أصول مذهب الشيعة الإمامية الإثني عشرية - عرض ونقد -
ناصر القفاري
الجزء 1
ـ[أصول مذهب الشيعة الإمامية الإثني عشرية - عرض ونقد -]ـ المؤلف: دكتور ناصر بن عبد الله بن علي القفاري دار النشر: بدون سنة الطبع: 1414 هـ عدد الأجزاء: 3 الطبعة: الأولى
أصل الكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم أصل هذا الكتاب رسالة علمية تقدم بها المؤلف لنيل درجة الدكتوراة من قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة - جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية - وقد أجيزت هذه الرسالة بمرتبة الشرف الأولى مع التوصية بطبعها وتبادلها بين الجامعات
المقدمة
المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. وبعد.. فإن من أصول الإسلام العظيمة الاعتصام بحبل الله جميعاً وعدم التفرق قال تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ} (¬1) وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (¬2) . وقد كان المسلمون على ما بعث الله به رسوله من الهدى ودين الحق الموافق لصحيح المنقول وصريح المعقول، فلما قتل عثمان - رضي الله عنه وأرضاه - ووقعت الفتنة، فاقتتل المسلمون بصفين، مرقت المارقة (¬3) . التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: "تمرق مارق على حين فرقة من المسلمين، يقتلهم أولى الطائفتين بالحق" (¬4) وكان مروقها لما حكم الحكمان، وتفرق الناس على غير اتفاق. ثم حدث بعد بدعة ¬
الخوارج بدع التشيع (¬1) ، وتتابع خروج الفرق، كما أخبر بذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم (¬2) . وقد خرج التشيع من الكوفة (¬3) ، ولذلك جاء في أخبار الشيعة بأنه لم يقبل دعوتهم من أمصار المسلمين إلا الكوفة (¬4) . ثم انتشر بعد ذلك في غيرها، كما خرج الإرجاء أيضاً من الكوفة، وظهر القدر، والاعتزال، والنسك الفاسد من البصرة، ظهر التجهم من ناحية خراسان. وكان ظهور هذه البدع بحسب البعد عن "الدار النبوية" (¬5) . لأن البدعة لا تنمو وتنتشر إلا في ظل الجهل، وغيبة أهل العلم والإيمان، ولذلك قال بعض السلف: من سعادة الحدث والأعجمي أن يوفقهما الله للعالم من أهل السنة (¬6) ؛ وذلك لسرعة تأثرها هؤلاء بأعاصير الفتنة والبدعة لضعف قدرتهم على معرفة ضلالها، واكتشاف عوارها، ولذا فإن خير منهج لمقاومة البدعة، ودرء الفرقة، هو نشر السنة بين الناس، وبين ضلال الخارجين عنها، ولذلك نهض أئمة السنة بهذا الأمر، وبينوا حال أهل البدعة، وردوا شبهاتها، كما فعل الإمام أحمد في الرد على الزنادقة والجهمية، والإمام البخاري في الرد على الجهمية، وابن قتيبة في الرد على الجهمية والمشبهة، والدارمي في الرد على بشر المريسي وغيرهم. ولا شك بأن بيان حال الفرق الخارجة عن الجماعة، والمجانبة للسنة ضروري لرفع الالتباس، وبيان الحق للناس، ونشر دين الله سبحانه، وإقامة الحجة على تلك الطوائف، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيّ عن بينة، فإن الحق لا يكاد يخفى على أحد، وإنما يضلل هؤلاء أتباعهم بالشبهات والأقوال الموهمة، ولذلك فإن أتباع تلك الطوائف هم ما بين زنديق، أو جاهل، ومن الضروري تعليم الجاهل، وكشف حال الزنديق ليعرف ويحذر. ¬
وبيان حال أئمة البدع المخالفة للكتاب والسنة واجب باتفاق المسلمين "حتى قيل لأحمد بن حنبل: الرجل يصوم ويصلي ويعتكف أحب إليك، أو يتكلم في أهل البدع؟ فقال: إذا قام وصلى واعتكف فإنما هو لنفسه، وإذا تكلم في أهل البدع فإنما هو للمسلمين، هذا أفضل. فبين أن نفع هذا عام للمسلمين في دينهم من جنس الجهاد في سبيل الله، إذ تطهير سبيل الله ودينه ومنهاجه وشرعته، دفع بغي هؤلاء وعدوانهم على ذلك واجب باتفاق المسلمين، ولولا من يقيمه الله لدفع ضرر هؤلاء لفسد الدين، وكان فساده أعظم من فساد استيلاء العدو من أهل الحرب، فإن هؤلاء إذا استولوا لم يفسدوا القلوب وما فيها من الدين إلا تبعاً، وأما أولئك فهم يفسدون القلوب ابتداء" (¬1) . وقد وجد العدو المتربص بالأمة في هذه الفرق الخارجة عن الجماعة، وسيلة لإيقاع الفتنة في الأمة، ولا يبعد أنه اليوم يريد أن يستثمر هذه المسألة لمواجهة بوادر البعث الإسلامي المتنامي في أرجاء المعمورة، والوقوف في وجه الصحوة الإسلامية التي امتدت إلى عقر داره، وهو يتخذ من تقارير مستشاريه - الذين يهتمون أبلغ الاهتمام بتاريخ تلك الطوائف وعقائدهم - منهجاً يحتذيه في علاقته مع المسلمين ودولهم. ولذا نلحظ أنه يغذي بعض هذه الطوائف، ويهيئ الوسائل لوصولها لدفة الحكم والتوجيه. ولا شك أن بيان الحق في أمر هذه الفرق فيه تفويت للفرصة أمام العدو لتوسيع رقعة الخلاف واستمراره؛ فإن ترك رؤوس زنادقة البدع يسعون لإضلال الناس، ويعملون على تكثير سوادهم، والتغرير بأتباعهم، ويدعون أن ما هم عليه هو الإسلام، هو من باب الصد عن دين الله وشرعه، حتى أن من أسباب خروج ¬
الملاحدة ظنهم أن الإسلام هو ما عليه فرق أهل البدعة، ورأوا أن ذلك فاسدٌ في العقل فكفروا بالدين أصلاً. ومعظم الفرق التي خرجت عن الجماعة ضعف نشاطها اليوم، وفتر حماسها وتقلص أتباعها، وانكفأت على نفسها، وقلت منابذتها أهل السنة. أما طائفة الشيعة فإن هجومها على أهل السنة، وتجريحها لرجالهم، وطعنها في مذهبهم، وسعيها لنشر التشيع بينهم يزداد يوماً بعد يوم. ولعل طائفة الاثني عشرية هي أشد فرق الشيعة سعياً في هذا الباب لإضلال العباد إن لم تكن الفرقة الوحيدة التي تُكثر من التطاول على السنة، والكيد لها على الدوام مما لا تجده عند فرقة أخرى. ولقد كانت صلتي بقضية الشيعة تعود إلى مرحلة "الماجستير"، حيث كان موضوعها "فكرة التقريب بين أهل السنة والشيعة" وبعد أن انتهيت من دراسة مسألة التقريب، رغبت أن أتجه في دراستي للدكتوراه إلى تحقيق بعض كتب التراث، وتقدمت إلى القسم بطلب الموافقة على تحقيق الجزء الأول "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح" لشيخ الإسلام ابن تيمية، ولكن أشار عليّ بعض الأساتذة الفضلاء في القسم وخارجه بالاستمرار في دراسة قضية الشيعة؛ لأهميتها وضرورة دراستها دراسة علمية موضوعية. وبعد الاستشارة والاستخارة عقدت العزم على أن أدرس العقائد الأساسية للمذهب الاثني عشري، وأنا على علم بأن الجهد الذي يتطلبه هذا الموضع يفوق الموضوع الأول كثيراً، لأنني - كما سيتبين - أمام دارسة دين بأكمله، لا كتاب شخص واحد. وقد اخترت طائفة الاثني عشرية بالذات من بين طوائف الشيعة لعدة أسباب، منها: أولاً: أن هذه الطائفة بمصادرها في التلقي وكتبها، وتراثها تمثل نحلة كبرى، حتى أنهم
يسمون مسائل اعتقادهم "دين الإمامية" (¬1) . لا مذهب الإمامية، وذلك لانفصالها عن دين الأمة، وبحسبك أن تعرف أن أحد مصادرها في الحديث عن الأئمة يبلغ مائة وعشرة مجلدات وهو "بحار الأنوار" لشيخهم المجلسي (ت1111هـ) . ثانياً: اهتمام هذه الطائفة بنشر مذهبها والدعوة إليه، وعندها دعاة متفرغون ومنظمون، ولها في كل مكان (غالباً) خلية ونشاط، وتوجه جل اهتمامها في الدعوة لنحلتها في أوساط أهل السنة، ولا أظن أن طائفة من طائف البدع تبلغ شأو هذه الطائفة في العمل لنشر معتقدها والاهتمام بذلك. هي اليوم تسعى جاهدة لنشر "مذهبها" في العالم الإسلامي، وتصدير ثروتها، وإقامة دولتها الكبرى بمختلف الوسائل. وقد تشيع بسبب الجهود التي يبذلها شيوخ الاثني عشرية الكثيرُ من شباب المسلمين.. ومن يطالع كتاب "عنوان المجد في تاريخ البصرة ونجد" يهوله الأمر، حيث يجد قبائل بأكملها قد تشيعت. وقد تحولت سفارات دولة الشيعة في إيران إلى مركز للدعوة إلى مذهبها في صفف الطلبة، والعاملين المسلمين في العالم. وهي تهتم بدعوة المسلمين أكثر من اهتمامها بدعوة الكافرين (¬2) . ولاشك أن المسؤولية كبيرة في إيضاح الحقيقة أمام المسلمين. ولاسيما الذين دخلوا في سلك التشيع حباً لأهل البيت واعتقادهاً منهم أن هذا الطريق عين الحق، وطريق الصدق. ¬
ثالثاً: أن هذه هي الطائفة الشيعية الكبرى في عالم اليوم، وقد احتوت معظم الفرق الشيعية التي وجدت على مسرح التاريخ، تمثل مصادرها في التلقي، خلاصة أفكار الاتجاهات الشيعية المختلفة ومستقرها التي ظهرت على امتداد الزمن، حتى قيل بأن لقب الشيعة إذا أطلق لا ينصر إلا إليها. رابعاً: هذه الفرقة لها اهتمام دعائي في الدعوة للتقارب مع أهل السنة، وقد أقامت المراكز، وأرسلت الدعاة، وأنشأت الجمعيات التي ترفع شار الوحدة الإسلامية (¬1) . خامساً: هذه الطائفة تكثر من القول بأن مذهبها لا يختلف عن مذهب أهل السنة، وأنها مظلومة ومفترى عليها، ولها اهتمام كبير بالدفاع عن مذهبها، ونشر الكتب والرسائل الكثيرة للدعاية له، وتتبع كتب أهل السنة ومحاولة الرد عليها، مما لا يوجد مثله عند طائفة أخرى. سادساً: كثرة مهاجمة هذه الطائفة لأهل السنة، ولا سيما صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطعنها في أمهات كتب المسلمين، عبر مؤلفاتهم التي يخرج سنوياً العشرات من الكتب.. كذلك مهاجمتها بعنف وضراوة لكل من يكتب عنها أو يتعرض لمذهبها بالنقد، تحت ستار أن هذه الكتابات تعيق التقريب، وتعرقل مساعي الوحدة الإسلامية، فانصرفت أكثر الأقلام عن الكتابة عنها. سابعاً: استرعى انتباهي تضخم الخلاف حول حقيقة الاثني عشرية لدى الكتاب المعاصرين: فمن فريق يرى أنهم كفرة، وأن غلهم تجاوز الحدود الإسلامية، كما في كتابات الأستاذ محب الدين الخطيب، وإحسان إلهي ظهير، وإبراهيم الجبهان (¬2) . وغيرهم. ¬
وفريق يرى أن الاثني عشرية طائفة معتدلة لم تجنح إلى الغلو الذي وقعت فيه الفرق الباطنية، مثل: كتابات النشار، وسليمان دنيا، ومصطفى الشكعة (¬1) . وغيرهم. وفريق ثالث التبس عليه الأمر حتى ذهب يستفتي شيوخ الشيعة الاثني عشرية فيما كتبه عنهم إحسان إلهي ظهير، ومحب الدين الخطيب، كما تجد ذلك فيما كتبه البهنساوي في "السنة المفترى عليها". ومن خلال هذه الاختلافات قد تضيع الحقيقة، أو تخفى على الكثير. ولذلك فقد راعيت في هذه الرسالة - ولا سيما في باب الشيعة المعاصرين - الاستماع إلى أصوات الشيعة المدافعين عن مذهبهم والناقدين لما كتبه بعض أهل السنة عن معتقدهم، ومناقشة ذلك. ولقد كتب أسلافنا عن الاثني عشرية، وهي التي يسمونها بالرافضة، وكان لمصنفاتهم أثرها، كما في كتابات أبي نعيم، وشيخ الإسلام ابن تيمية، المقدسي، والفيروزآبادي، وما في كتب الفرق والعقيدة، ولكن تلك الكتابات كانت قبل شيوع كتب الشيعة وانتشارها، وجملة منها يحمل صفة الرد على بعض مؤلفات الشيعة، ولا تدرس الطائفة بعقائدها وأفكارها بشكل شامل. كما أن الاثني عشرية لمهارتها في التقية، قد خفي أمرها؛ حتى نجد في شرح صحيح مسلم القول بأن الإمامية لا تكفر الصحابة، وإنما ترى أنهم أخطأوا في تقديم أبي بكر (¬2) . ونرى شيخ الإسلام ابن تيمية على اهتمامه بالمذهب الرافضي ونقده، يقول: حدثني الثقات أن فيهم من يرى الحج إلى المشاهد أعظم من الحج إلى بيت الله (¬3) . ¬
بينما هذه القضية تجدها اليوم مقررة في أمهات كتبهم في عشرات الروايات والعديد من الأبواب. كما أن أهم كتاب عند الشيعة وهو "أصول الكافي" لا تجد له ذكراً عند الأشعري، أو ابن حزام، أو ابن تيمية، وهو اليوم الأصل الأول المعتمد عند الطائفة في حديثها عن الأئمة الذي هو أساس مذهبها. وأيضاً فإن طبيعة هذا المذهب أنه يتطور من وقت لآخر، ويتغير من جيل لجيل، حتى أن الممقاني أكبر شيوخهم في هذا العصر يقول: إن ما يعتبر غلواً عند الشيعة الماضين أصبح اليوم من ضرورات المذهب (¬1) . هذه الطبيعة المتغيرة تقتضي التعرف على الوجه الحقيقي للاثني عشرية في عصرنا. كما أن جل الردود التي تسود المصنفات التي كتبها الأئمة السابقون - رحمة الله عليهم أجمعين - هي على شبهات يثيرها الشيعة من كتب السنة نفسها؛ فيرد عليها أهل السنة مبينين أن تلك النصوص التي يتمسك بها الشيعة إما موضوعة، وإما ضعيفة، أو بعيدة عن استدلالهم الفاسد. ولكن الشيعة لا تؤمن بكتب أهل السنة كلها أصلاً، وهي تثير هذه الشبهات إلى اليوم لتحقيق أمرين: الأول: إشغال أهل السنة بهذه الشبهات، حتى لا يتفرغوا لنقد كتبهم، ونصوصهم، ورجال رواياتهم. الثاني: إقناع الحائرين والمتشككين من أهل طائفتهم بدعوى أن ما هم عليه من شذوذ وهو موضع اتفاق بين السنة والشيعة. ولكن كتب الشيعة اليم قد توفرت بشكل لم يعهد من قبل.. فينبغي أن تكون من أهم ركائز الدراسة والنقد؛ لأن الحجة على كل طائفة إنما تقام بما ¬
تصدقه وتؤمن به. أما الكتابات المعاصرة من قبل أهل السنة عن الاثني عشرية فهي قليلة بالنسبة لما يكتبه الشيعة عن أهل السنة. وهي بالنسبة للاثني عشرية لا تكفي، فمذهبهم قائم على مئات الكتب التي تخدم المذهب، وتدعو إليه، وتمثل فكره ووجهته، ودراستها ونقدها يحتاج لجهد أكبر، وعمل أوسع. ولقد رأيت في هذه المؤلفات أنها أغفلت جوانب مهمة في دراسة الاثني عشرية؛ كعقيدتهم - مثلاً - في أصول الدين، وهو ما حاولت القيام بدراسته في الباب الثاني من هذه الرسالة. كذلك معرفة آراء المعاصرين من الشيعة وتوجهاتهم، وصلتهم بالفرق القديمة، وكتبهم السابقة، وهو ما يتحدث عنه الباب الرابع. والموضوع - حقيقة - كان من السعة والتشعب، بحيث يحتاج إلى دراسات جديدة ترتاد آفاقاً مازالت مجهولة في المذهب الاثني عشري، ولذلك نحوت في دراسة الموضوع منحاً علمياً تكشفت فيه معالم جديدة، لعل من أبرزها ما يلي: أولاً: دراسة مذهب الاثني عشرية في أصول الدين وهي منطقة في معظم مسائلها مجهولة، لأن الشيعة يتسترون عليها، والباحثين من أهل السنة لم يطرقوها. وقد شكل ذلك باباً كاملاً في الرسالة هو الباب الثاني. ثانياً: أماطت هذه الدراسة اللثام عن عقائد لم يطرقها أحد من قبل - حسب علمي - كعقيدة أن القرآن ليس حجة إلا بقيم، وأن جل القرآن نزل فيهم وفي أعدائهم، وعقيدة الظهور، والطينة (¬1) ، ودعوى تنزل كتب إلهية على الأئمة (¬2) . ¬
كما كشفت عن متى بدأت فرية التحريف في المذهب الاثني عشري، وأول كتاب سجلت فيه هذه الفرية، واكتشاف وضع هذا الكتاب ومتى وضع. كذلك تم اكتشاف صلة شيخ الإسلام ابن تيمية ومنهاج السنة، بأكبر تحول في تقويم النصوص عندهم وتقسيمها إلى صحيح، وضعيف وموثق. وحققت القول بوجود المهدي الذي يقوم عليه مذهب الاثني عشرية اليوم وعرض شهادات مهمة صادرة من أسرة الحسن العسكري، وأهل البيت والحسن العسكري نفسه، ومأخوذة من كتب الشيعة ذاتها. وغير ذلك مما قد يجده الباحث في هذه الرسالة. وإنني أذكر هذه المسائل حتى تتضح للقارئ مواضع الإضافة التي يمكن أن يفيد منها.. ذلك أنني حاولت أن أكتفي في المسائل المبحوثة بالإشارة أو الإتيان بنصوص جديدة، كما في مسألة تكفيرهم للشيخين، التي تجد النصوص التي تكشف تورط الشيعة فيها من خلال ما كتبه الشيخ موسى جار الله وإحسان إلهي ظهير، وغيرهما، فحاولت أن أقدم نصوصاً شيعية تعبر عن الشيخين برموز خاصة، ثم أوردت تفسيرها من كتب الاثني عشرية نفسها. أما عن المنهج الذي حكم أسلوب معالجتي للموضوع، والجديد الذي يحتمل إضافته، فإن أبواب هذا البحث خير من يتحدث عنه، وإذا كان لابد من إشارات في هذا التقديم فأقول: قد عمدت في بداية رحلتي مع الشيعة وكتبها ألا أنظر في المصادر الناقلة عنهم، وأن أتعامل مباشرة مع الكتاب الشيعي حتى لا يتوجه البحث وجهة أخرى.
وحاولت - جهد الطاقة - أن أكون موضوعياً، ضمن الإطار الذي يتطلبه موضوع له صلة وثيقة بالعقدية كموضعي هذا. والموضوعية الصادقة أن تنقل من كتبهم بأمانة، أن تختار المصادر المعتمدة عندهم، وأن تعدل في الحكم، وأن تحرص على الروايات الموثقة عندهم أو المستفيضة في مصادرهم - ما أمكن -. أما إنكار ما أقف عليه من منكر، بيان فساده، فهذا ليس خروجاً عن الموضوعية، بل هو جزء من واجب كل مسلم، فمن يتعرض لكتاب الله سبحانه، ويدعي فيه نقصاً وتحريفاً، أو يقول بأن علياً هو الأول والآخر والظاهر الباطن، وأمثال هذه الكفريات الظاهرة، لا تملك إلا أن تصمه بما يستحقه، وأن تظهر فداحة جرمه، وشناعة معتقده، وإلا كان في الأمر خداع وتغرير بالقارئ المسلم. ولذلك فإنني أعرض لعقائدهم بمنهج نقدي، وحينما أجد أن المسألة تحتاج إلى دراسة نقدية أكثر تفصيلاً أعقد لذلك مبحثاً مستقلاً، ولا ألتزم ذلك دائماً؛ لأن في جملة من العقائد ما يكفي لمعرفة حقيقتها بمجرد عرضها، ولهذا ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن تصور المذهب الباطل يكفي في بيان فساده ولا يحتاج مع حسن التصور إلى دليل آخر، وإنما تقع الشبهة؛ لأن أكثر الناس لا يفهمون حقيقة قولهم وقصدهم لما فيه من الألفاظ المجملة المشتركة (¬1) . ولذلك فإنني أحياناً أكتفي بمجرد تصوير حقيقة القول، والإشارة إلى بطلانه، ولا سيما في المسائل الجزئية، كما أنني في مسائل المذهب الكبار كمسألة النص أو الصحابة، أزيد على ذلك بنقد المقالة من خلال الكتاب والسنة، وأقوال أئمتهم، والأمور المعلومة، والمتفق عليها. وأسلك بوجه عام في مناقشتهم منهج النقد الداخلي للنصوص؛ وذلك عن ¬
طريق مقارنة هذه النصوص بعضها ببعض وبيان ما بينها من تناقض ومفارقات - ما أمن ذلك -. كما أنني أحياناً أناقشهم على وفق منطقهم، وبمقتضى مقرراتهم وقواعدهم، وعلى ضوء رواياتهم، ولا يعني هذا الموافقة على تلك الأصول، وقبول تلك الروايات؛ وإنما هو منهج في النقد، لكشف حقيقة المذهب، وخروجه عن أصوله، وعمله ببعض رواياته وترك الآخر. ثم إنني في عرضي لعقائدهم ألتزم النقل من مصادرهم المعتمدة، لكن لا أغفل في الغالب ما قالته المصادر الأخرى. ووضع الأمرين أمام القارئ مفيد جداً للموازنة والمقارنة، ومعرفة مدى اطلاع الأوائل على معتقد الشيعة، ومقدار التغير في المذهب الشيعي عبر القرون. كما قمت بتخريج ما يرد في البحث من الأحاديث والآثار، والتعريف بالفرق والملل، وبيان المصطلحات، وكذلك الترجمة للأعلام الذين لهم دور في تأسيس بعض عقائد الشيعة، أو ما تدعو حاجة البحث لمعرفته. أما الترجمة لكل عَلَمٍ يرد فهذا يشغل القارئ عن الموضوع الأساسي، وهو موضوع مكانه كتب التاريخ التراجم، ولذلك فإني التزمت التعريف بكل فرقة ترد؛ لأن هذا هو الأقرب للتخصص والموضوع. ولقد اكتنفت دراستي عدة صعوبات: أولها: أن كتب الرواية عند الشيعة لا تحظى بفهرسة، وليس لها تنظيم معين، كما هو الحال في كتب أهل السنة (¬1) ، ولذلك فإن الأمر اقتضى مني قراءة طويلة في كتب حديثهم، حتى تصفحت البحار بكامل مجلداته، وأحياناً أقرأ رواية رواية، وقرأت أصول الكافي، وتصفحت وسائل الشيعة، وكانت الروايات التي أحتاج إليها تبلغ المئات في كل مسألة في الغالب. ¬
فلا تستطيع أن تكتب عن هذه المسألة حتى تستكمل قراءة هذه الأخبار. وأرجع كثيراً إلى شروح الكافي كشرح جامع للمازندراني، لفهم وجهة نظر شيوخهم في الروايات. ثانياً: رحلت في البحث عن الكتاب الشيعي إلى مصر، والعراق، والبحرين، والكويت، وباكستان، وحصلت من خلال ذلك على مصادر مهمة أفدت منها في أبواب هذا البحث وفصوله. ثالثاً: طول المسافة الزمنية التي شملها البحث، والتي امتدت منذ نشأة الشيعة حتى اليوم، فأمامي عشرات الكتب الشيعية في مختلف العصور أمضيت وقتاً طويلاً في تتبعها، وملاحقة التطور العقدي للشيعة في امتدادها. مصادر الرسالة: وقد اعتمدت في دراستي عنهم على مصادرهم المعتبرة من كتب التفسير والحديث، والرجال، والعقائد، والفرق، والفقه، والأصول: أ- ففي كتب التفسير رجعت إلى: تفسير علي بن إبراهيم القمي، الذي قالوا عنه بأنه أصل أصول التفاسير عندهم (¬1) . ووثق رواياته شيخ مشايخهم في هذا العصر الذي يلقبونه "بالإمام الأكبر" وهو أبو القاسم الخوئي، فقال: "ولذا نحكم بوثاقة جميع مشايخ علي بن إبراهيم القمي الذي روى عنهم في تفسيره مع انتهاء السند إلى أحد المعصومين" (¬2) . والقمي عندهم ثقة في الحديث، ثبت معتمد (¬3) ، كان في عصر الإمام العسكري، وعاش إلى سنة (307هـ) (¬4) . ¬
وكذلك تفسير العياشي الذي قال فيه شيخهم المعاصر - محمد حسين الطبطبائي: "أحسن كتاب ألف قديماً في بابه، وأوثق ما ورثناه من قدماء مشايخنا من كتب التفسير بالمأثور، فقد تلقاه علماء هذا الشأن منذ ألف عام إلى يومنا هذا من غير أن يذكر بقدح، أو يغمض فيه بطرف" (¬1) . والعياشي هو محمد بن مسعود أبو النضر، عاش في أواخر القرن الثالث، وهو عندهم جليل القدر، واسع الأخبار، بصير بالروايات (¬2) . وتفسير فرات بن إبراهيم بن فرات الكوفي، من شيوخهم في القرن الثالث وأوائل القرن الرابع (¬3) . وقد وثقه شيخهم المجلسي فقال: "أخبار تفسير فرات موافقة لما وصل إلينا من الأحاديث المعتبرة" (¬4) . هذه أهم كتب التفسير القديمة الموجودة اليوم بين أيديهم (¬5) . وقد رجعت إليها في أثناء عرض عقيدتهم في القرآن وغيره، ولم أكتف بتوثيق المنقول منها، بل شفعت ذلك بما كتبه شيوخهم المتأخرون المعتمدون عندهم، مثل: تفسير الصافي لشيخهم محمد محسن المعروف بالفيض الكاشاني، والذي يصفونه بـ "العلامة المحقق، المدقق، جليل القدر، عظيم الشأن" (¬6) . والبرهان في تفسير القرآن لشيخهم هاشم بن سليمان البحراني (المتوفى سنة 1107 أو 1109هـ) وهو عندهم العلامة الثقة الثبت المحدث الخبير والناقد البصير (¬7) . ¬
* ومرآة الأنوار ومشكاة الأسرار، أو مقدمة البرهان لشيخهم أبي الحسن بن محمد العاملي الفتوني، تلميذ المجلسي صاحب البحار (ت 1140هـ) قال عنه صاحب لؤلؤة البحرين بأنه كان محققاً مدققاً (¬1) ، وقال عنه صاحب روضات الجنات: "من أعاظم فقهائنا المتأخرين" (¬2) ، ووصفه شيخهم النوري بالحجة وقال عن كتابه: "لم يعمل مثله" (¬3) . ومثل ذلك قال صاحب الذريعة (¬4) ، وغير ذلك من كتب التفسير عندهم التي رجعت إليها، وذكرتها تبعاً لما أشرت إليه ووثقته من كتبهم. وأصحاب الكتب السابقة كلهم قالوا بتحريف القرآن، ولاشك أن من اعتقد ذلك فهو ليس من أهل القبلة، ولكني أنقل توثيقاتهم لشيوخهم. ب- أما كتب حديثهم: (وهي رواياتهم عن الأئمة) فقد رجعت لمصادرهم المعتمدة عندهم وهي: 1- الكتب الأربعة: الكافي، والتهذيب، والاستبصار، ومن لا يحضره الفقيه، قال شيخهم المعاصر محمد صادق الصدر: "إن الشيعة (¬5) " (¬6) . 2- الكتب الأربعة المتأخرة وهي: الوافي، وبحار الأنوار، والوسائل، ومستدرك الوسائل، فتصبح مصادرهم الرئيسية ثمانية. قال عالمهم المعاصر محمد صالح الحائري: "وأما صحاح الإمامية فهي ثمانية، أربعة منها للمحمدين الثلاثة الأوائل، وثلاثة بعدها للمحمدين الثلاثة الأواخر، وثامنها لمحمد حسين المرحوم المعاصر النوري" (¬7) . ¬
وقد تحدثت عن هذه المصادر في فصل (عقيدتهم في السنة) . وأكثر ما رجعت إليه من هذه المصدر الثمانية كتابان هما: "أصول الكافي"، و"بحار الأنوار"؛ وذلك لأنهما أكثر اهتماماً بمسائل الاعتقاد، ولأن الشيعة تعلق عليهما أهمية بالغة. قال الصدر عن الكافي: "ويعتبر (الكافي) عند الشيعة أوثق الكتب الأربعة" (¬1) . وتبلغ أخباره (16199) ، ولو لم يقم صاحب الكافي بجمع الروايات عن الأئمة في كتابه لما بقي منها إلا النزر اليسير. وقال: يحكى أن الكافي عرض على المهدي فقال: "كاف لشيعتنا" (¬2) . هذا ما يقوله الصدر، وينسبه للشيعة عموماً، ولهذا قال محب الدين الخطيب: "إن الكافي عند الشيعة هو كصحيح البخاري عند المسلمين" (¬3) . وقد يكون في كلام الخطيب هذا بعض التسامح؛ لأن غلوهم في الكافي أكثر، ألا ترى أنهم يقولون: إن الكافي ألّف إبان الصلة المباشرة بمهديهم وإنه عرض على "المعصوم" عندهم، فهو كما لو قال بعض أهل السنة: إنه صحيح البخاري تم عرضه على الرسول صلى الله عليه وسلم.. لأن الإمام عندهم كالنبي، ولذا قالوا: "كانت منابع اطلاعات الكليني قطعية الاعتبار، لأن باب العلم واستعلام حال تلك الكتب (¬4) . بواسطة سفراء القائم (¬5) . كان مفتوحاً عليه لكونهم معه في بلد واحد، بغداد" (¬6) . ¬
أما البحار فقالوا بأنه: "المرجع الوحيد لتحقيق معارف المذهب" (¬1) . وعظموا من أمره، كما سيأتي من خلال صفحات هذه الرسالة (¬2) . 3- ورجعت إلى كتب شيوخهم المعتمدين عندهم، والتي يعدونها في الاعتبار والاعتماد كالكتب الأربعة، منها: أ- كتاب سليم بن قيس، وهو أول كتاب ظهر للشيعة، كما يقول ابن النديم (¬3) ، وهو من أصولهم المعتبرة (¬4) ، ولنا وقفة مع هذا الكتاب ومؤلفه في أثناء الحديث عن فرية التحريف (¬5) . ب- كتب شيخهم أبو جعفر محمد بن علي بن بابويه القمي (المتوفى سنة 381هـ) مثل: إكمال الدين، والتوحيد، وثواب الأعمال، وعيون أخبار الرضا، ومعاني الأخبار، والأمالي وغيرها، وكتبه كلها "لا تقصر في الاشتهار عن الكتب الأربعة التي عليها المدار في هذه الأعصار" (¬6) ، ولا يستثنى من ذلك إلا خمسة كتب لم أرجع إليها (¬7) . ج- كتب شيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي (المتوفى سنة 460هـ) وهي مثل كتب ابن بابويه في الاعتبار والاشتهار عندهم إلا كتاب واحد (¬8) . وغيرها من كتب شيوخهم، والتي تكلف شيخهم المجلي بتوثيقها في الجزء الأول من بحاره (¬9) ، كما قد ألمحت ببعض توثيقاتهم لهذه ¬
الكتب في أثناء البحث، وأذكر توثيق الكتاب الذي لا أنقل منه إلا مرة واحدة في موضع النص المنقول. د- رجعت إلى كتب العقيدة المعتمدة عندهم مثل: 1- اعتقادات ابن بابويه. 2- وأوائل المقالات للمفيد، وتصحيح الاعتقاد له أيضاً. 3- ونهج المسترشدين لابن المطهر الحلي. 4- والاعتقاد للمجلسي صاحب البحار. 5- وعقائد الإمامية للمظفر (من المعاصرين) . 6- عقائد الإمامية الاثني عشرية للزنجاني (معاصر) وغيرها. وفي عقائدهم التي تفردوا بها رجعت - بالإضافة لما مضى - إلى ما كتب عن هذه العقائد مستقلاً، ففي الغيبة - مثلاً - رجعت إلى كتاب الغيبة لشيخهم محمد بن إبراهيم النعماني، من شيوخهم في القرن الثالث، وقد قال المجلسي عن كتابه هذا: "وكتاب النعماني من أجلّ الكتب" (¬1) ، ثم نقل عن المفيد ما يتضمن الثناء عليه وتوثيقه (¬2) . وكذلك كتاب الغيبة للطوسي، وإكمال الدين لابن بابويه وغيرها. وفي اعتقادهم في الرجعة، رجعت إلى ما كتبه شيخهم الحر العاملي في الرجعة وهو "الإيقاظ من الهجعة بالبرهان على الرجعة" وهكذا. هـوكذلك رجعت إلى ما كتبه بعض شيوخهم في المقالات والفرق، وهما "المقالات والفرق" لشيخهم سعد بن عبد الله الأشعري القمي المتوفى سنة (301هـ) ، و"فرق الشيعة" لشيخهم الحسن بن موسى النوبختي من شيوخهم في القرن الثالث. "وهما كتابان وصلا إلينا من بين كتب فرق الشيعة الضائعة" (¬3) . ¬
و وفي كتب الرجال رجعت إلى مصادرهم المعتمدة في ذلك، ولاسيما كتبهم الأربعة؛ لأنهم يقولون: "أهم الكتب في هذا الموضوع من مؤلفات المتقدمين هي أربعة كتب، عليها المعول في هذا الباب وهي: 1- معرفة الناقلين عن الأئمة الصادقين لأبي عمرو محمد بن عمر بن عبد العزيز الكشي (من شيوخهم في القرن الرابع) الذي يعرف بـ "رجال الكشي". 2- كتاب الرجال لأبي العباس أحمد بن علي النجاشي المتوفى سنة (460هـ) المعروف بـ "رجال النجاشي". 3- كتاب الرجال لشيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن بن علي الطوسي المتوفى سنة (460هـ) المعروف بـ "رجال الطوسي". 4- كتاب "الفهرسيت للشيخ الطوسي" (¬1) . وقد أكثرت في النقل من رجال الكشي، لأنهم يعدونه أهم كتبهم في الرجال، وأقدمها، وأوثقها؛ فهو من تأليف الكشي وهو عندهم "ثقة بصير بالأخبار وبالرجال حسن الاعتقاد" (¬2) . ومن تهذيب واختصار شيخ الطائفة الطوسي. ولذا قال شيخهم المصطفوي: "أقدم هذه الكتب: هو رجال الكشي الذي لخصه شيخ الطائفة.. فكفى لهذا لكتاب المنيف شرفاً واعتباراً" (¬3) . والخلاصة: أنني لم أعمد إلا إلى كتبهم المعتمدة عندهم، في النقل والاقتباس لتصوير المذهب. ولم أذكر من عقائدهم في هذه الرسالة إلا ما استفاضت أخبارهم به، وأقره شيوخهم. ¬
وقد تكون الروايات من الكثرة فأشير إلى ذلك بذكر عدد الروايات وعناوين الأبواب في المسائل التي أتحدث عنها. وأذكر ما أجد لهم من تصحيحات وحكم على الروايات بمقتضى مقاييسهم. كل ذلك حتى لا يقال بأننا نتجه إلى بعض رواياتهم الشاذة، وأخبارهم الضعيفة التي لا تعبر عن حقيقة المذهب، فنأخذ بها. واهتممت بالنقل "الحرفي" في الغالب رعاية للموضوعية، وضرورة الدقة في النقل والعزو، وهذا ما يفرضه المنهج العلمي في نقل كلام الخصوم.
خطة البحث: يتكون هذا البحث من: تمهيد، وخمسة أبواب. في التمهيد: التعريف بالشيعة، ونشأتها، وجذورها التاريخية، وفرقها، وألقاب الاثني عشرية، وفرقها. أما الباب الأول: فموضوعه: اعتقادهم في مصادر الإسلام، وينتظم في ثلاثة فصول: الفصل الأول: اعتقادهم في القرآن. الفصل الثاني: اعتقادهم في السنة. الفصل الثالث: اعتقادهم في الإجماع. وفي الباب الثاني: درست اعتقادهم في أصول الدين في فصول أربعة: الفصل الأول: اعتقادهم في توحيد الألوهية. الفصل الثاني: اعتقادهم في توحيد الربوبية. الفصل الثالث: اعتقادهم في توحيد الأسماء والصفات. الفصل الرابع: اعتقادهم في الإيمان وأركانه. أما الباب الثالث: فهو يتعلق بعقائدهم وأصولهم التي تفردوا بها. ودرست فيه عقائدهم التالية: 1- الإمامية، وفيها عرضت لعقيدتهم في الصحابة، وأهل البيت، وحكام المسلمين، وقضاتهم، وعلمائهم، والأمصار الإسلامية وشعوبها، والفرق الإسلامية، والأمة. 2- العصمة. 3- التقية. 4- المهدية والغيبة. 5- الرجعة.
6- الظهور. 7- البداء. 8- الطينة. أما الباب الرابع: فهو يتصل بالشيعة المعاصرين وصلتهم بأسلافهم، ويقع في أربعة فصول: الفصل الأول: صلتهم بمصادرهم القديمة. الفصل الثاني: صلتهم بفرقهم القديمة. الفصل الثالث: الصلة العقدية بين القدامى والمعاصرين. الفصل الرابع: دولة الآيات. أما الباب الخامس: فهو يتعلق بالحكم عليهم، وأثرهم في العالم الإسلامي، ويتكون من فصلين: الفصل الأول: الحكم عليهم. الفصل الثاني: أثرهم في العالم الإسلامي. ومن ثم الخاتمة؛ وفيها عرض لأهم النتائج التي توصل إليها البحث. وفي ختام هذه المقدمة أدعو الله العلي القدير أن يغفر لشيخي وأستاذي الدكتور/ محمد رشاد سالم (¬1) ، وأن ينزل عليه الرحمة والرضوان، ويتغمده بواسع عفوه وغفرانه، ويسكنه فسيح جناته، فقد تابع الرسالة منذ مراحلها الأولى إلى ¬
أن وصلت إلى مشارف النهاية، وأذن لي ببدء طبعها، ثم رحل عن هذه الدنيا - رحمه الله رحمة واسعة - وقد أفدت من توجيهه وعلمه، وغمرني بفضله وخلقه. وقد قضى - رحمه الله - حياته في العلم والجهاد، وابتلي بالسجن مرتين، وترك آثاراً عظيمة النفع، وكان رحمه الله يؤمل أن يقيم مع تلامذته في القسم ما يسميه "مكتبة أهل السنة" وتتولى التعاون في إخراج كتب التراث في العقيدة، والتأليف في اعتقاد أهل السنة، والرد على الفرق الخارجة عن الجماعة. وأسأل الله سبحانه أن يجزيه على نيته وعمله خير الجزاء، وأن يحقق آماله في تلامذته ليواصلوا الطريق بعده. وأتوجه بالشكر والتقدير والعرفان بالجميل إلى شيخي الأستاذ الدكتور/ سالم بن عبد الله الدخيل، الذي وافق على استكمال الإشراف على الرسالة، وراجع مرحلها، وتابع خطواتها الأخيرة، واطمأن على سيرها. وكانت توجيهاته وآراؤه خير رافد ومعين. وأتقدم بأزكى الشكر وأطيبه لكلية أصول الدين ممثلة في عميدها ومجلسها، ولقسم العقيدة رئيساً وأعضاءً لرعايتهم للبحث، ومتابعة خطواته فجزاهم الله خير الجزاء. وأدعو الله سبحانه أن يجزي بالخير كل من قدّم لي مساعدة في هذه الرسالة.. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. والحمد لله أولاً وأخرًا.
تمهيد
تمهيد: ويشتمل على: 1- التعريف اللغوي للفظ الشيعة. 2- لفظ الشيعة في القرآن ومعناه. 3- لفظ الشيعة في السنة ومعناه. 4- لفظ الشيعة ومعناه في كتب الحديث عند الاثني عشرية. 5- لفظ الشيعة في التاريخ. 6- تعريف الشيعة في كتب الاثني عشرية. 7- تعريف الشيعة في كتب الإسماعيلية. 8- تعريف الشيعة في المصادر الأخرى. 9- التعريف المختار للشيعة. 10- نشأة الشيعة. 11- فرق الشيعة. 12- ألقاب الشيعة الإمامية الاثني عشرية. 13- فرق الاثني عشرية.
تعريف الشيعة
تعريف الشيعة التعريف اللغوي: يقول ابن دريد (المتوفى سنة 321هـ) : "فلان من شيعة فلان أي: ممن يرى رأيه، وشيعت الرجل على الأمر تشييعاً إذا أعنته عليه، وشايعت الرجل على الأمر مشايعة وشياعاً إذا مالأته عليه" (¬1) . وقال الأزهري (المتوفى سنة 370هـ) : "والشيعة أنصار الرجل وأتباعه وكل قوم اجتمعوا على أمرهم شيعة. والجماعة شيع وأشياع، والشيعة: قوم يهوون هوى عترة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ويوالونهم. وشيّعت النار تشييعاً إذا لقيت عليها ما تذكيها به، ويقال: شيعت فلاناً أي: خرجت معه لأودعه، ويقال: شيعنا شهر رمضان بست من شوال أي: أتبعناه بها.. وتقول العرب: آتيك غداً، أو شَيعَهُ أي: اليوم الذي يتبعه، والشيعة التي يتبع بعضهم بعضاً، والشيع الفرق الذي يتبع بعضهم بعضاً وليس كلهم متفقين" (¬2) . وقال الجوهري (المتوفى سنة 40هـ) : "تشيّع الرجل أي: ادعى دعوى الشيعة، وكل قوم أمرهم واحد يتبع بعضهم رأي بعض فهم شِيَع قال ذو الرُّمة: استحدث الركب عن أشياعهم خبراً (¬3) . يعني عن أصحابهم" (¬4) . ¬
وقال ابن منظور (المتوفى سنة 711هـ) : "والشيعة أتباع الرجل وأنصاره، وجمعها شِيَعٌ، وأشياع جمع الجمع، وأصل الشيعة: الفرقة من الناس، ويقع على الواحد والاثنين والجمع والمذكور والمؤنث بلفظ واحد ومعنى واحد، وقد غلب هذا الاسم على من يتولى علياً وأهل بيته، حتى صار لهم اسماً خاصاً، فإذا قيل: فلان من الشيعة عرف أنه منهم، وفي مذهب الشيعة كذا أي: عندهم، وأصل ذلك من المشايعة وهي المتابعة والمطاوعة. والشيعة: قوم يرون رأي غيرهم، وتشايع القوم صاروا شيعاً، وشيّع الرجل إذا ادعى دعوى الشّيعة، وشايعه شياعاً وشيّعه تابعه، ويقال: فلان يشايعه على ذلك أي: يقويه" (¬1) . وقال الزبيدي (المتوفى سنة 1205هـ) : "كل من عاون إنساناً وتحزب له فهو له شيعة، وأصل الشيعة من المشايعة وهي المتابعة، وقيل: عين الشيعة واو من شوع قومه إذا جمعهم. وقد غلب هذا الاسم (الشيعة) على كل من يتولى علياً وأهل بيته.. وهم أمة لا يحصون، مبتدعة، وغلاتهم الإمامية المنتظرية يسبون الشيخين، وغلاة غلاتهم يكفرون الشيخين، ومنهم من يرتقي إلى الزندقة" (¬2) . فالشيعة، والتشيع، والمشايعة في اللغة تدور حول معنى المتابعة، والمناصرة، والموافقة بالرأي، والاجتماع على الأمر، أو الممالأة عليه. ثم غلب هذا الاسم - كما يقوله صاحب اللسان، والقاموس، وتاج العروس - على كل من يتولى علياً وأهل بيته. وهذه الغلبة.. محل نظر؛ لأنه إذا تأمل الباحث في المعنى اللغوي للشيعة والذي يدل على المتابعة، والمناصرة، ثم نظر إلى أكثر فرق الشيعة التي غلب إطلاق هذا الاسم عليها يجد أنه لا يصح تسميتها بالشيعة من الناحية اللغوية؛ لأنها غير متابعة لأهل البيت على الحقيقة بل هي مخالفة لهم ومجافية لطريقتهم.. ولعل هذا ما لاحظه ¬
لفظ الشيعة في القرآن ومعناه
شريك بن عبد الله حينما سأله سائل: أيهما أفضل أبو بكر أو علي؟ فقال له: أبو بكر. فقال السائل: تقول هذا وأنت شيعي! فقال له: نعم من لم يقل هذا فليس شيعياً، الله لقد رقي هذه الأعواد علي، فقال: ألا إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر، فكيف نرد قوله، وكيف نكذبه؟ والله ما كان كذاباً (¬1) . فالإمام شريك لاحظ أن غير المتابع لعلي لا يستحق اسم التشيع، لأن معنى التشيع وحقيقته المتابعة.. ولهذا آثر بعض الأئمة أن يطلق عليهم اسم الرافضة (¬2) . وقد لجأ المتابعون لأهل البيت على الحقيقة، والذين كانوا يلقبون بالشيعة، لجأوا إلى ترك هذا اللقب لما غلب إطلاقه على أهل البدع المخالفين لأهل البيت، كما يشير صاحب التحفة الاثني عشرية إلى ذلك فيقول: إن الشيعة الأولى تركوا اسم الشيعة لما صار لقباً للروافض والإسماعيلية، ولقبوا أنفسهم بـ "أهل السنة والجماعة" (¬3) . لفظ الشيعة في القرآن ومعناه: ومادة شيع وردت في كتاب الله العظيم في اثني عشر موضعاً (¬4) ، وقد أجمل ابن الجوزي (¬5) . معانيها بقوله: "وذكر أهل التفسير أن الشيع في القرآن على أربعة أوجه: ¬
أحدها: الفرق، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا} (¬1) . وقوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ} (¬2) . وقوله: {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} (¬3) . وقوله: {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} (¬4) . والثاني: الأهل والنسب، ومنه قوله تعالى: {هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} (¬5) . أراد من أهله في النسب إلى بني إسرائيل. والثالث: أهل الملة، ومنه قوله تعالى: {ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ} (¬6) ، وقوله: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ} (¬7) ، وقوله: {كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم} (¬8) . وقوله: {إِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ} (¬9) . والرابع: الأهواء المختلفة، قال تعالى: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً} (¬10) ." (¬11) . ¬
ويشير ابن القيم (¬1) - رحمه الله - في نص مهم له إلى أن لفظ الشيعة والأشياع غالباً ما يستعمل في الذم، ويقول: ولعله لم يرد في القرآن إلا كذلك، كقوله تعالى: {ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} ، وكقوله: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا} ، وقوله: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ} . ويعلل ابن القيم لذلك بقوله: "وذلك والله أعلم لما في لفظ الشيعة من الشياع، والإشاعة التي هي ضد الائتلاف والاجتماع، ولهذا لا يطلق لفظ الشيع إلا على فرق الضلال لتفرقهم واختلافهم" (¬2) . هذه ألفاظ الشيعة في كتاب الله ومعانيها، وهي لا تدل على الاتجاه الشيعي المعروف، وهذا أمر يدرك بداهة، ولكن الغريب في الأمر أن نجد عند الشيعة اتجاهاً يحاول ما وسعته المحاولة أو الحيلة أن يفسر بعض ألفاظ الشيعة الواردة في كتاب الله بطائفته، ويؤول كتاب الله على غير تأويله، ويحمل الآيات ما لا تحتمل تحريفاً لكتاب الله وإلحاداً فيه، فقد جاء في أحاديثهم في تفسير قوله سبحانه: {إِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ} (¬3) . قالوا: أي إن إبراهيم من شيعة علي (¬4) ، وهذا مخالف لسياق القرآن، وأصول الإسلام، وهو نابع عن عقيدة غلاة الروافض الذين يفضلون الأئمة على الأنبياء (¬5) ، فهذا التأويل أو التحريف يجعل خليل الرحمن أفضل الرسل ¬
لفظ الشيعة في السنة ومعناه
والأنبياء بعد محمد صلى الله عليه وسلم، يجعله من شيعة علي.... وهو أمر يعرف بطلانه من الإسلام بالضرورة، كما هو باطل بالعقل، والتاريخ.. وهو من وَضع وضَّاع لا يحسن الوضع.. ولا يعرف كيف يضع. والذي قاله أهل السنة في تفسير الآية والمنقول عن السلف أن إبراهيم من شيعة نوح عليه السلام وعلى منهاجه وسنته (¬1) . وهذا التفسير هو الذي يتمشى مع سياق الآية (¬2) ، لأن الآيات التي قبل هذه الآية كانت في نوح عليه السلام، ويلاحظ أن مفسري الشيعة من أخذ بقول أهل السنة، وأعرض عما قاله قومه في تأويل الآية (¬3) . لفظ الشيعة في السنة ومعناه: ورد لفظ الشيعة في السنة المطهرة بمعنى الأتباع.. كما في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في الرجل (¬4) . الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "لم أرك عدلت.." قال فيه عليه الصلاة والسلام: "سيكون له شيعة يتعمقون في الدين حتى يخرجوا منه".. الحديث (¬5) ، وكذلك في الحديث الذي أخرجه أبو داود في ¬
المكذبين بالقدر.. وفيه: "وهم شيعة الدجال" (¬1) . فالشيعة هنا مرادفة للفظ الأصحاب، والأتباع، والأنصار. ومن خلال مراجعتي لمعاجم السنة لم أر استعمال لفظ الشيعة على الفرقة المعروفة بهذا الاسم إلا ما جاء في بعض الأخبار الضعيفة أو الموضوعة والتي جاء فيها لفظ الشيعة كدلالة على أتباع علي، مثل حديث: "فاستغفرت لعلي وشيعته" (¬2) ، وحديث: "مثلي مثل شجرة أنا أصلها وعلي فرعها.. والشيعة ورقها" (¬3) ، وحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال لعلي: "أنت وشيعتك في الجنة" (¬4) . وقد ورد في بعض الأخبار أنه سيظهر قوم يدعون الشيعة لعلي يقال لهم الرافضة (¬5) ، فقد روى الإمام ابن أبي عاصم أربع روايات في ذكر الرافضة (¬6) ، وقال الشيخ الألباني في تحقيقه لأسانيدها بأنها ضعيفة (¬7) . وقد أخرج الطبراني - بإسناد حسن كما يقول الهيثمي - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا علي سيكون في أمتي قوم ينتحلون حب أهل البيت، لهم نبز، يسمون الرافضة، قاتلوهم فإنهم مشركون" (¬8) . ¬
لفظ الشيعة ومعناه في كتب الحديث الاثني عشرية
وقد نبه شيخ الإسلام ابن تييمة إلى كذب لفظ الأحاديث المرفوعة التي فيها لفظ الرافضة، لأن اسم الرافضة لم يعرف إلا في القرن الثاني (¬1) ، وفي ظني أن هذا لا يكفي في الحكم بكذب الأحاديث، إذ لو صحت أسانيدها لكانت من باب الإخبار بما سيقع، وأن الله أخبر نبيه بما سيكون من ظهور الروافض، كما أوحى الله إليه بشأن ظهور فرقة الخوارج (¬2) ، وإن كانت بذرة الخوارج وجدت في حياته - عليه الصلاة والسلام - (¬3) . لفظ الشيعة ومعناه في كتب الحديث الاثني عشرية: وفي كتب الحديث عند الشيعة يتكرر في كثير من رواياتهم وأحاديثهم التي ينسبونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى الإمام على والحسن والحسين وبقية أئمتهم الاثني عشر (¬4) . يتكرر لفظ الشيعة كمصطلح يدل على فرقتهم، وعقيدتهم، وأئمتهم، ذلك أنهم يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي غرس بذرة التشيع وتعهدها بالسقي حتى نمت وأينعت (¬5) . بل وصل بهم الأمر في هذا إلى وضع روايات تدل على أن لفظ الشيعة - كمصطلح لطائفتهم - معروف قبل زمن رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فقد جاء في أحاديثهم تفسير قوله سبحانه: {وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ} أي: إن إبراهيم من شيعة علي (¬6) ، بل بلغ بهم الزعم إلى القول: "إن الله ¬
لفظ الشيعة في التاريخ الإسلامي
أخذ ميثاق النبيين على ولاية علي، وأخذ عهد النبيين على ولاية علي" (¬1) . وأن "ولاية علي مكتوبة في جميع صحف الأنبياء" (¬2) . إلى آخر هذه الدعاوى وسيأتي بسط ذلك في نشأة التشيع. لفظ الشيعة في التاريخ الإسلامي: في الأحداث التاريخية في صدر الإسلام وردت لفظ الشيعة بمعناها اللغوي الصرف، وهو المناصرة والمتابعة، بل إننا نجد في وثيقة التحكيم بين الخليفة علي، ومعاوية - رضي الله عنهما - ورود لفظ الشيعة بهذا المعنى، حيث أطلق على أتباع علي شيعة، كما أطلق على أتباع معاوية شيعة، ولم يختص لفظ الشيعة بأتباع عليّ. ومما جاء في صحيفة التحكيم: "هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان، وشيعتهما.. (ومنها) : وأن علياً وشيعته رضوا بعبد الله بن قيس، ورضي معاوية وشيعته بعمرو بن العاص.. (ومنها) : فإذا توفي أحد الحكمين فلشيعته وأنصاره أن يختاروا مكانه. (ومنها) : وإن مات أحد الأميرين قبل انقضاء الأجل المحدود في هذه القضية فلشيعته أن يختاروا مكانه رجلاً يرضون عدله" (¬3) . وقال حكيم بن أفلح - رضي الله عنه -: "لأني نهيتها - يعني عائشة - أن تقول في هاتين الشيعتين شيئاً" (¬4) . وقد أورد شيخ الإسلام ابن تيمية هذا النص، ليأخذ منه دلالة تاريخية على عدم اختصاص عليّ باسم الشيعة في ذلك الوقت (¬5) . ¬
وجاء في التاريخ أن معاوية قال لبسر بن أرطأة حين وجهه إلى اليمن: "امض حتى تأتي صنعاء فإن لنا بها شيعة" (¬1) .؛ فإذن لم يظهر مصطلح الشيعة دلالة على أتباع عليّ فحسب حتى ذلك الوقت. ويبدو أن بدء التجمع الفعلي لمن يدعون التشيع، وابتداء التميز بهذا الاسم بدأ بعد مقتل الحسين. يقول المسعودي: وفي سنة خمس وستين تحركت الشيعة في الكوفة (¬2) . وتكونت حركة التوابين، ثم حركة المحتار (الكيسانية) وبدأت الشيعة تتكون وتضع أصول مذهبها.. وأخذت تتميز بهذا الاسم. من هنا يتضح أن اسم الشيعة كان لقباً يطلق على أية مجموعة تلتف حول قائدها، وإن كان بعض الشيعة يحاول أن يتجاهل الحقائق التاريخية ويدعي بأن الشيعة "هم أول من سموا باسم التشيع من هذه الأمة" (¬3) ، ويتناسى بأن معاوية أطلق أيضاً على أتباعه كلمة الشيعة، ولكن الوقائع التاريخية تقول بأن لقب الشيعة لم يختص إطلاقه على أتباع عليّ إلا بعد مقتل عليّ - رضي الله عنه - كما يرى البعض (¬4) ، أو بعد مقتل الحسين كما يرى آخرون (¬5) . ¬
تعريف الشيعة اصطلاحا
تعريف الشيعة اصطلاحاً أ- تعريف الشيعة في كتب الإمامية الاثني عشرية: 1- يعرف شيخ الشيعة القمي (¬1) . (المتوفى سنة 301هـ) الشيعة بقوله: هم شيعة علي بن أبي طالب (¬2) . وفي موضع آخر يقول: "الشيعة هم فرقة علي بن أبي طالب المسمون شيعة علي في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وبعده، معروفون بانقطاعهم إليه والقول بإمامته" (¬3) . ويوافقه على هذا التعريف شيخهم "النوبختي" (¬4) . حتى في الألفاظ نفسها (¬5) . مناقشة التعريف الأول: هذا هو تعريف الشيعة في أهم كتب الشيعة وأقدمها الخاصة بالفرق. وهذا التعريف لا يشير إلى أي أصل من أصول التشيع عندا الاثني عشرية، والتي تعتبر ¬
في نظرهم لب التشيع وأساسه؛ كمسألة النص على علي وولده وغيرها (باستثناء ذكره في الأخيرة لإمامة علي فقط بدون ذكر النص أو بقية الأئمة) . - والتعريف الذي يغفل أصول التشيع التي أحدثها الشيعة فيما بعد هو من التعاريف السليمة لشيعة علي - رضي الله عنه - أو للشيعة الحقيقيين، وهو يخرج مدعي التشيع من حظيرة التشيع، لأنهم أحدثوا أصولاً لم يقلها أئمة أهل البيت، لكنه حسب مقاييس الاثني عشرية لا يعتبر تعريفاً للشيعة مع أن القمي والنوبختي من الشيعة الاثني عشرية. - وهذا التعريف يدعي وجود "شيعة علي في زمن النبي صلى الله عليه وسلم" (¬1) . ولا سند لهذه الدعوى من الكتاب والسنة، ووقائع التاريخ صادقة، والله سبحانه يقول: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ} (¬2) . لا التشيع ولا غيره، والصحابة كانوا في عهده صلى الله عليه وسلم عصبة واحدة، وجماعة واحدة، وشيعة واحدة تشيعهم وولاؤهم لرسول الهدى صلى الله عليه وسلم. 2- التعريف الثاني: يقول شيخ الشيعة وعالمها في زمنه المفيد (¬3) ، بأن لفظ الشيعة يطلق على".. أتباع أمير المؤمنين صلوات الله عليه، على سبيل الولاء والاعتقاد لإمامته بعد ¬
الرسول صلوات الله عليه وآله بلا فصل، ونفي الإمامة عمن تقدمه في مقام الخلافة، وجعله في الاعتقاد متبوعاً لهم غير تابع لأحد منهم على وجه الاقتداء" (¬1) . ثم ذكر أنه يدخل في هذا التعريف الإمامية والجارودية الزيدية، أما باقي فرق الزيدية فليسوا من الشيعة، ولا تشملهم سمة التشيع (¬2) . مناقشة التعريف الثاني: 1- لا نجد في تعريف المفيد هذا ذكراً للإيمان بإمامة ولد علي، مع أن من لم يؤمن بهذا فليس من الشيعة عندهم، كما أن هذا التعريف أغفل التصريح ببعض الجوانب الأساسية في التشيع والتي يربط الشيعة وصف التشيع بها كمسألة النص، والعصمة وغيرها من أصول الإمامية. 2- يلاحظ أنه نص في تعريفه على: إخراج الفرق المعتدلة من الزيدية ولا يصدق وصف التشيع في نظره إلا على غلاة الزيدية وهم الجارودية (¬3) ، وليس ذلك فحسب، بل إنه فتح المجال في تعريفه لدخول الفرق الغالية كلها. 3- أما قوله في التعريف: "وجعله في الاعتقاد متبوعاً لهم غير تابع لأحد منهم ¬
على وجه الاقتداء" فهذا إشارة إلى أصل من أصول الاعتقاد عندهم وهو التقية، فعلي عند الشيعة في الظاهر تابع للخلفاء الثلاثة وفي الباطن متبوع لهم، فاتباعه للخلفاء - في نظر المفيد وشعيته - ليس على وجه الاقتداء وإنما على وجه التقية، وليس على وجه الاعتقاد وإنما على وجه الموافقة في الظاهر فقط. 4- أما قوله: " (¬1) وهو كتاب الإرشاد أحد المصادر المعتمدة عند الاثني عشرية "اعتمد عليه علماء الإمامية المتقدمين والمتأخرين، واعتبروه من أهم المصادر في موضوعه وأعاروه عناية فائقة وأهمية كبرى (¬2) . له؛ حيث قال: "وكانت إمامة أمير المؤمنين بعد النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة سنة منها أربع وعشرون سنة وستة أشهر ممنوعاً من التصرف في أحكامها مستعملاً للتقية والمداراة، ومنها خمس سنين وستة أشهر ممتحناً بجهاد المنافقين من الناكثين والقاسطين والمارقين (¬3) ، ومضطهداً بفتن الضالين، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة - كذا - سنة من نبوته ممنوعاً من أحكامها خائفاً ومحبوساً هارباً ومطروداً لا يتمكن من جهاد الكافرين ولا يستطيع دفعاً عن المؤمنين، ثم هاجر وأقام بعد الهجرة عشرة سنين مجاهداً للمشركين ممتحناً بالمنافقين إلى أن قبضه الله جل اسمه إليه، وأسكنه جنات النعيم" (¬4) . فوصف التشيع لا يصدق - في نظر المفيد - إلا على من اعتقد ¬
خلافة علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ممتدة من حين التحاق الرسول بالرفيق الأعلى إلى أن توفي علي (¬1) ، ولا صحة لخلاف الخلفاء الثلاثة، فلا يصدق - حسب تعريفه- وصف التشيع بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا على ثلاثة من الصحابة، وباقي الصاحبة هم - في نظر الشيعة - كفار كالمشركين الذين عاصرهم الرسول صلى الله عليه وسلم، والحكومة كافرة، وعلي يعيش بينهم متستراً بالتقية والنفاق (¬2) ، فأي إساءة إلى علي - رضي الله عنه - وإلى صحابة رسول الله - رضوان الله عليهم وإلى الإسلام أبلغ من هذا؟!. 3- التعريف الثالث للشيعة: وإذا كان المفيد لا ينص في تعريفه للتشيع على مسألة النص والوصية، فإننا نرى في شيخهم الطوس (¬3) . يربط وصف التشيع بالاعتقاد بكون علي إماماً للمسلمين بوصية من الرسول صلى الله عليه وسلم وبإرادة من الله (¬4) . فالطوسي هنا يجعل الاعتقاد بالنص هو أساس التشيع، ولهذا يخرج الطوسي السليمانية (¬5) . الزيدية من فرق الشيعة؛ لأنهم ¬
لا يقولون بالنص بل يقولون: إن الإمامة شورى، وإنها تصلح بعقد رجلين من خيار المسلمين، وإنها قد تصلح في المفضول.. ويثبتون إمامة الشيخين أبي بكر وعمر (¬1) ، ولم يخرجوهم من دائرة التشيع فحسب، بل اعتبروهم "نواصب" (¬2) . ولم يكتفوا بذلك، فقد جاء في رجال الكشي أن الزيدية شر من النواصب (¬3) ، ويجري هذا الحكم من الاثني عشرية على كل فرق الزيدية التي تقول برأي السليمانية كالصالحية والبترية (¬4) . ويذهب بعض شيوخهم المعاصرين إلى ما ذهب إليه الطوسي، فيقصر وصف التشيع على من يؤمن بالنص على خلافة علي، فيقول بأن لفظ الشيعة: "علم من يؤمن بأن علياً هو الخليفة بنص النبي" (¬5) . ويلاحظ أن مسألة النص هي محل اهتمام الشيعة البالغ في القديم والحديث؛ فنرى - مثلاً - في القديم شيخهم الكليني يعقد في كتابه الكافي ثلاثة عشر باباً في مسألة ¬
النص على الأئمة يضمنها مائة وتسعة أحاديث (¬1) ، ونرى في الحاضر أحد الروافض يؤلف كتاباً في ستة عشر مجلداً في حديث من أحاديثهم التي يستدلون بها على ثبوت النص على علي وهو حديث "الغدير" (¬2) . ويسمي كتابه باسم الغدير (¬3) ، فلا غرابة في أن يربط الشيعة وصف التشيع بقضية النص، لكن اللافت للنظر أن هذا الاهتمام والمبالغة يسري في كل عقائدهم التي هي محل استنكار وتكذيب من جمهور المسلمين، فتراهم في كل عقيدة من هذه العقائد التي هذا شأنها، يجعلونها هي عمود التشيع وأساسه، ويبالغون في إثباتها، ولكن حينما يعرف شيوخهم التشيع لا يذكرون هذه العقائد في التعريف مع أنهم يعلقون الوصف بالتشيع بالإيمان بها، ولا تشيع بدونها؛ كمسألة الرجعة مثلاً، قالوا في أحاديثهم: "ليس منا من لم يؤمن بكرتنا" (¬4) . ومع ذلك لا ترى لها ذكراً في تعريف التشيع، وكذلك مسألة العصمة، والإيمان بخلاف ولد علي وغيرها، بل تجد هذه المبالغة حتى في مسائل الفقه وقضايا الفروع كمسألة المتعة، قالوا: "ليس منا من لم.. يستحل متعتنا" (¬5) . فالقوم ليسوا على منهج واضح سليم في ذلك. 4- تعاريف أخرى للشيعة: وهنالك تعريفات أخرى للشيعة متفرقة في كتب الشيعة القديم منها والحديث لا تخرج عما ذكرنا (¬6) . وهناك تعريفات أخرى اتجهت اتجاهاً خاصاً ¬
- في التعريف - لا يشير إلى أصولهم في التشيع المعروفة؛ فهذا شيخهم النجاشي (¬1) . يعرف بالشيعة بقوله: "الشيعة الذين إذا اختلف الناس عن رسول الله أخذوا بقول علي، وإذا اختلف الناس عن علي أخذوا بقول جعفر بن محمد" (¬2) . وإذا اختلف النقل عن جعفر بن محمد بماذا يأخذون؟ لا نجد في التعريف جواباً على ذلك.. إلا إن كان هذا التعريف يشير في توقفه عند جعفر بن محمد إلى أن النقل عنه لا يختلف، وهذا خلاف الواقع وخلاف المأثور عن جعفر بن محمد حتى في كتب الشيعة نفسها.. أم إن هذا النص موضوع في حياة جعفر بن محمد فتوقف عنده ونقله النجاشي، وأيا كان فهو لا يشير إلى الأئمة الذين هم قبل جعفر، كما لا يشير إلى الأئمة بعده.. ثم إن في هذا التعرف خروجاً عن منهج الإسلام، فهو يقول بأن الناس إذا اختلفوا في النقل عن رسول الله لا يؤخذ بمقاييس الترجيح المعروفة في اختيار النقل الصحيح.. بل يؤخذ بقول علي. وإذا اختلف النقل عن علي يؤخذ بقول جعفر هكذا يقولون، ثم لماذا لا يختلف القول عن جعفر، ويختلف القول عن الله وعلي؟.. وهل جعفر أفضل منهما؟! وثمة تعريفات أخرى في كتب الاثني عشرية تجعل التشيع والشيعة مرادفة للتقوى والصلاح والاستقامة. قال أبو عبد الله: "ما شيعتنا إلا من اتقى الله وأطاعه، وما كانوا يعرفون إلا بالتواضع والتجشع والأمانة" (¬3) . وقال: "إنما شيعة علي من ¬
ب- تعريف الشيعة في كتب الإسماعيلية
عف بطنه وفرجه، واشتد جهاده، وعمل لخالقه، ورجا ثوابه، وخاف عقابه، فإذا رأيت أولئك فأولئك شيعة جعفر" (¬1) . وقال أبو جعفر: "لا تذهب بكم المذاهب فوالله ما شيعتنا إلا من أطاع الله عز وجل" (¬2) . (¬3) . ب- تعريف الشيعة في كتب الإسماعيلية: ويقول أبو حاتم الرازي - وهو من أكبر الدعاة الإسماعيليين (¬4) . - في كتابه "الزينة": "الشيعة لقب لقوم كانوا قد ألفوا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - صلوات الله عليه - في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفوا به، مثل سلمان الفارسي، وأبي ذر الغفاري، والمقداد بن الأسود، وعمار بن ياسر، وكان يقال لهم: شيعة علي، وأصحاب علي.. ثم لزم هذا اللقب كل من قال بتفضيله بعده (¬5) . إلى يومنا، وتشعبت من هذه الفرقة فرق كثيرة سميت بأسماء متفرقة وألقاب شتى، مثل: الرافضة، والزيدية، والكيسانية وغير ذلك من الألقاب، وهم كلهم داخلون في جملة هذا اللقب الواحد الذي يسمي الشيعة على تباينهم في المذاهب وتفرقهم في الآراء" (¬6) . ¬
ج- تعريف الشيعة في المصادر الأخرى
ويلحظ في هذا التعريف أن المؤلف ادعى: أن لقب الشيعة أطلق على طائفة معينة من الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا ما لم يثبت تاريخياً، وانفرد بادعائه الشيعة، محاولة لإثبات أصالة مذهبهم وشرعيته. ولنا وقفة عند هذه المسألة في مبحث نشأة الشيعة، كما يلحظ أنه جعل علاقة هؤلاء الصحابة بعلي بن أبي طالب أساسها الإلف، ولم يدع كغيره النص من الله ورسوله - كما تزعم الشيعة -. ج- تعريف الشيعة في المصادر الأخرى: 1- تعريف الأشعري للشيعة: ولعل من أقدم من عرف الشيعة من أصحاب المقالات والفرق (من غير الشيعة) الإمام الأشعري، حيث قال: "إنما قيل لهم: الشيعة، لأنهم شايعوا علياً - رضوان الله عليه - ويقدمونه على سائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم" (¬1) . مناقشة التعريف: تعريف الأشعري هذا يتفق مع ما تذهب إليه المفضلة من الشيعة، وهم الذين يفضلون علياً على أبي بكر وعمر وسائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. والشيعة الاثنا عشرية لا يعتبرون مجرد تقديم علي على سائر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كافياً في استحقاق وصف التشيع، بل لابد من الاعتقاد بأن خلافة علي بالنص.. وأنها بدأت بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.. ولهذا أخرج الطوسي، والمفيد بعض فرق الزيدية من دائرة التشيع - كما مر -، ويمكن القول بأن تعريف الأشعري يشمل جميع أقسام الشيعة أو معظمها، ولا يقتصر على من قال بالنص كما يزعم الرافضة. ¬
