أصول مسائل العقيدة عند السلف وعند المبتدعة

سعود بن عبد العزيز الخلف

المجلد الأول

المجلد الأول سمات وقواعد منهج السلف في العقيدة مدخل ... بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيآت أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم وبعد: فإن عقيدة السلف تتميز عن غيرها من العقائد المخالفة لها بانتمائها في دقيق المسائل وجليلها إلى الوحي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وتتميز بأنها تجمع المسلمين ولا تفرقهم كما أنها لا تختلف فيها الأهواء ولا يتنازعها أصحاب الآراء لأنه لا مجال للعقل ولا للهوى لمخالفتها لتميزها بالتسليم لمدلول النصوص والوقوف عند حدودها، فما أدركه وفهمه المسلم حمد الله عليه وما لم يدركه يكل علمه إلى عالمه ويقول {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} . سمات وقواعد منهج السلف في العقيدة:- قبل الشروع في بيان السمات والقواعد لمنهج السلف في العقيدة نبين المراد بمفردات العنوان: السمات: جمع سمة وهي العلامة المميزة، والمراد هنا علامات ومميزات. والقواعد: جمع قاعدة وهي من البناء أساسه، وهي أيضا الضابط أو الأمر الكلي ينطبق على جزئيات1.

_ 1 المعجم الوسيط 2/748.

والمنهج: هو الطريق الواضح1. والسلف: جمع سالف وهو كل من تقدمك من آبائك وذوي قرابتك في السن أو الفضل2. والمراد هنا بالسلف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ثم التابعين لهم بإحسان ومن تبعهم من أئمة الدين وأعلام الهدى بخلاف من رمي ببدعة من الخوارج والروافض أو الجهمية أو المعتزلة ونحوهم3. والعقيدة: من عقد قلبه على الشيء ولزمه4. والمراد بالعقيدة في الاصطلاح: هي الأمور التي يجب على المسلم اعتقادها بقلبه مما يتعلق بالله عز وجل وأركان الإيمان الأخرى ومسائل تلحق بذلك مثل مسائل الإيمان والخلافة ونحوها. أما قواعد السلف وسمات منهجهم في تقرير مسائل العقيدة فيمكن استخلاصها من كلام الأئمة المتقدمين. قال الأجري رحمه الله في كتابه الشريعة: "باب الحث على التمسك بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسنة أصحابه رضي الله عنهم وترك البدع وترك النظر والجدال فيما يخالف فيه الكتاب والسنة وقول الصحابة رضي الله عنهم"5 ونحوه قال ابن بطة في الإبانة6.

_ 1 المعجم الوسيط 1/957. 2 القاموس المحيط ص 1060. 3 لوامع الأنوار البهية 1/20. 4 لسان العرب 4/3032. 5 الشريعة 1/170. 6 الإبانة الصغرى ص: 102.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ثم من طريقة أهل السنة والجماعة اتباع آثار الرسول صلى الله عليه وسلم باطنا وظاهرا واتباع سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار واتباع وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة" 1 ويعلمون أن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، ويؤثرون كلام الله على غيره من كلام أصناف الناس، ويقدمون هدي محمد صلى الله عليه وسلم على هدي كل أحد"2. فهذه الأصول ظاهرة واضحة في كل كتاب من كتب عقيدة السلف، وبعضهم ينص عليها ثم يفصل في مفردات مسائل عقيدة السلف والبعض يبدأ يذكر مفردات العقيدة لكن وفق القواعد المتفق عليها بينهم وهي: 1 الاعتماد على الكتاب والسنة في أصول المسائل وتفريعاتها. 2 اتباع سلف الأمة من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان. 3 عدم عرض شيء من ذلك على الآراء والأهواء. الحذر من البدع وأهلها. وسنذكر هذه القواعد بأدلتها حتى يتبين أن السلف رحمهم الله إنما يعتمدون في سائر الأمور الدينية على كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو الحق الذي لا تشوبه شائبة،وهو ما يجب على كل مسلم التزامه وطرح ما سواه.

_ 1 أخرجه أبو داود في السنة 4/201، باب لزوم السنة. 2 العقيدة الواسطية ص: 28.

القاعدة الأولى: الاعتماد على الكتاب والسنة في أصول المسائل وتفريعاتها

القاعدة الأولى: الاعتماد على الكتاب والسنة في أصول المسائل وتفريعاتها. هذه القاعدة تعني أنه يجب على المسلم أن يربط عقيدته وسائر أمور دينه بكلام الله عز وجل وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم. فيكون مصدره في كل ذلك القرآن والسنة لأنهما مصدر الدين، فما كان فيهما فهو الدين وما ليس فيهما فهو ليس من الدين عظم شأنه أو حقر، كما أن العقيدة جلها أمور غيبية لا يستقل العقل بمعرفتها وإدراكها، فوجب الرجوع في ذلك إلى خبر العليم الحكيم وإلى خبر من لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، والوقوف عند ذلك وعدم تجاوزه إلى غيره. وقد أمر الله عز وجل بالتزام كتابه فقال عز من قائل: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ، أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة 4, 5] . وقال تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام19] . وقال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} [الإسراء9] وقال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف3] . وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً، وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} [الأحزاب 1-2] وغيرها كثير. أما الأدلة الموجبة للالتزام بالسنة فكثيرة، منها قول الله عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران31] ، وقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور63] ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ

وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال24] ، وقال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء65، وقال تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} [الحشر7] ، وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب21] . أما الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فكثيرة منها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم" 1. وحديث العرباض بن سارية قال: "وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، قلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا "وفي رواية: فما تعهد إلينا" قال: "قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها ولا يزيغ عنها بعدي إلا هالك " وفي رواية: "أوصيكم بتقوى الله والطاعة والسمع وإن كان عبدا حبشيّا، فإنه من يعش منكم بعدي سيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" 2. وحديث جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته: "نحمد الله بما هو أهله"، ثم يقول: "من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، أصدق الحديث كتاب الله عز وجل، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر

_ 1 رواه مسلم، كتاب الفضائل، باب الانتهاء عما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم. 2 أخرجه الآجري في الشريعة 1/171، كما أخرجه حم 4/126،127، والترمذي رقم 2678 وقال: حسن صحيح.

الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار" 1. وهنا يحسن التنبيه على أمرين: أحدهما: أن الكتاب والسنة حويا أصول الدين وفروعه. من المعلوم أن علماء الأمة يلتزمون في مسائل الفقه كلها بالنصوص الشرعية ويجعلون أدلة الأحكام الكتاب ثم السنة ثم الإجماع ثم القياس. ولكن الذين وقعوا في الكلام المذموم أو البدع والأهواء إذا أتوا على باب الاعتقاد أعرضوا عن الكتاب والسنة، مع أن مسائل الاعتقاد من الغيب الذي لا يمكن أن تستقل العقول بمعرفتها، كما أننا نجد أن الله عز وجل قد علمنا فيه بأخبار الأولين بل ذكر لنا فيه ما يتعلق ببعض الحشرات كالنحل في قوله عز وجل: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ، ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل68, 69] . كما ذكر النمل والطير والدواب، بل ذكر جل وعلا دقائق مما يتعلق بالإنسان من ناحية خلقه في بطن أمه وتكوينه. فكيف يمكن مع هذا أن لا يعرف القرآن به جل وعلا من ناحية صفاته وأسمائه ومن ناحية أفعاله، هذا لا يمكن أن يكون مع قوله عز وجل: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام 38] . مع أن الوحي لم ينزل والرسل لم ترسل إلا لتعريف الخلق بربهم جل وعلا وحقوقه وجزائه للمطيعين والعاصين قال عزمن قائل: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} [الطلاق12] ،بل أول أية من القرآن نزلت تضمنت التعريف بالله عز وجل قال تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ

_ 1 الآجري في الشريعة 1/170 ومسلم حديث رقم 867.

خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق1-5] . وكذلك رسوله صلى الله عليه وسلم لايمكن أن يكون علمنا آداب قضاء الحاجة وآداب الأكل والشرب والجماع وعلاقة الإنسان بوالديه وإخوانه وأهله ثم يغفل المعلومات المعرفة لنا بربنا جل وعلا من ناحية صفاته وأسمائه وأفعاله. إن من يدعي هذا أو يظنه فقد طعن في الرسول صلى الله عليه وسلم ونسبه إلى التقصير في أهم واجباته التي لا يمكن أن تعرف إلا عن طريقه عليه الصلاة والسلام وحاشاه من ذلك. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فمن المحال في العقل والدين أن يكون السراج المنير الذي أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور،وأنزل معه الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وأمر الناس أن يردوا ما تنازعوا فيه من أمر دينهم إلى ما بعث به من الكتاب والحكمة ... فمحال مع هذا وغيره أن يكون قد ترك باب الإيمان بالله، والعلم به ملتبسا مشتبها، ولم يميز بين ما يجب لله من الأسماء الحسنى والصفات العليا وما يجوز عليه وما يمتنع عليه، فإن معرفة هذا أصل الدين وأساس الهداية وأفضل وأوجب ما اكتسبته القلوب، وحصلته النفوس وأدركته العقول. فكيف يكون ذلك الكتاب وذلك الرسول وأفضل خلق الله بعد النبيين لم يحكموا هذا الباب اعتقادا وقولا ... ومحال مع تعليمهم كل شيء لهم فيه منفعة في الدين – وإن دقت – أن يترك تعليمهم ما يقولونه بألسنتهم ويعتقدونه في قلوبهم في ربهم ومعبودهم رب العالمين الذي معرفته غاية المعارف،وعبادته أشرف المقاصد والوصول إليه غاية المطالب، بل هذا خلاصة الدعوة النبوية وزبدة الرسالة الإلهية، فكيف يتوهم من في قلبه أدنى مسكة من إيمان وحكمة أن لا يكون بيان هذا الباب قد وقع من الرسول على غاية التمام "1.

_ 1 الفتاوى: 5/6-7.

ثانيهما: عدم معارضة القرآن والسنة بعضها ببعض. القرآن الكريم وحي الله وكلامه جل وعلا، وهو أنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هداية للناس ونورا فلا يمكن أن يكون فيه ما هو متعارض أو متناقض، فهو تنزيل الحكيم العليم، قال عز وجل: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء82. فمن أدرك ما فيه من المعاني حمد الله على ذلك ومن لم يستطع فهم شيء منه فليتهم نظره وليقف حيث فهم وعلم ولا يتكلف ما لا علم له به. قال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء36] . وإذا كان القرآن وحيا من عند الله فكذلك السنة من وحي الله عز وجل، قال جل وعلا: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم3, 4] . فلا تعارض بينهما ولا تناقض فإن السنة تفسر القرآن وتشرحه كما قال جل وعلا: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل44] . ومن زعم أن بين السنة والقرآن تعارضاً فقد ضل وأخطأ، من زعم أنه يأخذ بالقرآن دون السنة فقد ضل ضلالا مبينا. وقد روى الإمام أحمد عن المقدام بن معد يكرب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه، ألا يوشك رجل ينثني شبعانا على أريكته يقول عليكم بالقرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه" 1. وروى الآجري عن عمران بن الحصين رضي الله عنه أنه قال لرجل: "إنك امرؤ أحمق أتجد في كتاب الله تعالى الظهر أربعا لا تجهر بها في القراءة"، ثم عدد عليه الصلاة والزكاة ثم قال: "أتجد هذا في كتاب الله تعالى مفسرا؟ إن كتاب الله أحكم

_ 1 رواه أحمد 4/131.

ذلك وإن السنة تفسر ذلك"1. وروي عن سعيد بن جبير رحمه الله أنه حدث عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثاً فقال رجل: إن الله تعالى قال في كتابه كذا وكذا فقال: "ألا أراك تعارض حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب الله تعالى، رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بكتاب الله تعالى" 2.

_ 1 الآجري في الشريعة 1/178. 2 الآجري في الشريعة 1/180.

القاعدة الثانية: اتباع سلف الأمة من الصحابة والتابعين والذين اتبعوهم بإحسان

القاعدة الثانية: اتباع سلف الأمة من الصحابة والتابعين والذين اتبعوهم بإحسان. والمراد بهم العلماء والأئمة الذين سلكوا نهج الصحابة ولم يبتدعوا في دينهم. فقد دلت الأدلة أيضا على وجوب التزام طريقتهم ونهجهم. قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة100] . وقال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء115] . فهذه الآيات فيها الدلالة الواضحة على اقتفاء أثر الصحابة إذ هم أعدل هذه الأمة وأفضلها وأعلمها بدين الله، ثم من سلك نهجهم من أئمة الإسلام وأعلام الهدى. أما الأحاديث الدالة على سلوك منهجهم فكثيرة، فمن ذلك حديث العرباض السابق وجاء فيه: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي". فقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بوقوع الاختلاف، وأمر عند الاختلاف بلزوم منهج خلفائه الراشدين. ولا شك أن الخلفاء الراشدين هم أفضل الأمة بعد نبيها عليه السلام. ثم يدخل فيهم غيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم لورود الإشارة على لزوم منهجهم وطريقتهم عموما في الآيات السابقة {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء115] ، {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} [التوبة100] . وكذلك حديث افتراق الأمة، وجاء فيه من رواية عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل: تفرق بنو إسرائيل على اثنين

وسبعين ملة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين تزيد عليهم كلها في النار إلا ملة واحدة"، فقالوا: من هذه الملة الواحدة؟ قال: "ما أنا عليها وأصحابي"، وفي رواية "ما أنا عليه اليوم وأصحابي" وفي رواية" الجماعة "وفي رواية "إلا السواد الأعظم" 1. فهذا النص يدل على أن المخرج عند الاختلاف هو في لزوم منهج الصحابة أو الجماعة ولا شك أن الصحابة هم رأس الجماعة. وهذا بحمد الله ظاهر، إذ أن القرآن والسنة قد تعرضا في آخر زمن الصحابة رضي الله عنهم بعدهم لفهوم كثيرة وبعض تلك الفهوم كان نابعا من الهوى، أو التأثر بالأفكار الواردة من اليهود والنصارى والوثنيين من الفلاسفة ونحوهم. فالقرآن موجود والسنة موجودة، لكن الإشكال عند كثير من الناس أتى من فهم مدلول النصوص فمثلا: آيات الصفات وأحاديثها موجودة، فدخلت على المسلمين فهوم خارجية وهو اعتقاد أن الله لا يوصف بصفة ثبوتية، أو أن التنزيه يعني نفي جميع الصفات عن الله عز وجل. فهنا آيات فهمت بفهوم مختلفة متباينة، فنظرنا في فهم الصحابة فوجدنا أن الصحابة رضي الله عنهم لم يختلفوا في إثبات شيء من الصفات الواردة في القرآن والسنة، فالتزم ذلك التابعون لهم بإحسان، وصرحوا عنه وأبانوه ودانوا الله به في مقابل الذين جاءوا بكلام في هذا الباب خارج عن منهج الصحابة وطريقتهم وإنما هو على منهج الفلاسفة واليهود والنصارى وغيرهم. وهكذا سائر المسائل العقدية التي ابتدعها أهل البدع، وخالفوا فيها منهج الصحابة والتابعين لهم بإحسان. فخالفوا بذلك أمر الله عز وجل وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم في لزوم منهج الصحابة وطريقتهم عند الاختلاف. كما قد جاء الحض على التزام منهج الصحابة رضوان الله عليهم عن العديد من العلماء والأئمة ومن ذلك:

_ 1 أخرجها الآجري في الشريعة 1/127 وهي مخرجة في السنن عند الترمذي وأبي داود وغيرهم.

ما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "من كان مستنا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه فاعرفوا لهم حقهم وفضلهم فقد كانوا على الهدى المستقيم".1 وقال رضي الله عنه هو أو حذيفة أيضا: "يا معشر القراء اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم".2 وقال عمر بن عبد العزيز كما روى مالك عنه بأنه إذا ذكر عنده الزائغون في الدين قال، قال عمر بن عبد العزيز: "سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سننا، الأخذ بها اتباع لكتاب الله، واستكمال لطاعة الله تعالى وقوة على دين الله، ليس لأحد من الخلق تغييرها ولا تبديلها ولا النظر في شيء خالفها، من اهتدى بها فهو المهتدي، ومن استنصر بها فهو منصور، ومن تركها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت مصيرا ". وقال أبو العالية: "عليكم بالصراط المستقيم ولا تحرفوا الصراط يمينا ولا شمالا، وعليكم بسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم والذي عليها أصحابه ... " ثم قال: "وإياكم وهذه الأهواء التي تلقي بين الناس العداوة". قال الحسن البصري لما بلغه: "صدق ونصح"3.

_ 1 انظر: جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر 2/97 وروي نحوه أيضاً عن الحسن البصري. 2 انظر: الإبانة الصغرى 136، الإبانة الكبرى 1/336. 3 الآجري في الشريعة 1/124.

القاعدة الثالثة: عدم عرض شيء من ذلك على الآراء والأهواء

القاعدة الثالثة: عدم عرض شيء من ذلك على الآراء والأهواء ما جاء عن الله عز وجل أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم فهو حق لا شك فيه، والواجب فيه الإيمان والتسليم وهذا هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلا يقوم الإيمان الصحيح الصادق إلا بالتسليم للشارع والانقياد له في الأمور العقائدية العلمية والأمور العملية، قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء65] ، وقال: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام153] . وروى الآجري وغيره عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} فخط خطا فقال: "هذا الصراط"، ثم خط حوله خططا فقال: "وهذه السبل فما منها من سبيل إلا وعليه شيطان يدعو إليه" 1. وحديث العرباض بن سارية السابق وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" 2. وكذلك حديث جابر وفيه "وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار".3 وروى الآجري عن عمر رضي الله عنه قال: "القرآن كلام الله فلا تصرفوه

_ 1 المسند 1/435. 2 سبق تخريجه ص6. 3 سبق تخريجه ص6.

على آرائكم" 1. وفي رواية أخرى قال: "إن هذا القرآن كلام الله فلا أعرفن ما عطفتموه على أهوائكم" 2. وقال محققه: إنه حسن. وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: "إنه لا رأي لأحد مع سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم" 3. وقال رجل لإبراهيم بن يزيد النخعي: "يا أبا عمران أي هذه الأهواء أعجب إليك؟ فإني أحب أن آخذ برأيك وأقتدي بك"، قال: "ما جعل الله في شيء منها مثقال ذرة من خير وما هي إلا زينة الشيطان، وما الأمر إلا الأمر الأول" 4. وقال الأوزاعي رحمه الله: "عليك بأثار من سلف وإن رفضك الناس وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوا لك القول" 5. فهذه النصوص وغيرها كثير فيه دلالة واضحة على عدم عرض القرآن أو السنة على شيء من الأهواء والآراء، وإنما الواجب التسليم والإيمان. على هذا درج الأئمة، فأنت لا ترى مسألة في العقائد إلا ويرجعونها إلى أصولها من الكتاب والسنة وكلام الصحابة والأئمة. والواقع أن جمهور المسلمين يرجعون إلى ذلك في الفقه، ويتميز السلف برجوعهم إلى ذلك في العقائد والأحكام لا يفرقون بين ذلك، ولكن أهل البدع يفرقون بينهما وذلك لدخول الأهواء عليهم في باب العقائد.

_ 1 الشريعة للآجري 1/216. 2 الشريعة 1/216. 3 الشريعة 1/182. 4 الشريعة 1/192. 5 الشريعة 1/193.

القاعدة الرابعة: الحذر من البدع وأهلها

القاعدة الرابعة: الحذر من البدع وأهلها البدعة في اللغة: هي الشيء المخترع على غير مثال سابق. وهي في الشرع كما عرفها بعض العلماء: طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله تعالى 1. والبدع قد حذرنا الله عز وجل منها وحذرنا منهارسوله صلى الله عليه وسلم، فمن الآيات في ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام159] . وقال: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} ... إلى قوله – {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ، يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [آل عمران103 - 106] . وقوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام153] . ومن الأحاديث الدالة على تحريم البدع الحديث المشهور حديث عائشة رضي الله عنه قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" 2، وكذلك حديث عبد الله بن مسعود في تفسير النبي صلى الله عليه وسلم لقول الله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً} 3 وحديث العرباض بن سارية، وحديث جابر بن عبد

_ 1 الاعتصام 1/37. 2 أخرجه البخاري، كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود 5/355. 3 سبق تخريجه ص 13

الله وفيه: "وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة". 1 كما كثر عن الأئمة من علماء السلف التحذير من البدع، فمن ذلك: ما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال لما رأى جماعة في المسجد متحلقين وبين أيديهم حصى ورجل يقول: هللوا مائة فيهللون، ويقول: سبحوا مائة فيسبحون، فقال لهم رضي الله عنه: "والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد صلى الله عليه وسلم أو مفتتحوا باب ضلالة".2 وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: "أبغض الأمور إلى الله تعالى البدع، وإن من البدع الاعتكاف في المساجد التي في الدور.3 وروي عن حذيفة أنه قال: "اتقوا الله يا معشر القراء وخذوا طريق من كان قبلكم، فلعمري لئن اتبعتموه فقد سبقتم سبقاً بعيداً، ولئن تركتموه يميناً وشمالاً لقد ضللتم ضلالاً بعيداً".4 وعن عمر بن عبد العزيز أنه كان يقول: "أوصيك بتقوى الله والاقتصاد في أمره واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم وترك ما أحدث المحدثون بعدما جرت به سنته"5 ومن نظر في البدع علم أنها من أقبح الأعمال وأفسدها وأشدها خطراً على دين المرء، لما تتضمن من المعاني الفاسدة التي منها: 1 - أن الله تعالى قد أكمل الدين وأتم النعمة، فمن ابتدع بدعة فقد زعم أن الله تعالى لم يكمل الدين وانه ناقص وأنه يحتاج إلى بدعة المبتدع لتكميله قال الإمام مالك رحمه الله: "من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم خان الرسالة، لأن الله يقول {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ

_ 1 سبق تخريجه ص6. 2 سنن الدارمي 1/68. باب كراهية أخذ الرأي. 3 سنن البيهقي 4/316، باب الاعتكاف في المسجد. 4 جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر 2/97. 5 الشريعة 1/174.

وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة3] 1. 2 - أن المبتدع مستدرك على الشارع ببدعته، فكأنه يرى أن ثمة طرق أخرى موصلة للحق لم يذكرها الشارع. قال ابن مسعود رضي الله عنه لمن كانوا متحلقين يسبحون: "والذي نفسي بيده إنكم على ملة هي أهدى من ملة محمد صلى الله عليه وسلم أو مفتتحوا باب ضلالة".2 قال عمر بن عبد العزيز: "فعليك بلزوم السنة فإن السنة إنما سنها من قد عرف ما في خلافها من الخطأ والزلل والحمق".3 3 - أن التشريع حق الله تعالى وحده، والمبتدع قد أنزل نفسه منزلة المشرع، وذلك بتشريعه شريعة لم يشرعها الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي هذا تشبه بالمشركين قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى 21] . كما أن من منهج السلف البعد عن أهل البدع والحذر منهم وعدم مجالستهم ومجادلتهم. يدل على ذلك ما روى الآجري بسنده عن ابن عباس رضي الله عنه قال: "لا تجالس أهل الأهواء فإن مجالستهم ممرضة للقلوب"4. وعن أبي قلابة 5 رحمه الله قال: "لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم فإنني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم أو يلبسوا عليكم بعض ما لبس عليهم"6. فتجنب أهل البدع والحذر منهم منهج سلفي لما لهم من الخطورة على أغلى ما

_ 1 نقلها الشاطبي في الاعتصام 1/49، 2/18 وعزاها إلى ابن حبيب عن ابن الماجشون عن مالك وانظر: منهج الإمام مالك في إثبات العقيدة ص 99. 2 سبق تخريجه ص 16. 3 الشريعة للآجري 1/444. 4 الشريعة 1/196، وابن بطة في الإبانة 2/438. 5 أبو قلابة، عبد الله بن زيد بن عمرو أو عامر، البصري، ثقة فاضل. مات بالشام هارباً من القضاء سنة أربع ومائة وقيل بعدها. انظر: التقريب 1/417. 6 شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي 1/34.

يملكه المسلم وهو دينه، كما أن فيه تصغيرا لشأنهم وتحقيرا لهم وهذا فيه مصالح منها: 1 - لعلهم يرتدعون عما هم فيه من غواية وضلالة. 2 - يعرفهم الناس الذين يجهلون حالهم فيحذرونهم ويتجنبونهم. 3 - في الحذر منهم وعدم مجادلتهم تحجيم لبدعتهم وعدم إظهارها وانتشارها.

منهج المبتدعة في العقيدة

منهج المبتدعة في العقيدة أولا: المتكلمون ... منهج المبتدعة في العقيدة المبتدعة خالفوا السلف وانحرفوا عنهم في العقيدة وما ذلك إلا لمخالفتهم لهم في المنهج الذي اعتمدوه في تقرير العقيدة. ويمكن تلخيص منهج المبتدعة عموما في أصل واحد وهو: تقديم الآراء والأهواء والكشف ونحو ذلك على النقل والشرع في تقرير مسائل العقيدة. بيان ذلك: أن المبتدعة بسبب اختلاف مشاربهم ومقاصدهم ولما لم يأتلفوا على كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم صاروا أقوالا شتى متفرقة قد يجمعها بعض الأصول كما يجمع المتكلمين بعض الأصول ولكنهم يتفرقون كثيرا عند التفريعات. وهكذا سائر المبتدعة من الخوارج والرافضة والصوفية لأن الأصول التي يلتقون عليها تصطدم دائما بالمقاصد والأهواء، فيتفرقون وينقسمون بسبب ذلك انقسامات داخلية وانشطارات متعددة تجعل الفرقة الواحدة لها مسمى واحد كبير لكنه يضم تحت مسماه فرقاً كثيرة متناحرة مختلفة. وسنذكر منهج بعض المخالفين ونبين بطلانه. أولا: المتكلمون المتكلمون هم الذين يقررون مسائل العقيدة أو بعضها عن طريق الأدلة العقلية ومنهجهم في ذلك هو: تقديم العقل على النقل. فتقديم العقل على النقل سمة ومنهج واضح ظاهر لدى الفلاسفة والمتكلمين، سواء كانوا جهمية أو معتزلة أو أشعرية أو ماتريدية، فكل هؤلاء في أبواب ضلالهم وانحرافهم عن الحق قدموا العقل على النقل بل كثير منهم لا يعتبر إمكانية الوصول إلى الحق إلا عن طريق العقل.

ومن الأمثلة على ذلك قول القاضي عبد الجبار المعتزلي في كتابه "شرح الأصول الخمسة" ص 88: "الدلالة أربعة: حجة العقل والكتاب والسنة والإجماع، ومعرفة الله لا تنال إلا بحجة العقل". وقال الآيجي في المواقف وهو من الأشاعرة: "ما يتوقف عليه النقل مثل وجود الصانع ونبوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم فهذا لا يثبت إلا بالعقل ... ثم قال: الدلائل النقلية هل تفيد اليقين؟ قيل لا. ثم قال بعد أن ذكر أن الدليل النقلي أي الشرعي يفيد الظن قال: لا بد من العلم بعدم المعارض العقلي، إذ لو وجد لقدم على الدليل النقلي قطعا"1. وقال الجويني الأشعري: "إنه إذا ورد الدليل السمعي مخالفا لقضية العقل فهو مردود قطعا: "2. وقال الرازي وهو أشعري: "اعلم أن الدلائل القطعية العقلية إذا قامت على ثبوت شيء ثم وجدنا أدلة نقلية يشعر ظاهرها بخلاف ذلك ... يقطع بمقتضى الدلائل العقلية القاطعة بأن هذه الدلائل النقلية إما أن يقال إنها غير صحيحة أو يقال إنها صحيحة إلا أن المراد منها غير ظواهرها" 3. فهذا شأن أهل البدع من المتكلمين والفلاسفة تقديم العقل على النقل واعتبار العقل الأصل والشرع فرع له، لهذا عند التعارض لا يقيمون للنقل والشرع وزنا. دليلهم: المتكلمون عموماً قدموا العقل على النقل بدون أن يكون لهم أدنى دليل شرعي أو حتى دليل عقلي إنما قعدوا قاعدة فقالوا: إن العقل هو أصل الشرع

_ 1 المواقف ص: 40129. 2 الإرشاد، ص: 359-360. 3 أساس التقديس ص:210.

فلهذا لا يستدل بالفرع على الأصل. وفي هذا يقول عبد الجبار المعتزلي في تعليله الاستدلال بالعقل دون الشرع في معرفة الله: "إن معرفة الله تعالى لا تنال إلا بحجة العقل فلأن ما عداها فرع على معرفة الله تعالى بتوحيده وعدله، فلو استدللنا بشيء منها على الله والحال هذه، كنا مستدلين بفرع الشيء على أصله وذلك لا يجوز". 1 وكذلك قال الرازي بعد أن أوهم نفسه أنه يوجد تعارض بين العقل والنقل فجعل للخروج من هذا الإشكال أن يعتقد أن النص الشرعي غير صحيح أو يعتقد أن معناه غير صحيح وعلل ذلك بأن العقل هو الذي دلنا على صحة الشرع فبالتالي لا يمكن أن نقدم الشرع على العقل، لأن الشرع عنده صار بذلك فرعاً والعقل أصلاً".2 الرد عليهم: لا شك أن المتكلمين قد اضطربت أفهامهم وفسد حسهم الديني، حتى زعموا أن العقل 3 مقدم على الشرع بدون أن يكون لهم أدنى دليل شرعي أو عقلي صحيح سوى الدعوى بأن العقل أصل والشرع فرع. وفساد هذه الدعاوي وبطلانها ظاهر من أوجه عدة: أولاً – الرد عليهم في دعواهم أن العقل أصل والشرع فرع: 1 - نسأل المتكلمين: ما هو العقل الذي يجعلونه مقدماً على الشرع؛ هل هو عقل الفلاسفة اليونانيين الوثنيين أم عقول الجهمية، أم عقول المعتزلة أم عقول

_ 1 شرح الأصول الخمسة ص88. 2 انظر ما سبق ص وانظر أساس التقديس ص220. 3 إن مراد المتكلمين ب "العقل" هو الأدلة العقلية التي زعموا أنهم يثبتون بها وجود الله تعالى، وهي أدلة فاسدة مأخوذة من الفلاسفة سيأتي ذكرها وبيان فسادها، وتلك الأدلة جعلوها أصلاً وحاكماً فما خالفها فهو مردود سواء من القرآن أو السنة، وما وافقها فهو المقبول، مع اختلافهم واضطرابهم فيها وفي لوازمها حتى صاروا مختلفين إلى جهمي ومعتزلي وأشعري.

الأشاعرة؟ فهؤلاء جميعا يدعون العقل وهم مختلفون.فأي عقل من تلك العقول يزعم هؤلاء المتكلمون أنه مقدم على الشرع. والواقع أنهم يقدمون عقل اليونانيين الوثنيين المشركين على كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم. فأي فساد في الدين أعظم من هذا وأي انحراف أكبر من هذا نعوذ بالله من الخذلان. 2 - إن معرفة الله تعالى والإيمان به ليس منوطاً بالأدلة العقلية كما يتوهم المتكلمون، لأن معرفة الله والإقرار به قد جعله الله في فطر بني آدم، كما أن جل الذين آمنوا من بني آدم إن لم يكن كلهم قد اهتدوا إلى الإيمان بدون أن يعرفوا تلك الأدلة، كما أن الهداية هي من الله تعالى فليست منوطة بالعقل أو بالأدلة العقلية، بل هي نور من الله يقذفه في قلب من شاء من عباده. فعلى هذا تكون دعوى المتكلمين إن الأدلة العقلية هي التي استدلوا بها على الله تعالى كاذبة خاطئة. 3 - إذا كان العقل دل المتكلمين على صحة الشرع وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن الواجب عليهم هنا أن يسلموا للشارع وينقادوا لكلامه، لأنه أمرهم بذلك، وهم قد أقروا لله بالألوهية وللرسول عليه الصلاة والسلام بالرسالة. فيلزمهم بناء على ذلك أن لا يقدموا على كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم رأياً ولا هوى ولا قول أحد من الناس، لأن الله أمرهم بذلك. وهذا مثل ما لو أن إنساناً كان في صحراء فتاه عن الطريق وهو يريد الذهاب إلى منطقة معينة، فلم يهتد للطريق فوجد رجلاً عرف من حاله وكلامه أنه خبير بالطريق الموصلة إلى البلدة التي يريد الذهاب إليها، فطلب منه أن يرشده الطريق. فهل يليق بعد ذلك أن يعترض عليه ويأبى أن ينقاد إليه؟ إنه إن فعل ذلك فهذا دليل على أنه لم يقر للرجل بأنه خبير بالطريق، وفي ذلك طعن في حكمه على الشخص من قبل بأنه خبير بالطريق. فكذلك من لم

يسلم لله ولرسوله بعد أن استدل على صحة وصدق الشارع، فإن ذلك قدح في دلالة العقل وقدح في إيمانه ويقينه بأن الشارع صادق ناصح. ثانياً – الرد عليهم بادعاء التعارض بين العقل والنقل: المتكلمون يزعمون وجود تعارض بين العقل والنقل في المسائل التي خالفوا فيها الحق، وهذه دعوى غير صحيحة بنفسها، ولا وجود لها إلا في عقولهم المريضة، أما الواقع فإن العقل الصحيح لا يعارض النقل الصحيح. والدليل على ذلك أمور: أ - أن الذي خلق العقل هو الذي أنزل الشرع فكيف يمكن أن يكون بينهما تعارض. ب - أن الله تعالى في القرآن الكريم قد دعا في مواطن عديدة إلى استخدام العقل والنظر من خلاله إلى آياته وبيناته ليصل الإنسان إلى الإيمان بالله ورسله قال جل وعلا: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد24] وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ46] . ج - أن الله عز وجل قد أبان في مواطن عدة من كتابه أن سبب هلاك من هلك من أهل النار أنهم لم يستخدموا عقولهم الاستخدام الصحيح قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك10] وقال: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف179] . فلهذا لا يمكن أن يكون بين العقل الصحيح والنقل الصحيح تعارض بحال من الأحوال.

ثالثاً – الرد عليهم في تقديم العقل على النقل في حال التعارض: إن تقديم العقل على النقل في حال التعارض انحراف عن دين الله وفساد وهو باطل من عدة وجوه: 1 - أن الله تعالى أمرنا باتباع كتابه وسنة نبيه ولم يأمرنا باتباع العقل كما لم يجعل اتباع الكتاب والسنة مشروطا بموافقة العقل وقبوله للأمر، فمن قدم العقل على الشرع أو قيد قبوله للشرع بموافقة العقل فقد افترى على الله عز وجل وقيد كلام الله وأمره بقيد من عند نفسه. 2 - أن تقديم العقل على النقل يؤدي إلى إبطال الشرع، وذلك أن العقول متفاوتة متباينة، وأصحابها أكثر الناس اختلافا، فيؤدي ذلك إلى أن كل صاحب مذهب منحرف وهدف سيئ يدعي أن الشرع مخالف لعقله فيبطل الشرع وتندرس معالمه. 3 - أن من زعم أنه لا يقبل الشرع إلا إذا وافقه العقل فيه شبه من إبليس حيث رد الأمر بما يرى أنه حجة عقلية، فقد أمره الله تعالى بالسجود، فاحتج على ذلك بأنه خير من المسجود له لأنه خلق من نار وآدم خلق من طين فعارض الأمر بعقله فاستحق اللعن والإبعاد من رحمة الله. 4 – إن الإيمان لا يثبت في القلب إلا بالتسليم والاستسلام للشرع، أما معارضته بالشبه العقلية وعرضه عليها فإن ذلك مورث للشك والحيرة، وهذا أمر معلوم مجرب، وقد صرح به كبار أئمة الكلام، حيث أكدوا أنهم قد أوقعوا أنفسهم في الحيرة والشك، الذي نسأل الله العافية لا مخرج منه، وذلك لأنهم قد هدموا يقينهم، وخلخلوا عقيدتهم بالشبه العقلية والمناهج الفلسفية.

وفي هذا يقول محمد بن عمر الرازي في كتابه الذي صنفه: "أقسام اللذات": نهاية إقدام العقول عقال ... وغاية سعى العالمين ضلال وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وحاصل دنيانا أذى ووبال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا وقال: لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلا ولا تروي غليلا، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} ، وأقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} . ثم قال: "ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي"1. وقال أبو عبد الله محمد بن عبد الكريم الشهرستاني في كتابه "نهاية الأقدام في علم الكلام" لقد طفت في تلك المعاهد كلها ... وسيرت طرفي بين تلك المعالم فلم أر إلا واضعا كف حائر على ... ذقن أو قارعا سن نادم "2 وقال شمس الدين الخسر وشاهي وقد دخل عليه بعض الفضلاء يوما فقال: "ما تعتقد؟ قال: "ما يعتقده المسلمون" فقال شمس الدين: "وأنت منشرح الصدر لذلك مستيقن به؟ فقال الرجل: نعم. فقال شمس الدين: "اشكر الله على هذه النعمة، لكني والله ما أدري ما أعتقد، والله ما أدري ما أعتقد، والله ما أدري ما أعتقد، وبكى حتى اخضل لحيته".3 فهذا فيه كفاية ومقنع لمن أراد الله هدايته.

_ 1 شرح الطحاوية، ص: 192. 2 نهاية الأقدام، ص: 3. 3 شرح الطحاوية ص192.

ثانيا: الصوفية

ثانياً – الصوفية. الصوفية من الفرق البدعية التي تتفاوت بدع منتحليها، فمنهم من بدعته في الأوراد والأذكار، وقد يتعدون ذلك إلى الغلو في المشايخ ومن يسمون الأولياء، وقد يرفعونهم إلى مقام الربوبية والألوهية والعياذ بالله، وقد يزيدون على ذلك بما هو أشد كفراً من ادعاء الحلول أو وحدة الوجود. وقد اختلف أرباب هذه النحلة في تعريفها اختلافات كثيرة متفاوتة. والذي يظهر لي أن الصوفية جمعت أوضاعاً وأحوالاً متباينة يصعب معها إدراجها كلها تحت تعريف واحد بصفات متقاربة، لأنها نحلة تضم في أتباعها من لهم إنتماء صحيح إلى الإسلام مع البدعة، وفيهم من هو أشد كفراً من اليهود والنصارى، وكلهم تحت هذا المسمى وهو التصوف. لهذا أرى أن يذكر تعريفاً يشمل ذلك كله بأن نقول: إن التصوف "مذهب أوله البدعة في الزهد والرياضات النفسية والأوراد والأذكار، ثم غلا المنتسبون إليه فيه حتى صار غايته لديهم المكاشفات ودعاوى الحلول ووحدة الوجود. منهج الصوفية في الاستدلال لمسائل العقيدة: الصوفية على الضد من المتكلمين، أولئك قدموا العقل، وهؤلاء لا يقيمون للعقل وزناً، وإنما مصدرهم فيما ابتدعوه تقديمهم لما يسمونه الكشف ونحوه على كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم. ومرادهم بالكشف: الإطلاع على مايغيب عن علمهم أو مايحتاجون إليه من الأمور الدينية أو حتى الدنيوية عياناً أو سماعاً من قبل النبي صلى الله عليه وسلم أو الخضر أو الهواتف أو الملائكة ونحو ذلك.1

_ 1 مصادر التلقي عند الصوفية ص207 بتصرف.

فهذه الدعاوى التي يدعونها نأت وشطت بهم عن الكتاب والسنة، حيث لا يقيمون لا للكتاب ولا للسنة وزناً في مقابل تلك الدعاوى الفارغة. قال داود الكبير بن ماخلا: "لا تقنع قط بسمعت ورويت بل شهدت ورأيت". وقال أبو الحسن الشاذلي: "علوم النظر أوهام إذا قرنت بعلوم الإلهام". وقال إبراهيم الدسوقي: "ومقصودي لجميع أولادي أن يكونوا ذائقين لا واصفين، وأن يأخذوا العلوم من معادنها الربانية، لا من الصدور والطروس، فإن القوم إنما تكلموا عما ذاقوا"1 ومن هذا الجنس كلام الغزالي في الإحياء عن علوم الأنبياء والأولياء فيقول:"فالأنبياء والأولياء انكشف لهم الأمر وفاض على صدورهم النور لا بالتعلم والدراسة والكتابة للكتب، بل بالزهد في الدنيا والتبري من علائقها وتفريغ القلب من شواغلها والإقبال بكنه الهمة على الله تعالى ".2 الرد على الصوفية الصوفية يستدلون على دعاويهم المخالفة للشرع بما يسمونه بالكشف. وقد سبق أن بينا أن مرادهم بالكشف هو دعواهم أنهم يستندون على ما يؤيدون به دعاويهم المخالفة للشرع بما يبلغهم عن النبي صلى الله عليه وسلم شفاها يقظة أو مناما أو الخضر ونحو ذلك. وسنبين بطلان دعواهم فيما يزعمون في النقاط التالية:

_ 1 مصادر التلقي عند الصوفية ص212. 2 إحياء علوم الدين 3/21.

أولا: دعواهم رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة. دعوى رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة دعوى مشتهرة عند الصوفية حيث يزعم كثير منهم الاجتماع به صلى الله عليه وسلم يقظة، فمن ذلك قول الغزالي عن أرباب الأحوال: "حتى إنهم في يقظتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء ويسمعون منهم أصواتا يقبسون منها فوائد". وقال محمد العربي التجاني: "رؤيته صلى الله عليه وسلم بعين الرأس في عالم الحس وما يتبعها من الأخذ عنه وسؤاله عما يعرض ومشاورته في الأمر ونحو ذلك كل ذلك ممكن عقلا ثابت نقلا....." وقال الشعراني: "سمعت عليا الخواص يقول: لا يكمل العبد في مقام العرفان حتى يجتمع برسول الله صلى الله عليه وسلم.." وقال الدباغ: "الذي هو أفضل وأعز من دخول الجنة فهو رؤية سيد الوجود صلى الله عليه وسلم في اليقظة فهي أفضل من الجنة"1. ومن ذلك أيضا ما ذكره علي حرازم عن شيخه أحمد التجاني أنه قال: "أخبرني سيد الوجود صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناما، قال لي: أنت من الآمنين وكل من رآك من الآمنين إن مات على الإيمان وكل من أحسن إليك بخدمة أو غيرها وكل من أطعمك يدخلون الجنة بلا حساب ولا عقاب" ثم أجاز له ورده وضمن له أن من أخذ ذلك الورد التزمه وأحب التجاني ولم يسبه ولم يبغضه أنه في عليين. 2.وغير ذلك. ويدل على بطلان دعواهم رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة بعد موته ما يلي:

_ 1 مصادر التلقي عند الصوفية، ص: 225-227. 2 جواهر المعاني في فيض التجاني 1/129.

1 - أن ذلك يتعارض مع قول الله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر30] وقوله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران144] ، كما يتعارض مع إجماع الصحابة على موته عليه الصلاة والسلام وخاصة بعد خطبة أبي بكر رضي الله عنه المشهورة: "من كان يعبد محمدا فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت"1. 2 - أنها تتعارض مع الأحاديث التي تثبت بعثه عليه الصلاة والسلام يوم القيامة وهي قوله: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة وأول من ينشق عنه القبر وأول شافع وأول مشفع".2 فمن ادعى أنه يراه يقظة فقد ادعى أنه بعث قبل يوم القيامة. 3 - أن ذلك يؤدي إلى أنه عليه الصلاة والسلام يحيا ويبعث من قبره مرات عديدة. أما الاحتجاج بحديث "الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون" 3، فهو احتجاج باطل لعدة أوجه: أ- أن هذه حياة برزخية لا يعرف كنهها ولا كيفيتها فدعوى أنهم يلقونه ويجتمعون به يجعل ذلك من جنس الحياة العادية وذلك باطل. ب - أن الوارد في الحديث أنه قال: في قبورهم فقيدها بذلك، فالحياة البرزخية تتقيد بذلك فدعوى أنهم أحياء بأجسادهم خارج قبورهم خلاف ما دل عليه الدليل.

_ 1 مختصر سيرة ابن هشام، ص:311 2 أخرجه مسلم في الفضائل: 15/37 3 ابن عدي في الكامل 2/792 والبيهقي في حياة الأنبياء،ص: 15 وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 2/187، مصادر التلقي عند الصوفية، ص: 346

ج - أن هذه الحياة من جنس الحياة التي ذكرها الله عز وجل للشهداء ولا أحد يقول أن الشهيد يلقاه الناس بجسده خارجا عن قبره بناءاً على الحياة التي خص بها. د - أنه لم يؤثر عن أحد من الصحابة رضي الله عنه الالتقاء بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته مع شدة حاجتهم لذلك بسبب ما وقع بين بعضهم من الاختلاف وهم أصحابه وأنصاره وأصهاره عليه الصلاة والسلام. 4 - استدلال الصوفية بأحاديث غير صحيحة في هذا مردود غير مقبول، وذلك مثل: "أنا أكرم على ربي أن يتركني في قبري بعد ثلاث" حديث غير صحيح قال عنه ابن حجر: "لا أصل له".1 أو رواية "إن الله لا يترك نبيا في قبره أكثر من نصف يوم" قال ابن عبد الهادي: "حديث منكر غير صحيح"2 وكذلك سائر الروايات من هذا الجنس كلها أحاديث غير صحيحة كما صرح بذلك العديد من الأئمة فلا تقوم بها حجة. ثانيا: رؤية النبي صلى الله عليه وسلم مناما. رؤية النبي صلى الله عليه وسلم مناما أمر مشتهر عند الصوفية وهو مما يلصقون به كثيرا من دعاويهم وافتراءاتهم، ومن ذلك دعوى ابن عربي في مقدمة كتابه "فصوص الحكم" الذي ضمنه وحدة الوجود بأوضح صورها قال: "فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مبشرة أريتها في العشر الآخر من محرم سنة سبع وعشرون 3 وستمائة بمحروسة دمشق وبيده صلى الله عليه وسلم كتاب فقال لي: هذا كتاب فصوص الحكم خذه واخرج به إلى الناس ينتفعون به، فقلت السمع والطاعة لله ولرسوله ولأولي الأمرمنا، فحققت

_ 1 فتح الباري 7/296 2 الصارم المنكى، ص: 271، مصادر التلقي ص: 414 3 هكذا كتبت في الكتاب.

الأمنية وأخلصت النية وجردت القصد والهمة إلى إبراز هذا الكتاب كما حده لي رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير زيادة ولا نقصان"1. وكثيرا ما يعجز الصوفية عن إقامة الدليل على صحة دعوى من الدعاوى فيصححونها بالرؤى المنامية وهذا كثير جدا لديهم، فمن ذلك ما ذكر الصيادي أحد كبار الرفاعية في الاستدلال على صحة المولد أنه قال: "رأى أحد الصالحين النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن قراءة المولد الذي يصنع من أجله فقال له: "من فرح بنا فرحنا به"2. وكذلك إذا أرادوا تعظيم أحد أو بقعة زعموا ذلك أيضا فمن ذلك ما ورد عن الشيخ محمد البجلي أنه قال: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقلت: يا رسول الله أي العمل أفضل؟ قال: "وقوفك بين يدي ولي الله كحلب شاة أو استواء بيضة خير لك من أن تعبد الله حتى تتقطع إربا إربا" 3. ومن ذلك أن أحد مشايخ الرفاعية رأى في المنام خياما عظيمة على الطريق فسأل لمن هذه الخيام فقالوا: هذه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل إليه وسلم عليه وقال: يا رسول الله إلى أين هذه الرحلة المباركة. فقال: "إلى قرية أم عبيدة 4 لزيارة أحمد بن أبي الحسن الرفاعي"، ثم ذكر أيضا أن الكعبة أيضا جاءت تزور قبر الرفاعي فقام الرجل من نومه وهب ينادي في الناس ويحثهم على المبادرة إلى المسير إلى قرية الرفاعي حيث الرسول صلى الله عليه وسلم والكعبة زائرون" 5. فهذه الدعاوى وغيرها كثير مما هو ديدن الصوفية يدل على أنهم اتخذوا دعاوى المنامات وسيلة للتشريع أو إباحة ما حرم الله عز وجل.

_ 1 فصوص الحكم، ص: 47. 2 الرفاعية لعبد الرحمن، ص: 204. 3 الرفاعية، ص: 208. 4 وهي قرية في العراق بين واسط والبصرة دفن فيها أحمد الرفاعي. 5 الرفاعية ص123.

بيان بطلان دعاوى الصوفية في المنامات رؤية النبي صلى الله عليه وسلم قد ورد فيها أحاديث صحيحة منها ما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من رآني في المنام فسيراني في اليقظة ولا يتمثل الشيطان بي" قال ابن سيرين: "إذ رآه في صورته". وعند مسلم زيادة: "أو فكأنما رآني في اليقظة". وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من رآني فقد رأى الحق فإن الشيطان لا يتكونني" 1. فرؤية النبي صلى الله عليه وسلم هي من ضمن المبشرات التي ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم كما في البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لم يبق من النبوة إلا المبشرات، قالوا: وما المبشرات؟ قال: الرؤيا الصالحة" 2. فرؤيته صلى الله عليه وسلم على حالة تسر المسلم أو يأمره بخير مما شرعه أو ينهاه عن شر مما نهى عنه فهذا حق يجب اتباعه اتباعا للشرع. ويكون الرؤيا المنامية دعوة خاصة أو بشارة خاصة. أما دعاوى الصوفية في الرؤيا والمنامات المخالفة للشرع فإنها باطلة مردودة على أصحابها لعدة أمور: 1 أن الرؤى والمنامات ليست حجة شرعية يمكن أن يثبت بها أمر شرعي فلم يرد في الكتاب ولا في السنة اعتبارها حجة وإنما هي تبشير وتنبيه، قال المعلمي في "التنكيل": "اتفق أهل العلم على أن الرؤيا لا تصلح للحجة وإنما هي تبشير وتنبيه وتصلح للاستئناس بها إذا وافقت حجة شرعية" 3. 2 لا يمكن أن يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف شرعه الذي شرع، فمن ادعى أنه رأى رؤيا فيها خلاف شرع النبي صلى الله عليه وسلم إما أن يكون كاذبا أو مخطئا في دعواه أن

_ 1 صحيح البخاري مع الفتح 12/400. 2 صحيح البخاري مع الفتح 12/391. 3 التنكيل 2/243.

من رآه هو النبي عليه الصلاة والسلام. 3 أن النائم ليس في حالة من يمكن تثبته من القول الذي يقال له فبا لتالي لا يمكن أن يعتبر قوله في مقابل الشرع الثابت ومساوي له، قال النووي رحمه الله: "حالة النوم ليست حالة ضبط وتحقيق لما يسمعه الرائي وقد اتفقوا على أن من شرط من تقبل روايته وشهادته أن يكون مستيقظا لا مغفلا ولا سيئ الحفظ ولا كثير الخطأ ولا مختل الضبط، والنائم ليس بهذه الصفة فلم تقبل روايته لاختلال ضبطه" 1. 4 إثبات أذكار وأوراد وأمور متعلقة بالشرع بالمنامات والرؤى فيه طعن في الشرع بوصفه بالنقص وأنه احتاج إلى التكميل بتلك الدعاوى المرتبطة بالرؤى. 5 أن جل الرؤى والمنامات المتضمنة لدعاوى مخالفة للشرع هي من باب تفصيل أوراد الطرق أو مشايخهم، وهذا كله يظهر أن للنفوس من وراء ذلك حظوظا ومقاصد خاصة برفعة الرائي لنفسه أو رفعة شيخه أو طريقته أو ما إلى ذلك، وهذا كاف في إبطال وردّ الدعاوى المتضمنة لذلك. رؤية الخضر عند الصوفية ودعاويهم في ذلك: يدعي كثير من الصوفية وغيرهم أن الخضر حي، وأنه يلقى بعض الناس من مشايخهم فيستفيدون منه فوائد شرعية جلها فيما يزعمون من جنس ما يعزونه إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم لهم يقظة بعد موته أو مناماً. ومن تلك الدعاوي ما ذكر عبد الخالق الغجدواني النقشبندي: أن الخضر لقنه الوقوف العددي، وعلمه الذكر الخفي، وهو أنه أمره أن ينغمس في الماء ويذكر

_ 1 مقدمة صحيح مسلم بشرح النووي 1/115.

