من عند الله وليس للنبي المصطفى إرادة في حصوله وأهم هذه الخصائص هي: 1- أنه حدث مفاجئ، يطرأ على حياة النبي من غير تشوف إليه أو تطلع له وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غار حراء يتحنث حينما فاجأه الوحي وغطه ثلاثا، حتى

_ 1 النجم: 1-17.

كادت أضلعه تختلط ثم تركه فرجع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خائفا وجلا يحدث السيدة خديجة -رضي الله عنها- بما أصابه، فذهبت به إلى ورقة بن نوفل لتستطلع الخبر وتستفسر عما حصل له صلى الله عليه وسلم. 2- أنه حدث إلزامي: وتتجلى إلزامية الوحي بمظهرين: المظهر الأول تغير الحالة العادية للرسول -صلى الله عليه وسلم- وذلك باحمرار الوجه وانصباب العرق من جبينه وثقل جسمه حتى أن الدابة تبرك على الأرض. والمظهر الثاني: تغير الأحوال النفسية من حالة الهدوء إلى الخوف الشديد وبخاصة في أثناء التلقي الأول. 3- إن الوحي مستقل عن ذات الرسول -صلى الله عليه وسلم- وشخصه: ويدل على هذا أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا يستطيع استحضار الوحي وقد غاب عنه فترة طويلة بعد أن جاءه الملك في غار حراء لأول مرة. 4- حصول الوحي وفق الاصطفاء الإلهي: إن الوحي أمر اصطفائي إلهي لا دخل لجهد الإنسان فيه ولا لنسبه ولا لسعيه ولا لترقبه الروحي أو سموِّه الخلقي.. وإن الله سبحانه اختص برحمته من يشاء من الأنبياء والرسل. قال الله تعالى: {وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} 1. ومما يتصل بمسألة الإيمان بالنبوة الإيمان بالمعجزة.. المعجزة: هي حادثة خارقة للعادة والقوانين التي يلاحظها الناس وتحصل المعجزة تأييدا لنبوة النبي، وتنقسم المعجزة إلى قسمين: معجزة مادية ومعجزة معنوية.. وليست المعجزة بأعجب من خلق السموات والأرض ومن فيهن وما بينهن إذ إن المعجزة حادث مفرد، والذي قدر أن يخلق كل ما في الكون قادر على إيجاد حادثة مغايرة للمألوف السمعي والبصري أو المعنوي.

_ 1 سورة البقرة: 105.

ومن المعجزات المادية التي تحدث عنها القرآن الكريم: ناقة صالح، قال الله تعالى: {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ، مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ، وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ} 1. ومنها تحول عصا موسى وهي جماد إلى حية تسرع المشي في الأرض.. قال تعالى: {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ, قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ, قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ, فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ, وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} 2. ومنها معجزات عيسى عليه السلام: وقد حدثنا القرآن عنها بقوله تعالى: {..أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ} 3. وأما المعجزات المعنوية فهي أقوى أثرا، وأدوم بقاء من المعجزات الحسية وأهمها القرآن الكريم الذي نزل على خاتم المرسلين بلسان عربي مبين. معجزات رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم: لقد أجريت على يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معجزات مادية كثيرة ورد ذكر بعضها في القرآن الكريم وهي: 1 الإسراء من مكة إلى القدس في ليلة واحدة، {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} 4. 2- المعراج إلى السموات العليا في ليلة واحدة أيضا: {وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى، عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى، إِذْ يَغْشَى الْسِدْرَةَ مَا يَغْشَى، مَا زَاغَ

_ 1 الشعراء: 153-156. 2 سورة الشعراء: 29-33. 3 سورة آل عمران: 49. 4 سورة الإسراء: 1.

الْبَصَرُ وَمَا طَغَى، لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} 1. 3- تنبؤه بانشقاق يظهر على سطح القمر، وهي ظاهرة سماوية وقعت فعلا بعد تنبئه بها مباشرة وشاهدها الناس الذين كان يخاطبهم: {اقْتَرَبَتِ الْسَاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} 2. 4- معجزة النصر على جيوش أعدائه، وكان النصر مؤزرا بتأييد الملائكة وقتالهم في صفوف المسلمين على الرغم من قلة عددهم: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى} 3 , {أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ} 4, {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} 5. 5- تنبؤاته وهو في حال الضعف المادي الشديد بالانتصار على كفار مكة وانقراض دولتي فارس والروم.. وكثير غيرها من المعجزات التي ورد ذكرها في السنة النبوية. وكان أهم تلك المعجزات وأعظمها أثرا المعجزة العقلية المعنوية التي أنزلها الله تبارك وتعالى على خاتم الأنبياء والمرسلين ألا وهي الكتاب الخالد.. والقرآن الكريم في واقع الأمر يتصل اتصالا وثيقًا بماهية الرسالة الإسلامية ويعتبر ركنًا أساسيًّا من أركانها، وجانبا حيويًّا من جوانبها، وهو معجزة باقية على الدوام والاستمرار، والقرآن الكريم يخاطب العقل البشري ويعتمد على القناعة المنطقية والذوق النفسي والفطرة السليمة والضمير المتيقظ. الإعجاز في القرآن الكريم ووجوهه: الإعجاز في اللغة العربية: نسبة العجز إلى غيره وإثباته له، وقد أعجز القرآن الناس بلغاءهم وفصحاءهم، وأدباءهم وحكماءهم، وعلماءهم

_ 1 سورة النجم: 13-18. 2 القمر: 1. 3 الأنفال: 17. 4 الأنفال: 9. 5 الأنفال: 11.

ومفكريهم عن الإتيان بآية تماثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا وسيبقى القرآن الكريم شامخا لا يدانيه فكر ولا قول مهما سما وتأنق. قال تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} 1. {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} 2. {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 3. {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} 4. {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ، فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} 5. والقرآن الكريم تحدى بإعجازه الناس ليكون حجة وإثباتا لنبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- وليبطل دعوى من ادَّعى بأنه من وضع بشر، فلسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا عربي مبين، فهو كتاب الله المنزل هدى ورحمة للعالمين. وهو لم ينزل جملة واحدة، بل نزل مفرقا في ثلاث وعشرين سنة لحكم جليلة أرادها رب العباد، ومن هذه الحكم الإعجاز في زمن التنزيل فهناك متسع زمني لمن أراد أن يعارض القرآن فليعارضه لو كان بمقدوره، وليستعن بمن شاء من الكهان وأهل الكتاب. ولما تبين للكافرين عجزهم عن الإتيان بمثله مع شدة حرصهم وتوفر

_ 1 سورة القصص: 49، 50. 2 سورة الإسراء: 88. 3 سورة هود: 13. 4 سورة البقرة: 23-24. 5 سورة الطور: 33-34.

دواعيهم، وانتفاء ما يمنعهم لجئوا إلى محاربة الرسول -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين المؤمنين بدل المعارضة، وائتمروا على قتله -صلى الله عليه وسلم- بدل الائتمار على الإتيان بمثل القرآن اعترافا منهم بعجزهم عن المعارضة والتسليم بأن القرآن فوق مستوى البشر. وجوه إعجاز القرآن الكريم: ولكن لماذا عجز الناس عن الإتيان بمثل آية منه، وما هي وجوه الإعجاز؟ اتفقت كلمة العلماء على أن القرآن لم يعجز الناس عن أن يأتوا بمثله من ناحية واحدة معينة، وإنما أعجزهم من نواح متعددة: لفظية ومعنوية وروحية تساندت وتجمعت فأعجزت الناس أن يعارضوه، واتفقت كلمتهم أيضا على أن العقول لم تصل حتى الآن إلى إدراك نواحي الإعجاز كلها وحصرها في وجوه معدودات، وأنه كلما زاد التدبر في آيات القرآن، وكشف البحث العلمي عن أسرار الكون وسننه، وأظهر كر السنين عجائب الكائنات الحية وغير الحية، تجلت جوانب جديدة من جوانب إعجازه وقام البرهان على أنه من عند الله1. وقد ألفت في "إعجاز القرآن" مؤلفات قيمة أشهرها: 1- الإتقان في علوم القرآن للسيوطي2. 2- معترك الأقران في إعجاز القرآن للسيوطي. 3- إعجاز القرآن للباقلاني3. 4- رسائل في إعجاز القرآن مكونة من ثلاث مجموعات: الأولى: النكت في إعجاز القرآن للرماني4. الثانية: بيان إعجاز القرآن لأبي سليمان عمر بن محمد الخطابي5.

_ 1 انظر علم أصول الفقه للأستاذ عبد الوهاب خلاف ص 27. 2 المتوفى سنة 911هـ. 3 المتوفى سنة 403هـ. 4 المتوفى سنة 386هـ. 5 المتوفى سنة 388هـ

الثالثة: الرسالة الثانية في الإعجاز لعبد القاهر الجرجاني1. 5- أحكام القرآن لابن العربي وأود أن أشير هنا إلى أهم جوانب الإعجاز في كتاب الله العظيم. 1- العلوم المستنبطة من القرآن الكريم: جمع القرآن الكريم من العلوم والمعارف ما لم يأت به كتاب من الكتب، وجاء بأصول العقيدة والعبادة، وأساسيات النظم المتكاملة للحياة الاجتماعية الداخلية، والأنظمة السياسية. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} 2 , وقوله جل من قائل: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلَّ شَيْءٍ} 3. وقد استنبط الصحابة والتابعون وتابعوهم من القرآن الكريم مجموعة من العلوم والفنون، فقد اعتنى النحاة بالمعرب والمبني وغير ذلك مما يتعلق بعلم النحو، وكان القرآن الكريم أساسا يعتمد عليه في وضع قواعد اللغة العربية. كما اعتنى المفسرون بدراسة ألفاظه وبيان معانيها ودراستها دراسة دقيقة عميقة. وعني علماء العقيدة بما ورد في القرآن الكريم من أدلة عقلية. وشواهد أصلية ونظرية، وبراهين منطقية مثل قول الله تبارك وتعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلاَّ اللهَ لَفَسَدَتَا} 4. ونظرت طائفة من العلماء في معاني الخطاب، وفي جمال اللفظ وروعة بيانه وعظيم فصاحته ودقة عبارته وجلال أسلوبه، فأسسوا علم البلاغة والبيان. واتجهت طائفة إلى دراسة الأوامر والنواهي، فنشأ من ذلك علم الفقه.

_ 1 المتوفى سنة 471هـ. 2 سورة الأنعام: 38. 3 سورة النحل: 89. 4 سورة الأنبياء: 22.

واتجه علماء الاقتصاد لاستنباط الأحكام الأساسية لهذا العلم، فبينوا موارد بيت المال ومصارف الزكاة، ونظام الفيء والغنيمة، وعلى هذا الضوء انتظم علم الاقتصاد الإسلامي. ونظر علماء الحضارة الإسلامية إلى القرآن الكريم فاقتبسوا منه أسس الدولة الإسلامية، وهيكل الحضارة من سياسة ونظم إدارية ودستورية واجتماعية وعسكرية وأخلاقية، وعلاقات دولية. واتجه علماء السيرة إلى القرآن الكريم فاستنبطوا منه أسس السيرة ودعائم التاريخ. وتدارس قوم ما في القرآن الكريم من حكم وأمثال ومواعظ فنشأ من ذلك علم الخطابة والدعوة. وذهبت طائفة إلى كتابة آياته وتحسين الخط فنشأ من ذلك علم الخط. وتلقي القرآن بالتواتر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فوضع لذلك علم التجويد أو فن الترتيل، ووجدت قواعد تضبط نطقه ولفظه. وهكذا فقد نشأت علوم كثيرة مستقاة من القرآن الكريم فضلا عن علم الفرائض والفلك، والمواقيت والحساب1 وغيرها كثير. 2- كونه محفوظا على مر الزمان. من الأدلة القوية والبراهين الثابتة على إعجاز القرآن الكريم أن الله تعالى حفظه من التغيير والتبديل والتحريف مع طول الزمن وكثرة الأعداء قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الْذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 2. 3- الأسلوب والفصاحة والفواصل إن لألفاظ القرآن الكريم روعة أيما روعة، وإن لاتصال جمله والتئام كلمه قوة وهيبة وبلاغة خارقة، وأسلوبا جليلا عظيما.

_ 1 انظر معترك الأقران في إعجاز القرآن للإمام السيوطي رحمه الله. 2 سورة الحجر: 9.

إنه لم يشبه أساليب العرب السابقة، ولم يشبهه أسلوب لاحق، وقد أعجز العرب وهم أئمة البلاغة والبيان، وأمراء الفصاحة والجزالة، وسادة الشعر والنثر وقد حاولوا أن يعارضوه فوقفوا مغلوبين على أمرهم مقهورين، مقرين معترفين بجلال القرآن وعظمته وأنهم عاجزون عن الإتيان بآية من آياته. ومن أهم هذه البلاغة: أ- استعمال القرآن الكريم للمجاز في آيات كثيرة، نضرب أمثلة على ذلك: قوله تعالى: {يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} 1. فالآية نسبت الفعل إلى الظرف وهو اليوم، وجعلته فاعلا متحركا ينبض بالحياة والحيوية، ليزيد تأثير اللفظ في القلب، ويمسك بجماع اللب والفؤاد. وقوله تعالى: {عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} 2, والمراد أن العيشة مرضية وقوله سبحانه: {فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ} 3, أي عزم عليه. وقوله جل شأنه: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} 4, أي فما ربحوا فيها. ب- التشبيه: إن التشبيه من أجود أنواع البلاغة ومن أشرفها وأعلاها، والغاية منه تأنيس النفس وتقريب البعيد وإظهار الخفي، ومن هذه الصور الرائعة قول الله تبارك وتعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} 5. وقوله: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ} 6. جـ- الاستعارة: وهي مزج المجاز بالتشبيه، فهي مجاز علاقته المشابهة وهي

_ 1 المزمل: 17. 2 الحاقة: 21. 3 سورة محمد: 21. 4 البقرة: 16. 5 البقرة: 74. 6 إبراهيم: 18.

عند بعضهم: أن تستعار الكلمة من شيء معروف بها إلى شيء لم يعرف بها، وحكمة الاستعارة إظهار الخفي، وإيضاح الظاهر الذي ليس بجلي، أو حصول المبالغة. ومن أمثلة إظهار الخفي قوله تعالى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ} 1, أي في أصل الكتاب. ومن أمثلة إيضاح ما ليس بجلي: قوله تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} 2, والمراد: أن يطيع الولد والديه بإظهار الخضوع والمذلة رحمة بهما، فاستعير للذل جانبه ثم استعير للجانب جناح. د- الكناية والتعريض: مثال ذلك قول الله تعالى: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} 3. وقوله: {أَوَ مَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} 4. هـ- الأمثال في القرآن الكريم: والأمثال قسمان: قسم ظاهر مصرح به، وقسم آخر لا ذكر فيه للمثل. ومن الأول قول الله تبارك وتعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} 5. وقوله: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} 6. {الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ} 7. {قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} 8.

_ 1 الزخرف: 4. 2 الإسراء: 24. 3 البقرة: 197. 4 الزخرف: 18. 5 الرعد: 17. 6 الأعراف: 57. 7 يوسف: 51. 8 يوسف: 41.

{أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} 1. {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ} 2. {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} 3. {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} 4. ومن الأمثال الكامنة قوله تعالى: {لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} 5. {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} 6. {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} 7. وغير ذلك من أوجه البلاغة: كالحصر والإطناب، والإيجاز والبسط، والإيغال والتذييل، والإرداف والتمثيل، مع جمال وإبداع وكمال8. 4- افتتاح السور بالحروف المقطعة مثل: {أَلم} ، {ألر} ، {كهيعص} ، {طس} ، {ن} ، فهي لدى بعض المفسرين نوع من أنواع تحدي الكافرين، وتوجيه الخطاب إليهم للدلالة على أن القرآن الكريم مؤلف من هذه الحروف العربية، ومع ذلك فقد أعجز البلغاء والفصحاء، وأئمة اللغة وأرباب البيان، عن أن يضاهوه ولو بآية واحدة. 5- مناسبة آياته وسوره وارتباط بعضها ببعض فإننا لا نجد في الآيات القرآنية على كثرتها، وطول الفترة التي استمر نزول القرآن فيها، وتباعد أولها عن

_ 1 هود: 81. 2 فاطر: 43. 3 النساء: 19. 4 البقرة: 216. 5 البقرة: 68. 6 الفرقان: 67. 7 الإسراء: 29. 8 انظر البرهان للزركشي، وإعجاز القرآن للسيوطي، وأحكام القرآن لابن العربي، ومعترك الأقران للسيوطي.

آخرها، ما يناقض بعضها بعضا أو يعارض أولها آخرها. 6- انقسام الآيات إلى محكم ومتشابه ولعل من أشهر أقوال المفسرين: إن المراد بالمحكم ما عرف المقصود منه إما بظهوره وإما بتفسيره وتأويله والمتشابه ما استأثر الله بعلمه، كقيام الساعة، ويأجوج ومأجوج.. ولعل الحكمة من وجود المتشابه في القرآن الكريم ترجع إلى سببين: أولهما حث العلماء على النظر فيه للعلم بغوامضه والبحث عن دقائقه. الثاني: أن يعرف الناس أقدارهم من المعرفة والعلم. فإن الإنسان مهما بلغ من منزلة علمية رفيعة، ودرجة عالية من المعرفة فإن علمه لا يحيط بكل شيء، لذلك لا بد من الإذعان لله سبحانه الذي وسع علمه كل شيء قال سبحانه: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} 1. 7- هيبة القرآن الكريم وروعته: يحظى القرآن الكريم بروعة بليغة، وهيبة عظيمة تستشعرها النفوس عند سماع الآيات الكريمة أو عند تلاوتها، وهذا الإحساس ليس خاصا بالمؤمنين بل هو عام يدركه كل من يتمتع بعقل واسع، وفكر نير، وحس مرهف. وذلك لما يتضمن كتاب الله من وعد ووعيد، وترغيب وترهيب, وتذكير بالنشأة والمصير، وذكر للموت والبعث، والنشور والحساب, والجنة والنار. وقد صنع القرآن الكريم في النفوس التي تلقته وتكيفت به أكثر من تسيير الجبال وتقطيع الأرض وإحياء الموتى، لقد صنع في هذه النفوس فوارق أضخم وأبعد آثارا في أقدار الحياة وإن طبيعة هذا القرآن ذاتها، طبيعته في دعوته وفي تعبيره، وفي موضوعه وأدائه..إن طبيعة هذا القرآن لتحتوي على

_ 1 آل عمران: 7.

قوة خارقة نافذة يحسها كل من له ذوق وبصر وإدراك للكلام واستعداد لإدراك ما يوجه إليه ويوحى به. 8- تأثيره في النفوس: ومن وجوه إعجاز القرآن الكريم تأثيره في النفوس، المؤمنة منها والكافرة، فكل من يصغي لتلاوة الآيات بتدبر وفكر يزداد إيمانه بهذا الكتاب العظيم المعجز البليغ، ويحس بالقشعريرة تسري في عروقه، وبالخشية تملك إحساسه ووجدانه.. وقد أثر هذا القرآن العظيم في نفوس كثيرة فنقلها بأسرع من لمح البصر من الفظاظة والخشونة، والجفوة والقسوة إلى اللين والخوف، والمحبة والرقة، وما آمن عمر بن الخطاب حتى سمع آيات من كتاب الله فأشرقت روحه إيمانا، وامتلأ قلبه طمأنينة. استمع الجن إلى القرآن الكريم فآمنوا بوحدانية الله تعالى وقالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا، يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا، وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا} 1. وليس هذا التأثير قاصرا على المؤمنين بل يحسه الكافرون، ولكن الضلال يطمس على بصيرتهم وأفئدتهم، فلا يرون الحق حقًّا، وهذا ما حدث للوليد ابن المغيرة حينما قرأ عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- آيات من سورة فصلت: {حَم، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ، وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ، قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ، الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} إلى آخر الآيات ... فاضطرب الوليد اضطرابا شديدا وناشد الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يكف عن القراءة ثم ذهب إلى قومه، وقال: سمعت كلاما والله ما سمعت مثله، ليس هو بالشعر ولا

_ 1 سورة الجن: 1-3.

بالنثر، إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أدناه لمغدق1. هذه هي بعض وجوه الإعجاز، وهناك غيرها كثير مما يحتاج إلى أبحاث خاصة يضيق بها المقام هنا. أثر الرسل في تربية الأفراد والمجتمعات: إن الغاية المثلى من إرسال الرسل والأنبياء دعوة الناس إلى إفراد الله بالعبادة، وإخراجهم من ظلمات الاختلاف والتخاصم في العقيدة، وفي النظم المعاشية إلى هدى الله وشريعته ومنهجه المتسم بسمات الكمال والاستقلال والخلود، وإن هذا الهدف العظيم وتلك الغاية السامية لا تتحقق ما لم يكن هناك رجال يطبقون الرسالة والمبدأ على واقع الحياة، وفي كل الظروف وفي مختلف الأحوال، وإذا لم يرافق الرسالة رسول، بقي المبدأ بعيدا عن الواقع، غير مطبق في الحياة، وبقيت الرسالة مجرد نظرية علم ومعرفة فقط.. ومن هنا برزت ضرورة شديدة وظهرت حاجة ماسة إلى وجود الأنبياء والرسل، وهم خير من ينفذون أوامر الله تعالى، وهم خير من يقومون بشرع الله، وهم المصطفون الأخيار البررة الأتقياء. وقد كان رسل الله -على اختلاف أزمانهم- قدوة ممتازة استطاعت أن تجعل من مكارم الأخلاق وصالح الأعمال وفضائل النفوس حقائق واقعية متحركة. وقد كان المصطفى المختار محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام يؤم الناس في الصلاة ويقول: "صلوا كما رأيتموني أصلي" ويحج مع الحجيج ويقول: "خذوا عني مناسككم" وكان -صلى الله عليه وسلم- يفعل ما يؤمر به، وينتهي عما يُنهى عنه، وحرم الربا وقال: "أول ربا أضعه ربا العباس"، وكان -صلى الله عليه وسلم- يعقد الألوية للجهاد ويخرج مع المجاهدين، وكان يقابل الوفود ويدعوهم للإسلام ويرسل الكتب إلى رؤساء الدول والشعوب، وكان -صلى الله عليه وسلم- زوجا يحسن معاملة أزواجه يقول: "من رغب عن سنتي فليس مني" وكان يعطف على الصغار ويقبلهم ويقول: "من لا يرحم لا يُرحم" وكان -صلى الله عليه وسلم- سياسيًّا فَطِنًا حَذِقًَا، يوقع المعاهدات

_ 1 سيرة ابن هشام: ج1 ص289، 313، 314، وانظر السيرة النبوية لابن كثير: ج1 ص498.

إذا لزم الأمر، ويؤمن الناس إذا اقتضت المصلحة.. وحينما هاجر -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة أسس مجتمعًا مثاليًّا راقيا يفوق كل المجتمعات الإنسانية علما وثقافة، وخلقا وأدبا، وقوة وتقى، وصدقا ومحبة، وإخاء وعدلا، ووفاء ومراعاة للعهود والآمانات والمواثيق. وعلى هذا فالأنبياء ليسوا فلاسفة يحلمون في مدن فاضلة، ويضعون خططا لرؤى خيالية ومجتمعات عاجية، كلا وإنما هم رجال اختارهم الله لحمل الأمانة ودعوة الناس، وقيادة الأمة وإصلاح أوضاع البشرية، وليست الرسالة مجرد أفكار هائمة أو مبادئ تتردد في رءوس الكبار والعظماء، وإنما هي نظام كامل شامل لبناء الفرد السوي، الفرد الواعي العاقل المتفاعل مع الحياة، الإيجابي الذي يغير من السوء إلى الحسن ومن الشر إلى الخير ومن الرذيلة إلى الفضيلة وهي نظام شامل متكامل لبناء الجماعة المؤمنة التي رضيت الله ربًّا، والقرآن دستورا، والإسلام دينا، وقد كان الرسل يدعون للإيمان بأركان الإيمان وهم أشد الناس إيمانا وتصديقا. قال الله تعالى: {آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَّبِهِ} 1. وقال سبحانه: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} 2. وقال: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 3. ختم النبوة والرسالة برسالة محمد صلى الله عليه وسلم: إن مهمة الرسل مهمة سامية ونبيلة فهم الذين يبلغون أمر الله إلى الناس، ويخبرون عن المغيبات اليقينية التي لا بد من الإيمان بها والتسليم لها بما أعلمهم الله وبما أطلعهم على الغيب وبما اصطفاهم بوحي ومعرفة. قال جل من قائل:

_ 1 البقرة: 284. 2 الصف: 6. 3 البقرة: 132.

{وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} 1. وهناك أسباب كثيرة اقتضت تعدد الأنبياء والمرسلين منها: اختلاف البيئات والظروف، فما ناسب أقواما وأناسا في ظروف معينة وبيئات محددة قد لا يناسب غيرهم في بيئات أخرى وظروف مغايرة، ومنها تطور إدارك البشرية فما يدركه المتأخرون قد لا يعلمه المتقدمون، وما يسهل على المتأخرين قد يصعب على المتقدمين، لأن الإنسان بطبعه يرث العلم ويضيف عليه وينميه ويطوره، فهو في ارتقاء مستمر، والعقل الإنساني في تفتح دائم وحركة دائبة وتفاعل متواصل وإنتاج مستمر ووعي متزايد، وتدرج في مدارج الكمال والعرفان. ومنها تأييد النبي لنبي آخر، وتأييد الرسول لرسول آخر ليكون هذا أدعى إلى إثبات الرسالة، وإقامة الحجة على المرسل إليهم. ومنها: أن تعاليم النبي الأول قد يعفي عليها الزمان، وتُمحى آثارها من الحياة البشرية، ويعودون كفارا يضرب بعضهم رقاب بعض وكأنه لم يكن ثمة رسول ولا رسالة. ومنها أن تكون شريعة نبي من الأنبياء محصورة في قوم معينين فتتوالى بعثة الأنبياء والرسل إليهم خاصة ليقوى البرهان. ولتثبت الأدلة أمامهم فيستسلمون لها ويعترفون بها، ومن ثم فإنهم يحملون تعاليم الأنبياء ويشيعونها فيما بينهم، ويأمر بعضهم بعضا بالمعروف وبطاعة المرسلين والأنبياء. الأمر الذي يستدعي وجود رسالة عامة جامعة موجهة إلى البشرية قاطبة، غير محصورة في قوم أو في بيئة معينة وبهذا تقوم الحجة على البشرية كافة، وعلى أولئك القوم بخاصة ليظهر موقفهم من الرسالة العامة. كل هذه الأسباب استدعت تعدد إرسال الأنبياء والمرسلين، ولكن بعد أن وصل العقل البشري إلى أقصى مرتبة من الوعي والنضج، وإلى أعلى مراتب الإدراك والفهم، وعلم العلم اليقيني أن طاعة الأنبياء والرسل ضرورة مهمة لنجاته من الهلاك المحتم فلزم وارتدع، انتهت تلك الحاجة بعد رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى

_ 1 الأنعام: 48، الكهف: 59.

إرسال الرسل، واستقر الوضع واتبع الناس تعاليم خاتم الأنبياء -صلى الله عليه وسلم. يؤيد هذا أن رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- لم تكن خاصة بل كانت عامة سواء {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} 1, وكانت رسالته للبشر وللجان سواء {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا، يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} 2. وقد تعهد الله سبحانه -تفضلًا منه- بحفظ هذه الرسالة بما حفظ قرآنها وكتابها فقال جل من قائل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 3, فكانت رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- خالدة ما بقيت الحياة، وكانت التعاليم الإسلامية ماثلة في النفوس المؤمنة بها، مطبقة في واقع الحياة. وفضلًا عن هذا وذاك، فإن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم -محافظة على صحتها من بين الرسالات- قد سلمت من التصحيف والتغيير، والتعديل والتبديل، فنحن واثقون بأن كل حرف من حروف القرآن الكريم، وكل كلمة من أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كل تحرك من تحركاته المباركة، محفوظة كما أرادها الله وكما أنزلها، وكما وضحتها السنة النبوية والسيرة العطرة. وأخيرا فإن رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- رسالة شاملة لكافة مجالات الحياة، العقيدية والعبادية والسياسية والإدارية والاجتماعية.. وشريعة صبغت بصبغة الشمول والعموم، شريعة خالدة خصبة ثرية تغني عن غيرها ولا يغني غيرها عنها. كل هذه السمات التي تتسم بها نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- من العموم والخلود والشمول والكمال والصحة تبرهن على ختم الرسالات السابقة برسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى بقوله: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} 4. ولهذا فلا تنتظر البشرية اليوم مجيء نبي ولا رسالة، فقد ختمت النبوات

_ 1 الأعراف: 158. 2 سورة الجن: الأولى. 3 الحجر: 9. 4 الأحزاب: 40.

والرسالات، وهي ليست بحاجة إلى رسالة لاكتافئها برسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- ولكنها بحاجة إلى رجال يتبعون النبي -صلى الله عليه وسلم- ويحملون دعوته وينشرونها بين الناس، ويعملون بهديه -صلى الله عليه وسلم- ويدعون إلى اتباعه ويقيمون في الأرض دولة الإسلام على ضوء تعاليم خاتم المرسلين, صلى الله عليه وسلم. الإيمان بالآخرة: الإيمان باليوم الآخر مفتاح سعادة الإنسان وسر يقينه وهو الرباط الوثيق بين العمل والجزاء، بين الصبر والفرج، بين التحمل والإنعام به يشعر المؤمن أنه لم يخلق عبثًا، وأنه ليس شيئًا مهملًا، كيف؟ والعدالة الإلهية تنتظره والنعيم الأبدي يترقبه، فيطمئن قلبه وترتاح نفسه وتسر بلابله ويصبر ويتحمل ويبذل النفس والنفيس في سبيل دعوته ومن أجل إعلاء شأنها. والإيمان بالآخرة ضابط لكل أعمال الإنسان ورقيب على كل تصرفاته فهو في كل ما يقول وفي كل ما يدع وفي كل ما يعمل يشعر بجلال ذلك الموقف العظيم الوقور, يوم ينادي عليه من بين الخلائق وأمام الأشهاد وعلى مرأى من أعين الناس عظيمهم وحقيرهم ينادي عليه.. فيلبي ويستجيب وهل يستطيع حينذاك أن يكتم الله حديثًا؟ أو أن يتستر على عيب أو نقص أو زلة أو خطيئة أو معصية مات عنها قبل أن يتوب منها؟ يا لهول ذلك المشهد، ويا لعظمته! إنه يأخذ الأنفاس فإذا بها تلهث خوفًا؟، ويمتلك الأفئدة فإذا بها تطير رعبًا.. إن الإيمان باليوم الآخر حقيقة يفرضها العقل البشري فرضًا، ذلك لأن حياة المرء في الدنيا حياة محدودة الزمن صغيرة المدى إذا ما قيست بالعمر الزمني المديد للكون، وقد لا تتسع هذه الحياة لأن ينال المسيء جزاءه، بل قد يفلت من العقوبة بتكتمه وتستره على نفسه، أو لأنه رجل قوة وجبروت وسلطة وغلبة.. فهل يعقل أن تفوت حياته كلها من غير أن يُؤخذ على يديه؟ أم أنه من المنطق السليم أن تكون هناك حياة أخروية تتسع لما ضاقت عنه الأولى؟ أو ليس من العدل والحكمة وجود تلك الحياة الثانية؟ وكذلك قد يقضي إنسان حياته كلها مجاهدًا طائعًا تقيًّا نقيًّا متحملًا العذاب والإيذاء، والحقد والحرب الشديدة في سبيل دعوته.. ثم ينتهي أجله قبل أن

ينال شيئًا من الجزاء، وحتى من بهجة النصر، وفرحة الغلبة والعزة للدعوة.. فهل يعقل أن يذهب هذا الإنسان سدى من غير ثواب، من غير تكريم؟ إن العدالة المطلقة تقتضي وجود يوم آخر ينسيه ألمه وعذابه، وينقله إلى النعيم الأبدي الذي لا يزول، وقد مر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على آل ياسر وهم يعذبون أشد أنواع العذاب، فحرك فيهم المنطق الفطري السوي، والإيمان القوي بيوم الدين، ووعدهم بالجزاء العظيم والثواب الكبير يوم يكون الأمر كله لله. إن بعث الأحياء بعد الموت ليس بعزيز على الله تعالى الذي أوجدهم من العدم، أو ليس الإعادة أسهل من الإبداع؟ قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 1, يستدل القرآن على إمكان البعث بالخلق الأول، ويستدل عليه أيضًا بمظاهر الإماتة والإحياء في عالم النبات قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ, ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ, وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} 2. ويستدل القرآن الكريم على إمكان البعث بخلق السموات والأرض وهي أعظم خلقة من بني آدم. قال تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ} 3, {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 4.

_ 1 الروم: 27. 2 الحج: 5-7. 3 يس: 81. 4 الأحقاف: 33.

وبعد بعث الناس من قبورهم يكون الحساب الدقيق والميزان العادل: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} 1، {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} 2. والجنة دار الخلد والنعيم أعدها الله تعالى لعباده الصالحين المؤمنين، قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الحديث القدسي: "أعددت لعبادي الصالحين، ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر" 3 , واقرءوا إن شئتم قول الله تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 4. والنار دار الفجار من الخلق، وهي تجمع العقوبة الحسية المادية والروحية المعنوية. نسأل الله جنته ونعوذ به من ناره. مزايا العقيدة الإسلامية: للعقيدة الإسلامية مزايا أساسية تميزها عن سائر العقائد التي شابها الشرك، أو خالطها الضلال والانحراف. وأهم هذا المزايا: 1- الوضوح: إن عقيدة التوحيد واضحة في أساسها وفي بنائها وفي مبادئها، إنها تقوم على مبدأ واضح، وهو أن ما نرى من كون ومن أفلاك سماوية ومن مخلوقات أرضية كلها من صنع الله تبارك وتعالى الذي تفرد بالكمال وبالإيجاد والخلق، سبحانه له الخلق وهو على كل شيء قدير. {بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} 5. والأنبياء عبيد لله ومخلوقون كسائر الناس تمامًا، يمتازون عنهم بالاصطفاء

_ 1 غافر: 17. 2 الأنبياء: 47. 3 أخرجه البخاري: 13/ 391 في التوحيد: باب قول الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} ومسلم "2824" في أول كتاب الجنة من حديث أبي هريرة. 4 السجدة: 17. 5 البقرة: 116.

الإلهي، وبتبليغ رسالة التوحيد للناس. 2- ملاءمتها للفطرة البشرية: إن الإسلام عقيدة وشريعة ومنهاج حياة موافق للفطرة السوية الصافية، بل إن الإنسان يبقى حائرًا قلقًا مضطربًا نفسيًّا حتى يؤمن الإيمان الكامل بوجود الله ووحدانيته سبحانه وتعالى، فإذا وصل إلى هذه المرتبة وجد الأمن النفسي والراحة الداخلية والطمأنينة القلبية، قال الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 1. وقال الرسول الكريم, صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه" 2. ثمرات الإيمان: إن النتائج التي تترتب على الإيمان بوحدانية الله وبسائر أركان الإيمان كثيرة ومهمة. أشير إلى بعضها فيما يأتي: 1- الإيمان يشعر الفرد بكرامته ومكانته ومنزلته من الله تبارك وتعالى، الذي خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وصوره فأحسن صورته، وخلقه في أحسن تقويم، وأسجد له ملائكته، وميزه عن سائر المخلوقات بالإدراك والوعي، وبالتعلم والمعرفة، وبالإرادة والتفكير، والاختيار، وجعله خليفته في الأرض، ومحور النشاط في الكون، وسخر له ما في السموات وما في الأرض، وأسبغ عليه نعمًا جليلة عظيمة ظاهرة وباطنة. والمؤمن يحس بأنه قريب من الله تعالى دائمًا، لا يحتاج إلى وسيط يوصله به، ولا إلى وسيلة تقربه منه، ولا إلى حاجب يأذن له، ولا إلى حارس يسمح له، ولا إلى ملك يقربه من الله زلفى سوى العمل الصالح والنية الصافية، والإخلاص الصادق، قال الله تبارك وتعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي

_ 1 الروم: 30. 2 متفق عليه.

فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} 1 , فإذا ناداه سمعه، وإذا دعاه أجابه وقال سبحانه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} 2. وقال الرسول -صلى الله عليه وسلم- ويقول الله تعالى: "أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإذا ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، وإذا ذكرني في ملأ، ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلي شبرًا، تقربت إليه ذراعًا، وإن تقرب إلي ذراعًا تقربت إليه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة" 3. هذه المكانة التي يتمتع بها الإنسان لم يحظ بها أي مخلوق من مخلوقات الله حتى إن الملائكة وهم عباد مكرمون تشوقوا إلى هذه المكانة وهذه المنزلة الرفيعة العالية، ويتحدث القرآن الكريم عن تشوقهم هذا فيقول: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ، وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ، قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} 4. وكل ما في الكون من أرض ونبات، وشجر وزرع، وأنها وبحار، وأفلاك ونجوم، وكواكب وفضاء، مسخر للإنسان لينتفع به، ويتخذه ميدانا لنشاطه قال الله تبارك وتعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ، وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ

_ 1 سورة البقرة: 186. 2 سورة ق: 16. 3 أخرجه البخاري: 13/ 325، 328، في التوحيد , باب "ويحذركم الله نفسه"، من حديث أبي هريرة. 4 سورة البقرة: 30-33.

اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} 1, وقال: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} 2. وإذا شعر المؤمن بهذه المكانة وهذه الرفعة، سرت في نفسه معاني الكرامة والعزة بالحق، فلا يطأطئ رأسه لمخلوق، ولا يحابي جبارًا. ولا يداهن طاغية، بل ولا يستذله مال ولا منصب ولا جاه، ولا هوى نفس ولا شهوة عارمة، وإنما هو بإيمانه عزيز بما منحه الله من علم وكرامة. يقول كلمة الحق ولا تأخذه في الله لومة لائم. ولهذا نرى الرعيل الأول من المؤمنين كأمثال بلال الحبشي العبد تعلو نفسه وتعظم آماله ويتيه عزة، فلا يأبه بقسوة القساة، ولا بغلظة السادة الشرسين، ولا بعنفوان الجبابرة الطغاة الذي يفتنونه عن دينه، ويساومونه لينطق بكلمة الكفر.. وأنى لهم أن يحققوا مآربهم الدنيئة وقد تشربت روحه بالإيمان، وتيقظت في نفسه معاني العزة التي تدفعه إلى التضحية والثبات والتمسك بالحق أمام إغراء المغرين، وإفساد المفسدين وضلال المضلين.. فيثبت بلال ويزداد إيمانًا ويشعر أنه قد وصل إلى مرتبة أعلى وأعظم من أن ينال منه مشرك. وإن المستبدين الطاغين يستطيعون أن يعذبوا الجسم ولكنهم لن يصلوا إلى القلب العامر بكلمة التوحيد. وهكذا نجد النفس البشرية إذا صقلها الإيمان فإنها تتحرر من الذل. 2- الطمأنينة القلبية والسكينة النفسية وراحة البال وهدوء الجنان ثمرات طيبة للإيمان قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} 3. وقال: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} 4.

_ 1 سورة إبراهيم: 32-34. 2 سورة الجاثية: 12-13. 3 سورة الرعد: 28. 4 سورة الفتح: 4.

وإذا اطمأن القلب، وارتاحت النفس شعر المؤمن ببرد اليقين وحلاوة الإيمان وحسن الصلة بالله تبارك وتعالى، فاحتمل الآلام بثبات وشجاعة، وهانت عليه الخطوب مهما اشتدت، ورأى يد الله ممدودة إليه دائمًا، وأن عين الله ترعاه أبدًا، وأنه في حماية الله، وفي كنفه، وإذا ما ناله أذى فيسضاعف له الجزاء الحسن يوم القيامة. قال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 1. وبهذا يسمو الإنسان على الماديات ويرتفع عن الشهوات ويتعالى على لذائذ الدنيا ومتعها الزائلة غير المشروعة، ويرى أن الخير كل الخير في النزاهة والشرف الرفيع والنفس العالية الأبية وتحقيق القيم الصالحة، ومن ثم يتجه المؤمن اتجاهًا تلقائيًّا لخير نفسه ولخير أمته ولخير الناس جميعًا، أصل تصدر عنه الأعمال الطيبة الصالحة. قال جل ذكره: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} 2, وقال: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 3. وقد رسم القرآن الكريم نموذجًا لامرأة مؤمنة اطمأنت نفسها وسكن فؤادها وسارعت لتلبية أمر ربها الذي أوحى إليها أن تقذف ولدها في البحر، فاستجابت لدعوة الإيمان وصدقت بكلمات ربها ورسله قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} 4, وصدقها الله وعده فقال سبحانه: {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ

_ 1 سورة البقرة: 257. 2 سورة يونس: 9. 3 سورة الحج: 54. 4 سورة القصص: 7، 8.

وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} 1. 3- من ثمرات الإيمان الأمن والأمل، فالناس يخافون من أشياء كثيرة وأمور شتى، ولكن المؤمن سد أبواب الخوف كلها، فلم يعد يخاف إلا الله ولم يخش إلا عقابه، ولن يريعه إلا معصية يرتكبها، أو مأثم يفعله.. أما الناس فلا يخافهم ولا يخشاهم ما دام يؤدي حقوقهم ولا يعتدي على أموالهم أو شرفهم أو أنفسهم. وقد دعا إبراهيم قومه إلى التوحيد، فخوفوه بآلهتهم فتعجب من قولهم وحكى القرآن الكريم هذا الموقف بقوله: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} 2. وقال تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ, وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} 3. والمؤمن آمن على رزقه أن يفوت فإن الأرزاق بيد الله. قال سبحانه: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ، فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} 4. وقال جل من قائل: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} 5. وقال: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} 6. بهذه الضمانات يعيش المؤمن حياته آمنًا مطمئنًا على رزقه. والمؤمن آمن على أجله، فإن الله هو الذي قدر الآجال، وبيده أعمار الخلائق، وما تدري نفس بأي أرض تموت، فلم يخاف من الحوادث

_ 1 سورة القصص: 13. 2 الأنعام: 81، 82. 3 سورة يونس: 106, 107. 4 الذاريات: 22، 23. 5 هود: 6. 6 العنكبوت: 60.

والجود والكرم والمن والعطاء ... كل هذا يورث في نفس المؤمن الأمل بما عند الله. فالله قدير رحيم يجيب دعوة المضطر إذا دعاه ويكشف السوء، فلم ييأس المؤمن ولم يقنط؟ وهو يعلم أن الله يقبل من العمل ما قل ويجزي الجزاء الكثير. ويغفر الذنوب وإن بلغت عنان السماء، ويعفو عن السيئات، ويقبل التوبة سبحانه وتعالى، وهو الذي يبسط يده في الليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، وأنه أشد فرحًا بتوبة عبده من الإنسان الذي ضيع راحلته وزاده في فلاة حتى إذا ما أعياه البحث وكادت زهرة الأمل تجف في نفسه وجد الراحلة والزاد.. والمؤمن يأمل بقرب الفرج وزوال العسر، ودنو اليسر ذلك لأنه يردد دائمًا قوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} 1, وهل يغلب عسر واحد يسرين؟ كما أنه يثق بعون الله وبوعده للمؤمنين الصابرين المجاهدين بالنصر المبين، قال تعالى: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} 2, وقال سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} 3.

_ 1 سورة الانشراح: 5-6. 2 سورة الصافات: 173. 3 سورة النور: 55.

والجود والكرم والمن والعطاء ... كل هذا يورث في نفس المؤمن الأمل بما عند الله. فالله قدير رحيم يجيب دعوة المضطر إذا دعاه ويكشف السوء، فلم ييأس المؤمن ولم يقنط؟ وهو يعلم أن الله يقبل من العمل ما قل ويجزي الجزاء الكثير. ويغفر الذنوب وإن بلغت عنان السماء، ويعفو عن السيئات، ويقبل التوبة سبحانه وتعالى، وهو الذي يبسط يده في الليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، وأنه أشد فرحًا بتوبة عبده من الإنسان الذي ضيع راحلته وزاده في فلاة حتى إذا ما أعياه البحث وكادت زهرة الأمل تجف في نفسه وجد الراحلة والزاد.. والمؤمن يأمل بقرب الفرج وزوال العسر، ودنو اليسر ذلك لأنه يردد دائمًا قوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} 1, وهل يغلب عسر واحد يسرين؟ كما أنه يثق بعون الله وبوعده للمؤمنين الصابرين المجاهدين بالنصر المبين، قال تعالى: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} 2, وقال سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} 3. الإيمان يولد الرضا والحب: الرضا عن الله وعن الذات والاطمئنان إلى اليوم والحاضر ثمرة من ثمرات الإيمان، وسر من أسرار السعادة، قال الله تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} 4, ويتجلى الرضا عند الله تعالى بمظاهر جليلة أهمها أن يتجه المؤمن إلى الله سبحانه ويستخيره في شأنه، قبل أن يبادر إلى أي عمل يعمله مهما كان هذا العمل عظيمًا أو بسيطًا. وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعلِّم الصحابة الاستخارة كما يعلمهم السورة من القرآن.

_ 1 سورة الانشراح: 5-6. 2 سورة الصافات: 173. 3 سورة النور: 55. 4 سورة البينة: 8.

وها هو جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- يقول "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كالسورة من القرآن، يقول: "إذا هم أحدكم بالأمر، فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري. أو قال: عاجل أمري وآجله فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال: عاجل أمري وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم رَضِّني به. قال ويسمي حاجته" 1. فالمؤمن يتجه إلى الله تعالى يستخيره قبل الإقدام على العمل، ثم يرضى بما قدره الله له من رزق ونعم وعطاء، حتى المصيبة تصيبه والضرر يحل به فيصبر ويحتسب إيمانًا بأن الله لا يفعل شيئًا عبثًا ولا يقضي أمرًا إلا ولما فيه صلاح شأن العبد كان ذلك إيذانًا برضاه ودليلًا على اطمئنانه إلى قدر الله وقضائه إذ إنه سبحانه أرحم بعباده من الوالدة بولدها. والإيمان يولد في النفس المؤمنة الحب الكبير الذي يمنح الأمن الروحي، والسعادة الداخلية، ويشعر الآخرين بالاطمئنان والكرامة الإنسانية: فالمؤمن يحب الله ورسوله أكثر من ماله وولده ونفسه التي بين جنبيه، ويحب الناس من أجل الله تعالى, فيعطف على صغيرهم، ويرعى يتيمهم، ويعطي محرومهم، ويصل ذوي القرابة والرحم وقد قيل: "إن الحب يحول المر حلوًا، والتراب تِبرًا، والكدر صفاء، والألم شفاء، والسجن روضة، والسقم نعمة، والقهر رحمة "2. فالمؤمن بسبب إيمانه يشعر بفضل الله عليه وإنعامه عليه فهو واهب الحياة وهو مصدر الخلق والأمر والإيجاد، فالمؤمن يتجه إلى الله بقلبه ومشاعره وأحاسيسه، فيحبه ويخشاه في آن واحد، الحب الذي يدفعه إلى طاعته وامتثال

_ 1 رواه البخاري انظر رياض الصالحين: 3/ 169. 2 عن كتاب رجال الفكر والدعوة في الإسلام للأستاذ أبي الحسن الندوي: ص288/ 289.

أمره والقيام بالفرائض المطلوبة في أوقاتها المحددة. والخشية التي تمنعه من الاجتراء على المعصية. وفي الحديث عن رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله. وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار" 1. والمؤمن يعتقد أن الطبيعة كلها مخلوقة من مخلوقات الله، وأثر من آثار قدرته وميدان فسيح ليتفكر الناس في بديع صنع الله. وفي عجيب تكوينه وقد أثر عن الرسول, صلى الله عليه وسلم: "أحد جبل يحبنا ونحبه" 2 , فأين هذا الاعتقاد الصحيح الصادق من الاعتقاد الباطل الذي كان مسيطرًا على عقول كثير من الناس في القرون الوسطى وإلى هذا العصر من أن النور مملكة لإله الخير، وأن الظلام مملكة لإله الشر.. وقد سمعنا كثيرًا أن الملحدين يقدسون الطبيعة ويعتبرون أن لها إرادة، وبيدها قدرة الإيجاد والإحياء، وهذا وهم باطل وزعم مفترى لا يصدر عن رجل واع جاد في دعواه، وإنما هو كلام أشبه بالهراء. والمؤمن يرى أن الحياة التي يعيشها فرصة ذهبية للقيام بالطاعات وبالإكثار من العبادة، والعمل الصالح والبر بالآخرين، وإقامة صِلاة الود والمحبة مع المؤمنين خاصة. وفي الحديث عن رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "خير الناس من طال عمره وحسن عمله" 3. والمؤمن يحب الناس جميعًا لأنهم أخوة له في الإنسانية، وشركاء له في العبودية لله تعالى، قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} 4.

_ 1 متفق عليه رياض الصالحين مع شرحه: 1/ 568. 2 رواه الترمذي وقال: حديث حسن, انظر رياض الصالحين مع شرحه: 1/ 216. 3 رواه الترمذي "2230" والدارمي 2/ 308، وأحمد 4/ 188، 190، وقال الترمذي: حديث حسن وله شاهد من حديث أبي بكرة في "المسند" 54/ 40، 43, 48، 49، 50، والترمذي "2331" فالحديث يصح به. 4 سورة النساء: 1.

وفي الدعاء عن رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "اللهم ربنا ورب كل شيء أنا شهيد أن محمدًا عبدك ورسولك، اللهم ربنا ورب كل شيء أنا شهيد أن العباد كلهم إخوة" 1. والمؤمن يخص المؤمنين بالحب والولاء، إذ إن الحب يحتاج إلى بذل وتضحية وإيثار، والكافر لا يؤمن شره ولا يرجى خيره، وقد كفر بخالقه وجحد نعمه التي لا تعد ولا تحصى، فكيف يوثق به؟ وكيف يتودد إليه؟ قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} 2. وقد أخبر الصادق المصدوق أن المرء مع من أحب، فلينظر الإنسان إلى من يخالل، فإن كان كافرًا فليستغفر ربه. وإن كان مؤمنًا فإن خليله يذكره بالله، ويمحضه النصح والإرشاد، ويوجهه إلى فعل الخير وينهاه عن المنكر قولًا وفعلًا، فهذا هو المؤمن الحق, وتلك هي ثمرة الإيمان، وليهنأ بنعمة الحب لله وقد قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الحديث القدسي: "قال الله عز وجل: المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء" 3. وقد دلنا الرسول -صلى الله عليه وسلم- على زورق الوصول إلى المحبة في الله ألا وهو إفشاء السلام، وإطعام الطعام، وإقراء الضيف، وأن يلقى المسلم أخاه بوجه طلق، وأن يفرج عنه كربة من كرب الدنيا، وأن ييسر على معسر، وأن يستر مسلمًا ابتغاء وجه الله، وأن يمسك لسانه عن القيل والقال، وليقل خيرًا أو يصمت4 ... وهكذا رسم لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- طريق الحب لله، وإنها لصورة رائعة لمجتمع مسلم فاضل متمسك بالقيم الإيمانية مطبق شريعة الله ومنهجه قال سبحانه: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 5.

_ 1 رواه أحمد وأبو داود. 2 سورة التوبة: 71. 3 رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح, انظر رياض الصالحين: 1/ 575. 4 رواه مسلم، انظر رياض الصالحين مع شرحه: 1/ 573. 5 سورة البقرة: 256.

وقال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أو أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم" 1. وما الفائدة من الإيمان إذا لم يثمر حبًّا طيبًا رحبًا ساميًا رفيعًا بين أفراد المجتمع المسلم؟ إذ إن الحب هو الذي يساعد على التماسك والتعاضد والتناصر بين الأفراد إذا ما حل خطب بالمجتمع، أو داهمه عدو مشترك، أو أصاب بعض أفراد أمر خطير، وهنا نلحظ المعنى السامي والتعبير البليغ الذي ذكره الرسول -صلى الله عليه وسلم- حينما قال: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا" 2، وقال: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" 3, وقال: "انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا -قيل هذا إذا كان مظلومًا، فكيف إذا كان ظالمًا- قال: أن تأخذ على يده" 4. وفي الحديث القدسي الذي رواه معاذ بن جبل أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: قال الله تعالى: "وجبت محبتي للمتحابين في والمتجالسين في والمتزاورين في والمتبادلين في" 5. وهكذا فالمؤمن بعقيدة التوحيد يحب الوجود كله، يحب الله تبارك وتعالى، ويحب الطبيعة ويعتقد أنها مخلوقة لله تبارك وتعالى خاضعة له خضوع سائر العباد للمعبود الواحد الأحد، ويحب الحياة ويعتبرها فرصة غالية لتحقيق غاياته الجسام، وهو يحب المؤمنين ويكره الشيطان وأولياؤه من الكفرة والزنادقة المارقين من الدين.

_ 1 رواه البخاري والترمذي والنسائي وأحمد. 2 رواه البخاري في الأدب. 3 رواه مسلم. 4 رواه البخاري. 5 حديث صحيح رواه مالك في الموطأ, انظر رياض الصالحين مع شرحه: 1/ 576.

المبحث الثاني: التشريع ومصادره

المبحث الثاني: التشريع ومصادره مدخل ... المبحث الثاني: الشريعة الإسلامية ومصادرها المعنى اللغوي لكلمة الشريعة: الشرع مصدر شرع بالتخفيف، والتشريع مصدر شرع بالتشديد، والشريعة في الاستعمال اللغوي مورد الماء الذي يقصد للشرب، ثم استعملها العرب في الطريقة المستقيمة، وذلك باعتبار أن مورد الماء سبيل الحياة السلامة للأبدان. وكذلك الشأن في الطريقة المستقيمة التي تهدي الناس إلى الخير، ففيها حياة النفوس وري العقول. المعنى الاصطلاحي للشريعة: يراد "بالشريعة" كل ما شرعه الله للمسلمين من دين سواء أكان بالقرآن الكريم نفسه، أم بسنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- فالشريعة على هذا تشمل أصول الدين: أي ما يتعلق بتوحيد الله تبارك وتعالى وأسمائه وصفاته وكل ما يتعلق بالدار الآخرة وغير ذلك مما يدخل في بحوث علم التوحيد. كما تشمل كل ما يرجع إلى تهذيب النفس، والتحلي بالأخلاق الفاضلة مما يتصل بالعلم والأخلاق. وبالإضافة إلى ذلك فإن الشريعة تشمل أحكام الله لكل عمل من أعمال العباد من حل أو حرمة أو ندب أو إباحة أو كراهية وهو ما يعرف باسم الفقه. فالشريعة في الاصطلاح: هي كل ما شرعه الله تعالى لعباده من الأحكام التي جاء بها نبي من الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- سواء كانت متعلقة بكيفية عمل من الأعمال وتسمى فرعية وعملية، وقد دون لها علم الفقه، أو بكيفية الاعتقاد وتسمى أصولية واعتقادية، ودون لها علم الكلام.

الفرق بين الشريعة والفقه: وقد فرق علماء الأصول بين كلمة الشريعة والفقه، فجعلوا الشريعة مرادفة للدين، وليست قاصرة على الفقه وحده إذ إنه لا يتعرض لموضوع الاعتقاد. وقد عرفت اللغة العربية كلمة "الشريعة" قبل كلمة "الفقه" بزمن طويل, ذلك لأننا نجد مادة "شرع" ومشتقاتها قد وردت في آيات كثيرة من كتاب الله العزيز الحميد. كقوله جل من قائل: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} 1. أما كلمة "الفقه" فإنها لم تأخذ معناها الاصطلاحي إلا بعد مضي صدر من الإسلام. يقول ابن خلدون في مقدمته: "الفقه معرفة أحكام الله تعالى في أفعال المكلفين بالوجوب والحظر والندب والكراهة والإباحة، وهي متلقاة من الكتاب والسنة. ومن نصبه الشارع لمعرفتها من الأدلة، فإذا استخرجت الأحكام من تلك الأدلة قيل لها "فقه"2. الفقه الإسلامي ومصادره: إن الفقه الإسلامي جزء من الشريعة، وقد اعتاد العلماء أن يطلقوا عليه اسم التشريع الإسلامي. والفقه في اللغة معناه الفهم. وفي الاصطلاح: استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية. ولم ينشأ التشريع الإسلامي كاملًا مرة واحدة، بل تدرج في مراحل النمو والنضج إلى أن بلغ قمة الكمال. ولم ينتقل الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى الرفيق الأعلى إلا بعد أن استكمل التشريع أصوله الأساسية التي استوى عليها قائمًا شامخًا كالطود العظيم. ولم يبق للعلماء بعد عهد النبوة المجيد إلا الرجوع إلى ما تم في حياته -صلى الله عليه وسلم.

_ 1 سورة الجاثية: 18. 2 المقدمة: 1/ 65.

واستلهام ما أوحى الله إليه من كتاب وسنة، ثم التفريع والتطبيق حسب الظروف والأزمان والأحوال والمصالح. مصادر التشريع: قد دل سبحانه وتعالى على ما شرعه من الأحكام بأدلة عديدة، فبعضها دل عليه بنصوص القرآن، وبعضها دل عليه بسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من قول أو فعل أو تقرير. وبعضها دل عليه بطريق أشير إليه. أو بوضع أمارة على الحكم المطلوب في الواقعة. وهذه المصادر يعبر عنها تارة بأدلة الأحكام ومرة بأصول الأحكام وأخرى بمصادر الاجتهاد. وكلها كلمات مترادفة معناها واحد، وقد عرف الأصوليون الدليل بأنه ما يستفاد منه حكم شرعي عملي على سبيل القطع، وأما ما يستفاد منه الحكم على سبيل الظن فهو أمارة وليس دليلًا، لكن المشهور في اصطلاحهم أن الدليل هو ما يستفاد منه حكم شرعي عملي مطلقًا، سواء أكان على سبيل القطع أم على سبيل الظن. والأدلة الشرعية التي تستفاد منها الأحكام ترجع إلى أربعة هي: القرآن، والسنة، والإجماع، والقياس، وهذه الأدلة الأربعة اتفق جمهور العلماء على الاستدلال بها في الجملة، واتفقوا على أنها مرتبة في الاستدلال بها هذا الترتيب: القرآن فالسنة فالإجماع فالقياس. أي أنه إذا وقعت واقعة نظر في القرآن أولًَا، فإن وجد فيه الحكم أمضى، وإن لم يوجد فيها الحكم نظر في السنة, فإن وجد فيه الحكم أمضى, وإن لم يوجد فيها الحكم نظر في إجماع المجتهدين في عصر من العصور، فإن وجد فيه الحكم أمضى، وإن لم يوجد اجتهد في الوصول إلى حكم الواقعة بالقياس على ما ورد النص بحكمه. والبرهان على الاستدلال بها هو قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} 1.

_ 1 سورة النساء: 59.

فالأمر بطاعة الله وطاعة رسوله أمر باتباع القرآن والسنة، والأمر بطاعة أولي الأمر من المسلمين، أو باتباع ما اتفقت عليه كلمة المجتهدين من الأحكام، لأنهم أولو الأمر التشريعي من المسلمين. والأمر برد الوقائع المتنازع فيها إلى الله والرسول أمر باتباع القياس حيث لا نص ولا إجماع، لأن القياس فيه رد المتنازع فيه إلى الله وإلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأنه إلحاق واقعة لم يرد نص بحكمها بواقعة ورد النص بحكمها لتساوي الواقعتين في علة الحكم. فالآية الكريمة تدل على اتباع هذه الأربعة. وأما الدليل على ترتيبها في الاستدلال بها، فهو ما رواه البغوي: "عن معاذ بن جبل أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما بعثه إلى اليمن قال: "كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ " قال: أقضي بكتاب الله. قال: "فإن لم تجد في كتاب الله؟ " قال: فبسنة رسول الله. قال: "فإن لم تجد في سنة رسول الله؟ " قال: أجتهد رأيي ولا آلو "أي لا أقصر في اجتهادي" فضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صدره وقال: "الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي الله ورسوله"1. وما رواه البغوي عن ميمون بن مهران قال: كان أبو بكر إذا ورد عليه الخصوم نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي بينهم قضى به، وإن لم يكن في الكتاب، وعلم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ذلك الأمر سنة قضى بها، فإن أعياه أن يجد في سنة رسول الله، جمع رءوس الناس وخيارهم فاستشارهم، فإن أجمع رأيهم على أمر قضى به، وكذلك كان يفعل عمر، وأقرهما على هذا كبار الصحابة ورءوس المسلمين، ولم يعرف بينهم مخالف في هذا الترتيب. وتوجد أدلة أخرى عدا هذه الأدلة الأربعة لم يتفق جمهور المسلمين على الاستدلال بها، بل منهم من استدل بها على الحكم الشرعي، ومنهم من أنكر الاستدلال بها. وأشهر هذه الأدلة المختلف فيها: الاستحسان، والمصلحة المرسلة والعرف.. وهي في الواقع داخلة ضمنًا في المصادر الأربعة الأساسية، فالاستحسان قياس خفي، والمصلحة مرعية، والعرف معتبر. وإليك الكلام عن المصادر المتفق عليها بقدر الحاجة إليها وأما المختلف

_ 1 رواه أبو داود في كتاب الأقضية.

فيها فليس لاستيفاء الحديث عنها مجال في هذا المقام.

القرآن الكريم

القرآن الكريم مدخل ... أولًا- المصدر الأول القرآن الكريم: والحديث فيه يتضمن النقاط الآتية: تمهيد, أسماء القرآن الكريم, نزوله منجمًا, الآيات المكية والمدنية, جمع القرآن الكريم, أسلوب القرآن في الطلب والتخيير, أساس التشريع, أنواع الأحكام الواردة فيه, دلالته على الأحكام. تمهيد: هو كتاب الله المبين، أنزله هدى ورحمة للعالمين، وأبان به الرشد من الغي، فكان أساسًا للدين وعمدة للملة، وينبوعًا للحكمة وآية للرسالة الإسلامية، ونورًا للأبصار والبصائر. قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} 1 , وقال جل ذكره: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} 2. فهذا القرآن العظيم حبل الله المتين، والنور المبين، والشفاء النافع، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن تبعه، لا يعوج فيقوم، ولا يزيغ فيستعتب ولا تنقضي عجائبه، ولا يخلق على كثرة الرد. ورد عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: إذا أردتم العلم فأثيروا القرآن، فإن فيه علم الأولين والآخرين3. هذا وقد عني الأصوليون بتعريف القرآن وتحديده ليتبين ما تجوز به الصلاة وما لا تجوز، وما يكون حجة في استنباط الأحكام وما لا ينهض بذلك، وما يكفر جاحده وما لا يكفر فقالوا: "القرآن الكريم المنزل على سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- ما بين دفتي المصحف باللفظ العربي المنقول بالتواتر المبدوء بسورة الفاتحة، المختوم بسورة الناس وهو المنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- لفظًا ومعنى وأسلوبًا". وعلى هذا فليس منه ما أنزل الله تعالى على نبيه من أحكام وأداها بأسلوبه

_ 1 سورة النحل: 89. 2 سورة الأنعام: 38. 3 تاريخ التشريع الإسلامي للشيخ السايس وزميله: ص32.

الخاص، كما ليس منه ما ثبت من الحديث القدسي، وهو ما أثر نزوله على النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يثبت نظمه من قبله في سلك القرآن، وكذلك ما نزل من الكتب السماوية على الأنبياء السابقين كالتوراة والإنجيل والزبور لعدم اعتبارها قرآنًا1. وتفسير القرآن وترجمته ليسا من القرآن في شيء، فلا تجري عليهما أحكام القرآن الخاصة. وكذلك القراءة الشاذة، وهي التي لم تنقل بالتواتر كقراءة ابن مسعود: "فَإِنْ فَاءُوا فِيهِنَّ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ". وقراءته أيضًا: "وَعَلَى الْوَارِثِ ذِي الرَّحِمِ المُحَرَّمِ مِثْلُ ذَلِكَ". وقراءته في كفارة الأيمان: "فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ"2. ولقد أحصيت آيات القرآن الكريم فبلغت ستة آلاف وثلاثمائة واثنتين وأربعين آية. وقد انتظمت هذه الآيات في سور بلغ مجموعها مائة وأربع عشرة سورة، أولها سورة "محمد" وآخرها سورة "الناس".

_ 1 انظر علم الأصول لخلاف: ص24. 2 انظر المستصفى: 1/ 100-101، تاريخ التشريع للشيخ الخضري: ص9-16، تاريخ التشريع للشيخ السايس وزميله: ص32 وما بعدها، روضة الناظر وجنة المناظر: ص185-188.

أسماء القرآن الكريم

أسماء القرآن الكريم: وللقرآن أسماء أخرى تطلق عليه، منها "الكتاب، الفرقان، الذكر، التنزيل، وغيرها" وهذه الأسماء والأوصاف قد استعملها القرآن في كثير من المواطن. وقد نزل القرآن "منجمًا" بحسب الحوادث المتجددة، فأحيانًا كانت تتنزل ثلَّة من الآيات، وأحيانًا آية واحدة أو بعض آية، وذلك ليكون في هذا التنزل المستمر، تلبية لما يتجدد من الأحداث والمشاكل، وتقوية لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قصص الأنبياء السابقين، وما لاقوه مع قومهم من مشقة وعنت وتدعوه إلى الصبر والاحتمال لئلا يتطرق اليأس إلى قلبه والحزن إلى نفسه، وهذا التدرج يساعده على حفظ الآيات واستذكارها، وتلقينها لصحابته الذين كانوا يعكفون على حفظها والعمل بمقتضاها.

وبالإضافة إلى هذا فإن نزول القرآن بشكل متدرج كان يهدف إلى التدرج في الأحكام لئلا تنزل دفعة واحدة فيكون فيها الحرج والمشقة على الناس, ولذلك فإن الأحكام التي تنزل كانت تتناسب مع الأحداث الجارية فتعرض لنا، مبينة حكمها موضحة ما غمض منها، مرشدة للطريق السوي. وقد ابتدأ نزول القرآن -على أصح الروايات- ليلة السابع عشر من رمضان للسنة الحادية والأربعين من ميلاد الرسول الكريم في غار حراء حيث كان يتعبد به.. أول آية نزلت قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ, خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ, اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ, الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ, عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} . وآخر ما نزل منه قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} 1.

_ 1 سورة البقرة: 281.

الآيات المكية والمدنية

الآيات المكية والمدنية: لقد نزل القرآن الكريم في مرحلتين تاريخيتين: الأولى: المرحلة المكية وهي ما قبل هجرة المسلمين والرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة المنورة. والثانية: المرحلة المدنية. وهي مرحلة ما بعد الهجرة المباركة. فما نزل من القرآن الكريم في المرحلة الأولى يسمى بالآيات المكية. وما نزل بعد الهجرة يسمى بالآيات المدنية. ولم ترتب آيات القرآن الكريم حسب النزول الزمني، وإنما على ترتيب خاص يرجع إلى الوحي الذي أشار على الرسول -صلى الله عليه وسلم- بهذا الترتيب لحكمة بالغة لا تدركها العقول البشرية، ولهذا نرى تداخلًا بين الآيات المكية والمدنية. وليس لأي إنسان مهما بلغ في مراتب التقى والورع أن يبدل هذا الترتيب، لأننا تلقيناه متواترًا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- توقيفًا على أمر الوحي، وسنبلغه إلى الذين من بعدنا بهذا الترتيب لأننا أمة متبعة غير مبتدعة. وقد قامت محاولات تبشيرية استشراقية لتغيير ترتيب القرآن الكريم ظنًّا منهم أنهم يستطيعون أن يرتبوه حسب النزول التاريخي، ولكن هذه المحاولات

باءت بالفشل الذريع وبالخطأ الجسيم لعدم اعتمادهم على روايات صحيحة موثوقة. فضلًا عن أن كل حركة استشراقية وغيرها من الحركات التي تهدف إلى تبديل الترتيب القرآني لا تخلو من دس وطعن، وليست نزيهة عن الأغراض الخبيثة والنوايا اللئيمة التي تحاول بشتى الوسائل إثارة الفتن والشبهات حول المصادر الشرعية للإسلام، وعلى المسلمين أن يكونوا دائمًا على حذر من كل فكر غربي ومن كل رأي مستورد. والآيات المكية تختلف عن الآيات المدنية أسلوبًا وموضوعًا والاختلاف في الأسلوب يؤكد مسألة الإعجاز القرآني ويبرزه، أما اختلاف الموضوع فيرجع إلى طبيعة التطور المرحلي والتاريخي، كما يرجع للظروف والأحداث والمناسبات التي مرت بها الدعوة الإسلامية. فالموضوع الذي تعالجه الآيات المكية في بداية الدعوة حيث كان الجهد موجهًا لتثبيت العقيدة الصحيحة في نفوس المؤمنين، وغرس مبادئ الأخلاق الكريمة في الضمائر والأفئدة، يختلف عن موضوع الآيات المدنية حيث اتسعت آفاق الحياة وكثرت المعاملات وتعددت الأمور التي تحتاج إلى تنظيم وتقنين. ومن الخصائص الأسلوبية للآيات المكية أنها ذات نبرة خاصة، وإيقاع مؤثر يتمثل في ألفاظ قوية، وجمل مختصرة وصور معبرة، وأمثال موضحة ومشاهد حية، وأما الخصائص الموضوعية لهذه الآيات فقد كانت تتناول قضايا الخالق والخلق والجنة والنار والدنيا والآخرة والموت والبعث، وعالم الغيب والشهادة والملائكة والجان.. لهذا فقد كانت هذه الآيات تستخدم أسلوب المناقشة والحوار، والمجادلة وتدعيم الحقائق بالأدلة العلمية والبراهين الفكرية والقسم. وما أشبه ذلك.. كل هذا للوصول إلى مبادئ الإيمان بالله تعالى، وباليوم الآخر، ومناقشة المشركين ودحض معتقداتهم وتسفيه عقولهم والدعوة إلى الأخلاق القويمة والاستقامة في السلوك والصدق في القول. أما الآيات المدنية فتتميز بالأسلوب التشريعي الهادئ، والسور الطويلة، والموضوعات التي تتناول قضايا جديدة يعيش في ظلها المسلمون في المدينة المنورة ويحتاجون إليها كالقتال والحرب، والسلم والغنائم، والمعاملات والبيوع والزواج والطلاق، والنفقات والإرث والوصية. ومسائل الحكم

والأنظمة الداخلية والسياسة الخارجية، وغير ذلك من القضايا التي يحتاج إليها مجتمع مسلم يبني حياته على مقومات إسلامية.