2- تعريف ابن حزم: ومن أدق التعاريف للشيعة - في رأي البعض - تعريف ابن حزام (¬1) . للشيعة حيث قال: "ومن وافق الشيعة في أن علياً - رضي الله عنه - أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحقهم بالإمامة وولده من بعده فهو شيعي، وإن خالفهم فيما عدا ذلك مما اختلف فيه المسلمون، فإن خالفهم فيما ذكرنا فليس شيعياً" (¬2) . ويختار هذا التعريف أحد الروافض، ويعتبره من أدق التعاريف للشيعة، ويعرض عن تعاريف أهل نحلته، ويعلل الرافضي اختياره لتعريف ابن حزام على غيره بقوله: «ومما حدانا إلى تفضيل تعريف ابن حزم هو أن الاعتراف بأفضلية الإمام علي - رضي الله عنه - على الناس بعد رسول الله، وأنه الإمام والخليفة بعده، وأن الإمامة في ذريته هو أس التشيع وجوهره" (¬3) . ولكن من يقرأ كلام الشيعة عن عقائدهم كالإمامة، والعصمة، والتقية وغيرها يرى أنهم يغالون في كل عقيدة من عقائدهم بحيث يربطون وصف التشيع بالإيمان بتلك العقيدة - كما سلف- ولعل هذا ما لاحظه الشهرستاني حينما قدّم لنا تعريفاً للشيعة يعتبر من أجمع التعاريف لأصول التشيع وأكثرها شمولاً. 3- تعريف الشهرستاني (¬4) : يقول الشهرستاني: "الشيعة هم الذين شايعوا علياً- رضي الله عنه - على ¬
الخصوص، وقالوا بإمامته وخلافته نصاً ووصية، إما جلياً، وإما خفياً، واعتقدوا أن الإمامة لا تخرج من أولاده، وإن خرجت فبظلم يكون من غيره، أو بتقية من عنده. وقالوا: ليست الإمامة قضية مصلحية تناط باختيار العامة وينتصب الإمام بنصبهم، بل هي قضية أصولية، وهي ركن الدين لا يجوز للرسل عليهم السلام إغفاله وإهماله، ولا تفويضه إلى العامة وإرساله. ويجمعهم القول بوجوب التعيين والتنصيص، وثبوت عصمة الأنبياء والأئمة وجوباً عن الكبائر والصغائر. والقول بالتولي والتبري قولاً وفعلاً وعقداً إلا في حال التقية، ويخالفهم بعض الزيدية في ذلك" (¬1) . ومن هذا التعريف يتبين أن جميع فرق الشيعة - ما عدا بعض الزيدية - يتفقون على وجوب اعتقاد الإمامة، والعصمة، والتقية، وسنرى أن الاثني عشرية يقولون بعقائد أخرى كالغيبة، والرجعة، والبداء.. وغيرها. كما ينبغي أن يلحظ أن الإمام زيداً وأتباعه لا يحكمون بعصمة الإمام، ولا يمنعون الأمة من تعيين من تختاره للإمامة، ولذا يجوّز الإمام زيد إمامة المفضول مع وجود الفاضل، ولا يقول بالتقية، وكأن الشهرستاني يشير إلى ذلك بقوله: "ويخالفهم بعض الزيدية في ذلك". على أن هناك من الزيدية من يقول بعصمة فاطمة، وعلي، والحسين (¬2) ، ومن يقول بالنص على إمامة الثلاثة: علي وولديه" (¬3) . وأكثر الزيدية على خلاف ذلك (¬4) . ¬
التعريف المختار للشيعة
التعريف المختار للشيعة وفي نظري أن تعريف الشيعة مرتبط أساساً بأطوار نشأتهم، ومراحل التطور العقدي لهم، ذلك أن الملحوظ أن عقائد الشيعة وأفكارها في تغير وتطور مستمر؛ فالتشيع في العصر الأول غير التشيع فيما بعده، ولهذا كان في الصدر الأول لا يسمى شيعياً إلا من قدّم علياً على عثمان، ولذلك قيل: شيعي وعثماني، فالشيعي من قدم علياً على عثمان، والعثماني: من قدّم عثمان على علي (¬1) . فعلى هذا يكون التعريف للشيعة في الصدر الأول: أنهم الذين يقدمون علياً على عثمان فقط (¬2) . ولهذا ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن: الشيعة الأولى كانوا على عهد علي كانوا يفضلون أبا بكر وعمر (¬3) . وقد منع شريك بن عبد الله - وهو ممن يوصف بالتشيع - إطلاق اسم التشيع على من يفضل علياً على أبي بكر وعمر؛ وذلك لمخالفته لما تواتر عن علي في ذلك، والتشيع يعني المناصرة والمتابعة لا المخالفة والمنابذة (¬4) . ¬
وروى ابن بطة عن شيخه المعروف بأبي العباس بن مسروق قال: حدثنا محمد بن حميد، حدثنا جرير، عن سفيان، عن عبد الله بن زياد بن جدير قال: قدم أبو إسحاق السبيعي الكوفة، قال لنا شمر بن عطية: قوموا إليه، فجلسنا إليه، فتحدثوا، فقال أبو إسحاق: خرجت من الكوفة وليس أحد يشك في فضل أبي بكر وعمر وتقديمهما، وقدمت الآن وهو يقولون، ويقولون، ولا الله ما أدري ما يقولون (¬1) . قال محب الدين الخطيب: هذا نص تاريخي عظيم في تحديد تطور التشيع، فإن أبا إسحاق السبيعي كان شيخ الكوفة وعالمها (¬2) . ولد في خلافة أمير المؤمنين عثمان قبل شهادته بثلاث سنين، وعمّر حتى توفي سنة 127هـ، وكان طفلاً في خلافة أمير المؤمنين علي، وهو يقول عن نفسه: رفعني أبي حتى رأيت علي بن أبي طالب يخطب، أبيض الرأس واللحية. ولو عرفنا متى فارق الكوفة، ثم عاد فزارها، لتوصلنا إلى معرفة الزمن الذي كان فيه شيعة الكوفة علويين، يرون ما يراه إمامهم من تفضيل أبي بكر وعمر، ومتى أخذوا يفارقون علياً، ويخالفونه فيما كان يؤمن به، ويعلنه على منبر الكوفة من أفضلية أخويه صاحبي رسول الله صلى الله عليه وسلم ووزيريه وخليفتيه على أمته في أنقى وأطهر أزمانها (¬3) . وقال ليث بن أبي سليم: أدركت الشيعة الأولى وما يفضلون على أبي بكر وعمر أحداً (¬4) . وذكر صاحب مختصر التحفة: إن الذين كانوا في وقت خلافة الأمير رضي الله عنه من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، كلهم عرفوا ¬
له حقه، وأحلوه من الفضل محله، ولم ينتقصوا أحداً من إخوانه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فضلاً عن إكفاره وسبه (¬1) . ولكن لم يظل التشيع بهذا النقاء والصفاء، والسلامة والسمو.. بل إن مبدأ التشيع تغير، فأصبحت الشيعة شيعاً، وصار التشيع قناعاً يتستر به كل من أراد الكيد للإسلام والمسلمين من الأعداء الموتورين الحاسدين.. ولهذا نرى بعض الأئمة لا يسمون الطاعنين بالشيخين بالشيعة، بل يسمونهم الرافضة، لأنهم لا يستحقون وصف التشيع. ومن عرف التطور العقدي لطائفة الشيعة لا يستغرب وجود طائفة من أعلام المحدثين، وغير المحدثين من العلماء الأعلام، أطلق عليهم لقب الشيعة، وقد يكونون من أعلام السنة، لأن للتشيع في زمن السلف مفهوماً وتعريفاً غير المفهوم والتعريف المتأخر للشيعة، ولهذا قال الإمام الذهبي في معرض الحديث عمن رمي ببدعة التشيع من المحدثين: قال: "إن البدعة على ضربين (فبدعة صغرى) كغلو التشيع، أو كالتشيع بلا غلو، فهذا كثير في التابعين وأتباعهم مع الدين والورع والصدق، فلو رد حديث هؤلاء لذهب جملة من الآثار النبوية، وهذه مفسدة بينة، ثم (بدعة كبرى) كالرفض الكامل، والغلو فيه، والحط على أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - والدعاء إلى ذلك، فهذا النوع لا يحتج بهم ولا كرامة، وأيضاً فما أستحضر الآن في هذا الضرب رجلاً صادقاً، ولا مأموناً، بل الكذب شعارهم، والتقية والنفاق دثارهم، فكيف يقبل نقل من هذا حاله؟ حاشا وكلا. فالشيعي الغالي في زمان السلف وعرفهم هو من تكلم في عثمان والزبير، وطلحة، ومعاوية، وطائفة ممن حارب علياً - رضي الله عنه - وتعرض لسبهم. والغالي في زمننا وعُرفنا هو الذي يكفر هؤلاء السادة، ويتبرأ من الشيخين فهذا ضال مفتر" (¬2) . ¬
إذن التشيع درجات، وأطوار، ومراحل.. كما أنه فرق، وطوائف. والفرقة التي سنخصها بالحديث هي الاثنا عشرية، والطور من التشيع الذي سندرسه هو الذي يستقي عقيدته ودينه من الأصول الأربعة عندهم: وهي: الكافي، والتهذيب، والاستبصار، ومن لا يحضره الفقيه، والتي يعتبرونها كالكتب الستة عند أهل السنة، وما ألحق بها في الاعتبار من المصادر الأربعة المتأخرة عندهم وهي: الوافي، والبحار، والوسائل، ومستدرك الوسائل. وكذلك ما رأى شيوخ الشيعة أنه بدرجة هذه الكتب من مؤلفاتهم وهي كثيرة. وقبل أن ندع الحديث حول تعريف الشيعة نشير إلى أنه يلحظ على تعريفات الشيعة الواردة في معظم كتب المقالات، أنها دأبت على القول في التعريفات للشيعة (الإمامية) بأنهم أتباع علي.. إلخ، وهذا يؤدي إلى نتيجة خاطئة تخالف إجماع الأمة كلها. هذه النتيجة هي أن يكون علي شيعياً يرى ما يراه الشيعة، وعلي - رضي الله عنه - بريء مما تعتقده الشيعة فيه وفي بنيه. ولذلك لابد من وضع قيد واحتراز في التعريف رفعاً للإبهام، فيقال: هم الذين يزعمون اتباع عليّ؛ حيث إنهم لم يتبعوا علياً على الحقيقة، وليس أمير المؤمنين على ما يعتقدون. أو يقال: بأنهم المدعون التشيع لعلي، أو الرافضة كما سبق، ولذلك عبر عنهم بعض أهل العلم بقوله: "الرافضة المنسوبون إلى شيعة علي" (¬1) . فهم أيضاً ليسوا على منهج شيعة علي المتبعين له، بل هم أدعياء ورافضة. ¬
نشأة الشيعة وجذورها التاريخية
نشأة الشيعة وجذورها التاريخية إن الشيعة بأصولها ومعتقداتها لم تولد فجأة، بل مرت بمراحل كثيرة ونشأت تدريجياً.. وانقسمت إلى فرق كثيرة. ولاشك أن التتبع التاريخي والفكري للمراحل والأطوار التي مر بها التشيع يحتاج إلى بحث مستقل، ولهذا سيكون الحديث هنا عن: أصل النشأة وجذورها التاريخية، ولا يعنينا تتبع مراحلها ونشوء فرقها.. وسنبدأ بعض رأي الشيعة من مصادرها المعتمدة عندها، ثم نذكر بعد ذلك آراء الآخرين. فالمنهج العلمي والموضوعية توصي بأخذ آراء أصحاب الشأن فيما يخصهم أولاً. رأي الشيعة في نشأة التشيع: لم يكن لهم رأي موحد في هذا، ونستطيع أن نستخلص ثلاثة آراء في نشأة التشيع كلها جاءت في كتبهم المعتمدة، وسنتعقب كل رأي بالمناقشة والنقد. الرأي الأول: إن التشيع قديم ولد قبل رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه ما من نبي إلا وقد عرض عليه الإيمان بولاية علي.. وقد وضع الشيعة أساطير كثيرة لإثبات هذا الشأن، ومن ذلك ما جاء في الكافي عن أبي الحسن قال: "ولاية علي مكتوبة في جميع صحف الأنبياء، ولن يبعث الله رسولاً إلا بنبوة محمد - صلى الله عليه وآله -، ووصية عليّ عليه السلام" (¬1) . وعن أبي جعفر في قوله الله عز وجل: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ ¬
وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} (¬1) . قال: "عهدنا إليه في محمد والأئمة من بعده فترك ولم يكن له عزم (¬2) ، وإنما سمي أولو العزم أولي العزم لأنه عهد إليهم في محمد والأوصياء من بعده، والمهدي وسيرته، وأجمع عزمهم على أن ذلك كذلك والإقرار به" (¬3) . وجاء في البحار: أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال - كما يزعمون -: يا علي، ما بعث الله نبياً إلا وقد دعاه إلى ولايتك طائعاً أو كارهاً (¬4) . وفي رواية أخرى لهم عن أبي جعفر قال: إن الله تبارك وتعالى أخذ ميثاق النبيين بولاية علي (¬5) . وعن أبي عبد الله قال: ولايتنا ولاية الله لم يبعث نبي قط إلا بها (¬6) . وعقد لذلك شيخهم البحراني باباً بعنوان: باب أن الأنبياء بعثوا على ولاية الأئمة (¬7) ، وقالوا: ثبت أن جميع أنبياء الله ورسله وجميع المؤمنين كانوا لعلي بن أبي طالب مجيبين، وثبت أن المخالفين لهم كانوا له ولجميع أهل محبته مبغضين.. فلا يدخل الجنة إلا من أحبه من الأولين والآخرين فهو إذن قسيم الجنة والنار (¬8) . ¬
وجاءت رواياتهم في هذا المعنى في كثير من كتبهم المعتمدة عندهم: في الكافي (¬1) ، والوافي (¬2) ، والبحار (¬3) ، ومستدرك الوسائل (¬4) ، والخصال (¬5) ، وعلل الشرائع (¬6) ، والفصول المهمة (¬7) ، وتفسير فرات (¬8) ، والصافي (¬9) ، والبرهان (¬10) ، وغيرها كثير. حتى قال الحر العاملي صاحب وسائل الشيعة - أحد مصادرهم المعتمدة في الحديث - بأن رواياتهم التي تقول: بأن الله حين خلق الخلق أخذ الميثاق على الأنبياء تزيد على ألف حديث (¬11) . ولم تكتف مبالغات الشيعة بالقول بما سلف، بل قالت بأن: "الله عز اسمه عرض ولايتنا على السماوات والأرض والجبال والأمصار" (¬12) . ولهذا قال شيخهم هادي الطهراني - أحد آياتهم ومراجعهم في هذا العصر -: "تدل بعض الروايات على أن كل نبي أمر بالدعوة إلى ولاية علي - رضي الله عنه -، بل عرضت الولاية على جميع الأشياء فما قبل صلح، وما لم يقبل فسد" (¬13) . نقد هذا الرأي: هناك من الآراء والمعتقدات ما يكفي في بيان فسادها مجرد عرضها، وهذا ¬
الرأي من هذا الصنف، إذ إن فساده وبطلانه من الأمور المعلومة بالضرورة.. وكتاب الله بين أيدينا ليس فيه شيء من هذه المزاعم. لقد كانت دعوة الرسل - عليهم السلام - إلى التوحيد لا إلى ولاية علي والأئمة - كما يفترون -. قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَاْ فَاعْبُدُونِ} (¬1) ، وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} (¬2) . فكل رسل الله وأنبيائه كانوا يدعون قومهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له. فقد قال نوح، وهود، وصالح، وشعيب - عليهم السلام - لقومهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (¬3) . وقد قال صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ... " (¬4) . وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن قال: «إنك تقدم على قوم أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله عز وجل ... " (¬5) . ¬
فلم يرد في السنة الصحيحة إلا ما ينقض هذا الرأي. كما أن "أئمة السلف متفقون على أن أول ما يؤمر به العبد الشهادتان" (¬1) . فأين ما يزعمون من أمر ولاية عليّ؟ وإذا كانت ولاية عليّ مكتوبة في جميع صحف الأنبياء، فلماذا ينفرد بنقلها الروافض، ولا يعلم بها أحد غيرهم؟ ولماذا لم يعلم بذلك أصحاب الديانات؟ بل لماذا لم تسجل هذه الولاية في القرآن وهو المهيمن على الكتب كلها، والمحفوظ من لدن رب العزة جل علاه؟!. إن هي إلا دعوى بلا برهان، والدعاوى لا يعجز عن التنطع بها أحد إذا لم يكن له من دينه أو عقله أو حيائه ما يحميه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وهذه كتب الأنبياء التي أخرج الناس ما فيها من ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ليس في شيء منها ذكر عليّ.. وهؤلاء الذين أسلموا من أهل الكتاب لم يذكر أحد منهم أنه ذكر عليّ عندهم، فكيف يجوز أن يقال: إن كلاً من الأنبياء بعثوا بالإقرار بولاية علي، ولم يذكروا ذلك لأممهم، ولا نقله أحد منهم؟! " (¬2) . وكيف تتطاول هذه الأساطير على الأنبياء فتزعم أن آدم - عليه السلام - وبقية الأنبياء - ما عدا أولي العزم - قد تركوا أمر الله في الولاية؟!، إن هذا إلا بهتان عظيم، فالولاية باطلة والافتراء على الأنبياء باطل. ومن المفارقات العجيبة: ذلك الغلو الذي لا يقف عند حد في مسألة عصمة الأئمة.. وهذا الجفاء في حق صفوة الخلق وهم الأنبياء، أليس ذلك دليلاً على أن واضعي هذه الأساطير هم قوم قد فرغت عقولهم ونفوسهم من العلم والإيمان، ¬
وشحنت بالحقد والتآمر على المصلحين والأخيار، وأرادوا الدخول على الناس لإفساد أمرهم من طريق التشيع؟، بلى: إنه لا يتجرأ على مثل هذه الافتراءات إلا زنديق، وكأنهم بهذه المقالة يجعلون أتباع الأئمة أفضل من أنبياء الله - ما عدا أولي العزم - لأن الأتباع اتبعوا، والأنبياء تركوا، إن هذا لهو الضلال المبين.. لقد أخذ الله الميثاق على الأنبياء - عليهم السلام - لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه، هكذا قال ابن عباس (¬1) . وغيره. قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ} (¬2) . فكأن هؤلاء أرادوا - كعادتهم - أن يجعلوا ما للنبي صلى الله عليه وسلم هو من حلق عليّ، ثم إن الإيمان بتفصيل ما بعث به محمد لم يؤخذ عليهم، فكيف يؤخذ عليهم موالاة واحد من الصحابة دون غيره من المؤمنين؟!. وقد أجمع المسلمون على أن الرجل لو آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم وأطاعه، ومات في حياته قبل أن يعلم أن الله خلق أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً لم يضره ذلك شيئاً، ولم يمنعه من دخول الجنة. فإذا كان هذا في أمة محمد صلى الله عليه وسلم فكيف يقال: إن الأنبياء يجب عليهم الإيمان بواحد من الصحابة (¬3) .؟!. وأين عقول هؤلاء القوم الذين يصدقون بهذه الترهات! كيف يؤخذ على من قبلنا من الأنبياء وأممهم الميثاق على طاعة علي في إمامته "هذا - كما يقول شيخ الإسلام - كلام المجانين، فإن أولئك ماتوا قبل أن يخلق الله علياً فكيف يكون أميراً عليهم؟!، وغاية ما يمكن أن يكون أميراً على أهل زمانه، أما الإمارة على من خلق ¬
قبله، وعلى من يخلق بعده، فهذا من كذب من لا يعقل ما يقول، ولا يستحي مما يقول.. وهذا من جنس قول ابن عربي الطائي وأمثاله من ملاحدة المتصوفة الذين يقولون: إن الأنبياء كانوا يستفيدون العلم بالله من مشكاة خاتم الأولياء والذي وجد بعد محمد بنحو ستمائة سنة، فدعوى هؤلاء في الإمامة من جنس دعوى هؤلاء في الولاية، وكلاهما يبني أمره على الكذب والغلو والشرك والدعاوى الباطلة، ومناقضة الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة" (¬1) . فما الغاية والهدف من هذه المقالة التي لا يخفى كذبها على أحد؟ هل الغاية صد الناس عن دين الله؟! لأن هذا معلوم بطلانه بداهة، فإذا رفعوا هذه الدعوى ونسبوها للإسلام، واطلع عليها أصحاب تلك الديانات وغيرهم، ورأوا بطلانها في العقل والنقل شكوا في الإسلام نفسه!! ثم ماذا يقول أهل العلم والعقل عن هذا التحليل الغريب لفساد الأشياء أو صلاحها من الجمادات والنباتات والمياه ... إلخ، وأن هذا بسبب موقفها من ولاية علي. ماذا يقول العالم عن هذا..؟! هل هذا هو الدين الذي يريدون أن يقدموه للناس؟! أو أن الهدف تشويه الإسلام والصد عنه!! ولا يستغرب هذا الرأي من الشيعة، فهم أهل مبالغات غريبة، يكذبون بالحقائق الواضحات، والأخبار المتواترات، ويصدقون بما يشهد العقل والنقل بكذبه ... وإذا كانوا يقولون بهذا الرأي فيمن يدعون إمامته، فإنهم أيضاً يقولون في أعداء الأئمة وأعداء الشيعة - في اعتقادهم - ما يقارب هذا الرأي فقد قالوا في ¬
الخليفتين الراشدين العظيمين: أبي بكر وعمر، قالوا - مثلاً -: "وقع في الخبر أن القائم - رضي الله عنه - إذا ظهر يحييهم ويلزمهم بكل ذنب وفساد وقع في الدنيا، حتى قَتْل قابيل وهابيل، ورَمْي إخوة يوسف له في الجب، ورمي إبراهيم في النار وسايرها"، وكذا روي عن الصادق: "أنه ما أزيل حجر من موضعه، ولا أريقت محجمة دم إلا وهو في أعناقهما - يعني الخليفة الأول والثاني-" (¬1) . الرأي الثاني (من آراء الشيعة) : ويزعم بعض الروافض في القديم والحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي وضع بذرة التشيع، وأن الشيعة ظهرت في عصره، وأن هناك بعض الصحابة الذين يتشيعون لعليّ، ويوالونه في زمنه صلى الله عليه وسلم. يقول القمي: "فأول الفرق الشيعة، وهي فرقة علي بن أبي طالب المسمون شيعة علي في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وبعده، معروفون بانقطاعهم إليه والقول بإمامته، منهم المقداد بن الأسود الكندي، وسلمان الفارسي، وأبو ذر جندب بن جنادة الغفاري، وعمار بن ياسر المذحجي.. وهم أول من سمو باسم التشيع من هذه الأمة (¬2) . ويشاركه في هذا الرأي النوبختي (¬3) ، والرازي (¬4) . ويقول محمد حسين آل كاشف الغطا (المتوفى سنة 1373هـ) : إن أول من وضع بذرة التشيع في حقل الإسلام هو نفس صاحب الشريعة -؛ يعني أن بذرة التشيع وضعت في بذرة الإسلام (¬5) . جنباً إلى جنب، وسواء بسواء، ولم ¬
يزل غارسها يتعاهدها بالسقي والري حتى نمت وازدهرت في حياته، ثم أثمرت بعد وفاته (¬1) . وقال بهذا الرأي طائفة من الشيعة المعاصرين (¬2) . مناقشة هذا الرأي: أولاً: يلاحظ أن أول من قال بهذا الرأي القمي في كتابه «المقالات والفرق» والنوبختي في كتابه "فرق الشيعة". وقد يكون من أهم الأسباب لنشوء هذا الرأي هو أن بعض علماء المسلمين أرجع التشيع في نشأته وجذوره إلى أصول أجنبية، وذلك لوجود ظواهر واضحة تثبت ذلك - سيأتي الحديث عنها (¬3) . -. فبسبب ذلك قام الشيعة بمحاولة إعطاء التشيع صفة الشرعية، والرد على دعوى خصومهم برد التشيع إلى أصل أجنبي، فادعوا هذه الدعوى، وحاولوا تأييدها وإثباتها بكل وسيلة؛ فوضعوا روايات كثيرة في ذلك (¬4) ، ونسبوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزعموا أنها رويت من طرق أهل السنة، وهي روايات "لا يعرفها جهابذة السنة ولا نقلة الشريعة، بل أكثرها موضوع أو مطعون في طريقه، أو بعيد عن تأويلاتهم الفاسدة" (¬5) . ¬
ثانياً: إن هذا الرأي لا أصل له في الكتاب والسنة، وليس له سند تاريخي ثابت، بل هو رأي يجافي أصول الإسلام وينافي الحقائق الثابتة، فقد جاء الإسلام لجمع هذه الأمة على كلمة سواء، لا ليفرقها شيعاً وأحزاباً، ولم يكن بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم شيعة ولا سنة، والله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ} (¬1) . لا التشيع ولا غيره، وهم يعترفون في قولهم: "إن بذرة التشيع وضعت مع بذرة الإسلام جنباً إلى جنب ... " إن التشيع غير الإسلام. والله يقول: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} (¬2) . ومن الحقائق التاريخية المتواترة والتي تكشف خطأ هذا الرأي ومجانبته للحقيقة أنه لم يكن للشيعة وجود زمن أبي بكر وعمر وعثمان (¬3) . وقد اضطر بعض شيوخ الشيعة للإذعان لهذه الحقيقة وهم الذين مردوا على إنكار الحقائق المتواترات. يقول آيتهم ومجتهدهم الأكبر في زمنه محمد حسين آل كاشف الغطاء: " ... ولم يكن للشيعة والتشيع يومئذ (في عهد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما) مجال للظهور؛ لأن الإسلام كان يجري على مناهجه القويمة ... " (¬4) . وبمثل هذا اعتراف شيخهم الآخر محمد حسين العاملي، فقال: "إن لفظ الشيعة قد أهمل بعد أن تمت الخلافة لأبي بكر، وصار المسلمون فرقة واحدة إلى أواخر أيام الخليفة الثالث" (¬5) . ونحن نقول: إنه أهمل لأنه لم يوجد أصلاً، إذ كيف يهمل، ولا يظهر، والحكومة كافرة في نظركم، كما هو متواتر في كتبكم - كما سيأتي نقله وبيانه - وهل كان المسلمون شيعاً في عهد الرسول ... وفرقة واحدة في عهد الخلفاء الثلاثة؟! ¬
ثالثاً: زعموا أن الشيعة كانت تتألف من عمار، وأبي ذر، والمقداد، فهل قال هؤلاء بعقيدة من عقائد الشيعة من دعوة النص، وتكفير الشيخين: أبي بكر وعمر وأكثر الصحابة، أو أظهروا البراءة والسب لهم أو كراهيتهم..؟ كلا، لم يوجد شيء من ذلك.. وكل ما قاله الشيعة من دعاوى في هذا وملأوا به المجلدات لا يعدو أن يكون وهماً من الأوهام نسجته خيالات الحاقدين والأعداء (¬1) . قال ابن المرتضى (وهو شعي زيدي) : "فإن زعموا أن عماراً، وأبا ذر الغفاري، والمقداد بن الأسود، وسلمان الفارسي كانوا سلفهم؛ لقولهم بإمامة علي - عليه السلام - أكذبهم كون هؤلاء لم يظهروا البراءة من الشيخين ولا السب لهم، ألا ترى أن عماراً كان عاملاً لعمر بن الخطاب في الكوفة (¬2) ، وسلمان الفارسي في المدائن" (¬3) . (¬4) . وهذه الحقائق التاريخية الثابتة تنسف كل ما شيده الشيعة من دعاوى في هذا عبر القرون. رابعاً: يرى الشيخ موسى جار الله أن هذه المقالة من الشيعة مغالطة فاحشة خرجت من حدود كل أدب، وأنها افتراء على النبي صلى الله عليه وسلم ولعب بالكلمات، ويتعجب من قولهم: "إن أول من وضع بذرة التشيع في حقل الإسلام هو نفس صاحب الشريعة"، فيقول: "أي حبة بَذَرَ النبي حتى أنبتت سنابل اللعن والتكفير للصحابة وخير الأمة، وسنابل الاعتقاد بأن القرآن محرف بأيدي منافقي الصحابة، وأن وفاق الأمة ضلال، وأن الرشاد في خلافها، حتى توارت العقيدة الحقة في لجّ من ضلال الشيعة جم" (¬5) . ¬
الرأي الثالث: يجعل تاريخ ظهور الشيعة يوم الجمل. قال ابن النديم (¬1) : إن علياً قصد طلحة والزبير ليقاتلهما حتى يفيئا إلى أمر الله جل اسمه، فسمى من اتبعه على ذلك الشيعة، فكان يقول: شيعتي، وسماهم - عليه السلام - الأصفياء الأولياء، شرطة الخميس، الأصحاب (¬2) . هذا رأي انفرد به ابن النديم - حسب علمي - وهو فيما يبدو ويشير إلى تاريخ ظهور الشيعة بمعنى الأنصار والأتباع، وتاريخ إطلاق لقب الشيعة على أنصار علي - رضي الله عنه - وأن علياً - عليه السلام - هو الذي لقبهم بذلك حيث يقول: "شيعتي". ولاشك أن هذا القول لا يدل على بداية الأصول الفكرية للتشيع، فهو يعني هنا المعنى اللغوي للشيعة وهو الأنصار، ولهذا استخدم أيضاً ألقاباً أخرى تدل على ذلك كالأصحاب والأولياء، كما أن الوثائق التاريخية - كما سلف - أثبتت أن لقب "شيعتي" والشيعة كما استعمله علي - رضي الله عنه - قد استعمله معاوية - رضي الله عنه -. ويصف د. مصطفى كامل الشيبي - شيعي معاصر - رأي ابن النديم هذا بالغربة، حيث جعل التشيع لقباً أطلقه عليّ بنفسه على أصحابه (¬3) . وما أدري ما وجه الغرابة، في أن يدعو علي أنصاره بقوله: "شيعتي". أما د. النشار فيرى في كلام ابن النديم بعض الغلو (¬4) . ولا يذكر النشار وجه الغلو الذي يصف به كلام ابن النديم. ¬
آراء غير الشيعة في نشأة التشيع
آراء غير الشيعة في نشأة التشيع: القول الأول: إن التشيع ظهر بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم حيث وجد من يرى أن أحقية علي - رضي الله عنه - بالإمامة. وهذا الرأي قال به طائفة من القدامى والمعاصرين، منهم العلامة ابن خلدون، وأحمد أمين، وبعض المستشرقين، وهذا القول منهم مبني على ما نقله البعض من وجود رأي يقول بأحقية قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخلافة بعده. يقول ابن خلدون: "اعلم أن مبدأ هذه الدولة - يعني دولة الشيعة - أن أهل البيت لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يرون أنهم أحق بالأمر، وأن الخلافة لرجالهم دون من سواهم" (¬1) . ويقول أحمد أمين: "كانت البذرة الأولى للشيعة الجماعة الذين رأوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أن أهل بيته أولى الناس أن يخلفوه" (¬2) . كما قال بمثل ذلك بعض المستشرقين (¬3) . مناقشة هذا الرأي: وهذا الرأي يستند القائلون به إلى الرأي القائل بأحقية القرابة بالإمامة. ولا شك أنه إذا وجد من يرى أحقية عليّ بالإمامة، وأن الإمامة ينبغي أن تكون في القرابة، فقد وجد رأي يقول باستخلاف سعد بن عبادة، وأن الإمامة ينبغي أن تكون في الأنصار، وهذا لا دلالة فيه على ميلاد حزب معين، أو فرقة معينة، وتعدد الآراء أمر طبيعي، وهو من مقتضيات نظام الشورى في الإسلام، فهم في ¬
مجلس واحد تعددت آراؤهم "وما انفصلوا حتى اتفقوا، ومثل هذا لا يعد نزاعاً" (¬1) ، "وقد اندرجوا تحت الطاعة عن بكرة أبيهم لأبي بكر - رضي الله عنه - وكان علي - رضي الله عنه - سامعاً لأمره، وبايع أبا بكر على ملأ من الأشهاد، ونهض إلى غزو بني حنيفة" (¬2) . "وكانوا - على حال ألفة، واجتماع كلمة - يبذلون في طاعة أئمتهم مهج أنفسهم، وكرائم أموالهم على السبيل التي كانوا عليها مع نبيهم.." (¬3) . ولو كان هذا الرأي القائل بأحقية القرابة بالإمامة يمثل البذرة والنواة للتشيع لكان له ظهور وودود زمن أبي بكر وعمر، ولكنه رأي إن ثبت فهو كسائر الآراء التي أثيرت في اجتماع السقيفة، ما إن وجد حتى اختفى بعد أن تمت البيعة.. واجتمعت الكلمة.. واتفق الرأي من الجميع. وموقف أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - ينفي استمرار مثل هذه الآراء أو بقائها بين الصحابة، فقد تواتر عنه - رضي الله عنه، من وجوه كثيرة - أنه قال على منبر الكوفة: "خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر" (¬4) . فكيف يرى غيره من الصحابة فيه ما لم يره في نفسه؟! والشيعة ليس لها ذكر أو وجود في عهد أبي بكر ولا عمر ولا عثمان، ¬
فكيف يقال بنشأتها بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم (¬1) .؟! وقد أقر بهذه الحقيقة بعض شيوخ الشيعة كما سلف (¬2) . القول الثاني: أن التشيع لعلي بدأ بمقتل عثمان - رضي الله عنه، يقول ابن حزم: "ثم ولي عثمان، وبقي اثني عشر عاماً، وبموته حصل الاختلاف، وابتدأ أمر الروافض" (¬3) . والذي بدأ غرس بذرة التشيع هو عبد الله بن سبأ اليهودي (¬4) ، ¬
والذي بدأ حركته في أواخر عهد عثمان، وأكد طائفة من الباحثين القدماء والمعاصرين على أن ابن سبأ هو أساس المذهب الشيعي والحجر الأول في بنائه (¬1) . وقد تواتر ذكره في كتب السنة والشيعة على حد سواء. ونبتت نابتة من شيعة العصر الحاضر تحاول أن تنكر وجوده بجرة قلم دون مبرر واقعي، أو دليل قاطع (¬2) ، بل ادعى البعض منهم أن عبد الله بن سبأ هو عمار بن ياسر (¬3) . وهذه الدعوى هي محاولة أو حيلة لتبرئة يهود من التآمر على المسلمين.. كما هي محاولة أو حيلة لإضفاء صفة الشرعية على الرفض.. والرد على دعوى خصومهم برد أصل التشيع إلى أصل يهودي. ¬
وقد اتفق القدماء من أهل السنة والشيعة على السواء على اعتبار ابن سبأ حقيقة واقعية، وشخصية تاريخية، فكيف ينفى ما أجمع عليه الفريقان؟! أما القول بأن ابن سبأ هو عامر بن ياسر فهو قول يرده العقل والنقل والتاريخ، وكيف تلصق تلك العقائد التي قال بها ابن سبأ بعمار بن ياسر، وهل هذا إلا جزء من التجني على الصحابة والطعن فيهم؟!. ولست بحاجة إلى دراسة هذه المسألة فقد خرجت دراسات موضوعية ومستوفية لهذه القضية (¬1) ، فلا حاجة للوقف عندها طويلاً.. ويكفي - هنا - الاستشهاد بما جاء في كتب الشيعة المعتمدة عن ابن سبأ تمشياً - أولاً - مع خطة البحث في الاعتماد على أصولهم، وثانياً: لأن الإنكار لوجود ابن سبأ جاء من جهة الشيعة، فالاحتجاج عليهم من كتبهم المعتمدة يسقط دعواهم من أساسها. وثالثاً: لأن في عرض آراء ابن سبأ من كتب الشيعة تصويراً لأهل الشيعة وجذورها من كلام الشيعة أنفسهم، وهو موضوع هذا البحث. فماذا تقول كتب الشيعة عن ابن سبأ؟.. فالشيعي سعد بن عبد الله القمي شيخ الطائفة وفقيهها ووجهها، كما ينعته النجاشي (¬2) . (المتوفى سنة 229-301) يقر بوجود ابن سبأ، ويذكر أسماء بعض أصحابه الذين تآمروا معه، ويلقب فرقته بالسبئية، ويرى أنها أول فرقة في الإسلام قالت بالغلو، ويعتبر ابن سبأ "أول من أظهر الطعن على أبي بكر وعمر ¬
وعثمان والصحابة وتبرأ منهم، وادعى أن علياً - رضي الله عنه - أمره بذلك"، ويذكر القمي أن علياً بلغه ذلك فأمر بقتله ثم ترك ذلك واكتفى بنفيه إلى المدائن (¬1) . كما ينقل عن جماعة من أهل العلم - كما يصفهم -: "أن عبد الله بن سبأ كان يهودياً فأسلم، ووالى علياً وكان يقول وهو على يهوديته في يوشع بن نون وصي موسى بهذه المقالة، فقال في إسلامه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في علي بمثل ذلك، وهو أول من شهد بالقول بفرض إمامة علي بن أبي طالب وأظهر البراءة من أعدائه.. وأكفرهم، فمن هاهنا قال من خالف الشيعة أن أصل الرفض مأخوذ من اليهودية (¬2) . ثم يذكر القمي موقف ابن سبأ حينما بلغه نعي علي حيث ادعى أنه لم يمت وقال برجعته، وغلا فيه (¬3) . هذا ما يقوله القمي عن ابن سبأ، والقمي عند الشيعة ثقة واسع المعرفة بالأخبار (¬4) ، ومعلوماته - عندهم - مهمة نظراً لقدم فترتها الزمنية، ولأن سعداً القمي كما روى شيخهم الملقب عندهم بالصدوق قد لاقى في إمامهم المعصوم - في نظرهم - الحسن العسكري وسمع منه (¬5) . ونجد شيخهم الآخر النوبختي يتحدث عن ابن سبأ ويتفق فيما يقوله عن ابن سبأ مع القمي حتى في الألفاظ نفسها (¬6) ، والنوبختي ثقة معتمد عندهم (¬7) . وعالمهم الكشي (¬8) . يروي ست روايات في ذكر ¬
ابن سبأ (¬1) . وذلك في كتابه المعروف "برجال الكشي" والذي هو من أقدم كتب الشيعة المعتمدة في علم الرجال، وتشير تلك الروايات إلى أن ابن سبأ ادعى النبوة وأنه زعم أن أمير المؤمنين هو الله - تعالى الله وتقدس - وأن علياً استتابه فلم يتب، فأحرقه بالنار، كما ينقل الكشي لعن الأئمة لعبد الله ابن سبأ، وأنه كان يكذب على علي، كقول علي بن الحسين: "لعن الله من كذب علينا إني ذكرت عبد الله بن سبأ فقامت كل شعرة في جسدي، لقد ادعى أمراً عظيماً، ما له لعنه الله، كان علي - رضي الله عنه - والله عبداً لله صالحاً أخو رسول الله ما نال الكرامة من الله إلا بطاعته" (¬2) . ثم قال الكشي بعد ذكر تلك الروايات: "ذكر أهل العلم أن عبد الله بن سبأ كان يهودياً فأسلم ووالى علياً، وكان يقول وهو على يهوديته في يوشع بن نون وصي موسى بالغلو، فقال في إسلامه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في علي - رضي الله عنه - مثل ذلك، وكان أول من شهد بالقول بفرض إمامة علي وأظهر البراءة من أعدائه، وكاشف مخالفيه وأكفرهم، فمن ها هنا قال من خالف الشيعة: أصل التشيع والرفض مأخوذ من اليهودية" (¬3) . هذه مقالة الكشي وهي تتفق مع كلام القمي والنوبختي وكلهم يوثقون قولهم هذا بنسبته إلى أهل العلم. ثم إن هذه الروايات الست كلها جاءت في رجال الكشي، والذي يعتبرونه أحد الأصول الأربعة التي عليها المعول في تراجم الرجال، وقام الطوسي شيخ الطائفة عندهم بتهذيب الكتاب، فصار عندهم أكثر ثقة وتحقيقاً حيث اجتمع في تأليفه الكشي الذي هو عندهم ثقة، بصير بالأخبار وبالرجال مع الطوسي وهو صاحب كتابين من صحاحهم الأربعة، ومؤلف كتابين من كتبهم الأربعة المعول ¬
عليها في علم الرجال عندهم (¬1) . ثم إن كثيراً من كتب الرجال الأخرى عندهم جاءت على ذكر ابن سبأ (¬2) ، كما جاء ذكر ابن سبأ في أهم وأوسع كتبهم الرجالية المعاصرة وهو تنقيح المقال (¬3) . لشيخهم عبد الله الممقاني (¬4) . (المتوفى سنة 1351هـ) . ولهذا يلحظ أن ثمة اتجاهاً أخيراً لدى بعض شيوخ الشيعة المعاصرين إلى العدول عن إنكاره، يقول - مثلاً - محمد حسين الزين: "وعلى كل حال فإن الرجل - أي: ابن سبأ - كان في عالم الوجود، وأظهر الغلو، وإن شك بعضهم في وجوده وجعله شخصاً خيالياً.. أما نحن - بحسب الاستقراء الأخير - فلا نشك بوجوده وغلوه" (¬5) . ذلك أن إنكار وجود ابن سبأ هو تكذيب منهم - وإن لم يصرحوا - ¬
لشيوخهم الذين ذكروا ابن سبأ، ولكتبهم في الرجال التي تكاثر فيها ذكره، وهو اعتراف منهم - وإن لم يشعروا - أن كتب الرجال لديهم ليست مرجعاً يوثق به وإجماعها لا يعتد به. وهكذا تعترف كتب الشيعة بأن ابن سبأ هو أول من قال بالوصية لعلي ورجعته وطعن في الخلفاء الثلاثة والصحابة.. وهي آراء وعقائد أصبحت فيما بعد من أسس المذهب الشيعي، وذلك حينما صيغت هذه الآراء وغيرها على شكل روايات وأحاديث ونسبت لآل البيت زوراً وبهتاناً، فوجدت القبول لدى كثير من العوام وغيرهم ولا سيما العجم. القول الثالث: ويقول بأن منشأ التشيع كان سنة 37هـ، ومن أشهر القائلين بهذا الرأي صاحب مختصر التحفة الاثني عشرية حيث يقول: "إن ظهور اسم الشيعة كان عام 37هـ" (¬1) . كما يقول بهذا الرأي الأستاذ وات منتوجمري (Montgomery Watt) حيث يذكر "أن بداية حركة الشيعة هي أحد أيام سنة 658م (37هـ) " (¬2) . ويبدو أن هذا القول يربط نشأة التشيع بموقعة صفين، حيث وقعت سنة 37هـبين الإمام علي ومعاوية - رضي الله عنهما - وما صاحبها من أحداث، وما أعقبها من آثار، ولكن هذا الرأي لا يعني بداية الأصول الشيعية؛ حيث إننا لا نجد في أحداث هذه السنة فيما نقله المؤرخون من نادى بالوصية، أو قال بالرجعة، أو دعا إلى أصل من أصول الشيعة المعروفة، كما أن أنصار الإمام علي لا يمكن أن يقال بأنهم على مذهب الشيعة، أو أصل من أصول الشيعة، وإن كان في أصحاب الإمام علي كما في أصحاب معاوية من أعداء الإسلام الذين تظاهروا بالإسلام ليكيدوا له بالباطن ما لا ينكر، وقد كان للسبئيين أثر في إشعال الفتنة ¬
الرأي المختار
لا يجحد، وهم وجدوا قبل ذلك، كما أننا نلحظ أنه بعد حادثة التحكيم وفي بنود التحكيم أطلق لفظ الشيعة على الجانبين بلا تخصيص - كما سبق - (¬1) . القول الرابع: بأن التشيع ولد إثر مثل الحسين. يقول شتروتمان (¬2) . (Strotnmann, R) "إن دم الحسين يعتبر البذرة الأولى للتشيع كعقيدة" (¬3) . الرأي المختار: عرضنا فيما سبق معظم الآراء في نشأة التشيع، وناقشنا ما يحتاج إلى مناقشة.. والذي أرى أن الشيعة كفكر وعقيدة لم تولد فجأة، بل إنها أخذت طوراً زمنياً، ومرت بمراحل.. ولكن طلائع العقيدة الشيعية وأصل أصولها ظهرت على يد السبئية باعتراف كتب الشيعة التي قالت بأن ابن سبأ أول من شهد بالقول بفرض إمامة علي، وأن علياً وصي محمد - كما مر - وهذه عقيدة النص على علي بالإمامة، وهي أساس التشيع كما يراه شيوخ الشيعة كما أسلفنا ذكره في تعريف الشيعة. وشهدت كتب الشيعة بأن ابن سبأ وجماعته هم أول من أظهر الطعن في أبي بكر وعمر وعثمان أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرحامه وخلفائه وأقرب الناس إليه - رضي الله عنهم - والطعن في الصحابة الآخرين، وهذه عقيدة الشيعة في الصحابة كما هي مسجلة في كتبهم المعتمدة. كما أن ابن سبأ قال برجعة ¬
علي (¬1) . والرجعة من أصول الشيعة كما سيأتي. كما أن ابن سبأ قال بتخصيص علي وأهل البيت بعلوم سرية خاصة. كما أشار إلى ذلك الحسن بن محمد بن الحنفية (¬2) . (ت 95 أو 100هـ) في رسالة الإرجاء (¬3) . وهذه المسألة أصبحت من أصول الاعتقاد عند الشيعة، وقد ثبت في صحيح البخاري ما يدل على أن هذه العقيدة ظهرت في وقت مبكر، وأن علياً - رضي الله عنه - سئل عنها، وقيل له: هل عندكم شيء مما ليس في القرآن ومما ليس عند الناس؟، فنفى ذلك نفياً قاطعاً (¬4) . هذه أهم الأصول التي تدين بها الشيعة (¬5) ، وقد وجدت إثر مقتل عثمان - ¬
رضي الله عنه - في عهد علي - رضي الله عنه - ولم تأخذ مكانها في نفوس فرقة معنية معروفة، بل إن السبئية ما كادت تطل برأسها حتى حاربها علي - رضي الله عنه - (¬1) ، ولكن ما تلا ذلك من أحداث هيأ جواً صالحاً لظهور هذه العقائد، وتمثلها في جماعة وذلك كمعركة صفين، وحادثة التحكيم التي أعقبتها، ومقتل علي، ومقتل الحسين.. كل هذه الأحداث دفعت القلوب والعواطف إلى التشيع لآل البيت، فتسلل الفكر الوافد من نافذة التشيع لعلي وآل بيته، وصار التشيع وسيلة لكل من أراد هدم الإسلام من ملحد ومنافق وطاغوت، ودخلت إلى المسلمين أفكار ومعتقدات أجنبية اكتست بثوب التشيع وتيسر دخولها تحت غطائه، وبمرور الأيام كانت تتسع البدعة ويتعاظم خطرها، حيث قد وجد لابن سبأ خلفاء كثيرون. ولم يكن استعمال لقب "الشيعة" في عهد علي - رضي الله عنه - إلا بمعنى الموالاة والنصرة، ولا يعني بحال الإيمان بعقيدة من عقائد الشيعة اليوم.. ولم يكن يختص إطلاق هذا اللقب بعلي - رضي الله عنه - يدل على ذلك ما جاء في صحيفة التحكيم من إطلاق اسم الشيعة على كل من أتباع علي وأتباع معاوية كما سلف (¬2) . فإذن كانت الأحداث التي جرت على آل البيت (مقتل علي، مقتل الحسين، ¬
إلخ) هي من العوامل المؤثرة للاندفاع إلى التشيع لآل البيت، وكان التعاطف والتأثر لما حل بالآل هو شعور كل مسلم، ولكن قد استغل هذا الأمر من قبل الأعداء الذين يتربصون بالمسلمين الدوائر فدخلوا من هذا المنفذ، وأشاعوا الفرقة في صفوف الأمة، وحققوا بالكيد والحيلة ماعجزوا عنه بالسلاح والسنان، ودخل أتباع الديانات الأخرى، والمتآمرون، والمتربصون في التشيع، وبدأوا يضعون أصولاً مستوحاة من دينهم، ألبسوها ثوب الإسلام.. كما سندرس هذا في أصل التشيع.
أصل التشيع
أصل التشيع (أو أثر الفلسفات القديمة في المذهب الشيعي) اختلف أنظار العلماء والباحثين في مرجع الأصول العقدية للتشيع؛ فمن قائل بأنها ترجع لأصل يهودي، ومن قائل بأنها ترجع لأصل فارسي، ومن قائل بأن المذهب الشيعي كان مباءة للعقائد الآسيوية القديمة كالبوذية (¬1) . وغيرها: القول بالأصل اليهودي: من الباحثين من يرى أن أصل التشيع ذو صبغة يهودية وذلك باعتبارين: الأول: أن ابن سبأ كان أول من قال بالنص والوصية، والرجعة، وابن سبأ يهودي، وهذه الآراء صارت من أصول المذهب الشيعي، ولهذا أشار القمي، والنوبختي والكشي، وهم من شيوخ الشيعة القدامى إلى هذا، وذلك حينما استعرضوا آراء ابن سبأ والتي أصبحت فيما بعد من أصول الشيعة، قالوا: "فمن هنا قال من خالف الشيعة: إن أصل الرفض كان مأخوذاً من اليهودية" (¬2) . ¬
الاعتبار الثاني: هو وجود تشابه في الأصول الفكرية بين اليهود والشيعة، ولعل أول بيان لذلك وأشمله هو ما روي عن الشعبي (¬1) . في هذا الباب (¬2) . كما أشار ابن حزم إلى شيء من ذلك حينما قال: "سار هؤلاء الشيعة في سبيل اليهود القائلين.. إن إلياس -عليه السلام -، وفنحاس بن العازار بن هارون - عليه السلام - أحياء إلى اليوم" (¬3) . وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن في الشيعة من الجهل والغلو واتباع الهوى ما أشبهوا فيه النصارى من وجه واليهود من وجه، وأن الناس مازالوا يصفونهم بذلك، ثم نقل ما روي عن الشعبي من مشابهة الشيعة لليهود والنصارى (¬4) . وقد قال بهذا الرأي جمع من الباحثين (¬5) ". ¬
القول بالأصل الفارسي
القول بالأصل الفارسي (فارسية التشيع) : يقرر بعض الباحثين أن التشيع نزعة فارسية، وذلك لعدة اعتبارات: الأول: ما قاله ابن حزم والمقريزي من أن الفرس كانت من سعة الملك، وعلو اليد على جميع الأمم، وجلالة الخطر في أنفسها بحيث إنهم كانوا يسمون أنفسهم الأحرار والأسياد، وكانوا يعدون سائر الناس عبيداً لهم، فلما امتحنوا بزوال الدولة عنهم على أيدي العرب، كان العرب عند الفرس أقل الأمم خطراً، تعاظمهم الأمر، وتضاعفت لديهم المصيبة وراموا كيد الإسلام بالمحاربة في أوقات شتى، وفي كل ذلك يظهر الله الحق.. فرأوا أن كيده على الحيلة أنجع، فأظهر قوم منهم الإسلام، واستمالوا أهل التشيع، بإظهار محبة أهل البيت، واستبشاع ظلم علي - بزعمهم - ثم سلكوا بهم مسالك حتى أخرجوهم عن طريق الهدى (¬1) . الثاني: أن العرب تدين بالحرية، والفرس يدينون بالملك والوراثة في البيت المالك، ولا يعرفون معنى الانتخاب للخليفة، وقد انتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، ولم يترك ولداً، فأولى الناس بعده ابن عمه علي بن أبي طالب، فمن أخذ الخلافة كأبي بكر وعمر وعثمان، فقد اغتصب الخلافة من مستحقها، وقد اعتاد الفرس أن ينظروا إلى الملك نظرة فيها معنى التقديس، فنظروا هذا النظر نفسه إلى علي وذريته، وقالوا: إن طاعة الإمام واجبة، وطاعته طاعة الله سبحانه وتعالى (¬2) . وكثير من الفرس دخلوا في الإسلام ولم يتجردوا من كل عقائدهم السابقة التي توارثوها أجيالاً، وبمرور الزمان صبغوا آراءهم القديمة بصبغة إسلامية، فنظرة الشيعة إلى علي وأبنائه هي نظرة آبائهم الأولين إلى الملوك الساسانيين. ¬
يقول الشيخ محمد أبو زهرة: "إنا نعتقد أن الشيعة قد تأثروا بالأفكار الفارسية حول الملك والوراثة، والتشابه بين مذهبهم ونظام الملك الفارسي واضح، ويزكي هذا أن أكثر أهل فارس من الشيعة، وأن الشيعة الأولين كانوا من فارس" (¬1) . الثالث: حينما فتح المسلمون بلاد الفرس تزوج الحسين بن علي - رضي الله عنه - ابنه يزدجرد أحد ملوك إيران، بعدما جاءت مع الأسرى فولدت له علي بن الحسين، وقد رأى الفرس في أولادها من الحسين وارثين لملوكهم الأقدمين، ورأوا أن الدم الذي يجري في عرق علي بن الحسين وفي أولاده دم إيراني من قبل أمه ابنة يزدجرد والذي من هو من سلالة الملوك الساسانيين المقدسين عندهم (¬2) ، أضف إلى ذلك أن اسم فاطمة - فيما يقال - اسم مقدس عند الفرس، لأن لها مقاماً محموداً في تاريخ الفرس القديم (¬3) . الرابع: وتلمح الأصل الفارسي أيضاً في روايات عديدة عند الاثني عشرية، تفرد سلمان الفارسي - رضي الله عنه وبرأه الله مما يفترون - بخصائص وصفات فوق مرتبة البشر، حيث جاء في أخبارهم: "أن سلمان باب الله في الأرض، من ¬
عرفه كان مؤمناً، ومن أنكره كان كافراً" (¬1) . وهذا الوصف لسلمان اعتاد الشيعة في رواياتهم على إطلاقه على أئمتهم الاثني عشر، كما أثبتت رواياتهم بأن سلمان "يبعث الله إليه ملكاً ينقر في أذنه يقول كيت وكيت" (¬2) . و"عن الحسن عن منصور قال: قلت للصادق - عليه السلام -: أكان سلمان محدثاً؟ قال: نعم. قلت: من يحدثه؟ قال: ملك كريم. قلت: إذا كان سلمان كذا فصحابه أي شيء هو؟ قال: أقبل على شأنك" (¬3) . فهي تثبت الوحي لسلمان وتوحي بأن صاحبه وهو علي فوق ذلك؟! بل أثبتت أخبارهم لسلمان علم الأئمة والأنبياء، كما جعلت له أمر الإمام والنبي، فقالت: " ... سلمان أدرك علم الأول وعلم الآخر" ثم فسرت ذلك، فقالت: "يعني علم النبي صلى الله عليه وسلم، وعلم علي، وأمرالنبي صلى الله عليه وسلم وأمر علي" (¬4) . وجاء في رواياتهم أن سلمان أحد الشيعة الذين بهم - كما يفترون "ترزقون، وبهم تنصرون، وبهم تمطرون" (¬5) . بل بلغ الغلو ببعض الفرق الشيعية أن قالت بتأليه سلمان، وقد وجدت هذه الفرقة في عصر أبي الحسن الأشعري (المتوفى سنة 330هـ) ، وأشار إليها في مقالاته حيث قال: "وقد قال في عصرنا هذا قائلون بألوهية سلمان الفارسي" (¬6) . وقد تكون هذه الروايات في كتب الاثني عشرية هي من آثار هذه الفرقة، لأن كتب الاثني عشرية قد استوعبت معظم آراء الفرق الشيعية بكل ما فيها من شذوذ.. وبقاؤها في كتبهم قد يؤذن بخروج طوائف منها مرة أخرى. بل نلحظ أن هناك اتجاهاً داخل الدوائر الشيعية لتعظيم بعض العناصر ¬
القول بأن المذهب الشيعي مباءة للعقائد الآسيوية القديمة
الفارسية التي شاركت في التآمر والكيد ضد دولة الخلافة الراشدة وهو أبو لؤلؤة الفارسي المجوسي قاتل الخليفة العظيم عمر بن الخطاب، فقد أطلق عليه عندهم "بابا شجاع الدين" (¬1) .، واعتبروا يقوم مقتل عمر - رضي الله عنه - بيد هذا المجوسي عيداً من أعيادهم، وقد ساق شيخهم الجزائري روايات لهم في ذلك (¬2) .، كما يعظمون يوم النيروز، كفعل المجوس (¬3) ، وقد اعترفت أخبارهم بأن يوم النيروز من أعياد الفرس (¬4) . القول بأن المذهب الشيعي مباءة للعقائد الآسيوية القديمة: ويضيف البعض أن المذهب الشيعي كان مباءة ومستقراً للعقائد الآسيوية القديمة كالبوذية وغيرها (¬5) . يقول الأستاذ أحمد أمين: "وتحت التشيع ظهر القول بتناسخ الأرواح (¬6) .، وتجسيم الله (¬7) ، والحلول (¬8) . ونحو ذلك من الأقوال التي كانت ¬
معروفة عند البراهمة (¬1) . والفلاسفة والمجوس (¬2) . قبل الإسلام" (¬3) . ويشير بعض المستشرقين إلى تسرب الكثير من العقائد غير الإسلامية إلى الشيعة ويقول: "إن تلك العقائد انتقلت إليها من المجوسية، والمانوية (¬4) .، والبوذية وغيرها من الديانات التي كانت سائدة في آسيا قبل ظهور الإسلام" (¬5) . ويذكر صاحب مختصر التحفة: "أن مذهب الشيعة له مشابهة تامة مع فرق اليهود والنصارى والمشركين والمجوس"، ثم يذكر وجه شبه المذهب الشيعي بكل طائفة من هذه الطوائف (¬6) . كما يذكر البعض أنه تتبع مذاهب الشيعة فوجد عندها كل المذاهب والأديان التي جاء الإسلام لمحاربتها (¬7) . ¬
الرأي المختار في أصل التشيع
الرأي المختار في أصل التشيع: والذي أرى أن التشيع المجرد من دعوى النص والوصية ليس هو وليد مؤثرات أجنبية، بل إن التشيع لآل البيت وحبهم أمر طبيعي، وهو حب لا يفرق بين الآل، ولا يغلو فيهم، ولا ينتقص أحداً من الصحابة، كما تفعل الفرق المنتسبة للتشيع، وقد نما الحب وزاد للآل بعدما جرى عليهم من المحن والآلام بدءاً من مقتل علي، ثم الحسين.. إلخ. هذه الأحداث فجرت عواطف المسلمين، فدخل الحاقدون من هذا الباب، ذلك أن آراء ابن سبأ لم تجد الجو الملائم؛ لتنمو وتنتشر إلا بعد تلك الأحداث.. لكن التشيع بمعنى عقيدة النص على علي، والرجعة، والبداء، والغيبة، وعصمة الأئمة.. إلخ فلا شك أنها عقائد طارئة على الأمة، دخيلة على المسلمين، ترجع أصولها لعناصر مختلفة، ذلك أنه قد ركب مطية التشيع كل من أراد الكيد للإسلام، وأهله، وكل من احتال ليعيش في ظل عقيدته السابقة باسم الإسلام، من يهودي، ونصراني، ومجوسي، وغيرهم. فدخل في التشيع كثير من الأفكار الأجنبية والدخيلة - كما سيتبين في الدراسة الموسعة لأصولهم -، ولهذا ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أن المنتسبين للتشيع قد أخذوا من مذاهب الفرس والروم، واليونان، والنصارى، واليهود، وغيرهم أموراً مزجوها بالتشيع، ويقول: وهذا تصديق لما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، وساق بعض الأحاديث الواردة في أن هذه الأمة ستركب سنن من كان قبلها، وقال بأن هذا بعينه صار في المنتسبين للتشيع (¬1) . ¬
فرق الشيعة
فرق الشيعة حفلت كتب المقالات والفرق بذكر فرق الشيعة وطوائفهم (¬1) ، فبعد وفاة كل إمام من الأئمة عند الشيعة تظهر فرق جديدة، وكل طائفة تذهب في تعيين الإمام مذهباً خاصاً بها.. وتنفرد ببعض العقائد والآراء عن الطوائف الأخرى، وتدعي أنها هي الطائفة المحقة. وهذا الاختلاف والتفرق كان محل شكوى وتذمر من الشيعة نفسها، قال أحد الشيعة لإمامه - كما في رجال الكشي -: "جعلني الله فداك، ما هذا الاختلاف الذي بين شيعتكم؟ فقال: وأي الاختلاف؟. فقال: إني لأجلس في حلقهم بالكوفة فأكاد أشك في اختلافهم في حديثهم.. فقال: أبو عبد الله أجل هو كما ذكرت أن الناس أولعوا بالكذب علينا، وإني أحدث أحدهم بالحديث، فلا يخرج من عندي، حتى يتأوله على غير تأويله، وذلك أنهم لا يطلبون بحديثنا وبحبنا ما عند الله، وإنما يطلبون الدنيا، وكل يحب أن يدعى رأساً" (¬2) . فيدل هذا النص على أن حب الرياسة، ومتاع الدنيا الزائل كان وراء تشيع الكثيرين، وأن هؤلاء أولعوا بالكذب على آل البيت.. ولهذا كثر الخلاف والتفرق. وقد ذكر المسعودي وهو شيعي (¬3) . أن فرق الشيعة بلغت ثلاثاً وسبعين ¬
فرقة (¬1) . وكل فرقة تكفر الأخرى، ولهذا زعم الرافضي مير باقر الداماد (¬2) . أن الفرق المذكورة في حديث افتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة (¬3) . هي فرق الشيعة وأن الناجية منها هي طائفته الإمامية (¬4) ، وأما أهل السنة والمعتزلة وغيرهم من سائر الفرق فجعلهم من أمة الدعوة، أي ليسوا من أمة الإجابة، فهم في اعتقاده ¬
لم يدخلوا في الإسلام. وهذه المقالة قد قالها الشيعة من قبل وأشار إلى ذلك الشهرستاني (¬1) ، والرازي (¬2) . وقد ورد في دائرة المعارف: أنه ظهر من فروع الفرق الشيعية ما يزيد كثيراً عن الفرق الاثنين والسبعين فرقة المشهورة (¬3) ، بينما يذكر المقريزي أن فرق الشيعة بلغت ثلاثمائة فرقة (¬4) . ومرد هذا الاختلاف في الغالب هو اختلافهم حول الأئمة من آل البيت فيذهبون مذاهب شتى في أعيان الأئمة، وفي عددهم، وفي الوقف على أحدهم وانتظاره، أو المضي إلى آخر والقول بإمامته.. فضلاً عما تباينوا فيه من التفريع أو تنازعوا فيه من التأويل، ولهذا قال العلامة ابن خلدون بعدما ساق اختلافهم في تعيين الأئمة: "وهذا الاختلاف العظيم يدل على عدم النص" (¬5) . أي يدل على أنهم ليسوا على شيء فيما ذهبوا إليه من دعوى أن الرسول صلى الله عليه وسلم نص على عليّ والأئمة الآخرين.. إذ لو كان من عند الله لما كان هذا الاختلاف والتباين، ولكن لما وجدوا اختلافاً كثيراً كان من أعظم الأدلة على عدم وجود نص صحيح، كما قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} (¬6) . وأمر الإمامة عندهم هو أصل الدين، فلا يقبل فيها الخلاف، كما يقبل في الفروع. وقد عدّ شيخ الشيعة الزيدية في زمنه أحمد بن يحيى المترضى (¬7) . (المتوفى سنة 840هـ) اختلاف الشيعة عند موت كل إمام في القائم بعده أوضح ¬
دليل على إبطال ما يدعون من النص (¬1) . وإذا رجعنا إلى كتب الفرق - أو غيرها - التي ذكرت طوائف الشيعة، فإننا نجد بينها اختلافاً في الأصول التي انبثقت منها صنوف الفرق الشيعية الكثيرة والمختلفة، فالجاحظ يرى أن الشيعة فرقتان: الزيدية والرافضة: يقول: "اعلم رحمك الله أن الشيعة رجلان: زيدي، ورافضي، وبقيتهم بدد لا نظام لهم" (¬2) . ويأخذ بهذا التقسيم شيخ الشيعة المفيد، ويقول: بأن الشيعة رجلان: إمامي، وزيدي (¬3) . أما الإمام الأشعري - رحمه الله - فيجعل أصول فرق الشيعة ثلاث فرق: الغالية، والرافضة (الإمامية) ، والزيدية. ويبلغ مجموع الفرق الشيعية عنده خمساً وأربعين فرقة، حيث جعل الغالية خمس عشرة فرقة، والرافضة أربعاً وعشرين فرقة، والزيدية ست فرق (¬4) . وهو يعتبر الاثني عشرية من فرق الرافضة (الإمامية) ويسميها بالقطعية، ويصفهم بأنهم جمهور الشيعة (¬5) . وقد سار على منهج الأشعري في تقسيم فرق الشيعة الرئيسة إلى ثلاث.. طائفة من كتاب الفرق وغيرهم مثل: الرازي حيث سماها زيدية، وإمامية، وكيسانية (¬6) . ومثل الإسفرايني، وكذلك ابن المرتضى حيث قال: والشيعة ثلاث: زيدية، وإمامية، وباطنية (¬7) ، وشيخ الإسلام ابن تيمية الذي صنف الشيعة إلى ثلاث درجات، شرها الغالية، وهم الذين يجعلون لعلي شيئاً من الألوهية، ¬
أو يصفونه بالنبوة.. والدرجة الثانية وهم الرافضة.. والدرجة الثالثة المفضلة من الزيدية وغيرهم الذين يفضلون علياً على أبي بكر وعمر، ولكن يعتقدون إمامتهما وعدالتهما ويتولونهما (¬1) . وغير هؤلاء من أهل العلم بالفرق والمقالات (¬2) . أما عبد القاهر البغدادي فيرجع فرق الشيعة إلى أربع فرق: زيدية، وإمامية، وكيسانية، وغلاة، ويلقب الجميع بالرافضة (¬3) ، ويصل عدد فرق الشيعة عنده - باستثناء الفرق الغالية (¬4) . - إلى عشرين فرقة (¬5) . ويعتبر الاثني عشرية من فرق الإمامية، ويسميهم بالقطعية، كما يسميهم بالاثني عشرية (¬6) . وإن كان قبل ذلك ذكر القطعية والاثني عشرية كاسمين لفرقتين مختلفتين من فرق الإمامية (¬7) . لا فرقة واحدة (¬8) . أما الشهرستاني فيرى أن الشيعة فرق كثيرة، لأنه يقول: "لهم في تعدية الإمام كلام وخلاف كثير، وعند كل تعدية وتوقف: مقالة، ومذهب، وخبط" (¬9) . ولكنه يرجعهم إلى خمس فرق: كيسانية، وزيدية، وإمامية، وغلاة، وإسماعيلية" (¬10) . ¬
أما صاحب الحور العين فيرجع الفرق الشيعية الكثيرة إلى ست فرق (¬1) ، ويصل عدد فرق الشيعة عند ابن قتيبة إلى ثمان (¬2) . وأبو الحسين الملطي يرى أن الشيعة ثماني عشرة فرقة، ويلقبهم جميعاً بالرافضة (¬3) ، ويشايعه في هذا الرأي السكسكي في كتابه البرهان في معرفة عقائد أهل الأديان (¬4) . ولكن الغريب أن الملطي يسمي الاثني عشرية بالإسماعيلية (¬5) . وابن الجوزي يعتبر الشيعة اثنتي عشرة فرقة، ويسميها بالرافضة (¬6) ، ويوافقه على هذا التقسيم الإمام القرطبي (¬7) . والذي يلاحظ على إطلاق اسم الرافضة على كل فرق الشيعة هو أنه ينبغي استثناء الزيدية، أو بعبارة أدق استثناء الزيدية ما عدا فرقة الجارودية منها؛ لأن الجارودية سلكت مسلك الروافض، ولذلك فإن شيخ الشيعة المفيد اعتبر الجارودية هي الشيعة، وما عداها من فرق الزيدية، فليسوا بشيعة، وذلك لأن طائفة الجارودية هي التي تشاركه في أساس مذهبه في الرفض (¬8) . أما كتب الفرق عند الشيعة الاثني عشرية فإنها تأخذ بمنهج آخر في ذكر الفرق، فهي تذكر فرق الشيعة حسب الأئمة حيث تجد أن الشيعة تفترق إلى فرق كثيرة بعد وفاة كل إمام، وقد وصل عدد فرق الشيعة في المقالات والفرق ¬
للقمي، وفرق الشيعة للنوبختي إلى ما يربو على ستين فرقة، ويلاحظ أن الاثني عشرية كانت عند النوبختي والقمي فرقة من أربع عشرة، أو خمس عشرة فرقة افترقت إليها الشيعة بعد وفاة الحسن العسكري سنة (260هـ) (¬1) . أما كتب الرواية عندهم فإن الكليني في الكافي يذكر رواية تجعل فرق الشيعة ثلاث عشرة فرقة كلها في النار إلا واحدة (¬2) . هذا ودراسة نشأة الفرق الشيعية وتطورها يحتاج إلى بحث آخر، وهو أقرب إلى البحث التاريخي، فلا نستطرد في حكاية تفاصيله، ولكن من الملاحظ - كما سيأتي في عرض آراء وعقائد الاثني عشرية - أن طائفة الاثني عشرية قد استوعبت جل الآراء والعقائد التي قالت بها الفرق الشيعية الأخرى، وأنها كانت بمثابة النهر الذي انسكبت فيها كل الجداول والروافد الشيعية المختلفة، ودراسة هذه المسألة، دراسة مقارنة بين روايات الاثني عشرية وآراء الفرق الأخرى هو أيضاً يحتاج إلى دراسة مستقلة، وقد أشرت إلى بعض الوجوه في هذا الباب في رسالة الماجستير (¬3) . فهذه الفرق لم تفن - كما يقال - بل إن أكثرها باق، وهو يطل علينا خلال الفكر الاثني عشري. وقد انحصرت الفرق الشيعية المعاصرة بثلاث فرق، هي (¬4) : 1- الاثنا عشرية. ¬
2- الإسماعيلية (¬1) . 3-الزيدية (¬2) . ¬
وطائفة الاثني عشرية هي أكبر الطوائف اليوم، كما كانت تمثل أكثرية الشيعة وجمهورها في بعض فترات التاريخ. فقد وصفهم طائفة من علماء الفرق ب"جمهور الشيعة"، وممن نعتهم بهذا: الأشعري (¬1) ، والمسعودي (¬2) ، وعبد الجبار الهمداني (¬3) ، وابن حزم (¬4) ، ونشوان الحميري (¬5) . وهذه الأغلبية للاثني عشرية ليست في كل العصور إذ نلاحظ - مثلاً - أن ابن خلدون يقرر أن شيعة محمد بن الحنفية كانت أكثر شيعة أهل البيت (¬6) . - أي: في عصرها - ثم لم تلبث أن تقلص أتباعها حتى اختفت، كذلك يقول البلخي - كما يحكي عنه صاحب الحور العين - أن الفطحية (¬7) . أعظم فرق الجعفرية وأكثرهم جمعاً (¬8) . - يعني في زمنه -. ¬
ألقاب الشيعة الإمامية الاثني عشرية