الله بقلبه لا إله إلا الله محمد رسول الله ففعل كما أمر وداوم عليه فحصل له من الفتح القويم والجذبة القيومية". وذكر أبو العباس المرسي: بأنه اكتسب من الخضر معرفة أرواح المؤمنين بالغيب هل هي معذبة أو منعمة؟! . ومنهم من يروي عن الخضر عن النبي صلى الله عليه وسلم، فمن ذلك ماروى الأيوبي المتوفى سنة1364هـ بسنده عن الخضر قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيت الرجل لجوجاً معجباً برأيه فقد تمت خسارته". وهذا كله مبني على ثلاثة أشياء: أن الخضر حي، وأنه يتصل بالناس، وأن من اتصل بهم هو الخضر. أما أن الخضر حي فلم يدل دليل صحيح على حياته عن النبي صلى الله عليه وسلم. هكذا قال ابن حجر وابن كثير وغيرهم 1. كما أن مايروى من الأخبار والآثار في لقائه لبعض الصحابة أو الأخيار فهي آثار ضعيفة وواهية ولا يسلم واحد منها من الطعن. قال ابن المنادي: "وجميع الأخبار في ذكر الخضر واهية الصدور والأعجاز، ثم قال: وأكثر المغفلين مغرور بأن الخضر باق والتخليد لا يكون لبشر. قال عز وجل: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} .2 ودعوى حياة الخضر منقوضة بما يلي: 1 - قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء34] . وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم - كما في حديث ابن عمر وجابر رضي الله

_ 1 البداية والنهاية 1/308، فتح الباري 6/434، وقد أطال عنه في الإصابة. والذي يظهر توقف ابن حجر فيه 4/100. 2 الموضوعات لابن الجوزي 1/199.

عنهما: "أرأيتكم ليلتكم هذه فإن رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد".1، وقوله عليه السلام: "اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض".2 ولو احتج محتج بأن هذا العموم مخصوص بإبليس والدجال وكذلك عيسى بن مريم، فإن الرد عليه بأن يقال هؤلاء خصصهم النص الصحيح، أما الخضر فلم يرد فيه نص صحيح عن المعصوم عليه الصلاة والسلام. 2 - أن الله تعالى قال: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمرن81] .قال ابن عباس رضي الله عنه: "مابعث الله نبياً إلا أخذ الله عليه الميثاق لئن بعث محمد صلى الله عليه وسلم وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه". أخرجه البخاري.ولم يثبت أنه لقي النبي صلى الله عليه وسلم ولا جاء إليه كما سبق ذكره عن العديد من علماء الحديث. 3 - إن الخضر اختلف في اسمه إلى ما يقرب من ثلاثة عشر قولا، وفي اسم أبيه كذلك، واختلفوا هل هو ملك أم إنسان وهل هو نبي أم ولي وهل هو حي مخلد أم أنه مات، كما اختلف الصوفية فيه هل هو شخص حقيقي أم مثال يتمثل لهم أم أنه مقام، بمعنى أن أحد الناس يرتقي في الولاية حتى يبلغ هذا المقام فيصبح يظهر للناس على أنه الخضر. 4 - إن رؤية الخضر ليست متحققة لكل أحد، وإنما يظهر للبعض ولا يظهر للبعض، فلو كان إنساناً فما الذي حجبه عن الناس، وجعل رؤيته خاصة بمن ادعى ذلك أو ادعي له ذلك؟! فهذا يدل على أن مايتراءى للناس في هذا إنما هو شيطان كذب عليهم في هذا وادعى ما ادعى تلاعباً واحتيالاً. وهذا كله يدل على

_ 1 البخاري مع الفتح 1/255 باب السمر في العلم. 2 صحيح مسلم مع شرح النووي 12/84 كتاب الجهاد، باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر.

أن الخضر ليس حياً، وادعاء ذلك ليس مبنياً على شيء ثابت في الشرع، بل في الشرع مايرده ويبطله. كما أنا لو سلمنا جدلاً بحياته، فإن كل دعوى يدعيها الصوفية فيه، أو أنها أخذت عنه مما يخالف الشرع مردود على مدعيه، ولو كان الخضر بما يلي: 1 - أن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لم يأمرا بالرجوع إلى الخضر أو غيره سوى كلامه جل وعلا، وسنة نبيه عليه السلام، وسنة خلفائه الراشدين وإجماع المسلمين. ولانجد في شيء من الشرع الرجوع إلى كلام الخضر والاستفادة منه بشيء مما يخالف الشرع. حتى المسيح عليه السلام حين منع الجزية إنما ذكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وكأنه إنما حرمها بإباحة الشارع له ذلك. 2 - أنه لوكان حياً فإنه سيكون فرداً من أفراد أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولايسعه الخروج عن شريعة النبي عليه السلام، لعموم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم للجن والإنس. قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} [سبأ 28] .وقوله صلى الله عليه وسلم: "لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي". 1 كما أن من ادعى حياته إنما كما روي عنهم أنهم تراءى لهم شخص، فإما قال لهم أنه الخضر، أو وقع في خلدهم أنه الخضر.

_ 1 أخرجه أحمد في مسنده 3/387، وابن أبي عاصم في السنة مختصراً، وقال الألباني في التعليق عليه: حديث حسن. انظر السنة 1/27.

وكل ذلك لا يصلح مستنداً لإثبات أنه الخضر. فادعاء شخص أنه الخضر لا يثبت ذلك مع الموانع المذكورة سابقاً، وما وقع في الخلد والظن لا يعدو أن يكون حدساً وظناً، وذلك لا يمكن أن يعارض به الأمور المتيقنة والمعاني الشرعية العامة.1

_ 1 ينظر في ذلك كله: البداية والنهاية 1/308،وابن الجوزي في كتابه الموضوعات 1/، فتح الباري 6/434، والزهر النضر في نبأ الخضر ضمن مجموعة الرسائل المنيرية، الإصابة، مصادر التلقي عند الصوفية ص251.

ثالثا: الرافضة

ثالثاً: الرافضة الرافضة من الشيعة الذين يغلون في حب علي وآل بيته، ويقدمونهم على سائر الصحابة ويعتقدون الإمامة في اثني عشر إماما من أولاد علي،ويطعنون في الصحابة، بل يكفرونهم. والرافضة كما هو معلوم فرقة من شر أهل البدع وأسفههم مقالاً، فلا عقل لهم يعتمدون عليه ولا شرع، حيث يزعمون الإمامة لإثنى عشر رجلا من آل البيت لم يتول منهم الإمامة فعلا إلا علي رضي الله عنه والحسن مدة ستة أشهر، ثم تركها وتنازل عنها، كما يزعمون عصمة أولئك الأئمة، وأنهم مشرعون يوحى إليهم، إلى غير ذلك من ترهاتهم وأكاذيبهم. كما يطعنون في القرآن الكريم ويردون السنة كلها، ويبغضون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجاته وسائر أئمة الدين، ولهم بدع ومقالات لا تكاد تلتقي مع المسلمين. وهم في توحيد الألوهية مشركون يعبدون القبور ويدعون أصحابها ويستغيثون بهم ويطوفون بقبورهم. 1 وهم في الصفات والقدر مثل المعتزلة ينفون الصفات وينفون القدر.2 منهج الرافضة في الاستدلال الرافضة أصحاب هوى فقد ادعوا دعاوى ليس لها أصل في الكتاب أو السنة، وبنوا عليها مذهبهم الذي يعود في أصله إلى دعوى الإمامة وتكفير الصحابة، فاخترعوا لذلك الأكاذيب الطويلة العريضة يدعمون فيها دعواهم. وعمدة مذهبهم على الروايات المكذوبة المنسوبة إلى علي رضي الله عنه وآل

_ 1 انظر كشف الأسرار للخميني ص: 49 2 حق اليقين في معرفة أصول الدين لعبد الله شبر الرافضي 1/58

البيت الذين يزعمون إمامتهم، وحتى يحيطوا تلك الروايات بالتعظيم والقبول والإجلال ادعوا عصمة أئمتهم وأوليائهم. قال المفيد من علماء الروافض المتقدمين: "إن الأئمة القائمين مقام الأنبياء في تنفيذ الأحكام وإقامة الحدود وحفظ الشرائع وتأديب الأنام معصومون كعصمة الأنبياء وأنهم لا يجوز منهم صغيرة – إلا ما قدمت ذكر جوازه على الأنبياء وأنه لا يجوز منهم سهو في شيء في الدين ولا ينسون شيئا من الأحكام"1. وقال محمد المهدي الحسين: "وأقل ما يجب اعتقاده في الإمام وأحواله وصفاته أنه إمام مفترض من الله طاعته وحجيته وأنه جامع لصفات الإمامة وأنه أفضل الخلق إيمانا". ويقول الزنجاني في كتابه "عقائد الإمامية الإثنى عشرية": "ونعتقد أن الإمام كالنبي يجب أن يكون معصوما من جميع الرذائل والفواحش ما ظهر منها وما بطن من سن الطفولة إلى الموت عمدا وسهوا كما يجب أن يكون معصوما من السهو والخطأ والنسيان لأن الأئمة حفظة الشرع والقوامون عليه حالهم في ذلك حال النبي صلى الله عليه وسلم والدليل الذي اقتضانا أن نعتقد بعصمة الأنبياء هو نفسه يقتضينا أن نعتقد بعصمة الأئمة بلا فرق"2. نقض دعوى الروافض في عصمة أئمتهم: الروافض يستقون ديانتهم ممن يزعمون عصمتهم من الأئمة الإثنى عشر لديهم، وهذه دعوى منقوضة بأدلة عديدة: 1 - أن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لم يأمرا إلا بالرجوع إلى الكتاب والسنة، فليس فيه نص صحيح بالرجوع إلى الأئمة الاثنى عشر.

_ 1 أوائل المقالات ص: 76-77. 2 إبراهيم الموسوي الانجاني، عقائد الإمامية الإثنى عشرية، ص: 179.

2 - أن دعوى الإمامة وإمامة الإثنى عشر تحتاج إلى أدلة صريحة لإثباتها، وليس في ذلك أدلة في هذا سوى دعاوى لا دليل عليهم، أو روايات مكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم أو على أئمتهم. 3 - أن دعوى عصمتهم منقوضة بروايات عديدة وأحوال كثيرة مما ورد عن علي رضي الله عنه والحسن والحسين، يكفي منها تمني علي رضي الله عنه الموت لما رأى الناس تتقاتل يوم الجمل، وقال لابنه الحسن: "يا ليت أباك مات قبل عشرين عاماً. وقد تنازل الحسن عن الخلافة لمعاوية، فلو كان إماماً حقاً فكيف يتنازل، وليس جيشه وقتها بأقل من جيش معاوية، فإما أن يكون تنازله حقاً فتنتقض دعوى الإمامة، وإما أن يكون تنازله باطلاً فتنتقض دعوى العصمة. والحسين بن علي لما أحاطت به جيوش الأمويين طلب منهم أحد أمور ثلاثة: إما أن يترك يعود من حيث خرج، أو يذهب إلى ثغر من ثغور المسلمين يقاتل حتى يقضي الله فيه ما شاء، وإما أن يتركوه يذهب إلى يزيد حتى يضع يده في يده ويرى فيه رأيه، فأبوا عليه ذلك فقاتل حتى قتل رضي الله عنه. فكل هذه الأمور ليس فيها ما يشير إلى الإمامة أو الاستمرار في طلبها، فإن كان محقاً في الخروج؟ فطلب الإقالة يكون خطأً يتنافى مع العصمة،وإن كان مخطئاً في الخروج فذلك يتنافى مع دعوى الأحقية بالإمامة. 4-أن أئمتهم المزعومين لم يتحقق بهم لا خير ولا شر،ولا حاجة لدعوى العصمة فيهم، لإنهم لم يتول منهم سوى علي رضي الله عنه لمدة خمس سنوات،كلها حروب وفتن منذ توليه إلى قتله رضي الله عنه. والحسن تولى لمدة ستة شهور فقط، أما البقية فلم يتول أحد منهم شيئاً من الولاية، لا الإمامة العظمى ولا ما دونها ولا حتى الإمامة في الدين، بحيث كان مرجعاً للمسلمين في الفتوى والعلم، بل العديد منهم لا يعرف بشيء من العلم والبروز فيه،فبالتالي دعاوى العصمة التي يدعيها الرافضة لأئمتهم حتى يقيموا للناس الدين والملة دعاوى لا وجود لها في الواقع ولا قيمة لها.

5- أن ما يدعون من الإمامة والعصمة للأئمة متحقق بالنبي صلى الله عليه وسلم وذلك كاف للأمة، وليس للأمة حاجة في عصمة أحد غير الرسول صلى الله عليه وسلم وسلامة كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فدعوى العصمة لكل أحد بعد ذلك لا حاجة إليها. وبهذا كله يتبين بطلان دعاوى أهل الباطل بتقديم آرائهم وأهوائهم على كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن هذا التقديم مجرد اعتداء وافتراء على الله ورسوله، وهو الذي أورث أصحاب تلك المقالات ذلك الانحراف والبعد عن دين الله جل وعلا.

منهج السلف في الإيمان

منهج السلف في الإيمان منهج السلف ... منهج السلف في الإيمان سبق بيان أن السلف ينطلقون في عقيدتهم من الشرع يؤصلون ويفرعون عليه، فليس لهم التفات إلى غيره. ومن المسائل التي ستكون ضمن البيان في هذه الدروس مسائل في الإيمان منها مسألة تعريف الإيمان وحقيقته، وزيادته ونقصانه وتفاوت أهله فيه: أولا: تعريف الإيمان وحقيقته: الإيمان هو مسمى ديني شرعي ورد تكراره كثيرا في القرآن سواء من ناحية اسم المصدر مما يحدد حقيقته أو من ناحية أهله الذين يطلق عليهم فيحدد حكمهم ومآلهم. والسلف نظروا هذا اسم الإيمان فوجدوا أن اسم الإيمان أطلق على أمور عديدة في الشرع،بل إنهم رأوا من خلال استخدام الشارع لهذا الاسم أنه أدخل ضمنه جميع أعمال الدين التعبدية سواء ما كان منها متعلق بالقلب أو اللسان أو الجوارح لا فرق في ذلك، فلهذا قالوا إن اسم الإيمان يشمل جميع الطاعات الباطنة والظاهرة الواجبة والمندوبة،وأن كل طاعة مما أمر الله عز وجل به فهي إيمان. قال ابن عبد البر في "التمهيد": "أجمع أهل الحديث والفقه على أن الإيمان قول وعمل ولا عمل إلا بنية، والإيمان عندهم يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، والطاعات كلها عندهم إيمان، إلا ما ذكر عن أبي حنيفة وأصحابه فإنهم ذهبوا إلى أن الطاعات لا تسمى إيمانا".1

_ 1 التمهيد 9/238.

وقال القاضي أبو يعلى: "وأما حده في الشرع فهو جميع الطاعات الباطنة والظاهرة".1 وهذا هو ما عبر عنه السلف في تعريفهم للإيمان بقولهم: الإيمان قول واعتقاد وعمل. فالمراد بالقول قول اللسان وأعمال اللسان وما يقوم به من الطاعات من ذكر الله تعالى وقراءة القرآن والدعوة إلى الله ونحوه. والمراد بالاعتقاد ما يقوم بالقلب من تصديق الله عز وجل ورسوله فيما أخبر واليقين بذلك ويدخل فيه أعمال القلوب من الحب والخوف والرجاء وسائر أنواع الطاعات المتعلقة بالقلب. والعمل يراد به أعمال الجوارح التي يتعلق بها الأعمال الدينية كالصلاة والزكاة والحج ونحو ذلك. وقد يراد بالعمل عمل القلب فيشمل جميع الطاعات المتعلقة بالقلب، وعمل الجوارح والمقصود بها الأعمال المتعلقة بالجوارح. والأدلة على ما قرره السلف كثيرة منها: قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة143] والمراد بالإيمان هنا هو الصلاة إلى بيت المقدس، لأن سبب نزول الآية أنه لما حولت القبلة إلى الكعبة كان هناك أناس من الصحابة ماتوا قبل تحويلها فلم يدروا ما يقولوا فيهم فأنزل الله عز وجل هذه الآية.2 ومن الأدلة أيضا قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [.الحجرات15]

_ 1 مسائل الإيمان ص152. 2 صحيح البخاري، كتاب الإيمان 1/13

وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ، أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً} [.الأنفال2, 3] . وقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} [المؤمنون1 - 4] أما الأدلة من السنة فهي كثيرة جدا منها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة فأعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان".1 وحديث وفد عبد القيس وجاء فيه قوله صلى الله عليه وسلم: "آمركم بالإيمان بالله وحده، قال: هل تدرون ما الإيمان بالله وحده؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن تؤدوا خمسا من المغنم".2 وحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا".3 وقال عمار بن ياسر رضي الله عنه: "ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان، الإنصاف من نفسك وبذل السلام للعالم والإنفاق من الإقتار".4

_ 1 البخاري، الإيمان 1/68، ومسلم، الإيمان 1/46. 2 البخاري، الإيمان 1/16 ومسلم، الإيمان 1/46 3 حم 2/350 والترمذي في الرضاع 3/166 وقال حسن صحيح. 4 ذكره البخاري تعليقا، الإيمان 1/77

ثانيا: زيادة الإيمان ونقصانه أجمع السلف على أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية واستدلوا لذلك بأدلة كثيرة منها: قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [.الأنفال2] وقوله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [.التوبة124] وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً} [.الفتح4 وقوله تعالى: {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً} [.المدثر31] ومن السنة حديث معاذ بن أنس الجهني عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أعطى لله ومنع لله وأحب لله وأبغض لله وأنكح لله فقد استكمل إيمانه".1 وحديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن النساء: "وما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن"، قالت: يا رسول الله وما نقصان العقل والدين؟ قال: "أما نقصان العقل فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل، فهذا نقصان العقل، وتمكث الليالي ما تصلى، وتفطر في رمضان، فهذا نقصان الدين".2

_ 1 أخرجه أحمد 3/438 والترمذي في صفة القيامة وقال حديث حسن 4/670 2 مسلم، الإيمان، باب نقصان الإيمان بنقص الطاعات 1/86

وحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان".1 ومن الآثار عن الصحابة في هذا شيء كثير منها: ما روي عن عمير بن حبيب الخطمي رضي الله عنه قال: "الإيمان يزيد وينقص، قيل له: وما زيادته وما نقصانه؟ قال: إذا ذكرنا الله وحمدناه وسبحناه فتلك زيادته وإذا غفلنا وضيعنا ونسينا فذلك نقصانه".2 وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يأخذ بيد الرجل والرجلين من أصحابه فيقول: "قم بنا نزداد إيمانا". وروى نحوه عن معاذ بن جبل وعبد الله بن رواحة.3 وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه كان يقول في دعائه: "اللهم زدني إيمانا ويقينا وفقها". وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: "إن من فقه العبد أن يتعاهد إيمانه وما نقص منه، ومن فقه العبد أن يعلم أيزداد هو أم يننتقص، وأن من فقه الرجل أن يعلم نزغات الشيطان أنى تأتيه". والروايات في هذا كثيرة عن سائر الأئمة من كل طبقة، قال أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان رحمهما الله تعالى: "أدركنا العلماء في جميع الأمصار حجازا وعراقا وشاما ويمنا فكان من مذهبهم الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ... "4

_ 1 مسلم، الإيمان، رقم 49 2 الشريعة 1/261 والإيمان لابن أبي شيبة ص:7 3 انظر الإيمان لابن أبي شيبة ص: 35 4 شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي 1/176

فهذه النصوص وغيرها كثير تدل على أن الإيمان يزيد وينقص وأن زيادته بالطاعة ونقصه بالمعصية وتقع الزيادة والنقصان على ما في القلب والجوارح. فالإيمان المتعلق بالقلب من اليقين والحب والتعظيم والخوف من الله عز وجل وكذلك سائر الأعمال القلبية تزداد وتنقص. وكذلك الإيمان المتعلق بالجوارح من الصلاة والزكاة والحج وسائر الأعمال كلما زادت زاد الإيمان وإن نقصت نقص الإيمان. وإن ارتكب المسلم شيئا من المحرمات نقص إيمانه الذي في قلبه من حب الله واليقين بلقائه وتعظيمه والخوف منه كما أنه نقص إيمانه بارتكابه ما حرم الله عز وجل عليه، والنقص للإيمان القلبي وكذلك الزيادة شيء طردي بمعنى أن الطاعة تزيد في إيمان القلب، وإيمان القلب يبعث الجوارح على العمل. وكذلك المعصية تضعف إيمان القلب والقلب يضعف عمل الجوارح، وهذا شيء يدركه الإنسان المسلم المنتبه لآثار أعماله، فإنه إذا أطاع الله تعالى فإنه يشعر بقوة الرغبة فيما عند الله والحب له وانشراح الصدر للازدياد من الطاعات وكذلك إذا أخل بواجب أو عصى الله عز وجل فإنه يشعر بضعف إيمانه ويقينه وضعف رغبته فيما عند الله تعالى، كما يؤثر ذلك أيضا على انبعاثه للطاعات فلا يجد نفسه مقبلا عليها راغبا فيها بسبب معصيته، كما أنه سيشعر بضعف في مقاومة المفاسد والمعاصي وقد يقع فيها مرة بعد مرة إذا لم يتداركه الله برحمته وهدايته. وهذا مصداق ما روي عن عبد الله مسعود رضي الله عنه قال: "إن الرجل ليذنب الذنب فينكت في قلبه نكتة سوداء ثم يذنب الذنب فتنكت أخرى حتى يصير لون قلبه لون الشاة الربداء".1،وما روي عن عطاء بن أبي رباح رحمه الله تعالى قال: "ليس إيمان من أطاع الله كإيمان من عصى الله".2

_ 1 الربداء لون بين السواد والغبرة. وأخرج الأثر ابن أبي شيبة في الإيمان ص: 6، وقال الألباني صحيح الإسناد.6 2 شرح أصول اعتقاد أهل السنة 3/956

ثالثاً: أن إيمان المؤمنين متفاوت. بما سبق ذكره من الأدلة يتبين أن الإيمان شعب وأجزاء وأنه يزداد بالطاعة وينقص بالمعصية فبالتالي أهله فيه متفاوتون، منهم من هو في أعلى المقامات تصديقا ويقينا وعملا وهؤلاء هم الأنبياء عليهم السلام، هم أعلى بني أدم إيمانا وخشية وتقى وعملا، قال صلى الله عليه وسلم: "إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا".1 ثم من بعد النبيين عليهم السلام يأتي الصديقون ثم الأمثل فالأمثل من الأمة. ومن الأدلة الدالة على تفاوت المؤمنين في الإيمان ما روى البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينا أنا نائم رأيت الناس يعرضون علي وعليهم قمص منها ما يبلغ الثدي ومنها ما دون ذلك وعرض علي عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره، قالوا: فما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: الدين".2 وعن عائشة رضي الله عنه قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا".3 وعن عمرو بن شرحبيل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن عمار ملئ إيمانا إلى مشاشه".4 وقال ابن أبي مليكة: "أدركت ثلاثين من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه ما منهم أحد يقول إنه على إيمان جبريل وميكائيل".5

_ 1 صحيح البخاري مع الفتح 1/89. 2 صحيح البخاري 1/74 3 ابن أبي شيبة في الإيمان، ص:8، وصححه الألباني. 4 مشاشه هي رأس العظام كالمرفقين والكفين والكتفين، والحديث أخرجه ابن أبي شيبة في الإيمان وصححه الألباني ص: 31 5 البخاري 1/87

وعن عمر بن عبد العزيز رحمه الله قال: "إن الإيمان فرائض وشرائع وحدود وسنن فمن استكملها استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان فإن أعش فسأبينها لكم حتى تعملوا بها، وإن أنا مت قبل ذلك فما أنا على صحبتكم بحريص".1 فهذه النصوص تبين أن أهل الإيمان والتقوى متفاوتون في إيمانهم، سواء فيما وقر في قلوبهم أو بما يقومون به من أعمال الإيمان. كما أن الإيمان ينقص لدى أهل المعاصي، حتى ما يبقى منه إلا مثل حبة خردل كما ورد في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ثم يقول الله تعالى أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان فيخرجون منها قد اسودوا فيلقون في نهر الحياة أو الحياء – شك مالك- فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل ألم تر أنها تخرج صفراء ملتوية".2 وروى ابن أبي عاصم عن ميمون بن مهران أنه رأى جارية تغني فقال: "من زعم أن هذه على إيمان مريم بنت عمران فقد كذب".3 وقال سفيان بن عيينة عن الإيمان: "قول وعمل وقال: يزيد ما شاء الله وينقص حتى لا يبقى منه مثل هذه، وأشار بيده ثم قال بعد أن ذكر خصال الإيمان والدين: فمن ترك خلة من خلل الإيمان جاحدا كان بها عندنا كافرا ومن تركها كسلا وتهاونا أدبناه، وكان بها عندنا ناقصا، هكذا السنة أبلغها عني من سألك من الناس".4

_ 1 البخاري 1/66، ابن أبي شيبة ص: 45 2 البخاري 1/74 3 الإيمان لابن أبي عاصم 70 4 الشريعة للآجري 1/249

الآثار المترتبة على منهج السلف في الإيمان وثمراته

الآثار المترتبة على منهج السلف في الإيمان وثمراته إن التزام الكتاب والسنة يوصل المسلم إلى بر السلامة وشاطئ الأمان في جميع شؤونه،لأن الخير منوط بهما والشر بالإعراض عنهما وابتغاء الهدى في غيرهما. وإن لالتزام السلف بالكتاب والسنة ثمرات وأثار عظيمة دنيوية وأخروية وسنشير في عجالة مختصرة إلى أثار وثمرات منهج السلف في الإيمان وهي: 1 - الالتزام بالتحديدات الشرعية في المسألة. من آثار منهج السلف في الإيمان هو الارتباط بكلام الله عز وجل وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة العظيمة. وهذا له أهمية كبرى من ناحية تعظيم كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وابتغاء الهدى منهما، كما أن في الوقوف على مراد الشارع في المسألة عصمة من الوقوع في مناقضة كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم في الأمور المترتبة على المسميات الشرعية في العقائد والأحكام. وأيضا فإن الوقوف على مراد الشارع في ذلك فيه أجر عظيم لأن ذلك من تدبر كلام الله والتفقه في دين الله الذي أُمر به المسلم. 2 - فتح باب التنافس في ارتقاء درجات الإيمان للوصول إلى أعلى الجنان. إن اعتقاد السلف أن الإيمان قول وعمل يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية يفتح الباب واسعا للتنافس المحمود بين أهل الإيمان لأنه كلما ازداد طاعة كلما ازداد إيمانا وكلما ازداد إيمانا ازداد إقبالا على الخير والطاعة وبالتالي ازداد رفعة وقربا من خالقه جل وعلا وهذا ما وصف الله عز وجل به عباده الصالحين، قال جل وعلا: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء57] وقال: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا

فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر22] . 3 - تنزيل الناس منازلهم وعدم التسوية بين المؤمنين والفجار. إن من الآثار المترتبة على قول السلف في الإيمان عدم المساواة بين الناس في الإيمان، فلا يساوى العبد الصالح التقي بالعبد الفاجر الفاسق. فعدم المساواة بينهما من العدل الذي يحبه الله عز وجل، أما المساواة بينهما فهو من الظلم الذي نفاه الله تعالى عن نفسه، قال جل وعلا: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية21] وقال جل وعلا: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص28] 4 - عدم فتح باب التمني والرجاء الكاذب للعصاة بظنهم أنهم أهل الإيمان الداخلون فيما وُعد به المؤمنون. إن العصاة لا يصح أن يقال عنهم بإطلاق إنهم مؤمنون، لأن وصف الإيمان اسم مدح رتب الله عز وجل عليه دخول الجنة.قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} [التوبة72] وقال تعالى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الحديد12] والعصاة ليسوا من أهل هذا الوعد بل هم تحت المشيئة. والسلف يمنعون أن يوصف العصاة بالإيمان المطلق فلا يقال عنهم مؤمنون بإطلاق وإنما يقال عن العاصي مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته أومؤمن عاص. وذلك حتى لا يظن في نفسه أو يغرر به الشيطان أنه من أهل الوعد مع أن حقيقته أقرب إلى الوعيد بسبب عصيانه وانحرافه، وهذا له دور كبير في تنبيه العاصي وتخويفه لعله يقلع عن ذنبه ويثوب إلى رشده ويستقيم على أمر ربه.

5 - إثبات أصل الإيمان للعصاة وتصحيح إسلامهم وعدم تكفيرهم. العصاة لهم إيمان وهم مسلمون، وفسقهم لا ينافي إسلامهم، وقول السلف في الإيمان يثبت لهم ذلك، وذلك أمر مهم جدا حتى يندرجوا في عداد المسلمين وتصح أيضا عباداتهم وقرباتهم التي أتوا بها على وجه صحيح لأن فسقهم بناء على قول السلف لم يخرجهم من الإيمان ولا يصح أن يحكم عليهم بالكفر بسببه. 6 - فتح باب الرجاء للعصاة وعدم تقنيطهم من رحمة الله عز وجل لوجود أصل الإيمان معهم. من آثار مذهب السلف أنه يفتح باب الرجاء في رحمة الله تعالى للعصاة،وأنه لا يقنطهم من رحمة الله عز وجل، وهذا له دور كبير في أن الفاسق يشعر بأنه غير مطرود وأن حباله ممدودة وأن سبل نجاته متيسرة وما عليه إلا أن يحطم أغلال هواه وينتشل نفسه من أسر شيطانه فيسلك سبيل الصالحين، ويدرج على خطى المؤمنين ليكون من عباد الله المتقين الفالحين.

مناهج المخالفين في الإيمان

مناهج المخالفين في الإيمان اولاً: المرجئة ... مناهج المخالفين في الإيمان خالف السلف في الإيمان فرقتان: المرجئة والوعيدية. وسنبين ما يتعلق بكل فرقة منها: أولا: المرجئة المرجئة: وصف أطلق على كل من آخر العمل عن الإيمان ولم يدخله في مسماه. وكلمة المرجئة مشتقة من الإرجاء وهو على معنيين: المعنى الأول: الإرجاء بمعنى التأخير. المعنى الثاني: الإرجاء بمعنى إعطاء الرجاء. ويصدق هذا الوصف على المرجئة بكلا المعنيين، لأنهم أخروا العمل عن الإيمان، كما أنهم يعطون الرجاء للفاسق، وفي هذا الأخير يتفق من لم يكن غاليا منهم مع السلف الذين يقولون إن الفاسق تحت المشيئة كما سنبين. والمرجئة فرق عديدة ينقسم قولهم في الإيمان إلى قسمين: القسم الأول: قولهم في مسمى الإيمان وتعريفه وهل العمل داخل في مسماه أم لا؟ القسم الثاني: قولهم في وجوب العمل. وسنذكر موقفهم من كل قسم فيما يلي:

أولا: قول المرجئة في مسمى الإيمان وتعريفه: المرجئة عموما أخرجوا العمل عن مسمى الإيمان ولهم في تعريف الإيمان أقوال هي: 1 - الجهمية: أتباع الجهم بن صفوان الذي كان يزعم أن الإيمان هو معرفة القلب، وأنه لا يتبعض ولا يتفاضل فيه أهله.1 2 - الأشاعرة والماتريدية: قالوا إن الإيمان هو التصديق القلبي،ومنهم من قال إنه لا يزيد ولا ينقص كالباقلاني والجويني والرازي وعليه أكثر الماتريدية.2 ومنهم من قال: إن التصديق القلبي يقبل الزيادة والنقصان من حيث القوة والضعف لوضوح الأدلة والبراهين عليه وقال بهذا الأيجي والغزالي.3 3 - أبو حنيفة وأصحابه: قالوا الإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان وهو لايزيد ولا ينقص. ووافقهم في هذا بعض الماتريدية.4 4 - الكرامية: قالوا إن الإيمان هو الإقرار باللسان دون القلب. 5 فهذه الأقوال المشهورة في الإيمان وزيادته ونقصانه. فجميع هذه الطوائف أخرجت العمل من مسمى الإيمان،فبالتالي أنكروا زيادة الإيمان ونقصانه، ومن قال بالزيادة والنقصان فإنما نظر إلى أن تصديق القلب يقوى ويضعف بقوة الأدلة ووضوح البراهين،وهذا وإن كان وجها في الزيادة

_ 1 مقالات الإسلامين 1/214 2 التمهيد للباقلاني، ص: 388، الماتريدية ص: 453، الإرشاد للجويني، ص:335، المحصل للرازي، ص: 570 3 الملل والنحل للشهرستاني 1/88، أصول الدين للبغدادي، ص: 252، الاقتصاد في الاعتقاد ص:141، قواعد العقائد ص: 236، 263، المواقف للأيجي ص:388، مسائل الإيمان للقاضي أبي يعلى ص:399 4 الفقه الأكبر ص:70، أصول الدين عند أبي حنيفة ص: 354 5 مقالات الإسلامين 1/223

والنقصان في الإيمان إلا أنه ليس هو المقصود فقط في كلام السلف بل الزيادة والنقصان في كلامهم تقع على ما في القلب والجوارح. أدلة المرجئة على إخراج العمل عن مسمى الإيمان. يجمع المرجئة القول بعدم دخول الأعمال في الإيمان، لهذا أدلتهم منصبة على ما يدل على أن الإيمان في القلب دون الجوارح ومن أهم أدلتهم: 1 - أن الإيمان في اللغة هو التصديق، واستدلوا بقوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف19] أي بمصدق لنا، وما دام الإيمان في اللغة التصديق فهو كذلك في الشرع. وهذا أهم أدلتهم، وهو عمدتهم في عدم دخول العمل في الإيمان.1 2 - أن الله فرق بين الإيمان والعمل الصالح في آيات كثيرة مثل: {وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [العصر1, 2] وقالوا: العطف يقتضي المغايرة.2 3 - أن الله خاطب المؤمنين باسم الإيمان قبل أن يوجب عليهم الإعمال في مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة183] . الرد على استدلالات المرجئة: 1 - الرد على استدلال المرجئة باللغة: إن الاستدلال باللغة غير صحيح لعدة أسباب: أ - أن لفظ التصديق ليس مرادفا للفظ الإيمان لما يلي:

_ 1 انظر: التمهيد للباقلاني ص346، أصول الدين للبغدادي ص247، تحفة المريد شرح جوهرة التوحيد ص46. 2 انظر: شرح الفقه الأكبر ص72، والأيجي في المواقف ص385، تحفة المريد ص46.

1 - أن لفظ الإيمان يتعدى باللام مثل "بمؤمن لنا" و"آمن له لوط" ويتعدى بالباء مثل "آمنا بالله"، أما لفظ التصديق فلا يتعدى باللام إلا نادرا وإنما يتعدى بنفسه مثل "صدقه" أو بالباء مثل "صدق به". 2 - أن لفظ الإيمان يقابله لفظ الكفر فيقال "أمن به وكفر به" بخلاف لفظ التصديق فإنه يقابله لفظ التكذيب فيقال "صدقه وكذبه". 3 - أن لفظ الإيمان لا يستعمل إلا في الخبر عن غائب، فيقال "آمن بالله وآمن بالملائكة"، وذلك لما في لفظ الإيمان من الائتمان. أما التصديق فيستعمل في الخبر عن الغائب والمشاهد فيقال لمن قال: الله موجود أو السماء فوقنا: صدق. ب - أن لفظ التصديق ليس خاصا بالقلب وإنما ورد أيضا في العمل وذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة: فزنا العين النظر وزنا اللسان المنطق والنفس تمنى وتشتهي والفرج يصدق ذلك ويكذبه" 1. وقال الحسن البصري رحمه الله: "ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقته الأعمال".2 فقد أطلق لفظ التصديق على العمل في كلا الروايتين.

_ 1 أخرجه البخاري 11/511، كتاب القدر، حديث رقم: 6612 2 أخرجه ابن أبي شيبة في الإيمان ص: 31 حديث رقم: 93، والخطيب البغدادي في اقتضاء العلم العمل ص: 177 حديث رقم: 56

ج - إن الاستدلال باللغة هنا غير صحيح، لأن الخلاف بين المرجئة والسلف ليس في معنى الإيمان اللغوي، وإنما الخلاف في معناه الشرعي ومن المعلوم أن الشارع له اصطلاحات في الألفاظ خاصة به مثل لفظ الصلاة والزكاة والحج لها معان في اللغة، ولكن الشارع أضاف عليها قيودا واستخدمها استخداما خاصا، فإذا أطلقت في كلام الشارع فلا يراد بها إلا المعنى الشرعي، فكذلك لفظ الإيمان إذا كان معناه في اللغة التصديق، فلا يلزم أن يكون هو معناه في الشرع، بل إنا وجدنا الشارع قد أضاف إلى التصديق الأعمال والأقوال،وسمى الكل إيمانا فيكون الشارع أراد بلفظ الإيمان معنى خاص به كما أراد بلفظ الصلاة معنى خاص.1 2 - الرد على استدلالهم بأن الإعمال الصالحة عطفت على الإيمان في آيات عديدة والعطف يقتضي المغايرة. الجواب عن هذا ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في ذلك وغيره حيث قال: إن عطف الشيء على الشيء يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه، مع اشتراك بينهما في الحكم الذي ذكر لهما في سائر الكلام". ثم ذكر أن المغايرة على مراتب: 1 - أن يكون المعطوف والمعطوف عليه متباينين ليس أحدهما هو الآخر ولا جزأه مثل قوله تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الأنعام1] و {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ} [آل عمران3] وهو الغالب. 2 - أن يكون بينهما لزوم كقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِه} [النساء136] فإن من كفر بالله فقد كفر بهذا كله فالمعطوف لازم للمعطوف عليه.

_ 1 مجموع الفتاوى 7/289-296

3 - عطف الشيء على الشيء لاختلاف الصفتين كقوله تعالى {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى، وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى1 – 3] فعطف "الذي قدر فهدى" على "الذي خلق فسوى" وهو واحد وهو الله عز وجل، وإنما عطفه لاختلاف الصفتين. 4 - عطف بعض الشيء عليه كقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة238] فالصلاة الوسطى بعض الصلوات. وقوله تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} [القدر4] والروح هو جبريل وهو من الملائكة،وإنما ذكر بالتخصيص للاعتناء به والتنبيه على قدره وعطف العمل الصالح على الإيمان من هذا الجنس إنما عطفه على الإيمان وهو جزء منه للتنبيه عليه والعناية به.1 3 - الرد على استدلالهم بأن الله خاطب المؤمنين باسم الإيمان قبل أن يفرض عليهم الأعمال. والجواب عن ذلك: أن الله خاطب المؤمنين باسم الإيمان، الذي كان واجبا عليهم وآمنوا به من قبل لأن فرائض الإسلام وشرائعه نزلت مفرقة فأول ما أوجب على عباده الشهادتين فآمنوا بها وأقروا فزادهم الشرائع الأخرى الصلاة ثم الصيام والزكاة وكلما نزلت شريعة خاطبهم باسم الإيمان الذي كانوا عليه من قبل، لأنهم لو لم يؤمنوا بما نزل من الشرائع متأخرا كالحج ونحوه لكفروا ولم ينفعهم إيمانهم السابق فإنما خاطبهم الله باسم الإيمان السابقة على نزول الفريضة.2

_ 1 مجموع الفتاوى 7/172 بتصرف وانظر مسائل الإيمان للقاضي أبي يعلى ص: 243 2 الإيمان لأبي عبيد ص: 54 وما بعدها، مسائل الإيمان للقاضي أبي يعلى ص:239

ثانيا: قول المرجئة في وجوب العمل. العمل والمراد به الطاعات الواجبة والمندوبة،ويدخل هنا الانتهاء عن المحرمات والمحظورات. والمرجئة في هذا على قولين: 1 - غلاة المرجئة: وهم الذين يزعمون أن العمل غير واجب ويدعون أن المؤمن مهما ترتكب من المعاصي أو أخل بالواجبات فالنجاة متحققة له ويقولون: إنه لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الكفر طاعة وعزي هذا القول إلى اليونسية والعبيدية.1 2 - غير الغلاة من المرجئة: وهم من عدا من ذكر من المرجئة فإنهم يرون أن العمل واجب وأن العاصي تحت المشيئة يوم القيامة فإن شاء الله عذبه وإن شاء غفر له2. وهذا القول منهم خفف الخلاف بينهم وبين السلف وجعل الخلاف في مسمى الإيمان فقط. أما المرجئة الذين أنكروا وجوب العمل، فهذا قول لا يعرف لأحد له شهرة في العلم ولا قدم راسخة في الدين، وقولهم مناقض لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم وجهاده والتشريع الإسلامي على العموم، فلسقوطه وفساده نعرض عن ذكر ما يستندون إليه من شبه وتصورات هي بعيدة كل البعد عن حقيقة الدين والإسلام.

_ 1 الملل والنحل للشهرستاني 1/138 2 مقالات الإسلامين 1/229، الإرشاد للجويني ص: 329، أصول الدين للبغدادي ص: 242، مجموع الفتاوى 7/297

أدلة غلاة المرجئة: قد يستدل غلاة المرجئة بالأحاديث التي يسميها العلماء أحاديث الوعد 1، وذلك مثل حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة".2 وحديث عثمان بن عفان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة".3 وحديث عتبان بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يشهد أحد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فيدخل النار أو تطعمه". 4 الرد على الغلاة من المرجئة: الأحاديث التي ذكرت في أدلة غلاة المرجئة يقابلها أحاديث كثيرة وردت في دخول أناس من أهل التوحيد النار، كما في حديث حذيفة رضي الله عنه "لا يدخل الجنة نمام" 5،وحديث معقل بن يسار رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة". 6 وحديث أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من اقتطع حق امرىء مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار". 7. وغير ذلك من الأحاديث

_ 1 انظر شرح مسلم للنووي 1/218. 2 أخرجه مسلم في الإيمان رقم44،1/56. 3 أخرجه مسلم في الإيمان رقم 43،1/55. 4 أخرجه مسلم في الإيمان رقم 54، 1/62. 5 أخرجه مسلم في الإيمان رقم105، 1/101. 6 أخرجه مسلم في الإيمان رقم 227،1/125. 7 أخرجه مسلم في الإيمان رقم 218، 1/122.

وأهل البدع يتميزون بالأخذ ببعض النصوص، ويتركون البعض الآخر. فقد أخذ المرجئة بأحاديث الوعد، وتركوا أحاديث الوعيد. والخوارج والمعتزلة أخذوا بأحاديث الوعيد وتركوا أحاديث الوعد. ومنهج أهل السنة وما يميزهم أنهم يأخذون بجميع النصوص ما أمكن الجمع بينها، فلهذا صار مذهبهم بناءً على هذه النصوص جميعها، أن من مات من أهل الإسلام وهو على شيء من الذنوب فهو تحت المشيئة إن شاء غفر له وإن شاء عذبه،ويرجون للمحسن ويخافون على المسيء. واختلف جوابهم رحمهم الله في الروايات التي يستند إليها المرجئة إلى عدة أجوبة، منها: 1 - أن هذه الفضيلة في تلك الأحاديث هي لمن قالها عند الندم والتوية، ومات على ذلك، وبهذا قال البخاري. 1 2 - أن المراد بدخول الجنة في هذه ألأحاديث هو دخولها بعد مجازاته بما يستحق من العقوبة إن لم يغفر الله له. 2 3 - أن المراد من تحريم دخول النار، أي عدم دخول النار التي أعدت للكافرين التي من دخلها لا يخرج منها، بخلاف النار التي يدخلها عصاة الموحدين ممن شاء الله عقابه. 4 - أن لا إله إلا الله سبب لدخول الجنة والنجاة من النار ومقتضى لذلك، ولكن المقتضى لا يعمل عمله إلا باستجماع شروطه وانتفاء موانعه، وقد يتخلف عنه مقتضاه لفوات شرط من شروطه أو لوجود مانع، وبهذا قال الحسن للفرزدق وهو يدفن امرأته: ما أعددت لهذا اليوم؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله منذ سبعين سنة. قال الحسن: نعم العدة، ولكن لا إله إلا الله

_ 1 انظر كلام البخاري في كتاب اللباس. صحيح البخاري مع فتح الباري 10/295. 2 انظر شرح النووي على مسلم 1/219.

شروطاً، فإياك وقذف المحصنات. وقيل للحسن: إن ناساً يقولون: من قال لا إله إلا الله دخل الجنة، فقال: من قال لا إله إلا الله فأدى حقها وفرضها دخل الجنة. قال وهب من منبه لمن سأله: أليس مفتاح الجنة لا إله إلا الله؟ قال: بلى، ولكن ما من مفتاح إلا وله أسنان، فإن أتيت بمفتاح له أسنان فتح لك، وإلا لم يفتح لك. وهذا ظاهر كلام القاضي عياض، وما رجحه النووي وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وابن رجب وابن حجر، وكثير من الأئمة، وهو أنه لابد مع لا إله إلا الله من عمل الصالحات وتجنب السيآت، الذي هو تحقيق لمعناها ومقتضاها، ودليل على الصدق فيها. 1 آثار قول المرجئة في مسمى الإيمان: إن قول المرجئة الذين أخرجوا العمل عن مسمى الإيمان له آثار ولوازم فاسدة من أهمها: 1 - مخالفة كلام الله عز وجل وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم في تحديد الإيمان ووصفه. المرجئة زعموا أن الإيمان هو التصديق فقط أو التصديق مع القول على قول بعضهم، وهذا أخذ ببعض الكتاب وترك للبعض الآخر إذ هو آخذ للنصوص التي ذكرت أن الإيمان هو ما في القلوب، مثل قوله تعالى: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ} [المجادلة22] أو الآيات التي تضمنت ذكر قول اللسان وذلك في مثل قوله

_ 1 انظر الآثار السابقة وأقوال العلماء في شرح النووي على مسلم 1/219، الإنتصار في الرد على المعتزلة القدرية 3/757، فتح الباري 1/226، معارج القبول 1/343، الدين الخالص 3/137-147، تيسير العزيز الحميد 87-91.

صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله" 1 وتركوا النصوص التي تجعل الإعمال من ضمن الإيمان مثل قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [الحجرات15] ، وقوله صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وسبعون شعبة فأعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان" 2، ونحوه من الأحاديث التي أدخلت العمل في الإيمان. كما خالفوا كلام الشارع في وصف الإيمان بأنه يزيد وينقص حيث وردت آيات وأحاديث عديدة في وصف الإيمان بأنه يزيد وينقص فخالفها المرجئة فزعموا أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص وليس لهم في ذلك مستند شرعي. 2- زعمهم أن الفاسق مؤمن كامل الإيمان ومنهم من يدخل النار يوم القيامة. المرجئة زعموا أن الفاسق لما أتى بالتصديق فهو مؤمن كامل الإيمان، وإن ارتكب من المعاصي ما ارتكب وعندهم كما سبق أن العصاة يوم القيامة تحت المشيئة، ومنهم من يدخل النار كما ثبت بالأحاديث، وهذا يلزم منه أن يدخل العصاة أو بعضهم النار مع أنهم مؤمنون كاملوا الإيمان، وهذا خلاف ما وعد الله به المؤمنين في مثل قوله عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} [التوبة72] .

_ 1 البخاري في الزكاة رقم 1399، ومسلم في الإيمان رقم 124 ,1/150 من حديث عمر رضي الله عنه. 2 البخاري في الإيمان 1/68، ومسلم في الإيمان 1/46.

3 - وصفهم الفساق بصفة المدح والثناء وهي الإيمان. المرجئة زعموا أن الفاسق مؤمن كامل الإيمان ووصف الإيمان وصف مدح وثناء رتب الله عليه الجنة وهو مثل بر وتقي وصالح، مع أن الفساق ليسوا كذلك بل ورد في الشرع ذمهم لتلبسهم بالأعمال المحرمة،فكيف يستقيم أن يكون ممدوحا على جهة الكمال والتمام وهو في نفس الوقت مذموم. 4 - مساواتهم بين أفسق الناس وأتقى الناس في الإيمان. المرجئة جعلوا الإيمان شيئا واحدا أو من شيئين لا يتفاوت أهله فيه، فبالتالي من أنفق ساعاته وحياته كلها في معاصي الله عز وجل، والوقوع فيما حرمه الله، وهو مقر لله بالربوببة والألوهية ومصدق للنبي صلى الله عليه وسلم في الرسالة مثل جبريل وميكائيل وسائر الأنبياء عليهم السلام في الإيمان. ولاشك أن المساواة بين أفسق الناس وأتقى الناس في الإيمان قول باطل. 5 - تهاونهم بأعظم الأصول الدينية وهو توحيد الألوهية. لما زعم المرجئة أن العمل ليس داخلا في أصل الإيمان أخرجوا في كلامهم عن التوحيد ما له علاقة بالعمل وهو توحيد الألوهية فتراهم في تعريفهم وذكرهم للتوحيد لا يذكرون سوى الربوبية والأسماء والصفات لتعلقهما بالاعتقاد ويهملون ذكر توحيد الألوهية ويبدو أن هذا من آثار تعريفهم للإيمان. وتوحيد الألوهية هو الغاية التي من أجلها خلق الإنسان وهو أعظم المطالب الشريعة مع ذلك أهمله المرجئة وكفى بهذا أثرا فاسدا لقولهم في الإيمان أنه التصديق دون العمل.

ثانيا: الوعيدية

ثانياً: الوعيدية المراد بالوعيدية: هم من قطع بإنفاذ الوعيد في أهل الإيمان والإسلام،ولم ير لأهل الفسق في الرحمة نصيب ولا رجاء. والمراد بهم هنا: المعتزلة والخوارج. وسنذكر قول الخوارج والمعتزلة في تعريف الإيمان في زيادته ونقصانه. أولاً: قول الخوارج والمعتزلة في الإيمان: الخوارج والمعتزلة قالوا: إن الإيمان هو جميع الطاعات الواجبة وهو لا يزيد ولا ينقص.1 ومن أخل بشيء من الواجبات أو ارتكب شيئاً من المنهيات، فقد خرج من الإسلام ودخل في الكفر عند الخوارج، أما المعتزلة فعندهم أنه خرج من الإسلام ولم يدخل في الكفر فهو في منزلة بين المنزلتين الفرق بين قول الخوارج والمعتزلة وقول السلف: الخوارج والمعتزلة وافقوا السلف في تعريف الإيمان بإدخال الأعمال في مسمى الإيمان إلا أنهم خالفوا السلف بأن جعلوا الأعمال شرطاً في صحة الإيمان، فمن أخل بشيء من الواجبات أو ارتكب شيئاً من المنهيات عند الخوارج خرج من الإيمان ودخل في الكفر، وعند المعتزلة هو في منزلة بين المنزلتين لا مؤمن ولا كافر.

_ 1 انظر أصول الدين للبغدادي ص249، مقالات الإسلاميين 1/168، شرح الأصول الخمسة ص139، مسائل الإيمان ص397.وانظر أيضاً قول الخوارج في الإيمان لأبي عبيد ص101.

أما عند السلف فإن الأعمال من الإيمان، فمن أخل بش من الواجبات أو ارتكب شيئاً من المنهيات نقص إيمانه عن القدر الواجب، وعرض نفسه للعقوبة ولم يستحق اسم الإيمان المطلق إلا أنه لا يخرج من الإيمان إلا بارتكاب عمل كفري أو ترك الصلاة على قول كثير من العلماء. أدلة الخوارج والمعتزلة: الخوارج والمعتزلة خالفوا السلف في مسمى وحكم من أخل بشيء من الواجبات، أو ارتكب شيئاً من المحرمات، فسماه الخوارج كافراً، وحكموا عليه به، أما المعتزلة فقد أخرجوه من الإيمان ولم يدخلوه في الكفر. وقد استدل كل منهم بأدلة. أولاً: أدلة الخوارج والمعتزلة. استدل الخوارج على قولهم بتكفير مرتكب الكبيرة بالأدلة التي ورد فيها إطلاق الكفر على مرتكب بعض المعاصي مثل قول الله عز وجل: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة 44] . ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: "أيما عبد أبق من مواليه فقد كفر".1 أو قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر" 2. واستدل المعتزلة بالنصوص التي تسلب الإيمان عن العاصي وتصفه بالفسق، مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن.." 3، أو حديث "لا إيمان

_ 1 مختصر صحيح مسلم ص37 ح 57, باب إذا أبق العبد فهو كفر. 2 مختصر صحيح مسلم ص34 ح 50, باب من قال لأخيه كافر. 3 مختصر صحيح مسلم ص31, باب لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن.

لمن لا أمانة له" 1، أو حديث "والله لا يؤمن الذي لا يأمن جاره بوائقه" 2 ونحو ذلك من الأحاديث. الرد على الوعيدية: الرد على الخوارج والمعتزلة يكون من وجهين: الوجه الأول: في بيان معنى النصوص التي استدل بها كل من الخوارج والمعتزلة. أولاً: أدلة الخوارج: الأدلة التي استدل بها الخوارج وفيها وصف عامل بعض الأعمال بالكفر للعلماء فيها عدة أجوبة، منها: 1 - أن المقصود بذلك المستحل للفعل المذكور، لأن المستحل لذلك مكذب لنص القرآن أو السنة في تحريم الفعل المنهي عنه، فيكون بذلك كافراً. 2 - أن المراد أن ذلك الفعل مؤد إلى الكفر، لأنه كما قيل: المعاصي بريد الكفر.3 3 - أن المراد به كفر النعمة وكفر الإحسان. 4 - أن المراد التغليظ، وليس الكفر بالله.4 5 - أن ذلك الفعل من أخلاق الكفار وأعمالهم، ولا يعني أن صاحبه كافر خارج

_ 1 أخرجه أحمد في مسنده 3/438-440. 2 أخرجه البخاري 10/457، باب إثم من لا يأمن جاره بوائقه. 3 شرح النووي على مسلم 2/50. 4 تحفة الأحوذي 1/419.