جمع القرآن الكريم

جمع القرآن الكريم: يطلق الجمع -في كلام أهل القرآن- إما على حفظه جميعه عن ظهر قلب ومنه قوله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ} 1, وإما على جمع متفرقه في صحف ثم جمع تلك الصحف في مصحف واحد، مرتب الآيات والسور على النحو الذي تلقته الأمة من النبي, صلى الله عليه وسلم.. والجمع بالمعنى الثاني هو الذي نقصده هنا.. والثابت أن القرآن لم يجمع على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- في مصحف واحد. عن زيد بن ثابت. قال: "ولم يكن القرآن الكريم قد جمع في شيء"2. وربما كان ذلك لأن القرآن الكريم ظل عشرين سنة أو يزيد ينزل منجمًا. ولأن النسخ كان يرد على بعض الآيات فلو جمع القرآن وقتئذ ثم رفعت تلاوة بعضه "لأدى إلى الاختلاف واختلاط الدين، فحفظه الله في القلوب إلى انقضاء زمان النسخ"3. وقيل في هذا أيضًا أن الله تعالى كان أمن النبي-صلى الله عليه وسلم- من النسيان بقوله: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنْسَى، إَلاَّ مَا شَاءَ اللهُ} 4, أي ما شاء الله أن يرفع حكمه بالنسخ، فلما توفي النبي -صلى الله عليه وسلم- أصبح النسيان ممكن الوقوع من الناس، ومن هنا أصبحت الحاجة ماسة إلى جمع القرآن وحفظه وتدوينه"5. ولقد ثبت في الصحاح عن عائشة رضي الله عنها وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن جبريل كان يعارض النبي -صلى الله عليه وسلم- بالقرآن، في كل عام مرة، فلما كان العام

_ 1 سورة القيامة: 17. 2 فتح الباري: جـ9 ص9. الإتقان في علوم القرآن جـ1 ص57. 3 البرهان للزركشي جـ1 ص235. 4 سورة الأعلى: 6. 5 البرهان في علوم القرآن للزركشي: جـ1 ص238.

الذي قبض فيه عارضه به مرتين، والعرضة الأخيرة هي قراءة زيد بن ثابت وغيره، وهي التي أمر الخلفاء الراشدون بكتابتها في المصاحف1 وقد شهد زيد العرضة الأخيرة التي بيَّن فيها ما نسخ وما بقي، وكتبها لرسول الله وقرأها عليه، وكان يقرئ الناس بها حتى مات، ولهذا اختير للجمعين البكري والعثماني2. والنبي, صلى الله عليه وسلم -في حياته- كان بين ظهراني المسلمين يقرءون القرآن بين يديه، ويملكون الاسترشاد به في شأن هذا الكتاب وفي كل شأن ولذلك كان الخطأ في القرآن على عهده مأمونًا تمامًا. وفي ذلك العهد، كان الإسلام الناشئ لا يزال محدود الرقعة، فلم تكن الحاجة إلى جمع القرآن في نفس شدتها على عهد أبي بكر ثم عهد عثمان. والثابت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يستحفظ أصحابه ما ينزل عليه من القرآن عقب نزوله، وكان له كتاب، يكتبون بين يديه بأمره وإقراره ما ينزل عليه. روى أحمد وأصحاب السنن الثلاثة وصححه ابن حبان والحاكم عن ابن عباس عن عثمان قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مما يأتي عليه الزمان، ينزل عليه من السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء يدعو بعض من يكتب عنه فيقول: ضعوا هذا في السورة التي يذكر فيها كذا. وكانوا على ما اعتاد العرب, يكتبونه في اللخاف3,والعسب4، والرقاع, وقطع الأديم5، والأكتاف6. روى البخاري عن البراء قال: لما نزلت: {لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة النساء: 95] قال النبي, صلى الله عليه وسلم: "ادع لي زيدًا " يريد زيد بن

_ 1 ابن تيمية في قول النبي -صلى الله عليه وسلم- نزل القرآن على سبعة أحرف: ص50، 51. 2 البرهان للزركشي جـ1 ص237. 3 اللخاف واحدتها لخفة بضم اللام وسكون الخاء, وهي الحجارة الدقاق، وقال الخطابي: صفائح الحجارة الرقاق، قال الأصمعي: فيها عرض ودقة، وفسره أبو ثابت بالخزف وهي الآنية التي تصنع من الطين المشوي. 4 جمع عسيب وهو جريد النخل، كانوا يكشطون الخوص ويكتبون في الطرف العريض. 5 الجلد المدبوغ "المصباح المنير". 6 جمع كتف، مثل كذب وكذب، وهو العظم العريض للشاة أو البعير كانوا إذا جف يكتبون عليه..

ثابت، "وليجئ بالكتف والدواة".. والمسلمون مجمعون على أن الصحابة ما كانوا يكتبون إلا ما كانوا يقطعون بسماعه من النبي, صلى الله عليه وسلم. وتوفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقام بالأمر بعده أبو بكر، وارتد بعض العرب عن الإسلام، وظهر مسيلمة وأصحابه يدعون النبوة فتصدى أبو بكر لقتال هؤلاء جميعًا، وقتل من الصحابة وقتئذ ممن حفظ القرآن جمع كبير فأثار ذلك الخوف على القرآن الكريم. فكان أول جمع كتابي له. يروي البخاري في صحيحه قصة هذا الجمع فيقول: "عن زيد بن ثابت قال: أرسل إليَّ أبو بكر -عقب مقتل اليمامة- فإذا عمر بن الخطاب عنده. قال أبو بكر -رضي الله عنه- إن عمر أتاني، فقال إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقرَّاء القرآن، وإني أخشى أن يستحر القتل في الموطن "يعني التي فيها القتال" فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن. قلت لعمر: كيف تفعل شيئًا لم يفعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال عمر: هذا والله خير. فلم يزل عمر يراجعني، حتى شرح الله صدري لذلك ورأيت في ذلك الذي رأى عمر. قال زيد قال أبو بكر إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتتبع القرآن واجمعه. قال زيد: فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان بأثقل علي مما أمروني به من جمع القرآن. قلت: كيف تفعلون شيئًا لم يفعله رسول الله, صلى الله عليه وسلم؟ فقال: هذا والله خير. فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال، حتى وجدت آخر التوبة {لَقَدْ جَاءَكُمْ ... } الآية 128، مع أبي خزيمة الأنصاري الذي جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- شهادته بشهادة رجلين، لم أجدها مع أحد غيره، فألحقتها في سورتها. فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حتى قبض ثم

عند حفصة بنت عمر1 وحفصة هي إحدى زوجات الرسول -صلى الله عليه وسلم- وكانت تحفظ القرآن وكانت قارئة كاتبة وكان أبوها عمر أوصى إليها. ويقول ابن حجر في شرح صحيح البخاري: "إن أبا خزيمة لم ينفرد بها، بل كان معه عمر، وزيد بن ثابت، وعثمان، وأبي بن كعب، وواضح من كلام زيد بن ثابت نفسه أنه كان يعرف هاتين الآيتين. ومع أن الصحابة كانوا قد شاهدوا تلاوة القرآن الكريم من النبي -صلى الله عليه وسلم- ثلاثًا وعشرين سنة، ومع أن القرآن كان مكتوبًا فعلًا في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا أنه كان مفرقًا، فإن الجمع في عهد أبي بكر الصديق "كان بمنزلة أوراق وجدت في بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيها القرآن منتشر، فجمعها جامع. وربطها بخيط حتى لا يضيع منها شيء" وإن هذا الجمع قد اتبع فيه المنهج الدقيق الذي أعان على وقاية القرآن الكريم من كل ما يكون مظنة النسيان والضياع. ويمكن أن نلخص منهجهم في جمع القرآن الكريم بالنقاط التالية: 1- كان كل من تلقى من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئًا من القرآن يأتي به. 2- كانوا يكتبون ذلك في الصحف والألواح والعسب. 3- كان لا يكتب إلا: أ- من عين ما كتب بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا من مجرد الحفظ، مع المبالغة في الاستظهار والوقوف عند هذا. ب- وما ثبت أنه عرض على النبي -صلى الله عليه وسلم- عام وفاته، دون ما كان مأذونًا فيه قبلها. 4- وكانت كتابة الآيات والسور على الترتيب والضبط اللذين تلقاهما المسلمون من رسول الله, صلى الله عليه وسلم. 5- وكان لا يقبل من أحد شيئًا حتى يشهد شاهدان، أي أنه لم يكن يكتفي بمجرد وجدان الشيء مكتوبًا حتى يشهد به من تلقاه سماعًا.

_ البرهان للزركشي: 1/ 233، وما بعدها، الإتقان للسيوطي: 1/ 57.

6- وبأمر أبي بكر، كان عمر وزيد يقعدان على باب المسجد -وهو وقتئذ مقر لجنة الجمع- ليكتبا ما يشهد عليه الشاهدان.

جمع عثمان بن عفان -رضي الله عنه

جمع عثمان بن عفان, رضي الله عنه: تلقى الصحابة القرآن، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم انتشروا بعيدًا عن منزل الوحي يلقنون الناس القرآن على النحو الذي تلقوه من النبي, صلى الله عليه وسلم. وفي سنة 25 من الهجرة، السنة الثالثة أو الثانية من خلافة عثمان، بعد أن قبض الرسول -صلى الله عليه وسلم- بخمس عشرة سنة، فتحت أرمينية، وكان عثمان أمر أهل الشام وأهل العراق أن يجتمعوا على ذلك. وكان حذيفة بن اليمان1 من جملة من غزا معهم، وكان هو على أهل المدائن، وهي من جملة أعمال العراق. وتنازع أهل الشام وأهل العراق في القرآن: أهل الشام يقرءون بقراءة أُبي بن كعب، فيأتون بما لم يسمع أهل العراق، وإذا أهل العراق يقرءون بقراءة عبد الله بن مسعود، فيأتون بما لم يسمع أهل الشام فيكفر بعضهم بعضًا2. ورأى حذيفة ناسًا من أهل حمص يزعمون أن قراءتهم خير من قراءة غيرهم وأنهم أخذوا القرآن عن المقداد، ورأى أهل البصرة يقولون مثل هذا وأنهم قرءوا على أبي موسى ويسمون مصحفه "ألباب القلوب"3. وغضب حذيفة لما سمع، واحمرت عيناه ثم قام، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: هكذا كان من قبلكم اختلفوا والله لأركبن إلى أمير المؤمنين. وجاء مفزعًا إلى المدينة، ولم يدخل بيته حتى أتى عثمان، فقال له: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى4 أو قال: أنا النذير فأدركوا الأمة. فاستشار عثمان الصحابة، قال: ما تقولون في

_ 1 صحابي مشهور، شهد أحد مع أبيه، وروى عنه جماعة من كبار الصحابة. 2 فتح الباري بشرح صحيح البخاري: جـ ص14. 3 الكامل في التاريخ لابن الأثير جـ3 ص85، 86. 4..ذلك أن اليهود والنصارى مختلفون فيما بأيديهم من الكتب فاليهود بأيديهم نسخة من التوراة، والسامرة يخالفونهم في ألفاظ كثيرة ومعانٍ أيضًا. والنصارى بأيديهم توراة "العتيقة" وهي مخالفة لتلك النسختين فأما الأناجيل فأربعة: مرقس، لوقا، متى، يوحنا وهي مختلفة أيضًا.

هذه القراءة: فقد بلغني أن بعضهم يقول: إن قراءتي خير من قراءتك. قال الصحابة: فما تشير به؟ قال أرى أن تجمع الناس على مصحف واحد فلا تكون فرقة ولا اختلاف. فقال الصحابة فنعم ما رأيت. هنالك أرسل عثمان إلى حفصة بنت عمر أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف يريد ما كان أبو بكر قد أمر زيد بن ثابت بجمعه، فنسخ منها ثم ردها. وأمر عثمان زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام بنسخ هذه الصحف في المصاحف. وأرسل عثمان إلى كل جند من أجناد المسلمين بمصحف، والمشهور أن هذه المصاحف أربعة: وجه واحدًا إلى الكوفة والثاني إلى البصرة والثالث إلى الشام وأمسك عنده الرابع. روي عن الإمام علي -رضي الله عنه- قوله: لو وليت ما ولي عثمان لعملت بالمصاحف ما عمل، وفي رواية لو لم يصنعه لصنعته. يقول الرزكشي, رحمه الله: "لقد وفق عثمان -رضي الله عنه- لأمر عظيم، ورفع الاختلاف وجمع الكلمة وأراح الأمة".

الأسلوب القرآني في الطلب والتخيير

الأسلوب القرآني في الطلب والتخيير: إن للقرآن الكريم أسلوبًا خاصًّا في بيان الأحكام وفي الدلالة على تحريم الأشياء أو إباحتها أو طلبها.. فلم يأت بما قد تسأمه النفوس من التعبير عن الحرام بكلمة "حرام" فقط، بل أتى بأساليب متنوعة: منها التحذير ومنها الوعيد والتهديد، ومنها بيان المضار التي تحيق بالإنسان ومجتمعه إذا ما ارتكب تلك الأفعال.. وغير ذلك من الأساليب المختلفة التي اقتضتها بلاغته ليكون مشوقًا وباعثًا على القبول وحب الامتثال، فنراه يسوق الأحاديث ممزوجة بالتبشير تارة ترغيبًا في الفعل، وتارة بالإنذار والوعظ والتذكير تحذيرًا من إتيان الباطل والمنكر..ويورد الصيغ الدالة على رضاه تعالى عن الفعل والفاعل إشعارًا بإباحة هذا الفعل أو بطلبه، أو مقرونة بسخطه ومقته للفعل والفاعل إيذانًا بتجنب هذا

العمل المشين. وقد وضع الفقهاء لهذه الصيغ اصطلاحات فقهية هي: المباح، والمندوب والواجب، والمحرم والمكروه. وقد استعان الفقهاء في التمييز بين هذه الأسماء بالعرف العربي الجاري في الاستعمال. وبما قارنها في القرآن الكريم من صيغ الوعد والوعيد والمديح والذم والدلالة على الطلب والنهي. وسأورد نماذج من الأسلوب القرآني في طلب الفعل، وفي إباحته، وفي تحريمه لمعرفة كيفية استنباط الأحكام من القرآن الكريم: أ- نماذج من الأسلوب القرآني في طلب الفعل: 1- صريح الأمر: كما في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} 1. 2- فعل الأمر أو المضارع المقرون باللام: نحو {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} 2, ونحو {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} 3. 3- الإخبار بأن الفعل مكتوب أو مفروض نحو قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} 4, ونحو {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} 5, وقوله سبحانه: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} 6. 4- الإخبار عن الفعل بأنه خير أو بر أو موصل للبر: كما في قوله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} 7, {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} 8, {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} 9.

_ 1 سورة النساء: 58. 2 سورة البقرة: 43. 3 سورة الحج: 29. 4 سورة النساء: 103. 5 سورة البقرة: 183. 6 سورة الأحزاب: 50. 7 سورة البقرة: 220. 8 سورة البقرة: 189. 9 سورة آل عمران: 192.

5- وقوع الفعل جزاء للشرط: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} 1, {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} 2. ب- نماذج من الأسلوب القرآني في بيان الإباحة: 1- لفظ الحل: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} 3. {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} 4. 2- نفي الإثم أو الجناح أو الحرج: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} 5, {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} 6. {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} 7, {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} 8. جـ- نماذج من الأسلوب القرآني في تحريم الفعل: 1- صريح النهي أو التحريم: {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} 9, {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ} 10, {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} 11, {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} 12. 2- صغية النهي أو الأمر بالترك: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا

_ 1 سورة البقرة: 196. 2 سورة البقرة: 280. 3 سورة المائدة: 1. 4 سورة المائدة: 5. 5 سورة البقرة: 173. 6 سورة النور: 61. 7 سورة النساء: 24. 8 سورة البقرة: 235. 9 سورة النحل: 90. 10 سورة الممتحنة: 9. 11 سورة النساء: 23. 12 سورة المائدة: 3.

بِالْحَقِّ} 1, {وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} 2, {وَدَعْ أَذَاهُمْ} 3. 3- الإخبار بأن الفعل شر أو ليس من البر {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ} 4, {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} 5. 4- ذكر الفعل مقرونًا بالوعيد أو باستحقاق الإثم {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} 6, {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} 7. 5- نفي الفعل أو الحل: {فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} 8, {لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} 9.

_ 1 سورة الإسراء: 33. 2 سورة الأنعام: 120. 3 سورة الأحزاب: 48. 4 سورة آل عمران: 180. 5 سورة البقرة: 189. 6 سورة النساء: 93. 7 سورة البقرة: 181. 8 سورة البقرة: 193. 9 سورة النساء: 19.

أساس التشريع في القرآن الكريم

أساس التشريع في القرآن الكريم: لقد نزل القرآن الكريم على محمد -صلى الله عليه وسلم- لإصلاح أحوال الناس. وإخراجهم من الكفر إلى الهدى ومن الضلال إلى الإيمان، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ولذلك فإن الأحكام القرآنية رعت مصلحة العباد، فنهتهم عن الخبائث وأباحت لهم الطيبات، وأمرتهم بأوامر فيها خيرهم وإسعادهم في الدنيا والآخرة. قال الله تعالى: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} 1. وقد قام التشريع الإسلامي في القرآن الكريم على أساسين يوضحان

_ 1 سورة الأعراف الآية: 157.

المقاصد العامة للدين الإسلامي السمح: أما الأساس الأول: فهو رفع الحرج. وأما الثاني: فهو التدرج في التكاليف. رفع الحرج: إن قاعدة رفع الحرج وإزالة الضيق قاعدة مهمة وأساسية في التشريع، حتى إن الفقهاء اعتبروها من أهم مقاصد الشريعة يجتهدون على ضوئها لما فيه مصلحة للعباد. قال تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} 1. وقال: {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} 2. وقال: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} 3. التدرج في التشريع: جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- والعرب قد استحكمت فيهم عادات منها ما هو صالح للبقاء ولا ضرر منه على تكوين الأمة، ومنها ما هو ضار يريد الشارع إبعادهم عنه، فاقتضت حكمته أن يتدرج بهم في التشريع شيئًا فشيئًا لبيان حكمه وإكمال دينه. والمتأمل في كلا الحكمين لا يرى الآخر إبطالًا للأول ويظهر ذلك في المثال التالي: سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الخمر والميسر وهما من العادات المستحكمة عندهم فأجابهم القرآن في سورة البقرة. {فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} 4. فلم يصرح بطلب الكف عنهما، وإن كان مغزى الآية يشعر بالنهي لأن ما كثر إثمه

_ 1 سورة الأعراف: 157. 2 سورة البقرة: 286. 3 سورة البقرة: 286. 4 سورة البقرة: 219.

حرم فعله، ويقل أن يوجد خير مطلق أو شر مطلق، فمدار التحليل والتحريم الغلبة والرجحان، فإن كان إثمهما أكبر فهذا حث على الامتناع عنهما ولكن بطريق غير جازم، وبناء على هذه الآية امتنع عن الخمر تقاة النفوس. ثم جاءت آية ثانية تصرح بالنهي عن الاقتراب إلى الصلاة في حالة السكر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} 1, وليس في هذا النهي إبطال للحكم الأول بل هو تأييد وتأكيد له. ثم جاءت الآية الثالثة تصرح بالتحريم القاطع قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} 2. وهكذا فقد مر "تحريم الخمر" في مراحل ثلاث: المرحلة الأولى: تبين أن الإثم راجح على المنفعة. المرحلة الثانية: تبين أن الخمر محرم قبيل الصلاة، ويجب أن يزول أثرها تمامًا قبيل دخول وقت الصلاة، ويتكرر دخول الوقت خمس مرات في اليوم والليلة. ولذلك هانت الخمر على الناس، وامتنع كثير منهم عن تناولها. المرحلة الثالثة: وحينما تهيأت النفوس لتلقي الحكم الجازم والحد الفاصل فيها نزل التحريم الصريح. وبهذه الطريقة الحكيمة عالج القرآن العادات القبيحة المتأصلة في نفوس الجاهلين، وقضى عليها واحدة تلو الأخرى. هذا ولما كان نظر المجتهد يتعقب الأحكام الواردة في القرآن الكريم رأيت أن أبين أنواعها فيما يأتي:

_ 1 سورة النساء: 43. 2 سورة المائدة: 90-91.

أنواع الأحكام الواردة في القرآن الكريم

أنواع الأحكام الواردة في القرآن الكريم: لقد شملت أحكام القرآن الكريم جوانب الحياة الإنسانية جميعها، ويمكن أن نسلسلها حسب الترتيب الآتي: 1- أحكام اعتقادية، تتعلق بما يجب على المكلف اعتقاده في وحدانية الله وصفاته، وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. 2- أحكام خلقية: تتعلق بما يجب على المكلف أن يتحلى به من الفضائل والمكارم وما يتخلى عنه من الرذائل. 3- أحكام عملية: تتعلق بما يصدر عن المكلف من أقوال وأفعال وعقود وتصرفات. وهذا النوع يسمى "بفقه القرآن". وهو مقصد الاجتهاد بصورة خاصة وأصول الفقه بصورة عامة. والأحكام العملية في القرآن الكريم تتنوع إلى نوعين: الأول: أحكام العبادات من صلاة وصوم وحج ونذر ونحوها من العبادات التي يقصد بها تنظيم علاقة الإنسان بربه. والثاني: أحكام المعاملات من عقود وتصرفات وغيرها مما يقصد بها تنظيم علاقة المكلفين بعضهم ببعض، سواء أكانوا أفرادًا أم أممًا أم جماعات. ويطلق على هذه الأحكام في الاصطلاح الشرعي أحكام المعاملات، وأما في اصطلاح العصر الحديث فقد تنوعت أسماؤها بحسب ما تتعلق به وما يقصد منها إلى الأنواع التالية: 1- أحكام الأحوال الشخصية وهي التي تتعلق بالأسرة من بدء تكونها، ويقصد بها تنظيم علاقة الزوجين والأقارب. 2- الأحكام المدنية وهي التي تتعلق بمعاملات الأفراد ومبادلاتهم من بيع وإجارة ورهن وكفالة وشركة ومداينة، ويقصد بها تنظيم علاقات الأفراد المالية وحفظ حق كل ذي حق. 3- الأحكام الجنائية ويقصد بها حفظ حياة الناس وأموالهم وأعراضهم.

4- أحكام المرافعات وهي التي تتعلق بالقضاء والشهادة واليمين ويقصد بها تنظيم الإجراءات لتحقيق العدل بين الناس. 5- الأحكام الدستورية وهي التي تتعلق بنظام الحكم وأصوله، ويقصد بها تحديد علاقة الحاكم بالمحكوم. 6- الأحكام الدولية وهي التي تتعلق بمعاملة الدولة الإسلامية لغيرها من الدول، وبمعاملة غير المسلمين في الدول الإسلامية، ويقصد بها تحديد علاقة الدولة الإسلامية بغيرها من الدول في السلم والحرب. 7- الأحكام الاقتصادية والمالية، ويقصد بها تنظيم العلاقات المالية. ومن الملاحظ أن القرآن الكريم ذكر أحكامًا تفصيلية في العبادات وما يلحق بها من الأحوال الشخصية والمواريث، لأن معظم هذه الأحكام تعبدي ولا مجال للعقل فيه، وهي لا تتغير بتغير الأزمان والبيئات. وأما ما سوى ذلك من الأحكام فالقرآن الكريم قد وضع لها قواعد عامة ومبادئ أساسية، ولم يتعرض فيها لتفصيلات جزئية إلا في النادر لأن هذه الأحكام تتطور بتطور البيئات والمصالح، فترك المجال متسعًا لولاة الأمور وللعلماء المجتهدين للنظر فيها في كل عصر ليفصلوا الأنظمة حسب المصالح وعلى ضوء تلك القواعد1.

_ 1 انظر تفصيل هذا المبحث في كتاب: أصول الفقه للأستاذ عبد الوهاب خلاف: ص32-34، تاريخ التشريع الإسلامي للشيخ السايس وزميله: ص44-53، تاريخ التشريع للشيخ الخضري: ص29، تاريخ التشريع الإسلامي للدكتور أحمد شلبي ص136-141.

دلالة القرآن الكريم بين القطعية والظنية

دلالة القرآن الكريم بين القطعية والظنية: نصوص القرآن الكريم قطعية من جهة ورودهاوثبوتها ونقلها عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-إلينا، أي نجزم ونقطع بأن كل نص نتلوه من نصوص القرآن هو نفسه الذي أنزله الله على رسوله، وبلغه المعصوم -صلى الله عليه وسلم- إلىأصحابه فحفظه من حفظ. وقد كانت ملكة الحفظ قوية لدى العرب حتى أنهماستغنوا بها عن الدواوين وعن كتابة تاريخالحوادث. وكتبها كتاب الوحي مرتبة كما بلغمحمد -صلى الله عليه وسلم- عن ربه

تبارك وتعالى. وتناقل المسلمون القرآن كتابة من المصحف المدون الذي جمع في عهد أبي بكر ثم في عهد عثمان، وتلقوه من الحفاظ جيلًا عن جيل، وما اختلف المكتوب منه والمحفوظ، ولا اختلف في لفظة واحدة على اتساع رقعة البلاد الإسلامية واختلاف الشعوب لونًا ولهجة وبيئة. وهذا هو سر القرآن العظيم وهذا هو إعجازه البليغ، وتصديق لقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 1. أما من جهة الدلالة فهناك نصوص قطعية الدلالة وهي ما تعين المراد منها دون أن تحتمل تأويلًا مغايرًا أو فهمًا مخالفًا مثل قول الله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ} 2. فهذا قطعي الدلالة على أن فرض الزوج في هذه الحالة النصف لا غير.. ومثل قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} 3. فهذا النص قطعي الدلالة على أن حد الزنا مائة جلدة لا أكثر ولا أقل. ومثل هذا كل نص دل على فرض مقدر في الإرث، أو حد معين في العقوبة، أو نصاب محدد. وهناك نصوص ظنية الدلالة وهي ما دلت على معنى مع احتمال التأويل، وصرفه إلى معنى مغاير للمعنى الأول، مثل قول الله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} 4, فلفظ قرء في اللغة العربية مشترك بين معنيين، فهو يطلق على الطهر ويطلق على الحيض، والنص دل على أن المطلقات يتربصن ثلاثة قروء، فيحتمل أن يراد ثلاثة أطهار، ويحتمل أن يراد ثلاثة حيضات. فالنص هنا ليس بقطعي الدلالة على معنى واحد بل هو ظني الدلالة لقيام احتمال المعنيين. ولهذا اختلف المجتهدون في عدة المطلقة ذات القرء: أهي ثلاث حيضات أم هي ثلاثة أطهار؟

_ 1 سورة الحجر: 9. 2 سورة النساء: 12. 3 سورة النور: 2. 4 سورة البقرة: 228.

وفي النصوص الظنية الدلالة مجال لنظر المجتهد: هل اللفظ مستعمل على الحقيقة أم على المجاز، وهل هو مشترك بين معنيين أم أكثر؟ وهل اللفظ عام أم أنه خاص، وإذا كان عامًّا فهل من نص آخر يخصصه؟ وهل هو مطلق وهل يوجد ما يقيده.. فهذا يدل على معنى ويحتمل الدلالة على غيره..

السنة الشريفة

السنة الشريفة مدخل ... السنة النبوية المصدر الثاني للشريعة الإسلامية 1- تعريف السنة في اللغة والاصطلاح. 2- أقسام السنة باعتبار السند. 3- أقسام السنة باعتبار ما يصدر عن الرسول, عليه الصلاة والسلام. 4- نسبة السنة للقرآن الكريم. 5- مكانة السنة في التشريع.

السنة في اللغة والاصطلاح

السنة في اللغة والاصطلاح ... السنة في اللغة: الطريقة، والسيرة، حميدة كانت أو ذميمة، والجمع سنن، مثل غرفة غرف. ويقال: سننت السكين سنًّا "من باب قتل": أحددته، وسننت الماء على الوجه: صببته صبًّا سهلًا، والسنن: الوجه من الأرض، وفيه لغات، أجودها بفتحتين. ويقال: تنح عن سنن الطريق وعن سنن الخيل أي عن طريقها1, وسن الإبل ساقها سريعًا، وسن الغنم: أرسله في الرعي أو أحسن القيام عليه، حتى كأنه صقله. وسن الأمر بيَّنه، وسن الشيء صوره، وسن الماء صبه، وسن الطريقة سار عليها2. فالكلمة موضوعة في اللغة للاستعمال المادي والمعنوي، وتعرف بالقرينة. قال الله تبارك وتعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَان َعَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} 3. وقال جل شأنه: {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا} 4. وقال عز من قائل: {فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} 5. وقال عز جلاله: {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} 6. قال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من

_ 1 المصباح المنير: 1/ 312. 2 القاموس المحيط: 4/ 236-237. 3 سورة آل عمران: 137. 4 سورة الإسراء: 77. 5 سورة الأنفال: 38. 6 سورة الأحزاب: 62.

عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء" 1. السنة في صدر الإسلام ولسان الشرع: وقد اقتبسها علماء الإسلام من القرآن واللغة واستعملوها في معنى أخص من المعنى اللغوي، وهي بحسب استعمالهم الطريقة المعتادة في العمل بالدين، أو بعبارة أخرى في الصورة العملية التي بها طبق النبي, عليه الصلاة والسلام وأصحابه -رضي الله عنهم- أمر القرآن الكريم على حسب ما تبين لهم من دلالة القرآن ومقاصده. ويقرب منها في المعنى: كلمات السبيل، الصراط، الطريقة، الطريق المستقيم. قال الله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} 2. وقال عز شأنه: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 3. وقال سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} 4. وقال جل وعلا: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} 5. وقال تبارك اسمه: {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} 6, وقال جلت قدرته: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} 7.

_ 1 رواه مسلم في صحيحه. 2 سورة النساء: 115. 3 سورة يونس: 25. 4 سورة الأحزاب: 21. 5 سورة الجن: 16. 6 سورة الأحقاف: 30. 7 سورة الأنعام: 153.

وبهذا المعنى عرفت كلمة السنة في صدر الإسلام، وقد وردت مقترنة بالكتاب في وصايا الرسول في قوله عليه الصلاة والسلام: "تركت فيكم أمرين لن تضلوا بعدي ما تمسكتم بهما، كتاب الله وسنة رسوله" 1. والسنة المقرونة بالكتاب والتي يكون التمسك بها كالتمسك بالكتاب في الوقاية من الضلال، ليست إلا الطريقة العملية المطردة التي نقلت عن الرسول -عليه الصلاة والسلام- نقلًا متواترًا عمليًّا معروفًا عند الكافة، ومن الوصايا بها على هذا المعنى ما ورد في أحاديث رسول الله, عليه الصلاة والسلام: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي" 2. وقوله عليه الصلاة والسلام: "من رغب عن سنتي فليس مني" 3. ومنه قوله -عليه الصلاة والسلام- في المجوس: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" 4, أي اسلكوا في معاملتهم الطريقة التي اتبعت مع أهل الكتاب، وهذا في الجزية خاصة. ويقابل كلمة "سنة" على هذا الاصطلاح كلمة "بدعة" التي فسرها النبي -عليه الصلاة والسلام- بقوله: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهورد" 5. ويقرب منها في هذا المعنى كلمة "سبيل"الواردة في عبارتي سبيل المفسدين، وسبيل المجرمين، الواردتين في قوله سبحانه: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} 6, وقوله عز شأنه: {وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} 7. السنة في اصطلاح الفقهاء: أما السنة في اصطلاح الفقهاء فقد أخذت معنىجديدًا، إذ إنها أخذت تطلق على ما يقابل الواجب من العبادات، وهو الصفة الشرعية للفعل المطلوب

_ 1، 2 الترغيب والترهيب ج1 ص60. 3 نيل الأوطار ج6 ص113. 4 الجامع الصغير للسيوطي ج2 ص30. 5 انظر مشكاة المصابيح ج3 ص810. 6 سورة الأنعام: 55. 7 سورة الأعراف: 142.

طلبًا غير جازم بحيث يثاب المرء على فعله ولا يعاقب على تركه، وهي بهذا الإطلاق ترادف المندوب، وتقابل الواجب والمحرم والمكروه والمباح1. قال عضد الدين: وهي عند الفقهاء النافلة في العبادات2. وفي فقه الحنفية: "ما واظب على فعله مع ترك ما بلا عذر"3, فقالوا مع ترك ما بلا عذر ليخرج الواجب الذي ليس لتركه رخصة بلا عذر، وعقب ابن أمير الحاج على هذا التعريف بقوله: ولا يخفى عدم شموله لجميع المسنونات. ثم إن الفعل الذي لم يواظب الرسول -عليه الصلاة والسلام- على فعله ينقسم إلى مندوب ومستحب، وإن لم يفعله بعدما رغب فيه4. في اصطلاح الأصوليين: السنة عند علماء الأصول هي ما صدر عن الرسول -عليه الصلاة والسلام- غير القرآن من قول أو فعل أو تقرير5. وقيد محمد أمين أفعال الرسول -عليه الصلاة والسلام- بأنها مما ليس من الأمور الطبيعية6. ثم إن من علماء الأصول -كالبيضاوي- من لم يذكر التقرير لدخوله في الفعل7. لأنه كف عن الإتيان والكف فعل. وقيل: القول فعل أيضًا, فلو تكره من التعريف لكان جائزًا، اللهم إلا أن يقال: اشتهر إطلاق الفعل مقابلًا له فيجب ذكره دفعًا لتوهم الاقتصار عليه8. ووسع الحنفية -رحمهم الله- دائرة السنة في الاصطلاح الشرعي، فأدخلوا فيها سنة الصحابة بعد رسول الله _صلى الله عليه وسلم9- واستدلوا على ذلك بقوله, صلى الله عليه وسلم: "عليكم

_ 1 تيسير التحرير لمحمد أمين: 3/ 19-20 بتصرف. 2- شرح مختصر ابن الحاجب ج1 ص22. 3 التحرير للكمال بن الهمام. 4 التقرير والتحبير لابن أمير الحاج ج2 ص223. 5 مختصر ابن الحاجب مع شرح العضد: 1/ 222. 6 تيسير التحرير: 3/ 19. 7 المنهاج للبيضاوي مع شرح الأسنوي 2/ 194. 8 التقرير والتحبير لابن أمير الحاج 2/ 222. 9 كشف الأسرار شرح أصول البزدوي ج2 ص 679، أصول السرخسي 1/ 113.

بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ". قال السرخسي: "والمراد بالسنة شرعًا: ما سنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقط". وأطلق السلف السنة على طريقة أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- وكانوا يأخذون البيعة على سنة العمرين "أبي بكر وعمر"1. وكانت السنة بالمعنى الاصطلاحي المصدر الثاني للتشريع تستنبط منها الأحكام كما تستنبط من المصدر الأول، وهو القرآن الكريم، ويرجع إليها في فهم المراد من كتاب الله تبارك وتعالى، ولهذا السبب قيل: إن أصول الشرع هما القرآن والسنة. وأما ما سواهما من أصول فهي مظهرة ومبينة لأحكام الله، ولا منشئة كالقياس والاستصحاب.

_ 1 أصول السرخسي: 1/ 114.

أقسام السنة باعتبار السند

أقسام السنة باعتبار السند ... ويمكننا أن نقسم السنة باعتبارين: الاعتبار الأول من حيث السند. والاعتبار الثاني من حيث ما يصدر عن النبي -عليه الصلاة والسلام- من قول أو فعل أو تقرير. التقسيم الأول باعتبار السند: تنقسم السنة بهذا الاعتبار عند الجمهور إلى قسمين: الأول: السنة المتواترة. والثاني: سنة الآحاد سواء أكان خبر الواحد مستفيضًا وهو الذي زادت رواته على ثلاثة كما قرر ابن الحاجب والآمدي1، وغير المستفيض وهو المشهور، وهو ما رواه الثلاثة فأقل ثم اشتهر ولو في القرن الثاني أو الثالث، إلى حد ينقله ثقات لايتوهم تواطؤهم على الكذب2 ويهمنا هنا أن نعرف كلًا من

_ 1 مختصر المنتهى الأصولي لابن الحاجب مع حاشيةالسعد: 2/ 55، الأحكام للآمدي: 2/ 21. 2 المستصفى للغزالي: 1/ 93، إرشاد الفحول للشوكاني: ص41.

المتواتر والآحاد، ونبين ما يفيداه: أولًا: السنة المتواترة أو الحديث المتواتر: التواتر في اللغة: هو التتابع، يقال: تواترت الخيل: إذا جاءت يتبع بعضها بعضًا: ومنه "جاءوا تترى" أي متتابعين، وترًا بعد وتر، والوتر الفرد1. أما تعريفه في الاصطلاح، فقد عرف تعريفات متعددة نختار منها ما قاله البزدوي: "هو الذي اتصل بك من رسول الله لا اتصالًا بلا شبهة حتى صار كالمعاين المسموع منه، وذلك بأن يرويه قوم لا يحصى عددهم، ولا يتوهم تواطؤهم على الكذب لكثرتهم وعدالتهم وتباين أماكنهم، ويدوم هذا الحد فيكون آخره وأوسطه كطرفيه، وذلك مثل نقل القرآن الكريم والصلوات الخمس، وأعداد الركعات ومقادير الزكاة، وما أشبه ذلك2. ونأخذ من هذا التعريف شروط المتواتر وهي: 1- تعدد النقلة بحيث يمتنع عادة تواطؤهم على الكذب لاختلاف مشاربهم وبلدانهم. 2- صلة الإسناد. 3- أن يستوي في ذلك الطرفان والوسط، بأن يحدث المشاهدون أنهم شاهدوا، وهم جمع يؤمن تواطؤهم عن الكذب، وينقل عنهم أنهم شاهدوا مثلهم حتى يصل إلينا3. وهذا القسم يوجب علم اليقين بمنزلة العيان علمًا ضروريًّا. ثانيًا: السنة المشهورة أو الحديث المشهور: وهو ما كان أحادي الأصل ثم انتشر واشتهر في القرن الثاني والثالث ونقله قوم لا يتوهم تواطؤهم على الكذب, وأولئك قوم ثقات أئمة لا يتهمون، فصار بشهادتهم وتصديقهم قريبًا من

_ 1 المصباح المنير: 2/ 321. 2 أصول البزدوي: 2/ 680-681. 3 الأحكام للآمدي: 2/ 25.

المتواتر مفيدًا للطمأنينة فيكون حجة من حجج الله، قال عيسى بن أبان: إن المشهور من الأخبار يضلل جاحده ولا يكفر، مثل حديث المسح على الخفين وحديث الرجم، وهو الصحيح عند الحنفية، لأن المشهور بشهادة السلف صار حجة للعمل به كالمتواتر فصحت الزيادة به على كتاب الله تعالى، وهو نسخ عند الحنفية، وتخصيص عند الشافعية. وذلك مثل زيادة الرجم والمسح على الخفين والتتابع في صيام كفارة اليمين، لكنه لما كان في الأصل من الآحاد ثبت به شبهة فسقط به علم اليقين، ولم يستقم اعتباره في العمل فاعتبر في العلم. وهو يفيد علم الطمأنينة لا علم اليقين1. القسم الثالث: خبر الواحد: وهو كل خبر يرويه الواحد أو الاثنان فصاعدًا، لا عبرة للعدد فيه بعد أن يكون دون المشهور والمتواتر، وهذا يوجب العمل ولا يوجب العلم يقينًا2. وقد يفيد العلم بواسطة القرائن، ولا يفيده مجردًا عنها3.

_ 1 أصول البزدوي مع كشف الأسرار لعبد العزيز البخاري: 3/ 688- 690. 2 أصول البزدوي مع كشف الأسرار لعبد العزيز البخاري: 2/ 688- 690. 3 الأحكام للآمدي: 2/ 32.

أقسام السنة باعتبار ما يصدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم

أقسام السنة باعتبار ما يصدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم ... التقسيم الثاني باعتبار ما يصدر عن الرسول -صلى الله عليه وسلم - فإن السنة تقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: السنة القولية: وهي الأحاديث التي قالها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مختلف الأغراض والمناسبات، مثل قوله, عليه الصلاة والسلام: "إنما الأعمال بالنيات" 1 , وقوله عليه الصلاة والسلام: "لا ضرر ولا ضرار" 2. وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا وصية لوارث" 3,ونقلت إلينا تلك الأحاديث إما بطريق التواتر، أو بطريق الآحاد.

_ 1 متفق عليه، انظر البخاري: ج1 ص21. 2 رواه مالك في موطئه وابن ماجه والدارقطني. 3 مشكاة المصابيح: ج2 ص86.

القسم الثاني: السنة الفعلية: وهي الأعمال التي قام بها -عليه الصلاة والسلام- على وجه البيان، لما ورد في القرآن الكريم، والتبليغ عن الله تبارك وتعالى للأمة الإسلامية. مثل أداء الصلوات الخمس، وأداء شعائر الحج. وقد تكلم الأصوليون -رحمهم الله تعالى- بتفصيل عن أفعال الرسول -صلى الله عليه وسلم- وسأوجز الكلام فيها بما يتلاءم مع طبيعة البحث. إن أفعال الرسول -عليه الصلاة والسلام- تنقسم إلى أربعة أقسام: 1- القسم الأول: ما صدر عنه -صلى الله عليه وسلم- من أفعال الجبلية كالأكل والشرب، والنوم واللبس، وما شاكلها. 2- القسم الثاني: ما صدر عنه -عليه الصلاة والسلام- من أفعال خاصة به، كزواجه أكثر من أربع، وجواز النكاح بغير مهر، ومواصلة الصوم. 3- القسم الثالث: ما صدر عن النبي -عليه الصلاة والسلام- بقصد القربى لله تعالى: كالصلاة والصوم، والصدقة وما ماثلها. 4- القسم الرابع: ما صدر عنه -صلى الله عليه وسلم- كالبيع والمزارعة، والمعاملة وغيرها. حكم الاقتداء بأفعاله, صلى الله عليه وسلم: 1- الأفعال التي لا تتعلق بالعبادات ووضح فيها أمر الجبلة، فإنها تفيد الإباحة، وليس فيها أمر باتباع ولا نهي عن مخالفة. 2- ما علم اختصاصه به -صلى الله عليه وسلم- وثبتت الخصوصية بالدليل كجواز النكاح من غير مهر أو الزيادة على أربع، فليس لأمته وجوب الاقتداء به، وإن لم تثبت الخصوصية له -صلى الله عليه وسلم- بالدليل كصلاة الضحى والتهجد، فيستحب لأمته الاقتداء به، لأنها عبادة وقربى إلى الله تعالى. 3- الفعل المجرد مما سبق: يعتبر دليلًا في حق الأمةوواجبًا عليها1.

_ 1 إرشاد الفحول للشوكاني: ص35 وما بعدها.

نسبة السنة المطهرة للقرآن الكريم

نسبة السنة المطهرة للقرآن الكريم: لقد أبان الشافعي -رحمه الله- نسبة السنة إلى القرآن من جهة ما ورد فيها من أحكام فقال: إما أن تكون السنة مقررة ومؤكدة حكمًا جاء في القرآن الكريم، أو مبينة وشارحة له، أو للاستدلال بها على النسخ، أو منشئة حكمًا سكت عنه القرآن1. فهذه صور أربع هي: الصورة الأولى: أن تكون السنة مقررة ومؤكدة لحكم ورد في القرآن، وعندئذ يكون للحكم مصدران ودليلان، مثل الأمر بإقامة الصلاة وإيتاءالزكاة، وصوم رمضان وحج البيت، والنهي عن الشرك بالله، وشهادة الزور وعقوق الوالدين، وقتل النفس بغير حق والنهي عن أكل مال الغير. كقول الرسول, عليه الصلاة والسلام: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه" 2. فإنه مؤيد لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاتَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} 3. وكقوله عليه الصلاة والسلام: "اتقوا الله في النساء واستوصوا بهن خيرًا" 4. فإنه موافق لقوله عز وجل: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} 5. الصورة الثانية: أن تكون السنة مبينة للقرآن الكريم، وهذا البيان على أوجه:

_ 1 انظر: الرسالة للشافعي: ص64، 85، 113،167. 2 رواه أحمد في مسنده: 5/ 72، صحيح البخاري كتاب الوصايا: جـ8، وروى بمعناه مسلم وابن ماجه. 3 سورة النساء: 29. 4 مشكاة المصابيح: ج2 ص16. 5 سورة النساء: 19.

الأول: أن تبين السنة مجمل القرآن الكريم، مثل الأحاديث التي فصلت كيفية إقامة الصلاة وأدائها على الوجه المطلوب من قيام وركوع، وسجود وتكبيرات، وتسبيحات وقراءات، فإنها مبينة لمجمل قول الله تبارك وتعالى: {وَأَقِيمُوا الْصَّلاَةَ} . ومثل الأحاديث التي فصلت فريضة إيتاء الزكاة، فذكرت الأموال التي تجب فيها الزكاة وأنصبتها ووضحت شروطها.. وغير ذلك من العبادات والمعاملات التي أجملها الكتاب الكريم، وتناولتها السنة بالتوضيح والتبيين. والثاني: أن تخصص السنة عام القرآن مثل قول الرسول, صلى الله عليه وسلم: "لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها ولا على ابنة أخيها ولا على ابنة أختها" 1, فإنه مخصص لقول الله تعالى بعد ذكر المحرمات من النساء: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} 2. ومثل حديث: "لا يرث القاتل " 3 فإنه مخصص لآيات المواريث في سورة النساء وهو قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} 4. الثالث: أن تقيد السنة مطلق القرآن، أو تبين المراد منه عند الاحتمال مثل تكرار الغسل لأعضاء الوضوء ووجوب غسل المرفقين، فإنه مبين للمراد من الإطلاق في قول الله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} 5 فالآية تحتمل تكرار الغسل وعدمه، كما تحتمل دخول المرفقين في الغسل. الرابع: البيان بطريق القياس على ما ورد في الكتاب، وذلك راجع إلى دلالة القرآن، فإن النص القرآني المقرر لحكم الأصل، وإن كان خاصًّا به في

_ 1 رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن. 2 سورة النساء: 24. 3 رواه ابن ماجه والدارمي في كتاب الفرائض. 4 سورة النساء: 11. 5 سورة المائدة: 6.

الصورة -فهو عام في المعنى من حيث عموم العلة، ومن أمثلة ذلك: أولًا: إن الله حرم الربا ورد على أهل الجاهلية قولهم: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} بقوله سبحانه: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} 1, وكان الربا الشائع عندهم هو فسخ الدين في الدين. يقول الطالب: إما أن تقضي وإما أن تربي. ولما كان المنع فيه من قبل كونه زيادة بلا عوض ألحقت السنة به كل ما فيه زيادة بهذا المعنى. فقال الرسول, عليه الصلاة والسلام: "الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلًا بمثل سواء بسواء يدًا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد" 2. ثانيًا: بيَّن القرآن الكريم بعض المحرمات من الرضاعة بقوله: {وَأُمَّهَاتُكُمْ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} 3, فألحقت السنة بهما سائر القرابات بالرضاعة من اللاتي كن يحرمن بالنسب كالعمة والخالة. وبنت الأخ وبنت الأخت، وهذا الإلحاق بطريق القياس من باب نفي الفارق بين الأصل والفرع. ثالثًا: إن الله تبارك وتعالى أحل الطيبات وحرم الخبائث، وقال جل شأنه: {قُلْ لا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} 4. فألحقت السنة بالمحرم كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير، وفي الحديث: "إن النبي-صلى الله عليه وسلم- نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطير" 5. كما نهى -صلى الله عليه وسلم- عن أكل لحوم الحمر الأهلية6.

_ 1 سورة البقرة: 275. 2 رواه البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه. 3 سورة النساء: 23. 4 سورة الأنعام: 145. 5 رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي، انظر نيل الأوطار: 8/ 284، شرح الزرقاني على الموطأ: 3/ 90-91. 6 متفق عليه انظر نيل الأوطار: 8/ 281، شرح الزرقاني على الموطأ 3/ 92.

وألحقت السنة بالطيبات: الضب1 والأرنب2 فهذا الإلحاق بيان بطريق القياس. رابعًا: إن الله عز وجل حرم الزنا، وأحل التزويج وملك اليمين، وسكت عن النكاح المخالف للمشروع، فإنه ليس بنكاح محض ولا سفاح محض كما في النكاح بغير ولي، فقال, صلى الله عليه وسلم: "أي امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فإن دخل بها فلها المهر بما استحل منها" 3. فهذا إلحاق مسكوت بمنطوق. الخامس: البيان بطريق التفريع على القواعد العامة المستنبطة من أدلة القرآن المختلفة، وهذا شبيه بما يسمى المصالح المرسلة والاستحسان ومن أمثلة ذلك4: أولاً: قال سبحانه: {وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} 5. وقال جل شأنه: {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} 6, ونهى تعالى في أكثر من موضع من القرآن الكريم عن التعدي على الأنفس والأموال والأعراض، كما نهى تعالى عن الغصب والظلم. ثانيًا: وقوله, صلى الله عليه وسلم: " من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه" 7. وقوله: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" 8. فإنهما يرجعان إلى سد الذرائع المقرر أصله في القرآن الكريم بقوله

_ 1 عن ابن عمر قال: سئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الضب فقال: "لست بآكله ولا محرمه" متفق عليه. انظر نيل الأوطار: 8/ 287، سنن الدارمي: 2/ 92. 2 انظر نيل الأوطار: 8/ 290، سنن الدارمي: 2/ 92. 3 أخرجه أبو داود والترمذي، الموافقات للشاطبي: 4/ 32-38. 4 البقرة: 231. 5 سورة الطلاق: 6. 6 سورة البقرة: 233. 7 سنن الدارمي: 2/ 245، رواه البخاري في كتاب الإيمان والبيوع، ومسلم في المساقاة، وأبو داود والترمذي، والنسائي في البيوع. 8 سنن الدارمي: 2/ 245، رواه البخاري في كتاب البيوع والترمذي في القيامة وأحمد في مسنده.

تعالى: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} 1 , وقوله تبارك وتعالى: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} 2. الصورة الثالثة: أن يستدل بالسنة على ناسخ القرآن ومنسوخه، وهذا على مذهب الإمام الشافعي -رحمه الله- الذي لا يقول نسخ القرآن بالسنة لقوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} 3, فإنَّ فِعْلَ "نأت" يدل على أن الآتي بالخبر أو المثل هو الله تعالى، وذلك لا يكون إلا إذا كان الناسخ هو القرآن، وأن كلمتي"بخير أو مثلها" تقتضيان كون البدل خيرًا من الآية المنسوخة أو مثلًا لها، والسنة ليست كذلك، ولكن السنة هي التي تبين نسخ القرآن للقرآن، مثال ذلك قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَاحَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} 4. فهذه الآية منسوخة بآيات المواريث غير أن معرفة هذا النسخ كان بالسنة. وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "لاوصية لوارث" 5. وقد خالف في ذلك جمهور العلماء، ومن الشافعية البيضاوي والأسنوي حيث قرروا أن السنة قد تأتي ناسخة لبعض آيات من القرآن الكريم ومثلوا له بحديث: "لا وصية لوارث" فإنه نسخ حكم آية الوصية: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَاحَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ} الآية. وليس الناسخ هو آية المواريث إذ لا تنافي بينهما وبين آية الوصية للأقربين، فإن الأولى في ثلثي المال والوصية تنفذ في الثلث. ويمكن القول: إن السلف كانوا يطلقون النسخ على كل من التخصيص والنسخ، فليس بلازم أن يكون مراد الشافعي النسخ الذي هو الرفع والإزالة،

_ 1 سورة النور: 31. 2 سورة الفتح: 25. 3 سورة البقرة: 106. 4 سورة البقرة: 180. 5 رواه البخاري وأبو داود، والترمذي والنسائي، وابن ماجه والدارمي، في الوصايا "مع اختلاف يسير في الألفاظ".

ولعل الذي يؤيد ذلك قوله في أصول مذهبه: "الأصل: كتاب أو سنة". الصورة الرابعة: أن تكون السنة مثبتة ومنشئة حكمًا سكت عنه القرآن الكريم، فيكون هذا الحكم ثابتًا بالسنة ولا يدل عليه نص من القرآن، مثل الأخبار التي تدل على رجم الزاني المحصن1، والحكم بشاهد ويمين2، وتحريم لبس الذهب والحرير على الرجال، وصدقة الفطر3، وتحريم لحم الحمر الأهلية4، وفكاك الأسير5 ونحو ذلك. يتبين مما تقدم أن السنة راجعة إلى القرآن الكريم رجوع الشرح للمشروح والمبين للمجمل، كما أنها قد تستقل بتشريع أحكام غير منصوص عليها في القرآن الكريم ما كان لنا أن نهتدي إليها بعقولنا، ولولا هدي الرسالة ما انكشف لنا قريبها فضلًا عن بعيدها6. ومن هذا نعلم أنه لا يمكن أن يقع بين أحكام القرآن والسنة تخالف أو تعارض.

_ 1 عن ابن عباس قال: قال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: "إن الله تعالى بعث محمدًا -صلى الله عليه وسلم-بالحق وأنزل عليه الكتاب، وكان فيما أنزل آية الرجم فقرأناها ووعيناها وعقلناها، ورجم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورجمنا بعده فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل لا نجد الرجم في كتاب الله عز وجل فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله عز وجل، ألا وإن الرجم حق إذا أحصن الرجل وقامت البينة أو كان الحمل أو الاعتراف. "السنن الكبرى للبيهقي: 8/ 211، سنن الدارمي: 1/ 179". 2 روى مالك عن جعفر الصادق بن محمد عن أبيه "محمد بن علي بن الحسين" أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قضى باليمين مع الشاهد. "شرح الزرقاني على موطأ مالك: 3/ 389". 3 عن ابن عمر قال: "فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زكاة الفطر من رمضان صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين" رواه الجماعة. نيل الأوطار: 4/ 249. 4 "نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية ورخص في الخيل" رواه الشيخان. شرح الزرقاني على موطأ مالك ص2/ 92، وفي نيل الأوطار "حرم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحمر الأهلية" متفق عليه: 8/ 281. 5 عن أبي موسى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "فكوا العاني وأطعموا الجائع" , سنن الدارمي2/ 223. وفكاك الأسير في صحيح البخاري كتاب المعلم الحديث: ص39، والجهاد الحديث: 171، والديات: 24، 31، والترمذي: كتاب الديات الحديث: 16، والنسائي كتاب القسامة الحديث: 14. 6 انظر إرشاد الفحول للشوكاني: ص 33، الموافقات: 4/ 27-37.

مكانة السنة في التشريع

مكانة السنة في التشريع: تأتي السنة المطهرة في المرتبة التالية للقرآن الكريم من حيث الاحتجاج بها

والرجوع إليها وأخد الأحكام منها أي أن المجتهد لا يرجع إلى السنة للبحث عن واقعة إلا إذا لم يجد في القرآن الكريم حكم ما أراد معرفة حكمه، لأن القرآن الكريم أصل التشريع ومصدره الأول، فإذا نص على حكم اتبع وإذا لم ينص على حكم الواقعة رجع إلى السنة. فإن وجد فيها حكمه اتبع. والدليل على ذلك أمور: الأول: إن الكتاب الكريم مقطوع به، والسنة مظنونة، والقطع فيها إنما يصح في الجملة لا في التفصيل, بينما القرآن الكريم فإنه مقطوع به جملة وتفصيلًا. والمقطوع مقدم على المظنون، فلزم تقديم الكتاب على السنة. الثاني: إن السنة إما بيان للكتاب أو زيادة عليه، فإن كانت بيانًا فهي تلي القرآن في المرتبة لأن المبين مقدم على البيان، وإن لم تكن بيانًا وإنما كانت زيادة، فلا بد أيضًا من تقديم المزيد عليه على الزيادة، وبهذا الاعتبار يقدم القرآن الكريم. الثالث: ما دل على ذلك من الأخبار والآثار كحديث معاذ: حينما سأله الرسول, صلى الله عليه وسلم، وقد أرسله واليًا على اليمن: "بم تحكم؟ " قال: بكتاب الله. قال: "فإن لم تجد؟ " قال: بسنة رسول الله. قال: "فإن لم تجد؟ " قال: أجتهد رأيي"1. وعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه كتب إلى شريح: "إذا أتاك أمر فاقض بما في كتاب الله، فإن أتاك ما ليس في كتاب الله فاقض بما سن فيه رسول الله, صلى الله عليه وسلم"2, وفي رواية عنه: "انظر ما تبين لك في كتاب الله فلا تسأل عنه أحدًا، وما لم يتبين لك في كتاب الله فاتبع فيه سنة رسول الله, صلى الله عليه وسلم". وورد مثله عن ابن مسعود: "من عرض له منكم قضاء فليقض بما في كتاب الله فإن جاءه ما ليس في كتاب الله فليقض بما قضى به نبيه, صلى الله عليه وسلم"3. وعن ابن عباس أنه كان إذا سئل عن شيء فإن كان في كتاب الله قال به،

_ 1 رواه أبو داود في كتاب الأقضية الحديث: 6. 2، 3 أعلام الموقعين لابن قيم الجوزية: ج1 ص202، الموافقات للشاطبي: 4/ 8.

وإن لم يكن في كتاب الله وكان عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال به. وعلى هذا سار السلف الصالح من العلماء.. وللصحابة رضوان الله عليهم آثار جمة من هذا القبيل. وقد فرق الحنفية بين الفرض والواجب بناء على تقديم اعتبار الكتاب على اعتبار السنة. وأن اعتبار الكتاب أقوى من اعتبار السنة، وقد لا يخالف غيرهم في معنى تلك التفرقة. فإن اعترض على هذا بأن السنة تقدم على القرآن الكريم لأنها تقيد المطلق وتخص العام، والمقيد والخاص مقدمان على المطلق والعام. فالجواب: ليس معنى ذلك العمل بالسنة وإطراح الكتاب، بل إن الموضح في السنة هو المراد، فكأن السنة بمنزلة التفسير والشرح لمعاني أحكام الكتاب. وقد دل على ذلك قول الله تبارك وتعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 1, فبالسنة يحصل البيان، مثال ذلك قول الله تبارك وتعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 2. فإنه حكم عام يوجب القطع على كل من ارتكب جريمة السرقة، فكان محتاجًا إلى بيان المحل الذي تقطع منه اليد، ومحتاجًا إلى بيان الشروط التي إذا تضافرت مجتمعة وجب تنفيذ هذا الحد، فجاءت السنة المطهرة مبينة أن القطع من الكوع، وأن للمسروق شروطًا: كأن يبلغ نصابًا فأكثر، وأن يكون في حرز مثله.. وهذا البيان هو المعنى المراد من الآية الكريمة، وليس ثمة أحد يقول إن السنة أثبتت هذه الأحكام دون القرآن الكريم، كما إذا بين لنا مالك -رحمه الله- أو أحد المفسرين معنى آية أو حديث، فعملنا بمقتضاه، فلا يصح لنا أن نقول: إنا عملنا بقول المفسر الفلاني دون أن نقول عملنا بقول الله تعالى أو قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكذا هنا، فلا يقال إن السنة مقدمة على القرآن، بل مبينة له.

_ 1 سورة النحل: 44. 2 سورة المائدة: 38.

الفصل الثالث: تحديات أمام الثقافة الإسلامية التيارات المعادية

الفصل الثالث: تحديات أمام الثقافة الإسلامية التيارات المعادية مدخل ... الفصل الثالث: تحديات أمام الثقافة الإسلامية التيارات المعادية ويشتمل على المباحث الآتية: 1- النصرانية 2- اليهودية 3- الشيوعية 4- التغريب

المبحث الأول: النصرانية

المبحث الأول: النصرانية مدخل ... أولًا: النصرانية: كان للإسلام -منذ ظهوره- موقف مشرف مع النصرانية لم يشاركه فيه أحد من العقائد الأخرى. يقول الله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} 1. ويقول سبحانه: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} 2. {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} 3. {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ, يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} 4. {إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ، وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ} 5. ويحدثنا التاريخ أن الرجل الصالح "النجاشي" قد سمح للمسلمين المهاجرين من مكة إلى بلاده أن يقيموا في الحبشة آمنين على دمائهم وأموالهم وأعراضهم.. وحينما سمع هذا الإنسان الكريم كلام جعفر بن أبي طالب وهو يحدثه عن اعتقاد المسلمين بالمسيح عيسى ابن مريم بكى حتى اخضلت لحيته، وبكى أساقفته يومذاك. وقال كلمته المشهورة الذائعة بين المسلمين: "إن هذا

_ 1 البقرة: 285. 2 النساء: 171. 3 البقرة: 87. 4 آل عمران: 42، 43. 5 آل عمران: 45، 46.

والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة"1. وقد كان الإسلام متعاطفًا مع دولة الروم أيما تعاطف. قال الله تعالى: {الم, غُلِبَتِ الرُّومُ, فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ, فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ, بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} 2. الأمر الذي عجب له مؤرخو النصرانية والدولة البيزنطية، لأن كل الشواهد كانت تخالف هذا التنبوء. ومع ذلك فقد قضى الله أمرًا: كان مفعولًا. وفرح المؤمنون بنصر الدولة البيزنطية. وعلى هذا فالمسلمون دائمًا أكثر تسامحًا وإنصافًا مع المسيحيين، وقد عاشت الأقليات المسيحية في المجتمعات الإسلامية آمنة على أنفسها آمنة على أعراضها، آمنة على أموالها، لها من الحقوق مثلما للمسلمين، ولو وازنا وضع هذه الأقليات المسيحية بأقليات مسلمة تعيش في مجتمعات مسيحية لما كان هنالك وجه للمقارنة بينهما. وفي القرنين الأخيرين ومع بداية القرن الثامن عشر حينما دب الضعف في الكنيسة وانحسرت سلطتها في المجتمعات الأوروبية والأمريكية, وانهزمت في روسيا والصين لم تهدأ وتضع سلاحها وتستكن للأمر الواقع وإنما رأت أن هذه فرصة مناسبة لها لتؤكد للمجتمعات الأوروبية والأمريكية أنها الجدار القوي, والستار الواقي الذي يقف حاجزًا دون المسلمين، فهي تضع يدها مع كل فكرة استعمارية، ومع كل تآمر شيوعي أو صهيوني لإشهار السلاح بوجه المسلمين، وقد تواطأت الكنيسة مع الصهيونية ضد الإسلام في كل البلدان الأمريكية والأوروبية، والإفريقية والآسيوية مع أن اليهود هم الذين شوهوا معالم المسيحية، وأساءوا إلى شخص المسيح عليه السلام. نقد المعتقد النصراني: نعتقد -نحن المسلمين- أن النصرانية المنتشرة الآن ليست هي النصرانية

_ 1 انظر سيرة ابن هشام: 1/ 365. 2 سورة الروم: 1-5.

التي تنزلت على المسيح عليه السلام، وإنما هي نصرانية جديدة اتفق عليها بضغط من الملك قسطنطين سنة 325م أي بعد ثلاثة قرون من رفع المسيح إلى السماء. ولكن ما السبب الذي دعا الملك قسطنطين لأن يضع نصرانية جديدة؟ الحقائق التاريخية تثبت أن إنجيل المسيح نفسه أي كلامه لفظًا ومعنى لم يصل إلى الناس، وإنما الذي وصل إليهم مجموعة من المذكرات الشخصية لبعض تلاميذه الذين لا يرتفع بعضهم عن الشبهات. وكان لليهود أثر في تغيير معالم النصرانية الصحيحة بما أثاروا من أباطيل حول السيدة مريم العذراء، ولذا فقد اختلفت التصورات لديهم حول ذات الله تبارك وتعالى، وحول المسيح عليه السلام، ولا ننسى أبدًا أثر الوثنية اليونانية، والرومانية القديمة في إدخال تحريفات على العقيدة الصحيحة, وكان من نتائج اختلاف التصورات المسيحية، أن تقاتل الناس بعد أن افترقوا إلى شيع وأحزاب، فأراد قسطنطين أن يقضي على الفتن فعقد مجمعًا سمي "مجمع نيقية" وأرغم القسيسين على الوقوف عند تصور يرضي الجميع كحل وسط، فكان هذا الحل هو تقسيم المسيح عليه السلام بين الألوهية والبشرية، فهو بشر إله.. نستغفر الله من هذا المعتقد الباطل. قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} 1. وقال الله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 2, {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} 3. وقد تعرض علماء المسلمين لنقد المعتقد النصراني السائد، فقد كتب ابن

_ 1 المائدة: 72. 2 المائدة: 73. 3 المائدة: 75.

تيمية "661-728هـ" كتابه "الرد الصحيح على من بدل دين المسيح" وفيه ردود علمية على ما طرأ من تحريفات بشرية على الدين المسيحي وعلى إنجيله. ومن قبل نقد الإمام ابن حزم 384-456هـ -رحمه الله- في كتابه: "الفصل في الملل والنحل" المسيحية السائدة، فكان مما قال: "والنصارى لا يدعون أن الأناجيل منزلة من عند الله على المسيح، ولا أن المسيح أتاهم بها، بل كلهم لا يختلفون في أنها أربعة تواريخ ألفها رجال معروفون في أزمان مختلفة.. أولها تاريخ ألفه "متى اللاواني" بالعبرانية بعد تسع سنين من رفع المسيح، في نحو ثمانٍ وعشرين ورقة بخط متوسط, والآخر تاريخ ألفه "مارقس الهاروني" بعد اثنين وعشرين عامًا من رفع المسيح عليه السلام، وكتبه باليونانية في أنطاكية، والثالث تاريخ ألفه "لوقا الطبيب" تلميذ شمعون باطره، كتبه باليونانية بعد تأليف مرقص المذكور في حجم إنجيل متى، والرابع تاريخ ألفه باليونانية "يوحنا بن سيذاري" بعد رفع المسيح ببضع وستين سنة في أربع وعشرين ورقة، ثم ليس للنصارى كتاب يعظمونه سوى "الأفركسيس" الذي ألفه لوقا، وكتاب "الوحي والإعلان" ليوحنا، و"الرسائل القانونية". و"رسالتين لباطره شمعون. ورسالة ليعقوب بن يوسف النجار، وأخرى لأخيه يهوذا، ورسائل بولس تلميذ شمعون"1. وكل كتاب لهم بعد ذلك فهو من تأليف المتأخرين من أساقفتهم وبطاركتهم2 وبديهي أن ما ألفه إنسان ونسبه إلى الله لا يمكن أن يكون من الثقة بالمكان الذي يحظى به ما يصدر عن الله مباشرة لفظًا ومعنى. ومن الملاحظ لمن يطلع على هذه الأناجيل، التفاوت الكبير بينها أسلوبًا ومعنى، حتى في التصور والمعتقد ذاته. يقول ابن حزم أيضًا: "وجملة أمرهم في المسيح عليه السلام أنه مرة بنص أناجيلهم ابن الله، ومرة هو ابن يوسف، وابن داود، وابن الإنسان، ومرة هو إله يخلق ويرزق،

_ 1 الفصل في الملل والنحل، وانظر كتاب النصرانية للشيخ أبي زهرة: ص38. 2 المصدر السابق: 2/ 2، 3 وانظر: 1/ 49، 50، 55.

ومرة هو خروف الله، ومرة هو "في الله" ومرة هو في تلاميذه وتلاميذه فيه، ومرة هو علم الله وقدرته، ومرة لا يحكم على أحد ولا ينفذ إرادته، ومرة هو نبي وغلام الله، ومرة أسلمه الله إلى أعدائه، ومرة قد انعزل الله له عن الملك، وتولاه هو، وصار يولي أصحابه خطة التحريم والتحليل في السموات والأرض، ومرة يجوع ويطلب ما يأكل، ويعرق من الخوف، ويفشل فيركب حمارة ويؤخذ ويلطم وجهه ويضرب رأسه بالقصبة، ويميته الشرطة، ويصلب بين سارقين، ومات ودفن، ثم قام بعد الموت فلم يكن له من هم بعد أن قام إلا طلب ما يأكل، ثم انطلق إلى شغله"1. ومع ذلك -فنحن المسلمين- ندعو الناس إلى الحق بالحكمة والموعظة الحسنة، ونقول لأهل الكتاب: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} 2. لكن النصارى، منذ ظهور الإسلام، اتخذوا الموقف المعادي للمسلمين، وأعلنوها حربًا طاحنة، واستعانوا بكل قوى البغي والعدوان، واستعملوا أسلحة مادية فتاكة وأخرى فكرية، وتتمثل الأولى بالحروب الصليبية والثانية بالتبشير. وسأعرض هذين الموضوعين، وغيرهما مما يعتبر أداة من أدوات الصليبية لتضليل الرأي الإنساني العالمي، ولبث الدعايات الباطلة ضد المسلمين، ولإشاعة الشبهات ضد الإسلام نفسه.