ألقاب الشيعة الإمامية الاثني عشرية من الألقاب التي يطلقها بعض كتاب الفرق والمقالات وغيرهم على الاثني عشرية ما يلي: 1- الشيعة: لقب الشيعة في الأصل يطلق على فرق الشيعة كلها، ولكن هذا المصطلح اليوم إذا أطلق - في نظر جمع من الشيعة وغيرهم - لا ينصرف إلا إلى طائفة الاثني عشرية. وممن قال بهذا الرأي: شتروتمان (¬1) ، والطبرسي (¬2) ، وأمير علي (¬3) ، وكاشف الغطا (¬4) ، ومحمد حسين العاملي (¬5) ، وعرفان عبد الحميد (¬6) ، وغيرهم (¬7) . وأقول بهذا الرأي، لا لأن الاثني عشرية يمثلون القاعدة الكبيرة من بين الفرق الشيعية فحسب، بل لسبب أهم - لم أر من تعرض بالدراسة والبيان، وبحثه يحتاج إلى دارسة مستقلة تعتمد على التحليل والمقارنة - وهو أن ¬
مصادر الاثني عشرية في الحديث والرواية قد استوعبت معظم آراء الفرق الشيعية التي خرجت في فترات التاريخ المختلفة إن لم يكن كلها - كما سلف -، فأصبحت هذه الطائفة هي الوجه المعبر عن الفرق الشيعية الأخرى. 2- الإمامية: هذا اللقب عند كثير من أصحاب الفرق والمقالات يطلق على مجموعة من الفرق الشيعية، ولكن تخصص فيما بعد عند جمع من المؤلفين وغيرهم بالاثني عشرية، ولعل من أول من ذهب إلى ذلك شيخ الاثني عشرية في زمنه "المفيد" في كتابه أوائل المقالات (¬1) ، وأشار السمعاني إلى أن ذلك هو المعروف في عصره فقال: "وعلى هذه الطائفة - يشير إلى الاثني عشرية - يطلق الآن الإمامية" (¬2) . وقال ابن خلدون: "وأما الاثنا عشرين فربما خصوا باسم الإمامية عند المتأخرين منهم" (¬3) . وأشار صاحب مختصر التحفة الاثني عشرية إلى أن الاثني عشرية هي المتبادرة عند إطلاق لفظ الإمامية (¬4) . ويقول الشيخ زاهد الكوثري: "والمعروف أن الإمامية هم: الاثنا عشرية" (¬5) . ويلاحظ أن كاشف الغطا - من شيوخ الشيعة المعاصرين - يستعمل لقب الإمامية بإطلاق على الاثني عشرية (¬6) ، ومن شيوخ الشيعة الآخرين من يرى أن الإمامية فرق، منهم الاثنا عشرية، والكيسانية، والزيدية، والإسماعيلية (¬7) . وبعدما عرفنا أن الإمامية صار لقباً من ألقاب الاثني عشرية نعرج على ما قيل في تعريفه: ¬
2- الإمامية
2- الإمامية: ويقول شيخ الشيعة في زمنه المفيد: "الإمامية هم القائلون بوجوب الإمامة، والعصمة، ووجوب النص، وإنما حصل لهم هذا الاسم في الأصل لجمعها في المقالة هذه الأصول، فكل من جمعها فهو إمامي وإن ضم إليها حقاً في المذهب كان أم باطلاً، ثم إن من شمله هذا الاسم واستحقه لمعناه، قد افترقت كلمتهم في أعيان الأئمة وفي فروع ترجع إلى هذه الأصول وغير ذلك، فأول من شذ من فرق الإمامية الكيسانية" (¬1) . فالمفيد هنا يجعل لقب الإمامية لقباً عاماً يشمل كل من قال بهذه الأركان الثلاثة التي ذكرها: الإمامة، العصمة، النص، ولكنه في كتاب آخر له يضيق نطاق هذا المصطلح حتى يكاد يقصره على طائفة الاثني عشرية حيث يقول: "الإمامية علم على من دان بوجوب الإمامة ووجودها في كل زمان، وأجب النص الجلي، والعصمة والكمال لكل إمام، ثم حصر الإمامة في ولد الحسين بن علي، وساقها إلى الرضا علي بن موسى - عليه السلام -" (¬2) . فأنت تلاحظ أنه شرط هنا النص الجلي، بينما في الموضع السابق أطلق القول بالنص ليشمل الجلي والخفي، كما أنه أضاف هنا حصر الأئمة بولد الحسين، وسياق الإمامة فيهم إلى الرضا علي بن موسى، في حين أنه لم يشترط ذلك فيما سبق حتى أدخل فيهم الكيسانية (¬3) . وكأنه لاحظ هذا التغير في الرأي فقال: "لأنه وإن كان (أي لقب الإمامية) في الأصل علماً على من دان من الأصول بما ذكرناه دون التخصيص لمن قال في الأعيان بما وصفناه، فإنه قد انتقل عن أصله، لاستحقاق فرق من معتقديه ألقاباً، بأحاديث لهم بأقاويل أحدثوها، فغلبت عليهم ¬
في الاستعمال، دون الوصف بالإمامية، وصار هذا الاسم في عرف المتكلمين وغيرهم من الفقهاء والعامة علماً على من ذكرناه" (¬1) . وإذا تجاوزت تعريف المفيد هذا إلى كتب الفرق والمقالات الأخرى لاستطلاع آراء غير الشيعة في تعريف الإمامية نلاحظ أن أكثر مؤلفي الفرق لم يخصوا الإمامية بالاثني عشرية، بل كان لقب الإمامية عندهم أعم من ذلك وأشمل، فالشهرستاني يقول: "الإمامية هم القائلون بإمامة علي - رضي الله عنه - نصاً ظاهراً، وتعييناً صادقاً من غير تعريض بالوصف، بل إشارة إليه بالعين" (¬2) ، ومثله الأشعري حيث يقول: ".. وهم يدعون الإمامية لقولهم بالنص على إمامة علي بن أبي طالب" (¬3) . ومن أصحاب الفرق من قال بأن "تسميتهم الإمامية" لأنهم يزعمون أن الدنيا لا تخلو عن إمام، إما ظاهراً مكشوفاً، وإما باطناً موصوفاً (¬4) . ولكن ابن المرتضى يقول: والإمامية "سميت بذلك لجعلها أمور الدين كلها للإمام، وأنه كالنبي، ولا يخلو وقت من إمام يُحتاج إليه في أمر الدين والدينا" (¬5) . فمن هؤلاء من راعى في سبب التسمية مسألة النص، ومنهم من اعتبر في سبب التسمية قولهم بأن الدنيا لا تخلو من إمام، ومنهم من جمع إلى ذلك قولهم بأن أمور الدين كلها للإمام، وهي أقوال متقاربة يرجع بعضها إلى بعض.. ومصطلح الإمامية تظهر بعد شيوع مصطلح الشيعة، ويبدو أن ظهوره مرتبط ببدء الاهتمام الشيعي بمسألة الإمام والإمامة، وظهور الفرق الشيعية التي تقول بإمامة أفراد أهل البيت، وسيأتي بحث ذلك في موضوع الإمامة. ¬
3- الاثنا عشرية
وقد ذكر ابن أبي الحديد أن مقالة الإمامية - فضلاً عن لقبها - لم تشتهر إلا متأخرة. يقول ابن أبي الحديد: "لم تكن مقالة الإمامية ومن نحا نحوهم من الطاعنين في إمامة السلف مشهورة حينئذ (يعني في العصر الأموي) على هذا النحو من الاشتهار" (¬1) . 3- الاثنا عشرية: هذا المصطلح لا نجده في كتب الفرق والمقالات المتقدمة، فلم يذكره القمي (ت 299هـأو 301هـ) في "المقالات والفرق"، ولا النوبختي (ت 310هـ) في "فرق الشيعة"، ولا الأشعري (ت330هـ) في "مقالات الإسلاميين". ولعل أول من ذكره المسعودي (¬2) . . (ت349هـ) - (من الشيعة) . أما من غير الشيعة فلعله عبد القاهر البغدادي (ت429هـ) حيث ذكر أنهم سموا بالاثني عشرية لدعواهم أن الإمام المنتظر هو الثاني عشر من نسبه إلى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -" (¬3) . قال الرافضي المعاصر محمد جواد مغنية: الاثنا عشرية نعت يطلق على الشيعة الإمامية القائلة باثني عشر إماماً تعينهم بأسمائهم (¬4) . وظهور هذا الاسم كان بلا شك بعد ميلاد فكرة الأئمة الاثني عشر، والتي حدثت بعد وفاة الحسن العسكري (توفي سنة260هـ) حيث أنه: "قبل وفاة الحسن لم يكن أحد يقول بإمامة المنتظر إمامهم الثاني عشر، ولا عرف من زمن علي ودولة بني أمية أحد ادعى إمامة الاثني عشر" (¬5) . ¬
ولكن يرى صاحب مختصر التحفة الاثني عشرية أن زمن ظهور الإمامية الاثني عشرية، سنة مائتين وخمس وخمسين (¬1) . ويبدو أنه عين هذا التاريخ بالذات، لأن تلك السنة (255هـ) هي التي زعمت الاثنا عشرية أنه ولد فيها إمامهم الثاني عشر (¬2) ، والذي يزعمون حياته إلى اليوم، وينتظرون خروجه، فإذا كان الأمر كذلك فينبغي أن يحدد التاريخ بسنة 260هـ؛ لأن دعوة وجود الإمام الثاني عشر المنتظر إنما ظهرت بعد وفاة الحسن العسكري (والذي توفي سنة 260هـ) . أما الاثنا عشر الذي تقول الجعفرية بأنهم أئمتها، فهم: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، والحسن والحسين، وذرية الحسين. وفيما يلي بيان بأسمائهم وألقابهم، وكناهم، وسنة ميلاد كل إمام ووفاته: ¬
م ... اسم الإمام ... كنيته ... لقبه ... سنة ميلاده ووفاته 1 ... علي بن أبي طالب ... أبو الحسن ... المرتضى ... 23 قبل الهجرة، 40 بعد الهجرة 2-50هـ 2 ... الحسن بن علي ... أبو محمد ... الزكي ... 3-61هـ 3 ... الحسين بن علي ... أبو عبد الله ... الشهيد ... 38-95هـ 4 ... علي بن الحسين ... أبو محمد ... زين العابدين ... 57-114هـ 5 ... محمد بن علي ... أبو جعفر ... الباقر ... 83-148هـ 6 ... جعفر بن محمد ... ابو عبد الله ... الصادق ... 128-183هـ 7 ... موسى بن جعفر ... أبو إبراهيم ... الكاظم ... 148-203هـ 8 ... علي بن موسى ... أبو الحسن ... الرضا ... 195-220هـ 9 ... محمد بن علي ... أبو جعفر ... الجواد ... 212-254هـ 10 ... علي بن محمد ... أبو الحسن ... الهادي ... 232-260هـ 11 ... الحسن بن علي ... أبو محمد ... العسكري ... يزعمون أنه ولد سنة 255 أو 256 هـ ويقولون بحياته إلى اليوم (1) 12 ... محمد بن الحسن ... أبو القاسم ... المهدي
4- القطعية
4- القطعية: وهو من ألقاب الاثني عشرية عند طائفة من أصحاب الفرق، كالأشعري (¬1) . والشهرستاني (¬2) . والإسفراييني (¬3) . وغيرهم (¬4) . وهم يسمون بالقطعية؛ لأنهم قطعوا على موت موسى بن جعفر الصادق (¬5) ، وهذا ما تذهب إليه الاثنا عشرية. يقول المسعودي: "وفي سنة ستين ومائتين قبض أبو محمد الحسن بن علي.. وهو أبو المهدي المنتظر الإمام الثاني عشر عند القطعية من الإمامية" (¬6) ، ومنهم من يعتبر القطعية فرقة من فرق الإمامية وليس من ألقاب الاثني عشرية (¬7) . 5- أصحاب الانتظار: يلقب الرازي الاثني عشرية بأصحاب الانتظار، وذلك لأنهم يقولون بأن الإمام بعد الحسن العسكري ولده محمد بن الحسن العسكري وهو غائب وسيحضر.. ويقول: وهذا المذهب هو الذي عليه إمامية زماننا (¬8) . والانتظار للإمام مما يشترك في القول به جمع من فرق الشيعة على اختلاف بينهم في تعيينه، ولا يختص به طائفة الاثني عشرية. ¬
6- الرافضة
6- الرافضة: ذهب جمع من العلماء إلى إطلاق اسم الرافضة على الاثني عشرية كالأشعري في المقالات (¬1) ، وابن حزم في الفصل (¬2) . كما يلاحظ أن كتب الاثني عشرية تنص على أن هذا اللقب من ألقابها، وقد أورد شيخهم المجلسي في كتابه البحار - وهو أحد مراجعهم في الحديث - أربعة أحاديث من أحاديثهم في مدح التسمية بالرافضة (¬3) ، وكأنهم أرادوا تطييب نفوس أتباعهم بتحسين هذا الاسم لهم، ولكن في هذه الأحاديث ما يفيد أن الناس بدأوا يسمونهم بالرافضة من باب الذم لا المدح، ولا تجيب هذه المصادر الشيعية عن سبب تسمية الناس لهم بهذا الاسم على سبيل الذم والسب لهم (¬4) . ولكن ¬
المصادر الأخرى تذكر أن ذلك لأسباب تتعلق بموقفهم من خلافة الشيخين، يقول أبو الحسن الأشعري: "وإنما سموا رافضة لرفضهم إمامة أبي بكر وعمر" (¬1) . ونقل شيخ الإسلام ابن تيمية قول الأشعري هذا وعقب عليه بقوله: "قلت: الصحيح أنهم سموا رافضة لما رفضوا زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب لما خرج بالكوفة أيام هشام بن عبد الملك" (¬2) . وهذا الرأي لابن تيمية يعود لرأي الأشعري، لأنهم ما رفضوا زيداً إلا لما أظهر مقالته في الشيخين ومذهبه في خلافتهما (¬3) ، فالقول بأنهم سموا رافضة لرفضهم زيداً أو لرفضهم مذهبه ومقالته مؤداهما- في نظري - واحد. إلا أن شيخ الإسلام راعى الناحية التاريخية، في ملاحظته على الأشعري، ذلك أن رفض إمامة أبي بكر وعمر قد وجدت عند بعض فرق الشيعة كالسبئية ونحوها قبل خلافهم مع زيد، ولكن لم يلحقهم هذا الاسم (الرافضة) ولم يوجد إلا بعدما أعلنوا مفارقتهم لزيد لترضيه عن الشيخين وتسمية زيد لهم بالرافضة. هذا وهناك أقوال أخرى في سبب تسميتهم بالرافضة (¬4) . على أن هناك من ¬
7- الجعفرية
أصحاب الفرق من أطلق اسم الرافضة على عموم فرق الشيعة (¬1) . 7- الجعفرية: وتسمى الاثنا عشرية بالجعفرية نسبة إلى جعفر الصادق إمامهم السادس - كما يزعمون - وهو من باب التسمية للعام باسم الخاص. روى الكشي أن: شعية جعفر في الكوفة (أو من يدعون التشيع لجعفر) سموا بالجعفرية، وأن هذه التسمية نقلت إلى جعفر فغضب ثم قال: "إن أصحاب جعفر منكم لقليل، إنما أصحاب جعفر من اشتد ورعه وعمل لخالقه" (¬2) . وقد جاء في الكافي ما يدل على أن الناس كانوا يطلقون على من يدعي التشيع لجعفر الصادق "جعفري خبيث"، وأن بعض الشيعة اشتكى من ذلك لجعفر فأجابه: "ما أقل والله من يتبع جعفراً منكم، إنما أصحابي من اشتد ورعه، وعمل لخالقه، ورجا ثوابه، فهؤلاء أصحابي" (¬3) . فهذا يدل - إن صحت الرواية - على أن اسم الجعفرية كان شائعاٌ ي زمن جعفر، وأن جعفر لا يرضى عنه الكثيرين منهم، كما يدل على أن لقب الجعفري كان يطلق على الإسماعيلية والاثني عشرية، لأن الافتراق بين الطائفتين تم بعد وفاة جعفر. وقد أطلق اسم "الجعفرية" على طائفة من الشيعة انقرضت كانت تقول بأن الإمام بعد الحسن العسكري أخوه جعفر (¬4) . وهناك ألقاب أخرى للاثني عشرية تطلق عليهم في بعض البلدان (¬5) . ¬
الخاصة
الخاصة: وهو لقب يطلقه شيوخ الشيعة على طائفتهم، ويلقبون أهل السنة والجماعة بالعامة. جاء في دائرة المعارف الشيعية ما نصه: "الخاصة في اصطلاح بعض أهل الدارية: الإمامية الاثنا عشرية، والعامة: أهل السنة والجماعة" (¬1) . ويجري كثيراً استعمال هذا اللقب في رواياتهم للأحاديث، فيقولون: هذا عن طريق العامة، وهذا عن طريق الخاصة (¬2) . ¬
فرق الاثني عشرية
فرق الاثني عشرية: الاثنا عشرية امتدا للشيعة الإمامية (بمعناها العام) وفصيلة من فضائلها.. بل فرقة واحدة من خمس عشرة فرقة انقسمت إليها الشيعة بعد وفاة الحسن العسكري (¬1) . سنة (260هـ) ومع ذلك فقد انبثق من الاثني عشرية فرق كثيرة. يقول الأستاذ محمود الملاح وهو من المعنيين بتتبع هذه الفرقة: "وفي عصرنا هذا نجد الاثني عشرية منقسمة إلى: - أصولية (¬2) . - وأخبارية (¬3) . - وشيخية (¬4) . ¬
- وكشفية (¬1) . - وركنية (¬2) . ¬
- وكريمخانية (¬1) . - وقزلباشية (¬2) . وكلها داخلة في المجموعة الاثني عشرية وأصولها مبثوثة في كتب الاثني عشرية، وهي بعد هذا يكفر بعضها بعضاً" (¬3) . وزاد بعض الباحثين من الشيعة (¬4) . أسماء أخرى هي: القرتية (¬5) ، ¬
البابية (¬1) ، والكوهرية (¬2) . وزاد بعضهم أيضاً النوربخشية (¬3) ، ثم إنه كما يقول الألوسي: "ولا يبعد أن تظهر فرق أخرى من الإمامية بعد" (¬4) . نسأل الله تعالى العافية. ومن خلال تتبعي لنصوص الاثني عشرية التي تنسبها للأئمة وترويها في ¬
كتبها المعتمدة وجدت أنها تحمل في ثناياها بذور نحل مختلفة وأهواء متباينة.. يجد فيها كل صاحب هوى وغلو وبدعة، بغيته ومرامه.. فهي قد اتسعت بحكم معتقد التقية، وكثرة الكذب والافتراء على الأئمة، وانضواء الملحدين والمتآمرين في صفوفهم، وعجز شيوخ الشيعة عن تنقية المذهب مما علق به من كيد الملحدين عبر القرون، وفقدان الموازين الصحيحة الثابتة لتمحيص الروايات وتحقيقها، اتسعت بسبب ذلك وغيره لاحتواء تلك البذور السامة وذلك الركام الهائل من الأخبار المظلمة. أما الحديث المفصل عن كل فرقة بذاتها فهذا موضوع يطول الحديث فيه، وقد لا يدخل في صل الموضوع الرئيسي لبحثنا والمعني بدارسة أصولهم لا نشأة فرقهم، وأخبار أصحابها وأقوالها وآرائهم. ولعلنا نكتفي بالحديث عن افتراق الشيعة إلى أصولية وأخبارية؛ لأن الأصولية هي أساس المذهب الاثني عشري، وتمثل الأكثرية، ويقابلها الإخبارية، وإن كانت أقل منها، أما ما سواها من فرق فهي ليست بذلك الحجم الذي تمثله الأصولية.. ولذلك اكتفينا بالتعريف الموجز عنها في الهوامش السابقة. كما أن الخلاف الأصولي الأخباري يمثل خلافاً في بنية المذهب الاثني عشري، فهو خلاف بين رجال الشيعة الذين جمعوا تراث المذهب الاثني عشري؛ فتجد الحر العاملي صاحب وسائل الشيعة، والكاشاني صاحب الوافي، والنوري الطبرسي صاحب مستدرك الوسائل كلهم أخبارية مع أنهم مصنفو مصادرهم المعتمدة في الرواية عندهم. بل يعتبرون ابن بابويه صاحب "من لا يحضره الفقيه" أحد مصادرهم الأربعة المتقدمة هو رئيس الأخباريين (¬1) ، ويقابلهم ¬
الطوسي صاحب الاستبصار والتهذيب، والمرتضى المنسوب له (أو لأخيه) نهج البلاغة وغيرهما وهما من الأصوليين.. فإذن الخلاف بين الأصوليين والأخباريين هو خلاف بين أركان المذهب ومشيدي بنائه، فلنتوقف للتعريف بهاتين الفرقتين: فالأخباريون يمنعون الاجتهاد، ويعملون بأخبارهم، ويرون أن ما في كتب الأخبار الأربعة عند الشيعة (¬1) . كلها صحيحة قطعية الصدور عن الأئمة، ويقتصرون على الكتاب والخبر، ولذلك عرفوا بالأخبارية نسبة إلى الأخبار وينكرون الإجماع (ودليل العقل) (¬2) ، ولا يرون حاجة إلى تعلم أصول الفقه، ولا يرون صحته، ويقابلهم الأصوليون أو المجتهدون، وهم القائلون بالاجتهاد، وبأن أدلة الأحكام الكتاب والسنة والإجماع وليل العقل، ولا يحكمون بصحة كل ما في الكتب الأربعة.. ويمثلون الأكثرية (¬3) . لكن شيخهم الأنصاري يكشف - حسب ما ينقله عن محققهم غلام رضا القمي - أن الأخباريين لا يعتمدون في الأدلة الشرعية إلا على أخبار الشيعة فقط، ويقبلونها على علاتها بلا تفريق بين صحيحها وسقيمها. يقول ما نصه: "ويعجبني في بيان وجه تسمية هذه الفرقة (الأخباريين) المرموقة بالأخبارية وهو أحد أمرين: الأول: كونهم عاملين بتمام الأقسام من الأخبار من الصحيح والحسن والموثق والضعيف (¬4) . من غير أنها يفرقوا بينها في مقام العمل في قبال المجتهدين. ¬
الثاني: أنهم لما أنكروا الأدلة الثلاثة بما فيها القرآن الكريم وخصوا الدليل بالواحد منها، أعني الأخبار فلذلك سموا بالاسم المذكور" (¬1) . فهم هنا استجابوا لأساطيرهم التي تقول بنقص القرآن فأعرضوا عن كتاب الله في مقام الاحتجاج، واعتمدوا على تلك الأساطير، فهم بهذا أخرجوا أنفسهم عن دائرة الإسلام، ومع ذلك فإن جملة من شيوخ الشيعة تدعي مع هذا الكفر البواح الذي أعلنته طائفة الأخبارية أن الخلاف بين الأصولين والأخبارين "يتقصر على بعض الوجوه البسيطة ككل خلاف يحدث بين أبناء الطائفة الواحدة تبعاً لاختلاف الرأي والنظر" (¬2) . وقال صاحب "الأصوليون والأخباريون فرقة واحدة": "إني بحسب تتبعي وفحصي كتب الأصوليين والأخباريين لم أجد فرقاً بين هاتين الطائفتين إلا في بعض الأمور الجزئية التي لا توجب تشنيعاً ولا قدحاً" (¬3) . فهل هم إذن وجهان لعملة واحدة؟! ولقد حاول بعض الشيعة المعاصرين أن يخفف من وقع الكلمة السابقة حول عملهم بالأخبار وردهم للقرآن، فقال: "كيف ينكر الأخباريون وهم المسلمين دليلية الكتاب" (¬4) ، ثم التمس لذلك مخرجاً بما ذكره شيخهم الاستراباذي من "أن القرآن ورد على وجه التعمية بالنسبة إلى أذهان الرعية" (¬5) . فلا يجوز فهمه والعمل به إلا بمقتضى أخبارهم (¬6) . فكأن نهاية القولين واحدة، لأن أخبارهم قد حرفت معاني القرآن، وصرفتها عن مدلولها - كما سيأتي - ولا سيما وهذه الطائفة ¬
لا تفرق بين صحيح الأخبار وباطلها. أما بداية افتراق الاثني عشرية إلى: أصولية، وأخبارية فيذكر البحراني أن شيخهم "محمد أمين الاستراباذي" (المتوفى سنة 1033هـ) "هو أول من فتح باب الطعن على المجتهدين، وتقسيم الفرقة.. إلى أخباري ومجتهد" (¬1) . ومنهم من يذكر أنه أقدم من ذلك وأن الاستراباذي هو الذي جدده (¬2) . هذا وقد جرى بين هاتين الفرقتين ردود ومنازعات وتكفير وتشنيع حتى إن بعضهم يفتي بتحريم الصلاة خلف البعض الآخر (¬3) ، وكان من شيوخ طائفة الأخبارية من لا يلمس مؤلفات الأصوليين بيده تحاشياً من نجاستها، وإنما يقبضها من وراء ملابسه (¬4) . وقد كفر الاستراباذي (الأخباري) بعض الأصوليين ونسبهم إلى تخريب الدين (¬5) . - على حد تعبيره - كما نسب الكاشاني (الأخباري) صاحب الوافي - إلى أحد مصادرهم الثمانية - جمعاً من علمائهم إلى الكفر (¬6) ، ورد عليه بعضهم بأن له من المقالات التي جرى فيها على مذهب الصوفية والفلاسفة ما يوجب الكفر كقوله بوحدة الوجود (¬7) . وهكذا يكفر بعضهم بعضاً كما كان أسلافهم من قبل، كما صورته جملة من رواياتهم - كما سيأتي (¬8) . - مع أن الطائفتين كلاهما من الاثني عشرية. أما عناصر الخلاف بين الفريقين فقد ألف في شأنها شيخهم جعفر كاشف الغطا كتاباً بعنوان: "الحق المبين في تصويب المجتهدين وتخطئة الأخبارين" (¬9) . أنهى ¬
فيه عناصر الخلاف إلى ثمانين، بينما نرى شيخهم البحراني يحاول أن يقلل من مسائل الخلاف بينهما فيهبط بها ليقصرها على ثمان (¬1) . أو أقل (¬2) .؛ لأنه يرى أن هذا الخلاف يؤدي إلى القدح في شيوخ الطرفين وفتح باب الطعن والتشنيع على الشيعة (¬3) . ومن بعده محسن الأمين الذي جعلها خمساً (¬4) ، وصنف ثالث توسط فجعلها ثلاثاً وأربعين (¬5) . أو أربعين (¬6) . أو تسعاً وعشرين (¬7) . والتقليل من الخلاف يعود إلى أنهم يرجعون بعض المسائل إلى بعض، أو يحكمون بأن الأمر فيه خلاف عند هؤلاء وهؤلاء، فلا يعتبر حينئذ خلافاً بين طرفين، أو أن الخلاف ليس بخلاف حقيقي كخلافهم حول الإجماع الذي يثبته الأصوليون وينكره الأخباريون، ولكن شيخهم البحراني يعتبر هذا ليس بخلاف ثابت؛ لأن الإجماع وإن ذكره المجتهدون (الأصوليون) في المكتب الأصولية وعدوه في جملة الأدلة.. إلا أنك تراهم في مقام التحقيق في الكتب الاستدلالية يناقشون في ثبوته وحصوله وينازعون في تحققه ووجود مدلوله حتى يضمحل أثره بالكلية (¬8) . وليس الغرض هنا بسط مسائل الخلاف بينهم (¬9) . وإنما الإشارة إلى انقسام ¬
الشيعة على نفسها إلى حزبين متعاديين متنازعين في أصول الاستدلال وغيرها، وإن حاول بعضهم أن يخفف من هذا.. وهنا أشير إلى أن الخلاف الذي وقع بين هاتين الفرقتين من الاثني عشرية قد كشف أموراً كثيرة من حقائق المذهب بحكم ارتفاع التقية في صولة النزاع، وما كانت لتبين لو لم يكن هذا الخلاف. وإن دراسة واعية متأنية للخلف بين الطرفين لتكشف الكثير من أسرار المذهب (¬1) . ¬
الباب الأول: اعتقادهم في مصادر الإسلام
الباب الأول: اعتقادهم في مصادر الإسلام وفيه ثلاثة فصول: وثلاثة فصول: الفصل الأول: عقيدتهم في كتاب الله. الفصل الثاني: عقيدتهم في السنة. الفصل الثالث: عقيدتهم في الإجماع.
الفصل الأول: اعتقادهم في القرآن الكريم
الفصل الأول: اعتقادهم في القرآن الكريم في هذا الفصل نتناول - بمشيئة الله - أقوال الشيعة التي تبين اعتقادهم في كتاب الله سبحانه، فنعرض - أولاً - لمذهبهم في حجية القرآن وخروجهم في هذا الأمر عما أجمع عليه المسلمون، وذلك بقولهم: إن القرآن ليس بحجة إلا بقيم (هو أحد الاثني عشر) ، وكذا قولهم: إن علم القرآن عند الأئمة، وقد اختصوا بمعرفته لا يشركهم فيه أحد، وكذا زعمهم بأن قول الإمام يخصص عام القرآن، ويقيد مطلقه.. إلخ. ثم نعرض - ثانياً - لعقيدتهم في تأويل القرآن، ونتناول فيه قولهم: بأن للقرآن معاني باطنة لا يعرفها إلا الأئمة، وقولهم الآخر: بأن جل القرآن نزل فيهم وفي أعدائهم. ثم نتناول - ثالثاً - عقيدتهم في نص القرآن وندرس هل الشيعة تقول بنقص القرآن وتغييره؟ هذا والشيعة تقول بأن القرآن مخلوق، حيث اقتفت أثر المعتزلة في ذلك، وسنتناول هذه المسألة في فصل عقيدتهم في الأسماء والصفات - إن شاء الله-. كما أن للشيعة دعوى شائعة في كتبها، ولم أر من خصها بدراسة، أو إشارة، وهي دعواهم تنزّل كتب إلهية على الأئمة، وقد خفيت هذه المسألة حتى رأيت من الباحثين من خلط بينها وبين ما ينسب للشيعة من قولهم بتحريف القرآن كجولد سيهر، ومحب الدين الخطيب، وإحسان إلهي ظهير. وكذلك تدعي الشيعة بأن عند أئمتها جميع الكتب التي نزلت على الأنبياء.
وسنعرض لهذه المسألة والتي قبلها في مبحث «الإيمان بالكتب» والذي هو أحد أركان الإيمان. وإنما أشرت إليها هنا حتى يتسنى تصور عقائدهم المتعلقة بكتاب الله في مكان واحد، وقد أرجأت الحديث على المسائل الثلاث للموضعين المذكورين، لأنهما بهما أولى - فيما يظهر -. هذا وعقائد الشيعة الاثني عشرية في كتاب الله بهذه الصورة لم تنل العناية ممن تناول مسألة الشيعة - حسب اطلاعي - وقد أكثر المعاصرون من الحديث عن مسألة واحدة وهي ما يقال عن الشيعة من قولهم بنقص القرآن وتغييره. وسنرى أيضاً أن هذه القضية لم تسلم من الخلط والتعميم انسياقاً وراء ما قاله غلاة الشيعة في هذه المسألة؛ والله المستعان.
المبحث الأول: اعتقادهم في حجية القرآن
المبحث الأول: اعتقادهم في حجية القرآن سنقسم هذا المبحث إلى مسائل ثلاث: الأولى: قولهم: إن القرآن ليس بحجة إلا بقيم، والثانية: حصر علم القرآن ومعرفته بالأئمة، والثالثة: زعمهم بأن قول الإمام يخصص عام القرآن، ويقيد مطلقه.. إلخ. المسألة الأولى: اعتقادهم أن القرآن ليس حجة إلا بقيم أثناء مطالعتي في كتب الشيعة رأيت هذه المسألة يؤكد عليها في أكثر من كتاب من كتبهم المعتمدة عندهم، وما كان يخطر بالبال أن تذهب طائفة من الطوائف التي تزعم لنفسها الإسلام إلى القول: "بأن القرآن ليس حجة" والله يقول - لمن طلب آية تدل على صدق الرسول -: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} (¬1) . فالقرآن العظيم هو الشاهد والدليل والحجة، ولكن شيخ الشيعة ومن يسمونه بـ"ثقة الإسلام" (الكليني) يروي في كتابه: أصول الكافي والذي هو عندهم كصحيح البخاري عند أهل السنة (¬2) . يروي ما نصه: " ... أن القرآن لا يكون حجة إلا بقيم: وأن علياً كان قيم القرآن وكانت طاعته مفترضة، وكان الحجة على الناس بعد رسول الله" (¬3) . ¬
كما توجد هذه المقالة أيضاً في طائفة من كتبهم المعتمدة كرجال الكشي (¬1) ، وعلل الشرائع (¬2) ، والمحاسن (¬3) ، ووسائل الشيعة (¬4) ، وغيرها. فماذا يعنون بهذه العقيدة: أيعنون بذلك أن النص القرآني لا يمكن أن يحتج به إلا بالرجوع لقول الإمام؟ وهذا يعني أن الحجة هي في قول الإمام لا قول الرحمن، أم يعنوان أن القرآن لا يؤخذ بنظامه إلا بقوة السلطان وهو القيم على تنفيذه؟ ولكن ورد عندهم في تتمة النص ما ينفي هذا الاحتمال وهو قولهم: "فنظرت في القرآن فإذا هو يخاصم به المرجئ، والقدري، والزنديق الذي لا يؤمن به حتى يغلب الرجال بخصومته فعرفت أن القرآن لا يكون حجة إلا بقيم" (¬5) . ومعنى هذا أن قول الإمام هو أفصح من كلام الرحمن، ويظهر من هذا أنهم يرون أن الحجة في قول الإمام لأنه الأقدر على البيان من القرآن، ولهذا سموه بالقرآن الصامت وسمو الإمام بالقرآن الناطق، ويروون عن علي أنه قال: "هذا كتاب الله الصامت وأنا كتاب الله الناطق" (¬6) . وقال: "ذلك القرآن فاستنطقوه فلن ينطق لكم أخبركم عنه ... " (¬7) . ويقولون - في رواياتهم -: "وعليٌّ تفسير كتاب الله" (¬8) ، ومرة أخرى يدعون بأن الائمة هم القرآن نفسه (¬9) ، وحيناً يزعمون بأن القرآن لم يفسر إلا لرجل ¬
واحد هو علي (¬1) . وما ندري لم يكون علي قيم القرآن وهو القرآن نفسه؟! وإذا كان هو القرآن أو القيم عليه فلماذا يفسر له، وكيف يفسر له وهو تفسيره؟! إنها أقوال يضرب بعضها بعضاً، وهي برهان أكيد على أنها من وضع زنديق أراد إفساد دين المسلمين، وكيف يقال مثل ذلك في كتاب أنزله الله سبحانه وتعالى ليكون هداية للناس {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (¬2) . قال الخليفة الراشد علي - رضي الله عنه -: "كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسن، ولا تنقضي عجائبه، ولا يشبع منه العلماء، من قال به صدق، ومن عمل ¬
به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم" (¬1) . وقال ابن عباس - رضي الله عنه -: تضمن الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه ألا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، ثم قرأ هذه الآية: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى} (¬2) . ومسألة أن كتاب الله هو الحجة والإمام لا تحتاج إلى بسط الأدلة، والتوسع في إقامة البراهين، ولقد آثرنا فيما عرضنا من دليل أن نأخذه من كتاب الله سبحانه، ومما جاء عن بعض أهل البيت في مصادر أهل السنة. وقبل أن ننهي الحديث في هذه القضية نشير إلى ما ينقضها من كتب الشيعة نفسها كبرهان على تناقضهم، كما نشير إلى الهدف من وضع تلك المقالة. ففي بعض مصادرهم المعتمدة جاء النص التالي: "ذكر الرضا - رضي الله عنه - يوماً القرآن فعظم الحجة فيه.. فقال: هو حبل الله المتين وعروته الوثقى.. ¬
جعل دليل البرهان (¬1) . وحجة على كل إنسان، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد" (¬2) . وفي نص آخر لهم: ".. فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم، فعليكم بالقرآن، فإنه شافع مشفع، من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار، وهو الدليل يدل على خير سبيل.." (¬3) . وفي نهج البلاغة المنسوب لعلي (¬4) . - رضي الله عنه - والذي هو عند الشيعة: لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه (¬5) . جاء النص التالي: "فالقرآن آمر زاجر، وصامت ناطق، حجة الله على خلقه.." (¬6) . ولهذه النصوص شواهد أخرى وهي تكشف لنا مدى التناقض والاضطراب الواقع في مصادر هؤلاء القوم؛ فرواياتهم - كما ترى - يعارض بعضها بعضاً، لكنهم في حالة التناقض تلك قد وضعوا لهم منهجاً خطيراً وهو الأخذ بما خالف العامة - وهم أهل السنة عندهم - كما سيأتي تفصيل ذلك في معتقدهم في الإجماع - فيأخذون بالجانب الشاذ عن الجماعة، وإن جاء نص يخالفه، وإن استيقظ شيخ ¬
من شيوخهم واستمع إلى نداء الحق وأعلن مخالفته لضلالهم قالوا في ذلك كله: تقية - كما سيأتي في مبحث التقية -. والمتأمل لتلك المقالة التي تواترت في كتب الشيعة يلاحظ أنها من وضع عدو حاقد أراد أن يصد الشيعة عن كتاب الله سبحانه، ويضلهم عن هدى الله، فما دامت تلك المقالة ربطت حجية القرآن بوجود القيم، والقيم هو أحد الأئمة الاثني عشر؛ لأن القرآن فسر لرجل واحد وهو علي، وقد انتقل علم القرآن من علي إلى سائر الأئمة الاثني عشر، كل إمام يعهد بهذا العلم إلى من بعده، حتى انتهى إلى الإمام الثاني عشر (¬1) . وهو غائب مفقد عند الاثني عشرية منذ ما يزيد على أحد عشر قرناً، ومعدوم عند طوائف من الشيعة وغيرهم.. فما دامت هذه المقالة ربطت حجية القرآن بهذا الغائب أو المعدوم فكأن نهايتها أن الاحتجاج بالقرآن متوقف لغياب قيمه أو عدمه، وأنه لا يرجع إلى كتاب الله، ولا يعرج عليه في مقام الاستدلال؛ لأن الحجة في قول الإمام فقط، وهو غائب فلا حجة فيه حينئذ، ولذلك فإن طائفة الأخبارية من الاثني عشرية "أنكروا- كما يعترف شيوخ الاثني عشرية - الأدلة الثلاثة (¬2) . بما فيها القرآن الكريم، وخصوا الدليل بالواحد أعني الأخبار فلذلك سمو بالاسم المذكور" (¬3) . وحسبك بهذا ضلال، وإضلال عن صراط الله ... وتلك ليست هي نهاية التآمر على كتاب الله، وعلى الشيعة، ولكنها حلقة من حلقات، ومؤامرة ضمن سلسلة مؤامرات طوحت بالشيعة بعيداً عن جماعة المسلمين، وهي مقدمة، أو إرهاص لبدء المحاولة في تفسير كتاب الله على غير وجهه، وزعمهم أن هذا هو ما جاء عن القيم والإمام من أهل البيت، والحجة فيه لا في غيره، وهو الناطق عن القرآن، والمبين له.. ولا حجة في القرآن إلا به. ¬
المسألة الثانية: اعتقادهم بأن الأئمة اختصوا بمعرفة القرآن لا يشركهم فيه أحد
المسألة الثانية: اعتقادهم بأن الأئمة اختصوا بمعرفة القرآن لا يشركهم فيه أحد فإنه مما علم من الإسلام بالضرورة أن علم القرآن لم يكن سراً تتوارثه سلالة معينة، ولم يكن لعلي اختصاص بهذا دون سائر صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الصحابة رضوان الله عليهم هم الطليعة الأولى الذين حازوا شرف تلقي هذا القرآن عن رسول البشرية محمد بن عبد الله ونقله إلى الأجيال كافة.. ولكن الشيعة تخالف هذا الأصل وتعتقد أن الله سبحانه قد اختص أئمتهم الاثني عشرية بعلم القرآن كله، وأنهم اختصوا بتأويله، وأن من طلب علم القرآن من غيرهم فقد ضل. وتذكر بعض مصادر أهل السنة بأن بداية هذه المقالة، وجذورها الأولى ترجع لابن سبأ فهو القائل: "بأن القرآن جزء من تسعة أجزاء وعلمه عند علي" (¬1) . وقد استفاض ذكر هذه المقالة في كتب الاثني عشرية بألوان الأخبار وصنوف الروايات: 1- جاء في أصول الكافي في خبر طويل عن أبي عبد الله قال: "إن الناس يكفيهم القرآن ولو وجدوا له مفسراً، وإن رسول الله - صلى الله عليه وآله - فسره لرجل واحد، وفسر للأمة شأن ذلك الرجل وهو علي بن أبي طالب (¬2) . 2- وجاء في طائفة من مصادر الشيعة المعتمدة لديهم أن رسول الله - صلى الله عليه وآله - قال: "إن الله أنزل علي القرآن وهو الذي من خالفه ضل، ومن يبتغي علمه عند غير علي هلك" (¬3) . 3- وزعمت أيضاً كتب الشيعة أن أبا جعفر قال: يا قتادة، أنت فقيه أهل البصرة؟ فقال: هكذا يزعمون، فقال أبو جعفر - رضي الله عنه -: "بلغني أنك تفسر ¬
القرآن؟ فقال له قتادة: نعم - إلى أن قال:- ويحك يا قتادة إنما يعرف القرآن من خوطب به" (¬1) . 4- وفي تفسير فرات: ".. إنما على الناس أن يقرأوا القرآن كما أنزل، فإذا احتاجوا إلى تفسيره فالاهتداء بنا وإلينا" (¬2) . ورواياتهم في هذا الباب كثيرة جداً، ولو ذهبت أنقل ما بين يدي منها لاستغرق مجلداً. ففي الكافي مجموعة من الأبواب كل باب يتضمن طائفة من أخبارهم في هذا الموضوع مثل: باب "أن الأئمة - رضي الله عنهم - ولاة أمر الله وخزتة علمه" (¬3) . باب أن أهل الذكر الذين أمر الله الخلق بسؤالهم هم الأئمة (¬4) . باب أن من وصفه الله تعالى في كتابه بالعلم هم الأئمة (¬5) . باب أن الراسخين في العلم هم الأئمة (¬6) . باب أن الأئمة قد أوتوا العلم وأثبت في صدورهم (¬7) . أما صاحب البحار فقد ضرب بسهم وافر - كعادته - في هذا المضار، ومن أبوابه في ذلك: ¬
باب أنهم أهل علم القرآن، وذكر في هذا الباب (54) رواية (¬1) . وباب أنهم خزان الله على علمه وفيه (14) رواية (¬2) . كما ذكر أيضاً طائفة من روايات هذا الموضوع ضمن: "باب أنهم لا يحجب عنهم علم السماء والأرض" (¬3) . وباب أنهم لا يحجب عنهم شيء (¬4) . وفي وسائل الشيعة للحر العاملي "باب عدم جواز استنباط الأحكام من ظواهر القرآن إلا بعد معرفة تفسيرها من كلام الأئمة - رضي الله عنهم - فيه ثمانون حديثاً من أحاديثهم" (¬5) . وفي الفصول المهمة في أصول الأئمة "باب أنه لا يعرف تفسير القرآن إلا الأئمة" (¬6) . وفي تفسير الصافي يخصص إحدى مقدمات تفسيره لهذه القضية وهي: "المقدمة الثانية في نُبَذْ مما جاء في أن علم القرآن كله إنما هو عند أهل البيت - رضي الله عنهم -" (¬7) . أما صاحب مقدمة البرهان فيقول: "الفصل الخامس في بيان ما يدل على أن علم تأويل القرآن بل كله عند أهل البيت - عليهم السلام -" (¬8) . ويذكر في هذا الفصل طائفة من أخبارهم في هذه المسألة، ثم يقول: "أقول: والأخبار في ¬
هذا الباب أكثر من أن تحصى" (¬1) . ولو ذهبنا نستقصي الكتب الشيعية التي تعرضت لهذا لطال بنا المقام؛ لأن هذا من أصولهم، قال أحد آياتهم (¬2) : "اعلم أن علم القرآن مخزون عند أهل البيت وهو مما قضت به ضرورة المذهب" (¬3) . ومن العجب أنهم بدعواهم أن علم القرآن عند الأئمة نسبوا إلى الأئمة علم كل شئ، فيقول أبو عبد الله - كما يزعمون -: "إني لأعلم ما في السموات وأعلم ما في الأرضين، وأعلم ما في الجنة، وأعلم ما في النار، وأعلم ما كان وما يكون، ثم مكث هنيئة فرأى أن ذلك كبر على من سمعه فقال: علمت ذلك من كتاب الله أن الله يقول: فيه تبيان كل شيء" (¬4) . لاحظ أن هذا النص الذي يزعم صاحبه - ونبرئ جعفراً منه، فإمامته ودينه ينفيان ذلك عنه - العلم بكل شيء يجهل أقرب الأشياء لديه.. حيث إن القرآن ليس فيه (تبيان كل شيء) وإنما هذا تحريف لقول تعالى: {تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} (¬5) . وهو يزعم أن هذه آية من القرآن، ففضحه الله بذلك.. وهذا برهان أن هذه النصوص من وضع ملحد اندسَّ في صفوف المسلمين للكيد للإسلام وأهله. مناقشة هذه المقالة ونقدها: أ- مناقشة النصوص: كما يلاحظ القارئ أنه لا يسمح المقام بجمع نصوصهم في هذه المسألة لكثرتها، إذ جمعها ونقدها يستغرق صحفات كثيرة.. وحسبنا أننا ذكرنا بعض ¬
الأمثلة عليها، إذ كلها تحوم حول معنى واحد، هو اختصاص الأئمة الاثني عشرية بعلم القرآن، وأنه مخزون عندهم، وبه يعلمون كل شيء.. وسنتوقف عند كل نص عرضناه لنناقشه ونحلله.. ثم نعود لأصل المقالة وننقدها: النص الأول: (الذي يقول بأن الرسول لم يبين القرآن إلا لعلي ... ) الله سبحانه يقول: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (¬1) . وكتب الشيعة تقول - كما سلف -: ليست من وظيفة الرسول بيان القرآن للناس، وإنما مهمته بيان "شأن ذلك الرجل وهو علي بن أبي طالب" أما بيان القرآن للناس وتفسيره فهو رسالة علي لا محمد (¬2) . وكلام الاثني عشرية هنا يذكر بكلام فرقة من فرقة الغلاة وهم الغرابية التي قالت: إن محمداً صلى الله عليه وسلم كان أشبه بعلي من الغراب بالغراب، وأن الله عز وجل بعث جبريل عليه السلام بالوحي إلى علي فغلط جبريل عليه السلام وأنزل الوحي على محمد (¬3) . ما الفرق بين هذه المقالة، ونص الاثني عشرية؟! إن الاثني عشرية أعطوا علياً الرسالة بدون دعوى الغلط، وزعموا أن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم التعريف بعلي فقط. وأترك للقارئ تدبر بقية المعاني، فهي ناطقة بذاتها. ¬
النص الثاني: يقول بأن من ابتغى علم القرآن عند غير علي فقد هلك (¬1) . أقول: من ابتغى علم القرآن من القرآن، أو من سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، أو من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بما فيهم علي فقد اهتدى، والقول بأن من طلب علم القرآن عند غير علي هلك ليس من دين الإسلام، وهو مما علم بطلاته من الإسلام بالضرورة، فلم يخص النبي صلى الله عليه وسلم أحداً من الصحابة بعلم من الشريعة دون الآخرين. قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} فالآية تدل على أن البيان للناس وليس لفرد أو طائفة منهم ولو كان أهل بيته. وقد نفى أمير المؤمنين علي أن يكون قد خصه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعلم دون الناس (¬2) . وقد خاطب النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة، ومن بعدهم، ورغبهم في تبليغ سنته ولم يخص أحداً منهم فقال - كما يروي زيد بن ثابت وغيره -: "نضر الله امرءاً سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلغه غيره، فإنه رب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ... " (¬3) . وقد روت هذا الحديث كتب الاثني ¬
عشرية المعتمدة (¬1) . فيكون حجة عليها. أما النص الثالث: فهو يدعي أن القول لم يخاطب به سوى الأئمة الاثني عشر، ومن هنا فلا يعرف القرآن سواهم (إنما يعرف القرآن من خوطب به) (¬2) ، ولهذا يعتبر صحابة رسول الله، والتابعون وأئمة الإسلام على امتداد العصور قد (هلكوا وأهلكوا) بقيامهم بتفسير القرآن وفق أصوله، أو اعتقادهم أن في كتاب الله ما لا يعذر أحد بجهالته، ومنه ما تعرفه العرب من كلامها، ومنه ما لا يعرفه إلا العلماء، ومنه ما لا يعلمه إلا الله (¬3) . فالشيعة تزعم أنه لا يعرف القرآن سوى الأئمة، وأنهم يعرفون القرآن كله. وهذه دعوى تفتقر إلى الدليل، وزعم يكذبه العقل والنقل، وينقضه واقع التفسير عندهم - كما سيأتي -. النص الرابع: يبين أن وظيفة الناس جميعاً سوى الأئمة الاثني عشر هو قراءة القرآن فقط. ولا يجوز لأحد أن يتولى منصب تفسير القرآن (¬4) ، حتى ولا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن وظيفته بيان "شأن ذلك الرجل.."، كما أنه من باب أولى ليس لأحد من الصحابة والسلف والأئمة أن يتولى شيئاً من ذلك، وإن احتاج أحد لتفسير آية فليرجع إلى من عنده علم القرآن: إلى أئمتهم.. وماذا سيجد من يرجع إلى تفاسير الشيعة كتفسير القمي والعياشي، والبرهان، وتفسير الصافي، أو ما في الكافي، والبحار ¬
من تفسير لآيات القرآن يزعمون نسبتها لأئمتهم؟!. سيجد تأويلات باطنية ليس لها صلة بنص القرآن، ولا سياق الآيات ولا معانيها ومفهوماتها.. كما سنرى نماذج من ذلك. إن أوضح برهان في هذه الدعاوى هو واقع التفسير عند هؤلاء القوم، ثم إن النص المذكور يدعو إلى الإعراض عن تدبر القرآن وفهم معانيه وهذا من الصد عن دين الله وشرعه.. ولعل الدافع لوضع مثل هذه الروايات هو محاولة منع جمهور الشيعة من قراءة كتاب الله وتدبره وفهمه لأن في ذلك افتضاحاً لكذب مؤسسي هذا المذهب وكشفاً لأضاليلهم وتعرية لمناهجهم الباطنية في تأويل كتاب الله. ب- نقد هذه المقالة: تقوم هذه المقالة على أن الرسول صلى الله عليه وسلم أودع علياً علم القرآن، وقد وجد لهذه المقالة أصل في حياة أمير المؤمنين، وأظهرت السبئية القول بأن عند علي غير ما عند الناس، فنفىأمير المؤمنين ذلك نفياً قاطعاً وقال: "والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما عندنا إلا ما في القرآن إلا فهماً يعطى رجل في كتابه ... " (¬1) . - كما مر-. ومما يجب أن يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن لأصحابه معاني القرآن، كما بيّن لهم ألفاظه، فقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (¬2) . يتناول هذا وهذا. وقد قال أبو عبد الرحمن السلمي (¬3) : "حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن - كعثمان بن ¬
عفان، وعبد الله بن مسعود وغيرهما - أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعاً" (¬1) . ولهذا كانوا يبقون مدة في حفظ السورة، وذلك أن الله تعالى قال: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} (¬2) . وقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} (¬3) . وقال: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} (¬4) . وتدبر القرآن بدون فهم معانيه لا يمكن، وكذلك قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (¬5) . وعقل القرآن متضمن لفهمه، ومن المعلوم أن كل كلام فالمقصود منه فهم معانيه دون مجرد ألفاظه، فالقرآن أولى بذلك. ولهذا لم تعد فئة من الشيعة تهضم هذه المقالة. وخرجت عن القول بكل ¬
ما فيها، فقالت بأن ظواهر القرآن لا يختص بعلمها الاثنا عشر، بل يشركهم غيرهم فيها، أما بواطن الآيات فمن اختصاص الأئمة. وقام خلاف كبير حول حجية ظواهر القرآن بين الأخبارين والأصوليين، فالفئة الأولى ترى أنه لا يعلم تفسير القرآن كله ظاهره وباطنه إلا الأئمة، والأخرى ترى حجية ظواهر القرآن لعموم الأدلة في الدعوة لتدبر القرآن وفهمه (¬1) . إن دعوى أن القرآن لم يفسر إلا لعلي هي مخالفة لقول الله سبحانه: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (¬2) . فالبيان للناس لا لعلي وحده - كما سبق -. فليس لمن قال بهذه المقالة إلا أحد طريقين: إما القول بأن الرسول لم يبلغ ما أنزل إليه، وإما أن يكذب القرآن، وهي مخالفة للعقل وما علم من الإسلام بالضرورة، ودعوى أن علم القرآن اختص به الأئمة ينافيه اشتهار عدد كبير من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بتفسير القرآن كالخلفاء الأربعة، وابن مسعود، وابن عباس، وزيد بن ثابت وغيرهم. "وكان علي - رضي الله عنه - يثني على تفسير ابن عباس" (¬3) . قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وهذا ابن عباس نقل عنه من التفسير ما شاء الله بالأسانيد الثابتة ليس في شيء منها ذكر علي، وابن عباس يروي من غير واحد من الصحابة؛ يروي عن عمر وأبي هريرة وعبد الرحمن بن عوف وعن زيد بن ثابت وأبيّ بن كعب وأسامة بن زيد وغير واحد من المهاجرين والأنصار. وروايته عن علي قليلة جداً، ولم يخرج أصحاب الصحيح شيئاً من حديثه عن ¬
علي، وخرجوا حديثه عن عمر وعبد الرحمن بن عوف وأبي هريرة وغيرهم.. وما يعرف بأيدي المسلمين تفسير ثابت عن علي، وهذه كتب الحديث والتفسير مملوءة بالآثار عن الصحابة والتابعين، والذي منها عن علي قليل جداً، وما ينقل من التفسير عن جعفر الصادق عامته كذب على جعفر" (¬1) . ثم إن تعميم القول بأن الأئمة يعلمون القرآن كله غلو فاحش، ذلك أنه كما يقول ابن جرير الطبري: "إن مما أنزل الله من القرآن ما لا يوصل إلى علم تأويله إلا ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك تفصيل ما هو مجمل في ظاهر التنزيل، وبالعباد إلى تفسيره الحاجة، من شرائع الدين؛ كأوامره، ونواهيه، وحلاله، وحرامه، وحدوده، وفرائضه. فلا يعلم أحد من خلق الله تأويل ذلك إلا ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يعلمه رسول الله إلا بوحي الله. ومنه ما لا يعلم تأويله إلا الله الواحد القهار، وذلك ما فيه من أمور استأثر الله بعلمها؛ كوقت قيام الساعة والنفخ في الصور.. ومنه ما يعلم تأويله كل ذي علم باللسان العربي الذي نزل به القرآن" (¬2) . هذا وقولهم: إن علم القرآن انفرد بنقله علي يفضي إلى الطعن في تواتر شريعة القرآن من الصحابة إلى سائر الأجيال، لأنه لم ينقلها - على حد زعمهم- عن رسول الله إلا واحد هو علي.. وبعد: فهذه المقالة مؤامرة، الهدف منها الصد عن كتاب الله سبحانه والإعراض عن تدبره، واستلهام هديه، والتفكر في عبره، والتأمل في معانيه ومقاصده. فالقرآن في دين الشيعة لا وسيلة لفهم معانيه إلا من طريقة الأئمة الاثني عشر، أما غيرهم فمحروم من الانتفاع به، وهي محاولة - أو حيلة - مكشوفة الهدف، مفضوحة القصد؛ لأن كتاب الله نزل بلسان عربي مبين وخوطب به الناس أجمعون {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (¬3) ، {هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ ¬
وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ} (¬1) . وأمر الله عباده بتدبره، والاعتبار بأمثاله، والاتعاظ بمواعظه، ومحال أن يقال لمن لا يفهم ما يقال له ولا يعقل تأويله: اعتبر بما لا فهم لك به ولا معرفة من البيان والكلام (¬2) . وهي محاولة للصد عن ذلك العلم العظيم في تفسير القرآن، والذي نقله إلينا صحابة رسول الله والسلف والأئمة.. فهذه الكنوز العظيمة لا عبرة بها ولا قيمة لها في دين الشيعة، لأنها ليست واردة عن الأئمة الاثني عشرية، وقد صرح بذلك بعض شيوخهم المعاصرين فقال: "إن جميع التفاسير الواردة عن غير أهل البيت لا قيمة لها ولا يعتد بها" (¬3) . والقيمة في كتب التفسير عندهم وحدها. وإذا ذهبنا نبحث عن هذه القيمة في كتبهم فماذا نجد؟ لقد حولت كتب التفسير المعتمدة عندهم كتفسير القمي والعياشي والصافي والبرهان وكتب الحديث كالكافي والبحار تأويلات لكتاب الله منسوبة لآل البيت تكشف في الكثير الغالب عن جهل فاضح بكتاب الله، وتأويل منحرف لآياته، وتعسف بالغ في تفسيره، ولا يمكن أن تصح نسبتها لعلماء آل البيت، فهي تأويلات لا تتصل بمدلولات الألفاظ، ولا بمفهومها، ولا بالسياق القرآني - كما سيأتي أمثلة ذلك - ومعنى ذلك - بناء على هذه العقيدة - أن هذا هو مبلغ علم علماء آل البيت، وفي ذلك من الزراية عليهم، ونسبة الجهل إليهم الشيء الكثير من قوم يزعمون محبتهم والتشيع لهم. وأمر آخر أكبر وأخطر وهي أن تلك التأويلات.. هي علم القرآن، ومعانيه، وأنه لا معنى للقرآن أعظم منها، لأنها خرجت من المصدر الأصيل ¬
المسألة الثالثة: اعتقادهم بأن قول الإمام ينسخ القرآن ويقيد مطلقه ويخصص عامه
والوحيد والصحيح للتلقي. وهذا تهوين من أمر القرآن وشأنه، بل محاربة له وصد عنه بوسيلة ماكرة خبيثة. المسألة الثالثة: اعتقادهم بأن قول الإمام ينسخ القرآن ويقيد مطلقه ويخصص عامه. بناءً على اعتقاد الشيعة بأن الإمام هو قيم القرآن، وهو القرآن الناطق (¬1) . وأنهم هم خزنة علم الله وعيبة (¬2) . وحيه (¬3) ، وأنه بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكمل التشريع، بل إن بقية الشريعة أودعها الرسول لعلي، وأخرج علي منها ما يحتاجه عصره، ثم أودع ما بقي لمن بعده، وهكذا إلى أن بقيت عند إمامهم الغائب (¬4) . بناءً على ذلك فإن مسألة تخصيص عام القرآن، أو تقييد مطلقة، أو نسخه هي مسألة لم تنته بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن النص النبوي، والتشريع الإلهي استمر ولم ينقطع بوفاة الرسول، بل استمر عندهم إلى بداية القرن الرابع الهجري وذلك بوقوع الغيبة الكبرى (¬5) . والتي انتهت بها صلتهم بالإمام، وانقطع تلقي الوحي الإلهي عنه؛ لأنهم يعتقدون "أن حديث كل واحد من الأئمة الطاهرين قول الله عز وجل، ولا اختلاف في أقوالهم كما لا اختلاف في قوله تعالى" (¬6) . وقالوا: يجوز لمن سمع حديثاً عن أبي عبد الله (يعنون جعفر بن محمد الصادق) أن يرويه عن أبيه أو أحد أجداده؛ بل يجوز أن يقول: قال الله تعالى (¬7) . فكان ¬
للإمام - في اعتقادهم - تخصيص القرآن أو تقييده أو نسخه، وهو تخصيص أو تقييد أو نسخ للقرآن بالقرآن، لأن قول الإمام كقول الله - كما يفترون -!!. ذلك أنهم يرون - كما يقول أحد آياتهم في هذا العصر -: "أن حكمة التدريج اقتضت بيان جملة من الأحكام وكتمان جملة، ولكنه - سلام الله عليه - أودعها عند أوصيائه: كل وصي يعهد بها إلى الآخر، لينشرها في الوقت المناسب لها حسب الحكمة: من عام مخصص، أو مطلق، أو مقيد، أو مجمل مبين إلى أمثال ذلك، فقد يذكر النبي عاماً ويذكر مخصصة بعد برهة من حياته، ولا قد يذكره أصلاً، بل يودعه عند وصية إلى وقته" (¬1) . ومسألة النسخ والتخصيص والتقييد ... ليست إلا جزءاً من وظيفة الأمئة الكبرى وهي (التفويض في أمر الدين) والتي يقررها صاحب الكافي في باب يعقده في هذا الشأن بعنوان: "باب التفويض إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله - وإلى الأئمة - عليهم السلام - في أمر الدين" (¬2) . فالأئمة قد فوضوا في أمر هذا الدين، كما فوض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلهم حق التشريع. تقول كتب الشيعة عن الأئمة: "إن الله عز مجل.. فوض إلى نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} (¬3) . فما فوض إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله - قد فوضه إلينا" (¬4) . وقال أبو عبد الله - كما تزعم كتب الشيعة -: "لا والله ما فوض الله إلى أحد من خلقه إلا إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله - وإلى الأئمة. قال عز وجل: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} (¬5) . وهي جارية في الأوصياء" (¬6) . ¬
ثم إن الأئمة هم مستودع علوم الملائكة والأنبياء والرسل، وعندهم جميع الكتب التي نزلت من السماء، كما تقرره كتبهم المعتمدة في روايات كثيرة كما سيأتي (¬1) . فهذه المهام التشريعية هي من فيض هذه العلوم المخزونة عند الأئمة. أما التطبيق العلمي لهذه العقيدة فهو ذلك الكم الهائل من الروايات في مسائل العقيدة وغيرها، والتي شذوا بها عن أئمة الإسلام. فمثلاً ألفاظ الكفر والكفار والشرك والمشركين الواردة في كتاب الله سبحانه، والتي تعم كل من كفر بالله وأشرك.. جاءت عندهم روايات كثيرة تخص هذا العموم بالكفر بولاية علي والشرك باتخاذ إمام معه - كما سيأتي - (¬2) . فخصصوا عموم الكتاب بلا مخصص، أو حرفوا النصوص وزعموا أنه تخصيص، واعتبروا مسألة الإمامة أخطر من الشرك والكفر، بلا دليل من عقل أو نقل صحيح، وخرجوا عن إجماع المسلمين، وما تواتر من نصوص الدين، وتجاهلوا حتى اللغة التي نزل بها القرآن العظيم {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (¬3) . وسنرى أمثلة كثيرة فيما سيأتي لهذا الضرب من التحريف. نقد هذه العقيدة: قد ختم الله سبحانه بمحمد صلى الله عليه وسلم الرسالات، وأكمل برسالته الدين، وانقطع بموته الوحي. وهذه أمور معلومة من دين الإسلام بالضرورة. وهذه المقالة تقوم على إنكار هذه الأركان، أو تنتهي بقائلها إلى ذلك، وهذا بلا شك نقض لحقيقة "شهادة أن محمداً رسول الله" والتي لا يتم إسلام أحد إلا بالإيمان بها. ولعل المتأمل لهذه المقالة، والمحلل لأبعادها يدرك أن الهدف من هذه المقالة تبديل دين الإسلام، وتغيير شريعة سيد الأنام؛ إذ إن كلام الله سبحانه عرضة ¬
للتبديل والتغيير بناسخ، أو مخصص، أو مقيد، أو مبين، أو عام يزعم شيوخ الشيعة نقله عن أئمتهم. ولعل صورة التغيير تبدو بشكل أوضح وأجلى، إذا أدركنا ما جبل عليه هؤلاء القوم من الكذب حتى جعلوه ديناً وقربة - كما سيأتي (¬1) . - "ومن تأمل كتب الجرح والتعديل رأى المعروف عند مصنفيها بالكذب في الشيعة أكثر منهم في سائر الطوائف" (¬2) . وقد شهد طائفة من أئمة المسلمين بأنه لم ير أكذب وأشهد بالزور منهم، وأنهم يضعون الحديث ويتخذونه ديناً، وأن الناس كانوا يسمونهم بالكذابين، ونهى أهل العلم عن أخذ الحديث عن هؤلاء الروافض (¬3) ، "بل في كتب هؤلاء نصوص تتضمن شكوى آل البيت من كذب هؤلاء وبهتانهم" (¬4) . وهذه الدعوى تقوم على أن دين الإسلام ناقص ويحتاج إلى الأئمة الاثني عشر لإكماله، وأن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لم يكمل بهما التشريع.. إذ إن بقية الشريعة مودعة عند الأئمة، وأن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم لم يبلغ ما أنزل إليه من ربه، وإنما كتم بعض ما أنزله إليه وأسره لعلي.. وكل ذلك كفر بالله ورسوله، ومناقضة لأصول الإسلام، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} (¬5) . ويقول سبحانه: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} (¬6) ، وقال تعالى: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} (¬7) ، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن ¬
بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ الَّلاعِنُونَ، إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ} ... (¬1) . وقد نسب الإمام الأشعري هذه المقالة إلى الصنف الخامس عشر من أصناف الغالية من الشيعة - حسب تقسيمه - فهم الذين "يزعمون أن الأئمة ينسخون الشرائع ويهبط عليهم الملائكة، وتظهر عليهم الأعلام والمعجزات ويوحى إليهم" (¬2) . وهذه العقائد أصبحت من أصول الاثني عشرية (¬3) ، لأنها شربت مذاهب الغلاة حتى الثمالة. وقد أشار أبو جعفر النحاس (المتوفى سنة 338هـ) إلى هذه المقالة ولم ينسبها لأحد فقال: "وقال آخرون: باب الناسخ والمنسوخ إلى الإمام، ينسخ ما يشاء" (¬4) . وعدّ ذلك من عظيم الكفر، ثم بين بطلانه بقوله: "لأن النسخ لم يكن إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا بالوحي من الله - جل وعز - إما بقرآن مثله على قول قوم، وإما بوحي من غير القرآن (¬5) ، فلما ارتفع هذان بموت النبي صلى الله عليه وسلم ارتفع النسخ (¬6) . ¬
المبحث الثاني: اعتقادهم في تأويل القرآن
المبحث الثاني: اعتقادهم في تأويل القرآن وفيه مسألتان: الأولى: اعتقادهم بأن للقرآن معاني باطنة تخالف الظاهر، والثانية: قولهم بأن جل القرآن نزل فيهم وفي أعدائهم. المسألة الأولى: اعتقادهم بأن للقرآن معاني باطنة تخالف الظاهر وهذه المسألة قد أخذت بعداً كبيراً وخطيراً عند الشيعة، حيث تحول كتاب الله عندهم بتأثير هذا المعتقد إلى كتاب آخر غير ما في أيدي المسلمين، وقد ذهب شيوخ الشيعة وفي تطبيق هذا المبدأ شوطاً بعيداً، وقدم الشيعة مئات الروايات والتي تؤول آيات الله على غير تأويلها.. ونسبوها للأئمة الاثني عشر. وليس لهذا التأويل الباطني من ضابط، ولا له قاعدة يعتمد عليها.. وسيجد القارئ في تأويلهم لآيات القرآن محاولة يائسة لتغيير هذا الدين وتحوير معالمه وطمس أركانه. فأركان الدين تفسر بالأئمة، وآيات الشرك والكفر تؤول بالشرك بولاية علي وإمامته، وآيات الحلال والحرام تفسير بالأئمة وأعدائهم، وهكذا يخرج القارئ لهذه التأويلات بدين غير دين الإسلام. وهذا الدين له ركنان أساسيان هما: الإيمان بإمامة الاثني عشر، والكفر واللعن لأعدائهم. جاء في أصول الكافي للكليني ما نصه: ".. عن محمد بن منصور قال: سألت عبداً صالحاً (¬1) . عن قول الله عز وجل: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} (¬2) . قال: فقال: إن القرآن له ظهر وبطن، فجميع ما ¬
حرم الله في القرآن هو الظاهر، والباطن من ذلك أئمة الجور، وجميع ما أحل الله تعالى في الكتاب هو الظاهر، والباطن من ذلك أئمة الحق" (¬1) . تقرر هذه الرواية الواردة في أصح كتبهم الأربعة مبدأ أن للقرآن معاني باطنة تخالف الظاهر مخالفة تامة، وتضرب المثل بما أحل الله وحرم في كتابه من الطيبات، والخبائث، وأن المقصود بذلك رجال بأعيانهم هم الأئمة الاثنا عشرية، وأعداؤهم وهم كل خلفاء المسلمين.. وهذا التأويل لا أصل له من لغة أو عقل، أو دين، وهو محاولة لتغيير دين الإسلام من أساسه ودعوة إلى التحلل والإباحية!! وفي هذا النص الوارد في أصح كتبهم يظهر من خلاله الدافع إلى القول بأن القرآن له ظهر وبطن، وهو أن كتاب الله سبحانه خلا من ذكر أئمتهم الاثني عشر، ومن النص على أعدائهم، وهذا الأمر أقضَّ مضاجعهم، وأفسد عليهم أمرهم، وقد صرحوا بأن كتاب الله قد خلا من ذكر الأئمة فقالوا: "لو قرئ القرآن كما أنزل لألفينا مسلمين" (¬2) . فلما لم يكن لأصل مذهبهم وهو (الإمامة) والأئمة ذكر في كتاب الله قالوا بهذه المقالة لإقناع أتباعهم، وترويج مذهبهم بين الأغرار والجهلة، وحتى يجعلوا لهذه المقالة القبول أسندوها - كعادتهم - لبعض آل البيت. ومسألة القول بأن لنصوص القرآن باطناً يخالف ظاهرها شاعت في كتب القوم وأصبحت أصلاً من أصولهم، لأنه لا بقاء لمذهبهم إلا بها أو ما في حكمها، ولهذا عقد صاحب البحار باباً لهذا بعنوان: "باب أن للقرآن ظهراً وبطناً" (¬3) . وقد ذكر في هذا الباب (84) رواية، وهذه الروايات هي قليل من كثير مما أورده في كتابه في هذا الموضوع.. فقد قال في صدر هذا الباب إنه: "قد مضى كثير من تلك الأخبار في أبواب كتاب الإمامة ونورد هنا مختصراً من بعضها" (¬4) ، ثم ساق ¬