من الإسلام.1 6 أن المراد ليس الكفر الأكبر، وإنما هو كفر دون كفر. ومما يدل على صحة هذا، أن الشارع ورد عنه تقسيم بعض هذه التسميات إلى قسمين، وذلك مثل قوله عليه الصلاة والسلام: "إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر..". فدل هذا على أن الشرك شركان أكبر وأصغر. وكذلك ما ورد من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "لما نزلت {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام82] شق ذلك على المسلمين فقالوا: يا رسول الله أينا لا يظلم نفسه؟ قال: ليس ذلك، إنما هو الشرك،ألم تسمعوا ما قال لقمان لابنه وهو يعظه {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان13] 2 فهذا دليل على أن الظلم ظلمان، ظلم دون ظلم، وهو ظلم العبد لنفسه بالذنوب، وظلم عظيم وهو الشرك. ومن هذا قوله عليه الصلاة والسلام من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: "أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً،ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا أئتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر". 3

_ 1 بهذا قال البخاري رحمه الله، حيث بوب في الصحيح: باب المعاصي من أمر الجاهلية ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك. انظر فتح الباري 1/84. وهو قول أبي عبيد القاسم بن سلام في كتابه الإيمان ص96. 2 أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء. انظر صحيح البخاري مع الفتح 6/537. 3 أخرجه البخاري في كتاب الإيمان. انظره مع الفتح 1/89

فهذا دليل على أن النفاق منه ما يكون أكبر، وهو النفاق في الإيمان بأن يظهر الإيمان ويبطن الكفر، ومنه ما هو دون ذلك، وهو أن يكون فيه من أخلاق المنافقين. ومن هذا الباب لفظ الكفر، فقد أطلق النبي صلى الله عليه وسلم لفظ الكفر على بعض الأعمال، وفسره بغير الكفر بالله، وذلك في قوله عليه الصلاة والسلام فيما روى ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أريت النار فإذا أكثر أهلها النساء يكفرن قيل: أيكفرن بالله؟ قال: يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان لو أحسنت إلى إحداهن الدهر، ثم رأت منك شيئاً قالت: ما رأيت منك خيراً قط" 1 ومما يدل على هذا المعنى ماروى ابن جرير بسنده عن ابن عباس رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة44] قال: هي به كفر، وليس كفراً بالله وملائكته وكتبه ورسله. وروي عنه أنه قال: من جحد ما أنزل الله فقد كفر، ومن أقر به ولم يحكم فهو ظالم فاسق. وروي عن عطاء أنه قال في الآية كفر دون كفر، فسق دون فسق، وظلم دون ظلم. ومثله قال طاووس، وهو ما رجحه ابن جرير.2 وهو ما يشير إليه صنيع النووي في تبويبه لصحيح مسلم، وكذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وما رجحه شارح الطحاوية،وهو أرجح الأقوال في جواب الأحاديث التي وصفت بعض الذنوب بالكفر 3.والله أعلم.

_ 1 أخرجه البخاري في الإيمان. انظره مع الفتح 1/83. 2 تفسير ابن جرير 1/355 - 358. 3 شرح النووي على مسلم 2/57، مجموع الفتاوى 7/524، شرح الطحاوية ص444.

ثانياً: أدلة المعتزلة. الأدلة التي استدل بها المعتزلة وفيها نفي الإيمان عن مرتكبي بعض الأعمال، فليس المراد بنفي الإيمان أنه لم يبق معه شيء من الإيمان، وإنما هو نفي لكماله الواجب الذي يعرض تاركه للعقوبة، فقوله: "لا إيمان لمن لا أمانة له" يعني أنه فاقد للجزء المهم من الإيمان الذي بفقده يصبح صاحبه كأنه خال منه، وهو مثل صانع يصنع عملاً لأحد،إلا أنه لم يحسنه فيقال له: ما صنعت شيئاً، أو مثل طالب العلم يذهب ليتعلم العلم ثم لم يحسن التعلم فجاء علمه قليلاً ضعيفا فيقال عنه إنه لم يتعلم شيئاً، ولا يعني ذلك نفي الصفة ولا نفي العلم بتاتاً، وإنما يعني نفي حقيقته، ونفي الشيء الذي به يستحق أن يوصف به. فكذلك الإيمان إذا وقع صاحبه في تلك الذنوب، إنما ينفي عنه حقيقته وإخلاصه، الذي لو كان موجوداً عنده لعصمه وأبعده عن تلك الموبقات والمحرمات.1 والله أعلم. الوجه الثاني: وهو في بيان أن المعاصي لا تزيل الإيمان ولا توجب كفر فاعلها: أجمع أهل السنة على أن المعاصي لا توجب الكفر واستدلوا لذلك بعدة أدلة: 1 - أنه لو كان كفراً مخرجاً من الملة لكانوا بذلك مرتدين،ووجب قطع نكاحهم وتوارثهم، ولوجب قتلهم لردتهم. وهذا كله لم يقع من النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يحكم الله بذلك

_ 1 انظر الإيمان لأبي عبيد القاسم بن سلام ص90 - 98، مسائل الإيمان للقاضي أبي يعلى ص377، شرح مسلم للنووي 2/41، فتح الباري 12/61

فنجد أن الله حد الحدود في الزاني البكر الجلد، وفي الثيب الرجم، وفي شارب الخمر الجلد، وفي السارق القطع. والنبي صلى الله عليه وسلم نفذ هذه الحدود فيمن ارتكب شيئاً من المنهيات، ولم يقتل إلا من كان حده القتل، وكذلك فعل أصحابه رضوان الله عليهم. فهذا دليل واضح على أنه لا يخرج من الإسلام ولا يكفر. 2أن الله جل وعلا قد أثبت الإيمان لبعض العصاة في مثل قوله عز وجل: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات9] . فوصفهم بالإيمان في حال القتال، وهذا يدل على أنهم لا يخرجون بذلك من الدين. وكذلك قال صلى الله عليه وسلم في كلامه عن الحسن بن علي رضي الله عنه: "إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين".1 فوصفهم بالإسلام مع وقوع القتال بينهم، مما يدل على عدم خروجهم من الإسلام. 3أنهم في الآخرة تحت المشيئة داخلون تحت عموم قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء48] . كما ثبت في أحاديث كثيرة خروج أناس كثير من العصاة من النار، كما أن أحاديث الشفاعة تدل على أنه لا يخلد في النار إلا الكفار، فلو كان مرتكبو الكبائر كفاراً كفراً أكبر لكانوا من الخالدين في النار، وفي هذا كفاية ومقنع لمن هداه الله. وقبل أن نختم الكلام في هذه المسألة نشير إلى أمر مهم اشترك فيه سائر المخالفين للسلف في الإيمان وهو: أنهم زعموا أن الإيمان كل لا يتجزأ إذا ذهب بعضه ذهب كله.

_ 1 أخرجه البخاري 5/361ح2704 كتاب الصلح.

فالمرجئة زعموا أن الإيمان شيء واحد وهو التصديق أو القول والتصديق أو القول، وهذا عندهم شيء واحد لا يتجزأ، فلو زال بعضه لزال كله، فلو زال بعض الإيمان وهو التصديق لصار شكاً وذلك كفر. وكذلك قال المعتزلة والخوارج أن الإيمان كل لا يتجزأ فهو قول واعتقاد وعمل، ولو زال جزء منه سواء من القول أو الاعتقاد أو العمل زال المسمى كله فلا يسمى إيماناً، وإنما يسمى كفراً، كما هو عند الخوارج،أو منزلة بين المنزلتين كما هو عند المعتزلة. والحق خلاف قولهم جميعا، فإن الإيمان مركب من ثلاثة أشياء، وهو القول والاعتقاد والعمل، وزوال جزء منه لا يزيل مسماه ما لم يكن في ذلك الجزء هو الأصل الذي يبنى عليه الدين كله. وذلك مثل الشجرة فإنها مكونة من جذور وساق وأغصان أوراق فلو زال جزء من الأغصان أو الأوراق فإنها تبقى على اسمها ولا يزول عنها الاسم بزوال الجزء، ولكنها توصف بالنقص. وكذلك سائر المركبات من المكيلات والموزونات لو زال منها جزء فإنها لا تفقد مسماها، وإنما تفقد كمالها، فكذلك الإيمان زوال جزء منه لا يزيل مسماه، وإنما يزيل عنه وصف الكمال فقط 1. والله أعلم.

_ 1 مسائل الإيمان للقاضي أبي يعلى ص365، جامع العلوم والحكم لابن رجب ص43

منهج السلف الصالح في التوحيد

منهج السلف الصالح في التوحيد اولا: توحيد الربوبية ... منهج السلف الصالح في التوحيد التوحيد: مصدر وحد يوحد توحيدا فهو موحد، والواحد والأحديدور معناه على الانفراد. وشرعاً: هو اعتقاد أن الله تعالى واحد في ذاته وواحد في ريوبيته وواحد في صفاته لا مثيل له وواحد في ألوهيته وعبادته لا شريك له. فهذا التعريف تضمن اعتقاد وحدانية الله عز وجل من جميع الوجوه فهو واحد في ذاته لا ولد له ولا والد، وليس ثلاثة كما يدعي النصارى، تعالى الله عن ذلك كما يبطل دعوى من زعم وحدة الوجود، وأن الله هو هذا الكون من حولنا متوزع في ذراته تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا. وهو سبحانه واحد في ربوبيته لا معاون له ولا ظهير ولا مساند ولا معين لا في الخلق ولا في التدبير. وهو سبحانه واحد في صفاته لا مثيل له في شيء من صفاته فهو ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. كما يتضمن التعريف وجوب إخلاص العبادة له وحده لا شريك له، إذ لا معبود بحق سواه. أنواع التوحيد الثلاثة: يصرح السلف رحمهم الله بأن الواجب على العباد إخلاص التوحيد لله تعالى، والتوحيد عندهم ثلاثة أنواع، هي: أولا: توحيد الربوبية. هو توحيد الله بأفعاله مثل الخلق والرزق والإحياء والإماتة والتدبير ونحوها مما هو من خصائص الربوبية.

وهذا النوع من التوحيد، وهو الإقرار بربوبية الله جملة وأنه الخالق والرازق ليس فيه كبير خلاف بين بني البشر، فقد ذكر الله تعالى إقرار المشركين بذلك. قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [العنكبوت 61] وقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [العنكبوت63] وقال {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ، قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ، قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون84 – 89] وقال تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَأَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [النمل60 – 64] . فهذه الآيات وغيرها كثير تقرر أن المشركين الذين قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يقرون بربوبية الله تعالى ولكنهم يكفرون بالألوهية. قال ابن جرير في تفسيره لآية العنكبوت: "ولئن سألت يا محمد هؤلاء المشركين بالله من خلق السموات والأرض فسواهن ... ليقولن الذي خلق ذلك وفعله الله فأنى يؤفكون يقول جل ثناؤه، فأنى يصرفون عمن صنع ذلك فيعدلون عن إخلاص العبادة له".1 وروى ابن جرير بسنده عن ابن عباس رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف106] قال: "من إيمانهم إذا قيل

_ 1 تفسير ابن جرير الطبري 21/11

لهم من خلق السماء ومن خلق الأرض ومن خلق الجبال؟ قالوا الله وهم مشركون. وروى نحوه عن عكرمة ومجاهد وقتادة وعطاء وابن زيد، ونذكر رواية ابن زيد لما فيها من التفصيل حيث جاء فيها أنه قال: "ليس أحد يعبد مع الله غيره إلا وهو مؤمن بالله يعرف أن الله ربه وأن الله خالقه ورازقه وهو يشرك به ألا ترى كيف قال إبراهيم "أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين" قد عرف أنهم يعبدون رب العالمين مع ما يعبدون قال فليس أحد يشرك به إلا وهو مؤمن به، ألا ترى كيف كانت العرب تلبي لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك، المشركون كانوا يقولون هذا". وقال ابن جرير مفسرا للآية السابقة: "وما يقر أكثر هؤلاء الذين وصف عز وجل صفتهم.....بالله أنه خالقه ورازقه وخالق كل شيء إلا وهم به مشركون في عبادتهم الأوثان والأصنام واتخاذهم من دونه أربابا وزعمهم أن له ولدا تعالى الله عما يقولون"1 كما روى ابن جرير في قوله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت65] عن قتادة أنه قال:"فالخلق كلهم يقرون لله أنه ربهم، ثم يشركون بعد ذلك".2 فهذه النصوص تثبت أن المشركين كانوا يقرون بالربوبية لله عز وجل ولكنهم يشركون في العبادة والألوهية وهذا ما كانوا أنكروه على النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكر الله عز وجل في قوله: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص5] وهو الذي استنكره أيضا المشركون قبل مشركي مكة، كما

_ 1تفسير ابن جرير 13/77-79 2 تفسير ابن جرير 21/13

ذكر الله تعالى عن قوم هود أنهم قالوا له {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِين} [الأعراف70] . وهذا أمر معلوم ظاهر لكل من نظر إلى النصوص الشرعية،أدرك أن أهل الجاهلية كانوا يعرفون الله ويقرون له بالربوبية يقرون له بأمور أكثر من الخلق والرزق كما قال زهير بن أبي سلمى: فلا تكتمن الله ما في نفوسكم ... ليخفى ومهما تكتم الله يعلم يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر ... ليوم الحساب أو يعجل فينتقم1 وكما قال عنترة: يا عبل أنى من المنية مهرب ... إن كان ربي في السماء قضاها2 بل كانوا يعبدونه بأنواع من العبادة كالحج والدعاء والاستغاثة به في حال الشدائد إلا أنهم كانوا يشركون معه آلهتهم ويزعمون أنها تقربهم إلى الله وتشفع لهم عنده، قال جل وعلا {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر3] . أدلة توحيد الربوبية: إن الأدلة على توحيد الربوبية ظاهرة واضحة وكثيرة عديدة، نذكر منها: أولاً: دليل الفطرة: الفطرة لغة: هي الخلقة. 3 والمراد بدليل الفطرة أن الله تعالى خلق العباد مفطورين على الإقرار به، واعتقاد أنه خالقهم وربهم. وهذا هو المروي عن كثير من السلف، فقد روى ابن جرير الطبري

_ 1 تيسير العزيز الحميد ص34. 2 تيسير العزيز الحميد ص34. 3 اللسان 5/3433.

بسنده أن عمر رضي الله عنه مر بمعاذ بن جبل فقال: "ما قوام هذا الأمة؟ قال معاذ: ثلاث وهن المنجيات: الإخلاص، وهو الفطرة {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم30] ، والصلاة: وهي الملة، والطاعة: وهي العصمة، فقال عمر: صدقت. وروى عن مجاهد أنه قال: فطرة الله الإسلام ". 1 وهو قول أكثر السلف.2 وقد دل على ذلك أدلة عديدة، منها: قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف172] . وأخرج الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا قال: "إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم بنعمان –يعني عرفه- فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرهم بين يديه كالذر ثم كلمهم قبلا قال: "ألست بربكم"قالوا: بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين".3 وكذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كمثل البهيمة تنتج البهيمة هل ترى فيها جدعاء".4 وحديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته: "ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا: كل مال نحلته عبداً حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به

_ 1 تفسير ابن جرير 21/40. 2 انظر شفاء العليل 2/297-315، وانظر القائد إلى تصحيح العقائد ص18. 3 حم 1/272 وذكر ابن كثير في تفسيره 2/241 روايات عديدة في هذا المعنى ورجح وقفها على ابن عباس رضي الله عنه. 4 أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، فتح الباري 3/246

سلطانا ... " 1 الحديث. فهذه الأدلة تدل على أن الخلق مفطورون على الإقرار بالخالق وأنه ربهم وخالقهم وأنهم تتغير فطرهم تلك بما يحرفهم إليه آباؤهم من اليهودية والنصرانية وغيرهما. ثانياً: دليل الآيات المراد بدليل الآيات، هي العلامات الدالة على ربوبية الله تعالى، وهي كثيرة: 1 - الآيات الكونية: وهي جميع ما يحيط بالإنسان ويصل إليه بنظره وفكره من مخلوقات الله، كالسماء والأرض والشجر والجبال والدواب والبحار والإنسان ففي كل ذلك آيات باهرات واضحات على ربوبية الله تعالى. وقد لفت الله تعالى نظر الإنسان إلى ذلك. قال عز من قائل {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران190] ، و {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ، وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات20. ولما سأل فرعون موسى عليه السلام عن رب العالمين، أجابه موسى عليه السلام بما يقطع حجته ويفضح كذبه. قال تعالى: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ، قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ، قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ، قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ، قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ، قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [الشعراء 23 – 26] . فهذه آيات ظاهرة ألجمت إمام الملاحدة وأخرسته وأظهرت خزيه وفجوره. والآيات الكونية ظاهرة لكل إنسان لا تحتاج إلى كبير عناء في إدراك أن لها موجداً أوجدها له كل صفات الكمال والجلال، وقد حدد الله تعالى وحصر الأوجه

_ 1 أخرجه مسلم كتاب الجنة، باب 16 4/2197، وأحمد 4/162.

الممكنة في إيجاد الخلق وذلك في قوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ، أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ} [الطور 35] . فلا يخرج الأمر عن واحد من هذه الثلاثة، إما أن تكون الأشياء مخلوقة هكذا صدفة بدون موجد وخالق، وذلك باطل ببديهة العقول، وإما أن يكون الإنسان أوجد نفسه وأوجد غيره، وهذا باطل يعلمه كل إنسان من نفسه ويتيقنه. فإذا لم يكن واحداً من هذين فلا يبقى إلا الأمر الثالث، وهو أن لها خالقاً وهو الله تعالى الذي أوجدها ودبرها وهو المتصرف وحده فيها. 2 - الآيات التي أظهرها الله تعالى على أيدي أنبيائه. الآيات والمعجزات التي أجراها الله تعالى على أيدي أنبيائه، هي دلائل عظيمة دالة على ربوبية الله وألوهيته،وصدق أنبيائه تعالى فيما دعوا إليه أقوامهم من التوحيد وقد سماها الله تعالى آيات.قال تعالى: {سَلْ بَنِي إِسْرائيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ} [البقرة 211] .وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرائيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً، قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً} [الإسراء 101 – 102] . قال ابن القيم رحمه الله: "وهذه الطريق من أقوى الطرق وأصحها وأدلها على الصانع وصفاته وأفعاله، وارتباط أدلة هذه الطريق بمدلولاتها أقوى من ارتباط الأدلة العقلية الصريحة بمدلولاتها، فإنها جمعت بين دلالة الحس والعقل، ودلالتها ضرورية بنفسها، ولهذا يسميها الله آيات بينات". 1

_ 1 الصواعق المرسلة 3/1197.

3 - الآيات المتلوة. المراد بالآيات المتلوة كلام الله المنزل على أنبيائه، ومن أعظم ذلك القرآن الكريم، فهو آية مستقلة كافية من جميع الوجوه في الدلالة على الخالق تبارك وتعالى أصرح دلالة وأوضحها وأصدقها وأكملها. قال تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ، وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ، أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت 49 – 51] . فمن رام إثبات وجود الخالق تبارك وتعالى وربوبيته وألوهيته من خلال النص على ذلك فهو متوفر في القرآن، ومن رام إثبات ذلك من خلال إعجاز النص المنزل فذلك متوفر، فيكون من جنس آيات الأنبياء المحسوسة، بل هو أعظمها. وقد قال عليه الصلاة والسلام: "ما من نبي إلا وأوتي من الآيات ما أمن على مثله البشر وأوتيت روحاً فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة".1 ومن هذه الناحية الأخيرة فإن كل إنسان يستطيع أن يجد في القرآن الدلالة على أن القرآن تنزيل من حكيم حميد،فالعالم بالتاريخ أو الجغرافيا أو الأحياء أو الطب أو الفلك أو غير ذلك من العلوم لو نظروا في القرآن لوجدوا فيه الآيات البينات التي ترشدهم إلى أنه حق نزل بالحق،ويدعوا إلى الحق، كما قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت 53] .

_ 1انظر مسلم كتاب الإيمان رقم 383،1/363 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ولأهمية هذا النوع من التوحيد إذ يرتبط به الغاية التي من أجلها خلق الإنسان وهي عبادة الله عز وجل جعله الله سبحانه مستقرا في الفطر،وجعل الإقرار به بين بني البشر عاما كما جعل دلائله من أوضح الدلائل والبراهين حتى تقوم الحجة على الإنسان بأكمل صورها وأوضح مبانيها. وهذا من عظيم لطف الله بخلقه ورحمته بهم، إذ علق نجاتهم وفلاحهم على مطلب دليله مستقر في فطرهم ودلائله غير ذلك من أوضح الدلائل والبراهين بل هي في كل شيء، كما قيل: وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد1 ولذا نجد أن الله عز وجل قد استدل في القرآن الكريم بآيات ربوبيته على ألوهيته واستحقاقه للعبادة دون ما سواه،وهذا ظاهر في الآيات السابقة من سورة يونس والنمل والعنكبوت والروم وغيرها.

_ 1 اختلف في نسبته، فنسبه الصفدي إلى أبي فراس. انظر: الوفيات 7/138، وأما أبو الفرج فقد نسبه إلى أبي العتاهية. انظر ألأغاني 4/35.

النوع الثاني: توحيد الألوهية

النوع الثاني: توحيد الألوهية وهو: توحيد الله بأفعال العباد، أو هو: إفراد الله عز وجل بالعبادة لا شريك له، وهذا النوع من التوحيد هو الذي خلق الله عز وجل الإنسان من أجله، قال جل وعلا {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات56] قال ابن عباس: "إلا ليوحدون" وهو الذي بعثت الرسل في الدعوة إليه وتقريره. قال جل وعلا {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل36] وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء25] . وهو الذي وقعت الخصومة فيه بين الرسل عليهم السلام وأقوامهم، قال جل وعلا عن نوح عليه السلام: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا

اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [المؤمنون23] . وهكذا قال هود وصالح ولوط وشعيب وهكذا سائر الأنبياء عليهم السلام إلى آخرهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وهو أول أمر في القرآن الكريم. قال جلا وعلا في سورة البقرة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [.البقرة21] وهو الذي أباح الله بسبب إنكاره دماء الكفار كما قال عليه الصلاة والسلام: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله" 1 وأهمية هذا النوع من التوحيد وخطورته تتضح وضوحا بينا بخطورة الوقوع في ضده وهو الشرك في العبادة حيث هو- نسأل الله العافية -الموجب لغضب الرب وانتقامه وعذابه السرمدي الذي لا نهاية له في نار جهنم لمن مات على ذلك ولم يتب. قال جل وعلا: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} . [المائدة72] وهذا النوع من التوحيد هو معنى لا إله إلا الله إذ معناها لا معبود بحق إلا الله عز وجل. وهو توحيد العبادة الذي يعني إخلاص العبادة لله عز وجل وحده لا شريك له. والعبادة في اللغة: الطاعة مع الخضوع،ومنه طريق معبد إذا كان مذللا بكثرة الوطء2.

_ 1 البخاري في الزكاة رقم 1399، ومسلم في الإيمان رقم 124 ,1/150 من حديث عمر رضي الله عنه. 2 اللسان: 3/273

والعبادة في الشرع: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة. أو هي عبارة عما يجمع كمال المحبة والخضوع والخوف. وفي هذا يدخل جميع أنواع الطاعات الباطنة بالقلب والظاهرة على الجوارح. فمن صرف شيئا منها لغير الله عز وجل فقد أشرك. ومن أهم أنواع العبادة الصلاة والزكاة والصيام والحج والدعاء والخوف والرجاء والتوكل والنذر والاستغاثة والاستعانة. شرطا قبول العبادة: لقبول العبادة شرطان: قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ولا بد في عبادته من أصلين: أحدهما: إخلاص الدين لله. والثاني موافقة أمر الله الذي بعث به رسله" 1. والمراد بالإخلاص: أن يكون العمل مرادا به وجه الله عز وجل. أما موافقة أمره الذي بعث به رسله: فهو أن لا يعبد الله إلا بما شرع". قال الفضيل بن عياض في قوله عز وجل: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [هود7] قال: "أخلصه وأصوبه"، قيل يا أبا علي: "ما أخلصه وأصوبه؟ " قال: "إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل

_ 1 التدمرية ص 233

حتى يكون خالصا صوابا، والخالص إذا كان لله عز وجل والصواب إذا كان على السنة". 1 فهذان الشرطان هما معنى شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدا رسول الله. ولأهميتهما نبين شيئاً مما يتعلق بهما: أولاً: الإخلاص:- الإخلاص في اللغة: تنقية الشيء مما يشوبه،وكل شيء خالص فهو منقىمن الشوائب.2 والإخلاص في العبادة: هو أن يقصد بها وجه الله عز وجل، فلا يشرك معه غيره، لا شركاً أكبر ولا أصغر، كالرياء ونحوه. والأدلة الشرعية على هذا الشرط كثيرة، منها: قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة 5] . {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} [الزمر2] ، {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} [الزمر11] ، {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي} [الزمر2, 11, 14] {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [الأعراف9] ، وقال {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [غافر14] ، وقال {هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر65] . وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة، من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه أو من نفسه".3 وضد الإخلاص الشرك.

_ 1 التدمرية ص 232. 2 اللسان 7/26. 3 البخاري. انظره مع فتح الباري 1/233.

والشرك نوعان: أكبر وأصغر. أما الأكبر: فهو صرف شيء من العبادة لغير الله تعالى من شجر أو حجر أو ملك أو نبي أو أي كائنا من كان، فمن دعا غير الله أو استغاث به أو رجاه أو ذبح أو نذر له أو سجد له أو صرف شيئاً من العبادة لغير الله فقد أشرك الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله. قال تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ، إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [.فاطر13, 14] فدل كلام الله عز وجل هنا على أن كل من دعا غيره فإنه لا يملك شيئاً، حتى ما يكون على نواة التمر من القشرة الرقيقة، كما دل أيضاً على أن ذلك الدعاء شرك، وذلك في قوله: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} [فاطر14] .وقال جل وعلا: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ، وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف5, 6] . فجعل الله تعالى دعاء غيره عبادة للمدعو، وجعل ذلك كفراً. والشرك الأكبر محبط للعمل من أصله، كما أنه يفسد الإيمان ولا يقبل الله معه صرفاً ولا عدلا. قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر65] ، وقال جل وعلا بعد ذكره للعديد من الأنبياء عليهم السلام {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام88] . وهو الذنب الذي لا يغفره الله لمن مات عليه.قال جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً} [النساء116] .

وصاحبه مخلد في النار أبد الآباد. قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة72] . أما الأصغر، فمنه الرياء: وهو أن يعمل العمل مما يقصد به وجه الله عز وجل يقصد به رياء الناس. قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف110] . فقوله تعالى: {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} فسرها ابن عباس وسعيد بن جبير وغيرهم بأن المقصود بها الرياء. 1 وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "قال الله تبارك وتعالى أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه".2 وعن محمود بن لبيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر". قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: "الرياء، يقول الله عز وجل لهم يوم القيامة إذا جزي الناس بأعمالهم اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء".3 والرياء يحبط من العمل بقدره، فإذا دخل على العمل من أوله أحبطه وأبطل أجره وإذا دخل على العبد أثناء العمل نقص من الأجر بحسبه. وإذا كان الرياء في الإيمان فهو النفاق الأكبر المخرج من الملة.4

_ 1 الدر المنثور 4/458. 2 مسلم في الزهد رقم 2985. 3 المسند 5/428. 4 معارج القبول 1/326-327.

ثانياً: المتابعة. والمقصود بها: تجريد متابعة النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يعبد الله تعالى إلا بما شرع رسوله صلى الله عليه وسلم لأن ذلك هي العبادة التي يحبها الله تعالى، فإنما أرسل رسله ليعبد سبحانه بما شرع على ألسنة رسله عليهم السلام. قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء64] . ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو حظنا من الأنبياء، فلا تصح عبادة المسلم إلا إذا كانت وفق شرعه صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران 31] . وقال جل وعلا: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر7] إلى غير ذلك من الأدلة الدالة على وجوب التزام السنة وتحريم البدعة، وقد سبق ذكرها عند الحديث على منهج السلف في تقرير العقيدة.

النوع الثالث: توحيد الأسماء والصفات.

النوع الثالث: توحيد الأسماء والصفات. وهو اعتقاد أن الله تعالى له الأسماء الحسنى، وله الصفات العلى الكاملة،التي ليس فيها نقص بوجه من الوجوه، ولا يماثله فيها أحد من خلقه، ولا يماثل فيها سبحانه أحداً من خلقه. وسيأتي مزيد بيان لذلك في فقرة مستقلة. العلاقة بين أنواع التوحيد الثلاثة: أنواع التوحيد الثلاثة التي سبق ذكرها بينها علاقة تضمن والتزام، فتوحيد الربوبية مستلزم لتوحيد الألوهية، بمعنى أن من أقر بتوحيد الربوبية فإنه يلزمه أن يقر بتوحيد الألوهية.

وتوحيد الألوهية متضمن لتوحيد الربوبية، بمعنى أن من عبد الله فإن ذلك متضمن لإقراره بأن الله ربه وخالقه ورازقه. وتوحيد الألوهية والربوبية متضمن لتوحيد الأسماء والصفات، فإن الإله المعبود والرب الخالق لابد أن يكون له الصفات العلى الكاملة الدالة على استحقاقه للربوبية والألوهية. ومن اعتقد أن الله له الأسماء الحسنى والصفات العلى، فيلزم من ذلك أن يعتقد أنه الرب،وأن لا يعبد إلا هو سبحانه وتعالى.فبين أنواع التوحيد علاقة التزام وتضمن. ومن العلماء من يقول: إن توحيد الأسماء والصفات شامل لتوحيد الربوبية والألوهية، من ناحية أن الإقرار بأسمائه وصفاته يتضمن الإقرار بأن الله هو الرب والإله، وذلك توحيد الربوبية والألوهية.1 جواب من أنكر تقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام: من الناس من ينكر تقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام، ويزعم أن هذا التقسيم اصطلاح حدث بعد القرون الثلاثة، وأن أول من اخترعه شيخ الإسلام ابن تيمية. والجواب عن ذلك من وجوه: 1 - أن هذا التقسيم لأنواع التوحيد مستفاد من النصوص الشرعية،فكل نوع من أنواعه له مميزاته وخصائصه، وإن كان بينهما ترابط من وجه آخر، فتوحيد الربوبية تعلقه بإثبات الخلق والسيادة والتدبير، وتوحيد الألوهية تعلقه بعبادة الرب جل وعلا، وتوحيد الأسماء والصفات تعلقه بإثبات الأسماء والصفات لله عز وجل.

_ 1 انظر: درء التعارض 9/344، شرح الطحاوية 1/41، معارج القبول 1/255. وقد جعل الأنواع الثلاثة متلازمة، وانظر: الكواشف الجلية ص421، معتقد أهل السنة والجماعة في توحيد الأسماء والصفات ص47، حيث جعلا توحيد ألسماء والصفات شاملاً لتوحيد الربوبية والألوهية.

كما أن اعتقاد الربوبية لا يتحقق للعبد به النجاة، ولا الدخول في الإسلام، أما توحيد الألوهية فهو الذي يتحقق به للعبد النجاة، ويدخل به الإسلام،وهذا لا يكون إلا مع الإيمان بالربوبية. أما الأسماء والصفات فتتعلق بالعلم والإثبات،فلو جهل شيئاً منها، فإنه لا يخرج من الإسلام أما الربوبية والألوهية فلو جهلها فإنه لا يكون مسلماً، فإن ذلك ينقض إسلامه. 2 - أن هذا التقسيم هو من جنس تقسيمات العلماء الأخرى المتعلقة بالأمور الشرعية، مثل تقسيم العلماء الأمر الشرعي إلى: واجب ومندوب، أو تقسيمهم النواحي الشرعية إلى محرم ومكروه. أو قولهم إن الإيمان قول واعتقاد وعمل، أو تقسيمهم الصفات إلى ذاتية وفعلية. فسائر هذه التقسيمات وغيرها كثير لم ترد في كلام الشارع منصوصاً عليها، وإنما استنبطها العلماء من خلال استقراء كلام الشارع. والتقسيم إنما يرد عليه ويبطل إذا كان الاستقراء غير صحيح أو غير كامل، كأن يقول: إن الإيمان هو الاعتقاد فقط أو القول فقط، أو يقول إن المطلوب من العباد هو توحيد الربوبية والأسماء والصفات فقط، أو يقول: إن الأوامر الشرعية كلها أركان أو واجبات في مستوى واحد من حيث الطلب أو نحو ذلك. أما إذا كان الاصطلاح صحيحاً فلا يعاب من قال به، لأن ذلك من تدبر كلام الشارع والاستنباط منه حتى يعلم عن الشارع مراده.

3 - أن هذا التقسيم قد ثبت عن كثير من السلف المتقدم ذكرهم 1،خلافاً لدعوى من أنكر ذلك، فقد سبق النقل عن ابن عباس وتلاميذه في إثباتهم لإقرار المشركين بالربوبية وإنكارهم للألوهية، ومثله ورد عن ابن جرير الطبري. كما أورد العديد من السلف ذلك في كتبهم، فهذا الإمام الطحاوي المتوفى سنة 321هـ أبان في مقدمة عقيدته أنه إنما يذكر عقيدة أهل السنة والجماعة على مذهب فقهاء الملة، أبي حنيفة وتلميذيه أبي يوسف ومحمد بن الحسن، وقال: "نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله أن الله واحد لا شريك له ولاشيء مثله ولاشيء يعجزه ولا إله غيره". فقوله "واحد لا شريك له" شامل لأنواع التوحيد الثلاثة، ثم فصلها بقوله: "لاشيء مثله"، وهذا في أسمائه وصفاته.وقوله "ولاشيء يعجزه" هذا في قدرته ومقدوراته، وهو من توحيد الربوبية، وقوله" ولا إله غيره "هذا في توحيد الألوهية، فلا إله غيره يعني معبوداً يستحق العبادة وهذا ابن بطة العكبري المتوفى سنة 387هـ يقول في كتابه الإبانة: "إن أصل الإيمان بالله الذي يجب على الخلق اعتقاده في إثبات الإيمان به ثلاثة أشياء: أحدها: أن يعتقد العبد ربانيته ليكون بذلك مبايناً لمذهب أهل التعطيل الذين لا يثبتون صانعاً. والثاني: أن يعتقد وحدانيته ليكون مبايناً بذلك مذاهب أهل الشرك الذين أقروا بالصانع وأشركوا معه في العبادة غيره. والثالث: أن يعتقده موصوفاً بالصفات التي لا يجوز إلا أن يكون موصوفاً بها". وممن أثبت ذلك أيضا ابن منده المتوفي سنة 395هـ في كتابه "كتاب التوحيد ومعرفة أسماء الله عز وجل وصفاته على الاتفاق والتفرد"، فعقد فيه أبواباً في توحيد

الربوبية، مثل: بدء الخلق، وخلق العرش، وتقدير المقادير، وخلق السموات والأرض، وغير ذلك مما هو دليل على توحيد الربوبية. ثم ذكر أبواباً متعلقة بتوحيد الألوهية، مثل: الدعاء والذكر واسم الله الأعظم، وهو لفظ الجلالة، ثم ذكر أبواباً متعلقة بتوحيد الأسماء والصفات،وغيرهم كثير.1 4 - أن سبب ظهور التقسيم بشكل واضح في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، ثم من جاء بعده من تلاميذه وغيرهم، وخاصة الكلام في توحيد الألوهية يعود إلى ظهور الخلل في الأمة والانحراف في هذا النوع من التوحيد متأخراً، فقد صار كثير من المتأخرين من المسلمين يجهلون الغاية من دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، ألا وهي دعوة الناس إلى عبادة الله تعالى وحده لا شريك له، كما جهلوا ما يناقض هذه الدعوة أو يقدح فيها من الشرك والأسباب الموصلة إليه، بسبب عوامل كثيرة منها: إعراض المتكلمين من الأشاعرة والماتريدية فضلاً عن الجهمية والمعتزلة عن توحيد العبادة، ومعنى لا إله إلا الله، فلم يذكروها في كتبهم التي رمزوا إليها بأنها في أصول الدين أو قواعد العقائد،أو ما يجب على المسلم اعتقاده جملة وتفصيلا، فصار عند المسلمين عدم إحساس وانتباه لهذا الأصل الأصيل، فانتشر الشرك وعم وطم أكثر البلاد الإسلامية، وهم يظنون أن الشرك الذي حاربه الرسول صلى الله عليه وسلم إنما هو أن يصنع تمثالاً على شكل من الأشكال فيصلي له ويسجد، ولم يشعروا أن دعاء غير الله والإستغاثة به أو النذر والذبح عند القبور أو الطواف حولها، سواء كانت قبور أنبياء أو من يسمون أولياء؛ أن كل ذلك شرك أكبر مخرج من الملة، وما ذلك إلا لجهلهم بتوحيد الألوهية وبدعوة النبي صلى الله عليه وسلم وما قاتل عليه المشركين.

_ 1 من أراد الاستزادة فليرجع إلى الكتاب القيم في هذا، كتاب أخينا عبدا لرزاق بن عبدا لمحسن العباد "القول السديد في الرد على من أنكر تقسيم التوحيد" فقد أجاد فيه وأفاد جزاه الله خيرا.

فلما ظهرت هذه البدع في وقت شيخ الإسلام ابن تيمية بذل طاقته رحمه الله وجهده في نصح المسلمين وتحذيرهم من خطورة ما عليه كثير من المسلمين من الانحراف والضلال بوقوعهم في الشرك وهم لا يشعرون، فظهر في كلامه الدعوة إلى توحيد الألوهية، وأبان عن تقسيم التوحيد إلى ثلاثة أنواع،وأن تلك الأنواع الثلاثة مطلوبة من العبد لا يغني واحد منها عن الآخر، كما أنا نقول إن الله موصوف بصفة السمع والبصر والقدرة والحياة ونحو ذلك. والمطلوب من العبد الإيمان بكل ذلك أنه من صفات الله تعالى، كذلك التوحيد المطلوب من العباد أن يؤمنوا به هو أن الله تبارك وتعالى له الأسماء الحسنى والصفات العلى،وأن لا رب غيره، وأن لا يعبد إلا هو، فلا يشرك معه في العبادة غيره. وهو في تقسيمه رحمه الله إنما هو متبع لمن سبق من العلماء لا مبتدع في تقسيم التوحيد. ونشير هنا إلى أن دأب السلف رحمهم الله أنه كلما ظهرت بدعة من البدع تكلم فيها ونصح للأمة فيها من عاصرها من العلماء والأئمة، ويكون من تقدم منهم على تلك البدعة فلم تظهر في زمانه لا يوجد له كلام فيها، مع أن الحق الواضح والراد على كل بدعة موجود ضمن الشرع في كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما يستنبطه من الشرع أهله. فلو نظرنا في بدعة نفي الصفات فإنا لا نجد أحداً من الصحابة تكلم فيها، وذلك لأنها لم تظهر في زمانهم،وإنما ظهرت في زمن التابعين فكثر كلام التابعين فيها بخلاف بدعة الخوارج فإنا نجد للصحابة كلاماً كثيراً فيها، وذلك لأنهم أدركوها. وكذلك بدعة نفي القدر أدركها صغار الصحابة فظهرت في كلامهم،وأبانوا عن بطلانها وردوا على دعاتها.

وهكذا سائر البدع إنما تظهر في كلام العلماء الذين أدركوها فيجتهدون في دعوة الخلق إلى الحق نصحاً لله ولرسوله ولكتابه وللمسلمين لا أنهم مبتدعون في ذلك. كذلك الأمر بالنسبة لتقسيم التوحيد وإبراز توحيد الألوهية الذي وقع عند المتأخرين من المسلمين الخلل في فهمه وتطبيقه، فظهر في كلام من أدرك ذلك،كشيخ الإسلام ابن تيمية ومن جاء بعده رحمه الله من تلاميذه، وغيرهم من العلماء الداعين إلى الله على نهج القرآن والسنة وسلف الأمة.

مناهج المخالفين للسلف في التوحيد

مناهج المخالفين للسلف في التوحيد أولاً: - الفلاسفة الفلاسفة: هم الذين ينظرون إلى طبائع الأشياء بفكرهم لمعرفة عللها وأسبابها الخفية وراء ظواهرها. والفلاسفة لم يتوقفوا في النظر والتفكر فيما هو ظاهر أمام أعينهم من المخلوقات، وإنما راحوا يبحثون فيما وراء ذلك وهو الخالق جل وعلا، ويسمون ذلك ما وراء الطبيعة أو يسمونه الإلهيات. 1 وقبل أن نبين ما في كلام الفلاسفة في التوحيد من الخلل والخطل نشير إلى أن الفلاسفة دخلوا في هذا العلم بعقولهم المحدودة ونظرهم القاصر، وقد أدركوا أن كلامهم هو في أمر لا سبيل إلى التحقق منه بالعقول المجردة، وإنما هي محاولات لن يصلوا منها إلى نتيجة حاسمة أبداً، فتبقى هكذا محاولات بلا نتائج لهذا قالوا: "إن عالم ما بعد الطبيعة عالم درج في غير عشه ببحثه عن شيء فوق الحقائق، فإذا هو شاعر". 2 ومرادهم بقولهم "فإذا هو شاعر" أي يعبر عن خيالاته وأحاسيس نفسه بالعبارات المنمقة التي لا تعتمد على عرض الحقائق على ما هي عليه. مدار المنهج الفلسفي في التوحيد: إن الفلاسفة المتقدمين وخاصة من كان لهم دور في المتأخرين من فلاسفة اليهود والنصارى والمسلمين وهم فلاسفة اليونان ممن كانوا قبل المسيح عليه السلام في حدود

_ 1 مبادئ الفلسفة ص24،25. 2 المرجع السابق ص26.

خمسمائة عام نظروا إلى الألوهية والربوبية نظرهم إلى سائر ما يحيط بهم من المخلوقات فكانوا على قولين في إثبات الخالق وإثبات وجوده:- القول الأول: الملاحدة – وهم المنكرون لوجود الخالق تبارك وتعالى. وهم فرقتان: الأولى: الدهريون. القائلون بالجوهر1 الفرد، وهم جماعة من الفلاسفة يعتقدون أن الكون تكون من جواهر مفردة، أي ذرات صغيرة كانت موجودة تتحرك في الفضاء، ثم بسبب الحركة الوقتية تتجمع فتحدث مظاهر الحياة والوجود. وعلى هذا المذهب ديمقريطس وهيرقليطس وأبيقور فيما يبدو. 2 الثانية: الوجوديون – وهم الذين يزعمون بأن الله تعالى عما يقولون هو هذا الكون كله، وليس له ذات قائم بنفسه، بل هو حال في كل شيء. وعلى هذا المذهب الرواقية ومنهم "زينون 3وسبينوزا" اليهودي. 4 وهذا المذهب من جنس سابقه في عدم إثبات وجود الله عز وجل وجوداً متميزاً عن سائر مخلوقاته، إلا أن من يسمون بالملاحدة أنكروا وجوده جملة وتفصيلا، أما هؤلاء فقد زعموا أن هذا الكون هو وجوده وهو ذاته، ولم يميزوه عن شيء من المخلوقات – تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيرا -.

_ 1 الجوهر كلمة ليست عربية ألأصل، بل معربة من الفارسية. انظر: اللسان 4/153، فكرة الجوهر ص26. ومعنى الجوهر هو عين الشيء، ومنهم من يقول: هو الحامل للأعراض المختفي خلف الظواهر، أو القائم بنفسه، إلى غير ذلك. انظر فكرة الجوهر ص53. 2 مبادئ الفلسفة ص164. 3 موسوعة الفلسفة 1/539. 4 الموسوعة الفلسفية ص240.

القول الثاني: المؤلهة 1 - وهم القائلون بوجود موجود أعلى يسمونه الإله. وهم كثير من الفلاسفة منهم: سقراط وأفلاطون وأرسطو وأفلوطين وغيرهم من الفلاسفة المتقدمين والمتأخرين، إلا أنهم يختلفون في كلامهم عن هذا الإله بالنسبة لصفاته وأفعاله إلى أقوال تعود في جملتها إلى ادعاء أن الله تبارك وتعالى عقل أوحد لا يتغير ولا يتحرك، وهو محرك للأشياء كتحريك المعشوق لعاشقه، وهو علة وجود الأشياء. وقالوا في إيجاد هذا الكون: إن المادة2 والصورة3 للأشياء أزلية غير مخلوقة، ثم إن الله تبارك وتعالى في زعمهم أوجد ما يسمونه النفس الكلية، ثم النفس الكلية صنعت نفوس الكواكب وجعلتها آلهة مثلها، ثم إن هذه النفوس تعاونت مع الله تعالى في صنع بقية العالم وتدبيره. 4 فهذا القول مما يعزى إلى أكبر الفلاسفة وأعظمهم عند أتباعهم كسقراط وأفلاطون وأرسطو وأفلوطين وغيرهم. وهو قول في غاية السقوط والانحراف، ولا يقاربه في الانحراف والسخف إلا قول الملاحدة الذين ينكرون وجود الخالق جل وعلا ويتضح بطلانه من وجوه: 1 - أن كلامهم عن الخالق تبارك وتعالى كله من باب الظن والتخمين، لأنهم لم يروا الباري تبارك وتعالى، ولم يروا شبيهاً له، ولم يشهدوا خلق السماوات

_ 1 لا يعني قولنا: "المؤلهة" سوى أنهم يثبتون وجود موجود أعلى قد يعزون إليه ترتيب الموجودات الأخرى أو إيجاده منه آلهة أخرى، أو يعزون إليه التصرف في الموجودات وتدبير شؤونها. 2 المادة: المراد بها عندهم جرم الشيء وجسمه قبل تصويره وإعطائه هيئة محددة. 3 الصورة: المراد بها الهيئة والشكل الذي يكون عليه الشيء. 4انظر هذا في كلام سقراط في موسوعة الفلسفة 1/579، وفي كلام أفلاطون في موسوعة الفلسفة 1/104، وفي كلام أرسطو في الموسوعة الفلسفية ص38.

والأرض ولا خلق أنفسهم، كما لم يأخذوا قولهم هذا عن مخبر صادق، فبالتالي لا يعدو أن يكون ظناً وتخمينا. 2 - إن ما ذكروه في وصفهم لله تبارك وتعالى كلام فاسد لا يعدو أن يكون إثبات شيء ليس هو بشيء. وذلك يتضح من وجوه: أولاً – قولهم إن الله تعالى عقل، وذلك يعني أن الله فكر أو فكرة أو شيء معقول ويعقل ويعقل. وهذا كله إثبات معنى بدون ذات، وهو أمر لا يعقل ولا يفهم، إنما المفهوم منه أنه لا ذات له جل وعلا، وكل مالا ذات له في الحقيقة لا وجود له أو لا وجود له بنفسه، بل يكون قائماً في غيره، أو صادراً عن غيره، مثل الأفكار والكلام، فهذه معاني تقوم بغيرها ولا تقوم بنفسها. ثانياً – قولهم بأنه واحد أو أوحد إنما مرادهم بذلك نفي صفاته، وهذا تعطيل له ونفي لوجوده، لأن كل موجود لابد أن يوصف بالصفات، فإذا نفيت عنه الصفات فذلك نفي لوجوده. ثالثاً – قولهم إنه لا يتغير معناه نفي لفعله وتشبيه له بالمعدوم أو الجماد، فإن الذي لا يتغير هو الذي لا يفعل، لأن الفعل يلزم منه التغير، بمعنى أنه يريد ويأمر وينهى إلى غير ذلك. أما إذا كان لا يتغير فمعنى ذلك أنه جماد أو معدوم وحاشاه تعالى من ذلك. رابعاً – قولهم إنه لا يتحرك فيه نفي لحياته، لأن فرق مابين الحي والميت الحركة، فالشيء الذي لا يتحرك هو الميت. خامساً – قولهم إنه محرك لغيره بدون أن يتحرك كلام غير صحيح، ولا يمكن وجوده مع دعاويهم السابقة التي تضمنت نفي ذاته ونفي فعله ونفي حياته، فكيف يمكن أن يقال عنه إنه محرك لغيره وهو لا ذات ولا صفات ولا فعل ولا حياة. ولو دقق الإنسان في هذا لبان له وظهر أنهم ينفون وجوده فالمعدوم كاسمه لا يمكن أن يوجد شيئاً ولا أن يؤثر في شيء.

فكل هذه الدعاوى التي ذكرها الفلاسفة في الله تبارك وتعالى دعاوى فاسدة معلوم فسادها ببداهة العقول، فإن أي عاقل نظر في المخلوقات المحيطة به أو نظر في نفسه أدنى نظرة أدرك أن خالقه لابد أن يكون ذا صفات عظيمة وجلال وكمال من جميع الوجوه، لأنه ما لم يكن كذلك فإنه لا يمكن أن يوجد هذا الخلق وهذا الكون، فإذا لم يكن له ذات فكيف يوجد ماله ذوات، وإذا لم يكن موصوفاً بصفات الكمال من السمع والبصر والعلم والحكمة والإرادة وغيرها فكيف يوجد الموصوفين بهذه الصفات، وما لم يكن فاعلاً مختاراً كيف يوجد الفاعلين المختارين، وما لم يكن حياً كيف يوجد الحياة، ففاقد الشيء لا يعطيه، فلا يمكن لجاهل أن يعلم الناس القرآن أو الشرع أو الدين لأنه فاقد للعلم، وغير البصير لا يمكن أن يرشد الناس إلى الطريق، والميت لا يمكن أن يفعل ولا يحي الموتى ولا يبعث الحياة في الموجودات ففاقد الشيء لا يعطيه. ولكن هؤلاء الفلاسفة لم ينظروا إلى المخلوقات ليستدلوا بها على الخالق بعين صحيحة، وإنما نظروا إليها بعقول قد لوثتها الوثنية والإلحاد فأثمرت هذه المقولات التي إن دلت على شيء فإنما تدل على إفلاسهم من النظر الصحيح والرأي السديد الذي يتوصل إليه أقل الناس حظا من العلم. فهذه المخلوقات المحكمة الصنع والعظيمة في خلقها وهيئتها والعظيمة في دورها وعملها تدل على حكيم عليم بصير خبير، لابد أن يكون موصوفاً بكل صفات الكمال ألا وهو الله جل وعلا. أما قولهم في إيجاد المخلوقات فمتضمن للفساد من وجوه عديدة: أولاً – إن قولهم إن المادة والصورة أزليتان وغير مخلوقتين قول فاسد، لأنه يلزم منه وجود المادة والصورة من غير شيء، وهذا معلوم الفساد ببداهة العقول، فإن كل موجود لابد له من موجد حتى ينتهي الأمر إلى الموجد الأول والخالق تبارك وتعالى، وإلا لزم التسلسل إلى ما لانهاية.

ثانياً – قولهم بأنه أوجد النفس الكلية ثم أوجد نفوس الكواكب الأخرى، كل هذا ضرب من الظن والتخمين، كما أنه مبني على ما ألفوه في مجتمعاتهم من الوثنية وعبادة الكواكب. ودعاوى أن لها تصرفاً في الكون بالإيجاد والخلق والتصرف، فصاغوا من كل ذلك تلك الدعاوى التي ظاهرها أنها مبنية على النظر والعقل وهي مبنية على الوثنية الجاهلة السخيفة. وقبل أن ننهي الكلام عن قول الفلاسفة ودعاويهم في صفات الله تبارك وتعالى وفعله وإيجاده لهذا الكون لابد أن نشير إلى أمر مهم، وهو: أن الفلاسفة قد يكونوا أجادوا بعض الإجادة في الكلام عن بعض المخلوقات أو الأمور المعنوية المتعلقة بالسياسة أو التربية ونحو ذلك، وكلامهم هذا مهما بلغوا فيه من حسن القول والإجادة لا يلزم أن يكونوا أهلاً لأن يتكلموا فيما وراء طاقة الإنسان وقدرته، سواء فيما يتعلق بالله عز وجل، أو المخلوقات غير الظاهرة للعيان، فإن ذلك غيب عن الإنسان، وعقل الإنسان وقدراته متعلقة بما يراه أو يرى شبيهاً له فيقيس عليه. فبالتالي حديثهم عن الله جل وعلا وحديثهم عن تكوين الكون ومادته وأصله كله غير داخل تحت طاقتهم وقدرتهم، وكلامهم فيه لا يعدو أن يكون ككلام المتطفل على علم لا يحسنه. وهم في هذا مثل طبيب من أمهر الناس في الطب مثلاً هل يليق أن يذهب إليه بناءً على حذقه في الطب فيسأله عن مسألة شرعية أو مسألة متعلقة بالسياسة أو مسألة متعلقة بالهندسة، فلا شك أن هذا لا يليق ولا يصح. ومن رام أن يأخذ من الطبيب جواب مسألة شرعية دقيقة أو مسألة متعلقة بالهندسة أو المحاسبة فهو مخطئ. فكذلك من رام أن يجد عند هؤلاء الفلاسفة علم ما يتعلق بالله عز وجل فقد أخطأ الطريق وأخطأ الهدف.