_ 1 الفصل: 2/ 69. 2 سورة آل عمران: 64.

الحروب الصليبية

1- الحروب الصليبية: يخطئ كثير من الباحثين خطأ جسيمًا حينما يرجعون الحروب الصليبية إلى أسباب اقتصادية. والحقيقة التي لا مراء فيها أن الهدف الأساسي من هذه الحروب ضرب المسلمين في ديارهم والاعتداء على حرماتهم واستغلال خيرات

بلادهم، وامتلاك منابع الثروة الطبيعية في أوطانهم ... والدليل على ما نقول: اشتراك رجال الكنيسة من القسيسين والرهبان في هذه الحروب اشتراكًا فعالًا، وحماستهم الشديدة لإثارة روح الحقد والنقمة ضد المسلمين، واستماتتهم في سبيل رفع يد المسلمين عن البلاد التي دانت لهم، ودخل أهلها في دين الله طائعين راغبين. وقد كانوا يفصحون عن نواياهم الخبيثة في إبعاد سلطان المسلمين عن الأقطار المفتوحة، وبسط سلطة الكاثوليك. ولم يمنعهم الحياء والأدب وحسن المعاملة التي لمسوها من المسلمين أن يعبروا عن لؤمهم الخبيث، ويعلنوا عن إرادتهم في استئصال شأفة أمة محمد "قاتلهم الله أنى يؤفكون". يذكر التاريخ أن الحملة الصليبية* عند دخولها بيت المقدس في 15 يوليو عام 1099م الموافق 3 رمضان عام 493هـ. قد ذبحت أكثر من سبعين ألف مسلم حتى سبحت الخيل إلى صدورها في الدماء. وفي أنطاكية قتلوا أكثر من مائة ألف مسلم1. فالأمر إذن جد خطير، إنه حقد الشر على الحق، والرذيلة على الفضيلة، وعداوة الشرك للتوحيد، وخصومة الضلال للهدى. وقد صمدت الأمة الإسلامية في وجه هذه الحروب الوحشية التي سلبت ونهبت، وقتلت وفتكت، وتيقظ الإيمان في قلوب المسلمين، واتقدت شعلة الحماسة الدينية في نفوسهم، وتجلت البطولة في أسمى صورها، فإما حياة

_ * الحروب الصليبية: لقد بدأت الحروب الصليبية منذ منتصف القرن الحادي عشر واستمرت حتى نهاية القرن الثالث أي ما يقرب من مائتين وخمسة وعشرين عامًا. في ثماني حملات من الحملات المدججة بالعدد والمعدات. ويصف كاهن مدينة لوبوي ريموند داجيل سلوك الصليبيين حينما دخلوا على القدس فيقول: حدث ما هو عجيب بين العرب عندما استولى قومنا على أسوار القدس وبروجها، فقطعت رءوس بعضهم فكان هذا أقل ما أصابهم، وبقرت بطون بعضهم فكانوا يضطرون إلى القذف بأنفسهم من أعلى الأسوار، وحرق بعضهم في النار فكان ذلك بعد عذاب طويل، وكان لا يرى في شوارع القدس وميادينها سوى أكداس من رءوس العرب وأيديهم وأرجلهم، فلا يمر المرء إلا على جثث قتلاهم، ولكن كل هذا لم يكن سوى بعض ما نالوه. "حضارة العرب د. غوستاف لوبون ترجمة عادل زعيتر، ط/ الثانية عام 1948 ص402". وروى الكاهن نفسه خبر ذبح عشرة آلاف مسلم في مسجد عمر -رضي الله تعالى عنه- فقال: "لقد أفرط قومنا في سفك الدماء في هيكل سليمان فكانت جثث القتلى تعوم في الساحة هنا وهناك، وكانت الأيدي والأذرع المبتورة تسبح كأنها تريد أن تتصل بجثث غريبة عنها فإذا ما اتصلت ذراع بجسم لم يعرف أصلها، وكان الجنود الذين أحدثوا تلك الملحمة لا يطيقون رائحة البخار المنبعثة من ذلك إلا بمشقة". 1 حاضر العالم الإسلامي تأليف لوثروب ستودارد ترجمة نويهض. ج1 ص60.

عزيزة كريمة تظللها راية التوحيد، ويسودها العدل والسلام، وإما موت في سبيل هذا الدين الذي رضيه الله تعالى لعباده والموت في ساحة الشرف أسمى أماني المسلم. وبعد مضي قرنين كاملين من حروب دامية اشتد وطيسها بين كتائب الإيمان وبين جحافل الشر ارتدت الحروب الصليبية بعد أن تكسرت نصالها أما الصمود القوي، والصبر والثبات، والشجاعة والبطولة، والبذل والفداء والتضحية، وبعد أن أدركوا تمامًا أن الإيمان لا يغلب، وأن الله تعالى يحقق وعده للمؤمنين بالنصر الأكيد، إذا ما صدقوا، وإذا ما صبروا. وقد سجل التاريخ صفحات مشرقة لسير أبطال المسلمين في هذه الحروب ما يستدعي الإجلال والإكبار لهؤلاء الرجال الذين تمسكوا بالإيمان، وقاوموا الأعداء من أجل عقيدة التوحيد.

التبشير

2- التبشير: بعد ارتداد الحروب الصليبية منهزمة أمام قوة المسلمين، اتخذ الصليبيون وسيلة أخرى لإضعاف الروح الإسلامية في نفوس المسلمين، هذه الوسيلة هي التبشير، وذلك بعد أن أدركوا يقينًا أن الحروب بقوة السلاح المادي لا تجدي شيئًا، بل إنها تكون في كثير من الأحيان باعثًا على وحدة المسلمين وإظهار قوتهم المعنوية والمادية. يقول "رستز": "خابت دول أوربة في الحرب الصليبية الأولى عن طريق السيف، فأرادت أن تثير على المسلمين حربًا صليبية جديدة عن طريق التبشير، فاستخدمت لذلك الكنائس والمدارس والمستشفيات، وفرقت المبشرين في العالم، وهكذا تبنت الدولة حركة التبشير لمآربها السياسية ومطامعها الاقتصادية، ولقد استطاع "ريمون لول" في عام 1299 وعام 1300 للميلاد أن يحصل على إذن من الملك يعقوب صاحب أوغونة ليبشر في مساجد برشلونة محتميًا بالسلطة المسيحية في إسبانيا"1.

_ 1 التبشير والاستعمار: ص115.

ويعتبر عام "1299" أول عهد الأوربيين بالتبشير كما يعتبر "ريمون لول" أول من تولى التبشير بعد أن فشلت الحروب الصليبية في مهمتها، فقد تعلم "لول" اللغة العربية، وجال في بلاد الإسلام وناقش علماء المسلمين في بلاد كثيرة1. وإلى جانب تطواف "لول" في البلاد العربية، كانت السفن البحرية الأوروبية تطوق البلاد الإسلامية، وتفرض حولها شبكة من التجسس، فتدمر حضارتها، وتفتت ركائز قوتها. وتسلل المبشرون إلى داخل العالم الإسلامي للقيام بمهمة التجسس, واستطلاع نقط الضعف وكشفها، وبث الأعوان، ونشر القلاقل والفتن والشبهات. "ويأتي المبشر تحت علم الصليب كما يقول الأب شانتور يحلم بالماضي وينظر إلى المستقبل، وهو يصغى إلى الريح التي تصفر من بعيد من شواطئ رومية ومن شواطئ فرنسا، وليس من أحد يستطيع أن يمنع الريح من أن تعيد على آذاننا قولها بالأمس، وصرخة أسلافنا "الصليبيين" من قبل إن الله يريدها"2. ولم يتهاون الصليبيون في يوم ما منذ انقضاء الحروب الصليبية وإلى الآن في توجيه مؤامراتهم، وفي تكثيف خططهم لضرب العالم الإسلامي للقضاء على كل قوة تجمعه وتشده إليها، وما زالوا يشنون غاراتهم، الغارة تلو الأخرى على البلاد الإسلامية لتجلعها منطقة خاضعة لحكمهم الاستعماري. وعلى هذا فالتبشير ما هو إلا ستار شفاف أو واجهة مزيفة تخفي تحتها أطماعًا استعمارية تريد أن تحقق غزوًا حضاريًا. وكثيرًا ما يظهر التبشير في مناسبات شتى مرادفاً تمامًا لمعنى الاستعمار. ذلك لأن رجال الكنيسة الكاثوليكية يعتبرون التبشير بمذهبهم عملًا وطنيًّا.

_ 1 الغارة على العالم الإسلامي ترجمة الأستاذ محب الدين الخطيب: ص 18. 2 التبشير والاستعمار: 3/ 28.

يقول "رينيه بوتيه" في كتاب "الكاردينال لافيجيري": "إن العمل الوطني الذي قام به لافيجيري بدأ مع عمله التبشيري عندما بدأ بنشره على السوريين، تلك العطايا التي تمنحها الكنيسة الكاثوليكية أنه جعل فرنسا محبوبة لدى السوريين باسم المسيح"1. ومن الوضوح بمكان تآزر التبشير مع الهيئات السياسية للوصول إلى أغراضه اللئيمة ونواياه الاستعمارية، وقد اقترح أحد المبشرين أن تتعاون بريطانيا مع فرنسا على سياسة السيطرة على الشواطئ، حيث يمكن وصول آلات القتال الحديثة بسهولة، ذلك لأنه رأى أن الإسلام يتزايد عدديًّا، ولم يتفق قط أن شعبًا دخل في الإسلام ثم عاد نصرانيًّا2. وقد اعتمد المبشرون على إثارة النزعات الطائفية والقومية في صفوف المسلمين وعملوا على إحياء الحركات الشعوبية المعادية للمبدأ الإسلامي، فروجوا للقومية العربية التي تنتمي إلى فترات تاريخية مندثرة، وإلى الفرعونية التي تنتمي إلى حجارة الأهرام في مصر، وإلى الفينيقية في الساحل السوري، وإلى الآشورية في العراق. وقد امتصت هذه الاختلافات القومية والطائفية قواهم الذاتية، إذ وجدت من يهتف بها ويغني لها، وما زال التبشير يبحث عن معول آخر يهدم به التضامن الإسلامي، وعن نزعات سياسية أخرى تفتت رابطة العالم الإسلامي وتبعثر قواه وكأن اللورد "جلاد ستون" حينما صرخ بمجلس العموم البريطاني وقد أمسك بنسخة من القرآن الكريم قائلًا "ما دام هذا القرآن موجودًا فلن تستطيع أوروبا السيطرة على الشرق، ولا أن تكون هي نفسها في أمان" يتمثل للمبشرين دائمًا، يدعوهم لأن يحكموا خططهم ويحزموا أمرهم3. وإن أمتنا اليوم تبحث عن حل لتتجنب مكائد التبشير وخططه، وستصل إلى حل يجعلها في أمان من يد التبشير والاستعمار بإذن الله ولو كره المشركون.

_ 1 التبشير والاستعمار: 3/ 39. 2 التبشير والاستعمار: ص135. 3 انظر كتاب ثقافة المسلم في وجه التيارات المعاصرة: ص99.

أساليب التبشير

أساليب التبشير: لقد اندس المبشرون وراء كل فكرة براقة يمكن أن تجذب طبقات مختلفة من الشعوب، فاستغلوا كافة الخدمات الاجتماعية لمصالحهم الخاصة، فأنشئوا الأندية الثقافية والترفيهية، وجمعيات للشباب والشابات، وأنشئوا جمعيات لإصلاح الأحداث، ونادوا بإنصاف العمال لجذبهم إليهم، وقاموا بإنشاء جمعيات للرفق بالحيوان للتأثير في قلوب السذج من الناس الذين لا يلبثون أن يصطدموا بالواقع حينما يجدون ظلمهم للإنسان، واستغلالهم للأعمال النبيلة في سبيل تحقيق أغراضهم الضعيفة، ومطامعهم اللئيمة. ويمكن أن ألخص أساليبهم التبشيرية بالنقاط التالية: 1- إنشاء مدارس تبشيرية تعليمية في مختلف مجالات التعليم، فهناك دور للحضانة، وأخرى لتعليم تلاميذ المدارس الابتدائية، وثالثة لتعليم تلاميذ مدارس المرحلة المتوسطة والثانوية، وبالإضافة إلى هذه المدارس التعليمية هناك جامعات يسوعية وأخرى أمريكية، وقد بثت هذه المدارس والجامعات في مختلف أرجاء العالم الإسلامي، في القرية النائية، والقريبة وفي المدينة الكبيرة والمدينة الصغيرة، وهي بهذا الانتشار والتوسع تغزوكافة فئات المجتمعات وتتصل بمعظم طبقات المجتمع. وقد قامت هذه المدارس والجامعات بدورها المعد لها قيامًا فعالًا في خدمة الأغراض الاستعمارية، وأهما بث روح الولاء للغرب، وإبعاد الجيل الحاضر رويدًا رويدًا عن شخصيته الإسلامية وعن تاريخه الإسلامي المشرق، وعن ثقافته الدينية التي تحدد للفرد مقومات كيانه الحضاري المستقل المتميز. ومن أهداف التبشير في هذا المجال وضع المسلم في قالب غربي مستعار، ينسى به أصالة تراثه، وتسترخي قواه ويفقد شجاعته وحماسته لحرمات الله أن تنتهك، فإن غار على حد من حدود الله يتجرأ عليه فتلك رجعية لا تليق بالرجل المثقف الواعي العاقل، وإن أخذته كرامة المسلم وإباؤه ... الأصيل والعزة النفسية بأن لا يساير ولا يداهن، فتلك همجية تتنافى مع الإنسان الحضري المتعلم..

وهكذا استطاع الاستعمار بهذا الأسلوب أن يسلب المسلم شخصيته المستقلة، فإذا فكر في مسألة ما فإنما يفكر بعقل أساتذته أصحاب الفضل عليه، وإن رسم هدفًا في حياته فتبعًا لأهدافهم وتحقيقًا لأغراضهم.. وكثيرًا ما أثرت المدارس التبشيرية في نفوس الطفولة البريئة، فإذا بالطفل المسلم يردد صلواتهم ويترنم بشركهم من حيث لا يدري ولا يشعر، كما أثرت في الشبيبة اليافعة من أبناء المسلمين، وأورثت في نفوسهم حب مخالطتهم والاقتباس من عاداتهم وتقاليدهم التي تمثل شخصيتهم، فتذبل الشخصية الإسلامية، وأول بوادر هذا الذبول التهاون في أداء العبادات وفي إظهار الشعائر الإسلامية الأساسية. 2- ومن أساليب التبشير نشر العلمانية، والدعوة إلى فصل الدين عن الدولة، ورد النتائج والأسباب للطبيعة أو إلى المصادفة، وههنا يكمن الخطر الشديد، الذي يبذر بذور التشكيك في نفوس المسلمين، ويؤدي إلى اضطراب في العقيدة، واضطراب في القيم والمفاهيم لدى الإنسان المسلم فتتنازعه التيارات المتعاكسة المتضادة من مد وجذب، فتضيع ملامح شخصيته وتنهار قواه الذاتية، أو ينحرف في سلوكه الخلقي، ويخلع عنه الرداء الإسلامي.. وبهذا يتحقق للتبشير الدنيء غرضه الخطير. 3- فتح المستشفيات وبعث الإرساليات الطبية إلى الشرق الإسلامي، وهذا أسلوب خطير أيضًا لأنه يدس السم في الدسم، فالغاية شريفة ظاهرًا وقالبًا ولكنها خبيثة مضمونًا وحقيقة. ذلك لأن المرض حالة بليغة من حالات الضعف البشري، ويتبع هذا الضعف قصور في الإدراك الفكري، فيصل الطبيب أو الممرض إلى غرضه من غير أدنى جهد ... 4- المؤتمرات التبشيرية: 1 أذكر على سبيل المثال المؤتمرات التالية: أ- مؤتمر القاهرة سنة 1324هـ "1906م" المنعقد في منزل زعيم الثورة العرابية المسلم.

_ 1 انظر كتاب الغارة على العالم الإسلامي، وأساليب الغزو الفكري: ص32.

ب- مؤتمر أدنبرج سنة 1328هـ في إنجلترا. جـ- مؤتمرات القدس وقد حصل في سنوات متعددة منها سنة 1343هـ "1924م" وآخر سنة 1354هـ "1935م" وثالث سنة 1380هـ "1961م". وأهم التوصيات التي خرجت بها هذه المؤتمرات: أولا: وجوب إقناع المسلمين أن النصارى ليسوا أعداء لهم. ثانيا: وجوب تبشير المسلمين بواسطة رسول من أنفسهم ومن بين صفوفهم لأن الشجرة يجب أن يقطعها أحد أعضائها. 5- من الوسائل التي اعتمد عليها التبشير للوصول إلى أغراضه "الإعلام" فكان يعمل من وراء حركات الصحافة، وفي لبنان وفي مصر على سبيل المثال جرائد مخصصة لصالح التبشير وقد استغل المبشرون "الكشفية" للتأثير على الصغار ... وقد شجعوا على الزواج من غير المسلمات لإيجاد جيل تابع لهم ولاء وحبًّا وثقافة. 6- ومن الوسائل المخزية التي اتبعها التبشير نشر الفساد والانحلال الخلقي، وتحطيم القيم الأخلاقية، فقد عملوا على إنشاء حانات للخمر في كل من سوريا ومصر، وشجعوا على تهريب المخدرات والحشيش. وفي العصر الحديث يستعمل المبشر وسائل جديدة يدخل بها إلى قلب بلاد المسلمين يؤثر في نفوس أبناء المسلمين وفعلًا فقد استغل الفن والسينما والفلسفة.

تعاون التبشير واليهودية

تعاون التبشير واليهودية: مما لا شك فيه أن هناك تعاونًا وثيقًا بين إسرائيل وبين التبشير، ذلك لأن كلًا منهما استعمار، والاستعمار قادر على التلون بألوان شتى وصور مختلفة إذ إنه يسعى لغاية واحدة، وهي تسخير الآخرين لتحقيق مصالحه الخاصة، ورفع مستوى بلاده اقتصاديًّا على أكتاف البلاد التي تؤكل خيراتها، ويستخدم رجالها لتصميم حضارة راقية تخلد اسم الدولة الغالبة القوية.

ومنذ أمد طويل واليهود يساندون التبشير لتقويض أركان الدولة العثمانية واقتسام أراضيها وفعلًا وقع ما خطط له، وكان من بين الذين قدموا للخليفة الصالح ورقة عزله ذلك اليهودي الذي ساومه في يوم من الأيام عن التخلي عن فلسطين إزاء رشوة مالية تدفع له.. ولكن السلطان عبد الحميد -رحمه الله- رفض بإصرار وعزيمة أن يباع شبر من أراضي فلسطين، وتوعد اليهود الخليفة المسلم. وأعقب ذلك إعلان وعد بلفور سنة 1336هـ "1917م" الصادر من وزير الخارجية البريطاني والذي يقضي بمنح فلسطين وطنًا قوميًّا لليهود.. وتوالت هجرة اليهود في أثناء الانتداب البريطاني وانسحبت بريطانيا سنة 1367هـ "1948م" من فلسطين لتمكن اليهود من التسلط عليها.. وأقيمت في فلسطين أول كنيسة بروتستانتية، وكان المبشرون جد مقتنعين أن جمع اليهود في فلسطين وإنشاء وطن قومي لهم يسهل مهمتهم في الوصول إلى أطماعهم في ديار المسلمين، وللوصول إلى تغيير ثقافة المسلمين. من أجل ذلك فتح الإنجليز باب فلسطين على مصراعيه لدخول قوافل الحقد والكراهية والمكيدة والخيانة.. وقد كتب المبشر "جون فان أسى" سنة "1943م" يذكر إسرائيل ويعلن حدودها كما هي عليه الآن، ويبرر المبشر "لورانس براون" تفضيل المبشرين التعاون مع اليهود ضد القضية الإسلامية بقوله: إن المسلمين يختلفون عن اليهود في أن دينهم "دين دعوة" أما اليهود فهم جماعة مغلقة.. لقد كنا نخوف بشعوب مختلفة ولكن بعد الاختبار لم نجد مبررًا لهذا التخوف، لقد كنا نخوف بالخطر اليهودي، لكننا وجدنا اليهود أصدقاء لنا، وعلى هذا يكون كل مضطهد لهم عدونا الألد.. ولكن الخطر الحقيقي كامن في نظام الإسلام، وفي قدرته على التوسع والإخضاع، وفي حيويته.. إنه الجدار الوحيد الذي يقف في وجه الاستعمار1. وقال مسئول فرنسي سنة "1371هـ/ 1952م": ليست الشيوعية خطرًا على أوروبا -فيما يبدو لي- إن الخطر الحقيقي

_ 1 التبشير والاستعمار: ص194.

الذي يهددنا تهديدًا مباشرًا عنيفًا هو الخطر الإسلامي، والمسلمون عالم مستقل كل الاستقلال عن عالمنا الغربي.. فهم يملكون تراثهم الروحي الخاص، ويتمتعون بحضارة تاريخية ذات أصالة، وهم جديرون أن يقيموا بها قواعد عالم جديد دون حاجة إلى الاستغراب، وفرصتهم في تحقيق أحلامهم هي اكتساب التقدم الصناعي الذي أحرزه الغرب1.

_ 1 انظر كتاب الخطر الصهيوني على العالم الإسلامي: ص35 وكتاب الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر: ص113.

الاستشراق

الاستشراق مدخل ... 3- الاستشراق: لقد اتخذت الصليبية بالتعاون مع الصهيونية "الاستشراق" وسيلة فكرية لإثارة الشبهات والفتن والقلاقل حول الإسلام عقيدة ومنهجًا وخلقًا وشريعة، وكانت ترمي بذلك إلى تحقيق أهداف غاية في الخطورة أشير إلى بعضها: 1- تشويه المعالم العامة للإسلام وحجب محاسنه عن الناس للحيلولة دون انتشاره من جهة ولإظهاره على غير حقيقته من جهة أخرى، ذلك لأن المستشرقين علموا يقينًا أن الإسلام إنما انتشر بسمو مبادئه وسماحة تعاليمه، وعدالة تشريعه، فأرادوا أن يحجبوا هذا الدين العظيم عن الوصول إلى النفوس والأفئدة، فعمدوا إلى التضليل والتشويه. 2- العمل على إخماد روح الجهاد في نفوس المسلمين والركون إلى الراحة والدعة، وبذلك يتم دعم الاستعمار الصهيوني، والغزو الفكري الصليبي. 3- العمل على عزل الشريعة الإسلامية عن أنظمة الدولة السياسية والاقتصادية والاجتماعية واستبدالها بأنظمة أجنبية وضعية، وبذلك يحافظون على تبعية المسلمين للاستعمار في شتى أشكاله ومختلف ألوانه، ومن ثم ينعمون بخيرات بلادنا الإسلامية ويتمتعون بثرواتها الطبيعية. 4- محاربة اللغة العربية ومناهضتها. 5- نشر الاتجاه العلماني، وربط حركة التغريب بالتقدم الحضاري.

تاريخ الإستشراق

تاريخ الاستشراق: من الصعب أن يحدد الباحث تاريخ بدء الاستشراق، ولكن الآراء تضافرت على أن الحركة الاستشراقية قد بدأت في القرن السابع الهجري في الأندلس، حينما اشتدت حملة الصليبيين الأسبان على المسلمين في ديارهم "الأندلس" فدعا ملك قشتالة "ميشيل سكوت" ليقوم بالبحث في علوم المسلمين وحضارتهم فجمع "سكوت" عددًا من الرهبان في بعض الأديرة بالقرب من طليطلة، وبدءوا يترجمون بعض الكتب العربية إلى اللغة الأجنبية، ثم قدمت هذه الكتب إلى الملك فأمر باستنساخها وإرسال نسخها إلى جامعة باريس1. ومن أوائل الرهبان الذين درسوا في الأندلس على يد العرب الراهب الفرنسي جربرت الذي انتخب بابا لكنيسة روما عام 999م. وكان من المتقدمين في ترجمة الكتب العربية "ريمون لول" رئيس أساقفة طليطلة، ومن ثم انتشرت الترجمة على نطاق واسع، وكانت ترسل الكتب العربية لتدرس في جامعات أوروبا في مختلف العلوم من طب وكيمياء وفيزياء وفلسفة وغيرها من العلوم التي بلغت أوج ازدهارها في الحضارة الإسلامية، وكان الأوروبيون يستفيدون منها فائدة كبرى، وإنها لتعتبر -بحق- نواة الحضارة الأوروبية الحديثة. ومنذ أن بدأ المستشرقون الكتابة سلكوا طرقًا خبيثة لتزييف العقيدة الإسلامية، وامتصاص ما فيها من قوة وجهاد وإيمان2 وتصوير الإسلامية على أنه دين تعبدي فقط، وأن هناك فصلًا تامًّا بين الدين وبين الحكم وسياسة الدولة والنظم الاقتصادية التي يمكن أن تخضع لأنظمة ومبادئ مغايرة للدين.. وقد تطور الاستشراق في الأسلوب وفي المنهج، كما تطورت طرق التبشير من قبل، فعمد المستشرقون منذ مطلع القرن الثالث عشر الهجري "أواخر القرن الثامن عشر الميلادي" إلى الدعوة لإنشاء كليات لتدريس اللغات الشرقية في عواصم البلاد الأوربية، وفعلًا فقد أنشئت كليات لتدريس اللغات الشرقية في

_ 1 أساليب الغزو الفكري د. على محمد جريشة وزميله: ص19. 2 الإسلام في وجه التغريب للأستاذ أنور الجندي: ص7، 8.

لندن وباريس وليدن وبرلين، وبطرسبرج وغيرها، واشتملت على أقسام خاصة لدراسة اللغة العربية وبعض اللغات الإسلامية كالفارسية والتركية والأردية وكانت تهدف من وراء ذلك تزويد السلطات الاستعمارية بخبراء في الشئون الإسلامية، ثم أخذ الطلاب المسلمون يؤمون هذه الكليات الأوربية للدراسة فيها، وبذلك تأثر الفكر الإسلامي بما يمليه المستشرق في أذهان الطلبة المبعوثين من أبناء المسلمين1، وكانت المؤسسات الدينية والسياسية والاقتصادية في الغرب تقدم الأموال الطائلة للمستشرقين من أجل القيام بمهمتهم. وقد أنشئت عدة مؤسسات في البلاد الإسلامية لخدمة الاستشراق وللتآزر مع الاستعمار والتبشير الكاثوليكي والبروتستانتي.. والواقع أننا لا نستطيع أن نفصل بين أهداف الاستشراق والتبشير والاستعمار إلا من حيث الأهداف القريبة أو الهيئة الظاهرية، أما الغرض البعيد لها جميعًا فواحد.. غير متعدد.. ومن أبرز هذه المؤسسات التعليمية: الفرانسيسكان والجامعة الأمريكية، وقد انتشرت في كل الأقطار الإسلامية.

_ 1 أساليب الغزو الفكري: ص21.

خطر الإستشراق

خطر الاستشراق: إن كل من يقرأ مؤلفات المستشرقين يضع يده على مواضع الخطر، وذلك لما تهدف إليه هذه الكتب من التشكيك في العقيدة الإسلامية، ومن تشويه التاريخ والتراث الإسلامي، وللمستشرقين مناهج تعليمية وثقافية وفكرية يتوصلون عن طريقها للافتراء على المعالم الإسلامية والعالم الإسلامي, وقد استطاع الاستشراق بكل مكر ودهاء أن يوجد تلاميذ له في الشرق الإسلامي يدورون في فلكه ويروجون بضاعته. "كان الاستشراق وراء كل شبهة أو دعوة خطيرة أحدثت تحولًا في المجتمع الإسلامي في العصر الحديث، فقد كان المستشرقون يلقون الشبهة أو الدعوة ثم يتبعهم الكتاب والمفكرون الذين يكتبون باللغة العربية من أهل التبعية والتغريب والشعوبية ... وهذا واضح في الدعوة إلى العامية.. وفي الدعوة إلى الإقليميات

والقوميات الضيقة"1. وكثيرًا ما يعمد المستشرقون إلى إخضاع النصوص لأهوائهم روغباتهم فيقبلون منها ما توافق أهواءهم ويرفضون غيرها، وكذلك يتحكمون في المصادر التي يختارونها، فقد يدللون على شبهاتهم بأقوال المعتزلة -المرفوضة في الإسلام أصلًا- ويتركون المصادر التي يشهد لها الثقاة المخلصون بالصحة والقبول. ويقوم المستشرقون بعملية إحياء التراث الباطني المجوسي، مستهدفين إثارة الشكوك حول الفكر الإسلامي الأصيل، ويبدو هذا واضحًا في تركيزهم على إحياء كل المخطوطات التي تحمل هذه السموم وبخاصة ما يتصل بالإلحاد والإباحية. ومما يجب أن يتنبه له طلاب العلم والبحث المنهجي هو الحذر كل الحذر من كتب المستشرقين وذلك بأن توضع هذه الكتب تحت التمحيص والتنقيب والنقد وعدم اعتبارها مراجع معتمدة تغني عن الكتب العربية الأصيلة، أو على الأقل عدم اعتبارها مراجع مسلمًا بكل ما دون فيها من آراء وأقوال. شبهات المستشرقين: مما لا ريب فيه أن الإسلام يواجه عداء مريرًا من المستشرقين، ولعل مرجعه عدم فهمهم اللغة العربية وقصورهم عن إدراك ما في القرآن الكريم من تعبيرات بيانية ومجازية، فضلًا عن أهدافهم الدنيئة وأغراضهم اللئيمة التي تظهر في كل تأليف من تآليفهم. وقد حاول الكاتب الإنجليزي "كارليل" أن يترجم القرآن الكريم، ولكنه صدم ببلاغة القرآن وإعجازه حتى إنه لم يستطع أن يفسر كثيرًا من آياته أو أن يدرك كل مدلولات الألفاظ فقال: "إن القرآن الكريم كلام ركيك ثقيل على النفس ولولا ما يحتمه الواجب العلمي على الدارس الأوربي ما استطاع صبرًا على قراءته"2.

_ 1 أساليب الغزو الفكري: ص 24. 2 مقدمة كتاب الأبطال، انظر كتاب الإسلام والمستشرقون د. عبد الجليل شلبي: ص12.

فإذا كان القرآن الكريم وهو المعجزة التي تحدت العرب وهم أئمة البلاغة والبيان والفصاحة، وقد ثبت عجزهم عن معارضة آية واحدة منه، يبدو في نظر هذا المستشرق اللعين سقيمًا ... ، فكيف يقال إنه يفهم اللغة العربية ويؤخذ برأيه في شيء يستخلصه من نصوصها. و"كارليل" هذا يعتبر في نظر كثير من الباحثين مسالمًا للإسلام. لأنه مدح النبي -صلى الله عليه وسلم- في كتابه "الأبطال" قائلًا: "من العار أن يصغي أي إنسان متمدين من أبناء هذا الجيل إلى وهم القائلين: إن دين الإسلام كذب، وأن محمدًا لم يكن على حق، فالرسالة التي دعا إليها هذا النبي -صلى الله عليه وسلم- ظلت سراجًا منيرًا أربعة عشر قرنًا من الزمان لملايين كثيرة من الناس، وما الرسالة التي أداها محمد -صلى الله عليه وسلم- إلا الصدق والحق، وما كلمته إلا صوت حق صادق صادر من العالم المجهول"1. وقد رد عبارة كارليل في القرآن الكريم بعض الكتاب المحدثين منهم آربري في مقدمة ترجمته القرآنية، ومنهم جب في كتابه المحمدية، ولكن حتى هذين المستشرقين لم يجيدا فهم النصوص القرآنية2. ويقف المستشرقون المعاصرون عند نصوص معينة من القرآن الكريم يتخذون من فهمهم الخاطئ لها دليلًا على أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- استقى تعاليمه من الكتابيين، وهذا زور وبهتان افتروه، وأعانهم عليه عداؤهم وحقدهم الدفين. من ذلك قوله تعالى: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} 3. قال المستشرق الإنجليزي "ألفريد جيوم" وتابعه آخرون: "إن محمدًا كان دارسًا مبتدئًا للكتاب المقدس، فظن أن مريم أم عيسى -عليه السلام- هي مريم أخت هارون، مع أن بين عيسى وهارون زمنًا طويلًا"4.

_ 1 من كتاب أساليب الغزو الفكري للدكتور على محمد جريشة وزميله: ص25. 2 الإسلام والمستشرقون: ص10. 3 سورة مريم: 28. 4 الإسلام والمستشرقون: ص12.

ومن العجيب أن تروج هذه الفكرة وأن تلقى قبولًا من المستشرقين، ولكن هذا العجب سرعان ما يزول إذا أدركنا خبث طويتهم.. إذ إن كلمة "أخت" في اللغة العربية لا ينحصر استعمالها في أخوة النسب، وإنما تستعمل للدلالة على الشبيه والنظير والمثيل.. فيقال مثلًا: شوقي أخ للمتنبي والغرض من هذا أن كلًا منهما يشبه الآخر في صفات معينة، وليس المراد أن أباهما واحد، وقد كانت مريم العذراء أم المسيح معروفة بورعها وتقواها، وهي الأنثى التي تقبلها بقبول حسن وأنبتها نباتًا حسنًا قد شابهت هارون في ورعها وتقواها، فلما حملت بعيسى عليه السلام وهي لا زوج لها ظنها فاسدو الفطرة والذوق أنها ارتكبت فاحشة واستعجبوا لحدوث ذلك منها وهي بارة تقية، فقالوا لها كيف تفعلين هذا مع أنك شبيهة لهارون في عبادته وطهارته، فالآية الكريمة إذن لا تشير إلى أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- قال: إنها أخت لموسى وهارون وأن أباهما كانا أبًا لمريم. وعلى عكس ما فهم المستشرقون فإننا نجد آيات قرآنية تشير إلى وجود فترة زمنية طويلة المدى بين رسولي الله موسى وعيسى عليهما السلام. وقد ثبت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لوفد نجران حين جاءوا يناظرونه: "إن عيسى أخي" ومحمد -صلى الله عليه وسلم- يعرف أنه أخ له وهو لم ير عيسى، وبينهما ما يقرب من ستمائة عام ولكنهما أخوة النبوة والرسالة. والأنبياء جميعًا على تفاوت الأزمنة بينهم أخوة لأن رسالتهم واحدة وهي الدعوة إلى عبادة الله. ويقف كثير من المستشرقين عند آية أخرى وهي قوله تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلْ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} 1. وقد ذهب فهمهم المحدود القاصر أو المغرض إلى هذا التأويل الخاطئ: وهو أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- أمر أن يسأل أهل الكتاب، وعلى هذا فقد سألهم، وبالتالي فإن رسالته مستوحاة منهم. هذا ما درجوا عليه، ولعل سبب هذا التفسير الخاطئ هو عدم فهمهم اللغة العربية2 حق الفهم في أمور:

_ 1 سورة يونس: 94. 2 الإسلام والمستشرقون: ص12.

1- منها أن الخطاب يوجه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمراد به المسلمون1 وهو أسلوب من أساليب اللغة العربية كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} 2, فالنبي -صلى الله عليه وسلم- متق الله ولم يطع الكافرين والمنافقين، ولكن الخطاب موجه إلى أمته. وكما في قوله تعالى: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} 3. وهو -صلى الله عليه وسلم- كان معرضًا عن المشركين. 2- ومنها أن السؤال لا يعني الاستفهام، وإنما يعني التأمل والبحث ومن ذلك قوله تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} 4, ولا يمكن أن يسأل محمد -صلى الله عليه وسلم- رسولًا من الرسل الذين سبقوه، كيف وبينه وبين عيسى عليه السلام وهو آخر واحد منهم نحو ستة قرون، ويمكن أن يقال إن الخطاب موجه إلى الأمة الإسلامية وليس إلى محمد -صلى الله عليه وسلم- على الخصوص. والمراد ابحثوا في رسالات الأنبياء جميعًا فستجدونها تدعو لعبادة الله وحده، ولا تسمح بتأليه أحد سواه ولا بالخضوع لأحد غيره5. 3- ومنها أن الجملة مشروطة بتحقق الشك، "فإن كنت في شك" ومحمد -صلى الله عليه وسلم- لم يكن في شك أبدًا مما أنزل الله إليه، ولهذا قيل في تفسير الآية الكريمة إن لفظ "إن" للنفي أي ما كنت في شك قبل، يعني لا نأمرك بالسؤال لأنك شاك لكن لتزداد يقينًا كما ازداد إبراهيم يقينًا برؤية إحياء الموتى6، وعلى هذا فما بنى هؤلاء المستشرقون دراستهم عليه وما وصلوا إليه من نتائج دعوات لا أساس لها من الصحة ولا وجود لها أصلًا، ومرجع ذلك ضعفهم في اللغة العربية فضلًا عن لؤم طويتهم. وقد ذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك فقالوا: إن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- قد استقى

_ 1 التفسير الكبير للإمام الفخر الرازي: 15/ 68. 2 أول سورة الأحزاب. 3 سورة الأنعام: 106. 4 سورة الزخرف: 45. 5 الإسلام والمستشرقون: ص13. 6 التفسير الكبير: 17/ 162.

معلوماته من مصادر كثيرة منها صهيب الرومي، وسلمان الفارسي. وزوجه -صلى الله عليه وسلم- مارية القبطية. أحقًّا هم يؤمنون بما يقولون؟ أم هو مجرد اتباع للهوى ولأهل الأغراض التي تخطط ليلًَا ونهارًا لإشاعة مثل هذه الفتن والأقاويل1. أما صهيب الرومي فقد قيل عنه إنه عربي الأصل من بني النمر بن تولب، سبته الروم طفلًا وباعته، ونشأ بمكة، ويقال إنه عتيق عبد الله بن جدعان2 فماذا عسى أن تكون ثقافة طفل أو صبي حتى يستفيد منه محمد -صلى الله عليه وسلم- وهو لم يذهب إلى بلاد الروم, ولم تكن الدولة البيزنطية دولة توفر العلم حتى يفيض على الصبيان، ويقال: إن صهيبًا هذا نشأ بالعراق3. وأما سلمان الفارسي فقد كانت رحلته بحثًا عن الحقيقة، ولم يصل إلى بلاد العرب إلا بعد الهجرة وبعد أن مر على إعلان الدعوة الإسلامية ما يربو على خمسة عشر عامًا4. وأما مارية القبطية فقد أهديت للنبي -صلى الله عليه وسلم- وكانت أمة ساذجة لا ثقافة لها. فأي زور وأي بهتان يسيل من أقلام هؤلاء المستشرقين، أفلا يعقلون؟ أفلا يخضعون للحق المبين.. وإن ذهبوا كل مذهب من ضلال وبهتان، فإن نور الإسلام لن يطفأ وإن الله تعالى متم نوره ولو كره المشركون. وإن هؤلاء الصحابة أمثال صهيب الرومي وسلمان الفارسي الذين أشار إليهم المستشرقون، قد أتوا ليتعلموا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويتتلمذوا على يديه، ولو كان أحدهم مبرزًا في علم وثقافة، أو أستاذًا في العلوم الدينية لما ساغ له أن يأخذ ممن علمه؟ وهل يأخذ الأستاذ العلم ممن علمه؟ وهل يكون التلميذ أستاذًا لأستاذه؟ ومما يثيره المستشرقون تلبيسًا وتشويهًا لحقائق ثابتة تاريخيًّا وعمليًّا، مسألة أمية محمد -صلى الله عليه وسلم- فهم يقولون: إن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- لم يكن أميًّا، بل كان قارئًا كاتبًا،

_ 1 الإسلام والمستشرقون. 2 الاستيعاب: 2/ 727. 3 الاستيعاب: 2/ 727. 4 الاستيعاب: 2/ 634-638.

والحجة في هذا أنه كان تاجرًا والتاجر لا بد أن يراجع حساباته ويضبطها ولا يتأتى ذلك لأميٍّ. هذا التخيل الذي ينسجه هؤلاء المستشرقون مصادم للوقائع التاريخية، التي لا يستطيع أحد أن يتجاهلها أو يردها بمجرد أحلام يقظة وطيش، ولم يكن هناك أي دليل من الدلائل التاريخية تثبت أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- كان يعرف القراءة والكتابة. ولو عرف عنه ذلك لما سكتت قريش المعادية المعاندة، وكانت تود أن ترى ثمة خيطًا ولو كان رفيعًا لرفض دعوته ولمقاومته بشتى وسائل المقاومة.. وكان في عصره -صلى الله عليه وسلم- عشرات من التجار لا يقرءون ولا يكتبون وهم من ذوي الثراء والملكية المنوعة ونحن الآن وبعد أربعة عشر قرنًا من نزول القرآن الكريم نجد بيننا تجارًا كبارًا أميين. وقد وصف القرآن الكريم محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بالأمية فقال: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} 1.. وقال: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} 2. وعندما تجمعت قريش لغزوة أحد أرسل العباس بن عبد المطلب كتابًا سريًّا يخبر فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بهذا التجمع فدفع النبي -صلى الله عليه وسلم- الخطاب إلى أبي بن كعب فلما قرأه وعلم النبي -صلى الله عليه وسلم- بهذا الخطر الذي سيواجه المسلمين استكتم أبيًّا ما قرأ، ولو كان -صلى الله عليه وسلم- يحسن القراءة لقرأ الكتاب بنفسه ولما احتاج إلى من يقرأه ثم يستكتمه الخبر. وحين كتبت ثقيف شروط إسلامها للنبي -صلى الله عليه وسلم- أجازت فيها الربا والزنا، فلما قرئ الخطاب على النبي -صلى الله عليه وسلم- قال للقارئ وهو يقرأ كلمة "الربا": ضع يدي عليها، فوضع يده فمحاها، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا} 3, ولما بلغ كلمة الزنا قال: ضع يدي عليها فمحاها أيضًا وقرأ: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} 4. وأُمِّيَّة محمد -صلى الله عليه وسلم- قضية متواترة لا تحتمل تشكيكًا، ولا تحتاج إلى بحث من

_ 1 الأعراف: 157. 2 العنكبوت: 48. 3 البقرة: 278. 4 الإسراء: 32. وانظر الموسوعة القرآنية: 1/ 31.

جديد. وهي مما يؤكد أن القرآن الكريم كله وحي من عند الله، وأن النبي محمدًا -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يملك وسيلة التعلم وهي القراءة والنظر فيما ترك الأولون1. يقول الدكتور "عبد الجليل شلبي" في كتابه "الإسلام والمستشرقون": "والقرآن الكريم لا يكفي أن يؤلفه شخص يقرأ ويكتب، فهو موسوعة علمية تلم بجوانب فكرية كثيرة، به آيات تشير إلى مستكشفات علمية حديثة ونظريات ثابتة لم يعرفها العلماء إلا حديثًا، فلو أن عددًا من العلماء تضافر على تأليفه لأعوز إلى ثقافات واسعة وزمن متطاول للدرس والتأليف ولهذا -نحن المسلمين- نؤمن بيقين وبرهان أنه كلام الله"2. الشبهة الثانية: عدم إيمان القرشيين بمحمد -صلى الله عليه وسلم- في بادئ الأمر. يقول المستشرق "ألفريد جيوم": إن المثل: "لا كرامة لنبي في وطنه لا ينطبق على أحد مثلما ينطبق على محمد -صلى الله عليه وسلم- ويتخذ من تكذيب قريش له دليلًا على بطلان دعوته" وهو كلام خطأ في استدلاله وفي استنتاجه. ذلك لأن كل الأنبياء كذبوا في أوطانهم، وكذبهم ذووهم وعشيرتهم، من لدن إبراهيم الخليل إلى خاتم الأنبياء والمرسلين محمد بن عبد الله عليهم صلوات الله وسلامه، لقد كذب بنو إسرائيل موسى تكذيبًا عمليًّا، وهو قائدهم ومخلصهم من ظلم فرعون واستبداده. نهاهم عن عبادة العجل فعبدوه حين تغيب عنهم ليكلم ربه في الطور وقال لهم: اعبدوا الله رب هذا الكون, فقالوا: أرنا إياه: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} 3, وأمرهم أن يتركوا العمل يوم السبت فتركوا العبادة وذهبوا للصيد"4. ولقي عيسى من تكذيب قومه الشيء الكثير، ثم بلغ من إيذائهم له أن قدموه

_ 1 الإسلام والمستشرقون د. عبد الجليل شلبي: ص16 وانظر الموسوعة القرآنية للأستاذ إبراهيم الإبياري: ص31. 2 الإسلام والمستشرقون: ص24. 3 سورة البقرة: 55. 4 الإسلام والمستشرقون: ص35 عن كتاب تراث إسرائيل.

للمحاكمة وطلبوا صلبه، أفيدل ذلك أيضًا على أن المسيح عليه السلام لم يكن مرسلًا من ربه؟ ومن المعروف أن الذين حاربوا المسيح عليه السلام لم يكونوا أميين وليسوا من السذج وإنما كانوا من الصفوة ومن الرؤساء ومن العلماء. ومن قبل كذب زكريا قومه وقتلوه، وكذبوا يحيى وتمنوا الخلاص منه، فلما قتل ظلمًا سكتوا عن قاتله، ولولم يكونوا راضين عن هذه الفعلة لما سكت أعلام اليهود عن هذا الأمر الخطير. وقد قال ورقة بن نوفل وكان على الحنيفية: "لم يأت أحد بمثل ما أتى به محمد -صلى الله عليه وسلم- إلا عودي". وبعد هذا كله نسأل هؤلاء المستشرقين: لماذا يرون أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- هو الذي ليس له كرامة في وطنه من بين الأنبياء جميعًا؟ ومحمد -صلى الله عليه وسلم- كان عالي القدر في قومه قبل بعثته، وقد أطلقوا عليه اسم "الأمين" لما عرف عنه أنه سامي الأخلاق وشريف الخصال ونبيل المكرمات، وكان يختار من قومه للفصل بين المسائل والخصومات. لهذا كله نقول: إن المستشرقين لم يوفقوا في إلصاق اتهاماتهم في الإسلام ولا في نبيه الصادق، ولم يوفقوا فيما وصلوا إليه من نتائج مفتراة. الشبهة الثالثة: الوسيلة التي انتشر بها الإسلام: هل انتشر الإسلام بالسيف؟ هذه مسألة يثيرها كثير من المتحاملين على الإسلام، ولعل من له أدنى صلة بكتب السيرة يعرف مدى بطلان هذه الدعوة. فقد ظل نبي الإسلام محمد -صلى الله عليه وسلم- بمكة ثلاثة عشر عامًا يدعو إلى التوحيد، ولكن صناديد قريش يحولون بين الناس وبين تفهم الدعوة وقبولها. ومن تبعه من ضعاف القوم لقوا ما لقوا من إهانة وتعذيب وتنكيل، وكانت الوفود تقدم مكة لتسمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولكن قريشًا تتصدى لهم وتجبرهم على العودة قبل أن يلتقوا برسول الله, صلى الله عليه وسلم.. ثم هاجر المسلمون إلى الحبشة مرتين فرارًا من

وكان للمسلمين منهج واضح في الدعوة إلى التوحيد، هذا المنهج يتضح لكل ذي بصيرة إذا قرأ الكتب التي أرسلها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى ملوك أهل الكتاب، فقد كان -صلى الله عليه وسلم- يخيرهم بين أن يدخلوا في الإسلام أو يظلوا على دينهم ويدفعوا الجزية، وإذا قبلوا دفع الجزية كان على المسلمين حمايتهم، وتترك لهم الحرية في إقامة شعائرهم الدينية. والدليل على ذلك معاملة الرسول -صلى الله عليه وسلم- لوفد بني تغلب حينما قدموا إلى المدينة وكان منهم وثنيون أعلنوا إسلامهم، ومنهم مسيحيون ظلوا على مسيحيتهم، ومع انتشار الإسلام وتقدمه فقد ظل في هذه القبيلة عدد كبير من المسيحيين، ولما جاء عمر بن الخطاب حذر من الضغط عليهم بأية وسيلة، وأمر أن تكون لهم الحرية التامة في ممارسة شعائرهم الدينية، ولكنه اشترط عليهم أيضًا ألا يحولوا بين أي فرد منهم وبين الإسلام إذا رغب أن يكون مسلمًا، ومن أسلم منهم فإن أطفاله مسلمون لا يعمدون.. وقد آثرت هذه القبيلة أن تدفع الزكاة بدلًا من الجزية وتدخل في دين الله الذي حظيت في حماه بالحرية والكرامة الإنسانية.

أمثلة من مظاهر تحامل المستشرقين

أمثلة من مظاهر تحامل المستشرقين: 1- اتهام الشريعة الإسلامية بالجمود وعدم المرونة: يذكر بعض المستشرقين أن الشريعة الإسلامية جامدة، وغير قابلة للتطور بسبب اقتصارها على الكتاب والسنة، وضعف أثر الرأي والإجماع منذ القرن الحادي عشر الميلادي. ولعل هذا القول مصدره تصورهم الفاسد من أن الشريعة الإسلامية مزيج من شرائع شتى، وأن الإسلام نفسه مأخوذ من عدد من الأديان. ونرد على تحاملهم هذا فنقول: إن الشريعة الإسلامية إنما تنهض على مصدرين أساسيين هما كتاب الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المؤيد بوحي السماء، ولو تخلت الشريعة الإسلامية عن أحد هذين الأصلين لما بقيت إسلامية. ولو كانت الشريعة الإسلامية مقتبسة من الوثنية اليونانية، أو من الديانات السابقة كما يتوهم الأعداء ظلمًا وعدوًا لما بقيت إلى هذا اليوم مبرأة من كل نقص.

ومن كل سوء ومن كل شرك ومن كل فساد. على حين أن غيرها من الشرائع قد تدنت في الفساد إلى أسفل السافلين عقيدة وخلقًا ونظامًا. أقول إن القرآن الكريم قد وضع الأحكام العامة والمبادئ الكلية، وترك للمجتهدين المسلمين فسحة لتفصيلات الأحكام وتفريع الفروع مما يتناسب مع كل بيئة وزمن وظرف. وفي إطار القرآن الكريم والسنة المطهرة تبنى الاجتهادات التي لا تزال رافدًا خصبًا من روافد الشرع الإسلامي. ولهذا فقد كان لكل زمان حضارة ولكل بيئة اجتهادات. ومن آثار كثرة الاجتهادات وتعدد ضروبها وألوانها أن وجدت المذاهب الفقهية للأئمة الأربعة. أما الأحكام الثابتة والأصول العامة للعقيدة والشريعة والأخلاق التي لا يؤثر فيها اختلاف البيئة والزمان فقد جاءت في القرآن الكريم والسنة النبوية مفصلة، منظمة لكل كبيرة وصغيرة كأحكام المواريث ونظام الطلاق والعدة. هذا الرد يكفي لبيان الأحكام الشرعية الثابتة ولبيان الأحكام الشرعية التي يمكن أن يؤثر فيها اختلاف المكان والزمان. وأما إذا أراد المستشرقون بقولهم: "إن الشريعة لا تتطور" عدم قابلية الأحكام الشرعية الثابتة أصلًا للتعديل والتبديل والتغيير من عدم جواز إباحة ما حرم الله كثبات تحريم الربا مثلًا أبد الدهر فهذا حق لأن التغيير والتطوير هنا تحريف قد سلمت الشريعة منه بحفظ الله لكتابه العزيز. 2- ذكر بعض المستشرقين أن نظام الحسبة في الإسلام قد نقل عن الساسانية وليس نظامًا نابعًا من الإسلام. الحسبة هي أوجه الإصلاح العملي في حياة الناس، أو هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهي مأخوذة من قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} 1.

_ 1 آل عمران: 104.

وفي القرآن الكريم نصوص كثيرة تدعو إلى وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد مر الرسول -صلى الله عليه وسلم- برجل يبيع قمحًا فضرب يده في داخله فوجد به بللًا فنهى الرجل عن إخفاء القمح المبلل وأمره بإظهاره حتى يكون المشتري على علم بما يشتريه.. وقال عليه الصلاة والسلام "من غش فليس منا". وكان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يجول في الطرقات ليلًا ليسمع أقوال الناس عنه أو شكواهم منه فيصلح ما يمكن أن يكون قد غفل عنه، أو ما عسى أن يكون في أعمالهم من خطأ أو في سلوكهم من انحراف، ثم تطور نظام الحسبة في الإسلام حتى أصبح له رجال قائمون به يأخذون على أيدي الناس إذا وجدوا منهم إساءة. فالنظام إذن ليس مستعارًا وإنما هو منبثق عن أصول الإسلام. 3- أنكر أحد المستشرقين واسمه "برتلو" أن تكون كتب الكيمياء اللاتينية التي تحمل اسم جابر بن حيان كتبًا عربية الأصل كتبها رجل مسلم لمجرد أن أصولها العربية فقدت.. وهذا يدل على افتراء هذا المستشرق. وقد رد عليه مسارطون قائلًا: إن أي شخص يعرف العربية لا يخطئ مطلقًا في اكتشاف أن هذه الكتب اللاتينية ترجمات لكتب عربية. إذ إن الأساليب تبدو واضحة من الترجمة اللاتينية سواء كانت لجابر أو لغيره1. وهكذا جرى قلم المستشرقين لإثارة الشبهات وبلبلة الأفكار، وتشويه الحقائق ودس الفتن.

_ 1 أساليب الغزو الفكري للدكتور محمد علي جريشة وزميله: ص35.

وسائل المستشرقين لتحقيق أهدافهم

وسائل المستشرقين لتحقيق أهدافهم: لقد طرق المستشرقون كل الوسائل المتداولة لنشر آرائهم المضللة ودس أفكارهم المزيفة ومن أهم هذه الوسائل: 1- تأليف الكتب في موضوعات مختلفة عن الإسلام وقرآنه ورسوله، وكثيرًا ما تحمل هذه الكتب عناوين جديدة لفتت أنظار المثقفين إليها ككتاب "دراسات

إسلامية" و"العقيدة والشريعة في الإسلام" للمستشرق جولد تبهر، وككتاب "الاتجاهات الحديثة في الإسلام" للمستشرق هـ. أ. ر. جب و"الإسلام والمجتمع الغربي" للمؤلف السابق. 2- إصدار المجلات الخاصة ببحوثهم حول الإسلام وبلاده وشعوبه. 3- إلقاء المحاضرات في الجامعات والمجامع العلمية. 4- مقالات في الصحف المحلية والعالمية. 5- عقد المؤتمرات لإحكام خططهم الماكرة. 6- إنشاء الموسوعة الإسلامية والتي أطلقوا عليها اسم دائرة المعارف. يقول د. السباعي رحمه الله تعالى: "في هذه الموسوعة التي حشد لها كبار المستشرقين وأشدهم عداء للإسلام قد دس السم في الدسم ومثلت بالأباطيل عن الإسلام ما يتعلق به"1.

_ 1 أضواء على الحركات الهدامة "الاستشراق والمستشرقون" للدكتور السباعي: ص13.

المبحث الثاني: اليهودية

المبحث الثاني: اليهودية التوراة ... الأول: التوراة: جاء في دائرة المعارف البريطانية: "التوراة ليست كتابًا واحدًا ولكنها تتكون من مجموعة من الكتب، استغرق تأليفها قرونًا عديدة. وإنها لم تكتب بلغة واحدة ولكنها كتبت بالعبرية ثم استكملت باللغة الآرامية. وضمت آخر كتبها باللغة الإغريقية، وقد اشترك في كتابتها رجال لهم قدر من العلم وآخرون حظهم من المعرفة ضئيل"1. وهناك من يرى أن التوراة الأولى كتبت باللغة المصرية القديمة، لأن موسى عليه السلام كان يتحدث الهيروغليفية. والتوراة تبين تعاليم الديانة اليهودية. وقد اعتبر بعض اليهود أن اليهودية ديانة وضعية "شأنها شأن جميع الديانات التي انتشرت في المنطقة خلال العهد الوثني وعلى رأس أصحاب هذا الرأي "سيجموند فرويد" الذي ذكر في كتابه "موسى والوحدانية" بأن موسى كان زميلًا لأخناتون في المعهد العالي للدراسات اللاهوتية في مدينة هليوبوليس، وقد انتهت أبحاث ذلك المعهد إلى وجود خالق للكون هو الله. وبأن هناك بعثًا

_ 1 أضواء على الصهيونية: ص31.

وجزاء"1. وهناك من يرد سبب تحريف التوراة إلى أنها جمعت خلال فترات طويلة تمتد إلى ثمانية قرون. وقد أصبح معروفًا لدى كافة العقلاء وهو ما نجزم به نحن المسلمين ذلك لما ملئت به التوراة من تناقضات وتُرَّهات وخرافات لا تليق بالوحي الكريم ولا برسالة السماء ورسل الله2. وقد صورت التوراة الله -سبحانه عما يقولون- إلهًا خاصًّا ببني إسرائيل لا يحب سواهم. فالله في التوراة -إله خاص- لا يحب إلا بني إسرائيل، وأما سائر الناس فأغنام وأقل من أن يأبه بهم الرب. والأنبياء في التوراة يفعلون الفاحشة التي يتنزه عنها الإنسان العاقل سليم الفطرة، فضلًا عن صالح المؤمنين فضلًا عن النبي المعصوم. {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} 3. وتدعي التوراة المحرفة أن السحر قادر على تغيير صورة الإنسان إلى حمار مثلًا أو العكس. فهل يمكن أن يكون هذا كتابًا إلهيًّا مقدسًا جاء لتعريف البشرية بالله ولهدايتهم إلى الطريق المستقيم؟ هل يمكن أن يكون كتابًا مقدسًا من يقول: "يستحق القتل كل "الجوييم" -غير اليهودي- حتى ذوو الفضل منهم" ويقول: "من قتل غير يهودي فقد قدم قربانًا للرب". ولنأخذ بعض النماذج لنصوص التوراة، نناقشها مناقشة علمية منطقية، لعله يستبان على ضوئها مدى بشاعة التصحيف والتحريف التي وصلت إلى التوراة فغيرتها عن موضوعها وهدفها تغييرًا كاملًا.

_ 1 أضواء على الصهيونية: ص31. 2 الفصل لابن حزم: 1/ 224. 3 المجادلة: 2.

1- بنو إسرائيل في التوراة: تقول التوراة عن بني إسرائيل: "عاد بنو إسرائيل يعملون الشر في عيني الرب وعبدوا البعليم ... والعشتاروت ... وآلهة آدام.. وآلهة صيدوم ... وآلهة موآب ... وآلهة بني عمون آلهة الفلسطينيين ... وتركوا الرب ولم يعبدوه". "يقول الرب: أتسرقون وتقتلون وتزنون وتحلفون كذبًا وتبخرون للبعل وتسيرون وراء آلهة أخرى"1. 2- الغريزة الجنسية في التوراة: هناك أناشيد في التوراة تمزج بين الجنس والدين تأثرًا بالعقائد الوثنية التي كانت منتشرة حينذاك في المنطقة. جاء في الإصحاح الثالث: "في الليل.. على الفراش.. طلبت من تحبه نفسي.. طلبته فما وجدته.. إني أقوم وأطوف في المدينة، في الأسواق، في الشوارع أطلب من تحبه نفسي.. طلبته فما وجدته.. وجدني الحرس الطائف في المدينة. فقلت أرأيتم من تحبه نفسي؟ فما جاورتهم إلا قليلًا حتى وجدت من تحبه نفسي فأمسكته.. أحلفكن يا بنات أورشليم بالظباء وبأيائل الحقل ألا توقظن ولا تنبهن الحبيب حتى يشاء"2. وعلى هذا فقد ملئت التوراة بقصص الجنس والأخلاقيات المنحطة البذيئة، حتى إنه يبدو لمن يقرأ أية نسخة للتوراة أن الذين أضافوا إليها ما أضافوا من زيادات ما أنزل الله بها من سلطان، كانوا متأثرين إلى حد كبير بالجنس.

_ 1 عن كتاب أضواء على الصهيونية: ص35. 2 أضواء على اليهودية للأستاذ مصطفى السعدني: ص50.

وبالأساطير اليونانية التي تدور حول تصوير العلاقة بين المرأة والرجل على أنها غرائز ونزعات جنسية فقط. 3- الجاسوسية في التوراة: وتتحدث التوراة عن الجاسوسية على أوسع مدى وتعتبرها من الأعمال الدينية الشريفة لأنها مقتبسة من أنبيائهم، كما يتصورها العقل اليهودي الهابط في بؤرة الفساد والضلال. يقول أحد النصوص الواردة في سفر يشوع: "وقال يشوع للرجلين اللذين نجسا الأرض، ادخلا بيت المرأة وكلا ما لها كما حلفتما لها.. وأحرقوا المدينة. بالنار مع كل ما فيها"1. وهكذا فإن الخيال اليهودي الغارق في البعد عن الحقيقة والمنطق يتصور أن النبي يدعو إلى الجاسوسية وإلى إحراق المدينة بكل ما فيها من ممتلكات وأموال، وبكل من فيها من أناس.. ولهذا فإن التجسس على الناس وتلقط الأخبار وبيعها يعتبر لديهم من الأعمال المقدسة التي يجب أن يتوارثوها أبًا عن جد، وأن يربحوا من ورائها الأموال الطائلة كما يربحون من المتاجرة بأنفس البضاعة وأندرها. وقد فطن القادة الكبار منذ العصور القديمة إلى هذه النزعة المتأصلة في نفوس اليهود، فاستخدموهم للجاسوسية في حالة عزمهم على غزو بلد من البلدان، ومن الذين استخدمهم لهذا الغرض الإسكندر الأكبر. وللجاسوسية لدى اليهود حافزان: أحدهما حافظ ديني. فهم يعتقدون أن سرقة الأخبار وإذاعتها مطلب ديني فيه تحقيق لأمر التوراة، والآخر مادي دنيوي، وهم حريصون كل الحرص على سلب الأموال وأخذها بحق وبغير حق من أيدي الناس واحتكارها في أيديهم. ولليهود اليوم دور خطير في وكالات الأنباء والمخابرات العالمية، فلا يكاد يوجد جهاز للمخابرات في الكتلة الشرقية أو الغربية في العالم الرأسمالي أو الاشتراكي إلا ولليهودية فيه النصيب الأكبر. حتى إن جهاز المخابرات الأمريكية يكاد يكون كتلة يهودية قائمة بذاتها، قلبًا وقالبًا، سياسة وتوجيهًا وتخطيطًا.

_ 1 من كتاب أضواء على الصهيونية: ص50.

تتحرك حركة واحدة وتسير في اتجاه يخدم المصالح اليهودية في كل الدول، وهذا ما دعى أحد المسئولين للقول إن السياسة الأمريكية في حقيقتها ما هي إلا تنفيذ حرفي لبروتوكولات صهيون. 4- التعصب للجنسية اليهودية: تشير التوراة التي في أيدي اليهود إلى التعصب لجنسهم وتجعل منهم شعبًا متميزًا عن سائر الأجناس، وتطالبهم بالانفصال عن شعوب الأرض. ففي أحد الأسفار النصوص التالية: "ودخلوا في قسم وحلف أن يسيروا في شريعة الله التي أعطيت على يد موسى وأن يحفظوا ويعملوا جميع وصايا الرب وأحكامه وفرائضه، وألا نعطي بناتنا لشعوب الأرض، ولا نأخذ بناتها لبنينا"1. وهذا يدل على أن التمييز العنصري قد استمد وجوده من التوراة المحرفة وأن أول شعب دعا للتمايز بين الأجناس والأقوام هم اليهود، بل إنهم يوغلون في التفريق بين الشعوب فيعتبرون أن سائر الأجناس غير اليهودية رجس ونجس. 5- تعارض التوراة مع المنطق: ومع الحقائق العلمية الثابتة، من ذلك مثلًا ما جاء في سفر التكوين عن نشأة اللغات: "وكانت الأرض كلها لسانًا واحدًا ولغة واحدة، وحدث في ارتحالهم شرقًا أنهم وجدوا بقعة في الأرض "شنعار" وسكنوا هناك.. وقال بعضهم لبعض هلم نصنع لبنًا ونشويه شيًّا فكان لهم اللبن مكان الحجر، وكان لهم الجمر مكان الطين وقالوا هلم نبني لأنفسنا مدينة وبرجًا رأسه في السماء ونصنع لأنفسنا اسمًا لئلا نتبدد على وجه الأرض فنزل الرب لينظر المدينة والبرج الذين كان بنو آدم يبنوهما، وقال الرب هو ذا شعب واحد ولسان واحد لجميعهم، وهذا ابتداؤهم بالعمل.. والآن لا يمتنع عليهم كل ما ينوون أن يعملوه، هلم ننزل ونبلبل هناك لسانهم حتى لا

_ 1 سفر نحيا "انظر أضواء على الصهيونية: ص57".

يسمع بعضهم لسان بعض فبددهم الرب من هناك على وجه الأرض، فكفوا عن بنيان المدينة لذلك دعي اسمها بابل، لأن الرب هناك بلبل لسان كل الأرض، ومن هنا بددهم الرب على وجه الأرض"1. فهذا التفسير لنشأة اللغات لا يتفق مع الحقائق العلمية لتطور اللغات وأخذها وضعها الثابت لها. ومن هنا يتضح وضوحًا كاملًا لكل ذي بصيرة ونظر التحريف الشديد الذي عبث في التوراة فطمس معالم التوحيد فيها، وأطفأ نور الهداية منها وأخرج للناس كتابًا يثير الضحك والسخرية، والاشمئزاز والكراهية من أولئك الذين سولت لهم أنفسهم أن يشتروا بآيات الله ثمنًا قليلًا، وأن يقولوا زورًا وبهتانًا: "هذا من عند الله وما هو من عند الله". قال الله تبارك وتعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} 2. وقال جل من قائل: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} 3. كيف تم التحريف: إننا نؤمن أن الله تبارك وتعالى قد خاطب موسى عليه السلام وأنزل عليه التوراة فيها هدى ونور ليحكم أصحابها بما ورد فيها من شريعة، ولكننا ننكر أن تكون التوراة التي في أيدي اليهود اليوم هي التوراة الموحى بها من عند الله تعالى وذلك لأسباب جوهرية أصلية، منها ما رأينا من مقالات يتندى من تدانيها حبين الإنسانية خجلًا وحياء، هذا من جهة الموضوع. أما من جهة الأسلوب والصياغة، فإن كل من يطلع على التوراة ويقرأ ما فيها يدرك تمامًا اختلافات شديدة في الأسلوب والتعابير فضلًا عن تناقض الأفكار وتضارب نصوصها بعضها بعضًا.. وأن هذا الاختلاف والتناقض ما كان ينبغي أن يصدر عن إنسان حصيف

_ 1 أضواء على الصهيونية: ص52. 2 سورة البقرة: 79. 3 سورة البقرة: 59.

متزن فضلًا عن نبي مصطفى، فكيف ينسب إلى الله، تعالى الله عما يقول الكافرون علوًّا كبيرًا. ولكن ما السبب في هذا التغيير والتبديل؟ يذكر علماء تاريخ الأديان أن التوراة قد كتبت بلغات متعددة منها الهيروغليفية "الفرعونية القديمة" ومنها العبرية، والآرامية والإغريقية.. وإن كتابًا يكتب بهذه اللغات المختلفة، ثم يترجم في وقت لم تكن الترجمة ميسرة، ولا التعليم واسع النطاق منتشرًا بين الناس ولا الطباعة معروفة، ولا المخلصون القائمون به وعليه موجودين، ولا العهد بين موسى عليه السلام وكتابة التوراة قريبًا، بل إنه لم يكتب إلا بعد مرور ستمائة سنة على وفاة موسى عليه السلام.. كل هذه العوامل كفيلة بأن تؤكد حصول التحريف والتصحيف بل التبديل والتغيير. ويذكر علماء تاريخ الأديان أن ملك بابل "بختنصر" قد حاصر القدس وخربها وأحرق هيكل سليمان بكل ما فيه حتى ألواح التوراة. ويؤيدون قولهم بما ورد في التوراة: "في الشهر الخامس في سابع الشهر، وهي السنة التاسعة عشرة للملك "بختنصر" ملك بابل، جاء "نبوزرادان" رئيس الشرطة "عبد ملك بابل" إلى أورشليم وأحرق بيت الرب بيت الملك وكل بيوت أورشليم وأحرق بيوت العظماء أحرقها بالنار"1. وعلى هذا فلم يبق لليهود توراة يتمسكون بها ويرجعون إليها، ولم يجدوا جَدًّا واحدًا حافظًَا للتوراة يرجعون إليه ليذكرهم بما ورد في كتابهم الذي أحرق، واختفت بإحراقه كل نسخة وكل أثر لما روي عن النبي موسى عليه السلام. وقد سبي اليهود وليس في أيديهم مرجع واحد يحفظ عليهم دينهم، فمما لا شك فيه أن يتأثروا بالديانات الوثنية المنتشرة آنذاك، كالديانة الفارسية والبابلية، فشربوا من عقيدتها وأخلاقها ... وبعد حين من الدهر خطر على بالهم أن يكتبوا كتابًا يحفظ عليهم عنصرهم اليهودي، فكتبوا "التلمود" وقد أملى عليهم هذا

_ 1 من كتاب أضواء على الصهيونية: ص57.