الروايات الأربع والثمانين. وفي تفسير البرهان عقد باباً مماثلاً لما في البحار بعنوان: «باب في أن القرآن له ظهر وبطن" (¬1) . وفي مقدمة تفسير البرهان أفاض القول في هذه المسألة، فقد ذكر خمسة فصول حشر فيها روايات أئمته في هذا الباب انتخبها من مجموعة كبيرة من كتبهم المعتمدة (¬2) . وقد قرر كثير من كتب التفسير عندهم في مقدماتها هذه المسألة كأصل من أصولهم كتفسير القمي (¬3) ، والعياشي (¬4) ، والصافي (¬5) . وغيرها. ومن نصوصهم في هذه المسألة: "أن للقرآن ظهراً وبطناً، وببطنه بطن إلى سبعة أبطن" (¬6) . وعن جابر الجعفي قال: "سألت أبا جعفر عن شيء من تفسير القرآن فأجابني، ثم سألت ثانية فأجابني بجواب آخر، فقلت: جعلت فداك كنت أجبت في هذه المسألة بجواب غير هذا قبل اليوم؟ فقال لي: يا جابر: إن للقرآن بطناً، وللبطن بطناً وظهراً، وللظهر ظهراً، يا جابر، وليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن، إن الآية لتكون أولها في شيء وآخرها في شيء وهو كلام متصل يتصرف على وجوه" (¬7) . وتقرر نصوص الشيعة أن لكل آية معنى باطنياً، بل قالوا أكثر من ذلك؛ ¬
فقالوا: لكل آية سبعة بطون. ثم طاشت تقديراتهم فقالت: بأن لكل آية سبعين باطناً، واستفاضت بشأن ذلك أخبارهم؛ قال أحد شيوخهم: ".. لكل آية من كلام الله ظهر وبطن.. بل لكل واحدة منها كما يظهر من الأخبار المستفيضة سبعة وسبعون بطناً" (¬1) . وما ندري ما كنه هذه البطون؟! والمعنى الذي يحاولون إثباته لا يعدو أحد أمرين: إثبات إمامة الاثني عشر، أو الطعن في مخالفيهم وتكفيرهم، فلماذا تتعدد هذه البطون ... ؟! والناظر في رواياتهم التي تذهب هذا المذهب الباطني والتي تتسع لعرضها المجلدات يجد أنها لا تعدو هذين الموضوعين. قالوا: «وقد دلت أحاديث متكاثرة كادت أن تكون متواترة على أن بطونها وتأويلها بل كثير من تنزيلها وتفسيرها في فضل شأن السادة الأطهار ... بل الحق المتبين أن أكثر آيات الفضل والإنعام والمدح والإكرام، بل كلها فيهم وفي أوليائهم نزلت، وأن جل فقرات التوبيخ والتشنيع والتهديد والتفظيع؛ بل جملتها في مخالفيهم وأعدائهم ... إن الله عز وجل جعل جملة بطن القرآن في دعوة الإمامة والولاية، كما جعل جل ظهره في دعوة التوحيد والنبوة والرسالة.." (¬2) . وسيأتي تفصيل ذلك في مسألة "أن جل القرآن نزل فيهم وفي أعدائهم". نقد هذه المقالة: لا شك أن للقرآن العظيم أسراره ولفتاته، وإيماءاته وإيحاءاته، وهو بحر عظيم لا تنفذ كنوزه ولا تنقضي عجائبه، ولا ينتهي إعجازه.. وكل ذلك مما يتسع له اللفظ ولا يخرج عن إطار المعنى العام.. ولكن دعوى أولئك الباطنيين غريبة عن هذا المقصد، وهي تأويلات - كما سيأتي - لا تتصل بمدلولات الألفاظ ولا بمفهومها، ولا بالسياق القرآن، بل هي مخالفة للنص القرآني تماماً، هدفها هو ¬
البحث في كتاب الله من أصل يؤيد شذوذهم، وغايتها الصد عن كتاب الله ودينه، وحاصل هذا الاتجاه الباطني في تأويل نصوص الشريعة هو الانحلال عن الدين (¬1) . وعموم البشر على اختلاف لغاتهم يعتبرون ظاهر الكلام هو العمدة في المعنى، وأسلوب الأحاجي والألغاز لا وجود له إلا في الفكر الباطني، ولو اتخذ هذا الأسلوب قاعدة لما أمكن التفاهم بحال، ولما حصل الثقة بمقال؛ لأن المعاني الباطنية لا ضابط لها ولا نظام. والمتأمل لهذه المقالة يدرك خطورة هذا الاتجاه الباطني في تفسير القرآن، وأنه يقتضي بطلان الثقة بالألفاظ، ويسقط الانتفاع بكلام الله وكلام رسوله، فإن ما يسبق إلى الفهم لا يوثق به، والباطن لا ضابط له، بل تتعارض فيه الخواطر، ويمكن تنزيله على وجوه شتى، وبهذا الطريق يحاول الباطنية التوصل إلى هدم جميع الشريعة بتأويل ظواهرها، وتنزيلها على رأيهم. ولو كانت تلك التأويلات الباطنية هي معاني القرآن، ودلالاتها لما تحقق به الإعجاز، ولكن من قبيل الألغاز، والعرب كانت تفهم القرآن من خلال معانيه الظاهرة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "من ادعى علماً باطناً، أو علماً بباطن وذلك يخالف العالم الظاهر كان مخطئاً، إما ملحداً زنديقاً، وإما جاهلاً ضالاً ... وأما الباطن المخالف للظاهر المعلوم، فمثل ما يدعيه الباطنية القرامطة من الإسماعيلية والنصيرية وأمثالهم" ثم يقول: "وهؤلاء الباطنية قد يفسرون: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} (¬2) . أنه علي.. وقوله: {فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} (¬3) . أنهم طلحة والزبير، ¬
{وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ} (¬1) . بأنها بنو أمية" (¬2) . هذه التأويلات التي ينقلها ابن تيمية وينسبها للباطنية موجودة بعينها عند الاثني عشرية، فالتأويل المذكور للآية الأولى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} جاء عندهم في خمس روايات أو أكثر (¬3) ، وسجل في طائفة من كتبهم المعتمدة (¬4) ، وليس في الآية أية دلالة على هذا التأويل (¬5) . وكذلك الآية الثانية: {فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} ورد تأويلها بذلك في طائفة من كتبهم المعتمدة (¬6) . وبلغت رواياتها عندهم أكثر من ثمان روايات (¬7) ، ومثلها الآية الثالثة: {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ} جاء تأويلها عند الاثني عشرية بما قاله شيخ الإسلام في أكثر من اثنتي عشرة رواية (¬8) ، وتناقل هذا التأويل مجموعة من مصادرهم المعتمدة (¬9) . وسنجد أنهم قالوا بأكثر من هذا، وأعظم من هذا، ولكن نقلنا هذا لنبين أن ما يذكره علماء الإسلام عن الباطنية من تأويلات منحرفة قد ورثته طائفة الاثني عشرية، وأصبح منهجاً من مناهجها. وكان علماء الإسلام يستنكرون هذا ¬
المسألة الثانية: قولهم بأن جل القرآن نزل فيهم وفي أعدائهم
التأويل الباطني، لأن "من فسر القرآن وتأوله على غير التفسير المعروف من الصحابة والتابعين فهو مفتر على الله، ملحد في آيات الله، محرف للكلم عن مواضعه، وهذا فتح لباب الزندقة والإلحاد، وهو معلوم البطلان بالاضطرار من دين الإسلام" (¬1) . وما وصل لعلماء الإسلام السابقين من تأويلات باطنية هي قليل من كثير مما كشفته اليوم مطابع النجف وطهران، وما استجد بعدهم من مقالات صنعتها يد التلبيس والتزوير والتي لم تتوقف إلى اليوم، حيث فسروا كثيراً من آيات القرآن على هذا النحو من التأويل الباطني، وزعموا أن جل آيات القرآن العظيم نزل فيهم وفي أعدائهم، كما سيتبين هذا في المسألة التالية: المسألة الثانية: قولهم بأن جل القرآن نزل فيهم وفي أعدائهم يقول الشيعة بأن: "جل القرآن إنما نزل فيهم (يعني في الأئمة الاثني عشرية) وفي أوليائهم وأعدائهم" (¬2) ، مع أنك لو فتشت في كتاب الله وأخذت معك قواميس اللغة العربية كلها وبحثت عن اسم من أسماء هؤلاء الاثني عشرية فلن تجد لها ذكراً، ومع ذلك فإن شيخهم البحراني يزعم بأن علياً وحده ذكر في القرآن (1154) مرة ويؤلف في هذا الشأن كتاباً سماه: "اللوامع النورانية في أسماء علي وأهل بيته القرآنية" (¬3) . يحطم فيه كل مقاييس لغة العرب، ويتجاوز فيه أصول العقل والمنطق، ويفضح من خلاله قومه على رؤوس الأشهاد بتحريفاته التي سطرها في هذا الكتاب وجمعها - وقد كانت متفرقة قد لا تعرف - من طائفة من مصادرهم هم المعتبرة عندهم. وتأتي بعض رواياتهم لتقول: "إن القرآن نزل أربعة أرباع: ربع حلال، وربع ¬
حرام، وربع سنن وأحكام، وربع خبر ما كان قبلكم ونبأ ما يكون بعدكم وفصل ما بينكم" (¬1) . وهذا يعني أنه ليس للأئمة ذكر صريح في القرآن. ولكن تأتي رواية أخرى لهم بتقسيم آخر لكتاب الله تجعل فيه نصيب الأئمة وأعدائهم ثلث القرآن، وكأنها تحاول أن تتلافى ما في الرواية السابقة من نسيان لذكر الأئمة، إلا أنها لم تجعل للأئمة وأعدائهم إلا ثلث القرآن لا جله، تقول الرواية: "نزل القرآن أثلاثاً: ثلث فينا وفي عدونا، وثلث سنن وأمثال، وثلث فرائض وأحكام" (¬2) . ولكن تأتي رواية ثالثة يزيد فيها نصيب الأئمة ومخالفيهم من الثلث إلى النصف؛ تقول الرواية: "نزل القرآن على أربعة أرباع: ربع فينا، وربع في عدونا، وربع سنن وأمثال، وربع في فرائض وأحكام" (¬3) . ويلاحظ أنه ليس للأمة ميزة ينفردون بها في القرآن عن مخالفيهم بالنسبة للتقسيم المذكور، وقد تفطن بعضهم لهذا فوضع رواية رابعة بنفس النص السابق، إلا أنه زاد فيها: "ولنا كرائم القرآن" (¬4) . وقد أشار إلى ذلك صاحب تفسير الصافي فقال: "وزاد العياشي ولنا كرائم القرآن" (¬5) . فانتهوا بهذا إلى القول بأن أكثر القرآن نزل فيهم وفي أعدائهم. يقول شيخهم الفيض الكاشاني (مؤلف الوافي أحد مصادرهم المعتمدة عندهم في الحديث) يقول: "وردت أخبار جمة عن أهل البيت في تأويل كثير من آيات القرآن وبأوليائهم، وبأعدائهم، حتى أن جماعة من أصحابنا صنفوا كتباً في تأويل القرآن على هذا النحو جمعوا فيها ما ورد عنهم في تأويل القرآن آية آية، إما بهم أو بشيعتهم، أو بعدوهم، على ترتيب القرآن. وقد رأيت منها كتاباً ¬
كاد يقرب من عشرين ألف بيت، وقد روي في الكافي، وفي تفسير العياشي، وعلي بن إبراهيم القمي، والتفسير المسموع من أبي محمد الزكي أخباراً كثيرة من هذا القبيل (¬1) . هذه شهادة أو اعتراف من أحد أساطينهم تؤكد شيوع هذه المقالة بينهم، وأنها أصبحت هي القاعدة المتبعة في كتب التفسير المعتمدة عندهم، وفي أصح كتب الحديث لديهم.. فهم بهذا صرفوا كتاب الله عن معانيه، وحرفوه عن تنزيله، وجعلوا منه كتاباً غير ما في أيدي الناس. وهم يعتبرون هذا هو الأصل والقاعدة حتى قال بعض شيوخهم: "إن الأصل في تنزيل آيات القرآن.. إنما هو الإرشاد إلى ولاية النبي والأئمة - صلوات الله عليهم - بحيث لا خير خبّر به إلا وهو فيهم وفي أتباعهم، وعارفيهم، ولا سوء ذكر فيه إلا وهو صادق على أعدائهم وفي مخالفيهم" (¬2) . ولهذا نرى شيوخهم يتسابقون في تحريف آيات القرآن العظيم، وتطبيق هذه العقيدة. يعقد شيخهم الحر العاملي في كتابه: الفصول المهمة في أصول الأئمة باباً في هذا الشأن بعنوان: "باب أن كل ما في القرآن من آيات التحليل والتحريم، فالمراد بها ظاهرها، والمراد بباطنها أئمة العدل والجور" (¬3) ، فهو يعتبر آيات أحكام الحلال المقصود بها أئمتهم، وآيات الحرام المقصود بها خلفاء المسلمين باستثناء الإمام علي وبقية الأئمة الاثني عشرة، وهذا بلا شك باب من أبواب الإباحية، وهو ما عليه طوائف الباطنية، ولكنه يعد هذه المقالة أصلاً من أصول الأئمة. وفي كتاب الكافي - أصح كتاب عندهم - روايات كثيرة في هذا. وحسبك أن تقرأ: "باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية" لتفاجأ بإحدى ¬
وتسعين رواية حشدها في هذا الباب، وحرف بها آيات القرآن عن معانيها (¬1) . وهذا باب من مجموعة أبواب (¬2) . على هذا النهج وكلها تضمنت عشرات الروايات التي تجعل من كتاب الله كتاباً شيعياً لا موضوع له سوى أئمة الشيعة وأتباعهم، وأعدائهم. وفي كتاب "البحار" أحد مصادرهم المعتمدة عندهم في الحديث أبواب كثيرة هي بمثابة قواعد وأصول في تفسير القرآن عندهم، وقد حشر في هذه الأبواب روايات كثيرة كلها تذهب هذا المذهب في كتاب الله سبحانه. ولعله يكفي أن تقرأ عناوين بعض هذه الأبواب لتدرك مدى مجافاتها للغة العرب، ومناقضتها للعقل، ومنافاتها لأصول الإسلام، وأنها من أعظم الإلحادة في كتاب الله، والتحريف لمعانيه. ولنستعرض قسماً من هذه العناوين فيما يلي: قال المجلسي: باب "تأويل المؤمنين والإيمان والمسلمين والإسلام بهم وبولايتهم عليهم والسلام، والكفار والمشركين، والكفر والشرك، والجبت والطاغوت واللات والعزى، والأصنام بأعدائهم ومخالفيهم" (¬3) . وقد ذكرت تحت هذا الباب مائة حديث لهم. باب "أنهم عليهم السلام الأبرار والمتقون، والسابقون والمقربون، وشيعتهم أصحاب اليمين، وأعداؤهم الفجار والأشرار وأصحاب الشمال" (¬4) ، وذكر فيه (25) رواية لهم. باب "أنهم عليهم السلام وولايتهم العدل والمعروف والإحسان والقسط ¬
والميزان، وترك ولايتهم وأعدائهم الكفر والفسوق والعصيان والفحشاء والمنكر والبغي" (¬1) . وأورد فيه (14) حديثاً من أحاديثهم. وأبواب أخرى على هذا النمط - كما سيأتي - تكشف عن محاولة لتغيير دين الإسلام؛ حيث حصرت كل معاني الإسلام في بيعه رجل، وغيرت مفهوم الشرك في عبادة الله، والكفر به، والطواغيت والأصنام إلى مفاهيم غريبة تكشف هوية واضع هذه "المفتريات"، فأعداء الأئمة كل خليفة من خلفاء المسلمين - باستثناء الاثني عشر - من أبي بكر إلى أن تقوم الساعة، وكل من بايع هؤلاء الخلفاء من الصحابة ومن بعدهم إلى نهاية الدنيا، هؤلاء هم الأعداء الذين تؤول بهم ألفاظ الكفر والشرك كما سيأتي في مبحث "الإمامة". فأين أركان الإيمان، وأصول الإسلام، وشرائعه وأحكامه؟! كلها انحصرت في الإمامة، وأصبح الشرك والكفر والأصنام من المعروف، إذ لا شرك ولا كفر إلا الشرك مع الإمام أو الكفر بولايته.. كما تدل عليه هذه الروايات. أليس هذا من أعظم الكفر والزندقة؟، وهل يبلغ كيد عدو حاقد أبلغ من هذا؟!.. وهو وإن كان كيد جاهل لوضوح فساده، وظهور بطلانه، لكن لا ينقضي عجب المسلم العاقل كيف تعيش أمة تعد بالملايين أسيرة لهذه الترهات والأباطيل؟! ونمضي في استعراضنا لعناوين بعض الأبواب من البحار، يقول صاحب البحار: باب أنهم الصلاة والزكاة والحج والصيام وسائر الطاعات، وأعداؤهم الفواحش والمعاصي، وتضمن هذا الباب (17) رواية (¬2) ، وهذا هو عين مذهب الباطنية الذين «يجعلون الشرائع المأمور بها، والمحظورات المنهي عنها: لها تأويلات باطنة تخالف ما يعرفه المسلمون منها.. والتي يعلم بالاضطرار أنها كذب وافتراء ¬
على الرسل - صلوات الله عليهم -، وتحريف لكلام الله ورسوله عن مواضعه، وإلحاد في آيات الله" (¬1) . ويستمر صاحب البحار ليقدم لنا الاثني عشرية على حقيقتها من خلال أبوابه، لأنه يكتب كتابه في ظل الدولة الصفوية والتي ارتفعت فيها التقية إلى حد ما، فيقول: باب أنهم عليهم السلام آيات الله وبيناته وكتابه.. وفيه (20) رواية (¬2) . وباب أنهم السبع المثاني، وفيه (10) روايات (¬3) . وباب أنهم عليهم السلام الصافون والمسبحون وصاحب المقام المعلوم وحملة عرش الرحمن، وأنهم السفرة الكرام البررة، وفيه (11) رواية (¬4) . وباب أنهم كلمات الله، وفيه (25) رواية (¬5) . وباب أنهم حرمات الله، وفيه (6) روايات (¬6) . وباب انهم الذكر وأهل الذكر، وفيه (65) رواية (¬7) . وباب أنهم أنوار الله، وفيه (42) رواية (¬8) . وباب أنهم خير أمة وخير أئمة أخرجت للناس، وفيه (24) رواية (¬9) . وباب أنهم المظلومون، وفيه (37) رواية (¬10) . ¬
وباب أنهم المستضعفون، وفيه (13) رواية (¬1) . وباب أنهم أهل الأعراف الذين ذكرهم الله في القرآن، وفيه (20) رواية (¬2) . وباب تأويل الوالدين والولد والأرحام وذوي القربى بهم - عليهم السلام - وفيه (23) رواية (¬3) . فالأئمة كما ترى في هذه الأبواب يكونون أحياناً ملائكة، وأحياناً كتباً سماوية، أو أنوارًا إلهية.. إلخ، ومع ذلك فهم المظلومون والمستضعفون، وهي دعاوي لا تحتاج إلى نقد فهي مرفوضة لغة وعقلاً، فضلاً عن الشرع وأصول الإسلام، وهي عناوين يناقض بعضها بعضاً.. ولكنه يمضي في هذا النهج حتى يفسر الجمادات ويؤولها بالأئمة، يقول: باب أنهم الماء المعين، والبئر المعطلة، والقصر المشيد، وتأويل السحاب، والمطر، والظل، والفواكه وسائر المنافع بعلمهم وبركاتهم. وقد أورد في هذا الباب إحدى وعشرين رواية (¬4) . انتخبها - كعادته - من طائفة من كتبهم المعتمدة. ويغلو ويشتط، ويتجاوز الحد، ليصل إلى أوصاف الرب جل جلاله فيقول: باب أنهم جنب الله وروحه ويد الله، وأمثالها، ويذكر فيه ستاً وثلاثون رواية (¬5) . ويجعلهم هم الكعبة والقبلة.. ويعقد باباً لهذا بعنوان: باب أنهم - رضي الله عنهم - حزب الله وبقيته وكعبته (¬6) . وقبلته، وأن الأثارة من العلم علم الأوصياء، ¬
ويقدم في هذا الباب سبع روايات (¬1) . ويمضي في هذا الشطط في طائفة من الأبواب عرضها يمثل في الحقيقة أبلغ رد وأعظم نقد لمذهب الشيعة، وهو ينسف بنيانهم من القواعد، وهو يؤكد عظمة هذا الدين الإسلامي، فبضدها تتميز الأشياء - فلولا المر ما عرف طعم الحلو - فهذه التأويلات أشبه ما تكون بمحاولات مسيلمة الكذاب، وهي تعطي الدليل القاطع على أنها ليست من عند الله سبحانه، يعرف هذا من له أدنى صلة بلغة العرب فضلاً عن دين الإسلام وقواعده وأصوله، لأن الله سبحانه أنزل هذا القرآن بلسان عربي مبين. وكتاب البحار المعتمد عند الشيعة يكاد يجعل الأئمة هم كل شيء ورد به القرآن.. فيمضي في هذه الأبواب ليقرر ما شاء له هواه وتعصبه، ويصل به الأمر ليلقي كل ما في نفسه وما يخطر بباله بلا خلاف من انكشاف فضيحته، ولا حياء من زيادة وقاحته فيقول: باب أنهم البحر واللؤلؤ والمرجان، ويضمن هذا الباب سبع روايات (¬2) . فهل هم جماد؟ أو هذا عندهم رمز باطني، وإشارة سرية إليهم!! ولكنهم ليسوا بجماد، فهو يعقد باباً بعنوان: باب أنهم الناس، ولا يذكر فيه سوى ثلاث روايات (¬3) . ويقرر في هذا الباب بأن غير الأئمة ليسوا من الناس.. ويعود ليتابع بسط مذهبهم الغريب الشاذ، والذي لم يكن معروفاً عن الاثني عشرية عند علماء المسلمين السابقين، بل هذا المذهب مشتهر عن الباطنية (¬4) . يعود ليعقد باباً بعنوان: باب نادر في تأويل ¬
النحل بهم، وذكر في هذا سبع روايات (¬1) . وباباً آخر بعنوان: باب في تأويل الأيام والشهور بالأئمة، ويتضمن هذا الباب أربعة أحاديث (¬2) . ولو ذهبنا ننقل أحاديث تلك الأبواب، ونتعقبها بالتحليل والنقد لاستوعب ذلك مجلدات. وقد اخترنا هنا ذكر الأبواب حتى لا يقال بأننا نعمد إلى الروايات الشاذة عندهم فنذكرها، كما أننا سنذكر بعد هذا أمثلة من روايات هذه الأبواب ونختار منها - في الغالب - ما يشترك في ذكرها مجموعة من كتبهم المعتمدة. وهذه الأبواب التي أوردناها هي قليل من كثير، وقد جاءت في أكبر موسوعة حديثية عند الشيعة وهو كتاب البحار، والذي قال شيوخهم المعاصرون في وصفه: "أجمع كتاب في فنون الحديث" (¬3) ، "لم يكتب قبله ولا بعده جامع مثله" (¬4) ، "وقد صار مصدراً لكل من طلب باباً من أبواب علوم آل محمد صلى الله عليه وسلم" (¬5) ، "هو المرجع الوحيد في تحقيق معارف المذهب" (¬6) . أما مؤلفه فهو عندهم: "شيخ الإسلام والمسلمين" (¬7) ، "رئيس الفقهاء والمحدثين، آية الله في العالمين، ملاذ المحدثين في كل الأعصار، ومعاذ المجتهدين في جميع الأمصار" (¬8) . إلى آخر الألقاب التي خلعوها عليه. وتلك الروايات مصدرها طائفة من كتبهم المعتمدة، لأنه يقول: «اجتمع ¬
عندنا بحمد الله سوى الكتب الأربعة (¬1) . نحو مائتي كتاب ولقد جمعتها في بحار الأنوار" (¬2) . ويقول صاحب الذريعة: "وأكثر مآخذ البحار من الكتب المعتمدة والأصول المعتبرة" (¬3) . وإن من له أدنى صلة باللسان العربي - كما قلت - يدرك أن هذه الأبواب وتلك الروايات إلحاد في كتاب الله، وتحريف لكلامه سبحانه عن مواضعه. وأن مثل هذه التحريفات لا تلتبس إلا على أعجمي جاهل بالإسلام ولغة العرب، ولعلها برهان واقعي على أن من حاول المساس بكتاب الله سبحانه سقط إلى هذا الدرك الهابط، وليس هذا النهج في كتب الروايات والأحاديث فحسب، فأنت إذا طالعت عمدة التفسير عند الطائفة "وأصل أصول التفاسير" (¬4) . لديها، وهو تفسير القمي ألفيته قد أخذ من تلك التفاسير الباطنية بنصيب وافر، ومثله تفسير العياشي وهو من كتب التفسير القديمة المعتمدة عندهم، وعلى نفس الطريق تجد تفسير البرهان، وتفسير الصافي وغيرها، وهي تعتمد على تفسير الآيات - بما زعموا - أنه المأثور عن جعفر الصادق أو بقية الانثي عشر. ولو ذهنا ندرس ونعرض كل كتاب تفسير على حدة لطال الموضوع وخرجنا عن المقام، وحسبنا أن نذكر أمثلة من رواياتهم في هذا الباب. ¬
أصل هذه التأويلات وجذورها، وأمثلة لها
أصل هذه التأويلات وجذورها، وأمثلة لها: أ- أصل هذه التأويلات: مضى القول بأن كتب الشيعة تزعم أن القرآن لا يحتج به إلا بقيم، وأن هذا القيم - والمتمثل بالاثني عشر - عنده علم القرآن كله ولا يشركه في ذلك أحد، ثم جعلت لهذا القيم وظيفة "المشرع" في تخصيص عام النصوص، وتقييد مطلقها، وبيان مجملها، ونسخ ما شاء منها، لأنه مفوض في أمر الدين كله، ثم بررت ضرورة وجود هذا القيم لتأويل القرآن بقولها: بأن للقرآن معاني باطنة تخالف الظاهر، ثم كشفت عن علم هذا الباطن المدخر عند الأئمة بأنه يعني الأئمة الاثني عشر وأعداءهم (وهم الصحابة ومن تبعهم بإحسان) ، ومعظم موضوعات القرآن لا تتعدى - عندهم - هذا الشأن، ثم وضعت هذه النظريات موضع التنفيذ، حيث قام شيوخ الشيعة بوضع مئات الروايات في تفسير معاني القرآن بالأئمة أو مخالفيهم، أو بعقيدة أخرى من عقائدهم التي شذوا بها عن جماعة المسلمين. ويرى بعض الباحثين (¬1) . أن أول كتاب وضع الأساس لهذا اللون من تفسير الشيعة هو تفسير القرآن الذي وضعه في القرن الثاني للهجرة (جابر الجعفي) (¬2) . ¬
وقد أشار إلى هذا التفسير طائفة من شيوخ الشيعة (¬1) ، وكان هذا التفسير - كما تشير بعض رواياتهم - موضع التداول السري، فيروي الكشي بسنده عن المفضل بن عمر الجعفي، قال: "سألت أبا عبد الله - عليه السلام - عن تفسير جابر؟ فقال: لا تحدث به السفلة فيذيعوه" (¬2) . وتجد روايات كثيرة متفرقة في كتب الشيعة مروية عن هذا الجعفي، وينسبها لجعفر بن محمد أو أبيه (¬3) . ويبدو أن الشيعة لا يمكن أن تثبت لها قدم، أو تحتج بدليل من كتاب الله إلا بمثل هذه التأويلات الباطنية، ولهذا بدأ هذا النهج مبكراً كما نلاحظ، بل يمكن أن يقال: إن جذور هذه العقيدة قد نبتت في أروقة السبئية.. لأن ابن سبأ هو الذي حاول أن يجد لقوله بالرجعة مستنداً من كتاب الله بالتأويل الباطل وذلك حينماً قال: العجب ممن يزعم أن عيسى يرجع ويكذب بأن محمداً يرجع. وقد قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى ¬
مَعَادٍ} (¬1) . وقد نقلت لنا بعض كتب أهل السنة نماذج من تأويلات الشيعة لكتاب الله، ولكن ما انكشف لنا اليوم أمر لا يخطر على البال. ويبدو أن ما نسبه بعض أئمة السنة لغلاة الشيعة من تأويلات قد ورثتها الاثنا عشرية. فالإمام الأشعري (¬2) ، وكذلك البغدادي (¬3) ، والشهرستاني (¬4) . وغيرهم يحكون عن المغيرة بن سعيد أحد الغلاة باتفاق السنة والشيعة والذي تنسب إليه طائفة المغيرية (¬5) . أنه ذهب في تأويل الشيطان في قول الله جل شأنه: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ} (¬6) . بعمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. وهذا التأويل بعينه قد ورثته الاثنا عشرية، ودونته في مصادرها المعتمدة، حيث جاء في تفسير العياشي (¬7) ، والصافي (¬8) ، والقمي (¬9) ، والبرهان (¬10) ، وبحار ¬
الأنوار (¬1) ، عن أبي جعفر في قول الله: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ} (¬2) . قال: "هو الثاني، وليس في القرآن شيء: "وقال الشيطان" إلا وهو الثاني" فكأن كتب الاثني عشرية تزيد على المغيرة بوضع هذا الإلحاد في كتاب الله قاعدة مطردة. وفي الكافي عن أبي عبد الله قال: "وكان فلاناً شيطاناً (¬3) ، قال المجلسي في شرحه على الكافي: المراد بفلان عمر" (¬4) . فهذه الروايات التي تسندها كتب الشيعة الاثني عشرية إلى أبي جعفر الباقر هي من أكاذيب المغيرة بن سيعد وأمثاله، فقد ذكر الذهبي عن كثير النواء (¬5) . أن أبا جعفر قال: "برئ الله ورسوله من المغيرة بن سعيد، وبيان بن سمعان فإنهما كذبا علينا أهل البيت" (¬6) ، وروى الكشي في رجاله عن أبي عبد الله قال: "لعن الله المغيرة بن سعيد كان يكذب علينا" (¬7) . وساق الكشي روايات عديدة في هذا الباب (¬8) . وأشارت روايات الكشي إلى أن المغيرة بن سعيد كان يأخذ ضلاله من مصدر يهودي، ففي رجال الكشي أن أبا عبد الله قال يوماً لأصحابه: "لعن الله المغيرة بن سعيد ولعن يهودية كان يختلف إليها يتعلم منها السحر والشعبذة (كذا) والمخاريق" (¬9) . ويلاحظ أنه اتفق كل من الأشعري، والبغدادي، وابن حزم، ونشوان ¬
الحميري على أن جابر الجعفي الذي وضع أول تفسير للشيعة على ذلك النهج الباطني كان خليفة المغيرة بن سعيد (¬1) . الذي قال: بأن المراد بالشيطان في القرآن هو أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه -، فهي عناصر خطرة يستقي بعضها من بعض عملت على إفساد التشيع. ب- أمثلة من تأويلات الشيعة لآيات القرآن: حين احتج شيخ الشيعة في زمنه - والذي إذا أطلق لقب "العلامة" عندهم انصرف إليه (ابن المطهر الحلي) - على استحقاق علي للإمامة بقوله: "البرهان الثلاثة قوله تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ، بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} قال: علي وفاطمة، {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} النبي صلى الله عليه وسلم، {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} ، الحسن والحسين". حينما احتج ابن المطهر بذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن هذا وأمثاله إنما يقوله من لا يعقل ما يقول، وهذا بالهذيان أشبه منه بتفسير القرآن وهو من جنس تفسير الملاحدة والقرامطة الباطنية للقرآن، بل هو شر من كثير منه. والتفسير بمثل هذا طريق الملاحدة، بل هو شر من كثير منه، والتفسير بمثل هذا طريق للملاحدة على القرآن والطعن فيه، بل تفسير القرآن بمثل هذا من أعظم القدح والطعن فيه" (¬2) . وأقول: كيف لو رأى شيخ الإسلام ما أودع في الكافي والبحار، وتفسير العياشي، والقمي، والبرهان، وتفسير الصافي وغيرها من تحريف لمعاني القرآن سموه تفسيراً؟!. وبين يدي مجموعة كبيرة من هذا اللون.. يستغرق عرضها المجلدات (¬3) ، ¬
ركام هائل من الروايات.. حجبت الشيعة عن نور القرآن وهديه.. فالتوحيد الذي هو أصل دعوة الرسل.. وجوهر رسالتهم.. هو عندهم ولاية الإمام، فيرون عن أبي جعفر أنه قال: "ما بعث الله نبياً قط إلا بولايتنا والبراءة من عدونا، وذلك قول الله في كتابه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} (¬1) . (¬2) . ورواياتهم في هذا الباب كثيرة - كما سيأتي - (¬3) . والإله في كتاب الله هو الإمام، فقوله تعالى: {لاَ تَتَّخِذُواْ إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ} (¬4) . قال أبو عبد الله - كما يزعمون -: "يعني بذلك لا تتخذوا إمامين إنما هو إمام واحد" (¬5) . والرب هو الإمام عندهم. وقد يلتمس لهم في هذا التأويل عذر؛ لأن للرب في اللغة استعمالات أخرى كرب البيت، ورب المال بمعنى صاحب، ولكن يمنع من ذلك أن تأويلهم للرب في الإمام جرى في آيات هي نص في الله سبحانه ولا تحتمل وجهاً آخر. وفي قوله سبحانه عن المشركين: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} (¬6) . قال القمي في تفسيره: "الكافر: الثاني (يعني عمر - رضي الله عنه وأرضاه -) كان على أمير المؤمنين عليه السلام ظهيراًط (¬7) . فاعتبر أمير المؤمنين علياً هو الرب. وقال الكاشاني "في البصائر" (¬8) . عن الباقر - عليه السلام - أنه سئل عن تفسيرها فقال (كما يفترون) : "إن تفسيرها في بطن القرآن: عليّ هو ربه في الولاية، ¬
والرب هو الخالق الذي لا يوصف"، فهذا قد يفهم منه أن علياً هو الرب الذي لا يوصف (¬1) . - كما يفترون -، لأن الآية نص في حق الباري سبحانه؟! وقد حاول صاحب تفسير الصافي تفادي هذا الأمر فقال في توضيح النص السالف: "يعني أن الرب على الإطلاق الغير المقيد بالولاية هو الخالق جل شأنه" (¬2) . ولكن نص الآية لا يؤيده فيما ذهب إليه؛ إذ إن "الرب" الوارد في الآية لم يقيد بالولاية.. فهو لا ينصرف إلا إلى الحق جل شأنه، وليس هناك أية قرينة صارفة للفظ عن معناه؛ ولهذا قال طائفة من السلف في تفسيرها: "وكان الكافر معيناً للشيطان على ربه مظاهراً له على معصيته" (¬3) . وفي قوله سبحانه: {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} (¬4) . قال المفسرون: أي أضاءت يوم القيامة إذا تجلى الحق جل وعلا للخلائق لفصل القضاء (¬5) . ولكن شيخ المفسرين عند الشيعة (إبراهيم القمي) يروي بسنده عن المفضل بن عمر أنه سمع أبا عبد الله - رضي الله عنه - يقول في قوله: {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} قال: رب الأرض يعني إمام الأرض، فقلت: فإذا خرج يكون ماذا؟ قال: إذاً يستغني الناس عن ضوء الشمس ونور القمر ويجتزون (كذا) بنور الإمام (¬6) . ويؤولون الآيات المتعلقة بصفات الله سبحانه بالأئمة، وعلى سبيل المثال قالوا: "إن الأخبار المستفيضة تدل على تأويل وجه الله بالأئمة عليهم السلام" (¬7) . ¬
يعنون أخبار الشيعة، وقد ذكر المجلسي جملة من هذه الأخبار في باب عقده بعنوان: "باب أنهم عليهم السلام جنب الله ووجه الله ويد الله وأمثالها" (¬1) . فهل يعني أنهم يفسرون قوله سبحانه: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ} (¬2) ، وقوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} (¬3) . بهذا المعنى -، وأن الأئمة لهم البقاء الدائم، بل ينفردون بذلك؟! ما كنت أظن أن الأمر يصل بهم إلى هذا حتى وقعت عيني على رواياته في كتبهم المعتمدة، ففي الآية الأولى يقول الصادق - كما يزعمون -: "نحن وجه الله" (¬4) ، وفي الآية الثانية يقول: "نحن الوجه الذي يؤتى الله منه" (¬5) . ولكن الأئمة ماتوا كالآخرين: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} (¬6) . وقد حاول صاحب الكافي أن يجعل لأئمة الشيعة ميزة ينفردون بها في حكم الموت العام فقال: "إن الأئمة يعلمون متى يموتون ولا يموتون إلا باختيار منهم" (¬7) . ولكنهم ماتوا على كل حال، ولو كان الموت حسب اختيارهم لما كان للتقية وجود.. ويقولون: إن الأسماء الحسنى الواردة في قوله سبحانه: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (¬8) . هي الأئمة، ويروون عن أبي عبد الله أنه قال: نحن والله الأسماء الحسنى الذي لا يقبل من أحد إلا بمعرفتنا، قال: {فَادْعُوهُ بِهَا} (¬9) . ¬
وسيأتي المزيد من الشواهد في مبحث عقيدتهم في الأسماء والصفات - إن شاء الله -. وهذه التأويلات التي تفسر الإله والرب و"الله" وصفاته بالإمام هي من آثار السبئية التي تذهب إلى القول بألوهية علي، وهذا الأثر السام لا يزال ينخر في كيان الاثني عشرية، ولهذا لا يزال إلى اليوم بعض شيوخ هذه الطائفة يصرح ويجاهر بهذه المقالة (كما سيأتي) (¬1) . وقد جاء في رجال الكشي بعض الروايات التي تفيد استنكار جعفر لهذه التأويلات الباطنية التي تؤله الأئمة، فقد ذكر عند جعفر - كما يروي الكشي - أن بعض الشيعة قال في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} (¬2) . قال: هو الإمام، فقال أبو عبد الله: "لا والله لا يأويني وإياه سقف بيت أبدًا، هم شر من اليهود والنصارى والمجوس والذين أشركوا، والله ما صغّر عظمة الله تصغيرهم شيء قط.. والله لو أقررت بما يقول في أهل الكوفة لأخذتني الأرض وما أنا إلا عبد مملوك لا أقدر على شيء ضر ولا نفع" (¬3) . وكما يسمى الإمام بالرب والإله عندهم، فهو أيضاً يعبر عنه بالرسول. قال صاحب مرآة الأنوار: "قد ورد تأويل الرسول بالإمام، والرسل بالأئمة في بعض الآيات بحيث يمكن سحبه إلى غيرها" (¬4) . أي أنه يمكن اعتبار الرسل حينما وقعت في القرآن يراد بها الأئمة.. ومما يدل على ذلك قولهم: "إن عمدة بعثة الرسل لأجل الولاية فيصح تأويل رسالة الرسل بما يتعلق بها" (¬5) . وهذا ليس بدليل؛ لأنه مبني على تأويل باطني لا يسلم لهم، ذلك أن عمدة بعثة الرسل هي التوحيد؛ لأن الله ¬
يقول: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} (¬1) ، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَاْ فَاعْبُدُونِ} (¬2) . ومن أمثله تأويلهم للرسول بالإمام ما يرونه عن الصادق في تفسير قوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ} (¬3) . قال: أي في كل قرن إمام يدعوهم إلى طريق الحق (¬4) . والأئمة أيضاً يعبر عنهم بالملائكة في القرآن، جاء في أخبارهم - كما يقولون - ما يدل على أن المراد بالملائكة بحسب البطن في القرآن الأئمة سواء كان المذكر بلفظ الملائكة أو غيرها مما يفيد معناه كالذين يحملون العرش وأمثاله (¬5) . والأئمة هم القرآن - كما مر (¬6) . - وهم الكتاب، ففي تفسير القمي عن الصادق في قوله سبحانه: {الم~، ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ} (¬7) . قال: الكتاب علي ولا شك فيه (¬8) . وهم الكلمة في قوله سبحانه: {وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} (¬9) . قالوا: الكلمة الإمام (¬10) ، وقوله سبحانه: {لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} (¬11) . قالوا: لا تغيير للإمامة (¬12) . وفي قوله سبحانه: {سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} (¬13) . قال إمامهم (أبو الحسن علي بن محمد) : نحن الكلمات التي ¬
لا تدرك فضائلنا ولا تستقصى (¬1) . وأخبارهم في هذا كثيرة أورد منها المجلسي في البحار (25) رواية (¬2) . وإطلاق الكلمة على الإمام قد يوضح مدى التأثر بالنصرانية في إطلاق الكلمة على المسيح - عليه السلام - لكن تسمية المسيح كلمة الله؛ لأن مثله عند الله كمثل آدم خلقه من تراب، ثم قال له كن فيكون، فهو مخلوق بالكلمة، وأما علي فهو مخلوق كما خلق سائر الناس (¬3) . والصراط المستقيم - في قوله تعالى -: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} (¬4) . هو أمير المؤمنين (¬5) . عندهم. والشمس هي علي، فيروون عن الصادق في قوله: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} (¬6) . قال: "الشمس أمير المؤمنين، وضحاها: قيام القائم" (¬7) . فهل يعني هذا أنه لما مات أمير المؤمنين اختفت الشمس من الوجود؟!، والناس في ظلمة حتى يشرق ضحى القائم المنتظر؟ ! والمسجد، والمساجد، والكعبة، والقبلة هي الإمام والأئمة، فيروون عن الصادق في قوله تعالى: {وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (¬8) . قال: يعني ¬
الأئمة (¬1) . وفي رواية أخرى عنه في قوله تعالى: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (¬2) . قال: يعني الأئمة (¬3) . وفي قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (¬4) . قال: إن الإمام من آل محمد فلا تتخذوا من غيرهم إماماً (¬5) ، ويقول الصادق- عندهم -: "..نحن البلد الحرام، ونحن كعبة الله، ونحن قبلة الله" (¬6) . والسجود: هو ولاية الأئمة وبهذا يفسرون قوله تعالى: {وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} (¬7) . حيث قالوا: "أي يدعون إلى ولاية علي في الدنيا" (¬8) . ولعل مثل هذه الروايات هي السبب في شيوع عبادة الأئمة، وأضرحتهم، وعمارة المشاهد وتعطيل المساجد، لأن المشاهد هي المساجد، والإمام هو كعبة الله وقبلته، ولهذا صنفوا كتباً سموها: "مناسك المشاهد" أو "مناسك الزيارات"، أو "المزار" (¬9) ، واعتنوا ببيان فضائلها وآدابها، وأخذت هذه المسائل في كتبهم ¬
المعتمدة قسماً كبيراً (¬1) . - كما سيأتي تفصيله - (¬2) . والتوبة ومعناها معروف (الرجوع من المعاصي إلى طاعة الله) ولكن الشيعة تفسر التوبة بالرجوع من ولاية أبي بكر وعمر وبني أمية إلى ولاية علي، ففي قوله سبحانه: {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} (¬3) . جاء تأويلها عندهم في ثلاث روايات، تقول الأولى: {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا} من ولاية فلان وفلان (يعنون أبا بكر وعمر) وبني أمية، وتقول الرواية الثانية: {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا} من ولاية الطواغيت الثلاثة (يعنون أبا بكر وعمر وعثمان) ومن بني أمية، {وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} يعني ولاية علي، وتقول الثالثة: {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا} من ولاية هؤلاء وبني أمية {وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} هو أمير المؤمنين (¬4) . وكل الروايات الثلاث المذكورة منسوبة لأبي جعفر محمد الباقر، وعلمه ودينه ينفيان صحة ذلك عنه. وهذه الأخبار تقدّم لنا مفهوماً جديداً للتوبة، إذ هي في حقيقتها موالاة رجل، ومعاداة آخر، وليس هناك بُعْدٌ آخر غير هذا.. فالتوبة لا تكون إلا في مسألة ولاية الإمام، وغيرها لا يستحق الإنابة والرجوع، ولهذا لم يرد له ذكر، وكأن الشيعة بهذا تجعل من والى علياً ليس عليه ذنب، وإن بلغت ذنوبه مثل قراب الأرض، وتجعل موالاة أفضل الخلق بعد النبيين أبي بكر وعمر وعثمان هو الكفر الذي لا ينفع معه عمل. فهل هذا هو الإسلام.. وهل الرسول وصحبه لم يجاهدوا إلا لإقرار هذا الأمر؟! ¬
ثم ما تأثير مثل هذه الروايات على من يؤمن بها ويعتقد أنها صادرة من محمد الباقر؟ ألا تهون في نفسه المعصية، وتدفعه إلى ارتكاب كل موبقة.. وتثبطه عن عمل الخير، واصطناع المعروف.. بلى، إن هذا وراد، بل وراد، بل قد يكون حاصلاً، فقد اطلعت في الكافي على شهادة هامة في هذا الباب تتضمن شكوى أحد الشيعة لإمامه من سوء أخلاق أبناء طائفته، وأنه ليعجب من البون الشاسع بين ما يجده عند أصحابه وبين ما يراه عند أهل السنة (¬1) ، وقد نقل لنا الشوكاني ملاحظات قيمة في هذا سجلها أثناء خلطته مع الشيعة (¬2) ، وسيأتي حديث في هذا الشأن في فصل "أثرهم في العالم الإسلامي". والصلاة، والزكاة، الحج، والصيام.. أركان الإسلام ومبانيه العظام هي عند الشيعة بمعنى الأئمة في القرآن، فيروون عن أبي عبد الله: "نحن الصلاة في كتاب الله عز وجل ونحن الزكاة ونحن الصيام ونحن الحج" (¬3) . بل إن الدين كله هو عندهم ولاية علي، ويروون عن جعفر الصادق في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ} (¬4) . قال: "ولاية علي - رضي الله عنه - {فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ ¬
وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} لولاية علي" (¬1) . وفي تفسير القمي في قوله تعالى: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ..} (¬2) . قال: الإمام، {وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} ، كناية عن أمير المؤمنين - رضي الله عنه -، {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} من أمر ولاية علي، {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ} كناية عن علي - عليه السلام - (¬3) . وإذا كان الأمر كذلك لماذا لا يسمى دين (المنتظر) أو دين الولاية، أو الولاية نفسها.. وحقيقة الأمر أن هذا دين آخر غير دين الإسلام، هذا الدين معناه طاعة رجل وقد ورثته الاثنا عشرية - فيما يظهر - عن الكيسانية (¬4) . - حيث إنهم - كما يقول الشهرستاني: "يجمعهم القول بأن الدين طاعة رجل، حتى حملهم ذلك على تأويل الأركان الشرعية من الصلاة والصيام والزكاة والحج وغير ذلك على الرجال ... ومن اعتقد أن الدين ¬
طاعة رجل ولا رجل له، لأنه (غائب في سردابه) فلا دين له.." (¬1) . فقد انحصر الدين عندهم بولاية رجل هو علي، وأصبح ما يدل عليه من الطاعة لله ورسوله واتباع المعروف والانتهاء عن المنكر.. خارجاً عن معنى الدين حسب رواياتهم. ولفظ الأمة - ومعناه معروف - وقد ورد هذا اللفظ (49) مرة في كتاب الله، والشيعة تفسره بالأئمة أو بالشيعة. قال في مرآة الأنوار: "إن الله يستفاد من رواياتنا على اختلاف ألفاظها تأويل الأمة فيما يناسب بالأئمة عليهما السلام وبأهل الحق والشيعة المحقة وإن قلوا ... " (¬2) . ثم ساق طائفة من رواياتهم في هذا التأويل نقلها من مجموعة من كتبهم المعتمدة، وإذا كانت الأمة بمعنى الأئمة فهذا يعني أن القرآن نزل للأئمة فقط، وأن الأمة غير مخاطبة بالقرآن ولا مكلفة به. وليس ذلك فحسب بل إن الجمادات تفسر بالأئمة. فالبئر - ومعناه واضح - ولكن الشيعة تفسره في القرآن "بعلي-رضي الله عنه-، وبولايته، وبالإمام الصامت - يعنون القرآن - والإمام الغائب، وبفاطمة وولدها المعطلين من الملك (¬3) ، وبذلك يفسرون قوله تعالى: {فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ} (¬4) . وقد جاء في تفسير البرهان خمس روايات لهم في هذا المعنى (¬5) . والبحر - وقد ورد في كتاب الله في أكثر من ثلاثة وثلاثين موضعاً بالمعنى المعروف -، ولكن الشيعة تفسر البحر والبحار بالإمام والأئمة وأعدائهم. وقد أورد ¬
صاحب مرآة الأنوار جملة من روايات طائفته في هذا التأويل، ثم قال: "ولا يخفى أن المستفاد من ذلك جواز تأويل البحر والبحار العذبة.. المشتملة على المدح والنفع بالإمام والأئمة، بل بفاطمة.. وتأويل البحر والبحار المالحة بأعدائهم (¬1) . وقد جاء في تفسير القمي وغيره عن أبي عبد الله في قوله سبحانه: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} (¬2) . قال: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} علي وفاطمة بحران عميقان لا يبغي أحدهما على صاحبه، {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} الحسن والحسين (¬3) . وتفسير المعاني والمثل العليا بالإمامة والأئمة. فالخير هو الولاية. يقول الكاظم - كما يدعون - في قوله تعالى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} (¬4) . قال: الولاية (¬5) . وفي قوله سبحانه: {فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ} (¬6) ، قال أبو جعفر: {الْخَيْرَاتِ} الولاية (¬7) . والآيات الكونية تؤول بالأئمة، فالأئمة هم العلامات في قوله تعالى: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} (¬8) . قال أبو عبد الله - كما يروون -: "النجم رسول الله، والعلامات هم الأئمة عليهم السلام" (¬9) . وعقد الكليني باباً في هذا ¬
بعنوان: "باب أن الأئمة هم العلامات التي ذكرها الله عز وجل في كتابه" (¬1) . وتبعه المجلسي وعنون لبابه بقوله: "باب أنهم عليهم السلام النجوم والعلامات" (¬2) . وسياق الآية، وما ورد عن السلف ينفي ما ذهبوا إليه في تأويل الآية (¬3) . وأحوال اليوم الآخر يفسرونها برجعة الأئمة أو الولاية، فالساعة، والقيامة، والنشور وغيرها من الأسماء التي تتعلق باليوم الآخر تفسر في الغالب عند هؤلاء برجعة الأئمة. ويقدم صاحب مرآة الأنوار قاعدة في هذا فيقول: "كل ما عبر به بيوم القيامة في ظاهر التنزيل فتأويله بالرجعة" (¬4) . ويقول المجلسي عن لفظ الساعة في القرآن: إن الساعة ظهرها القيامة، وبطنها الرجعة (¬5) . وقد ورد أيضاً عندهم تأويل الساعة بالولاية، فيروون عن الرضا في قوله سبحانه: {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ} (¬6) . قال: يعني كذبوا بولاية علي (¬7) . والحياة الدنيا: هي الرجعة، قال صاحب مرآة الأنوار: جاء ما يدل على تأويل الدنيا بالرجعة، وبولاية أبي بكر وعمر (¬8) ، ففي قوله سبحانه: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (¬9) . قال جعفر: يعني في الرجعة (¬10) ، وفي قوله ¬
سبحانه: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} (¬1) . قال: ولايتهم (¬2) . (يعني ولاية أبي بكر وعمر وعثمان) . والتأويلات الباطنية لا ضابط لها، فأنت ترى "أن الآخرة تؤول بالرجعة، والحياة الدنيا تؤول بها كذلك على ما بينهما من تفاوت، كما تلحظ أن الحياة الدنيا فسرتها تأويلاتهم مرة بالرجعة، ومرة بالولاية على ما بينهما من اختلاف.. فهي أقوال عشوائية لا تستند إلى أصل ولا فرع، بل ولا عقل". وتأويلهم لكثير من آيات القرآن بالإمامة والأئمة يربو على الحصر وكأن القرآن لم ينزل إلا فيهم، ولقد تجاوزوا في هذه الدعاوى كل معقول، وأسفوا في تأويلاتهم إلى ما يشبه هذيان المعتوهين حتى قالوا: إن النحل في قوله سبحانه: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} (¬3) . هم الأئمة، وروى القمي بإسناده إلى عبد الله قال: نحن النحل التي أوحى الله إليها {أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا} أمرنا أن نتخذ من العرب شيعة {وَمِنَ الشَّجَرِ} يقول: من العجم {وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} يقول: من الموالي.." (¬4) . وجمع المجلسي رواياتهم في هذا المعنى في باب بعنوان: "باب نادر في تأويل النحل بهم عليهم السلام" (¬5) ، كما جاء بروايات تقول: "إن الأئمة هم الماء المعين والقصر المشيد السحاب والمطر والفواكه وسائر المنافع الظاهرة" (¬6) . وفي الباب الذي عقده بعنوان: «باب تأويل الأيام والشهور بالأئمة (¬7) . جاء فيه: "نحن الأيام؛ فالسبت اسم رسول الله، والأحد كناية عن أمير المؤمنين، ¬
والاثنين الحسن والحسين، والثلاثاء علي بن الحسين، ومحمد بن علي، وجعفر بن محمد، والأربعاء موسى بن جعفر، وعلي بن موسى ومحمد بن علي وأنا، والخميس، ابني الحسن بن علي، والجمعة ابن ابني.." (¬1) . ومن الطريف أن بعض الأيام حظيت في أخبار الشيعة بالذم كيوم الاثنين (¬2) ، فهل يتوجه هذا الذم إلى بعض الأئمة؛ لأن الأئمة هم الأيام؟! ويروي جابر الجعفي قال: سألت أبا جعفر عن تأويل قول الله عز وجل: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ..} (¬3) . قال: فتنفس سيدي الصعداء ثم قال: "يا جابر، أما السنة فهي جدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهورها اثنا عشر شهراً فهو أمير المؤمنين إلي (¬4) . وإلى ابني جعفر وابنه موسى وابنه علي وابنه محمد وابنه علي، وإلى ابنه الحسن وإلى ابنه محمد الهادي المهدي اثنا عشر إماماً ... والأربعة الحرم الذين هم الدين القيم أربعة منهم يخرجون باسم واحد: علي أمير المؤمنين - رضي الله عنه - وأبي علي بن الحسين، وعلي بن موسى، وعلي بن محمد، فالإقرار بهؤلاء هو الدين القيم {فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ} أي: قولوا بهم جميعاً تهتدوا" (¬5) . والبعوضة (وهي حشرة صغيرة معروفة) ورد ذكرها في سورة البقرة (¬6) . ¬
هي علي عندهم (¬1) . ولفظ (الذباب) يؤول بعلي في تفسير الشيعة (¬2) ، كما أولوا البعوضة وحاول بعضهم أن يلطف من هذا التأويل فزعم أنه ذباب العسل (¬3) ، وفاته أنهم يؤولون به قوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} (¬4) . وما أدري ما السر في إطلاق أسماء أحط الحشرات على أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه وأرضاه - من طائفة تزعم محبته والتشيع له؟!. ولكن قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر، وتاريخهم الفعلي مع آل البيت أشد وأشنع. وقبور الأئمة لها نصيب من تأويلاتهم، فالبقعة المباركة في قوله سبحانه: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ} (¬5) . هي كربلاء (¬6) ، ومن المعروف أنها كانت في طور سيناء بنص القرآن في الآية التي قبلها: {مِن جَانِبِ الطُّورِ} . وكما خصت هذه الروايات أئمة الشيعة بهذه الآيات كذلك تخص أتباعها بآيات من كتاب الله حتى تذهب إلى أن الشيعة هي الشيء (¬7) . في قوله سبحانه: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (¬8) . لتقصر رحمة الله الواسعة على الشيعة، وتضيق ما وسعه الله على عباده. ولفظ "الشر" و"الكفر" و"الردة" و"الضلال" في كتاب الله يؤولونه بغير ¬
ما يعرفه المسلمون من هذه "الألفاظ"؛ حيث يفسرون هذه الألفاظ بترك بيعة الاثني عشر (على الرغم من أنهم لم يتولوا الحكم ما عدا أمير المؤمنين علي) ، وشواهد هذا كثيرة بلغت عشرات الروايات، وقد أشرنا فيما سلف إلى أن شيخهم المجلسي عقد أبواباً في بحاره تحمل عناوين في التأويل الباطني تضمن بعضها مائة رواية، ولكن هنا نذكر مجرد أمثلة لهذه الأحاديث، فقد روت كتب الشيعة في قوله سبحانه: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} (¬1) . قالت: "لئن أشركت في إمامة علي ولاية غيره" (¬2) . قال صاحب مرآة الأنوار: "فعلى هذا جميع المخالفين مشركون" (¬3) . وقال: "إن الأخبار (أخبار الشيعة) متضافرة في تأويل الشرك بالله، والشرك بعبادته بالشرك في الولاية والإمامة" (¬4) ، ولذلك حكموا على صحابة رسول الله بالردة - كما سيأتي (¬5) . - لمبايعتهم لأبي بكر دون علي. وكذلك يؤولون الكفر بذلك، جاء في الكافي: "عن أبي عبد الله في قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} (¬6) . قال: نزلت في فلان وفلان وفلان (¬7) . آمنوا بالنبي - صلى الله عليه وآله - في أول الأمر، وكفروا حيث عرضت عليهم الولاية.. ثم آمنوا ¬
بالبيعة لأمير المؤمنين - عليه السلام - ثم كفروا حيث مضى رسول الله - صلى الله عليه وآله - فلم يقروا بالبيعة، ثم ازدادوا كفراً بأخذهم من بايعه بالبيعة لهم فهؤلاء لم يبق فيهم من الإيمان شيء (¬1) . فأنت ترى أنهم خصوا أفضل الخلق بعد النبيين بهذا الحكم، فما بالك بمن دونهم من سائر أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أشار بعض شيوخهم إلى وجه هذا التخصيص فقال: "ورد في بعض الروايات تأويل الكفر برؤساء المخالفين، لاسيما الثلاثة: (يعنون الخلفاء الراشدين) مبالغة بزيادة كفرهم وجحدهم" (¬2) . ولفظ: "الردة" يعني الردة عن بيعة أحد الاثنى عشر. جاء في أصول الكافي وغيره عن أبي عبد الله في قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى..} (¬3) . (قال) فلان وفلان وفلان ارتدوا من الإيمان في ترك ولاية أمير المؤمنين.. (¬4) . والضلال هو عدم معرفة الإمام، ففي قوله سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ ... } (¬5) . قال: "يعني ضلوا في أمير المؤمنين" (¬6) . وفي قوله سبحانه: {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} (¬7) . قال: ¬
"الضالين: الذين لا يعرفون الإمام" (¬1) . إن تفسير الكفر والشرك، والردة والضلال بترك بيعة الاثني عشر فضلاً عن أنه لا سند له من نقل أو عقل أو لغة أو شرع فإنه - ولعل ذلك هو هدف واضع الروايات - ينتهي بالمؤمن به إلى تفضيل الكفر والكافرين على سائر المسلمين من غير الشيعة، (لأن رأس الكفر ترك الولاية) ، وهذا ما يصدقه تاريخ الشيعة مع المسلمين، كما أنه يهون أمر الشرك والإلحاد، وهذا هدم لأصول الإسلام، ومحاربة لرسالة محمد بن عبد الله - عليه الصلاة والسلام - الذي بعث لمحاربة الشرك والكفر والضلال، وإرساء قواعد التوحيد وشريعة الإسلام. والكبائر وسائر المحرمات هي عندهم أعداء الأئمة. يقول أبو عبد الله - كما يزعمون -: "..وعدونا في كتاب الله عز وجل: الفحشاء والمنكر والبغي والخمر والميسر والأنصاب والأزلام والأصنام، والأوثان والجبت والطاغوت والميتة والدم ولحم الخنزير.." (¬2) . وقد أشرنا من قبل إلى أن تأويل المحرمات بأعداء الأئمة قد جاء في أبواب عدة في البحار تضمنت عشرات الأحاديث. وقد جاء في بعض مصادرهم المعتمدة عندهم ما يكشف واضع هذه الأسطورة، ويبين أن أصل تأويل المحرمات بأعداء الأئمة، وتأويل الفرائض بالأئمة هو: أبو الخطاب الذي تبرأ منه الأئمة ولعنوه، وففي رجال الكشي: "كتب أبو عبد الله إلى أبي الخطاب: بلغني أنك تزعم أن الزنا رجل وأن الخمر رجل وأن الصلاة رجل وأن الصيام رجل وأن الفواحش رجل، وليس هو كما تقول.." (¬3) . وتذكر كتب المقالات عن بعض غلاة الشيعة القول بأن المحرمات كلها أسماء رجال أمرنا الله تعالى بمعاداتهم، وأن الفرائض أسماء رجال أمرنا بموالاتهم (¬4) . ¬
ويقول الشهرستاني: "إنما مقصودهم من حمل الفرائض والمحرمات على أسماء رجال: هو أن من ظفر بذلك الرجل وعرفه فقد سقط عنه التكليف وارتفع الخطاب" (¬1) . وكل ذلك ورثته الاثنا عشرية وأحيته وتولى كبر نشره القمي (صاحب التفسير) ، والكليني، والعياشي، والكاشاني، والمجلسي، وغيرهم من شيوخ الدولة الصفوية الذين "أحيوا" كل أساطير غلاة الفرق الشيعية، وأدخلوه في المعتقد الاثني عشري كروايات عن الأئمة. هذا وتأويلاتهم في هذا الباب يستغرق ذكرها مجلدات، ولهم في كل عقيدة شذوا بها كالرجعة، والغيبة، والتقية وغيرها تأويلات وافتراءات تربو على الحصر، وسنأتي - إن شاء الله - على شيء منها عند بحثنا لهذه المسائل. وما ذكرناه هنا جزء قليل مما جمعناه ولم نذكره خشيه الإطالة.. وما جمعناه هو كقطرة من بحر مظلم.. عرضه ونقده يستوعب المجلدات.. وكل مثال من هذه الأمثلة - في الغالب - يكشف لنا عن عقيدة من عقائد القوم في الألوهية والنبوة، والأسماء والصفات، وأركان الإسلام وغيرها. هذا وقبل أن أرفع القلم عن هذا الموضوع أسجل الملاحظات التالية: 1- فيما مضى من مباحث ذكرنا ما يقوله الشيعة من أن جل القرآن نزل فيهم وفي أعدائهم، ثم قدمت أمثلة لتحريف الشيعة لمعاني القرآن.. وكل ذلك يؤكد ما تذهب إليه الشيعة من القول بأن أكثر القرآن قد اشتمل على ذكر الأئمة الاثني عشر ومخالفيهم.. فهذه المسألة حشد لها شيوخ الشيعة آلاف النصوص كما أسلفنا الإشارة إلى شيء منها.. وبعد ذلك كله نجد من نصوصهم نفسها ما ينقض هذه الدعاوى كلها جملة واحدة. يقول هذا النص الذي يروونه عن أبي عبد الله جعفر الصادق: "لو قرئ ¬
القرآن كما أنزل لألفيتنا فيه مسمين" (¬1) . فهذا اعتراف منهم بأنه ليس لأئمتهم ذكر في كتاب الله، ولم يرد لهم تسمية فيه.. فكأنهم يخربون بيوتهم بأيديهم. ولعل السر في ذلك أن واضع هذا النص قد اهتم بتأييد مسألة التحريف - وسيأتي بحثها - ونسي ما وضع من قبل، والاختلاف والتناقض قد يكون عقوبة إلهية لمن يضع في الدين ما ليس منه، كما يؤخذ ذلك من قوله سبحانه: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} (¬2) . فهو برهان أكيد على أنه ليس من عند الله سبحانه.. وقد مضى من قبل الإشارة إلى نص آخر لهم يجعل من كتاب الله سبحانه أربعة أقسام وليس في قسم منها ذكر للأئمة (¬3) . وجاء في رجال الكشي نص هام ينسف كل ما بنوه من هذا التفسير الباطني، فقد نقل لأبي عبد الله جعفر ما يقوله أولئك الزنادقة من تأويل آيات الله سبحانه بتلك التأويلات الباطنية "حيث قيل له: روي عنكم أن الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجال؟ فقال: ما كان الله عز وجل ليخاطب خلقه بما لا يعملون" (¬4) . أي يستحيل أن يخاطب الله سبحانه عباده بما لا سبيل لهم إلى معرفته والاهتداء إلى معناه؛ لأن هذا يتنافى مع الحكمة في إنزال القرآن لهداية الناس والدعوة إلى عبادة الله، ويتنزه الله سبحانه أن يأمر عباده بتدبر القرآن وهو غير قابل للتدبر والفهم، ويتقدس سبحانه أن يخاطب عباده بألغاز وطلاسم. وهذا القول من أبي عبد الله الذي ورد في أوثق كتب الرجال عند الشيعة يهدم كل ما بنوه من تلك التحريفات وذلك الإلحاد في كتاب الله وآياته. هذا نقض للمسالة من نصوصهم نفسها، أو ما يسمى بالنقد الداخلي للنصوص، وإلا فإن المتأمل لآيات القرآن بمقتضى اللغة العربية التي نزل بها: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ ¬
قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (¬1) لا يجد فيه ذكراً لما يدعون، والروايات التي يذكرونها يكفي في بيان فسادها مجرد عرضها، فهي تحمل بنفسها ما يهدم بنيانها من الأساس، فهل يصدق أحد أن لعلي في القرآن (1154) اسماً؟ وهل يدخل عقل أحد أن من أسماء علي البعوضة والذباب؟ وهل يوافق مؤمن على القول بأن ما ورد من آيات عن اليوم الآخر هي خاصة بعقيدة رجعة الأئمة؟ وكيف تناقش من يقول بأن آيات الإيمان والمؤمنين هي في الأئمة الاثني عشر، وآيات الكفر والكافرين هي في الصحابة؟! وإنني هنا أذهب إلى القول بأن هذا المستوى الذي هبط إليه هؤلاء هو من معجزات هذا الدين العظيم، فما من أحد ادعى نبوة أو وحياً وأراد أن يضع في الدين ما ليس منه إلا وفضحه الله على روؤس الأشهاد، وتالله إن هذه المقالات التي لا يمكن بحال أن تتفق مع العقل والنقل ولا اللغة والدين هي من أعظم فضائح القوم وعوراتهم.. وبها يكشف الله سبحانه وتعالى كذبهم وبهتانهم. إن مطابع النجف وطهران وقم وبمبي قد أخرجت لنا تراثاً شيعياً ضخماً يمثل ديناً بأكمله، لعل أقرب تسمية له هو دين الولاية، أو الإمامة، ولم تتوفر هذه الكتب للمسلم كما توفرت اليوم.. دين وضعه المجلسي والكليني وغيرهما من أساطين التشيع، وسينكشف من خلاله أمور كثيرة لم تكن معروفة من قبل.. ويبدو من الاطلاع عليه عظمة هذا الدين الإلهي وسر خلوده، إذ بضدها تتميز الأشياء فلولا المر ما عرف طعم الحلو. ولعلي أقول إن هذا الإحياء لهذا التراث الشيعي الضخم دليل على قرب نهايته فقد عاشوا يبشرون بمعتقدهم بتقية ومصانعة انخدع بها الكثير وهاهي كتبهم اليوم المعتمدة تظهر بشكل وفير في وقت تطلع الناس لمعرفة ما عندهم، لتسهم في كشف عوارهم.