ثم إنه من رحمة الله عز وجل لما كانت وسائل البشر إلى معرفته المعرفة الصحيحة مسدودة إلا من خلال الوحي أنزل الله في ذلك كتبه وأرسل رسله لتعليم الناس وتعريفهم به، وهذا من أعظم الرحمة وأعظم المنة من الله عز وجل على خلقه، لأنه بذلك يهيئ من شاء الله منهم إلى رحمته العظمى ورضوانه الأكبر في جنات عدن.

ثانيا: - المتكلمون

ثانيا: - المتكلمون المتكلمون لما عزلوا الشرع الشريف عن أن يكون مصدرهم في توحيد الله عز وجل، وجعلوا مصدرهم في ذلك العقل أو المسائل العقلية المقررة في علم الكلام المستوردة من فلاسفة اليونان الوثنيين، ضلوا في هذا الباب ضلالاً بعيدا. فمن يقرأ الكتب الموسومة بأنها أصول الدين أو قواعد العقائد أو المطالب العالية من العلم الإلهي، ونحو ذلك من كتب المتكلمين يرى أنها تقرر نوعين من التوحيد فقط، وهما: توحيد الربوبية والأسماء والصفات، أما توحيد الألوهية فتهمله تمام الإهمال، فلا يذكرونه جملة وتفصيلا، مع أنهم في تقريرهم لتوحيد الربوبية والأسماء والصفات أخطأوا أخطاءً بليغة، أثمرت لهم الانحراف الذي هم عليه في تلك العقائد. وهذا منهج عام سلكه سائر المتكلمين من المعتزلة والأشاعرة والماتريدية. فمن أقوالهم في بيان المراد بالتوحيد وما يدخل فيه من الأنواع: قول عبد الجبار الهمذاني المعتزلي، المتوفى سنة415هـ يقول عن التوحيد في اصطلاح المتكلمين: "هو العلم بأن الله تعالى واحد لا يشاركه غيره فيما يستحق من الصفات نفياً وإثباتاً على الحد الذي يستحقه والإقرار به".1 وقال الجويني الأشعري المتوفى سنة478هـ: "وإذا أحاط العاقل بحدث العالم واستبان أن له صانعاً، فيتعين عليه بعد ذلك النظر في ثلاثة أصول يحتوي أحدها على ذكر ما يجب لله تعالى من الصفات، والثاني يشتمل على ذكر ما يستحيل عليه، والثالث ينطوي على ذكر ما يجوز من أحكامه، وتنصرم بذكر هذه الأصول قواعد العقائد". 2

_ 1 شرح الأصول الخمسة ص128. 2 الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد ص50.

وقال الغزالي وهو أشعري توفي سنة505هـ بعد أن ذكر أن الله ميز عصابة السنة بأنوار اليقين ... حتى اعتصموا من مقتضيات العقول بالحبل المتين، ومن سير الأولين وعقائدهم بالمنهج المبين، فجمعوا بين نتائج العقول وقضايا الشرع المنقول، وتحققوا أن النطق بما تعبدوا به من قول لا إله إلا الله محمد رسول الله ليس له طائل ولا محصول، إن لم يتحقق الإحاطة بما تدور عليه هذه الشهادة على إيجازها تتضمن إثبات ذات الإله وإثبات صفاته وإثبات أفعاله وإثبات صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلموا أن بناء الإيمان على هذه الأركان وهي أربعة".1 فيظهر من هذه النصوص أن التوحيد لدى المتكلمين يتعلق بإثبات، أولاً: ربوبية الله تعالى، وثانياً: إثبات أسمائه وصفاته. أما توحيد الألوهية فلم يذكروه ولا بكلمة واحدة، وأغفلوا الحديث عنه تماماً، فلا ذكر له في كتبهم. وسنبين موقفهم منه، بعد أن نبين كلامهم وموقفهم من توحيد الربوبية. أولاً: توحيد الربوبية. توحيد الربوبية لدى المتكلمين هو الغاية من أنواع التوحيد عندهم، وقد أجهدوا أنفسهم وكدوا أذهانهم في تقريره بالعبارات المطولة والمقدمات المنطقية والفلسفية والنتائج، حتى توصلوا في النهاية إلى إقرار هذا النوع من التوحيد. والملاحظ في كلامهم في هذا النوع من التوحيد أنهم يقررونه من ناحيتين: الناحية الأولى: إثبات وجود الله تعالى، والناحية الثانية: إثبات خلقه لهذا العالم.

_ 1 قواعد العقائد للغزالي ص144.

قولهم في إثبات وجود الله عز وجل. المتكلمون عموماً من المعتزلة والأشعرية بدأوا كتبهم في العقيدة والتوحيد بإثبات وجود الله تعالى، باعتبار أن أول ما يجب على الإنسان قبل أن يدخل في هذا الدين أن يعرف الله عز وجل، وقبل أن يعرفه فعليه إثباته والإقرار بوجوده. وقد جعلوا عمدتهم في الاستدلال لإثبات الربوبية الاستدلال بحدوث العالم. وسلكوا في إثبات ذلك مسلكاً وعراً ومنهجاً عسرا، لا يتناسب مع خطورة المسألة وأهميتها ألا وهي وجود الله عز وجل، وإضافة إلى ذلك فإن المتكلمين جعلوا أول واجب على المكلف النظر في معرفة الله تعالى، وهذه المعرفة مبنية على إثبات حدوث العالم، فإذا كان حادثاً فلابد له من محدث، وهو الله تعالى. ولإثبات ذلك سلكوا طرقاً منها: الطريقة الأولى: الاستدلال بحدوث الأجسام أو الجواهر أو الأعراض، ولإثبات ذلك مقدمات: أولها: إثبات الأجسام أو الجواهر أو الأعراض، وثانيها: إثبات حدوثها، وثالثها: إثبات استحالة تعري الجواهر أو الأجسام عن الأعراض، ورابعها: إثبات استحالة حوادث لاأول لها، خامسها: أن الجواهر لا تسبق الحوادث، سادسها: أن ما لا يسبق الحادث فهو حادث. وكل حادث لابد له من محدث، وهذا المحدث هو الله عز وجل. وقد قال بهذه الطريقة عبد الجبار المعتزلي 1والجويني 2.

_ 1 انظر شرح الأصول الخمسة ص92-96. 2 الإرشاد ص39-40. واستدل بحدوث الجواهر من ناحية إثبات ألأعراض، وإثبات عدم خلو الجواهر عنها.

الطريقة الأخرى: الاستدلال عليه بالإمكان والوجوب. ومعنى هذه الطريقة أن الموجودات منقسمة إلى قسمين، إما واجب الوجود لذاته، وإما ممكن الوجود لذاته. وهذا الدليل مبني على مقدمات: أولها: أن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا لمرجح. ثانيها: بيان أن هذه الحاجة حاصلة في حال الحدوث أو في حال البقاء. ثالثها: أن ذلك المرجح يجب أن يكون موجوداً. رابعها: أنه يجب أن يكون موجوداً حال حصول الأثر. خامسها: أن الدور 1باطل. سادسها: أن التسلسل 2 باطل. ثم عند تمام الكلام في تقرير هذه المقدمات الست يحصل الجزم بأنه لابد من الاعتراف بوجود موجود واجب الوجود لذاته. ثم إذا تبين أن هذا العالم المحسوس يمتنع أن يكون واجب الوجود لذاته، فعند ذلك نعلم أن هذا العالم المحسوس يحتاج في وجوده إلى وجود موجود واجب الوجود لذاته، وهو الله تعالى. وقد قال بهذه الطريقة الرازي 3. وهاتان الطريقتان هما من أهم الطرق عند هؤلاء المتكلمين في إثبات وجود الله تعالى.

_ 1 الدور هو توقف الشيء على ما يتوقف عليه، مثل: لا يوجد هذا إلا مع هذا، ويسمى الدور المعي أو الإقتراني، وقد يراد به أنه لا يوجد هذا إلا بعد هذا، ولا هذا إلا بعد هذا وهو الدور البعدي. انظر درء التعارض 3/143، التعريفات ص140. 1 هو ترتيب أمور غير متناهية، وهو على أنواع تسلسل في الآثار والشروط، والتسلسل في الفاعلين والعلل الفاعلة، والأخيران ممتنعان. انظر درء التعارض 3/144، التعريفات ص80. 2 المطالب العالية من العلم الإلهي 1/72-73.

الرد على المتكلمين في مسلكهم لإثبات وجود الله عز وجل:- إن المسلك الذي سلكه المتكلمون لإثبات وجود الله عز وجل لاشك مسلك باطل، بل محرم. والدليل على بطلانه وتحريمه ما يلي: أولاً - إن وجود الله عز وجل يثبته جل بني آدم، ولم ينكره إلا طائفة قليلة من الملاحدة1، الذين هم أتباع فرعون إمام الملاحدة ومن أخذ بقوله وقولهم من السابقين واللاحقين، وهؤلاء لا يشكلون إلا نسبة قليلة من مجموع بني آدم، أما الغالبية العظمى من بني آدم من أصحاب الأديان كاليهود والنصارى والهنود ومشركي العرب فضلاً عن المسلمين فيثبتون وجود الله عز وجل. كما أن الله حكى عن فرعون أنه كان في قرارة نفسه مقراً بوجود الله عز وجل وربوبيته، وإنما جحد ذلك تكبراً وعلواً. قال الله عز وجل: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ، وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل13, 14] . وقال موسى عليه السلام لفرعون: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً} [الإسراء102] . فإذا كان الأمر كذلك فهل يسوغ الاشتغال بتلك الطرائق التي يزعم المتكلمون أنهم يريدون أن يثبتوا بها وجود الله عز وجل وإرغام أنوف الملاحدة؟! . ثانياً - إن أعظم الدعاة إلى الله عز وجل وأشدهم نصحاً للخلق هم الأنبياء عليهم السلام، وقد جادلهم أقوامهم فأقاموا الحجة عليهم بأوضح عبارة وأبين مقال، وما رأيناهم دعوا الناس إلى الإقرار بوجود الله عز وجل، وإنما دعوهم إلى عبادة الله عز وجل وحده، مما يدل على أن من جاء إليهم الأنبياء ودعوهم كانوا يقرون بوجود

_ 3 ذكر الشهرستاني أن الملاحدة قلة وشرذمة من طوائف مجهولين. انظر: الشهرستاني في نهاية الاقدام في علم الكلام ص 128، والآمدي في غاية المرام ص9.

الخالق، بل يقرون أنهم مربوبون له ومخلوقون، وإنما نازعوا في عبادة الله وحده لاشريك له. فإذا كان أنبياء الله عز وجل لم يدعوا الناس إلى الإقرار بوجود الله عز وجل فمعنى ذلك أن وجود الله عز وجل أمر مسلم لا خلاف فيه. ثالثاً - إن الإقرار بوجود الله عز وجل أمر فطري فطر الله عليه الناس. قال عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف 172] . بل إن المشركين كانوا يقرون بربوبية الله فضلاً عن وجوده، كما قال الله عز وجل عن المشركين: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان 25] فعلى ذلك فلا حاجة إلى إتعاب النفس في أمر قد فطر عليه بنو آدم. رابعاً - إن من أنبياء الله عليهم السلام من واجه الملحدين وأقام عليهم الحجة، إلا أنهم لم يستدلوا بتلك الأدلة التي استدل بها المتكلمون، فهذا إبراهيم عليه السلام فيما حكى الله لنا في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة258] . وهذا نبي الله موسى عليه السلام واجه زعيم الملاحدة وإمامهم فرعون حين أنكر وجود رب العالمين، ورد عليه وأفحمه كما قال الله تعالى: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ، قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ، قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ، قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ، قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ، قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ، قَالَ لَئِنِ

اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء23 – 29] فلم يستطع فرعون أن يدفع الدليل وتحير في الإجابة، حتى اضطر إلى إخفاء خزيه وفضيحته بالتهديد بالسجن. فلا شك أن الدليل الذي استخدمه كل من إبراهيم وموسى عليهما السلام كان كافياً بدليل أن الطغاة لم يستطيعوا أن يردوه. خامساً - إنا نعلم قطعاً ويقينا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدع الناس إلى الاستدلال على وجود الله عز وجل بدليل حدوث الأجسام أو دليل الإمكان، بل ولا أثر عن أحد من الصحابة حرف واحد في ذلك. وهذا فيه واحد من أمرين: - إما أنه دليل باطل غير صحيح. - أو أنه دليل ضعيف لا يوصل إلى الغاية منه بالدرجة والسرعة المطلوبة. سادساً - إن الأجسام والجواهر والأعراض وكذلك الإمكان مصطلحات فلسفية مختلف في إثباتها وتعريفها وتحديدها إلى أقوال عديدة 1، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن الأصل الذي أراد المتكلمون أن يجعلوه دليلاً على وجود الله عز وجل مختلف فيه، فكيف يستدل بشيء مختلف فيه على شيء المقصود من إثباته الوصول إلى اليقين.

_ 1 انظر في ذلك مقالات الإسلاميين 2/5-57، والمعتمد في أصول الدين للقاضي أبي يعلى ص35-37.

سابعاً – إن لتلك المقدمات التي استدل بها المتكلمون، -والتي سبق ذكرها- لإثبات حدوث العالم مقدمات طويلة مختلف فيها، فقد عارضها معارضون وأنكرها منكرون، فقد ذكر الرازي في "الأربعين" إثبات حدوث العالم وذكر له ست حجج، وذكرها عنه شيخ الإسلام ابن تيمية في "درء التعارض"، ثم ذكر معارضات أبي الثناء الأرموي في كتابه "لباب الأربعين" عليها فاستغرقت أكثر من خمسين صفحة في كتابه "درء التعارض" 1، ثم ذكر الحجج الأخرى والاعتراضات عليها فاستغرقت قرابة الثلاثين صفحة 2. وبعد أن ذكر شيخ الإسلام قدح المتكلمين بعضهم في بعض في استدلالهم بتلك المقدمات على حدوث الأجسام قال: " ... وإنما المقصود القدح في هذه المسالك التي يسمونها براهين عقلية، ويعارضون بها نصوص الكتاب والسنة وإجماع السلف، ثم إن نفس حذاقهم قدحوا فيها".3 أما الاستدلال بالإمكان فقد ذكره الرازي في كتابه "المطالب العالية من العلم الإلهي" كما سبق ذكر ذلك إلا أنه حين أراد تقرير ذلك الدليل ذكر الاعتراضات والشبه حول الدليل، واستغرق ذلك حوالي مائة صفحة في كتابه المذكور 4. فهل من المقبول عقلاً أو شرعاً أن يكون إثبات وجود الله عز وجل بهذا العسر الشديد، وهل يمكن أن يحصل القطع واليقين بوجود الله تعالى بمثل تلك الحجج الضعيفة؟ لاشك أن المعتمد على مثل تلك الحجج لن يجد في قلبه سوى الحيرة والشك وتخلخل اليقين، وهي الحالة التي وصل إليها كثير من أهل الكلام،فظهرت حسرة

_ 1 درء التعارض بين العقل والنقل 2/344-399. 2 درء التعارض 3/3-30. 3 درء التعارض 3/31. 4 انظر المطالب العالية 1/74-175.

جرت على ألسنتهم لفوات ما فوتوا من برد اليقين، ورسوخ الاعتقاد، استعاضوا عنه بقيل وقال، كما هو ظاهر في كلام الرازي: نهاية إقدام العقول عقال ... وغاية سعي العالمين ضلال وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وحاصل دنيانا أذى ووبال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقال وكذلك قول أبي المعالي الجويني: "يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام فلو عرفت أنه يبلغ بي إلى ما بلغ ما اشتغلت به". وقال عند موته: "لقد خضت البحر الخضم وخليت أهل الإسلام وعلومهم ودخلت في الذي نهوني عنه، والآن فإن لم يتداركني ربي برحمته، فالويل لابن الجويني، وهاأنذا أموت على عقيدة أمي. أو قال: على عقيدة عجائز نيسابور". 1 ويظهر لنا من ذلك كله عظيم نصح أئمة الإسلام حين نهوا عن الكلام وحذروا منه، فهذا أبو يوسف رحمه الله يقول: "من طلب العلم بالكلام تزندق" 2. وقال الشافعي رحمه الله: "حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال ويطاف بهم في الأسواق، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام" 3. وقال الإمام أحمد: "لا يفلح صاحب الكلام" 4. وقال: "لا يكاد أحد نظر في الكلام إلا وفي قلبه دغل" 5. وغيرهم كثير.

_ 1 شرح العقيدة الطحاوية 208. 2 انظر الإبانة لابن بطة 2/538. 3 انظر قول الشافعي في شرف أصحاب الحديث للخطيب ص168، الذهبي في السير 10/29. 4 الإبانة الكبرى لابن بطة 2/539. 5 جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر 2/95.

ثامناً –إن الاستدلال بحدوث الأجسام وحدوث الأعراض ونحوها من الأدلة هي أدلة محرمة، لأن المتكلمين لما استدلوا بها جعلوها قواعد مطردة ليست خاصة بالمخلوق، بل عمموها فأدخلوا فيها الخالق والمخلوق، فما جعلوه دليلاً لحدوث المخلوق وإيجاده من العدم جعلوه من وجه آخر دليلاً على وجود الخالق وإيجاده لهذا الكون، وقطعوا بأن ما ثبت به الخلق والحدوث لا يصح أن يوصف به الخالق بوجه من الوجوه، فأداهم هذا إلى إنكار أمور مقطوع بها شرعاً ونصوصها وأدلتها من أوضح الأدلة والبراهين، ومع ذلك فقد أنكروها وردوها حتى يسلم لهم الاستدلال بتلك البراهين على وجود الله عز وجل، وخلقه لهذا العالم. فقد أنكر المعتزلة سائر الصفات بدعوى أن إثباتها يدل على الحدوث والجسمية، وأنكر الأشاعرة والماتريدية الصفات الذاتية مثل الوجه واليد والعلو وغيرها بدعوى أن ذلك يدل على الجسمية، ونفوا أيضاً الصفات الفعلية مثل الاستواء والنزول والمجيء والإتيان والكلام بحرف وصوت بدعوى أن ذلك يدل على الحدوث، وليس لهم حجة على نفي ذلك إلا هذه المسالك التي استدلوا بها على إثبات وجود الله. فهذا يدل على أنه مسلك محرم إذ أوصل القائلين به إلى تعطيل الباري جل وعلا، وإبطال النصوص الشرعية أو ردها وعدم قبولها. وكفى بهذا دليلاً على التحريم.

منهج المتكلمين في إثبات الوحدانية في الربوبية

منهج المتكلمين في إثبات الوحدانية في الربوبية: بعد أن ذكرنا موقف المتكلمين من إثبات وجود الله عز وجل يجدر أن نذكر دليلهم على وحدانية الخالق.

دليل التمانع: المتكلمون أثبتوا وحدانية الخالق جل وعلا بما يسمونه دليل التمانع، وهو أنه لا يمكن وجود خالقين، وذلك لأنا لو فرضنا وجود خالقين، ثم أراد أحدهما تحريك شيء وأراد الآخر تسكينه، فإن الأمر لا يخرج عن واحد من ثلاثة أمور: إما أن يتم ما أرادا جميعا، وهذا مستحيل، لأن الضدين لا يجتمعان، وإما أن لا يتم مرادهما، وهذا دليل على عجزهما، أو يتم مراد أحدهما ويمتنع مراد الآخر، فيكون من تم مراده هو الإله، والآخر ليس إلهاً لأنه عاجز، والعاجز لا يصلح أن يكون إلهاً. وزعموا أن الله عز وجل أشار الى هذا الدليل وذلك في قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} . [.الأنبياء22] وهذا الدليل الذي استدل به المتكلمون هو من جنس أدلتهم السابقة في إثبات وجود الخالق حيث أنها قد توصل للمراد ولكن بعسر وصعوبة، مع أن ما استدلوا له وأتعبوا أنفسهم في إقامة الحجة عليه مستقر في فطر بني آدم، كما أنه من المعلوم أنه لم يقل أحد أنه رب العالمين وأنه موجد لهذا الكون وخالقه سوى الله عز وجل، وقد قامت الأدلة في الأنفس والآفاق، وكذلك الآيات المنزلة في الكتب، وعلى ألسنة أنبياء الله على صدق ذلك، بل لا يوجد ما يعارض ذلك معارضة صحيحة، بل لا يوجد إلا ما يتفق مع ذلك. فإذا لم يكن هناك معارض أصلاً في هذا، فلا حاجة لإقامة الدليل. ومن المعلوم أن من ادعى أنه رب وهو فرعون، فدعواه تلك خاصة بقومه ومن أظهر الدعوى بينهم، وليست عامة، ولم يقل أنه رب العالمين أو خالق هذا الكون أو موجده، مع أن دعواه السابقة بقوله: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات24] دعوى ظاهر لكل عاقل بطلانها. أما من عدا فرعون فإنه لم يدع أحد أنه الرب الأعلى، ولا خالق السموات والأرض ولا خالق الناس، وإنما قد يرد ذلك على ألسنة الناس اعتقاداً في بعض من

يعبدونه، كما يدعي النصارى شيئاً من ذلك للمسيح عليه السلام بقولهم: "إن الأب خلق السموات والأرض بواسطة الابن الذي عندهم هو المسيح". فهذه دعوى يدعيها النصارى بدون أن يكون المسيح عليه السلام ادعاها لنفسه، ولا وردت على لسانه عليه السلام. فبان بذلك كله أن رب العالمين وخالق السموات والأرض والكون كله هو الله عز وجل، ولا معارض له في هذا، ولا حتى بالباطل من بني آدم. فإقامة الحجة على أن الخالق واحد لا ثاني له هو إقامة للحجة والدليل في شيء غير مختلف فيه ولا معارض فيه. كما أن الآية التي زعموا أنها شاهد لدليل التمانع الذي ذكروه ليست صريحة فيما قالوا، لأن الآية في نفي الألوهية عن غير الله عز وجل. ومعنى الآية كما ذكر ابن جرير رحمه الله: لو كان في السموات والأرض آلهة تعبد مع الله حقيقة لفسدت السموات والأرض، وعدم فسادهما واتساق خلقهما ونظامهما دليل على أنه لا يوجد فيهما معبود بحق إلا هو سبحانه وتعالى.1 ويوضح معناها قول الله عز وجل: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون91] وذلك يعني أنه لو كان يوجد آلهة مع الله لكان لكل إله خلق وعبيد، ولذهب كل إله معبود بعبيده وخلقه، ولاجتهد كل معبود أن يعلو على غيره، ولما لم يحصل شيء من ذلك دل ذلك على أنه لا يوجد آلهة مع الله عز وجل.2 ولو كان ما استدل به المتكلمون متفقاً مع الآية لوجب أن تكون الآية واردة في نفي الربوبية، وذلك بأن يقول: "لو كان فيهما أرباب". ولما لم يقل الله تعالى ذلك،

_ 1 انظر تفسير ابن جرير الطبري 17/13 حيث نص على أن المنفي في الآية ألوهية غير الله عزو جل. 2 انظر تفسير ابن كثير 3/167.

تبين أنه يدلل على نفي الألوهية عن غيره سبحانه. والذي يدخل ضمن ذلك نفي الربوبية عن غيره وإثباتها لنفسه سبحانه وتعالى. موقف المتكلمين من توحيد الألوهية: إذا بحثت في كتب المتكلمين عن التوحيد ستقف على ثلاثة أنواع من التوحيد: أولها: توحيد الذات، وثانيها: توحيد الصفات، وثالثها: توحيد الأفعال، أو اعتقاد أن الله واحد في ذاته وواحد في صفاته وواحد في أفعاله وستجد الأدلة على ذلك. وقد سبق النقل عن المتكلمين في ذلك. ومما يؤسف له أن كتبهم التي زعموا أنها قواعد العقائد والإرشاد إلى قواطع الأدلة وأصول الدين، إلى غير ذلك من المسميات لا يوجد فيها ولا كلمة واحدة عن توحيد الألوهية أو توحيد العبادة،وهو التوحيد الذي شغل الحيز الأكبر من أدلة آيات القرآن الكريم، حيث أقام الله عليه الحجة تلو الحجة،واستدل بتوحيد الربوبية عليه،وكل دليل أقامه بشأن التوحيد في القرآن إنما هو دليل صريح لتوحيد الألوهية،أما الربوبية والأسماء والصفات فإنها قد تكون عرضا أو ضمنا أو تكون مستدلا بها على توحيد الألوهية 0 كما أن دعوة الأنبياء وجدالهم لأقوامهم كان منصبا على هذا النوع من التوحيد، الذي خلق الناس من أجله وانحرف الناس عنه وأخلوا به، وهو التوحيد المتعلق بالعمل وهو العبادة التي تتضح بها عبودية الإنسان لربه عز وجل وهو أول أمر في القرآن الكريم حيث أمر بتوحيد العبادة مستدلا عليه بتوحيد الربوبية وذلك في قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة21]

وهو ظاهر في سورة الفاتحة التي يكررها المسلم كل يوم سبع عشرة مرة، وذلك في قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة5] . فكيف غفل المتكلمون عن هذا الأصل الأصيل والمنار المنيف في الشرع الشريف؟! هذا أمر يحار له المسلم وينذهل له ويدهش أشد الدهش، مع دعوى هؤلاء المتكلمين أنهم حماة العقيدة وناصروها ومقيموا الحجة على أعدائها ومخالفيها، فإذا بهم يهملون الغاية التي من أجلها خلق الإنسان،والأمر الذي نزلت الكتب وأرسلت الرسل وقام سوق الجهاد من أجل الالتزام به والدعوة إليه وإخلاصه لله وحده لا شريك له، وهو الذي كان ديدن أنبياء الله ورسله من أولهم إلى آخرهم، ويستبدل به المتكلمون الكلام عن أصول لم يكن فيها كبير خلاف، مع أنهم في نفس الوقت سلكوا في تقريرها مسالك صعبة وعرة عسرة، وهم في ذلك كما قيل: "لحم جمل غث على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى ولاسمين فينتقل". فتلك المسالك على قلة الحاجة إليها صعبة عسرة، لم توصل إلى المراد إلا بأرتال من الضلالات والانحرافات الدينية. فعلى هذا نقول: إن المتكلمين لم يعرفوا توحيد الألوهية ولم يعرجوا عليه في قليل ولا كثير، وحينما أشاروا إلى شيء من ذلك فإنهم أخطأوا في تلك الإشارات على ندرتها وقلتها. ويتضح ذلك من خلال بيان ما يلي: أولاً: معنى الإله:- الإله في اللغة: هو المعبود. والله: اسم علم على الإله المعبود بحق، أصله إله، دخلت عليه أل، فصار الإله، ثم حذفت همزته وأدغم اللامان فصار "الله".1 هذا ما ذكره أهل اللغة في معنى الإله، وأصل كلمة الله عند من يرى أنها مشتقة.

_ 1 المعجم الوسيط ص25.

إلا أن المتكلمين خالفوا ذلك لهوى في نفوسهم، فزعموا أن الإله هو القادر على الاختراع. قال الشهرستاني: "إن أخص وصف الإله هو القدرة على الاختراع فلا يشاركه فيه غيره، ومن أثبت فيه شركة فقد أثبت إلهين". 1 وقال البغدادي: "واختلف أصحابنا – يعني الأشاعرة – في معنى الإله، فمنهم من قال: إنه مشتق من الإلهية وهي قدرته على اختراع الأعيان. وهو اختيار أبي الحسن الأشعري.2 فهذا ما أوردوه في معنى ألإله، حيث فسروا معنى الإله بما يدل عليه معنى الرب، وتركوا ما دلت عليه اللغة من أن الإله هو المعبود والرب هو الخالق. ثانياً: معنى "لا إله إلا الله":- "لا إله إلا الله" كلمة التوحيد ورأس الإسلام،ومع ذلك لا يجد الناظر للمتكلمين فيها كلام ولا بيان إلا النزر اليسير، وقد أخطأوا في هذا النزر اليسير. فأبو حامد الغزالي يقول: "أن كلمتي الشهادة – يعني لا إله إلا الله محمداً رسول الله – على إيجازها تتضمن إثبات ذات الإله، وإثبات صفاته وإثبات أفعاله وإثبات صدق الرسول صلى الله عليه وسلم" 3 وفسر السنوسي الشهادة بأحد معنيين: أحدهما: أن المراد بالإله المعبود الحق، وعلى هذا يكون معنى الشهادة: لا مستحق للعبودية في الوجود إلا الفرد الذي هو خالق العالم جل وعلا.

_ 1 نهاية الأقدام في علم الكلام ص91. 2 أصول الدين ص123. 3 قواعد العقائد ص144.

وإن شئت قلت في معنى "الإله" هو المستغني عن كل ما سواه، والمفتقر إليه كل ما عداه، وعلى هذا يكون معنى "لا إله إلا الله" لا مستغني عن كل ما سواه ومفتقر إليه كل ما عداه إلا الله تعالى. وهو أظهر من المعنى الأول وأقرب منه، وهو أصل له، لأنه لا يستحق أن يعبد أي يذل له كل شيء إلا من كان مستغنياً عن كل ما سواه مفتقراً إليه كل ما عداه، فظهر أن العبارة الثانية أحسن من الأولى.1 بهذا فسر السنوسي كلمة "لا إله إلا الله" وهو وإن كان أحسن في القول الأول بأن "لا إله إلا الله" لا مستحق للعبودية إلا الله، فإنه أخطأ في تفسير معنى الله بأنه خالق العالم. كما أخطأ في القول الذي رجحه وحسنه وهو أن "لا إله إلا الله" تعني لا مستغني في الوجود عما سواه إلا الله، وهذا معنى الربوبية الذي كان يقر به المشركون، فلو كان هذا معنى لا إله إلا الله لما أنكرها المشركون، ولا رضوا بأن تسفك دماؤهم وتسبى نساؤهم في الوقت الذي كانوا يقرون بما طلب منهم ودعوا إليه. ولاشك أن هذا من الخلل في فهم نصوص الشرع وسوء الأصول التي بنوا عليها أقوالهم في العقيدة، فأعرضوا عن المعنى الشرعي في تفسير الإله، وتفسير لا إله إلا الله حتى يستقيم لهم الدعاوى التي ادعوها وجادلوا عنها من إثبات وجود الله تعالى وإثبات ربوبيته، بدعوى أنهم شرحوا بما قالوا أصل الدين ورأس الإسلام وهو شهادة التوحيد.

_ 1 شرح أم البراهين ص74. وانظر منهج السلف والمتكلمين في موافقة العقل للنقل 1/583.

موقف المتكلمين من الشرك: كما سبق أن ذكرنا أن موقف المتكلمين من توحيد الألوهية هو الإهمال والإعراض، فذلك موقفهم من الشرك أيضاً، فلا تجد في كتبهم ذكراً للشرك في الألوهية بدعاء غير الله أو الاستغاثة به أو الطواف بالقبور أو اللجوء لأصحابها والذبح أو النذر عندها، إلى غير ذلك من أنواع الشرك التي حذر الله منها، وحذر الرسول صلى الله عليه وسلم منها ومن الطرق الموصلة إليها، فكان في ذلك وقاية وحماية للمسلمين من الوقوع في هذا الانحراف، إلى أن جاء المتكلمون فأهملوا بيان توحيد الألوهية، كما أهملوا التحذير من ضده وهو الشرك، فجهل المسلمون توحيد الألوهية ووقعوا في ضده وهو الشرك، حتى صار لدى كثير من المسلمين في بلدانهم قبوراً أوثاناً يعكفون عندها، ويدعون عندها وينذرون ويذبحون لها، وهم يظنون أن ذلك قربة إلى الله عز وجل، وأن هؤلاء الموتى واسطة شرعية ووسيلة مقبولة عند الله عز وجل. وما ذلك إلا لإعراض المتكلمين عن بيان الشرك والتحذير منه. مما جعل المسلمين يجهلونه فيقعون فيه، ظناً منهم أن ذلك ليس شركاً، وأن الشرك إنما هو في اعتقاد أن خالقاً مع الله أوجد هذا الكون كما أوعز إلى ذلك المتكلمون بتركيزهم على إثبات الوحدانية في الذات، والوحدانية في الأفعال. أما الوحدانية في العبادة فقد أهملوها، ولم يذكروها، فصار المسلم يظن أن لا شرك فيها، مع أن الشرك الذي حذر منه الله عز وجل إنما كان في هذا النوع، وهو بلية بني آدم ومصيبتهم التي حذرهم منها رسل الله عليهم الصلاة والسلام.

المجلد الثاني

المجلد الثاني منهج السلف في صفات الله عزوجل ... بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله لا شريك له وأشهد أن نبينا محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فقد سبق أن ذكرنا منهج السلف في العقيدة وارتكازهم على الكتاب والسنة لا يقدمون عليهما رأياً ولا هوىً ولا كشفاً, ولا يسومونهما بالتحريف والتلاعب عسفاً وخسفاً، وإنما التسليم والإيمان والاقرار مع الفهم والالتزام والتعقل. منهج السلف في صفات الله عز وجل: السلف رحمهم الله التزموا بما ألزمهم الله عز وجل به وألزمهم به رسوله صلى الله عليه وسلم, من الاعتماد على كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم في سائر شؤونهم ومما التزموا به في ذلك ما يتعلق بصفات الله عز وجل. فمن نظر في كتبهم المصنفة في هذا مثل: كتاب "السنة" للإمام أحمد و"خلق أفعال العباد" للبخاري, و"الشريعة" للآجري, و"شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة" للالكائي, و"السنة" لابن أبي عاصم النبيل، و"السنة" للطبري، و"النزول" و"الصفات" و"الرؤية" للدارقطني، و"الرد على الجهمية" لابن منده، و"الرد على الجهمية" و"الرد على بشر المريسي" للدارمي، و"عقيدة أصحاب الحديث" للصابوني، و"الحجة في بيان المحجة" لأبي إسماعيل التيمي الأصبهاني، وغيرها كثير، يرى الناظر فيها أن السلف رحمهم الله أثبتوا كل ما ورد في كتاب

الله عز وجل من صفاته وما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما ثبت عنهم الكثير من الروايات التي تحدد موقفهم ومنهجهم في صفات الله عز وجل. من ذلك ما روي عن الإمام أحمد أنه قال: "يضحك الله ولا نعلم كيف ذلك إلا بتصديق الرسول" وقال: "المشبهة تقول بصر كبصري ويد كيدي وقدم كقدمي، ومن قال ذلك فقد شبه الله بخلقه". وقال نعيم بن حماد: "من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن أنكر ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه" 1 وعن الأوزاعي أنه قال: "سئل مكحول والزهري عن تفسير الأحاديث فقالا: أمروها على ما جاءت". وقال الوليد بن مسلم: "سألت الأوزاعي ومالكا وسفيان وليثا عن هذه الأحاديث التي فيها الصفة فقالوا: أمروها بلا كيف". وعن عباد بن العوام قال: "قدم علينا شريك بواسط فقلنا له: إن عندنا قوماً ينكرون هذه الأحاديث، الصفات، وأن الله ينزل إلى سماء الدنيا، فقال شريك: إنما جاءنا بهذه الأحاديث من جاءنا بالسنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الصلاة والزكاة والحج، وإنما عرفنا الله بهذه الأحاديث". وقيل لسفيان بن عيينة: هذه الأحاديث التي تروى في الصفات فقال: "حق على ما سمعناها ممن نثق به ونرضاه نمرها كما جاءت بلا كيف" 2. وقال الصابوني في عقيدته: "أصحاب الحديث - حفظ الله أحياءهم ورحم موتاهم - يشهدون لله بالوحدانية وللرسول صلى الله عليه وسلم بالرسالة ويعرفون ربهم عز وجل بصفاته التي نطق بها وحيه وتنزيله أو شهد له بها رسوله صلى الله عليه وسلم على ما وردت الأخبار الصحاح به ونقلته العدول الثقات عنه ويثبتون له جل جلاله ما أثبت

_ 1 شرح الطحاوية ص 66. 2 انظر هذه النصوص في إبطال التأويلات 1/47-55.

لنفسه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ولا يعتقدون تشبيهاً لصفاته بصفات خلقه ... " 1. وقال الخطابي: "إن مذهب السلف إثباتها - يقصد الصفات - وإجراؤها على ظواهرها ونفي الكيفية والتشبيه عنها، وقد نفاها قوم فأبطلوا ما أثبته الله، وحققها قوم من المثبتين فخرجوا في ذلك إلى ضرب من التشبيه والتكييف وإنما القصد في سلوك الطريقة المستقيمة بين الأمرين، ودين الله بين الغالي فيه والجافي عنه" 2. فمن هنا يمكن لنا أن نحدد أن للسلف رحمهم الله في إثبات الصفات ثلاث قواعد هي: القاعدة الأولى: "الإيمان بكل ما ورد في الكتاب والسنة من صفات الله تعالى نفياً وإثباتاً". القاعدة الثانية: "نفي الممثالة بين الخالق والمخلوق في الصفات". القاعدة الثالثة: "قطع الطمع عن إدراك كيفية اتصاف الباري جل وعلا بالصفات" 3. وسنذكر بإيجاز ما يتعلق بكل قاعدة من القواعد السابقة بذكر أدلتها وما يتعلق بها من المعاني الواجب التزامها فيها.

_ 1 عقيدة أصحاب الحديث ضمن المجموعة المنيرية 1/106. 2 نقلها عنه شيخ الإسلام في مجمع الفتاوى 5/58. 3 انظر هذه القواعد الثلاث في الحجة في بيان المحجة 1/94-97، وعقيدة أصحاب الحديث للصابوني 1/106-107،إبطال التأويلات لأخبار الصفات للقاضي أبي يعلى 1/43، ذم التأويل لابن قدامة ص 11، الرسالة التدمرية ص 4، منهج ودراسات لآيات الصفات للشنقيطي ص 6،44، معتقد أهل السنة والجماعة للتميمي ص 95.

القاعدة الأولى الإيمان بكل ما ورد في الكتاب والسنة من صفات الله عز وجل نفياً وإثباتاً. قد دلت الأدلة الكثيرة الموجبة للالتزام والأخذ بكل ما ورد في الكتاب والسنة في هذا الباب وغيره من أبواب التوحيد والدين ومن هذه الأدلة العامة: قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر7] ،وقوله عز وجل: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف3] ، وقال عز وجل: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأنعام155] ، وقال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء59] . ومما يؤكد وجوب الالتزام بما ورد في الكتاب والسنة في هذا الباب خصوصاً وغيره من أبواب الدين عموماً عدة أمور: 1 - أن الله عز وجل غيب عنا فلم نره ولم نر شبيهاً له سبحانه وتعالى ولا مماثل فبالتالي سبيل معرفته سبحانه المعرفة الصحيحة التامة مسدودة إلا من طريق الوحي، فحاجتنا للوحي في هذا الباب من أعظم الحاجات، وقصور عقل الإنسان في الوصول إلى العلم التام الصحيح في هذا الباب ظاهر واضح, ويكفي أن ينظر الإنسان ويطلع على شيء من أقوال الفلاسفة1 في هذا فيجد كيف ضلوا في هذا الباب وأتوا بكلام هو غاية في السفه والتناقض, وصدق الله القائل: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه110] . 2 - أنه لا يخبر عن الله عز وجل أصدق من الله عز وجل ولا أعلم وأحكم. قال جل وعلا: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} [النساء122] , {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً} [النساء87] .

_ 1 سبق أن ذكرنا قولهم ومن ذلك زعمهم أن الله عقل أوحد لا يتغير ولا يتحرك.

كما ولا يخبر عن الله عز وجل أصدق من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، وقد أوتي صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم كما قال صلى الله عليه وسلم: "وأوتيت جوامع الكلم" 1, فلا يمكن بالتالي أن يعبر أحد من الناس أصح من عبارته صلى الله عليه وسلم ولا أدل على المراد بأكمل وجه وأقرب طريق. 3 - أن دلالة الألفاظ الشرعية على المعاني دلالة قطعية لأن الله عز وجل قد أقام الحجة بها على العباد، قال جل وعلا: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان1] ، وقال سبحانه {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء165] ، وقال أيضاً: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الأنعام92] . فهذه النصوص, وغيرها كثير فيه دلالة واضحة على أن نصوص القرآن والسنة قطعية الدلالة لأنها لو لم تكن كذلك لما قامت بها الحجة على الناس ولو كانت نصوص الوحي لا تفيد العلم واليقين وغير قطعية الدلالة كما يزعم المتكلمون, لكان هذا الوصف غير متحقق فيها, وكانت الحجة غير قائمة على الخلق, وحاشا كلام الله عز وجل وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم عن التناقض والبطلان. 4 - أن الإيمان بالصفات وفق ما ورد بالكتاب والسنة هو من لوازم الإقرار بالشهادتين، فمن أقر لله بالألوهية والربوبية، وأقر للنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة لزمه التسليم لكلام الله وخبره وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم عن صفاته جل وعلا وأفعاله، وإلا كان واقعاً فيما حذر الله عز وجل من الوقوع فيه وذلك في قوله عز وجل: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء65] ، وقوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} [الأحزاب36] .

_ 1 أخرجه مسلم في المساجد ومواضع الصلاة 1/372 عن أبي هريرة رضي الله عنه.

5 - أن الالتزام بمدلول الآيات والنصوص الشرعية لا يتوقف على موافقة العقل, فإن الله عز وجل قد أمر أمراً جازماً غير مشروط بموافقة العقل فمن ادعى موافقة العقل فقد افترى على الله عز وجل وفرَّغ النصوص من معانيها وأبطل دلالتها وقيدها بقيد من عنده، وهذا حال المتكلمين الذين زعموا أن دلالة النصوص على الصفات لا تقبل إلا إذا وافقت العقل. وفي هذا يقول الغزالي: "وكل ما ورد السمع به ينظر فإن كان العقل مجوزاً له وجب التصديق به… وأما ما قضى العقل باستحالته فيجب تأويل ما ورد السمع به "1. ويقول السنوسي في شرح أم البراهين: "وأصول الكفر ستة, ثم قال…: سادساً: التمسك في أصول العقائد بمجرد ظواهر الكتاب والسنة من غير عرضها على البراهين العقلية والقواطع الشرعية "2. فلا شك أن هذه الدعاوى باطلة ظالمة فيها افتراء على الله, وتقييد لكلامه بغير ما لم يشرعه الله ولم يقله, وإبطال لمعنى ودلالة النصوص الشرعية مما يفقدها قيمتها الدينية, ويجعلها كلمات جوفاء لا معنى تحتها، ولا حول ولا قوة إلا بالله. قواعد متعلقة بالصفات وفق القاعدة الأولى: 1 - إثبات جميع ما ثبت في الكتاب والسنة من صفات الله عز وجل سواء ما كان مثبت أو منفي عن الله عز وجل وكل ذلك صفات كمال لا نقص فيها بوجه من الوجوه. والصفات المثبتة لله عز وجل كثيرة منها الوجه واليدان والعلو والعلم والكلام والسمع والبصر والقدرة والإرادة والرضى والغضب والرحمة وغير ذلك. والله عز وجل موصوف بها على صفة الكمال الذي لا يلحقه فيها نقص بوجه من الوجوه لأنه سبحانه الكامل من كل وجه وقد دلت الآيات الكثيرة على ذلك فمن ذلك قوله عز وجل: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الصافات159] التي تدل على تنزيه الله

_ 1 المستصفى للغزالي 2/137-138، الاقتصاد في الاعتقاد ص 132. 2 شرح أم البراهين الكبرى للسنوسي ص 502.

عز وجل عن كل نقص وعيب، وقوله عز وجل: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة255] فهذا في كمال العلو له سبحانه، {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة282] وهذا في كمال العلم، {إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ} [الملك19] وهذا في كمال البصر {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة284] ويكفي في الدلالة على ذلك قوله عز وجل: {لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [النحل60] . كما ينفى عن الله عز وجل كل ما نفاه عن نفسه سبحانه أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم مثل قوله عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} [فاطر44] ، {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة255] ، {مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَداً} [الجن3] ، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص4] ونحو ذلك. وكل صفة منفية عن الله عز وجل فهي دليل من وجه آخر على الكمال فنفي العجز دليل على كمال القدرة ونفي السنة والنوم دليل على كمال الحياة والقيومية ونفي الصاحبة والولد دليل على كمال الغنى وكمال الوحدانية ونفي المكافئ والمماثل دليل على وحدانيته في الصفات سبحانه. ومن الصفات الثابتة في القرآن ما يكون كمالاً في حال دون حال فلا تنسب لله بإطلاق ولا تنفى بإطلاق وإنما تثبت في الحال الذي تكون كمالاً كما في الكيد والمكر والخداع والاستهزاء، فهذه الصفات لم يثبتها الله عز وجل لنفسه إلا في مقابل فعل أعدائه فيكون معاملتهم بجنس فعلهم من الكمال في الانتقام منهم وعقوبتهم وذلك في مثل قوله عز وجل: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران54] ، {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء142] ، {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً، وَأَكِيدُ كَيْداً} [الطارق15, 16] . 2_ ما لم يرد إثباته ولا نفيه في الكتاب والسنة فلا يجوز إطلاق القول به لأنه من باب القول على الله بلا علم وقد حرم ذلك كما في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا

بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف33] .وإنما الواجب في مثل ذلك التوقف ومعرفة المعنى المراد فإن أراد به معنى حقاً قبل وغير اللفظ إلى ما يتفق مع الشرع حتى يؤمن اللبس وإن أريد معنى باطل رد لفظه ومعناه وهذا مثل ما ينفيه المتكلمون من الجهة والمكان والجسم ونحوها، فإن أريد بالجهة والمكان جهة السفل أو مكان يحوي الله عز وجل فهذا معنى باطل مردود، وإن أريد بالجهة العلو أو المكان فوق العرش فهذا معنى ثابت لله عز وجل ولكن يغير اللفظ إلى العلو والاستواء على العرش ليؤمن اللبس، وكذلك الجسم إن قصد به جسم مركب من الأعضاء فهذا معنى باطل وإن أريد به الذات الموصوفة بالصفات فهذا حق ثابت لله عز وجل بالأدلة فيثبت المعنى وينفى اللفظ حتى يؤمن اللبس1. 3 - أن القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر، فلا يفرق بين صفات الله عز وجل فيثبت منها شيء وينفى منها شيء كما هو الحال بالنسبة للمتكلمين يثبتون ما يتفق مع قواعدهم المبتدعة وينفون ما عداها، بل الواجب إثبات الصفات الواردة في الكتاب والسنة بأجمعها ومن أثبت شيئاً ونفى شيئاً آخر فقد آمن ببعض الكتاب وكفر بالبعض الآخر والحجة قائمة عليه فيما أثبت على ما نفى. 4 - أن الواجب في نصوص القرآن والسنة خاصة في الصفات إجراؤها على ظاهرها اللائق بالله عز وجل وعدم تحريف معناها بما يمنع وصفه بها سبحانه لأنه لا مجال للرأي فيها. وقد سبق أن بينا أن الله غيب عنا فمعرفته سبحانه متوسطة بالوحي، والوحي من هذا قد أتى بأكمل العلم وأتمه فقد ورد فيه من التعريف بالله من ناحية صفاته وأفعاله الشيء الكثير جداً مما لم يحوجنا إلى قول أحد بعد قوله سبحانه وقول رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا الوحي جاء للتعليم والبيان والإيمان ومن صفاته اللازمة له الوضوح والظهور فليس فيه ألغاز ولا تعمية إلى ما نحن نحتاج إليه من ديننا قال جل

_ 1 مجموع الفتاوى 3/41-42، القواعد المثلى ص 30.

وعلا: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود1] ، وقال تعالى: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت3] ، وقال جل وعلا: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل44] . فعلى هذا كل صفة لله عز وجل في القرآن أو السنة تثبت لله سبحانه على ظاهر النص اللائق بالله ولا يحرف معناها أو تفهم خطأ ثم تحرف كما هو حال أهل الضلالة من المتكلمين.

القاعدة الثانية: نفي المماثلة بين الخالق والمخلوق في الصفات. مما يجب اعتقاده في هذا أن الله تبارك وتعالى موصوف بالصفات على صفة تليق بجلاله وعظمته وأن المخلوق موصوف بالصفات على صفة تليق بضعفه وعجزه وحاجته فلا تماثل صفات الخالق صفات المخلوق بل إن الله عز وجل لا يماثله سبحانه شيء في صفاته. وقد دلت الأدلة على ذلك وهي قوله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى11] ، وقوله عز وجل: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص4] , وقوله عز وجل: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم65] ، وقوله تعالى: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} [النحل74] . فهذه الأدلة دالة على أن الله سبحانه لا يماثله ولا يشابهه ولا يكون مساوياً له بحال من الأحوال أحد من خلقه وهذه هي وحدانيته سبحانه في الصفات فلا يماثله فيها أحد. ولأهمية هذه القاعدة نفصل القول فيها في نقاط: 1- أن القول في الصفات كالقول في الذات, وذلك أن ذات الله تعالى لا يماثلها ذات من ذوات المخلوقين, فكذلك صفاته جل وعلا لا تماثل صفات المخلوقين. 2- أن كل موصوف بصفة فصفاته تلائم ذاته. وذلك أن الموجودات كلها موصوفة بالصفات, ولكن كل موصوف صفاته نلائم ذاته, فالدواب والطير والشجر والإنسان توصف كلها بأن لها ذاتاً وحياة وسمعاً وبصرا, ولكن كل منها صفاته تختلف عن الآخر بما يتناسب مع ذاته, فإذا كانت صفات المخلوقين غير متماثلة ومتباينة ومتفاوتة, فإذاً صفات الخالق أولى أن

تتباين فيما بينها وبين صفات المخلوق ولا تتماثل، وأن صفاته جل وعلا تليق بذاته العلية. 3 - أن التماثل في الأسماء لا يلزم منه التماثل في المسميات. وذلك أن الله تعالى قد وصف نفسه بصفات وصف بها المخلوقين وجعلها من صفاتهم, مثل السمع والبصر والعلم والحلم ونحو ذلك, ولكن لا يلزم من هذا التماثل في الأسماء التماثل في المسميات. وهذا ظاهر يدل عليه أن في الجنة عسلاً وخمراً ولبناً وماءً, وفي الدنيا مثل ذلك، ولكن خمر الدنيا وعسلها ولبنها وماءها يختلف عن خمر الآخرة ولبنها وعسلها ومائها, بل قال ابن عباس: "ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء" 1. فإذاً كان هذا في المخلوقات فلا شك أن عدم التماثل بين الخالق والمخلوق أعظم وأكبر. 4 - أن كل موصوفين بصفة بينهما قدر مشترك من الصفة،فمثلاً الإنسان موصوف بالبصر والنملة والفيل موصوف بالبصر, فبينهما قدر مشترك من أجله وصف كل منهم بالبصر. ولله المثل الأعلى فالله تبارك وتعالى موصوف بالقدرة والإنسان موصوف بالقدرة فهناك قدر مشترك من أجله صح وصف الإنسان بذلك, وإلا لما صح اتصافه به, إلا أن قدرة الخالق تليق بكماله وجلاله وعظمته, والمخلوق قدرته وسائر صفاته تليق به, وليس في هذا شيء من التمثيل أو التشبيه, لأن التماثل والتشابه إنما يصح لو كان هناك تماثل وتشابه في مقدارالصفة وهيئتها, فإذا لم يكن هناك تشابه في هذا, فالقدر المشترك الذي من أجله صح الوصف بالصفة لا يلزم منه تشابه ولا تماثل, إنما يفيد فقط صحة الوصف بالصفة.

_ 1 ذكره ابن جرير الطبري 1/391-392 في تفسير قول الله تعالى: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً} [البقرة25] , وانظر: الدر المنثور 1/38.

5 - أن الغلو في نفي التشبيه تعطيل. مما يجب أن يحذر في هذا الباب ما عليه أهل التعطيل من الفلاسفة والمتكلمين، الذين غلوا في نفي التشبيه, حتى اعتبروا أن إثبات الصفات لله تعالى وهي موجودة في الإنسان أن ذلك تشبيه, ولاشك أن هذا من أبطل الباطل, ومن الاعتداء والغلو الممقوت, وبناءً عليه عطلوا النصوص وأبطلوا دلالتها, وزعموا أن الله تعالى لا يوصف بالصفات على تفاوت منهم في ذلك. مع أن الحق أن الواجب الشرعي في ذلك هو القصد والتوسط, فلا غلو في الإثبات يوصل إلى التمثيل والتشبيه, ولا غلو في التنزيه يوصل إلى التعطيل والتحريف, وإنما إثبات بلا تمثيل وتنزيه بلا تعطيل.