الكتاب حقدهم الدفين على البشرية، وحرصهم في أن يعيدوا تجمعهم وأن يتخلصوا مما لاقوا من ظلم حكام بابل. ثم جاء الكاهن "عزرا" ووضع كتاب "التوراة" معتمدًا على التلمود أولًا، وعلى بقايا أسفار من التوراة عثروا عليها مع كهنة في بلاد بابل. وبعد هذا العرض يتبين أن توراة موسى عليه السلام قد محيت من الوجود وحل محلها "توراة عزرا" المتأثر تأثرًا بالغًا بالأساطير الفارسية والبابلية عقيدة وخلقًا.

التلمود

ثانيًا- التلمود: هو الكتاب الثاني لليهود، وتأثيره أخطر من التوراة - ذلك لأن التوراة حرفت وغيرت أما التلمود فلم يكن له وجود أصلًا. وإنما نسجته تصورات اليهود الخاطئة، وأفكارهم الحاقدة، ونفوسهم الشريرة، وخيالاتهم المتأثرة بالوثنية الفارسية والبابلية، وغرائزهم الطائشة التي لا يقيدها خلق ولا تهذبها قيمة. والتلمود كلمة عبرية، قيل إن معناها التعليم. وقد انطلقت فكرة تدوين التلمود من رأس أحد كهان اليهود بعد السبي البابلي، عام "539 ق. م" ثم تأسست لجنةٌ عدد رجالها "120" رجلًا لمتابعة ذلك الكاهن في كتابة التلمود، وقد عرفت هذه اللجنة "بالثنائم" لأنها تجعل كتابهم المقدس في كتابين اثنين التوراة والتلمود، واستمرت الإضافات والزيادات والأوهام تزيد في هذا المؤلف المخترع حتى القرن الثاني بعد الميلاد. ولليهود اعتقاد غريب في "التلمود" هو أن هذا الكتاب -مع معرفتهم الأكيدة بأنه اختلاق وافتراء- قد وجد قبل الخليقة، ولولاه لزال الكون بأسره. وقد أثر "التلمود" تأثيرًا دينيًّا وثقافيًّا وسياسيًّا على اليهود ويظهر التأثير الديني بتحول عقيدتهم من التوحيد إلى الشرك الممزوج بالأساطير والخرافات، فاليهود يخشون الحاخامات أكثر مما يخشون الله، وأن الله -في معتقدهم الفاسد- قد أخطأ، واعتذر للحاخامات الذين كتبوا التلمود، وأن الأحبار أفضل من الأنبياء.. ومن وصايا التلمود: 1- مخافة الحاخامات هي مخافة الله.

2- أقوال الحاخامات أفضل من أقوال الأنبياء. 3- لا يمكن نقض تعليمات الحاخامات ولو بأمر من الله. "وأن القمر تظلم من بهوا" رب اليهود لأنه خلقه أصغر من الشمس.. فقبل تظلمه واعترف بخطئه وسوء تدبيره. وقال اذبحوا لي ذبيحة أكفر بها عن ذنبي لأني خلقت القمر أصغر من الشمس. والأثر الثقافي الذي أورثه "التلمود" في نفوس اليهود يظهر في حرص الأحبار على تعليم أجيالهم اليهودية التلمود، واعتباره أساسًا لوحدتهم القومية. وأنهم هم وحدهم شعب الله المختار، وفيهم كل خصال القوة والنباهة والذكاء والحذق التي تخولهم للتغلب على الشعوب الضعيفة واستغلال خيراتها والتسلط على ممتلكاتها. ويظهر الأثر السياسي بمحاربتهم العلنية أو الخفية لكل أنظمة الحكم إن لم تكن موالية لهم أو متآزرة معهم. ولعله من الأهمية بمكان أن أذكر هنا صورًا من التعليمات اللئيمة للتلمود: 1- محاربة التلمود للنظام الأسري والملكية الخاصة والطبقة المتوسطة. فإن التلمود يحارب النظام الاجتماعي "للجويم" الذي يقوم على أساس الأسرة والدين وامتلاك الممتلكات الخاصة، كما يحارب وجود الطبقة الوسطى في المجتمع. ولعل "كارل ماركس" قد تأثر تأثرًا كبيرًا بالتلمود حينما دعا إلى مبادئه الماركسية. 2- إهدار كرامة المرأة: لقد أساء التلمود للمرأة أيما إساءة فاعتبرها صورة صارخة للجنس، ولم يرع نسبًا ولا رحمًا. فقال في أحد تعاليمه: "من رأى أن يجامع والدته فسيؤتى الحكمة، ومن رأى أن يجامع أخته فمن نصيبه نور العقل". ويحث في بعض مواضعه على الزنا بغير اليهوديات فيقول: "إن الزنا بغير اليهود ذكورًا أو إناثًا لا عقاب عليه لأن الأجانب -وهم غير اليهود- من

نسل الحيوانات"1. وهكذا يتدنى الخلق اليهودي إلى أسفل السافلين. 3- افتراءاتهم على مريم العذراء وعيسى عليه السلام: يقول التلمود: "يسوع الناصري -عيسى عليه الصلاة والسلام- ابن غير شرعي، حملته أمه وهي حائض سفاحًا من العسكري باندادا. وهو كذاب ومجنون. ومضلل وساحر، ومشعوذ ووثني ومخبول"2. و"مات يسوع كبهيمة ودفن في كومة قذر". الديانة المسيحية ديانة غريبة وثنية، وهي كالمرأة النجسة تلوث كل من يتصل بها". و"أتباع يسوع يطرحون بعيدًا كما تطرح خرق حيض المرأة". ويسمي "التلمود" "الأناجيل" سجلات الشر، والصلوات المسيحية خطايا وآثامًا، وأعياد المسيحيين كارثة وهلاكًا وأيام الشيطان، ولم يترك التلمود أمرًا يتصل بالمسيح عليه الصلاة والسلام أو بالمسيحيين إلا جعله سبة لهم. وانتهى به المطاف أن جعل قتل المسيح أو إيذاءه أو إضراره قربى من القربات. وبعد، فأي كتاب هذا الذي يلتف اليهود حوله ويعتبرونه أصلًا ثابتًا من أصول الدين والاجتماع، والثقافة والسياسة؟ أفلا يتدبرون في فساده وعظم تجني كاتبيه على العقول الساذجة البسيطة؟ أم أنها عماوة الضلال، وغباء الشرك، وجهالة الأفئدة، وخواء الروح؟.

_ 1 أضواء على الصهيونية: ص81. 2 انظر كتاب مؤامرة الصهيونية على العالم: ص91.

البروتوكولات

ثالثًا: البروتوكولات: ثبوت البروتوكولات يذكر أنه في عام "1935م" نشر "تيودور فيشر" صاحب المكتبة الألمانية

في جنيف كتابًا يحتوي على بروتوكولات حكماء صهيون، فلجأ اليهود إلى المحكمة لوقف بيع ذلك الكتاب.. وكان الحكم الابتدائي لصالح اليهود، ولكن "فيشر" استأنف الحكم واهتم بالقضية واستطاع أن يقدم الوثائق الرسمية التي تثبت صحة البروتوكولات ومن بينها وثيقة رسمية استخرجت من المتحف البريطاني تؤكد أن البروتوكولات قد أودعت في محفوظاتها منذ عام "1906" كما ثبت لقضاة محكمة برن العليا أن اليهود استعانوا بشهود تحقق كذبهم وتزويرهم، كما ثبت أيضًا أن القاضي الذي أصدر الحكم الابتدائي كان عضوًا في المحفل الماسوني1. جاء في البروتوكول الأول: "والسياسة نقيض الأخلاق ولا لقاء بينهما، والحاكم الذي يدين بالأخلاق في حكمه ليس بالسياسي الحاذق، وعرشه ليس بالعرش الثابت، ويجب على من يريد أن يتسلم الحكم أن يتزود بالمكر والرياء، وأما الفضائل الإنسانية كالصدق والاستقامة فهي في عرف السياسة رذائل هي أقدر على هدم العروش من أشد الأعداد ضراوة وفتكًا" "والوحيد الذي يستطيع فهم السياسة هو من أعد منذ نعومة أظافره إعدادًا خاصًّا للحكم الفردي المطلق". "وأما شعارنا فهو القوة والرياء، ففي الأمور السياسية يكون النجاح وليد القوة وبخاصة عندما تكون القوة اللازمة لرجل السياسة مطلية بالعبقرية التي تسترها ويجب أن يكون العنف مبدأ، قاعدته الرياء والمكر في السيطرة على الحكومات التي تأبى أن تداس تيجانها تحت أقدام ممثل القوة الجديدة، وهذا الشر هو الوسيلة الوحيدة إلى الخير". وجاء في البروتوكول الثاني: "نجاح مخططنا وقف على ألا ينجم عن الحروب أي تغير في الحدود أو التوسع في الأرض، ويجب الاحتفاظ بهذا المبدأ ما وسعنا ذلك حتى يتيسر نقل الحروب من ميدانها القتالي إلى منافسة اقتصادية، وعندئذ تضطر الأمم إلى

_ 1 أضواء على الصهيونية: ص131، وللمسألة تفصيل في كتاب "الخطر الصهيوني أو بروتوكولات حكماء صهيون" ترجمة محمد خليفة التونسي.

الاعتراف بقوة سلطاننا وتفوقنا في هذا المضمار، وتبعًا لذلك يضطر الفريقان المتحاربان إلى أن يضعا نفسيهما تحت أمر عملائنا الدوليين الذين لهم ملايين الأعين الحادة القادرة على اختراق حجب الحدود وبذلك تقضي حقوقنا الدولية على الحقوق القومية.. وستتولى حقوقنا الدولية الحكم بالقوة نفسها التي يحكم بها القانون المدني الشعب الذي يدين فيه"1. وجاء في البروتوكول الثالث: "لقد حرصنا على أن تقحم حقوقًا للهيئات خيالية محضة، فإن كل ما يسمى "حقوق البشر" لا وجود له إلا في الشعارات التي لا يمكن تحقيقها عمليًّا ... نحن على الدوام نتبنى الشيوعية ونحتضنها متظاهرين بأننا نساعد العمال طوعًا لمبدأ الأخوة والمصلحة العامة للإنسانية وهذا ما تبشر به الماسونية الاجتماعية. إن قوتنا تكمن في أن يبقى العامل ومرضه دائمين لأننا بذلك نستبقيه عبدًا لإرادتنا، ولن يجد فيمن يحيطون به قوة ولا عزمًا للوقوف ضدنا. إننا نحكم الطوائف باستغلال مشاعر الحسد والبغضاء التي يؤججها الضيق والفقر، وهذه المشاعر هي وسائلنا التي نكتسح بها بعيدًا كل من يصدوننا عن سبيلنا. إن المسيحيين من الناس في خستهم الفاحشة ليساعدوننا على استقلالنا حينما يخرون راكعين أمام القوة، وحينما لا يرثون للضعيف ولا يرحمون في معالجة الأخطاء، ويتساهلون مع الجرائم.. حين نستحوذ على السلطة نمحق كلمة الحرية من معجم الإنسانية باعتبار أنها رمز القوة الوحشية الذي يمسخ الشعب حيوانات متعطشة إلى الدماء، ولكنه يجب أن نركز في عقولنا أن هذه الحيوانات تستغرق في النوم حينما تشبع من الدم، وفي تلك اللحظة يكون يسيرًا علينا أن نستعبدها وأن نسخرها ... "2.

_ 1 مؤامرة الصهيونية على العالم تأليف أحمد عبد الغفور عطار: ص76. 2 أضواء على الصهيونية: ص146 وما بعدها.

وهكذا تستمر البروتوكولات الأربعة والعشرون1 كل منها يشير إلى تخطيط يهودي مدمر في مجال من مجالات الحضارة الإنسانية حتى ينتهي بالبشرية إلى الصغار والهوان وعندئذ يتسنى لليهود أن يحكموا العالم. ويمكننا أن نلخص الأهداف الخطيرة التي يسعى اليهود لتحقيقها تنفيذًا لبروتوكولات صهيون في النقاط التالية: 1- الإفساد في ميادين الثقافات العامة والفنون والتمثيل: ذلك لأن الثقافة العامة في صورتها الصحيحة ووضعها السليم وأسسها الفكرية وسيلة مهمة لرفع مستوى الأمم والجماعات فكريًّا وحضاريًّا. فرآى اليهود أن استغلالهم لهذا الميدان يعتبر مجديًا ومحققًا لأطماعهم العدوانية، فراحوا ينشرون الأسس الفكرية الفاسدة ويوحدون النظريات الثقافية المتناقضة. جاء في البروتوكول التاسع: "وقد تمكنا من تضليل الشبان من غير اليهود، وإفسادهم خلقيًّا وحملهم على البلادة عن طريق تعليمهم المبادئ التي نعتبرها نحن باطلة على الرغم من إيحائنا بها". وفي البروتوكول الثالث عشر: "ولكي نبعد الجماهير من الأمم غير اليهودية عن أن تكشف بأنفسها أي خط عمل جديد لنا، سنلهيها بأنواع شتى من الملاهي والألعاب وهلم جرًّا. وسرعان ما سنبدأ الإعلان في الصحف داعين الناس إلى الدخول في مباريات شتى من كل أنواع المشروعات، كالفن والرياضة مما إليها ... "2. 2- الإفساد في ميادين العلاقات والروابط الاجتماعية: تنفيذًا للمخطط اليهودي الماكر الذي يمهد إلى تجزئة الشعوب والأمم، فإن لليهود نشاطًا واسعًا مخربًا في ميادين العلاقات الاجتماعية بين الأفراد

_ 1 المصدر السابق وانظر مؤامرة الصهيونية على العالم. 2 مكايد يهودية عبر التاريخ، عبد الرحمن الميداني: ص344، أضواء على الصهيونية: ص178.

والجماعات، وذلك ببث عوامل الشقاق بين الناس، وغرس بذور الخلاف والخصام والعداء وإثارة الأحقاد والضغائن والحزازات القومية والطبقية والحزبية، وغير ذلك من الأمور التي تقوم على المصالح الخاصة، فينشأ عن هذه الأحوال عوامل نفسية تؤدي إلى تقسيم الأمم والمؤسسات والجماعات إلى أقسام شتى، كل قسم يرغب في أن تكون له السيادة والزعامة على حساب تحطيم الأقسام الأخرى، وتعمل المساعي المادية لتحقيق السيادة المطلوبة فيقع الصدام الحتمي، والحروب العدوانية، وتتبدد طاقات الأمة وعندئذ يجد اليهود ثغرات مناسبة لمد نفوذهم. وجمع المكاسب المادية. يقول البروتوكول العاشر: "علينا أن ننهك كل إنسان بالمنازعات والعداوات، والحزازات والحروب، والمجاعة وانتشار الأوبئة، والعوز والفاقة، حتى يجد غير اليهود أن لا مناص لهم من مناشدتها العون المادي والسلطان"1. ويقول البروتوكول الرابع: "لقد بذرنا الخلاف بين الناس بنشر التعصبات الدينية والقبلية خلال عشرين قرنًا، ومن هذا كله تتقرر حقيقة: هي أن أي حكومة منفردة لن تجد لها سندًا من جاراتها حين تدعوها إلى مساعدتها ضدنا، لأن كل واحدة منها ستظن أن أي عمل ضدنا هو نكبة على كيانها الذاتي"2. ويقول البروتوكول الخامس: "هذه السياسة ستساعدنا أيضًا في بذر الخلافات بين الهيئات وفي تفكيك كل القوى المتجمعة"3. 3- افتعال الأزمات الاقتصادية: تعتمد خطة اليهود لافتعال الأزمات الاقتصادية على عنصرين:

_ 1 مكايد يهودية عبر التاريخ: ص351. 2، 3 مكايد يهودية عبر التاريخ ص351 - وما بعدها بتصرف.

الأول: احتكار العملة وسحبها من التداول، وذلك بمختلف وسائل الاحتكار المصرفي العالمي، الأمر الذي يوقع الناس في ارتباك ناجم عن فقد السيولة النقدية. الثاني: إلجاء أرباب العمل إلى طلب قروض من اليهود المحتكرين للذهب وغيره من العملات النقدية، مقابل فوائد ربوية يحصل عليها اليهود وهذه القروض تضع أعباء ثقيلة على المدينين لهم. يقول البروتوكول العشرون: "إن الأزمات الاقتصادية التي دبرناها بنجاح باهر في بلاد "الجوييم" قد أنجزت عن طريق سحب العملة من التداول، فتراكمت ثروات ضخمة، وسحب المال من الحكومة التي اضطرت بدورها إلى الاستنجاد بمالكي هذه الثروات لإصدار قروض. ولقد وضعت هذه القروض على الحكومات أعباء ثقيلة اضطرتها إلى دفع فوائد المال المقترض، مكبلة بذلك أيديها..". "وأظنكم تعرفون أن العملة الذهبية كانت الدمار للدول التي سارت عليها، لأنها لم تستطع أن تفي بمطالب السكان، لأننا فوق ذلك قد بذلنا أقصى جهدنا لتكديسها وسحبها من التداول. إن كل قرض ليبرهن على ضعف الحكومة وخيبتها في فهم حقوقها التي لها.. وإن القروض الخارجية مثل العلق الذي لا يمكن فصله من جسم الحكومة حتى يقع من تلقاء نفسه. أو حتى تتدبر الحكومة كي تطرحه عنها، ولكن حكومات "الجوييم" لا ترغب في أن تطرح عنها هذا العلق، بل هي تزيد عدده وبذلك كتب على دولتهم أن تموت قضاياها عن نفسها بفقر الدم.. فماذا يكون القرض الخارجي إلا أنه علقة؟ القرض هو إصدار أوراق حكومية توجب الالتزام بدفع فائدة تبلغ نسبة مئوية من المبلغ الكلي للمال المقترض. فإذا كان القرض بفائدة قدرها خمسة من مائة ففي عشرين سنة ستكون

الحكومة قد دفعت بلا ضرورة مبلغًا يعادل القرض، لكي تغطي النسبة المئوية وفي أربعين سنة ستكون قد دفعته ضعفين وفي ستين سنة ثلاثة أضعاف المقدار، ولكن القرض سيبقى ثابتًا كأنه دين لم يسدد"1. وفي البروتوكول السادس: "سنعمل على تقويض الإنتاج من أساسه عن طريق نشر الفوضى بين العمال وتحريضهم على شرب الخمر، كما أنه لا بد من استخدام جميع الوسائل الممكنة لطرد الأذكياء من غير اليهود من وجه البسيط"2. 4- القضاء على الأديان: جاء في البروتوكول الرابع: "إن الناس المحكومين بالإيمان سيكونون موضوعين تحت حماية هيئاتهم الدينية، وسيعيشون في هدوء واطمئنان وثقة، تحت إرشاد أئمتهم الروحيين، وسيخضعون لمشيئة الله على الأرض، ولهذا السبب يتحتم علينا أن نزرع الألغام لتهديم الإيمان، وأن نمحو من عقول غير اليهود مبادئ الله والروح، وأن نبذل هذه المبادئ بحسابات رياضية ورغبات مادية"3. وجاء في البروتوكول الرابع عشر: "عندما نصبح أسياد الأرض لا نسمح بقيام دين غير ديننا، ومن أجل ذلك يجب علينا إزالة العقائد، وإذا كانت النتيجة التي وصلنا إليها مؤقتًا قد أسفرت عن خلق الملحدين، فإن هدفنا لن يتأثر بذلك، بل يكون ذلك مثلًا للأجيال القادمة التي ستستمع إلى دين موسى، هذا الدين الذي فرض علينا مبدأه الثابت النابه ووضع جميع الأمم تحت أقدامنا".

_ 1 مكايد يهودية عبر التاريخ: ص355. 2 عن كتاب أساليب الغزو الفكري ص: 173. 3 عن كتاب مكايد يهودية ص305 وانظر أضواء على الصهيونية ص208.

وفي البروتوكول السابع عشر: "لقد عنينا عناية خاصة بالعيب في رجال الدين غير اليهود، والحط من قدرهم في نظر الشعب، وأفلحنا كذلك في الإضرار برسالتهم التي تنحصر في تعويق أهدافنا والوقوف في سبيلها، حتى لقد أخذ نفوذهم ينهار مع الأيام ... وسنعمل على أن يكون دور رجال الدين وتعاليمهم تافهًا ونجعل تأثيرهم في نفوس الشعب فاترًا إلى حد يجعل أثر تعاليمهم عكسيًّا"1. يقول البروتوكول الرابع: "يجب علينا أن ننتزع فكرة الله ذاتها من عقول غير اليهود وأن نضع مكانها عمليات حسابية ورغبات مادية". 5- إفساد الرأي العام ومحاولة السيطرة على وسائل الإعلام. يقول البروتوكول الخامس: "ولكي نطمئن إلى الرأي العام يجب أن نربكه تمامًا، فنسمعه من كل جانب، وبشتى الوسائل آراء متناقضة لدرجة يضل معها غير اليهود الطريق". ويوصي أيضًا: بـ "مضاعفة الأخطاء التي ترتكب والعادات والعواطف والقوانين الوضعية في البلاد لدرجة يتعذر معها على الناس التفكير تفكيرًا سليمًا وسط تلك الفوضى، وهكذا يكف الناس عن فهم بعضهم بعضًا ... وسوف تساعدنا تلك السياسة على بث الفرقة بين جميع الأحزاب، وعلى حل الجماعات القوية وعلى تثبيط عزيمة كل عمل فردي يمكن أن يعرقل مشروعاتنا". ويقول البروتوكول الثاني: "نحن الذين هيأنا دارون وماركس ونيتشه، ولم يفتنا تقدير الآثار السيئة التي تركتها هذه النظريات في أذهان غير اليهود"2.

_ 1 عن كتاب أساليب الغزو الفكري: ص174، وأضواء على الصهيونية: ص196. 2 مكايد يهودية عبر التاريخ: ص96.

6- إشاعة الفتن بين شعوب العالم، وإشاعة الفوضى في كافة مجالات الحياة: جاء في البروتوكول الخامس: "إننا نقرأ في قاموس الأنبياء أن الله اختارنا لحكم العالم، وقد وهبنا الله العبقرية لنقوم بهذا العمل". وفي البروتوكول الحادي عشر: "غير اليهود كقطع من الأغنام أما نحن فإننا ذئاب، وهل تعلمون ما تفعل الأغنام إذا اقتحم الذئاب حظيرتها. إنها تغمض عينيها وسندفعهم إلى ذلك".

الجمعيات اليهودية

الجمعيات اليهودية: لقد أنشأ اليهود عددًا من الجمعيات للعمل على تنفيذ خططهم العدوانية الاستخرابية. وكان من هذه الجمعيات ما هو سري للغاية، لم يعرف عنه إلا بتصريحات أدلى بها بعض المسيحيين الذين غرر بهم وزجوا في تلك الجمعيات، ومنها ما هو علني يعمل بصورة مكشوفة. ومن أكبر الجمعيات لديهم: الماسونية وهي في ظاهرها جمعية خيرية تعمل لتوفير أسباب السعادة الاجتماعية للناس، ولكن حقيقتها تتنافى مع ظاهرها إذ إنها تعمل على شراء البسطاء من المسلمين والمسيحيين أصحاب الأهداف القريبة، وتغريهم بتحقيق تلك الأهداف إذا كانوا أعضاء فاعلين في الجمعية، ومن ثم تهيئ عقولهم لتقبل المبادئ التلمودية، وبصورة خاصة نظرية شعب الله المختار تمهيدًا لتحقيق السيادة الصهيونية على فلسطين ثم امتدادها من الفرات إلى النيل، بمساعدة رجالهم الماسونيين الغربيين، ثم إنها الماسونية الغربية والاستيلاء على السلطة العالمية تحقيقًا للإصحاح الملفق الذي يقول: "كل أرض وطأتها بطون أقدامكم - فهي لكم". وسألقي بعض النظرات على الماسونية سحب وثائقها: "إن عقائدنا ورموزنا وإشاراتنا ودرجاتنا هي مصرية فرعونية. ولكنها انتقلت

إلينا بواسطة بني إسرائيل"1. "إن الماسونية مذهب سري لم تدون معالمها جميعًا وأكثر أمورها تجري على نهج شفوي"2. "إن الثورة الفرنسية ما هي إلى وليدة الماسونية"3. "يجب ألا تقتصر الماسونية على شعب دون غيره ولتحقيق الماسونية العالمية يجب سحق عدونا الأزلي الذي هو "الدين" مع إزالة رجاله"4. "لا بد أن نكافح بجهد أكبر لإدامة القوانين والنظم اللادينية، لأن السلطة المطلقة التي صنعها رجال الدين على وجه المعمورة قد قاربت النهاية، لا بل آلت إلى الزوال. وأن غايتنا قبل كل شيء هي إبادة الأديان جميعًا"5. وللماسونية شعار براق قد يغري كثيرًا من السذج الذين لا يحسبون للأمور حسابها، ولا يضعونها بميزان العقيدة والدين، وهو: "الحرية، الإخاء، المساواة" وهو الشعار الذي اتخذته الثورة الفرنسية. وقد ثبت فيما بعد أنها كانت ثورة يهودية مختفية وراء قناع فرنسي، استفادت منها اليهودية العالمية حيث نال يهود أوروبا حرياتهم وحقوقهم، بينما كانت هذه الثورة محنة ونكبة للملكية الفرنسية وللكنيسة المسيحية. والأعضاء الذين يعملون في هذه الجمعية على مراتب أربعة هي: المبتدي، الشغال، الأستاذ، الرفيق، العظيم ... ومن الرفاق المشهورين: الرفيق كارل ماركس، والرفيق تروتسكس، والرفيق تشرشل، والرفيق جونسون، والرفيق نيكسون.. ويتدرج الماسوني في هذه الدرجات الواحدة تلو الأخرى، وهو بذلك

_ 1 الخطب الأربع: محفل السلامة الماسوني: ص24، نقلًا عن كتاب أسرار الماسونية. 2 الخطب الأربع: محفل السلامة الماسوني: ص4، نقلًا عن كتاب أسرار الجنرال رفعت آتلخان. 3 نفس المصدر: ص735. 4 مؤتمر المشرق الأعظم 1923 ص431 عن المصدر السابق. 5 نشرة المحفل الفرنسي الأكبر سنة 923 ص198 عن كتاب أسرار الماسونية.

يبتعد عن الروح الإسلامية إن كان مسلمًا وعن الروح المسيحية إن كان مسيحيًّا ويقترب من الروح اليهودية والسياسة اليهودية، حتى يتحول إلى عميل صهيوني يكون نواة للفرقة بينه وبين أهل دينه، ودعامة الإثارة لإثارة الفتن والاضطرابات في الدولة التي ينتمي إليها،.. وبهذا يتخلى الماسوني عن جنسيته وعن دينه لأنه خضع لأمر أساتذته اليهود. والماسونية ليست جمعية مستحدثة وإنما هي قديمة جدًّا تمتد جذورها إلى أعماق التاريخ، وينشئها اليهود أينما حلوا في أقطار الأرض لتكون مركزًا لاجتماعاتهم التي يتناقشون فيها ويتبادلون الرأي والمعلومات وتعزى الحركات الثورية العاتية والفتن الصخرية التي اندلعت في شتى الدول في العصر الحديث إلى النشاط الماسوني، كالثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر وكتقسيم ممتلكات الدولة العثمانية وتوزيعها على الدول الاستعمارية. وإثارة الفتن في مصر والعراق بالاتفاق مع انجلترا للانقلاب على الدولة العثمانية. فالماسونية كانت وما زالت جمعية سرية للفساد وللإفساد وللتجسس والتآمر والخيانة الوطنية والارتداد الديني يحمي هذا كله طقوس وحشية قاسية تعاقب من يخرج عنها أشد العذاب1.

_ 1 انظر كتاب أضواء على الصهيونية: ص165.

موقف المسلمين من المبادئ اليهودية

موقف المسلمين من المبادئ اليهودية: نرى -نحن المسلمين- أن هذه المبادئ التي يتمسك بها اليهود والتي يخططون من أجلها بأساليب مفزعة شريرة لا تتناسب مع من يؤمن بأنه صاحب رسالة إلهية يحملها إلى البشر، ليهدي بها الضال، ويؤلف بها بين القلوب، وقد قال الله تعالى مبينًا الحكمة من إرسال الرسول, صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} 1. ولئن كان خطر اليهود يمتد ليشمل العالم بأسره فإن خطره على الإسلام وعلى الأمة الإسلامية جسيم وعظيم، وقد تجلى هذا الخطر منذ بزوغ فجر الإسلام، ومن اليوم الأول الذي سطع فيه نوره، قال الله تعالى:

_ 1 سورة البقرة: 89.

{وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} 1. {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 2. وقد أثاروا الفتن في عهد الخلافة الراشدة، وفي التاريخ الإسلامي المجيد، وفي محضنه الزاهر وظهر اسم عبد الله بن سبأ ليمثل الشخصية اليهودية بكل خبثها وبكل لؤمها وكيدها، فأثار الناس بدسائسه وحرضهم ضد الخليفة ذي النورين، ولم يكتف بأن ذهب ضحية مكره ومؤامرته الخليفة الصالح، وإنما امتدت فتنته لتحيط بالخليفة الرابع علي -رضي الله عنه وأرضاه- ومن ثم وجد الفرصة ملائمة لتشويه الفكر الإسلامي فأدخل بدعته وضلالته "إن لكل نبي وصيًّا، وإن عليًّا وصي لمحمد، وإن محمدًا خاتم الأنبياء وعليًّا خاتم الأوصياء" وبث "فكرة حلول الله بالأشخاص" ودسها بين الجاهليين من أهل الكوفة. ولما قتل الإمام علي -رضي الله عنه- ظل هذا اليهودي يبث بدعته وضلالته بأن عليًّا لم يقتل وإنما رفع إلى السماء كما رفع عيسى -عليه السلام- وأنه سينزل إلى الدنيا وينتقم من أعدائه وأن الذي قتل شيطان تمثل في صورته، وصار يوسوس لهم هو وأعوانه من السبئية، أن عليًّا يجري في السحاب وأن الرعد صوته وأن البرق سوطه، حتى صار السبئي إذا سمع صوت الرعد قال: عليك السلام يا أمير المؤمنين.. وتابع السبئيون ضلالهم فاعتقدوا بتناسخ الإله في الأئمة من آل البيت بعد علي. وكان مقتل علي -رضي الله عنه- أثرًا من آثار الدسائس اليهودية، وكان تمرد الخوارج سببه عبد الله بن سبأ ... وهكذا.. بتلاعب أعداء الله، شر الدواب بالفكر الإسلامي، وبالحوادث التي سببت انشقاقًا في صفوف المسلمين وذهب ضحيتها آلاف مؤلفة من المؤمنين، ومن السذج الذين استجابوا لمؤامرة

_ 1 سورة البقرة: 89. 2 سورة البقرة: 146.

ومكائد السبئي. وفي العصر الحديث، برزت القوى اليهودية الصهيونية طامعة في السيطرة على الوطن العربي ثم العالم الإسلامي، بل يريدون السيطرة على الاقتصاد وعلى وسائل الإعلام من تلفاز وصحافة وذلك لتنفيذ البروتوكولات التي رسمت أحلامهم الضالة المضلة. فعلينا نحن المسلمين أن نترصد حركاتهم ونتربص لهم ونفسد عليهم مخططاتهم، وأن نكون على بصيرة بكل ما يفعلونه كيلا نقع في حبائل كيدهم ومكرهم: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} 1. وأود أن أنوه هنا إلى أن ما ينشره اليهود ويقبله بعض الناس ويذيعونه من أن هناك تفرقة بين الصهيونية واليهودية إنما هو أمر باطل يقصد منه تضليل الرأي العام، وستر أعمالهم العدوانية الشريرة بهذا الرداء الخادع.. ولا عجب فإن التضليل والخداع والمكر والمكيدة صفات متأصلة في نفوسهم وطباعهم. وليست الصهيونية إلا طليعة البعث اليهودي الذي يقود جماهير اليهود المنتشرين في الأرض إلى السيطرة على العالم، سيطرة فعلية.. وإن هذه السيطرة ستنطلق من ديار فلسطين, ومن بيت المقدس، بل إن كلمة "صهيون" نفسها تعني جبلًا من جبال فلسطين أو "مدينة داود" التي تطل على أحد تلال القدس. وأن فكرة العودة إلى فلسطين جزء لا يتجزأ من العقيدة اليهودية. فكيف يفرق البعض بين اليهودية والصهيونية؟ وقبل أن أختم هذا المبحث أسجل طرفًا من حديث المغفور له الملك فيصل -رحمه الله- حول هذه القضية: "إن الإسلام انبثق نوره من هذه البلاد ولم يسبقه دين أو مذهب أو أحد إلى كشف خطط اليهود كشفًا يفضح كل ما لديهم من خطط جهنمية، كشف الإسلام

_ 1 سورة الأنفال: 30.

معتقد اليهود الباطل وكتابهم المقدس المحرف، وتلاعب حاخاميهم بنصوص الكتاب وأصول العقيدة، وقتلهم الأنبياء بغير حق، وإمعانهم في إتيان المنكر الذي لم يكونوا يتناهونه، وحقدهم على الإنسان وإنسانيته وعلى العالم والكون حتى انتهوا بأباطيلهم وكفرهم إلى ذات الله سبحانه وتعالى فوصفوه زورًا وبهتانًا بما لا يليق بجلال الله وكماله المطلق، فليس بغريب إذا اتهموا الأنبياء والمرسلين والصالحين. "فهذه البلاد هي التي تولت فضح اليهود وتحذير العالم منهم لأنها تريد للإنسانية أن تحيا في ظل الخير والفضيلة والجمال، وما تزال هذه البلاد في العصر الحاضر تحمل الراية وتوالي بعث النذر رجاء أن يعود الناس إلى رشدهم فيردوا عن أنفسهم ما يضمره ويعلنه هؤلاء الأبالسة من الشر الذي أعدوه للبشرية حتى نتلظى في جحيم حقدهم"1. "إن عداء اليهودية للإنسانية لن ينتهي، وإن خبثهم ومكرهم ودسهم كل أولئك - منهج عملهم، فيجب أن ندرس كل شيء عنهم حتى نعرفهم على حقيقتهم ونضعهم تحت المجهر لنكشف كل مناوراتهم ومؤامراتهم، ونرى من واجب هذا البلد أن ينبه للأخطاء التاريخية في أكثر المراجع حتى نفرق بين الحق والباطل، وكما نتمنى أن نصلي في القدس بعد تطهيرها من أرجاس اليهود وأدناسهم، فإننا نتمنى أن يكون في كل بيت عربي وكل بيت مسلم مرجع تاريخي على مستوى أهل ذلك البيت المهم أن يكون واضحًا وصريحًا ومبسطًا حتى يعرف المسلمون كل شيء عن اليهود عبر تاريخهم ليتأكدوا أن اليهود أشد الناس عداوة للمؤمنين والمسلمين، وأننا سنعمل بكل جهدنا حتى نحقق هذا الهدف لأنه جزء من الجهاد الذي لن نتخلى عنه حتى النصر أو الشهادة. . وقال "إننا نعلم علم اليقين أن اليهود يعملون بدأب ويقظة لطمس معالم جرائمهم وآثامهم وإن كل المراجع التي تدينهم بالدليل والبرهان والمنطق السليم النزيه يقومون بسحبها من الأسواق والمكاتب وحرقها وتهديد مؤلفيها، ومن أجل ذلك فإن في نيتي -إن شاء الله- تأسيس دار طباعة كبرى بجوار البيت العتيق،

_ 1 من كتاب مؤامرة الصهيونية على العالم: ص164.

فكما أن البيت مثابة للناس وأمن فستكون هذه الدار حصنًا للفكر الإنساني، ولن تطبع فيها أي ورقة حكومية، وإنما تطبع كل كتاب وكل مرجع يخدم الإنسانية، فإن رسولنا -عليه الصلاة والسلام- قد بعث للناس كافة فكذلك دعوتنا ستكون للدنيا كلها، ومسئوليتنا أمام الإنسانية جمعاء وسنجعل من هذه الدار قلعة وركنًا للمعركة، وسننشر كل كتاب يستفيد منه الناس حيثما كانوا. يكفي أن تتوفر فيه النزعة الإنسانية، ويكفي ألا يكون حربًا على الإسلام، وسنعني بكل مرجع يكشف الصهيونية ومطامع اليهود وتخريبهم وجرائمهم منذ أن وجدوا إلى الآن.. إن سلاح الثقافة والفكر والتوحيد لم يدخل المعركة إلا في حدود ضيقة سنعمل على توسعتها حتى تصبح جبهة ذات استراتيجية وتكتيك فهذا السلاح تعبئة جيدة، والعسكريون يعرفون أن الاستعداد والحسن والتعبئة الجيدة نصف المعركة". وقال: "إن الاستعداد الثقافي والتعبئة الفكرية والتوعية بالحق هي من استراتيجية معركتنا مع أعدائنا. ولكن سيكون كل ذلك في نطاق عقيدتنا السمحة وفي إطار سلامة المنطق"1.

_ 1 من كتاب مؤامرة الصهيونية على العالم تأليف أحمد عبد الغفور عطار: ص164، 165، 166، 177".

المبحث الثالث: الشيوعية

المبحث الثالث: الشيوعية مدخل ... الشيوعية إن من أخطر ما يواجه الإنسان المعاصر على وجه البسيطة دعوة هدامة فاسدة تسمى الشيوعية ذلك لما ترمي إليه من محاربة القيم والمبادئ الفضلى والمثل العليا والأخلاق الكريمة ولما تهدف إليه من القضاء على الروابط الأسرية، والتماسك الاجتماعي وتحطيم الحضارات العريقة والثقافات الأصيلة.

الترابط الوثيق بين الشيوعية واليهودية

الترابط الوثيق بين الشيوعية واليهودية: لقد نشأ نتيجة لغلو الرأسمالية وتزايد تسلطها واحتكارها للموارد الطبيعية تيارات تحاول أن تخفف من ذلك الغلو الاقتصادي والسياسي، وظهر في أثناء ذلك كارل ماركس يدعو لمذهبه الشيوعي الذي احتضن تلك التيارات وأذابها بما يبذل من مال يهودي لمساعدة هذا المذهب على الانتشار والامتداد. فلم تكن الشيوعية ثمرة لدراسات علمية تحليلية موضوعية بقدر ما كانت مذهبًا "أيديولوجيًّا" يريد أن يدعم وجوده بمبررات علمية.. لهذا قال كثير من المفكرين الإسلاميين: "إن الشيوعية إنما جاءت لصهر الفكر التلمودي كله في مذهب متكامل مستوعبة سموم الفكر الماسوني التلمودي اليهودي لتظهر في نظرية خادعة تتملق عواطف الجماهير بالدعوة إلى فردوس أرضي كاذب، وتستغل ما بين الطبقات من تفاوت وركوب التيارات الوطنية والقومية. والتعايش مع النظم المختلفة كمرحلة من مراحل السيطرة والتمكن"1 وإلا فيمكن مقاومة الاستغلال الدنيء بتجريد الأقوياء من سلطان البغي مثلًا أو بإقامة السلطة العادلة التي تكف عدوان الأغنياء والأقوياء على حقوق الضعفاء.. أما هذه الثورة الفلسفية العارمة التي أتت على الأخضر

_ 1 هزيمة الشيوعية في عالم الإسلام للأستاذ أنور الجندي: ص4.

الترابط الوثيق بين الشيوعية واليهودية: لقد نشأ نتيجة لغلو الرأسمالية وتزايد تسلطها واحتكارها للموارد الطبيعية تيارات تحاول أن تخفف من ذلك الغلو الاقتصادي والسياسي، وظهر في أثناء ذلك كارل ماركس يدعو لمذهبه الشيوعي الذي احتضن تلك التيارات وأذابها بما يبذل من مال يهودي لمساعدة هذا المذهب على الانتشار والامتداد. فلم تكن الشيوعية ثمرة لدراسات علمية تحليلية موضوعية بقدر ما كانت مذهبًا "أيديولوجيًّا" يريد أن يدعم وجوده بمبررات علمية.. لهذا قال كثير من المفكرين الإسلاميين: "إن الشيوعية إنما جاءت لصهر الفكر التلمودي كله في مذهب متكامل مستوعبة سموم الفكر الماسوني التلمودي اليهودي لتظهر في نظرية خادعة تتملق عواطف الجماهير بالدعوة إلى فردوس أرضي كاذب، وتستغل ما بين الطبقات من تفاوت وركوب التيارات الوطنية والقومية. والتعايش مع النظم المختلفة كمرحلة من مراحل السيطرة والتمكن"1 وإلا فيمكن مقاومة الاستغلال الدنيء بتجريد الأقوياء من سلطان البغي مثلًا أو بإقامة السلطة العادلة التي تكف عدوان الأغنياء والأقوياء على حقوق الضعفاء.. أما هذه الثورة الفلسفية العارمة التي أتت على الأخضر

_ 1 هزيمة الشيوعية في عالم الإسلام للأستاذ أنور الجندي: ص4.

الشيوعية هاجمت كل الأديان وخاصة الدين الإسلامي.. وغضت الطرف عن "الخرافات اليهودية" وقد برر لينين ذلك بقوله: إن حجر الزاوية في رأي كارل ماركس وانجلز في الدين هو قولهما المأثور إن الدين هو "أفيون الشعوب" ولقد كان رأي ماركس على الدوام في الدين والمعاهد والكنائس والمساجد وكل نوع من أنواع المؤسسات الدينية أنها صدى للرجعية وأن لا هدف للأديان إلا الدفاع عن سياسة الاستغلال والتخدير. أما الخرافات اليهودية، وإن كانت لا تختلف عن باقي الأديان، ولكن بقاءها لليهود البؤساء أمر ضروري للمحافظة على يهوديتهم حتى ينالوا حقهم، ذلك لأن اليهود إذا نبذوا دينهم حينئذ ينتهون في الأقوام المجاورة لهم، وبمرور الزمن يفقدون إسرائيليتهم، ولمحافظة إسرائيل كمجموعة كاملة ومتحدة فالدين أمر ضروري، فلم يجمع بني إسرائيل غير الدين، ومحافظة الدين اليهودي أمر ضروري لحياة الشعب اليهودي المختار "ريثما ينالون حقوقهم" إن هذا التجاوز الشيوعي للدين اليهودي واستثنائه من خطط محاربة الأديان يبرهن على أن الشيوعية إنما تعمل لتحقيق الهدف الصهيوني في السيطرة على العالم ابتداء من فلسطين العربية المسلمة، فإذا كانت الحرية الدينية محرمة على المسلمين والمسيحيين، ومباحة لليهود فإن الأجيال المسلمة والمسيحية القادمة ستصبح بلا دين ولا تعبد غير المادة، وذلك بخلاف الأجيال اليهودية التي تستطيع عندئذ أن تسيطر على الشعوب التائهة التي كانت مسلمة أو مسيحية فيما مضى، وقد نشر ستالين مقالة في جريدة: "تومسة مولكانا برافدا" في "16 أيلول 1944" جاء فيها إن دولة السوفيات الشيوعية لا يمكنها الوقوف موقفًا محايدًا تجاه الدين، فالحزب الشيوعي يقف بجانب المادة في حين أن الدين يناهض المادة "يقصد المسيحية" الدين والشيوعية مثلهما مثل النار والماء فكما أن هاتين المادتين لا تتحدان، وإحداهما تقضي على الثانية فلا مكان للدين في الديار الشيوعية أبدًا، فكل دين من الأديان هو والمادة على طرفي نقيض1. وهكذا فإن "لينين" يعترف بأن اليهود شعب الله المختار، ولهم الحرية الكاملة في إقامة شعائرهم الدينية، وإن إحياء الدين اليهودي يعتبر أساسًا لتجمع اليهود حوله ... ففيه حفظ لقوميتهم، وحفظ لجنسهم وحفظ لكيانهم, هذا

_ 1 عن كتاب هزيمة الشيوعية في عالم الإسلام: ص11.

الكيان الذي يجب أن يسود وأن يخضع العالم لسلطته، وأن ينعم بخيرات الأرض.. وأما ما سوى اليهود، فليس لهم حق في حرية التدين، بل التدين بالنسبة إليهم مخدر وأفيون، ومن اللازم أن يمحى هذا المخدر من وجودهم، وأن يبقوا هواء فارغين لا عقيدة ولا دين، ولا قلب ولا روح.. ولا إحساس ولا مشاعر، ولا طموح ولا آمال، ولا شخصية ولا كيان ولا حضارة، ولا ثقافة، ولا عبادة، ولا دولة.. وعندئذ يتحقق حلم اليهود المنشود الذي تسعى لتحقيقه الشيوعية. {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} 1. ويقول كارل ماركس: "إن المشكلة اليهودية لا تحل نهائيًّا إلا بالتحول الاشتراكي للعالم بأسره وإذابة الأديان والقوميات في بوتقة الماركسية أو الاشتراكية العلمية أو التقدمية الثورية، ذلك أن المشكلة اليهودية قائمة تحت ضغط الاعتقاد القائل بأن اليهود شعب الله المختار، وبما أن التقدمية الثورية تعمل لإخضاع المجتمع البشري كله إلى قيادة طليعة اشتراكية ماركسية واحدة ترتبط بها كل الحركات الماركسية في العالم يرى اليهود أنهم أصلح البشر بصفة كونهم شعب الله المختار لاحتلال مركز القيادة التي هي الاسم العصري لعقيدة شعب الله المختار اليهودي"2.

_ 1 سورة الأنفال: 30. 2 عن كتاب هزيمة الشيوعية في عالم الإسلام: ص11.

مقومات الماركسية

مقومات الماركسية مدخل ... مقومات الماركسية: تقوم الماركسية بصورة خاصة والشيوعية بصورة عامة على مقومات أربعة: 1- التفسير المادي للتاريخ. 2- إلغاء الملكية الفردية والقضاء على الأسرة. 3- القضاء على الدين. 4- القضاء على الأخلاقيات.

التفسير المادي للتاريخ

1- التفسير المادي للتاريخ وبيان فساده تعزي الماركسية تكوين الروابط الاجتماعية إلى الإنتاج الجماعي وتحسين وسائل المعيشة، فالحالة الاقتصادية هي المتحكمة في العلاقات الإنسانية وهي التي تحدد النشاط الاجتماعي والسياسي والعقلي لحياة جماهير الناس دون أن يكون للقيم الثابتة والمبادئ المثالية أدنى اعتبار في حسابها. إن نظرية تفسير الوجود الإنساني والترابط الاجتماعي على أساس من الأحداث المادية والظروف البيئية والعوامل الاقتصادية، نظرية حتمًا ناقصة، وبعيدة عن الحقيقة.. ولربما كشفت عن جانب من الواقع، ولكنها لا تكشف عن جميع الجوانب.. وإنه لمن الخطأ بمكان أن نعتقد أن ثمة مجتمعًا يمكن أن ينهض وينمو ويتطور على أساس مادي صرف دون أن نعطي للقيم والمبادئ أي اعتبار. بل نرى المجتمع الإسلامي في أحقاب زمنية متتالية ومتعددة يرتقي في نهضة شاملة ويؤسس حضارة عالمية متكاملة على جذور ثابتة من القيم والمبادئ وقواعد راسية من الآداب والأخلاق دون أن يغفل الاعتبارات المادية.. فالإسلام وهو الدين الذي اختاره الله تبارك وتعالى لصالح البشرية، لم يكن نتيجة لانقلاب مادي أو ثورة صناعية أو تطور وسائل الإنتاج. بل لم يكن من صنيع البيئة على الإطلاق، ولا وليد الأحداث العربية القرشية.. وإنما كان دين الله المهدى لإسعاد الإنسانية، وقد قرر هذا الدين العظيم منذ اليوم الأول القيم الثابتة والمبادئ السامية، والمساواة الإنسانية والعدالة الاجتماعية والتوازن الاقتصادي بين الملكية الخاصة والملكية العامة. فالتفسير الماركسي للتاريخ تفسير خاطئ من حيث الأساس لأنه اعتبر الاقتصاد هو الآمر الناهي في العلاقات الاجتماعية دون إقامة وزن للجوانب الروحية والدينية والخلقية التي تؤثر حقيقة في حياة الناس، ولعلها تأتي في المقام الأول قبل الطاقات المادية وعوامل الإنتاج. وعلى هذا يمكننا أن نقول: إن نظرية التفسير المادي للتاريخ ليست أكثر من تسجيل لفترات الانتكاس في حياة الشعوب بما يستتبعه الانتكاس من صراعات على كل المستويات، ولقد كان موقف الماركسية من العامل الاقتصادي بالذات

موقفًا غير نزيه وغير علمي، وقد قدم تحليلات لفترات انتقالية من التاريخ في بيئة من البيئات، ولكنه عجز عن تفسير التاريخ كله في كل البيئات.. وفي السنوات الأخيرة تراجع الماركسيون عن موقفهم بإعطاء العامل الاقتصادي الأهمية القصوى، وأقروا بألسنتهم أن الاقتصاد ليس العامل الوحيد في التغيرات الاجتماعية، وهكذا جاء الاعتراف من جانبهم ليؤكد فساد نظريتهم. وتبع فساد هذا الرأي فساد آخر في تناول "الحتمية التاريخية" التي تنبأ بها "كارل ماركس" والتي تجعل الأحداث الاجتماعية منحصرة في دائرة الصراع العنيف بين طبقات المجتمع، وهذا الصراع لا بد أن يئول إلى الاشتراكية بصورة حتمية، وقد أثبت الواقع خطأ هذا القول وفساده بل أثبت عكسه، فإن انتشار الشيوعية في روسيا والصين كان بصورة ضيقة جدًّا ومحدودة جدًّا وكان بشكل إلزامي، استبيح فيه دم الإنسان، وأهدرت كرامته. ومن حسن حظ البشرية أن تتنبه للأخطاء الجسيمة التي تكمن في هذه النظرية الإلحادية، ولذلك فقد رفضتها معظم دول العالم وكشفت النقاب عن فسادها. وتكاد الآراء تجمع على أن ماركس اعتمد في أسس نظريته على متغيرات اقتصادية تكشف خطؤها فيما بعد، وأن النظرية لم تكن وليدة بحث علمي وإنما جاء البحث تبريرًا ودفاعًا عن النظرية.

إلغاء الملكية الفردية والقضاء على الأسرة

2- الشيوعية وإلغاء الملكية الفردية والقضاء على الأسرة توجه الماركسية ضربة شديدة إلى المجتمع الإنساني، حيث ترى أن الأسرة هي دعامة المجتمع "البرجوازي" فيجب القضاء على هذه الدعامة حتى يصبح المجتمع "شيوعيًّا" تقوم العلاقات بين أفراده على أساس الجنسية الحرة والإباحية المطلقة، ومن ثم فلا أنساب ولا حرمات، ولا أعراض ولا فضائل هذا شأن الماركسية الوقحة.. ومن ثم فالفرد ذرة مذابة في جسم المجتمع الشيوعي ومن شأن هذا إلغاء الملكية الفردية، وإلغاء حق التوريث وحق ثمار الكسب. إن هذا المبدأ الذي تنادي به الماركسية من أخطر المبادئ التي تصادم الفطرة البشرية والطبيعة الإنسانية، فالإنسان يسعى بفطرته لإقامة أسرة وهو منتمٍ

أصلًا إلى أسرة، والأسرة توفر الحياة الكريمة التي تتناسب مع كرامته ومكانته في الكون.. فهو لم يخلق ليكون حيوانًا يعيش حياة جنسية فوضوية.. بل هو أكرم مخلوقات الله خلق لتحقيق العبودية لله تعالى وليكون خليفة لله في أرضه، ومن كان هذا شأنه حريًّا أن يكون في مقدمة المخلوقات كرامة وعفة وشرفًا واعتزازًا بإنسانيته وبانتمائه إلى أسرة تنظم حياته وتضع الخطوط العريضة الواضحة لتميز بين الحلال والحرام والأقارب والأباعد والأنساب والأرحام والزوجات والأخوات والأبناء والآباء. ولا يوجد فيما نعلم - مجتمع يأخذ بنظام الشيوعية المشاعة المطلقة في علاقات الرجال بالنساء.. وأن هذه المحاولة من الماركسية قد باءت بالفشل الذريع فلم تستطع أن تعيش حتى في نفس الموطن الذي انبثقت منه هذه الفكرة. وأهانت الشيوعية "المرأة" أيما إهانة، فجعلتها عاملًا في المزرع والمصنع، ومنظفًا للطرقات ومزيلًا للركام الثلجي في سيبريا، وحملتها فوق طاقتها من الأعباء والتكاليف.. فهل بعد هذه الإهانة من إهانة؟ وهل هنالك أدنى درجة لتحقير الإنسان من هذا التحقير؟ وهل يرضى الرجل وهو ابن أو أب أو زوج أو أخ أن يرى أمه أو ابنته أو زوجته أو أخته في هذه الحالة المهينة؟ هذه هي الشيوعية الذئب المفترس في صورة الحمل الوديع، هذه هي الشيوعية وقد كشرت عن أنيابها فنفثت أحقادها وضغائنها على البشرية.. إنها وصمة عار في جبين الإنسانية. ودمعة سوداء في سجل تاريخ الإنسانية، إنسان القرن العشرين. وأين هذه النكسة الماركسية من إعزاز الإسلام للبشرية قاطبة ومنحه الإنسان الحرية الكاملة والمكانة الرفيعة، والإرادة المستقلة والحقوق الحصينة. وعلى هذا فالإنسان مهما بلغ من مرتبته في سلم التقدم الفكري والنهضة العلمية -بعيدًا عن الغرضية والأهواء الشخصية- لا يستطيع أن يضع نظامًا واحدًا من الأنظمة التي وضعها الإسلام، فما عليه إلا أن يقر بهذه الحقيقة الكبرى ويخضع للإسلام خضوعًا كاملًا فيتخذه عقيدة ومنهج حياة..

القضاء على الدين

القضاء على الدين ... 3- الماركسية والدين تزعم الماركسية أن الحياة عبارة عن مادة تتحرك وفق قانون مادي.. وتنكر وجود الخالق {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا} 1. وترى أيضًا أن الأديان كلها مخدرة للعقول، وهي أفيون الشعوب وأن وجود الدين والدعاة عوامل ضعف يجب التخلص منهما والقضاء عليهما. والإلحاد في الشيوعية يعتبر دعامة أساسية من الدعائم التي تقوم عليها الفكرة الماركسية والدولة الشيوعية، ولذا فهي تفرض الإلحاد فرضًا إلزاميًّا.. وتنكر البعث والحساب والجزاء.. ويرى كثير من الباحثين أن الشيوعية بأفكارها وإلحادها ونظرياتها وتطلعاتها تحاول أن تكون دينًا يمكن فرضه على الناس وإحلاله محل الأديان. يقول ماركس: "إن المسيحية تفرض الجبن واحتقار النفس وإذلالها وتجند الخضوع والخسة وكل صفات الكلب الطريد، وأن أصحاب المصالح قد استغلوا المسيحية كلما وجدوا لهم مصلحة في استغلالها فجعلوها دين الدولة بعد قرنين ونصف من ظهورها، وجاء البرجوازيون في ألمانيا فابتدعوا البروتستانتية ولم يستفيدوا منها لضعفهم فاستفاد منها الملوك المطلقون وأنها رفعت عنهم سلطان الكنيسة, والدين جملة هو الغذاء الخادع للضعفاء لأنه يدعوهم إلى احتمال المظالم ولا يزيلها"2. ذلك هو رأي ماركس في الدين بعامة، وقد أقام عليه نظريته الضيقة المحدودة، المحصورة في بيئته، ولم يكلف نفسه مؤنة البحث عن الأديان الأخرى، ولو عرف الإسلام ولو معرفة سطحية أو نظر إليه نظرة سريعة لتغيرت مبادؤه من حيث الأساس، ولهدم نظريته، ولعاد أدراجه مستغفرًا الله منيبًا إليه، إن كان يريد الخير للبشرية، وإن كان يريد لنفسه السعادة الدنيوية والأخروية.

_ 1 سورة الكهف: 5. 2 عن كتاب هزيمة الشيوعية في عالم الإسلام: ص78.

ولكنه العمى القلبي الذي يحجب الحقيقة عن النفس ويخدر العقل فيجعله عاطلًا عن التفكير السليم السديد.. وماركس كان يعمل ليهوديته ليس غير، كان يدور في إطار التلمود يلتمس الأعذار المبيحة ليمحوا الأديان، ويبقي اليهودية عقيدة وديانة كي يضمن لهم السيطرة على العالم والتمكين في فلسطين.. وهو بهذا العمل ينفذ بروتوكولات صهيون، ويهاجم العقيدة والنظام الاجتماعي معًا، ويقدم مفهومًا ماديًّا خالصًا للكون والحياة والمجتمع والتاريخ والحضارة. يستمد مفاهيمه من ركام الوثنيات البدائية التي انقرضت أو كادت تنقرض أمام جلاء الحقيقة الواحدة عن طريق الأديان السماوية التي وهبها الله للإنسان، ولكن ماركس لم يرد هذا التقدم الذي أحرزته البشرية بفضل الأديان السماوية بعامة والإسلام الخالد بخاصة، وإنما أراد أن ترتكس البشرية وتعود أدراجها من حيث أتت وحين نفضت عنها غبار التأخر ومزقت ظلام الجهل وركام الوثنيات المفزعة ... أراد ماركس أن ترجع البشرية كلها القهقرى وأن تثبت اليهودية وحدها، وأن تبني حضارتها وحدها تحت شعار "شعب الله المختار" إنها غباء الانعزالية، وضلال الانفرادية، وعمى العنصرية. وليست الماركسية هي أول نكسة للبشرية وأول نظام سياسي واقتصادي واجتماعي يتحدى العقيدة الدينية ويتهمها أنها عائق في وجه الإصلاح، فقد ظهرت نظم كثيرة تطورت إلى نظم أخرى ثم اندثرت، وداستها أقدام الأصالة والفطرة وبقيت العقيدة كامنة في قرارة السلوك الإنساني تحفظ الحياة وقيمها الرفيعة في خضم القلق والثورات وتمد الناس بأسباب الأمن والطمأنينة والثقة بالعدالة الإلهية والاستقرار النفسي والاجتماعي1. والإسلام الذي واجه فلسفات كثيرة وعقائد مختلفة خلال أربعة عشر قرنًا، وثبت في وجه تياراتها وأمام تحدياتها، وأثبت عجزها وجمودها وضلالها، قادر -بإذن الله تعالى- أن ينتصر أمام تحديات الماركسية والشيوعية والماسونية ... وغيرها وغيرها.. {وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} 2

_ 1 هزيمة الشيوعية في عالم الإسلام: ص81. 2 سورة يوسف: 21.

القضاء على الأخلاقيات

القضاء على الأخلاقيات ... 4- الماركسية والأخلاق هل للأخلاق الفاضلة موضع في تيار الماركسية الملحدة التي حطمت كل اعتبار للدين، وأهانت الإنسان، وأهدرت كرامته، ونادت بشيوعية الأسرة، وفوضوية النسل ... ؟ مما لا شك فيه أنه ليس للأخلاق وزن بمقياس الماركسية الضالة، ولا عجب فإن العقيدة والدين لا اعتبار لهما لديهم.. وإذا لم يكن للمرء دين، ولم يخش من رقابة الله، فما خلقه وما فضيلته؟ وعلى هذا فالماركسية تنكر جميع التعاليم الخلقية التي دعت إليها الأديان السماوية، وتقضي على كل التراث الخلقي الذي توارثته الإنسانية بتأثير الأديان. يقول انجلز، وهو المؤسس الثاني للمذهب الشيوعي: "نحن نرفض أن نذعن لأية عقيدة خلقية باعتبارها قانونًا خلقيًّا خالدًا وغير قابل للتبديل والتغيير، ونرفض أن نعتبر أن هناك مبادئ خلقية أبدية تتجاوز عصور التاريخ وتتجاوز كل اختلاف بين الشعوب وعلى العكس من ذلك نقرر أن جميع التعاليم الخلقية القديمة إنما هي عند تحليلها ليست إلا ناتجًا اصطنعه المستوى الاقتصادي الذي بلغه المجتمع في عصر معين ولما كان المجتمع الإنساني إلى اليوم لا يزال يخوض غمار حرب الطبقات فالأخلاق التي يعترف بها المجتمع ليست إلا النظام الخلقي الذي تعتز به طبقة معينة نظامًا كان أو طورًا يبرر طغيان الطبقة الحاكمة ويذود عن مصالحها أو يبرر طغيان الطبقة التي كانت مغلوبة على أمرها حتى وصلت إلى الحكم ولا يمكن وجود نظام أخلاقي وإنساني شامل إلا بعد أن تنتهي حرب الطبقات"1. وهكذا يظهر بوضوح تعبير مؤسسي الماركسية موقفهم الجلي من الأخلاق، وأنهم يريدون أن يطعنوا في القيم الإنسانية، ويضربوها الضربة القاضية القاصمة، ويحولوا الحياة بأسرها إلى حلبة صراع عنيف وقتال دموي مريع. وهم إذ يهدمون الأخلاق الدينية والقيم الثابتة والمبادئ النبيلة يضعون

_ 1 عن كتاب هزيمة الشيوعية في عالم الإسلام: ص62.

رسومًا بالية تحقق مصالحهم الانتهازية المادية ويسمونها "أخلاقًا شيوعية"، فالأخلاق في نظرهم ما هي إلا تعليمات تقتضيها مصلحة الشيوعية، وما هي إلا وسائل تحقق لهم مصالحهم الخاصة، وتمكن اليهودية من وضع قبضتها على المصالح الاقتصادية العالمية..، ولتحقيق أهوائهم الخاصة نادوا بأن "الغاية تبرر الواسطة" ونادوا بـ"الانتهازية". وعلى هذا فالخلق في عرف الماركسية يعني تحقيق مصالحهم الخاصة، والقضاء على كل قيمة دينية ثابتة عريقة. والأخلاق الماركسية تميزت بالعنف والقسوة والوحشية والاستبداد والظلم والاعتداء على الآخرين وسلب الآمنين أموالهم وحقوقهم وحرياتهم.. والسعي لكتم أصوات الحق، والتخلص من كل داعية مؤمن، وسفك دم كل من يطالب بتحقيق الحرية الدينية، والكفالة الشخصية.. فهل هذه أخلاق أم قيود حديدية وكمامات خانقة توضع بالأيدي الساعية إلى الخير وبالأفواه الناطقة بالحق؟!!. {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} 1.

_ 1 سورة إبراهيم: 42.

الغزو الشيوعي

الغزو الشيوعي: إن من أخطر أنواع الغزو الفكري الذي هاجم المسلمين في ديارهم ذلك الغزو الشيوعي الشرس العنيف الدموي الذي يحمل في طياته مكر اليهود وخبثهم ولؤمهم وحقدهم كما يحمل بقايا خربة عفنة من الوثنيات الضالة التي كادت البشرية أن تتخلص منها. وكانت الشيوعية في محاولتها للدخول إلى الديار الإسلامية تتخذ أساليب المكر والخداع وتخفي أهدافها الرهيبة ورغباتها الهدامة، فكانت تعتصم بجدار "الاشتراكية".. أو كلمة "اليسار" ودعت لفتح باب الحوار مع الدين، وأنها لا تعارض الدين البتة، وأن هناك انفصامًا بين العقيدة وبين الشيوعية، فالشيوعية منهج سياسي واقتصادي واجتماعي والدين يقتصر على العقيدة القلبية.. ولكنها ما لبثت أن انكشفت حقيقتها واستبان أمرها وأنها أرادت أن تهدم العقيدة والخلق

والروابط الاجتماعية والنظام الإسلامي السياسي والاقتصادي، وتحل هي دينًا محله وكانت الماركسية في العالم الإسلامي تهدف إلى خلق تيارات شيوعية من المسلمين أنفسهم يساعدون اليهود على تحقيق مكاسبهم وتنفيذ مخطط صهيون. والعالم الإسلامي يواجه كل تجربة ترزأ العالم العربي بسبب التحدي الشيوعي، وقد وجد من بين أبناء المسلمين -مع الأسف الشديد- من يدعو إلى التجديد، ويروج البضاعة الشيوعية في الصحافة والسينما والمسرح والإعلام كله.. وما هي إلا سنوات قليلة حتى انكشف الفكر الماركسي، واستبانت حقيقة دعوته، فجر ذيول الخيبة وفر هاربًا.. وصمدت الثقافة الإسلامية في وجهه ورابطت لتحمي الثغور الإسلامية، وظهر سمو الفكر الإسلامي وأصالته واستجابته الحقيقية لأشواق المسلمين وتطلعاتهم، واتضح للعالم أجمع أن الإسلام عقيدة وشريعة ومنهج حياة، لا يقبل التجزئة ولا التفرقة ولا المساومة ولا التلفيق ولا الترقيع. {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} 1. صورة واقعية للفتك الشيوعي في البلاد الإسلامية: تعتبر تركستان من البلدان الإسلامية التي خضعت للشيوعية الفاشية بحد السيف وتحت أزيز المدافع وألسنة النيران. وكان من هذه البلاد الإمامان الجليلان: البخاري ومسلم، والمفسران: الزمخشري والنسفي وأئمة البلاغة وإعجاز القرآن: عبد القاهر الجرجاني وسعد الدين التفتازاني ويوسف السكاكي، ومنها الفارابي وابن سينا، ومن علماء الرياضة والفلك: خالد والبلخي، ومن علماء الهندسة بنو موسى، ومنها البيروني والماتريدي والخوارزمي والسرخسي، وغيرهم2. تقول التقارير التي قدمت من بعض المهاجرين من الحكم البلشفي الغاشم هذه الحقائق:

_ 1 سورة المائدة: 50. 2 من كتاب أساليب الغزو الفكري للدكتور على محمد جريشة وزميله: ص126.

قتل الشيوعيون في هذه البلاد سنة "1934م" مائة ألف مسلم ونفوا ثلاثمائة ألف مسلم، ومات ثلاثة ملايين جوعًا نتيجة استيلاء الروس على محاصيلهم وإعطائهم للصليبيين ليحلوا محلهم، وفيما بين سنة "1937-1939" ألقوا القبض على "500 ألف مسلم" أعدموا منهم فريقًا ونفوا الباقي، وأعدموا عددًا كبيرًا من علماء المسلمين منهم قاضي القضاة والمفتي وأهل العلم والصلاح.. وفي سنة "1949م" هرب من المسلمين "2000" شخص مات منهم على الطريق "1200". وفي سنة "1950م" قتلت روسيا سبعة آلاف مسلم من الذين فروا من التعذيب.

المبحث الرابع: التغريب

المبحث الرابع: التغريب مدخل ... التغريب التغريب هو حركة موجهة لصبغ الثقافة الإسلامية بصبغة غريبة، وإخراجها عن طابعها الإسلامي الخالص، واحتوائها على النحو الذي يجعلها تفقد ذاتيتها وكيانها وتذوب فيما يسمى بـ "الثقافة العالمية" أو الفكر الأممي. ولا ريب أن هذا المخطط من أقسى ما يواجهه الفكر الإسلامي في العصور المختلفة لأنه وليد الاستعمار وربيب الاستشراق وابن التبشير، وهو فوق ذلك مؤامرة الصهيونية مع الصليبية ضد الإسلام والمسلمين1. والتغريب حركة كاملة البناء له نظمه ووسائله وأهدافه، وقادته ودعاته.. وهو يعتمد على وسائل الإعلام من: راديو، وتليفزيون، وصحافة، كما يعتمد على دور الثقافة والمدارس.. وتهدف حركة التغريب إلى إثارة الخلافات والخصومات بين العرب والمسلمين.. وتحاول أن ترد التراث الإسلامي إلى الفرس والهنود واليونان.. لذا نجد أن التغريب يهتم بدراسة عالم ما قبل الإسلام وإحيائه في صور شتى، كصورة الفرعونية والجاهلية والوثنية والفارسية المجوسية القديمة، وإثارة دعوات حديثة كالبهائية والقاديانية، كما يسعى لتمزيق وحدة الفكر العربي الإسلامي بعزل الأخلاق عن التربية، والدين عن الأدب، والسياسة عن الدولة، كما يعمل جاهدًا لنشر الإلحاد والإباحية والدعاية لهما، لأن الإنسان إنما يكون له وجوده وشخصيته بمبدئه الذي يعتقده وبقيمه التي يؤمن بها، فإذا ضاعت المبادئ والقيم انهار الإنسان الذي هو نواة المجتمع.

_ 1 شبهات التغريب في غزو الفكر الإسلامي: ص5.

وقد استعملت حركة التغريب أساليب شتى لتحقيق أغراضها المنكرة، وكان أهمها أسلوبين: 1- الحركة العلمانية. 2- الحركة القومية. وسأتناول بالبحث هاتين الحركتين بشيء من التفصيل مع بيان دحضهما.