ملاحظات مهمة على معتقدهم في تأويل القرآن
2- هذه التأويلات الباطنية المستفيضة في كتب الاثني عشرية هي مجهولة للكثير ممن يكتب عن هذه الطائفة.. وحسبك أن تجد ممن كتب عن الاثني عشرية من يعتبرها بعيدة كل البعد عن الاتجاه الباطني، ويظن أن التأويل الباطني مقصور أمره على طائفة الإسماعيلية. يقول بعض من كتب عن الفرق: "جعل الإسماعيلية للأئمة صفات لم تعرفها فرق الشيعة الأخرى، ذلك أنهم يقولون ظاهراً: إن الأئمة بشر كسائر الناس يأكلون وينامون ويموتون، ولكنهم في تأويلاتهم الباطنية يقولون: إن الإمام هو: "وجه الله" "ويد الله" "وجنب الله" (¬1) . ويلاحظ أن هذا هو عين ما تذهب إليه طائفة الاثني عشرية، وجاءت أخبار كثيرة عندهم في إقرار هذا الغلو، وخصص المجلس لذلك باباً من أبواب بحاره - كما أسلفنا - وهو «باب أنهم - عليهم السلام - جنب الله ووجه الله ويد الله وأمثالها" (¬2) . والسر في هذا الجهل المتفشي بين طبقة من الكتاب هو أن كتب الاثني عشرية نوعان: كتب للدعاية للمذهب وضعت بأسلوب التقية.. والنوع الثاني:- وهو المعتبر عندهم - كتب الحديث الثمانية المعتمدة عندهم وكتب الرجال الأربعة، وما في درجة هذه الكتب من كتب شيوخهم. فمن يعتمد على الأول وحده يفوته الكثير من أمورهم، والتي قد تشير إليها كتب الدعاية إشارة لا يفهمها إلا شيوخهم، أو من هو على صلة وفهم لكتبهم المعتمدة. 3- يلاحظ أن هذه التأويلات ليست عندهم آراء اجتهادية في تأويل القرآن قابلة للأخذ والرد والمناقشة والتعديل، بل هي في مقاييسهم نصوص شرعية لها سمة الوحي وأهميته، وقدسية النص النبوي وشرعيته. وقد جاءت عندهم نصوص كثيرة تحذر وتنذر من رد أمثال هذه النصوص التي لا تتفق مع العمل والفطرة، ولا مع المنطق واللغة. وأن الواجب التسليم وعدم الاعتراض، على لغة: "أطفئ مصباح عقلك واعتقد"، وقد حاولوا توطين أتباعهم على قبول أمثال هذه النصوص فقالوا: "إن حديثنا ¬
تشمئز منه القلوب فمن عرف فزيدوهم، ومن أنكر فذروهم" (¬1) . "وعن سفيان السمط قال: قلت لأبي عبد الله - عليه السلام -: جعلت فداك، إن رجلاً يأتينا من قبلكم يعرف بالكذب فيحدث بالحديث فنستبشعه، فقال أبو عبد الله: يقول لك: إني قلت لليل إنه نهار أو للنهار إنه ليل؟ قال: فإن قال لك هذا إني قلته فلا تكذب به فإنك إنما تكذبني (¬2) . وأمثال هذه الروايات كثيرة، ويلاحظ أن في الرواية الأخيرة ما يدل على أن من الشيعة من يستبشع رواياتهم، ولكن يلزمون بالإيمان الأعمى بها، بل يعتبر من توقف في رواية من هذه الروايات وقال: "كيف جاء هذا، وكيف كان، وكيف هو؟، فإن هذا والله الشرك بالله العظيم (¬3) . وقد اهتم بهذه القضية صاحب البحار وذكر لها (116) حديثاً من أحاديثهم في باب عقده بعنوان: "باب أن حديثهم - عليهم السلام - صعب مستصعب، وأن كلامهم ذو وجوه كثيرة وفضيلة التدبر في أخبارهم - عليهم السلام - والتسليم لهم والنهي عن رد أخبارهم" (¬4) . ولعل أول من أرسى دعائم هذا المعتقد صاحب الكافي والذي خصه بباب مستقل بعنوان: "باب فيما جاء أن حديثهم صعب مستصعب" وذكر فيه خمس روايات (¬5) . ولعل هذا الأسلوب هو الذي ساعد على تفشي تلك المقالات الأسطورية، وغياب الصوت العاقل الذي يجهر بالحق.. ويعري الباطل ويفضحه. وهذا نوع من الاستهواء الذي يطالب فيه الأتباع بالإيمان بأقوال الأئمة وإن خالفت العقل والنقل، وهو قريب من موقف الصوفية الذي يطالب فيه الشيوخ مريديهم بالتسليم لهم حتى إنهم قالوا: إن المريد بين يدي شيخه كالميت بين يدي غاسله، وهذا الاستهواء هو الذي لجأ ¬
إليه فرعون مع قومه، وأشار إليه الله سبحانه بقوله: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} (¬1) . (¬2) . 4- إن للتفسير عندهم وجوهاً: ظاهرة، وباطنة، والجميع معتبر. قال أبو عبد الله - كما يزعمون -: إن قوماً آمنوا بالظاهر وكفروا بالباطن فلم ينفعهم شيء، وجاء قوم من بعدهم فآمنوا بالباطن وكفروا بالظاهر فلم ينفهم ذلك شيئاً، ولا إيمان بظاهر إلا بباطن، ولا باطن إلا بظاهر، ولهذا يلاحظ أن بعض تفاسير الشيعة لم تذكر هذا التأويل، أو ذاك، وإنما ذكرت ما ظهر من الآية الذي قد يوافق اللغة أو ما جاء عن السلف، ولكن قد لا يعني هذا مخالفتهم لذلك التأويل الباطني لأنهم يقولون بأن لكل آية معنى باطناً ومعنى ظاهراً، والكل مراد، فقد يكتفي بعضهم بذكر الظاهر وحده، أو الباطن فقط، أو يذكر الوجهين جميعاً؛ لأن رواياتهم جاءت على نفس المنهج كما تدل على ذلك رواية صاحب الكافي في تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} (¬3) . قال: " ... عن عبد الله بن سنان عن ذريح المحاربي قال: قلت لأبي عبد الله: إن الله أمرني في كتابه بأمر فأحب أن أعمله، قال: وما ذاك؟ قلت: قول الله عز وجل: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} قال: {لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} لقاء الإمام، {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} تلك المناسك، قال عبد الله بن سنان: فأتيت أبا عبد الله - عليه السلام - فقلت: جعلت فداك، قول الله عز وجل: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} قال: أخذ الشارب وقص الأظفار وما أشبه ذلك. قال: قلت: جعلت فداك، إن ذريحاً المحاربي حدثني عنك بأنك قلت له: {لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} لقاء الإمام {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} تلك المناسك، فقال: صدق ذريح وصدقت، إن للقرآن ظاهراً وباطناً ومن يحتمل ما يحتمل ذريح" (¬4) . ففي هذا ¬
النص - الذي أورده صاحب الكافي، وذكره أيضاً صاحب من لا يحضره الفقيه وغيره - التصريح بأن للقرآن معاني ظاهرة تقال لعامة الناس، وله معانٍ باطنة لا تذكر إلا للخاصة ممن يستطيع احتمالها، وهم قلة لا توجد "فمن يحتمل ما يحتمل ذريح". وإذا كان الأئمة يضنون بهذا العلم الباطني، ويتحاشون ذكره عند شيعتهم إلا من كان على مستوى ذريح فماذا خالفت كتب الاثني عشرية نهج أئمتها وأشاعت هذا "العلم" المضنون به على غير أهله للخاص والعام؟! هذا ما يؤخذ من أقوال هؤلاء القوم.. ولعل قائلاً يقول: لماذا لا يكون هذا التأويل الذي يتفق وظاهر النص، وسياق القرآن، ولغة العرب، وما أثر من السلف، وما اتفق عليه جماعة المسلمين هو الذي يعتقد صدوره عن أمثال محمد الباقر، وجعفر الصادق وغيرهما من أئمة العلم والدين واللغة، وأن تلك التأويلات الباطنية التي لا تستند إلى أصل معتبر من نقل أو عقل أو لغة هي من وضع زنديق ملحد أراد الإساءة إلى كتاب الله ودينه، وإلى أهل البيت، ولاسيما أن تلك الأقوال الباطنية لا تذكر إلا خلسة وفي الظلام، ولا ينقلها إلا قلة كما يشير إليه نهاية الخبر، وتفسير القرآن لا يمكن أن يكون علماً سرياً لا يتحمله إلا خاصة الناس، فالله سبحانه أنزل كتابه لعباده كافة لا لفئة معينة، وهؤلاء الأئمة كان عصرهم يمثل العصر الذهبي للأمة في وقت عزة الإسلام والمسلمين، فهل يصبح تفسير القرآن في عصرهم "سرياً" وفي هذا العصر يعلن هذا التفسير؟! وأئمة أهل البيت هم أجرأ وأشجع من أن يجبنوا عن بيان الحق، وأن يتخلوا عن الصدع بأمر الله وشرعه. 5- هذه التأويلات الباطنية هي من باب الإلحاد في كتاب الله وآياته - وقد قال
تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} (¬1) . قال ابن عباس: هو أن يوضع الكلام في غير موضعه (¬2) . وذلك بالانحراف في تأويله (¬3) . قال في الإكليل: "ففيها الرد على من تعاطى تفسير القرآن بما لا يدل عليه جوهر اللفظ كما يفعله والاتحادية والملاحدة" (¬4) . وهؤلاء الذين يلحدون في آيات الله ويحرفونها عن معانيها وإن كتموا كفرهم وتستروا بالباطل وأرادوا الإخفاء لكنهم لا يخفون على الله كما قال تعالى: {لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} (¬5) . 6- ربط شيوخ الشيعة هذه التأويلات أو التحريفات بأئمة أهل البيت لتحظى بالقبول عند الناس، ولأنها تأويلات غير عاقلة قالوا: بأن السياق القرآني غير منسجم مع النظر العقلي، ونسبوا هذا القول لجعفر الصادق كما يروي ذلك جابر الجعفي أنه قال له: "يا جابر، إن للقرآن بطناً وللبطن ظهراً، ثم قال: وليس شيء أبعد من عقول الرجال منه، إن الآية لينزل أولها في شيء وآخرها في شيء وهو كلام متصل يتصرف على وجوه" (¬6) . ولاشك أن هذا الحكم هو برواياتهم أليق وأوفق، ولا يتصل من قريب أو بعيد بكتاب الله وتفسيره الصحيح. 7- قامت مصادرهم في التفسير - غالباً - على هذا المنهج الباطني في التأويل الذي استقته من أبي الخطاب وجابر الجعفي والمغيرة بن سعيد وغيرهم من الغلاة. ويلاحظ أنه في القرن الخامس بدأ اتجاه التفسير عندهم يحاول التخلص من تلك النزعة المغرقة في التأويل الباطني؛ حيث بدأ شيخ الطائفة عندهم أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي (المتوفى سنة 460هـ) يؤلف لهم كتاباً في تفسير القرآن ¬
يستضيء في تأليفه بأقوال أهل السنة، ويأخذ من مصادرهم في التفسير، ويحاول فيه أن يتخلص أو يخفف من ذلك الغلو الظاهر في تفسير القمي والعياشي وفي أصول الكافي وغيرها، وهو وإن كان يدافع عن أصول طائفته ويقرر مبادئهم المبتدعة، إلا أنه لا يهبط ذلك الهبوط الذي نزل إليه القمي ومن تأثر به. ومثل الطوسي في هذا النهج الفضل بن الحسن الطبرسي في "مجمع البيان" وقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية إلى ذلك حيث قال: "الطوسي ومن معه في تفسيرهم يأخذون من تفاسير السنة، وما في تفسيرهم من علم يستفاد إنما هو مأخوذ من تفاسير أهل السنة" (¬1) . ولكن قد كشف لنا شيخ الشيعة في زمنه ومحدثها وخبير رجالها وصاحب آخر مجموع من مجاميعهم الحديثية، وأستاذ كثير من علمائهم الكبار عندهم كمحمد حسين آل كاشف الغطا، وأغا بزرك الطهراني وغيرهما وعالم الشيعة حسين النوري الطبرسي قد كشف لنا سراً عندهم بقي دفيناً، وأماط اللثام عن حقيقة كانت مجهولة لدينا وهي أن كتاب «التبيان» للطوسي إنما وضع على أسلوب التقية والمداراة للخصوم وإليك نص كلامه: "ثم لا يخفى على المتأمل في كتاب التبيان أن طريقته فيه على نهاية المداراة والمماشاة مع المخالفين، فإنك تراه اقتصر في تفسير الآيات على نقل كلام الحسن وقتادة والضحاك والسدي وابن جريج والجبائي والزجاج، وابن زيد وأمثالهم. ولم ينقل عن أحد من مفسري الإمامية، ولم يذكر خبراً عن أحد من الأئمة - عليهم السلام - إلا قليلاً في بعض المواضع لعله وافقه في نقله المخالفون. بل عد الأولين في الطبقة الأولى من المفسرين الذين حمدت طرائقهم ومدحت مذاهبهم. وهو بمكان من الغرابة لو لم يكن على وجه المماشاة.. ومما يؤكد كون وضع هذا الكتاب على التقية ما ذكره السيد الجيل علي بن طاوس في سعد السعود وهذا لفظه: "ونحن نذكر ما حكاه جدي أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي في كتاب ¬
«التبيان» وحملته التقية على الاقتصار عليه من تفضيل المكي على المدني والخلاف في أوقاته.. الخ. (هكذا لم يكمل النوري النص) " ثم قال هذا النوري معقباً على ما نقله على ابن طاوس: "وهو - يعني ابن طاوس - أعرف بما قال من وجوه لا يخفى على من اطلع على مقامه فتأمل" (¬1) . فمن هذا النص يتبين أن التبيان للطوسي قد وضع على أسلوب التقية - كما هو رأي شيخ الشيعة المعاصر - أو أن يكون التبيان قد صدر من الطوسي نتيجة اقتناع عقلي بإسفاف ما عليه القوم من تحريف لمعاني القرآن سموه تفسيراً، وبتأثير نزعة معتدلة لاختلاطه مع بعض علماء السنة في بغداد.. ومعنى هذا أن شيعة اليوم - والذي يمثلهم هذا النوري الطبرسي والذي ارتضوا كتابه (مستدرك الوسائل) مصدراً لهم في الحديث (¬2) ، كدليل على كبير مقامهم عندهم - هم أشد غلواً وتطرفاً، ولذا تراهم يعتبرون تفسير الطوسي ومن سار على منهجه إنما ألفت للخصوم، والتزمت بروح التقية (لتبشر) بالعقيدة الشيعية مع غير الشيعة. ولعل القارئ يدرك من خلال هذا الرأي لشيخ الشيعة حول كتاب «التبيان» - أن التقية أسهمت في (تكريس) الغلو عند هذه الطائفة، وفي وأد كل صوت عاقل ورأي معتدل بحمله على التقية لأنه يوافق - بزعمهم - ما عند أهل السنة، فبقيت هذه الطائفة في هذه الدائرة المغلقة، قد جعلت من التقية حصناً تلجأ إليه كلما هبت عليها نسمات الإصلاح، ورياح التغيير - كما سيأتي في مبحث التقية -. ثم لا ننسى أن نشير إلى أن ما قلناه عن كتاب الطوسي ينطبق على تفسير مجمع البيان للطبرسي لأنه سار على نهج الطوسي وأشار إلى ذلك في مقدمة تفسيره حيث قال: ".. إلا ما جمعه الشيخ الأجل السعيد أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي قدس الله روحه من كتاب التبيان، فإنه الكتاب الذي يقتبس منه ضياء الحق ويلوح عليه رواء الصدق.. وهو القدوة أستضيء بأنواره وأطأ مواقع آثاره" (¬3) . ¬
المبحث الثالث: هل الشيعة تقول بأن في كتاب الله نقصا أو تغييرا
المبحث الثالث: هل الشيعة تقول بأن في كتاب الله نقصاً أو تغييراً مدخل للموضوع: وجاء في هذا المبحث بهذه الصيغة الاستفهامية لثلاث أسباب: أولاً: أن طائفة من أعلام الاثني عشرية يتبرأون من هذه المقالة - مثل الشريف المرتضى، وابن بابويه القمي وغيرهما -. ثانيا: إن إجماع المسلمين كلهم قام على أن كتاب الله سبحانه محفوظ بحفظ الله له {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} . ومن قال بأن في القرآن نقصاً وتحريفاً فليس من أهل القبلة وليس من الإسلام في شيء، ومن هنا فإن العدل يقتضي أن نحتاط في دراستنا لهذه المسألة أبلغ الاحتياط، وأن نعدل في القول، فلا نرمي طائفة بهذه المقالة إلا بعد الدراسة والتثبت. ثالثاً: إن هناك طائفة من المفكرين يرمون الشيعة بالقول بهذا الكفر، ويعممون ذلك، ولاشك بأن الشيعة فرقٌ، والشيعة طبقات، فلا يصح أن يقال مثلاً بأن متقدمي الشيعة يقولون بهذه المقالة (¬1) ، ولا يقبل أن يقال بأن الزيدية تقول بهذه الفرية.. فأسلوب التعميم غير مرضي ولا مقبول. ¬
وبعد: فإن الباحث المسلم يعاني بلا شك من قراءة تلك الحروف السوداء، ومن الاستماع لأولئك الأقزام الذين يتطاولون على كلام الله سبحانه، يعاني من ذلك أبلغ المعاناة. وليعلم القارئ أن دراسة هذا الموضوع ليست من أجل الرد والدفاع، فكتاب الله لا تصل إلى مقامه بغاث الأحلام، ولا تنال من عظمته دعوى حاقد، ومزاعم مغرض. فهل تستر الشمس، أو تحجب القمر كف إنسان؟! ثم ما أسهل الادعاء الكاذب على حاقد مَوْتور، ومن ثم فليس علينا أن نتتبع كل دعوى كاذبة لنردها: لو أن كل كلب عوى ألقمته حجراً لكان كل مثقال بدينار كما أن إهمال القول الكاذب قد يكون أحرى لإماتته وانصراف الأنظار عنه، ما لم يتفش هذا القول ويشتهر وتحمله طائفة، وتسير به كتب، فحينئذ يجب كشف المطبل وباطله. وأقول: إن دراسة هذه المسألة ليست من أجل الرد والنقض، إنما هي لبيان هل الشيعة تقول بهذه المقالة أو لا؟ -، وفي ثبوت ذلك أكبر فضيحة للشيعة يهدم بنيانها من الأساس ويزلزل كيانها من القواعد، ولن يقبل منها قول ولا يسمع منها كلمة.. ومن ذا الذي يمس كتاب الله ويقبل منه مسلم قولاً أو يرتضي منه حكماً (¬1) . ومن ثم فنحن نكتب هذه الدارسة لبيان حقيقة نسبة هذه المسألة للشيعة؛ لأن من حاول المساس بكتاب الله والنيل من قدسيته فإنه بعيد عن الإسلام وإن تسمى به، وأنه يجب كشفه لتعرف الأمة عدواته؛ لأنه يحارب الإسلام في أصله العظيم وركنه المتين. ثم إن حكاية قول من قال ذلك - كما يقول أبو بكر الباقلاني - يغني عن ¬
الرد عليه (¬1) .؛ لما توافر لكتاب الله من وسائل الحفظ وأسباب الضبط التي يستحيل معها أن يتطرق إليه نقص أو تغيير تحقيقاً لوعد الله سبحانه في حفظه {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (¬2) . هذا ومن أمر هذه الدعوى والتي وجدت في محيط الشيعة (وسندرس مدى موافقة الشيعة لها أو رفضها) أنها ولدت وفي أحشائها أسباب فنائها، وبراهين زيفها وكذبها، لم يحكم واضعها الصنعة في صياغتها، ولم يجد الحيلة في حبكها، فجاءت على صورة مفضوحة، وبطريقة مكشوفة، ولذلك نقضت نفسها بنفسها، فهي تقوم على دعوى أن القرآن ناقص ومغير.. وأن القرآن الكامل المحفوظ من أي تغيير هو عند أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ثم أورثه الأئمة من بعده وهو اليوم عند مهديهم المنتظر. فهذه الدعوى ربطوها بأمير المؤمنين علي، ولكن علياً هو الذي حكّم القرآن في خلافته وقرأه وتعبد به، ولو كان لديه غيره لأخرجه للناس ولم يجز أن يتعبد الله بكتاب محرف وناقص، ولو كان شيء مما يدعون لأخرج علي القرآن الكامل الذي جمعه، وعارض به هذا القرآن المحرف - كما يدعون - ولتدارك الأمر حين أفضت إليه الخلافة، لأن من أقر الخائن على خيانته كان كفاعلها.. وقد حارب علي معاوية على أقل من هذا الأمر، فكيف لم يفعل ذلك أمير المؤمنين؟!! لم يجد أصحاب هذا الافتراء ما يجيبون به عن هذا السؤال الكبير الذي ينسف بنيانهم من القواعد سوى قولهم على لسان عالمهم نعمة الله الجزائري (¬3) : "ولما جلس أمير المؤمنين - عليه السلام - على سرير الخلافة لم يتمكن من إظهار ¬
ذلك القرآن وإخفاء هذا لما فيه من إظهار الشنعة على ما سبقه" (¬1) . هكذا يجيبون وبهذا يعتذرون.. وأي قدح وسب لأمير المؤمنين ممن يزعم التشيع له أبلغ من هذا وأشد.. إنهم يتهمون علياً - رضي الله عنه - بأنه راعى المجاملة لمن سبقه على هداية الأمة، ولهذا لم يخرج ما عنده من القرآن.. سبحانك هذا بهتان عظيم!. كما أنهم ربطوا وجود المصحف بإمامهم المنتظر الذي لم يولد أصلاً ولا وجود له - كما سيأتي - والإمام الغائب والمصحف الغائب كلاهما وهم وخيال. والكلمات المفتراة والتي قدموها على أنها آيات ساقطة من المصحف انكشف بها كذبهم وظهر بها بهتانهم، فهي أشبه ما تكون بمفتريات مسيلمة المتنبئ الكذاب وادعاءاته.. لا تربطها بلغة العرب، وبلاغة اللسان العربي أدنى رابطة - كما سيأتي -، ثم إنهم رجعوا على أنفسهم وقالوا: لا اعتماد على تلك الكلمات ولا تعتبر من القرآن، ولا يجوز القراءة بها، لأن طريقها آحاد، والأئمة قرأوا هذا القرآن واستعملوه فلا يترك ما أجمعوا عليه بمثل هذه الروايات.. ثم انفصل منهم طائفة عاقلة تبرأت من هذا الكفر لما رأت من تناقضه ووضوح بطلانه.. وهاجمت من قال به من أصحابها وكشفت كذبه وكفى الله المؤمنين القتال.. وهذا الصراع الدائر بين الطائفتين ينكشف من خلال كتاب فصل الخطاب كما سيأتي تفصيله إن شاء الله، فحملت هذه المقالة أسباب فنائها في أحشائها، وانكشف عوارها وكذبها بكلمات أصحابها، وفي هذا آيات للمؤمنين، وبرهان من براهين عظمة هذا القرآن، وسر من أسرار إعجازه والتي لا تحيط بها العقول، وشاهد من شواهد تحقيق وعد الله بحفظه لكتابه العزيز. وفيما يلي نبدأ بدراسة هذه القضية عند الشيعة، ومتى بدأت، وكيف امتدت، ومن الذي تولى كبر وضعها، وهل تقول الشيعة كلها بذلك أو فيها من ¬
بداية هذه الفرية عند الرافضة من خلال ما كشفته مصادر أهل السنة
أنكر وتبرأ؟ وسنذكر أولاً ما تقوله كتب السنة، ثم نرجع لتحقيق ذلك من كتب الشيعة الاثني عشرية نفسها: بداية هذا الافتراء - كما تقوله مصادر أهل السنة: يقول الإمام أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري (¬1) : "لم يزل أهل الفضل والعقل يعرفون شرف القرآن وعلو منزلته.. حتى نبغ في زماننا هذا زائع عن الملة وهجم على الأمة بما يحاول به إبطال الشريعة.. فزعم أن المصحف الذي جمعه عثمان - رضي الله عنه - باتفاق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على تصويبه فيما فعل لا يشتمل على جميع القرآن، إذا كان قد سقط منه خمسمائة حرف.. (ثم ذكر ابن الأبناري) أن هذا الزنديق أخذ يقرأ آيات من القرآن على غير وجهها زندقة وإلحاداً، فكان يقرأ: (ولقد نصركم الله ببدر بسيف علي وأنتم أذلة) " (¬2) . هذا النص قاله ابن الأنباري المولود سنة (271هـ) والمتوفى سنة (328هـ) وهو يشير إلى أن هذا الافتراء بدأ في زمنه في نهاية القرن الثالث وبداية القرن الرابع. ويدل النص المذكور أيضاً على: أن مصدر هذا الافتراء من طائفة الشيعة كما تفيده تلك الزيادة المفتراة (بسيف علي) كما يدل على أنه لم يكن للأمة المسلمة في ماضيها عهد بهذه المفتريات حتى ظهر هذا الزائغ عن الملة، وكأن ابن الأنباري بهذا يشير إلى شخص بعينه إلا أنه لم يذكره باسمه.. ولكن بدت هويته المذهبية من خلال افتراءاته. بينما نجد المطلي (ت 377هـ) يشير إلى أن هذا الشخص صاحب هذه ¬
الفرية هو هشام بن الحكم (¬1) . فإنه زعم أن القرآن الذي في أيدي الناس وضع أيام عثمان، وأما القرآن فقد صعد به إلى السماء لردة الصحابة بزعمه (¬2) . ولكن هشام بن الحكم توفي سنة (190هـ) وهذا يعني أن هذا الافتراء أقدم مما يذكره ابن الأنباري، وإذا لاحظنا أن هذه الفرية مرتبطة أشد الارتباط بمسألة الإمامة والأئمة عند الشيعة، وذلك حينما بدأ شيوخ الشيعة في الاستدلال عليها فلم يجدوا في كتاب الله ما يثبت مزاعمهم في ذلك فأدى بهم هذا إلى القول بهذه الفرية وغيرها.. إذا أدركنا ذلك فإنه لا يبعد أن يكون ما يقوله المطلي في أن هشاماً هو الذي تولى كبر هذا الافتراء.. لا يبعد أن يكون هذا واقعاً لاسيماً أن هشاماً كان من أول من تكلم في الإمامة، حتى قال ابن النديم: "إن هشام بن الحكم ممن فتق الكلام في الإمامة، وله من الكتب كتاب الإمامة" (¬3) ، وقال ابن المطهر الحلي: "وكان ممن فتق الكلام في الإمامة وهذب المذهب بالنظر" (¬4) . ويشفع لتأهيل هشام بن الحكم - أيضاً - لهذه الفرية ما جاء في رجال الكشي- عمدة الشيعة في كتب الرجال - ونصه: "هشان بن الحكم من غلمان أبي شاكر، وأبو شاكر زنديق" (¬5) . وقال القاضي عبد الجبار (المعتزلي) : "هشام.. ليس من أهل القبلة، وهو معروف بعداوة الأنبياء، وقد أخذ مع أبي شاكر الديصاني (¬6) . صاحب الديصانية (¬7) . وكان ¬
معروفاً به وبصحبته، فادعى أنه من الشيعة، فخلصه بعض أصحاب المهدي حين ادعى أنه يتشيع لبني هاشم فلم يصلبه مع أبي شاكر (¬1) ، فهو قد تربى في أحضان الزنادقة، والشيء من معدنه لا يستغرب.. وقد أوعز إليه - كما في رجال الكشي - بلزوم الصمت حين جدّ المهدي العباسي بتتبع الزنادقة" (¬2) . قال هشام: "فكففت عن الكلام حتى مات المهدي" (¬3) . فتشير القرائن - كما ترى - إلى هشام وشيعته، فهذا يدل على أقل الافتراضات أن هذه "الفرية" وجدت في عصر هشام، ومما يدل على وجود هذه الدعوى في تلك الفترة ما ذكره ابن حزم عن الجاحظ قال: "أخبرني أبو إسحاق إبراهيم النظام وبشر بن خالد أنهما قالا لمحمد بن جعفر (¬4) . الرافضي المعروف بشيطان الطاق: ويحك! أما استحيت من الله أن تقول في كتابك في الإمامة: إن الله تعالى لم يقل قط في القرآن: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} (¬5) . قالا: فضحك والله شيطان الطاق طويلاً حتى كأنّا نحن الذي أذنبنا" (¬6) . هذه الحكاية أوردها ابن حزم عن الجاحظ، وقد قال ابن حزم عن الجاحظ بأنه رغم مجونه وضلاله: "فإننا ما رأينا له في كتبه تعمد كذبة يوردها مثبتاً لها، وإن ¬
شيوع هذه المقالة عندهم كما تقول كتب أهل السنة
كان كثيراً لإيراد كذب غيره" (¬1) . وشيطان الطاق وهو محمد بن علي ابن النعمان أو جعفر الأحول توفي سنة (160هـ) (¬2) ، والمعروف أن شيطان الطاق معاصر لهشام بن الحكم، قال ابن حجر: "قيل إن هشام بن الحكم شيخ الرافضة لما بلغه أنهم لقبوه شيطان الطاق سماه هو مؤمن الطاق" فقد يكون أحد الشركاء في هذه "الجريمة" مع هشام بن الحكم، فهو شريك في التأليف حول مسألة الإمامة والتي هي السبب والأصل للقول بهذا الافتراء كما تدل عليه نصوص هذه الفرية. شيوع هذه المقالة عندهم كما تقول كتب أهل السنة: ثم فشت هذه المقالة في الشيعة الاثني عشرية والذي يلقبهم الأشعري وغيره بالرافضة كما أسلفنا حتى أصبحت - كما يذكر الأشعري - (المتوفى سنة 330هـ) مقالة لطائفة من هؤلاء الروافض زعموا: "أن القرآن قد نقص منه، وأما الزيادة فذلك غير جائز أن يكون قد كان، وكذلك لا يجوز أن يكون قد غير منه شيء عما كان عليه، فأما ذهاب كثير منه فقد ذهب كثير منه، والإمام يحيط علماً به" (¬3) ، بينما اتجهت فرقة أخرى من هؤلاء يصفهم الأشعري بأنه ممن جمع القول بالاعتزال والإمامة إلى إنكار هذا القول وقالت: "إن القرآن ما نقص منه، ولا زيد فيه، وإنه على ما أنزل الله تعالى على نبيه - عليه الصلاة والسلام - لم يغير ولم يبدل، ولا زال على ما كان عليه" (¬4) . وهناك فرقة ثالثة سقط - فيما يظهر- ذكر ¬
مذهبها (¬1) . كما يشير البغدادي (المتوفى سنة 429هـ) إلى أن من الرافضة من زعم أن الصحابة غيروا بعض القرآن، وحرفوا بعضه، واعتبر ذلك من موجبات الحكم بكفرها وخروجهم عن الإسلام (¬2) . ويبدو أن هذا المنكر زاد انتشاره بين هؤلاء القوم حتى إننا نجد ابن حزم (المتوفى 456هـ) ينسب هذه المقالة إلى طائفة الإمام كلها، ولم يستثن من أعلام الإمامية إلا ثلاثة نجوا من الوقوع في هذه الهاوية (¬3) . وكذلك القاضي أبو يعلى (المتوفى سنة 458هـ) ينسب هذه المقالة إلى طائفة الرافضة (¬4) . والتي هي من ألقاب الاثني عشرية - كما سبق -، بينما نجد شيخ الإسلام ابن تيمية (المتوفى سنة 728هـ) يعزو هذه المقالة - فيما يظهر - للباطنية حيث قال: "وكذلك - أي يحكم بكفره - من زعم أن القرآن نقص منه آيات وكتمت، أو زعم تأويلات باطنة تسقط الأعمال المشروعة، ونحو ذلك، وهؤلاء ¬
يسمون القرامطة والباطنية" (¬1) . فهل شيخ الإسلام ابن تيمية يعتبر الاثني عشرية في عداد الباطنية، أو غاب عنه أنهم يذهبون هذا المذهب فلم يذكرهم، أو أن الشيخ في هذه النسبة ركز على المعنى الأخير وهو التأويل الباطني الذي تعتمده القرامطة الباطنية؟ علي أي الأحوال فإني لم أجد - فيما قرأت - لشيخ الإسلام أنه ينسب هذه الفرية لطائفة الاثني عشرية، لا في منهاج السنة الذي رد فيه على شيخهم ابن المطهر الحلي ولا في غيره من كتبه المنشورة التي اطلعت عليها. ويكشف - ميرزا مخدوم الشيرازي (من القرن العاشر) وقد عاش بين الشيعة وقرأ الكثير من كتبهم - كما يقول (¬2) .- "أنهم ذكروا في كتب حديثهم وكلامهم أن عثمان - رضي الله عنه - نقص من آيات القرآن - بزعمهم - ويشير إلى أمثلة مما قالوه في القرآن كقولهم: إنه كان في سورة {أَلَمْ نَشْرَحْ} بعد قوله سبحانه: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} كان بعدها - كما يفترون - "وعلياً صهرك" (¬3) . ويذكر مطهر بن عبد الرحمن بن علي بن إسماعيل في كتابه: "تكفير الشيعة" والذي ألفه سنة (990هـ) يذكر ما صنعه شيعة زمانه من إحراق المصاحف ¬
وإهانتها واختراعهم - كما يقول - مصحفاً محدثاً (¬1) . ويشير الإمام محمد بن عبد الوهاب (ت1206هـ) إلى ما ذكرته كتب الشيعة من القول بنقص القرآن، ويذكر بأن شيعة زمنه - على ما قيل - أظهروا سورتين يزعمون أنهما من القرآن الذي أخفاه عثمان، كل سورة مقدار جزء وألحقوهما بآخر المصحف إحداهما سورة النورين والأخرى سورة الولاء (¬2) . كما أن الصورة تتضح أكثر عند صاحب التحفة الاثني عشرية شاه عبد العزيز الدهلوي المتوفى سنة (1239هـ) الذي يذكر بأن الاثني عشرية تقول بأن الصحابة قد غيروا ونقصوا في كتاب الله ما يتصل بفضل علي وأئمتهم الاثني عشر وذلك أعدائهم، وينقل بعض الشواهد على ذلك من كتبهم، ويبين أنهم خالفوا بذلك المنقول والمعقول، وما علم من الدين بالضرورة، وما تواترت به التواريخ والوقائع، كما يبين براءة أهل البيت من هذه العقيدة، وأن من شيوخ الشيعة أنفسهم من بدأ يتبرأ من هذه العقيدة كابن بابويه (¬3) . كما يتعرض أبو الثناء الألوسي (المتوفى سنة 1270هـ) لهذه الفرية في تفسيره، ويذكر بعض شواهدها من كتبهم، ويبين فسادها؛ لما توافر لهذا الكتاب العظيم من أسباب الحفظ بما لا يبقى في ذهن مؤمن احتمال سقوط شيء بعد من القرآن، وإلا لوقع الشك في كثير من ضروريات هذا الدين. ثم يقول: بأنه لما تفطن بعض علمائهم لما في قولهم هذا من الفساد جعله قولاً لبعض أصحابه، واستشهد على ذلك بما قاله شيخ الشيعة الطبرسي في مجمع البيان من أن الشيعة تنكر هذه المقالة، وأنها قول لقوم من أصحابها، ¬
والصحيح خلافه، ثم قال الألوسي: وهو كلام دعاه إليه ظهور فساد مذهب أصحابه حتى للأطفال والحمد لله على أن ظهر الحق وكفى الله المؤمنين القتال (¬1) . ولعل الألوسي (أبا الثناء) أول من كتب بالعربية عن هذه القضية بذلك الاستيعاب (النسبي) ؛ حيث عرض لهذه الفرية مقرونة بالاستشهاد المباشر من كتبهم، وعرض أحاديثهم كما جاءت في أصول الكافي وغيره، وذكر الجناح الآخر من الشيعة الذي أنكر هذه الفرية واستشهد بكلامه، وناقشه. وكذلك قام حفيده علامة العراق أبو المعالي الألوسي (ت1342هـ) ببيان وقوع الشيعة في هذا الكفر عبر رسائله التي ألفها أو لخصها حول الشيعة. هذا ويتولى الشيخ محمد رشيد رضا (المتوفى سنة 1354هـ) بعد ذلك إثارة هذه المسألة، وفضح الشيعة في هذا عبر مجلة المنار (¬2) ، ثم في رسالته "السنة والشيعة" وذلك حينما ألجأه إلى ذلك تعصب بعض شيوخ الشيعة وعدوانهم - كم يقول - فيذكر أن رافضة الشيعة تزعم أن ما بين الدفتين ليس كلام الله بل حذف منه الصحابة - بزعمهم - بعض الآيات وسورة الولاية (¬3) . ومن بعد هؤلاء يأتي الشيخ موسى جار الله (ت1369هـ) والذي عاش بين الشيعة فترة، وتجول في مدنها، وحضر حلقات دروسها في البيوت والمساجد والمدارس، وقرأ في العديد من أمهات كتبها (¬4) . ورأى أن "القول بتحريف القرآن بإسقاط كلمات وآيات قد نزلت، وبتغيير ترتيب الكلمات والآيات، أجمعت عليه كتب الشيعة" (¬5) . وأن هذه الكلمات والآيات كانت كما يزعمون في علي وأولاده، ¬
وأن الذي حذف ذلك هم صحابة رسول الله، وينقل عن بعض شيوخ الشيعة أنهم قالوا بأن أخبار هذه الفرية متواترة عندهم ويلزم من ردها رد سائر أخبارهم في الإمامة والرجعة وغيرها، والحكم ببطلانها" (¬1) . وقد لاحظ من خلال حياته مع الشيعة في تلك الفترة تأثر المجتمع الشيعي بهذه العقيدة؛ حيث إنه لم يجد من التلاميذ ولا من العلماء من يحفظ القرآن، ولا من يعرف وجوه القرآن الأدائية، بل ولا من يقيم القرآن بعض الإقامة بلسانه وأنهم اتخذوا القرآن مهجوراً (¬2) ، ويقول: هل هذا بسبب أنهم ينتظرون ما وعدَتْهم به أساطيرهم من ظهور القرآن الكامل مع منتظرهم الموعود؟ (¬3) . ثم يقوم الأستاذ محب الدين الخطيب (ت1389هـ) بمناسبة إنشاء دار التقريب بين المذاهب الإسلامية التي أنشأها الشيعة في أرض الكنانة لبث عقيدة "الرفض" بين أهلها يقوم بالكتابة عن الشيعة في مجلة الفتح، وفي رسالته "الخطوط العريضة" ويتحدث عن هذه الفرية، ويستشهد بما جاء في كتاب "فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب" الذي ألفه ميرزا حسين ابن محمد تقي النوري الطبرسي أحد كبار علماء النجف، والذي بلغ من إجلال الشيعة له عند وفاته سنة (1320هـ) أنهم دفنوه في أشرف بقعة عندهم، ويقول بأن هذا الكتاب ينطوي على مئات النصوص عن علمائهم في كتبهم المعتبرة يثبت بها أنهم جازمون ¬
بالتحريف ومؤمنون به، ويستشهد بما جاء في كتاب الكافي للكليني والذي يقول بأنه كصحيح البخاري عند أهل السنة. كما ينشر صورة لما يسمى: "سورة الولاية" ويقول بأنها منقولة فوتوغرافياً عن أحد مصاحف إيران، ثم قال: ويبقى أن هناك قرآنين أحدهما عام ومعلوم، والآخر خاص مكتوم ومنه سورة الولاية، ثم يستشهد بما جاء في بعض نصوصهم من الفتوى بقراءة المصحف العثماني، ولكن يقول: إن خاصة الشيعة يعلم بعضهم بعضاً ما يخالف ذلك مما يزعمون وجوده عند أئمتهم من أهل البيت" (¬1) . كما أن الشيخ محمود الملاح (ت1389هـ) في العراق فضح الشيعة في هذه المسألة لمواجهة محاولة شيخ الشيعة الخالصي في نشر الرفض باسم الوحدة الإسلامية (¬2) . ومن بعد هؤلاء نرى الشيخ إحسان إلهي ظهير يكتب عن هذه القضية في كتابه: "الشيعة والسنة" ويذهب إلى القول بأن الشيعة كلها على هذا الكفر، وينقل الشواهد الكثيرة من كتبهم التي تتضمن أخبار هذه الأسطورة، ويعد إنكار المنكرين لهذه المسألة تقية لا حقيقة، ويرى أنه قام بدراسة هذه المسألة ببيان واضح، مستند، مفصل لم يسبق إليه (¬3) . ثم يحاول أن يتوسع أكثر في هذه المسألة فيخصص لها كتاباً مفرداً بعنوان "الشيعة والقرآن" ينتهي فيه إلى نفس الحكم الذي انتهى إليه في كتابه السابق، ومعظم هذا الكتاب هو عبارة عن نقل حرفي بدون أدنى تعليق لكتاب لا يوجد من كتب الشيعة أجمع لنصوص الفرية منه وهو كتاب "فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب"، والغريب أن إحسان ينتهي إلى نفس النهاية التي انتهى إليها ¬
صاحب فصل الخطاب، مع أن صاحب فصل الخطاب ألف كتابه - كما سيأتي - لإقناع طائفة من قومه أنكرت هذا الكفر وأبت أن تهضمه، واحتجت بما قاله بعض شيوخها السابقين من إنكار هذه الفرية، فرد عليها صاحب فصل الخطاب بكتابه هذا، وعزا الإنكار من شيوخه السابقين إلى التقية أو إلى عدم توفير المصادر عندهم - كما سيأتي - فذهب إحسان إلى مذهب صاحب فصل الخطاب نفسه (¬1) ، ونعمة الله الجزائري من أن إنكار المنكرين على سبيل التقية كما سيأتي بحثه ودراسته. كما أن للأستاذ محمد مال الله كتاباً بعنوان: «الشيعة وتحريف القرآن» انتهى فيه إلى أن شيوخ الشيعة اتفقوا على القول بهذه الفرية، واستشهد على ذلك بكلام اثني عشر شيخاً من شيوخهم يقولون بهذا الافتراء، ولم يشر إلى وجود خلاف بينهم في هذا مع أن طائفة من شيوخهم أنكروه، كما قام بالاستشهاد بأكثر من مائتي رواية لهم قال بأنها نماذج من تحريفات الشيعة للقرآن، كما قام بإعداد جدول لهذا في تعليقه على كتاب الخطوط العريضة ووضعه في نهاية الكتاب، واستخرج ذلك من طائفة من كتب الشيعة في التفسير والحديث، إلا أن فيها ما ليس بصريح في هذا الأمر بل هو يندرج بشكل واضح في باب التأويل. كما أنه وقع - كما وقع إحسان من قبله - بذكر بعض الروايات للشيعة والتي فيها ذكر قراءة للآية مروية عن السلف واعتبرها - بجهل - من قبيل التحريف. والسبب في ذلك هو اعتمادهم بدون تدبر على كتاب فصل الخطاب، وهناك كتابات أخرى تشابه ¬
ما ذكرناه (¬1) ، لكن الدكتور علي أحمد السالوس وهو أحد المهتمين بقضية الشيعة، لا يتفق مع الأستاذ محب الدين الخطيب وغيره في نسبة هذا الجرم الشنيع إلى الإمامية عامة ويرى أن ذلك خاص بالإخباريين فقط، أما الأصوليين منهم فهم يتبرؤون من هذه المقالة، لكن هذا التقسيم لم يكد يسلم له بطريقة جازمة، حيث قام بمقابلة أحد مراجع الشيعة الأخبارية وسأله عن رأيه في ذلك فقال: إن التحريف وقع في القرآن الكريم من جهة المعنى فقط. يقول الدكتور السالوس: وأعطاني كتيباً كتبه تعليقاً على مقال يهاجم الشيعة، ومما جاء في هذا الكتيب: "مذهبنا - ومذهب كل مسلم - بأن القرآن الكريم المتداول بين أيدينا ليس فيه أي تحريف بزيادة أو نقصان، وما ذكر في بعض الأحاديث بأن فيه تحريفاً ونقصاناً فهو مخالف لعقيدتنا في القرآن الكريم الذي هو الذكر الحكيم، والذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه". وقال الدكتور: لعل القائلين بهذه الفرية هم فريق من الأخباريين لا كلهم، أو يكون الكلام في ذلك الكتيب مبعثه التقية، ويستدل على ذلك بأنه قال في نفس ذلك الكتيب: "لم يقل الشيعة وأئمتهم بما يحط من كرامة الخلفاء المرضيين.. وقد أجري الفتح والخير للمسلمين على يد أولئك الصالحين - عليهم سلام الله ورحمته ورضوانه أجمعين - ويقول بأنه من الواضح البين أن هذا ليس رأي الشيعة" (¬2) . هذا ولعلماء الهند وباكستان جهود في كشف هذه الفرية في كتب الشيعة وإعلانها للمسلمين بغير اللغة العربية (¬3) . ¬
هذا ونكتفي بهذه الإشارة للدراسات التي قامت حول هذه "الفرية" وندع الجانب التفصيلي من التقييم، والملاحظات على بعض هذه الدراسات حتى لا نخرج من موضوعنا الأساسي؛ لأنني سأحاول أن أكتب عن هذه القضية وفق منهج آخر، وذلك بدارسة أصولها وجذورها الأساسية، وتتبع مسارها التاريخي، وإفساح المجال للصوت المنكر لهذه الأسطورة، لسماعه وتحليله، فلم أر من اعتنى بمثل ذلك. بالإضافة لمسائل أخرى قد تكون جديدة تتعلق بهذه القضية. وقبل أن أرفع القلم أشير إلى أن تلك الدراسات والأقوال قوبلت من طائفة من شيوخ الشيعة بالإنكار، وأخذوا ينادون ويصرخون بأنهم قد ظلموا في هذه القضية وأنهم أبرياء من هذه التهمة، فما حقيقة الأمر؟ لقد رأينا من المنتمين لأهل السنة (¬1) . من بلغ به الحماس إلى أن يجمع ما جاء في كتاب إحسان إلهي ظهير ومحب الدين الخطيب من نصوص حول هذه الفرية، مقروناً بمصادره التي نقلت عنها ويعرضه على أحد شيوخ الشيعة (¬2) . ويطلب منه الإجابة على ذلك.. فكان من جواب هذا الشيعي أن: سلامة القرآن الكريم من التحريف موضع اتفاق وإجماع علماء الشيعة الإمامية، ومن شذ منهم في هذه المسألة فلا يعبأ برأيه كما من شذ عن هذا الإجماع من علماء السنة" (¬3) . ثم استدل ببعض أقوال شيوخهم في إنكار هذه الفرية، كما ذكر أن في كتب الحديث عندهم الصحيح وغيره، وأن الروايات التي ذكرها في رسالته غير معتبرة إجمالاً وقال: "وقد عرفنا إجماع الطائفة واتفاقها قائم على رفض التحريف في كتاب الله، فهذه الروايات إذن مهما كثرت فهي مردودة عندنا، ولا تسل لماذا تثبت هذه الروايات في المجاميع عندنا، ¬
فهي مجاميع خاضعة للنقد والاجتهاد، وليست صحاحاً للأخذ والعمل" (¬1) . ولكثرة إنكار الشيعة وشيوخها لهذا الفرية - إن حقيقة أو تقية - قال الدكتور رشدي عليان: "وأرى مادام المعتمدون من علماء الطائفة يذهبون إلى أنه لا تبديل ولا تحريف ولا نقص ولا زيادة في كتاب الله أن نكتفي بذلك ولا داعي لترديد بعض الآراء الشاذة وذكر الروايات الواهية الموضوعة في ذلك" (¬2) . وقال الشيخ رحمة الله الهندي في كتابه إظهار الحق بعد نقله لكلام طائفة من شيوخهم في إنكار هذه الفرية: "فظهر أن المذهب المحقق عند علماء الفرقة الإمامية الاثني عشرية أن القرآن الذي أنزله الله على نبيه هو ما بين الدفتين وهو مما في أيدي الناس ليس بأكثر من ذلك.." (¬3) . وبعدما عرفنا ما جاء في كتب المنتمين لأهل السنة، ولاحظنا أن المتقدمين من أهل السنة كالأشعري يرى أن الشيعة فريقان: فريق يقول بهذا الكفر وفريق ينكره، ثم نرى هذه الفرية عند البغدادي وأبي يعلي تنسب إلى الرافضة عموماً، ولكن نلاحظ في بعض كتابات المتأخرين كأبي الثناء الألوسي، والدكتور السالوس وغيرهما أن الشيعة في هذا طائفتان، ويميز بينهما الدكتور السالسوس بالاسم فيرى بأن الأصوليين قد ردوا أخبار هذه الأسطورة بحكم منهجهم في نقد النصوص، بينما قبلها الأخباريون لأنهم يقبلون كل ما نسب لأئمتهم من روايات، كما ترى إشارة إلى شيء من الخلاف فيما جاء على لسان الشيخ رحمه الله الهندي، بينما يرى د. رشدي عليان ألا يذكر سوى هذا القول عن الشيعة؛ لأن ما سواه عندهم رأي شاذ موضوع. بينما نرى صنفاً آخر من المعاصرين كالشيخ محب الدين ¬
ما تقوله مصادر الشيعة في هذه الفرية
الخطيب وإحسان إلهي ظهير وغيرهما يرى أن الاثني عشرية كلها على هذا، ومن أنكر منهم ذلك فإنكاره من قبيل التقية وليس بحقيقة. وبعد هذا نرجع إلى مصادر الشيعة المعتمدة عندها نستنطقها علّنا نعرف جلية الخبر عندها، هل ما يقال عنهم ليس بثابت عندهم؟ فلقد وجد من الطوائف ومن العلماء من افترى عليه وظلم وقيل عنه ما ليس فيه، وما ورد في كتب الفرق والمقالات نقول عن المخالف، وقد تكون تخريجات وإلزامات بعيدة عما يقتضيه المذهب، أو تكون ليست بثابتة، أو لها تأويل آخر عندهم، ولذا قبل: "إن نقل المخالف لا يعتد به" (¬1) . والعدل والإنصاف واجب ولازم {وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ} (¬2) ، {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (¬3) . ما تقوله مصادر الشيعة في هذه الفرية: وقبل أن نأخذ بيد القارئ في رحلة تبدأ من نقطة الصفر من أول كتاب وضعه الشيعة وألفوه، نعرض لصوتين مختلفتين ومتعارضين، هذان الصوتان المتعارضان كان لهما - في الغالب - وجود وصدى في كل الكتب الشيعية التي تعرضت لهذه القضية، فلنستمع إليهما ليتسنى إدراك وتصور هذه المسألة عند هؤلاء حتى لا يحصل غبش في تصورها في رحلة قد تطول مراحلها بين محطات الكتب الشيعية المختلفة. يقول شيخ الشيعة في زمنه ابن بابويه القمي (ت381هـ) صاحب من لا يحضره الفقيه.. وهو واحد من أهم كتبهم الأربعة المعتمدة في الحديث، يقول: "اعتقادنا أن القرآن الذي أنزله الله تعالى على نبيه محمد وهو ما بين الدفتين ¬
وهو ما في أيدي الناس ليس بأكثر من ذلك.. ومن نسب إلينا أنا نقول أكثر من ذلك فهو كاذب" (¬1) . هذا قول شيخهم الملقب عندهم بالصدوق، ويشايعه في قوله هذا آخرون من شيعته. ويقول المفيد (ت413هـ) : "إن الأخبار قد جاءت مستفيضة عن أئمة الهدى من آل محمد صلى الله عليه وسلم باختلاف القرآن وما أحدثه بعض الطاعنين فيه من الحذف والنقصان" (¬2) . ويقول: "واتفقوا - أي الإمامية - على أن أئمة الضلال (¬3) . خالفوا في كثير من تأليف القرآن وعدلوا فيه عن موجب التنزيل وسنة النبي صلى الله عليه وسلم" (¬4) . ويقول بما قاله مفيدهم - الذي يلقبونه بركن الإسلام وآية الله الملك العلام - طائفة من شيوخهم. هذان قولان مختلفان ومتعارضان صدرا من شيخين من شيوخهم يجمعهما وحدة الزمان والمكان، ويتفقان في الهوية المذهبية، بل إن هذا المفيد هو تلميذ لابن بابويه القمي. فمن نصدق منهما؟ وأي القولين يعبر عن مذهب الشيعة؟ ونجد أن تلميذين من تلامذة المفيد ومن أكبر شيوخ الشيعة - وهما الطوسي، وابن المرتضى - يقولان بما قاله ابن بابويه وأن مذهب أهل التحقيق من الشيعة إنكار هذه الفرية - كما سيأتي -، وكل قول من هذين القولين يؤيده جناح من الشيعة، بل يدعي حيناً أن لا قول للشيعة سواه وغيره افتراء على الشيعة وكذب.. والتعرف على الحقيقة وسط هذا الركام من الأقوال المتعارضة والمتناقضة ليس بسهل المنال.. وإذا لاحظنا أن من أركان الدين عند هؤلاء «التقية» ولادين لمن لا تقية له؛ أدركنا أن الحقيقة محجوبة بغيوم من الكذب والتزوير، وركام من التناقضات والتعارضات، ¬
وعقبات من التقية والكتمان.. ولهذا سنرى في مبحث التقية أن الحقيقة التي تعبر عن مذهب الأئمة قد تخفى على شيوخ الشيعة أنفسهم فلا يعلمون أي القولين تقية، فكان هذا من أسباب ضياع مذهب الأئمة واستمرار الغلو. ولهذا سنبدأ بدراسة هذه القضية من بدايتها، والتحري في صدق الأقوال من تقيتها، بتحليل الأقوال ومقارنتها مما صدر عن صاحبها في كتبه الأخرى، وأسأل الله سبحانه أن يعصمنا من اتهام الآخرين بما ليس فيهم، وأن يجنبنا مواضع الزلل في أقوالنا وأحكامنا. وسنتناول هذه القضية الخطيرة التي يترتب على رمي الشيعة بها انفصالها عن المسلمين لمفارقتها للأصل الذي يتفقون عليه - سنتناولها فيما يلي وفق التصوير التالي: أقوم أولاً بتتبع الكتب التي شاركت في وضع هذا الكفر بين الشيعة، وأعرض لها، وأتوقف في أول الأمر لدراسة أول كتاب تسجل فيه هذه الفرية، ومن الذي وضعه، ورأى شيوخ الشيعة فيه؛ لما في ذلك من أهمية في بيان جذور هذا البلاء، واكتشاف الأيدي السبئية التي شاركت في هذه الجريمة، ثم نتحدث كيف امتدت منه إلى سائر كتب الشيعة. وبعد ذلك نعرض لمضامين هذه الكتب ونصوصها المتصلة بقضية التحريف، وحجمها ووزنها عندهم، وما يقولونه في مصحف علي، وما يقال بأن عندهم مصحفاً سرياً يتداولونه فيما بينهم، وإنكار جملة من شيوخ الشيعة لهذا الكفر، وهل هذا الإنكار تقية أو حقيقة. كل ذلك نعرض له من كتب الشيعة نفسها، إلا ما جاء عرضاً في مناقشة بعض المسائل، وإن رأيت شيئاً من الإطالة في هذا المبحث فللخطورة الكبرى له، واختلاف الناس حول رمي الشيعة به - كما سلف الإشارة إلى ذلك -.
بداية الافتراء كما يؤخذ من كتب الشيعة: أول كتاب تسجل فيه هذه الفرية هو: "كتاب سليم بن قيس (¬1) . الذي رواه عنه أبان بن أبي عياش (¬2) ، لم يروه عنه غيره (¬3) ، وهو: "أول كتاب ظهر للشيعة" كما يقول ابن النديم (¬4) . وغيره. وقد أكثر الشيعة من مدحه وتوثيقه والثناء على كتابه (¬5) . رغم أنني لم أجد ¬
لمؤلفه ذكراً فيما رجعت إليه من مصادر (¬1) ، ولو صدق بعض ما تذكره الشيعة فيه لكان شيئاً مذكوراً، ولكنه لم يذكر إلا في كتب الشيعة وحدها، بل إن من متقدمي الشيعة من قال: "إن سليماً لا يعرف ولا ذكر في خبر" (¬2) . وإن كان هذا ليس بمرضي عند متأخري الشيعة. ورغم أن الكتاب يحمل أخطر آراء السبئية وهو تأليه علي ووصفه بأوصاف لا يوصف بها إلا رب العالمين (¬3) . فإن كل ذلك لم يحد من مبالغات الشيعة في مدحه وتوثيقه في روايات ينسبونها لآل البيت، ¬
وأقوال صدرت من كبار شيوخهم (¬1) . حتى اعتبروه أصلاً من أصول آل محمد وسراً من أسرارهم، رغم أنه يحمل برهان وضعه سنداً ومتناً فهو من روايات أبان وهو متروك أو ضعيف عند أهل السنة، وضعيف في كتب الرجال عند الشيعة (¬2) . أيضاً، وسليم الذي يزعمون أنه مؤلف الكتاب مجهول، وقد لا يكون له وجود في إلا في خيالات الشيعة (¬3) ، والكتاب مضطربة طرقه ولكنهم يقولون: "ما يتراءى من الاضطراب في الطريق غير قادح وهو واقع في أكثر طرق كتب أصحابنا" (¬4) . وجملة من متون الكتاب تجعله في عداد الكتب الباطنية الإلحادية، ومع ذلك فقد اعتمد النقل عنه أصحاب الكتب الأربعة المعتمدة عندهم وآخرون من شيوخهم (¬5) . وسجل في هذا الكتاب جملة من عقائد غلاة الشيعة. والمفاجأة في هذا الموضوع أن بعض شيوخ الشيعة أماط اللثام عن حقيقة هذا الكتاب، وكشف النقاب عن هويته؛ إذ قد رابهم شيء في هذا الكتاب فرأوا من الواجب كشفه قبل أن يقوض أساس التشيع الاثني عشري نفسه، ولا يظن القارئ أن هذا الذي رابهم وأشكل عليهم هو تأليه علي، أو الطعن في القرآن ¬
أو غير ذلك من المطاعن في الإسلام نفسه، إنما الخطر الذي اكتشفوه في الكتاب: "هو أنه جعل الأئمة ثلاث عشر" وهذه طامة كبرى تهدد بنيان الاثني عشرية بالسقوط، ولاسيما أن هذا وجد في كتاب يعتبر أبجد الشيعة، وأول كتاب ظهر لهم، ولهذا كفونا مؤنة نقض هذا الكتاب. فقرر فريق منهم أن "الكتاب موضوع لا مرية فيه" (¬1) . وبدأوا يبينون عيوب الكتاب وأمارات وضعه فقالوا: إنه خالف التاريخ بقوله: "إن محمد بن أبي بكر وعظ أباه عند الموت لأنه غصب الإمامة من علي" مع أن محمد بن أبي بكر ولد في سنة حجة الوداع فكيف يعظ أباه وعمره ثلاث سنوات (¬2) ، كما أنه جعل الأئمة ثلاث عشر، وقالوا: بأن سليماً لا يعرف ولا ذكر في خبر، وأن أسانيد الكتاب مختلفة مضطربة (¬3) ، واتهموا في وضع الكتاب أبان بن أبي عياش (¬4) . وحدد بعض المعاصرين تاريخ وضعه فقال: إنه موضوع في آخر الدولة الأموية لغرض صحيح (¬5) .- ولم يبين دليله فيما ذهب إليه - وفريق منهم عزّ عليهم - فيما يبدو - أنه يفقدوا هذا الكتاب جملة واحدة مع أنه أصل من أصولهم وعمدة لشيوخهم.. فقال هذا الفريق: "والوجه عندي الحكم بتعديل المشار إليه والتوقف في الفاسد من كتابه" (¬6) . مع أن هذا الفاسد ينقض بنيان الاثني عشرية من الأساس وذلك في جعله الأئمة ثلاثة عشر. ولهذا لم يرتض هذا القول من الدوائر الشيعية فرأى فريق منهم القيام بعمل جذري ينهي المشكلة التي أقلقتهم من أساسها فقاموا بتعديل الكتاب ليتلاءم والمنطق الشيعي. وأشار الخوانساري إلى التغير في الكتاب فقال: "إن ما وصل إلينا من ¬
نسخ الكتاب هو أن عبد الله بن عمر وعظ أباه عند الموت" (¬1) . وقال الحر العاملي: "والذي وصل إلينا من نسخه ليس فيه شيء فاسد، ولا شيء مما استدل به على الوضع" (¬2) . وقد بحثت عن عيوب الكتاب في نظر الشيعة والتي أشار إليها الفرق الأول في طبعتين من طبعات الكتاب (¬3) . فلم أجد لها ذكراً فيه، وهذا يدل على أنهم يغيرون في كتبهم ويزيدون وينقصون. ومع هذا فقد أصبح هذا الكتاب عمدة عند متأخري الشيعة كما قرره المجلسي في البحار (¬4) ، والحر العاملي في الوسائل (¬5) . وغيرهما. هذه الوقفة عند كتاب سليم بن قيس أرى أنها ضرورية لمحاولة اكتشاف الأيدي السبئية التي افترت هذه الفرية، إذ إننا نلاحظ أن الفرية بدأت من كتاب سليم بن قيس الذي اتهموا في وضعه أبان، وحدد بعضهم تاريخ وضعه بأنه في آخر الدولة الأموية. أما من تولى كبر هذا الوضع لهذه الفرية فإن بعض شيوخ الشيعة يتهم فيه أبان، وقد سبق أن ذكرنا أن الملطي يتهم فيه هشان بن الحكم، يعني أن هذه الفرية لم يكن لها وجود قبل القرن الثاني، وقد تتبعت الآراء المنسوبة لابن سبأ وطائفة السبئية فلم أجد أن هذه المقالة قد نقلت عن ابن سبأ لأنها - فيما يبدو - لم تخطر على باله لوضوح بطلانها أمام الجيل الذي عاصر التنزيل، ولأنها وسيلة سريعة لانكشاف كذبه، فلم يتجرأ ابن سبأ على إشاعة هذه الفرية. لم يقل إن الصحابة حرفوا القرآن ولكن عدل عن ذلك إلى القول: "بأن هذا القرآن جزء من تسعة أجزاء وعلمه عند علي" (¬6) ، وهي مقالة مجملة لم يفصح فيها عن مراده، وقد يوضحها ما جاء في رسالة الحسن بن محمد بن الحنفية (ت95هـ) وهو قوله: "ومن خصومه هذه السبئية ¬
شيوع هذه الفرية في كتب الشيعة
التي أدركنا يقولوا (كذا) هدينا لوحي ضل عنه الناس وعلم خفي ويزعمون أن نبي الله كتم تسعة أعشار القرآن، ولو كان نبي الله كاتماً شيئاً مما أنزل الله لكتم شأن امرأة زيد {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ} (¬1) . فإذن لم تكن هذه القضية من مقالات السبئية بل حدثت فيما بعد، أما من هو الذي تولى كبر وضع هذا الكفر بين الشيعة؟ فإن الإجابة الجازمة المحددة قد لا تكون ميسرة، ولا يجدي في هذا تتبع أسانيد روايات التحريف؛ لأن في أخبارها ما هو عار من السند كالروايات التي جاءت في كتاب الاحتجاج للطبرسي، ولأن مسألة الإسناد عندهم قد وجدت بعض القرائن - كما سيأتي - التي تدل على أنها صنعت متأخرة، كما أن من أساليبهم وضع الأسانيد الصحيحة لمتون مكذوبة فلا يعطي سلوك هذا المنهج نتيجة جازمة. شيوع هذه الفرية في كتب الشيعة: قد لاحظنا أن البداية - إذا أخذنا بأقوالهم - كانت بكتاب سُليم وبدأت القضية بروايتين فقط، وليس فيها الصراحة التي نجدها عند من بعده - كما سترى أثناء عرضنا لروايات التحريف بعد نهاية هذه المسألة - فكأن المسألة في كتابه لا تزال في بدايتها لم يكثر الوضع والكذب حولها، ولكنها بداية في كتاب قوبل بالرفض من بعض الشيعة؛ فهذا يعني الحكم بالموت على هذه المقالة، لولا أنه جاء في القرن الثالث من تلقف هذه الأسطورة وزاد عليها، وأرسى دعائمها الباطلة. جاء شيخهم علي بن إبراهيم القمي هو شيخ الكليني صاحب الكافي وحشا تفسيره بهذه الأسطورة (¬2) . وصرح بها في مقدمة تفسيره (¬3) . ولهذا قال شيخهم الكاشاني: "فإن تفسيره مملوء منه وله غلو فيه" (¬4) . وكذلك قال شيخهم ¬
الآخر النوري الطبرسي: "وقد صرح (يعني القمي) بهذا المعتقد في أول تفسيره وملأ كتابه من أخباره مع التزامه في أوله ألا يذكر فيه إلا مشايخه وثقاته" (¬1) . ومع أن هذا الكتاب قد ملئ بهذه الزندقة فإن كبير علماء الشيعة اليوم "الخوئي" يوثق روايات القمي كلها - كلما سلف - (¬2) . ومن بعد القمي جاء تلميذه الكليني المتوفى سنة (328هـ) أو (329هـ) الملقب عند الشيعة بـ"ثقة الإسلام" ومؤلف أصح كتاب من كتبهم الأربعة المعتمدة في الرواية عندهم. وقد روى الكليني في الكافي من أخبار هذه الأسطورة الشيء الكثير (¬3) . مع أنه التزم الصحة فيما يرويه (¬4) ، ولهذا قرر الكاتبون عنه عن الشيعة: "أنه كان يعتقد التحريف والنقصان في القرآن، لأنه روى روايات في هذا المعنى في كتابه الكافي ولم يتعرض لقدح فيها مع أنه ذكر في أول كتابه أنه يثق بما رواه" (¬5) . والكافي للكليني عند شيوخ الرافضة في أعلى درجات الصحة، لأن الكليني كان معاصراً للسفراء الأربعة الذين يدعون الصلة بمهديهم الغائب المنتظر، ولهذا كان التحقيق من صحة مدوناته أمر ميسوراً له لأنه يعيش معهم في بلد ¬
واحد هو بغداد (¬1) . ولكن يلاحظ أن ابن بابويه القمي حكم بوضع ما روي في تحريف القرآن مع وجودها في الكافي الذي يصفونه بهذا الوصف، ويوثقونه هذا التوثيق. وقد رجعت إلى مرآة العقول للمجلسي فرأيته يحكم على بعض أحاديث الكافي بالضعف، ولكنه حكم على روايات في التحريف بالصحة (¬2) ، وكذلك الشافي شرح أصول الكافي (¬3) ، وقد صدر حديثاً كتاب اسمه: "صحيح الكافي" (¬4) . وقد راجعته فوجدت صاحبه قد جرده من الروايات التي تمس كتاب الله، وليس ذلك فحسب بل حذف أبواباً بكاملها مع أحاديثها (¬5) . في ذلك، كما حذف أبواباً ¬
تمثل جملة من العقائد التي تنتقد فيها الشيعة (¬1) . وما ندري تصرفه هذا تقية أم حقيقة.. لاسيما وأنه قد حذف أحاديث كثيرة لهم قد حكم عليهم بالصحة المجلسي في مرآة العقول، وصاحب الشافي. ومن طبقة الكليني أيضاً العياشي له تفسير يسمى: "تفسير العياشي" وقد وجدت أسطورة التحريف مكانها في هذا التفسير في مواضع كثيرة ومتفرقة فيه (¬2) . وهو من كتبهم المعتمدة - كما سلف (¬3) .- رغم أن رواياته لا سند لها ولا زمام، وزعم صاحب البحار أن الذي حذف أسانيده أحد النساخ (¬4) . ومن القرن الثالث أيضاً فرات بن إبراهيم الكوفي له تفسير يسمى: "تفسير فرات" (¬5) . وقد ارتضى لنفسه أن ينقل من أخبار هذه الأسطورة (¬6) . وهو من كتبهم المعتبرة (¬7) . عندهم. ومن هذا القرن أيضاً محمد بن إبراهيم النعماني (¬8) . روى في كتابه: "الغيبة" طائفة من الروايات في هذا الافتراء (¬9) . وهو عندهم من أجلّ ¬
الكتب وأثبتها (¬1) . ومن هذه الزمرة الحاقدة التي وجدت في هذه الفترة أبو القاسم الكوفي، وقد نسبته بعض كتب الانثي عشرية إلى الغلو (¬2) ، وشهد على نفسه في كتابه: "الاستغاثة" بأنه على هذا المنهج الضال (¬3) . وقد نسب له النجاشي كتاباً سماه: "التبديل والتحريف" (¬4) . وقد فقد هذا الكتاب مع نظائر له، كما أشار إلى ذلك صاحب فصل الخطاب (¬5) . وهو يروي عن القمي مباشرة (¬6) . بعض روايات التحريف، فقد يكون تلقى عنه هذا الكفر. ومن بعد هؤلاء نرى شيخهم المفيد (ت413هـ) سجل في كتابه "أوائل المقالات" إجماع طائفته على هذا المنكر (¬7) ، ونقل بعض أخباره في بعض كتبه كالإرشاد (¬8) . وهو من كتبهم المعتبرة (¬9) . هذا الزخم من المصنفات وغيرها لتأييد هذا الكفر وإثباته لا يشك مسلم أنه كيد زنديق حاقد على كتاب الله ودينه وأتباعه، وقد دفع هذا الفئة إليه - كما سيأتي في تحليل نصوص هذه الأسطورة ورواياتها - خلو كتاب الله مما يثبت ¬
شذوذهم، وما ذهبوا إليه من عقائد ليس لها أصل في كتاب الله، وليس في مقدورهم أن يفعلوا شيئاً لتغيير بعض آيات الله، كما فعلوا في السنة المطهرة حينما دسوا بعض الروايات والتي كشفها صيارفة هذا العلم وأربابه، فلما لم يستطيعوا أن يحدثوا في كتاب الله أمراً لأنه فوق منالهم حينئذ ادعوا أن في كتاب الله نقصاً وتغييراً - وما أسهل الدعوى على حاقد موتور -. وهي محاولة فيما يبدو لإقناع أتباعهم الذين ضجوا من خلو كتاب الله من ذكر أئمتهم وعقائدهم والتي لها تلك المكانة التي يسمعونها من رؤسائهم (¬1) ، فادعوا هذه الدعوى ونشط شيوخهم في القرن الثالث والرابع في الحديث عنها، ولكنهم فيما يبدو لم يحسبوا لهذه الدعوى حسابها فارتدت عليهم بأسوأ العواقب؛ فقد فضحتهم أمام الملأ وكشفت القناع عن وجوههم وأبانت عن عداوتهم ونفاقهم، وقطعت صلتهم بالإسلام والقرآن وأهل البيت. ولهذا في القرن الرابع أعلن كبير شيوخهم ابن بابويه القمي صاحب "من لا يحضره الفقيه" أحد صحاحهم الأربعة في الحديث والموصوف عندهم بـ"رئيس المحدثين" المتوفى سنة (381هـ) أعلن براءة الشيعة من هذه العقيدة (¬2) ، وكذلك الشريف المرتضى المتوفى سنة (436هـ) كان ينكر هذه المقالة، ويكفر من قال بها كما ذكر ذلك ابن حزم (¬3) ، وقد نقل إنكاره أيضاً شيوخ الشيعة كالطوسي (¬4) . والطبرسي (¬5) ، وكذلك استنكر هذه المقالة وصلة الشيعة بها الطوسي صاحب كتابين من كتب الحديث الأربعة المعتمدة عندهم، وصاحب كتابين من كتب الرجال الأربعة المعتمدة عندهم (¬6) ، وكذلك الطبرسي (¬7) . صاحب "مجمع البيان". ¬
وسننقل - بمشيئة الله - كلماتهم في ذلك ونقدم دراسة مقارنة لها مع ما قالوه في كتبهم الأخرى، وما قاله الشيعة في إنكارهم، ولكن رغم هذا الإنكار من هؤلاء فإن القضية ما تمت، ففي القرن السادس تولى إثارة هذه القضية مرة أخرى الطبرسي صاحب الاحتجاج فحشا كتبه الاحتجاج من هذا الكفر (¬1) ، وسطر مجموعة من رواياتهم في ذلك وجاء بها مجردة منكل إسناد، وزعم في مقدمة كتابه أنه لم يذكر إسناداً في أكثر رواياته لأنها محل إجماع قومه، أو مشهورة عندهم فقال: "ولا نأتي في أكثر ما نورده من الأخبار بإسناد، إما لوجود الإجماع عليه، أو موافقته لما دلت العقول إليه، أو لاشتهاره في السير والكتب بين المخالف والمؤالف" (¬2) ، وقد كان هذا الطبرسي المجاهر بهذا الكفر من معاصري أبي الفضل الطبرسي صاحب مجمع البيان الذي ينكر هذه المقالة ويبرئ الشيعة منها (¬3) . ويبدو أن إنكار أولئك الأربعة كان له وقعه، أو أن القضية أصبحت سرية التداول، فلم نشاهد نشاطاً ملحوظاً لبعثها وترويجها بشكل ظاهر وكبير إلا في ظل الحكم الصفوي الذي شهد إثارة لهذه الأسطورة واختراع روايات لها، وترويجها أشد مما كان في القرن الثالث، كان ذلك على يد مجموعة من شيوخ الدولة الصفوية الذين نشطوا في بعث هذا الكفر، حتى يلاحظ أن هذه الأسطورة التي بدأت بروايتين في كتاب سليم بن قيس أصبحت كما يعترف شيخهم نعمة الله ¬