القاعدة الثالثة: قطع الطمع عن إدراك كيفية اتصاف الباري جل وعلا بالصفات مما يؤمن به السلف في باب صفات الله عز وجل أنهم يثبتونها ويؤمنون بها وهم في نفس الوقت يجهلون كيف يتصف الباري بها. وذلك لأن الله عز وجل قد أخبرنا بالصفات ولكنه جل وعلا لم يخبرنا بالكيفية كما أخبرنا جل وعلا بأنه سبحانه لا يمكن أن يحاط به علما فقال جل وعلا: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه110] وقال جل وعلا: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام103] . فمن هنا كثر كلام السلف في أن الواجب على المسلم أن يؤمن بصفات الله عز وجل بلا كيف كما سبق أن ذكرنا ذلك عن العديد منهم وكما هو مشهور عن الإمام مالك رحمه الله أنه قال: "الاستواء معلوم والكيف مجهول والسؤال عنه بدعة".1 وعن شيخه ربيعة أنه قال: "الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول".2 فذهبت هذه المقولة أصلا من أصول أهل السنة وهي أن الاستواء معلوم معنىً لأن الاستواء في اللغة العلو والارتفاع، أما كيفية استواء الخالق على العرش فهي مجهولة ولا نعقل كيف يكون ذلك، والإيمان بالاستواء واجب شرعا لورود النصوص العديدة به. ونزيد هذه القاعدة المهمة توضيحا بما يلي: 1_ أن العقل قاصر عن إدراك ومعرفة كيفية صفات الله عز وجل وذلك أن العقل لا يمكن أن يتخيل ولا أن يتصور إلا ما رآه أو رأى شبيها له، والله عز وجل غيب عنا فلم نره ولم نر شبيها له فلا يمكن أن نكيف صفاته كما أنه جل وعلا لم يخبرنا بذلك فبالتالي لا سبيل لنا إلى معرفة ذلك في هذه الحياة الدنيا.

_ 1 شرح أصول اعتقاد أهل السنة 3/398, الأسماء والصفات للبيهقي ص408. 2 المصدران السابقان.

2 - أن عدم العلم بكيفية الصفات لا ينفي الصفات ولا يقدح في الإيمان بها وإثباتها. لأن الله عز وجل أخبرنا بالصفة ولم يخبرنا بالكيفية وطلب منا الإيمان بها ولا تنافي في ذلك لأن هناك أشياء عديدة نؤمن بها من مخلوقات الله ونحن لا نعرف كيفيتها، منها الروح التي في الإنسان فإن الإنسان عاجز عن معرفة كنهها وحقيقتها مع أن الإنسان يحس بها ويشعر بها وقد أخبرنا الله بها في قوله: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء85] فأخبرنا عن الروح ولم يعطنا عن كيفيتها علما فنحن نؤمن بها بدون أن نعرف كيفيتها وهذا لا يقدح في إيماننا بها. فكذلك ولله المثل الأعلى صفات الله عز وجل فجهلنا بكيفيتها لا ينفيها ولا يقدح في إيماننا بها. 3 - أن من تكلم في الكيفية فقد افترى على الله عز وجل. وذلك أن الله أخبرنا عن صفاته ولم يخبرنا عن كيفيتها فبالتالي من كيّف صفات الله فقد افترى على الله عز وجل وقفا ما ليس له به علم، قال جل وعلا: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء36] . 4 - أن من زعم أن السلف فوضوا علم المعنى فقد أخطأ عليهم. من النصوص السابقة يتبين لنا أن السلف أثبتوا الصفات إثباتا تاما وفوضوا علم الكيفية ونهوا عن الكلام في الكيفية فمن زعم أنهم مفوضة في الصفات بمعنى أنهم فوضوا علم معنى الصفة فقد كذب عليهم وافترى عليهم كما هو دعوى كثير من أهل الكلام من المعتزلة والأشاعرة الذين ينسبون إلى السلف تفويض معنى الصفات بمعنى أن تكون الآية والحديث الواردة في ذكر صفة من الصفات من الكلام الذي لا يعرفون معناه بل يفوضون علمه إلى الله عز وجل, وهذا خطأ عليهم وكلامهم السابق والكتب المصنفة في ذلك ظاهرة الدلالة على أن التفويض إنما هو في الكيفية وليس المعنى.

مناهج المخالفين للسلف في الصفات

مناهج المخالفين للسلف في الصفات أولا: الممثلة ... مناهج المخالفين للسلف في الصفات خالف السلف في الصفات فرقتان: الممثلة والمعطلة. وسنفرد الحديث عن كل واحدة منهما: أولا: الممثلة الممثلة هم كل من قاس صفات الله عز وجل بصفات خلقه عز وجل بأن جعل ذات الله عز وجل أو صفاته مثل صفات المخلوقين أو نص على التشبيه بأن يقول بصر كبصري وسمع كسمعي ونحو ذلك. هذا هو مراد السلف في إطلاق هذا الوصف وهو التمثيل. قال الإمام أحمد رحمه الله: "المشبهة تقول بصر كبصري، ويد كيدي، وقدم كقدمي، ومن قال ذلك فقد شبه الله بخلقه" 1. وقال نعيم بن حماد الخزاعي رحمه الله: "من شبه الله بشيء من خلقه فقد كفر، ومن أنكر ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه" 2. وقال إسحاق بن راهويه: "من وصف الله، فشبه صفاته بصفات أحد من خلق الله فهو كافر بالله العظيم".وقال: "علامة جهم وأصحابه: دعواهم على أهل السنة والجماعة ما ألهموا به من الكذب أنهم مشبهة بل هم المعطلة" 3، فعلى هذا يكون مراد السلف بالممثلة والمشبهة هم من نص على التشبيه والتمثيل. وهذا لا يعرف مذهب لمشهورين بعلم وديانة، وليس عليه فرقة معلومة، وإنما يعزى لأناس من غلاة الشيعة أو من المغمورين المجهولين، وممن يعزى إليهم ذلك:

_ 1 إبطال التأويلات /45. 2 العلو للذهبي ص116، شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي ص936. 3 شرح أصول اعتقاد أهل السنة ص937، وانظر شرح الطحاوية ص85.

هشام بن الحكم وهو من الرافضة الإمامية: فيعزى إليه أنه قال: إن الله جسم ذو أبعاض، وله مقدار هو سبعة أشبار بأشبار نفسه. وهشام بن سالم الجواليقي وهو من الرافضة ويعزى إليه القول: بأن الله تبارك وتعالى جسم على صورة الإنسان أعلاه مجوف وأسفله مصمت1. كما يعزى التشبيه والتمثيل إلى الكرامية أتباع محمد بن كرام السجستاني. ولا يتضح في قوله التشبيه، وإنما يظهر فيما نقل عنه من الأقوال خطأ لا يصل إلى حد التشبيه والتمثيل. ومن ذلك أنه نسب إليه القول: بأن الله جسم كالأجسام وليس ذلك ممتنعا دائما، وإنما الممتنع أن يشابه المخلوقات فيما يجب ويجوز ويمتنع. كما يعزى إليه وصف الله عز وجل بالصفات الفعلية التي تتعلق بها المشيئة والإرادة إلا أنه يزعم أن الله يوصف بها بعد أن لم يكن موصوفا بها وفي هذا يقولون: إن الله تكلم بعد أن لم يكن متكلما2. هؤلاء هم الممثلة على العموم في عرف السلف وهم من أطلقوا وصف التشبيه ونصوا عليه. وهذا خلاف مراد المعطلة من هذا الوصف: فإن المعطلة من الجهمية والمعتزلة والأشعرية والماتريدية يطلقون هذا الوصف على كل من خالفهم في إثبات ما ينكرونه من الصفات. فالمعتزلة يصفون كل من أثبت شيئا من الصفات أو أثبت الرؤية أو لم يقل بخلق القرآن أنه مشبه 3، فيدخل في ذلك السلف الذين يثبتون سائر الصفات، كما يدخل فيه أيضا الأشعرية الذين يثبتون بعض الصفات.

_ 1 الفرق بين الفرق، ص227، الملل والنحل 1/105. 2 مجموع الفتاوى 6/36، 524. 3 انظر شرح الأصول الخمسة ص183 حيث وصف أبا الحسن الأشعري بأنه وقح وغير مبال بالإسلام والمسلمين لأنه أثبت بعض الصفات وهو العلم والقدرة والإرادة، وانظر كتاب العدل والتوحيد ونفي التشبيه ص133 ضمن رسائل العدل والتوحيد.

أما الأشعرية والماتريدية فيطلقون هذا الوصف على كل من أثبت شيئا من الصفات الذاتية التي ينكرونها مثل الوجه واليد والقدم. وكذلك الصفات الفعلية التي ينكرونها أيضا جملة وتفصيلا وذلك مثل العلو والاستواء والإتيان والغضب والرضى ونحو ذلك، ويزعمون أن من وصف الله بشيء من ذلك فقد جسم الله ومثله وشبهه ووصفه بصفات الحدوث والنقص1. ولا شك أن كل ذلك من الضلال والانحراف: لأن الله عز وجل قد أثبت لنفسه الصفات وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم, ونفى الله عن نفسه التمثيل في مثل قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى11] فعلم أن المثبت إنما وافق القرآن ثم إنه إذا صرح بنفي التمثيل والتشبيه بين صفات الخالق وصفات المخلوق. فبأي وجه يطلق عليه أنه مشبه أو ممثل وهو ينفيه ويرده ويبطله، كما نفاه الله وأبطله. لا شك أن ذلك من الكذب على مثبتة الصفات من السلف ومن وافقهم ومن الاعتداء والظلم لهم بوصفهم بهذه الصفات الشنيعة، وهذا إنما هو من التشنيع عليهم بالباطل والمعطلة أحق بهذا التشنيع والوصف كما قال أبو حاتم الرازي رحمه الله: "وعلامة أهل البدع الوقيعة في أهل الأثر، وعلامة الزنادقة تسميتهم أهل السنة حشوية يريدون إبطال الأثر وعلامة الجهمية تسميتهم أهل السنة مشبهة" ثم قال: "ولا يلحق أهل السنة إلا اسم واحد ويستحيل أن تجمعهم هذه الأسماء" 2. منهج الممثلة: يتضح من منهج الممثلة على العموم أنهم يرون أن ما ورد عن الله عز وجل أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم من النصوص الدالة على الصفات إنما هو على ظاهرها الذي يعرف عن المخلوقات. فاعتبروا الصفات من جنس صفات المخلوقين فقالوا

_ 1 انظر الإرشاد للجويني ص58. 2 شرح أصول اعتقاد أهل السنة 1/179.

بالتمثيل. وبطلان هذا ظاهر واضح فإن الله عز وجل قد نص على إثبات الصفات ونفي التمثيل، فلا يسع المسلم غير ذلك. كما أن المخلوق صفاته ناقصة فتشبيه الخالق تبارك وتعالى بالمخلوق هو تنقص للخالق وطعن فيه سبحانه وتعالى عما يصفون.

ثانيا المعطلة

ثانيا المعطلة: المعطلة هم كل من ينفي عن الله عز وجل صفاته كلها أو بعضها فهم معطلة بحسب ما ينفون من صفات الله عز وجل. وهذا يصدق على الجهمية والفلاسفة والمعتزلة والأشعرية والماتريدية ومن أخذ بقولهم مثل الرافضة والزيدية والإباضية، لأن كل فرقة من هؤلاء عطلوا صفات الله عز وجل وأبطلوا دلالة النصوص على الصفات إما مطلقاً أو أثبتوا بعضاً وأنكروا بعضاً كما سيأتي: وقبل أن ندخل في تفصيل أقوال المعطلة نشير إلى أن منهجهم العام الذي التزموه في صفات الله عز وجل. وهو: اعتقادهم أن الله تبارك وتعالى ليس له صفة في حقيقة الأمر, أو اعتقاد بعضهم عدم اتصافه ببعض الصفات, وهي التي لايثبتونها, ثم هم بناء على ذلك نفوا المعاني الصحيحة لنصوص الصفات كلها, عند من ينفي كل الصفات, أو بعضها عند من ينفي بعض الصفات.1 بمعنى أن المعطلة اعتمدوا نفي صفات الله عز وجل كلها أو بعضها ثم جاءوا على نصوص الصفات الواردة في الشرع فأبطلوا دلالتها على الصفات. المعطلة أصناف: الصنف الأول:غلاة المعطلة. وهم: نفاة الصفات، وهم الفلاسفة والجهمية والمعتزلة. أما الفلاسفة فهم على قولين: 1 - الفارابي وابن سينا ونحوهم:

_ 1 انظر الصواعق المرسلة 1/164.

هؤلاء ينفون صفات الله عز وجل ولا يثبتون إلا وجوداً مطلقاً خال عن كل وصف1 يقول الفارابي: "وإذا وصف بوصف من الصفات فإنها لا تدل على المعاني التي جرت العادة أنها تدل عليها وإنما هي صفات مجازية لا يدرك كنهها إلا بالتمثيل وليس هو شيئاً من الأشياء بعده" 2. ومثله ابن سينا يقول عن الله عز وجل: "إنه لا جنس له ولا ماهية 3 ولا كيفية ولا كمية ولا أين، وهو يوصف بسلب المشابهات عنه وبإيجاب المضافات كلها إليه وليس هو شيئاً من الأشياء بعده"4. 2 - ومن الفلاسفة أيضاً: الباطنية كالإسماعيلية والقرامطة، الذين ينفون سائر الصفات إلا أنهم يزيدون عن الفلاسفة الآخرين فساداً بزعمهم نفي النقيضين عن الله عز وجل فيقولون: لا نقول موجود ولا ليس موجود، ولا عالم ولا جاهل، ولا قادر ولا عاجز، ولا موصوف ولا ليس بموصوف5. أما الجهمية فالمنقول عنهم نفي صفات الله عز وجل, فجهم يرى أن الله تعالى: لا يجوز أن يوصف بصفة عليها خلقه6.كما يقول: إن الله لا يقال إنه شيء لأن الشيء هو المخلوق الذي له مثل. وهو ينفي سائر أسماء الله عز وجل ولا يثبت إلا الخالق

_ 1 من المعلوم أن الوجود المطلق الخالي عن كل وصف هو وجود ذهني بمعنى أنه موجود فقط في الخيال ولا وجود له في الحقيقة والخارج بمعنى أنه لا ذات له يمكن أن يطلق عليها أنها موجودة. 2 انظر تاريخ الفلسفة الإسلامية ص 209. 3 الماهية هو ما يقال في جواب ما هو؟ وبمعنى آخر يقصد بها الذات. 4 الشفا لابن سينا 1/368. 5 الكافية ضمن ثلاث رسائل إسماعيلية لعارف ثامر ص 45، راحة العقل للكرماني الإسماعيلي ص 131،147،نهاية الإقدام للشهرستاني ص 128. 6 الملل والنحل للشهرستاني ص 73.

والقادر لأن المخلوق عنده لا يوصف بالقدرة إلا مجازاً لأنه كان جبرياً يعتقد أن الإنسان لا قدرة له على الحقيقة 1. أما المعتزلة فيثبتون الأسماء لله عز وجل كما أنهم يثبتون لله عز وجل الذات وينفون عنه سائر الصفات فيقولون إن الله يسمى عالماً لا بعلم وقادراً لا بقدرة وسميعاً لا بسمع. وعلى هذا إجماعهم ويصفونه عز وجل بصفات السلوب فيقولون ليس بجسم ولا صورة ولا شخص ولا جوهر ولا يتحرك وليس بذي جهات ولا يحيط به مكان وهو شيء لا كالأشياء2. فهذه الفرق الثلاث هي أهم فرق غلاة المعطلة الذين ينكرون وصف الباري تبارك وتعالى بالصفات،ومنهم من ينفي الذات بما يدعونه من وصفه عز وجل بالوجود المطلق،الذي هو الوجود الذهني فقط, وهؤلاء هم الفلاسفة والجهمية، ومنهم من يثبت الذات وينفي الصفات وهم المعتزلة. وغالبهم على قولين فيما ينسبونه إلى الله عز وجل وهما: 1 - السلب: وهو نفي ضد الصفة عنه مثل قولهم: ليس بجاهل ولا عاجز ولا طويل ولا جسم وليس له مكان ونحوها، وهذا هو الذي عليه جل الفلاسفة وجل المعتزلة. 2 - الإضافة: بمعنى أن ما يضاف إلى الله ليس على اعتبار أنه صفة وإنما على اعتبار أن الله علة وجوده وسبب وجوده مثل أن يقال إن الله علة العالم أي سبب جوده 3، وهو مثل قولك هذا ولدك فلا يعني أنه صفة لك وإنما يعني أنك سبب

_ 1 مقالات الإسلاميين 1/259، منهاج السنة النبوية 2/526-527. 2 انظر مقالات الإسلاميين 1/235، شرح الأصول الخمسة ص 182،196،200-201.وانظر المعتزلة وأصولهم الخمسة ص 84. 3 نهاية الإقدام للشهرستاني ص 127.

وجوده، ومن هذا الباب عندهم إذا قيل: علم الله فيعني, أن الله سبب وجود العلم وليس بمعنى أن الله موصوف بالعلم، وهذا القول مما يقول به بعض الفلاسفة. الصنف الثاني: الأشاعرة والماتريدية. الذين يثبتون بعض الصفات وينفون البعض الآخر وهم: الأشاعرة والماتريدية: حيث يثبتون سبع صفات هي العلم والقدرة والحياة والإرادة والسمع والبصر والكلام النفسي1. ويسمونها الصفات العقلية نسبة إلى مصدر ثبوتها وهو العقل عندهم أما بقية الصفات وهي الصفات الخبرية والصفات الفعلية فينفونها عن الله عز وجل ويوجبون فيها إما: التأويل أو التفويض، وسنبين المراد بهما في الفقرات التالية:

_ 1 انظر اللمع للأشعري ص 10-15، الإرشاد للجويني ص 77-105، الاقتصاد من الاعتقاد للغزالي ص 85-88، نهاية الإقدام في علم الكلام للشهرستاني ص 181، شرح جوهرة التوحيد ص 105-131، شرح أم البراهين على السنوسية ص 16-22.

مسلك المعطلة في نصوص الصفات

مسلك المعطلة في نصوص الصفات. إن كل من نظر في القرآن الكريم أو السنة النبوية يجد أنهما يزخران بالنصوص الدالة على الصفات مما لا يدع للمسلم عذراً في الإعراض عنها أو تجاهلها وذلك من كثرتها ووضوحها. ولكن الشيطان قد تمكن من أهل الكلام حتى أعرضوا عن النصوص في هذا الباب ولم يحفلوا بها لأن بدعة التعطيل التي تمكنت من نفوسهم جعلتهم يظنون أن الله تبارك وتعالى لا يصح أن يوصف بالصفات1،بل اعتقدوا انحراف بل كفر من وصف الله عز وجل بالصفات التي ينكرونها مع ورودها في القرآن والسنة. يقول الرازي: إن من يثبت كونه تعالى جسماً متحيزاً مختصاً بجهة هل يحكم بكفره أم لا؟ للعلماء فيه قولان: أحدهما أنه كافر وهو الأظهر, هذا لأن

_ 1 الفتوى الحموية ص 6.

مذهبنا أن كل شيء يكون مختصاً بجهة وحيز فإنه مخلوق محدث, وله إله أحدثه وخلقه.1 وصار العقل هو مصدرهم في إثبات الصفات ومعرفة الله عز وجل وقد سبق ذكر قول عبد لجبار المعتزلي: "إن معرفة الله لا تنال إلا بحجة العقل "2، وقول الغزالي: "وكل ما ورد السمع به ينظر فإن كان العقل مجوزاً له وجب التصديق به… وأما ما قضى العقل باستحالته فيجب تأويل السمع به "3 وغيرهما. كما سبق بيان بطلان دعوى التعارض بين العقل الصحيح والنقل الصحيح دعوى تقديم العقل على النقل. ولأن مقصد المعطلة عموماً من الفلاسفة والجهمية والمعتزلة والأشعرية والماتريدية بالبراهين العقلية هي التخيلات العقلية والتصورات الذهنية التي وضعها فلاسفة اليونان الوثنيين وزعموا بناءً عليها أن الله عز وجل لا يصح أن يوصف بصفة ثبوتية،صار معتقد المتكلمين أن الله عز وجل لا يوصف بالصفات، أو يوصف ببعض الصفات وينفى عنه البعض الآخر إلا أن المأخذ في ذلك واحد وهو العقل غير المؤسس على الشرع. وبناءً عليه صار لهم في نصوص الشرع الكتاب والسنة إذا تعارضت مع أدلتهم ونتائجهم مسلكان هما: 1 - رد المعنى وذلك بالتأويل أو التفويض. 2 - رد النص وعدم قبوله.

_ 1 أساس التقديس ص 257. وقد سبق ذكر قول السنوسي إن أصول الكفر ستة وذكر منها: التمسك في أصول العقائد بظواهر الكتاب والسنة من غير عرضها على البراهين العقلية والقواطع الشرعية. شرح أم البراهين الكبرى ص 502. فهذا الكلام لا شك لم يصدر إلا لتغلغل البدعة في نفوسهم، واعتقادهم أن الله لا يصح أن يوصف بالصفات، فبناء عليه أن من أثبت الصفات فهو مجسم ومن جسم كفر, ونحو ذلك من الهذيان الذي لم يدل عليه دليل لا شرعي ولا حتى عقلي صحيح, ولكن الشبه إذا تعلقت بالقلوب قلبت موازين النظر ومنعته من رؤية الحق مع وضوحه وظهوره. 2 شرح الأصول الخمسة ص 88. 3 الاقتصاد في الاعتقاد ص 132، المستصفى 2/137-138.

قال الرازي: "اعلم أن الدلائل القطعية العقلية إذا قامت على ثبوت شيء ثم وجدنا أدلة نقلية يشعر ظاهرها بخلاف ذلك: إما أن يقال إنها غير صحيحة، أو يقال إنها صحيحة إلا أن المراد منها غير ظواهرها؛ ثم إن جوزنا التأويل اشتغلنا على سبيل التبرع بذكر التأويلات على التفصيل، وإن لم نجوز التأويل فوضنا العلم بها إلى الله تعالى "1، وسيأتي زيادة إيضاح لذلك. فهذا هو موقف عموم الفلاسفة المنتسبين للإسلام والمتكلمين من جهمية ومعتزلة وأشعرية وماتريدية من نصوص الصفات، فإن كانت من القرآن الكريم مما لا يستطيعون الطعن في ثبوته أولوه وغيروا معناه ليتفق مع مقصدهم وهو نفي دلالته على الصفة،أو توقفوا عن التأويل، وفوضوا علم المعنى إلى الله مع القطع بعدم دلالة النص على الصفة. وإن كانت الصفات واردة في شيء من الأحاديث النبوية زعموا كذباً وزوراً أنها مردودة بدعوى أن أحاديث الآحاد لا يؤخذ بها في العقائد أو أن العقائد لا تثبت بأحاديث الآحاد. المسلك الأول: رد المعنى: يرد المعطلة معنى النص بطريقتين: إما التأويل أو التفويض وبيان ذلك فيما يلي: أولاً: التأويل. التأويل في اللغة يتردد بين معنيين: الأول: مرجع الشيء ومصيره وعاقبته، الثاني: التفسير والبيان. وأضاف المتأخرون معنى آخر وهو: صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى محتمل مرجوح لعلة2.

_ 1 أساس التقديس ص 220-221. 2 انظر معجم مقاييس اللغة 1/160، تهذيب اللغة للأزهري 15/437،مختصر الصواعق 1/10.

أما في القرآن والسنة واستخدام السلف فلم يرد لفظ التأويل إلا على المعنيين الأولين وذلك مثل قوله عز وجل: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} [الأعراف53] والمراد بتأويله هنا ظهور حقيقته وذلك يوم يأتيهم الجزاء يوم القيامة، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لابن عباس: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل" 1 فعلم التأويل هو علم التفسير. ومن ذلك قول ابن جرير في تفسيره: "القول في تأويل الآية ... " ومراده تفسير الآية وبيان معنى ألفاظها وأحكامها 2. فهذان المعنيان هما الاستخدام الصحيح لكلمة التأويل ولكنها صارت في عرف المتأخرين خاصة بالمعنى الأخير وهو تحريف المعنى من معناه إلى معنى غير ظاهر لعلة وهذه العلة لا تعود في الغالب لمعنى شرعي؛ وإنما تعود إلى رأي وهوى، وهذا حقيقته تحريف كما يقول شيخ الإسلام: "فتأويل هؤلاء المتأخرين عند الأئمة تحريف باطل "3، وقال ابن القيم: "والتأويل الذي يخالف ما دلت النصوص، وما جاءت به السنة هو التأويل الفاسد" 4. أمثلة من التأويل الفاسد لدى المتكلمين: من الأمثلة التي استخدم المتكلمون التأويل فيها: تأويل الآيات المتضمنة للصفات. فالمعتزلة يؤولون سائر الصفات ويمنعون اتصاف الله عز وجل بصف ثبوتية، ويقولون إن اتصاف الله عز وجل بصفة من الصفات يؤدي إلى إثبات آلهة معه وإثبات الجسمية له وما إلى ذلك من الدعاوى فكل صفة من الصفات يؤولونها حتى لا

_ 1 المسند 1/266-314-328-335. 2 انظر درء تعرض العقل والنقل 1/14، الإمام ابن تيمية وقضية التأويل ص 34/35، جناية التأويل الفاسد، محمد أحمد لوح ص 1-12. 3 مجموع الفتاوى 13/296. 4 الصواعق المرسلة 1/187.

يقعون في التشبيه أو نحو ذلك، فيقولون إن المراد بالآيات الدالة على الصفات مثل الاستواء هو الاستيلاء،والرحمة هي إرادة الثواب،واليد القدرة، والعلم الإدراك والسمع والبصر هو الإدراك وهكذا سائر الصفات. أما الأشاعرة والماتريدية فاستخدموا التأويل أيضاً بنفس الطريقة التي استخدمها به المعتزلة إلا أنهم أكثر إثباتاً للصفات من المعتزلة, إلا أن ما يخالف قواعدهم فإنهم يؤولونه مثل قولهم في الاستواء الاستيلاء، واليد القدرة، والرحمة إرادة الثواب، والغضب إرادة العقاب، والوجه الذات، ونحو ذلك من التأويلات التي هي في الأصل تأويلات المعتزلة نفسها. بيان بطلان التأويل عند المتكلمين: المتكلمون عموماً تصوروا في أنفسهم تصوراً بالنسبة لله عز وجل ثم بناءً عليه أرادوا تطبيق هذا التصور على كلام الله عز وجل وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم الذي لا يشك عاقل أنه لا ينطبق على تصور المتكلمين وآرائهم وإنما هم في وادِ والشرع في واد آخر، فأرادوا أن يجمعوا بين الثرى والثريا ويطبقوا تصوراتهم على الشرع بتأويلاتهم الفاسدة، وقد نهى السلف رحمهم الله عن تأويل نصوص الصفات بل قد أجمعوا على إثباتها من غير تأويل وتحريف ومن ذلك قول الترمذي رحمه الله في كلامه عن حديث: "من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يصعد إلى الله إلا الطيب فإن الله يتقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبه كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل" 1 قال: "وقد قال غير واحد من أهل العلم في هذا الحديث وما يشبه هذا من الروايات في الصفات ونزول الرب تبارك وتعالى في كل ليلة إلى السماء الدنيا، قالوا: نثبت الروايات في هذا ونؤمن بها ولا يتوهم ولا يقال كيف، هكذا روي عن مالك وسفيان بن عيينة وعن ابن المبارك أنهم قالوا في هذه الأحاديث: أمروها بلا كيف، وهكذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة، وأما الجهمية فأنكرت هذه

_ 1 أخرجه البخاري في كتاب التوحيد باب قوله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} 13/415.

الروايات وقالوا هذا تشبيه وقد ذكر الله عز وجل في غير موضع من كتابه اليد والسمع والبصر فتأولت الجهمية هذه الآيات ففسروها على غير ما فسر أهل العلم وقالوا: إن الله لم يخلق آدم بيده، وقالوا: إن معنى اليد هاهنا القوة، وقال إسحاق بن إبراهيم راهويه: إنما يكون التشبيه إذا قال: يد كيد أو مثل يد، أو سمع كسمع أو مثل سمع، فإذا قال سمع كسمع أو مثل سمع فهذا التشبيه، وأما إذا قال كما قال الله تعالى: يد وسمع وبصر ولا يقول كيف ولا يقول مثل سمع لا كسمع فهذا لا يكون تشبيها وهو كما قال الله تعالى في كتابه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى11] 1. وقال الإمام أبو حنيفة رحمه الله في الفقه الأكبر: "وله يد ووجه ونفس كما ذكره الله تعالى في القرآن فما ذكره الله تعالى في القرآن من الوجه واليد والنفس فهو له صفات بلا كيف ولا يقال إن يده قدرته أو نعمته لأن فيه إبطال الصفة،وهو قول أهل القدر والاعتزال, ولكن يده صفته بلا كيف وغضبه ورضاه صفتان من صفاته تعالى بلا كيف" 2. ونقل الإجماع على عدم التأويل ابن عبد البر رحمه الله حيث قال: "أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة والإيمان بها وحملها على الحقيقة لا على المجاز "3. فهذا دليل على بطلان التأويل وضلال المؤولة ومخالفتهم لمنهج السلف. كما أن للتأويل الذي هو التحريف لوازم كثيرة باطلة تتضح لكل من تأمل تأويل هؤلاء المعطلة. ومن هذه اللوازم:

_ 1 سنن الترمذي 3/41. 2 الفقه الأكبر مع شرحه لملا علي القاري ص 33-34 وقد نقل عن فخر الإسلام وعن السرخسي ما يوافق ذلك أيضاً. 3 التمهيد 7/145.

1 - أن القرآن والسنة ليسا كتابي هداية بل ضلال على زعمهم وذلك أنهم زعموا أن جميع ما فيها من الصفات ليس على ظاهره مما يؤدي إلى انحراف الخلق لعدم إدراك كثير من الناس للتأويل الذي يصرف الكلام عن ظاهره، حتى أتى المتكلمون فبينوا لهم أوجه التأويل التي تبطل دلالة اللفظ الظاهر. 2 - يلزم من قولهم بالتأويل عجز الله تبارك وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم عن التعبير الصحيح حيث تكلم بما ظاهره خلاف الحق. وذلك أن آيات وأحاديث الصفات لا تكاد تحصر كثرة وعلى زعم المتكلمين أنها ليست على ظاهرها، فكان الأولى عدم تركها بدون بيان، وتركها هكذا بدون بيان وتحذير من الأخذ بظواهرها إما دليل على العجز عن التعبير الصحيح أو عدم الرغبة في الهداية وكلاهما منتف عن الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم. 3 - أن دعوى أن نصوص الصفات ظاهرها باطل, وأن الحق هو في تأويلات المتكلمين وتخرصاتهم مؤد إلى أن ترك الناس بدون وحي في هذا أسلم لهم من أن يكون الوحي مضلاً لهم ومبعداً لهم عن الحق. 4 - يلزم من دعواهم في التأويل أن يكون الصحابة وأهل القرون الفاضلة إما جهلوا تلك التأويلات أو كتموها وذلك أنه لم يرد عن أحد منهم تلك التأويلات التي زعمها المتكلمون. ويلزم من هذا إما أنهم جهلوا تلك التأويلات ولم يعلموها ولازم هذا أن يكونوا اعتقدوا بظاهر تلك الصفات فاعتقدوا في الله الباطل، وإما أنهم علموا بها ولكنهم كتموها ولم يبينوها للأمة فيكونوا بذلك قد خانوا الأمة وكتموا علماً يحرم عليهم كتمانه خاصة أنه يتعلق بالتعريف بالله عز وجل وصفاته وأفعاله، وكل ذلك لا شك منتف عن خير الأمة وأئمتها وأفضل قرون أهل الإسلام. 5 - أن المتأول من هؤلاء المتكلمين لا يمكنه أن يبين الفرق بين ما يسوغ تأويله وما لا يسوغ تأويله من الآيات والأحاديث.

وذلك أن التأويل مبني على قواعد عقلية مخالفة للشرع، ولكل من المتكلمين من المعتزلة والأشعرية والماتريدية فضلاً عن الفلاسفة رأيهم ومنهجهم، فاختلفوا بناء على ذلك فيما يؤولونه ويحرفونه, فأول المعتزلة الصفات كلها وأول الأشعرية والماتريدية بعضها وأول الفلاسفة والباطنية الصفات والأفعال وحتى المعاد وأسماء الملائكة فبالتالي لا يستطيع أحد منهم أن يبين الفرق بين ما يسوغ تأويله وما لا يسوغ تأويله. 6 - أن المؤول لا يمكنه الرد على منكري البعث ولا على منكري الربوبية من الملاحدة الباطنية وذلك لأن آيات وأحاديث الصفات التي تسلط عليها المتكلم الضال بالتحريف الذي يسميه تأويلاً أكثر وأظهر من آيات البعث وآيات الربوبية ,كما أن المتكلم لا يرجع في تأويله إلى دليل شرعي إنما إلى نظر عقلي يعود إلى مشركي اليونان الوثنيين، فبالتالي لا يستطيع أن يقيم الحجة على منكري البعث ومنكري الربوبية الذين يرجعون في دعاويهم إلى القوم نفسهم. 7 - أن المتكلمين لم يرجعوا فيما اختلف فيه إلى الكتاب والسنة وإنما رجعوا إلى قوانين الصابئة والمشركين من الفلاسفة الوثنيين وجعلوا القرآن والسنة وراءهم ظهرياً وزعموا أنهم يريدون أن يوفقوا بين العقل والقرآن وصدق فيهم قول الله عز وجل: {بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً، فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً} [النساء60 - 62] 8 - أن التأويل الذي يزعمه المتكلمون للصفات مراعاة لما يسمونه التقديس أو التنزيه يلزم منه لازم مثله في الضلالة أو ربما أكثر منه،وذلك أن المتكلمين إنما أولوا الصفات التي يلزم منها عندهم الجسمية أو نحو ذلك, إلا أنه يلزمهم من

الباطل فيما أولوا أشد وأعظم مما فروا منه, فصفة العلو مثلاً نفوها فراراً من التجسيم, وقالوا: هو لا داخل العالم ولا خارجه, فإذا بهم ينفون وجود الله عز وجل لأن كل ما لم يكن داخل العالم ولا خارجه فلا وجود له أو يلزمهم أن يقولوا هو في كل مكان, فيلزم لذلك عدم تنزيهه عن مكان من الأماكن القبيحة والمستقذرة, وكذلك نفيهم للكلام, وزعم الأشاعرة أنه الكلام النفسي, فإن لازم ذلك وصفة سبحانه بالخرس الذي هو صفة نقص أما الكلام فهو صفة كمال،ولاشك أن هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة بأن يبتلى بضد ما قصد،,وماذا بعد الحق إلا الضلال1.

_ 1 انظر الفتوى الحموية ص 8-15، ومختصر الصواعق 1/10-129، وجناية التأويل الفاسد ص 30-39.

ثانيا: التفويض: يقصد به: اعتقاد عدم صحة دلالة ظاهر النص على الصفة وتفويض علم معنى النص إلى الله عز وجل. مثال ذلك:اليد والوجه والقدم ونحوها من الصفات فهي ألفاظ ليس لها معنى معلوم عندهم، وإنما الله تبارك وتعالى هو الذي يعلم مراده منها، مع الحذر من اعتقاد أنها تتضمن إثبات صفة اليد أو الوجه أو القدم، ويضيفون أيضاً أن هذا هو مذهب السلف. وهذا الذي رجع إليه الجويني في كتابه "العقيدة النظامية" وأوجبه1, مع أنه في كتابه "الإرشاد إلى قواطع الأدلة" يوجب تأويل الصفات حذراً من اللبس ووقوع الشبهات في الدين2. والغزالي جعل التفويض هو الذي يصار إليه مع العوام،فيزجروا عن تعلم معاني الصفات ويفهموا فقط أن الله ليس كمثله شيء3، وزعم أن هذا الموقف من العوام هو مذهب السلف وأنهم كانوا لا يطلعون العوام على علم معاني الصفات مع أنهم كانوا يعلمون ذلك, وبنى على ذلك كتابه "إلجام العوام عن علم الكلام"4.

_ 1 العقيدة النظامية في الأركان الإسلامية ص 32. 2 الإرشاد إلى قواطع الأدلة ص 60. 3 انظر الاقتصاد في الاعتقاد ص 36. 4 انظر إلجام العوام عن علم الكلام ص 54، 84.

أما المتأخرون من الأشاعرة فصاروا إلى أن كل نص فيه إثبات صفة لا يثبتونها، فعلى المسلم أ، يعتقد عدم ثبوتها أولاً, ثم بعد ذلك إما أن يؤول وإما أن يفوض إلى الله عز وجل علم المعنى 1. الرد عليهم في دعوى التفويض. الأشاعرة والماتريدية الذين يدعون التفويض وينسبون ذلك إلى السلف جمعوا بين تجهيل السلف والكذب عليهم كما أنهم متناقضون في هذه الدعوى وهذا يتبين مما يلي: 1 - إن ادعاء أن السلف كان مذهبهم تفويض المعنى تجهيل لهم وذم, لأن معنى ذلك أنهم كانوا كالأعاجم والأميين الذين لا يفهمون معاني الصفات, وإنما يقرؤون آيات القرآن ولا يدرون ماذا تعني, وهذا خلاف الحق الظاهر المشهود, فإن الثابت أن الصحابة رضوان الله عليهم تعلموا لفظ القرآن وتفسيره ونقلوه إلى من بعدهم. قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "والذي لا إله إلا غيره ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن نزلت وأين نزلت, ولو أعلم أحداً أعلم بكتاب الله مني تناله المطايا لأتيته". وعنه رضي الله عنه أيضاً أنه قال: "كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن". وعن مجاهد قال: "عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات من فاتحته إلى خاتمته أوقفه عند كل آية وأسأله عنها "2.

_ 1 انظر: أساس التقديس للرازي ص 221، حيث جعل النصوص المعارضة للعقل إما غير صحيحة فترد وإما صحيحة فيقطع بأن ظاهرها غير مراد ثم تؤول على سبيل التبرع، وإما يفوض علمها إلى الله عز وجل, وانظر شرح جوهرة التوحيد ص 153-154، وجاء فيها: وكل نص أوهم التشبيها أوله أو فوض ورم تنزيها 2 ذكر هذه الروايات الثلاث ابن كثير في مقدمة تفسيره 1/4-5.

فهذه النصوص تدل على أن الصحابة رضوان الله عليهم ما كانوا أميين جهلاء لا بالنسبة لنصوص القرآن ولا بالنسبة لآيات الصفات ومن ادعى أنهم يجهلون معاني النصوص فقد افترى عليهم. 2 - إن ادعاء أن السلف كانوا مفوضة للمعنى كذب عليهم أيضاً لأن كل من اطلع على النصوص عنهم أدرك أنهم اثبتوا معاني الصفات على الوجه اللائق بالله عز وجل ومن ذلك ما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت في أمر الإفك: "لشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله عز وجل فيَّ بأمر يتلى "1. وكذلك قولها رضي الله عنها الذي رواه البخاري: "الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات" 2. وكذلك قول زينب بنت جحش رضي الله عنها تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم الأخريات: "زوجكن أهاليكن وزوجني الله من فوق سبع سماوات" 3. وقول ابن عباس رضي الله عنه لما دخل على عائشة رضي الله عنها وهي في الموت: "كنت أحب نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب إلا طيباً وأنزل الله براءتك من فوق سبع سماوات" 4. وقال الأوزاعي إمام أهل الشام: "كنا والتابعون متوافرون نقول: إن الله على عرشه ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته "5. وقال الإمام الشافعي رحمه الله: "السنة التي أنا عليها ورأيت أصحابنا أهل الحديث الذين رأيتهم عليها فأحلف عنهم مثل سفيان الثوري ومالك وغيرهما

_ 1 أخرجه مسلم 4/2135. 2 أخرجه البخاري في التوحيد 13/384. 3 أخرجه البخاري في التوحيد 13/415. 4 المسند 1/276، الرد على الجهمية للدارمي ص 275. 5 تذكرة الحفاظ للذهبي صحيح الرواية 1/181.

الإقرار بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن الله على عرشه في سمائه يقرب من خلقه كيف يشاء وأن الله ينزل إلى سماء الدنيا كيف يشاء" 1. فهذا غيض من فيض في الدلالة على أن السلف كانوا يثبتون معنى الصفة ويفوضون في الكيفية وهذا ظاهر بحمد الله. 3 - إن المفوضة يستدلون لقولهم بالوقف على لفظ الجلالة في قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران7] .ويزعمون أن الصفات من المتشابه, وفي ذلك خطأ من أربعة أوجه: أولاً: أن نسبة التفويض إلى الشرع خطأ ظاهر لما سبق بيانه. ثانياً: ادعائهم أن الصفات من المتشابه وهذا لم يقل به أحد من السلف2. ثالثاً: أنهم يجعلون التفويض أحد الموقفين من النصوص،والموقف الآخر والذي عليه جلهم هو التأويل، فكيف ادعوا إسناد العلم إلى الله في هذا ثم يؤولون. رابعاً: أنهم يمنعون إطلاق الصفة الواردة في الآية وهذا معنى متعلق بالآية وهو عدم القول بالمعنى الظاهر، فادعاء أن هذا تفويض وتوقف في معنى الآية تناقض،لأنهم حددوا المراد إجمالاً إلا أنهم لم يحددوه تعييناً بمعنى أنهم نفوا المراد ثم لم يحددوا المراد، وهذا تناقض. ولو نظرنا في موقف العلماء من فواتح السور ممن لم يفسرها قالوا الله أعلم بمراده منها، فهم لم يحددوا أي مفهوم لها لا إجمالي ولا تفصيلي فهذا هو التفويض الصحيح للمعنى أما المتكلمون فدعوى التفويض عندهم متناقضة في نفس الصفة لما ذكرنا. 4 - إن ادعاء تفويض علم معنى الصفة إلى الله عز وجل فيه تفريغ لهذه الألفاظ الواردة في القرآن والسنة عن معانيها الظاهرة وإبطال لدلالتها على المعاني،وفي هذا

_ 1 عون المعبود 13/41، طبقات الحنابلة 1/283. 2 انظر: تفسير ابن جرير 3/172 فقد ذكر أن الأقوال في المتشابه إما أنه المنسوخ أو ما تشابهت معانيه واختلفت ألفاظه أو ما تشابهت فيه المعاني في القصص واختلفت ألفاظه, أو ما استأثر الله بعلمه من وقت نزول عيسى وطلوع الشمس من مغربها ومنهم من قال المقطع من أوائل السور.

من الطعن في القرآن والسنة ما فيه, لأن معناه أن الله عز وجل خاطبنا بكلام لا معنى له عندنا،ولا فائدة لنا فيه،بل هو كلام خال من أي فائدة،بل في زعمهم مضر لنا في ديننا، وحاشا كلام الله عز وجل وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون كذلك بل الأولى بهذه الأوصاف كلام المتكلمين وأضرابهم. ثانيا: ردهم للأحاديث النبوية في الصفات المعطلة لما اعتدوا على آيات الكتاب العزيز بالتحريف والتعطيل تسلطوا على أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم بالإلغاء والرد والإبطال فزعموا أنها أحاديث آحاد لا تقبل في العقائد، وفي هذا يقول عبد الجبار المعتزلي عن خبر الواحد: "يجوز العمل به إذا ورد بشرائطه، فأما قبوله فيما طريقته الاعتقادات فلا" 1. ويقول الرازي: "أما التمسك بخبر الواحد في معرفة الله تعالى فغير جائز "2. وهذا لاشك من الظلم والاعتداء والبغي والضلال ورد الحق لشبه عقلية وتصورات ذهنية ليست بشيء ولا على شيء، وقد رد ذلك علماء الإسلام وبينوا بطلانه وبينوا أن حديث الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول عملاً به وتصديقاً له يفيد اليقين عند جماهير الأمة3. ومما يبين بطلان دعوى المتكلمين أشياء عديدة منها: 1 - أن الصحابة رضي الله عنه وكذلك التابعين وأئمة الإسلام لم يفرقوا بين الأحاديث كما فعل المتكلمون،إنما كانوا إذا صح الحديث أخذوا به في العقائد والأحكام وإذا لم يصح ردوه في العقائد والأحكام، فعلى من زعم التفريق أن يثبت أن الصحابة أو التابعين كانوا يفرقون بين ذلك.

_ 1 شرح الأصول الخمسة ص 769. 2 أساس التقديس ص 215. 3 انظر مختصر الصواعق 2/362-433، شرح الطحاوية ص 501، خبر الواحد وحجيته ص 125-144.

2 - أن الله أرسل للناس رسلاً أفراداً فلو كان التواتر مشروطاً في إقامة الحجة ما قامت الحجة على الناس بإرسال أفراد من الرسل. 3- أن الله عز وجل قال: {إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات6] ،فعلل الرد بالفسق ومفهوم ذلك أنه إذا جاء العدل قبل قوله. 4- أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل رسله بكتبه إلى الملوك حول الجزيرة وهم أفراد،وقد قامت الحجة على أولئك بتلك الرسائل،كما أرسل أصحابه معلمين وولاة وقضاة مثل أبي موسى الأشعري ثم معاذ بن جبل ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى اليمن، كما أرسل قبل ذلك مصعب بن عمير إلى المدينة فدخل بدعوته كثير من أهلها، كما أرسل أبو عبيدة بن الجراح إلى نجران، فلو كانت العقائد لا تثبت بأخبار الآحاد لما صح ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم ولما أقره الله عز وجل عليه. 5- قول النبي صلى الله عليه وسلم: "نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها فرب مبلغ أوعى من سامع ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه" 1 فدعا للنفر الواحد بنقل الرواية ولم يفرق في ذلك بين عقيدة وشريعة وفي هذا كفاية والله أعلم.

_ 2 أخرجه د. في العلم من حديث زيد بن ثابت 2/126, ت. في العلم من حديث زيد وعبد الله بن مسعود. وقال عن حديث زيد: حسن, وقال عن حديث عبد الله: حسن صحيح 5/34.

الأصول التي بنى عليها المتكلمون نفيهم للصفات المتكلمون عموماً كما سبق بيانه اعتمدوا على أصول وقواعد سموها أدلة وبراهين عقلية زوراً وبهتاناً، وإنما هي تصورات ذهنية وخيالات وأوهام مستوردة من فلاسفة اليونان الوثنيين, ألبسها المتكلمون لباس الإسلام, وأدخلوها في صلب طريقتهم في معرفة الله عز وجل فأثمرت لهم نتائج فاسدة باطلة مخالفة لكلام الله عز وجل وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم بل مخالفة للعقل السليم. ومن أهم القواعد التي قعدوها في باب معرفة الله عز وجل هو: اعتمادهم على العقل في معرفة الله عز وجل وبناء عليه جعلوا الشرع تابعاً له لا متبوعاً, وهذا منهم التزام بمسلك الفلاسفة الذين راموا التعرف على الله عز وجل بالعقل, فتوصلوا بناءً على النظر في المخلوقات إلى أن الكون مكون من مادة وصورة, وأنها قديمة أزلية وأن هناك موجودا أعلى هو الذي تولى ترتيبها وانبثاق المخلوقات منها وهذا الموجود يزعمون بأنه: "عقل أوحد لا يتغير ولا يتحرك" وهو أزلي لا بداية لوجوده. فدرج المتكلمون على هذا المدرج فراموا إثبات وجود الله عز وجل من خلال النظر في مخلوقاته بالطريقة التي سلكها الفلاسفة, وقالوا بما قال به الفلاسفة من تقسيم المخلوقات إلى مادة وصورة إلا أنهم جعلوا بدل المادة الجوهر أو الجسم وبدل الصورة العرض، وخالفوهم بأن قالوا: بحدوث الجواهر والأعراض، بخلاف دعوى الفلاسفة الذين قالوا بقدمها. وحتى يثبت المتكلمون وجود الله عز وجل استخدموا مايسمونه: دليل حدوث الجواهر والأجسام والأعراض, وحتى يقرروا ذلك قدموا بست مقدمات - وقد سبق ذكرها في الفصل الأول - توصلوا من خلالها إلى إثبات حدوث الأجسام،ثم قرروا بناء على ذلك أن لها محدثا هو الله عز وجل, إلا أن هذا الطريق أوصلهم إلى أن نفوا عن الله عز وجل كل ما جعلوه دليلا على حدوث الأجسام أو الأعراض فأداهم ذلك إلى أن قالوا بمثل دعوى الفلاسفة في الله من أنه: عقل أوحد لا يتغير ولا يتحرك, وهم وإن لم يعبروا بهذا التعبير نفسه فإنهم التزموا مدلوله وهو أن الله لا يمكن أن يكون جسماً.

وهذا يتفق مع قول الفلاسفة: إنه عقل, كما أنه لا يمكن أن يفعل الشيء متى شاء, وهذا يتفق مع قول الفلاسفة: إنه لا يتغير ولا يتحرك, كما أن المعتزلة منهم أنكروا صفاته بناءً على أنه واحد وهو قول الفلاسفة إنه أوحد, وهذا كله حتى يسلم لهم الدليل الذي استدلوا به على وجود الله عز وجل وحدوث العالم1, فالتزموا حيال هذا الدليل التزامات صارت من أهم شبههم في نفي صفات الله عز وجل, نذكر بعضاً منها وهي: 1 - أن إثبات الصفات يلزم منه التعدد أو ينافي الوحدانية. 2 – أن إثبات الصفات يلزم منه التجسيم. 3 – أن إثبات الصفات يلزم منه وصف الله بالحدوث أو حلول الحوادث في ذاته تبارك وتعالى. 4 - أن إثبات الصفات يلزم منه المماثلة بين الخالق والمخلوق. وسنشير بإ شارات مختصرة إلى هذه الشبه ونبين بطلانها: الشبهة الأولى: أن إثبات الصفات ينافي الوحدانية ويلزم منه التعدد. هذا الشبهة أخذ بها المعتزلة،حيث زعموا أن وحدانية الله تعني أنه واحد في ذاته وحدانية مطلقة, وهذه الوحدانية عندهم تتنافى مع إثبات الصفات, يعني أن كل صفة ذات مستقلة, فيلزم من ذلك وجود ذوات بعدد الصفات, وهذا منتف عن الله عز وجل،فبالتالي لابد من نفي الصفات حتى لا تتعدد الذوات بتعدد الصفات2. الرد عليهم: هذا قول باطل وتصور باطل من عدة أوجه وهي: 1 - أن هذه الدعوى باطلة،لأن من البديهي أن كل ذات لابد لها من الصفات وأنه ما من موجود إلا وله صفات والذي ليس له صفة هو ما ليس بموجود وهو المعدوم.

_ 1 قد سبق أن بينا بطلان هذا الطريق وهذا الدليل. 2 انظر كلام عبد الجبار المعتزلي في شرح الأصول الخمسة ص 195.

2 - أن المعتزلة أثبتوا صفة الوجود لله عز وجل فيلزمهم في ذلك إثبات ذات معه تسمى الوجود. 3 - أن الوحدانية التي ذكروها وهي الذات الخالية من الصفات هو توحيد الفلاسفة, الذين زعموا أن الله لا يصح أن يوصف بأي صفة لأنه واحد من كل وجه، لا عقلي ولا شرعي وإنما هو قول مبني على وهم وخيال. 4 - أن الله عز وجل أثبت الوحدانية وأثبت الصفات في آياته المنزلة ووحيه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، كما أن آيات الله في الكون تلجئ اضطراراً إلى إثبات خالق موصوف بصفات الكمال حتى يتأتى إيجاد هذا الكون وإلا امتنع وجود الكون، وهذا ظاهر واضح فكل دعوى تنفي ذلك فهي وهمية باطلة. الشبهة الثانية: نفي الجسمية. المتكلمون عموماً ردوا كثيراً من الصفات الذاتية مثل العلو والوجه واليد والقدم وغيرها،وزعموا أن إثبات هذه الصفات إما دليل على الجسمية أو من خصائص الأجسام فبالتالي لا يمكن إثباتها لله تبارك وتعالى لأن الله عندهم ليس بجسم ولا يقوم به ما هو من خصائص الأجسام1. الرد عليهم: 1 - أن دعوى أن الله عز وجل ليس بجسم هو وصف لله عز وجل أو هو قاعدة أساسية عندهم في صفات الله لأنه بني عليها اعتقادات عديدة متعلقة بصفات الله عز وجل, ومع ذلك

_ 1 انظر الإرشاد للجويني ص 150: حيث جعل المانع من وصفه بالنزول أن ذلك من صفات الأجسام، وانظر الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي ص 30: حيث نفى العلو بناءً على أن الجهة من صفات الجواهر، وانظر إلجام العوام عن علم الكلام ص 54: حيث جعل أول الواجبات تجاه أحاديث الصفات اعتقاد تنزيه الله عز وجل عن الجسمية وتوابعها, والرازي في أساس التقديس ص 15 وما بعدها, بنى الكتاب كله في نفي صفات الله عز وجل بناءً على نفي الجسمية.