العلمانية

العلمانية مدخل ... أولًا: العلمانية: تنسب "العلمانية" على غير قياس إلى العالم أو العالمية "Secularism" وهي نظام من المبادئ والتطبيقات يرفض كل صورة من صور الإيمان الديني والعبادة الدينية، وقيام الدولة على دعائم الدين، كما يرفض كل نظام أو قيمة تنسب إلى الدين من قريب أو من بعيد.. وهي دعوة صارخة لفصل الدين عن الدولة "وأن يكون ما لله لله، وما لقيصر لقيصر" هذه صيحتها التي قصدت من ورائها عزل الدين عن مناهج الحياة وعن السياسة والحكم والقضاء1. والعلماني "Secular" هو كل ما يتعلق بشئون الدنيا وأنظمتها بعيدًا كل البعد عن التعاليم الدينية2. والعلمانية بهذه الدعوة قد أوجدت حكمًا ثنائيًّا، وحركة ثنائية، وتعليمًا ثنائيًّا وإعلامًا ثنائيًّا، ومنهاجًا ثنائيًّا.. فهناك سلطة الدولة التي تعمل باستقلال وانعزال كاملين عن الدين، وهناك رجال الدين الذين يحكمون في المعبد ويديرون شئونه دون أن تكون لهم كلمة في شئون الحكم والسياسة في الاقتصاد أو في إدارة الدولة، وهناك مدارس مدنية، ومدارس دينية، وهناك تعليم لا ديني وتعليم ديني وكلاهما منفصل ومستقل عن الآخر وهناك حياة دنيوية متغيرة ومتطورة وهناك حياة دينية في منأى عن التغير والتطور. هذه الثنائية تبرز بصورة مريعة حينما يقع الطرفان بصورة نزاع، كل منهما يحاول أن يخضع الآخر، وكل منهما يريد أن يتحكم في الآخر. هذه الثنائية ظهرت بصورة شديدة وعنيفة في أوروبا، إذ كانت الكنيسة هي المسيطرة على الحياة في مختلف مجالاتها طوال القرون الوسطى، وكانت تحد كثيرًا من نشاط

_ 1، 2 الإسلام في حل مشاكل المجتمعات الإسلامية المعاصرة: ص12.

العلماء، بل كانت تعطي لنفسها الحق في بيع سكوك الغفران وبيع مساكن في الجنة، قصور وفيلات وشقق كبيرة أو صغيرة مفروشة، تبيعها بالنقد والتقسيط. وكانت الكنيسة والباباوية تقف موقفًا عدائيًّا من العلم والعلماء.. فقد أمرت بحرق العالم "برونو" الذي قال بوجود عوالم أخرى غير الأرض، وأخمدت أنفاس "كوبرنيكوس" لأنه قال: "إن الأرض ما هي إلا كوكب مثل غيرها من الكواكب السيارة" وأجبرت العالم "جاليلو" على أن يكذب ما سبق أن صرح به من أن الأرض تدور حول الشمس وهو راكع على ركبتيه ذليلًا خوفًا من المحاكمة. وحينما ابتدأ الإنسان الأوروبي يكشف مجالًا آخر يرى فيه استقلاله عن الكنيسة، وهو مجال البحث الطبيعي، شعر بوجود ذاته المستقلة عن الكنيسة، فافتخر باستخدام البخار في الصناعة واعتز بقانون الجاذبية، وكلما اكتشف طاقة جديدة ابتعد عن الكنيسة شيئًا فشيئًا، حتى إذا ما أحس بالاستقلال الكامل عن سيطرتها أخذ يتهمها بالجمود وغير ذلك من الاتهامات وينال منها ومن قداستها.. وبخاصة بعدما عرف الكهرباء وفجر الذرة. وحينذاك تصور بعض المفكرين الأوروبيين أنه يمكن القضاء على هذا النزاع بتوزيع السلطات وتقسيمها إلى طرفين: طرف يكون للدولة فيه مجال كشئون إدارة الدولة والاقتصاد والتعليم وسن القوانين ووضع الدستور.. وغير ذلك من الأمور العامة. وطرف يكون للكنيسة فيه مجال كمراسيم الزواج وطقوس الوفاة ونظام الرهينة.. هذا الفصل أخذ اسم العلمانية. وقد مرت هذه "العلمانية" بمرحلتين: الأولى: مرحلة العلمانية المعتدلة، اعتبر فيها الدين أمرًا شخصيًّا لا شأن للدولة فيه. والثانية: مرحلة العلمانية المتطرفة التي طالبت بإخضاع تعاليم المسيحية إلى العقل وإلى مبادئ التجارب الطبيعية أو المخبرية.

ويمكن أن أذكر أبرز الأسباب التي دعت الفلاسفة إلى القول بفصل الدين عن الدولة: 1- إن دافع "العلمانية" في القرنين السابع عشر والثامن عشر كان التنازع على السلطة بين الدولة والكنيسة. 2- إن الدافع على "العلمانية" في القرن التاسع عشر هو الاستئثار بالسلطة، لذلك كانت العلمانية تهدف إلى إلغاء الثنائية بهدم الكنيسة والدين كتمهيد لا بد منه للوصول إلى "السلطة المنفردة". 3- إن الموطن الذي ولد فيه الفكر العلماني في مرحلتيه هو انجلترا، وفرنسا، وألمانيا، ومع هذا فلم تأخذ هذه البلدان الاتجاه العلماني في التطبيق على الحياة الواقعية، فالتاج البريطاني ما زال حاميًا للبروتستنت، وفرنسا لم تزل حامية للكثلكة في صورة عملية، والدولة في هذه البلاد ما زالت تساعد المدارس الدينية المساعدات المالية1.

_ 1 الإسلام في حل مشاكل المجتمعات الإسلامية المعاصرة: ص12-33.

موقف الإسلام من العلمانية

موقف الإسلام من العلمانية: الإسلام دين التوحيد الخالص الذي يقوم على إنكار الشرك ومقاومته بشتى صوره، وهو دين يرفض الثنائية من حيث الأصل، ويرفض أن يخضع الإنسان لغير الله، ويرفض أن يستعلي بعض الناس على بعضهم الآخر1 وهو دين المساواة، فالناس جميعًا متساوون أمام الله تبارك وتعالى وأمام الشريعة الإلهية، وما على الحاكم المسلم إلا أن يطبق حكم الله على النحو الذي ارتضاه تعالى.. وعلى الحاكم والمحكوم أن يرجعا إلى كتاب الله وسنة رسوله ليحكماها في كافة القضايا، الحديثة منها والقديمة. قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ

_ 1 الإسلام في حل مشاكل المجتمعات المعاصرة: ص33 وما بعدها.

تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} 1. فالقرآن الكريم وهو كتاب الله المنزل على رسوله الأمين، وهو الكتاب الصادق المحفوظ عن كل تغيير أو تبديل بحفظ الله تعالى يوجب على الناس جميعًا حاكمهم ومحكومهم تحكيم شريعة الله تعالى، وأنه ليس للحاكم أي صفة مقدسة تخرجه عن كونه إنسانًا، أو كونه معصومًا عن الخطأ في اجتهاداته وفي تصرفاته الخاصة التي تعتمد على رأيه الخاص وتفكيره في مسألة من المسائل. وتروي كتب السير والتاريخ أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وهو ثاني الخلفاء الراشدين، وهو الذي نزل الوحي مؤيدًا آراءه في بضعة أحكام، حينما أراد أن يحدد المُهور ويمنع التغالي بها. ارتفع صوت امرأة وهي تقول: كيف تريد أن تفعل ذلك وقد قال الله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} 2, فقال عمر, رضي الله عنه: أصابت امرأة وأخطأ عمر3. وإذا كانت دعوة التوحيد في الألوهية في الإسلام، تستهدف المساواة بين الناس في اعتبار الإنسانية، وفي البقاء في المستوى الإنساني، وفي المشاركة في خصائص الإنسانية من الخطأ والصواب. فإنه ليس هناك في نظر الإسلام مكان في المجتمع المسلم لنزاع حول السلطة، لأنه ليس لمجموعة من الناس أن تتميز على غيرها بأن لها حقًّا مقدسًا، أو أن لها حق التسلط على غيرها، أو أن لها حقًّا في وضع أحكام شرعية تلزم بها سائر الناس.. كلا إن الحكم إلا لله، وهذا هو معنى التوحيد الذي جاء به الإسلام. أجل لقد قرر الإسلام الوحدة في ثلاثة أصول عامة: 1- قرر وحدة النفس البشرية، فلا انفصال بين الدين والحياة. أو الدنيا والآخرة أو الروح والجسم، أو الواقع والمثال.

_ 1 النساء: 58، 59. 2 النساء: 20. 3 استعنا بهذه القصة لشيوعها في كتب التاريخ وإن كانت لم ترد في كتب الحديث، ولا في المصادر التاريخية الأولى.

2- وقرر وحدة الجنس البشري، فلا فرق بين أبيض وأسود أو عربي وعجمي إلا بالتقوى. 3- وقرر الإسلام وحدة الدين "منذ نوح إلى محمد عليه وعلى الأنبياء والمرسلين الصلاة والسلام" توحيد الله وثبات الأخلاق، والمسئولية الفردية والبعث والجزاء1. ولم يوجد في ظل الحكم الإسلامي في يوم من الأيام نزاع بين الدين والعلم، ذلك لأن الإسلام دين علم ووعي وتقدم وحركة وديناميكية ونهضة وحضارة.. ومنذ اللحظة الأولى التي انبثق فيها فجر الإسلام جاء النداء للرسول -صلى الله عليه وسلم- بالأمر بالتعلم والقراءة والكتابة: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} . روى الإمام البخاري -رضي الله عنه- بسنده عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- حديث بدء الوحي، وهو حديث طويل وفيه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بينما كان في غار حراء يتعبد، جاءه الملك فقال: اقرأ قال, صلى الله عليه وسلم: "ما أنا بقارئ". قال: "فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني"، فقال: اقرأ، "قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني" فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} 2. فهل يوجد بيان أبرع أو دليل أقطع على فضل العلم والإعلاء من قيمته ومن إجلال العلماء من أن يبتدئ نزول الوحي بهذه الآيات الباهرات؟ وبعد أن نزلت هذه الآيات الكريمة نزل قوله تعالى: {نْ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} 3, وفي هذه المرة من نزول الوحي صدرت الآيات بحرف من حروف

_ 1 شبهات التغريب في غزو الفكر الإسلامي: ص23. 2 سورة العلق الآيات: 1-5. 3 سورة القلم: 1.

الهجاء.. وأقسم الله تبارك وتعالى بالقلم والكتابة وهما وسيلتان مهمتان من وسائل العلم والمعرفة.. وفي القرآن الكريم حشد كبير من الآيات في بيان فضل العلم وفي الحث على طلبه، والحث على البحث العلمي المنطقي الدقيق المرتب على مقدمات مسلمة، وعلى براهين واضحة وعلى حجج قوية.. للوصول إلى السنن الكونية والقوانين التي تنتظم الظواهر الطبيعية بل ذهبت الآيات القرآنية إلى أبعد من ذلك فجعلت البحث العلمي والتفكر في بديع خلق السموات والأرض وفي معرفة النفس الإنسانية ومقوماتها الطبيعية وعواملها المؤثرة، وفي معرفة التركيب الفيزيولوجي للأحياء كلها، من نبات وحيوان وإنسان.. أساسًا للإيمان بوحدانية الله، وللإيمان بانفراد الله بالخلق والقدرة على الإيجاد والإحياء والإماتة.. قال تعالى: {الرَّحْمَنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ، خَلَقَ الإِنسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ، الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ، وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ، وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ، أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ} 1. ويقول جل من قائل: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ، وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ، وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ، فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} 2. ويقول سبحانه: {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ، وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} 3. وقال سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا} 4. فالآية القرآنية تشير إلى ظاهرة طبيعية، وهي أنه إذا ما التقى نهران في ممر مائي فإن أحدهما لا يذوب في الآخر.. هذه الظاهرة معروفة لدى الإنسان قديمًا

_ 1 الرحمن: 1-7. 2 الغاشية: 17-21. 3 الذاريات: 20-21. 4 الفرقان: 53.

ولكن قانونها لم يكتشف إلا مند بضع عشرات من السنين.. وقد أكدت المشاهدات والتجارب أن هناك قانونًا ضابطًا للأشياء السائلة يسمى "قانون المط السطحي" "Surface Tension" وهو يفصل بين السائلين، لأن تجاذب الجزئيات يختلف من سائل لآخر, ولذا يحتفظ كل سائل باستقلاله في مجاله. وقد استفاد العلم الحديث كثيرًا من هذا القانون. ولعل قوله تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ، بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} 1, يشير إلى هذه السنة الثابتة. قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} 2, إن الإنسان منذ القديم كان يرى عالمًا كبيرًا قائمًا بذاته في الفضاء مكونًا من الشمس والقمر والنجوم، ولم ير له أية ساريات. أو أعمدة. الإنسان في العصر الحديث يجد في هذه الآية العظيمة تفسيرًا لمشاهداته التي تثبت أن الأجرام السماوية قائمة دون أعمدة في الفضاء، وقد توصل إلى معرفة قانون "الجاذبية" فأدرك بواسطته عظمة تلك الآية القرآنية، وأدرك أيضًا أن الأجرام إنما تبقى في أماكنها المحددة بسر إلهي يتجلى في قانون الجاذبية. وفي القرآن الكريم آيات أكثر من أن تحصى تحث على العلم وتشيد به، وتجعل معرفة السنن الكونية والقوانين الطبيعية أدلة شاهدة وثابتة على قدرة الله في الخلق وفي الإيجاد سبحانه وتعالى. قال تبارك وتعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} 3, فبمقدار تعمق الإنسان في الجانب العلمي في صدق وإخلاص تكون خشية الله تعالى، ذلك لأن المتعمق يرى من سنن الكون ومن الإتقان في الصنع، ومن الحكمة في التدبير ما يجعله ساجدًا لمبدعه وخالقه.. وإن الذين يتصلون بعلم التشريح مثلًا من قريب أو يتخصصون فيه يرون من الإحكام المحكم ومن الدقة الدقيقة في مختلف الأجهزة الجسمية وفي أعضاء هذه الأجهزة ما يضطرهم ويلزمهم إلزامًا

_ 1 الرحمن: 20-21. 2 الرعد: 2. 3 فاطر: 28.

إلى السجود لله الواحد الذي أبدع هذا التنسيق وأوجد هذا الترتيب. وليس علم التشريح وحده هو الذي يبهر العالم المتبحر فيه، وإنما يبهر علم الفلك العالم الفلكي، ويبهر علم الأحياء عالم الأحياء.. وهكذا نجد انبهار النفس في كل ميدان من ميادين المعرفة الكونية في أرضها وفي سمائها وما بين السماء والأرض.. يقول سبحانه عن الليل والنهار: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} 1, فالآية الكريمة تشرح للإنسان سر مجيء الليل والنهار. وفيها إشارة رائعة إلى دوران الأرض محوريًّا، وهو الدوران الذي يعتبر سبب مجيء الليل والنهار طبقًا للمعلومات الحديثة. وقد أدلى رجل الفضاء الروسي "جاجارين" بعد دورانه في الفضاء حول الأرض أنه شاهد تعاقبًا سريعًا للظلام والنور على سطح الأرض بسبب دورانها المحوري حول الشمس"2. وصدق الله العظيم إذ يقول: {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ، وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} 3، وإذ يقول: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} 4, وخشية الله في حقيقة الأمر ما هي إلا ثمرة للعلم وأساس من أهم أسس الإسلام.. ومن هنا نبعت ضرورة التعلم، فالتعلم واجب ديني يفرضه علينا الإسلام كما يفرض علينا التكاليف الشرعية من صلاة وصوم وزكاة وحج.. ولهذا كان من أبرز مقومات شخصية المسلم العلم، العلم بالكون والعلم بالإنسان والعلم بالنفس، وبكل ما تتسع له كلمة العلم من معنى.. يقول سبحانه: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 5, فالعلم طريق يتسع لجميع المؤمنين، وهو الطريق

_ 1 الأعراف: 54. 2 الإسلام يتحدى: ص125 وما بعدها. 3 الذاريات: 20, 21. 4 سورة فاطر: 28. 5 آل عمران: 18.

الوحيد إلى الإيمان بوحدانية الله تبارك وتعالى. وبعد، فهل لعاقل أن يقول: إن الاسلام يحجر على العقل البشري، ويضعه في قوقعة زجاجية لا يخرج منها ولا يحيد عنها..؟ كلا! وإنما جعل له ميدانًا فسيح الأرجاء رحب البنيان.. جعل ميدانه، الأرض بما فيها من سهول وصحاري، وجبال ووديان ومزروعات ونباتات وأنهار وبحار، وحيوانات.. وإنسان.. والسماء وما فيها من شمس وقمر ونجوم وكواكب وما بين السماء والأرض.. كل هذا ميدان للعقل البشري.. أفلا يتسع هذا الميدان الرحب للعلم؟ ويبني إنسان هذا الجيل معلوماته على ما وصل إليه الأقدمون، ويترك للجيل بعده آفاقًا وآفاقًا.. وما زال الإنسان يدور في ذلك العلم منذ أن وجد على سطح الأرض.. ومع هذا فلم يصل إلى كل المعرفة، وإلى كل العلوم، وما زال هناك مجاهيل.. ربما تكتشفها الأجيال القادمة وصدق الله العظيم إذ يقول: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلًا} 1. فليس في الإسلام مجال للجذب والشد، وللمد والجزر بين رجال الدين ورجال العلم.. لأن رجال الإسلام هم العلماء، والعلماء ورثة الأنبياء، وكما أن العلم يتحقق بمعرفة الحلال والحرام والفرض والمسنون والمكروه، يتحقق كذلك بأن يأخذ الإنسان نصيبًا من العلوم الكونية والعلوم الإنسانية والعلوم النفسية.. وليس الإسلام هنا قصرًا على رجال معينين يسمون أنفسهم "برجال الدين" كما للكنيسة "كهنوت ورهبان" كلا.. الرجل في الإسلام أي رجل عليه أن يتعلم من أمور الدين بما يستقيم به شأن دينه, وعليه أن يتعلم من الأمور الدنيوية ما يزداد به إيمانًا وتقوى، وبما يخدم مجتمعه وأمته وحضارته. وهكذا عمد الإسلام إلى بناء النفس الإنسانية على الإيمان بالله تعالى، وقرر أن الإيمان بالله سبحانه قوة دافعة تعطي الأمل، وتحول دون اليأس وتبعث الثقة المتجددة في النفس، وتحرص على الصبر والثبات على البحث العلمي النافع.. كما قرر أن الإيمان ليس مضادًا للعلم والمعرفة، وليست المعرفة بديلًا للإيمان.. فالإسلام يجمع بين مفهوم المعرفة القائم على الحس والتجربة،

_ 1 سورة الإسراء: 85.

ومفهوم المعرفة القائم على الوحي، وقد جعل الإسلام الإيمان بالغيب شرطًَا أساسيًّا من شروط المعرفة.. وقد دعا في أكثر من آية إلى التفكر والتدبر والتأمل في خلق السماء والأرض وما فيهما وما بينهما.. قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} 1. وليس فهم الحياة بوصفها معبرًا وطريقًا إلى الآخرة بمنقص من هدف تحسينها وبنائها وعمارتها، ولكنه عامل مهم في جعلها أكثر أصالة وعمقًا، لأنه يقوم أساسًا على مفهوم المسئولية الفردية والجزاء والعمل في اتجاه منهج الله عز وجل. وقد دعا الإسلام إلى العمل والاهتمام به، وإلى الرضى بقضاء الله في النتائج.. كما أن الإسلام لم يحارب الرغبات الإنسانية الداخلية، ولكنه وجهها التوجيه السليم الذي يتلاءم مع الفطرة الطبيعية ومع الخلقة الإنسانية. قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} 2. ويمكن أن ألخص الموقف الإسلامي3 من الحركة العلمانية ضمن المفاهيم التالية: 1- إن التدين جزء من الطبيعة البشرية، ولا يستطيع الإنسان أن يعيش من غير دين، ولقد عجزت المذاهب جميعها والأيديولوجيات على اختلافها أن تقدم له بديلًا عن الدين يشفي روحه، ويملأ حياته. ولقد حرر الإسلام الإنسان من عبودية المجتمع ومن عبودية الأفراد ليتجه إلى الله وحده. 2- حرر الإسلام الفكر من الظنون والفروض والأساطير والخرافات والأوهام والأهواء، ودعا إلى التمسك بالمنابع الإسلامية الأصيلة، وفي مقدمتها "القرآن الكريم" و"سنة رسول الله, صلى الله عليه وسلم" ومن هنا كان التحرك الفكري للمسلمين إنما يجري في إطارهما، فإذا خرج عنهما وقع الحرج والضيق

_ 1 سورة سبأ: 46. 2 آل عمران: 14. 3 عن كتاب شبهات التغريب في غزو الفكر الإسلامي: ص317-325.

والتمزق والشتات الذي لا يزول إلا بالرجوع إليهما. 3- إن حاضر الفكر الإسلامي والأدب العربي، والثقافة العربية لا تنفصل عن ماضيها الممتد المتصل المتفاعل خلال مراحل التاريخ المختلفة دون توقف، وإن الفكر الإسلامي الحديث هو ثمرة للفكر الإسلامي الذي بناه القرآن الكريم. 4- إن الحرية في الإسلام تعني تحرير العقل البشري من قيد الوثنية مهما اختلفت أسماؤها ومن الجهل مهما تباينت تواريخها، ومن الخرافة والتقليد مهما لبست من مسوح، كما تعني تحرير الإنسان من قيد العبودية وسلطان الاستبداد والطغيان. 5- إن الأخلاق في الإسلام ثابتة لا تختلف باختلاف المجتمعات ولا تتطور بتطور الأزمان ولا تتبدل بتبدل الأجيال.. وإنها مرتبطة بالإنسان، وإن الحق واحد لا يتعدد. 6- إن الإسلام وحدة كاملة لا تقبل الانفصام ولا التجزئة ولا التفتيت وكل فرع فيه يقوم على أصول ثابتة، فالأخلاق لا تنفصل عن العبادة ولا تنفصل عن السياسة، كما إن العبادة لا تنفصل عن المعاملة.. 7- لقد ربط الإسلام في حياة الفرد بين عقيدته التي يؤمن بها ويدين لها وبين العمل والنشاط الذي يصدر عنه، وقرن بين العلم والعمل، فلا يطلب العلم ليبقى في حيز النظريات، وإنما يطلب ليطبق ويستفاد منه في تحسين وسائل الحياة الإنسانية. 8- لا يرى الإسلام أن ثمة تعارضًا قائمًا بين مفهوم الإيمان ومفهوم المعرفة، ولا تقتصر المعرفة في الإسلام على الوسائل الحسية والبراهين التجريبية وإنما يضاف إليها التسليم بعلم الوحي، الذي أفاد الإنسان فائدة كبرى، وكفاه مؤنة البحث فيما وراء الطبيعة، والبحث عن اليوم الآخر، وقدم له وصفًا كاملًَا للحياة بعد الموت، هذا الوصف الذي يرضي الأشواق النفسية للإنسان، ويدخل في قلبه الطمأنينة والسكينة.

من هذا العرض الموجز يتضح أنه لا يوجد منفذ واحد تدخل منه العلمانية إلى التربية الإسلامية، ذلك لأن البيئة التي وجدت فيها العلمانية وهي "الغرب أو الشرق الشيوعي" تختلف اختلافًا كليًّا عن البيئة العربية الإسلامية، وإن الظروف الأوروبية التي أتاحت لظهور العلمانية لم توجد ولن توجد ظروف مماثلة لها في البلاد الإسلامية، ولو كان الإسلام منتشرًا في أوروبا وحاكمًا لحياتها لما نشأت العلمانية في الفكر الأوروبي، ولما وصل تفكير بعض الأوروبيين إلى التطرف في النزعة المادية لحل بعض المشكلات الاجتماعية. يقول أحد العلماء الغربيين: "إن الغربي لا يصير عالمًا إلا إذا ترك دينه، بخلاف المسلم فانه لا يترك دينه إلا إذا صار جاهلًا"1.

_ 1 عن كتاب شبهات التغريب في غزو الفكر الإسلامي: ص30.

مجالات نشر العلمانية

مجالات نشر العلمانية: 1- التعليم: إن من أخطر الأساليب التي اتبعها التغريب بعامة والعلمانية بخاصة "التعليم والثقافة" بهدف تمييع الشخصية الإسلامية، ووضعها في القالب الذي يريده، ذلك لأن التعليم طريق مختصر وممهد لتضليل الأفكار ولتشويه الحقائق ولبلبلة الآراء.. قد يسهل على المدرس الأوروبي "شرقيًّا كان أو غربيًّا" أن يضع الأمور حيثما يشاء، وبالمقياس الذي يخدم مصلحته ثم يوجه الأنظار إليها، ويسلط الأضواء عليها، فإذا الجيل بأكمله يرى ما يراه المدرس، وإذا بالطالب يهوى ما يهواه مدرسه، ويبغض ما يبغضه مدرسه، ويرى المستقيم مائلًا والمائل سويًّا, والصحيح خطأ والخطأ صحيحًا، لأنه إنما ينظر إلى الأشياء بمنظار مدرسه.. وهكذا تقلب المفاهيم وتنكس الحقائق وتتغير المبادئ تبعًا لمطامع ونوايا المدرس، وبهذه الطريقة تتمكن الفئة الضالة المضلة من تغيير اتجاه جيل من الأجيال، وإذا فسد الجيل فمن العسير بمكان إعادة الأمور إلى أوضاعها والمياه إلى جداولها، والقيم إلى مفاهيمها، ومن العسير أيضًا إبعاد الشبهات بعد انتشارها، وتصحيح الأفكار بعد فسادها. يقول الدكتور عبد الستار فتح الله، في كتابه "الغزو الفكري، والتيارات المعادية للإسلام": "لقد تنبه كثير من المسيحيين إلى سذاجة فكرة التبشير

بمسيحيتهم.. لأن عناصر الإسلام وحقائقه الراقية. تسمو إلى غير ما حدود عما لدى المبشرين من عقائد وأخلاق وعادات تطبع المسلم بطابع الإحساس بالتفوق والاعتزاز بدينه، لذلك اتجه التفكير التبشيري إلى إيجاد "حامض" مذيب لهذه المناعة الإسلامية في نفوس المسلمين، وقد كان التعليم والثقافة الأوربية هما أخطر المواد التي استخدمت في تحقيق هذا العمل التخريبي الهدام على أوفى الوجوه"1. وقد أدرك المبشرون أنفسهم أهمية "التعليم والثقافة" كوسيلة لبث أفكارهم فقال زويمر: "المدارس هي من أحسن الوسائل لترويج أغراض المبشرين، وقد كان عدد التلاميذ في المدرسة التبشيرية في طهران قبل سنتين فقط "40 إلى 50" فصاروا الآن "115" وكلهم يتلقون التربية النصرانية بكل إتقان. وكذلك الحال في مدرسة تبريز التي يديرها هذا القسيس، فقد كان فيها 3 تلاميذ من المسلمين ثم صاروا 50 ... "2. يقول القسيس "سن كلير تيسدال" في تقرير له عن التبشير في فارس: "بذلت إرساليات التبشير جهدها في بلاد فارس ونجحت في تبديد ما يعتقدونه في النصارى من أنهم مشركون بالله ويعبدون آلهة ثلاثة. وهذا الاعتقاد وقر في نفوس المسلمين لما يشاهدونه في الكنائس الشرقية والكاثوليكية إلا أنهم عادوا الآن فصاروا يفرقون بين الفرقتين النصرانيتين وتبين لديهم أن البروتستانتية خالية من الوثنية فارتاحوا لها"3. وقال أحد المفكرين الإسلاميين: "ما طمحت الدول الأوربية إلى الاستيلاء على بلد أو إقليم من الشرق عمومًا إلا وسبقت إليها بافتتاح المدارس بمرسليها الدينيين، ومن تخلق بأخلاقهم ليعدوا لها طريق الاستعمار، علمًا منهم بأن مأمورية هؤلاء المعلمين ليست عبارة عن بث الأخلاق، وتعاليم -دينية كانت أو فنية- وهم إذا دخلوا قرية، وظهروا بهذا المظهر لا يلاقون معارضة أو ممانعة،

_ 1 من الكتاب نفسه: ص37 بتصرف. 2 الغارة على العالم الإسلامي: ص101. 3 الغارة على العالم الإسلامي: ص99.

لأن حجتهم نشر العلم والتهذيب، ورفع لواء التمدن، ومن لا يرضى بذلك فليس له من اسم الإنسانية نصيب وتقوم عليه قائمة حرب التعنيف والتنديد بلسان كل خطيب وقلم كل كاتب، فلا مناص من أن تقبل هذه الأقاليم الشرقية الوافدين إليها من المرسلين الذين لهم نصراء الهداية والمعارف والتمدن في ظاهر العين وسفراء الاستعمار والاستيلاء في الحقيقة، وهل يتصور أن قومًا جازوا البحار وتجشموا الأخطار لمحض منفعة من وفدوا إليهم خدمة للإنسانية كما يقولون؟ كلا.. ولا هي محض التكسب واستجلاب الدرهم والدينار.. إننا نعلم حق العلم أنه ما من مدرسة من هذه المدارس إلا ولها جمعية من الجمعيات الخيرية في مملكتها، تنفق عليها النفقات الطائلة ولا يكون ذلك عبثًا، ونرى بأعيننا من جهة أخرى أن كل دولة غربية ما وضعت يدها على أمة أو قبيلة -تملكًا أو حماية- إلا وجعلت مقدمة ذلك المدارس، فبان أن المقصد العظيم والباعث القوي هو سياسي وملِّيٌّ في آن واحد"1. وقد عقد المبشرون مؤتمرًا في "أدنبرج" سنة "1910م" وحضره "1200" مبشرًا من المندوبين.. وتفرع إلى لجان ثمان، خاضت اللجنة الثالثة منها في الأعمال المدرسية التي يقوم بها المبشرون فقالت: "اتفقت آراء سفراء الدول الكبرى في عاصمة السلطنة العثمانية على أن معاهد التعليم الثانوية التي أسسها الأوروبيون كان لها تأثير على حل المسألة الشرقية يرجح على تأثير العمل المشترك الذي قامت به دول أوربا كلها"2. ويقول القائد الفرنسي الجنرال "بيير كيللر" عن وسائل التأثير الفرنسي في الشام قبل احتلالها: "التربية الوطنية كانت بكاملها تقريبًا في أيدينا، وفي بداية حرب عام "1914" كان أكثر من اثنين وخمسين ألف تلميذ يتلقون دروسهم في مدارسنا، وكان بين هؤلاء فتيات ينتمون إلى عائلات إسلامية عريقة، مما جعل الجمعية المركزية السورية التي تألفت في باريس تعلن عام 1917م أن جميع ميول السوريين وعواطفهم تتجه نحو فرنسا، بعد أن تعلموا لغتها وخبروها على مر

_ 1 عن كتاب الغزو الفكري: ص39. 2 الغارة على العالم الإسلامي: ص115- 119.

الأجيال وتأكدوا من إخلاصها وتجردها". ويقول أيضًا: "إن كلية عينطور في لبنان هي وسط ممتاز للدعاية الفرنسية" ويقول: "إن مؤسساتنا تعمل دون ملل لتغذية النفوذ الفرنسي مثل: معهد الدراسات العبرية في القدس ومعهد الدراسات الإسلامية في القاهرة، والمدرسة الإكليريكية الدومينيكانية في الموصل.."1. ويصرح زعيم المبشرين النصارى "زويمر" بالأثر الذي خلفته المدارس الأجنبية في البلدان الإسلامية قائلًا: "لقد قبضنا -أيها الإخوان- في هذه الحقبة من الدهر من ثلث القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا على جميع برامج التعليم في الممالك الإسلامية، وإنكم أعددتم نشأ في ديار المسلمين لا يعرف الصلة بالله، ولا يريد أن يعرفها، وأخرجتم المسلم من الإسلام، ولم تدخلوه في المسيحية، وبالتالي جاء النشء الإسلامي طبقًا لما أراده الاستعمار المسيحي لا يهتم بالعظائم ويحب الراحة والكسل ولا يعرف همه في دنياه إلا في الشهوات.. فإذا تعلم فللشهوات، وإذا جمع المال فللشهوات، وإن تبوأ أسمى المراكز ففي سبيل الشهوات يجود بكل شيء"2. وتلك الأقوال وهذه التصريحات تبين السر في اهتمام المبشرين بإنشاء مدارس تبشيرية في المدن والقرى على السواء، وفي إرسال المدرسين والمدرسات إلى تلك المدارس، وفي الإشراف الكنيسي الكامل على مناهج التعليم والتثقيف في البلاد الإسلامية، التي امتدت إليها الأيدي الآثمة، أيدي الكفر والضلال، أيدي الفساد والبغي.. وكان للمبشرين أسلوبهم في توجيه التعليم الوجهة التي يريدونها: وأول هذه الأساليب: إنشاء مدارس مدنية، تعلم جميع العلوم الكونية والإنسانية عدا العلوم الإسلامية. وثاني هذه الأساليب إلقاء الحصار المادي والمعنوي على المدارس الأهلية أو الحكومية التي تعلم العلوم الإسلامية، وذلك بقطع المعونات المادية عنها، وبالتقليل من مكانة أستاذ الدين وبالاستخفاف بالأقوال التي يتفوه بها.. وبوسمه بالرجعية والجحود والتحجر..

_ 1 عن كتاب الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر: 2/ 264. 2 أساليب الغزو الفكري للعالم الإسلامي: ص63.

وثالثها: إنشاء مدارس تبشيرية تمول من قبل حكوماتها وكنائسها، فقد أنشئ في دمشق على سبيل المثال ثلاث مدارس تحتضن أبناء المسلمين منذ العمر المبكر حتى يصلوا إلى المرحلة الجامعية، بالإضافة إلى إنشاء الجامعة الأمريكية في بيروت وفي مصر.. ورابعها: إرسال البعثات من أبناء المسلمين إلى البلاد الأجنبية لمتابعة الدراسة قبل أن ينهلوا من الثقافة الإسلامية شيئًا وقبل أن يقوى وازع الإيمان في قلوبهم وقبل أن تنمو شخصيتهم الإسلامية.. هؤلاء الشباب يرسلون خاوية عقولهم من العلوم الإسلامية، فارغة قلوبهم من الولاء للمسلمين، غير راسية أقدامهم على المبادئ الدينية.. زائغة أبصارهم، حائرة آمالهم. هؤلاء يتعلمون في جامعات أوربا كجامعة السوربون أو جامعة لندن.. ثم يعودون بعد سنوات لا تقل عن الخمس من زهرة الحياة.. يعودون وهم يحملون الوباء والأمراض السارية الخبيثة.. يدعون لفصل الدين عن الدنيا، ينادون بأن تخضع الأنظمة الحياتية لقانون روماني وفرنساوي.. وهؤلاء هم الذين يحتلون مناصب القيادة في الأمة ويمسكون زمام المجتمع.. رحماك اللهم بالأمة الإسلامية. وخامسها: وأخطرها نشر الاختلاط بين الجنسين في جميع مراحل التعليم، وقد طبقت بحرارة وحماس وبكثرة في المرحلة الجامعية، وهي مرحلة الشباب الأول المتفتح المتوثب، وفي المرحلة الابتدائية التي تمتد إلى سن المراهقة الأولى، ولا تقل الخطورة هنا عن سابقتها، وتزداد الخطورة بوجود أساتذة رجال في مدارس البنات على اختلاف مراحلها، وبوجود مدرسات نساء في مدارس البنين على اختلاف مراحلها.. وربما تطاول الطيش الصبياني على الأستاذة الأنثى فأهدرت كرامتها، وعندئذ تفقد حرمة العلم وتضيع هيبته.. يقول الدكتور "محمد محمد حسين" في كتابه "حصوننا مهددة من داخلها": "فإذا هذا الاختلاط يصبح حقيقة واقعة بطريق ملتو خفي لم يكد يتنبه إليه أحد، بعد أن طالت المرحلة الابتدائية إلى ست سنوات يتجاور فيها الذكور والإناث، ومن المعروف أن الإناث في بلادنا يدخلن سن المراهقة في وقت مبكر لا يتجاوز السنة الحادية عشرة في كثير من الأحيان. بل لقد أصبحنا أمام بعض المدارس المختلطة في مرحلة التعليم الإعدادي، بعد أن تكشفت تجربة

الاختلاط في الجامعة عن مآس لا يستطيع تجاهلها إلا مكابر أو مدلس.. وأصبح هذا النظام ضربًا من ضروب الإلزام لا يستطيع والد أن يفر منه أو يتفاداه لأن عليه أن يختار بين أن يبعث بابنه وبابنته إلى هذا الوسط وبين أن يحرمهم من التعليم ويحجبهم في ظلمات الجهل. بل إنه لا يستطيع اختيار الطريق الثاني -على ظلمه وظلامه- لأن قوانين الدولة تجبره على أن يعلم أولاده حتى نهاية المرحلة الأولى على الأقل"1. وقد كان لوجود المدارس التبشيرية في قلب البلاد الإسلامية، ولمحاولة تغريب الفكر الإسلامي أثره الخطير في إضعاف كيان المجتمع الإسلامي، وفي تشويه كثير من الحقائق الإسلامية في عقول الجيل الذي ربي في مدارس التغريب أو نهل من الجامعات الأوربية. ويمكن أن أحصر هذه الخطورة في النقاط التالية: 1- ظهور اتجاهين فكريين مختلفين، بل قل متضادين وهذا ما يهدف إليه التغريب، لأن التمزق الفكري سيتبعه تمزق في الوجود الكياني للمجتمع الإسلامي، ومن ثم يسهل ذوبان معالم الثقافة الإسلامية وتمييع الشخصية الإسلامية. وتبعًا للانقسام الفكري، انقسم المجتمع الإسلامي إلى قسمين: الأول ويمثله القادمون من البعثات الأوربية والمتعلمون في مدارس التغريب، وهؤلاء يدعون إلى الانفتاح الكامل على المجتمع الغربي الأوربي، كما ينادون بضرورة الاقتباس من عاداتهم وتقاليدهم وآرائهم، وإن كانت مخالفة لحقيقة الإسلام وجوهره.. ويذكر الدكتور محمد محمد حسين نموذجين لهذا الاتجاه أولهما: "سلامة موسى، في كتابه اليوم والغد" "الذي احتوى على مقالات نشرت في خلال سنتي 1925-1926م وأضيف إليها مقالات عند نشر الكتاب سنة 1927م"2.

_ 1 ص: 238. 2 الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر: 2/ 221 وما بعدها الطبعة الثالثة.

يقول سلامة موسى: "كلما ازددت خبرة وتجربة وثقافة توضحت أمامي أغراض في الأدب كما أزاوله. فهي تتلخص في أنه يجب علينا أن نخرج من آسيا: "ديانة" وأن نلتحق بأوربا، فإني كلما زادت معرفتي بالشرق زادت كراهيتي له وشعوري بأنه غريب عني. وكلما زادت معرفتي بأوربا زاد حبي لها وتعلقي بها، وزاد شعوري بأنها مني وأنا منها. هذا هو مذهبي الذي أعمل له طوال حياتي، سرًّا وجهرًا.. فأنا كافر بالشرق مؤمن بالغرب". ويقول: "أريد أن تكون ثقافتنا أوربية لكي نغرس في أنفسنا حب الحرية والتفكير الجريء" كما يفصح عن إرادته بقوله "أريد من التعليم أن يكون تعليمًا أوربيًّا لا سلطان للدين عليه ولا دخول له فيه" و"يريد من الحكومة أن تكون ديموقراطية برلمانية كما هي في أوربا، وأن يعاقب كل من يحاول أن يجعلها مثل حكومة هارون الرشيد أو المأمون، أوتوقراطية دينية"1. ويقول: "إن هذا الاعتقاد بأننا شرقيون قد بات عندنا كالمرض ولهذا المرض مضاعفات، فنحن لا نكره الغربيين فقط ونتأفف من طغيان حضارتهم فقط، بل يقوم بذهننا أنه يجب أن نكون على ولاء للثقافة العربية، فندرس كتب العرب ونحفظ عباراتهم عن ظهر قلب كما يفعل أدباؤنا المساكين أمثال المازني والرافعي، وندرس ابن الرومي ونبحث عن أصل المتنبي، ونبحث في علي ومعاوية ونفاضل بينهما، ونتعصب للجاحظ. وليس علينا للعرب أي ولاء، وإدمان الدرس لثقافتهم مضيعة للشباب وبعثرة لقواهم، فيجب أن نعودهم الكتابة بالأسلوب المصري الحديث، لا بأسلوب العرب القديم.. ثم يجب أن نذكر أن إدمان الدرس للعرب يشتت الأدب المصري ويجعله شائعًا لا لون له"2. ويقول: "لنا من العرب ألفاظهم، ولا أقول لغتهم، بل لا أقول كل ألفاظهم، فإننا ورثنا عنهم هذه اللغة العربية وهي لغة بدوية لا تكاد تكفل الأداء إذا تعرضت لحالة مدنية راقية كتلك التي نعيش بين ظهرانيها الآن". ويقول أيضًا: "ونحن في حاجة إلى ثقافة حرة أبعد ما تكون عن الأديان،

_ 1 كتاب الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر: 2/ 223. 2 المصدر السابق.

ولا بأس من أن نعتمد على الترجمة إلى حد بعيد حتى يتمصر العلم وتتمصر ألفاظه وعندئذ نسير فيه بالتأليف...." "ولكن تعليم العربية، في مصر لا يزال في أيدي الشيوخ الذين ينقعون أدمغتهم نقعًا في الثقافة العربية، أي ثقافة القرون المظلمة، فلا رجاء لنا بإصلاح التعليم حتى نمنع هؤلاء الشيوخ منه، ونسلمه للأفندية الذين ساروا شوطًا بعيدًا في الثقافة الحديثة"1. والنموذج الثاني لدعوة التغريب يمثله د. طه حسين، في معظم كتاباته، ولكنه أشد ما يكون بروزًا ووضوحًا وحماسة في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" الذي ظهر عام 1938م. يقول الدكتور محمد محمد حسين: "وهذا الكتاب أشد خطرًا من الكتاب السابق -يعني كتاب: اليوم والغد لسلامة موسى- وأبلغ أثرًا. وترجع خطورته إلى أن صاحبه قد شغل مناصب كبيرة في الدولة، مكنته من تنفيذ برامجه أو إرساء أسس تنفيذها على الأقل. فقد كان عميدًا لكلية الآداب بالقاهرة، وكان مديرًا عامًّا للثقافة بوزارة التربية والتعليم -المعارف وقتذاك- وكان مستشارًا فنيًّا بها. وكان مديرًا لجامعة الإسكندرية. وكا آخر الأمر وزيرًا للتربية والتعليم، ثم إن شهرته وكثرة المعجبين به وتأثر الكثرة الكبيرة من تلاميذه بآرائه ومناهجه وافتتانهم بها قد زاد في خطورة أثره"2. يقول طه حسين: "إن سبيل النهضة واضحة مستقيمة ليس فيها عوج ولا التواء، وهي أن نسير سيرة الأوروبيين ونسلك طريقهم، لنكون لهم أندادًا، ولنكون لهم شركاء في الحضارة، خيرها وشرها، حلوها ومرها، وما يحب منها وما يكره وما يحمد منها وما يعاب" ويقول: "هذه الحضارة الإسلامية الرائعة لم يأت بها المسلمون من بلاد العرب، وإنما أتوا ببعضها من هذه البلاد، وببعضها الآخر من مجوس الفرس، وببعضها الآخر من نصارى الروم.. وقد احتمل المسلمون راضين أو كارهين زندقة الزنادقة ومجون الماجنين ذلك في الحدود المعقولة، ولكنهم لم يرفضوا الحضارة الأجنبية التي أنتجت تلك الزندقة وهذا

_ 1 عن كتاب الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر: ص223-227. 2 الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر: ص228.

المجون"1. ويقول: "لا بد من تطور طويل دقيق قبل أن يصل الأزهر إلى الملاءمة بين تفكيره وبين التفكير الحديث، والنتيجة الطبيعية لهذا أننا إذا تركنا الصبية والأحداث للتعليم الأزهري الخالص، ولم نشملهم بعناية الدولة ورعايتها وملاحظتها الدقيقة المتصلة, عرضناهم لأن يصاغوا صيغة قديمة, ويكونوا تكوينًا قديمًا، وباعدنا بينهم وبين الحياة الحديثة التي لا بد لهم من الاتصال بها والاشتراك فيها، وعرضناهم لطائفة غير قليلة من المصاعب التي تقوم في سبيلهم حين يرشدون، وحين ينهضون بأعباء الحياة العملية، فالمصلحة الوطنية العامة من جهة ومصلحة التلاميذ والطلاب الأزهريين من جهة أخرى، تقتضيان إشراف وزارة المعارف على التعليم الأولي والثانوي في الأزهر"2. وهكذا نلمس في فكر هذين الرجلين التأثير القوي الذي أحدثته حركة التغريب؛ فهما في كل قول من قوليهما يهدمان ركنًا من أركان الإسلام، وفي كل تعبير من تعبيراتهما يهاجمان شعيرة من شعائر الدين، وهما يكرهان الشرق لأنه متمسك بدينه، ويحبان الغرب لأنه نبذ الدين..ويدعوان بصراحة دعوة مباشرة وغير مباشرة علنية وسرية، مكشوفة أو مكتومة للتخلي عن الدين وعن كل ما يربطنا به من رباط، وأن نتخلى عن مقومات الحضارة الإسلامية وعن كل ما يشدنا إلى الأخوة الإيمانية والرابطة الدينية.. ويتمنيان من كل قلبيهما: أن يلبس الشرق المسلم لباس الغرب الملحد، وأن يأكل من أكله وأن ينهج نهجه وأن يتبع سبيله.. إنها لعمري دعوة فاسدة مريعة ضالة مضلة إنه التغريب الذي غير فيهما النظرة الإسلامية تغييرًا كاملًا. القسم الثاني: ويمثله رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، تربوا التربية الدينية، وأخذوا بالعلوم الإسلامية، فوفوا لها ودافعوا عن التراث الإسلامي، وأبرزهم رشيد رضا والعقاد، ومصطفى صادق الرافعي. يقول مصطفى صادق الرافعي في كتابه "المعركة بين القديم والجديد تحت

_ 1 مستقبل الثقافة "الفقرة 9 ص46-50" نقلًا عن كتاب الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر. 2 مستقبل الثقافة "الفقرة 13 ص75-77" عن كتاب الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر ص237.

راية القرآن" عن الذين يدعون للتغريب "فئة من شبابنا قد أخذوا بغير أخلاق هذا الدين، ونشئوا في غير قومه وعلى غير مبادئه، فرأوا فيه بظنونهم وقالوا برأيهم ورضوا له ما لا يرضاه أهله، فهؤلاء مهما كثروا لا يستطيعون أن يحدثوا حدثًَا، بل يفنون والجماعة باقية، وينقصون والأمة نامية، ويذهبون إلى رحمة الله، ومن رحمة الله أنهم لا يعودون ثانية"1. أجل ما زال للدعوة الحميدية ألسنة ناطقة، وأقلام كاتبة، وأفواه معبرة، وأيدي عاملة وآذان واعية، وأدمغة مفكرة وأفئدة مخلصة، ما زال للحق رجال ينافحون عنه ويحمون حماه ويذودون عن حياضه، ويبذلون النفس والنفيس والغالي والعزيز في سبيل أن ينصر الحق وأن ترتفع رايته وأن يعلو شأنه وأن يزدان قدره وأن تقوى شوكته.. وإنه من تمام النعم على الأمة عدم خلو الأرض من قائم لله بحجته، ووجود هؤلاء الرجال المخلصين المدافعين الثابتين الصابرين علامة من علامات عظمة الإسلام، وبرهان من براهين قوة الدعوة الخالدة، ودليل من أدلة استمرار الديانة الغراء الخالدة التي تكفل الله تبارك وتعالى من علياء سمائه بحفظها وبقائها ما بقيت في الأرض حياة.. 2- الخطورة الثانية التي خلفتها مدارس التغريب: ابتعد الذين دعوا إلى العلمانية عن روح الإسلام، وعن فهم مبادئه، فداخَل إيمانهم الضعف، وبذرت في قلوبهم بذور التشكيك وعدم اليقين وعلت أبصارهم غشاوة الافتتان بالغرب فلم يميزوا بين الغث والسمين وبين الباطل والحق وبين الخبيث والطيب.. فحسبوا أن النهضة الفكرية والعلمية والأدبية والاجتماعية تكمن في تقليد الغرب، وفي اتباع سننهم حذو القذة بالقذة، ولم يقارنوا بين بيئتهم الجاهلة وبيئتنا النيرة وبين ظروفهم الداكنة وظروفنا الواضحة، وبين دينهم المحرف وديننا المحفوظ.. وقد عموا عن إدراك أسباب عزنا الأول ومجدنا العظيم وحضارتنا التليدة، حينما كانت أوربا غارقة في ظلمات الجهل، وحينما كانت الكنيسة تصدر أحكامها بالإعدام على من يبحث في علم من العلوم بحثًا منطقيًّا سديدًا، ومن

_ 1 عن كتاب الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر ج2 ص244.

يدري لعلهم نسوا التاريخ الإسلامي الزاهر وأيامه الباسمة، أو إنهم درسوا هذا التاريخ دراسة مشوهة مكتوبة كتابة أوروبية مغرضة أو صهيونية ماكرة أو إلحادية طاغية، ومهما يكن فحري بهم أن يفكروا تفكيرًا سويًّا، وأن يمحصوا الأمور ويفندوها ويردوا النتائج إلى أسبابها.. وألا ينسلخوا من أمتهم، ومن دينهم، ومن شخصيتهم. 3- وثالث هذه الأخطار التي خلفتها مدارس التغريب يكمن في أن الذين تأثروا بأفكار الأوروبيين، ورضعوا لبانهم، وشربوا من مشاربهم، ونظروا بمنظارهم.. وبهروا بمدنيتهم، ووسائل معيشتهم قد اتخذوا في البلاد الإسلامية مراكز اجتماعية رفيعة ومناصب حكومية عالية، فغدوا قادة للفكر وروادًا للتجديد، ودعاة للنهضة الحديثة المنشودة، وعندئذ تمكنوا من نشر أفكارهم وبسط آرائهم، وامتدت أيديهم للتلاعب في مناهج التعليم، ولوضع مخططات ثقافية جديدة تتناسب مع الوقت المعاصر والزمن المتطور والأحداث المتغيرة.. وبغمضة عين، وبخطة قلم أبعدوا العلوم الدينية عن المناهج التعليمية في كافة المراحل الدراسية واكتفوا بوضع مادة سموها "التربية الدينية" ثم تمادوا أكثر فأكثر فاقترحوا أن تسمى مادة "الأخلاق الدينية" ويدرس تحت هذا العنوان الأخلاق الإسلامية والمسيحية والموسوية..؟ أو ليست كلها ديانات سماوية..؟ أو ليست كلها تدعو إلى التخلق بالفضيلة..؟ ومن ثم تعالت صيحات تطالب بدمج التعليم الديني المسيحي "الكنيسي" مع التعليم الديني الإسلامي بكتاب واحد.. وإذا كان الطلاب المسلمون يتعلمون دينهم فلم لا يتعلم الطلاب المسيحيون دينهم أيضًا، وكلهم في مدارس حكومية سواء.. هذا ما فهمه دعاة الباطل من التجديد ومن ملاءمة مقتضى العصر ومن مسايرة الأحداث والوقائع.. وهم قبل هذا الإجراء جعلوا التعليم قاصرًا على العلوم المدنية والوطنية، مع دراسة لبعض الوقائع التاريخية المكتوبة بأقلام مسمومة ماكرة خبيثة.. والتي صورت الخلافة العثمانية صورة مشوهة ووضعتها في قالب استعماري مبدأ وسلوكًا وسيرة وتعاملًا وأخلاقًا. وصورت احتلال الدول الأوروبية السياسي والعسكري للبلاد الإسلامية، بصورة المحب المشفق، فلم يكن استعمارًا ولا احتلالًَا وإنما كان حماية

ووصاية، وخدمة للإنسانية، ففي هذا العهد انتشرت المدارس والجاليات التعليمية والإرساليات الطبية، حرصًا على قتل الأوبئة في مهدها، والتخلص من الأمراض المستعصية، وليأخذ المسلم نصيبًا من الوعي الصحي والوعي التعليمي.. هذه رسالة الاستعمار.. إنها رسالة شريفة تعمل لغاية نبيلة.. هذه الصور المقلوبة رأسًا على عقب وهذه الحقائق المنكوسة هي التي درست في عهد الاحتلال الأوربي للبلاد الإسلامية وما زالت تدرس إلى الآن وبعد زوال الاستعمار العسكري استبقاء للاستعمار الفكري ومهادنة لسياسة الغرب والشرق، وتعايشًا سلميًّا لعدو لدود متربص لا يغفل عن المكر والخداع والخيانة والنيل من الحرمات الإسلامية والمقدسات الدينية.. وبعد.. فهل أدرك القائمون على التعليم خطورة إبعاد التعليم الديني عن التدريس في المدارس المتوسطة والثانوية.. وخطورة الاستهانة بمدرس العلوم الدينية والتقليل من مكانته والإنقاص من قدره, والسعي لإغلاق فمه وإخراس لسانه، وصم أذنيه، وإسبال جفونه. وهل أدركوا أهمية الاتجاه إلى تدريس الثقافة الإسلامية، وإنارة الفكر الإسلامي في المرحلة الجامعية على اختلاف فروعها وكلياتها وأقسامها. نريد -نحن المسلمين- أن نعلم أبناءنا وبناتنا التعليم الصحيح السليم، تعليمًا فكريًّا وروحيًّا وجسميًّا، تعليمًا خاليًا من الغرضية ومن المطامع القريبة ومن الأهواء الشخصية.. التعليم المتكامل الذي يجعل من أولادنا جيلًا متفتحًا واعيًا يقظًا حذرًا فطنًا كيسًا فاهمًا لمبادئه معتزًّا بدينه متذوقًَا للغته مرتبطًا بتراثه الإسلامي وأمته الإسلامية، متصلًا بإخوانه في كافة أقطار العالم وفي مختلف الأوطان والبيئات، من غير اعتبار للحدود المصطنعة أو الألوان المتباينة، أو اللهجات المتعددة.. نريد أن نجعل العلوم الدينية أساسًا للتعليم في كافة المراحل، بل وأساسًا للحياة، لأنه لا انفصام في الإسلام ولا ازدواجية ولا ثنائية.. فالإسلام أصل ونبع، ولا نريد أن ننقص العلوم الدنيوية حقها.. نريد أن نكتب تاريخنا بأيدينا ونبعد الوجود الاستشراقي والتبشيري والإسرائيلي والإلحادي عن تاريخنا وعن حاضرنا ومستقبلنا.. نريد أن نشيد مكتبتنا بأيدينا وأن نزيدها ثراء بأقلامنا وأفكارنا الأصيلة.

نريد أن نكون كما أراد الله لنا خير أمة أخرجت للناس، نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر ونؤمن بالله وندعو للخير.. ولا نريد التبعية، ونكره الانقياد لأي مبدأ سوى الإسلام ولكل فكرة سوى الإيمان بوحدانية الله، ولأي سلطان سوى سلطان الله تبارك وتعالى.. هذه هي الشخصية الإسلامية وهذا هو الفكر الإسلامي الأصيل.

العلمانية والإعلام

العلمانية والإعلام: ليس التعليم وحده قادرًا على أن يصيغ الرجال صوغًا معينًا، وإنما هناك مصنع آخر له نفس القدرة إن لم أقل تربو عنها.. هذا المصنع تتعدد ألوانه وتختلف أشكاله ويزداد أثره ويكثر انتشاره ويعيش مع الأفراد والجماعات والرجال والنساء والشبان والشيوخ والأطفال والكبار والجهلة والمتعلمين.. إن هذا المصنع الضخم ذا الحياة الدافقة، والحركة الدائبة هو "الإعلام" على تعدد وسائله.. من صحافة و"راديو" و"تليفزيون". إن هذا المصنع وسيلة مهمة وله دور خطير في الحياة، فقد يخدم الخير ويكون وسيلة للنطق بالحق ولسماع الحق، وقد يكون وسيلة شر يستخدم أداة للباطل، يقف إلى جانبه، ويعلي صوته، ويسمع كل الآذان، ويضلل الأفكار، ويشوه الحقائق.. وقد فطن العدو الماكر إلى أهمية الإعلام فاستغله على أوسع نطاق، ويلاحظ المستشرق "جب" أن النشاط التعليمي والثقافي "عن طريق المدارس العصرية والصحافة" قد ترك في المسلمين أثرًا جعلهم يبدون في مظهرهم العام لا دينيين إلى حد بعيد، ثم يعقب على ذلك بقوله: وذلك خاصة هو اللب المثمر في كل ما تركت محاولات الغرب لحمل العالم الإسلامي على حضارته من آثار. ثم يقول: الواقع أن الإسلام بوصفه عقيدة لم يفقد إلا قليلًا من قوته وسلطانه، ولكن الإسلام بوصفه قوة مسيطرة على الحياة الاجتماعية قد فقد مكانته، فهناك مؤثرات أخرى تعمل إلى جانبه، وهي في كثير من الأحيان تتعارض مع تقاليده وتعاليمه تعارضًا صريحًا. ولكنها تشق طريقها، بالرغم من ذلك إلى المجتمع الإسلامي في قوة وعزم.. فإلى عهد قريب، لم يكن للمسلم من عامة الناس، أي اتجاه سياسي، ولم

يكن له أدب إلا الأدب الديني، ولم تكن له أعياد إلا ما جاء به الدين، ولم يكن ينظر إلى العالم الخارجي إلا بمنظار الدين. كان الدين هو كل شيء بالقياس إليه. أما الآن فقد أخذ يمد بصره إلى ما وراء عالمه المحدود. وتعددت ألوان نشاطه الذي لم يعد مرتبطًا بالدين. فقد أصبحت له ميوله السياسية وهو يقرأ -أو يقرأ له غيره- مقالات في موضوعات مختلفة الألوان لا صلة لها بالدين، بل إن وجهة نظر الدين فيها لا تناقش على الإطلاق، وأصبح الرجل من عامة المسلمين يرى أن الشريعة الإسلامية لم تعد هي الفيصل فيما يعرض له من مشكلات، ولكنه مرتبط في المجتمع الذي يحيا فيه بقوانين مدنية قد لا يعرف أصولها ومصادرها ولكنه يعرف على كل حال أنها ليست مأخوذة من القرآن، وبذلك لم تعد التعاليم الدينية القديمة صالحة لإمداده في حاجاته الروحية، فضلًا عن حاجاته الاجتماعية الأساسية، بينما أصبحت مصالحه المدنية وحاجاته الدنيوية هي أكثر ما يسترعي انتباهه. وبذلك فقد الإسلام سيطرته على حياة المسلمين الاجتماعية، وأخذت دائرة نفوذه تضيق شيئًا فشيئًا حتى انحصرت في طقوس محدودة وقد تم معظم هذا التطور تدريجيًّا عن غير وعي وانتباه. وكان الذين أدركوا هذا التطور قلة ضئيلة من المثقفين، وكان الذين مضوا فيه عن وعي وتابعوا طريقهم فيه عن اقتناع قلة أقل. وقد مضى هذا التطور الآن إلى مدى بعيد، ولم يعد من الممكن الرجوع فيه.. وقد يبدو الآن من المستحيل -مع تزايد الحاجة إلى التعليم ومع تزايد الاقتباس من الغرب أن يصد هذا التيار، أو يعاد الإسلام إلى مكانته الأولى من السيطرة التامة التي لا تناقش على الحياة السياسية والاجتماعية"1. ويقول جب: "إن الصحافة هي أقوى الأدوات الأوربية وأعظمها نفوذًا في العالم الإسلامي.."2. ويرى جب: أن مديري الصحف اليومية ينتمون إلى ما يطلق عليه اسم التقدميين، ولذلك فإن هذه الصحف واقعة تحت تأثير آراء الغرب والأساليب الغربية بما تشتمل عليه من مقالات مترجمة ومن كتابات تشرح الحركات السياسية

_ 1 عن كتاب الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر: 2/ 218-219. 2 عن كتاب الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر: 2/ 217.

والاقتصادية في أوربا1. والصحافة التي تعمل لحساب العلمانية تعتبر من أهم وسائل الإعلام لدى حركة التغريب، باعتبارها أكثر الوسائل الإعلامية شيوعًا وأبعدها تأثيرًا، سواء كانت محلية أو مستوردة.. وهي تتبع أسلوب المديح والتمجيد لأوربا وللحياة الأدبية، بحيث تدفع كل قارئ لأن تكون أحلى أمانيه أن يؤم أوربا وأن يعيش في جوها وأن يستمتع بحياة الرفاهية والترف..وإن أوربا اليوم قد أصبحت -في أقلام الصحفيين- مدينة الأحلام لما تسودها من حرية بعيدة المدى شاسعة الآفاق، حرية بالرأي وحرية بالقلم وحرية بالقول، وتمرد على القيم التي كانت تربطها بالكنيسة، وتمرد على تقاليد الكنيسة.. وقد تقدمت أوربا تقدمًا سريع الخطى في الجوانب الاقتصادية والمالية والاجتماعية والتعليمية، وما هذا إلا لسر دفين هو فصل الدين عن الدولة، وإخضاع إدارة الحياة الداخلية والخارجية، السياسية والأمنية لهيئة علمانية بعيدة كل البعد عن الدين.. وتوحي هذه الكتابات بأن كل مجتمع يريد أن يصل إلى ذروة التقدم وسنام النهضة عليه أن يخلع عن عنقه كل دين، وكل قيمة تربطه بالدين، فما المثل وما المبادئ إلا كلمات قديمة تسم صحابها بسمة الجمود والرجعية والتحجر. وهكذا أصبحت الصحافة في معظم البلاد الإسلامية صوتًا ناطقًا لدعوات التغريب، وصورة مزركشة ملونة بأحلى الألوان لعالم عاجي مذهب يدعى "أوربا". في مقال كتبه "ألمرد وغلاس" بعنوان "كيف انضم إلينا أطفال المسلمين في الجزائر" يعلق على هذه الوسائل فيقول: "إن هذه السبل لا تجعل الأطفال نصارى ولكنها لا تبقيهم مسلمين كآبائهم، ومثل هذه الجهود يبذلها المبشرون في شمال إفريقيا ومصر"2. ومما جاء في بروتوكولات صهيون: "ينبغي أن نتمكن من السيطرة على الصحافة ووكالات الأنباء وشركات النشر والإعلان والتوزيع والمطبعة وأدواتها

_ 1 المصدر السابق: 2/ 217. 2 التبشير والاستعمار: ص194.

والكتاب والمفكرين حتى لا تفلت من بين أصابعنا وسيلة من وسائل القوة المحركة للرأي العام.. كل ذلك تحت ستار حماية الأمن العام والصالح العام. كما تدعو الضرورة "لتشديد الرقابة على وكالات الأنباء العالمية حتى تحول دون نشر الأخبار الضارة بالصالح اليهودي"1, لا شك أن السيطرة اليهودية على المطابع تتيح لها السيطرة على تفكير الشعوب. وجاء في أحد بروتوكولات صهيون: "تستلزم المصلحة العليا تحويل الصحفيين والكتاب والمفكرين إلى مأجورين من المرتزقة وتوزيع الموضوعات التي يحق لهم التعرض لها والحدود التي يلتزمون بها، وتحويل أنظار الشعب عما يلحون في طلبه وذلك بشغله بموضوعات أخرى غير مجدية، فلا ينبغي مناقشة الموضوعات السياسية العليا.. ويستبدل بها مناقشة شئون الخبز والتموين والتجارة والصناعة والرياضة.. وبذلك يخلو لشعب الله المختار بحث الشئون السياسية"2. وعلى هذا فإن للصهيونية مخططًا إعلاميًّا خاصًّا بها، بعيد الهدف شديد الأثر هذا المخطط يسعى جاهدًا لشراء ضمائر مديري الصحافة والعاملين فيها، فيستأجر أقلامهم، ويسخر عقولهم ويستعبد قلوبهم، فيكتب هؤلاء ما يحقق مصلحة اليهود، وينطقون بما يخدم رغبات الصهيونية وينشرون ما ينفذ مطامع إسرائيل.. أما ما ينفع البلاد والعباد، وأما ما يبصر الشاب المسلم بحاضره وماضيه وبأساليب نهضته وبأسباب تقدمه.. فالصحافة لاهية عنه بكلمة خبيثة، أو بنقد لفئة من المستمسكين بكتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا من رحم ربك، ومن نجا، وما نجت إلا الصحافة الإسلامية ولله الحمد، لأنها ناطقة باسم الإسلام ولم تقع تحت أي استعمار عسكري أو فكري.

_ 1 أضواء على الصهيونية: ص227. 2 أضواء على الصهيونية للأستاذ مصطفى السعدني: ص227.

القومية

القومية مدخل ... القومية: اتخذت القومية في القرن التاسع عشر مفهومًا خاصًّا يدل على تفضيل آصرة القوم على غيرها من الأواصر، ولكن جوهر هذا المعنى كان معروفًا منذ العصور القديمة، فقد عرف اليونان والرومان والهنود "القومية" وكانت تعني عندهم انتساب الفرد إلى قوم أو جنس معين. وللقومية أركان خمسة عليها يرتفع بنيان هذا المفهوم، وهذه الأركان هي: 1- وحدة الجنس بمعنى الانتساب إلى أصل واحد. 2- وحدة الوطن. 3- وحدة اللغة. 4- وحدة التاريخ. 5- العوامل الاقتصادية. يقول الأستاذ سيد قطب في كتابه "هذا الدين": "وجاء الإسلام فوجد الناس يتجمعون على آصرة النسب، أو يتجمعون على آصرة الجنس، أو يتجمعون على آصرة الأرض، أو يتجمعون على آصرة المصالح والمنافع القريبة، وكلها عصبيات لا علاقة لها بجوهر الإنسان، إنما هي أعراض طارئة على جوهر الإنسان الكريم، وقال الإسلام كلمته الحاسمة في هذا الأمر الخطير الذي يحدد علاقات الناس بعضهم ببعض تحديدًا أخيرًا. قال: إنه لا لون ولا جنس ولا نسب ولا أرض ولا مصالح ولا منافع هي التي تجمع بين الناس أو تفرق، إنما هي العقيدة.. إن آصرة المجتمع هي العقيدة، لأن العقيدة هي أكرم خصائص الروح الإنساني، فأما إذا نبتت هذه الوشيجة فلا آصرة ولا تجمع ولا كيان. إن الإنسانية يجب أن تتجمع على أكرم خصائصها لا على مثل ما تتجمع عليه البهائم من الكلأ والمرعى أو من الحد والسياج. والأمة هي المجموعة من الناس تربط بينها آصرة العقيدة وهي جنسيتها وإلا فلا أمة لأنه ليست هناك آصرة تجمعها، والأرض والجنس واللغة والنسب والمصالح المادية قريبة. لا تكفي واحدة منها ولا تكفي كلها لتكوين أمة إلا أن تربط بينها رابطة العقيدة"1.

_ 1 هذا الدين: ص83 وما بعدها.

يقول الله تبارك وتعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} 1. ويقول الرسول, صلى الله عليه وسلم: "كلكم بنو آدم، وآدم خلق من تراب ولينتهين قوم يفخرون بآبائهم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان" 2. هذه النصوص الكريمة تبين أن الآصرة التي يتجمع المؤمنون حولها هي آصرة العقيدة، وهي وحدها، خليقة بالاعتبار لأنها تتناسب مع كرامة الإنسان ومع كونه خليفة الله في الأرض. ونظرة سريعة نلقيها على التاريخ الإسلامي كفيلة أن تجعلنا مدركين لمقومات الدولة التي أنشأها رسول الإسلام عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، تلك الدولة التي أقامها رسول الله -عليه الصلاة والسلام- على رابطة العقيدة كانت أقوى دولة وأرحم دولة، لقد ألغى "صلى الله عليه وسلم" كل الفروق التي كانت معروفة في الجاهلية والتي كانت تجمع أبناء العشيرة الواحدة وأبناء القبيلة الواحدة.. قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة فوجد فيها الأوس والخزرج، وكان بينهما خصومات ومنازعات، فآخى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين هاتين القبيلتين بالأخوة الإيمانية، وآخى بين أهل المدينة من جهة وبين المهاجرين الذين تركوا ديارهم وأموالهم وآثروا ما عند الله ورسوله. وهكذا أنشئت أول دولة إسلامية عرفها الوجود كله، فتباهى بها التاريخ فخرًا، أنشئت هذه الدولة إذن على رابطة العقيدة دون الاعتبارات الأخرى، ومن هذا المنطلق قال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "سلمان منا آل البيت". من النصوص القرآنية والنبوية ومن وقائع تاريخنا الإسلامي المشرق يتجلى أن الآصرة الخليقة بالاعتبار في منظار الإسلام هي "العقيدة"، هذه الرابطة جديرة لأن يناط بها إنشاء أمة، وتجمع إنسانية، وإقامة دولة، فهي وحدها قادرة

_ 1 التوبة: 24. 2 رواه البزار في مسنده.