الجزائري أكثر من ألفي رواية (¬1) ، حيث إن شيوخ الدولة الصفوية كالمجسلي في بحاره (¬2) ، والكاشاني في تفسير الصافي (¬3) ، والبحراني في البرهان (¬4) ، ونعمة الله الجزائري في الأنوار النعمانية (¬5) ، وما سواها من كتبه، وأبي الحسن الشريف في مرآة الأنوار (¬6) ، والمازنداني (¬7) . شارح الكافي وغيرهم تولوا نشر هذه الفرية على نطاق واسع في ظل الحكم الصفوي الذي ارتفعت فيه التقية إلى حد ما. وفي آخر القرن الثالث عشر وقعت الفضيحة الكبرى للشيعة في هذا الباب؛ فقد ألف شيخهم حسين النوري الطبرسي الذي يحظى بتعظيمهم (¬8) . مؤلفاً في هذا الكفر جمع فيه كل ما لهم من "أساطير" في هذا الباب وسماه "فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب" (¬9) ، فأصبح هذا الكتاب عاراً على الشيعة ¬
أبد الدهر، فقد جمع فيه صاحبه رواياتهم المتفرقة وأقوال شيوخهم المتناثرة لإثبات أن الشيعة برواياتها وأقوال المحققين من شيوخها تقول بهذا الكفر.. وهو يؤلف كتابه هذا لمواجه جناح من الشيعة أبى أن يهضم هذه الأسطورة، ورفض قبول هذه المقالة كما يظهر واضحاً في رده عليهم في آخر كتابه المذكور (¬1) . وقد كشف بهذا الكتاب ما كان خفياً وأبان ما كان مستوراً. لقد وضع "المجهر" الذي كشف ما في زوايا كتب القوم وخباياها من كيد حاقد، وعداوة مبيتة للقرآن وأهله، وقد أبان هذا الملحد المسمى بالطبرسي عن غرضه المبيت ضد كتاب الله في مقدمة كتابه فقال: "فيقول العبد المذنب المسيء حسين بن محمد تفي الدين الطبرسي جعله الله من الواقفين ببابه المتمسكين بكتابه (!) : هذا كتاب لطيف وسفر شريف عملته في إثبات تحريف القرآن وفضائح أهل الجور والعدوان، وسميته فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب.. وأودعت فيه من بدايع الحكمة ما تقر به كل عين، وأرجو ممن ينتظر رحمته المسيئون أن ينفعني به في يوم لا ينفع مال ولا بنون" (¬2) . انظر كيف تتقنع "المجوسية" بمسوح الرياء والكذب لخداع الأغرار والبسطاء عن الهدف الخبيث الذي تسعى إليه، وقد رام بعضهم أن يتستر على هذا "الهدف" فقال: "وقد يقال: إن نظره في تأليف ذلك الكتاب إلى جمع تلك الأخبار والشواذ والنوادر ولم يكن غرضه اعتقاد التحريف" (¬3) ، ولكن هذه الدعوى ما تلبث أن تتلاشى بمجرد قراءة العنوان فضلاً عن المقدمة والكتاب، فلا يجدى شيئاً مثل هذا الدفاع فهي تقية مكشوفة (¬4) ، هذا وبعد هذا العار الأكبر الذي كساه صاحب فصل الخطاب على الشيعة وكتبها. وبعد هذه الفضيحة والخزي قام فئة من شيوخ الشيعة المعاصرين يتبرؤون من هذه المقالة وينكرونها كالبلاغي في آلاء الرحمن (¬5) ، ¬
ومحسن الأمين في الشيعة بين الحقائق والأوهام (¬1) ، وعبد الحسين شرف الدين في أجوبة مسائل جار الله (¬2) ، والخوئي في تفسيره البيان (¬3) ، ومحمد حسين آل كاشف الغطا في أصل الشيعة وأصولها (¬4) ، ومحمد جواد مغنية في الشيعة في الميزان (¬5) ، وفي عدد من كتبه، وغيرهم، وسنتوقف في مناقشة أقوالهم في فصل: "الشيعة المعاصرون وصلتهم بأسلافهم". فهل ننتهي من هذا كله إلى أن ما قاله الأشعري في المقالات من أن للشيعة في هذه المسألة أكثر من قول وأنهم لم يتفقوا على هذا الضلال هو الواقع، وأن الاثني عشرية فئتان: فئة تغلو في هذا وتشتط، وفئة تقول الحق كما ذكر ذلك بعض المنتمين لأهل السنة - كما سبق - وبعض الكاتبين من الشيعة (¬6) . أو أن القول الحق هو تقية من الشيعة كما قال بذلك بعض أهل السنة كما سلف، وكما يزعمه من يقول بالتحريف من الشيعة كنعمة الله الجزائري (¬7) ، هذا كله سنتناوله بالدراسة والبيان في مبحث تالٍ. مضامين روايات التحريف في كتب الشيعة: بعد ما عرضنا للكتب التي نقلت هذه الأسطورة نبدأ الآن في بيان بعض مضامينها، وصورة البداية لهذه الفرية، وكيف تطورت وبماذا انتهت. ونبدأ في ما تضمنه أول كتاب للشيعة، وأول كتاب تعرض لهذه الفرية وهو كتاب سليم بن قيس؛ حيث نجد الصورة لهذه الفرية في بدايتها فترد هذه المسألة في أثناء روايتين طويلتين يتعلقان بموضوع إمامة علي، فتذكر الراوية الأولى والتي يرويها أبان بن ¬
عياش المتفق على ضعفه - كما أسلفنا - عن سليم وفيها: "أن علياً لزم بيته حتى جمعه وكان في الصحف والرقاع" (¬1) . واعتذر عن المسارعة إلى بيعة أبي بكر بانشغاله بجمع القرآن فقال - لما بعث إليه أبو بكر لطلب البيعة -: "إني آليت على نفسي يميناً ألا أرتدي رداءً إلا للصلاة حتى أولف القرآن وأجمعه" (¬2) . ومثل هذه الدعوى وردت في بعض كتب أهل السنة ولكنها لم تثبت بسند صحيح، ولهذا قال ابن حجر: وما يروى عن علي أنه قال: "آليت ألا آخذ ردائي إلا للصلاة حتى أجمع القرآن"، فجمعه فإسناده ضعيف لانقطاعه، وعلى تقدير أن يكون محفوظاً فمراده بجمعه حفظه في صدره، وما وقع في بعض طرقه: "حتى جمعته بين اللوحين" فوهم من روايه" (¬3) . قال ابن حجر: "وأصح منه وهو المعتمد ما أخرجه ابن أبي داود في المصاحف بإسناد حسن عن عبد خير قال: سمعت علياً يقول: أعظم الناس في المصاحف أجراً أبو بكر - رحمة الله على أبي بكر - وهو أول من جمع كتاب الله" (¬4) . هذا وتصف رواية سليم جمع علي للقرآن بأنه لم يكن كله قرآناً بل جمع "تنزيله وتأويله والناسخ والمنسوخ منه" (¬5) ، وهذا رغم أنه لم يصح من أصله إلا أنه يدل على أنه ليس وفق الأصول التي أمر بها النبي -صلى الله عليه وسلم- لجمع ¬
القرآن، ومنها قوله: "لا تكتبوا عني شيئاً غير القرآن" (¬1) . فقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بكتابة القرآن ونهى أن يكتب معه غيره خشية أن يختلط بشيء آخر، وعلى أي الأحوال فإن قصارى ما في هذه الدعوى أن يكون لعلي مصحف مثل بعض الصحابة كابن مسعود وغيره (¬2) . وهذا لا يتضمن الطعن في كتاب الله سبحانه. ولكن الرواية لم تكتف بهذه الدعوى، بل قالت بأنه جاء به إلى الصحابة ودعاهم إليه فقال عمر - كما يزعمون -: "ما أغنانا بما معنا من القرآن عما تدعونا إليه" (¬3) . وما دام قرآن علي المزعوم لم يكن كله قرآناً بل اشتمل على التفسير والآيات المنسوخة فإن الأصل الرجوع إلى المصحف الإمام فهو يغني عن غيره. لذا عادت هذه الزمرة التي وضعت في هذا الأسطورة لتتوسع في سبكها، وعرضها، ولعب فيها الخيال الحاقد دوره أكثر وأكثر فتحولت هذه الزيادة الأخيرة عند الطبرسي (من القرن السادس) في الاحتجاج إلى صورة أخرى كطبيعة الكذب الذي يزيد وينقص، تحولت إلى صراع بين علي وصحابة رسول الله - رضي الله عن الجميع وبرأهم الله مما يفتري المفترون -. فإذا كانت رواية سليم تقول بأنهم ردوا مصحف علي حينما جاء به لأول وهلة، فإن رواية الطبرسي تشير إلى أنهم أخذوه "فلما فتحه أبو بكر خرج في أول صفحه فضائح القوم" (¬4) . وهي هنا تقدم لنا موضوعاً من موضوعات مصحف علي وهو فضائح القوم يعني الطعن في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، في حين أن رواية سليم لا تتعرض لكتاب الله بطعن صريح، وهذا لا يطفئ الحقد الذي أكل قلوب هذه الزمرة الحاقدة تجاه الرعيل الأول ¬
الذين فتحوا ديارهم ونشروا الإسلام بينهم، بل لا تتغذى قلوبهم الحاقدة إلا على موائد سب الصحابة، ولا ترتوي نفوسهم السوداء إلا بالطعن فيهم. وآيات القرآن التي تثني عليهم وتعلي من شأنهم هي قوارع من حديد على رؤوسهم، وشهب من نار تهوي على أفئدتهم، فكان من الطبيعي أن يدعوا مثل هذه الدعوى.. وإذا كانت رواية سليم تكتفي بما أسلفنا فإن رواية الاحتجاج تضيف إليها فصلاً جديداً يقول: "ثم أحضروا زيد بن ثابت - وكان قارئاً للقرآن - فقال له عمر: إن علياً جاء بالقرآن وفيه فضائح المهاجرين والأنصار وقد رأينا أن نؤلف القرآن (في حين أن رواية سليم تشير إلى أن القرآن كان مجموعاً عند أبي بكر وعمر) ونسقط منه ما كان فضيحة وهتكاً للمهاجرين والأنصار، فأجابه زيد إلى ذلك ثم قال: فإن أنا فرغت من القرآن على ما سألتهم وأظهر علي القرآن الذي ألفه أليس قد بطل كل ما عملتهم؟ فقال عمر: فما الحيلة؟ قال زيد: أنتم أعلم بالحيلة، فقال عمر: ما حيلته دون أن نقتله ونستريح منه، فدبر في قتله" (¬1) . ثم يشرح في موضع آخر محاولة القتل المزعومة وتكليف خالد بذلك وأن أبا بكر تأسف وتراجع عن هذه المؤامرة خشية عواقبها فقال وهو في الصلاة: "لا تقتله يا خالد" إلى آخر هذه المسرحية المصنوعة (¬2) . ثم تواصل هذه الأسطورة فصولها فتذكر محاولة عمر لاستدراج علي وخداعه بدعوته إحضار القرآن حتى يعملوا به، وذلك محاولة عن عمر لتحريف مصحف علي، وأن علياً رفض ذلك، وأن عمر سأله متى أوان ظهوره؟ فقال: إنه سيظهر مع القائم من ولدي يظهره ويحمل الناس عليه فتجري السنة به - صلوات الله عليه - (¬3) . والسؤال الذي لا تجيب عنه رواية الطبرسي، ولا كتب الشيعة الأخرى هو مادامت محاولتهم لقتل علي أخفقت، وتدبيرهم لتحريف مصحفه قد فشلت، ¬
فلماذا لم يخرج علي القرآن الذي معه؟!، وإذا كان يخشى منهم لأن السلطة بأيديهم فلماذا لم يخرجه أثناء خلافته، لماذا يتسبب في بقاء الأمة تائهة حائرة، ولماذا يتستر على خيانة الخائن وتحريف المحرف، ومن أقر خائناً على خيانته كان كفاعلها؟ لم تجد هذه الزمرة ما تجيب به إلا ما قالته على لسان عالمها نعمة الله الجزائري من أنه فضّل مجاملة من سبقه على هداية الأمة (¬1) ، وهذا فوق أنه طعن في كتاب الله وهو من أبلغ القدح في علي - كما سبق - وأقول أيضاً: إذا كانت مجاملة علي تبلغ هذا المبلغ فلماذا لم يقتد الشيعة بإمامهم ويدعوا السب والطعن الذي سوّد صفحات المجلدات من كتبهم، فإما أن يكونوا كاذبين في اعتذارهم أو مجانبين لخطى إمامهم، وما ندري أي الأمرين يطوّح بهما أكثر من الآخر. وأعود لذكر الرواية الأخرى في كتاب سليم بن قيس وهي تشبه الرواية الأولى وتزيد عليها بسؤال وجه من طلحة -رضي الله عنه - لعلي لماذا لم يخرج القرآن الذي معه؟، وسكوت علي عن الإجابة ومضيه في حديث عن أحقيته بالإمامة، ولكن طلحة يسأله مرة أخرى عن هذا فيقول: "ما أراك يا أبا الحسن أجبتني عما سألتك عنه عن القرآن ألا تظهر للناس، قال: يا طلحة، عمداً كففت عن جوابك، قال: فأخبرني عما في كتب عمر وعثمان - كذا - أقرآن كله أم فيه ما ليس بقرآن، قال طلحة: بل قرآن كله. قال: إن أخذتم بما فيه نجوتم من النار ودخلتم الجنة، فإن فيه حجتنا وبيان حقنا وفرض طاعتنا، فقال طلحة: حسبي، أما إذ هو قرآن فحسبي" (¬2) . فهذه الراوية عند سليم تعرض عن الطعن في كتاب الله بطريقة صريحة، بل تؤكد بأن كل ما فيه قرآن، وأن فيه بيان حق أهل البيت وفرض طاعتهم، على حين أننا نجد روايات عندهم تناقض هذا، وتقول: "لولا أنه زيد في كتاب الله ¬
ونقص منه لما خفي حقنا على ذي حجى" (¬1) ، وتقول: "لو قرئ القرآن كما أنزل لألفينا فيه مسمين" (¬2) . فهذا تطور آخر في هذه الأسطورة ينكشف من خلاله بعض الدوافع لوضعها وهي أن الأئمة الاثني عشر الذين جعلوا الإيمان بهم هو الإسلام.. وإنكار واحد منهم هو الكفر لا ذكر لهم في كتاب الله، وهذا يهدد جمعهم بالفشل وبنيانهم بالانهيار، ففزعوا يبحثون عن حيلة لمواجهة هذه المعضلة عندهم فلجؤوا إلى وسائل شتى، أخطرها هذه المقالة. هذا وفي تطور آخر بدأت هذه الأسطورة تتخذ شكلاً عملياً ويزاد في أخبارها ورواياتها على يد علي بن إبراهيم القمي صاحب التفسير وتلميذه الكليني صاحب الكافي، وهذان الرجلان هما ممن أرسى دعائم هذه العقيدة الباطلة وعملا على ترويجها ونشرها والإكثار من الحديث عنها، وقد اكتملت صورة هذه الأسطورة على أيديهما فبدأت الروايات عند القمي والكليني تأخذ بهذه الأسطورة إلى مرحلة عملية فبدؤوا بإقحام كلمة "في علي" بعد أي آية فيها لفظ: "أنزل الله إليك"، "وأنزلنا إليك"، وزيادة لفظ: "آل محمد حقهم" بعد لفظ: "ظلموا" حيثما وقع في القرآن، وزيادة لفظ: "في ولاية علي" بعد لفظ: "أشركوا" حيثما جاء في القرآن، وتغيير كلمة "أمة" بكلمة أئمة حيثما وقعت. وعلى هذا المنوال نسج القوم في القرآن كله، ومن شواهد هذا ما يروي الكليني عن القمي بسنده إلى جابر الجعفي عن أبي جعفر قال: نزل جبرائيل بهذه الآية على محمد "بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله (في علي) بغياً" (¬3) . وكذلك يقولون: "نزل جبرائيل بهذه الآية على محمد هكذا: "وإن كنتم في ¬
ريب مما نزلنا (في علي) فأتوا بسورة من مثله" (¬1) . ويروون عن أبي عبد الله أنه قال: "نزل جبرائيل - عليه السلام - على محمد بهذه الآية هكذا: "يا أيها الذين أتوا الكاب آمنوا بما نزلنا (في علي) نوراً مبيناً" (¬2) . ويلاحظ هنا أنه خلط بين أكثر من آية (¬3) . وقال القمي: "وأما ما هو محرف فمنه قوله: "لكن الله يشهد بما أنزل إليك (في علي) أنزله بعلمه والملائكة يشهدون" (¬4) ، وقوله: "يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك (في علي) وإن لم تفعل فما بلغت رسالته" (¬5) ، وقوله: "إن الذين كفروا وظلموا (آل محمد حقهم) لم يكن الله ليغفر لهم" (¬6) . وقوله: "وسيعلم الذين ظلموا (آل محمد حقهم) في غمرات الموت" (¬7) . قال هذا القمي ومثله كثير ¬
نذكره في مواضعه (¬1) ، وقد حشى كتابه بهذا الكفر كما وعد (¬2) . وعلى نفس النسق الذي أشرنا إليه. كما تزيد رواية أخرى له على قوله سبحانه: {فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ} (¬3) . تزيد كالعادة عبارة "آل محمد" (¬4) . ويروي هذا القمي أيضاً عن أبي عبد الله أنه قرأ عنده قوله سبحانه: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (¬5) . قال أبو عبد الله: "خير أمة" يقتلون أمير المؤمنين والحسن والحسين - عليهم السلام -؟ فقال القارئ: جعلت فداك كيف نزلت؟ قال: نزلت (كنتم خير أئمة أخرجت للناس) ، ألا ترى مدح الله لهم {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} " (¬6) . وهذا يعني أن الأمة بما فيها الشيعة لا خير فيها ماعدا الأئمة الاثني عشر. كما يلاحظ أن رواياتهم في تأويل القرآن، أثبتت الأمة، وأولتها بالأئمة - كما سلف - وروايات التحريف زعمت أن الأصل الأئمة لا الأمة أليس هذا تناقضاً؟! ويروي الكليني عن الرضا في قول الله - عز وجل -: {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ} (يزيدون) بولاية علي {مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} (¬7) . (يزيدون) يا محمد من ولاية علي، هكذا في الكتاب مخطوطة (¬8) ، وفي قول الله عز وجل: {فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (¬9) . (يزيدون) : يا معشر المكذبين حيث أنبأتكم رسالة ربي في ولاية ¬
علي - عليه السلام - والأئمة من بعده، من هو في ضلال مبين. ثم يؤكدون هذا التحريف والكفر بقولهم: "هكذا نزلت" (¬1) ، وفي قوله سبحانه: {فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} (يزيدون) : (بتركهم ولاية أمير المؤمنين عليه السلام) عذاباً شديداً في الدنيا ولنجزينهم أسوأ الذي كانوا يعملون (¬2) . والأمثلة في هذه كثيرة. وإذا قارنت بين ما جاء في تفسير القمي والكافي من هذه الروايات، وبين ما ذكره شيوخهم المتأخرون كالمجلسي والجزائري، والنوري الطبرسي منها، لاحظت أن روايات التحريف زادت عند المتأخرين بشكل ملحوظ مما يدل على أن العمل يجري في كل فترة على الزيادة في هذه المفتريات. وهذه "الإضافات" التي تزعم الشيعة نقصها من كتاب الله ألا يلاحظ القارئ العربي أن السياق لا يتقبلها، وأنها مقحمة إقحاماً بلا أدنى مناسبة، ولذلك يكاد النص يلفظها، وأنها من وضع أعجمي لا صلة له بلغة العرب، ولا معرفة له بأساليب العربية، ولا ذوق له في اختيار الألفاظ، وإدراك المعاني. إن الكلمات المفتراة التي قدمها أولئك المفترون أمثلة للآيات الساقطة بزعمهم، قد كشفت القناع عن كفرهم، كما أنها فضحت كذبهم، وكشف افتراءهم، فهي محاولات أشبه بمحاولات مسيلمة الكذاب في تقليد القرآن العظيم، كما ترى ذلك في الأمثلة التي قدمناها، وكما تراه في الألف مثال أو أكثر، والذي قدمها صاحب فصل الخطاب (¬3) . وتكفي فصاحة القرآن وإعجازه البلاغي الذي سحر أساتذة البيان وفرسان العربية وأعياهم وأعجزهم أن يأتوا بسورة من مثله أو آية من مثله يكفي في كشف هذه المفتريات والأكاذيب، بل إن أغلب هذه المفتريات تنزل على مستوى أداء الإنسان العادي، وبها يتبين عظمة القرآن وسحره، ¬
فلولا المر ما عرف طعم الحلو، ولولا الملوحة ما تبين طعم العذوبة، وبضدها تتميز الأشياء، ولذلك فهي ناطقة بذاتها على كذب واضعيها بغض النظر عن البراهين والأدلة الأخرى على حفظ القرآن وسلامته. إن هذه المحاولات الغبية لإقحام كلام البشر في كلام الله سبحانه وتعالى عملت شرذمة من هذه الطائفة قروناً متواصلةً.. عملت جاهد لإيجاد أكبر قدر ممكن منها، وهناك أمثلة عديدة لهذه المحاولات - بالإضافة لما مضى- ذكر المجلسي جزءاً منها في باب عقده بعنوان (باب التحريف في الآيات التي هي خلاف ما أنزل الله عز وجل مما رواه مشايخنا..) (¬1) ، كما أن كتب التفسير عندهم حوت من هذا الغثاء الشيء الكثير - كما أشرنا من قبل (¬2) .- وجمعها كلها صاحب فصل الخطاب (¬3) . وعدّ الرافضة هذه المفتريات جزءاً مما سقط من كتاب الله، فقد روى الكليني في الكافي "أن القرآن الذي جاء به جبرائيل إلى محمد (ص) وآله وسلم سبعة عشر ألف آية" (¬4) ، وآيات القرآن - كما هو معروف - لا تتجاوز ستة آلاف آية إلا قليلاً، فهذا يقتضي سقوط ما يقارب ثلثي القرآن، فما أعظم هذا الافتراء! وهذه الرواية وردت في الكافي أصح كتاب عندهم، ولكن من الشيعة من يقول: ليس كل ما في الكافي صحيحاً (¬5) . وإذا حملنا مثل هذا القول على الحقيقة لا على التقية، وإذا تجاوزنا ما يلاحظ على الإسناد عندهم، وما يلاحظ على ضوابط وأصول التصحيح والتضعيف لديهم، وما يرى من اختلافهم في هذا الشأن ¬
واضطرابهم فيه (¬1) ، وأن الحكم بالضعف قد يكون على الإسناد فقط حيث قالوا: "إن أكثر أحاديث الأصول في الكافي غير صحيحة الإسناد ولكنها معتمدة لاعتبار متونها، وموافقتها للعقائد الحقة ولا ينظر في مثلها إلى الإسناد" (¬2) ، إذا تجاوزنا ذلك كله وذهبنا نبتغي الإجابة من شيوخهم عن صحة إسناد هذه الرواية وذلك لنكون أكثر حيدة من قيامنا بمثل هذا عن طريق النظر في الإسناد على ضوء كتب "الرجال" عندهم - نجد أن شيخهم المجلسي يقول عن الرواية السابقة: "فالخبر صحيح" (¬3) . وشهادة المجلسي هذا في غاية الاعتبار عندهم، لأنه "الشارح المتتبع للكافي الذي بين صحيحه من ضعيفه" (¬4) . وإذا أردنا شهادة من شيوخهم المعاصرين على صحة هذه الرواية عندهم فإننا نجد شيخهم عبد الحسين المظفر يقول: "إنه موثق كالصحيح" (¬5) . ومن الإنصاف أن نذكر بأن صاحب "صحيح الكافي" وهو من شيوخهم المعاصرين - أيضاً - قد أغفل ذكر هذه الرواية (¬6) . فهل يعني إغفاله لها أنها ليست بصحيحة في نظره؟ هذا ما يظهر من صنيعه حسب منهجه الذي ألمح إليه في مقدمة كتابه، وقد يسلك مثل هذا العمل وأكثر وهو غير صادق بحكم عقيدة التقية عندهم، حتى قال أحد شيوخهم المعاصرين: "لكل مجتهد إمامي أن يرفض أي حديث لا يرتضيه في الكافي وغيره ويأخذ بحديث موجود في البخاري ومسلم، ولا يحق لأحد أن يحتج عليه من وجهة دينية أو مذهبية" (¬7) ، لأن التقية تسمح له بذلك ¬
وإلا فالحقيقة غير هذا، ولهذا فإن شيخهم المجلسي يعقد باباً بعنوان: "الباب الثامن والعشرون ما ترويه العامة (أهل السنة) من أخبار الرسول صلى الله عليه وآله، وأن الصحيح من ذلك عندهم (يعني شيعته) والنهي عن الرجوع إلى أخبار المخالفين إلا في حالة الاحتجاج عليهم من كتبهم" (¬1) . هذا عن صحة الرواية عندهم، أما عن معنى الرواية المذكورة عندهم فقد قال "المازندراني" (¬2) . شارح الكافي: "إن القرآن ستة آلاف وخمسمائة" (¬3) . والزائد على ذلك مما سقط بالتحريف" (¬4) . وقال المجلسي: "إن هذا الخبر وكثير من الأخبار الصحيحة صريحة في نقص القرآن وتغييره" (¬5) . هذا قول شيوخ الدولة الصفوية في تفسير هذه الرواية، والذين ساروا في التشيع أشواطاً حثيثة في الغلو، وبلغوا بها "الأوج" في ذلك، ولعلك تعجب إذا قارنت هذه التفسيرات لهذه الأسطورة والتي تجسم هذا الكفر وتنشر هذا الغلو عن شيوخ وجدوا في القرن الثاني إبان الحكم الصفوي، إذا قارنت هذه التفسيرات بما قاله ابن بابويه القمي من القرن الرابع الهجري عن هذه الرواية في كتابه "الاعتقادات" وهو بشهادة شيوخهم المعاصرين "من الكتب المعتبرة الموثقة" (¬6) . عندهم، حيث قال: ".. إنه قد نزل من الوحي الذي ليس بقرآن ما لو جمع إلى القرآن لكان مبلغه مقدار سبعة عشرة ألف آية، وذلك مثل قول جبرائيل.. عش ما شئت فإنك ميت، وأحب ما شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت ¬
فإنك ملاقيه.." (¬1) . ثم ذكر طائفة من أمثال هذه الأقوال. فانظر إلى هذا الاختلاف والتباين بين نص الكليني، ونص ابن بابويه، هذا يقول: "نزل من الوحي الذي ليس بقرآن" وذاك يقول: "إن القرآن الذي جاء به جبرائيل.." أي إن ابن بابويه يقول: إن النقص في غير القرآن، والكليني يصرح بأن النقص في القرآن، ولذلك جاء تفسير المجلسي والمازندراني للرواية بما يتمشى مع ظاهر النص الإلحادي، بينما نلاحظ أن ابن بابويه حمل زيادة العدد المذكور في الرواية عن عدد آيات القرآن حمل ذلك على الأحاديث القدسية؛ لأن ذلك يمكن أن يتمشى مع ظاهر القول الذي ذكره، ولكن الجميع جبن عن رد الرواية وتكذيبها. وأقول: هل لرواية الكليني وجهٌ يمكن قبوله خلافاً لما يراه ويفتريه المجلسي والمازندراني وأضرابهما؟ لعله من الممكن لو كان لهؤلاء إرادة خير لمذهبهم وأتباعهم أن يحملوا ما زاد عن عدد آيات القرآن مما ذكرته الرواية أن يحملوا ذلك على منسوخ التلاوة إذا لم يكن لديهم الشجاعة على رد هذه الرواية وأمثالها، إذ لابد من تأويلها وأمثالها بنحو من الاعتبار وإلا فليضرب بها الجدار. ثم إني رأيت صاحب الوافي ذكر هذا التأويل للرواية، حيث قال بعد ذكره لبعض الاحتمالات التي تؤيد ذلك الكفر قال بعد ذلك: "أو يكون - أي العد والزائد عما في القرآن - مما نسخ تلاوته" (¬2) . ولكن شيخ الشيعة اليوم "الخوئي" (¬3) . ومرجعها الأكبر - وهو يتظاهر بالدفاع عن القرآن - يرى أن القول بنسخ التلاوة هو قول بالتحريف (¬4) ، وكأنه أراد أن يوصد هذا الباب، ويرد هذه ¬
القاعدة الثابتة ليثبت بطريق ملتو عقيدة في نفسه يكاد يخفيها.. والفرق واضح بين النسخ والتحريف، فالتحريف من صنع البشر وقد ذم الله فاعله، والنسخ من الله. قال تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (¬1) . وهو لا يستلزم مس كتاب الله سبحانه بأي حال. وإذا كانت رواية الكليني تذهب إلى سقوط قرابة الثلثين فيعني هذا أنه لم يبق لدينا من كتاب الله إلا ما يتجاوزك الثلث بقليل، وإذا عرضنا روايته الأخرى التي تقول: "نزل القرآن أثلاثاً، ثلث فينا وفي عدونا، وثلث سنن وأمثال، وثلث فرائض وأحكام" (¬2) . فأي الأثلاث الذي بقي لنا في نظرهم؟ أثلث السنن والأمثال أم ثلث الفرائض والأحكام؛ إذ لا ريب عند هذه الزمرة الملحدة إن ثلث الأولياء والأعداء قد أسقط لأنهم قالوا: "لو قرئ القرآن كما أنزل لألفينا مسمين"، وهو بيت القصيد والهدف الظاهر من كل هذه المحاولات. ومعنى هذا أن الأمة ضائعة كل هذه القرون الطويلة.. منذ وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ليس معها سوى ثلث كتابها.. والأئمة تقف موقف المتفرج.. لديها القرآن الكامل - كما يزعمون - ولا تبلغه للأمة، لتتركها أسيرة ضلالها، لا تعرف وليها من عدوها، وتعدهم بظهوره مع منتظرهم، وتمر آلاف السنين ولا غائب يعود، ولا مصحف يظهر، فإن كانت الأمة تهتدي بدونه فما فائدة ظهوره مع المنتظر، وإن كان أساساً في هدايتها فلماذا يحول الأئمة بينه وبين الأمة، لتبقى الأمة في نظر هؤلاء حائرة ضالة تائهة، وهل أنزل الله سبحانه كتابه ليبقى أسيراً مع المنتظر لا سبيل للأمة للوصول إليه؟ مع أن الله سبحانه لم يترك حفظ كتابه لا لنبي معصوم ولا لمنتظر موهوم، بل تكفل بحفظه سبحانه. تقول رواياتهم - كما تقدم - بأن علياً لم يستطع إخراجه خشية تحريفه، وهذا ¬
يعني أن الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس كتب عليها الشقاء والضلال لا يستثنى من ذلك إلا أصحاب المنتظر، لأنها ستبقى في معزل عن مصدر هدايتها، وأصل سعادتها وخيرها. مع أن الأئمة يملكون من وسائل التبليغ ما لا يملكه حتى الأنبياء، فعلي بزعمهم يملك قدرات خارقة وكان بإمكانه بهذه القدرات نشر القرآن الكامل. فقد قال المجلسي في الباب الذي عقده بعنوان باب "جوامع معجزاته رضي الله عنه": "إن علياً مر برجل يخبط: هو هو، فقال: يا شاب، لو قرأت القرآن لكان خيراً لك. فقال: إني لا أحسنه ولوددت أن أحسن منه شيئاً. فقال: ادن مني، فدنا منه فتكلم بشيء خفي، فصور الله القرآن كله في قلبه فحفظه كله" (¬1) . فإذن علي يستطيع إبلاغ القرآن بهذه الطريقة "السحرية" إلى كل من يريد، ويستطيع أن يتخذ كل التدابير الكفيلة بمنع أي محاولة ضده، لأنه كما تقول أبواب الكافي: "يعلم ما كان وما يكون ولا يخفي عليه الشيء" (¬2) ، كما أن الوصول إلى قتله بغير رضاه واختياره أمر ممتنع، لأن الأئمة كما تقول أبواب الكافي أيضاً: "يعلمون متى يموتون ولا يموتون إلا باختيارهم" (¬3) . فلماذا لم يفعل؟ ! جاء في بعض رواياتهم أن أمير المؤمنين قال: "لو ثني لي الوسادة وعرف لي حقي لأخرجت لهم مصحفاً كتبته وأملاه علي رسول الله صلى الله عليه وسلم" (¬4) . ونقف أولاً عند قوله: "لو ثني لي الوسادة" وهذا كناية عن توليه الحكم - كما قرره المجلسي (¬5) .- فكيف لم يخرج ما عنده بعد توليه الخلافة وهو يعد بهذا أم ¬
قد أخلف وعده كما يفتري واضح هذه "الأساطير"؟!. ثم قوله: "وعرف لي حقي" كيف يعرف حقه ومصدر هذه المعرفة لم يظهر للناس؟ أما قوله: "أملاه علي رسول الله" فهذا يناقض أساطيرهم الأخرى التي تقول: إن الجمع تم بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم. والحقيقة أن كل هذه النصوص حول هذه الفرية هي من أبلغ الطعون في أهل البيت، ولا يبلغ مفتر ضد أهل البيت مبلغ هذه المفتريات، حتى لقد صدق فيهم قول إمامهم - كما تعترف بذلك كتبهم -: "لقد أمسينا وما أحد أعدى لنا ممن ينتحل مودتنا" (¬1) . ومن أعجب الروايات لهذه الأسطورة أن عمالمهم في القرن السادس "الطبرسي" في كتابه "الاحتجاج" جعل القول بهذه الفرية هي الإجابة المقنعة من أمير المؤمنين علي على اعتراض أحد الزنادقة، فقد روى في كتابه الاحتجاج وهو من كتبهم المعتبرة - كما قدمنا - أن عليا قال لأحد الزنادقة في محاورة طويلة منها " ... إن الكناية عن أسماء الجرائر العظيمة من المنافقين في القرآن ليست من فعله تعالى، وأنها من فعل المغيرين والمبدلين. وليس يسوغ مع عموم التقية التصريح بأسماء المبدلين، ولا الزيادة في آياته على ما أثبتوه من تلقائهم في الكتاب لما في ذلك من تقوية حجج أهل التعطيل والكفر، والملل المنحرفة عن قبلتنا، وإبطال هذا العلم الظاهر الذي قد استكان له الموافق والمخالف بوقوع الاصطلاح على الائتمار لهم، والرضا بهم.. فلأن الصبر على ولاة الأمر مفروض لقول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} (¬2) . فحسبك من الجواب عن هذا الموضوع ما سمعت، فإن شريعة التقية تحظر التصريح بأكثر منه. وأما قوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاّ ¬
وَجْهَهُ} (¬1) . فإنما نزلت كل شيء هالك إلا دينه لأن من المحال أن يهلك منه كل شيء ويبق الوجه، هو أجل وأعظم من ذلك، إنما يهلك من ليس منه، ألا ترى أنه قال: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} (¬2) . ففصل بين خلقه ووجه. وأما ظهورك على تناكر قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ} (¬3) ، وليس يشبه القسط في اليتامى نكاح النساء، ولا كل النساء أيتام، فهو مما قدمت ذكره من إسقاط المنافقين من القرآن، وبين (¬4) . القول في اليتامى، وبين نكاح النساء من الخطاب والقصص أكثر من ثلث القرآن، وهذا وما أشبهه مما ظهرت حوادث المنافقين فيه لأهل النظر والتأمل، ووجد المعطلون وأهل الملل المخالفة للإسلام مساغاً إلى القدح في القرآن، ولو شرحت لك كل مما أسقط وحرّف وبدّل مما يجري هذا المجرى لطال، وظهر ما تحظر التقية إظهاره من مناقب الأولياء ومثالب الأعداء" (¬5) . هذا النص رغم طوله هو جزء من محاورة طويلة يزعم صاحب الاحتجاج أنها جرت بين أمير المؤمنين علي، وزنديق من الزنادقة، وأن علياً يناظره ويحاول أن يهديه إلى الحق، فهل يمكن أن يكون أحد أشد زندقة، ممن يقول في كتاب الله سبحانه وصحابة رسول الله مثل هذا القول، وهل يبلغ كيد حاقد أكثر من هذا..؟ يقول موسى جار الله: "هل يجد أشد الناس عداوة مساغاً أَهْدَم للقرآن وأهْدَم للدين من مثل هذا القول الذي يسنده شيوخ الشيعة إلى أمير المؤمنين علي" (¬6) . ¬
ولاحظ في هذه الرواية ذلك الحقد الأسود ضد خير جيل عرفته البشرية ضد صحابة رسول الهدى صلى الله عليه وسلم حيث كنّت عنهم هذه الرواية بأنهم: "أصحاب الجرائر العظيمة من المنافقين" لأن تلك الزمرة الحاقدة التي قد أكل الغيظ قلوبها، وملأ الحقد نفوسها ضد ذلك الجيل القرآني الفريد، لم تجد في كتاب الله ما يطفئ هذا الحقد فقالت: بأن القرآن مليء بأسماء المنافقين - وتعني بهم صحابة رسول الله - وإسقاطهم من فعل المبدلين. ورواياتهم في هذا الاتجاه كثيرة. ثم تقول تلك الرواية إنه لا يسوغ التصريح بأسماء المبدلين بسبب التقية مع أنه في نفس الكتاب رواية تقول بأن الذين غيّروا - بزعمهم - هم: أبو بكر وعمر وزيد بن ثابت (¬1) ، وشيخهم النوري الطبرسي يزيد آخرين فيقول: "والذين باشروا هذا الأمر الجسيم هم أصحاب الصحيفة أبو بكر وعمر وعثمان أبو عبيدة وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف، واستعانوا بزيد بن ثابت" (¬2) . هؤلاء هم رواد الفتح الإسلامي، والطليعة من الرعيل الأول الذين بنوا حضارة لم تعرف لها الدنيا مثيلاً، فهم قذى في عيون هؤلاء، وشجى في حلوقهم، فلهذا خصتهم هذه الزمرة بهذا الافتراء. ثم تقول هذه الأسطورة: ولا يسوغ بحكم التقية الزيادة في آيات القرآن. هل يعني هذا أن الخوف هو الذي قعد بهم عن إخراج مصحف مفترى وأنه لولا الخوف لفعلوا مثل هذا، وأنه يحتمل عند ارتفاع الخوف أن يفعلوا ذلك ويجاهروا به، ومع وجود الخوف قد يكون موضع التداول السري بينهم..؟! لكن صاحب فصل الخطاب قدّم من كتب قومه أكثر من ألف "شاهد" زعم أنها آيات من كتاب الله أسقطت، واثبت تواطؤ معظم كتب الشيعة المعتمدة ¬
على هذا، وسجل بهذا أكبر فضيحة لقومه، وكشف أكبر جريمة ارتكبتها طائفته، فهل ارتفعت التقية، مع أن في نصوصهم أن التقية ملازمة لهم حتى رجعة مهديهم (¬1) ، أو هو قد خالف بهذا وصية إمامه، وخطة قومه؟ إنها أوهام يضرب بعضها بعضاً، وسيأتي بعد قليل تحقيق القول في هل للشيعة مصحف سري متداول؟ ثم تذكر رواية الاحتجاج بأن علياً واصل حديثه مع الزنديق وقال بأنه بسبب ظروف التقية لا يستطيع أن يصرح بأكثر من هذا لما في ذلك من تقوية حجج أهل التعطيل. فمعنى هذا أن الخطاب مع الزنادقة ترتفع فيه التقية، وتتم فيه المصارحة بالكفر، وأما مع المؤمنين فالتقية واجبة، فهل تريد هذه الفئة أن تجعل أمير المؤمنين من حزب هذا الزنديق يتقى صحابة رسول الله ويصارح بأمر كتاب الله الزنادقة الملحدين؟! وبعد هذا التصريح بالكفر يقول: إن الزيادة على هذا فيه تقوية لحجج أهل التعطيل، إذا كان المراد بأهل التعطيل هم أهل الإيمان من الصحب الكرام، ومن تبعهم، فلا شك أن هذا يكفي لكشف ما عليه هذه الزمرة الحاقدة، وإن كانت الأخرى فكيف يكون الكفر بكتاب الله إذن؟! ثم تزعم هذه "الزمرة" أن علياً قال للزنديق بأنه لا يستطيع أن يعلن ذلك ويفصله "لأن الصبر على ولاة الأمر مفروض.." إن مذهب الشيعة قائم على إنكار إمامة ما سوى الاثني عشر. وهذا النص يثبت بأن هناك ولاة أمر غيرهم مفروضة طاعتهم، وهذا ينقض المذهب من أصله، ويكشف أن الوضع والافتراء لا محالة له من التناقض والاختلاف. ومن أعظم الافتراء على أمير المؤمنين علي القول بأنه يطيع غيره في معصية الله، ويرى أن هذا الأمر مفروض!! ومن المعلوم في الإسلام أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق: {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا ¬
تُطِعْهُمَا} (¬1) . وهؤلاء يزعمون أن علياً وافقهم وأطاعهم في تغيير القرآن بحكم شريعة التقية، وهذا سب لعلي وتكفير له قبل أن يكون ذلك لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن هنا ندرك أن هؤلاء أعداء لأهل البيت قبل أن يكونوا أعداء لسائر المسلمين. ولاحظ كيف يستدل على طاعة الحاكم في الكفر بقوله سبحانه: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ} فهذا يدل على أن واضع هذا النص من الجهلة؛ لأن هذه الآية تأمر بخلاف ما يدعو إليه تماماً، ونسبة هذا الاستدلال لعلي تجهيل له وافتراء عليه. ويظهر من قوله: "وأما قوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ} فإنما نزلت كل شيء هالك إلا دينه، لأن من المحال أن يهلك منه كل شيء ويبقى الوجه.. إلخ" (¬2) . يظهر من النص أن واضعه أعجمي لا صله له بلغة العرب، ولا معرفة له بدلالات ألفاظها.. أو زنديق يتجاهل. ثم زعم صاحب الاحتجاج أن علياً قال للزنديق بأنه "سقط أكثر من ثلث القرآن في موضع من سورة النساء، وأنه لو شرح كل ما أسقط وحرّف وبدّل مما يجري هذا المجرى لطال، وظهر ما تمنع التقية إظهاره"، وهذا من أعظم الكذب على أمير المؤمنين، بدليل أنه لم يعلن في مدة خلافته على المسلمين هذا الثلث الساقط من القرآن، ولم يأمر المسلمين بإثباته والاهتداء بهديه والعمل بأحكامه. فهؤلاء الذين يدعون التشيع لأمير المؤمنين، وينسبون له هذه الأباطيل هم بهذا أشد عداوة لأمير المؤمنين من النصاب، لأنهم ينسبون له الرضا بالكفر والإقرار به. وهم كلما أعيتهم الحيلة لإثبات الحجة لجأوا إلى التقية، فهو هنا يستر عجزه ¬
هل لدى الشيعة مصحف سري يتداولونه؟
عن شرح ما أسقِط وبُدّل، بالتعلق بالتقية، وهي حيلة مكشوفة، وفرار من المواجهة، ثم إن غيره ممن حاول أن يقدم شيئاً من النموذج الساقط بزعمه افتضح أمره، وانكشف كيده، لأن هذا "النموذج" بالنسبة لآيات القرآن أشبه ما يكون بعبث الصبيان ولعب الأطفال، وأنى لهم أن يصلوا إلى شيء من محاكاة القرآن العظيم. هذا وما دامت شريعة هذه الزمرة تخص الزنادقة بهذه المقالات الملحدة حلول كتاب الله كما في الرواية السابقة، فهل نصدق ما قيل بأن عند المستشرق "براين" مصحفاً إيرانياً فيه زيادات على كتاب الله، ومن هذه الزيادات "سورة" يسمونها "الولاية" (¬1) . وهذا يعني أن عند هؤلاء القوم مصاحف سرية يتداولونها. هل لدى الشيعة مصحف سري يتداولونه؟ هل عند الشيعة مصحف يحوي كل هذه المتفريات وتكون فيه قراءة الشيعة عوضاً عن كتاب الله سبحانه؟ ماذا تقول أساطيرهم، وماذا يقول واقعهم بهذا الخصوص؟ هل قول الشيخ محب الدين الخطيب بأن "للشيعة مصاحف خاصة تختلف عن المصحف المتداول.." (¬2) . هل هذا واقع؟ وقد نشر محب الدين صورة "لسورة مفتراة" يسمونها سورة "الولاية" (¬3) . وقال بأنها مصورة من مصحف إيراني مخطوط عند المستشرق مستر براين (¬4) ، وقبل ذلك أثبتها شيخ الرافضة في كتابه "فصل الخطاب" (¬5) . ومن قبل قال صاحب تكفير الشيعة: إنهم أحدثوا ¬
مصحفاً - كما سلف -، فعل للشيعة مصحف سري يتداولونه كما يقول هؤلاء؟ سأجيب من خلال استقراء نصوصهم وأقوال شيوخهم.. فأقول: لقد جاءت نصوص عندهم تأمرهم بالعمل بالقرآن ريثما يخرج مصحفهم مع إمامهم المنتظر. قال الكليني في الكافي ما نصه: ".. عدة من أصحابنا عن سهل بن زياد عن محمد بن سليمان عن بعض أصحابه، عن أبي الحسن - رضي الله عنه - قال: قلت: جعلت فداك إنا نسمع الآيات في القرآن، ليس هي عندنا كما نسمعها، ولا نحسن أن نقرأها كما بغلنا عنكم، فهل نأثم؟ فقال: لا، اقرؤوا كما تعلمتم فسيجيئكم من يعلمكم" (¬1) . ومن هذا النص نأخذ أنهم فيما بينهم يتلون مفترياتهم كما يدل عليه قوله: "كما نسمعها"، "كما بلغنا عنكم" (¬2) ، ثم إنهم اشتكوا أنهم لا يحسنون قراءة ما يسمعون أو ما يبلغهم فوعدهم إمامهم بأنه سيأتيهم من يعلمهم، وهذا الوعد كان في عهد إمامهم أبي الحسن - كما يفترون -. وعبارة "سيأتيكم" توحي بأن هذا المعلّم سيأتي هؤلاء الذين لا يحسنون القراءة، ولكن هذا المعلّم لم يأت ومرّ ذلك الجيل ومرت بعده قرون متطاولة.. وقد فسر شيوخ الشيعة فيما بعد المقصودَ بالمعلم بأنهم مهديهم المنتظر (¬3) . والشيعة مأمورة بقراءة القرآن، وانتظر ما يأتي به منتظرهم وعدم قراءة تلك المفتريات لأنهم لا يحسنون قراءتها كما يدل النص المذكور، وبالتالي لا تجعل ¬
في مصحف متداول بينهم، هذا ما تدل عليه رواية الكافي. ويقول مفيدهم: "إن الخبر قد صح من أئمتنا - عيلهم السلام - أنهم أمروا بقراءة ما بين الدفتين، وأن لا نتعداه، بلا زيادة فيه ولا نقصان منه، حتى يقوم القائم -عليه السلام - فيقرأ الناس القرآن على ما أنزله الله تعالى وجمعه أمير المؤمنين - عليه السلام -" (¬1) . وقال شيخهم نعمة الله الجزائري: "قد روي في الأخبار أنهم عليهم السلام أمروا شيعتهم بقراءة هذا الموجود من القرآن في الصلاة وغيرها والعمل بأحكامه حتى يظهر مولانا صاحب الزمان فيرتفع هذا القرآن من أيدي الناس إلى السماء، ويخرج القرآن الذي ألفه أمير المؤمنين فيقرأ ويعمل بأحكامه" (¬2) . فمادام الأمر كذلك، لماذا تروى عن كل إمام طائفة من الزيادات على كتاب الله؟ ثم ما دام قد غير كيف يصبح العمل به؟! وهذه النصوص التي تدعو إلى العمل بالقرآن يكاد يقابلها نصوص أخرى تدعو بأسلوب "مقنع" وغير صريح إلى إهمال حفظ القرآن لأنه مغير - بزعمهم - ومن حفظه على تحريفه يصعب عليه حفظه إذا جاء به منتظرهم. فقد روى مفيدهم بإسناده إلى جابر الجعفي عن أبي جعفر أنه قال: إذا قام قائم آل محمد صلى الله عليه وآله ضرب فساطيط، ويعلم الناس القرآن على ما أنزل الله عز وجل، فأصعب ما يكون على من حفظه اليوم، لأنه يخالف فيه التأليف (¬3) . هذه الرواية لمفيدهم الذي يقدسونه ويعظمونه حتى زعموا أنه فوق مستوى البشر، لأن إمامهم المنتظر خاطبه بالأخ السديد والمولى الرشيد (¬4) . ¬
وهذه الرواية جاءت في كتابه الإرشاد وهو في قمة كتبهم المعتبرة حتى قال شيخهم المجلسي: "كتاب الإرشاد أشهر من مؤلفه" (¬1) . وكذلك روى النعماني في الغيبة ما يشبه الرواية السابقة، فقد روى بإسناده (الكاذب) إلى أمير المؤمنين علي قال: "كأني بالعجم فساطيطهم في مسجد الكوفة يعلمون الناس القرآن كما أنزل، قلت: يا أمير أو ليس هو كما أنزل؟ فقال: لا، محي منه سبعون من قريش بأسمائهم وأسماء آبائهم، وما ترك أبو لهب إلا إزراء على رسول الله - صلى الله عليه وآله - لأنه عمه" (¬2) . وأورد النعماني روايتين (¬3) . بمعنى هذه الرواية. ويبدو أن واضع هذه الأسطورة هو أعجمي زنديق، فهو يخص العجم بأسطورة التعليم الموعودة، كما أن الحقد المرير الذي يحمله إزاء صحابة رسول الله - رضوان الله عليهم - الذين فتحوا ديار قومه ونشروا الإسلام بينهم واضح في هذه الرواية، ولذلك فإن دعوى التغيير عنده تكمن في عدم وجود أسمائهم مع اسم أبي لهب. ولقد كان لهذه الأساطير التي تدعو إلى إهمال حفظ كتاب الله أثرها في مجتمعات الشيعة كما شهد بذلك الشيخ موسى جار الله والذي عاش بين الشيعة فترة من الزمن فلم ير من تلاميذ الشيعة وعلمائهم من يحفظ القرآن، ولا من يقيم القرآن بعض الإقامة بلسانه فضلاً عن أن يعرف وجوه قراءاته، ورأى أن هذا قد يكون من أثر انتظار الشيعة مصحف علي الذي غاب بيد قائم آل محمد (¬4) .- فهل يقوم الشيعة بجمع أساطيرهم في مصحف ليسهل ¬
حفظ المصحف الموعود حين ظهوره؟ يقول المجلسي نقلاً عن المفيد: ".. نهونا عليهم السلام عن قراءة مما وردت به الأخبار من أحرف يزيد على الثابت في المصحف، لأنه لم يأت على التواتر وإنما جاء بالآحاد، وقد يلغط الواحد فيما ينقله، ولأنه متى قرأ الإنسان بما يخالف ما بين الدفتين غرر بنفسه مع أهل الخلاف، وأغرى به الجبارين، وعرض نفسه للهلاك، فمنعونا عليهم السلام من قراءة القرآن بخلاف ما يثبت بين الدفتين لما ذكرناه" (¬1) . فهذا يعني أن (الآيات المفتراة) والمتفرقة في كتبهم، والمخالفة لكتاب الله لم تصل عندهم إلى وضعها في مصحف متداول بينهم لسببين: أحدهما: الخوف من المسلمين، والآخر: أن الطريق لثبوتها عندهم طريق آحاد، والواحد قد يغلط فيما ينقله، ويلاحظ أن عدم قبول الروايات التي طريقها أحاد مما يختص به "الأصوليون"، أما الأخباريون من الشيعة فإنهم يرون صحة ما رواه شيوخهم عن الأئمة في العشرات من الكتب التي صنفوها، وتواترها وثبوتها عن مؤلفيها، وثبوت ¬
أحاديثها عن أهل العصمة" (¬1) . فهم يقرون بكل نص ورد في هذه "الفرية" في كتب شيوخهم، ولذلك قال شيخ الشيعة الذي يصفونه بـ"إمام الفقهاء العظام رئيس الإسلام" جعفر كاشف الغطا: "وصدرت منهم - يعني من الأخباريين - أحكام غريبة وأقوال منكرة، منها قولهم بنقص القرآن مستندين إلى روايات تقضي البديهة بتأويلها وطرحها.." (¬2) . إذن الأخباريون يرون ثبوت هذه الأساطير في كتب شيوخهم (ولك أن تعجب كيف يؤمنون بكل حرف ورد في هذه الكتب المنسوبة لشيوخهم، والمنكرة في أسانيدها ومتونها، ويشكون في كتاب الله سبحانه؟! يصدقون بالأكاذيب الواضحة، ويكذبون بالحقائق الثابتة، فأي عقوبة أعظم من هذا المسخ، والانتكاس في الفطر والعقول والمقاييس. وعلى ذلك فإن مسألة رد هذه الروايات لأنها أخبار آحاد مما لم يتفق عليه الشيعة، وأن السبب المانع الذي يتفق عليه الجميع هو الخوف، ومعنى هذا أن مسألة التداول السري لمصحف مفترى من الإخباريين أمر وارد، ولعل هذا يفسر ما نشره محب الدين الخطيب وأحمد الكسروي (الشيعي الأصل) من صورة "لسورة" تسمى الولاية مأخوذة من حصف إيراني" (¬3) . ولكن هذا يبقى مجرد جمع لتلك المفتريات، التي جاءت عندهم كأمثلة لما في مصحف علي المزعوم، أما مصحف علي فهو غائب منتظر، كالمهدي المنتظر عندهم، ¬
مصحف علي
لم يخرج إلى الآن، والعمل بالقرآن إلى أن يظهر، ولكن جمع هذه المفتريات هو محاولة لإقناع المتشككين والحائرين من بني قومهم. والذي لاحظته من كلام شيوخهم أن قولهم بموجود مصحف لعلي أمر لا يختلفون فيه، حتى ليقول بذلك من يتظاهر بإنكار التحريف من القدامى والمعاصرين كابن بابويه القمي في الاعتقادات كما سيأتي نص كلامه، والخوئي في البيان (¬1) . لكن يبقى القول في زيادة مصحف علي المزعوم عما في كتاب الله وهل هي زيادة في النص أو من قبيل التأويل أو الترتيب؟ كما سيأتي. مصحف علي: تقدم الإشارة إلى أن مصحف علي "المزعوم": جاء الحديث عنه في أول كتاب وضعه الشيعة، وأنه قد جاءت بعض الروايات عنه عند أهل السنة ولكنها كما قال ابن حجر لا تصح، ولكن ما في كتب الشيعة صورة أخرى - كما سلف - وقد أكثر القوم من الحديث عن مصحف علي المزعوم والذي يحتوي - كما يزعمون - على زيادات على كتاب الله. وقد اهتم بإشاعة هذه الفرية الكليني ثقة دينهم في كتابه الكافي وعقد لها باباً خاصاً بعنوان: "باب أنه لم يجمع القرآن كله إلا الأئمة عليهم السلام" وذكر فيه ست روايات لهم، منها ما رواه عن جابر الجعفي إنه سمع أبا جعفر يقول: "ما ادعى أحد من الناس أنه جمع القرآن كله كما أنزل إلا كذاب، وما جمعه وحفظه كما نزله الله تعالى إلا علي بن أبي طالب والأئمة من بعده" (¬2) . ¬
وفي تفسير القمي - عمدة كتب التفسير عندهم - عن أبي جعفر - رضي الله عنه - قال: "ما أحد من هذه الأمة جمع القرآن إلا وصي محمد صلى الله عليه وآله" (¬1) . ويفهم من رواية الكليني أن كل إمام جمع القرآن، وكأننا أمام كتب متعددة لا كتاب واحد، بينما تعارضها رواية القمي وتذكر بصيغة الحصر أنه لم يجمعه سوى علي، ثم هم يقولون في رواياتهم وأبوابهم: من ادعى أنه جمع القرآن غير الأئمة فهو كذاب. مع أنهم زعموا أن القرآن كان مدوناً مجموعاً من عهد النبي صلى الله عليه وسلم ويستدلون على هذا برواية جاءت في البحار (¬2) . فهل كان الحسن والحسين وبقية الأئمة هم الذين يتولون جمعه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟! وتذكر بعض هذه الأساطير أن بعض الشيعة اطلع على هذا المصحف المزعوم فتقول: ".. عن ابن الحميد قال: دخلت على أبي عبد الله - رضي الله عنه- فأخرج إليّ مصحفاً، قال: فتصفحته فوقع بصري على موضع منه فإذا فيه مكتوب: "هذه جنهم التي كنتم بها تكذبان. فاصليا فيها لا تموتان فيها ولا تحييان" قال المجلسي: "يعني الأولين" (¬3) . يعنون حبيبي رسول الله، وصهريه وخليفتيه ووزيريه، وأفضل الخلق بعد النبيين أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما -. وإذا كانت هذه الرواية تسمح لخواص الأئمة بالاطلاع على ذلك المصحف ¬
المزعوم، فإن في الكافي رواية أخرى تخالف ذلك حيث جاء فيه عن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال: دفع إليّ أبو الحسن مصحفاً وقال: "لا تنظر فيه، ففتحته وقرأت فيه: لم يكن الذين كفروا؛ فوجدت فيها اسم سبعين رجلاً من قريش بأسمائهم وأسماء آبائهم قال: فعبث إليّ: ابعث بالمصحف" (¬1) . ففي هذه الرواية: الإمام يستودع المصحف أحد خواصه ويحظر عليه النظر فيه، ولكن يخالف أمر إمامه، ويخونه فيما استودعه ويقرأ في هذا المصحف، ويكشف بعض محتوياته. فهذا المصحف الذي تتحدث عنه هذه الرواية مصحف سري محجوب عن الخاص والعام لا يطلع عليه سوى الإمام، وهو يشير إلى أن من موضوعاته تكفير صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو ليس كتاب الله الذي نزل للناس كافة، والذي أثنى على الصحابة في جمل من آياته.. بل هو مصحف تتداوله الأيدي الباطنية بصفة سرية وتنسب بعض أخباره لأهل البيت لتسيء إليهم. وهذه الأسطورة أراها تعرض مرة أخرى بصيغة مغايرة لتلك الرواية السابقة، حيث جاء في بصائر الدرجات عن البزنطي (¬2) . أن الرضا عليه السلام أودع عنده ذلك المصحف المزعوم فقال هذا البنزنطي: وكنت يوماً وحدي ففتحت المصحف لأقرأ فيه، فلما نشرته نظرت فيه في "لم يكن" فإذا فيها أكثر مما في أيدينا أضعافه، فقدمت على قراءتها فلم أعرف شيئاً فأخذت الدواة والقرطاس فأردت أن أكتبها لكي أسأل عنها، فأتاني مسافر قبل أن أكتب منها شيئاً، معه منديل وخيط وخاتمه فقال: مولاي يأمرك أن تضع المصحف في المنديل وتختمه ¬
وتبعث إليه بالخاتم، قال: ففعلت (¬1) . هذا البزنطي يقول في هذه الرواية: لم أعرف منها شيئاً، وفي الرواية التي قبلها يقول إنه وجد فيها اسم سبعين رجلاً من قريش بأسمائهم وأسماء آبائهم!! وتأتي رواية أخرى له في رجال الكشي لتصوغ هذه الأسطورة بصورة ثالثة فتقول: "عن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال: لما أتي بأبي الحسن رضي الله عنه أخذ به على القادسية، ولم يدخل الكوفة، أخذ به على برّاني البصرة، قال: فبعث إليّ مصحفاً وأنا بالقادسية ففتحته فوقعت بين يديّ سورة "لم يكن" فإذا هي أطول وأكثر مما يقرأها الناس، قال فحفظت منه أشياء قال: فأتى مسافر ومعه منديل وطين وخاتم فقال: هات: فدفعته إليه فجعله في المنديل، ووضع عليه الطين وختمه فذهب عني ما كنت حفظت منه، فجهدت أن أذكر منه حرفاً واحداً فلم أذكره" (¬2) . هذه روايات ثلاث كلها عن هذا البزنطي في رواية بصائر الدرجات يزعم أنه لم يفهم شيئاً مما قرأ وحاول أن يكتب ما قرأ فاستعجله رسول إمامه قبل أن يكتب، وفي رواية الكشيء يزعم أنه حفظ جزءاً مما قرأ، ولكن هذا المحفوظ فارقه بمفارقة المصحف، وفي رواية الكافي نراه يعرف ما قرأه ويستذكر ما حفظ، وأن ذلك يتعلق بأعداء الأئمة من قريش. نصوص متناقضة كالعادة في كل أسطورة. وإذا كان يصعب كتابة شيء منه، أو حفظ جزء منه، فكيف حفظت وكتبت تلك "الأساطي"؟ أنها أوهام يناقض بعضها بعضاً. وروايات الشيعة تقول بأن هذا المصحف عند إمامهم المنتظر. قال شيخهم نعمة الله الجزائري: "إنه قد استفاض في الأخبار أن القرآن كما أنزل لم يؤلفه إلا أمير المؤمنين - إلى أن قال: -وهو الآن موجود عند مولانا المهدي رضي الله عنه ¬
مع الكتب السماوية ومواريث الأنبياء" (¬1) ، ومع ذلك فقد ارتبطت مصاحف قديمة عند الشيعة أيضاً بعقيدة أنها مكتوبة بخط علي، ويذكر ابن النديم - وهو شيعي - أنه رأى قرآناً بخط علي يتوارثه بيت من البيوت المنتسبة للحسن (¬2) . ويشير ابن عنبة - وهو ممن يدعي النسب العلوي - إلى وجود مصحفين بخط أمير المؤمنين علي، أحدهما يقع في ثلاثة مجلدات، والآخر يقع في مجلد واحد، قد رآه بنفسه، ولكنهما احترقا - كما يذكر - حين احترق المشهد (¬3) . وقال أبو عبد الله الزنجاني - من كبار شيوخ الشيعة المعاصرين -: ورأيت في شهر ذي الحجة سنة 1353هـ في دار الكتب العلوية في النجف مصحفاً بالخط الكوفي كتب على آخره: كتبه علي بن أبي طالب في سنة أربعين من الهجرة (¬4) ، ولهذا قال ميرزا مخدوم الشيرازي - وهو ممن عاش بين الشيعة، وقرأ الكثير من كتبها كما سلف - قال: "ومن الطرائف أنهم مع هذا (أي مع ما يدعونه من التحريف) يعتقدون في مصاحف كثيرة كونها مكتوب علي والأئمة من ولده، وليس فيها إلا ما في سائر المصاحف المتواترة والتي لا تحصى كثرة (¬5) . كما أن هذه المشاهدات المزعومة لمصحف علي، تناقض دعواهم أن المصحف الذي كتبه علي عند مهديهم المنتظر. ولاشك بأن أمير المؤمنين علي ما كان يقرأ ويحكم إلا بالمصحف الذي أجمع عليه الصحابة، وهذا ما تعترف به كتب الشيعة نفسها - كما سلف (¬6) .- ولهذا أخرج ابن أبي داود بإسناد صحيح من طريق سويد بن غفلة قال: قال علي: ¬
"لا تقولوا في عثمان إلا خيراً، فوالله ما فعل في المصاحف إلا عن ملأ منا" (¬1) . وقد نقلت ذلك كتب الشيعة كما سيأتي بعد قليل. وقد جاء في صحيح البخاري بأن أمير المؤمنين عثمان - حين جمع القرآن - أرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق (¬2) . ولعل هذا ينفي وجود مصحف بخط علي - كما يدعون -. ويلاحظ أن من بين القراء المشهورين ما يرجع سند قراءته إلى أئمة أهل البيت، ولهذا استدل الدكتور عبد الصبور شاهين على براءة أهل البيت، وزيف ادعاءات الشيعة أن من بين القراء السبعة المشهورين حمزة الزيات، وسند قراءته هو: حمزة الزيات، عن جعفر الصادق، وهو قرأ على محمد الباقر، وهو قرأ على زين العابدين، وهو قرأ على أبيه الحسين، وهو قرأ على أبيه علي بن أبي طالب -كرم الله وجه - (¬3) ، فهؤلاء الأبرار من آل البيت لم يخرجوا على إجماع المسلمين على المصحف الإمام، وآية رضاهم به، إقراؤهم الناس بمحتواه دون زيادة أو نقص أو ادعاء يمس كمال كتاب الله سبحانه (¬4) . وقال الدكتور محمد بلتاجي: "ونضيف إلى ذلك أن قراءة علي بن أبي طالب للقرآن قد رويت أيضاً بطريق زيد بن علي أخي الإمام الباقر وعم الإمام الصادق- وهذا ما يسلم به الإمامية الاثنا عشرية أنفسهم -" (¬5) . قلت: أضيف - أيضاً - إقراراً واعترافاً آخر من شيخ الشيعة المجلسي حيث يقول: "والقراء السبعة إلى قراءته (يعني قراءة علي) يرجعون، فأما حمزة والكسائي ¬
فيعولان على قراءة علي.. وأما نافع وابن كثير وأبو عمرو فمعظم قراءاتهم يرجع إلى ابن عباس، وابن عباس قرأ على أبي بن كعب وعلي، والذي قرأ هؤلاء القراء يخالف قراءة أبي فهو إذاً مأخوذ عن علي - عليه السلام -. وأما عاصم فقراه على أبي الرحمن السلمي وقال أبو عبد الرحمن: قرأت القرآن كله على علي بن أبي طالب عليه السلام، فقالوا: أفصح القراءات قراءة عاصم لأنه أتى بالأصل وذلك أنه يظهر ما أدغمه غيره، ويحقق من الهمز ما لينه غيره.. والعدد الكوفي في القرآن منسوب إلى علي عليه السلام وليس في الصحابة من ينسب إليه العدد غيره، وإنما كتب عدد ذلك كل مصر عن بعض التابعين" (¬1) . بل يقولون - كما ذكره شيخهم علي بن محمد الطاووسي العلوي الفاطمي في كتابه سعد السعود: "ثم عاد عثمان فجمع المصحف برأي مونا علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -" (¬2) . يقولون: وقال علي أيضا: "أيها الناس الله الله إياكم والغلو في أمر عثمان وقولكم حراق المصاحف فوالله ما حرقها إلا عن ملأ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم" (¬3) . بل قالوا أكثر من ذلك، قالوا: إنه ورد عن أهل البيت عليهم السلام أن عثمان بن عفان لما رأى اختلاف الصحابة في قراءة القرآن طلب من علي عليه السلام مصحف فاطمة الذي كانت هي - سلام الله عليها - دونته بإشارة أبيها، وطابقه مع المصاحف الأخرى التي كانت بيد الصحابة، فما طابق منها مصحف فاطمة نشره وما لم يطابقه أحرقه. فعلى هذا يكون المصحف الذي بأيدينا مصحف فاطمة لا مصحف عثمان، وعثمان كان ناشره لا مدونه ومرتبه (¬4) . أليس هذا كله ينقض كل ما ادعوه، ويهدم كل ما بنوه.. وهو دليل على اختلاف ¬
حجم أخبار هذه الأسطورة في كتب الشيعة
أخبارهم وتناقضها، والتناقض أمارة بطلان المذهب. ويبدو من خلال النص الأخير أن ذلك محاولة منهم للرجوع عن تلك المقالة بعدما جلبت عليهم العار، وأورثتهم الذي والشماتة، وضرت مذهبهم ولم تنل من كتاب الله شيئاً، لكن الرجوع عن هذه المقالة يوقعهم في تناقض آخر وهو أن هذا القرآن العظيم وصل إلينا عن طريق أبي بكر وعثمان وإخوانهم، وهؤلاء لهم في مذهب الشيعة النصيب الأوفى من اللعن والتكفير، وكيف يجتمع حينئذ في قلب واحد وعقل واحد الاعتقاد بسلامة القرآن وخيانة جامعيه، ولعلهم وضعوا المقالة الأخيرة التي تقول إن عثمان قابل القرآن على مصحف فاطمة المزعوم، وضعوها للخروج من هذا المأزق، ولكن هذا يوقعهم في تناقض ثالث وهو مخالفة أخبارهم التي تقول إن مصحف فاطمة غير القرآن - كما سيأتي - (¬1) . والثابت عن عثمان أنه أرسل إلى حفصة "أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف.. إلخ" (¬2) . وهؤلاء جعلوا ذلك لفاطمة كعادتهم في نسبة فضائل الأنبياء، والصحابة إلى الاثني عشر، عن طريق تحوير الأحاديث، وصياغتها في كتبهم وتركيبها على الأئمة، أما في آيات القرآن فطريق ذلك التأويل الباطني أو دعوى التحريف، كما رأينا. حجم أخبار هذه الأسطورة في كتب الشيعة ووزنها عندهم: لقد رأينا أن معظم كتب الشيعة انغمست في هذا المستنقع الآسن، وسقطت في تلك الهوة الخطيرة، فما مقدار هذا السقوط وما مستواه؟ هل تلك الروايات السوداء التي وجدت طريقها إلى كتب القوم، وتسللت إلى مراجعهم الحديثية لتكسو من يركن إليها ثوباً من الخزي والعار، وتسلب من يده آخر علاقة له بالإسلام.. هل تلك الروايات مجرد روايات شاذة مندسة في كتب القوم لم ¬
تحظ برضى عقلائهم، ولا قبول محققيهم، وأنها قد تسربت إلى كتب هؤلاء، لأن الكذابين على الأئمة - كما تقول كتب الشيعة - قد كثروا في صفوف الشيعة، وكان التشيع مطية لكل من أراد الكيد للإسلام وأهله، كما أثبتته الأحداث والوقائع؟ قد لاحظنا أن هذه الأسطورة بدأت بروايتين اثنتين في كتاب سليم بن قيس حسب النسخة المطبوعة التي بين أيدينا، وما لبثت أن أخذت بعداً أكبر وزادت أخبارها. وقد تولى كبر هذه الفرية ووزر هذا الكفر شيخ الشيعة علي بن إبراهيم القمي، فقد أكثر من الروايات في هذا الباب، ونص في مقدمته على أنها كثيرة، وبدأت عنده محاولة التطبيق العملي لهذه الخرافة كما سبق. ويلاحظ أن معظم روايات الكليني صاحب الكافي هي عن هذا القمي الذي تلقف هذه الروايات عن كل أفاك أثيم وسجلها في تفسيره الذي يحظى بتقدير الشيعة كلها (¬1) ، وقد قال الذهبي وابن حجر عن تفسيره هذا: "وله تفسير فيه مصائب" (¬2) . كانت دوائر الغلاة في القرن الثالث تعمل على الإكثار من صنع الروايات في هذا حتى أن شيخهم المفيد الذي يلقبونه بركن الإسلام وآية الله الملك العلام والمتوفى سنة (413هـ) يشهد باستفاضتها عند طائفته (الاثنا عشرية) يقول: "إن الأخبار قد جاءت مستفيضة عن أئمة الهدى من آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم باختلاف القرآن وما أحدثه بعض الظالمين فيه من الحذف والنقصان" (¬3) . هذه الاستفاضة هي ثمرة الوضع والكذب على أهل البيت والذي نشط في القرن الثالث على يد شرذمة من شيوخهم. ولو كان عند أهل البيت شيء لقرؤوا به دون ما سواه، ولأخرجوه للناس ولم يسعهم كتمانه. ولكن أهل البيت باعتراف الشيعة لم يقرؤوا إلا بكتاب الله، ¬