فلم ترد في الكتاب ولا في السنة، حيث لا يوجد فيهما نص واحد ينفي عن الله عز وجل الجسمية، واستدلال الرازي لنفي الجسم عن الله بقوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص1] , وزعمه بأن لفظة "أحد" تعني ليس بجسم1،هو استدلال سخيف يتنافى مع اللغة والشرع فإن "أحد" في اللغة هو: الواحد وهو الأول في العدد وهو المنفرد, وبالنسبة لله عز وجل فالواحد والأحد ذو الوحدانية2. ووحدانية الله عز وجل ثابتة له جل وعلا،كما أثبتها الشرع من جميع النواحي فهو واحد في ذاته تبارك وتعالى وواحد في صفاته لا شبيه له وواحد في أفعاله لا معين له وواحد في عبادته لا شريك له. 2 - أن نفي الجسم عن الله هو دعوى الفلاسفة الذين زعموا أن الله تبارك وتعالى "عقل" ومرادهم بذلك أنه لا ذات له سبحانه، لأن مرادهم بالعقل هو الفكر أو الشيء المعقول، وهذا إذا تمعن فيه العاقل أدرك أنه حديث خرافة لا شرع ولا عقل، فأخذ المتكلمون بهذا وجعلوه قاعدة أساسية وكأنما هو تنزيل من حكيم حميد، وحقيقته دعوى فلسفية ظنية وهمية تخرصية. 3 - أن التجسيم إثباتا أو نفيا لم يرد في الكتاب ولا في السنة وإنما هو لفظ مبتدع فأول من ابتدعه إثباتا هشام بن الحكم الرافضي بقوله إن الله جسم، وأول من نفاه عن الله عز وجل الجهم ابن صفوان3 الترمذي، أما السلف فلا يثبتونه ولا ينفونه، فليس لأحد أن يتهمهم به كما أنه ليس لأحد من الناس أن ينفي ما ثبت بالشرع من الصفات بلفظ مبتدع مختلف في معناه إلى ثلاث عشرة مقالة كما ذكر أبو الحسن الأشعري4.

_ 1 أساس التقديس ص 30. 2 اللسان 2/450. 3 مجموع الفتاوى 6/40-43. 4 مقالات الإسلاميين 2/4-8.

4 - أن نفي التجسيم على الكيفية التي يطلقها المتكلمون أدى إلى نفيهم سائر صفات الله عز وجل الذاتية الثابتة بالكتاب والسنة ,وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على كذب هذه الدعوى وبطلانها لأنها معارضة لما ثبت في القرآن والسنة, فإما أن نثبت دعوى المتكلمين بنفي الجسم فننفي صفات الله عز وجل وهذا أعظم الضلال، وأما أن نثبت ما في القرآن والسنة من الصفات وننفي تلك الدعوى ونبطل الكلام فيها نفيا وإثباتا، وهذا هو الحق. الشبهة الثالثة: نفي حلول الحوادث. المتكلمون عموماً نفوا الصفات الفعلية عن الله عز وجل, وذلك مثل الكلام والنزول والاستواء والإتيان والضحك والرضى والغضب، وغير ذلك من الصفات المتعلقة بمشيئة الله وإرادته وأنه يفعلها عز وجل متى شاء، وحجتهم في ذلك أن هذا يؤدي إلى حلول الحوادث بمعنى أنه فعل فعلاً بعد فعل وهذا حدوث وتغير عندهم وكل متغير حادث والله منزه عن الحوادث كما أنه مؤد إلى أن الله تحل به الحوادث والله منزه عن ذلك1، هكذا على العموم زعموا. الرد عليهم: 1 - إن دعوى أن الله عز وجل لا يفعل الشيء بعد الشيء أو لا يفعل متى شاء وهو ما يسمونه نفي الحوادث دعوى لا دليل عليها من الكتاب ولا من السنة بل الأدلة كلها على خلافها, واستدلال بعض المتكلمين بقصة إبراهيم الخليل عليه السلام وقوله: {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} [الأنعام76]- فزعموا أن الأفول معناه: التغير والتحرك وهو منفي عن الله عز وجل بدلالة هذه الآية - هو استدلال خاطئ ظاهر البطلان، لأن الأفول في اللغة الاحتجاب والمغيب2، وليس التغير

_ 1 انظر الغنية في أصول الدين ص 81, والاقتصاد في الاعتقاد ص 74-75 عند كلامه على صفة الكلام وإيجابه الكلام النفسي ومنعه أن يكون الله يتكلم بمشيئته, وانظر ص 91 في كلامه على أن صفات الله قديمة, وانظر المواقف للإيجي ص 275، والماتريدية دراسة وتقويما ص 300-303. 2 انظر معجم مقاييس اللغة 1/119، تهذيب اللغة للأزهري 15/378.

والحركة، وإبراهيم عليه السلام كان يحاجهم في الألوهية وليس في صفات الله عز وجل ولا في وجوده. 2 - أن دعوى المتكلمين نفي حلول الحوادث هو عين دعوى الفلاسفة في أن الله: "لا يتغير ولا يتحرك" أخذها المتكلمون وسموها: نفي حلول الحوادث, وهي دعوى باطلة شرعاً كما أنها باطلة عقلاً، إذ لازمها أن الله عز وجل جماد أو ميت فإن الجماد والميت هو الذي لا يتأتى منه الفعل أو الحركة. 3 - أن إثبات أن الله عز وجل هو الخالق والمتصرف في هذا الكون ينفي تماماً هذه الدعوى ويبطلها لأن لازم ذلك أنه يفعل ما يشاء وقت ما يشاء وهذا حدوث, فمن نفى الأفعال المتعلقة بالمشيئة والاختيار، على اعتبار أنها حوادث فعليه أن ينفي الخلق والتدبير, ومن قال بذلك فقد كفر. 4 - إن دعوى المتكلمين إن حدوث الحوادث تغير والتغير على الله محال تلاعب بالألفاظ غير صحيح، لأن التغير هو أن ينقلب حال الإنسان من حال إلى حال بأن يكون صحيحاً فيصبح مريضاً أو يكون صالحاً فيصبح عاصياً أو يكون عاصياً فيصبح صالحاً. هذا غالب ما يطلق عليه التغير في اللغة والشرع, أما إذا كان الإنسان مصلياً فصلى الصبح ثم صلى الظهر لا يقال تغير أو كان متكلماً ثم سكت ثم تكلم لا يقال لهذا تغير1. فيثبت من هذا أن دعوى المتكلمين بأن حلول الحوادث تغير كلام باطل وتحميل للألفاظ فوق ما تحتمل. 5 - إن دعوى نفي الحوادث دعوى لم ترد في الكتاب ولا في السنة فهي مبتدعة بل إن الكتاب والسنة على خلافها، ومن يدعي نفي حلول الحوادث عن الله عز وجل ينفي عنه بذلك سائر صفاته الفعلية الاختيارية مثل الاستواء والنزول والرضى والفرح والمجيء ونحو ذلك فكيف يصح لمسلم أن ينفي ما ثبت قطعاً في الكتاب والسنة بألفاظ مبتدعة.

_ 1 انظر مجموع الفتاوى 6-249.

الشبهة الرابعة: نفي مشابهة المخلوقات. المعطلة تصوروا أن إثبات صفات الله عز وجل يلزم منه مشابهة الخالق للمخلوق فأداهم هذا التصور إلى نفيها زاعمين أن إثباتها تشبيه. الرد عليهم: 1 - أن إثبات الصفات ليس فيه مماثلة ولا مشابهة وقد سبق أن بينا ذلك عند ذكر قواعد السلف في الصفات. 2 - أن ما أثبته المعتزلة من الوجود والذات وما أثبته الأشاعرة والماتريدية من الصفات مثل السمع والبصر ونحوها، يلزمهم فيه مثل ما نفوا لأن المخلوقات توصف بتلك الصفات فيلزمهم نفي ما أثبتوا،فإذا قالوا إن وصف الله عز وجل بتلك الصفات على صفة لا تشبه المخلوق،فكذلك ما يتعلق بتلك الصفات التي نفوها فإن إثباتها على صفة لا تشبه صفة المخلوق. 3 - أن الله تبارك وتعالى هو الذي ذكر الأمرين عن نفسه, وهما الإثبات ونفي التمثيل والمشابهة في قوله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى11] . فلا يسع المسلم إلا إثبات الصفات ونفي التمثيل، ومن أخذ بجزء من الآية ونفى الجزء الآخر بلا دليل شرعي كان هذا إيمانا ببعض الكتاب وكفرا بالبعض الآخر. 4 - أن دعوى نفي المشابهة بين الخالق والمخلوق،مع الغلو فيها هي دعوى الفلاسفة الذين نفوا عن الله تبارك وتعالى كل الصفات حتى الوجود الحقيقي من أجل نفي المماثلة وهي دعوى وهمية تخرصية كما أنهم متناقضون فيها لأنهم زعموا: أن العقل الأول وجد على شبه الموجود الأول الذي هو الله وأن الشيء لا يوجد إلا شبيهه وهذا تناقض واضح، فنفي وجود الله من أجل نفي المشابهة ثم إثبات التشابه التام بين الله وما يسمونه: العقل الأول،كلام متناقض تافه.

حكم مرتكب الكبيرة عند أهل السنة

حكم مرتكب الكبيرة عند أهل السنة مدخل ... حكم مرتكب الكبيرة عند أهل السنة الذنوب عند أهل السنة صغائر وكبائر. والكبيرة عند أهل السنة: هي كل ذنب ختم بعذاب أو لعن أو عقوبة في الدنيا. وقيل: إنها ما أوجبت حداً في الدنيا أو حداً في الآخرة. والصغائر: ما لم يكن فيها ذلك. وعند أهل السنة أن الكبائر لا تنقض الإيمان ولا تنافيه فعليه فمرتكب الكبيرة لا يخرج من الإيمان، وقد سبق الإشارة إلى ذلك عند الحديث عن تعريف الإيمان عند السلف. أما حكمه في الآخرة فإن مرتكب الكبيرة إذا مات وهو مصر على شيء من الكبائر فهو تحت المشيئة، إن شاء الله غفر له وإن شاء عذبه، ولا يخلد في النار أحد من أهل الإسلام. والأدلة على ذلك كثيرة منها: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء48] , فجعل الله ما دون الشرك تحت المشيئة. وكذلك حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا،ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم, ولا تعصوني في معروف, فمن وفى منكم فأجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب في الدنيا فهو كفارة له ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله فهو إلى الله إن شاء عاقبه وإن شاء غفر له" 1. فهذه النصوص تدل على أن مرتكب الكبيرة إذا لم يتب فهو تحت المشيئة وقد وردت كذلك النصوص العديدة تبين أن الله تبارك وتعالى يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان:

_ 1 أخرجه البخاري مع الفتح 1/14.

منها حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال،قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن برة من خير, ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير " 1. وفي رواية إيمان بدل خير. وكذلك حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ثم يقول الله تعالى: أخرجوا من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان فيخرجوا منها قد اسودوا فيلقون في نهر الحيا أو الحياة فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل، ألم تر أنها تخرج صفراء ملتوية" 2. فهذه النصوص وغيرها كثير تدل على أن مرتكب الكبيرة لا يخلد في النار في الآخرة.

_ 1 أخرجه البخاري مع الفتح 1/103. 2 خرجه البخاري مع الفتح 1/72.

التكفير عند أهل السنة

التكفير عند أهل السنة تعريف الكفر والتكفير: الكفر لغة: مأخوذ من الستر والتغطية. والكفر شرعاً: ضد الإيمان.1 والتكفير: هو الحكم على أحد من الناس بأنه قد خرج من الإسلام, ووصفه بوصف الكفر, لإتيانه بما يوجب كفره. خطورة التكفير: والتكفير أمره عظيم وخطره جسيم, وهو بغي شديد. يقول ابن أبي العز الحنفي: "فإنه من أعظم البغي أن يشهد على معين أن الله لا يغفر له ولا يرحمه بل يخلده في النار".2 فالحكم على معين بالكفر يترتب عليه أمور في الدنيا وأمور في الآخرة: أما أمور الدنيا فيترتب عليه قطع الأخوة الدينية بينه وبين إخوانه المسلمين, وفسخ نكاحه, ومنع التوارث بينه وبين قرابته المسلمين, كما يوجب شرعاً قتله للردة, لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا يحل دم امريء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني, والنفس بالنفس, والتارك لدينه المفارق للجماعة".3 أما أمور الآخرة فهي أخطر وأعظم, وهي حرمان الإنسان من رحمة الله تعالى والخلود في النار, وقطع رجائه من الخروج منها, وعدم استحقاقه للشفاعة. كما قد ورد الوعيد الشديد لمن وصف أحداً من المسلمين بالكفر, وهو ليس بكافر، وذلك كما في حديث ابن عمر رضي الله عنه: "أيما امريء قال لأخيه يا كافر فقد

_ 1 انظر: الكليات ص763, المعجم الوسيط 2/792. 2 شرح الطحاوية 2/436. 3 مسلم. القسامة 3/1302 من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

باء بها أحدهما إن كان كما قال وإلا رجعت إليه". وفي حديث آخر: "من قال لأخيه كافر أو عدو الله ثم لم يكن كذلك إلا حار عليه".1 فهذا وعيد شديد لمن وصف أحداً من الناس بالكفر وليس بكافر. ومذهب أهل السنة في ذلك أنهم لا يكفرون بالذنوب، فقد روي أن رجلاً سأل جابر بن عبد الله:هل كنتم تدعون أحداً من أهل القبلة مشركاً؟ قال: معاذ الله. ففزع من ذلك. قال: هل كنتم تدعون أحداً منهم كافراً؟ قال: لا ". 2 كما قال الطحاوي رحمه الله:"ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله".3 بمعنى أن الذنوب التي هي الوقوع فيما حرم الله من شرب الخمر أو القذف أو الزنا لا توجب الكفر إلا في حالة أن يستحله الإنسان, فيرى أنه حلال له ذلك, فهذا يخرج من الإسلام, لأن استحلاله يعني تكذيبه لكلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في تحريمه، وهو أعظم جرماً من الفعل نفسه.

_ 1 مسلم في الإيمان 1/79. 2 عزاه في المجمع إلى أبي يعلى والطبراني, وقال رجاله رجال الصحيح.مجمع الزوائد 1/107. 3 شرح العقيدة الطحاوية 316.

أقسام الكفر الوارد في الكتاب والسنة

أقسام الكفر الوارد في الكتاب والسنة: الكفر الوارد ذكره في الكتاب والسنة على قسمين: كفر أكبر, وكفر أصغر. أنواع الكفر الأكبر: يمكن تقسيم مواقف الناس الكفرية من الدين الحق إلى خمسة أنواع من الكفر: 1 - كفر التكذيب والجحود. وذلك يعم كل من كذب الرسل في الباطن, وهو حقيقة المكذب. {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} [الأنعام21] .

أما من كذب الرسل في الظاهر, وهو يعلم صدقهم في الباطن, فهذا هو الجاحد, وهذا حال كثير من المكذبين للرسل, خاصة ممن عاينوا آيات الأنبياء.قال تعالى عن فرعون وملائه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل14] .وقال عن مشركي مكة: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام 33] . 2 - كفر الإباء والاستكبار. وذلك بأن يعلم الحق ويعرفه, ويتكبر عن الانقياد والاذعان. وذلك مثل كفر إبليس: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَر} [البقرة34] . 3 - كفر الشك. الذي يناقض التصديق واليقين, ومن هذا الجنس كفر صاحب الجنة. قال تعالى: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً} [الكهف35] , وقد جعل الله الريب, وهو الظن والشك 1من الكفر الموجب دخول النار. قال تعالى: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ، مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ} [ق24، 25] , ومنه قوله تعالى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ} [سبأ54] . 4 - كفر الإعراض. وهو أن يعرض عن الحق فلا يسمعه ولايقبله. قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} [الأحقاف3] وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} [السجدة22] . 5- كفر النفاق. وهو أن يظهر الإيمان ويبطن الكفر. قال تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ، اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون 1 - 3] .

_ 1 انظر: المعجم الوسيط ص384.

فهذه الأقسام الخمسة التي ينقسم إليها كفر الكفار من ناحية موقفهم من الشرع والدين الحق. أما كفرهم من ناحية انتماءاتهم الدينية،فكل من دان بدين غير الإسلام فهو كافر، ويمكننا أن نقسمهم من ناحية مذاهبهم إلى ثلاثة أقسام: 1 - مشركون: وهم كل من عبد غير الله تعالى من الأصنام والأوثان وغيرها. 2 - أصحاب ملة: وهم كل من انتمى إلى ملة غير ملة الإسلام, كاليهودية والنصرانية أو المجوسية أو البوذية بعد بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم 3 - ملاحدة: وهم كل من لم يؤمن بدين, وإنما يعتقد الإلحاد. فهؤلاء كلهم كفار, والواجب تكفيرهم. وهذا من المعلوم المجمع عليه, لدلالة الآيات في ذلك وصراحتها. ومنها قوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران85] , وقوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} [آل عمران19] . نواقض الإسلام: ما سبق ذكره هو في الكفار الأصليين, أما من كان مسلماً فإن إسلامه ينتقض بكل فعل أو اعتقاد أو قول أطلق الله تعالى أو رسوله عليه الصلاة والسلام على من صدر منه الكفر, مع أن حقيقة الفعل يناقض أصل الدين أو يضاده, أو يتضمن تكذيب الله تعالى أو تكذيب رسوله صلى الله عليه وسلم, أو الاستهزاء أو السب لله تعالى أو رسوله عليه الصلاة والسلام ونحو ذلك. وجل ذلك مجتمع في نواقض الإسلام العشرة التي ذكرها كثير من العلماء. وهي:

1 - الشرك بالله. الشرك بالله ناقض من نواقض الإسلام, سواء كان شركاً في الربوبية بادعاء أن أحداً يتصرف في الكون, أو ادعاء علم الغيب, وما إلى ذلك. أو شركاً في الأسماء والصفات باعتقاد أن الله تعالى له مثيل أو شبيه, أو شركاً في الألوهية بصرف شيء من العبادة لغير الله. قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر65] . 2 - من جعل بينه وبين الله وسائط. وذلك بأن يجعل بينه وبين الله واسطة في الدعاء, أو الاستغاثة من ملك أو قبر ونحوه. فهذا شرك مخرج من الملة, لأنه من جنس شرك المشركين, كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر3] . 3 - من لم يكفر الكافرين أو شك في كفرهم. هذا ناقض للإسلام, من ناحية أنه تكذيب لخبر الله فيهم, ورد لحكمه في كفرهم. 4 - من اعتقد أن هدي غير النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه أو أحسن من هديه. وهذا ناقض للإسلام لاعتقاده نقص الشريعة, وكمال غيرها, والله تعالى يقول: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ} [الزمر 23] . وقال: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} [البقرة 138] .وقال: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة 50] .

5 - من أبغض شيئاً مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولو عمل به فقد كفر. البغض لشرع الله ناقض للدين،لقول الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [سورة محمد 9] .والكره يتنافى مع المحبة المطلوبة شرعاً لله ولدينه. 6 - من استهزأ بالله أو رسوله أو يشيء من دينه أو ثوابه أو عقابه. الاستهزاء بالله أو رسوله كفر مخرج من الملة, كما قال تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ، لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة55, 66] وأشد منه من سب الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم أو دينه, فمن قال ذلك فهو كافر. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً} [الأحزاب 57] . 7 - السحر. السحر كفر مخرج من الملة, لقوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة 102] . 8 - مظاهرة المشركين وموالاتهم. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة 51] وقال تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} [آل عمران 28] . قال الطبري في معنى الموالاة هنا: لا تتخذوا أيها المؤمنون الكفار ظهراً وأنصاراً توالونهم وتظاهرونهم على المسلمين من دون المؤمنين, وتدلونهم على عوراتهم,

فإنه من يفعل ذلك فليس من الله في شيء, يعني بذلك, فقد برىء الله منه بارتداده عن دينه, ودخوله في الكفر. 1 فالموالاة التامة المتضمنة للمحبة والتعظيم والنصرة, هي التي يكفر بها الإنسان. قال شيخ الإسلام: ومن تولى أمواتهم وأحياءهم بالمحبة والتعظيم والموافقة فهو منهم".2 9 - من اعتقد أن بعض الناس يسعه الخروج عن شريعة النبي صلى الله عليه وسلم. الرسول صلى الله عليه وسلم مبعوث لعموم البشر. قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} [سبأ 28] . فمن اعتقد أن إنساناً يسعه الخروج عن الشريعة، أو أنه تسقط عنه التكاليف في وقت من الأوقات فهو كافر خارج من الإ سلام. قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران85] . 10 - الإعراض عن دين الله لا يتعلمه ولا يعمل به. وذلك بأن يعرض عما يجب عليه ويفترض عليه أداؤه لله, فلا يهتم بذلك, ولا يعرفه ولا يتعلمه, فيعرض عن التوحيد وعن العبادات، فلا يعرف ذلك إعراضاً, فذلك مخرج من الملة كما قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} [السجدة22] . فمن فعل شيئا من هذه الأمور فقد خرج من الإسلام ومن كان دون ذلك فلا يخرج من الإسلام كما سيأتي إلا أن يكون ترك الصلاة.

_ 1 تفسير الطبري 6/313. 2 الفتاوى 28/201.

حكم تارك الصلاة الصلاة أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين وقد ورد من الوعيد فيها والتأكيد عليها ما لم يرد في غيرها وقد توعد الله عز وجل غير المحافظين عليها بالعذاب الشديد. وذلك في قوله عز وجل: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون4, 5] ، وقال {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم59] , وسئل ابن مسعود عن هذه الآية: "ما إضاعتها؟ فقال: تأخيرها عن وقتها, فقالوا: ما كنا نظن ذلك إلا تركها، فقال: لو تركوها لكانوا كفارا".1 وبهذا المعنى جاء في حديث عبادة الصامت أنه قال: أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "خمس صلوات افترضهن الله عز وجل, من أحسن وضوءهن وصلاهن لوقتهن وأتم ركوعهن وخشوعهن كان له على الله عهد أن يغفر له، ومن لم يفعل فليس له على الله عهد إن شاء غفر له وإن شاء عذبه" 2 فإذا كان هذا فيمن تهاون بها وترك بعضها أو بعض واجباتها فكيف بمن تركها بالكلية، وقد وردت نصوص تدل على كفره،منها قول الله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ، قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر42, 43] وقال تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة11] وقال صلى الله عليه وسلم: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر" 3 وحديث "إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة".4

_ 1 انظر تفسير ابن جرير 16/66, وابن كثير 3/125. 2 أخرجه أحمد 5/319, وأبو داود في كتاب الصلاة حديث رقم 325. 3 أخرجه أحمد 5/346, والترمذي في الإيمان حديث رقم 2621 وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب, وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب 1/226. 4 أخرجه مسلم في الإيمان 1/88،والترمذي في الإيمان 5/13.وانظر طرقه في تعظيم قدر الصلاة للمروزي 2/873.

وكذلك ما روي عن عبد الله بن شقيق أنه قال: ما كانوا –يقصد الصحابة- يرون عملا تركه كفر إلا الصلاة".1 فهذا يدل على إجماع الصحابة على كفر تارك الصلاة. وقد عزا تكفير تارك الصلاة شيخ الإسلام إلى جمهور السلف والتابعين وهو رواية عن الإمام أحمد وطائفة من أصحابه وأصحاب مالك والشافعي2. ما سبق ذكره هو في القسم الأول من أقسام الكفر الوارد في الكتاب والسنة, وهو الكفر الأكبر. أما الكفر الأصغر فهو ما أطلق الشارع عليه اسم الكفر من الذنوب مما لا يتناقض مع أصل الدين الذي هو التوحيد. وذلك مثل قوله عليه الصلاة والسلام: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" 3 وقوله عليه الصلاة والسلام: "ثنتان في الناس هما بهم كفر الطعن في النسب والنياحة" 4وقوله عليه الصلاة والسلام: "من أتى حائضا أو امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم" 5 وغير ذلك من الأحاديث. فهذا الكفر الوارد في هذه النصوص ليس من الكفر الأكبر المخرج من الملة, لوجود أدلة أخرى تدل على عدم خروجه من الدين،وهي أن الله وصف المتقاتلين بالإيمان في قوله: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات9] . فسماهم مؤمنين مع وجود الاقتتال، كما أنهم لو كانوا بتلك الذنوب كفارا لوجب قتلهم للردة، ولما لم يوجب ذلك تبين أن المراد بذلك ليس كفرا مخرجا من الملة.

_ 1 أخرجه الترمذي في الإيمان حديث رقم 3622, وانظر تعظيم قدر الصلاة للمروزي 2/905. 2 مجموع الفتاوى 20/97 28/308 3 أخرجه مسلم في صحيحة 1/81. 4 أخرجه أحمد 2/441. 5 أخرجه أحمد 2/408.

وقد دلت الأدلة الشرعية على أن هذه الألفاظ الشرعية, وهي الشرك والكفر والظلم والنفاق تأتي على معنيين أكبر وأصغر. الأكبر مخرج من الملة وأما الأصغر فلا يخرج من الملة. ومن هذه الأدلة قوله صلى الله عليه وسلم: "إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر"، قالوا: يا رسول الله وما الشرك الأصغر قال "الرياء" 1. أما الظلم فيدل عليه ما رواه البخاري من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنهفما أنه لما نزل قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُون} [الأنعام82] شق ذلك على أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم, فقالوا: يا رسول الله ما منا أحد إلا وهو يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس بذلك, ألا تسمعون إلى قول لقمان لابنه: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} " 2. أما النفاق, فحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان وإذا خصم فجر" 3 أما الكفر فحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا معشر النساء تصدقن فإني أريتكن أكثر أهل النار تكفرن, قيل يكفرن بالله، قال يكفرن العشير ويكفرن الإحسان لو أحسنت إلى إحداهن الدهر قالت ما رأيت منك خيرا قط" 4 وكذلك ما ورد عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه في قول الله عز وجل: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة44] قال: هي به كفر، وليس كفرا

_ 1 أخرجه أحمد 5/428–429 قال ابن حجر إسناده حسن, بلوغ المرام ص 187 2 أخرجه البخاري انظر الفتح 1/87 مسلم 1/115 عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. 3 أخرجه البخاري في الإيمان رقم34، ومسلم في الإيمان 1/234, وأحمد في مسنده 2/189. 4 أخرجه البخاري في الزكاة 3/381.

بالله وملائكته وكتبه ورسله: وفي رواية أنه قال: كفر دون كفر،ومثله ورد عن عطاء وطاووس وغيره1. فهذه النصوص تدل دلالة واضحة على أن هذه الألفاظ في كلام الشارع تأتي على معنين،وهذا ما عليه أهل السنة من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان خلاف ما عليه أهل البدع من الخوارج ونحوهم. فعليه من أتى بفعل كفري مما سبق ذكره فهو كافر خارج من الإسلام مستوجب لعقوبة الكفرة من اليهود والنصارى والوثنيين. أما من كان ما آتاه من الذنوب والخطايا دون ذلك فليس فعله كفرا إلا أن يكون ترك الصلاة كما سبق ذكره، أو يكون مستحلا لما فعل.

_ 1 تفسير ابن جرير 10/354 بتحقيق أحمد شاكر.

ضوابط التكفير

ضوابط التكفير لخطورة التكفير وما يترتب عليه من الأمور الخطيرة في الدنيا والآخرة فقد جعل الشارع له ضوابط يجب مراعاتها, حفاظاً على أواصر الأخوة الدينية بين المسلمين, فلا يكفر بعضهم بعضاً ويلعن بعضهم بعضاً إلا وفق الضوابط المبيحة لذلك, وهي: أولا: أن لا يكفر إلا من كفره الله ورسوله إن الكفر والتكفير حكم شرعي مثل الإسلام والإيمان أحكام شرعية لا يجوز إطلاقها على أحد إلا من استحقها من خلال الشرع، فمن كفره الله ورسوله فهو كافر ومن لم يكفره الله ورسوله فلا يكفر. ومن كفر بعقله أو قياسه فهو مخطئ متجاوز للحدود الشرعية وهو كمن شهد لأحد بالصلاح والإيمان لمجرد أنه رآه يحسن الحساب أو الهندسة أو الطب، أو شهد لنصراني بالإسلام لأنه ذو خلق حسن ومعشر حسن. كما أن أهل السنة لا يكفرون من كفرهم،لأن التكفير حكم شرعي وليس داخلا في العقوبة بالمثل وذلك كمن كذب عليك أو سرق مالك أو زنى بأحد

محارمك ليس لك أن تفعل ذلك به،لأن هذه الأعمال محرمة في حق كل أحد لحق الله تعالى، كذلك التكفير هو حق لله تعالى.ومما يدل على ذلك أن الصحابة رضوان الله عليهم لم يكفروا الخوارج مع أن الخوارج كانوا يكفرون عليا وعسكره، بل كانوا يرون أنهم ضلال انحرفوا عن الحق1. ثانيا: التفريق بين التكفير المعين والتكفير المطلق التكفير عند أهل السنة على نوعين معين ومطلق. أما تكفير المعين: فهو وصف شخص ما لعمل قام به أو قول قاله بأنه كافر، وهذا لا يجوز إلا بشروط وانتفاء موانع وسنذكر ذلك. أما التكفير المطلق: فهو إطلاق الكفر على الفعل أو القول أو الاعتقاد وعلى فاعل ذلك على سبيل الإطلاق، وهذا النوع قد ورد في الشرع إطلاقه فنطلق كما أطلقه الشارع فيقال مثلا: من اعتقد أن الله ليس فوق السماء كافر، أو آكل الربا ملعون، وشارب الخمر ملعون ونحو ذلك مما أطلقه الشارع. ومن هذا الجنس ما يطلقه العلماء والأئمة من تكفير أصحاب البدع مثل القدرية والجهمية والرافضة ونحوهم فيتعلق الحكم بالعموم أو بالفعل، ولا يتعلق بالشخص المعين، إذ الشخص المعين لا يحكم بكفره إلا بشروط وانتفاء موانع. الدليل على الفرق بين الحكم المطلق والمعين: ما روى البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلا كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم اسمه عبد الله، وكان يلقب حمارا، وكان يضحك النبي صلى الله عليه وسلم وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأتي به يوما، فأمر به فجلد فقال رجل من القوم: "اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تلعنوه، فو الله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله".2

_ 1 انظر منهاج السنة النبوية 5/92-93الرد على البكري ص256-258، مسألة التكفير 1/4437. 2 البخاري 8/ 284

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لعنه مع إصراره على الشرب لكونه يحب الله ورسوله، مع أنه صلى الله عليه وسلم لعن في الخمر عشرة، لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها وشاربها وساقيها وحاملها والمحمولة إليه وبائعها ومبتاعها وآكل ثمنها" ولكن لعن المطلق لا يستلزم لعن المعين الذي قام به ما يمنع من لحوق اللعنة به، وكذلك التكفير المطلق والوعيد المطلق، ولهذا كان الوعيد المطلق في الكتاب والسنة مشروطا بثبوت شروط وانتفاء موانع"1. وقد ورد عن إبراهيم النخعي أنه قيل له: ما ترى في لعن الحجاج؟ فقال: "لا تسمع إلى قوله تعالى: {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} وسئل الإمام أحمد قيل له: الرجل يذكر عنده الحجاج أو غيره فيلعنه، قال: "لا يعجبني، لو عبر فقال: ألا لعنة الله على الظالمين". ومثله ورد عن الحسن البصري وابن سيرين كما ذكر الخلال2. فهذه الأدلة والروايات تدل على أن التكفير المطلق لا يستلزم التكفير المعين. ثالثا: تكفير المعين المعين من الناس ممن ثبت إسلامه بيقين لا يزول عنه بالشك والظن، وإنما يكفر بعد أن تقوم عليه الحجة وتنتفي عنه الشبهة، لهذا حدد العلماء لإطلاق الكفر على المعين شروطا إذا وجدت فيه وانتفت الموانع المانعة من إطلاق الكفر فإنه يكفر ويحكم عليه به ويقام عليه به حد الكفر إذا لم يتب ويرجع. وهذه الشروط والموانع قد استنبطها العلماء من الشرع وكلام السلف رحمهم الله. أولا: الشروط قد يقع المسلم في فعل كفري أو يقول قولا كفريا أو يعتقد اعتقادا كفريا إلا أننا لا نحكم بكفره إلا إذا تحققت فيه الشروط التالية:

_ 1 مجموع الفتاوى 10/ 329 – 330. 2 انظر السنن للخلال 1/522-523.

1 - أن يظهر من قوله أو فعله ما يدل على المعنى الكفري ويلتزمه. إن الإسلام إذا ثبت بالنسبة لإنسان لا يجوز إخراجه منه بالظن والتهمة أو تحميل كلامه فوق ما يحتمل لأن ذلك كله مما لا يجوز به الحكم بالكفر على الشخص المعين، وهو في ذلك مثل الحدود الشرعية لا تثبت على الإنسان إلا بالاعتراف أو الشهود. كما أن لازم المذهب ليس بمذهب فإذا قال إنسان قولا وكان يلزم منه الكفر كمن أنكر: أن الله فوق السماء أو نفى الصفات عن الله عز وجل, فإن لازم ذلك تكذيب الله ورسوله، بل لازم ذلك نفي وجوده تبارك وتعالى وهذا كفر بين، ولكن لا يحكم على الشخص بالكفر ما لم يبين له ذلك ويلتزمه،لأن الإنسان قد يقول المقالة وهو ذاهل عن لازمها بل لا يقصده بل ربما يكون يقصد نقيضه كمن أراد أن ينزه الله في زعمه عن المكان فيقول: هو في كل مكان،فإن لازم ذلك أنه لا ينزهه عن مكان طيب أو خبيث، وهذا كفر، لكن من قال هذه المقالة فإنه لا يقصد ذلك. واستدل لذلك شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} [البقرة104] . فإن المسلمين كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم "راعنا" يقصدون بذلك التفت إلينا وارعنا انتباهك، وكان اليهود يستغلون ذلك ويقولونها للنبي صلى الله عليه وسلم وهم يقصدون بذلك سب النبي صلى الله عليه وسلم لأن معناها عندهم من الرعونة وهي الحمق والطيش، فنهى الله المسلمين عن هذه المقالة لما تضمنت من المعنى الفاسد الذي لا يقصدونه، حتى لا يتخذها اليهود وسيلة لسب النبي صلى الله عليه وسلم جهارا"1. هذا في حالة أن يكون القول أو الفعل محتملا للكفر وغيره أما إذا كان القول أو الفعل غير محتمل إلا الكفر كمن سب الله ورسوله أو استهزأ بهما أو سجد لصنم، فهذه الأفعال لا تحتمل إلا الكفر فيحكم على المعين به كما قال الله عز وجل: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة65, 66] فجعل الله عز وجل سبب الكفر هو الاستهزاء بالله عز وجل ولم يعتبر العذر وهو

_ 1 الرد على البكري ص 341 – 342، وانظر فتنة التكفير ص: 111.

أنهم إنما كانوا يخوضون ويلعبون بل بين أنهم كفروا بذلك الفعل وأن العذر في هذا ليس عذرا مقبولا1. 2 - قيام الحجة ووضوحها لمن قال أو عمل بالكفر. الكفر لا يثبت على المعين ما لم تقم عليه الحجة التي إن خالفها كفر، يدل على ذلك قوله عز وجل: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء115] . وقال عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة115] . قال قوام السنة الأصبهاني على هذه الآية: "فكل من هداه الله عز وجل ودخل في عقد الإسلام، فإنه لا يخرج إلى الكفر إلا بعد البيان"2، وقال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء15] . فهذه الآيات بعمومها تدل على أنه لا يكفر من المسلمين إلا من بلغته الحجة ووضحت له بحيث خالفها عنادا وتكبرا أو رفضا للحق وردا له. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وليس لأحد أن يكفر أحدا من المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة وتبين له المحجة، ومن ثبت إسلامه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة، وإزالة الشبهة"3. وهذا مثل من أنكر ما ثبت بالإجماع أو التواتر أو أنكر صفة من صفات الله عز وجل, هذا لا يكفر حتى تقام عليه الحجة ويفهمها ثم يردها عنادا وتكبرا وردا للحق وعدم قبول له.

_ 1 انظر الصارم المسلول على شاتم الرسول, ص516 – 517, ضوابط التكفير ص: 213. 2 الحجة في بيان المحجة 2/511. 3 الرد على البكري، ص 259.

موانع التكفير

ثانيا: موانع التكفير مما يدرأ عن المسلم التكفير إذا التبس فعله أو قوله أو اعتقاده الكفري بمانع من الموانع التالية: 1 - الجهل جهل المسلم بالحكم الشرعي في الأمر الكفري الذي قارفه مما يدفع عنه الكفر. ويستدلون لذلك بما رواه البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث الرجل الذي قال لأبنائه: "إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني ثم اذروني في الريح في البحر فو الله لئن قدر علي ربي ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا"، قال: ففعلوا ذلك به، فقال للأرض: "أدي ما أخذت"، فإذا هو قائم، فقال له: ما حملك على ما صنعت، فقال: خشيتك يا رب فغفر له بذلك" 1. فهذا الرجل جهل عظيم قدرة الله عز وجل وفعل ما فعل من خشية الله عز وجل فغفر الله له جهله. وكذلك حديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط، فقالوا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال صلى الله عليه وسلم: "سبحان الله هذا كما قال قوم موسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، والذي نفسي بيده لتركبن سنن من كان قبلكم ... " 2. فحداثة إسلامهم وجهلهم منعت من تكفيرهم ولم تمنع من الحكم على القول بأنه من جنس قول قوم موسى لموسى: اجعل لنا إلها. وكذلك حديث حذيفة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يدرس الإسلام كما يدرس وَشيُ الثوب 3،حتى لا يدري ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة وليسري على كتاب الله عز وجل في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية، وتبقى طوائف

_ 1 البخاري في التوحيد 13/466، ومسلم في التوبة 8/98 من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. 2 أخرجه الترمذي في الفتن 2181 وقال حديث حسن صحيح. 3 وشي الثوب يعني ألوانه التي يحسن بها. اللسان 15/392.

من الناس، الشيخ الكبير والعجوز يقولون أدركنا آباءنا على هذه الكلمة: لا إله إلا الله فنحن نقولها" فقال له صلة: ما تغني عنهم لا إله إلا الله وهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا نسك ولا صدقة؟ فأعرض عنه حذيفة، ثم ردها عليه ثلاثا كل ذلك يعرض عنه حذيفة، ثم أقبل عليه في الثالثة: فقال: يا صلة تنجيهم من النار، ثلاثا" 1. فهذا فيه دليل على أن الإنسان يعذر بالجهل2.ولكن العلماء يفرقون هنا في مسألة الجهل بين ما يعذر بجهله الإنسان وما لا يعذر، والحالات التي يعذر الإنسان فيها بالجهل. فأما ما كان معلوما من الدين بالضرورة كوجوب الصلاة وفرائض الإسلام وتحريم الزنا والخمر ونحوها فهذا لا يعذر الإنسان بجهلها فمن أنكرها فقد كفر إلا أن يكون بعيدا عن الأمصار يعيش في البوادي مما يدل على أنه لم يبلغه العلم, أو يكون حديث عهد بإسلام لم يعلمه أحد شرائع الإسلام فهذا يعذر بجهله ولا يكفر حتى تبين له الحجة ويعلم الحق3. أما ما خفي من المسائل والأحكام الشرعية فإن الإنسان لو أنكرها جهلا فإنه يعذر بذلك ولا يكفر حتى تقام عليه الحجة مثل رؤية الله تبارك وتعالى يوم القيامة، أو حوض النبي صلى الله عليه وسلم أو نحو ذلك مما قد يخفي على الإنسان. 2 - المتأول لشبهة عرضت له: مما يدرأ التكفير عن المعين أن يكون متأولا فيما وقع فيه من كفر لشبهة عرضت له، فهذا لا يكفر حتى يبين له خطأه حتى ترتفع شبهته في المسألة فهو كالمجتهد المخطئ وذلك مثل أهل البدع من الخوارج والجهمية والمعتزلة وغيرهم فإن أعيانهم لا يكفرون لوجود الشبهة المانعة لهم من قبول الحق فإن الخوارج استباحوا

_ 1 ابن ماجه، الفتن, رقم 4049 وقال البوصيري هذا إسناد صحيح. 2 انظر مجموع الفتاوى 3/231، مدارج السالكين 1/338،339. 3 انظر مجموع الفتاوى 6/61 11/407

دماء المسلمين ظنا منهم أنهم كفار لارتكابهم الذنوب، والجهمية والمعتزلة أنكروا صفات الله عز وجل بشبهة عرضت لهم في ذلك وهو ظنهم أن ذلك ينافي تنزيه الله عز وجل.فلهذه الشبهة في التأويل لا يكفر أعيانهم. فإن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لم يكفر الخوارج بل قال: إخواننا بغوا علينا، وقال لما قيل له إنهم كفار قال: من الكفر فروا، وقد وافقه الصحابة على ذلك فصار إجماعا1، وهذا مع ما ورد من الحديث الذي يصفهم بأنهم يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية. ومما يستدل لذلك أيضا أن قدامة بن مظعون رضي الله عنه شهد عليه شهود بشرب الخمر، فقال له عمر: إني حادك، فقال: لو شربت كما يقولون، ما كان لكم أن تجلدوني, فقال عمر رضي الله عنه: لم؟ قال قدامة: قال الله عز وجل: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا…} [المائدة93] الآية، قال عمر رضي الله عنه: أخطأت التأويل إن اتقيت الله اجتنبت ما حرم الله عليك "2. قال شيخ الإسلام: "إن عمر بن الخطاب اتفق هو وعلي بن أبي طالب وسائر الصحابة على أنهم إن اعترفوا بالتحريم جلدوا وإن أصروا على استحلالها قتلوا"3. فقدامة رضي الله عنه استحل الخمر لشبهة عرضت له فيما فعل, وذلك أنه ظن أن الخمر ليست محرمة على من كان تقيا وهذا فهمه من الآية التي استدل بها, حتى أبان له عمر رضي الله عنه خطأه في الفهم فارتفعت بذلك شبهته. ومثله في ذلك ما وقع بين الصحابة رضوان الله عليهم من الاقتتال الذي كانوا فيه متأولين لشبهة وقعت لهم. فعلى هذا إذا وقع الإنسان في أمر كفري،وهو متأول لشبهة عرضت له فلا يكفر حتى يبين له وترتفع شبهته. قال شيخ الإسلام عن علماء الجهمية: "ولهذا

_ 1 انظر مجموع الفتاوى 3/282 2 سنن البيهقي 8/316 3 مجموع الفتاوى 11/403

كنت أقول للجهمية من الحلولية1،والنفاة الذين نفوا أن الله تعالى فوق العرش،لما وقعت محنتهم: أنا لو وافقتكم كنت كافرا، لأني أعلم أن قولكم كفر، وأنتم عندي لا تكفرون، لأنكم جهال. وكان هذا خطابا لعلمائهم وقضاتهم وشيوخهم وأمرائهم, وأصل جهلهم شبهات عقلية حصلت لرؤوسهم مع قصور عن معرفة المنقول الصحيح والمعقول الصريح الموافق له"2. هذا في التأويل لشبهة وقعت للمؤول منعته من قبول الحق ولا يلتحق بذلك من تستر بالتأويل وجحد ما هو معلوم من الدين بالضرورة،كتأويل الملاحدة ما لا يمكن تأويله من الشرائع والمعاد الأخروي والجنة والنار، فهذا كفر لا شك فيه ومن وقع في ذلك فهو كافر خارج من الإسلام، وإنما الحديث هنا في الذي يقوم بشرائع الإسلام ولم يكن مقصده تكذيب الله ورسوله فيما تأوله مما يخالف الحق3. ولا يعني عدم تكفير من هذا حاله أنه ليس مخطئا ولا يعني أنه غير مذنب، بل هو على خطر عظيم في بدعته، وذنبه في ذلك على قدر بعده عن الحق، وإعراضه عن وسائل معرفة الحق من الكتاب والسنة التي أمر المسلمون بالالتزام بهما والأخذ بمضمونهما والإعراض عما يخالفهما،ولهذا يذم أهل البدع والانحراف من الخوارج والجهمية والمعتزلة والقدرية والأشعرية وغيرهم. 3 - الإكراه الإكراه على القول أو الفعل الكفري لا يكون كفرا على الصحيح لقول الله عز وجل: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل106] .

_ 1 يقصد بالحلولية الذين يقولون إن الله في كل مكان. 2 الرد على البكري، ص:259. 3 انظر مجموع الفتاوى 3/ 282-288، إيثار الحق على الخلق، ص: 415.

فمن أكره على قول كفري من سب الله أو رسوله أو دينه أو نحو ذلك أو فعل كفري كالسجود لمخلوق أو نحوه فإنه لا يكفر بذلك. قال شيخ الإسلام: "وإما إذا أكره الرجل على ذلك -يعني السجود لمخلوق- بحيث لو لم يفعله لأفضى إلى ضربه أو حبسه أو أخذ ماله،الذي يستحقه من بيت المال ونحو ذلك من الضرر فإنه يجوز عند أكثر العلماء, فإن الإكراه عند أكثرهم يبيح الفعل المحرم كشرب الخمر ونحوه وهو المشهور عن أحمد وغيره،ولكن عليه مع ذلك أن يكرهه بقلبه،ويحرص على الامتناع منه بحسب الإمكان، ومن علم منه الصدق أعانه الله تعالى. وقد يعافى ببركة صدقه من الأمر بذلك. وذهب طائفة إلى أنه لا يبيح إلا الأقوال دون الأفعال, ويروى ذلك عن ابن عباس, ونحوه قالوا: إنما التقية باللسان, وهي الرواية الأخرى عن أحمد"1. فمن هنا يتبين لنا أن تكفير المعين من الأشخاص لا يتم إلا بعد أن تقام عليه الحجة وتزال عنه الشبهة وتنتفي الموانع المانعة من تكفيره، فعندها يحكم عليه بالكفر ويعامل بما يستحق ذلك وهذا كله احتياطات شرعية من أن يقصد المعين بهذا الحكم الخطير وهو لا يستحق ذلك أو ذاهل عنه. مسألة: موقف المسلم من الحكام الذين يحكمون بغير ما أنزل الله عز وجل سبق أن بينا ضوابط التكفير لدى أهل السنة، وهي ضوابط عامة يدخل فيها الحاكم والمحكوم، والرئيس والمرؤوس، فمن كان من حكام المسلمين مسلماً فلا يجوز تكفيره بعينه إلا وفق الضوابط التي ذكرناها من تحقق الشروط وانتفاء الموانع. ومن كان منهم كافراً أصلياً فالواجب الحكم بكفره كأن يكون يهودياً أو نصرانياً أو من هو في حكمهم من الباطنيين ونحوهم. وكذلك القول فيهم فيما يتعلق فيما يتعاطونه من الحكم بغير ما أنزل الله عز وجل

_ 1 مجموع الفتاوى المصرية 1/56 وانظر منهج ابن تيمية في مسألة التكفير 1/269.

واستقدام قوانين اليهود والنصارى وإلزام المسلمين بالتحاكم إليها. فالقول فيه وفق الضوابط السابقة بأن من حكم بغير ما أنزل الله وذلك بالقوانين الوضعية ونحوها ويرى أنه يجوز له ذلك أو أنها أفضل من شرع الله أو أن شرع الله لا يصلح لهذا الزمان فهذا لا شك أنه كفر مخرج من الملة،وهذا حكم مطلق على من فعل ذلك بهذه النية،لكن الشخص المعين سواء كان الحاكم أو القاضي أو أحد أفراد الهيئة التشريعية أو نحو ذلك فإننا لا نحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة وتتضح له المحجة وتنتفي عنه الموانع من الجهل والإكراه والتأويل، فعندها يمكن الحكم بكفره. وما لم يكن كذلك فإننا لا نحكم بكفره، وهنا مسائل: أولاً: هل يجوز الخروج على الحكام إذا حكموا بغير ما أنزل الله؟ أما إذا لم نحكم بكفر الحاكم فلا يجوز الخروج عليه, قال النووي رحمه الله: وأما الخروج عليهم وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين وإن كانوا فسقة ظالمين 1. قال الطحاوي رحمه الله: ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمرنا وإن جاروا ولا ندعوا عليهم ولا ننزع يداً من طاعتهم ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة ما لم يأمروا بمعصية وندعو لهم بالصلاح والمعافاة 2. وهذا الذي قاله هؤلاء الأئمة بناءً على ما ورد من الأحاديث الصحيحة الدالة على ذلك منها رواية ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات إلا مات ميتة جاهلية" 3. وعن عوف بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم"، فقالوا: يا رسول الله أفلا ننابذهم

_ 1 شرح النووي على مسلم 12/229. 2 شرح الطحاوية ص 379. 3 أخرجه البخاري، انظر: فتح الباري 13/121، مسلم بشرح النووي 12/240.

عند ذلك؟ قال: "لا ما أقاموا فيكم الصلاة, ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئاً من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يداً من طاعة" 1. وحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره وأن لا ننازع الأمر أهله وإن بغوا علينا وأن نقول الحق حيثما كنا ولا نخاف في الله لومة لائم.2 فهذه الأحاديث وغيرها كثير إنما أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم بالسمع والطاعة والصبر على أذى الأمير وفساده،كما فيها تحريم الخروج عليه لحدث أحدثه أو جرم ارتكبه، وما ذلك إلا لما في الخروج من المفاسد التي هي أعظم مما ارتكبه الأمير من الجرم من سفك الدماء وانتهاك الأعراض وانتهاب الأموال وذهاب قوة المسلمين. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ولعله لا يكاد يعرف طائفة خرجت على ذي السلطان إلا وكان في خروجها من الفساد أعظم من الفساد الذي أزالته" 3. ثانياً: إذا ارتكب الحاكم ما هو كفر فما الحكم؟ لقد أباح الرسول صلى الله عليه وسلم الخروج على الحاكم إذا كان كافراً أو كفر بعد إسلامه كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي يرويه عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعناه, فكان فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا،وعسرنا ويسرنا, وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله، قال: إلاأن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان 4. فهذا الحديث فيه دلالة صريحة على جواز الخروج على الحاكم, وإزالته في حالة كفره وتولية رجل مسلم. ولا شك أن هذا مشروط بالقدرة على ذلك من ناحية المكنة بأن يكون لدى

_ 1 أخرجه مسلم في الإمارة 12/447. 2 أخرجه مسلم في الإمارة 12/432. 3 منهاج السنة النبوية 2/87. 4 فتح الباري 6/116.

الإنسان القوة التي يغلب على ظنه بها الغلبة, أما إذا لم يكن لديه القوة التي يتمكن بها من ذلك فإنه لا يخرج،لأنه بخروجه يستعدي الحاكم بما معه من قوة عليه وعلى أهل دينه،فيكون ذلك سبباً في الهلاك والدمار بدون فائدة، وذلك لأن إزالة الحاكم الكافر هو من إزالة المنكر وإزالة المنكر منوطة بالقدرة والاستطاعة وأن لا يترتب على ذلك منكر أكبر منه فإن ذلك لا يجوز. فيجب عند ذلك الصبر عليه حتى يريح الله منه, أو يجد المسلمون القوة التي يزيلونه بها. ومما يدل على وجوب الصبر على الحاكم إذا كان كافراً وليس عند المسلمين قدرة يزيلونه بها أدلة عديدة منها: 1 - أن النبي صلى الله عليه وسلم عاش في مكة بعد البعثة ثلاثة عشر عاماً أذاقه فيها المشركون ألوان العذاب،كما أذاقوا أصحابه أصنافاً من العذاب بل قتلوا بعض أصحابه وخرج آخرون منهم من بلادهم فراراً بدينهم، وكل ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم صابر محتسب حتى انتقل إلى المدينة وتكونت لديه القوة فعندها قاتل الكفرة. 2 - قصة موسى مع الطاغية فرعون فإن موسى عليه السلام بعد أن أظهر الآيات الدالة على نبوته أبى فرعون قبول ذلك بل توعد موسى عليه السلام وقومه بما حكاه الله عز وجل بقوله: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف127] فكان جواب موسى عليه السلام وتوجيهه لقومه بالصبر قال عز وجل: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف128] . فبناءً على ذلك جعل الله لهم العاقبة بصبرهم على الأذى في الله عز وجل قال عز وجل: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [الأعراف137] .