على أن تؤلف بين قلوب البشر على اختلاف ديارهم وأجناسهم ولغاتهم واقتصادهم.. وهي وحدها قادرة على أن تجمع العالمين في دائرة واحدة، وأن تمدهم بقيم واحدة وأن تظلهم بأنظمة واحدة، وبشريعة واحدة، ومن هذا كله تنبع مشاعرهم وتتحد آمالهم وغاياتهم واتجاهاتهم.. قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} 1. هذه الدعوة العالمية الإنسانية اتجهت من رب العباد إلى الناس كافة ليتجمعوا على الرابطة الإلهية، رابطة الإيمان بوحدانية الله تعالى، رابطة الإسلام، وهذه الرابطة تذكرهم بوحدة الأصل "خلقكم من نفس واحدة" فالتاريخ البشري في نظر الإسلام تاريخ له مكانته وله أصالته وله منزلته العالية وله رفعته وله جلاله إنه يتناسب مع كرامة الإنسان ومع وظيفته في هذه الأرض.. وليس ماضيًا يغض المرء طرفه حياء منه، أو خجلًا من لوثة أصله، إنه تاريخ إنساني له أصالته الإنسانية، ومن ثم فليس لأحد أن يفخر على أحد أو أن يستعلي على أحد إذ إن الأب واحد والأسرة واحدة، فلم يبق إذن للجنس مكان كي يستعلي الإنسان بسببه على غيره، ولا وجود في هذا الميزان الدقيق الحساس لأسطورة شعب الله المختار أو لأسطورة العرق الآري. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} 2. وقال الرسول, صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية" 3. فليست دعوة التعصب للجنس أو للون، أو التعصب لطائفة اجتماعية دعوة معتبرة أو معترف بها في المجتمع الراقي المتقدم في ركب الحضارة وليس لها مكان أبدًا في مجتمع تقوم دعائمه على أسس المودة والرحمة والتعاون والمشاركة والإيثار..

_ 1 النساء: 1-2. 2 سورة الحجرات: 13. 3 رواه أبو داود.

قد تصلح دعوة التعصب لجنس أو لون أو قوم في مجتمعات بدائية ليس لها رصيد خلقي ولا قاموس أدبي، وقد تصلح لتجمع بشري لم يستهد بهدي الله العلي العظيم، ولم يستضئ بتعاليم الدين، ولم يستنر بنوره الذي يبدد كل جهالة وكل ظلام.. كالمجتمع العربي قبل الإسلام. فقد كان اعتزاز العرب بأنسابهم اعتزازًا قويًّا جارفًا يجعلهم في تصورهم الخاطئ في مقدمة الركب الإنساني أو في منزلة أرفع من منزلة الإنسان، وكانت قريش -على الخصوص- تأخذها العزة القبلية دائمًا، فإذا حجَّت مؤدية عبادة لله تعالى لم تقف في عرفات حيث يقف الناس، ولم تفض من حيث أفاضوا استعلاء واستكبارًا بغير حق. فجاء الإسلام ليمنح الإنسانية عقيدة التوحيد، ويهبها رسالة السعادة والحب والمودة والألفة والمساواة، فقال سبحانه وتعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 1, ونلحظ اليوم ثمة مجتمعات تنادي للتكتل حول الجنس أو العرق أو القبيلة، ويرافق هذه التكتلات آلاف من الأصوات تئن تحت وطأة الظلم، وصيحات من الألم -تكتم أنفاسها- بسبب اختلاف اللون أو الجنس.. وكلنا يعلم ما الذي يعانيه الزنوج الحمر والسود في أمريكا بسبب اختلاف الجنس واللون، هذه الدولة التي تعتبر نفسها في مقدمة الركب العالمي حضارة ومدنية وتقدمًا، بل تظن أن محور العالم في قبضتها وطوع أمرها تحركه كيفما شاءت، ولنا أن نتساءل: أليس للأخلاق اعتبار في التقدم الحضاري؟ أو ليس للقيم منزلتها اللائقة في الثقافة الأمريكية؟ ولا يزال الملونون في إفريقيا يعانون ما يعانون ويكابدون ما يكابدون من ظلم وتعسف وحرمان.. كل هذا بسبب اختلاف الألوان والأجناس.. هذا الأمر الذي ليس لهم فيه يد ولا قوة ولا حول، ولكنه الظلم المتأصل في النفس التي لم يهذبها التوحيد ولم يحالفها السعد فتصبغ صبغة إيمانية كاملة. وأين موقع هذه المجتمعات التي تعتبر نفسها متقدمة مدنية من المجتمع الذي أقام دعائمه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "أيها الناس! إن ربكم واحد وإن أباكم واحد كلكم لآدم، وآدم من تراب، وليس لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أبيض ولا لأبيض على أحمر فضل إلا بالتقوى. ألا هل

_ 1 سورة البقرة: 199.

بلغت؟ اللهم فاشهد، ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب." وقد سمع مرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبا ذر الغفاري يحتد على بلال وهو يحاوره ويقول له: يابن السوداء، فظهرت آثار الغضب الشديد على وجه الرسول، واتجه بالخطاب إلى أبي ذر وانتهره قائلًا: "إنك امرؤ فيك جاهلية، كلكم بنو آدم طف الصاع 1 , ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضل إلا بالتقوى أو عمل صالح" فوضع أبو ذر خده على الأرض وأقسم على بلال أن يطأه بحذائه حتى يغفر الله له زلته هذه، ويكفر عنه ما بدر منه من خلق الجاهلية2. يذكر الدكتور مصطفى السباعي -رحمه الله- أنه لما توغل المسلمون في مصر فاتحين حتى وقفوا أمام حصن نابليون، رغب المقوقس في المفاوضة مع المسلمين، فأرسل إليهم وفدًا ليعلم ما يريدون، ثم طلب منهم أن يرسلوا إليه وفدًا، فأرسل إليه عمرو بن العاص عشرة نفر فيهم "عبادة بن الصامت" وكان عبادة أسود شديد السواد طويلًا، وأمره عمرو أن يكون هو الذي يتولى الكلام، فلما وصلوا إلى المقوقس تقدمهم عبادة بن الصامت، فهابه المقوقس لسواده، وقال لهم: نحوا عني هذا الأسود وقدموا غيره يكلمني، فقال رجال الوفد جميعًا: إن هذا الأسود أفضلنا رأيًا وعلمًا وهو خيرنا والمقدم علينا وإنما نرجع جميعًا إلى قوله ورأيه وقد أمره الأمير دوننا بما أمره. وأمرنا ألا نخالف رأيه وقوله، فقال لهم: وكيف رضيتم أن يكون هذا الأسود أفضلكم وإنما ينبغي أن يكون هو دونكم، فقالوا: كلا إنه وإن كان أسود كما ترى فإنه من أفضلنا موضعًا وأفضلنا سابقة وعقلًا ورأيًا، وليس ينكر السواد فينا، فقال المقوقس لعبادة: تقدم يا أسود وكلمني برفق فإني أهاب سوادك، وإن اشتد كلامك علي ازددت لك هيبة. فقال عبادة، حين رأى فزع المقوقس من السواد: إن في جيشنا ألف أسود هم أشد سوادًا مني3. وهكذا حين كان الناس يرون السواد منقصة، ويرون الأسود غير أهل لأن

_ 1 طف الشيء يطف طفا وأطف، واستطف دنا وتهيأ وأمكن وأشرف وبدا ليؤخذ وطف المكوك والإناء ما ملأ أصباره، والتطفيف أن يؤخذ أعلاه ولا يتم كيله "لسان العرب". 2 حقوق الإنسان د. علي عبد الواحد وافي ص10. 3 من روائع حضارتنا ص64.

يتولى مراتب البيض، كانت حضارتنا الإسلامية تلقي جميع أنواع التفاضل التي تعود إلى اللون أو اختلاف الدم.. "ولم يعرف في التاريخ الإسلامي أن مجتمعًا إسلاميًّا كان يقيم مجتمعات مغلقة على البيض لا يسكنها السود، كما أنه لم يسجل حادثة واحدة اضطهد فيها إنسان لونه، لأن البياض والسواد في حضارتنا ليس إلا بياض الأعمال أو سوادها. ومع أن الحضارة الحديثة تعد من أشهر الحضارات التي عرفت بأنها قامت على مبادئ الإخاء والمساواة بين الناس، ومع أن هيئة الأمم المتحدة أعلنت ميثاق حقوق الإنسان الذي يمنع نظريًّا جميع أنواع التمايز ويعطي الناس جميعًا حقوقًا واحدة، إلا أن العالم لا يزال يطبق التمييز العنصري بسبب اللون في أبشع صوره وأشكاله"1. "ففي أمريكا بلد الحرية والعلم -كما يقال- الذي يضع الإنسان على القمر، لا تزال تجري مأساة من أكبر مآسي التاريخ الإنساني وهي مأساة اضطهاد الزنوج، وعدم الاعتراف للعناصر الملونة بالمرتبة الإنسانية التي يتمتع بها الأبيض، ومع أن الزنوج يعتبرون مواطنين في هذه الدولة التي تحمل أعلام الحضارة الحديثة المعاصرة إلا أنهم لا يستطيعون أن يمارسوا عمليًّا حقوق المواطن كما يمارسها المواطن الأبيض، وفي ذلك يقول أحد رجال السياسة من البيض هناك: "ليس لأي رجل ملون يغمر قلبه الرغبة في المساواة السياسية عمل ما في ولايات الجنوب، إن هذه البلاد ملك للرجل الأبيض ويجب أن تظل كذلك"2. وعلى هذا فالإسلام أوجد الأمة التي يربط بين أفرادها رباط العقيدة، ومن هذه العقيدة تتولد الآمال المشتركة، واللغة الموحدة، والتاريخ الزاهر الذي يشع حياة وحركة وتفاعلًا.. وتنمو في الأمة المصالح المشتركة والعلاقات الاجتماعية القوية.

_ 1 المصدر السابق: ص65. 2 من روائع حضارتنا للدكتور السباعي: ص68.

ولهذا فإن -الأتراك المسلمين- يعتزون بالتاريخ الإسلامي، ويعتبرونه جزءًا من كيانهم، وكذلك الحال مع الأكراد، ومع الإيرانيين، ومع العرب الذين يفخرون بتاريخهم الإسلامي دون أن يعتزوا بأبي جهل أو بأبي لهب، وكذلك الشأن مع المصريين الذين يعتزون بالتاريخ الإسلامي لا بالتاريخ الفرعوني.. وما قيل في هؤلاء يقال في كافة الأجناس التي انتظمها الإسلام بعقد منضد موحد لا نرى بين حياته تمايزًا ولا اختلافًا، ولا تباينًا.. كتب شاه ولي الله عالم دلهي المتوفى سنة "1765م" يقول: "نحن غرباء في هذه البلاد -أي الهند- فلقد جاء أجدادنا منذ القديم ليعيشوا هنا، فالنسب العربي واللغة العربية هما موضع اعتزازنا وافتخارنا وبهما كان طريقنا إلى معرفة الله رب الأولين والآخرين، ولمعرفة محمد -صلى الله عليه وسلم- أشرف الأنبياء والرسل، وعلينا أن نشكر الله على سابغ رحمته علينا، وذلك بالتمسك قدر استطاعتنا بعادات وتقاليد أجدادنا العرب فقد جاء من بينهم نبينا الكريم، وإليهم توجه أول ما توجه في دعوته"1. ذلك لأن الإسلام، وهو بدء ميلاد الإنسانية، حمل إلى البشر، ولأول مرة في التاريخ "الأخوة الإيمانية" ووحدة الجنس الإنساني ووحدة الفكر ووحدة العقيدة، بديلًا عن الوثنية والشرك في الفكر والقلب، فهو الدين الوحيد الذي حرر الإنسان من فساد الجماعة، والجماعة من طغيان الفرد، وحرر النفس البشرية ذاتها من عبادة غير الله، ومن الخوف والرهبة لغير الله، وحرر العقل من التحجر والجمود والخمول، ودفعه دفعًا قويًّا إلى الكون المفتوح، لينظر ويتأمل، ويفكر ويرى وليمحص ويختبر ويعيد النتائج إلى أسبابها، ويربط بين الحركة ودوافعها، فجعل العلاقة بين الإنسان والكون علاقة تسخير واستخدام واستعمال، لا علاقة هيبة وخوف، وتصور لأوهام خرافية أو أساطير غير حقيقية.. فللإسلام وحده يعود الفضل في دفع الفكر البشري للبحث والتجربة والعلم والبرهان والدليل والحجة، وهذا ما أدى إلى إنشاء العلوم التجريبية التي تدين إليها المدنية الحديثة، والحضارة المعاصرة.

_ 1 الغرب والشرق الأوسط تأليف برنارد لويس تعريب نبيل صبحي، نقلًا عن كتاب معالم الثقافة الإسلامية للدكتور عبد الكريم عثمان: ص145 الطبعة الثالثة.

وكلنا يعلم أن الحضارات قبل الإسلام كانت قائمة إما على الوثنية الفارسية وإما على المادية اليونانية، وكل ما أثر عن علماء اليونان والفرس كان عبارة عن محاولات بشرية لتبرير رغبات الإنسان ومطامعه وأهوائه لذلك كانت غارقة في الخيال، بعيدة عن الواقع متعسفة بحق الإنسان وبحق الجماعة، إلى أن جاء الإسلام، فأهدى للبشرية الإيمان والعلم والمعرفة القائمة على التجربة والملاحظة، وقذف في قلب الإنسان التوحيد وحب التحرر من كل سلطة إلا سلطان الخالق, وحب معرفة الحق، والجهر به، ونتج عن هذا كله ما نراه اليوم من نهضة علمية، وتمحيص فكري وتحرر نفسي..ومن هنا، فإن العلماء الذين شادوا الحضارة الإنسانية ودونوا العلوم والمعارف، وتوصلوا إلى النظريات الرياضية والفيزيائية والكيميائية، وإلى العلاجات الطبية، ووصف الأعراض المرضية، ليسوا فُرْسًا، وليسوا عربًا، وليسوا أتراكًا.. وإنما هم المسلمون، لأن الإسلام -وحده- هو الذي حرر الفكر البشري والنفس الإنسانية من الأوهام والأساطير ومن القيود والأغلال، وأعاد تكوينها تكوينًا جديدًا منفعلًا مع التوحيد متجاوبًا مع الإيمان.. فأنتجوا ما أنتجوا من محيط القرآن والإسلام وليس من محيط بلادهم أو تراثهم.. "ذلك أن الإسلام إنما أعاد صياغة عقليات وقلوب ونفوس أربابه وأصحابه خلقًا جديدًا، فشكلهم على نمط جديد هو روح الإسلام، ومن قلب هذا الروح كان إنتاجهم، ومن هنا، فإن هذا التكوين النفسي والعقلي هو بمثابة الجنس والأخوة الإسلاميين"1. وعلى هذا فإن الفتوحات الإسلامية والمواقف الحاسمة والبطولات الخالدة، والمعاملة المثلى، والسماحة الكريمة والعدالة الاجتماعية، لم تكن لأيد عربية ولا فارسية ولا تركية ولا مصرية، وإنما كانت لأيد إسلامية فقط، ذلك لأن الإسلام دين عبادة وجهاد، عقيدة ومنهج حياة، نظام وقانون، مسجد وسيف، دولة وقوة، وهو بهذا صاغ النفس الإنسانية صياغة جديدة، فجعلها موحدة لله معتزة بدينها ساعية لنشر مبادئ الإسلام في أدنى الأرض وأعلاها، في مغربها ومشرقها: "لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حمر النعم" 2.

_ 1 في سبيل إعادة كتابة تاريخ الإسلام للأستاذ أنور الجندي: ص10. 2 حديث شريف انظر الجامع الصغير.

وللغة العربية لغة الإسلام هي اللغة المحببة إلى قلوب المسلمين جميعًا -عربيهم وأعجميهم- لأنها لغة العقيدة والتوحيد، بها نزل القرآن الكريم وبها خاطب الوحي محمدًا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبها نودي الإنسان، بإنسانيته {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ} {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} {يَا بَنِي آدَمَ} ليذكره بأصله الكريم السوي، وبها تحدث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهي لغة الأذان والإقامة والصلاة والنسك وسائر الشعائر الإسلامية، وهي التي تربط بين قلوب المسلمين، فبظلها يجتمعون، وبها يتعارفون ويتوحدون، وأكرم بها من لغة. وما كان الإمامان البخاري ومسلم -نضر الله وجهيهما- شيخي أهل السنة والجماعة إلا لأنهما جَمَعا ما صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من قول وفعل وتقرير، وإلا لأنهما حفظا للغة العربية هذا الأصل البلاغي العظيم، وللشريعة هذا النبع الصافي الزلال. يقول الشيخ رشيد رضا, رحمه الله تعالى: " ... فاللغة العربية ليست خاصة بجيل العرب سلائل يعرب بن قحطان، بل هي لغة المسلمين كافة، وما خدم الإسلام أحد من غير العرب إلا بقدر حظهم من لغته، ولم يكن أحد من العرب في النسب يفرق بين سيبويه الفارسي النسب وأستاذه الخليل العربي في فضلهما واجتهادهما في اللغة، ولا بين البخاري الفارسي وأستاذه أحمد بن حنبل العربي في خدمة السنة ولا نعرف أحدًا من علماء الأعاجم له حظ في خدمة الإسلام وهو يجهل لغته، ولولا أن ظل علماء الدين في جميع الشعوب الإسلامية مجمعين على التعبد بقراءة القرآن المعجز للبشر بأسلوبه العربي. وأذكار الصلاة، وغيرها بالعربية، ومدارسة التفسير والحديث بالعربية لضاع الإسلام منها"1. ويقول أيضًا: "إن اللغة رابطة من روابط الجنس، وقد حرم الإسلام التعصب للجنس، لأنه مفرق للأمة، ذاهب بالاعتصام والوحدة، واضع للعداوة موضع الألفة، وقد كان من إصلاح الإسلام الديني والاجتماعي توحيد اللغة بجعل لغة هذا الدين العام، لغة لجميع الأجناس التي تهتدي به، فهو قد حفظ بها، وهي قد حفظت به، فلولاه لتغيرت كما تغير غيرها من اللغات، وكما كان يعروها التغير من قبله، ولولاها لتباعدت الأفهام في فهمه، ولصار أديانًا يكفر أهلها

_ 1 نقلًا عن كتاب الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر: 1/ 61.

بعضهم بعضًا ولا يجدون أصلًا جامعًا يتحاكمون إليه إذا رجعوا إلى الحق وتركوا الهوى"1. وعلى هذا، فكلما قوي تمسك المسلمين بعقيدتهم، وازداد شعورهم بالولاء لأمتهم، واشتد اعتزازهم بلغتهم التي هي جزء من عقيدتهم، ورفعوا راية التوحيد عاليًا، ودعوا بدعوة القرآن والسنة، وازداد ترابطهم الاجتماعي وقويت صلتهم بماضيهم المجيد وتاريخهم الكريم وتراثهم الجميل، كلما هابهم العدو وحسب لهم ألف حساب وتبددت مطامعه فيهم، وخنست رغبته في تشتيت شملهم، أو امتلاك أراضيهم أو استغلال خيراتهم، أو التغلب عليهم، وراح يطلب ودهم ولينهم، مظهرًا صداقته لهم واحترامه لوحدتهم وقوتهم. وعلى العكس من ذلك كلما ضعف أثر العقيدة الإسلامية في النفوس وقل حماسهم للدعوة الإسلامية، وتخلوا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وركنوا إلى الحياة الدنيا وزينتها.. قلت الحصانة التي تكونت لدى المسلمين ضد هذه الانحرافات.. ووقعت بينهم فتنة تشتت الشمل بدعوى القومية أو العلمانية.. أو الشرقية أو الغربية.. وبذلك يساعدون العدو على استلاب ممتلكاتهم، واستغلال خيراتهم.

_ 1 الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر: 2/ 60 وما بعدها.

كيف دخلت القومية إلى البلاد الإسلامية

كيف دخلت القومية إلى البلاد الإسلامية: من البدهيات التي لا تحتاج إلى استدلال مسألة عالمية الإسلام وإنسانيته، ذلك لأنه هو الدين الذي جاء ليحرر البشرية من الانحرافات والضلالات والوثنيات المنتشرة سابقًا، وليدفعها إلى المستوى اللائق بالعقليات الإنسانية البناءة المتحضرة، ولم يكن الإسلام في يوم ما خاصًّا بقبيلة أو جنس أو عصبية، وإنما هو دعوة عامة إنسانية، وهو لهذه الميزة التي ينفرد بها يكره دعوة التعصب للجنس أو للون أو للقبيلة، لأنها -في حقيقة الأمر- دعوات تفتت من كيان الأمة، وتبدد قواها، وتبعثر طاقاتها، وتقف حائلًا دون كل تقدم ونمو حضاري وثًّاب، ووجود فئة في البلاد الإسلامية تدعو للتجمع القومي أو العصبي وجود طارئ غير أصيل،

ومدفوع غير واع، ومغرض غير نزيه، وإن دعوة التعصب للجنسية دعوة غريبة عن المبادئ الإسلامية وعن البلاد الإسلامية، ووافدة إليها من البلاد الأوربية. لقد نشأت دعوة التعصب للجنس أول ما نشأت في بلاد أوربا في القرن التاسع عشر، واشتد دبيبها، وبلغ أثرها إلى كل الأمزجة حتى أصبحت عاملًا قويًّا من عوامل التغيير والانقلاب في القارة الأوربية، ولم يقتصر أثرها على موطن نشوئها وإنما انتشر وامتد إلى كل أنحاء المعمورة حتى غدا أكبر عامل في تطور الأمة ومصيرها1. ويحدثنا التاريخ أن فكرة القومية قد دخلت إلى البلاد الإسلامية عن طريق جماعة الاتحاد والترقي وجمعية تركيا الفتاة، وكانا حزبين يتعاونان مع اليهود، ويعملان على تنفيذ خططهم الماكرة الحاقدة، وقد تأكد لدى المسلمين أن قادة الاتحاد والترقي جميعًا من اليهود من غير استثناء، وإن أعضاء هذا الحزب كلهم من يهود سالونيك، وعلى هذا فإن اليهود هم الذين سعوا جادين لإثارة النزعة الطورانية، والدعوة لها بشتى الوسائل والعمل على إحياء التاريخ الجاهلي المفضل عن التاريخ الإسلامي والأدب القومي والتراث الطوراني. جاء في منشور لإحدى الجمعيات التركية الطورانية: "إن هذه البدعة الخيالية المخيفة التي يسمونها الأمة الإسلامية التي ظلت إلى أمد طويل سدًّا يحول دون التقدم بوجه عام ودون تحقيق الوحدة الطورانية بوجه خاص هي في طريقها الآن إلى التفكك والزوال"2. وقد أتمت المؤامرة اليهودية عملها في إثارة النزعة الطورانية، والدعوة إلى تبني سياسة التتريك، ودمج العناصر الحكومية في القومية التركية وفرض اللغة التركية عليها، وإبعاد اللغة العربية عن المجالات الرسمية.. وكانت الدولة العثمانية تجمع قوميات متعددة مؤتلفة معها بسبب عقيدة التوحيد، فإذا أبعد الدين الإسلامي وظهرت النزعة التركية العلمانية، وأبعدت لغة القرآن الكريم عن المكاتبات الحكومية، لم يبق رباط جامع يربط بين تلك القوميات المتعددة وبين

_ 1 حاضر العالم الإسلامي: ص213. 2 معالم الثقافة الإسلامية: ص142.

القومية التركية. لأن العقيدة وحدها هي التي توحد بين صفوف المسلمين، فإذا فقدت العقيدة زالت معالم التجمع الإسلامي. ومن ثم سرت عدوى القوميات إلى كل الأجناس الخاضعة للحكم العثماني، وطالبت بالانفصال عن الأم إذ لم تخضع لها إلا من أجل العقيدة والشريعة التي يدين بها كل مسلم، وقد أبعدت عنها الإسلام فلم يبق ما يدعو للاستمرار في الخضوع لحكم علماني غير إسلامي، أو للانصهار في بوتقة الدين. وعلى هذا دعت كل جماعة لإحياء قوميتها، إذ كل فئة لا تريد أن تذوب في جنسية غيرها، لأن الجنسية خاصة وليست عامة. وهذا هو الفرق الجوهري بين القومية والإسلام. وعلى أثر ذلك نادى الأكراد بقوميتهم ونادى العرب بقوميتهم، ولا يخفى على أحد التعاون الصليبي اليهودي، في إثارة هذه الفتن، وفي تفتيت الأمة الإسلامية، وفي التخطيط للاستيلاء على أملاك "الإمبراطورية العثمانية". يقول الدكتور عبد الكريم عثمان: "وقد شجع على ظهور القومية العربية في صورتها العلمانية عدد من الدول التي كانت تطمع في احتلال الشرق الإسلامي وعلى رأسها بريطانيا، وفي مذكرات آغاخان فصل عن ضباط بريطانيا السياسيين الذين شجعوا الحركة القومية العربية للوقوف أمام فكرة الدولة الإسلامية. أما "لورنس" منفذ سياسة بريطانيا آنذاك فيقول مصورًا ذلك الهدف في كتابه "أعمدة الحكمة": "وأخذت طول الطريق أفكر في سوريا وفي الحج، وأتساءل هل تغلب القومية ذات يوم على النزعة الدينية، وهل يغلب الاعتقاد الوطني الاعتقاد الديني، وبمعنى أوضح هل تحل المثل العليا السياسية محل الوحي والإلهام وتستبدل سوريا مثلها الأعلى الديني بمثلها الأعلى الوطني، هذا ما كان يجول في خاطري طوال الطريق". ومعلوم أن الثورة على الأتراك قامت بتأييد بريطانيا ودعمها الأدبي والمادي ودعم حليفتها فرنسا، وقد ثبت أن عددًا من الزعماء كانوا متصلين بالقنصليات الأجنبية لتلقي هذا الدعم"1.

_ 1 معالم الثقافة الإسلامية: ص144.

وليس للمسلمين بعد هذا كله من عذر يعتذرون به لتمهيد الطريق أمام دعوة القومية أو إثارة هذه النزعة التي من شأنها تفتيت كيان الأمة وتمزيق وحدتها وجعلها دويلات ضعيفة يسهل للعدو التآمر عليها وغزوها في عقر دارها وتملك ينابيع ثروتها وتشتيت أبنائها، كما فعل في فلسطين وكما يفعل بالأفغان اليوم والله المستعان وعليه التكلان.

الفصل الرابع: الجوانب العملية في الثقافة الإسلامية

الفصل الرابع: الجوانب العملية في الثقافة الإسلامية توطئة ... توطئة إن الثقافة الإسلامية ليست قضايا نظرية، ولا تجريدية فقط، وإنما هي نمط من التصور والسلوك معًا. وإذا ظل الفكر حبيس العقل والوجدان، غير مترجم في صياغته للحياة، أو في بعض المواقف التي تعكس ملامحه، وتثبت وجوده، وتميزه ... إذا ظل الفكر حبيسًا على هذا النحو، فإنه يفقد فعاليته وتأثيره، ويصبح أقرب إلى الخيال الشعري، أو إلى الأفكار "الطوبارية" التي بنت مدنًا فاضلة على أرض الأحلام والأوهام. من هنا، فإن الثقافة الإسلامية لا بد أن يجسدها المسلم في "برنامج" خاص لحياته، كما لا بد أن تكون ثمة "مواقف" اجتماعية واقتصادية وإنشائية، تعكس حقائق الثقافة الإسلامية، وتظهر آثارها القريبة والبعيدة، والجزئية والكلية. وقد رأينا -في بحثنا هذا- أن نكتفي بتقديم موقف الثقافة الإسلامية من قضيتين مصيريتين بالنسبة للأمة الإسلامية، وهما في الوقت نفسه موقفان عمليان، يمثلان بداية وانطلاقة أساسية لنهضة الأمة الإسلامية ورقيها واستجابتها الممتازة للتحديات الخارجية -لو نجحت فيهما- إنهما قضيتا "الجهاد" و"التضامن الإسلامي".

المبحث الأول: الجهاد فريضة مستمرة

المبحث الأول: الجهاد فريضة مستمرة مدخل ... الجهاد في الإسلام قبل أن أفصل القول في موضوع الجهاد في الإسلام أود أن أتكلم عن الحرب بصورة عامة.. منذ أن وجدت البشرية على سطح الكرة الأرضية، وهناك صراع بين الحق والباطل، بين قوى الخير وقوى الشر، ولعل هذا ما يشير إليه قول الله تبارك وتعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ, لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ, إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ, فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ, فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} 1. ويذكر لنا القرآن الكريم موقف موسى عليه السلام من بني إسرائيل وقد طلب منهم أن يدخلوا الأرض المقدسة، ويقاتلوا القوم الجبارين، فجبنوا وتقاعسوا وتخاذلوا، وهذا هو شأنهم دائمًا، النكث بالعهود، وعدم الاستجابة للأوامر، وظهورهم على حقيقتهم الجبانة إذا داهمهم خطر محقق، قال الله تعالى: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ, قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ, قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ

_ 1 الآيات "27-31" من سورة المائدة.

أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ, قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} 1. وقال سبحانه مبينًا دفع الناس بعضهم ببعض: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} 2. ويمكن إرجاع الحرب التي تحدث بين الشعوب والأمم إلى أسباب ذكرها ابن خلدون في مقدمته3. 1- المنافسة التي تحدث بين القبائل المتجاورة عادة، ولعل الحروب الطاحنة التي دارت رحاها بين القبائل العربية قبل الإسلام تؤيد هذا السبب، وتبرز صحته، وأذكر على سبيل المثال من تلك الحروب، حرب داحس والغبراء، وحرب البسوس. 2- العدوان الذي ينشأ بين الأمم المتأخرة في مضمار الثقافة والحضارة، وكثيرًا ما تستهدف تلك الأمم استغلال الشعوب المستضعفة وبسط سلطانها عليها. لتسخيرها لأغراضها العدوانية وللاستفادة من منافع بلادها بغير حق. 3- الغضب لله ولدينه وهو الجهاد المشروع في الإسلام، ومن أنواعه الدفاع عن كلمة التوحيد، والسعي لعبادة الله في الأرض وإقامة شعائر الدين. 4- غضب للسلطان وهي الحرب التي يخوضها صاحب السلطان ضد المتمردين على حكمه الخارجين على سلطانه4. أما الجهاد في الإسلام فهو جهاد إنساني، لم يشهد المؤرخون أنبل من أغراضه ولا أسمى من أهدافه ولا أرفع من مقاصده، فهو يجنح للسلم إن طلب

_ 1 من سورة المائدة "20-24". 2 سورة الحج الآية "40". 3 المقدمة 1/ 226 ط الأعلمي بيروت عام 1971. 4 مقدمة ابن خلدون 1/ 226.

العدو، وهو رحيم رفيق لا يعتدي ولا يأخذ على حين غرة، ولا يقتل شيخًا مسنًا ولا امرأة ولا طفلًا ولا آمنًا غير باغ ولا آثم. وشريعة الإسلام في الجهاد شريعة عادلة غير معتدية كغيرها من الشرائع الإسلامية التي جاءت لتحمي لا لتبدد ولتعدل لا لتبغي ولتوحد لا لتفرق ولتنشر السلام والأمن لا لترهب الضعيف الآمن. لقد ظل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مكة المكرمة ثلاث عشرة سنة، يدعو إلى عقيدة التوحيد بالحسنى، ويصبر على أذى المؤذين، واعتداء المعتدين، ولم تمتد يده الشريفة لرد الأذى، أو لدفع العدوان بعدوان مثله، وإنما -صلى الله عليه وسلم- صبر وصابر وحث المسلمين على الثبات والتحمل والدفع بالحسنى، ورد الإيذاء بالقول الحكيم حتى ضاقت نفوس الصحابة رضوان الله عليهم مما عانوا، ومما لاقوا من عنت المشركين ومن مضايقة الضالين ومن اعتداء المعتدين، فما كان منهم إلا أن تركوا الديار والأهل والأوطان، تركوا ملاعب الصبا، ومرتع الشباب، تركوا الأحبة والأصحاب وهان عليهم المال والممتلكات، فهاجروا من مكة إلى الحبشة مرتين فرارًا بدينهم وإيثارًا لما عند الله من ثواب وأجر. قال الله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} 1, وقال: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} 2, وقال جل من قائل: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} 3, وقال: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} 4. ونزلت الآيات تترى في تثبيت جنان الرسول -صلى الله عليه وسلم- وفي الصبر على تحمل واجبات الدعوة، وفي احتمال الأذى، قال سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} 5. وقد كانت الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة تنفذ من وراء الحجب، وتدخل إلى النفوس والقلوب، فتلين لها القلوب وتخضع لها النفوس وتهذب بها الأخلاق وتسمو بها

_ 1 سورة الأعراف/ 199. 2 سورة فصلت/ 34. 3 سورة الفرقان/ 63. 4 سورة الأحقاف/ 35. 5 الآية "125" من سورة النحل.

الأرواح، وتطمئن لها الضمائر وتنشط الأجسام، وتستنير العقول. وكان كل من يعرف الإسلام ويقتنع بهذه الدعوة المثلى يذهب إلى قومه ويبشرهم بجنة عرضها السماوات والأرض إن هم نطقوا بالشهادتين إيمانًا واحتسابًا، وإن هم اطمأنوا بالتوحيد وإن صدقت قلوبهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما يدعو. ودخل الناس في دين الله أفواجًا.. ولكن الشر وأعوانه والشرك وأتباعه والباطل وأهله ساءهم ظهور الحق، وسائهم أن يروا الناس مؤمنين موحدين، فأوقعوا الأذى المادي والمعنوي والعذاب بكل أصنافه وبشتى مراتبه بالنفوس الأبية الموحدة، وانتفش الضلال، وازداد المكر وظن الكفر أن الصولة والجولة له فتعمق في غوايته وتفنن في مفاسده، وكانت حربًا نكراء على المسلمين المؤمنين إذ إن وجود الإسلام والمسلمين المتمسكين به يرعب الكافرين ويخيف أعداء الدين. والله مع الذين آمنوا والذين هم محسنون، واتجهت إرادة الله سبحانه لابتلاء المؤمنين ولتمحيصهم، ولإظهار حقيقة تمسكهم بالحق وثباتهم عليه وتفانيهم في سبيله.. ففرض الجهاد بعد الهجرة إلى المدينة المنورة..

تعريف الجهاد

تعريف الجهاد: عرف العلماء الجهاد لغة بأنه المشقة، فيقال: جهدت جهادًا أي بلغت المشقة. وجاهد العدو مجاهدة وجهادًا: قاتله، وجاهد في سبيل الله, وفي الحديث: "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية"، والجهاد محاربة الأعداء وهو المبالغة واستفراغ ما في الوسع والطاقة من قول أو فعل، والمراد بالنية إخلاص العمل لله أي إنه لم يبق بعد فتح مكة هجرة لأنها قد صارت دار إسلام وإنما هو الإخلاص في الجهاد وقتال الكفار. والجهاد: المبالغة واستفراغ الوسع في الحرب أو اللسان أو ما أطاق من شيء. وفي حديث الحسن: لا يجهد الرجل ماله ثم يقعد يسأل الناس، قال النضر: قوله لا يجهد ماله، أي يعطيه ويفرقه جميعه ههنا وههنا وهذا في قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} 1. وشرعًا هو بذل الجهد في قتال الكفار لأن الكفر بالله يعتبر من أكبر الجرائم

_ 1 سورة البقرة: 219، انظر لسان العرب، فتح الباري: 6/ 3، نيل الأوطار للشوكاني: 7/ 220.

الشنيعة التي يرتكبها مخلوق في حق خالقه لما فيه من عقوق وجحود للفضل والجميل. ويطلق الجهاد في الشرع أيضًا على مجاهدة النفس والشيطان والفساق، وتتحقق مجاهدة النفس بتعلم أمور الدين. لقول الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} 1، ولقوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} 2, ولقول رسول الله: "من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين" 3، ولقوله, صلى الله عليه وسلم: "العلماء هم ورثة الأنبياء" 4, كما يتحقق بأمور الدين بالعمل وتعليمها ونشرها مصداقًا لقول الرسول, صلى الله عليه وسلم: "مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضًا فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا وأصابت منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به" 5, وقال ابن عباس, رضي الله عنهما: كونوا ربانيين حلماء فقهاء. ويقال: الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره. أما مجاهدة الشيطان فإنها تتحقق بدفع ما يأتي به من الشبهات، وما يزينه من الشهوات، إذ إن الشيطان متوعد لآدم وبنيه، بقوله تعالى: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ, ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} 6. وأما مجاهدة الفساق فتتحقق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبإلزامهم على الحق واتباعه، واجتناب المنكر والتبرؤ منه لقول الرسول, صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان" وفي رواية "وليس بعد ذلك من حبة خردل من إيمان".

_ 1 سورة محمد: 18. 2 سورة فاطر: 28. 3 فتح الباري على صحيح البخاري: 1/ 160، 164. 4 سنن أبي داود: 3641 والترمذي 2682. 5 فتح الباري بصحيح البخاري: 1/ 175. 6 سورة الأعراف: 16-17.

وأما مجاهدة الكفار فتقع باليد والمال واللسان والقلب، وتكون مجاهدتهم أكبر وآكد إذا اعتدوا على حرمات المسلمين وأوطانهم ومقدساتهم إلى أن يعود الأمن إلى ديار المسلمين وتعلو كلمة الله دون أن تحد منها فتنة المفتنين وضلالة المضلين. قال الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} 1. يقول الأستاذ سيد قطب مبينًا معنى هذه الآية الكريمة: "إذا كان النص -عند نزوله- يواجه قوة المشركين في شبه الجزيرة، وهي التي تفتن الناس وتمنع أن يكون الدين لله، فإن النص عام الدلالة مستمر التوجيه، والجهاد ماض إلى يوم القيامة، ففي كل يوم تقوم قوة ظالمة تصد الناس عن الدين وتحول بينهم وبين سماع الدعوة إلى الله، والاستجابة لها عند الاقتناع والاحتفاظ بها في أمان, والجماعة المسلمة مكلفة في كل حين أن تحطم هذه القوة الظالمة وتطلق الناس أحرارًا من قهرها يستمعون ويختارون ويهتدون إلى الله"2.

_ 1 سورة البقرة: 193. 2 في ظلال القرآن: 7/ 273.

وللجهاد سبل كثيرة يتحقق بكل واحد منها

وللجهاد سبل كثيرة يتحقق بكل واحد منها معنى من معاني الجهاد أشير إلى أهمها: 1- الجهاد بالنفس: أي أن يذهب المؤمن بنفسه ويقاتل أعداء العقيدة وأعداء الدين. والجهاد بالنفس أعلى مراتب الجهاد وأعظمها قدرًا وأعلاها شأنًا، وهل يملك الإنسان أغلى من روحه فيجود بها في سبيل الله.. قال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "انتدب الله لمن خرج في سبيله -لا يخرجه إلا إيمان وتصديق برسلي- أن أرجعه بما نال من أجر أو غنيمة أو أدخله الجنة، ولولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلف سرية، ولوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل" 1.

_ 1 صحيح البخاري 1/ 92.

2- الجهاد بالمال: فالمسلم القادر يجهز نفسه ويجاهد فيكون قد جمع بين فضيلتين عظيمتين الجهاد بالنفس والجهاد بالمال، وقد يكون غير قادر جسميًّا على القتال، ولكنه قادر ماليًّا فينفق من ماله لمساعدة المجاهدين بالنفس. وفي عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان المجاهد المسلم يجهز نفسه بعدة القتال وبمركب القتال وبزاد القتال، ولم تكن هناك رواتب يتناولها القادة والجند وإنما كان تطوعًا بالنفس وتطوعًا بالمال..وهذا شأن العقيدة حينما تفتقر في القلب وفي المجتمع، إنها لا تحتاج إلى أن ينفق عليها لتحمى من الأعداء وإما يتقدم القادة ويتقدم الجند متطوعين ينفقون هم عليها. وكان كثير من الفقراء المسلمين الراغبين في الجهاد والذود عن منهج الله وراية العقيدة لا يجدون ما يزودون به أنفسهم ولا ما يتجهزون به من عدة ومركب فيلجئون إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يطلبون منه الوسيلة التي تحملهم إلى ميدان المعركة البعيد الذي لا يبلغ على الأقدام، فإذا لم يجدوا ذلك: {تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} 1. 3- المساعدة على الجهاد: وذلك بالإسهام في كل عمل من شأنه التمكين من أسباب النصر: ويتحقق هذا بمضاعفة الجهد في الإنتاج الحربي سواء كان ذلك بالصناعة أو الزراعة أو التجارة، وبالمساهمة في جلب المعدات الحربية أو العمل على إنتاجها وترقية مستواها لتضارع أرقى الأسلحة وأقواها. ويتحقق الجهاد أيضًا بإعداد الجنود إعدادًا دينيًّا تربويًّا وخلقيًّا وعسكريًّا، ومن ثم تدريبهم على أحدث الأسلحة وأجودها حتى يكونوا مسلمين مجاهدين، فالتربية والخلق مطلب ديني حري أن يتحقق، والخلق قبل التدريب على حمل السلاح وقبل التحام الجيشين للقتال لأننا نحن المسلمين نقاتل من أجل عقيدة لها قيمها ولها مبادؤها ولها مثلها، وإذا أردنا أن ننتصر على قوى الشر فعلينا أن نقف

_ 1 سورة التوبة: 92.

على قاعدة صلبة من الإيمان والتقوى والخلق فإننا بهذه المثل نستطيع أن ننتصر، والله سبحانه ينجز وعده للمتقين الذين يحيون بالعقيدة ومن أجلها، أما أولئك الذين يتركون العبادات ويفعلون المنكرات ويرتكبون ما حرم الله ففيم يريدون أن يجاهدوا.. فهؤلاء فاسقون يجب جهادهم أولًا.. وهم في حقيقة الأمر ليسوا جنودًا للإسلام وإنما هم جنود للأهواء والشهوات. إن الجندي المسلم هو الذي يحمل المصحف بيد ويحمل السلاح باليد الثانية، هذا المجاهد حقًّا وهذا الذي وعده الله بإحدى الحسنيين إما النصر وإما الجنة.. ويتحقق الجهاد بالتبرع بالدم كما يتحقق بالتبرع بالمال سواء بسواء ويتحقق أيضًا بحراسة أجهزة الدولة العامة من تخريب العدو، وبالتصدي لدعايات العدو وإشاعات المنافقين والمغرضين ومن ثم كشفها والرد عليها بالكلمة الواضحة. ويتحقق الجهاد بالعمل البناء لإقامة التضامن الإسلامي وتكتيل جهود المسلمين وتوطيد أواصر المحبة بينهم وتوجيه قواهم المادية والمعنوية لمقاومة العدو المتربص بالمسلمين الدوائر. وعلى المؤمنين أن يحفظوا أسرار المجاهدين كي لا تتسرب إلى العدو.. وأن يعملوا على رعاية أسر المقاتلين والشهداء أي نوع من أنواع الحماية والإحسان تصديقًا لقول رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "من جهز غازيًا في سبيل الله فقد غزا، ومن خلف غازيًا في سبيل الله بخير فقد غزا" 1, و"إن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يدخل بيتًا بالمدينة غير بيت أم سليم، إلا على أزواجه" فقيل له في ذلك فقال: " إ ني أرحمها قتل أخوها معي" 2.

_ 1 فتح الباري: 6/ 48 وما بعدها. 2 المصدر السابق.

تاريخ تشريع الجهاد في الإسلام

تاريخ تشريع الجهاد في الإسلام مدخل ... تاريخ تشريع الجهاد في الإسلام: قال ابن كثير في تفسيره: "وإنما شرع الله تعالى الجهاد في الوقت الأليق به، لأن المسلمين كانوا بمكة أقل عددًا، وكان المشركون أكثر عدة وعددًا، فلو أمر المسلمون، وهم أقل من العشر -بقتال الباقين لشق عليهم ذلك..

فلما بغى المشركون وأخرجوا النبي -صلى الله عليه وسلم- من بين أظهرهم وهموا بقتله، وشردوا أصحابه شذر مذر فذهبت منهم طائفة إلى الحبشة وآخرون إلى المدينة، فلما استقروا بالمدينة ووافاهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واجتمعوا عليه وقاموا بنصره وصارت لهم دار إسلام ومعقلًَا يلجئون إليه شرع الله جهاد الأعداء"1. ويرى بعض المفكرين الإسلاميين أن هناك حكمة أخرى من وراء تأخير تشريع الجهاد إلى ما بعد الهجرة وهي أن الإسلام يحرص كل الحرص على تربية نفوس المؤمنين كي يصبحوا أهلًا لتحمل الأمانة وأهلًا للدفاع عن العقيدة فأصل فيهم الفضائل وبذر فيهم بذور الصبر والمصابرة والثبات والمجاهدة، واحتمال المكاره2 وأعدهم إعدادًا جعل منهم نماذج فريدة للشجاعة والثبات والنضج والوعي، يهابهم المشركون ويحتسبون منهم، ويخافون من مواجهتهم رغم قلة عددهم.. والإيمان يفعل الأعاجيب ويورث في النفس البشرية شحنة عادية من الطاقة المتدفقة ورصيدًا هائلًا من القوة الفاعلة الدافعة.. فإذا ما تفجرت منطلقة لا تدع أمامها باطلًا قائمًا ولا شركًا مشرئبًا ولا فسادًا ناهضًا إنها قوة العقيدة والإيمان إذا تأصلت في النفس الإنسانية. حولتها مخلوقًا آخر، مخلوقًا قويًّا شجاعًا لا يهاب في الله أحدًا ولا يأخذه من أجل الله ضعف ولا خور ولا مداهنة ولا ملاينة إذ ليس في العقيدة مجال للمداهنة أو الملاينة، فإما أن يسود الخير والعدل وإما أن تتآخى قوى الخير وتتآزر جموع المؤمنين وتقضي على الباطل من جذوره ومن أصوله.. ولا تترك له مطمعًا في العودة أو منفذًا للصولة والجولة. وقد اتفقت كلمة علماء المسلمين على أن الجهاد إنما شرع بعد الهجرة حيث واصل المشركون عدوانهم على المؤمنين وذلك بتعذيب من بقي منهم بمكة وملاحقة من هاجر إلى المدينة، وبحبك المؤامرات للقضاء على الدعوة في مهدها وحبس الرسول صاحب الدعوة -صلى الله عليه وسلم- وإزاء هذا العدوان المرير المتواصل وأمام تجاوز قريش لحدود العقل والمنطق في إيقاعها الضرر تلو الضرر بالمسلمين المؤمنين البررة الأتقياء أَذِنَ الله تبارك وتعالى لرسوله -صلى الله عليه وسلم- بالقتال ردًّا للعدوان وتثبيتًا لدعائم الدولة الإسلامية.

_ 1 تفسير ابن كثير: 3/ 225. بتصرف يسير، ط. دار إحياء الكتب العربية. 2 الإسلام والحرب ومصادره.

قال الله تبارك وتعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ, الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ, الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} 1. قال "ابن قيم الجوزية" في كتابه "زاد المعاد": "إن الله تبارك وتعالى لم يأذن للمسلمين في القتال بمكة، إذ لم يكن لهم يومذاك شوكة يتمكنون بها من القتال. وإن سياق الآية يدل على أن الإذن كان بعد الهجرة وبعد إخراجهم من ديارهم فإنه سبحانه قال: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} وهؤلاء هم المهاجرون. وإن الله سبحانه أمر المؤمنين بالجهاد الذي يعم الجهاد باليد والسيف والآلة وغير ذلك، ولا ريب أن الأمر بالجهاد المطلق إنما كان بعد الهجرة فأما جهاد الحجة فهو يختلف عن القتال اختلافًا بينًا، والفرق بينهما جلي وظاهر وقد أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بجهاد الحجة في مكة المكرمة بقول الله تبارك وتعالى: {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} 2. فهذه الآية الكريمة مكية، والمراد بالجهاد فيها جهاد التبليغ والبيان وجهاد الحجة والدليل والبرهان"3.

_ 1 سورة الحج: 39-41. 2 سورة الفرقان: 52. 3 زاد المعاد: 2/ 65.

سبب تشريع الجهاد

سبب تشريع الجهاد: قد يظن كثير من الناس أن سبب تشريع الجهاد في الإسلام يرجع إلى اختلاف العقيدة والدين، والشريعة والمنهج مع أصل الديانات الأخرى وهذا الظن باطل وغير صحيح، إذ إن الإسلام هو الدين الوحيد الذي يقبل أن يهادن أهل الديانات الأخرى وأن يعيش معها معايشة سلمية. والإسلام دين حجة وبرهان، وإحقاق للحق، دين اقتناع عقلي وتذوق

وجداني لم يكن ليلزم أحدًا على الدخول فيه إلزامًا، ولم يرغم أحدًا على قبوله؛ فكيف يتهم هذا الاتهام وهو الدين الإلهي الذي جاء ليحرر العقل والوجدان قال الله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} 1. وهذا التاريخ شاهد عدل، وحكم فصل، فلنسأل التاريخ ولنسأل المؤرخين المنصفين: هل نَعِمَ أهل الديانات الأخرى بحرية التعبد وإقامة الشعائر الدينية، وحرية القول والرأي بالقَدْر الذي نعموا به في ظل الإسلام؟ كلا.. لم يعرف التاريخ دينًا عادلًا ومتسامحًا مع الديانات الأخرى كالدين الإسلامي ولم يعرف التاريخ مجتمعًا إنسانيًّا منح أهل الديانات الأخرى من الحقوق الدينية والمدنية ومن الرعاية الكاملة بالقدر الذي منحه الإسلام لهم. ولذلك نقول بكل ثقة وبكل يقين: إن الجهاد في الإسلام إنما شرع لرد العدوان ودفع الشر وللدفاع عن النفس، وهو مبدأ لا يمكن أن يجادل فيه عاقل منصف نزيه مهما كان معتقده.. وقد واصل المشركون كيدهم اللئيم ومكرهم الخبيث وعدوانهم المتزايد على المسلمين أينما حلوا وفوق أي أرض نزلوا، وفي أي البلدان وجدوا، وإلى أي الأقطار اتجهوا يوقعون بهم شتى أنواع الأذى، ومختلف ضروب العذاب ليفتنوهم عن دينهم وليردوهم على أعقابهم وقد هموا بم لم ينالوا، هموا بقتل الرسول -صلى الله عليه وسلم- صاحب الدعوة وحامل الرسالة، لولا أن تدخلت عناية الله وحمته من اليد الآثمة الشريرة {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} 2. وأما تزايد ظلم قريش تطلع المؤمنون بالأمل الوثاب إلى يوم عزيز يأذن الله به بقتال الكافرين، ليجدوا طريقًا مشروعًا وسبيلًا سليمًا يرفعون به ما لحقهم من ضيم وهوان، ويردون به ما نالهم من أذى وعذاب، ويستردون ما غصب منهم من حق ومال وممتلكات.. وعلى هذا فإن الإسلام دين عزة وقوة ومنعة، وليس بدين استسلام واستكانة، ورضا بالهوان وطلب معيشة ذليلة وهو لا يرضى للمسلمين الخنوع

_ 1 سورة البقرة: 256. 2 سورة المائدة: 67.

والجبن وقبول واقع مرير وحياة وضيعة، والفضيلة كل الفضيلة تتجلى في رد الاعتداء ومنع الخضوع للأقوياء المشركين، ولو ترك الأشرار وشأنهم يعيثون فسادًا من غير رادع يردعهم ولا مانع يمنع طغيانهم وبغيهم لعَمَّ الفساد في البر والبحر قال الله تبارك وتعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} 1. ولعل الحكمة من مشروعية الجهاد في الإسلام قد استبانت ويمكن إرجاعها إلى العوامل التالية: 1- الدفاع عن النفس. 2- رد العدوان. 3- تأمين حرية العقيدة وإقامة الشعائر الدينية. قال الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود في كتابه "الجهاد المشروع في الإسلام": "لقد عشنا زمنًا طويلًا ونحن نعتقد ما يعتقده بعض العلماء وأكثر العوام من أن قتال الكفار سببه الكفر، وأن الكفار يقاتلون حتى يسلموا لكننا بعد أن توسعنا في علم الكتاب والسنة والوقوف على سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- تحققنا بأن القتال في الإسلام، إنما شرع دفاعًا عن الدين وعن أذى المعتدين على المؤمنين، وليس هذا بالظن ولكنه اليقين ثم استشهد بقول ابن تيمية "الصحيح أن القتال شرع لأجل الحرب لا لأجل الكفر، وهذا هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة وهو مقتضى الاعتبار، وذلك أنه لو كان الكفر هو الموجب للقتال لم يجز إقرار كافر بالجزية"2.

_ 1 سورة البقرة: 251. 2 الجهاد المشروع في الإسلام: ص7 وما بعدها.

مراحل تشريع الجهاد

مراحل تشريع الجهاد: إن المتتبع لآيات الجهاد وزمن نزولها وأقوال علماء التفسير فيها يرى أن فريضة الجهاد قد مرت بمراحل تشريعية يمكن إجمال الكلام عنها في نقاط أساسية هي:

1- المرحلة الأولى: تتمثل في الرد على عدوان كفار مكة والتصدي لإيذائهم وظلمهم، وهذا ما يفهم من قول الله تبارك وتعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} 1, يؤيد هذا المعنى المستفاد من الآية ما روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: إن أبا بكر قال حين نزلت هذه الآية: "فعرفت أنه سيكون قتال"2. 2- المرحلة الثانية: السماح للمسلمين بقتال من يعتدي عليهم، ولعل هذا المعنى هو الذي يشير إليه قول الله تبارك وتعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} 3, وقوله سبحانه: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} 4. 3- المرحلة الثالثة: الإذن بقتال اليهود وإخراجهم من ديارهم، ذلك لأنهم نقضوا ما كان بينهم وبين المسلمين من عهود ومواثيق وتآزروا مع أعداء الدعوة لقتال المسلمين وقتال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأنزل الله سبحانه قوله الكريم: {الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ, فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ, وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} 5. 4- المرحلة الرابعة: الإذن بقتال قوى الشر متمثلة باليهود والنصارى الذين تكتلوا ووقفوا ضد الدعوة الإسلامية ومنعوا الناس من الدخول في دين الله. وهذا المعنى يفيده قول الله تبارك وتعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} 6. 5- المرحلة الخامسة: الإذن بقتال أعداء الإسلام عامة من مشركين

_ 1 سورة الحج: 39. 2 تفسير ابن كثير: 3/ 224. 3 سورة البقرة: 190. 4 سورة البقرة: 194. 5 سورة الأنفال: 56، 57، 58. 6 سورة التوبة: 29.

ووثنيين وأهل كتاب نظرًا لتكتل هذه الطوائف، ومحاربتها للإسلام والمسلمين. وفي هذه المرحلة أصبح الجهاد عامًّا غير مقيد بزمن ولا بوقت ولا بفئة من الكافرين1. يقول ابن كثير في تفسيره: "ثم أمر الله بقتال الكفار "حتى لا يكون فتنة" أي شرك "ويكون الدين لله" أي يكون دين الله هو الظاهر العالي على سائر الأديان"2. يتبين مما تقدم أن القتال في الإسلام ما هو إلا وسيلة لحماية الدعوة والدعاة من العدوان، وإن أصل العلاقات الدولية في اعتبار الإسلام السلم والسلام. قال ابن تيمية, رحمه الله: "إذا كان أصل القتال المشروع هو الجهاد، ومقصوده هو أن تكون كلمة الدين كله لله وأن تكون كلمة الله هي العليا، فمن منع هذا قوتل باتفاق المسلمين، وأما من لم يكن من أهل الممانعة والمقاتلة كالنساء والصبيان والراهب والشيخ الكبير والأعمى والزمن فلا يقتل عند جمهور العلماء"3. وعلى هذا فمن لم يقاتل المسلمين ولم يمنعهم من إقامة دين الله لا يقاتل لأن مضرة كفره قاصرة على نفسه4. يؤكد هذا القول تفسير ابن كثير لقوله تعالى: {فَإِنِ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ} حيث يقول: "فإن انتهوا عما هم فيه من الشك وقتال المؤمنين فكفوا عنهم، فإن من قاتلهم بعد ذلك فهو ظالم ولا عدوان إلا على الظالمين، وهذا معنى قول مجاهد: لا يقاتل إلا من قاتل"5.

_ 1 الإسلام والحرب: ص25. 2 تفسير القرآن العظيم لابن كثير: 1/ 227. 3 السياسة الشرعية: ص123 ط، دار الكتاب العربي بالقاهرة. 4 الإسلام والحرب: ص24، وانظر السياسة الشرعية ص124. 5 تفسير ابن كثير: 1/ 227.

فضل الجهاد

فضل الجهاد مدخل ... فضل الجهاد: الجهاد في سبيل الله مكرمة، أي مكرمة، وعزة أي عزة، وهو أفضل الأعمال على الإطلاق، عند الله تبارك وتعالى، وثوابه يربو عن ثواب الحج والعمرة والصيام والقيام، ويكفيه فضيلة أن الله تبارك وتعالى قد تكفل للمجاهد إما بالنصر والظفر أو بالجنة والعاقبة الحسنى، وقد فاز الجهاد بالعديد من الآيات

الكريمة التي تشهد له بالفضل والتي تعد المجاهدين بالمثوبة التي لا تعادلها مثوبة، وإن الجهاد تجارة رابحة مع الله الديان الكريم الغني المعطي الرحيم.. قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ, تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ, يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ, وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} 1. وقال جل من قائل: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} 2. وقال: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} 3. وقال: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ} 4. كما حظي الجهاد بالجم الكثير من الأحاديث الشريفة التي تشيد بفضله وتجعله في مقدمة ركب صالح الأعمال ثوابًا وأجرًا وفضيلة. وقد ترجم البخاري في صحيحه بابًا قال فيه: "الجنة تحت بارقة السيوف" وهو نص حديث مرفوع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- قال فيه: " ... واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف" 5. جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: دلني على عمل يعدل الجهاد. قال: "لا أجده! هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم ولا تفتر وتصوم ولا تفطر؟ قال: ومن يستطيع ذلك"6.

_ 1 سورة الصف: 10-13. 2 سورة النساء: 95. 3 سورة التوبة: 111. 4 سورة التوبة: 19. 5 فتح الباري على صحيح البخاري: 6/ 33. 6 فتح الباري: 6/ 4، صحيح مسلم: 3/ 1498.

وقال, صلى الله عليه وسلم: "مثل المجاهد في سبيل الله, والله أعلم بمن يجاهد في سبيله, كمثل الصائم القائم، وتوكل الله للمجاهد في سبيله بأن يتوفاه أن يدخله الجنة أو يرجعه سالمًا مع أجر أو غنيمة" 1. وعلى هذا فإن الجهاد يعتبر أفضل الأعمال الصالحة مطلقًا، وفضيلته أعظم الفضائل باعتباره وسيلة إلى إعلان الدين ونصره ونشره وإخماد الكفر ودحضه، ففضيلته بحسب فضيلة ذلك2. قال الإمام ابن تيمية -رحمه الله- في كتاب "السياسة الشرعية": "لم يرد في ثواب الأعمال وفضلها مثل ما ورد في الجهاد، فهو ظاهر عند الاعتبار، فإن نفع الجهاد عام لفاعله ولغيره في الدين والدنيا، ومشتمل على جميع أنواع العبادات الباطنة والظاهرة، فإنه مشتمل من محبة الله تعالى والإخلاص له والتوكيل عليه وتسليم النفس والمال له والصبر والزهد وذكر الله وسائر أنواع الأعمال على ما لا يشتمل عليه عمل آخر. والقائم به من الشخص والأمة بين إحدى الحسنيين دائمًا، إما النصر والظفر وإما الشهادة والجنة"3.

_ 1 فتح الباري: 6/ 6. 2 فتح الباري: 6/ 5، وهو من كلام ابن دقيق العيد. 3 السياسة الشرعية: ص122 وما بعدها الطبعة الرابعة عام 69.

أجر المجاهدين

أجر المجاهدين: إن للمجاهد منزلة رفيعة في مقياس الناس وفي ميزان العدالة الإلهية، وإن الشهيد في مقام كريم عند رب العزة، وفي حواصل طيور خضر عند جنة المأوى وليس أحد من أهل الجنة يتمنى أن يرجع إلى الدنيا إلا الشهيد1، فإنه يود أن يقاتل ويقتل مرة ثانية ليحظى بما حظي به في المرة الأولى من روعة الاستقبال، وبهجة اللقاء. قال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "طوبى لعبد أخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة. إن استأذن لم يؤذن وإن شفع لم يشفع" 2، وقد شهدت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية بالحياة المنعمة التي لا موت فيها لمن قتل شهيدًا.

_ 1 فتح الباري: 6/ 81. 2 فتح الباري: 6/ 81.

قال سبحانه: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} 1، وقال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله" 2. وروي أن مالك الأشعري قال: سمعت رسول الله, صلى الله عليه وسلم يقول: "من فصل 3 فمات أو قتل فهو شهيد، أو وقصه فرسه أو بعيره أو لدغته هامة أو مات على فراشه. أو بأي حتف شاء الله فهو شهيد وإن له الجنة" 4. وقال, صلى الله عليه وسلم: "إن في الجنة لمائة درجة، ما بين الدرجة والدرجة كما بين السماء والأرض، أعدها الله للمجاهدين في سبيله" 5. وقال, عليه الصلاة والسلام: "من أغبر قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار" 6. وقال, صلى الله عليه وسلم: "رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات أجري عليه عمله الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأَمِنَ الفَتَّانَ" 7. وعن أنس بن مالك أن أم الربيع بنت البراء وهي أم حارثة بن سراقة أتت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا نبي الله.. ألا تحدثني عن حارثة؟ وكان قتل يوم بدر أصابه سهم غرب. فإن كان في الجنة صبرت، وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء. قال: "يا أم حارثة إنها جنان في الجنة، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى" 8. روي عن أبي سعيد أن رجلًا قال: "أي الناس أفضل يا رسول الله؟ قال

_ 1 سورة آل عمران: 169. 2 رواه الترمذي وقال: حديث حسن. 3 خرج من منزله. 4 رواه أبو داود. 5 متفق عليه. انظر السياسة الشرعية لابن تيمية: ص121. 6 اغبر قدماه أي تعفرت قدماه. والحديث رواه البخاري. 7 الفتان ج فاتن وهو ما يفتن الميت في قبره ويضله عن السؤال. انظر الجامع للأصول: 4/ 341. وفي القاموس الفتان بمعنى الشيطان، والحديث رواه مسلم في صحيحه. 8 فتح الباري: 6/ 26.

صلى الله عليه وسلم: "مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله" 1, وفي رواية لأبي هريرة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من خير معاش الناس لهم رجل ممسك عنان فرسه في سبيل الله، يطير على متنه، كلما سمع هيعة أو فزعة طار عليه. يبتغي القتل والموت مظانه" 2, وقال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "أرواحهم في جوف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش. تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل" 3. قال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وله ما على الأرض من شيء إلا الشهيد يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة" 4.

_ 1, 2صحيح مسلم: 3/ 1504. 3 صحيح مسلم: 3/ 1502. 4 انظر فتح الباري: 6/ 33، صحيح مسلم: 3/ 1498.

من هو الشهيد

من هو الشهيد: قد يظن بعض الناس أن كل من يقاتل فيقتل في المعركة فهو شهيد، وهذا الظن غير صحيح، ذلك لأن أغراض الحروب متباينة وأن الدوافع للقتال مختلفة، وكل من قاتل على منافع شخصية أو مصلحة دنيوية أو من أجل مركز أو منصب أو رياء وسمعة فلا يعتبر قتاله في سبيل الله، وإنما الذي يقاتل لإعلاء كلمة الله، ولرفع راية الإسلام وللذود عن حمى المسلمين وأرضهم وإقامة شرع الله وحدوده، مخلصًا لله في قتاله، فهو في سبيل الله.. وها هو ذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله "1. روى أبو موسى أن رجلًا أعرابيًّا أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله الرجل يقاتل للمغنم والرجل يقاتل ليذكر والرجل يقاتل ليرى مكانه فمن في سبيل الله؟ فقال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "من قاتل لتكون كلمة الله أعلى فهو في سبيل الله". وروي أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: "تقولون في مغازيكم فلان شهيد ومات فلان شهيدًا، ألا لا تقولوا ذلكم، ولكن قولوا كما قال رسول الله

_ 1 فتح الباري: 1/ 13، 1/ 233، 6/ 28، صحيح مسلم: 3/ 1512.

صلى الله عليه وسلم: "من مات في سبيل الله أو قتل فهو شهيد" 1. ومما تجدر الإشارة إليه أن الشهادة في سبيل الله لها مدلول عام بالإضافة إلى مدلولها الخاص السابق وهو أن كل من يموت في حالة دفاع عن دينه وعرضه وشرفه وماله يعتبر شهيدًا عند الله تعالى مصداقًا لحديث رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتله دون أهله فهو شهيد" 2. فالحديث يدعو المسلم لأن يكون شريفًا عزيزًا كريمًا ويتحقق هذا بالمحافظة على النفس والعقل والعرض.

_ 1 فتح الباري: 6/ 90، والحديث أخرجه أحمد وسعيد بن منصور من طريق محمد بن سيرين وهو حديث حسن. 2 رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

مبحث شروط المجاهدين في الإسلام

مبحث شروط المجاهدين في الإسلام ... شروط المجاهدين في الإسلام: قد يكون الجهاد فرض عين في حالة الدفاع عن النفس والأرض والحرمات ففي هذه الحالة يجب القتال على المسلمين جميعًا رجالًا ونساء شبابًا وشيبًا. وقد يكون فرض كفاية في حالة بدء المسلمين بالقتال أي إذا قام به بعض أفراد المسلمين سقط الإثم عن الباقي، بتوفر هذه الحالة يتعين تحديد الشروط التي يجب توفرها في المجاهدين. وقد ذكر علماء الفقه عددًا من الشروط أشير إلى أهمها: الشرط الأول: الإسلام: لقد شرع القتال في الإسلام للدفاع عن العقيدة والذود عنها وحماية حدود الله وإقامة شرعه في الأرض، ولا يتحقق هذا الغرض النبيل السامي إلا إذا كان الجنود مؤمنين بعقيدة التوحيد مخلصين لله في السر والعلانية، مستميتين من أجل إعلاء كلمة الدين، ولهذا كان من البديهي ألا يسند هذا الواجب الجليل العظيم إلا لمن كان مسلمًا يغار على دين الله ويخشى الله ويتقيه ولعل هذا هو السر الذي من أجله وجه الخطاب في آيات الجهاد إلى المؤمنين.

قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} 1. وهنا نتساءل هل تجوز الاستعانة بغير المسلمين في القتال؟ وكان في الإجابة عن هذا السؤال رأيان للفقهاء: الرأي الأول: لا يجوز الاستعانة بغير المسلمين. واستدل أصحاب هذا الرأي أولًا بحديث أخرجه مسلم في صحيحه عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالت: "خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل بدر، فلما كان بحرة الوبرة أدركه رجل قد كان يتذكر منه جرأة ونجدة، ففرح أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين رأوه، فلما أدركه قال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- جئت لأتبعك وأصيب معك. قال له رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "تؤمن بالله ورسوله؟ " قال: لا. قال, صلى الله عليه وسلم: "فارجع فلن أستعين بمشرك" 2. قالت عائشة رضي الله عنها: ثم مضى حتى إذا كنا بالشجرة أدركه الرجل، فقال له كما قال أول مرة. فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم- كما قال له أول مرة قال: فارجع فلن أستعين بمشرك". قال ثم رجع أدركه في البيداء فقال له كما قال أول مرة "تؤمن بالله ورسوله؟ " قال: نعم. فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "فانطلق" 3. واستدلوا ثانيًا بموقف الرسول -صلى الله عليه وسلم- من جمع من اليهود خرجوا يوم أحد مع المسلمين فحين رآهم -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما هذه؟ " قالوا: حلفاء ابن أبيٍّ من يهود.. فقال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "لا تستنصروا بأهل الشرك على أهل الشرك" 4. إلا أن هذه الطائفة من العلماء تجيز الاستعانة بغير المسلمين في مجال التدريب على الأسلحة وفنون الحرب للاستفادة من خبراتهم القتالية قياسًا على الاستعانة في تعليم المسلمين القراءة والكتابة، وقد جعل رسول الله فدية الأسير تعليم عشرة من المسلمين القراءة والكتابة.

_ 1 سورة التوبة: 123. 2 صحيح مسلم: 3/ 1449 وما بعدها، وحرة الوبرة موضع على نحو من أربعة أميال من المدينة المنورة. 3 المصدر السابق: 3/ 1450 والمراد بقوله فانطلق إلى القتال. 4 طبقات ابن سعد: 2/ 39.

يقول ابن سعد في طبقاته1 عند حديثه عن وفد ثقيف: لم يحضر عروة بن مسعود ولا غيلان بن سلمة حصار الطائف، كانا بجرش يتعلمان صنعة العرادات والمنجنيق والدبابات فقدما وقد انصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الطائف فنصبا المنجنيق والعرادات والدبابات وأعدا للقتال، ثم ألقى الله في قلب عروة الإسلام وغيره عما كان عليه، فخرج إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأسلم ثم استأذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الخروج إلى قومه ليدعوهم إلى الإسلام". قال الله تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} 2, ومن التفقه في الدين المعرفة بأسرار الأسلحة وفنون القتال المستجدة والتخصص في هذه المعارف والخبرات الحربية كالتدريب على إخفاء الذخائر والمصانع والأسلحة وبناء مكامن الجنود وحفر الخنادق والتوقي من الجواسيس3. الرأي الثاني: لجماعة من الفقهاء الذين أجازوا الاستعانة بالكفار في الحرب والقتال قياسًا على جواز الاستعانة بهم في مجال التدريب على استعمال السلاح، وعلى معرفة سر صناعة أدوات القتال. واشترطوا لذلك الأمن من مكر هؤلاء الكفار ومن خداعهم والأمن من كشف أسرار المؤمنين في الحرب أو إثارة الفتن والشبهات أو الأقاويل المضللة أو استعمال الوسائل لبلبلة الأفكار. واستدلوا أيضًا بـ"أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أمر بلالًا فنادى في الناس: إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، وإن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر"4. وعارضوا الدليلين السابقين بما يأتي: 1- إن قول الرسول, صلى الله عليه وسلم: "لا أستعين بمشرك" منسوخ بدليل آخر وهو "شهود

_ 1 الطبقات: 1/ 312. 2 سورة التوبة: 122. 3 الإسلام والحرب ومصادره: ص42. 4 فتح الباري: 6/ 179.