فعلم براءتهم من هذا الافتراء.. وثبت أن ديناً يستفيض فيه الباطل باطل. هذا والمفيد يقول باستفاضة هذا الكفر بين طائفته، رغم أن شيخه ابن بابويه يقول: إن من نسب إلى الشيعة مثل هذا القول فهو كاذب - كما سبق (¬1) .- وسلالة أهل البيت (الشريف المرتضى وهو من معاصري المفيد بل من تلامذته يقول: إن أخبارهم في هذا لا يعتد بها، لأنها أخبار ضعيفة لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع على صحته) (¬2) . فهل كل شيخ من هؤلاء يمثل ومدرسة ونحلة والتشيع يجمعهم، أو هم يتلونون تلون الحرباء بحكم التقية، أو أنهم قد أحكموا خطتهم، وأزمعوا أمرهم على أن يظهر منهم حسب المناسبات والظروف صوتان مختلفان متعارضان حتى لا يتمكن أحد من الوقوف على حقيقة المذهب؟! ولهذا نجد أيضاً في القرن السادس ظهور الطبرسي صاحب التفسير وإنكاره هذه المقالة كما سيأتي، ومعاصره الطبرسي الآخر صاحب الاحتجاج يصرح بهذا الكفر ويروي فيه عشر روايات، ويرى أن ما ذكره هو محل إجماع أو اشتهار بين طائفته كما سلف. أم أن الوضع لهذا الروايات إنما وقع في العصور المتأخرة ونسب لشيوخهم القدامى ليحظى بثقة الأتباع الأغرار؟ سيأتي إن شاء الله دراسة هل الإنكار تقية أو حقيقة؟.. هذا وفي ظل الدولة الصفوة كثر الوضع الأخبار هذه الأسطورة فتجاوزت مرحلة ما سجله القمي أو الكليني، أو المفيد، أو فرات الكوفي، وغيرهم من شيوخهم في القرن الثالث والرابع تجاوزت الحجم الذي سجلته هذه الزمرة إلى درجة أن شهد شيخهم المجلسي صاحب بحار الأنوار بأن أخبارهم في هذا أصبحت تضاهي أخبار الإمامة؛ يقول: "وعندي أن الأخبار في هذا الباب متواترة معنى، وطرح جميعها يوجب رفع الاعتماد عن الأخبار رأساً؛ بل ظني أن الأخبار في هذا الباب لا تقصر عن أخبار الإمامة" (¬3) . هذه شهادة من المجلسي المتوفى سنة (1111هـ) على تضخم أخبار هذه الأسطورة، والتي كانت مجرد روايتين ¬
في كتاب سليم بن قيس، وكانت عند ابن بابويه القمي المتوفى سنة (381هـ) لا تكاد توجد حتى قال: إن من نسب للشيعة مثل هذا القول فهو كاذب، وشيخ الشيعة الطوسي أنكر نسبة هذا إلى الشيعة (¬1) ، وقد أرهق نفسه النوري الطبرسي صاحب فصل الخطاب ليجد وسيلة يتخلص بها من كلام الطوسي فقال: "والطوسي في إنكاره (يعني لتحريف القرآن) معذور لقلة تتبعه الناشئ من قلة تلك الكتب عنده" (¬2) . وهذا الاعتذار لا يمكن أن يوافق عليه صاحب فصل الخطاب الذي يصر على أن يجعل كل الشيعة على مذهبه في القول بتحريف القرآن، ذلك لأن الطوسي هو شيخ الشيعة في زمنه، وهو مؤلف كتابين من كتبهم الأربعة المعتمدة في الحديث، وكتابين من كتبهم المعتمدة في الرجال، فلا يتصور أن يوصف بقلة التتبع، أو بقلة الكتب عنده، كما يقول هذا الطبرسي. بل نحن نأخذ منقول الطوسي هذا شهادة هامة أو وثيقة تاريخية تثبت أن الوضع لهذه الأسطورة لم يتسع ويصل إلى هذا المستوى الموجود اليوم إلا في ظل الحكم الصفوي، ولا يستبعد أن تضاف روايات من هذه الروايات إلى شيوخهم القدامى لخدمة هذه الأسطورة، ولاسيما والشواهد قائمة على أن الكذب في الشيعة كثير، كما تشهد بهذا كتب أهل السنة وتقر بذلك كتب الشيعة نفسها - كما سيأتي - (¬3) . هذا وشهادة شيوخ الدولة الصفوية بكثرة هذه الأخبار في زمنهم كثيرة، فكما شهد المجلسي يشهد شيخهم الآخر نعمة الله الجزائري وهو من معاصري المجلسي، ومن تلامذته (¬4) . وموضع ثقة الشيعة وتقديرهم (¬5) . يقول: "إن الأخبار ¬
الدالة على ذلك تزيد على ألفي حديث" (¬1) ، كما أنه يضع أساطيره، وكتاب الله سبحانه في كفة ميزان، ويرى أن القول بسلامة القرآن يؤدي إلى انعدام الثقة في أخبارهم فيقول - وهو يرد على شيوخهم المتقدمين - في قولهم بتواتر القراءات السبع.. يقول: "إن تسليم تواترها عن الوحي الإلهي، وكون الكل قد نزل به الروح الأمين يفضي إلى طرح الأخبار المستفيضة، بل المتواترة الدالة بصريحها على وقوع التحريف في القرآن" (¬2) . يعني والمحافظة على حرمة وسلامة أخباره وأساطيره أولى من القول بصيانة القرآن وحفظه! وهذا هو نفس ما قاله شيخهم المجلسي حينما قال - كما مر -: "وطرح جميعها (يعني جميع أخبار التحريف) يوجب رفع الاعتماد على الأخبار رأساً". هذا هو الخيار الصعب في نظر هذه الزمرة، هل تفقد أخبارها وبها قوام دينها، ومنها تقتات رزقها باسم الخمس، وبها تستمد قداستها باسم النيابة عن الإمام أتخسر كل هذه المكاسب التي تجنيها.. أم تقول بتغير القرآن فتجني تكفير المسلمين لها، وصعوبة التبشير بدينها، وتقلص أتباعها وضمور مكاسبها من بعد ذلك؟ إنه خيار صعب أمام هؤلاء (الشيوخ) .. هل يخرجون منه بالظهور أمام الناس بوجهين وقولين أو يرجعون إلى التقية والكتمان، أو يراعون الظروف والمناسبات والأجواء؟ الملاحظ أن شيوخ الدولة الصفوية هم أجرأ على التصريح بهذا الكفر بحكم ووجود قوة تسندهم فتخف التقية لديهم، ولهذا كثرت أقوالهم بتواتر هذا الكفر عندهم حتى زعم شيخهم أبو الحسن الشريف وهو من تلامذة المجلسي بأنه: "يمكن الحكم بكونه من ضروريات مذهب التشيع" (¬3) . وقال ثقتهم محمد صالح المازندراني (ت1081هـ) : ".. وإسقاط بعض القرآن وتحريفه ثبت من طرقنا بالتواتر معنى كلما يظهر لمن تأمل كتب الأحاديث ¬
(يعني كتب أحاديثهم) من أولها إلى آخرها" (¬1) . ويقول شيخهم محسن الكاشاني: "المستفاد.. من الروايات من طريق أهل البيت - عليهم السلام - أن القرآن الذي بين أظهرنا ليس بتمامه، كما أنزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم، بل منه ما هو خلاف ما أنزل الله، ومنه ما هو مغير محرف، وأنه قد حذف عنه أشياء كثيرة منها اسم علي - عليه السلام - في كثير من المواضع، ومنها غير ذلك، وأنه ليس أيضاً على الترتيب المرضي عند الله وعند رسوله صلى الله عليه وآله وسلم" (¬2) . هذا بعض ما قاله شيوخهم في تلك الفترة عن حجم الروايات والأخبار عندهم، وهي شهادة خطيرة تؤكد هذه الفرية عندهم، واستفاضتها في كتبهم، وهذا بلا شك دليل بطلان أخبارهم كلها، فما دام الكذب عندهم يصل إلى حد التواتر فلا ثقة بسائر أخبارهم، وكل من يذهب هذا المذهب فإنه ليس من الإسلام في شيء، وإن دين هؤلاء ليس دين الأئمة، بل هو دين المجلسي أو القمي أو الكليني أو العياشي أو غيرها. وإن مثل هؤلاء كمثل سائر الزنادقة الذين ظهروا في التاريخ الإسلامي، وإن ذلك القناع الذي أضفوه على حقيقتهم المعادية للإسلام وأهله قد انكشف بهذه الدعوى، وإن أخبارهم التي نسبوها زوراً وكذباً لأهل البيت قد ظهر كذبها واستبان زيفها بهذا الكفر المعلن. وبناءً على حركة الوضع المستمرة عبر القرون، ولاسيما في إبان الدولة الصفوية رأينا شيخ الشيعة ومحدثها، وخبير رجالها، وصاحب آخر مجموع من مجاميعهم الحديثية (مستدرك الوسائل) وأستاذ كثير من شيوخهم المعتبرين كمحمد حسين آل كاشف الغطا، وأغا بزرك الطهراني وغيرهما.. شيخ الشيعة حسين النوري الطبرسي يرى أنه لا ينبغي عندهم النظر في أسانيد تلك الأساطير لتواترها ¬
هل الشيعة جميعا تعتقد صحة هذه الروايات وتقول بتواترها؟
من طرقهم؛ يقول: "إن ملاحظة السند في تلك الأخبار الكثيرة توجب سد باب التواتر المعنوي فيها بل هو أشبه بالوسواس الذي ينبغي الاستعاذة منه" (¬1) . والخوئي مرجع الشيعة في العراق وغيره اليوم يقول: "إن كثرة الرويات (رواياتهم في تحريف القرآن) من طريق أهل البيت تورث القطع بصدور بعضها عن المعصومين، ولا أقل من الاطمئنان بذلك، وفيها ما روي بطريق معتبر" (¬2) . وبعد هذه الاعترافات من أساطين التشيع وشيوخه هل يشك أحد يقرأ هذه الدعاوى العريضة في أن القوم قد وقعوا في درك مظلوم وفي مستنقع آسن؟ وكم يتألم المسلم وهو يقرأ مثل هذه الكلمات المظلمة، وكم يشفق على قوم اعتمدوا في دينهم على كتب حَوَتْ هذا "الغثاء" وركنوا في أمرهم على شيوخ يجاهرون بهذا الكفر قد باعوا أنفسهم للشيطان، وجعلوا نواصيهم بيده. ولكن هل الشيعة كلهم على هذا الطريق المظلم؟ وهل هم جميعاً قالوا بهذا الكفر والإلحاد؟ هذا ما سنتحدث عنه في الفقرة التالية: هل الشيعة جميعاً تعتقد صحة هذه الروايات وتقول بتواترها؟ وبعدما رأينا أن معظم كتب الشيعة سقطت في هذه الهوة المظلمة، وعرضنا لشيء من مضامين هذه الروايات مما تتضح به صورتها وتتبين به حقيقتها، ثم حاولنا التعرف على القدر الكمي، والوزن الإسنادي لهذه الروايات، ورأينا أن مهندسي التشيع عملوا جاهدين على الوضع والزيادة لأخبار هذه الأسطورة عبر القرون، حتى اعترف طائفة من شيوخهم المعتبرين عندهم باستفاضتها وتواترها، وأنه لا ينبغي لذلك النظر في أسانيدها.. فهل جميع شيوخ الاثني عشرية يتفقون معهم في هذا الحكم؟ يقول شيخهم المفيد (ت413هـ) في كتابه أوائل المقالات وهو من كتبهم ¬
المعتبرة عندهم باعتراف شيوخهم المعاصرين (¬1) ، يقول: "واتفقوا - أي الإمامية - على أن أئمة الضلال خالفوا في كثير من تأليف القرآن وعدلوا فيه عن موجب التنزيل وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأجمعت المعتزلة، والخوارج، والزيدية، والمرجئة، وأصحاب الحديث على خلاف الإمامية" (¬2) . وهذه شهادة مهمة واعتراف صريح من مفيد الشيعة بأن سائر الفرق الإسلامية لم تقع في هذا الكفر الذي وقعت فيه طائفته. وهي شهادة تلجم أولئك الروافض الذين يحاولون من منطلق جبان أن يصموا أهل السنة من هذه الفرية؛ كمحاولة مكشوفة لإثبات هذا الكفر بطريق النسبة الكاذبة لأهل السنة. وعصمة أهل السنة من هذا الضلال لا تحتاج إلى هذا الاعتراف، ولكن ذكرناه هنا لأنه صادر من المخالف وإنصاف المخالف أشد وقعاً في النفس من إنصاف الموافق، ولأن في هذا وأمثاله ما يسكت أولئك المفترين الذين يفترون الكذب ولا يؤمنون. كما أن مفيدهم يعترف أيضاً بأن إجماع طائفته قائم على هذا الكفر البين، ولم يذكر مفيدهم وجود خلاف بين علمائهم في هذا!! مع أن شيخه ابن بابويه القمي الملقب عندهم بالصدوق (ت381هـ) قد أنكر هذا في رسالته في "الاعتقادات" (¬3) . وأنكر نسبة الاعتقاد بالتحريف إليهم - كما مر -، وتبعه على ذلك الشريف المرتضى (¬4) . (ت436هـ) ، والطوسي (¬5) . (ت450هـ) وهما من تلامذة المفيد، ورابعهم الطبرسي (ت548 أو561هـ) فلِمَ لَمْ يشر المفيد إلى خلاف شيخه القمي؟ هل تجاهل المفيد لذلك من قبيل اقتناعه بأن مخالفته بسبب التقية أو ماذا؟! وليس ذلك فحسب بل إن المفيد نفسه، وفي الكتاب ذاته ذكر أن طائفة ¬
من أهل الإمامة أنكرت ذلك (¬1) . ومثل دعوى المفيد يدعي النوري الطبرسي أن إجماع الشيعة قائم على هذا الكفر، إلى أن جاء ابن بابويه القمي فخالف ذلك حتى قال: "إن ابن بابويه القمي أول من أحدث هذا القول في الشيعة في عقائده" (¬2) . ولعل القارئ يدرك محاولة هذا الطبرسي، لأن يجعل الشيعة منذ نشأتها كانت على مذهبه، وأن مخالفة هذا المذهب كانت طارئة، والحقيقة التي لا يماري فيها مسلم، ولا يشك فيها من سبر التطور العقدي عند هؤلاء القوم أن أوائل الشيعة ما كانت على هذا الكفر، ما كان خلاف الشيعة في أول الأمر إلا في مسألة الإمامة ومن أحق بالإمامة، ثم ما لبثت أن انجرت من بدعة إلى أخرى حتى رأينا شيوخهم في القرن الثالث يتسابقون للوقوع في هذا الكفر، فأورثهم ذلك ذلاً وعاراً ومقتاً من المسلمين، فأراد ابن بابويه الرجوع بهم إلى الأصل - كما هو الظاهر - ولكن عقيدة التقية لديهم جعلت محاولة ابن بابويه لا تثمر ثمارها، وتبع ابن بابويه ثلاثة آخرون من شيوخهم، كلهم أنكروا هذا - كما مر -. ويذكر النوري الطبرسي بأنه لا يوجد من القرن الرابع إلى القرن السادس خامس لهؤلاء الأربعة الذين ذكرناهم، ويقول إنه: "لم يعرف الخلاف صريحاً إلا من هؤلاء الأربعة" (¬3) . إذن بعدما استشرى هذا البلاء في الإمامية لم نجد من شيوخهم من يعلن إنكاره ¬
لهذا إلا هؤلاء الأربعة (¬1) . وقد أشرنا من قبل إلى أن ابن حزم يذكر بأن الإمامية كلها على هذا الباطل إلا ثلاثة، ومن هؤلاء الثلاثة الشريف المرتضى. وقد تحدث شيوخهم أن الإمامية لم تتفق على هذا الكفر. يقول صاحب "قوامع الفضول": "إن المحكي عن ظاهر الكليني وشيخه عليّ بن إبراهيم القمي والشيخ أحمد بن أبي طالب الطبرسي صاحب الاحتجاج وقوع التحريف والزيادة والنقصان فيه، بل وحكي ذلك عن أكثر الأخباريين، وعن السيد الصدوق (¬2) . والمحقق (¬3) . إنكار ذلك، بل وحكي عن جمهور المجتهدين، وظاهر الصدوق في اعتقاداته أن المراد بما ورد في الأخبار الدالة على أن في القرآن الذي جمعه أمير المؤمنين - رضي الله عنه - كان زيادة لم يكن في غيرها أنها كانت من باب الأحاديث القدسية لا القرآن" (¬4) . ¬
وكذلك أشار الطبرسي في فصل الخطاب إلى مثل ذلك وتوسع في ذكر الذاهبين إلى التحريف فمما قاله: "اعلم أن لهم في ذلك أقوالاً مشورها اثنان: الأول وقع التغيير والنقصان فيه"، ثم ذكر من قال بذلك من شيوخهم، ونقل كلمات بعضهم في هذا، ويلاحظ أنه يحاول المبالغة في جعل معظم رجالات طائفته على هذا القول، بل إنه ذكر مصنفات لا يوجد لها عين ولا أثر، وذكر أنها تسمى باسم "التحريف" أو "التبديل"، واستظهر أن أصحابها كانوا على مذهبه (¬1) ، ولمعارضه أن يقول: ما المانع أن تكون هذه المصنفات لنقد تحريف الشيعة لمعاني القرآن، أو لنقد دعواهم تحريف ألفاظه وأخذت ذلك الاسم. ثم ذكر القول الثاني فقال: "الثاني: عدم وقوع التغيير والنقصان فيه وأن جميع ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وآله هو الموجود بأيدي الناس فيما بين الدفتين، وإليه ذهب الصدوق في عقائده والسيد المرتضى، وشيخ الطائفة في التبيان، ولم يعرف من القدماء موافق لهم إلا ما حكاه المفيد عن جماعة من أهل الإمامة، والظاهر أنه أراد منها الصدوق وأتباعه" (¬2) . وقوله: "لم يعرف من القدماء موافق لهم" يعني قدماء شيوخه الإمامية، الرافضة، أم أسلافهم من الشيعة فلم يصل بهم الأمر إلى هذا الحد - كما تقدم -. ثم قال هذا النوري: "ثم شاع هذا المذهب (يعني إنكار التحريف) بين الأصوليين من أصحابنا واشتهر بينهم حتى قال المحقق الكاظمي في شرح الوافية: إنه حكي عليه الإجماع" (¬3) . ثم حاول رد دعوى الإجماع.. ليجعل جل الشيعة الاثني عشرية على مذهبه. فإذن هل ننتهي من هذا إلى أن الاثني عشرية لم يتفقوا على هذا الكفر، ¬
هل إنكار المنكرين لهذا الكفر (من الشيعة) من قبيل التقية؟
بل لهم قولان في هذه المسألة، كما أشار إلى ذلك الأشعري في مقالاته كما سلف، أو أنه قول واحد والإنكار تقية؟ هذا ما سنعرض له في المسألة التالية: هل إنكار المنكرين لهذا الكفر (من الشيعة) من قبيل التقية؟ بعدما بيّنا أن الأمامية لم تتفق على هذا الضلال، وأنه قد أنكر ذلك كبار محققيهم كالشريف المترضى، وابن بابويه القمي والطوسي والطبرسي، ومن اتبعهم من المتأخرين، فإنه مع ذلك قد برز ناعق من شيوخ الدولة الصفوية يقول: إن إنكار هؤلاء كان على سبيل التقية. يقول شيخهم نعمة الله الجزائري (وهو من الأخبارين) (¬1) . والذي قال عنه الخوانساري: "كان من أعاظم علمائنا المتأخرين وأفاخم فضلائنا المتبحرين.." (¬2) : "والظاهر أن هذا القول إنما صدر منهم لأجل مصالح كثيرة، منها سد باب الطعن عليهم بأنه إذا جاز هذا في القرآن فكيف جاز العمل بقواعده وأحكامه مع جواز لحوق التحريف لها" (¬3) . ثم قدم برهان دعواه بقوله: "كيف وهؤلاء الأعلام رووا في مؤلفاتهم أخباراً تشتمل على وقوع تلك الأمور في القرآن، وأن الآية هكذا أنزلت ثم غيرت إلى هذا" (¬4) . وكذلك يرى هذا صاحب فصل الخطاب؛ فإنه نقل كلام الجزائري المذكور مؤيداً له، كما نقل ما ذكره شيخهم ابن طاوس من أن كتاب التبيان الذي أنكر فيه الطوسي هذا الضلال موضوع على غاية الحذر والمدارة للمخالفين (¬5) . ¬
وقد نقلنا النص بتمامه فيما سبق (¬1) . فهل ما يقوله هؤلاء حقيقة؟ أقول: لا شك أن الجزائري وصحاب فصل الخطاب وغيرهما هم ممن يجاهر بهذا الكفر ويعلنه، ومن يفعل ذلك فليس من الإسلام في شيء، وإذا كنا نتثبت في خبر الفاسق، فما بالك بأخبار هؤلاء، فهم يودون أن يجعلوا كل شيعي على هذا الكفر فليس بغريب أن يحملوا آراء المعارضين على التقية. وأرى خطأ من يأخذ كلام هذا الجزائري ومن على شاكلته بإطلاق، ويحكم على طائفة بأكملها بهذا الكفر من غير دراسة وتحقيق. وإذا كنا لا نأخذ بكلام هؤلاء الأفاكين الآثمين فهذا لا يعني أيضاً أن نتقبل بسذاجة ظاهرة، وبسطحية غافلة ما يقوله أصحاب الرأي الآخر بإطلاق، ونحن نعلم أن التقية من أصولهم، وأنها عندهم تسعة أعشار الدين، ولا دين لمن لا تقية له - كما سيأتي -. وعلى هذا فلابد من دراسة متأنية وأمينة لهذا القضية، فأقول: كما نقل شيخهم المفيد إجماع طائفته على هذا الكفر كما أسلفنا، فإن من كبار شيوخهم المتأخرين من نقل إجماع الأصوليين من الشيعة على إنكار هذا الكفر (¬2) . واعترف صاحب فصل الخطاب بأن مذهب إنكار التحريف قد شاع واشتهر بين أصحابه فقال: ".. شاع هذا المذهب بين الأصوليين من أصحابنا واشتهر بينهم حتى قال المحقق الكاظمي في شرح الوافية: إنه حكي عليه الإجماع" (¬3) . وقد غضب من هذا الأمر صاحب فصل الخطاب، لأنه - كما أسلفت - يريد أن يجعل مذهبه هو الأشهر والأكثر.. فقال: ".. إن دعواه - يعني دعوى ¬
الإجماع - جرأة عظيمة (!) وكيف يمكن دعوى الإجماع بل الشهرة المطلقة على مسألة خالفها جمهور القدماء وجل المحدثين وأساطين المتأخرين، بل رأينا كثيراً من كتب الأصول خالية عن ذكر هذه المسألة، ولعل المتتبع يجد صدق ما قلناه، ومع ذلك كله فالمتبع هو الدليل، وإن لم يذهب إليه إلا قليل كما قال السيد المرتضى - رحمه الله - في بعض مسائله: لا يجب أن يوحش من المذهب قلة الذاهب إليه والعاثر عليه، بل ينبغي ألا يوحش منه إلا ما لا دلالة له تعضده ولا حجة تعمده، وقال المفيد في موضع من المقالات: ولم يوحشني من خالف فيه؛ إذ بالحجة له أتم أنس ولا وحشة من حق" (¬1) . نلاحظ من خلال هذه الكلمات أن هناك وميض نار مشتعلة بين فريقين وكل يدعي الشهرة والأحقية لمذهبه.. وأن هذا الرجل قد ارتدى ثوب الواعظ كما يصنع الشيطان أحياناً وراح يدعو قومه إلى نار جنهم وبئس المصير، وينادي بأن قوله هو الذي عليه الدليل من كتبهم، وهو الأصل الذي عليه قدماء الشيعة، وخلافه قول طارئ على مذهبهم، ودعوى الإجماع عليه أو الشهرة في نظره جرأة عظيمة. إذن هناك - بلاشك - فئة من الشيعة لم تعد تهضم هذا المعتقد، وقد كثر أتباعها، ولهؤلاء - فيما يظهر - ألَّف صاحب فصل الخطاب كتابه ليردهم عن هذا الطريق الذي سلكوه، ويرفع عنهم تلك العماوة التي غشيتهم في نظره ويقول: إن الدليل أحق أن يتبع، وإن لم يذهب إليه أحد. وكأنه استوحش من مذهبه، والكفر كهف موحش مخيف، وخاف تقلص أتباعه واندراس أشياعه فراح يدعو إلى عدم الوحشة عند القلة فهي في نظره عنوان الحق على هذا القول، ومن الغريب أن يستعير كلمات الشريف المرتضى الذي يتبرأ من هذا الكفر، ويكفر من قاله، ويعظ بها قومه ويدعوهم إلى هذا الإلحاد. ¬
ومن خلال قراءتي لكتاب فصل الخطاب تبين لي أن فئة من الشيعة لم تعد تصدق بهذه الخرافة، وقد هاجمهم صاحب فصل الخطاب في مواضع متعددة، وقال معلقاً على كلام بعضهم: "ليس لداء قلة التتبع دواء إلا تعب المراجعة" (¬1) . كما ضاق ذرعاً بأمر الصدوق صاحب "من لا يحضره الفقيه" أحد كتبهم الأربعة المعتمدة في إنكاره لهذه الخرافة، وقال: إن أمره مضطرب، ويغير بعض الروايات لتوافق مذهبه في نفي هذه الخرافة، وأنه غير في بعض الروايات تغييرات تورث سوء الظن (¬2) . به، كما سيأتي بعد قليل إيراد نصوصه في هذا، مع العلم بأن كتابه "من لا يحضره الفقيه" هو أحد جوامعهم المعتمدة عندهم. كما يعتذر أحياناً عن المنكرين من أصحابه لهذا الاعتقاد - الذي يؤكد أنه متواتر من طرقهم الكاذبة - بقوله: "إن أخبار التحريف متفرقة فلهذا لم يعرفوها" (¬3) . ولقائل أن يقول: إنها لم تكن موجودة فلهذا لم يعرفوها ولدت فيما بعد، ونمت أخبارها وكثرت أساطيرها فأخذت بها أنت ومن معك اغتراراً أو تغريراً؛ إذ كيف يعقل أن تخفى على أمثال ابن بابويه وغيره من مؤسسي مذهبكم ومؤلفي مجاميعكم المعتمدة، وكذلك اعتذر عن الطوسي بنحو هذا - كما سيأتي - وحتى نعمة الله الجزائري الذي قال: إن إنكارهم تقية لم يكن على يقين من هذا، فتراه في شرح الصحيفة السجادية يتعجب من صنيعهم، ويحاول أن يرد على حجتهم، حيث يقول: "وأخبارنا متواترة بوقوع التحريف والسقط منه بحيث لا يسعنا إنكاره، والعجب العجيب من الصدوق وأمين الإسلام الطبرسي، والمرتضى في بعض كتبه كيف أنكروه وزعموا أن ما أنزله الله تعالى هو هذا المكتوب مع أن فيه رد متواتر الأخبار (يعني أساطيرهم) ". ثم حاول أن يجيب عما اعترض به عقلاء قومه من أن القول بتحريف ¬
القرآن يلزم منه ألا يعمل به لارتفاع الثقة عنه، وهذا مخالف لما عليه الشيعة والأئمة.. فقال: "وما قيل من طرفهم أنه يلزم عليه ارتفاع الموثوق بالآيات الأحكامية، وينتفي جواز الاستدلال بها لمكان جواز التحريف عليها. فجوابه: أنهم عليهم السلام أمرونا في هذه الأعصار بتلاوة هذا القرآن والعمل بما تضمنته آياته لأنه زمن هدنة، فإذا قامت دولتهم وظهر القرآن كما أنزل الذي ألفه أمير المؤمنين بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وشده في ردائه وأتى إلى أبي بكر وعمر وهما في المسجد في جماعة من الناس فعرضه عليهم فقالوا: لا حاجة لنا في قرآنك ولا فيك عندنا من القرآن ما يكفينا. فقال: لن تروه بعد هذا اليوم حتى يقوم قائمنا. فعند ذلك يكون ذلك القرآن هو المتداول بين الناس مع أن ما وقع من التحريف في الآيات الأحكامية أظهروه عليهم السلام، فيقوم الظن بأن ما لم يعرفونا تحريفه لم يكن فيه تحريف" (¬1) . وبعد هذا هل يحق لأحد أن يجزم بالقول: إن إنكار هؤلاء كان على سبيل التقية، والخلاف جاري بينهم وبين قومهم على أشده، والصراع واضح من خلال ما كتبه صاحب فصل الخطاب وغيره؟! ولكن بقي أن ندرس البرهان الذي قدمه نعمة الله الجزائري في أن إنكار هؤلاء المنكرين كان على سبيل التقية بدليل أنهم "رووا في مؤلفاتهم أخباراً كثيرة تشتمل على وقوع تلك الأمور في القرآن، وأن الآية هكذا أنزلت ثم غيرت إلى هذا" (¬2) . كما سبق نقله، فهل هذا حقيقي بالنسبة لأولئك المنكرين؟ نبدأ بابن بابويه القمي "الصدوق" (ت381هـ) باعتباره أول من أنكر على هؤلاء الغلاة، وأعلن أن هذا لا يمثل مذهب الشيعة وذلك في رسالته "الاعتقادات". ¬
1- ابن بابويه وإنكاره لما ينسب لطائفته
1- ابن بابويه وإنكاره لما ينسب لطائفته: يقول: "اعتقادنا أن القرآن الذي أنزل الله تعالى على نبيه محمد وهو ما بين الدفتين وهو ما في أيدي الناس، وليس بأكثر من ذلك، ومبلغ سوره عند الناس مائة وأربعة عشر (¬1) . سورة، وعندنا أن الضحى وألم نشرح سورة واحدة، ومن نسب إلينا أنا نقول أنه أكثر من ذلك فهو كاذب"، ثم استدل بما جاء في رواياتهم في ثواب من قرأ سورة من القرآن، وثواب من ختم القرآن كله، وأن هذا ينفي تلك الدعاوى الباطلة. ثم قال: "بل نقول: إنه قد نزل من الوحي الذي ليس بقرآن ما لو جمع إلى القرآن لكان مبلغه مقدراً سبع عشرة ألف آية". واستشهد على ذلك ببعض الأحاديث القدسية الواردة عندهم، ثم قال: "ومثل هذا كثير كله وحي ليس بقرآن، ولو كان قرآناً لكان مقروناً به وموصولاً إليه غير مفصول عنه كما قال أمير المؤمنين لما جمعه، فلما جاء به فقال لهم: هذا كتاب الله ربكم كما أنزل على نبيكم لم يزد فيه حرف ولم ينقص منه حرف، فقالوا: لا حاجة لنا فيه، عندنا مثل الذي عندك. فانصرف وهو يقول: فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون" (¬2) . هذا ما قاله ابن بابويه نقلته بطوله لندرة المصدر المنقول عنه، ولأن معظم من ينقل عنه من كتب الشيعة وغيرها يكتفي بنقل صدر كلامه مما لا يعطي تصوراً كاملاً عن مذهب الرجل. ومن خلال الكلمات السابقة يلاحظ ما يلي: أولاً: إن الرجل يعد هذا القول مذهب الشيعة الإمامية كلها، ولهذا قال صاحب فصل الخطاب بعد نقله لهذا النص: "وظاهر قوله: اعتقادنا، وقوله: نسب إلينا، اعتقاد الإمامية" (¬3) . ثم انتقده في ذلك وقال: "وقد ذكر في هذا الكتاب ما لم يقل به ¬
غيره أو قال به قليل" (¬1) . وقد سبق أن قلت: إن صاحب فصل الخطاب متحمس لأن يجعل جميع الشيعة على مذهبه. ثانياً: في قوله: "ومن نسب إلينا أنا نقول أكثر من ذلك فهو كاذب" تكذيب للكليني صاحب الكافي وشيخه القمي صاحب التفسير والنعماني صاحب الغيبة وغيرهم الذين يجاهرون بهذا المعتقد، ويعدونه من مذهب الإمامية، أو كأنه يعتبر من يقول بهذا ليس في عداد الشيعة. ثالثاً: لا نرى إشارة منه إلى وجود رأي آخر في هذا عندهم، كما أشار إلى ذلك الأشعري وغيره، وكأنه يعتبر من يخالف في هذا خارج نطاق التشيع إلا إن كان في الأمر تقية. رابعاً: كأنه في قوله: " ... ما لو جمع إلى القرآن لكان مبلغه سبع عشرة ألف آية" يفسر فيه رواية الكليني والتي تقول: "إن القرآن الذي جاء به جبرائيل عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم سبعة عشر ألف آية" وآيات القرآن كما هو معروف لا تتجاوز ستة آلاف آية إلا قليلاً، لكن الكليني ينص كما ترى على أنها من القرآن، بينما ابن بابويه ينص على أنها ليست من القرآن ويحملها على الأحاديث القدسية - كما سلف -. خامساً: لم يتحرر - كما ترى - من رواسب وآثاره الروايات الأسطورية والتي علقت في ذهنه في هذا الباب.. فتراه يكاد ينقص ما قرره.. بالرواية الأخيرة التي ذكرها في عرض علي المصحف على الصحابة وردهم له.. إن إقراره لهذه الخرافة يفتح الباب لأن يقال فيه بأن إنكاره كان على سبيل التقية وهو ما قيل فعلاً من قبل بعض الشيعة، ومن لدن بعض أهل السنة، ولكنه على أية حال لم يتجرأ أن يقول ¬
في كتاب الله شيئاً وأراد إنقاذ سمعة طائفته من العار الذي لحقها، ولم يستطع أن يجابه قومه بإنكار روايتهم رأساً، أو لم يتمكن من الخلاص النهائي عن تلك السموم، أو أراد الإنكار على سبيل التقية وزرع في كلامه ما ينبئ عن ذلك. الله أعلم بالسرائر. لكن أرى من الشيعة من يذهب إلى القول بأن إنكاره تقية كنعمة الله الجزائري، ولكن لا يقدم دليلاً معيناً على هذا القول، ويكتفي بمجرد الدعوى بأنه روى في كتبه بأن الآية هكذا أنزلت ثم غيرت إلى هذا.. وبالرجوع إلى بعض كتب ابن بابويه المعروف عندهم بالصدوق للبحث عن روايات هذه الأسطورة في كتبه، فنجد من روايات هذه الأسطورة حكاية الزنديق الذي جاء لسؤال علي بن أبي طالب - كما يزعمون - والذي مر بنا نقل بعض نصوصه، والذي رواه شيخهم الطبرسي (من القرن السادس) في كتابه الاحتجاج وفيه تسعة مواضع كلها تدل على هذا الكفر (¬1) . كما شهد بذلك النوري الطبرسي (¬2) ، نجد أن هذا الخبر يورده صدوقهم هذا في كتابه التوحيد وليس فيه ما يدل على أسطورة التحريف (¬3) . فهل هذه الأسطورة زادت بعد قرنين من عصر ابن بابويه لتحشى بهذا الكفر، أو أن ابن بابويه نفسه حذف ذلك.. على آية حال هي تشهد بسلامته من التلبس بحكاية هذا الكفر الذي حملته رواية الطبرسي. وقد احتار صاحب فصل الخطاب في تعليل هذا فقال: "وساق (يعني صدوقهم) الخبر (خبر الزنديق) مع نقصان كثير عما في الاحتجاج، منه ما يتعلق بنقصان القرآن وتغييره، إما لعدم الحاجة إليه كما يفعل ذلك كثيراً، أو لعدم موافقته لمذهبه" (¬4) . ولكن ألا يحتمل أن يكون الأصل هو ما في كتاب التوحيد، وأن تلك ¬
المفتريات المتعلقة بالتحريف زيادة بعد الصدوق من صاحب الاحتجاج أو غيرها، هذا احتمال وارد ولاسيما أن صدوقهم لم يشر إلى أن حذف منه شيئاً. ولقد اغتاظ - فيما يبدو - صاحب فصل الخطاب من صدوقهم بسبب ذلك وقال - نقلاً عن بعض شيوخه -: ".. وبالجملة فأمر الصدوق مضطرب جداً، ولا يحصل من فتواه علم ولا ظن لا يحصل من فتاوى وأساطين المتأخرين وكذلك الحال في تصحيحه وترجيحه" (¬1) ، ثم قال: "وقد ذكر صاحب البحار حديثاً عنه في كتاب التوحيد.. ثم قال: هذا الخبر مأخوذ من الكافي وفيه تغييرات عجيبة تورث سوء الظن بالصدوق" (¬2) . كل ذلك بسبب أن صدوقهم لم ينقل ذلك الكفر الذي نقله صاحب الكافي. وساق هذه "الانتقادات" صاحب فصل الخطاب، لأن ابن بابويه لم يوافقه في مشربه. ولكن لم تسلم كل كتب الصدوق من هذا "الإلحاد" فقد جاء في كتابه "ثواب الأعمال" في ثواب من قرأ سورة الأحزاب، عن أبي عبد الله رضي الله عنه قال: "من كان كثير القراءة لسورة الأحزاب كان يوم القيامة في جوار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأزواجه - إلى أن قال: - إن سورة الأحزاب فضحت نساء قريش من العرب وكانت أطول من سورة البقرة ولكن نقصوها وحرفوها" (¬3) . وفي كتاب الخصال جاء برواية تقول: "يجيء يوم القيامة ثلاثة يشكون إلى الله عز وجل: المصحف، والمسجد، والعترة. يقول المصحف يا رب حرقوني ومزقوني.." (¬4) . ¬
وقد وردت في بحار الأنوار (¬1) . وعند بعض الناقلين (¬2) . "حرفوني" وهي أدل على الوقوع في هذا الكفر، ولكنها خلاف الأصل. وقد وردت بنحو ذلك في كتابه الأمالي، تقول الرواية التي يرويها صدوقهم بسنده عن جعفر الصادق عن أبيه عن آبائه رضي الله عنهم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " ... اذكروا وقوفكم بين يدي الله.. فإنه لابد سائلكم عما عملتم بالثقلين من بعدي: كتاب الله، وعترتي، فانظروا أن لا تقولوا: أما الكتاب فغيرنا وحرفنا.." (¬3) . وهذه الرواية لا تدل على فعلهم ولكنها تحذرهم، ولكن إذا قرنتها بما قبلها، وأنهم قد فعلوا - كما يزعمون - صارت من ذلك الكفر، وهناك روايات أخرى مماثلة نقلها صاحب فصل الخطاب بالواسطة أدع نقلها لعدم وقوفي عليها في كتب الصدوق (¬4) . كما أن ثمة روايات أخرى أوردها صاحب فصل الخطاب من كتب صدوقهم وهي قراءة واردة لا تدين الرجل وحدها (¬5) ، فليس هذا بغريب من ذلك الطبرسي، ولكن قد اغتر بصنيعه هذا بعض الكاتبين ¬
2- الطوسي وإنكاره للتحريف
من السنة، وسلك مسلكه بلا تدبر (¬1) . وننتهي من هذا إلى أنه جاء في كتب صدوقهم بعض روايات هذه الفرية، ومع ذلك فلا نجزم بالقول أنه هذه عقيدته وأن الإنكار تقية كما قال بعضهم، ذلك لأنه لا يوثق بخلو كتبه من الدس والزيادة عليه، وليس ذلك مجرد تخمين لا دليل عليه؛ بل إن الزيادة أمر ميسور عندهم، كما بدا لنا ذلك في كتاب: "سليم بن قيس" والذي اعترف بوضعه والتغيير فيه شيوخهم - كما سلف - وكما زادوا في روايات كتاب: "من لا يحضره الفقيه" لابن بابويه نفسه أكثر من الضعف كما سيأتي في فصل: "اعتقادهم في السنة". 2- الطوسي وإنكاره للتحريف: أما شيخهم الطوسي (ت450هـ) فقد قال: "وأما الكلام في زيادته ونقصانه مما لا يليق به أيضاً؛ لأن الزيادة فيه مجمع على بطلانها، والنقصان منه فالظاهر أيضاً من مذهب المسلمين خلافه وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا، ورويت روايات كثيرة من جهة العامة والخاصة بنقصان كثير من آي القرآن ونقل شيء منه من موضع إلى موضع، لكن طريقها الآحاد التي لا توجب علماً، فالأولى الإعراض عنها، وترك التشاغل بها، لأنه يمكن تأويلها، ولو صحت لما كان ذلك طعناً على ما هو موجود بين الدفتين، فإن ذلك معلوم صحته لا يعترضه أحد من الأئمة ولا يدفعه، ورواياتنا متناصرة بالحث على قراءته والتمسك بما فيه ورد ما يرد من اختلاف الأخبار في الفروع إليه وعرضها عليه، فما وافقه عمل عليه، وما يخالفه يجتنب ولم يتلفت إليه، وقد وردت عن النبي صلى الله عليه وآله رواية لا يدفعها أحد أنه قال: إني مخلف فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، وهذا يدل على أنه موجود في كل عصر، لأنه ¬
لا يجوز أن يأمر الأمة بالتمسك بما لا تقدر على التمسك به، كما أن أهل البيت ومن يجب اتباع قوله حاصل في كل وقت، وإذا كان الموجود بيننا مجمعاً على صحته فينبغي أن نتشاغل بتفسيره وبيان معانيه وترك ما سواه" (¬1) . هذا كلام شيخهم الطوسي صاحب كتابين من كتبهم المعتمدة في الحديث عندهم، وكتابين من كتبهم المعتمدة في الرجال، فهل هذا الإنكار تقية..؟. أقول: إن مسألة التقية من أماراتها التناقض والاختلاف، ولكن التناقض صار قاعدة مطردة في رواياتهم، بل وجد مثل ذلك في إجماعاتهم، كما وجد في كلام شيوخهم، وأصبح معرفة حقيقة المذهب ليست متيسرة حتى على شيوخهم الذين لا يجدون دليلاً على التمييز بين ما هو تقية وما حقيقة إلا بالاستناد إلى أصل وضعه زنديق ملحد وهو قولهم: "إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فخذوا بما خالف القوم" (¬2) . يعني أهل السنة، فأوشك أن ينتهي بهم هذا المهذب إلى مفارقة الدين رأساً (¬3) . وعليه، فإن قضية الاختلاف هي ظاهرة طبيعية لكل دين ليس من شرع الله {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} : فهو حينما ينقل رواياتهم في كتبه فمن الطبيعي وجود مثل هذا الاختلاف، وبالتالي فإنه لا يدين الرجل إدانة أكيدة بعد إنكاره، ولا سيما أن العبرة بالنسبة لبيان مذهبه بما رأى لا بما روى. لقد لوحظ أن الطوسي هذا نقل في تهذيبه لرجال الكشي بعض روايات هذه الأسطورة كنقله للرواية التي تقول: "لا تأخذن معالم دينك من غير شيعتنا، فإنك إن تعديتهم أخذت دينك عن الخائنين الذين خانوا الله ورسوله، وخانوا أماناتهم، إنهم اؤتمنوا على كتاب الله جل وعلا فحرّفوا وبدّلوه.." (¬4) . كما أنه قد ¬
نقل بعض أخبار هذه الأسطورة على أنها قراءة في تفسيره التبيان (¬1) . ولكن يرى أن كل هذه الروايات من قبيل روايات الآحاد التي لا يعتمد عليها - كما ذكره في إنكاره - ولا تدفع ما تضافر من رواياتهم التي توجب العمل بالقرآن والرجوع إليه عند التنازع. أما صاحب فصل الخاطب فقد اختلفت أقواله في توجيه هذا الإنكار الذي يقلقه لمخالفته لمذهبه؛ فهو مرة يرى أن هذا القول لا يمثل إلا رأي الطوسي وفئة قليلة من الشيعة معه يقول: ".. إنه ليس فيه حكاية إجماع عليه، بل قوله: نصره المرتضى صريح في عدمه، بل في قلة الذاهبين إليه" (¬2) ، ثم يرجع ويقول: بأن هذا القول منه تقية، لأن هذا الإنكار جاء في تفسير التبيان و"لا يخفى على المتأمل في كتاب التبيان أن طريقته فيه على نهاية المدارة والمماشاة مع المخالفين" (¬3) . ويعلل ذلك باستناده لأقوال أئمة أهل السنة في التفسير (¬4) ، ولا يكاد يجزم بهذا الحكم كما يشعر به قوله: " وهو - أي نقل الطوسي لأقوال أئمة السنة - بمكان من الغرابة لو لم يكن على وجه المماشاة، فمن المحتمل أن يكون هذا القول - يعني ¬
إنكار التحريف - منه (من الطوسي) فيه (في تفسير البيان) على نحو ذلك (أي من المدارة والتقية) ". وثم يتجه وجهة أخرى ويشير إلى أن في كلام الطوسي تناقضاً يشعر أنه تقية فقال: "إن إخباره بأن ما دل على النقصان روايات كثيرة يناقض قوله: لكن طريقه الآحاد، إلا أن يحمل ما ذكرنا" (¬1) . أي من التقية. ثم يعرض عن هذا كله ويقول: إن الطوسي "معذور (في إنكاره) لقلة تتبعه من قلة تلك الكتب عنده" (¬2) . هذا جانب من حيرة الطبرسي في أمر الطوسي وغيره من المنكرين لهذه الفرية، فإذا كان هذا أمر شيوخهم لا يكادون يقفون على حقيقة مذهب أئمتهم وشيوخهم القدامى بسبب أمر التقية فنحن أعذر في عدم الوصول إليه نتيجة جازمة يقينية. والطوسي كما يلاحظ في إنكاره قد دس في الشهد سماً، وتناقض في حكاية مذهبه كما لا يخفى (¬3) . ¬
3- الشريف المترضى (ت 436هـ) وإنكاره لهذه الفرية
3- الشريف المترضى (ت 436هـ) وإنكاره لهذه الفرية: يقول: "إن العلم بصحة نقل القرآن كالعلم بالبلدان والحوادث الكبار والوقائع العظام والكتب المشهورة وأشعار العرب المسطورة، فإن العناية اشتدت والدواعي توفرت على نقله وحراسته، وبلغت إلى حد لم يبلغه فيما (¬1) . ذكرناه، لأن القرآن معجزة النبوة، ومأخذ العلوم الشرعية، والأحكام الدينية، وعلماء المسلمين قد بلغوا في حفظه وحمايته الغاية حتى عرفوا كل شيء اختلف فيه من إعرابه وقراءته وحروفه وآياته، فكيف يجوز أن يكون مغيراً ومنقوصاً مع العناية الصادقة والضبط الشديد". ثم ذكر أنه لو رام أحد الزيادة أو النقص من كتاب مشهور ككتاب سيبوبه والمزني لعرف ونقل، لأن أهل العناية بهذا الشأن يعلمون من تفصيلهما ما يعلمونه من جملتهما حتى لو أن مدخلاً أدخل في كتاب سيبويه باباً في النحو ليس من الكتاب لعرف وميز وعلم أنه ملحق وليس من أصل الكتاب، وكذلك القول في كتاب المزني. ومعلوم أن العناية بالقرآن وضبطه أصدق من العناية بنقل كتاب سيبويه ودواوين الشعراء.. وإن من خالف ذلك من الإمامية والحشوية لا يعتد بخلافهم، فإن الخلاف في ذلك مضاف إلى قوم من أصحاب الحديث نقلوا أخباراً ضعيفة ظنوا صحتها لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع على صحته (¬2) . وكأن الجملة الأخيرة تشير إلى ما ذهب إليه الإخباريون من الشيعة من القول بهذا الضلال (¬3) . ¬
وهذه كلمات شيخهم الشريف المرتضى (الذي استثناه ابن حزم من القائلين بهذا الكفر كما تقدم) نقلها عنه صاحب مجمع البيان وقال: إن المرتضى "قد استوفى في الكلام في نصرة هذا المذهب الحق في جواب المسائل الطرابلسيات" (¬1) . ولم يقع لنا هذا الكتاب، وأغفل متأخرو الشيعة النقل عنه كما فعل الكاشاني في تفسير الصافي، والبحراني في البرهان، والمجلسي في البحار وغيرهم، ولم أجد منه - فيما اطلعت عليه - إلا هذا النص الذي حفظه الطبرسي في مجمع البيان. ولكن قيل: إن هذه الإنكار تقية، لأنه كما قال صاحب فصل الخطاب: "قد عدّ هو في الشافعي من مطاعن عثمان ومن عظيم ما أقدم عليه جمع الناس على قراءة زيد وإحراقه وإبطاله ما شك أنه من القرآن" (¬2) . وهذا بلا شك يناقض إنكاره لهذه الفرية، وبيانه بالدليل العقلي والتاريخي استحالة حصولهم، فإما أن يكون هذا النص مدسوساً عليه، فقد رأينا كيف يغيرون في كتبهم كما صنعوا بكتاب سليم بن قيس وغيره، لا سيماً أنه لو كانت هذه عقيدة الرجل لكثر حديثه عنها، ولكن لم يجد صاحب فصل الخطاب عليه سوى هذا النص. وإما أن يكون الإنكار على سبيل التقية، وهذا احتمال أضعف مما قبله لما ذكرنا، وهذا النص علاوة على أنه طعن في كتاب الله سبحانه، فهو حكم بالضلال على الأمة عامة بما فيها علي - رضي الله عنه - من قوم يزعمون التشيع له وموالاته!!. وكيف يتصور مسلم مثل هذا في ذلك الجيل القرآني الفريد الذين بذلوا المهج وهجروا الأهل الولد، وفارقوا الأوطان في سبيل الله وحده، ولمصلحة من، وفي سبيل من يضحون بسابقتهم، وجهادهم، ويبيعون دينهم ودنياهم ¬
4- الطبرسي وإنكاره لهذه الفرية
فيوافقون أحداً على المساس بدينهم وكتابهم؟! إن هذا لبهتان عظيم؛ بل الحق أن عمل عثمان هذا من أعظم مناقبه، ووقع بإجماع من الأمة، كما قال أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه -: "لا تقولوا في عثمان إلا خيراً فوالله ما فعل في المصاحف إلا عن ملأ منها" (¬1) . فجزاه الله عن الأمة خيراً. 4- الطبرسي وإنكاره لهذه الفرية: أما الطبرسي فيقول: ".. ومن ذلك الكلام في زيادة القرآن ونقصانه، فإنه لا يليق بالتفسير، فأما الزيادة فيه فمجمع على بطلانها، وأما النقصان منه فقد روى جماعة من أصحابنا وقوم من حشوية العامة أن في القرآن تغييراً ونقصاناً، والصحيح من مذهب أصحابنا خلافه، وهو الذي نصره المرتضى قدس الله وروحه، واستوفى الكلام فيه غاية الاستيفاء في جواب المسائل الطرابلسيات" ثم ساق بعض كلامه في ذلك (¬2) . فهو يشير هنا إلى أن جماعة من أصحابه رووا روايات في نقص كتاب الله وتغييره، وأن مذهب محققي الشيعة على خلافه، ويحاول - كعادة هؤلاء - أن يشرك بعض أهل السنة الذي عبر عنهم "بحشوية العامة" في هذا الكفر كنوع من الدفاع عن المذهب، وحفظ ماء الوجه، ولون من النقد المبطن لأهل السنة، وهو كما قال الألوسي: "كذب أو سوء فهم، لأنهم أجمعوا على عدم وقوع النقص فيما تواتر قرآناً كما هو موجود بين الدفتين اليوم. نعم أسقط زمن الصديق ما لم يتواتر ونسخت تلاوته - وكان يقرأه من لم يبلغه النسخ - وما لم يكن في العرضة الأخيرة ولم يأل جهداً رضي الله عنه في تحقيق ذلك إلا أنه لم ينتشر نوره في الآفاق إلا زمن ذي النورين.." (¬3) . وقد ناقش الألوسي ما قاله الطبرسي وبين أوهامه (¬4) . ¬
وقد ذكر الألوسي أن كلامه هذا في إنكار هذه الفرية دعاه إليه ظهور فساد مذهب أصحابه حتى للأطفال، والحمد لله على أن ظهر الحق وكفى الله المؤمنين القتال (¬1) . وقد اكتشفت أثناء قراءتي في مجمع البيان أن الطبرسي قد قام بحيلة أو محاولة لستر هذا العار، فأتى إلى بعض روايات أصحابه في هذه الأسطورة والتي فيها أن الآية كذا ثم غيرت إلى كذا، فغير صورة عرضها بما ينخدع به أهل السنة، أو بما لا تتضح به صورة هذا الخزي، فعبر عن بعض هذه الأساطير بأنها قراءة ورادة. ولنعرض على سبيل المثال بعض الأمثلة لأساطيرهم في التحريف كما جاءت في مصادرهم، وتغيير الطبرسي لها: جاء في تفسير القمي في قوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} (¬2) . قال العالم (¬3) .- رضي الله عنه - نزل: "وآل عمران وآل محمد على العالمين" فأسقطوا آل محمد من الكتاب (¬4) . وفي تفسير فرات عن حمران قال: سمعت أبا جعفر يقرأ هذه الآية: (إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل محمد على العالمين: قلت: ليس يقرأ هكذا، قال أدخل حرف مكان حرف) (¬5) . وفي تفسير العياشي عن هشام بن سالم قال: سألت أبا عبد الله عن قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} قال: "هو آل إبراهيم وآل محمد على العالمين فوضوا اسماً مكان اسم" (¬6) . والهدف من ¬
هذا الافتراء والتزوير هو محاولة إثبات قولهم باثني عشر إماماً من كتاب الله، وفاتهم أن آل محمد لفظ عام، والاثني عشر عندهم هم عليّ وابناه وأولاد أحد أبنائه فقط، وما سواهم ينالون السب أو التفكير - كما سيأتي - فلم يتحقق الهدف لهم من التزوير ولا من التأويل، وهذه الأساطير التي تفتري على كتاب الله، وصحابة رسول الله بما فيهم أهل بيته، والتي تناقلتها كتب التفسير عندهم، نلاحظ أن صاحب مجمع البيان يعبر عنها بقوله: "وفي قراءة أهل البيت: وآل محمد على العالمين" (¬1) . وكذلك فعل في عدة من مفترياتهم جعلها قراءات (¬2) . وأحياناً يجعل تلك الفرية معنى للآية؛ ففي أسطورتهم حول قوله جل شأنه: ¬
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} (¬1) . قالت الأسطورة: "عن أبي جعفر نزل جبرائيل على رسول الله صلى الله عليه وآله بهذه الآية هكذا: "ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله (في علي) فأحبط أعمالهم" انظر إلى هذه الزيادة التي افتروها وهي قولهم: "في علي" (¬2) . تجدها تتحول عند الطبرسي إلى معنى للآية يقول: "كرهوا ما أنزل الله في حق علي رضي الله عنه" (¬3) . هذا بعض ما جاء في كتاب مجمع البيان، الذي سار في تأليفه على منهج الطوسي في التبيان، وقرر ثقة الشيعة في العصور المتأخرة "النوري الطبرسي" أن كتاب التبيان موضوع على أسلوب المداراة وتقية الخصوم، فإن صدق هذا الوصف انطبق على الاثنين معاً، لأن منهجهما واحد، وقد انخدع بأسلوب "مجمع البيان" قلة من المنتسبين لأهل السنة ممن ينتمي لدار التقريب في القاهرة، والتي كانت حية إلى وقت قريب قبل أن تتبين حقيقتها.. فقاموا بإخراج هذا الكتاب باسم التقريب وعمل على مراجعته وتصحيحه وضبطه ستة من الشيوخ المنتسبين لأهل السنة (¬4) ، وذلك لأن من لم يتعرف على نصوصهم لا يدرك "الخدعة" التي انطوى عليها هذا التفسير.. ويبدو أن ذلك الأسلوب هو الذي جعل بعض الشيعة يعتبر إنكار الطبرسي تقية. هؤلاء هم الأربعة الذين نقلت أقوالهم، وقد يكون هناك من أنكر غيرهم ولم تصلنا أقوالهم، فإن المفيد في أوائل المقالات نسب الإنكار إلى جماعة من الإمامية - كما سلف - ولا نجزم بأن هؤلاء الأربعة لا يوجد لهم خامس في القرون المتقدمة كصاحب فصل الخطاب الذي يريد أن يخنق هذا الصوت، ويجعل جل الشيعة على مذهبه (¬5) . ¬
نتائج الموضوع
وفي النهاية أقول: بأن هذا الموقف من كبار علماء الشيعة في رد وإنكار ما ورد في كتبهم مما يمس كتاب الله - سبحانه - لا نقول: إنه تقية فلا سبيل إلى معرفة ذلك على وجه اليقين، وإن كان البعض من السنة (¬1) . والشيعة (¬2) . قد ذهب إلى ذلك، فقد لاحظت الصراع الدائر بين الطائفتين في فصل الخطاب، كما تبين شيوع الكذب والدس فيكتبهم كما بينا، ثم إن من يتبرأ من هذا الكفر (بعد إيمانه بالله ورسوله) نقبل ذلك منه والله يتولى السرائر. وهذا الإنكار خطوة يجب أن تتلوها خطوات، وذلك بأن يعيدوا النظر في سائر ما شذوا به عن جماعة المسلمين، وقد أشار شيخهم المجلسي - كما مر - إلى أنهم يجب أن يسلكوا هذا المسلك، إذ يترتب في رأيه على إنكار أخبار التحريف التي تواترت من طرقهم بالكذب والافتراء يترتب على ذلك رفع الثقة والاعتماد في سائر أخبارهم.. وهذا حق، فإن تواتر هذا الكذب في كتبهم من أكبر الأدلة على وضعها وفشو الكذب فيها. نتائج الموضوع: أولاً: يحتمل أن هذه الأسطورة نشأت عند الشيعة في القرن الثاني، والذي تولى كبرها بعض الغلاة (وقد مر ذكر بعض أسمائهم) ، وكان من أسبابها خلو كتاب الله مما يثبت بدعهم في الإمامة، والصحابة وغيرهما. ثانياً: أكثر كتب الشيعة المعتمدة عندهم قد روت هذا الكفر، وجاءت معظم هذه الروايات صريحة في ذلك لا يمكن حملها على أنهم يقصدون تأويل الآية، أو بيان القراءات التي وردت فيها، بل جاءت تصرح بأن الآية هكذا والصحابة - ¬
بزعمها - غيرت ذلك، مثل الألفاظ التالية: "هذه الآية مما غيروا وحروفوا.." (¬1) . يعنون الصحابة، وقولهم: "أنزل الله سبعة بأسمائهم فمحت قريش ستة وتركوا أبا لهب" (¬2) ، "كانت فيه أسماء رجال فألقيت" (¬3) ، وقولهم: "هكذا والله نزل به جبرائيل على محمد ولكنه فيما حرف من كتاب الله" (¬4) ، وقولهم: "بلى والله إنه لمثبت فيها وإن أول من غير ذلك لابن أروى" (¬5) . ومثل ذلك كثير. فمن يقل من الشيعة: إن رواياتهم الواردة في كتبهم من جنس روايات القراءات، ونسخ التلاوة فهو يتستر على هذا الكفر، ويساوي بين الحق والباطل. ثالثاً: ادعى جمع من شيوخهم استفاضة هذه "الأساطير" وكثرتها في كتبهم المعتمدة، وهذا طعن في كتبهم لا في كتاب الله سبحانه، ولهذا حاول بعض عقلائهم الخروج بالمذهب من هذا "المأزق" الذي وقع فيه، أو التستر على هذه الفضيحة.. ولكن هذه الأسطورة كانت رواياتها تزيد - عبر القرون - رغم إنكار المنكرين، وتبنى إشاعتها طائفة من الزنادقة الذين اندسوا في الشيعة.. ولا ريب بأن من يقل بهذه الأسطورة فليس من الإسلام في شيء، ولا علاقة له بكتاب الله ودينه، ولا برسول الإسلام وأهل بيته، بل له دين آخر غير دين الإسلام. لكن هؤلاء القائلون بتغير القرآن الناقلون لتلك الأساطير كالمجلسي في بحار الأنوار، والطبرسي في فصل الخطاب نراهم يستشهدون من كتاب الله، ويفتتحون كل باب من أبواب كتبهم بآيات من القرآن، كما يفعل المجلسي في بحاره، والطبرسي في "مستدرك الوسائل" وغيرهما، بل إن الطبرسي الذي كتب في فصل الخطاب ما كتب قد عقد في كتابه: "مستدرك الوسائل" باباً بعنوان: "باب استحباب الوضوء ¬
لمس كتابة القرآن ونسخه، وعدم جواز مس المحدث والجنب كتابة القرآن" (¬1) ، بل إن شيخ الشيعة المجلسي الذي قال - كما سلف - باستفاضة تلك الأساطير وأنها لا تقصر عن أخبار الإمامة يقول مع ذلك: "بأن الذي بين الدفتين كلام الله تعالى على الحقيقة من غير زيادة ولا نقصان" (¬2) . ثم استشعر التناقض بين هذا القول وبين أساطيرهم في تحريف القرآن فقال: "فإن قال قائل: كيف يصحّ القول بأن الذي بين الدفتين هو كلام الله تعالى على الحقيقة من غير زيادة ولا نقصان، وأنتم تروون عن الأئمة عليهم السلام أنهم قرؤوا: "كنتم خير أئمة أخرجت للناس" أو "كذلك جعلناكم أئمة وسطاً" وقرؤوا: "يسألونك الأنفال" وهذا بخلاف ما في المصحف الذي في أيدي الناس؟ قيل له:.. إن الأخبار التي جاءت بذلك أخبار آحاد لا يقطع على الله بصحتها، فلذلك وقفنا فيها، ولم نعدل عما في المصحف الظاهر على ما أمرنا به.. مع أنه لا ننكر أن تأتي القراءة على وجهين منزلتين أحدهما ما تضمنه المصحف، والثاني ما جاء به الخبر، كما يعترف مخالفونا به من نزول القرآن على وجوه شتى" ثم أشار إلى بعض القراءات (¬3) . فما دام هذه نهاية الذين أثاروا تلك العقائد الكفرية، فلماذا أثاروا تلك المفتريات وتناقلوها.. والجواب واضح من خلال ما سبق أن عرضناه وهو إقناع قومهم وأتباعهم بصحة ما هم عليه من معتقدات، وأن آيات من القرآن قد حذفها الصحابة تشهد لمذهبهم، ولهذا لاحظنا أنهم أيضاً ادعوا نزول كتب إلهية غير القرآن، وفزعوا إلى التفسير الباطني؛ كل ذلك لإثبات شذوذهم.. فإذن تحولت تلك الدعاوى إلى مجرد محاولات للتخلص من الإلزامات الواردة عليهم بخلو كتاب الله مما يثبت عقائدهم، ولكن تلك الروايات كان لها آثارها على فرق ¬
الشيعة (¬1) ، بل على الاثني عشرية نفسها، فإن الأخباريين منهم يقدّمون أخبارهم على كتاب الله كما سلف (¬2) . حتى أشيع بأن الاثني عشرية لهم مصحف خاص بهم. رابعاً: كما أن لديهم روايات تقول بالتحريف، فإن عندهم روايات أخرى تنفي هذا الباطل وتنكره مثل قول إمامهم: "واجتمعت الأمة قاطبة لا اختلاف بينهم في ذلك أن القرآن حق لا ريب فيه عند جميع فرقها، فهم في حالة الاحتجاج عليه مصيبون، وعلى تصديق ما أنزل الله مهتدون، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تجتمع أمتي على ضلالة" (¬3) . ومثل ما جاء عندهم في ثواب قراءة القرآن (¬4) ، وفضل حامل القرآن (¬5) ، ووجوب عرض أحاديثهم عليه (¬6) ، والتمسك به إلى قيام الساعة، وهذا يبطل أن يكون محرفاً أو مخفياً عند منتظرهم. خامساً: تبين لنا أن هذه الأسطورة حملت بذاتها باطلها، وتبين من عناصر تكوينها فسادها، وكان مجرد عرضها كافياً في الرد عليها. ويكفي في بيان كذب الروافض.. أن علي بن أبي طالب الذي هو عند أكثرهم إله خالق، وعند بعضهم نبي ناطق، وعند سائرهم إمام معصوم ولي الأمر وملك، فبقي خمسة أعوام وتسعة أشهر خليفة مطاعاً ظاهر الأمر.. والقرآن يقرا في المساجد في كل مكان وهو يؤم الناس به، والمصاحف معه وبين يديه. فلو رأى فيه تبديلاً كما تقول الرافضة أكان يقرهم على ذلك؟ ¬
ثم أتى ابنه الحسن وهو عندهم كأبيه فجرى على ذلك. فكيف يسوغ لهؤلاء النوكى أن يقولوا إن في المصحف حرفاً زائداً أو ناقصاً أو مبدلاً مع هذا؟! ولقد كان جهاد من حرف القرآن وبدل الإسلام أوكد عليه من قتال أهل الشام الذين إنما خالفوه في رأي يسير رأوه ورأى خلافة فقط، فلاح كذب الرافضة ببرهان لا محيد عنه. والحمد لله رب العالمين (¬1) . ¬
الفصل الثاني: اعتقادهم في السنة
الفصل الثاني: اعتقادهم في السنة اعتبر الإمام عبد القاهر البغدادي الشيعة من المنكرين للسنة لرفضهم قبول مرويات صحابة رسول الهدى - عليه الصلاة والسلام (¬1) .- على حين نجد أن السيوطي يشير في كتابه "الاحتجاج بالسنة" إلى ظهور دعوة شاذة في عصره تدعو إلى نبذ السنة، والإعراض عن الاحتجاج بها والاكتفاء بالقرآن، ويذكر أن مصدر هذه الدعوة رجل رافضي، وقد كتب كتابه المذكور لنقض هذا الاتجاه وإبطاله. إذاً فالشيعة تحارب السنة، ولهذا فإن أهل السنة اختصوا بهذا الاسم لاتباعهم سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم (¬2) . هذا ما جاء في بعض مصادر أهل السنة؛ ولكن الشيعة تروي عن أئمتها "أن كل شيء مردود إلى الكتاب والسنة وكل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف" (¬3) . وبهذا المعنى روايات أخر (¬4) . عندهم. وهو يفيد أن الشيعة لا تنكر سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بل تعتمد عليها، وتجعلها مع كتاب الله الميزان والحكم. غير أن الدارس لنصوص الشيعة ورواياتها قد ينتهي إلى الحكم بأن الشيعة تقول بالسنة ظاهراً وتنكرها باطناً؛ إذ إن معظم رواياتهم وأقوالهم تتجه اتجاهاً مجانفاً للسنة التي يعرفها المسلمون، في الفهم والتطبيق، وفي الأسانيد، والمتون، ويتبين ¬
قول الإمام كقول الله ورسوله
ذلك فيما يلي: قول الإمام كقول الله ورسوله: فالسنة عندهم هي: "كل ما يصدر عن المعصوم من قولٍ أو فعلٍ أو تقريرٍ" (¬1) ، ومن لا يعرف طبيعة مذهبهم لا يلمح مدى مجانبتهم للسنة في هذا القول؛ إذ إن المعصوم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولكن الشيعة تعطي صفة العصمة لآخرين غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتجعل كلامهم مثل كلام الله وكلام رسوله، وهم الأئمة الاثنا عشر، لا فرق عندهم في هذا بين هؤلاء الاثني عشر وبين من لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى. فهم "ليسوا من قبيل الرواة عن النبي والمحدثين عنه، ليكون قولهم حجة من جهة أنهم ثقات في الرواية؛ بل لأنهم هم المنصوبون من الله تعالى على لسان النبي لتبليغ الأحكام الواقعية، فلا يحكمون إلا عن الأحكام الواقعية عند الله تعالى كما هي" (¬2) . ولا فرق في كلام هؤلاء الاثني عشر بين سن الطفولة، وسن النضج العقلي؛ إذ إنهم - في نظرهم - لا يخطئون عمداً ولا سهواً ولا نسياناً طوال حياتهم - كما سيأتي في مسألة العصمة -، ولهاذ قال أحد شيوخهم المعاصرين: "إن الاعتقاد بعصمة الأئمة جعل الأحاديث التي تصدر عنهم صحيحة دون أن يشترطوا إيصال سندها إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما هو الحال عند أهل السنة" (¬3) ، ذلك إن الإمامة عندهم "استمرار للنبوة" (¬4) ، وأن الأئمة كالرسل "قولهم قول الله وأمرهم أمر الله وطاعتهم طاعة الله ومعصيتهم معصية الله وإنهم لم ينطقوا إلا عن الله تعالى وعن وحيه" (¬5) . وقد جاء في الكافي ما يعدونه حجة لهم في هذا المذهب وهو قول ¬
أبي عبد الله - كما يزعم صاحب الكافي - "حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدي، وحديث جدي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين، وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديث رسول الله قول الله عز وجل" (¬1) . وذكر شارح الكافي أن هذا القول يدل على "أن حديث كل واحد من الأئمة الظاهرين قول الله عز وجل، ولا اختلاف في أقوالهم كما لا اختلاف في قوله تعالى" (¬2) . بل قال: "يجوز من سمع حديثاً عن أبي عبد الله - رضي الله عنه - أن يرويه عن أبيه أو عن أحد من أجداده، بل يجوز أن يقول: قال الله تعالى" (¬3) ، وهذا صريح في جواز نسبة أقوال البشر إلى الله سبحانه. ثم ذكر أن بعض رواياتهم تدل على جواز ذلك بل أولويته (¬4) ، كما جاء في الكافي عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله - رضي الله عنه -: الحديث أسمعه منك أرويه عن أبيك أو أسمعه عن أبيك أرويه عنك؟ قال: سواء، إلا أنك ترويه عن أبي أحب إليّ. وقال أبو عبد الله - رضي الله عنه - لجميل: ما سمعت مني فاروه عن أبي" (¬5) . هذه الروايات صريحة في استساغتهم الكذب البواح الصراح حيث ينسبون - مثلاً - لأمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - ما لم يقله، بل قاله بعض أحفاده ممن لم يشتهر عنه العلم، وحتى ما ينسب لمنتظره من أقوال يجوز نسبتها إلى أمير المؤمنين علي؛ بل النسبة إلى الأعلى أولى كما يدل عليه صريح الرواية السابقة، ¬
الأصل الأول: علم الأئمة يتحقق عن طريق الإلهام والوحي
وقد أخذ من ذلك شارح الكافي أولوية نسبة أقوال الأئمة إلى الله عز وجل، وهذا في غاية الجرأة على الله عز وجل، فالسنة عندهم ليست سنة النبي فحسب؛ بل سنة الأئمة، وأقوال هؤلاء الأئمة كأقوال الله ورسوله، ولهذا اعترفوا بأن هذا مما ألحقته الشيعة بالسنة المطهرة، قالوا: "وألحق الشيعة الإمامية كل ما يصدر عن أئمتهم الاثني عشر من قول أو فعل أو تقرير بالسنة الشريفة" (¬1) . وهم يقولون بهذا القول من منطلقين خطيرين، وقاعدتين أساسيتين عندهم في هذه المسألة. وقد أشار أحد شيوخهم المعاصرين إليهما حينما ذكر أن قول الإمام عندهم يجري مجرى قول النبي، من كونه حجة على العباد واجب الاتباع، وأنهم لا يحكمون إلا عن الأحكام الواقعية عند الله تعالى كما هي. فبين أن ذلك يتحقق لهم من طريقين "من طريق الإلهام كالنبي من طريق الوحي، أو من طريق التلقي عن المعصوم قبله كما قال مولانا أمير المؤمنين - عليه السلام -: "علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف باب من العلم ينفتح لي من كل باب ألف باب" (¬2) ، فعلم الأئمة نوعان: علم حادث وهذا يتحقق عن طريق الإلهام وغيره، وعلم مستودع عندهم ورثوه عن الرسول صلى الله عليه وسلم، والكل يعتبر من السنة. وفيما يلي توضيح لهذين الأصلين الخطيرين عند الشيعة: الأصل الأول: علم الأئمة يتحقق عن طريق الإلهام والوحي: علم الأئمة يتحقق - في نظرهم - عن طريق الإلهام، وحقيقته كما قال صاحب الكافي في روايته عن أئمته: "النكت في القلوب" (¬3) ، وفي لفظ آخر له: "فقذف في القلوب" وصرح أن ذلك هو الإلهام حيث قال: "وأما النكت في القلوب فإلهام" (¬4) ، أي أن العلم ينقدح في قلب الإمام فيلهم القول الذي لا يتصور فيه ¬
الخطأ لأن الإمام معصوم. والإلهام ليس هو الوسيلة الوحيدة في هذا، كما حاول أن يلطف من الأمر ذلك الشيعي المعاصر الذي نقلنا كلامه آنفاً، بل صرح صاحب الكافي في أن هناك طرقاً أخرى غيره، حيث ذكر في بعض رواياته أن من وجوه علوم الأئمة "النقر في الأسماع" من قبل الملك، وفرّق بين هذا والإلهام حيث قال: "وأما النكت في القلوب فإلهام، وأما النقر في الأسماع فأمر الملك" (¬1) . إذن هناك وسيلة أخرى غير الإلهام، وهو نقر في الأسماع بتحديث الملك (¬2) ، وهو يسمع الصوت ولا يرى الملك كما جاء في الروايات الأربع في باب الفرق بين الرسول والنبي والمحدّث من أصول الكافي، وكلها قالت: إن "الإمام هو الذي يسمع الكلام ولا يرى الشخص" (¬3) . وذكر صاحب البحار (15) رواية في هذا المعنى في باب عقدة بعنوان: "باب أنهم محدثون مفهمون" (¬4) . ولكن كيف يعلم أنه كلام الملك وهو لا يراه؟ قال إمامهم: "إنه يعطى السكنية والوقار حتى يعلم أنه كلام الملك" (¬5) . ثم بعد أبوابٍ عدة يعود صاحب الكافي ينقض ما قرره في الروايات السابقة، ويثبت تحقيق رؤية الإمام للملك في روايات أربع في باب عقده بعنوان: "باب الأئمة تدخل الملائكة بيوتهم وتطأ بسطهم، وتأتيهم بالأخبار عليهم السلام" (¬6) ، ثم ما تلبث أن تزيد هذه الروايات الأربع، لتصل إلى ست وعشرين رواية عند ¬