فهذه ظاهرة الدلالة على وجوب الصبر على الحاكم الكافر فليس للناس وسيلة إلا ذلك حتى يريحهم الله عز وجل منه أو يقضي الله ما يشاء والعاقبة للمتقين. 3 - قول النبي صلى الله عليه وسلم: " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان" 1فالحاكم الكافر وتصرفاته مع المسلمين من المنكر الذي يجب إزالته إلا أن إزالته مقترنة بالقدرة على ذلك والاستطاعة، فإذا لم يكن للإنسان قدرة فإنه غير مؤاخذ على ذلك ولا آثم،وكذلك لو ترتب على تغيير المنكر منكر أكبر منه فإنه لا يجوز تغييره،لأن المراد من تغيير المنكر تقليل الشر وتكثير الخير،فإذا أدى تغييره إلى زيادة المنكر وتكثير الشر وتقليل الخير فلا شك أن بعض الشر أهون من بعض فيتوقف المسلم عن ذلك،لأن الغاية من تغيير المنكر وهي تقليل الشر غير متحققة. 4 - موقف الإمام أحمد رحمه الله من الخليفة العباسي الواثق فبعد أن سجن وضرب وأخرج من السجن جاءه بعض فقهاء بغداد وشاوروه في عدم الرضا بخلافة الواثق والخروج عليه فنهاهم عن ذلك وقال لهم: "لا تخلعوا يداً من طاعة ولا تشقوا عصا المسلمين ولا تسفكوا دماءكم ولا دماء المسلمين معكم انظروا في عاقبة أمركم ولا تعجلوا" 2. فالإمام أحمد رحمه الله قد حذر أولئك الفقهاء مغبة ما عزموا عليه ونهاهم عن ذلك وأمرهم بالصبر إلا أنهم لم يستمعوا إلى قوله فأخذوا كلهم وقتلوا. وإن من نظر في حال المسلمين الماضين الذين خرجوا على الحكام كيف أنهم سفكوا دماءهم وأشاعوا الفتن والشر يدرك خطورة هذا الأمر، فالخوارج على كثرة خروجهم لم يحققوا لأنفسهم ما كانوا يقصدونه،وكذلك من ابتلي بالخروج من أهل السنة لم يدركوا ما قصدوا ولم يسلموا من القتل والتنكيل وسفك الدماء

_ 1 أخرجه مسلم في الإيمان 2/212. 2 وجوب طاعة السلطان في غير معصية الرحمن ص 22.

وإشاعة الخوف والفتن،فهذا الحسين رضي الله عنه خرج على يزيد فكاد بفعلته أن تستأصل شأفة أهل البيت،وخرج أهل المدينة على يزيد فأدى ذلك إلى قتلهم والقضاء على بقية الصحابة الذين في المدينة ولم يسلم منها إلا من اعتزلهم كابن عمر وزين العابدين علي بن الحسين ومحمد بن الحنفية وقلائل آخرين. ومحمد بن الأشعت خرج على الحجاج فقتل من جيشه وجيش الحجاج الآلاف من المسلمين ثم شرد هو ثم قتل طريداً, ولم يتوصل إلى ما قصد وهكذا سائر الحوادث من هذا الجنس. وما حدث في هذه العصور دليل وبرهان فما حدث للمسلمين في سوريا أو في مصر وفي الجزائر, وغيرها من سائر البلدان من سفك الدماء وإشاعة الخوف والفتن مما كان الناس منه في عافية، لولا تلك التصرفات الرعناء ممن لم يعرفوا حقيقة معتقد أهل السنة وما فيه من الرحمة في هذا الباب،وصدق الحسن البصري رحمه الله حيث قال لما جاءه جماعة أيام يزيد ابن المهلب, فأمرهم الحسن أن يلزموا بيوتهم ويغلقوا عليهم أبوابهم، ثم قال: والله لو أن الناس إذا ابتلوا من قبل سلطانهم صبروا ما لبثوا أن يرفع الله ذلك عنهم, وذلك أنهم يفزعون إلى السيف فيوكلوا إليه, ووالله ما جاءوا بيوم خير قط, ثم تلا قوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} 1. فلهذه الأمور كلها فإن الواجب على المسلمين إذا كان الحاكم كافراً وليس لهم القدرة التي يغلب على ظنهم بها الغلبة فإنهم لا يجوز لهم الخروج على ذلك الحاكم. وفي هذا المعنى جاء كلام مشايخنا الفضلاء منهم سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله حيث سئل عن الموقف من الحكام العصاة فأجاب بتحريم الخروج

_ 1 أخرجه الآجري في الشريعة 1/158.

عليهم وذكر الأدلة في ذلك, ثم قال: "فيترتب على الخروج على ولاة الأمور فساد عظيم وشر كثير إلا إذا رأى المسلمون كفراً بواحاً عندهم من الله فيه برهان،فلا بأس أن يخرجوا على هذا السلطان لإزالته إذا كان عندهم قدرة، أما إذا لم يكن عندهم قدرة فلا يجوز،أو كان الخروج يسبب شراً أكثر فليس لهم الخروج رعاية للمصالح العامة.والقاعدة الشرعية المجمع عليها: أنه لا يجوز إزالة الشر بما هو شر منه،بل يجب درء الشر بما يزيله أو يخففه،وأما درء الشر بشر أكثر فلا يجوز بإجماع المسلمين، فإذا كانت هذا الطائفة التي تريد إزالة هذا السلطان الذي فعل كفراً بواحاً وعندها قدرة تزيله بها وتضع إماماً صالحاً طيباً من دون أن يترتب على هذا فساد كبير واختلال الأمن وظلم الناس واغتيال من لا يستحق الاغتيال،إلى غير هذا من الفساد العظيم فهذا لا يجوز بل يجب الصبر والسمع والطاعة في المعروف ومناصحة ولاة الأمر والدعوة لهم بالخير والاجتهاد في تخفيف الشر وتقليله وتكثير الخير.هذا هو الطريق السوي الذي يجب أن يسلك, لأن في ذلك مصالح للمسلمين عامة, ولأن في ذلك تقليل الشر وتكثير الخير،ولأن في ذلك حفظ الأمن وسلامة المسلمين من شر أكثر. نسأل الله للجميع التوفيق والهداية" 1. ومثله أجاب فضيلة الشيخ صالح الفوزان عن سؤال في كيفية التعامل مع الحاكم المسلم وغير المسلم.قال بعد أن أجاب عن التعامل مع الحاكم المسلم: "وأما التعامل مع الحاكم الكافر فهذا يختلف باختلاف الأحوال فإذا كان في المسلمين قوة وفيهم استطاعة لمقاتلته وتنحيته عن الحكم وإيجاد حاكم مسلم، فإنه يجب عليهم ذلك وهذا من الجهاد في سبيل الله, أما إذا كانوا لا يستطيعون إزالته فلا يجوز لهم أن يتحرشوا في الظلمة والكفرة،لأن هذا يعود على المسلمين بالضرر والإبادة والنبي صلى الله عليه وسلم عاش في مكة ثلاث عشرة سنة بعد البعثة،

_ 1 نقلا عن وجوب طاعة السلطان في غير معصية الرحمن ص 31.

والولاية فيها للكفار ومعه من أسلم من أصحابه لم ينازلوا الكفار بل كانوا منهيين عن قتال الكفار في هذه الحقبة ولم يؤمروا بالقتال إلا بعدما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وصار له دولة وجماعة يستطيع بهم أن يقاتل الكفار. هذا هو منهج الإسلام فإذا كان المسلمون تحت ولاية كافرة ولا يستطيعون إزالتها فإنهم يتمسكون بإسلامهم وبعقيدتهم, ولكن لا يخاطرون بأنفسهم ويغامرون في مجابهة الكفار لأن ذلك يعود عليهم بالإبادة والقضاء على الدعوة،أما إذا كانت لهم قوة يستطيعون بها الجهاد فإنهم يجاهدون في سبيل الله على الضوابط الشرعية المعروفة"1. فهذا فيه دلالة واضحة على المنهج الذي يجب أن يسلكه المسلم في مثل هذه الحالات. ومما أنصح به إخواني في هذا أن يعلموا أن الواجب عليهم تجاه إخوانهم المسلمين في دعوتهم وتوجيههم بعد العلم أمران: الأول: النصح وذلك أن يدعوا إلى الله عز وجل نصيحة لإخوانهم رغبة في إيصال الخير لهم،واستفراغ الوسع في ذلك بالحكمة والموعظة الحسنة. والثاني: القدرة, بمعنى أن تنصح لإخوانك وفق قدرتك التي أعطاك الله تبارك وتعالى سواءً قدرة مالية أو بدنية أو جاه أو علم, فتنطلق في دعوتك من القدرات المتاحة لك في العلم, وذلك في الخطب أو الإمامة أو التدريس أو التوجيه والتعليم في الإذاعة أو التلفاز أو نحو ذلك ما يمكنك به تبليغ دين الله والدعوة إليه بالفرص المتاحة لذلك، ولا يتعدى الإنسان ما هو في قدرته وطاقته فإن الله لا يسألك إلا عما مكنك فيه،كما لا يفعل الإنسان في هذا الباب - أعني في باب الدعوة - ما يعود على دعوته والمسلمين بشر يؤدي إلى قطع هذا العمل والإضرار به،بل يستعمل عقله وحكمته وينطلق من قدراته وإمكاناته, فبهذا يسلم وتسلم دعوته

_ 1 المرجع السابق ص 27.

خاصة في مثل هذه الأزمان ويؤدي للناس الحق الواجب عليه من تبليغ دين الله. وفي هذه الأزمان على الداعية أن يكون حذراً ويقظاً،لأن كثيراً من الدعاة أصلحهم الله قد أولعوا بالحكام فكفروهم وحملوا عليهم وألبوا الناس عليهم واجتهدوا في الخروج عليهم،كما أن الحكام تسلطوا على أولئك الدعاة بدوافع عديدة منها أنهم شعروا أنهم خطر ماحق على حكمهم ورئاستهم،فهذا كله أورث المسلمين شروراً عظيمة متواصلة خص بها أهل التدين وخاصة من الشباب بالنصيب الأوفى. وهذا شر وبلاء، فعلى الداعية أن يكون واعياً يقظاً لأن الدعوة إلى الخروج مبنية على التكفير فليحتاط لنفسه ولو توقف عن الجواب عن مثل هذه المسائل والإعراض عنها أقصد الأسئلة, مثل: ما حكم من حكم بغير ما أنزل الله؟ ما حكم من جعل الربا في بلاده؟ ما حكم الحاكم الفلاني؟ ونحو ذلك. فلو أعرض المسلم عن الجواب عن مثل هذه الأسئلة لما يترتب على الجواب عنها من فهمها الفهم الخاطئ من قبل الجهلة المتحمسين على غير علم،لكان إعراضه عن الجواب حكمة وتعقل،ويكون أثناء ذلك دافعاً للناس للاشتغال بإصلاح أنفسهم وأهليهم،فإن لهم في ذلك شغلاً كافياً عن الحكام وأمورهم مما ليس لهم في الحديث عنه مصلحة سوى إغراء السفهاء أو ملء قلوب المسلمين على الحكام وكرههم وبغضهم المؤدي إلى شر عظيم. والله نسأل أن يهدي المسلمين ويصلح شؤونهم وأحوالهم.

مناهج المخالفين في التكفير

مناهج المخالفين في التكفير أولا: الخوارج ... مناهج المخالفين في التكفير ما سبق ذكره هو موقف أهل السنة من التكفير ويخالفهم في ذلك أهل البدع من الخوارج والمعتزلة والمرجئة والرافضة، وسنذكر مذهب كل فرقة من هؤلاء في هذا الموضوع. أولا: الخوارج الخوارج هم كل من كفر المسلمين وخرج على إمامهم. وقد ابتلي المسلمون بهذه الفتنة وهذه الفرقة في عصر مبكر من تاريخ المسلمين حيث كان أوائلهم ظهر في عهد عثمان رضي الله عنه، وهم الذين قتلوه رضوان الله عليه ثم خرجوا على علي رضي الله عنه وقاتلهم وقتلهم إلا أنهم قتلوه غيلة بعد، ثم خرجوا على حكام المسلمين تباعا إلى أزماننا هذه، ويعتبر الخوارج من أشد بلايا المسلمين عبر تاريخهم الطويل حيث نشروا القتل والدمار في كل مكان وجدوا فيه, بل صاروا من أكبر العقبات في انتشار الإسلام وانطلاقه إلى أمم الأرض بسبب إشغالهم الدول الإسلامية والخلفاء واستنزافهم لطاقات الدول وجهودها ومجهودها. موقف الخوارج من التكفير: الخوارج يكفرون المسلمين بالذنوب فيرون أن من ارتكب كبيرة من الكبائر فقد كفر بذلك وخرج من الإسلام وهو في الآخرة مخلد في النار لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا. ومنهم من يرى ذلك في الكبائر والصغائر 1.

_ 1 انظر مقالات الإسلاميين 1/174-198، الفرق بين الفرق ص 82-90، الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار 3/668.

وهم يغلون في هذا غلوا شديدا حتى قد يعدون ما ليس ذنب ذنباً، كما فعلوا مع عثمان رضي الله عنه فكفروه بأمور أخذوها عليه وعلى ولاته هي في حقيقتها ليست ذنبا فضلا عن أن تكون كفرا، وكذلك فعلوا مع علي رضي الله عنه فكفروه في مسألة التحكيم وخرجوا عليه مع أن الحق كان معه فيما فعل, وليس عليه فيما فعل ذنب فضلا عن أن يكون كفراً. ومنهم من يكفر من لا يخرج معهم ولا يكون في معسكرهم وهم يرون أن من كفروه فهو في النار خالدا مخلدا فيها أبدا1. والإباضية من الخوارج يسمون مرتكب الكبيرة كافر نعمة وكافر نفاق ويجرون عليه أحكام الموحدين في الدنيا أما في الآخرة فحكمه الخلود في نار جهنم لا يخرج منها أبداً ولا تقبل فيه شفاعة2. واحتج الخوارج لقولهم بالتكفير بأدلة منها: قوله عز وجل: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن2] ، فزعموا أن الله ذكر أن الناس فريقان كافر ومؤمن. واستدلوا أيضا بقوله عز وجل: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون102, 103] , فدل ذلك على أن كل من يدخل النار لا بد أن يكون كافرا 3. وكذلك قوله – صلى الله عليه وسلم - "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" 4 ونحوهما ويستدلون لذلك أيضا بأن الإيمان كل لا يتجزأ إذا ذهب بعضه ذهب

_ 1 انظر مقالات الإسلاميين 1/167-170، الخوارج في العصر الأموي ص 195 2 الإباضية عقيدة ومذهبا ص 121، الحق الدامغ لأحمد الخليلي ص 191، مختصر تاريخ الإباضية لأبي الريع الباروني ص 65. 3 مسائل الإيمان للقاضي أبي يعلى ص337. 4 أخرجه البخاري في كتاب الإيمان عن ابن مسعود رضي الله عنه 1/135.

كله. وعندهم أن الإيمان قول واعتقاد وعمل فإذا نقص شيء من القول أو العمل انهدم الإيمان كله وبطل. الرد عليهم: ما سبق ذكره هو من أهم أدلتهم في تكفير أصحاب الذنوب. والرد عليهم من شقين: الشق الأول: أنه ثبت بالشرع أن الفاسق من أهل الإسلام لا يكفر وذلك بأدلة كثيرة منها: أولا: أدلة تدل على عدم تكفيره: قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات9] , فسماهم مؤمنين مع وجود القتال. وقال عز وجل عن القاتل {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة178] فسمى القاتل أخا لولي المقتول, فهذا دليل على عدم تكفيره، كما أن الشارع لم يعامل مرتكب الذنوب معاملة الكافر حيث أوجب في شارب الخمر الجلد والتغريب وفي السارق القطع، وقد أقام النبي صلى الله عليه وسلم هذه الحدود على من وقع منه شيء من تلك المنكرات ولو كانوا بذلك كفاراً لوجب قتلهم لردتهم. ثانياً: أدلة دلت على أنه في الآخرة تحت المشيئة, ومن دخل النار يخرج منها، فقد دلت الأدلة العديدة على أن مرتكب الكبيرة تحت المشيئة من ذلك قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء48] . كما دلت الأدلة على أن من دخل النار من أهل الإيمان فإنه يخرج منها وقد سبق ذكر ذلك. فهذا كله يدل على عدم تكفير مرتكب الكبيرة.

الشق الثاني: بيان بطلان استدلالهم بما استدلوا به. الرد على استدلالهم بالآية الأولى، بأن يقال: إن الآية نصت على أن الناس صنفان مؤمنون وكفار، ومرتكب الكبيرة لا نعده من الكفار بل هو من المؤمنين وإن كان ناقص الإيمان فإنه لم يخرج عن دائرة الإيمان بما سبق ذكره من الأدلة. أما الآية الثانية، فإن من خفت موازينه بالكفر بدليل أن الله تبارك وتعالى ذكر في آخر الآية علة خفة موازينهم ودخولهم النار بقوله: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [المؤمنون105] , وأهل الكبائر ليسوا من المكذبين لآيات الله عز وجل. أما الأحاديث الوارد فيها إطلاق لفظ الكفر على بعض الأعمال فليس المراد به الكفر المخرج من الملة وإنما هو كفر دون كفر، وقد سبق ذكر الدليل على أن الشارع أطلق مثل هذه الألفاظ على بعض الأعمال، ولم يقصد بها الكفر المخرج من الملة. أما قولهم: بأن الإيمان كل لا يتجزأ فإذا ذهب بعضه ذهب كله: فهذه حجة غير صحيحة لأن الإيمان مركب من أجزاء وشعب، وزوال الاسم في المركبات على وجهين: منها ما يكون التركيب شرطاً في إطلاق الاسم، مثل اسم العشرة, شرط في إطلاق الاسم على ما يتكون من عشرة أجزاء،إذا نقصت عن العشرة زال عنها اسم العشرة وصارت تسعة أو ثمانية. ومنها ما يكون التركيب ليس شرطا في إطلاق الاسم بل يبقى الاسم بعد زوال بعض الأجزاء، وأكثر المركبات من هذا النوع مثل المكيلات والموزونات فالحنطة وهي بعد النقص حنطة وكذلك التراب والماء لا يتغير اسمه بالنقص. واسم الإيمان من هذا النوع، فلا يلزم من زوال بعض شعبه زوال الاسم بالكلية وذلك مثل الصلاة والحج فإنه إذا نقص يعض أعمالها لا يلزم بطلانها وإنما

تكون ناقصة، ما لم يكن النقص أتى على ما يكون بقاء الاسم شرطا فيه مثل الركوع والسجود بالنسبة للصلاة فتبطل بذلك, وكذلك الإيمان يبطل لو كان النقص أتى على أصل من أصوله مثل الشهادتين أو أحد أركان الإيمان, وما لم يكن كذلك فإنه لا يزول الاسم به،وإنما يزول عنه اسم الكمال فيكون إيمانه ناقصا بارتكابه لشيء من المنهيات لكن لا يزول عنه اسم الإيمان1.

_ 1 مسائل الإيمان للقاضي أبي يعلى ص 382، مجمع الفتاوى 7/514-520.

ثانيا: المعتزلة

ثانيا: المعتزلة المعتزلة هم أصحاب الأصول الخمسة وهي: التوحيد: الذي هو عندهم نفي الصفات، والوعيد: الذي هو نفي القدر، والوعد والوعيد: ويقصدون به أن الله لا يغفر لمرتكب الكبيرة بل هو مخلد في النار، والمنزلة بين المنزلتين: وهو أن مرتكب الكبيرة لا يسمى في الدنيا مؤمنا ولا كافراً بل هو في منزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: ويقصدون به الخروج على الحكام إذا جاروا وظلموا1. فالمعتزلة كما هو الأصل الرابع عندهم فإن مرتكب الكبيرة قد من الإسلام ولم يدخل في الكفر ويقولون هو في منزلة بين المنزلتين أي بين الإيمان والكفر، وفي الأصل الثالث عندهم, فإن مرتكب الكبيرة في الآخرة مخلد في النار لا يخرج منها أبدا، ويرون أن عذابه دون عذاب الكفار إلا أنه مخلد في النار مثله مثل الكفار وأول من ابتدع بدعة المنزلة بين المنزلتين واصل بن عطاء الغزال، الذي كان من ضمن حلقة الحسن البصري، فجاء سائل يسأل الحسن عن مرتكب الكبيرة فقبل أن يجيب الحسن أجاب واصل بن عطاء بأنه في منزلة بين المنزلتين، ثم اعتزل في ناحية المسجد يقرر ذلك فقال الحسن اعتزلنا واصل فسموا لذلك معتزلة. أما دعواهم في الحكم على مرتكب الكبيرة بالخلود في النار فقد أخذوا ذلك عن الخوارج. أدلة المعتزلة على دعواهم في مرتكب الكبيرة: استدل المعتزلة بالأدلة الدالة على أن الله مدح المؤمنين ووصفهم بالصفات الحسنة مثل قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون1] {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [يونس2] ونحوها من الآيات.

_ 1 شرح الأصول الخمسة ص 128-141.

ووصف الفاسقين بالصفات الدالة على ذمهم وعقوبتهم مثل قوله تعالى في قاطع الطريق {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة33] ، وقوله عن السارق والسارقة {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ} [المائدة 38] . كما استدلوا بحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، والتوبة معروضة بعد" 1. وقالوا إن الرسول صلى الله عليه وسلم نفي عنه اسم الإيمان. فهذا يدل على أنه خرج من الإيمان ولم يدخل في الكفر. الرد عليهم: من سمات المبتدعة عموما أنهم إذا استدلوا بشيء من النصوص على بدعتهم فتراهم يستدلون ببعض النصوص ويعرضون عن البعض الآخر الذي لا يتفق مع بدعتهم التي ابتدعوها من دون نظر للشرع وإنما لأهواء وآراء. والمعتزلة في استدلالهم الأول نظروا للنصوص التي ذمت الفساق وذكرت عذابهم ولم ينظروا إلى النصوص التي أدخلتهم في عداد المؤمنين مثل قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات9] ،وقوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة178] . وكذلك النصوص الدالة على إقامة أحكام الإسلام على الفاسق, وأن الشارع لم يوجب على من ارتكب شيئا من المنكرات أن يعاود إسلامه،ويجدده بناءً على خروجه منه. كما لم ينظروا إلى النصوص التي جعلت الفساق تحت المشيئة والنصوص التي دلت على خروج الموحدين من النار بما كان عندهم من إيمان مما يدل على أنهم لم يخرجوا من الإيمان بارتكابهم شيئا من المنكرات.

_ 1 أخرجه البخاري في صحيحه كتاب المظالم 3/118، ومسلم في كتاب الإيمان 1/76.

أما الآيات التي استدلوا بها: فإن ما ورد فيه مدح المؤمنين والثناء عليهم فهذا وصف أهل الكمال منهم. أما ما ورد فيه ذمهم فهذا وصفهم في حال نقص إيمانهم بالمعاصي ولا يعني ذلك خروجهم من الإيمان بذلك. أما استدلالهم بحديث أبي هريرة: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ... " فللعلماء في ذلك عدة أجوبة من أظهرها: أن المراد أن الإيمان يرتفع عنه حال مقارفته المنكر فإذا تاب وأقلع رجع إليه إيمانه، ويؤيد هذا حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا زنى الرجل خرج منه الإيمان كان عليه كالظلة فإذا انقطع رجع إليه الإيمان" 1، وبهذا قال أبو هريرة رضي الله عنه كما روى الآجري أنه قال: "الإيمان نَزِهْ فمن زنا فارقه الإيمان فإن لام نفسه وراجع رجع إليه الإيمان "2، وبهذا قال أيضا ابن عباس رضي الله عنه وعطاء وطاووس والحسن وهو قول الإمام أحمد. ولا يعني هذا القول أن مفارقة الإيمان له خروجه من الإسلام لأن جل العلماء يرون أن الإيمان مرتبة أعلى من الإسلام فلو خرج من الإيمان فهو يخرج إلى الإسلام ولا يخرج من الإسلام إلا بأمر كفري. وقول آخر: أن الإيمان المنفي هنا هو الإيمان الكامل، وهو الكمال الواجب الذي يعاقب على تركه صاحبه لأن الكمال نوعان: كمال واجب وهو سائر ما أوجب الله على العباد، ويدخل فيه الانتهاء عما نهى الله تبارك وتعالى عنه. وكمال مستحب: وهو سائر ما رغب الله تبارك وتعالى به من الفضائل والأعمال الصالحة. وذلك زيادة على القيام بالواجب والانتهاء عن المحرم.

_ 1 أخرجه أبو داود في السنة 2/270، والحاكم في المستدرك 1/22، وقال صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. 2 الشريعة للآجري ص 115.

فنقص الكمال الواجب يعرض الإنسان للعقوبة،أما نقص الكمال المستحب فلا يعرض الإنسان للعقوبة وإنما هو أنقص من غيره ممن أتى بذلك. والعرب قد تنفي الشيء إذا كان غير متقن، ويقصدون بذلك عدم إتقانه وعدم كماله وعدم الإتيان به على الوجه المطلوب, كقولهم لمن صنع شيئاً ولم يتقنه: أنت لم تصنع شيئاً، ويقصدون نفي تجويده وإتقانه وكمن يرى ابنا يعق أباه يقال عنه: هذا ليس بولد له, وهم يعلمون أنه من صلبه. أو كمن يرى طالباً يأت من الأخلاق ما لا يليق بالطلاب فيقال هذا ليس طالباً، وإنما المراد من كل ذلك نفي كمال الشيء وإتقانه وحقيقة أخلاقه. فكذلك الإيمان المنفي في هذا الحديث وغيره من الأحاديث مثل: "لا إيمان لمن لا أمانة له" 1, وحديث "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" 2، ونحوها إنما هي على نفي كمال الإيمان3 والله أعلم.

_ 1 أخرجه أحمد في المسند 3/135 عن أنس رضي الله عنه وقال الألباني في التعليق على المشكاة 1/14 حديث جيد وأحد أسانيده حسن وله شواهد. 2 أخرجه البخاري في الإيمان 1/9، ومسلم في الإيمان1/67 من حديث أنس رضي الله عنه. 3 انظر فتح الباري 12/61، الإيمان لأبي عبيد القاسم بن سلام ص 89، مسائل الإيمان لأبي يعلى ص 320،377.

ثالثا: موقف المرجئة من التكفير، والرد عليهم

ثالثا: موقف المرجئة من التكفير، والرد عليهم: المرجئة كما سبق بيانه عرفوا الإيمان: بأنه التصديق أو القول أو القول مع التصديق أو المعرفة. فبناءً عليه حصروا الكفر في الجهل والتكذيب. قال الباقلاني في تعريف الكفر هو: ضد الإيمان وهو الجهل بالله عز وجل والتكذيب به الساتر لقلب الإنسان عن العلم به1.

_ 1 التمهيد للباقلاني ص 394.

وقال النسفي: الكفر هو التكذيب والجحود وهما يكونان في القلب1. وهذا القول منهم مبني على قولهم في الإيمان، وقد سبق بيان بطلان قولهم في الإيمان. وأن الأدلة الشرعية دلت على أن الإيمان: قول واعتقاد وعمل, يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية, وعلى ذلك إجماع السلف. أما قولهم في التكفير فيكفي في نقضه الإجماع على أن من سبَّ الله ورسوله فهو كافر بهذا السب، وكذلك من استهزأ بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم فهو كافر بذلك كما قال الله عز وجل: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ، لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة65, 66] ، فدل ذلك على أن الاستهزاء مجرداً وكذلك السب وهو أكبر منه كفر مخرج من الملة. كما أن من أبغض شرع الله أو أعرض عنه وكذلك السحر كل هذا مما هو كفر بالله. كما دلت الأدلة السابقة في نواقض الإيمان وإن لم تكن هذه الأفعال تكذيباً ولا يظهر منها ذلك. 2

_ 1 التمهيد في أصول الدين للنسفي ص 100. 2 انظر: الإيمان الأوسط لشيخ الإسلام 99-102, نواقض الإيمان الاعتقادية 1/192

رابعا: الرافضة

رابعا: الرافضة الرافضة من الشيعة الذين يغلون في حب علي وآل بيته ويقدمونهم على سائر الصحابة ويعتقدون الإمامة في اثنى عشر إماما من أولاد علي ويطعنون الصحابة الكرام ويكفرونهم. والرافضة كما هو معلوم فرقة من شر أهل البدع وأسفههم مقالا، فلا عقل لهم يعتمدون عليه ولا شرع،حيث يزعمون الإمامة لإثنى عشر رجلا من آل البيت لم يتول منهم الإمامة فعلا إلا علي رضي الله عنه, والحسن مدة ستة أشهر ثم تركها وتنازل عنها، يزعمون عصمة أولئك الأئمة وأنهم مشرعون ويوحى إليهم إلى غير ذلك من ترهاتهم وأكاذيبهم.

ويطعنون في القرآن ويردون السنة كلها ويبغضون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجاته وسائر أئمة الدين، ولهم بدع ومقالات لا تكاد تلتقي مع المسلمين، وهم في توحيد الألوهية مشركون يعبدون القبور ويدعون أصحابها ويستغيثون بهم ويطوفون بقبورهم.1 وهم في الصفات والقدر مثل المعتزلة ينفون الصفات وينفون القدر.2 قولهم في التكفير: الرافضة ابتدعوا بدعا كثيرة افتروها ثم جعلوها أصولا يوالون عليها ويعادون، ويشهدون وفقها بالإيمان أو يكفرون،ومن أخطر بدعهم ما يسمونه بالإمامة. وهي اعتقادهم بأن الأئمة هم علي ثم الحسن ثم الحسين إلى اثنى عشر إماما من ذرية الحسين. وقد غلو في هؤلاء الأئمة غلوا شديدا فتجاوزوا بهم مقام النبوة فزعموا أنهم معصومون وأنهم يوحى إليهم، ويشرعون ويعلمون الغيب وما كان وما سيكون وأنهم أفضل من جميع الأنبياء ما عدا النبي محمد صلى الله عليه وسلم وليس عندهم فرق بين النبي والإمام إلا من ناحية المسمى فقط, وبعضهم يقول: إن الإمام لم يسم نبيا مراعاة لموضوع ختم النبوة بل يجعلونهم هم الوسائط بينهم وبين الله فيطلبون منهم ما يطلبون من الله من تفريج الهموم وكشف الغموم ورفع الكربات ودفع البليات، وزعموا أن الإمامة وصية من الله ورسوله، بل هي منصب إلهي كالنبوة. يقول محمد حسين الكاشف الغطاء في كتابه أصل الشيعة وأصولها: "الشيعة زادوا ركنا سادسا وهو الاعتقاد بالإمامة يعني: يعتقدون أن الإمامة منصب إلهي كالنبوة, فكما أن الله يختار من يشاء من عباده للنبوة والرسالة ويؤيده بالمعجزة

_ 1 انظر كشف الأسرار للخميني ص: 49 2 حق اليقين في معرفة أصول الدين لعبد الله شبر الرافضي 1/58

التي هي كنص من الله عليه, فكذلك يختار للإمامة من يشاء،ويأمر نبيه بالنص عليه وأن ينصبه إماما للناس من بعده للقيام بالوظائف التي كان على النبي أن يقوم بها"1. فجعلوا الإمامة أصلا من أصول الدين الذي لا يصح الإسلام إلا به بل يجعلونه أعظم أصول الدين وفي هذا يروون عن أبي جعفر الباقر أنه قال: بني الإسلام على خمس على الصلاة والزكاة والصوم والحج والولاية، ولم يناد بشيء كما نودي بالولاية"2 وفي رواية أخرى للكليني عن جعفر الصادق أنه قال: "أثافي الإسلام ثلاثة الصلاة والزكاة والولاية ولا تصح واحدة منهن إلا بصاحبتها".3 وعن زرارة عن أبي جعفر أنه قال: بني الإسلام على خمسة أشياء على الصلاة والزكاة والحج والصوم والولاية، قال زرارة: قلت وأي دلك أفضل؟ فقال: الولاية أفضل.4 فهذه الافتراءات التي افتروها في موضوع الإمامة جعلت نظرتهم للناس من ناحية الإيمان والكفر مبنية على هذه المقالة المكذوبة، فلذا زعموا كفر كل من أنكر ذلك وخلوده في النار. قال الشيخ المفيد من الرافضة: "اتفقت الإمامية على أن من أنكر إمامة أحد من الأئمة وجحد ما أوجبه الله تعالى له من فرض الطاعة فهو كافر ضال مستحق للخلود في النار"5

_ 1 أصل الشيعة وأصولها: ص: 58 2 الكافي 2/18 وهو من كتب الروافض.......وجله رواية من جعفر الصادق وأبيه الباقر وقليل منه عن علي والأقل هو المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع أن جله من الموضوع ومما لا أصل له. 3 الكافي 2/18 4 الكافي 2/18 5 حق اليقين في معرفة أصول الدين، عبد الله شبر 2/276

وقال ابن بابويه الفخر: واعتقادنا فيمن جحد إمامة أمير المؤمنين والأئمة من بعده أنه بمنزلة من جحد نبوة الأنبياء، واعتقادنا فيمن أقر بأمير المؤمنين وأنكر واحدا من بعده من الأئمة أنه بمنزلة من آمن بجميع الأنبياء ثم أنكر بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم"1 بل زادوا بالتبرؤ من الإله الذي خليفة نبيه هو أبو بكر رضي الله عنه وفي هذا يقول نعمة الله الجزائري: لم نجتمع معهم على إله ولا نبي ولا على إمام, وذلك أنهم يقولون إن ربهم هو الذي كان محمد صلى الله عليه وسلم نبيه وخليفته من بعده أبو بكر ونحن لا نقول بهذا الرب ولا بذلك النبي، بل نقول: إن الرب الذي خليفة نبيه أبو بكر ليس ربنا ولا ذلك النبي نبينا" 2. ويروون عن الصادق قوله: من شك في كفر أعدائنا والظالمين فهو كافر. وقالوا: واعتقادنا في البراءة أنها من الأوثان الأربعة والإناث الأربع ومن جميع أشياعهم وأتباعهم وأنهم شر خلق الله ولا يتم الإقرار بالله وبرسوله والأئمة إلا بالبراءة من أعدائهم.3ومرادهم بالأوثان الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان ومعاوية4 رضي الله عنهم وأرضاهم والإناث الأربع هن عائشة وحفصة رضي الله عنهما وكذلك هند بنت عتبة أم معاوية رضي الله عنه وأم الحكم أخته 5. هذا موقف الرافضة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم من لدن الصحابة إلى آخر رجل أو امرأة في هذه الأمة ممن لا يؤمن بخرافاتهم وأساطيرهم،فهم بين غلو وكذب وافتراء

_ 1 نقلا عن أصولا مذهب الشيعة الإمامية 2/714 2 نقلا عن أصول مذهب الشيعة الإمامية 2/714 3 أصول الدين لعبد الله شبر 2/276 4 جاء في تفسير العياشي رواية: من أعداء الله أصلحك الله: قال الأوثان الأربعة – قال قلت من هم؟ قال أبو الفصيل ورمع ونعثل ومعاوية ومن دان دينه" وأبو فصيل هو أبو بكر رضي الله عنه لأن البكر والفصيل متقاربان في المعنى, ورمع عكس كلمة عمر, ونعثل مسبة يسبونها لعثمان رضي الله عنه. هكذا قال شيخهم المجلسي عليه من الله ما يستحق. 5 انظر أصول مذهب الشيعة 2/725،730.

في دين الله بادعاء الإمامة وما يتبعها من غلو وانحراف،وبين ظلم واعتداء وبغي بتكفير الأمة وساداتها والطعن فيهم ولعنهم وليس من سبب إلا أنهم لم يؤمنوا بأكاذيبهم وسخافاتهم. الرد عليهم: الرد على الروافض في هذا من شقين: الشق الأول: في إبطال دعوى الإمامة وأنها من أصول الدين. الشق الثاني: في إبطال تكفير منكرها. أما الشق الأول فهو الرد على دعوى الإمامة أنها أصل من أصول الدين،فهو قول باطل من عدة أوجه: أولا: أنه كيف يمكن أن يكون أصلا من أصول الإسلام ولم يرد في القرآن الكريم له ذكر كما لم يرد في السنة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم له ذكر وقد عد عليه الصلاة والسلام في أحاديث كثيرة أركان الإيمان والإسلام ولم يذكر من ضمنها الولاية أو الإمامة فيما يزعمون. ثانيا: أن الإمامة كما يزعمون منصب إلهي مثل النبوة فكان يجب التنصيص عليها في القرآن الكريم كما ينص على الأنبياء عليهم السلام. ثالثا: إن من نظر في أركان الإسلام يجدها عبادات محضة لله عز وجل, أما الإمامة التي يزعمون فهي منصب دنيوي وليس ديني وتعلقها بالدين من ناحية أنها تتضمن حماية الدين والدفاع عنه وإقامة الحدود والعدل بين الناس وهي في هذا مثل قائد الجند الذي يطبق على جنوده أوامر رؤسائه، فالإمامة وسيلة لإقامة الدين وليست من أصل الدين في شيء. رابعا: أن الوصاية لعلي والإمامة له بالكيفية التي يدعيها الروافض أو ل من ادعاها في الإسلام عبد الله بن سبأ اليهودي حيث كان يشيع: إنه كان لكل نبي

وصي وإن عليا وصي محمد صلى الله عليه وسلم ومحمد خاتم الأنبياء وعلي خاتم الأوصياء.1 فتلقفها عنه الحاقدون على الإسلام من أصحاب الملل فنشروها وأشاعوها بين المسلمين، وكل من عرف تاريخ علي رضي الله عنه وسيرته يتيقن أنه ما كان يعتقد أنه وصيا ولا إماما ولا شيعيا كما يدعيه الرافضة بل روي عنه رضي الله عنه أنه قام خطيبا على منبر الكوفة لما علم بقوم من أهل الكوفة يتناولون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما وينتقصونهما فقام خطيبا فأثنى على أبي بكر وعمر وذكر جميل خصالهما ثم قالِ: فمن أحبني فليحبهما ومن لم يحبهما فقد أبغضني وأنا منه بريء ولو كنت تقدمت إليكم في أمرهما لعاقبت في هذا أشد العقوبة، ألا فمن أوتيت به يقول بعد هذا اليوم فإن عليه ما على المفتري، ألا وخير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر رضي الله عنهما".2 بل ثبت في البخاري أن محمد بن علي بن أبي طالب ابن الحنفية قال: قلت لأبي يعنى عليا: أي الناس خير بعد رسوله الله صلى الله عليه وسلم قال: أبو بكر، قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر، وخشيت أن يقول عثمان، قلت: ثم أنت، قال: ما أنا إ لا رجل من المسلمين".3 فهذا قول علي رضي الله عنه في نفسه ومذهبه في الخلفاء قبله وفيه دلالة على كذب الروافض. خامسا: أن الإمامة التي يزعمون هي دعوى وهمية خرافية حيث لم يتول الإمامة من أئمتهم سوى علي بعد ثلاثة خلفاء ثم الحسن بن علي لمدة ستة أشهر ثم تنازل

_ 1 الشريعة للآجري 3/169 2 أخرجه بطوله ابن الجوزي في تلبيس إبليس 138-140 بسنده عن سويد بن غفلة وذكره شيخ الإسلام في منهاج السنة 1/308 وروى نحوه الإصبهاني عن علقمة، انظر الحجة في بيان المحجة 2/345 3 أخرجه البخاري في فضائل الصحابة 7/24, باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لو كنت متخذاً خليلاً.

عنها أما من عداهم فلم يتول أحد منهم شيئا من أمور الدنيا فضلا عن الإمامة الكبرى، فتكون دعواهم في الإمامة من باب الكذب والتخرص فقط. سادسا: أن عليا تولى باختيار المسلمين له،ليس بنص ولا بطلب منه وكذلك الحسن ولاه المسلمون الذين كانوا مع أبيه في العراق بعد مقتل علي رضي الله عنه ليس بنص ولا طلب منه، ثم تنازل عنها،فلو كان فيها نص لما احتاج الأمر إلى اختيار المسلمين ولا جاز للحسن التنازل عنها. وهذا من أقوى الأدلة عليهم لأنه لو كان إماما من قبل الله عز وجل لما جاز له التنازل كما لا يجوز لنبي أن يتنازل عن النبوة التي كلف بها. سابعا: أن الروافض يزعمون الإمامة لاثنى عشر رجلا من آل البيت. ومن قرأ في كتب الروافض يراهم يختلفون عند موت كل واحد من أولئك إلى فرق كثيرة كل جماعة منهم تقول بإمامة من يهوون وهذا يدل على كذب ما يزعمونه من النص على أئمتهم. ثامنا: إن الأدلة الدالة على استحقاق أبي بكر للخلافة بعد رسوله الله صلى الله عليه وسلم ظاهرة واضحة – وليس هذا مكان استقصائها – وإنما يكفي أن يذكر دليل واحد وهو استخلاف النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر للإمامة في الصلاة في مرضه الذي مات فيه فبل موته عليه الصلاة والسلام, وهو كاف في الدلالة، لأن الصلاة أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين، ولو كان عليا كما يزعم الروافض هو وصي رسوله الله صلى الله عليه وسلم لجعله إمام المسلمين في حياته فلما لم يجعله كذلك دل على كذب الروافض في دعواهم الإمامة وأن المستحق للخلافة هو أبو بكر رضي الله عنه. تاسعا: إن كل ما يدعيه الروافض من الأدلة في استحقاق علي للإمامة إما أدلة عامة ليس لهم فيها دليل مثل قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة55]

وإما أدلة فيها فضيلة لعلي رضي الله عنه وليس فيها دلالة على الخلافة وذلك مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من كنت مولاه فعلي مولاه" 1 فليس معناها إلا أنه من كنت محبوبه وواجب عليه نصرتي فعلي محبوبه وواجب عليه نصرته. وهو من جنس قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة71] لأن الولي في اللغة هو الناصر والمحب. ومثلها حديث: "ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي".2 فهذا فيه بيان أن يكون علي بمنزلة هارون لما استخلفه موسى على أهله وبني إسرائيل فعلي كذلك لأن هذا القول قاله النبي صلى الله عليه وسلم لما استخلف عليا على المدينة في غزوة تبوك ولم يكن في المدينة إلا النساء والصبيان فخرج علي يبكي قال تخلفني على النساء والصبيان فطيب خاطره النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فهذه فضيلة له وليس فيها دلالة على الإمامة المزعومة. أما الرد عليهم في تكفير منكر الإمامة فمن عدة أوجه: 1 – أن الله كفر منكر نبوة أحد من الأنبياء ولم يرد دليل على كفر من أنكر الإمامة. 2 - أن تكفير منكر الإمامة اعتداء وبغي،إذ ليس في القرآن ولا في السنة النص على إمامة علي رضي الله عنه فضلا عن أحد من أهل بيته وأبنائه فمن أنكرها فهو منكر لشيء لم يرد في الشرع له دليل صريح.

_ 1 أخرجه الترمذي في كتاب المناقب 5/633 من حديث أبي الطفيل, وقال: حسن صحيح. وللحديث طرق أخرى كثيرة. انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة 4/330-344. 2 أخرجه البخاري في كتاب فضائل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم 5/17, باب مناقب علي رضي الله عنه, ومسلم في كتاب فضائل الصحابة 4/1870، من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.

3 - أن تكفير منكر الإمامة فيه تكفير للأمة من أولها إلى آخرها سوى شرذمة قليلة من الروافض وهذا مؤد إلى إبطال الدين كله وما أدى إلى إبطال الدين فهو باطل. 4 – أن تكفير منكر الإمامة فيه تكفير للحسن بن علي الذي تنازل لمعاوية وتكفير الإمام وهو الحسن كتكفير نبي من الأنبياء عندهم فيكون تكفير منكر الإمامة باطل لأنه مؤد إلى تكفير الحسن. 5 - أن تكفير منكر الإمامة فيه تكفير لمن أقر لمعاوية بالإمامة فيدخل فيه الحسن والحسين وسائر آل البيت ومن كان مع علي في العراق لأنهم اصطلحوا على إمامة معاوية وبايعوه فمن زعم كفر من أنكر الإمامة فقد كفر جميع هؤلاء ومنهم أئمة آل البيت وتكفيرهم كفر, فمن كفرهم فلا شك في كفره عند الروافض فهذا دليل ظاهر على بطلان دعوى الروافض في منكر الإمامة. فيتبين من هذا كله كذب الروافض في دعاويهم التي ادعوها في الإمامة، وكذلك بغيهم وظلمهم في تكفيرهم المسلمين بتلك الدعاوى المكذوبة.

بيان بطلان قول الرافضة في الإمامة على التفصيل, والرد عليهم: أ - دعوى الرافضة بأن الإمامة ركن من أركان الدين باطلة من عدة أوجه منها: 1 - إن زعمهم أنها ركن من أركان الإسلام كذب منهم فلم يرد عن الله ولا عن رسوله صلى الله عليه وسلم ذكر ذلك، بل جميع رواياتهم في هذا إنما يروونها عن جعفر بن محمد بن علي الملقب بالصادق، وليس هو مشرع وليس لقوله اعتبار إلا في حالة موافقته لكلام الله عز وجل أو كلام رسوله صلى الله عليه وسلم. 2 - إن رواياتهم عن جعفر الصادق مسلسلة بالمجاهيل،وهم يكذبون على آل البيت وينسبون إليهم ما لم يقولوه. 3 - إن هذا القول مخالف لما ورد في الحديث الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، والحج".1 كما أنا إذا نظرنا في أركان الإسلام نجد أنها كلها عبادات محضة لله عز وجل إما عبادة بدنية كالصلاة والصيام أو عبادة مالية كالزكاة أو عبادة بدنية مالية كالحج، وليست الولاية من جنسها بل تتعلق بسياسة الأمة المسلمة وإدارة شؤونها وتنفيذ حدود الله عز وجل وأوامره التي تتعلق بولي الأمر، فهي وسيلة إلى الخير والعبادة وليست غاية مطلوبة بحد ذاتها مثل قائد الجيش أو مدير الإدارة، فالهدف من تنصيبه هو سياسة العمل الموكل إليه وإدارته وفق ما لديه من تعليمات. 4 - إن كلامهم مضطرب وهكذا الباطل دائماً، فمرة جعلوا الأركان خمسة، ومرة ثلاثة، ومرة ستة، فهذا دليل الاضطراب والكذب. 5 - زعمهم أن الإمامة أعظم أركان الإسلام، ثم زعمهم أنها منصب إلهي كالنبوة بمعنى أن الله هو الذي يختار الأئمة، فهذا من الباطل لأن فيه دلالة على أن

_ 1 أخرجه البخاري في كتاب الإيمان 1/9 من عدة أوجه عن ابن عمر رضي الله عنهما, باب دعاؤكم إيمانكم, ومسلم في كتاب الإيمان 1/45, باب بيان أركان الإسلام ودعائمه العظام.

الأنبياء غير كافين في تبليغ الدين وبيانه، فاحتاج الأمر عندهم إلى تنصيب الأئمة لإقامة الحجة على الناس, وذلك باطل يكذبهم ظاهر القرآن, فقد قال عز وجل: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء165 فالأنبياء عليهم السلام مبلغون عن الله عز وجل ثم العلماء والدعاة يبلغون دعوة الأنبياء إلى الناس، فلا حاجة للأئمة المزعومين. ب - أن الخليفة بعد رسوله الله صلى الله عليه وسلم هو علي بن أبي طالب ثم الأئمة من آل البيت على ترتيبهم لديهم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم نص على ذلك. هذه أهم دعاوى الروافض،وأهم ما يتميزون به وهو اعتقاد أن علياً هو وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويستدل الروافض لهذا بأدلة من القرآن والسنة منها: 1 - قول الله عز وجل: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة55] . وقالوا: إن المراد بـ {الَّذِينَ آمَنُوا} في الآية علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وذلك أن الآية نزلت فيه حيث تصدق بخاتمه على مسكين وهو يصلي، وزعموا أن ذلك مروي في الصحاح الستة1. واستدلوا أيضاً بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة119] . وزعموا أن المراد بـ "الصادقين" هنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه2. ويستدلون من السنة بحديث غدير "خم" الذي ورد فيه قوله عليه الصلاة والسلام: "من كنت مولاه فعلي مولاه".3

_ 1 انظر حق اليقين في أصول الدين 1/262 لعبد الله شبر وهو من الرافضة. 2 انظر حق اليقين في أصول الدين 1/263. 3 سبق تخريجه ص90.

وحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل عليه قوله عز وجل: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء124] جمع من أهل بيته ثلاثين فأكلوا وشربوا ثم قال لهم: "من يضمن عني ديني ومواعيدي ويكون خليفتي، ويكون معي في الجنة" فقال علي: أنا. ومنها حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد الخروج لغزوة تبوك خلف علياً على النساء والصبيان فقال: يا رسول الله أتخلفني على النساء والصبيان؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى" 1. هذه أهم أدلتهم من السنة على ما زعموا, وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نص على أن الخليفة بعده هو علي ولهم أدلة أخرى أكثرها غير صحيحة. الرد عليهم وبيان بطلان استدلالهم: الروافض يستدلون بأدلة عامة ويكذبون في بيان وجه الاستدلال بها. - فأما الآية الأولى وهي قوله عز وجل: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة55] . فالرد على استدلالهم بها ما يلي: 1 - أن الآية عامة فمن ناحية لفظها ليس فيها تخصيص لأحد. 2 - أن سبب نزول الآية ذكر فيه العلماء ثلاثة أقوال: فقيل: إنها نزلت في عبادة بن الصامت رضي الله عنه لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم, وتبرأ من يهود بني قينقاع فقال: أتولى الله ورسوله والمؤمنون, وأبرأ من حلف الكفار وولايتهم, فأنزل الله هذه الآية2. والقول الثاني: أن الآية عامة في كل من أسلم, وهذا قول ابن عباس والسدي وأبو جعفر محمد الباقر3.

_ 1 انظر: المرجع السابق 1/275. 2 روي ذلك ابن جرير في تفسيره عن إسحاق بن يسار 6/288. 3 تفسير ابن جرير 6/288.

القول الثالث: أنها نزلت في علي بن أبي طالب رضي الله عنه حيث تصدق بخاتمه على مسكين وهو راكع، وروي ذلك عن مجاهد وعتبة بن أبي حكيم وغيرهم، إلا أن هذه الروايات لا يصح منها شيء، قال ابن كثير عنها: "وليس يصح شيء منها بالكلية لضعف إسنادها وجهالة رجالها" 1. فهذه الأقوال تبين أن الآية ليست خاصة بعلي رضي الله عنه، وأن الروايات الواردة في أنها نزلت في علي ضعيفة، وكذلك يتبين كذب الرافضة حين يدعون أن الروايات واردة لدى أهل السنة في الصحاح الستة حيث لم ترد في أي من الصحاح. 3 - أن حمل الآية على الخلافة غير صحيح لأن التولي من معانيه النصرة والتأييد والمحبة فحملها على الخلافة يحتاج إلى دليل خاص وليس عندهم دليل خاص. أما الآية الثانية وهي قوله عز وجل: {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة119] . فالرد على استدلالهم بها: 1‍ - أن الآية عامة فلا تعين أحداً بلفظها, وإنما فيها الأمر بأن يكون المسلم مع الصادقين, والآية من ضمن الآيات التي نزلت في شأن كعب بن مالك رضي الله عنه وصاحبيه حين تخلفوا عن غزوة تبوك, فأمرهم الله عز وجل بعد التوبة عليهم أن يتقوا الله ويكونوا مع الصادقين. 2 - أنه ورد عن العلماء ثلاثة أقوال في الآية: أولها: أن المراد بالصادقين رسوله الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وبهذا قال عبد الله بن عمرو رضي الله عنه. وثانيها: أن المقصود بذلك أبو بكر وعمر وأصحابهما رضي الله عنهم، وبهذا قال الضحاك2.

_ 1 تفسير ابن كثير 2/67. 2 انظر: تفسير ابن كثير 2/363.