صفوان بن أمية حنينًا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو مشرك"1. 2- على افتراض أن الحديث غير منسوخ ولكنه لا يتعارض مع الحديث الآخر إذ يمكن حمله على حالة خاصة وهي حالة عدم الأمن من غدر المشرك أو خيانته. ويمكن حمل هذا الحديث أيضًا على معنى آخر وهو أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لما رأى حماسة هذا المشرك على الخصوص لمساعدة المسلمين أمل في إسلامه فرد عليه الاستعانة به وهو على حالته الشركية لينوه له بجواز الاستعانة به في حالة دخوله الإسلام. وقد حصل ما توقعه رسول الله, صلى الله عليه وسلم. الشرط الثاني: البلوغ: يعتبر البلوغ مظنة لاكتمال القوة الجسمية والمقدرة على حمل السلاح، والثبات في ساحة الوغى والرد على العدوان. ولذلك فإن المصاب بمرض أو بعاهة جسمية لا يعتبر أهلًا لمواجهة العدوان الله تبارك وتعالى قد حط عنه واجب الجهاد فقال سبحانه: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ} 2 وقال: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} 3. وقد "رد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- البراء بن عازب وغيره يوم بدر ممن كان لم يبلغ خمس عشرة، لأن القتال يقصد فيه مزيد القوة والتبصرة في الحرب فكانت مظنته سن البلوغ"4. وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يتفحص الرجال المقاتلين معه فيرد من يستصغره منهم5.

_ 1 فتح الباري: 6/ 176. 2 سورة النساء: 95. 3 سورة النور: 61. 4 فتح الباري تعليق ابن حجر: 1/ 171. 5 بقات ابن سعد: 2/ 39.

وفي غزوة أحد رد صلى الله عليه وسلم رافع بن خديج وهو في الخامسة عشرة من عمره، فقيل: يا رسول الله إن رافعًا يجيد الرمي، فأجازه صلى الله عليه وسلم1 فجاء سمرة بن جندب الغزاوي مظهرًا عتابه للرسول -صلى الله عليه وسلم- لرده إياه من صفوف المقاتلين ولإجازته لرافع ولو تصارعا لصرع سمرة رافعًا، فأجازهما -صلى الله عليه وسلم- على ما أبديا من روح نبيلة، ومنافسة طيبة. وفي هذه الغزوة رد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسامة بن زيد وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وزيد بن ثابت، والبراء بن عازب، وعمرو بن حزم وأسيد بن ظهير2 لصغر سنهم جميعًا. الشرط الثالث: الذكورة: حينما اتضحت فضيلة الجهاد والمجاهدين تطلعت أنظار النساء حبًّا إلى تلك الفضيلة، ورنت أفئدتهم شوقًا لثواب الله العظيم، متمنيات أن يشاطرن الرجال العطاء الكبير والأجر الكثير، وسارعن يستفسرن عن نصيب المرأة من الجهاد، فها هي ذي السيدة عائشة -رضي الله عنها- تسأل الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن تجاهد: "يا رسول الله نرى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد؟ فقال لها رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "لكن أفضل الجهاد حج مبرور" 3. ونص الحديث هو: أن عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- قالت:"استأذنت النبي -صلى الله عليه وسلم- في الجهاد فقال: "جهادكن الحج" 4, وجاءت نسوة كثيرات غير السيدة عائشة يسألن عن جهاد المرأة على نحو ما روت عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين "عن النبي -صلى الله عليه وسلم- سأله نساؤه عن الجهاد فقال: "نعم الجهاد الحج" 5. فدل هذا على أن الجهاد غير واجب على النساء، قال ابن حجر العسقلاني: "وقوله "جهادكن الحج" لا يدل على أنه ليس لهن أن يتطوعن

_ 1 سيرة ابن هشام: 3/ 70. 2 السيرة لابن هشام: 3/ 71. 3 فتح الباري: 6/ 4. 4 فتح الباري بشرح صحيح البخاري: 6/ 75. 5 المصدر السابق.

بالجهاد، وإنما يدل على أن الجهاد لم يكن عليهم واجبًا لما فيه من مغايرة المطلوب منهن من الستر ومجانبة الرجال، فلذلك كان الحج أفضل لهن من الجهاد"1. وقد تطوعت كثيرات من النسوة في الجهاد على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ففي غزوة أحد خرج عدد من النساء، منهن أم عمارة نسيبة بنت كعب المازنية التي قاتلت للضرورة، فضربت بالسيف ورمت بالنبل حتى أثخنتها الجراح وهي تدافع عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والثابت أنها خرجت مع زوجها وابنيها، كما حدثت عن نفسها ولترى ما يفعل الناس في الحرب فلما رأت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد كسرت رباعيته، قاتلت دونه، والقتال في هذه اللحظة يصبح فريضة عين على المسلم والمسلمة. قال -صلى الله عليه وسلم- فيها: "ما التفت يمينًا وشمالًا يوم أحد إلا وأنا أراها تقاتل دوني" 2. ومنهن أيضًا أم سليط بنت عبيد بن زياد، وعائشة بنت أبي بكر وأم سليم وفي الحديث الذي رواه أنس -رضي الله عنه- إشارة إلى ذلك حيث قال: "لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سليم وإنهما لمستمرتان أرى خدم3 سوقهن تنقزان القرب". وقال غيره: 4 تنقلان القرب، متونهما، ثم تفرغانه في أفواه القوم ثم ترجعان فتملآنها ثم تجيئان فتفرغانه في أفواه القوم. وفي حديث عمر بن الخطاب, رضي الله تعالى عنه: "أن أم سليط5 كانت تزفر لنا القرب يوم أحد"6.

_ 1 فتح الباري: 6/ 76 بتصرف في العبارة. 2 فتح الباري: 6/ 79. 3 الخلاخيل، وهذه كانت قبل الحجاب، ويحتمل أنها كانت عن غير قصد العبارة للنظر. وتنقزان: تسرعان المشي كالهرولة. 4 رواية جعفر بن مهران عن عبد الوارث أخرجها الإسماعيلي فتح الباري: 6/ 71. 5 أم سليط والدة أبي سعيد الخدري كان زوجها أبو سليط من بني النجار فولدت له سليطًا وفاطمة فتح الباري: 6/ 79، 7/ 366. 6 تزفر: تخيط - فتح الباري: 6/ 79.

وفي حديث خالد بن ذكوان أن الربيع بنت معوذ قالت: "كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- نسقي ونداوي الجرحى ونرد القتلى إلى المدينة"1. وعلى هذا فإن مهمة المرأة في القتال مساعدة فعالة للجنود المقاتلين ومعاونتهم على أداء مهمتهم الشريفة. قالت أم عطية الأنصارية: "غزوت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سبع غزوات أخلفهم في رحالهم، فأصنع لهم الطعام وأداوي الجرحى وأقوم على المرضى"2. وروى أنس بن مالك كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يغزو بأم سليم ونسوة من الأنصار معه إذا غزا، فيسقين الماء ويداوين الجراح3. وذكر ابن عباس, رضي الله عنهما: بشأن النساء: " ... وقد كان يغزو بهن، فيداوين الجرحى، ويحذين من الغنيمة وأما بسهم فلم يضرب لهن"4. وفي غزوة خيبر خرجت نسوة مع المقاتلين، وقلن لرسول الله، خرجنا نغزل الشعر، ونعين به في سبيل المرضى، ومعنا دواء للجرحى ونناول السهام ونسقي السويق، فقال قمن5 وانصرف. ويوم حنين وجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند أم سليم خنجرًا كان معها: فقال لها: "ما هذا الخنجر؟ " فقالت: اتخذته إن دنا مني أحد من المشركين بعرت به بطنه. فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يضحك"6. وعلى هذا فللمرأة مهمة سامية في الجهاد، ولكن هذه المهمة منحصرة في نطاق ضيق جدًّا، وإنها لمهمة ملائمة لطبيعة المرأة الجسمية والنفسية، وقد تسامت عظمة الإسلام حينما لم يأمرها بحمل السلاح ولا بمقاتلة الأعداء جنبًا إلى جنب مع الرجال والشباب لأن هذا العمل يخرجها عن طبيعتها الرقيقة اللطيفة

_ 1 المصدر السابق. 2 صحيح مسلم: 3/ 1447. 3 صحيح مسلم: 3/ 1443. 4 يحذين: يعطين - والحذوة العطية، مسلم: 3/ 1447، 1444. 5 أبو داود: 2/ 68. 6 مسلم: 3/ 1442.

ويخرجها عن كونها امرأة محتشمة متسترة محتجبة ولعل هذا هو السر الذي من أجله وضع عن المرأة شهود الجمعة والجماعة. والعمل الذي يتناسب مع عواطفها ومع طبيعتها الأنثوية أن تقوم برعاية الجرحى وبمداواة المصابين لأن هذا العمل الجليل يحتاج إلى شيء من الرفق والعطف والمداراة والليونة والنعومة. ويمكن للمرأة أن تقوم بمهمة خياطة ملابس الجند، والمساعدة في الطهي وإعداد المؤنة للمقاتلين وكل هذا لا يخرجها عن طبيعتها الرقيقة الناعمة. وأعود لأكرر الملاحظة التي ذكرتها في مطلع هذا البحث وهي أن الغرض الجهادي موضوع عن المرأة إذا كانت المعركة هجومية من المسلمين أما إذا كانت دفاعية فيتعين عليها القتال.

حكم الجهاد

حكم الجهاد مدخل ... حكم الجهاد: قال الله تبارك وتعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} 1, وقال سبحانه: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} 2. وقال: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} 3. على ضوء هذه الآيات الكريمة أراد علماء الفقه أن يحددوا مسئولية الإنسان أمام الجهاد هل هي مسئولية واجبة على كل فرد أم أنها مسئولية الجماعة، بمعنى آخر هل هي واجبة على كل فرد واجبًا عينيًّا، أم كفائيًّا إذا قام بها بعض أفراد الجماعة سقط الإثم عن الباقين؟ وكانت دراستهم للقضية تدور ضمن دائرتين الأولى: الجهاد في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الدائرة الثانية: الجهاد بعد انتقال الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى الرفيق الأعلى.

_ 1 النساء: 95. 2 البقرة: 190. 3 التوبة: 26.

الدائرة الأولى: في حال حياة رسول الله, صلى الله عليه وسلم: يقول ابن حجر العسقلاني: "إن أول ما شرع الجهاد بعد الهجرة النبوية إلى المدينة اتفاقًا, ثم بعد أن شرع هل كان فرض عين أو كفاية؟ قولان مشهوران للعلماء وهما في مذهب الشافعي. قال الماوردي: كان عينًا على المهاجرين دون غيرهم، ويؤيده وجوب الهجرة -قبل الفتح في حق كل من أسلم- إلى المدينة لنصر الإسلام. وقال السهيلي: كان عينًا على الأنصار دون غيرهم، ويؤيده مبايعتهم النبي -صلى الله عليه وسلم- ليلة العقبة على أن يئووا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وينصروه. فيخرج من قولهما إنه كان عينًا على الطائفتين كفاية في حق غيرهم ومع ذلك فليس في حق الطائفتين على التعميم، بل في حق الأنصار إذا طرق المدينة طارق وفي حق المهاجرين إذا أريد قتال أحد من الكفار ابتداء"1. ثم يقول: "والتحقيق أنه كان عينًا على من عينه النبي -صلى الله عليه وسلم- في حقه ولو لم يخرج"2. وقد فهم الصحابة من قول الله تبارك وتعالى {انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} العموم فلم يكونوا يتخلفون عن الغزو حتى مات، منهم أبو أيوب الأنصاري والمقداد بن الأسود ومصعب بن عمير وغيرهم كثير.. ومعنى قوله تعالى: {خِفَافًا وَثِقَالًا} متأهبين أو غير متأهبين نشاطًا أو غير نشاطًا وقيل رجالًَا وركبانًا. الدائرة الثانية: بعد وفاة الرسول، صلى الله عليه وسلم: يؤخذ في الاعتبار في هذه الحالة نوعية المعركة: 1- فقد تكون دفاعية لرد العدوان. 2- وقد تكون اختيارية ابتداء. ففي النوعية الأولى يكون الجهاد واجبًا عينًا على الجميع رجالًا ونساء شبابًا وشيبًا، قادرين على حمل السلاح أو غير قادرين في المنشط والمكره في العسر

_ 1، 2 فتح الباري: 6/ 37.

واليسر، في الشدة والرخاء، لأن دفع العدو واجب على المسلمين جميعًا ممن اعتدى عليهم بطريق مباشر أو بطريق غير مباشر، لقول الله تبارك وتعالى: {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} 1. ولقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ} 2. وفي النوعية الثانية: يكون الجهاد فرضًا كفائيًّا على القول المشهور عند السلف والخلف إلا أن تدعو الحاجة، لأن جنس جهاد الكفار متعين على كل مسلم إما بيده وإما بلسانه وإما بماله وإما بقلبه3. ولكن متى يتأدى فرض الكفاية: قال الجمهور يتأدى بفعله في السنة مرة وحجتهم في ذلك أن الجزية تجب بدلًا عنه ولا تجب في السنة أكثر من مرة اتفاقًا فليكن بدلها كذلك.. وقيل: إنه يجب كلما أمكن، يقول ابن حجر وهذا المذهب قوي4.

_ 1 سورة الأنفال: 72. 2 سورة التوبة: 38-39. 3 فتح الباري: 6/ 38. 4 المصدر السابق.

أدلة وجوب الجهاد

أدلة وجوب الجهاد: 1- من الكتاب الكريم: قول الله تبارك وتعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} 1. وقوله جل من قائل: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} 2.. وقوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} 3, وقوله سبحانه: {انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا

_ 1 سورة البقرة: 216. 2 سورة التوبة: 26. 3 سورة البقرة: 190.

وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} 1. 2- من السنة النبوية: لقد وردت أحاديث كثيرة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تفيد وجوب الجهاد.. من ذلك: قول الرسول, صلى الله عليه وسلم: "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا" 2. وحدث الصحابة أنهم بايعوا رسول الله, صلى الله عليه وسلم "على الإسلام والجهاد"3. 3- الإجماع: أجمع الصحابة رضوان الله عليهم على وجوب الجهاد وطبقوا ذلك عمليًّا فقاتلوا في عهد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، والجهاد سنة باقية إلى يوم القيامة لا يبطلها عدل عادل ولا جور ظالم..

_ 1 سورة التوبة: 41. 2 فتح الباري بشرح صحيح البخاري: 6/ 38. 3 فتح الباري:6/ 117.

الإعداد للجهاد

الإعداد للجهاد مدخل ... الإعداد للجهاد قال الله تبارك وتعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} 1. وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ} 2. وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يستعرض الجنود قبل دخول المعركة.. وقال علي بن أبي طالب لجنده يوم موقعة صفين: "سووا صفوفكم كالبنيان المرصوص، وقدموا الدارع وأخروا الحاسر، وعضوا على الأضراس فإنه أنبى للسيوف عن الهام، والتووا على أطراف الرماح أصون للأسنة، وغضوا الأبصار فإنه أربط للجأش، وأسكن للقلوب، واخفتوا الأصوات فإنه أطرد للفشل وأولى بالوقار، وأقيموا راياتكم فلا تميلوها ولا تجعلوها إلا بأيدي شجعانكم، واستعينوا بالصدق والصبر فإنه بقدر الصبر ينزل النصر"3. وعلى هذا فإن للإعداد أثرًا كبيرًا في رفع معنويات الجيش وفي إنزال السكينة في نفوسهم وقلوبهم، بل إن للإعداد أثره الذي لا يخفى في توجيه دفة الحرب وفي تحديد النتائج.. وللإعداد محيطان، محيط تربوي، روحي ونفسي..

_ 1 سورة الأنفال: 60. 2 سورة الصف: 4. 3 فن المعركة: ص15.

ومحيط مادي "تكتيكي" وسلاحي..

إعداد معنوي

إعداد معنوي ... الإعداد الروحي: مهما ارتقى السلاح وتفننت مظاهره وقوي أثره واشتدت هيبته، فإن الإنسان الذي يصنع هذا السلاح والذي يوجه هذا الخطر والذي يدفع هذه القوة، له المكانة الكبرى بل والأولى في المعركة، ذلك لأن فيه القوة المعنوية الصامدة، وفيه العقل الواعي المخطط، المنظم، وفيه اليد الفاعلة الموجهة المنفذة، فإذا كان هذا الإنسان الذي يحمل السلاح يعيش في جهل فكري وروحي وفي تلبد ذهني وفي ضلال تربوي فماذا يفعل السلاح، وإذا كان الإنسان جبانًا يهاب المنايا فما الذي تفيده القوة التي يمتلكها، وإذا كان لا يعلم كيف يستعمل السلاح فماذا تغنيه الأسلحة.. ومن هنا نشأت أهمية إعداد الجندي.. الإنسان الذي يحمل السلاح بيده، ويخطط للمعركة بذهنه، ويثبت في ساحة الشرف إيمانًا بما عند الله من جزاء وثواب.. وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يهتم بالمقاتلين ويتولاهم بالإعداد المستمر والتهيئة الكاملة لخوض معارك الجهاد في كل حين ومهما كانت الظروف عصيبة شديدة.. وللإعداد الروحي مظاهر أهمها غرس الفضائل النفسية كالشجاعة والإقدام والتقوى وطاعة القائد.. 1- الشجاعة والإقدام: لقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يربي رجاله على الشجاعة والإقدام وكان هو -صلى الله عليه وسلم- أشجع الناس وأجود الناس، يروي أنس -رضي الله عنه- قال: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس وأشجع الناس وأجود الناس. ولقد فزع أهل المدينة فكان النبي -صلى الله عليه وسلم- أسبقهم على فرس وقال وجدناه بحرًا" 1. وروي أن عمرو بن ميمون الأودي قال: "كان سعد يعلم بنيه2 هؤلاء

_ 1 البحر: واسع الجري فتح الباري: 6/ 35. 2 ذكر محمد بن سعد في الطبقات أولاد سعد فذكر من الذكور أربعة عشر نفسًا، ومن الإناث سبع عشرة "فتح الباري: 6/ 36".

الكلمات كما يعلم المعلم الغلمان الكتابة ويقول: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يتعوذ منهن دبر الصلاة: "اللهم إني أعوذ بك من الجبن وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا وأعوذ بك من عذاب القبر" 1. وروي أن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل 2 والجبن والهرم وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات وأعوذ بك من عذاب القبر". قال الله تبارك وتعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 3.. وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 4. وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ, وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} 5. وفي أول عهد الإسلام كان لزامًا على المسلم أن يثبت أمام عشرة من الأعداء، ثم خفف الحكم فأصبح على المسلم أن يثبت أمام اثنين، وعلى هذا المعنى يدل قول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} 6, {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} 7. وقال سبحانه: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا

_ 1 المصدر السابق. 2 الفرق بين العجز والكسل: إن الكسل ترك الشيء مع القدرة على الأخذ في عمله، والعجز عدم القدرة. 3 آل عمران: 139. 4 سورة الأنفال: 45. 5 سورة الأنفال: 15-16. 6، 7 سورة الأنفال: 65-66.

مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} 1. وقد عقد الإمام البخاري في صحيحه بابًا سماه "باب البيعة في الحرب أن لا يفروا وقال بعضهم: على الموت" وذكر فيه عددًا من الأحاديث التي تبين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخذ البيعة من الصحابة على الثبات في الجهاد، منها حديث نافع عن ابن عمر قال: "رجعنا من العام المقبل، فما اجتمع منا اثنان على الشجرة التي بايعنا تحتها. كانت رحمة من الله، فسألنا نافعًا على أي شيء بايعهم، على الموت؟ قال: لا بل بايعهم على الصبر"2. وحديث سلمة -رضي الله عنه- قال: "بايعت النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم عدلت إلى ظل شجرة، فلما خف الناس قال: يابن الأكوع ألا تبايع؟ قال: قلت: قد بايعت يا رسول الله، قال: وأيضًا. فبايعته الثانية، فقلت له، يا أبا مسلم، على أي شيء كنتم تبايعون يومئذ؟ قال على الموت"3. وحديث شعبة عن حميد قال: سمعت أنسًا -رضي الله عنه- يقول: كان الأنصار يوم الخندق تقول: نحن الذين بايعوا محمدًا ... على الجهاد ما حيينا أبدًا فأجابهم النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فأكرم الأنصار والمهاجرة" 4. وكان الخلفاء الراشدون يعقدون الألوية للأمراء ويوصونهم بالصبر والثبات ولزوم الحق والشجاعة. وها هو ذا عمر ابن الخطاب يوصي القادة وهو يعقد اللواء: "بسم الله، وعلى عون الله، امضوا بتأييد الله، وما النصر إلا من عند الله ولزوم الحق والصبر، فقاتلوا في سبيل الله من كفر بالله، ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين، ولا تجبنوا عند اللقاء، ولا تمثلوا عند القدرة، ولا تسرفوا عند

_ 1 سورة آل عمران: 142. 2 فتح الباري بصحيح البخاري: 6/ 117. 3 المصدر السابق. 4 فتح الباري: 6/ 117.

الظهور، ولا تقتلوا هرمًا ولا امرأة ولا وليدًا"1. وكان للجيش الإسلامي نداءات خاصة، يصدرها القادة للجند، فكانوا إذا تهيئوا للقتال نادى القادة: "النفير، النفير" وهي علامة الاستعداد للهجوم. وإذا أرادوا ركوب الخيل نادوا "الخيل..الخيل" وإذا أرادوا أن يترجلوا نادوا "الأرض الأرض". والنداء الغالب الذي يبعث في النفس الحماس والإقدام هو نداء "الله أكبر، الله أكبر" وكان الزبير بن العوام يقول وهو مقدم على القتال: "إني أهب نفسي لله وأرجو أن يفتح الله بذلك على المسلمين"2. وقال سعد بن أبي وقاص لرجاله: "إذا سمعتم التكبير فشدوا شسوع نعالكم، فإذا كبرت الثانية فتهيئوا، فإذا كبرت الثالثة فشدوا النواجز على الأضراس واحملوا"3. 2- التقوى: كانت التقوى طابعًا مميزًا للجيش الإسلامي ولا غرو ففيها تسمو النفس وتترفع عن الصغائر وتتعالى عن المطالب القريبة، وبها تزداد العزيمة وتقوى الشكيمة وتشتد الإرادة، وتلتهب الحماسة. وهي الطريق الممهد للسعادة القلبية، والرباط المتين بين الجندي في ساحة الشرف وبين الله رب العباد الذي بيده النصر يهبه لمن يشاء، ولا يضيع أجر المحسنين. وكان صلى الله عليه وسلم: "إذا أمَّر أميرًا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرًا"4. وقد بعث أبو بكر -رضي الله تعالى عنه- إلى خالد بن الوليد سيف الله المسلول على الأعداء رسالة توصية يقول فيها:

_ 1 فن إدارة المعركة في الحروب الإسلامية: ص25. 2 المصدر السابق: ص26. 3 نفس المصدر: ص27. 4 انظر صحيح مسلم كتاب الجهاد والسير: 3/ 1357.

"يا خالد عليك بتقوى الله وإيثاره على من سواه، والجهاد في سبيله والرفق بمن معك من رعيتك، فإن معك أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أهل السابقة من المهاجرين والأنصار، فشاورهم فيما نزل بك، ثم لا تخالفهم"1. ولعل أوضح ما يصور حرص المسلمين على نقاوة الجيش وطهارته، وإيمانهم بأن الصلة وثيقة بين تقوى الله والنصر على الأعداء، رسالة ثاني الخلفاء الراشدين عمر بن الخطاب إلى سعد بن أبي وقاص.. جاء فيها: "أما بعد يا سعد فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو وأقوى المكيدة في الحرب وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراسًا من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم يكن لنا بهم قوة، لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عدتنا كعدتهم، فإذا استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة، وإلا ننصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا، فاعلموا أن عليكم في سيركم حفظة من الله يعلمون ما تفعلون، فاستحيوا منهم، ولا تعملوا بمعاصي الله، وأنتم في سبيل الله، واسألوا الله العون على أنفسكم كما تسألونه العون على عدوكم، أسأل الله تعالى ذلك لنا ولكم. وترفق بالمسلمين في سيرهم ولا تجشمهم سيرًا يتعبهم، ولا تقصر بهم عن منزل يرفق بهم حتى يبلغوا عدوهم، والسفر لم ينقص قوتهم فإنهم سائرون إلى عدو مقيم حامي الأنفس والكراع.. وأقم بمن معك في كل جمعة يومًا وليلة حى تكون لهم راحة يحيون بها أنفسهم ويرمون أسلحتهم وأمتعتهم، ونح منازلهم عن قرى أهل الصلح فلا يدخلها من أصحابك إلا من تثق بدينه"2. وللتقوى مظاهر، أهمها: الصلاة، والتوجه إلى الله بالدعاء. أ- الصلاة في الحرب: إن من الأسباب النفسية التي تؤثر في الدفع نحو النصر اللجوء إلى الله بالصلاة والاستعانة بالصبر فالصلاة واحة المؤمن وراحة باله، بها يجد الأنس

_ 1 فن إدارة المعركة في الحروب الإسلامية للأستاذ محمد فرج: ص29. 2 فن المعركة، من سلسلة البحوث الإسلامية: ص32.

واللذة الروحية التي تفوق كل لذة وكل أنس، وبواسطتها يستمد العون من الله تبارك وتعالى القائل: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ, الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} 1. والصلاة في الحرب اسمها صلاة الخوف ولها صفتان: الصفة الأولى: في حالة اشتداد الخوف وازدياد الوطأة على المسلمين بحيث لا يتمكنون من أدائها على صفتها العادية جماعة, فيصلونها كيفما كانوا وحيثما كانوا متجهين أو غير متجهين على الراحلة أو مترجلين قائمين أو قاعدين بالجسم أو بالطرف. والصفة الثانية: في حالة المرابطة، وتؤدى جماعة على النحو الآتي: يقسم المقاتلون إلى قسمين، قسم يبقى مواجهًا للعدو، وقسم يصلي مع الإمام نصف الصلاة الأول، فإذا كانت الصلاة ركعتين يبقى الإمام قائمًا إثر الركعة الأولى ويتم الذين صلوا معه لأنفسهم الركعة الثانية ثم ينصرفون ليحلوا محل إخوانهم في مواجهة العدو وتجيء الطائفة الأخرى فيصلي بهم الإمام الركعة الباقية، ثم يثبت في مكانه وتتم هذه الطائفة الركعة الثانية بحيث يسلم بها الإمام. أما إذا كانت الصلاة ثلاثية أو رباعية فالفاصل بين الطائفة الأولى والثانية يكون عند التشهد. قال الله تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا, فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ

_ 1 سورة البقرة: 45-46.

فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} 1. ب- التوجه إلى الله تعالى والإكثار من الدعاء: ومن آداب المؤمنين في الحرب كثرة توجههم إلى الله تعالى، فقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يكثر الدعاء ويقول: "اللهم أنت عضدي ونصيري، بك أجول وبك أصول وبك أقاتل" 2. وفي وسط المعركة يتوجه إلى الله تعالى بالدعاء طالبًا النصر والعون: "اللهم منزل الكتاب مجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم" 3. وإذا رجع من المعركة يقول: "الله أكبر "ثلاثًا" آيبون إن شاء الله تائبون عابدون حامدون لربنا ساجدون، صدق الله وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده" 4. وقد اعتاد بعض الصحابة أن يقصدوا المسجد إثر الإياب من الجهاد قبل الدخول إلى بيوتهم حيث يصلون ركعتين5 شكرًا لله تبارك وتعالى على ما ولاهم من نعمة الجهاد واتباعًا لسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث كان يصلي في المسجد ركعتين إثر قدومه من السفر6. 3- توطيد العلاقة بين القائد والجنود: لقد حرص الإسلام على وجود صلة دائمة بين القائد وأفراد الجيش، وهذه الصلة تقوم أساسًا على الاحترام المتبادل والتقدير. ومن أهم مسئوليات القائد المحافظة على سلامة الجند، وألا يحملهم من الأمر ما ينوء به كاهلهم وألا يكلفهم ما لا يطيقون، وألا يجعل بينه وبينهم حاجزًا بل ينبغي أن يتصل بهم ويتقرب إليهم، ويأخذ رأيهم في دراسة الخطط الحربية وأن يتصرف بحكمة في

_ 1 النساء الآية: 102-103. 2 سنن أبي داود: 2/ 40. 3 فتح الباري: 6/ 156 باب لا تمنوا لقاء العدو، صحيح مسلم: 3/ 1363. 4 فتح الباري: 6/ 192. 5 طبقات ابن سعد: 2/ 192، فتح الباري: 6/ 193. 6 فتح الباري: 6/ 193.

كل الأمور التي تتصل بهم.. وهو بهذا الفعل يحوز على ثقتهم فيلتزم الجنود بقراراته، ويندفعون وراءه وهم مطمئنون إلى حكمته وقدرته. والجنود ملزمون بالولاء لقائدهم فيستجيبون له ويطيعونه، ويعملون وفق رأيه، وينفذون أوامره كاملة لا يخالفونه ولا ينشقون عنه وهم بهذا الولاء يكونون موضع ثقته1. وطاعة الجنود للقائد مبدأ عسكري أساسي، به ينتظم مسار المعركة، وعليه تتوقف النتائج المهمة والحاسمة في تحديد دلائل النصر.. ولهذا فقد أشار الرسول -صلى الله عليه وسلم- في أحاديثه إلى التزام السمع والطاعة. فقال صلى الله عليه وسلم: "السمع والطاعة حق، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة" 2. وقال عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام: "من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله. ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصاني. وإنما الإمام جنة يقاتل من ورائه ويتقى به فإن أمر بتقوى الله وعدل فإن له بذلك أجرًا، وإن قال بغيره فإن عليه منه" 3 ولقد جاء في بيعة الأنصار ليلة العقبة: "على السمع والطاعة في اليسر والعسر والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا وعلى أن لا ننازع الأمر أهله وعلى أن نقول الحق أينما كنا. لا نخاف في الله لومة لائم"4. وقال عليه الصلاة والسلام: "من خلع يدًا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له" 5. وقد تعلم المسلمون من معركة أحد درسًا لا ينسى، لقد أدركوا تمامًا أن ميزان المعركة يختل اختلالًَا كاملًا إذا تهاونوا في تنفيذ أمر القائد، أو شغلهم

_ 1 فن المعركة: ص86. 2 فتح الباري: 6/ 115. 3 فتح الباري: 6/ 116. 4 صحيح مسلم: 3/ 1470. 5 صحيح مسلم: 3/ 1478.

شاغل عن التنفيذ الحرفي لمطالب القيادة، فقد ذاقوا مرارة الهزيمة بسبب مخالفتهم لأوامر الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولم تكن تلك المخالفة متعمدة، كلا وإنما تسرعوا في تقدير النتيجة، وقطاف الثمرة قبل أوان نضجها، حيث صف الرماة على جبل وأمَّر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليهم عبد الله بن جبير وأصدر لهم أمره: "إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم وإن رأيتمونا هزمنا القوم، وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم" 1. وقاتل المسلمون بحماسة وشجاعة وبأس وإقدام حتى إذا ما استبان انهزام المشركين من ميدان القتال تاركين المتاع والغنائم نزل الرماة عن أمكانهم ظانين أن الهزيمة القاضية قد اجتاحت صفوف المشركين، ولن تقوم لهم بعد الآن قائمة وبهذا النزول ترك الرماة أماكنهم خالية، بينما ظهور المسلمين غير محاطة بقوة عسكرية والثغور مفتوحة قريبة المنال سهلة العبور أمام العدو المتربص وكان لخسارة المسلمين في هذه المعركة أثر كبير في نفوسهم ودرس بالغ في ضمائرهم حيث غرست فيهم وجوب الالتزام بأوامر القائد وتنفيذها بحذافيرها. ولقد تلقى خالد بن الوليد -رضي الله عنه- نبأ عزله عن قيادة الجيش من الخليفة عمر -نضر الله وجهه- بروح إسلامية عالية وإيمان عميق. كان ذلك في معركة اليرموك، وكان القتال على أشده، فلم يشأ أن يعلن هذا النبأ على الملأ بل صبر حتى انتصر المسلمون، ثم دعا أبا عبيدة ابن الجراح وسلمه القيادة تنفيذًا لأمر الخليفة، ثم قال لحامل البريد الذي جاءه بأمر العزل: "بلغ أمير المؤمنين أن من حقه أن يعزلني عن القيادة، ولكنه لا يملك أن يجردني من سيفي فسأظل حاملًا هذا السيف في خدمة أمتي"2. وعاش خالد جنديًّا بسيطًا تحت إمرة أبي عبيدة يتلقى منه الأوامر وينفذها.. وحاول بعض الذين يثيرون الخصومات في صفوف الأمة أن يثيروا خالدًا حتى يمتنع عن الامتثال لأمر الخليفة، ولكن إيمانه كان أكبر من أن يجعله يواجه الخليفة في حق يملكه، وأن يخالفه في وقت يواجه فيه المسلمون

_ 1 فتح الباري: 6/ 162. 2 تاريخ الطبري: 2/ 27.

أعداءهم. وبقي خالد جنديًّا توجهه قوة الإيمان التي تسمو بصاحبها إلى آفاق علوية لا يحسب فيها حسابًا للمناصب ولا للاعتبارات الدنيوية ولا يعرف فيها الغل ولا الضغينة إنه الإيمان وإنه الإسلام الخالد الذي لا يزول.. 4- التوكل على الله والثقة بالنفس: يأتي في مقدمة العوامل التي يترتب عليها نجاح المعركة "التوكل على الله والثقة بالنفس" ولذلك حرص الإسلام الحرص كله على غرس هذا المبدأ في نفوس الجنود. والإنسان المتوكل على الله تعالى الواثق بنفسه يملك طاقة روحية لا نفاذ لها، يستطيع أن يوجهها إلى نصرة الحق والدفاع عنه، وهي دون شك أمضى من الأسلحة المادية وهي الضمان الأكيد لنيل النصر، ولذلك فإن الإعداد الروحي في الإسلام يسير جنبًا إلى جنب مع الإعداد المادي. والمسلمون لم يخوضوا معركة ولم يواجهوا أعداء إلا من أجل إحقاق الحق وإزهاق الباطل، وكم لاقوا في سبيل ذلك من مشقات وكم قامت في طريقهم من عقبات فلم يلينوا ولم تنفذ طاقتهم الروحية ولم يفقدوا الثقة بالنفس. قال الله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} 1. وقال جل من قائل: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 2. وقال عز من قائل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 3. وتحدثنا كتب السيرة أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- في غزوة بدر استقبل القبلة واتجه بكل قواه النفسية والروحية إلى الله العلي الأعلى، وجعل ينشده ما وعده وأخذ يردد:

_ 1 من سورة الأحزاب: 23. 2 من سورة آل عمران: 139. 3 من سورة آل عمران: 200.

4- التوكل على الله والثقة بالنفس: يأتي في مقدمة العوامل التي يترتب عليها نجاح المعركة "التوكل على الله والثقة بالنفس" ولذلك حرص الإسلام الحرص كله على غرس هذا المبدأ في نفوس الجنود. والإنسان المتوكل على الله تعالى الواثق بنفسه يملك طاقة روحية لا نفاذ لها، يستطيع أن يوجهها إلى نصرة الحق والدفاع عنه، وهي دون شك أمضى من الأسلحة المادية وهي الضمان الأكيد لنيل النصر، ولذلك فإن الإعداد الروحي في الإسلام يسير جنبًا إلى جنب مع الإعداد المادي. والمسلمون لم يخوضوا معركة ولم يواجهوا أعداء إلا من أجل إحقاق الحق وإزهاق الباطل، وكم لاقوا في سبيل ذلك من مشقات وكم قامت في طريقهم من عقبات فلم يلينوا ولم تنفذ طاقتهم الروحية ولم يفقدوا الثقة بالنفس. قال الله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} 1. وقال جل من قائل: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 2. وقال عز من قائل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 3. وتحدثنا كتب السيرة أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- في غزوة بدر استقبل القبلة واتجه بكل قواه النفسية والروحية إلى الله العلي الأعلى، وجعل ينشده ما وعده وأخذ يردد:

_ 1 من سورة الأحزاب: 23. 2 من سورة آل عمران: 139. 3 من سورة آل عمران: 200.

أكتافهم ألا أستبقي منهم أحدًا قدرنا عليهم". وقال عبادة بن الصامت حينما لقي المقوقس: "ما من رجل إلا ويدعو ربه صباحًا ومساء أن يرزقه الشهادة، وأن لا يرده إلى بلده ولا إلى أرضه ولا أهله وولده وليس لأحد منا هم فيما خلفه، وقد استودع كل منا ربه أهله وولده وإنما همنا ما أمامنا" هذه هي أهم الجوانب المعنوية التي يعنى بها في تربية جنود المسلمين شجاعة وإقدامًا. تقوى وإحكامًا، صلة بالله تبارك وتعالى وذلك بأداء الواجبات والائتمار بأوامره والانتهاء عن نواهيه، والاعتماد عليه واللجوء إليه والتضرع إليه والثقة بالنفس وطاعة القائد وحسن الصلة بين القادة وبين الحاكم العام للمسلمين.. وبهذه التربية تصفو النفوس وتزكو الخصال، وتتحمل الشدائد ويترفع عن الأهواء والشهوات.. ومن خاف الله خافه الناس ومن ابتغى إعلاء كلمة الله في الأرض فتح الله له كنوز الدنيا والآخرة وأيده بنصره وتوفيقه وعونه.

إعداد مادي

إعداد مادي ... الإعداد المادي: كما أن للإعداد الروحي أهمية كبرى وأثرًا بالغًا في توجيه دفة المعركة وفي تحديد معالم النصر كذلك فإن للإعداد المادي أهمية عظمى تساوي أهمية الإعداد الروحي وتوازيها وتسير معها جنبًا إلى جنب في كل ميدان للفوز بنصر الله وتأييده. وللإعداد المادي جوانب كثيرة، ومجالات مختلفة أشير إلى أهمها فيما يأتي: 1- تربية الأجسام: لقد حرص الإسلام الحرص كله على تربية أجسام المسلمين بصورة عامة، وأجسام الجنود بصورة خاصة لما لها من أثر على تصلب العود وقوة الجسم والثقة بالنفس والقدرة على التغلب على الأعداء.. قال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن

الضعيف" 1.. وقد شجع الرسول -صلى الله عليه وسلم- والخلفاء من بعده كل عمل ينشط الجسم ويحفظ القوة البدنية ويساعد على الحركة والمرونة والسرعة في العمل.. كما أنه -صلى الله عليه وسلم- قد حذر من التعرض للأمراض السارية الفتاكة وأمر بالتداوي من كل مرض يعرض للإنسان بعامة.. روى الإمام البخاري أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "فر من المجذوم فرارك من الأسد". وروى مسلم وأحمد وغيرهما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لكل داء دواء فإذا أصاب الدواء الداء برأ بإذن الله عز وجل".. وفي مسند أحمد وفي سنن النسائي وغيرهما عن أسامة بن شريك قال: "كنت عند النبي -صلى الله عليه وسلم- وجاءت الأعراب، فقالوا: يا رسول الله أنتداوى؟ فقال: "نعم يا عباد الله تداووا، فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له شفاء". وروى الإمام أحمد والترمذي وغيرهما عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله أرأيت رقى نسترقيها ودواء نتداوى به، وتقاة نتقيها هل ترد من قدر الله شيئًا. فقال عليه الصلاة والسلام: "هي من قدر الله".. وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يأمر بالرجولة والجد، والابتعاد عن كل ما يورث الترف والتراخي والميوعة.. روى الطبراني بإسناد جيد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "كل شجاعة ليس من ذكر الله فهو لهو أو سهو إلا أربع خصال: مشي الرجل بين الفرضين -أي: الرمي- وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله، وتعليمه السباحة". كل هذه الأحاديث وغيرها كثير تأمر الإنسان أن يعتاد على حياة الجد والرجولة وأن يهتم بتربية جسمه التربية المتينة القوية كي يصبح جنديًّا من جنود المسلمين قويًّا في ساعده قويًّا في ممشاه جديًّا في مسلكه، جديًّا في معاملته يهيب

_ 1 جزء من حديث أخرجه مسلم عن أبي هريرة.

العدو ويخيفه.. وما تَنْفَع الخيل الكرام ولا القِنا ... إذا لم يكن فوق الكِرام كِرام إن السلاح لا يعمل إلا في يدي بطل، والبطل لا يصنعه إلا الإيمان.. وإن الذي يتقدم ليجود بنفسه يجب أن يكون مستعدًّا جسميًّا لتحمل المشاق ومكابدة المتاعب، وقد كان الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحث الجنود على تحمل كل مشقة لأداء الحرب، وأن يعدوا أنفسهم لاحتمال المصاعب، يروي عبد الله بن عمر عن أبيه الفاروق أنه كان يرسل إلى الولاة بالشام "أن انظر من قبلك فمرهم فلينتعلوا وليحتفوا" قال العلماء في بيان معنى هذا الخبر: يستحسن للجند أن يمشوا أحيانًا بغير نعل وأحيانًا في النعل ليتعودوا ذلك كله وهذا تنبيه إلى الجند ألا يجنحوا إلى الترف والنعيم، فإن الجندية والتنعيم نقيضان لا يجتمعان.. وكثيرًا ما يضطر الجند إلى أداء أشق الأعمال وأعنفها، فيجب أن يخشوشنوا ليكونوا على استعداد كامل للمتاعب إذا نزلت، وقد يقضي أحدهم ليالي وأيامًا في الفيافي والقِفار ولا يجد ما ينتعله فيجب أن يكون قادرًا على المشي، وأن الترف يؤدي إلى استرخاء النفوس وتعودها على البطالة والكسل والجبن والخوف من اقتحام الشدائد ومواجهة المعارك ولذلك كان الخلفاء -رضي الله عنهم- يوصون الجند بالخشونة في المأكل والملبس والبعد عن كل عمل يؤدي إلى الترف أو إلى استرخاء الجسم.. يقول أبو بكر الصديق رضي الله عنه: "إنكم ستظهرون على كنوز كسرى وقيصر، وإياكم والأشَر1، ورب الكعبة لتأشرن" والأشر نوع من الطغيان, قال الله تعالى: {كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى, أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} .

_ 1 الأشَر نوع من الفرح مصحوب باستعلاء وتنعيم.

الله -صلى الله عليه وسلم- قائدًا أعلى لجيش المسلمين لم يتخلف عنهم في معركة ذات بال بل كان يتقدم الصفوف دائمًا، حتى قال الصحابة فيه كان أشجعنا في الحروب والمعارك وإذا أخافنا شيء أو اشتد الوطيس احتمينا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال الإمام علي رضي الله عنه: "لما كان يوم بدر، وحضر البأس اتقينا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان من أشد الناس بأسًا، وما كان أحد أقرب إلى المشركين منه"1. وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستعرض بنفسه جيوش المسلمين ويسوي صفوفهم2 ويعلمهم النظام، ويأمرهم بالتزام السكينة والهدوء، والاستعداد الكامل لتلقي أوامر القيادة، ويضع أمامهم الخطة الحربية ويستشيرهم في كل تنظيم وتخطيط.. وقد كان عليه الصلاة والسلام يستشير أهل الحل والعقد في تنظيم الصفوف وفي المكان الذي يصلح لمواجهة الأعداء وقد أشار الحباب بن المنذر على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة بدر أن ينزل أدنى ماء من القوم وأن يغور المسلمون ويبنوا حوضًا فيملئوه ماء ويشربوا منه، فنزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند رأيه3. وفي غزوة أحد استشار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المقاتلين من أصحابه في المكان الأصلح لمواجهة العدو، أيخرج بالمسلمين إلى خارج المدينة، أم يبقى معهم داخلها ويدافعون عنها ولا يتكلفون مشقة السفر، وإذا هاجمهم العدو وجدهم قد مكنوا أنفسهم من منازلهم فيكون هذا الأمر أعون لهم على المواجهة؟ وعمل الرسول -صلى الله عليه وسلم- برأيهم الأول وهو الخروج إلى جبل أحد على مشارف المدينة المنورة فركب فرسه وتنكب القوس وأخذ قَناة بيده وخرج في مقدمتهم.. وفي معركة الخندق أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- برأي سلمان الفارسي في حفر خندق حول المدينة المنورة وكان -صلى الله عليه وسلم- يعمل بيده الشريفة المباركة ليزكي الحماس في نفوس الجند، فيشاركوا بهذا العمل الدفاعي..

_ 1 رواه الشيخان. 2 طبقات ابن سعد: 2/ 39. 3 السيرة لابن هشام: 2/ 95.

وفي بدر استشار الرسول -صلى الله عليه وسلم- صحبه لقتال قريش، فقال أبو بكر وأحسن القول، وقال عمر فأحسن، ثم قام المقداد بن الأسود فقال: يا رسول الله امض لما أمرك به الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى عليه السلام: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد1 لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه.. ثم قال سعد بن معاذ: فوالذي بعثك بالحق إن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لنخوضه معك وما نكره أن تكون تلقى العدو بنا غدًا، إنا لصبر عند الحرب صدق عند اللقاء، لعل الله يريك ما تقر به عينك فسر بنا على بركة الله2. وكان -صلى الله عليه وسلم- لا يميز نفسه بشيء عن جنوده، ففي معركة بدر كان كل ثلاثة من المسلمين يتناوبون الركوب على بعير واحد3 فكان إذا جاء دوره ترجل الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال له صاحباه: اركب حتى نمشي عنك, فيقول: "ما أنتما بأقوى على المشي مني وما أنا بأغنى عن الأجر منكما" 4. ومع أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان القائد الأعلى للجيش، فقد كان يختار قادة يحملون الألوية ويتقدمون الجنود، ففي بدر اختار مصعب بن عمير وعلي بن أبي طالب ورجلًا من الأنصار، وفي حرب بني قينقاع اختار حمزة بن عبد المطلب لحمل راية المسلمين.. وفي أحد كان أسيد بن نضير يتقدم الأوس والحباب بن المنذر يتقدم الخزرج وعلي بن أبي طالب يتقدم المهاجرين ومصعب بن عمير من جماعة القادة الذين يحملون الألوية أيضًا.. وفي مؤتة دفع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الراية لزيد بن حارثة قال أنس بن مالك: "خطب

_ 1 هي مدينة على ساحل البحر الأحمر على مرحلتين من قنفذه جنوبًا على جبل مرتفع فيها مسجدان وسوق ويسكنها بنو هلال. 2 الكامل لابن الأثير: 2/ 84. 3 المرجع السابق. 4 الإسلام والحرب ومصادره: ص65.

رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "أخذ الراية زيد فأصيب ثم أخذها جعفر فأصيب ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب ثم أخذها خالد بن الوليد منه غيره أمره ففتح الله عليه وقال: يسرني -أو قال: ما يسرهم- أنهم عندنا " 1. وكانوا جميعًا في قمة البطولة والفداء، فقد أثبتوا شجاعة نادرة حيث قاوموا بثلاثة آلاف مقاتل مسلم ما يزيد على مائتي ألف من جنود الأعداء كما كانوا جميعًا مثل الثبات والصمود والسيطرة على الموقف العصيب. وكان قد ارتفع صوت يقول: يا قوم ترون قلة عددنا وكثرة أعدائنا فلنكتب لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- نخبره بالأمر فعسى أن يمدنا بالرجال، أو يأمر بأمر ننفذه فأجابه عبد الله بن رواحة: "يا قوم.. والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون الشهادة وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين: إما ظهور وإما شهادة.. فمضى الناس"2 ويقاتل المؤمنون قتال الأشاوس الأبطال.. ويستشهد القادة الثلاثة وتتحقق نبوءة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويتولى القيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه.. ويسير الخلفاء الراشدون على الخطة نفسها التي سنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في اختيار القادة.. وها هو ذا أبو بكر -رضي الله تعالى عنه- يوجه أسامة وجيشه إلى بلاد الشام، ويخرج الخليفة لوداعه بعد توليه الخلافة مباشرة ويسير مع الجند على قدميه وأسامة راكب، ويغلب الحياء أسامة إذ يرى خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه والقائد الأعلى للمسلمين وصاحب الأمر والنهي يسير معهم إلى جنبه سيرًا على قدميه، فأراد أن ينزل وهو يقول: "يا خليفة رسول الله، والله لتركبن أو لأنزلن".. فقال له أبو بكر على مسمع من أفراد الجيش "والله لا تنزل ووالله لا أركب.. وما علي أن أغبر قدمي في سبيل الله ساعة"..

_ 1 فتح الباري: 6/ 180. 2 سيرة ابن هشام: 2/ 375.

وأي مثل رفيع في غاية السمو والكمال يقدمه أبو بكر -رضي الله عنه- للجند؟ وقد كان أسامة بن زيد أصغر أفراد الجيش سنًّا ولكنه أمضاهم عزمًا وأجرأهم قولًا، وأحفظهم قرآنًا، وقد اختاره رسول الله من قبل أميرًا على هذا الجيش فأمضاه أبو بكر.. وأراد أبو بكر بذلك التصرف أن يعلم الجند الإذعان إلى أمر أسامة بن زيد والمسارعة في تنفيذ أمره وخطته. وقال عمر بن الخطاب لأبي بكر الصديق: "إن في سيف خالد رهقًا وحق عليه أن يقيده" ولكن أبا بكر يعرف أن خالدًا يتميز بخصال تجعله موضع ثقة ورضا، وأنه سيف من سيوف الله مسلول على الأعداء وأنه هو الذي يستطيع أن يواجه الفرس والروم، ويحقق بإذن الله الانتصارات الرائعة حتى قال فيه: "عقمت النساء أن يلدن مثل خالد والله لأنسين الروم وساوس الشيطان بخالد بن الوليد"1. وسلك عمر بن الخطاب نهج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخليفته الأول في اختيار القيادة الواعية فسلم إمرة جيش الشام إلى أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح، وأوصاه قائلًا: "لا تقدم المسلمين إلى هلكة رجاء غنيمة، ولا تنزلهم منزلًا قبل أن تسترده لهم وتعلم كيف مأتاه، ولا تبعث إلا في كثف من الناس، وإياك وإلقاء المسلمين في هلكة". 3- وحدة الصف: لقد وضع الإسلام نظامًا دقيقًا حاسمًا للقتال ألا وهو "وحدة صف المسلمين" في أثناء مواجهة الأعداء. قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ} 2.. وقال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا".. وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يرتب بيده الشريفة الجنود صفوفًا، وبهذا النظام الذي أوجده الإسلام واجه المسلمون أعداءهم من العرب ومن الفرس والروم.

_ 1 فن إدارة المعركة: ص96. 2 سورة الصف: 4.

وكان -صلى الله عليه وسلم- يسوي الصفوف فإذا وجد رجلًا نابيًا نبهه، وفي بدر كان "سواد بن غزيه" خارجًا عن الصف فضربه في بطنه وأمره أن يلزم الصف.. وقال -رضي الله تعالى عنه- لجنده: "سووا صفوفكم كالبنيان المرصوص وقدموا الدارع وأخروا الحاسر".. وكان خالد بن الوليد -رضي الله عنه- يقسم جيوشه إلى مجموعات وقد حارب الروم بهذا النظام فجعل جيشه مؤلفًا من ميمنة وميسرة وقلب وأقام على القلب أبا عبيدة بن الجراح وعلى الميمنة عمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة، وعلى الميسرة يزيد بن أبي سفيان وأقام على كل مجموعة بطلًا من أبطال المسلمين أمثال القعقاع وعكرمة وعياش بن غنم وعبد الرحمن بن خالد، وكان أبو سفيان يسير بين المجموعات وهو يقول: "الله.. الله، إنكم قادة العرب وأنصار الإسلام, وإنهم زادة الروم وأنصار الشرك، اللهم إن هذا يوم من أيامك، اللهم أنزل نصرك على عبادك".. وهكذا أعد خالد بن الوليد المسلمين إعدادًا نظاميًّا لم يسبق إليه واقتبس سعد بن أبي وقاص هذا النظام في القادسية سنة 14هـ1.. والإسلام دين قائم على التعاون وخدمة المسلمين بعضهم بعضًا.. قال الله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} 2. وإذا كان التعاون واجبًا على كل المسلمين تجاه بعضهم بعضًا خارج المعارك والحروب فهو أوكد وألزم في القتال الذي يستوجب وحدة الكلمة ووحدة الخطة ووحدة النظام ووحدة الصف. ولذلك كان المسلمون في حروبهم مثالًا للانضباط والتعاون، وبهذا النظام والإخلاص حققوا انتصارات يعجب لها التاريخ ويزهو بها فخرًا.

_ 1 مقدمة ابن خلدون: ج2 ص305. 2 سورة الفتح: 29.

4- التخطيط للحرب: إن التخطيط للمعركة يعتبر ركنًا أساسيًّا ومهمًّا لنجاح العمليات الحربية، والتخطيط يتضمن معرفة قوات الطرفين عدة وعددًا ونوعية السلاح الذي سيستخدم ومدى التمرين عليها وطبيعة أرض المعركة والأجواء المحيطة بها والرأي العام العالمي وتحديد موقف الدول الأخرى من الطرفين. ومدى اقتناعهم بالهدف الذي يسعون لتحقيقه. والتاريخ الإسلامي حافل بالخطط الحربية التي وضعت بدقة وإحكام منذ أن كان هناك قتال بين المسلمين وغيرهم.. والخطة الناجحة هي التي لا ينفرد القائد بوضعها، لأن رأي الفرد قد يخطئ وأمله قد يخيب. ورأي الجماعة أقرب للصواب. ولهذا فإن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان حريصًا على وضع الخطة أساسًا على مبدأ الشورى، وكذلك فعل الخلفاء الراشدون من بعده. وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يتحرى أخبار الأعداء قبل الإقدام على المعركة، ففي غزوة بدر أرسل "بسيس بن عمرو" و"عدي بن أبي الزغباء" يستطلعان أخبار قريش، وقد تمكنت جماعة من المسلمين في أثناء التماسها أخبار قريش من العثور على رجلين من رجال العدو فأحضروهما للرسول -صلى الله عليه وسلم- ليتعرف عن طريقهما على أخبار قريش فسألهما عن عددهم، فلم يجيبا فسألهما عن عدد ما يذبحون من شياه في اليوم، فقالوا بين التسع والعشر، فقال القوم بين التسعمائة إلى الألف، ثم قال لهما: فمن فيهم من أشراف قريش؟ قالا عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد وأبو البختري بن هشام وحكيم بن حزام والحارث بن عامر وغيرهم1. فأقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أصحابه وهو يقول: "هذه مكة ألقت إليكم أفلاذ كبدها".. وفي غزوة الأحزاب الخطرة قال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع؟ " ثم بعث حذيفة بن اليمان ليتعرف ما حصل بالقوم، وقال

_ 1 الكامل لابن الأثير: 2/ 83.

له: "يا حذيفة اذهب فادخل في القوم فانظر ماذا يصنعون ولا تحدثن شيئًا حتى تأتينا" 1. وقد عقد البخاري بابًا سماه "باب فضل الطليعة" وذكر فيه حديث جابر أنه قال: "قال النبي -صلى الله عليه وسلم: " من يأتيني بخبر القوم يوم الأحزاب" قال الزبير أنا.. ثم قال: "من يأتيني بخبر القوم؟ " قال الزبير: أنا, فقال النبي, صلى الله عليه وسلم: "إن لكل نبي حواريًّا وحواري الزبير" 2. وبعث الرسول -صلى الله عليه وسلم- بسعد بن معاذ بن النعمان سيد الأوس وسعد بن عبادة سيد الخزرج ومعهما عبد الله بن رواحة إلى يهود بني قريظة حينما نكثت عهدها واستعدت لمظاهرة الأحزاب، وقال لهم: "انطلقوا حتى تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا؟ فإن كان حقًّا فالحنوا لي لحنًا أعرفه ولا تفتوا في أعضاد الناس، وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا به للناس" 3. وحين تحقق الرسول -صلى الله عليه وسلم- من غدرهم، لم يخبر المسلمين حتى أتموا استعداداتهم حفاظًا على روحهم المعنوية". وقد نبه القرآن الكريم المؤمنين لأخذ الحيطة والحذر من الكافرين لئلا يعلموا شيئًا عن أسرار الحرب والخطط والتنظيمات الإسلامية، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} 4.. وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يتخذ الحراسة المشددة على كتائب المسلمين كيلا يتسرب شيء من أخبار القتال إلى الأعداء ففي غزوة أحد استعمل خمسين رجلًا بقيادة محمد بن مسلمة يطوفون بالعسكر ليلًا5.. وقد نهى الله تبارك وتعالى المسلمين عن اتخاذ الأعداء أولياء من دون المؤمنين وإطلاعهم على أسرار الحروب، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لاَ

_ 1 سيرة ابن هشام: 3/ 243. 2 فتح الباري: 6/ 52. 3 سيرة ابن هشام: 3/ 232. 4 النساء: 71. 5 الطبقات لابن سعد: 2/ 93.

تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} 1. وحين يقبض على الجاسوس يجب قتله بعد أن يستخلص منه المزيد من أخبار العدو. روى مسلم وأبو داود أن رجلًا على جمل قوي قد أقبل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أثناء غزوه لهوازن، يتجسس ثم انفلت كالريح فقال الرسول, صلى الله عليه وسلم: "اطلبوه فاقتلوه"، قال سلمة بن الأكوع: اشتد فكنت عند ورك الناقة، ثم تقدمت حتى كنت عند ورك الجمل، ثم تقدمت حتى أخذت بخطام الجمل فأنخته، وخرجت فلما وضع ركبته في الأرض اخترطت سيفي فضربت رأس الرجل فندر"2. وليس ثمة طريقة أنجح من الصمت والكتمان أمام وسائل مخابرات الأعداء وأن البوح بالأسرار العسكرية يعتبر خيانة في حق الجندي يؤاخذ عليها، وللعلماء في قتله قولان لما روي أن عليًّا -رضي الله عنه- قال: "بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنا والزبير والمقداد بن الأسود، وقال: "انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة ومعها كتاب فخذوه منها" فانطلقنا تعادي بنا خيلنا حتى انتهينا إلى الروضة، فإذا نحن بالظعينة، فقلنا: أخرجي الكتاب, فقالت: ما معي من كتاب, فقلنا: لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب, فأخرجته من عقاصها فأتينا به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من أهل مكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "يا حاطب ما هذا" قال: يا رسول الله لا تعجل علي، إني كنت امرأً ملصقًا في قريش، ولم أكن من أَنْفَسِها، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون بها أهليهم وأموالهم فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدًا يحمون بها قرابتي، وما فعلت كفرًا ولا ارتدادًا ولا رضًا بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "قد صدقكم " فقال عمر: يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق"3. ومما يدخل في مجال التخطيط، إثارة الحرب النفسية وتوهين العزائم بنشر

_ 1 سورة الممتحنة: 1. 2 معنى فندر: سقط، وما بعدها انظر مسند أحمد: 2/ 45، سنن أبي داود: 2/ 44. مسلم: 3/ 1374. 3 الظعينة: المرأة فتح الباري: 6/ 143.

الشائعات، وبث أسباب الفرقة في صفوف الأعداء، وإظهار قوة المسلمين التي ترهب العدو وتشل حركته وتضعف قواه.. وقد استعمل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في فتح مكة أسلوب توهين القوى، فأمر قادته بإشعال النار ليلًا حينما أشرف المسلمون على مكة، وبعث العباس إلى قريش ليبث في نفوسهم الذعر من جيش المؤمنين ومن قوته الروحية والمادية ذلك لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- يريد أن يدخل مكة دون قتال وأن تستسلم قريش استسلامًا حقنًا للدماء وحرصًا على النفوس والأعراض واحترامًا لحرمة مكة، مع أن الله تبارك وتعالى قد أحلها له ساعة من نهار ولم تحل لأحد قبله ولا لأحد بعده.. واستعمل الرسول -صلى الله عليه وسلم- أسلوب إظهار القوة والغلبة في معظم المعارك التي خاضها ضد الشرك.. حدَّث سعيد عن قتادة قال: "ذكر لنا أنس بن مالك عن أبي طلحة -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة1 ثلاث ليال"2. قال ابن الجوزي: إنما كان يقيم ليظهر تأثير الغلبة وتنفيذ الأحكام وقلة الاحتفال، فكأنه يقول: من كانت فيه قوة منكم فليرجع إلينا3. واستعمل الرسول -صلى الله عليه وسلم- أسلوب "العطاء المادي" لتفتيت عضد الكافرين، وبعثرة جمعهم، وتأليب بعضهم ضد بعض وإقصاء جماعة منهم عن ميدان المعركة وعن مواجهة المسلمين، ففي غزوة الأحزاب التي تمالأت بها قوى الكفر والضلال مجتمعة ضد الحق وأهله، عرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على غطفان من المعونات الغذائية والعطاء المادي أضعاف ما عرضه عليهم يهود خيبر وثمارهم مقابل أن ينسحبوا من الحصار. وكان المسلمون في تخطيطهم الحربي يحسنون اختيار الوقت المناسب لمفاجأة العدو، فقد كان التوقيت لغزو بني قريظة بعد انسحاب الأحزاب يوم الخندق مباشرة، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحث المؤمنين على سرعة الحركة والخروج

_ 1 العَرْصَة بفتح العين والصاد وسكون الراء: البقعة الواسعة من الأرض من غير بنيان. 2 فتح الباري: 6/ 181، سنن أبي داود: 2/ 58. 3 المصدر السابق.

للقتال: "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة" 1. وقد عقد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلح الحديبية مع قريش في العام -السادس من الهجرة- ليفرغ في العام الذي يليه لتصفية الجبهة الشمالية من اليهود في خيبر وفدك وغيرها من المواقع2. وبعد اقتلاع جذورهم وإخماد خطرهم تهيأ لفتح مكة في السنة الثامنة الهجرية3. وقد عمل المسلمون بحفر الخندق أسلوبًا جديدًا وخطة جديدة لم يسبق لها مثال في تاريخ العرب الحربي وتساءل المشركون: كيف يجتازون الخندق وكيف يصلون إلى المسلمين وكيف يحققون هدفهم؟ وضاعت الإجابة عن هذه الأسئلة مع الرياح التي ثارت والعواصف الرملية التي اجتاحت المنطقة، فأطفأت النار وأكفأت القدور وطرحت الأبنية وقلعت الخيام.. حتى قال حذيفة بن اليمان: "لا يقر لهم قدر ولا نار ولا بناء"4, وقال أبو سفيان: "يا معشر قريش، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام, لقد هلك الكراع والخف، وأخلفتنا بنو قريظة ... ولقينا من شدة الريح ما ترون، ما تطمئن لنا قدر ولا تقوم لنا نار ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا فإني مرتحل"5. ولم يهمل المسلمون العامل الاقتصادي في التخطيط الحربي، ذلك لأن الاقتصاد عصب الحياة، فإذا شلت حركته، وضربت موارده الأساسية خارت قوى العدو وجبن وضعف، وارتد أدراجه خائبًا. وقد استعمل الرسول -صلى الله عليه وسلم- العامل الاقتصادي لمحاربة قريش مكة فقطع عليهم طريق التجارة الساحلي، وقطع عنهم طريق نجد الداخلي، وذلك بعقد معاهدات مع أحلاف قريش الذين يقيمون على الطرق التجارية. وهكذا فقد كان للمسلمين تخطيطهم الحكيم، وأسلوبهم البارع الذكي في

_ 1 فتح الباري: 7/ 408. 2 سيرة ابن هشام: 3/ 321، 342، 368. 3 سيرة ابن هشام: 4/ 31. 4 المصدر السابق: 3/ 243. 5 نفس المصدر السابق. "فدخلت في القوم والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل ... لا تقر.. إلخ".

استغلال الظروف لمعالجة الأمور المعضلة، ولقد كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- مثلًا أعلى للجدية والصمود والتخطيط الدقيق في مواجهته الأحداث، ومثلًا أعلى لمعالجة الأمور بالحكمة والذكاء. اقتناء الأسلحة والتدريب عليها: لعل من أهم العوامل الحربية التي تؤثر في أساسيات المعركة وفي توجيه دفة القتال اقتناء الأسلحة، ذلك لأن السلاح أكبر قوة مادية في يد الجندي والقائد على السواء وبقدر ما تقتني الدولة من أسلحة بقدر ما تكون مهابة مرهوبة الجانب من العدو والصديق.. والإسلام حريص كل الحرص على اقتناء أجود الأسلحة وأمضاها وأحدثها وأكثرها ملاءمة للعصر ولأسلوب الدفاع والهجوم، قال الله تبارك وتعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} 1.. وقال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي, ألا إن القوة الرمي" 2 يقول القرطبي قد خص رسول الله -صلى الله عليه وسلم-القوة بالرمي وإن كانت تظهر بإعداد غيره من الأسلحة وآلات الحرب لكون الرمي أشد نكاية في العدو وأسهل مئونة3 وقال الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الخيل، وقد كانت من أهم وسائل الحرب: "الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة" وفي رواية: "الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة" 4. وقال: "من احتبس فرسًا في سبيل الله إيمانًا بالله وتصديقًا بوعده فإن شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة" 5.

_ 1 الأنفال: 60. 2 رواه مسلم من حديث عقبة بن عامر. 3 فتح الباري: 6/ 91. 4 البخاري: 6/ 54. 5 البخاري: 6/ 57.

والترس. روى ثابت عن أنس -رضي الله عنه- قوله: "استقبلهم النبي -صلى الله عليه وسلم- على فرس عري1 ما عليه سرج، في عنقه سيف"2. وعلى هذا فالإسلام يأمر أمرًا جازمًا بإعداد كل وسائل القوة وأنواع السلاح ولئن خص الخيل بالذكر فلأنه أجودها وأفضلها ولكن الوضع لا يثبت على حال واحد، وعجلة الزمان لا تقف وقد جدًّت أسلحة وتنوعت وسائل القتال مع اختلاف الأزمان والبيئات ولكل نوع منها مكانه ووقته المناسب، والسلاح الأفضل هو الأشد نكاية في العدو والأعظم للمسلمين نفعًا، وهذا الأمر يختلف باختلاف أحوال العدو وباختلاف حال المجاهدين، وذلك ما يعلمه أصحاب الخبرة3.

_ 1 عُرْي بضم العين وسكون الراء أي ليس عليه سرج ولا يقال في الآدميين إنما يقال: عريان، قاله ابن فارس وهي من الاستعمالات النادرة "انظر فتح الباري: 6/ 70". 2 المصدر السابق. 3 الفتاوِي لابن تيمية: 28/ 12.

أخلاق المسلمين في القتال

أخلاق المسلمين في القتال: لم يعرف التاريخ قديمًا أو حديثًا فاتحًا أرحم ولا أرأف ولا أعدل من المسلمين. أي ورب الكعبة، شهادة نطق بها العدو كما نطق بها الصديق وقالها المبغض كما قالها المحب. وإنها لشهادة حق وعدل. ولا تتضح الصورة الفعلية لرحمة الإسلام إلا إذا ألممنا إلمامة سريعة بما يفعله غير المسلمين في الحرب، يروي المستشرقون أن الحروب الصليبية في الشام قد هدفت إلى استئصال المسلمين استئصالًا نهائيًّا، لذلك فقد كانوا يذبحون ويقتلون كل من تقع يدهم عليه شيخًا عجوزًا كبيرًا جليلًا، أو امرأة مسنة أو طفلًا رضيعًا، حتى أصبح الدم كبرك الماء تسبح فيه الخيل إلى نحورها، "وعند دخول الحملة الصليبية إلى بيت المقدس، بتاريح 15 يوليو سنة 1099م الموافق 3 رمضان سنة 493هـ" ذبح أكثر من سبعين ألف مسلم حتى سبحت الدواب إلى صدورها في الدماء، وفي أنطاكية قتلوا في الطريق أكثر من مائة ألف مسلم"1. وقد أعدمت روسيا أكثر من ثلاثة ملايين من المسلمين في تركستان

_ 1 حاضر العالم الإسلامي: 1/ 218.