وثالثها: أن المقصود بذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وبهذا قال ابن عباس رضي الله عنه1. وليس في هذه الأقوال تعارض ولا تنافي لأن كل هؤلاء من الصادقين الذين أمر المسلم بأن يكون معهم ويلزم طرائقهم في الصدق والاستقامة. - أما استدلالهم من السنة فالحديث الأول وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "من كنت مولاه فعلي مولاه" فالرد عليهم هو أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الموالاة، والموالاة تأتي على معان منها المحبة والنصرة وهذا هو المقصود هنا فيكون معناه من كنت محبوبه وواجب عليه نصرتي فعلي أيضاً يجب أن يكون محبوبه وواجب عليه نصرته، فهذا غاية ما يدل عليه الحديث، وهو من جنس ما ذكر الله عز وجل عن المؤمنين في قوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة 71] , أي يتناصرون ويتعاضدون كما جاء في الحديث الصحيح "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا" 2. فلا يكون الحديث دليلاً للرافضة على النص على ولاية علي رضي الله عنه. وذكر البيهقي في كتابه "الاعتقاد" أن الحديث له سبب وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث علياً إلى اليمن كثرت الشكاة منه وأظهروا بغضه، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يذكر اختصاصه به ومحبته إياه ويحثهم على محبته وموالاته وترك معاداته3. والرافضة هنا يزيدون من عند أنفسهم أشياء حتى يوهموا الناس المعنى الذي يقصدون، فيذكر "عبد الله شبر" الرافضي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل عليه في حجة الوداع {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة67] الآية, قام في غدير "خم" 4 ثم بعد أن ذكر ما ذكر في علي رضي الله عنه نزل عليه قوله تعالى: {الْيَوْمَ

_ 1 الدر المنثور للسيوطي 4/316. 2 انظر: تفسير ابن كثير 2/336. 3 الاعتقاد للبيهقي ص 181. البداية والنهاية لابن كثير 7/317. 4 غدير خم: موضع بين مكة والمدينة تصب فيه عين، وقد مر عليه النبي صلى الله عليه وسلم في طريق عودته من حجة الوداع. انظر: النهاية لابن الأثير 2/81.

أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة3] الآية، ثم زعم الرافضي أن حديث الموالاة مروي في البخاري1. وهذا من افتراءات الروافض. أما الآية الأولى قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ} فلم يذكر أحد من العلماء أنها نزلت في الحج. أما الآية الثانية وهي {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} فبالاتفاق أنها نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو واقف بعرفة كما روى ذلك البخاري ومسلم،وليس في غدير خم كما زعم الرافضي, فإن غدير خم مر به النبي صلى الله عليه وسلم بعد عودته من الحج وهو في طريقه إلى المدينة. ومن كذب الرافضي أنه ادعى أن الحديث في البخاري وهو غير صحيح وإنما هو مروي عند الترمذي والإمام أحمد ولم يروه البخاري ولا مسلم. - أما الحديث الثاني فقد رواه الإمام أحمد بسنده عن شريك بن عبد الله عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن عباد بن عبد الله الأسدي عن علي قال: لما نزلت {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} قال: جمع النبي صلى الله عليه وسلم من أهل بيته ثلاثين فأكلوا وشربوا قال: فقال لهم من يضمن عني ديني ومواعيدي ويكون معي في الجنة وخليفتي في أهلي؟ فقال رجل لم يسمه شريك: أنت كنت بحراً من يقوم بهذا قال: ثم قال الآخر قال: فعرض ذلك على أهل بيته فقال علي: أنا2. هكذا روى الحديث الإمام أحمد في المسند وهو حديث ضعيف, فإن عباد ابن عبد الله الأسدي قال عنه في التقريب: ضعيف. وقال عن المنهال بن عمرو: صدوق ربما وهم. أما الأعمش فهو مدلس وفد عنعن الحديث. وشريك بن عبد الله صدوق يخطيء كثيراً وتغير حفظه منذ ولي القضاء.

_ 1 انظر: حق اليقين في معرفة أصول الدين 1/274. 2 المسند 1/111.

فالحديث بهذا الإسناد ضعيف. كما أن الحديث ليس فيه دليل على الخلافة, وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر ذلك لما أمر بالجهر بالدعوة فكان يريد رجلاً من أهل بيته يضمن عنه أداء الحقوق إلى الناس ويرعى شؤون أهله لاحتمال أن يقتله المشركون إذا جهر بالدعوة فأراد عليه الصلاة والسلام أن يطمأن على إيصال الأمانات إلى أصحابها لأن قريشاً كانوا يأتمنونه على أموالهم1. والرافضة حرفوا في الحديث حيث قالوا: "خليفتي" يوهمون الناس أن المقصود الخلافة ونص الرواية "خليفتي في أهلي" ومعناه يخلفني في أهلي يرعى شؤونهم. كما أن في الحديث ما يشير إلى بطلانه وهو أن علياً كان عمره وقت الجهر بالدعوة ثلاث عشرة سنة لأنه كان حين أسلم له عشر سنوات والدعوة السرية ثلاث سنوات فيكون عمره ثلاث عشرة سنة وقت ذلك، فهل يعقل أن يتصدى لهذا الأمر غلام دون البلوغ ويعزف عنه كبار بني هاشم وبني عبد المطلب وفيهم مثل حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه؟ أما الحديث الثالث وهو "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي". فالرد عليهم في استدلالهم به هو أن يقال: ليس في الحديث دلالة على الخلافة لأن الحديث إنما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم تطييباً لخاطر علي رضي الله عنه وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج لغزوة تبوك خَلَّفَ علياً على المدينة، فخرج علي يبكي ويقول: أتخلفني على النساء والصبيان؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم مطيباً لخاطره "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى"،أي حين استخلف موسى أخاه هارون على قومه لما ذهب لموعده مع رب عز وجل, فالمراد هنا تشبيه الاستخلاف بالاستخلاف وقد كان من عادة النبي صلى الله عليه وسلم أنه كلما خرج في سفر أو غزوة استخلف على المدينة وقد استخلف عبد الله بن أم مكتوم الأعمى وغيره من

_ 1 انظر: البداية والنهاية 3/9.

الصحابة فلم يكن استخلافه لهؤلاء دليلاً على استحقاقهم للخلافة بعد موته عليه الصلاة والسلام1. هذه أهم أدلتهم فيما يدعون من الوصية لعلي وعندهم روايات كثيرة مكذوبة وروايات أخرى وإن كانت صحيحة فإنها لا تدل على المعنى الذي يقصدون مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله" 2, يعني علياً، فهذا من فضائل علي رضي الله عنه وليس فيه دلالة على الخلافة. أما من عدا علي رضي الله عنه من أئمتهم مثل الحسن والحسين ومن بعدهم فليس في ذلك شيء يصح البتة سوى الكذب من الروافض والبهتان, ومما يدل دلالة واضحة على كذب الروافض: أنه لم يتول ممن يدعون لهم الإمامة إلا علي رضي الله عنه ثم الحسن تولى قرابة ستة أشهر ثم تنازل لمعاوية رضي الله عنه, فلو كان عند الحسن بن علي رضي الله عنه نص من النبي صلى الله عليه وسلم في ولايته لكان مرتكباً لمحرم في تنازله ولكان آثماً في ذلك، وخاصة أنه كان معه أهل العراق وجنود أبيه كلهم كانوا معه في ذلك الوقت, ومع هذا تنازل رضي الله عنه وترك الأمر، وهذه منقبة عظيمة له وصدق فيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين" 3، ويقصد في ذلك الحسن، وقد وقع مصداق ذلك بتنازله رضي الله عنه بالخلافة لمعاوية عام 41 من الهجرة. ومما يبين كذب الروافض والشيعة عموماً في دعوى الإمامة،أنك إذا قرأت في كتب الفرق وخاصة كتبهم مثل كتاب فرق الشيعة للنوبختي وهو شيعي، تجد أنهم يختلفون بعد موت كل واحد من أئمتهم إلى فرق عديدة أي يختلفون في الذي بعده، وما ذلك إلا لأن دعواهم بالنص على أئمتهم كذب وافتراء، ولما مات الحسن العسكري وهو الإمام الحادي عشر لديهم ولم يكن له ولد تحيروا في هذا

_ 1 منهاج السنة النبوية لابن تيمية 7/325. 2 أخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة 4/1871, باب فضل علي رضي الله عنه, والترمذي في كتاب المناقب 5/638, باب مناقب علي رضي الله عنه. 3 صحيح البخاري مع الفتح 9/48.

الأمر لأن ذلك يعني انقطاع حبل الكذب عندهم فاخترعوا له ولداً وسموه محمد وزعموا أنه دخل السرداب وبقي فيه سبعين سنة ثم زعموا أنه اختفى وغاب غيبة لن يخرج منها إلا آخر الزمان فهل في العقول أسخف من تلك العقول التي تصدق بهذا الهراء والكذب. والرافضة مع كذبهم وافتراءاتهم وتصديقهم للروايات المكذوبة يٌكَذِّبون بالحق ويردونه. فهنا أدلة عديدة تدل على خلافة أبي بكر رضي الله عنه وخلافة عمر أيضاً يردها الروافض ويكذبون بها مع صراحتها وصحتها ووضوحها وأدلة أخرى تدل على مكانة أبي بكر رضي الله عنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرد لعلي رضي الله عنه مثلها منها. أن الله عز وجل قال {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة40] . فهذه خصيصة لأبي بكر لا يشاركه فيها أحد وقد عاب الله عز وجل أهل الأرض كلهم لعدم نصرتهم لنبيه ولم يخرج من ذلك إلا أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأثبت الله له في هذه الآية الصحبة وأن الله ثالثهم بمعيته وحفظه ولطفه ونصره. وما أسخف قول الرافضي حين يزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أخذ أبا بكر معه لأنه كان خائفاً منه. فهذا قول فاسد فإن الإنسان إذا خاف من شيء فإنه يفر منه، ولا يأخذه معه. وهنا أدلة من السنة تدل على خلافة أبي بكر رضي الله عنه دلالة واضحة منها: 1 - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في مرض موته "مروا أبا بكر فليصل بالناس" 1. ولما سمع صوت عمر يصلي بالناس قال عليه الصلاة والسلام "أين أبو بكر يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر" 2.

_ 1 أخرجه البخاري، الصحيح مع الفتح 1/113. 2 أخرجه أبو داود 2/266، والإمام أحمد في المسند 4/322.

فكان أبو بكر رضي الله عنه يصلي بالناس إلى أن توفي رسول الله فهذا فيه إشارة واضحة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم قد رشحه لخلافته حيث كلفه بالقيام والإمامة في أعظم أركان الإسلام وهي الصلاة وقد كان علي أمام ناظري النبي صلى الله عليه وسلم،فلو كان على ما زعم الروافض من الوصية له بالخلافة لأنابه عنه في الصلاة، ولكنه لم يفعل لأن جميع ما يدعيه الرافضة من الوصية هي من باب الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم. 2 - وعن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه رضي الله عنه قال: "أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً فأمرها أن ترجع إليه فقالت: يا رسول الله أرأيت إن جئت فلم أجدك، قال أبي: كأنها تعني الموت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لم تجديني فأت أبا بكر" 1. فهذا فيه إشارة واضحة إلى أن ولي الأمر بعده أبو بكر رضي الله عنه. 3 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينا أنا نائم رأيتني على قليب عليها دلو فنزعت منها ما شاء الله، ثم أخذها ابن أبي قحافة فنزع منها ذنوباً 2 أو ذنوبين وفي نزعه – والله يغفر له - ضعف ثم استحالت غرباً3 فأخذها ابن الخطاب فلم أر عبقرياً 4 من الناس ينزع نزع عمر بن الخطاب حتى ضرب الناس بعطن 5" 6. فهذا فيه إشارة واضحة لخلافة أبي بكر وخلافة عمر رضي الله عنهما. 4 - عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر" 7.

_ 1 أخرجه البخاري في الصحيح مع الفتح 5/5، ومسلم 4/1856. 2 الذنوب: الدلو المملوء ماءاً وفي الحديث إشارة إلى قصر ولاية أبي بكر وهي سنتان وقليل. 3 الغرب: هو الدلو العظيمة. 4 العبقري: السيد. 5 يعني أن الناس روو إبلهم وآووها إلى أماكن راحتها. 6 أخرج الحديث مسلم 4/1860. 7 أخرجه الترمذي 5/609، والإمام أحمد في المسند 5/385، 402، وصححه الألباني في الأحاديث الصحيحة 3/233.

5 - وروى سفينة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الخلافة في أمتي ثلاثون سنة ثم ملك بعد ذلك" 1. وهذا الذي كان فإن أبا بكر رضي الله عنه تولى سنتين وأربعة أشهر إلا عشر ليال وكانت خلافة عمر رضي الله عنه عشر سنين وستة أشهر وأربعة أيام، وخلافة عثمان رضي الله عنه اثنا عشرة سنة إلا اثنا عشرة يوماً وكانت خلافة علي رضي الله عنه خمس سنين إلا شهرين وتكميل الثلاثين بخلافة الحسن بن علي رضي الله عنه نحواً من ستة أشهر حتى نزل لمعاوية عام أربعين من الهجرة2، ومعاوية هو أول ملوك المسلمين. فهذا فيه دلالة واضحة على خلافة الخلفاء الأربعة أو الخمسة وأنها كانت حق على الترتيب بخلاف دعوى الروافض من أن أبا بكر وعمر وعثمان اغتصبوا الخلافة من علي رضي الله عنهم جمعياً. كما أن هنا أدلة كثيرة تدل على مكانة أبي بكر رضي الله عنه من رسوله الله صلى الله عليه وسلم يجحدها الروافض ويردونها أو يتعامون عنها منها: 1 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال, قال رسوله الله صلى الله عليه وسلم: "إن أَمَنَّ الناس علي في ماله وصحبته أبو بكر ولو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن أخوة الإسلام لا تبقين في المسجد خوخة 3 إلا خوخة أبي بكر". ومن حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً. ولكنه أخي وصاحبي وقد اتخذ الله عز وجل صاحبكم خليلاً". 2 - وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: بعثني رسوله الله صلى الله عليه وسلم على جيش ذات السلاسل، فأتيته فقلت: أي الناس أحب إليك؟ قال: "عائشة" قلت من الرجال؟ قال: "أبوها" قلت: ثم من؟ قال: "عمر" فعد رجالاً4.

_ 1 أخرجه الترمذي 4/503، وأبو داود 2/564، وأحمد 5/220، 221. 2 انظر: البداية والنهاية 6/195. 3 الخوخة: هي الباب الصغير بين البيتين أو الجدارين وهي فتحات كانت مفتوحة من بيوت الصحابة يدخلون منها على مسجد رسول الله صلى عليه وسلم مباشرة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بسدها كلها إلا خوخة أبي بكر. 4 أخرج هذه الأحاديث مسلم 4/1854-1856.

3 - عن ابن عباس رضي الله عنه قال: "وضع عمر بن الخطاب رضي الله عنه على سريره فتكنفه الناس يدعون ويثنون ويصلون عليه 1 قبل أن يرفع قال: فلم يرُعْني إلا رجل قد أخذ بمنكبي من ورائي فالتفت إليه فإذا هو علي رضي الله عنه فترحم على عمر وقال: ما خَلَّفْتَ أحداً أحب إلي أن ألقى الله بمثل عمله منك، وأيم الله إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك, وذاك أن كنت أكثر ما أسمع رسوله الله صلى الله عليه وسلم يقول: جئت أنا وأبا بكر وعمر، ودخلت أنا وأبا بكر وعمر وخرجت أنا وأبا بكر وعمر، إن كنت لأرجو أو لأظن أن يجعلك الله معهما"2. 4 - وعن محمد بن علي بن أبي طالب ابن الحنفية قال: "قلت لأبي - يعني أباه علياً رضي الله عنه - أي الناس خير بعد رسوله الله صلى الله عليه وسلم قال: أبو بكر، قلت: ثم من؟ قال: عمر، وخشيت أن يقول عثمان قلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين" 3. فهذه الأدلة وغيرها كثير فيها دلالة واضحة على كذب الروافض فيما ادعوا من مسألة الإمامة ورد عليهم فيما كذبوا فيه من إمامة أبي بكر رضي الله عنه أو فيما طعنوا فيه في أبي بكر رضي الله عنه وهي ظاهرة واضحة ولكن الهوى يعمي ويصم.

_ 1 يقصد بذلك لما طعن عمر رضي الله عنه ومات فجاء الناس وهو على السرير قبل أن يحمل إلى قبره. 2 صحيح مسلم 4/1859. 3 أخرجه البخاري، الصحيح مع الفتح 7/20.

منهج السلف في الصحابة رضوان الله عليهم

منهج السلف في الصحابة رضوان الله عليهم مدخل ... منهج السلف في الصحابة رضوان الله عليهم الصحابي هو: من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنا به ومات على الإسلام 1 الصحابة رضوان الله عليهم: هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصهاره ووزراؤه وأنصاره وأعوانه وهم أنصار دينه وحاملو لوائه ودعاة دينه ومبلغوه، وهم تلاميذه وأتباعه ولهم فيه القدوة الحسنة وله فيهم التربية الناجحة والنبتة الصالحة. ومن اطلع على شيء من تاريخ المسلمين في صدر الإسلام أدرك ما لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من صدق الإسلام والإخلاص وعميق الحب والولاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولدينه والتفانى في بذل النفس والأهل والولد والمال في سبيل الله، قال ابن حجر: "واتفق أهل السنة على أن الصحابة كلهم عدول،ولم يخالف في ذلك إلا شذوذ من المبتدعة" 2 وعلى العموم فأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قد عدلهم الله عز وجل وعدلهم رسوله صلى الله عليه وسلم فلا يحتاجون مع تعديل الله وتعديل رسوله تزكية أحد ولا تعديله فهم الذين قال الله عز وجل فيهم {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ، وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر8, 9] وقال عز وجل مبينا رضاه عنهم {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} [الفتح18]

_ 1 الإصابة 1/7 2 الإصابة 1/10

وقد كانوا كما روى عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه ألفا وأربعمائة أو ألفا وخمسمائة1 وقال عز وجل: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة100] وقال عز وجل: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [الحديد10] . قال ابن حزم عن هذه الآية الصحابة كلهم في الجنة وذلك أن الله يقول: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء101] ،فتبين أن الجميع في الجنة وأنه لا يدخل أحد منهم النار لأنهم المخاطبون في الآية السابقة.2 وقال عز وجل: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الفتح29] فهذه بعض ما ورد في القرآن الكريم من فضلهم والثناء عليهم وإثبات رضي الله تبارك وتعالى عنهم. وقد ورد في السنة من ذلك أيضا شيء كثير،فمن ذلك حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تسبوا أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه" 3

_ 1 الاستيعاب بهامش الإصابة 1/ 11 2 الإصابة 1/12 3 أخرجه البخاري 3673 ومسلم 2541

وعن عمران بن الحصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" 1 وأخرج الترمذي وغيره عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد أذاني ومن آذاني فقد أذى الله ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه".2 وقال عبد الله بن مسعود: "إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه وابتعثه برسالته, ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه فما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وما رأوه سيئا فهو عند الله سيئ. وقد رأى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم جميعا أن يستخلفوا أبا بكر"3. وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أيضا: "من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه فاعرفوا لهم حقهم وفضلهم فقد كانوا على الهدى المستقيم".4 فهذه بعض النصوص الدالة على فضلهم على العموم وهي مبينة أن أصحاب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لهم المقام الأعلى والشرف الأسمى بما تميزوا به من الهدى والتقى وما اختصوا به من بين سائر أفراد الأمة بصحبة نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم, ومن أن الإسلام إنما قام بجهادهم وبذلهم وتفانيهم في دعوة الناس إلى الخير فلولا ذلك لما وصل الإسلام إلينا فلهم حق على كل مسلم جاء بعدهم أن يعرف لهم فضلهم ومكانهم.

_ 1 أخرجه البخاري 2651 مسلم 2535 2 الترمذي 3862 أحمد 4/87 وحسنه الترمذي 3 أخرجه أحمد 1/379 4 أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم ص368.

وهنا أمران يجب التنبه لهما: الأول: أن مراتبهم في الفضل كمراتبهم في الخلافة فأعلاهم مكانة أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضوان الله عليهم أجمعين. وهذا قول الجمهور وقد كان بعض أهل السنة يقدم عليا على عثمان رضي الله عنهما وهم أهل الكوفة،إلا أن أهل السنة بعدهم أجمعوا على أن ترتيب الصحابة في الفضل كترتيبهم في الخلافة أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي وقد كان ابن عمر رضي الله عنه يقول: "كنا نخير بين الناس في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم أبا بكر ثم عمر ثم عثمان".1 وفي رواية عنه أنه قال: "كنا نقول ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي أفضل أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده أبو بكر ثم عمر ثم عثمان".2 أما أفضلية علي رضي الله عنه فيستدل لها بما ورد من الأحاديث التي دلت على فضله وأنه الذي تولى الخلافة بعد عثمان رضي الله عنه فيدخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي يرويه سفينة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "الخلافة في أمتي ثلاثون سنة" 3 وبخلافة علي ثم من بعده الحسن تكتمل الثلاثون سنة. ثم من بعد الخلفاء بقية العشرة المبشرون بالجنة 4 ثم بقية الصحابة رضوان الله عليهم جميعا ولا يعدل بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحد ولا يقاس بهم. قيل لابن المبارك رحمه الله: "معاوية خير أو عمر بن عبد العزيز قال: تراب دخل في أنف معاوية رحمه الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خير وأفضل من عمر بن عبد العزيز". وسئل أبو أسامة حماد بن أسامة: "أيما أفضل معاوية أو عمر بن عبد العزيز؟ فقال: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقاس بهم أحد".5

_ 1 أخرجه البخاري 2/430 أبو داود برقم 4627 2 أخرجه أبو داود 4628 وابن أبي عاصم في السنة 2/552 وقال الألباني إسناده صحيح 3 أخرجه الآجري في الشريعة 2/431 حم 5/223 الترمذي 2227 وقال حديث حسن 4 شرح الطحاوية ص: 728 5 أخرجهما الآجري في الشريعة 3/520

الثاني: أننا لا نغلوا في حبهم كما يغلوا الروافض في دعوى حبهم لآل البيت ولا نعتقد عصمة الصحابة ولا أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم, بل هم مثل غيرهم من البشر يخطئون ويذنبون إلا أننا نعتقد أن الله تبارك وتعالى يتجاوز عنهم بما سبق لهم من الفضل والعمل والطاعة لله والنصح لدين الله، وقد ذكرنا النصوص الدالة على رضى الله عز وجل عنهم وهو سبحانه لا يسخط عليهم بعد أن أعلن رضاه تعالى عنهم.1 ثالثا: الكف عما شجر بينهم فلا نذكر مساويهم ولا أخطاءهم وإنما ننشر محاسنهم وفضائلهم ونستغفر لهم كما قال الله عز وجل بعد أن ذكر المهاجرين والأنصار {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر10] قال ابن عباس رضي الله عنه: "لا تسبوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فإن الله عز وجل قد أمرنا بالاستغفار لهم وهو يعلم أنهم سيقتتلون".2 فنستغفر لهم ونترضى عنهم جميعا ولا نذكرهم إلا بالجميل ولا ندخل بينهم فيما وقع منهم حكاما ومحكوما فقد روى ابن سعد في طبقاته أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله سئل عن قتال يوم الجمل ويوم صفين وقيل له لو قلت فيها برأيك: قال: دماء لم أغمس فيها يدي أغمس فيها لساني؟ "3 ونكف عن مساوئهم ولا نتنقص أحدا منهم البتة ومن تنقص أحدا منهم, فإنه متهم بالزندقة، قال عبد الملك الميموني سمعت أحمد بن حنبل رحمه الله يقول: ما لهم

_ 1 انظر إتحاف ذوي النجابة بما في القرآن والسنة من فضائل الصحابة، ص: 49 2 أخرجه اللالكائي في السنة 7/1250 3 طبقات ابن سعد 6/248 عبد الله بن الإمام أحمد في السنة رقم 1306 والحجة في باب المحجة 1/521

ولمعاوية؟ أسأل الله العافية ثم قال لي: يا أبا الحسن إذا رأيت أحدا يذكر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بسوء فاتهمه على الإسلام".1 وروى الخطيب في الكفاية بسنده عن أبي زرعة رحمه الله أنه قال: إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندنا حق والقرآن حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا، ليبطلوا الكتاب والسنة والجرح بهم أولى، وهم زنادقة" 2 هذا على العموم منهج السلف رحمهم الله من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وموقفهم منهم ألحقنا الله بهم وغفر لنا بحبهم إنه جواد كريم.

_ 1 اللالكائي في السنة 7/1252 الحجة في بيان المحجة 1/371 2 الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي ص: 97 وانظر صب العذاب على من سب الأصحاب لأبي العالي الألوسي ص: 391 وابن عساكر في تاريخ دمشق 10/697

موقف الرافضة من الصحابة رضوان الله عليهم

موقف الرافضة من الصحابة رضوان الله عليهم لقد امتلأت قلوب الروافض غيظا وكمدا على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فقالوا فيهم أخبث قول وأفسده، وفاقوا بذلك اليهود والنصارى خبثا فقد قيل لليهود من خير أهل ملتكم؟ قالوا: أصحاب موسى عليه السلام وقيل للنصارى من خير أهل ملتكم؟ قالوا: أصحاب عيسى عليه السلام وقيل للرافضة من شر أهل ملتكم؟ قالوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم".1

_ 1 ذكر هذا الشعبي ونقله عنه شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة 1/33 وانظر بذل المجهود في إثبات مشابهة الرافضة لليهود ص: 139

فالروافض يزعمون أن الصحابة كفروا جميعا إلا نفر قليل منهم فروى الكشى عن أبي جعفر أنه قال: كان الناس أهل ردة بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثة، فقلت: ومن الثلاثة؟ قال: المقداد بن الأسود وأبو ذر الغفاري وسلمان الفارسي.."1 كما أن للروافض - عليهم من الله ما يستحقون – ولع شديد إلى حد الهوس بلعن وسب شيخي الإسلام وسيدا كهول أهل الجنة وصاحبي الرسول صلى الله عليه وسلم أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وأرضاهما. ففي كتاب "مفتاح الجنان" عندهم وهو من كتب الأدعية قولهم: "اللهم صل على محمد وعلى آل محمد والعن صنمي قريش وجبتيهما وطاغوتيهما وابنتيهما".2 ويريدون بالصنمين والجبتين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وبالبنتين أمهات المؤمنين عائشة وحفصة رضي الله عنهما. ويقول الكليني – صاحب الكافي – عليه من الله ما يستحق: الأول والثاني أبو بكر وعمر في كتب الشيعة: رجسان ملعونان هما الجبت والطاغوت وهما فرعون هذه الأمة وهامانها، هما أشد أهل النفاق نفاقا وعداء للنبي وضررا للإسلام"3. ويقول صاحب كتاب الوشيعة: لله وراء هذا العالم سبعون ألف عالم في كل عالم سبعون ألف أمة, كل أمة أكثر من الإنس والجن لا هم لهم إلا اللعن على أبي بكر وعمر".4 وهذا المذهب وهو تكفير الصحابة والطعن فيهم هو مذهب وقول عبد الله بن سبأ اليهودي وورثه عنه الروافض إلى زماننا هذا،فهذا الخميني الهالك ينسب إلى الصحابة رضوان الله عليهم تحريف القرآن فيقول: "أولئك الصحابة الذين لم

_ 1 رجال الكشي ص: 12 نقلا عن الشيعة الإمامية في ميزان الإسلام ص: 89 2 مفتاح الجنان ص: 114 نقلا عن الشيعة في ميزان الإسلام ص: 89 3 الكافي 1/44 نقلا عن الشيعة في ميزان الإسلام ص: 89 4 نقلا عن الشيعة في ميزان الإسلام ص: 94

يكن لهم هم إلا الدنيا والحصول على الحكم دون الإسلام والقرآن ... ثم يقول: "إن تهمة التحريف التي يوجهونها إلى اليهود والنصارى ثابتة عليهم".1 هكذا يزعم المجرم الهالك، وهذا غره حتى فضل أهل إيران من جنوده الروافض على أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: "إنني أقولها بجرأة إن شعب إيران بجماهيره المليونية في العصر الحاضر هو أفضل من شعب الحجاز في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وشعب الكوفة والعراق على عهد أمير المؤمنين والحسين بن علي".2 هكذا يزعم أن أصحابه أفضل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن أصحاب علي رضي الله عنه. وما هذا في الحقيقة إلا تفضيل لنفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى علي بن أبي طالب أيضا لأنه فيما يدعي استطاع أن يربي جيلا أفضل من تربية الرسول صلى الله عليه وسلم. ولكن الله بحمده وفضله أذله وأظهر خزيه وكذبه فلم يستطع بملايينه أن ينتصر على بعثي علماني وهو حاكم العراق، ثم مات بحسرته بعد أن أعلن استسلامه ولله الحمد والمنة. هذه النصوص وغيرها كثير لدى الروافض وعندهم ما هو أقبح منها وأشنع ومما لا يليق قوله ولا ذكره – تطفح به كتب الروافض, كما تشكل تلك الروايات معتقدهم في خير أمة ظهرت على وجه الأرض وأطهر من مشى على الأرض بعد الأنبياء والمرسلين. إن الإنسان ليدهش أشد الدهشة من هذا الحقد الدفين والقلوب السوداء الممتلئة غيظا وكمدا على حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأزواجه وأهل بيته الذين عدلهم رب السماء والأرض،وأثنى عليهم،وشهد لهم بالخيرية والفضل. وشهد لهم رسوله صلى الله عليه وسلم وأمر بمحبتهم، لقد أمر الله عز وجل المسلمين أن يترحموا على سلفهم بقوله

_ 1 كشف الأسرار للخميني، ص: 114 2 الوصية الإلهية، ص: 16 للخميني – نقلا عن فرق معاصرة 1/192

عز وجل: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر10] فخالف ذلك الرافضة فلعنوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وامتلأت قلوبهم غلا عليهم. وإن كل ناظر منصف في تاريخ أولئك الأبرار الأخيار الأطهار أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يدرك أنه لم يأت على وجه الأرض مثلهم، فقد قاموا بدين الله حق القيام وبذلوا في سبيل نشره دماءهم وأموالهم وأولادهم ووقتهم،ونحن في هذه الأزمان, بما عندنا من دين وإيمان, وكذلك جميع المسلمين من بعد الصحابة إنما ذلك حسنة من حسنات أولئك الأبرار. إن الصحابة رضوان الله عليهم جميعا وحشرنا في زمرتهم لا يحتاجون مع ثناء الله عز وجل عليهم وثناء رسوله صلى الله عليه وسلم إلى ثناء أحد وتعديله ويكفيهم ذلك فخرا وذلك مثل قول الله عز وجل: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً..} [الحشر8] وقوله: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ ... } [الفتح18] وقوله: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} [التوبة100] فهذه النصوص وغيرها كثير مما سبق ذكره تبين كفر الروافض وخروجهم من الإسلام بدعواهم أن الصحابة رضوان الله عليهم كفروا، لأن من قال ذلك فقد كذب القرآن ورد كلام الله ولم يقبل تعديله وثناءه جل وعلا على أولئك الأبرار. وليس من جناية ارتكبها الصحابة ولا جرم لهم عند هؤلاء الروافض في الحقيقة إلا أنهم نصروا الله ورسوله ونشروا الإسلام في أصقاع الأرض وأذلوا دولة الكفر فارس والروم واستولوا على أراضيهما ودخل الناس من أتباعهما في دين الله أفواجا.

وإذا نظرنا في تاريخ الصحابة وخاصة الخلفاء الثلاثة أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم نجد أنهم نشروا الإسلام في أقصى الأرض فبلغت جيوش المسلمين في زمانهم خراسان ودخلت في غرب أفريقيا فتعدت ما يعرف بتونس إلى المحيط الأطلسي وكان لهم في هذا الباب في نشر الإسلام أكثر بكثير مما كان لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه, ففي عهد علي رضي الله عنه لم يقتل كافر في سبيل الله ولم تفتح بلد واحد بل قتل المسلمون بعضهم بعضا وسفكوا دماءهم وكثر بذلك الغم والبلاء على المسلمين مما يبين الفرق العظيم بين عهد أبي بكر وعمر وعثمان وبين عهد علي رضي الله عنهم جميعا. ولكن الروافض قوم بهت. كما أن كل إنسان يطلع على قول الروافض في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يشعره ذلك القول والبهتان أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يعيش بين جماعة كبيرة من المنافقين والكذبة والأفاكين، كما كان في بيته بين زوجاته يعيش بين مجموعة من النساء الكذابات المحتالات – وحاشا الجميع من ذلك. فأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجاته هم الطاهرون الأبرار والروافض هم الكذبة الفجار. كما أن الطعن في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجاته طعن فيه عليه الصلاة والسلام لأن من المعلوم أنه إذا كان رجل يطعن في أهلك وأصحابك فذلك طعن فيك أيضا. وغاية الروافض أخزاهم الله وأذلهم في الدنيا والآخرة من هذا الطعن في الصحابة إنما هو الطعن في دين الإسلام عموما وإبطاله لأن الصحابة وزوجات الرسول صلى الله عليه وسلم هم الذين نقلوا إلينا هذا القرآن ونقلوا إلينا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخباره وأحواله فإذا كانوا غير صادقين ولا صالحين فبالتالي يكون كل ما عندنا من شرع ودين باطل وفاسد. هذا غاية ما يقصد إليه الرافضة من هذه الحملة الشعواء الكاذبة على أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم.

الإيمان بالقضاء والقدر

الإيمان بالقضاء والقدر فصل: معنى القضاء والقدر وحكمه ... الإيمان بالقضاء والقدر مما يجمع عليه علماء السلف الإيمان بالقضاء والقدر, وسنبين مايتعلق بهذا الركن من أركان الإيمان وفق النقاط التالية: معنى القضاء والقدر: المعنى اللغوي: القضاء في اللغة له معان عديدة منها: الحكم, والأمر, والأداء, والخلق, وإنفاد الأمر وبلوغ منتهاه.1 والقدر في اللغة: من القدر بسكون الدال, ومن القدر بفتح الدال, وتأتي على معان منها: القوة, ومقدار الشيء, والتمكن من الأمر, والغنى, وقياس الشيء. والقضاء من الله. والقدر تأتي من قدر بتشديد الدال, وتعني تمهل في تسوية الأمر وفكر فيه, وبيّن مقداره, وقاسه به, ونوى الأمر وقضاه وحكم به.2 المعنى الشرعي: القضاء والقدر في الشرع قد يردان على معنى واحد, وهو: ما سبق به العلم وجرى به القلم, مما هو كائن إلى الأبد ووقوعه في وقته وكيفيته. وقد يراد بالقدر ما سبق به العلم وجرى به القلم مما هو كائن إلى الأبد, أما القضاء فيراد به وقوع الأمر وإنفاذ الحكم وفق القدر السابق 3. فيكون بذلك القدر كالمخطط الذي يخططه الإنسان لبناء بيت مثلاً, والقضاء كالبناء للبيت إذا بناه وفق سابق التخطيط.

_ 1 انظر معجم مقاييس اللغة 5/99 والمعجم الوسيط 2/742 2 انظر لسان العرب 5/74 والمعجم الوسيط 2/718 ومعجم مقاييس اللغة 5/62 3 انظر فتح الباري 11/477 والنهاية في غريب الحديث 4/78

حكم الإيمان بالقضاء والقدر. الإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان لحديث جبريل عليه السلام حيث جاء فيه: "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره" 1 فمعنى قوله: "وبالقدر خيره وشره" أي تؤمن بأن ما يصيبك من خير أو شر هو بقدر سابق من الله عز وجل. وأخرج الإمام احمد بسنده عن عبادة بن الصامت أنه قال - وهو في الموت-: ادع لي ابني لعلي أخبره بما سمعت من رسوله الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أول شيء خلقه الله من خلقه القلم" - وفي رواية: "إن أول ما خلق الله القلم - فقال له: اكتب، فقال: يارب ماذا أكتب؟ قال: القدر". قال رسوله الله صلى الله عليه وسلم: "فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره أحرقه الله بالنار" 2

_ 1 أخرجه مسلم انظره بشرح النووي 1/157 2 مسند الامام احمد 5/317 والسنة لابن أبي عاصم 1/48ـ50

مراتب الإيمان بالقدر

مراتب الإيمان بالقدر: الإيمان بالقدر لا يتم ولا يكمل إلا بالإيمان بأربع مراتب وهي: المرتبة الأولى: العلم. والمراد بالعلم: هو اعتقاد أن الله عز وجل علم أعمال العباد دقيقها وجليلها كما علم مصائرهم إلى الجنة أو إلى النار قبل وجودهم. والأدلة على ذلك كثيرة منها الآيات التي تثبت عموم علم الله عز وجل بكل شيء. من ذلك قوله عز وجل: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة 282] وقوله عز وجل: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} [فاطر 11]

وقال عز وجل: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام 59] , وغير ذلك من الآيات. ومن السنة حديث عمران بن حصين رضي الله عنه قال قال رجل: يارسول الله أيعرف أهل الجنة من أهل النار؟ فقال: "نعم, قال: فلم يعملون؟ قال: كل يعمل لما خلق له, أو يسر له" 1 المرتبة الثانية: الكتابة: والمراد بها: اعتقاد أن الله عز وجل قد كتب جميع أعمال العباد صغيرها وكبيرها, دقيقها وجليلها, ومن الأدلة على ذلك قوله عز وجل: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج 70] وقوله عز وجل: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس 12] وقال عز وجل: {الِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [سبأ 3] وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسوله الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة, قال: وعرشه على الماء" 2 وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما منكم من أحد, ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة أو النار, وإلا قد كتبت شقية أو سعيدة" , قال: فقال رجل يا رسول الله, أفلا نمكث على كتابنا وندع

_ 1 أخرجه مسلم في كتاب القدر 4/2040-2041, باب كيفية خلق الآدمي. 2 أخرجه مسلم 4/2044 رقم 2653

العمل؟ فقال: من كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة, ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة, فقال: اعملوا فكل ميسر, أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة, أما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة, ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى، وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} 1 المرتبة الثالثة: المشيئة: والمراد بالمشيئة؛ الإيمان بمشيئة الله النافذة في كل شيء, فلم يقع في هذا الكون شيء إلا بمشيئته, ولم يقع إلا لأن الله قد شاء وقوعه, وما لم يقع إنما لم يقع لأن الله لم يشأ وقوعه, وهذا شامل لكل شيء مما هو طاعة ومعصية وهداية وضلال وخير وشر, فمشيئة الله هي الموجبة لوقوع الأمر, وذلك معنى قول المسلمين: ماشاء الله كان وما لم يشأ لم يكن, والأدلة الدالة على إثبات هذه المرتبة كثيرة, منها: قوله عز وجل: {وما تشاؤن إلا أن يشاء الله} [التكوير 39] وقوله عز وجل: {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [المدثر 56] وقوله عز وجل: {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام 39] وقوله عز وجل: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة 253] وقوله عز وجل: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً} [يونس 99] فهذه النصوص أثبتت أن كل شيء إنما هو بمشيئة الله عز وجل.

_ 1 أخرجه مسلم 4/2039 برقم 2647

المرتبة الرابعة: خلق الأعمال: والمراد بخلق الأعمال أن الله عز وجل كما أنه هو الخالق جل وعلا لذوات العباد وأجسادهم, فهو كذلك خالق لأعمالهم وأفعالهم, بل كل ما في الوجود من حركة وسكون وقول وفعل إنما هو خلق الله عز وجل, والدليل على ذلك قوله عز وجل: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر 62] فهذه الآية عامة في خلق الله لكل شيء, وقال عز وجل: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات 96] وقال جل وعلا: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ، أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك 13, 14] فهذه الآية صريحة أيضاً في أن الله خالق لأقوال العباد التي يسرون بها والتي يجهرون بها, كما أنه خالق لما في الصدور من الإرادات والحب والبغض وغير ذلك، حيث علل الله عز وجل علمه بكل ذلك بأنه خالقه, فكيف لا يعلمه. ومن الأدلة في ذلك قوله عز وجل: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} [الروم 22] واختلاف الألسن المراد به اللغات, وقد نص الله عز وجل على أنه خالقها, حيث عطفها على خلق السموات والأرض. وقوله عز وجل: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم 43] فالله عز وجل هو الذي أضحك الإنسان, والإنسان هو الضاحك, والله عز وجل أبكاه, والإنسان هو الباكي. وقوله عز وجل: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [يونس 22] فالتسيير خلق الله عز وجل, والسير فعل العبد, فالله عز وجل المسّير والعبد هو السائر.

ومن السنة حديث حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يصنع كل صانع وصنعته" 1

_ 1 السنة لابن ابي عاصم 1/158.

مسائل تتعلق بالإيمان بالقدر

مسائل تتعلق بالإيمان بالقدر: 1 - إثبات الحكمة لله عز وجل. مما يجب إعتقاده أن الله عز وجل حكيم في فعله وأمره, فلا يفعل ولا يخلق إلا لحكمة, كما أنه لا يأمر ويشرع إلا لحكمة بالغة, وهذا مقتضى وصفه بالحكمة جل وعلا في آيات كثيرة مثل قوله عز وجل وهو الحكيم الخبير وقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} [النساء11] فبناءً عليه يجب اعتقاد أن جميع ما يقدره الله عز وجل له فيه حكمة بالغة قد تعلم وقد لا تعلم, كما أن جميع أوامره ونواهيه هي وفق حكمة بالغة قد تعلم وقد لا تعلم. 2 - أن الإيمان بالقدر من الإيمان بالغيب. مما يجب معرفته أن إيماننا بأن الله عز وجل قد قدر علينا ما هو واقع بنا وأن الله سبحانه قد شاء جميع أفعالنا منا قبل وقوعها منا, وكذلك خلقها فينا وقت فعلنا لها, كل ذلك آمنا به واعتقدناه بناءً على الأدلة الشرعية المثبتة لذلك من القرآن والسنة, فهو إيمان بالغيب وفق خبر الله عز وجل وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم, كما أننا نؤمن بالجنة والنار وما أعد الله لأهل كل دار منهما بالغيب من غير مشاهدة منا للجنة أو النار في هذه الحياة الدنيا, فكذلك الإيمان بالقدر إنما نؤمن به بناءً على الأدلة الشرعية التي وضحت ذلك وبينته, وعليه فلا يجوز لأحد أن يعارض ذلك أو يرده بناءً على نظر عقليّ قاصر أو قياس على المخلوق, لأن الأدلة الشرعية لا يجوز معارضتها بشيء من ذلك, بل الواجب التسليم لها ثم ما عقلته عقولنا فلنحمد الله

على ذلك, وما لم تعقله عقولنا فلنعلم أن القصور في عقولنا وليس في شرع الله وأمره, وحقيقة الأمر أنه لا يوجد في إثبات القدر ما يتعارض مع العقل السليم, لأن إثبات القدر هو إثبات لكمال الربوبية والملك والتصرف للخالق جل وعلا في عباده وخلقه. ولا يجوز الاعتراض على المالك إذا تصرف في ملكه, كما أن الله عز وجل في جميع تدبيراته وتصرفه في خلقه وكذا شرعه وأمره صادر عن حكمة بالغة, كما ذكرنا. 3 - أن الإرادة في القرآن الكريم على نوعين. إن الإرادة المضافة لله عز وجل في القرآن الكريم على نوعين: أ - إرادة كونية قدرية: وهي تعني إرادة إيجاد الشيء وخلقه, وهذا النوع من الإرادة لابد من وقوعه, فإنه لا يتخلف, إلا أنه لا يتعلق بالمحبة والرضا, فقد يكون مما يحب الله عز وجل مثل طاعة المؤمنين وعباداتهم التي أراد الله وقوعها منهم, وقد تكون الإرادة مما لا يحب الله عز وجل مثل كفر الكافرين ومعصية العصاة الواقعة منهم, فإنها لم تقع منهم إلا بعد إرادة الله وقوعها, لكن الله عز وجل لا يحبها بل يبغضها ويكرهها, وإن كانت واقعة بإرادته الكونية القدرية. ومن الأدلة على الإرادة الكونية القدرية قول الله عز وجل: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام 125] وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة 235] وقال تعالى: {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود 34] فهذه الآيات وردت فيها الإرادة المضافة إلى الله عز وجل ومنها مايحبه الله عز وجل مثل الهداية بشرح الصدور, ومنها ما لا يحبه مثل الضلال والقتل والغواية. ولكن

الجميع واقع بإرادته جل وعلا التي هي بمعنى المشيئة قال تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر 7] ب - إرادة دينية شرعية: وهي النوع الثاني من أنواع الإرادة الواردة في القرآن الكريم, وهي مستلزمة للمحبة والرضا ولا يلزم أن تقع, وذلك مثل محبة الله عز وجل طاعة العباد وإيمانهم وهدايتهم. ومن الأدلة الدالة على ذلك قوله عز وجل: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة 185] وقوله عز وجل: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} [المائدة 6] وقوله عز وجل: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء 27] فالإرادة في هذه الآيات تسمى الإرادة الدينية الشرعية المستلزمة للمحبة والرضا, ولكنها قد تقع إذا تعلق بها النوع الآخر من الإرادة وهي الإرادة الكونية القدرية, وقد لا تقع إذا لم يتعلق بإيجادها إرادته الكونية القدرية. ويفيدنا ذلك معرفة أن جميع الطاعات يريدها الله ديناً وشرعاً ويحبها ويرضاها، أما المعاصي فإنه لا يريدها ديناً ولا شرعاً, وأنه جل وعلا يبغضها ويكرهها, وأنه قد يريد وجودها كوناً وقدراً فتوجد من عباده وهو في نفس الوقت يبغضها ويكرهها وقد توعدهم بالعقوبة عليها. 1 4 - احتجاج بعض العصاة بالقدر والرد عليهم. بعض العصاة المنحرفين عن دين الله قد يفعل الفعل المحرم المنهي عنه, ثم إذا اعترض عليه أحد ونبهه على تحريم فعله وأنه ارتكب جرماً فعليه التوبة والإقلاع

_ 1 انظر في ذلك شرح الطحاوية ص 116 ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 8/188

عما هو عليه من ارتكاب المحرم, فإن هذا العاصي يحتج بالقدر ويدّعي أن الله هو الذي قدّر عليه ذلك, أو قد يدّعي حين يدعى إلى الصلاة - مثلاً - بأنه إذا أراد الله له أن يصلي سيصلي. فكيف جواب ذلك؟ الجواب عن ذلك أن يقال: إن احتجاج العاصي بالقدر وهو مقيم على المعصية من جنس احتجاج المشركين بالقدر في دعوة الأنبياء, وذلك كما حكى الله عز وجل في قوله: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا} [الأنعام 148] فالمشركون هنا احتجوا بالقدر على رد الشرع ودعوة الأنبياء, والعاصي المقيم على المعصية يحتج بالقدر على معصيته, والمشركون كاذبون, وكذلك العاصي كاذب لعدة أسباب: أ - لأن القدر ليس حجة لعاص, ونحن إنما أمرنا أن نؤمن بالقدر, لا أن نحتج به ب - أن القدر لا يعلم حتى يقع فإذا وقع علمنا بأن الأمر كان مقدراً, فكيف يجوز للإنسان أن يحتج بشيء غاب عنه, ولا يدري ما قدر له فيه. ج - إن الله عز وجل قد خلق للإنسان الإرادة والقدرة, وأرسل له الرسل, وأنزل الكتب ليعلموه شرع الله, ويحذروه من معصية الله, فعليه فإنه ليس للعاصي أي حجة على الله, فاحتجاجه بالقدر غير صحيح وليس فيه حجة. د - إن مما يبين كذب المحتج بالقدر على المعصية, أنه لو اعتدى أحد على ماله أو عرضه فاحتج ذلك المعتدي بالقدر فإن المعتدى عليه لا يقبل ذلك الاحتجاج, وسيسعى إلى إنزال العقوبة به, فكذلك لا يقبل احتجاج العاصي بالقدر.

5 - احتجاج بعض العصاة بالقدر بقولهم: بأنه إذا كان الله قد قدّر لي دخول الجنة فإني سأدخلها. والرد على هذه الوسوسة الشيطانية بأن يقال: أ - إن الجنة لا يحصلها الإنسان ولا يدخلها إلا بعمل, كما قال صلى الله عليه وسلم: في الحديث الذي سبق ذكره لما سئل: أيعرف أهل الجنة من أهل النار؟ قال: "نعم". قال: فلم يعملون؟ قال: "كل يعمل لما خلق له أو يسر له". فعليه إن ما قدر لك لا يأتيك إلا بعمل, فلابد من العمل, وذلك مثل من قدر له أن يكون طبيباً أو مهندساً أو طياراً أو عالماً في الشرع, فلا يمكن أن يكون كذلك إلا بالتعلم والاجتهاد, فكذلك ما قدر للإنسان من جنة أو نار مثل ذلك, ويخشى على من استمر في الوسوسة لنفسه بأنه إذا كان من أهل الجنة, فإنه سيدخلها فيترك طاعة الله, والشيطان يمنّيه حتى يموت على ذلك فيكون من أهل النار, لأن من ترك طاعة الله وعبادته دخل النار. ب - أن قائل هذا الكلام غير صادق في دعواه هذه, والذي يدل على ذلك ويؤكده بأن يقال له: فلتعلم أن كل شيء بقدر حتى رزقك وطعامك ونومك وحركتك, فإذا كنت صادقاً في دعواك فاجلس في بيتك ولا تسعى لرزقك, لأن ما قدر لك سيأتيك, كما يقال له: لا تذهب تحضر الطعام ولا تصنعه لأنه إذا كان مقدراً لك سيأتيك, فهل سيقبل ذلك؟ لاشك أنه لن يقبل ذلك, فكذلك دعواه هذه غير مقبولة, وإنما هي من إتباع النفس هواها وتمني الأماني على الله, أما لو قبل ذلك وقال: أبقى في البيت حتى يأتيني رزقي بدون سعي, أو أمكث في مكاني حتى يأتيني طعامي فهو لاشك بعدها مجنون لا فائدة من الكلام معه.

6 - أثر الإيمان بالقدر وفوائده: لا يشرع الله عز وجل شرعاً ولا يأمر بأمر إلا وله حكمة بالغة, وللإيمان بالقدر آثار وفوائد عديدة نذكر منها: أ - أن الإيمان بالقدر - وفق ما أمر الله عز وجل وبيّن ووفق ما بيّنه رسوله الله صلى الله عليه وسلم - يصحح للمسلم إيمانه ويكمله له, ويكون بذلك مستجيباً لأمر الله عز وجل بالإيمان بالقدر ويحصل بذلك أجر المؤمنين بالغيب. ب - إن اعتقاد المسلم أن ما قدر له سيصيبه, وأن أجله ورزقه مكتوب مقدر يجعله شجاعاً مقداماً لا يخاف, لأن ما قدر له سيأتيه, فمن أي شيء يخاف؟ أمن شيء لم يكتب عليه فلن يصيبه, أم من شيء كتب عليه فلن يفر منه وهذا يدفعه إلى الإقدام والشجاعة إذا كان الأمر فيه رضى لله عز وجل. ج - أن الإيمان بالقدر فيه الإيمان بأن جميع ما يصيبك بقدر من الله لا مفرّ منه, فعندها تخف المصيبة على الإنسان إذا وقعت, فلو مات له قريب أو ذهب له مال فإنه يصبر ويحتسب لأن ما وقع لايمكن دفعه فإذا صبر حصل له أجر الصابرين الذي ذكره الله عز وجل في قوله: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة 155 - 157] كما أنه إذا أصابته نعمة علم أنها من عند الله فلا يبطر ولا يختال بل يشكر الله عز وجل حتى يزيد, كما قال عز وجل: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم 7] د - أن المؤمن بالقدر يعلم "أن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن، فما شاء من قلب أقامه وما شاء من قلب أزاغه" 1 ويعلم أن الأعمال بالخواتيم، فذلك يدفعه إلى الاستمرار في الطاعة حتى الموت, كما أن علم الإنسان بأن الخير كله بيد الله عز وجل فلا يأتيك خير إلا من الله, كما أنه لا يصرف عنك الشر إلا الله

_ 1 مسند أحمد 2/168.

عز وجل, فهذا يجعل الإنسان يرتبط بالله عز وجل ارتباطا قوياً ويكثر من دعائه وسؤاله فيحصل بذلك الخير الذي يريد بإذن الله, ويندفع عنه الشر الذي يخاف بإذن الله, ويكون في نفس الوقت قد عبد الله عز وجل عبادة يحبها الله من عباده وهي الدعاء والسؤال, وفي هذا ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من لم يسأل الله يغضب عليه" 1، وفيها استجابة لأمر الله عز وجل لقوله: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر 60] هـ -أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له, فمن كان من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة, ومن كان من أهل الشقاوة فييسر لعمل أهل الشقاوة" هذا الحديث فيه بشارة للمسلم إذا كان على عمل صالح لعله يكون خلق للجنة, فيزداد تمسكاً واجتهاداً ليحصل على أعلى المراتب, كما أن فيه تحذيراً للمسلم فيما لو كان على عمل غير صالح, فلا يصلي أو يشرب الخمر ونحو ذلك، بأن في ذلك علامة وتخويف له من أن يكون خلق للنار, لأن علامة ذلك الاستمرار في معصية الله عز وجل, فينتبه ويحذر ويرجع عن فساده حتى لا يكون من أهل النار, والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. تمت في 5/1/1421هـ تصحيحاً. وكتبه: سعود بن عبد العزيز الخلف.

_ 1 مسند أحمد 2/443.

§1/1