وحدها.. وفي سنة 1918م أصدر لينين أمرًا بالزحف على البلاد الإسلامية في روسيا وسارت الجيوش بالدبابات والطائرات والمدافع تدمر وتحصد ما في طريقها وفي نهاية العام تم لها الاستيلاء على جمهورية "إيديل أورال" وشمال القوقاز وحكومة خوقند.. وغيرها من البلدان الإسلامية.. "ونشرت جريدة أزفستيا في عددها الصادر 15 يوليه سنة 1922م -تقريرًا للرفيق لينين عن مجاعة القرم- نتيجة نقل الروس ما في الجزيرة من أقوات ليضطروهم للتسليم: بلغ عدد الذين أصابتهم محنة الجوع في شهر يناير "302.000" مات منهم "14.413" ارتفع عددهم في شهر مارس إلى 379.000، مات منهم 19.902 بلغ في أبريل 377.000، مات منهم 12.754، وفي يونيو 392.073"1. وعدد الذين يقتلون وينفون من بلادهم وتصادر ممتلكاتهم ويعذبون ويرمون في السجون المظلمة لتنهشهم الكلاب وتخمشهم القطط بسبب اختلاف الدين، في كل زمان -ويزداد التنكيل ويشتد العذاب قسوة بسبب الإسلام أكثر من أن يحصى، وهذه قضية تحتاج إلى إفراد سجلات خاصة بها ونكتفي بهذه الإشارة السريعة لنعود إلى موضوعنا الأصلي وهو أخلاق المسلمين في الحرب.. يقول الله تبارك وتعالى: {وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} 2, ويدخل في النهي عن الاعتداء النهي عن المثلة والغلول وقتل النساء والصبيان والشيوخ الذين لا رأي ولا قتال فيهم والرهبان وأصحاب الصوامع، وتحريق الأشجار وقتل الحيوان لغير مصلحة3. وفي صحيح مسلم عن بريدة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: "اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا، ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدًا".

_ 1 أساليب الغزو الفكري للعالم الإسلامي د. علي محمد جريشة وزميله ص128. 2 سورة البقرة: 190. 3 تفسير ابن كثير: 1/ 328.

وعن ابن عباس قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا بعث جيوشه قال: "اخرجوا بسم الله فقاتلوا في سبيل الله من كفر بالله، لا تغدروا ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع" 1. وفي الصحيحين عن ابن عمر قال: "وجدت امرأة في بعض مغازي النبي -صلى الله عليه وسلم- مقتولة، فأنكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قتل النساء والصبيان"2. وكلما تصور الإنسان سماحة الإسلام وثبت إلى ذهنه صورة الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- وهو داخل منتصر عزيز الجانب إلى مكة، وأهلها خائفون مذعورون من انتقام المنتصر، ولكنه -صلى الله عليه وسلم- ضرب مثلًا أعلى للعفو والصفح عند المقدرة وعلى هذه السنة سار الخلفاء من بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال أبو بكر رضي الله عنه موصيًا أحد قواده: "لا تقتلن امرأة ولا صبيًّا ولا كبيرًا هرمًا ولا تقطعن شجرًا مثمرًا، ولا تخربن عامرًا، ولا تعقرن شاة، ولا بعيرًا إلا لمأكل ولا تحرقن نخلًا، ولا تفرقنه ولا تغلل ولا تجبن"3.

_ 1 صحيح مسلم: 3/ 1357، ورواه الإمام أحمد بزيادة "ولا أصحاب الصوامع" انظر تفسير ابن كثير 1/ 328. 2 رواه أحمد، المصدر السابق. 3 موطأ مالك: 277- 278.

ومن مظاهر رأفة الإسلام في الحرب

ومن مظاهر رأفة الإسلام في الحرب: 1- النهي عن قتل من لا يقاتل من النساء والأطفال والشيوخ والعجزة.. 2- النهي عن الاعتداء على البيع والصوامع وهي معابد اليهود والنصارى.. 3- ألا يبدأ المسلمون بمقاتلة الأعداء إلا بعد الإعلان عن الحرب بمدة تكفي لوصول خبرها إليهم1. 4- من المبادئ المهمة التي يلتزم بها المسلمون التوقف عن القتال إذا طلب العدو ذلك أو كفَّ شرَّه وأذاه عن المسلمين أو انسحب طالبًا توقيع المعاهدة..

_ 1 الإسلام عقيدة وشريعة للشيخ شلتوت: ص474.

5- معاملة الأسرى: إن موقف الإسلام من الأسرى موقف إنساني يتسم بالعدل والرحمة وحسن المعاملة، فقد أوصى الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالأسير خيرًا، وأمر ألا يفرق بين صبي وأمه، وأن يقدم له الطعام والشراب والكساء، وأن يداوى إن أصابه جرح.. قال الله تبارك وتعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} 1.. وقال سبحانه: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} 2. وللعلماء في حكم الأسير أقوال: "أشهرها وأقواها أن يترك أمر الأسير إلى إمام المسلمين يفعل ما هو أنفع للمسلمين وأقوى شوكة للإسلام. وهذا هو مذهب الجمهور ومن العلماء من قال: يقتل أو يستبدل. أو يُمَنُّ عليه بالفداء بمال أو بنفس ومن العلماء من يرى أن يمن عليه بإطلاق سراحه أو بمفاداته بالمال أو بأسرى المسلمين3.

_ 1 سورة محمد: 4. 2 سورة الدهر: 8. 3 فتح الباري: 6/ 151-152.

المعاهدات في الإسلام

المعاهدات في الإسلام مدخل ... المعاهدات في الإسلام: قال الله تبارك وتعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} 1. فالإسلام يشرع للمسلمين أن ينشئوا معاهدات سلمية مع من شاءوا رجوعًا إلى السلم الأصلي الذي يحكم العلاقات بين الدول، ولهم أن يقرروا وقف القتال حسب ما يحقق مصلحة للإسلام وإعزازًا لكلمة المسلمين، ولهم الحق كذلك أن ينشئوا معاهدات بقصد التحالف الحربي والتعاون على عدو مشترك، إذا كان في هذا الأمر ما يحقق مصلحة الأمة الإسلامية. إذ إن الحرب في نظر الإسلام ما هي إلا علاج مؤقت لبعض الحالات الناشزة ولبعض الأوضاع غير المستقرة2، فإذا

_ 1 سورة الأنفال: 61-62. 2 الإسلام عقيدة وشريعة: ص476.

استتب الأمن واستقر الوضع وأمن شر العدو وارتفعت راية الإسلام عالية خفاقة كريمة فليس ثمة داع إلى القتال أو حاجة للحرب، لأن الحكم المترتب على العلم يدور معها وجودًا وعدمًا، فينعدم إذا انعدمت ويزول بزوالها. قال الله تعالى: {وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} 1. وقال سبحانه: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} 2.. وقال جل من قائل: {فَلا عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ} 3. وقد عاهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- يهود خيبر وبني النضير حينما هاجر إلى المدينة المنورة، وقبل أن يعايشهم معايشة سلمية على أن يكفوا أذاهم وعدوانهم عن المسلمين، وألا يظاهروا عدوًّا ضد المسلمين فكانت هذه أول معاهدة عرفتها الإنسانية أثبتت حق تقرير حرية التدين وحرية العقيدة. وعاهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- مشركي قريش معاهدة الحديبية سنة ست للهجرة بقصد أن يوقف القتال فترة زمنية مؤقتة، وكان من بنودها أن يرجع الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومن معه إلى المدينة في هذا العام ويحضروا إلى مكة في العام الذي يليه لأداء عمرة القضاء..

_ 1 سورة البقرة: 190. 2 سورة البقرة: 194. 3 سورة البقرة: 193.

الشروط التي يجب تحققها في المعاهدة

الشروط التي يجب تحققها في المعاهدة 1: يشترط الإسلام لتكون المعاهدة صحيحة ثلاثة شروط هي: 1- ألا تكون المعاهدة مخالفة لكتاب الله وسنة رسول -صلى الله عليه وسلم- قال الرسول الكريم: "كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل".. وعلى هذا فكل شرط تستباح به حرمة الشخصية الإسلامية أو يفتح به باب للأعداء ينفذون منه للإغارة على المسلمين أو تضمن بندًا يحمل على الإنقاص من شأن المسلمين وعلى تفريق كلمتهم فهو غير معتبر شرعًا..

_ 1 انظر الإسلام عقيدة وشريعة للشيخ شلتوت: ص476 وما بعدها.

2- أن تكون المعاهدة قائمة على التراضي من الطرفين قياسًا على عقود المعاوضات المالية، أما إذا كان هناك إلزام من أحد الطرفين أو كانت المعاهدة نتيجة لضغوط دولية، فلا قيمة حقيقية لهذه المعاهدة. 3- أن تكون المعاهدة بينة الأهداف واضحة العبارة لا تحتمل التأويل أو التفسير، أما إذا كانت غامضة العبارة غير واضحة الهدف تمكن من التلاعب بألفاظها، فلا قيمة لها شرعًا لأنها من باب الغش الذي يفسد كل عقد فضلًا عن معاهدة يتوقف عليها أمن البلاد..

الوفاء بالمعاهدات

الوفاء بالمعاهدات: إذا استكملت المعاهدة شروطها من وضوح وعدم مخالفة لكتاب الله وسنة رسوله وعدم إخلال بأمن الدولة المسلمة، كان الوفاء بها واجبًا دينيًّا يسأل عنه المسلمون أمام الله، وكان النكوث بها غدرًا وخيانة، أما إذا أخل العدو بها فعندئذ لا عهد لهم على المسلمين، بل كان على المسلمين أن يهبوا متكاتفين متعاونين على دفع قوى الشر والعدوان.. ويتحقق النكث بالمعاهدة إذا خالف العدو الإلتزام بشروطها، أو إذا ظاهر أحدًا من قوى الشر ضد المؤمنين أو إذا اعتدى على المتحالفين مع المسلمين، وحينئذ تفقد المعاهدة حرمتها. قال الله تبارك وتعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} 1. وكذلك فإن المعاهدة تفقد حرمتها إذا دلت القرائن الواضحة على عزم العدو على النكث بالشروط المتفق عليها. قال الله تبارك وتعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} 2 وقد تتغير الظروف التي وقعت بها المعاهدة ويصبح من المفسدة الالتزام بها فيباح في هذه الحالة الإخلال بها شريطة أن ينذر العدو بأمر نقض

_ 1 سورة التوبة: 4. 2 سورة الأنفال: 58.

المعاهدة قال الله تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} 1. هذا هو حكم الإسلام في معاهدات السلام التي تحفظ الأمن الدولي وحقوق الإنسان.. يقول الشيخ شلتوت -رحمه الله: "وجاءت دول الحضارة الحاضرة فخدعت الناس بما سمته "القانون الدولي العام" وبما سمته "الهيئات الدولية المحكمة" وها هي ذي المجازر البشرية على أيديهم في أكثر أقاليم المعمورة، تنطق بخداعهم وفشلهم كما تنطق بكذبهم إذا قالوا: السلم أو قالوا حقوق الإنسان، والإنسانية منهم براء2: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ} 3. وبعد، فتلك هي أهم مبادئ الجهاد في الشريعة الإسلامية، وإنها لمبادئ رائعة تظهر سماحة الدين الإسلامي وإنسانيته وعدله، كما تظهر حزمه وقوته وأنه لا يقبل الهزيمة ولا الضيم ولا الاستكانة ولا الهوان ولا الجبن ولا الخور. وإن دينًا يحرر الإنسان من سيطرة الهوى والشهوة، ويحرر الوجدان من الطغيان والقسوة، ويحرر العباد من الظلم والذل، ويحرر البلدان من الفساد والضلال لهو دين جدير أن يخترق شغاف القلوب فيملؤها رحمة وعدلًا ومودة وحبًّا، وهو دين جدير أن يسود ويمجد، ويتمسك المؤمنون به بإيمان مطلق ويدعون له بإخلاص وهدى.

_ 1 سورة التوبة: 3. 2 الإسلام عقيدة وشريعة للشيخ شلتوت: ص478. 3 سورة الأنفال: 55-56.

المبحث الثاني: التضامن الإسلامي

المبحث الثاني: التضامن الإسلامي مدخل ... التضامن الإسلامي الحاجة إلى التضامن الإسلامي إن التضامن الإسلامي مطلب كل فرد مسلم، وأنشودة كل مؤمن ناضج

الفكر متقد المشاعر متيقظ القلب، وغاية كل مجتمع عاش في ظل الإسلام ونعم بعدالته ورحمته وتسامحه، وتمتع إخوانه برغد العيش، وعرف في حماه مدلول الأمن على النفس والشرف والمال، وذاق في رحابه طعم الحرية في أوسع معناها وفي شتى ميادينها: حرية الرأي والفكر والكلمة، حرية العقيدة والعبادة، حرية التعلم وممارسة العمل المشروع. والتضامن في واقع الأمر عنوان القوة ومفتاح المجد، ومقدمة حصينة لكل فلاح ولكل نجاح في الشئون العامة والخاصة، والداخلية والخارجية. وهو قانون مهم من قوانين المجتمعات المتحضرة الراقية، وعنصر جوهري من عناصر الحياة السعيدة الملائمة للفطرة الإنسانية. والتضامن الإسلامي لازم من لوازم عقيدة التوحيد، ودعامة من دعائمها. وإذا كانت الحاجة ماسة في كل وقت لتضامن المسلمين واجتماع كلمتهم واتحاد صفوفهم فهي أبرز ما تكون في هذا الوقت المعاصر، الذي تجمعت فيه قوى الشر والعدوان ضد المسلمين، يشير إلى هذا الوضع ما صح في دلائل النبوة عن النبي, صلى الله عليه وسلم: "توشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها" فقال قائل: أومن قلة نحن يومئذ؟ قال: "لا، بل أنتم كثيرون ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن في قلوبكم الوهن"، قال قائل: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: "حب الدنيا وكراهية الموت" 1. فالظروف الحالية المحيطة بالمسلمين تفرض عليهم حتمية التضامن الإسلامي ووحدة الصف وإزالة الخلافات الجانبية، ذلك لأن العدو متربص بهم الدوائر، وهو يتخذ من تفرق كلمتهم ومن تمزق وحدتهم منفذًا لتحقيق أغراضه الدنيئة، وأفكاره الاستعمارية الخبيثة. لقد استطاعت الصهيونية أن تلم شعثها من عوالم مختلفة، وآفاق متباعدة وأن تتفق مع الشيوعية الملحدة ومع الاستعمار الحاقد لتتخذ موطنًا لها في قلب البلاد العربية بعد أن اقتطعت هذا الجزء الغالي من الديار الإسلامية. ومن هذا الموطن يبيتون مؤامراتهم ويضعون خططهم لتمزيق الفكر الإسلامي وللقضاء على

_ 1 رواه أبو داود وأحمد بن حنبل: 5/ 225.

الوحدة الإسلامية، ويعملون متآزرين لإثارة الفتن والأزمات والاضطرابات السياسية والاقتصادية في البلاد الإسلامية، ولم يتوانوا لحظة واحدة عن إثارة أسباب العداء بين طبقات الشعب الواحد، حتى أصبحت الجماعة الواحدة والشعب الواحد طبقات متحاربة متباغضة، وانتقلت ساحة المعركة من ميدانها الحقيقي إلى داخل البلد الواحد، فهذا يميني وذاك يساري، وهذا تقدمي وذاك رجعي، وهذا يقتل ذاك وبعضهم يأخذ برقاب بعض باسم هذه الشعارات الجوفاء التي أثارها العدو الماكر.. والدعوة إلى التضامن الإسلامي لا تأتي تلبية للحاجة الملحة وللظروف المحيطة بالأمة الإسلامية فقط وإنما هي استجابة لأمر إلهي، وتحقيق لمطلب ديني. قال الله تعالى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} 1. وقال جل من قائل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} 2 وقال جل شأنه: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} 3 وقال سبحانه: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} 4. وقال: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 5. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا" 6. وقال: "المؤمن أخو المؤمن لا يخذله ولا يقتله ولا يسلمه بحسب امرئ من الإثم أن يحقر أخاه". وقال: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر" 7.

_ 1 الأنفال: 63. 2 الحجرات: 10. 3 الأنعام: 159. 4 آل عمران: 103. 5 آل عمران: 105 6 رواه البخاري والترمذي والنسائي وأحمد. 7 البخاري.

والتضامن الإسلامي ضرورة لازمة لحماية ديننا ودنيانا من الغزو الفكري الهدام الذي يحمل راية الإلحاد والفوضوية والإباحية والشيوعية، ويعتقد -افتراء وبهتانا وظلما وعدوانا- أن الدين أفيون يخدر الشعوب. والتضامن الإسلامي تعبير صادق عن المشاعر القوية التي تحملها قلوب الملايين من المسلمين الذين يحسون إحساسا حقيقيا بالروابط الثقافية والتاريخية والجغرافية والاجتماعية.. يؤكد هذا تزايد أعداد حجاج بيت الله الحرام عاما بعد عام، واجتماع قادة الفكر، والعلماء وأهل الحل والعقد، وتبادلهم وجهات النظر في القضايا الإسلامية المطروحة على بساط البحث. يقول الأستاذ محيي الدين القابسي في كتابه التضامن الإسلامي: " ... والتضامن الإسلامي ما هو إلا مبادرة طبيعية من الشعوب الإسلامية التي تعد بالملايين لإرسال قواعد حياتها على أسس متينة في عالم تنازعه المطامع وتمزقه الأهواء وتشن فيه المبادئ الملحدة حربا شرسة ضد التراث الحضاري الإنساني1.

_ 1 التضامن الإسلامي: ص28.

أسباب انقسام الأمة الإسلامية

أسباب انقسام الأمة الإسلامية: لقد تكالبت قوى الشر ووقفت مجتمعة، متحدة، متماسكة الأيدي، توجه للعالم الإسلامي ضربات قاسية وشديدة مريرة، ضربات دامية مرهقة، ضربات حاقدة لئيمة خبيثة، حتى كادت تذهب بالأنفاس وتخمد الحركة، لولا أن من الله علينا من فضله فأبقى لنا بقية من حياة، وشعلة نلتف حولها، ومبادئ تجمع بيننا وأهدافا نرنو إلى تحقيقها وقبلة نتوجه إليها وشعائر نؤديها مجتمعين، وركائز يقوم عليها كياننا الإسلامي الممتد عبر الدهور والأزمان، منذ انبثاق فجر التوحيد إلى يومنا هذا. أجل لقد تحالفت قوى الشر والضلال من صهيونية ماكرة شرسة، وصليبية حاقدة مريعة وشيوعية خبيثة لئيمة لتطعن في الجسم الإسلامي والكيان المؤمن بالله المعتصم بحبله. وكانت أولى تلك الضربات إبعاد الخلافة الإسلامية عن الوجود والواقع الإنساني، والإطاحة بها وتحطيم دعائمها، وبث الدعاية الباطلة ضدها،

واتهامها بشتى الاتهامات الشنيعة كيلا يفكر المسلمون بإعادتها مرة ثانية، وألصقوا بها تهمة الخلف والرجعية والتعارض مع النهضة والتقدم والرقي، واتهموا الخلافة العثمانية بالرجل المريض الضعيف الذي يجب بتره والتخلص منه وألا يبقى وصمة تخلف في جبين البشرية، ودبروا المؤامرات الخبيثة للقضاء على الخلافة، وصدرت المؤلفات الضخمة لتطرح مائة مشروع لتقسم الممتلكات العثمانية بين الدول الأوروبية على أن يكون للصهيونية نصيب منها، وخدعت بعض الأشخاص من الأتراك والعرب وغررت بها وضللتهم بادعاءاتها الباطلة وأمسكتهم معاول فاتكة حادة قوية لهدم الكيان الإسلامي ولتمزيق وحدته وتفتيت قوته، فنادوا كالببغاوات بالقومية ودعوا إلى تتريك اللغة وأجهزة الحكم والإدارة، والمكاتبات الرسمية، وكان ما كان من مأساة القومية لسلخ تركيا عن الوطن الإسلامي.. وعلى الطرف الآخر.. العربي.. ظهرت دعوة قومية، تسير في الاتجاه السابق نفسه. الضربة الثانية: استطاعت أن تمزق كيان الأمة الإسلامية إلى أجزاء متعددة وأن تجعل من الدولة القوية دويلات ضعيفة، ومن البلد الواحد المتعاضد بلدان متباعدة متعادية.. كل هذا بقصد أن تبسط الدول الأوروبية الاستعمارية سلطانها على هذه الأجزاء، وفعلا أخضعتها إلى سلطتها الأوروبية، لتستغل خيرات تربتها وأرضها، ولتستخدم طاقاتها البشرية لتحقيق أطماعها العدوانية والاقتصادية، ولتبني مجدها على أكتاف أناس عاملين بصمت، مأخوذين بشدة الضربات المتتالية.. فسوريا ولبنان خضعتا لنفوذ فرنسا، ومصر والسودان والعراق والأردن خضعت لأطماع انجلترا، والشمال الإفريقي خضع لسيطرة فرنسا، والهند لسلطان انجلترا، وبذل الاستعمار ما بذل لإبعاد الوسط الإفريقي عن التأثر بالدين الإسلامي. الضربة الثالثة: تمكنت من بذر بذور الاختلاف والشقاق والتناصر والتصارع بين تلك الدويلات الإسلامية، فلكل دولة اتجاهها السياسي المختلف عن اتجاه الدولة الأخرى، ولكل منها أهدافها الخاصة، فتلك تعمل لحساب الشيوعية الماركسية، تنفق لها وتدعوا لمبادئها، وتحمل شعارها، وتدور في فلكها حيث دارت يمنة أو يسرة، وأخرى تعمل وفق سياسة غربية استعمارية لا تستيطع حراكا، ولا تنفذ خطة إلا بإذن من سيدتها وبإشارة منها.

الضربة الرابعة: إنها صنعت على عينها وبيدها رجالا من العرب المسلمين ينادون بفصل الدين عن الدنيا، وإبعاد الدين عن الحياة، وترك ما لقيصر لقيصر وما للدين للدين، هذه الدعوة الضالة المضلة هدفت أول ما هدفت إلى إبعاد الإسلام عن مجالات الحياة لأن عدد المسلمين في البلاد العربية يبلغ "89 %". وأشد من هذا وذاك أنها أبعدت الرجال المخلصين الواعين عن سياسة الدول الإسلامية وإدارة دفة الحكم باتهامهم -زورا وبهتانا- اتهامات باطلة، أو بقتلهم بأيد عابثة حقيرة.. وقد لعبت دورا مريعا في تبني السياسة الانفرادية لكل دولة، وإحداث اضطرابات داخيلة لشل حركة التقدم والنمو والازدهار الحضاري والعمراني، ولتوجه الحهود الإسلامية نحو أمور جانبية تبعدهم عن التفكير في أهمية لم الشمل والوقوف على قدم واحدة لإيجاد حلول جذرية ناجعة لتفادي الأخطار المحدقة. وكل هذه الضربات القاسية الشديدة كانت بمعاول العدو المشترك "الاستعمار والصهيونية والشيوعية".. وقد أثرت هذه الضربات الشنيعة في كيان الأمة الإسلامية فتمكنت من تفريق كلمتها وتمزيق وحدتها.

تاريخ الدعوة إلى التضامن الإسلامي

تاريخ الدعوة إلى التضامن الإسلامي: ليست دعوة التضامن دعوة حديثة برزت في القرنين الأخيرين وليست وليدة لأوضاع معينة، وإنما هي دعوة عريقة قديمة، رافقت بزوغ فجر الإسلام، وعاشت مع المسلمين في كل وقت تجتمع فيه كلمتهم، وتتحد فيه قواهم. وقد ظهرت هذه الدعوة حديثا بصدق وحرارة في بداية النهضة الإسلامية على يد السيد جمال الدين الأفغاني -رحمه الله- حينما نادى بأهمية جمع المسلمين في هيئة واحدة تحمل اسم "الجامعة الإسلامية" ودعا إلى ضرورة إقامة حياة نيابية أساسها الشورى وعمادها كفالة حقوق الإنسان، وركيزتها المساواة بين أفراد البشرية1.

_ 1 التضامن الإسلامي للأستاذ هلال الفاسي: من مجلة التضامن العدد 2 السنة الأولى -دو الحجة 1393هـ.

ولكن هذه الدعوة النبيلة لم تلق مناصرة ولا عونا من المسلمين لأسباب عدة، في مقدمتها: 1- الاستعمار البغيض الذي حط ثقله وبث سمومه في المجتمعات الإسلامية. 2- نظرة العرب والمسلمين إلى الغرب نظرة إكبار وإجلال بسبب ما أحرز من تقدم صناعي وعلمي. 3- كثرة الثورات والانقلابات الداخلية التي أضعفت كيان الأمة الإسلامية وعاقت دون نهضتها ودون تجمع صفها ووحدة كلمتها. وقد اختفت دعوة الجامعة الإسلامية حينما دهبت الخلافة الإسلامية أو قل حينما قضى عليها، وتوزعت البلاد الإسلامية إلى وحدات مستقلة، ونشأت أوطان وحدود وملوك وطوائف وشعوب.. ولكن تلك الأوضاع السيئة التي هزت كيان المسلمين هزا عنيفا لم تستطع أن تقضي قضاء مبرما على الدعوة إلى التضامن الإسلامي في كل ظرف يظهر فيه مخلصون ومصلحون ودعاة.

أول مجتمع قام على أساس التضامن

أول مجتمع قام على أساس التضامن: لقد كان أو مجتمع يرتفع بنيانه على أسس متينة من التضامن الإسلامي مجتمع المدينة المنورة، حينما هاجر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم- مع الفئة المؤمنة التي تركت دياراها وأموالها إرضاء لله ولرسوله، وفي المدينة آنذاك ثلاث طوائف لا تعرف الوئام ولا الانسجام، وهي الأوس والخزرج واليهود. وكان أول ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بذر بذور الحب في قلوب الجماعة المؤمنة نحو الله تعالى، ونحو المؤمنين بعضهم بعضا، وإذا ما خالط الحب شغاف القلوب فإنه يطبعها على الرقة والليونة والإخلاص لله تبارك وتعالى، وعند ذلك يتنازل المؤمن عن كيثر من مصالحه الشخصية وأغراضه القريبة في سبيل الغاية المثلى والدعوة العظيمة، وعندها تتحول الأثرة والأنانية وحب الذات إلى الإيثار والبذل والتضحية من أجل الآخرين، ويمحي الحقد والحسد والضغينة، وينمو التسامح والتواد والتراحم والتعاطف. وعلى هذا الحب أقام صلى الله عليه وسلم دعائم الأخوة الإسلامية، فآخى بين الأوس

والخزرج، وبين الأنصار والمهاجرين، حتى أصبح مجتمع المدينة المنورة متحد الأهداف والمشاعر، يتحرك نحو اتجاه واحد، ويحقق أعمالا متكاملة منسجمة، وإلى هذه الروح الطيبة والمشاعر النبيلة أشار القرآن الكريم بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} 1. وقوله: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ، وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 2. وبعد ذلك سمح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للمسلمين أن يهادنوا اليهود، وأن يعايشوهم معايشة سلمية ولما تظهر عليهم بوادي عداوة للمسلمين وللدعوة الإسلامية، فعوملوا على الظاهر من أمرهم، وكفل لهم الإسلام حرية العقيدة والعبادة على أن يخضعوا حكما ونظاما وقانونا للشريعة الإسلامية. ومن ثم وقع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معهم معاهدة الصلح، ويذكر ابن قيم الجوزية في كتابه زاد المعاد نص المعاهدة وهو: "هذا كتاب من محمد النبي بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم: إنهم أمة واحدة من دون الناس، وإن من تبعنا من يهود، فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم، وإن سلم المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم إلا من ظلم أو أثم.."3. وهكذا أقرت هذه المعاهدة التعايش السلمي مع غير المسلمين في ظل الحكم الإسلامي، ولم يسبق أن عرف التاريخ كفالة الحريات العقيدية والعبادية قبل أن يأتي الإسلام بتقريرها. قال الله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ

_ 1 سورة الأنفال: 73. 2 الحشر: 9. 3 زاد المعاد: 2/ 88.

يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} 1. وقال تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} 2.

_ 1 سورة الممتحنة: 8-9. 2 سورة العنكبوت: 47.

أسس التضامن الإسلامي

أسس التضامن الإسلامي مدخل ... أسس التضامن الإسلامي إن للتضامن الإسلامي أسسا مهمة يقوم بها وينهض عليها. أشير إليها فيما يأتي:

الأخوة الإيمانية

1- الأخوة الإيمانية: لم يعتبر الإسلام رابطة الجنس أو اللون أو اللغة أو الوطن سببا قويا أو دعامة ثابتة ودعوة حقيقية في تكوين الأمة، ذلك لأن هذه العوامل التي تقوم عليها مجتمعات اليوم قاصرة عن تحقيق وحدة إنسانية عامة، وعاجزة عن الجمع بين مختلف الأجناس والألوان والأوطان، وإنها دعوة للتفريق لا للجمع وللاختلاف لا للائتلاف، ولإثارة الفتن والعداوات، ولهذا فإن الإسلام سما على كل هذه للناس كافة، وللبشرية جمعاء، فجعل عقيدة التوحيد أنبل وأقدس وأعظم رباط يوحد بين قلوب المسلمين على اختلاف الديار والقوميات واللغات، وقد كانت الأخوة الإيمانية أصدق تعبير عن هذه الوحدة المشتركة، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} 1. وقال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ

_ 1 سورة الحجرات: 10.

وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ، وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} 1، وبين سبحانه أن من أهم أواصر الأخوة الدعاء لهم بظهر الغيب، فقال: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا} 2. وقال صلى الله عليه وسلم: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله" 3. إن آصرة هذه الأخوة تعلو كل آصرة وتفوق كل رابطة، بل إن رابطة النسب تهوي منهارة لا شأن لها ولا حول ولا قوة أمام هذه الرابطة الشامخة، قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} 4. ومن القواعد الفقهية المستنبطة من وحي القرآن والسنة المطهرة أن المسلم لا يرث الكافر، وأن الكافر لا يرث المسلم، ولو كان أباه أو أخاه أو ابنه، فهل بعد الأخوة الإيمانية من صلة أو قرابة؟ إن الأخوة الإيمانية رابطة قوية جديرة أن توحد بين النفوس وأن تؤلف بين القلوب، وكانت هذه الرابطة الجامع الوحيد الذي يجمع أبناء المسلمين في عهد النبوة الخالد، وكان المجتمع آنذاك يشعر بحرارة هذه الرابطة وبقوتها وأثرها على النفس الإنسانية وعلى المجتمع، فكان المجتمع كله رجاله ونساؤه وشبابه جسدا واحدا إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر.

_ 1 سورة آل عمران: 103. 2 سورة الحشر: 10. 3 رواه مسلم. 4 سورة المجادلة: 22.

التكافل الاجتماعي

2- التكافل الاجتماعي: التكافل الاجتماعي أساس قوي من أسس بقاء الأمة كريمة عزيزة، وهو قانون مهم يدل على رقي التجمع الإنساني وسمو غاياته، ورفعة أهدافه، ونبل مقاصده.

وللتكافل جانبان: جانب مادي وآخر معنوي. أما الجانب المادي فيتمثل بالمعونة المالية التي تقدم إلى الفقراء وذوي الحاجة والغارمين، كما تتمثل بإغاثة الملهوف وتفريج كربة المكروب، وإطعام الجائع، والعطف على البائس، وإقالة ذوب العثرات، وإعانة صاحب العيال والمقل، وقد دعا القرآن الكريم في آيات كثيرة العدد إلى بذل المال، وجعل الإنفاق على الفقراء والمساكين فريضة مقارنة للصلاة، وركنا من أركان الإسلام وحق للفقير في مال الغني، وكما حض على بذل الزيادة عن الزكاة وسماها الصدقة، وهو فضلا عن هذا وذاك حث على السخاء والجود وإقراء الضيف وبذل الفضل لذوي الحاجة، وإكرام القريب والجار ذر القربى، والجار البعيد، وأن يعود من له فضل من الملبس والمأكل والمركب على من لا فضل عنده. وقد أطلق القرآن الكريم على الإنفاق في وجوه البر أسماء متعددة: "الزكاة، الإنفاق، الصدقة، الإحسان، الحق، في سبيل الله" وجعل من أجمل ثمار الإنفاق توطيد أواصر المحبة بين الغني والفقير، وإشاعة الأمن في المجتمع، فالغني آمن على ماله، والفقير لا يعدم قوته وقوت عياله، ومن ثمار الإنفاق أيضا أن الفقير يتطلع إلى تحسين وضعه وحاله فيسعى جاهدا في مواطن الكسب لرفع مستواه المالي وليصبح في مصاف الأغنياء لينعم على غيره، ويشعر بحلاوة اليد العليا وبلذة البذل والسخاء1. الجانب المعنوي من التكافل الاجتماعي يتمثل في تعاون المسلمين لإحقاق الحق وإقامة العدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما يتمثل بالإرشاد والتوجيه وتمحيض النصح، والمشاركة الوجدانية بين فئات المسلمين وباختصار فإنه عبارة عن الشعور بالمسئولية الجماعية، وإن كل فرد يمكن أن يتحمل مع الآخرين تبعاتهم وأن يعينهم على أداء واجباتهم. وقد جعل الإسلام هذا النوع من التكافل فريضة على كل مسلم فقال جل من قائل: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ

_ 1 الإسلام عقيدة وشريعة للشيخ شلتوت: ص456.

الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 1 وقال سبحانه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} 2 وقال أشرف المرسلين وأكرم الخلق صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة"، قالوا لمن يا رسول الله، قال: "لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم" 3 وقال عليه الصلاة والسلام: "المؤمن مرآة المؤمن" 4. وقد كان المسلمون يتكافلون فيما بينهم، فيعلم عالمهم جاهلهم، ويرشد كبيرهم صغيرهم، ويوجه ذو الخبرة قليل الدربة والدراية، ويجل الصغير الشيخ المسن، وينصح المحكوم الحاكم والجندي القائد، والمغمور المشهور، والمرءوس الرئيس.. ويتقبلها الحاكم والقائد والرئيس بنفس طيبة راضية، لا يرى في ذلك غضاضة أو إنقاصا من قدره بل يراه نصحا وتوجيها وإعانة على إقامة العدل وإقرارا للحق.. وما زال المسلمون بهذا التكافل الذي يشعر بوحدة صفهم وجمع كلمتهم حتى دب الخلاف فيما بينهم، وتبدلت المفاهيم في أذهان كثير منهم، وأقبلوا على الدنيا ومتاعها، وشغلوا عن واجبهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خوفا على مركزهم الوظيفي أو الاجتماعي. وهكذا تخلى كثير من المسلمين عن وجوب التعاون على إحقاق الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونظرت كل جماعة منهم على أنها وحدة مستقلة عن الأخرى لا ينظمهم عقد ولا يجمعهم رابطة، وهذه هي الآية الكبرى في تبعثر وحدة المسلمين وتشتيت شملهم، وتمزيق كيانهم. والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه العزيز: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} 5.

_ 1 سورة آل عمران: 104. 2 سورة التوبة: 71. 3 رواه البخاري والترمذي والنسائي والدارمي. 4 رواه أبو داود. 5 سورة هود: 116.

وجاء على لسان المصطفى صلى الله عليه وسلم: لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي ودخل النقص عليهم في دينهم نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا، فجالسوهم وواكلوهم وشاربوهم ولم يمنعهم العصيان من مخالطتهم فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ففرق كلمتهم وأذلهم وشتت شمهلم. ثم قرأ: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ، كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} 1.

_ 1 سورة المائدة: 78، 79.

الشورى

3- الشورى: الشورى دليل على رقي التجمع الإنساني، وركيزة من ركائز الدولة الناهضة المتقدمة، وعنوان على تماسك الأمة وتعاون أفرادها وتآزرها للوصول إلى معرفة الطريق السوي والرأي السديد والفكر الناضج. وفي الشورى تتلاقح الآراء، وتظهر المواهب، وتسموا الأفكار. ولذلك فقد لفت القرآن الكريم أنظار المسلمين إلى أهمية الشورى ففيه سورة كاملة تعرف باسم سورة الشورى، يقول سبحانه فيها: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ، وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} 1. وقد أمر سبحانه نبيه الكريم باستشارة الصحابة فقال في محكم تنزيله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} 2. وثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يستشير الصحابة في سياسة الدولة الداخلية والخارجية، وفي توقيع المعاهدات مع أهل الكتاب وفي كافة الأمور التي لم ينزل لها وحي، ومن أبرز استشارات الرسول -صلى الله عليه وسلم- التي تتحدث عنها السنة النبوية، استشاراته في شأن أسرى بدر، فأشار عمر بن الخطاب بضرب أعناق الأسرى، وأشار أبو بكر بالمن عليهم وأخذ الفداء منهم، وكانت نفس الرسول -صلى الله عليه وسلم- الرحيمة

_ 1 سورة الشورى: 36-39. 2 آل عمران: 159.

الرقيقة تميل إلى التلطف في المعاملة حتى مع الأعداء، فأخذ برأي أبي بكر دون رأي عمر فنزلت آيات شديدة العتب لأن الموقف يتطلب إظهار قوة المسلمين وإعزاز شوكتهم، وإبراز منعتهم وسؤددهم. قال سبحانه: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 1. والأساس الذي يقوم عليه مبدأ الشورى في الإسلام كفالة حرية الآراء والأفكار ما لم تمس أصلا من أصول العقيدة أو العبادة2. وكيفية انعقاد مجلس الشورى والإدلاء بالآراء من الوسائل التي تختلف باختلاف الأزمان والبيئات ولذا لم يحدد القرآن الكريم والسنة المطهرة نظاما خاصا أو هيئة معينة لها رحمة بالناس وتوسعة عليهم ليترك تحدده بما يتناسب مع الظروف والأحوال ونظام الدولة وسياسة الحكم والإدارة العامة. وللشورى أصول مهمة ينبغي أن تعتمد عليها وهي كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- قال جل من قائل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} 3 وطاعة الله تعالى تتمثل بتطبيق أوامره واجتناب نواهيه وتحكيم كتاب الله في أنظمة الدول الداخلية منها والخارجية. وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم- تتمثل بتطبيق سنتنه المطهرة، وأولو الأمر هم أهل النظر فيما علموا من أمور مما يدخل تحت تخصصهم وفهمهم وإدراكهم. ويترجح العمل برأي واحد من الآراء بأحد الاعتبارات التالية: 1- قوة الدليل والبرهان. 2- إجماع أغلبية الأعضاء على هذا الرأي. 3- ما يتلاءم مع صالح العقيدة والدين أو بما يحقق مصلحة الجماعة الإسلامية.

_ 1 سورة الأنفال: 67-68. 2 الإسلام عقيدة وشريعة للشيخ شلتوت: ص460. 3 سورة النساء: 59.

العدل

4- العدل: العدل شعار الأبرار، وعنوان تقدم المجتمع، وأساس الحكم الصالح،

وسمة الدولة الناهضة، في ظله يطمئن الناس على أموالهم وأعراضهم وأنفسهم ويسعدون بحياة تتيح الفرص لذوي المواهب والقدرات والكفاءات والعدل قوة يهب الأمة القدرة لأن تكون مهيبة الجانب عزيزة السلطان أمام الدول الصديقة والمعادية. وقد حث القرآن الكريم على إقامة العدل في الأمور جميعها لتبقى الأمة عزتها ومنعتها، ولتحفظ بكيانها وشخصيتها النقية التقية الطاهرة، فأمر المسلم أن يلتزم بالعدل بقوله وفعله وأن يلتزم به مع قريبه وأمه وأخيه، ومع البعيد: الصاحب أو الجار، مع المحب ومع العدو، مع الغني ومع الفقير، في شئونه الخاصة والعامة، وأمر بالعدل في العهود والمواثيق وفي أداء الأمانة والإدلاء بالشهادة. قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} 1. وقال جل من قائل: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} 2. وقال سبحانه: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} 3.

_ 1 سورة النحل: 90. 2 المائدة: 8. 3 سورة الشورى: 15.

الخلافة وأثرها على وحدة الأمة الإسلامية

الخلافة وأثرها على وحدة الأمة الإسلامية: انتقل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الرفيق الأعلى وقد ترك في الأمة شيئين ما إن تمسكت بهما لن تضل بعده، وهما كتاب الله تبارك وتعالى وسنته صلى الله عليه وسلم. وتولى شئون المسلمين بعد الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- أبو بكر الصديق رضي الله عنه خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونعم الناس في ظل الخلافة بالسعادة الدنيوية والراحة النفسية، ولو وازنا بين أوضاع المسلمين في حكم الخلافة الإسلامية وأوضاعهم بعد زوال الخلافة لوجدنا الفرق شاسعا والبون واسعا، من حيث الوفاة والأمن والعزة

والسيادة ووحدة الصف واتفاق الكلمة، واحترام العلم وإجلال المفكر والأخذ برأي الفقيه، وتقدير الناس وإكرام الضيف وتقبل النصح والإرشاد، والقياد على حدود الله، وعقد راية الجهاد. والتقدم الحضاري في المجال الاقتصادي والعمراني والتعليمي والمدني والسياسي.. ففي ظل الخلافة نعم الناس برغد العيش والتكافل الاجتماعي والأدبي والمالي، وجمع الكلمة واتخاذ الموقف الموحد إزاء الأخطار الخارجية. " ... حكام المسلمون، آمنوا بالله واليوم الآخر، وحافظوا على كتاب الله وسنة رسوله، ووقفوا عند حدودها والتزموا بأحكامهما، حضروا المساجد مع الرعية، وفتحوا لهم الأبواب ... يتقبلون المحاسبة والإنكار، كان الجهاد في سبيل الله رائدهم، لم يتخلوا عنه في أحلك الظروف التي مرت بهم، لأنهم آمنوا بقول الصديق -رضي الله عنه- "ما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا" لذلك كثرت الفتوحات الإسلامية في زمانهم وكانوا قادة الفتح الإسلامي.."1. تعريف الخلافة: الخلافة في اللغة مصدر "خلف". يقال: خلفه خلافة، أي كان خليفته وبقي بعده، والخليفة السلطان الأعظم، والجمع خلائف وخلفاء"2 فالخلافة موضوعة في الأصل لكون الشخص خلفا لغيره، ومن ثم سمي من يخلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في تنفيذ الأحكام الشرعية وإدارة الحكم وقيادة الجيش خليفة، ويسمى أيضا "إماما" تشبيها بإمام الصلاة في الاقتداء به واتباعه. ولهذا يقال: "الإمامة الكبرى". وعلى هذا فالخليفة من يخلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الأمة الإسلامية، ويقال له: "خليفة" بإطلاق اللفظ، من غير قيد، ويقال له: "خليفة رسول الله". واختلف في صحة تسميته خليفة الله، فأجازه بعض علماء الفقه اقتباسا من الخلافة العامة التي هي للآدميين المشار إليها بقوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} 3 وقوله سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ

_ 1 الإسلام بين العلماء والحاكم للأستاذ عبد العزيز البدري: ص15. 2 لسان العرب. 3 سورة البقرة: 30.

بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} 1 ومنع الجمهور منه. وقد نهى أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- عنه لما دعي به، وقال: "لست خليفة الله ولكني خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والاستخلاف إنما هو في حق الغائب، وليس في حق الحاضر2. أما الخلافة في الاصطلاح: فهي رياسة عامة في أمور الدين والدنيا نيابة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي ذلك يقول ابن خلدون: "والخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها. إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشرع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين والدنيا"3. وذهب السلف الصالح إلى أن أساس كل حكم في الإسلام الخلافة، وإن منزلة الخليفة من الأمة كمنزلة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من المؤمنين له عليهم الولاية العامة والطاعة التامة، وله حق القيام على دينهم فيقيم فيهم حدوده وينفذ زمام الأمة، وكل ولاية مستمدة منه، وكل خطة دينية أو دنيوية متفرعة عن منصبه. فهو الحاكم الزمني والروحي للمسلمين4. وعلى هذا فالخليفة هو الذي يتولى شئون المسلمين ويحكم بشريعة الله ويطبق أنظمة الإسلام في كافة مجالات الحياة الدنيا، اجتماعية كانت أو اقتصادية، أو تعليمية أو سياسية داخلية أو خارجية، وليس معنى قولنا "بيده زمام الأمة" أنه يحكم في الأمة حسبما يمليه عليه هواه أو تأمره به نفسه، كلا! بل إنه ملزم بتطبيق الدستور الإسلامي وهو مسئول أمام الناس عن مدى تطبيق النظام الإسلامي. والخلافة صورة أصلية وتعبير صادق لجمع كلمة المسلمين وتوحيد أنظمتهم الدنيوية وسياستهم الخارجية، وهي عنوان على اتحاد وضعهم وقوتهم المعنوية والمادية. وهناك أدلة كثيرة تدعو إلى جمع المسلمين في كافة بلادهم وجميع

_ 1 سورة الأنعام: 165. وانظر سورة فاطر: 39. 2 مقدمة ابن خلدون: ص166. 3 مقدمة ابن خلدون: ص166. 4 تاريخ الإسلام د. حسن إبراهيم: ص63.

أقطارهم تحت قيادة موحدة، من هذه الأدلة قوله صلى الله عليه وسلم: "يد الله مع الجماعة"، "من فارق الجماعة فاقتلوه" قول الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} 1.

_ 1 سورة الحجرات: 9.

واجب المسلمين لتحقيق التضامن الإسلامي

واجب المسلمين لتحقيق التضامن الإسلامي: لقد أدرك العالم الإسلامي أن السبب في تخلفه عن ركب التقدم الحضاري، والعلم "التكنولوجي"، إنما يرجع إلى الاستعمار الذي امتص القوى الوطنية، والأنشطة العقلية، والطاقات الجسمية التي كانت تعمل بدأب وإخلاص في سبيل استقلال البلاد، هذا الاستعمار الذي خيم بثقله وقسوته وجبروته على الوطن الإسلامي أمدا طويلا، استغل فيها خيرات البلاد واستخدمها في سبيل نهضته الحديثة وتقدمه الصناعي وعمرانه الشاهق ومصانعه المشادة.. وإذا كان المستعمر قد أدخل بعض التحسينات على الجوانب العمرانية في البلاد المستعمرة فقد قصرها على المدن التي يسكنها هو نفسه. وقد أدرك العالم الإسلامي أيضا الجهود الشيوعية المكثفة التي عملت منذ ظهور ثورتها على إقامة دولة إسرائيل في فلسطين "قلب الوطن الإسلامي". ففي أكتوبر عام 1917م أي في نفس الشهر الذي وقع فيه الانقلاب الشيوعي أعلنت الحكومة السوفيتية تأييدها لإقامة ما سموه "حق اليهود في فلسطين" وقد سبق وعدهم هذا وعد بلفور1 وهناك منافع متبادلة بين السوفييت والصهيونية تظهر بوضع الخطط وفي تنفيذها رويدا رويدا ضد فلسطين والعرب والمسلمين، وفي تقدير السوفييت أن انتشار الماركسية في البلاد العربية معناه زوال "سور التفاهم" بين اليهود والعرب، وهم يضعون مسئولية سوء التفاهم هذا على عاتق "الرجعية" العربية التي ترفض أنصاف الحلول فيما يتعلق بالحق الإسلامي والعربي في فلسطين وغيرها. "فالرجعية العربية تحول دون وحدة "القوى التقدمية" في منطقة الشرق

_ 1 التضامن الإسلامي للأستاذ محيي الدين القابسي: ص110.

الأوسط، والقوى التقدمية في تعريف السوفييت هي القوى الماركسية بصرف النظر عن قوميتها "عربية أو يهودية" والدعوة القومية هي -في نظرها- دعوة بورجوازية تعذيها الإمبريالية، والدعوة الدينية هي دعة رجعية، ومتى زالت هذه "الأفكار" أمكن لليهود كما يصرح السوفييت علنا أن يعيشوا بسلام على الأرض المغتصبة في ظل الوطن الأم للاشتراكية العالمية الماركسية اللينينية"1. وإزاء هذا الواقع الذي لا يخفى على أحد لا بد من توحيد كلمة المسلمين وجمع أفكارهم وقلوبهم على الدين، ففيه وحده نستطيع أن نرجع كما كنا أمة عزيزة بدينها قوية بتأييد الله لها، مستبشرة بنصر الله. والمسلمون أفرادا وشعوبا مدعوون لإيجاد الأسباب التي من شأنها أن تحقق التضامن الإسلامي، ولعل هذه الأسباب تنحصر في دائرتين الدائرة الأولى: عمل من داخل الجماعات الإسلامية ليبث الوعي الديني ويوقد جذوة الإيمان في القلوب ويبعث القوة في العزائم. الدائرة الثانية: عمل من قادة المسلمين لاستقطاب وحدة الصف الإسلامي وتعزيز قوة ترهب عدو الله وتقف في وجه البغي والعدوان. أما العمل الداخلي فيتجلى في الدعوة إلى الإصلاح، إصلاح نفسي ذاتي من داخل الفرد وأعماقه، وإبعاده عن كل ما يورث الخمول والدعة والركون إلى متاع الحياة الدنيا وزينتها. وإصلاح في علاقة المؤمن مع أخيه المؤمن ليشاركه أفراحه وآماله وأتراحه وآلامه وقد تصحح مفهومه نحو العبادة التي كادت تتحول إلى عادات خالية من معنى الخشوع والخضوع لله تعالى، والعمل على توسيع مدلولها، لتشمل كل نشاط إنساني، مهما كانت صبغة هذا النشاط، ومهما كان شأنه. يقول الأستاذ سيد قطب: "جعل بعض الناس يفهمون أنهم يملكون أن يكونوا مسلمين إذا هم أعدوا نشاط العبادات وفق أحكام الإسلام بينما هم يزاولون كل نشاط من أنشطة المعاملات وفق منهج آخر لا يتلقونه من الله، ولكن من إله آخر، هو الذي يشرع لهم في شئون الحياة ما لم يأذن به الله، وهذا وهم كبير،

_ 1 التضامن الإسلامي محيي الدين القابسي: ص112-113.

فالإسلام وحدة لا تنفصم وكل من يفصمه إلى شطرين على هذا النحو، فإنما يخرج من هذه الوحدة أو بتعبير آخر يخرج من هذا الدين. وهذه هي الحقيقة الكبيرة التي يجب أن يلقي باله إليها كل مسلم يريد أن يحقق إسلامه ويريد في الوقت ذاته أن يحقق غاية وجوده الإنساني"1. ومن الملاحظ أن هناك فئة من المسلمين فصلت الدين عن الدنيا فظنت -خطأ أو غباء- أنها إذا أدت بعض الشعائر الدينية أصبحت مسلمة، ولو تعاملت بالربا ولو انتهكت أعراض المسلمين ولو استولت على أموالهم غصبا وزورا وعدوانا. وهناك فئة أخرى تعتبر نفسها مسلمة إذا صلت أو صامت، وقد تبيح لنفسها أن تخرج عن آداب الإسلام وأخلاقه وعاداته الاجتماعية، فلا تحظر من اختلاط الرجال بالنساء، ولا تحترس من ميوعة الشباب، ولا من ارتكاب بعض المعاصي التي قد تخرجها، من ربقة الإسلام وعهده. وهناك أناس كثيرون وأسر إسلامية فهمت أن العبادة عبارة عن أداء ركعات محدودة في أوقات معينة، فإذا أدتها، وخرجت من محرابها نسيت الغاية المثلى التي شرعت من أجلها العبادة، ونسيت أن الحياة بأسرها محرابا للعبادة وأن الإنسان في عبادة حتى ولو كان في حالة بيع أو شراء أو زراعة أو عمارة أو تطبيب أو مداواة للأدواء.. هذه الجماعات كلها لم تفهم معنى الإسلام حقيقة الفهم، ولم تدرك معنى العبادة الإدراك الكامل، ولم يتكون في باطنها الوازع الديني، والخوف من الرقابة الإلهية. أجل هذه الجماعات لم تتربَ التربية الإسلامية اللازمة، ولم تتعلم العلم الإسلامي ولم تتخلق بالأخلاق الإيمانية، ولم تخضع نفسها لشريعة الله ولمنهج الله، أو إنها ربيت بأيد غير نظيفة من الأغراض المنكرة والنوايا الخبيثة من استشراق وتبشير، وقد ينحو الاستعمار منحى تشويه الحقائق الإسلامية فيقلب الصورة رأسا على عقب، ويبدل المفاهيم، ثم يوصل هذه المفاهيم المغيرة والحقائق المتلاعب في صورتها إلى أبناء المسلمين عن طريق مدراسهم وجامعاتهم الأوروبية والأمريكية أو التبشيرية في الديار الإسلامية.

_ 1 فقه الدعوة: 60-67.

هذه الفئات موجودة في المجتمعات الإسلامية فعلا وهي تحتاج إلى نصح وإرشاد وتوجيه وتعليم، تحتاج إلى نصح وإرشاد وتوجيه وتعليم، تحتاج إلى دعاة أقضت مضجعهم الأحوال غير الطبيعية للمسلمين فباتوا يخططون خطط الخير ويفكرون في سبل إعادة المشاعر الدينية إلى النفوس والأحاسيس الإسلامية إلى القلوب، وفضلا عن هذا فهم يسعون لإنقاذ الأفكار والعقول من شبهات الاستشراق ويعملون على عرض الإسلام أبيض نقيا كما أراده الله تعالى وكما بلغه عنه رسوله الكريم محمد الأمين صلى الله عليه وسلم. إن فكرة التضامن لا تتحقق إلا إذا اتحدت مشاعر الأفراد على أساس عقدي روحي دائم لا يتغير بتغير الظروف والأحوال والمصالح، وهذه المشاعر لا يمكن أن تلتقي على مجرد العصبية أو الجنسية أو المنافع الاقتصادية فقط، لأنها عوامل غير ثابتة وغير صالحة لأن تبنى عليها وحدة إسلامية إنسانية، وما كان هذا شأنه فهو غير قادر على الاستمرار في توحيد الشعوب، والأمة التي يجمع بين أفرادها الحق لا يمكن أن يفرق بينها الباطل. وقد جمعت عقيدة التوحيد بين المسلمين جميعا بغض النظر عن أجناسهم وألوانهم وأوطانهم وعصبياتهم وهذه العقيدة نفسها قادرة اليوم على أن تجمع بين المسلمين وأن تؤلف بين قلوبهم وأن توحد مقاصدهم وأهدافهم. وأما العامل الخارجي فيتجلى بأن تتمثل حكومات البلاد الإسلامية الإسلام بمعناه الحقيقي عقيدة ونظام حياة ونظام حكم. ومن الخطأ البالغ أن تفصل أية حكومة بين التصور الاعتقادي وبين نظام الحكم والأنظمة الاجتماعيةن ذلك لأن الإسلام يختلف اختلافا كليا عن سائر المعتقدات وسائر الأديان التي عبثت بها الأيدي وغيرت من خط مجراها تغيرا جوهريا، وقد بقي الإسلام الدين الوحيد الموثوق فيه الذي سلم -بفضل الله وحفظه- من الأيدي الآثمة والأفكار المضللة، وهو الدين الذي ينبع منه كل تصور لكل نواحي الحياة وجوانبها. وحينما يكون الشعب مسلما بأنه لا يرضى بغير دين الله حكما ولا بغير شرع الله شرعا، والانفصام بين التصور الاعتقادي والنظام الاجتماعي والسياسي لا يفيد إلا التمزق الفكري والاجتماعي، وإنه يوقع فئات المجتمع بربكة أيما ربكة وحيرة أيما حيرة. وقد آن للمسلمين أن يعرفوا الطريق السوي الذي يجب أن يسلكوه، والغاية

النبيلة الجامعة التي يجب أن يسعوا إلى تحقيقها، بعد أن عرضت عليهم في عالم التجربة "أفكار" و"مذاهب" و"عقائد" "شرقية" و"غربية" وقد أثبت الواقع زيف وبطلان تلك المذاهب، والعقائد، ولم يبق إلا الإسلام.. والإسلام وحده، هو الذي ينقذ الأمة الإسلامية من الغزو الفكري المريع ومن الصراع العنيف.. وهو الذي يضمن لها السلامة والاطمئنان والأمن. "إن جدية المعركة وخطورتها لتتطلب من كل مسلم أن يتدبر أبعاد الوضع الدولي القائم وأن يعرف حقيقة الدوافع التي تحرك أحداثه وانعكاسات هذا التحرك على عالمه الإسلامي وما ينشأ عنها من قضايا ومشكلات. وتلك الجدية نفسها تتطلب من كل مسلم ألا يقف مكتوف اليدين إزاء ما يرى من تآمر علني تتشارك فيه القوى العالمية الشريرة، ويثق بأن ليس في الدنيا، بعد الله تعالى، سوى إخوته المسلمين في شتى بقاع الأرض، فهم وحدهم الذين يتألمون لألمه ويفرحون لفرحه، وهم -وحدهم من بني البشر جميعا- المستعدون للتضحية من غير أن ينتظروا الجزاء بعيدا عن حسابات المصالح وفواتير الأرباح"1. وغير خاف على أحد من أن السبيل الوحيد لتقدم الأمة الإسلامية والدعامة الأولى في بناء نهضتها والسبب الأكيد لعزها هو تمسكها في دينها وتبنيها لفكرة التضامن الإسلامي على أسس من عقيدتها ومنهاجها الإسلامي.

_ 1 التضامن الإسلامي للأستاذ محيي الدين القابسي: ص16.

دواعي التضامن الإسلامي

دواعي التضامن الإسلامي: إن كل شيء في الإسلام عقيدته، لغته، نظمه مناهجه، يدعو إلى التضامن وجمع الكلمة، ووحدة الصف، فالعقيدة هي التي تجمع بين قلوب المؤمنين وتشد من أزرهم كلما داهمهم خطب أو حزبهم أمر أو ألم بهم مكروه، وبالعقيدة وحدها يشعر المؤمن بالتعاطف والتآخي مع إخوته المؤمنين وإن عاشوا في أدنى أو أقصى المعمورة. وحينما اتحد المسلمون على أساس العقيدة تمكنوا من مواجهة جحافل الصليبية في حروبها الطاحنة، ومن ردها على أعقابها خاسرة نادمة.

والمؤمنون يعتقدون أن اللغة العربية هي اللغة الأم الجامعة، لأنها الوسيلة الحقيقية لأداء الشعائر الدينية صحيحة، فالمؤمن يحس بالألفة والمودة تجاه من يتكلم العربية، وتجاه من يقرأ القرآن عبادة وتقربا لله تعالى، وإن كانت تفصل بينهما آلاف من الأميال، إذ إن الشعور القلبي والرابطة الإيمانية لا تتوقف على قرب الزمان والمكان. والإسلام دين وعقيدة ولغة ومنهج حياة يحيا -في قلوب سبعمائة مليون من المسلمين- مختلفين في الأوطان والديار والقوميات والعصبيات، ومع ذلك فهو يطبعهم بطابع خاص ويوجههم وفق تعاليمه وأخلاقه ومناهجه الخاصة، وهم يختلفون في أسلوبهم المعاشي ومنهاجهم الحياتي عن غيرهم من الشعوب والأمم التي لا تدين بالإسلام، والمناهج الواحدة والغايات الواحدة كفيلة لإيجاد الألفة الروحية بين المسلمين، وكفيلة بأن تجعلهم أمة متميزة عن غيرهم من الشعوب والأمم. والإسلام لا يسمح بالتكتل على أساس العنصرية أو اللون أو الجنسية أو الطائفية لأنه الدين الذي جاء لصهر كافة هذه العوامل في وحدة دينية جامعة لا تفرق بين عربي وتركي وكردي أو أحمر وأبيض إلا بالتقوى.. وهو الدين الوحيد الذي جاء ليقرر الأخوة الإيمانية وإنها أخوة تفضل عن أخوة النسب وتعلو عليها، بل هي الرابطة الحقيقية التي تجمع بين مختلف الأجناس والعصبيات. ونرى الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو الإمام والقدوة وهو المثل الأعلى للمسلمين يقيم الروابط الاجتماعية في المدينة المنورة على أساس الأخوة الإيمانية دون اعتبار لأخوة النسب، حتى أن المسلمين كانوا يتوارثون بسبب هذه الرابطة، فلو لم يكن لها الاعتبار القوي، ولو لم يكن لها المنزلة العظمى لما جعلت أوثق من قرابة النسب وأقواها أثرا. وإنه لمن المؤسف حقا أن نجد دعاة الثورية والتقدمية في كثير من بلاد العالم الإسلامي يتحرجون من الدعوة إلى التضامن الإسلامي أمام العالم الغربي المتطور، فيلجئون إلى طبعها بطابع القومية العربية ظنا منهم -غباء أو بسوء نية- أنها أنسب للعصر، وأدعى لأن تحظى برضى الآخرين، وجهل هؤلاء أن القومية ليست دعوة إنسانية. وأنها ضيقة جدا ومحدودة في حيز مكاني صغير، وأن

القوميات التي دانت للإسلام قد انصهرت عن طواعية ورضى في بوتقة الإسلام، ثم إن الدعوة للقومية أصبحت شعارا قديما -وفي عرفهم- رجعيا، إذ إن الدعوات الحديثة تقوم على أساس وحدة المبدأ أو الفكرة، دون وحدة القومية ويكفي للدلالة على ذلك أن روسيا الشيوعية تضم ما ينيف عن مائة وسبعين قومية. وقد كانت هذه القوميات تخضع للشيوعية مقهورة مغلوبة على أمرها إذ لا يجد الإنسان السوي فيها ما يتناسب مع فطرته ومع إنسانيته، وشتان بينها وبين مبادئ الإسلام المثالية الواقعية التي تلتئم التئاما قويا مع الفطرة البشرية. وأين الثرى من الثريا؟ ويكفي للرد على هؤلاء الذين يخجلون من الدعوة للتضامن الإسلامي قول الله تبارك وتعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِير} 1 وقوله جل من قائل: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} 2. فالإسلام يأبى كل الإباء أية دعوة تدعو لتمزيق كيان الأمة ولتشتيت شمل أبنائها، أو لتفريق كلمتها، والقضاء على وحدتها، وتبديد قوتها، وإن إثارة فتنة القومية أو الطائفية في المجتمع الإسلامي كفيلة بأن تبذر بذور الحقد والحسد والتناحر والتخاصم في قلوب أفراد هذا المجتمع المتماسك بسبب الدين وحده. وإن الرابطة الإيمانية هي التي وحدت بين القلوب وهي التي شيدت صرح التاريخ وهي التي أعلت بنيان المجد والسؤدد التليد. ولا يخفى أن الاستعمار البغيض لم يستطع أن يبسط نفوذه على الأمة الإسلامية إلا بعد أن فرقها شيعا وأحزابا وأقام بينها حواجز مصطنعة، تتقاطع من أجلها وتتقاتل في سبيل هذه الحدود الاعتبارية التي ما أنزل الله بها من سلطان، وشد ما نحزن حينما نعلم أن الخلاف يصل إلى عنفوانه، وإلى درجة سفك الدماء والذهاب بالرجال والمعدات بسبب الحدود المصطنعة.. إنها مسألة مرسومة بريشة العدو الثلاثي المشترك "الصهيونية والشيوعية والصليبية" لإثارة العداوات

_ 1 سورة البقرة: 120. 2 سورة الأنبياء: 92.

ولتبديد الطاقات والأموال ولشغل المسلمين بفتن جانبية تبعد اهتماماتهم عن القضايا الأساسية وعن المشكلات الجوهرية. وحينما صممت الشعوب الإسلامية على أن تتحرر من نير الاستعمار، لم تستطع أن تحقق ما سعت إليه إلا بسبب قوة العقيدة، ووحدة الشعور الديني الذي كان يلهب الحماسة ويشد العزائم ويجمع الشتات ويذكي الكفاح، ويوحد النضال.. وعلى هذا فإن طابع الأمة الإسلامية طابع إنساني عالمي، إنه يتسامى على القومية التي تدعو إلى التكتل على أساس روابط القبيلة أو العرق أو الجنس أو الطبقة الخاصة.. ويتسامى على طابع الرأسمالية التي تساند الأثرياء من أصحاب المال والصناعة، ولو اقتضى الأمر أن تكون المساندة على حساب الآخرين من غير قيد لوسائل الكسب والإنفاق، وهو فوق الاشتراكية التي تساند طبقة العمال مساندة مطلقة على حساب أصحاب رءوس الأموال1. إن كل العوامل التي تحدث الفوارق في المجتمعات الإنسانية، من اقتصاد أو طبقية أو عنصرية تزول أمام قوة الإسلام، وذلك للقدرة الذاتية التي يملكها هذا الدين لاستيعاب كافة مقومات الأمة في الوحدة الإسلامية والرابطة الإيمانية.. إن المسلمين يتعبدون بكتاب واحد، هو كتاب الله العزيز الحميد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ويتجهون جميعا في عباداتهم إلى قبلة واحدة هي رمز لوحدة الهدف والاتجاه، وهم جميعا يسعون لتحقيق غرض واحد وهو رضاء الله رب العالمين.. وهذه هي العوامل الحقيقية لوحدة الأمة الإسلامية، وهي العوامل الجوهرية التي تدعو إلى التضامن الإسلامي. إن التضامن الإسلامي أمر تفرضه على المسلمين طبيعة دينهم ووضعهم الجغرافي والاقتصادي وظروفهم السياسية والدولية وتراثهم المشترك الزاهي، وإنه من الخير أن تتكتل المجتمعات الإسلامية على وحدة الدين وأن يكون كل فرد بالنسبة لأخيه المسلم كالبنيان يشد بعضه بعضا. وأن يتعاونوا في سبيل نهضة إسلامية شاملة. قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ

_ 1 الثقافة الإسلامية على ضوء الكتاب والسنة للدكتور تهامي نقرة: ص233.

وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ، وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ، وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ، يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ، وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعالَمِينَ} 1. وعلى هذا الضوء ينبغي أن ينظر إلى "التضامن الإسلامي"، فهو حقيقة قائمة بين الشعوب الإسلامية لا يحتاج إلى أكثر من تنسيق وتنظيم وتوجيه. وليست دعوة التضامن الإسلامي قاصرة على المشاعر النفسية والروابط القلبية والأحاسيس الداخلية، وإنما تتعدى هذا المجال إلى مجال الاقتصاد والسياسة والقوة الدفاعية. ففي المجال السياسي وعلى الصعيد الدولي تظهر قضايا إسلامية تحتاج إلى حل سريع ودائم، وهذه القضايا هي: قضية فلسطين، وقضية كشمير، وقضية إرتيريا، وهناك شعوب مضطهدة في فلسطين المحتلة ولبنان وجنوب إفريقيا، وقبرص.. ولا بد للعالم الإسلامي أن يقف من هذه القضايا موقف الرجل الواحد، الذي يسعى حثيثا لمناصرتها والذود عن حرماتها. ويبذل الغالي والنفيس من أجل الحفاظ على سلامتها ووجوها وحريتها وأمنها. وفي المجال الاقتصادي توجد بلاد إسلامية غنية وأخرى فقيرة، فلا بد من إعداد المشروعات الجمة تحقيقا للتعاون فيما بينها، ولا بد أيضا من إعداد برامج مشتركة للتنمية الاقتصادية تشمل كافة أوجه النشاط الاقتصادي، من زراعة وتصنيع وتعمير وتجارة، ويرافق هذه المشروعات وهذه البرامج خطة علمية لتقدم العلم "التكنولوجي" في العالم الإسلامي على حد سواء للاستفادة منه في مجال

_ 1 سورة آل عمران: 102-108.

التصنيع والتسلح والتنمية الاقتصادية. وعلى هذا فالتضامن الإسلامي "دعوة الدين والدنيا في آن واحد لأن الإسلام نفسه دين ودنيا، ولأنه "عبادة" "ومعاملة"، فقد حض أتباعه على أن يعملوا لدنياهم كأنهم يعيشون أبدا، وأن يعملوا لآخرتهم كأنهم يموتون غدا، وليس بين جميع عقائد الدنيا، روحية ودنيوية عقيدة أقامت التوازن الدقيق بين الدين والدنيا مثلما فعل الإسلام"1. وإن سياسة الدول والأمم في العالم قائمة على التكتل والتحالف والانضواء في مجموعات متعاونة يسند بعضها بعضا، ويدافع بعضها عن بعض، ويلتمسون لذلك أوهى الأسباب، فأوروبا الغربية وجدت نفسها واقعة بين العملاقين الكبيرين: أمريكا وروسيا، ووجدت أن تبيعتها لهذا المعسكر أو ذاك إنما يهدد وجودها ومستقبلها وكيانها ودورها الحضاري المتميز، وكان عليها أن تحزم أمرها، وأن تختار الطريق الذي يحفظ لها ذلك الكيان، وهو طريق الوحدة، رغم ما بين دولها من تناقضات كان يعتقد أنه لا سبيل إلى تخطيها. وما السوق الأوروبية المشتركة إلا خطوة في سبيل التقارب والتعاون والاتحاد بين الدول الأوروبية الغربية في مضمار الاقتصاد.

_ 1 محيي الدين القابسي، التضامن الإسلامي: ص14.

الفهرس

الفهرس الموضوع الصفحة المقدمة 5-9 الفصل الأول: تعريف الثقافة 13-18 خصائص الثقافة 19-42 أهمية دراسة الثقافة الإسلامية 43-59 الفصل الثاني: ركائز الثقافة الإسلامية: 61-153 الإيمان 63-111 التشريع ومصادره 113-153 الفصل الثالث: تحديات أمام الثقافة الإسلامية: 155-226 النصرانية 159-186 اليهودية 187-212 الشيوعية 213-225 التغريب 226-266 الفصل الرابع: الجوانب العملية في الثقافة الإسلامية: 267-357 الجهاد فريضة مستمرة 230-231 التضامن الإسلامي قضية مصيرية 332-357

§1/1