صاحب بحار الأنوار ليجمعها في باب أكثر صراحة على التأكيد على رؤية الإمام للملك حيث جعل عنوانه "باب أن الملائكة تأتيهم وتطأ فرشهم وأنهم يرونهم" (¬1) . وتتحدث رواية أخرى لهم عن أنواع الوحي للإمام فتذكر أن جعفراً قال: "إن منا لمن ينكت في أذنه، وإن منا لمن يؤتى في منامه، وإن منا لمن يسمع صوت السلسلة تقع على الطشت (كذا) ، وإن منا لمن يأتيه صورة أعظم من جبرائيل وميكائيل" (¬2) . وثمة روايات أخرى في البحار بهذا المعنى (¬3) . وكأنهم بهذا المقام أرفع من النبي الذي لا يأتيه إلا جبرائيل، وتأتي روايات تبين هذه الصورة التي أعظم من جبرائيل وميكائيل بأنها الروح (¬4) . عندهم، وقد خصها صاحب الكافي بباب مستقل بعنوان: "باب الروح التي يسدد الله بها الأئمة"، وذكر فيها ست روايات (¬5) ، منها: "عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله عن قول الله تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ} قال: خلق من خلق الله عز وجل أعظم من جبرائيل وميكائيل كان مع رسول الله - صلى الله عليه وآله - يخبره ويسدده وهو مع الأئمة من بعده" (¬6) . ومعلوم أن الروح في هذه الآية المراد بها القرآن، كما يدل عليه لفظ الآية {أَوْحَيْنَا} ، وقد سماه الله سبحانه روحاً لتوقف الحياة الحقيقية على الاهتداء به (¬7) . وكأن هذه ¬
الدعاوى حول الوحي للإمام قد غابت عن مفيدهم (المتوفى سنة 413هـ) أو أنها صنعت فيما بعد؛ إذ رأينا المفيد يقرر الاتفاق والإجماع على "أنه من يزعم أن أحداً بعد نبينا يوحى إليه فقد أخطأ وكفر.." (¬1) ، أو يكون قولهُ هذا تقية. إذن الإمام يلهم، ويسمع صوت الملك، ويأتيه الملك في المنام واليقظة، وفي بيته ومجلسه، أو يرسل له ما هو أعظم من جبرائيل يخبره ويسدده، وليس ذلك نهاية الأمر، بل لدى الأئمة أرواح أخرى، ووسائل أخرى؛ لديهم خمسة أرواح: روح القدس، وروح الإيمان، وروح الحياة، وروح القوة، وروح الشهوة. ذكر ذلك صاحب الكافي في باب بعنوان: "باب فيه ذكر الأرواح التي في الأئمة عليهم السلام" (¬2) . فذكر في ذلك ست روايات، بينما تطورت هذه المسألة عند صاحب البحار فبلغت رواياتها (74) رواية (¬3) . وقد ركزت رواياتهم على روح القدس، فذكرت أن هذه الروح تنتقل إلى الأئمة بعد موت الأنبياء "فإذا قبض النبي - صلى الله عليه وآله - انتقل روح القدس إلى الإمام" (¬4) . "وبروح القدس" عرفوا ما تحت العرش إلى ما تحت الثرى" (¬5) ، "وروح القدس لا ينام ولا يغفل ولا يلهو ولا يزهو" (¬6) ، وبروح القدس يستطيع أن يرى الإمام "ما غاب عنه في أقطار الأرض وما في عنان السماء وبالجملة ما دون العرش إلى ما تحت الثرى" (¬7) . بل إن الأئمة تذهب إلى عرش الرحمن - كما يزعمون - كل جمعة لتطوف ¬
به فتأخذ من العلم ما شاءت. قال أبو عبد الله: "إذا كان ليلة الجمعة وافى رسول الله - صلى الله عليه وآله- العرش ووافى الأئمة - عليهم السلام - معه ووافينا معهم، فلا ترد أرواحنا إلى أبداننا إلا بعلم مستفاد، ولولا ذلك لأنفذنا" (¬1) . وجاءت روايات أخرى بهذا المعنى ذكرها الكليني في باب خصصه لهذه الدعوى بعنوان: "باب في أن الأئمة عليهم السلام يزدادون في ليلة الجمعة". وذكر فيه ثلاث روايات (¬2) ، ثم جاء صاحب البحار فذكر في هذا الموضوع (37) رواية في باب عقده في هذا الشأن بعنوان: "باب أنهم يزدادون وأرواحهم تعرج إلى السماء" (¬3) . بل جاء في البحار تسع عشرة رواية تذكر بأن الله تعالى ناجى علياً، وأن جبرائيل يملي عليه.. (¬4) . كما جاءت فيه سبع عشرة رواية تتحدث عن تحف الله تعالى وهداياه إلى علي (¬5) . كما ذكر المجلسي: "أن الله - بزعمهم - يرفع للإمام عموداً ينظر به إلى أعمال العباد" واستشهد لذلك بست عشرة رواية (¬6) . كل هذه العلوم التي تتحقق لهم بهذه الوسائل يسمونها: "العلم الحادث" (¬7) . وتحققها موقوف على مشيئة الأئمة، كما أكدت ذلك روايات صاحب الكافي التي جاءت في الباب الذي عقده بعنوان: "باب أن الأئمة عليهم السلام إذا شاؤوا أن يعلموا علموا" (¬8) ، وذكر فيه روايات ثلاثاً كلها تنطق بـ"أن الإمام إذا شاء أن يعلم أعلم" (¬9) ، وفي لفظ آخر: "إذ أراد الإمام أن يعلم شيئاً ¬
الأصل الثاني: خزن العلم وإيداع الشريعة عند الأئمة
أعلمه الله ذلك" (¬1) . فالوحي للأئمة ليس بمشيئة الله وحده كما هو الحال مع الرسل - عليهم السلام - بل تابع لمشيئة الإمام!! وهذا العلم الحادث الذي يحدث للأئمة متى شاؤوا فيجعل كلامهم مثل كلام الله ورسوله، ليس هو كل ما عند الأئمة، بل لديهم ما تسميه رواياتهم بالعلم الغابر، العلم المزبور (¬2) ، وهو ما أودع الأئمة من علوم ومن كتب وصحف، وهي الأساس الثاني لقولهم بأن كلام الإمام يجري مجرى كلام الله ورسوله، وهو ما سنبينه في المبحث التالي. الأصل الثاني: خزن العلم وإيداع الشريعة عند الأئمة: جاء في الكافي عن موسى جعفر قال - كما يزعمون -: "مبلغ علمنا على ثلاثة وجوه: ماض وغابر وحادث، فأما الماضي فمفسّر، وأما الغابر فمزبور، وأما الحادث فقذف في القلوب ونقر في الأسماع وهو أفضل علمنا ولا نبي بعد نبيا" (¬3) . وفي البحار وبصائر الدرجات ثلاث روايات بهذا اللفظ (¬4) . العلم الحادث هو ما تقدم بيانه، وهو كما أشارت الرواية يعد من أفضل علومهم، لأنه كما يقول بعض شيوخهم: حصل لهم من الله بلا واسطة (¬5) .؛ أي من الله مباشرة بلا واسطة ملك من الملائكة، وهذا يشبه قول غلاة الصوفية مثل ابن عربي. ¬
أما الماضي المفسّر والغابر المزور فقد أوضح شارح الكافي معناهما بقوله: "يعني: الماضي الذي تعلق علمنا به وهو كل ما كان مفسراً لنا بالتفسير النبوي، والغابر المزبور الذي تعلق علمنا به هو كل ما يكون مزبوراً مكتوباً عندنا بخط علي - رضي الله عنه - وإملاء الرسول وإملاء الملائكة مثل الجامعة وغيرها". فبهذا يتبين أن العلم المستودع عند الأئمة نوعان: كتب ورثوها عن النبي، أو علم تلقوه مشافهة منه صلى الله عليه وسلم. وفحوى هذا الاعتقاد الذي يعتبر من ضرورات مذهبهم وأركان دينهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغ جزءاً من الشريعة وكتم الباقي وأودعه الإمام علياً فأظهر علي منه جزءاً في حياته، وعند موته أودعه الحسن وهكذا كل إمام يظهر منه جزءاً حسب الحاجة ثم يعهد الباقي لمن يليه إلى أن صار عند إمامهم المنتظر. وقد مر بنا ما قاله شيخهم وآيتهم محمد بن حسين آل كاشف الغطا (ت1376هـ) من أن الأحكام في الإسلام قسمان: قسم أعلنه النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة، وقسم كتمه أودعه أوصياءه، كل وصي يخرج منه ما يحتاجه الناس في وقته ثم يعهد به إلى من بعده، حتى زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد يذكر حكماً عاماً ولا يذكر مخصصه أصلاً؛ بل يودعه عند وصيه إلى وقته (¬1) . وقال شيخهم المعاصر بحر العلوم: "لما كان الكتاب العزيز متكفلاً بالقواعد العامة دون الدخول في تفصيلاتها، احتاجوا إلى سنة النبي.. والسنة لم يكمل بها التشريع!!، لأن كثيراً من الحوادث المستجدة لم تكن على عهده صلى الله عليه وسلم احتاج أن يدخر علمها عند أوصيائه ليؤدوها عنه في أوقاتها" (¬2) . ¬
هذه بعض الخطوط العامة لهذه العقيدة الخطيرة في مذهب الشيعة، أما شواهدها فإن المقام سيطول لو عرضت لها كلها فكيف بتحليها ونقدها.. فلنذكر على سبيل الإجمال.. فهم يزعمون أن الأئمة هو خزنة علم الله ووحيه، وقد عقد صاحب الكافي باباً لهذا بعنوان: "باب أن الأئمة - عليهم السلام - ولاة أمر الله وخزنة علمه" (¬1) . وضمن هذا الباب ست روايات في هذا المعنى، وباباً آخر بعنوان: "أن الأئمة ورثوا علم النبي وجميع الأنبياء والأوصياء الذين من قبلهم" (¬2) ، وفيه سبع روايات، وباباً ثالثاً بعنوان: "أن الأئمة يعلمون جميع العلوم التي خرجت إلى الملائكة والأنبياء والرسل - عليهم السلام -" (¬3) . وفيه أربع روايات. وهذا العلم المستودع نوعان - كما سبق - (مفسر، ومزبور) ، أما المفسر فمما ذكروه فيه ما جاء في أصول الكافي: "باب أن الله عز وجل لم يعلم نبيه علماً إلا أمره أن يعلمه أمير المؤمنين وأنه كان شريكه في العلم"، وذكر فيه ثلاث روايات (¬4) ، وقريب من هذا ما جاء في البحار في باب بعنوان: "باب أنه صلوات الله عليه كان شريك النبي - صلى الله عليه وآله - في العلم دون النبوة، ¬
وأنه علم كلما علم صلى الله عليه وآله وأنه أعلم من سائر الأنبياء عليهم السلام" وقد استشهد لذلك باثنتي عشرة رواية من رواياتهم (¬1) . كما قدم المجلسي اثنتين وثمانيني رواية تتحدث عن علم علي وأن النبي صلى الله عليه وسلم عمله ألف باب من العلم.. في باب عقده لهذه الموضوع (¬2) ، قالت إحدى رواياته بأن النبي صلى الله عليه وسلم أسرّ إلى علي ألف حديث لم تعلمه الأمة، وزعمت أن علياً أعلن ذلك للناس فقال: "أيها الناس، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرّ إليّ ألف حديث، في كل حديث ألف باب، لكل باب ألف مفتاح" (¬3) . ومرة أخرى زعمت أن أبا عبد الله قال: "أوصى رسول الله - صلى الله عليه وآله - إلى علي - عليه السلام - بألف باب كل باب يفتح ألف باب" (¬4) . ثم زعمت أن علياً قال: "إن رسول الله صلى الله عليه وآله علمني ألف باب من الحلال والحرام، ومما كان ومما يكون إلى يوم القيامة، كل باب منها يفتح ألف باب فذلك ألف ألف باب، حتى علمت المنايا والبلايا، وفصل الخطاب" (¬5) . كما قالت بأن رسول صلى الله عليه وسلم جلل علياً بثوبه - عند موته - وأنه حدثه بألف حديث كل حديث يفتح ألف باب (¬6) . وهذا كله ليس بذاك العلم في نظر الأئمة بالقياس لما عندهم من علوم، فقد قال أبو بصير: "دخلت على أبي عبد الله فقلت له: إن الشيعة يتحدثون أن رسول الله صلى الله عليه وآله علم علياً باباً يفتح منه ألف باب، فقال أبو عبد الله عليه السلام: يا أبا محمد، علم والله رسول الله صلى الله عليه وآله علياً ألف باب ¬
يفتح له من كل باب ألف باب: قلت له: هذا والله هو العلم. قال: إنه لعلم وليس بذاك" (¬1) . وقد استمر رسول الله صلى الله عليه وسلم طيلة حياته - كما تزعم روايات الشيعة - يعلم علياً علوماً وأسراراً لا يطلع عليها أحد سواه، وقد وصلت مبالغات الشيعة في هذه الدعاوى إلى مرحلة لا يصدقها عقل.. حتى قالوا بأن علياً استمر في تلقي العلم من فم الرسول حتى بعد موته - عليه الصلاة والسلام -، وعقد المجلسي لهذا باباً بعنوان: "باب ما علمه الرسول صلى الله عليه وآله عند وفاته وبعده.." (¬2) . وقالت الرواية الأولى في هذا الباب إن علياً قال: "أوصاني النبي صلى الله عليه وآله فقال: إذا أنا متّ فغسلني بست قرب من بئر غرس (¬3) ، فإذا فرغت من غسلي فأدرجني في أكفاني، ثم ضع فاك على فمي، قال: ففعلت وأنبأني بما هو كائن إلى يوم القيامة" (¬4) . وقالت الرواية الثانية بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال - كما يفترون -: "يا علي، إذا أنا متّ فاغسلني وكفني ثم أقعدني وسائلني واكتب" (¬5) . ومضت بقية الروايات على هذا النسق المظلم، حتى قالوا بأن علياً كان إذا أخبر بشيء قال: "هذا مما أخبرني به النبي صلى الله عليه وآله بعد موته" (¬6) . وهكذا يخربون بيوتهم بأيديهم، ويكشفون كذبهم بأنفسهم عبر مبالغتهم التي لا تكاد تنتهي، وهذا جزء من رواياتهم عن العلم الذي خصه النبي صلى الله عليه وسلم لعلي وأورثه الأئمة من بعده. ولم يكتف الخيال الشيعي بهذا؛ بل زعم أن عند الائمة العلم المزبور، أو ¬
الكتب التي ورثوها عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد جاء على ذكر بعضها صاحب الكافي في باب عقده بعنوان" باب فيه ذكر الصحيفة، والجفر والجامعة ومصحف فاطمة - عليها السلام -" (¬1) ، وفي باب آخر بعنوان: "ما أعطى الأئمة عليهم السلام من اسم الله الأعظم" (¬2) ، وفي باب ثالث بعنوان: "باب ما عند الأئمة من آيات الأنبياء عليهم السلام" (¬3) . أما شيخهم المجلسي فقد أكثر من الروايات في هذا الباب، وجمع ما في معظم كتب شيوخهم المعتمدة عندهم، وسجل ذلك في بحاره في أبواب متعددة تضمنت روايات يصعب حصرها، مثل: "باب جهات علومهم عليهم السلام وما عندهم من الكتب.."، وقد بلغت أخبار هذا الباب (149) خبراً انتخبها كعادته من مجموعة من كتبهم المعتمدة لديهم (¬4) ، وباب "في أن عندهم كتباً فيها أسماء الملوك الذين يملكون في الأرض" (¬5) ، وباب "في أن عندهم صلوات الله عليهم كتب الأنبياء عليهم السلام يقرءونها على اختلاف لغاتها" (¬6) ، وباب "أن عندهم جميع علوم الملائكة والأنبياء وأنهم أعطوا ما أعطاه الله الأنبياء عليهم السلام، وأن كل إمام يعلم جميع علم الإمام الذي قبله ولا تبقى الأرض بغير عالم" (¬7) ، وباب "أنهم عليهم السلام.. عندهم كتاب فيه أسماء أهل الجنة وأسماء شيعتهم وأعدائهم" (¬8) . وتحدثت روايات هذه الأبواب عما ورثه الأئمة من صحف وغيرها، أو عن المصادر الوهمية التي تزعم الرافضة عند أئمتهم الاثني عشر والتي فيها - ¬
كما يزعمون - كل ما يحتاجه الناس، ولو ذهبنا نعرض ونفصل ما احتوته هذه الأبواب، ونحلل معلوماتها، ونبين ضروب تناقضاتها وأوهامها لكان بذاته بحثاً مستقلاً؛ ولكن نكتفي بالإشارة والمثال. لقد كان مما تضمنته هذه الأبواب روايات عديدة عن صحيفة تسمى الجامعة أو الصحيفة، وصفوها بأنها "سبعون ذراعاً بخط علي عليه السلام، وإملاء رسول الله صلى الله عليهما وعلى أولادهما - كذا - فيها من كل حلال وحرام" (¬1) ، وليس من قضية إلا هي فيها حتى أرش الخدش (¬2) ، وتكرر ذكر هذه المعلومات وما في معناها في روايات كثيرة (¬3) . ومن العجب أن أئمتهم يعدون أتباعهم بأنهم سيحكمون بما في هذه الصحيفة لو تمكنوا من الحكم حيث قالوا: "لو ولينا الناس لحكمنا بما أنزل الله لم نعد ما في هذه الصحيفة" (¬4) . أما القرآن فليس له ذكر، كما يخبرون بأنها هي دستورهم الذي يتبعون، حيث قالوا: ".. فنحن نتبع ما فيها ولا نعدوها" (¬5) . وزعم أبو بصير (أحد رواتهم) بأنه رآها عند أبي جعفر (¬6) ، كما زعم زرارة أنه استمع إلى نص من نصوصها يقول: "إن ما يحدث به المرسلون كصوت السلسلة أو كمناجاة الرجل صاحبه" (¬7) . كما نقلت رواياتهم أخباراً عن كتاب يسمونه كتاب علي، ووصفوا شكله ¬
بأنه "مثل فخذي الرجل مطوّى" (¬1) . وأنه "خط علي بيده وإملاء رسول الله" (¬2) ، ولم ينقلوا لنا من نصوصه وأحكامه إلا هذا الحكم الجائر الذي يقول: "إن النساء ليس لهن من عقار الرجل إذا هو توفي عنها شيء، هذا والله خط علي بيده وإملاء رسول الله" (¬3) ، وهم يأخذون بهذا النص من ذلك الكتاب الموهوم، ويعرضون عن نصوص القرآن العامة والتي لم تفرق بين العقار وغيره. ثم إن هذا يناقض ما يدّعونه بأن لفاطمة نصيباً في فدك (¬4) . ويبدو من خلالهم رواياتهم أن هذا الكتاب لا يظهر له صوت إلا في جو من الإلحاد والزندقة؛ إذ إنه ما إن قتل المغيرة (¬5) . والذي تعترف كتب الرافضة بغلوه حتى زاد حصرهم على إخفاء الكتاب، فقد قال جعفرهم حينما نقل له نص في ولاية علي: " ... هذا مكتوب عندي في كتاب عليّ ولكن دفعته أمس حين كان هذا الخوف وهو حين صلب المغيرة" (¬6) . كما تتحدث رواياتهم عن صحيفة فيها تسع عشرة صحيفة قد حباها أو خباها (¬7) . رسول الله صلى الله عليه وآله عند الأئمة (¬8) ، ولا تفصح عن شيء أكثر من هذا. وتذكر أخبارهم بأنه: "في ذؤابة سيف علي صحيفة صغيرة، وأن علياً عليه السلام دعا إليه الحسن فدفعها إليه ودفع إليه سكيناً وقال له: افتحها، فلم يستطيع ¬
أن يفتحها ففتحها له، ثم قال له: اقرأ، فقرأ الحسن - عليه السلام - الألف والباء والسين واللام وحرفاً بعد حرف، ثم طواها فدفعها إلى الحسين عليه السلام فلم يقدر أن يفتحها، ففتحها له ثم قال له: اقرأ يا بُنَيَّ، فقرأها كما قرأ الحسن عليه السلام، ثم طواها فدفعها إلى ابن الحنفية فلم يقدر على أن يفتحها ففتحها له فقال له: اقرأ، فلم يستخرج منها شيئاً، فأخذها وطواها ثم علقها بذؤابة السيف" (¬1) . وقد سئل أبو عبد الله عن ما في هذه الصحفية فقال: "هي الأحرف التي يفتح كل حرف ألف باب" (¬2) . وقال أبو عبد الله - عليه السلام -: "فما خرج منها إلا حرفان الساعة" (¬3) . ولم يفصح هذا النص عن معاني هذه الحروف المبهمة، والتي يفتح بها آلاف من الأبواب المغلقة - كم يزعمون -، ولماذا لم يستفد منها الأئمة، وهم في أخبار الشيعة تتناوبهم المحن، ويعيشون في ظل الخوف والتقية، حتى ظل آخرهم قابعاً في سردابه - فيما يزعمون - يمنعه الخوف من أعدائه كل هذه القرون المتطاولة؟! وقد أشار شيخ الإسلام إلى ما يشبه هذه الدعوى حيث أشار إلى لون من استكشاف المستقبل بواسطة "حساب الجمل من حروف المعجم" وأشار إلى أن هذا مما ورث عن اليهود، وأن طائفة حاولت به استخرج مدة بقاء هذه الأمة" (¬4) . فقد تكون تلك الدعوى السابقة كشبيهتها هذه ذات أصل يهودي.. وهي على العموم ضرب من الهوس والجنون، أو لون من الكيد للأمة وإلهائها عن مهمتها في هذه الحياة، ونوع من التلبيس على عوام الشيعة وخداعها، وإغراقها في جو من الطلاسم والألغاز لا تبصر من خلاله طريقها، ولا تهتدي بسبب ظلماته إلى الصراط المستقيم. ومزاعمهم في هذا الباب لا تكاد تنتهي. ¬
فقد افتروا بأن علياً قال: "إن عندي صحفاً كثيرة.. وإن فيها لصحيفة يقال لها العبيطة، وما ورد عن العرب أشد عليهم منها، وإن فيها لستين قبيلة من العرب بهرجة (¬1) . ما لها في دين الله من نصيب" (¬2) . ولعل القارئ يلاحظ من خلال قراءة هذا النص وأمثاله هوية واضع هذه النصوص.. وأنهم صنف من الشعوبية الذين يكنون كل حقد وكراهية للعرب، لا لمجرد جنسيتهم؛ ولكن للدين الذي يحملونه ويسعون في نشره، وأن هذا الصنف استغل التشيع ليحقق من خلاله كيده وعدوانه ضد الأمة ودينها.. ولقد انْطَلَت الخدعة على طوائف الشيعة فأوسعوا مصادرهم لأخبار هذا الصنف الحاقد، أو تعمدوا ذلك، والضحية هم الأتباع الجهلة الذين ينخدعون بهذه الأساطير، لأنها منسوبة لآل البيت، ولم يعلموا أن وراء الأكمة ما وراءها. ومن الكتب التي عند أئمتهم - كما يزعمون - كتاب يسمى: "ديوان الشيعة" أو الناموس أو السمط على اختلاف رواياتهم في تسميته، قد سُجل فيه الشيعة بأسمائهم وأسماء آبائهم، وكان أتباع الأئمة - كما تزعم روايات الشيعة - يذهبون إلى الأئمة ليقفوا على أسمائهم في هذا الديوان؛ لأن وجود الاسم فيه هو برهان النجاة (¬3) . فمثلاً هذه امرأة تدعى حبابة الوالبية - كما تقول روايتهم - جاءت لأبي عبد الله وقالت له: "إن لي ابن أخ وهو يعرف فضلكم وإني أحب أن تعلمني أمن شيعتكم؟ قال: وما اسمه؟ قالت: فلان ابن فلان، قالت: فقال: يا فلانه، هاتي الناموس، فجاءت بصحيفة تحملها كبيرة فنشرها ثم نظر فيها فقال: نعم هو ذا اسمه واسم أبيه ها هنا" (¬4) . ومن ليس له اسم في هذا الديوان فليس عندهم من ¬
أهل الإسلام؛ لأن إمامهم قال: "إن شيعتنا مكتوبون بأسمائهم وأسماء آبائهم.. ليس على ملة الإسلام غيرنا وغيرهم" (¬1) . وأحياناً يقولون في رواياتهم بأنهم ورثوا ذلك من الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه دُفع إليه - حينما أسري به - صحيفتان: صحيفة فيها أصحاب اليمين، وأخرى فيها أصحاب الشمال، وفيهما أسماء أهل الجنة، وأسماء أهل النار. وقد دفعهما الرسول - كما يزعمون - إلى عليّ، وتوارثها الأئمة من عليّ، وهما اليوم عند منتظرهم (¬2) . كما أن لدى الأئمة كتاباً يقولون عنه بأنه: "وصية الحسين" وفيها ما يحتاج الناس (¬3) . أو "ما يحتاج إليه ولد آدم منذ كانت الدنيا إلى أن تفنى" (¬4) . كما أن لدى الأئمة الجفر الأبيض (¬5) . وفيه كما تقول رواياتهم: "زبور داود، ¬
وتوراة موسى، وإنجيل عيسى، وصحف إبراهيم، والحلال والحرام، ومصحف فاطمة، وفيه ما يتحاج الناس؛ حتى إن فيه الجلدة، ونصف الجلدة، وثلث الجلدة، وربع الجلدة، وأرش الخدش" (¬1) . النقد: هذا، ونكتفي بهذا لقدر من المصادر الوهمية التي تزعمها الرافضة، والتي يغني في بيان فسادها مجرد عرضها وتصورها.. والتي لو كان شيء منها موجوداً لتغير وجه التاريخ، ولما عجز الأئمة - حسب منطق الروافض - عن الوصول إلى سدة الحكم، ولما عصفت بهن المحن، ومات كل واحد منهم مقتولاً أو مسموماً - كما يزعمون -، ولما غاب غائبهم في سردابه، وظل مختفياً قابعًا في مكمنه خوف القتل!! وهذه المزاعم الخطيرة التي دونها الروافض في المعتمد من كتبهم تحمل أمورًا خطيرة: تحمل دعوى استمرار الوحي الإلهي، وهو باطل.. قامت الأدلة النقلية والعقلية على بطلانه، وأجمع المسلمون على أن "الوحي قد انقطع منذ مات النبي صلى الله عليه وسلم، والوحي لا يكون إلا لنبي، وقد قال الله سبحانه: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (¬2) . وقد جاء في نهج البلاغة عن علي قال في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرسله على حين فترة من الرسل.. فقفّى به الرسل، وختم به الوحي" (¬3) . فهذا قد يدل على أن هذه الدعاوي التي مضى عرضها من صنيع شيوخ الشيعة المتأخرين، وقد لوحظ - كما سلف - أن مفيدهم (ت413هـ) يكفر من يذهب إلى القول بنسبة الوحي لغير الأنبياء. ثم هي تدعي أن الدين لم يكمل وهي مخالفة صريحة لقول الله سبحانه: ¬
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ..} (¬1) ، كما تزعم بأن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم لم يبلغ جميع ماأنزل إليه، وأنه لم يتمثل أمر ربه في قوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (¬2) . وهذا إزراء بحق رسول الله، ولهذا وجد من فرق الشيعة من يقع في رسول الله (¬3) . وقد بلَّغ النبي صلى الله عليه وسلم البلاغ المبين، وبيَّن الدين، وأقام الحجة على العالمين، وأعلن ذلك بين المسلمين، ولم يسر لأحد بشيء من الشريعة ويستكتمه إياه، قال تعالى: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} (¬4) . فهو بيان للناس وليس لفئة معينة من أهل البيت، وقال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ الَّلاعِنُونَ، إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ} (¬5) ، وقال: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ} (¬6) . "فالدين قد تم وكمل لا يزاد فيه ولا ينقص منه ولا يبدل" (¬7) . لا من إمام مزعوم، ولا من غائب موهوم. وقد ودع المصطفى الدنيا بعد أن بلغ الدين كله وبين جميعه كما أمره ربه، وأعلم بذلك المسلمين أجمع "فلا سر في الدين عند أحد" (¬8) . قال صلى الله عليه وسلم: "تركتم على مثل البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي ¬
إلا هالك" (¬1) . قال أبو الدرداء رضي الله عنه: "صدق الله ورسوله فقد تركنا على مثل البيضاء (¬2) . وقال أبو ذر رضي الله عنه: "لقد تركنا محمد صلى الله عليه وسلم وما يحرك طائر جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علماً" (¬3) . وقال عمر رضي الله عنه: "قام فينا رسول الله مقاماً فأخبرنا عن بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم حفظ ذلك من حفظه ونسيه من نسيه" (¬4) . وقال الإمام الشافعي: "فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها" (¬5) ، بل قال جعفر الصادق - كما تنقل كتب الشيعة نفسها -: "إن الله تعالى أنزل في القرآن تبيان كل شيء حتى والله ما ترك الله شيئاً يحتاج إليه العباد حتى لا يستطيع عبد يقول: لو كان هذا أنزل في القرآن؟ إلا وقد أنزل الله فيه" (¬6) ، فكل ما تنسبه الشيعة بعد هذا كذب. والرافضة ليست على شيء في مخالفتها في هذا الأصل العظيم الذي "هو أصل أصول العلم والإيمان، وكل من كان أعظم اعتصاماً بهذا الأصل كان أولى بالحق علماً وعملاً" (¬7) . ¬
وأين هذه "المصادر" اليوم؟ وماذا ينتظر "منتظرهم" حتى يخرج بها إلى الناس؟ وهل الناس بحاجة إليها في دينهم؟ فإن كان الناس بحاجة فلم تبقى الأمة منذ اختفاء الإمام "المزعوم" منذ أكثر من أحد عشر قرناً بعيدة عن مصدر هدايتها؟ وما ذنب كل هذه الأجيال المتعاقبة لتحرم من هذه "الفيوضات" والكنوز؟! وإن لم تكن الأمة في حاجة إليها فلم كل هذه الدعاوى، ولم يصرف هؤلاء الشيعة عن مصدر هدايتهم وهو كتاب الله وسنة نبيه؟! إن الحق الذي لا ريب فيه أن الله أكمل لنا ديننا {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ..} وكل دعوى بعد ذلك فهي باطل من القول وزور. وكل هذه الدعاوى أرادت منها هذه الزمرة إثبات ما تزعمه في الأئمة.. فزادت وغلت في ذلك.. فانكشف بذلك أمرها.. والشيء إذا تجاوز حده انقلب إلى ضده. ولو كان عند علي مثل هذه العلوم.. لأخرجها للناس أيام خلافته، ولرواها عنه أئمة أهل السنة ولم يختص بها شرذمة من الرافضة. بل إن هذه الدعاوى وجد لها أصل في عهد أمير المؤمنين وتولى كبرها بعض العناصر السبئية، كما جاء في رسالة الإرجاء للحسن بن محمد بن الحنفية - كما سلف -، وقد نفى أمير المؤمنين علي هذه المزاعم نفياً قاطعاً، وأعلن ذلك للمسلمين، ونفى أن يكون عندهم شيء أسره الرسول لهم واختصوا به دون المسلمين.. وأقسم على ذلك قسماً مؤكداً، وكأنه - رضي الله عنه - خشي أن يأتي من يقول بأن هذا الإنكار تقية، فأقسم على نفي ذلك ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيى عن بينة، وهذا من فراسة الرعيل الأول ببركة صحبة النبي والتلقي عنه والجهاد معه.. وقد جاء الحديث عن علي في نفي تلك المزاعم في الصحاح والسنن والمسانيد (¬1) . ¬
وقد وقفت على هذا النص في بعض كتب الشيعة، فقد جاء في تفسير الصافي: "أنه عليه السلام سئل هل عندكم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيء من الوحي سوى القرآن؟ قال: لا، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا أن يعطى العبد فهماً في كتابه" (¬1) . ثم تطورت هذه المزاعم وكثرت في عصر جعفر الصادق وأبيه - رحمهما الله - وكان لكل اتجاه شيعي نصيبه من هذه المزاعم، ولكن الاثني عشرية استوعبت كل ما عند هذه الفرق وزادت عليها على مر السنين، وقد أشار شيخ السلام ابن تيمية إلى هذا الاتجاه عند الشيعة في نسبة هذه الأوهام كالجفر ونحوه لبعض أهل البيت ولم يحدد فرقة الاثني عشرية بذاتها إلا أنه نسب القول بأن علياً أعطي علماً باطناً مخالفاً للظاهر نسب ذلك إلى القرامطة الباطنية (¬2) ، كما نسب القول بأن علياً يعلم المستقبلات إلى الغلاة من الشيعة (¬3) ، ويرى الشيخ أبو زهرة "بأن الخطابية هم أول من تكلم بالجفر واستنبط ذلك من كلام للمقريزي" (¬4) . وأضيف بأنه جاء في كتب الشيعة أيضاً ما يوافق ذلك وهو أن أبا الخطاب هو الذي نسب علم الغيب إلى جعفر الصادق، وأن جعفراً كذبه في ذلك وتبرأ منه، وقدّم من حياته أمثلة لجهله بما غاب عنه، وإن كان من أقرب الأشياء إليه شأنه في ذلك شأن سائر البشر، وسيأتي نص كلامه. وهذه الدعاوى ينفيها واقع الأئمة، فقد تلقوا العلم كغيرهم من بني البشر.. ومن يراجع تراجمهم يجد هذا واضحاً جلياً (¬5) . وقد أقرت الشيعة في أوثق كتاب ¬
عندها في علم الرجال وهو "رجال الكشي" أقرت بأن محمد بن علي بن الحسين يروي عن جابر بن عبد الله، واعتذرت عن ذلك باعتذار غريب، حيث قالت: إنه يروي عنه ليصدقه الناس (¬1) . وهذا الاعتذار لا يقبل بالنظر إلى دعاوى الشيعة في أئمتها، وأن عندهم من المعجزات والعلوم والكتب ما يجعلهم يستولون على العقول والقلوب، كما أنهم من سلالة الرسول فكيف لا يصدقهم الناس حينئذ؟! ولو كان لأمير المؤمنين بعض ما يدعون لدبر الأمر في خلافته على غير ما دبر، ولقد ندم على أشياء مما فعلها (¬2) ، والشيعة يذكرون أن مسيرة الحسين إلى أهل الكوفة، وخذلانهم له، وقتله كانت سبب ردة الناس إلا ثلاثة" (¬3) ، ولو كان يعلم المستقبل وأنهم سيرتدون ما سار إليهم أو سار إلى غيرهم. وقد تبرأ جعفر من ذلك الغلو ومن الغلاة وروت ذلك كتب الشيعة نفسها، فقد نفى ما نسبه إليه أبو الخطاب من العلم بالغيب وأقسم على ذلك يميناً مؤكداً، وقدم من واقع حياته مثالاً عملياً على ذلك فقال: ".. لقد قاسمت مع عبد الله بن الحسن حائطاً بيني وبينه فأصابه السهل والشرب، وأصابني الجبل" (¬4) . وقال: "يا عجباً لأقوام يزعمون أنا نعلم الغيب، ما يعلم الغيب إلا الله، لقد هممت بضرب جاريتي فلانة فهربت مني فما عملت في أي بيوت الدار هي" (¬5) . ولقد كان واقع حياتهم العملية - كما قلت - يكشف كل هذه الدعاوى حيث كانوا كسائر البشر يسهون، ويخطئون. ¬
حكايات الرقاع
وقد اخترع مهندسو التشيع عقيدتين للخروج من هذا هما عقيدة التقية، والبداء، فإذا أجاب الإمام بخلاف الصواب قالوا: التقية، وإذا أخبر بأمر ووقع خلافة قالوا: قد بدا الله سبحانه (¬1) . وقد يقال بأن هذه الدعاوى مجرد حكايات لا رصيد لها من الواقع وقد حفظتها كتب الشيعة ليبقى عارها عليها إلى الأبد، وليس لها أثر في واقع الحياة؛ لأنه لا وجود للأئمة.. وأقول: إن هذه الأساطير المكشوفة لها آثارها الخطيرة على نفسية وعقلية أولئك الأتباع الأغرار، وقد تؤدي بمن يؤمن بها ويعطي لعقله فرصة التأمل والتفكر فيها إلى متاهات الإلحاد، كما أن هذا الغلو قد تحول إلى واقع عملي واضح وهو الغول في قبور الأئمة - كما سلف -. وجانب ثالث وهو أن في عقيدة هؤلاء - كما سيأتي في الإمامة - أن آياتهم ومراجعهم لهم حق النيابة عن الغائب وتمثيله بين الناس، وأنهم على صلة بهذا الغائب، وقد يظهر لبضعهم كما يزعمون. إذن هذه الدعاوى عادت بشكل واقعي، وارتدت بصورة خطيرة متمثلة في المرجع الشيعي وهذا ما سنفصله في مبحث حكايات الرقع: حكايات الرقاع: مات الحسن العسكري (سنة260هـ) والذي تزعم الشيعة أنه إمامها الحادي عشر "ولم يعرف له خلف ولم ير له ولد ظاهر" (¬2) ، كما تعترف كتب الشيعة، وقال ثقات المؤرخين بأنه مات عقيماً (¬3) . فكانت هذه الواقعة قاصمة الظهر للتشيع، لأن هذا مؤذن بنهايتهم، إذ إن أساس دينهم هو الإمام الذي يزعمون أن قوله قول الله ورسوله والإمام توفي ولم يخلف ولداً يتعلقون به، وحينئذ توقف النص المقدس سنة (260هـ) وانقطع سيل الأموال الجارية التي تؤخذ ¬
من الأتباع باسم الإمام، فافترق الشيعة، وتشتت أمرهم، وعظم الخطب عليهم، وضاقت بهم السبل- كما سيأتي (¬1) .-. إلا أن تلك الزمرة التي أخذت على عاتقها تفرقة الأمة أخذت تنسج خيوطها وأوهامها، وتضع شباك مؤامراتها للبحث عن وسيلة لاستمرار دعوى التشيع ليستمر من خلال ذلك كيدهم للأمة ودينها، والاستيلاء على أموال الجهلة والمغفلين بأيسر طريق، والحصول على وجاهة ومنزلة عندهم؛ فادعت دعوى في غاية الغرابة، ادعت أن للحسن ولداً قد اختفى فلم يعرفه أحد، وكان سبب اختفائه خوف القتل، مع أنه لم يقتل أبوه وأجداده - من قِبَلِ دولة الخلافة - وهم كبار فكيف يقتل وهو طفل رضيع؟!، إلا أن هذه الفكرة رغم سذاجتها، وظهور زيفها راقت لشيوخ الشيعة، وأخذوا يشيعونها بين أتباعهم، وبدأت تتسلل للأوساط الشيعية الشعبية بشرية تامة.. واختلف الشيوخ على النيابة، وكل يخرج "توقيعاً" أي: ورقة من الطفل يلعن بها الآخر ويزعم فيها أنه هو نائب الطفل. وكثر الذين يدعون النيابة وذلك بغية الاستيلاء على الأموال التي تجبى باسم هذا "المنتظر"، وقد ارتضت طائفة الاثني عشرية أربعة من هؤلاء واعتبرتهم هم النواب عن الإمام. وكان هؤلاء الوكلاء عن هذا الطفل الصغر يأخذون الأموال، ويتلقون الأسئلة والطلبات ويخرجون لأصحابها بطريقة سرية أجوبة وإيصالات يزعمون أنها بخط هذا "الطفل" الذي قالوا عنه بأنه سيظهر ووقتوا لظهوره وقتاً حتى لا يسارع في تكذيبهم، ثم لما مضى ذلك الجيل قالوا: إنا الله بدا له وأنه لا توقيت لخروجه - كما سيأتي - (¬2) . وكانت تلك الخطوط المجهولة، والتي خرجت على يد تلك الزمرة المتآمرة، والمنسوبة لذلك الطفل المدعى.. هي عندهم من أوثق السنن وأقوى النصوص. ويسمونها "التوقيعات"، "والتوقيعات هي خطوط الأئمة بزعمهم في جواب مسائل الشيعة". ¬
ويبدو أنه في ظل التحزب والتعصب يفقد العقل وظيفته، ويصاب الفكر بالشلل والتعطل.. فقد جعل هؤلاء المفترون لهذا الطفل المزعوم وظيفة "المشرع" أي منصب الأنبياء والرسل، مع أن مكانه - لو وجد - في حضانة وليه، وكانت بداية النقل الشرعي عن هذا الرضيع منذ ولادته، وهو ما لا يكون إلا في خيالاته المعتوهين. استمع لابن بابويه الملقب عندهم بالصدوق يروي عمن سموها "نسيماً" وزعموا أنها خادمة هذا الرضيع، أنها قالت: "قال لي صاحب الزمان وقد دخلت عليه بعد مولده بليلة فعطست عنده فقال لي: رحمك الله، قالت نسيم: ففرحت بذلك، فقال لي - عليه السلام -: ألا أبشرك في العطاس؟ قلت: بلى يا مولاي، قال: هو أمان من الموت ثلاثة أيام" (¬1) . فهذا النص ينقله واحد من أكبر شيوخهم ويعتبره من سنة المعصومين والتي هي كقول الله ورسوله.. وقد تولى بث هذه الأخبار مجموعة من هؤلاء الأفاكين الذين يدعون الصلة بهذا المنتظر وارتضت هذه الطائفة أربعة منهم - كما سبق -، وسميت فترة النيابة التي تعاقبوا عليها بالغيبة الصغرى والتي استمرت زهاء سبعين سنة، كما كان في بلدان العالم الإسلامي مجموعة تمثل هؤلاء النواب، وكانوا يستلمون الأوال ويخرجون للناس التوقيعات المزعومة. وقد اهتم شيوخ الشيعة بهذه التوقيعات ودونوها في كتبهم الأساسية، على أنها من الوحي الذي لا يأتيه الباطل (!) كما فعل الكليني في أصول الكافي (¬2) . وابن بابويه في إكمال الدين (¬3) ، والطوسي في الغيبة (¬4) ، والطبرسي في الاحتجاج (¬5) ، والمجلسي في البحار (¬6) ، وقد جمع شيخهم عبد الله بن جعفر الحميري الأخبار ¬
المروية عن منتظرهم في كتاب سماه: "قرب الإسناد" (¬1) . وذكر صاحب الذريعة كتابين لهم في هذا باسم: "التوقيعات الخارجة من الناحية المقدسة" (¬2) . وتحكي هذه "التوقيعات" رأي الإمام المزعوم في كثير من أمور الدين والحياة، وتصور قدرته على علم الغيب المجهول.. وتحقيقه لأماني شيعته وشفائه لأمراضهم، وحل لمشاكلهم، وإجابته لأسئلتهم واستلامه لما يقدمونه من أموال، وقد تصاغ أحداث ذلك أحياناً بثوب قصصي. والمتأمل للفتاوى المنسوبة إليه في أمور الدين يرى في الكثير منها الجهل في أبسط مسائل الشيعة، مما يدل على أن واضع هذه "التوقيعات" هو من المتآمرين الجهلة الذين لا يحسنون الوضع، أو أن الله سبحانه شاء كشفهم وفضحهم على رؤوس الخلائق.. فجاءت محاولتهم في الكذب كمحاولة مسيلمة في محاكاة القرآن. استمع إلى شيء من هذه التوقيعات: "وكتب إليه صلوات الله عليه أيضاً في سنة ثمان وثلاثمائة كتاباً سأله فيه عن مسائل.. سأل عن الأبرص والمجذوم وصاحب الفالج هل يجوز شهادتهم؟ فأجاب عليه السلام: إن كان ما بهم حادث جازت شهادتهم، وإن كانت ولادة لم تجز" (¬3) . فهل للبرص ونحوه أثر في قبول الشهادة وردها، وهل للتفريق بين ما هو أصلي وحادث وجه معقول.. وهل تستحق مثل هذه الفتاوى مناقشة.. وكيف ينسب مثل ذلك لأهل البيت، بل وللإسلام؟! ¬
وسأل هل يجوز أن يسبح الرجل بطين القبر وهل فيه فضل؟ فأجاب عليه السلام: يسبح به فما من شيء من التسبيح أفضل منه، ومن فضله أن الرجل ينسى التسبيح ويدير السبحة فيكتب له التسبيح" (¬1) . فهذا المبدأ من دين الوثنين، لا من دين التوحيد.. وله يكتب التسبيح بالعبث بالمسبحة.. فأي شرعة هذه وأي فقيه يفتي بذلك؟! والأمثلة على هذا اللون من الفتاوى الجاهلة الغبية كثيرة (¬2) . وهذه "السنة" التي تخرج من المنتظر تحمل الأخبار بالمغيبات، والقدرات الخارقة على تحقيق الأمنيات.. فهذا الشيعي الذي أصيب بمرض عضال أعيا الأطباء شفاؤه.. يتوجه لهذا المنتظر عن طريق نوابه فيكتب رقعة يطلب فيها الشفاء فيأتي التوقيع بالدعوة له بالشفاء فما تأتي جمعة حتى يشفى (¬3) . ¬
وهذا الرجل الذي لا تحمل زوجته، وقد بلغ به الحنين والشوق إلى الولد ما بلغ، فما أن يكتب إلى الناحية المقدسة (¬1) . حتى يخرج التوقيع بأنه سيحمل له قبل الأربعة أشهر وسيولد له ابن (¬2) . وعن طريق هذا الطفل الغائب يعرفون متى يموتون، فهذا شيعي يكتب إليه يسأله كفناً فيأتي التوقيع "إنك تحتاج إليه في سنة ثمانين، فمات في سنة ثمانين وبعث إليه بالكفن قبل موته بأيام" (¬3) . وقد جاءت توقيعات من المنتظر يؤخذ منها أن العمل بسنن الإسلام وشرائعه يتوقف على إذن "القائم المنتظر"، فكأن "سنة" هذه "الرقاع" المزورة أبلغ من نصوص الإسلام عندهم، كما قد يؤخذ من النصوص التالية: "ولد لي مولود فكتبت أستأذن في تطهيره يوم السابع. فلم يكتب شيئاً فمات المولود يوم الثامن.." (¬4) . فهو يتوقف في ختان ابنه حتى يأتي له الإذن من القائم. والزواج مرتبط بأمر القائم في الغالب، قال أحدهم: "زوجت بأمره سراً فلما وطئتها علقت وجاءت بابنة فاغتممت وضاق صدري فكتبت أشكو ذلك (يعني في رسالة إلى هذا الطفل المنتظر) فورد: ستكفاها، فعاشت أربع سنين ثم ماتت فورد: الله ذو أناة وأنتم تستعجلون (¬5) . ¬
والحج متوقف على إذن هذا الطفل المزعوم، فهذا شيعي يقول: "تهيأت للحج، وودعت الناس، وكنت - كذا - على الخروج فورد: نحن لذلك كارهون، والأمر إليك، قال: فضاق صدري واغتممت وكتبت: أنا مقيم على السمع والطاعة غير أني مغتم بتخلفي عن الحج، فوقع: لا يضيقن صدرك فإنك ستحج من قابل إن شاء الله، قال: ولما كان من قابل كتبت أستأذن، فورد الإذن" (¬1) . فهل أمر قائمهم فوق أمر الله وشرعه حتى يستأذن في ركن من أركان الإسلام؟!! وهذا التوقيعات التي تحمل كل هذه الأباطيل، لها عند شيوخ الشيعة مكانة خاصة، ومزية ظاهرة حتى إنهم رجحوا هذه التوقيعات على ما روي بإسناد صحيح عندهم في حال التعارض. قال ابن بابويه في كتابه "من لا يحضره الفقيه" بعدما ذكر التوقيعات الواردة من الناحية المقدسة في باب "الرجلين يوصى إليهما.." قال: هذا التوقيع عندي بخط أبي محمد الحسن بن علي، ثم ذكر أن في الكافي للكليني رواية بخلاف ذلك التوقيع عن الصادق، ثم قال: "لست أفتي بهذا الحديث بل أفتي بما عندي بخط الحسن بن علي.."، وعقب على ذلك الحر العاملي فقال: ".. فإن خط المعصوم أقوى من النقل بوسائط". وكيف يجزمون بأن هذا هو خط الحسن أو "المنتظر" (الذي لم يولد) مع أن الخطوط تتشابه، والكذب والتزوير على أهل البيت كثير؟ وكيف يعتمدون في هذا على قول واحد غير معصوم هو "نائب المنتظر" مع أن العصمة من أصولهم؟ كما أن هذا النائب محل شك كبير، لأن مسألة "النيابة" يتصارع كثير من رؤسائهم على الفوز بها لأنها وسيلة سهلة لجمع الأموال. فصار من المحتمل أن الذي فتح على الشيعة هذا الباب لص ماهر محتال لبس ثوب الكذب وارتدى زي النفاق للكسب الحرام والتآمر والإضلال.. لكن صار نقل هذا الواحد وغير المعصوم؛ بل والمشبوه هو عمدة عند شيوخهم، فهو يرجحون ما في هذه التوقيعات على ¬
ما جاء في أصح كتبهم. ومن يزعم الصلة بهذا المنتظر، أو يزعم أنه قد أرسل له برسالة يحظى بثقة القوم، كما نجد ذلك في تراجم رجالهم (¬1) ، مع أن هذا بدلالة العقل والتاريخ من أكبر البراهين على كذبهم. كما يجري في هذه التوقيعات توثيق الرجال أو ذمهم، ويجعل ذلك أصلاً عندهم في جرحه وتعديله (¬2) ، فهي مصدر من مصادر دينهم. قال الألوسي - رحمه الله -: "إنهم أخذوا مذهبهم من الرقاع المزورة التي لا يشك عاقل أنها افتراء على الله تعالى ولا يصدق بها إلا من أعمى الله بصره وبصيرته" (¬3) . ثم تحدث الألوسي عن أحد رجال الرافضة الذي يدعي أنه اتصل بهذا المنتظر في غيبته المزعومة ويدعى علي بن الحسين من موسى بن بابويه القمي، والذي زعم أنه وصلته رقاع من هذا المنتظر وتعجب كيف تلقبه الرافضة بالصدوق (¬4) ، وقال: "لا يخفى عليك أن هذا من قبيل تسمية الشيء باسم ضده، وهو وإن كان يظهر الإسلام فهو كافر في نفس الأمر"، ثم بين أن دعواه لا يخفى كذبها على عاقل فهل يزعم أنه يكتب مسألة في رقعة فيضعها في ثقب شجرة ليلاً فيكتب الجواب عنها صاحب الزمان (¬5) . ثم ذكر أن الرافضة لم تكتف بمجرد تصديق هذه "الخرافة" بل جعلوا هذه الرقاع من أقوى دلائلهم، وأوثق حججهم وتعجب كيف يزعمون بعد هذا أنهم أتباع البيت وقد أثبتوا أحكام دينهم بمثل هذه الترهات، واستنبطوا الحرام ¬
والحلال من نظائر هذه الخزعبلات، وقال: إنهم في الحقيقة أتباع الشياطين وأهل البيت بريئون منهم (¬1) . ذلك أن مثل هذه الرقاع لا يقام لها وزن في قضاء ولا في منطق ولا في عقل من عقول البشر، فهي "رقاع " منسوبة لطفل مشكوك في وجوده أصلاً - حتى عند طوائف من الشيعة، بل وينكر بعضهم وجوده، وهو متيقن عدمه عند أهل التحقيق كما سيأتي - عليها خط مجهول ووصلت بوسائط مجهولة، فهل يبنى على مثل ذلك حكم فضلاً عن أن تكون مصدراً من مصادر التشريع؟! إن ذلك لعار على الرافضة إلى الأبد، وبرهان دائم على كذبهم.. وفضيحة من الله سبحانه لمن أراد أن ينسب إلى الدين ما ليس منه.. وهذه التوقيعات جرت في فترة الغيبة الصغرى - كما يسمونها - والتي استمرت قرابة سبعين سنة، تعاقب على دعوى النيابة عن الإمام الغائب فيها أربعة ممن يسمونهم بالسفراء والنواب - كما سبق -.. وقد أعلن رابعهم وهو "السمريّ" انتهاء الصلة بالإمام وانقطاع فترة النيابة. قالوا: "خرج التوقيع إلى أبي الحسن السمريّ: (يعني خرجت ورقة من المنتظر المزعوم) يا علي بن محمد السمريّ، اسمع أعظم الله أجر إخوانك فيك، فإنك ميت ما بينك وبين ستة أيام، فأجمع أمرك، ولا توص إلى أحد يقوم مقامك بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبة التامة، فلا ظهور إلا بعد إذن الله تعالى ذكره.. وسيأتي من شيعتي من يدّعي المشاهدة، ألا فمن ادعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كذاب مفتر" (¬2) . وهذا يعني أن النص المعصوم -عندهم - قد انقطع بالغيبة الكبرى سنة (329هـ) ولكن شيوخ الشيعة - فيما بعد - لم تقتنع بالإعلان عن الانقطاع التام عن المنتظر، وكثرت الدعاوى عندهم في الاتصال بالمنتظر، ولقائه والأخذ عنه (مع أن منتظرهم ¬
يقول: بأن من ادعى ذلك فهو كذاب) ، وهذا يعني استمرار النص المقدس وأنه لم يتوقف، كما أعلن ذلك الشيعة بعد وفاة السمريّ.. فها هو شيخهم ابن المطهر الملقب بالعلامة يدّعي اللقاء بالمهدي وأنه نسخ له كتاباً في ليلة واحدة (¬1) . ويفسر شيخهم النوري الطبرسي نص الكافي الذي يقول: "لابد لصاحب هذا الأمر من غيبة، ولابد له في غيبته من عزلة، وما بثلاثين من وحشة" (¬2) . بأنه في "كل عصر يوجد ثلاثون مؤمناً ولياً يتشرفون بلقائه" (¬3) ، بل قالوا: إن بعض المجتهدين يتمكن من لقاء الغائب ويأخذ منه بعض الأحكام الشرعية، وقد لا يستطيع أن يعلن عن هذا اللقاء لأمر الإمام له بالكتمان فهو حينئذ يدعي حصول الإجماع على هذا الحكم، وإن لم يوجد إجماع في الحقيقة (¬4) . وبهذا يفسرون دعاوى بعض شيوخهم الإجماع على مسائل لم يقل بها سوى هؤلاء الشيوخ، وسيأتي في مبحث الإجماع عندهم قولهم بتحقق الإجماع بقول فئة يوجد فيها "عالم مجهول النسب غير معروف" وأنه بقولها يحصل الإجماع مهما خالف من خالف على اعتبار أن هذا المجهول قد يكون الإمام. وقرر شيوخهم بأن هذا المنتظر الذي لم يوجد "كان يجتمع بجملة من أهل العلم والتقوى الذين كانوا يستحقون المقابلة كالعلامة السيد مهدي بحر العلوم النجفي فيما اشتهر عنه، والشيخ ميثم البحراني فيما ينقل عنه.." (¬5) ، وقد ألف بعض شيوخهم مصنفات في حكايات وأحداث من اجتمع بهذا المنتظر، كما فعل المجلسي (ت1111هـ) في البحار، ثم جاء بعده النوري الطبرسي (ت1320هـ) فكتب في ذلك كتاباً سماه "جنة المأوى فيمن فاز بلقاء الحجة ومعجزاته في الغيبة ¬
الكبرى"، وقد أورد فيه تسعاً وخمسين حكاية، وذكر من كان بعد المجلسي ممن ادعى اللقاء بالمنتظر (¬1) . وهكذا صار بإمكان كل شيطان رجيم من الإنس والجن أن يحتال على هؤلاء، ويتظاهر بأنه المنتظر ويدس في دينهم ما يبعدهم عن الحق ما داموا فتحوا هذا الباب على أنفسهم ويعتبرون ذلك من السنة، وبإمكان كل شيخ زنديق متلفع برداء الدروشة ومتوشح بالسواد متظاهر بالعلم مدعٍ للسيادة - وما أكثر هؤلاء عندهم - أن يزعم اللقاء بالمنتظر ليحظى بالتعظيم، وليغير من دينهم ما شاء له إلحاده، ولاسيما أن هؤلاء يزعمون أن هذا المنتظر يتصور بصور مختلفة، ويظهر بأشكال وأردية متنوعة (¬2) . فهذه اللقاءات المزعومة لا تخلو من حالتين: إما أن مدعيها كاذب أراد السمعة، أو قصد الإضلال، أو أراد كلا الأمرين، أو أنه صادق والذي مثل الدور أمامه شيطان من الشياطن (¬3) . قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ".. وكذا منتظر الرافضة قد يراه أحدهم ويكون المرئي جنباً" (¬4) . وقد ضلت النصارى - كما يقول شيخ الإسلام - بمثل هذا حيث اعتقدوا أن المسيح بعد أن صلب - كما يظنون - أتى إلى الحواريين وكلمهم ووصاهم وهذا مذكور في أناجيهم وذاك الذي جاء كان شيطاناً قال: أنا المسيح ولم يكن هو المسيح نفسه (¬5) . ¬
مرويات الصحابة
كما قال شيخ الإسلام: إن أصحاب الحلاج لما قتل كان يأتيهم من يقول: أنا الحلاج، فيرونه في صورته عياناً، وكذلك شيخ بمصر يقال له الدسوقي بعد أن مات كان يأتي أصحابه من جهته رسائل وكتب مكتوبة، وقد ذكر شيخ الإسلام أنه اطلع على هذا الكتاب المنسوب للدسوقي حيث أطلعه عليه بعض الصادقين من أتباع الدسوقي. يقول شيخ الإسلام: فرأيته بخط الجن، وقد رأيت خط الجن غير مرة. ثمر ذكر شيخ الإسلام نماذج أخرى من هذا القبيل ثم قال: وهكذا الذين كانوا يعتقدون بقاء علي أو بقاء محمد بن الحنفية قد كان يأتي إلى بعض أصحابهم جنى في صورته.. ثم قال: وهذا باب واسع واقع كثيراً وكلما كان القوم أجهل كان عندهم أكثر (¬1) . مرويات الصحابة: وبعدما لاحظنا أن الاثني عشرية حصرت نفسها في نطاق ضيق، وهو ما ينقل عن بعض أهل البيت من روايات، ولم تكتف بأهل العلم منهم؛ بل أدخلت فيهم من لم يشتهر بعلم - كما سيأتي - حتى عملت برقاع منسوبة لطفل مختلف في وجوده، وجعلت ما ينقل عن هؤلاء ما يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنها أيضاً حرمت نفسها من مصدر عظيم للعلم والإيمان هو: "روايات الصحابة" رضوان الله عليهم، الذين فازوا بصحبة رسول الله، وشهدوا التنزيل، وعرفوا التأويل وأنثى الله عليهم ورسوله. يقول محمد حسين آل كاشف الغطا - أحد مراجع شيعة هذا العصر - في تقرير مذهب طائفته في ذلك: "إن الشيعة لا يعتبرون من السنة (أعني الأحاديث النبوية) إلا ما صح لهم من طرق أهل البيت.. أما ما يرويه مثل أبي هريرة، وسمرة بن جندب، وعمرو بن العاص ونظائرهم فليس لهم عند الإمامية مقدار بعوضة" (¬2) ، فهو هنا يقرر أن مذهب الشيعة هو قبول "ما صح لهم من طرق ¬
أهل البيت" (¬1) . دون ما سواه من روايات صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإذا عرفنا أن الاثني عشرية تعني بأهل البيت "الأئمة الاثني عشر"، والذي أدرك الرسول صلى الله عليه وسلم منهم وهو مميز هو أمير المؤمنين علي، وعليه فهل يتمكن أمير المؤمنين من نقل سنة الرسول صلى الله عليه وسلم كلها للأجيال.. كيف وهو لا يكون مع الرسول صلى الله عليه وسلم في كل الأحيان.. فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يسافر ويستخلفه في بعض الأحيان كما في غزوة تبوك، كما كان علي يسافر ورسول الله في المدينة فقد بعثه رسول الله إلى اليمن. وكذلك ألحقه بأبي بكر حين أرسله لأهل مكة، بالإضافة إلى حال الرسول صلى الله عليه وسلم في بيته والتي يختص بنقلها زوجاته أمهات المؤمنين.. وهذا من أسرار وحكم تعددهن.. فإذن علي لا يمكن أن يستقل بنقل سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف يقولون بأنهم لا يقبلون إلا ما جاء عن طريقه؟! كما أن هذه المقالة، وهي حصر نقل سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بواحد يفضي إلى فقدان صفة التواتر في نقل شريعة القرآن، وسند سيد الأنام صلى الله عليه وسلم "ولهذا اتفق المسلمون على أنه لا يجوز أن يكون المبلغ عنه العلم واحداً؛ بل يجب أن يكون المبلغون ¬
أهل التواتر الذين يحصل العلم بخبرهم للغائب.." (¬1) . كما أن جل بلاد الإسلام بلغهم العلم عن رسول الله من غير طريق علي - رضي الله عنه (¬2) .- وعامة من بلغ عنه صلى الله عليه وسلم من غير أهل بيته - فضلاً أن يكون هو علي وحده - فقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أسعد بن زرارة إلى المدينة يدعو الناس إلى الإسلام، ويعلم الأنصار القرآن، ويفقههم في الدين، وبعث العلاء بن الحضرمي إلى البحرين في مثل ذلك، وبعث معاذاً وأبا موسى إلى اليمن، وبعث عتاب بن أسيد إلى مكة، فأين قول من زعم أنه لا يبلغ عنه إلا رجل من أهل بيته" (¬3) . وقد قال بعض أهل العلم إنه: "لم يرو عن علي إلا خمسمائة وستة وثمانون حديثاً مسندة يصح منها نحو خمسين حديثاً" (¬4) . ¬
فهل سنة الرسول هي هذه فقط؟! وقد أقر الروافض بأنه لم يبلغهم علم الحلال والحرام ومناسك الحج إلا عن طريق أبي جعفر.. وهذا يعني أنه لم يبلغهم عن علي شيء في هذا، وأن أسلافهم كانوا يتعبدون فيما جاء عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. تقول كتب الشيعة: ".. كانت الشيعة قبل أن يكون أبو جعفر وهم لا يعرفون مناسك حجهم وحلالهم وحرامهم، حتى كان أبو جعفر ففتح لهم وبيّن لهم مناسك حجهم وحلالهم وحرامهم، حتى صار الناس يحتاجون إليهم من بعد ما كانوا يحتاجون إلى الناس.." (¬1) . ومن العجب أن الشيعة حكمت على من سمع من غير الإمام بالشرك، حيث جاء في أصول الكافي: ".. من ادعى سماعاً من غير الباب الذي فتحه الله فهو مشرك" (¬2) . فهم يحكمون على أسلافهم بالشرك لأنهم تلقوا علم الحلال والحرام والمناسك من الناس ويقولون: ".. كل ما لم يخرج من الأئمة فهو باطل" (¬3) . وهذه جرأة عظيمة على شريعة سيد المرسلين، التي نقلها الرعيل الأول إلى الأجيال، والمتمثلة بالسنة المطهرة التي يتعبد بمقتضى بيانها المسلمون. ولعل الرافضة حينما وضعت لنفسها ألا تأخذ ما جاء عن طريق علي، ولم يكن عندها مما يؤثر عن علي إلا القليل، حتى إن علم الحلال والحرام ليس عندهم فيه شيء عن علي كما يعترفون فعملت القواعد الشيعية على سد هذه الفجوة بالكذب، ولذلك قال الشعبي: "ما كذب على أحد من هذه الأمة ما كذب على علي" (¬4) . ¬
ولشيوع الكذب على علي من قبل الرافضة (¬1) . حتى لا يكاد يوثق برواية أحد منهم، أعرض عنهم أهل الصحيح فلا يروي البخاري ومسلم أحاديث علي إلا عن أهل بيته كأولاده مثل الحسن والحسين، ومثل محمد بن الحنفية، وكاتبه عبيد الله بن أبي رافع أو أصحاب ابن مسعود وغيرهم، مثل عبيدة السلماني، والحارث التيمي، وقيس بن عباد وأمثالهم، إذ هؤلاء صادقون فيما يروونه عن علي، فلهذا أخرج أصحاب الصحيح حديثهم (¬2) . وقد اعترفت كتب الشيعة بكثرة الكذب على أهل البيت، حتى قال جعفر الصادق- كما تروي كتب الشيعة -: ".. إن الناس أولعوا بالكذب علينا.." (¬3) . وكانت مصيبة جعفر أن "اكتنفه - كما تقول كتب الشيعة - قوم جهال يدخلون عليه ويخرجون من عنده ويقولون: حدثنا جعفر بن محمد، ويحدثون بأحاديث كلها منكرات كذب موضوعة على جعفر ليستأكلوا الناس بذلك ويأخذوا منهم الدراهم.." (¬4) . ولذلك قال بعض أهل العلم: "لم يكذب على أحد ما كذب على جعفر الصادق مع براءته" (¬5) . ومن هنا ندرك كبير الخطر على الشيعة حينما قبلوا روايات الكذابين على الأئمة وأعرضوا عن روايات صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل وثقوا هؤلاء الذين اكتنفوا جعفراً قالوا: "روى عن الإمام الصادق أربعة آلاف راو. وذهب بعض ¬
علماء الإمامية إلى القول بتوثيق الأربعة آلاف بدون استثناء" (¬1) . مع أن أبا عبد الله يشكو - كما مر - من كثرة الكذابين عليه؛ بل ويذكر أنه لا يوجد له من هؤلاء الذين يدعون التشيع ولا سبعة عشر رجلاً من شيعته كما صرحت بذلك رواية الكافي (¬2) . ولكن لماذا أعرضت طائفة الاثني عشرية عن رواية صحابة رسول الله؟! إن السبب يعود إلى البدعة الأولى التي ابتدعها ابن سبأ من القول بأن علياً هو وصي رسول الله، وأن الصحابة لم ينفذوا الوصية، ويولوه الخلافة.. وترتب على ذلك عند طائفة الاثني عشرية أن الصحابة خرجوا من دين الإسلام، ولا يستثنون من ذلك إلا عدداً لا يساوي أصابع اليد - كما سيأتي - ولم يشفع للصحابة عند هؤلاء ثناء الله ورسوله عليهم، ولا صحبتهم لرسول الله، وجهادهم في سبيل الله، وتضحياتهم، وسابقتهم، وبذلهم الأرواح والمهج، ومفارقتهم للأهل والوطن، ونشرهم للإسلام في أصقاع الأرض.. ومن المفارقات العجيبة أن الشيعة تحكم على من زعم أنه رأى المنتظر الذي لم يوجد أصلاً - كما سيأتي - بالعدالة والصدق. يقول الممقاني - وهو من آياتهم في هذا العصر -: "تشرف الرجل برؤية الحجة - عجل الله فرجه وجعلنا من كل مكروه فداه - بعد غيبته فنستشهد بذلك على كونه في مرتبة أعلى من مرتبة العدالة ضرورة" (¬3) . ولكن لماذا لا يجرون مثل هذا الحكم في صحابة رسول الله، ويعتبرون تشرف الصحابة برؤية رسول الهدى صلى الله عليه وسلم برهان عدالتهم، أليس رسول الله أعظم من منتظر موهوم مشكوك في وجوده عند شيعة عصره، فكيف به اليوم بعد تعاقب القرون.. أليس هذا هو التناقض بعينه؟! فانظر وتعجب كيف ¬
يزكى رجل يدعي رؤية معدوم، والأصل أن يعتبر هذا دليل كذبه، ويطعن في صحابة رسول الله!! وكل خطيئة الصحابة التي من أجلها ردوا رواياتهم، وحكموا بردتهم أنهم أنكروا النص على إمامة علي، وهذا أمر عظيم وخطب كبير عندهم، فإن من أنكر إمامة واحد من الأئمة ولو كان الغائب المزعوم فهو كإبليس كما نص على ذلك صدوقهم ابن بابويه القمي (¬1) . فالإيمان بأئمتهم هو مقياس القبول والرد عندهم، لأنه هو أساس الإيمان والكفر - كما سيأتي - ومع هذا الأصل الذي يَزِنُون به الناس واضح البطلان لأنه لو كان بهذه المثابة التي يزعمون لذكره الله سبحانه وتعالى في كتابه المبين، ولبينه رسوله صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن حقيقة الإيمان والإسلام، ولأصبح ذلك من الأمور المجمع عليها بين المسلمين، فهل يخطر ببال عاقل أن الأمة على توالي القرون من الصحابة ومن تبعهم بإحسان تجهل ركناً أساسياً من أركان الإيمان أو تجمع على إنكاره؟! وما كان الله ورسوله بتكاركي خير أمة أخرجت للناس دون إكمال دينهم وتعريفهم بحقيقة إسلامهم، وما يدور بخلد مؤمن شيء من هذا قط.. أقول: مع وضوح بطلان هذا الأصل الذي يزنون به الناس فيردون به رواية من أنكر إمامة إمام من الأئمة، فإن هذا الأصل لم يعلموا به إلا في حق الصحابة حيث ردوا روايات الصحابة ولكنهم لم يردوا روايات من أنكر بعض الأئمة من أسلافهم من الشيعة، وقد أكد شيخهم الحر العاملي على أن الطائفة الإمامية عملت بأخبار الفطحية (¬2) . مثل: عبد الله بن بكير، وأخبار الواقفة (¬3) . مثل: سماعة بن ¬
مهران. وكثيراً ما تقرأ في تراجم رجالهم بأن فلاناً فطحي، وذاك واقفي وهذا من الناووسية (¬1) . وكل هذه الطوائف الثلاث تنكر بعض أئمة الاثني عشرية، ومع ذلك يعدون جملة من رجالها ثقات.. جاء في رجال الكشي - مثلاً - "في محمد بن الوليد الخزار، ومعاوية بن حكيم، ومصدق بن صدقة، ومحمد بن سالم بن عبد الحميد قال أبو عمرو (الكشي) : وهؤلاء كلهم فطحية وهم من أجلة العلماء والفقهاء والعدول، وبعضهم أدرك الرضا - رضي الله عنه - وكلهم كوفيون" (¬2) . كما كان الحسن بن علي بن فضال (¬3) ، وعلي بن حديد بن حكيم (¬4) ، وعمرو بن سعيد المدايني (¬5) . كلهم من الفطحية. وكان أبو خالد السجستاني (¬6) ، وعلي بن جعفر المروزي (¬7) ، وعثمان بن عيسى (¬8) . وحمزة بن بزيغ (¬9) . كلهم من الواقفة، ومع ذلك وثقوهم وعملوا ¬
بمروياتهم معرضين عن قول إمامهم: "الزيدية والواقفة والنصاب بمنزلة واحدة" (¬1) ، "والواقف عائد عن الحق ومقيم على سيئة إن مات بها كانت جهنم مأواه وبئس المصير" (¬2) . وقال: الواقفة "يعيشون حيارى ويموتون زنادقة" (¬3) . وقال: "فإنهم كفار مشركون زنادقة" (¬4) ، ومع هذا فهي تقبل روايات هؤلاء أو يقبل شيوخهم روايات هؤلاء لقيام نصوص المذهب الشاذة عليهم ويردون روايات الصحابة - رضوان الله عليهم - أليس هذا هو التناقض بعينه؟! ذلك أننا إذا أدركنا أنهم ردوا روايات الصحابة لردهم النص المزعوم على علي، وهؤلاء من الواقفة والفطحية ينكرون مجموعة من الأئمة ويجحدون النصوص الواردة فيهم عن الأئمة قبلهم، فالجميع يشتركون في نفس العلة المزعومة التي من أجلها رفضوا مرويات الصحابة وهو إنكار أحد الأئمة.. إذا أدركنا ذلك - أدركنا عظيم تناقضهم وأنهم ليس لهم ميزان ثابت، وأن الهوى المذهبي، والتعصب والتحزب قد أعمى أبصار شيوخهم فأضلوا أتباعهم سواء السبيل وحرموهم من منبع العلم والإيمان. وهل ثمة مجال لمقارنة من أثنى الله عليهم ورسوله بمجموعة من حثالة الأفاكين والمفترين، إلا لبيان أنهم في مذهبهم في رد روايات الصحابة ليسوا على شيء. ولقد جاء في كتب الشيعة: "عن ابن حازم قال: قلت لأبي عبد الله.. فأخبرني عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقوا على محمد صلى الله عليه وسلم أم كذبوا؟ قال: بل صدقوا" (¬5) . والصحابة ليسوا بحاجة لمثل هذا بعد ثناء الله ورسوله، ولكن نستشهد بذلك لبيان أنهم أعرضوا حتى عما جاء عن أئمتهم في كتبهم، الموافق لما جاء في كتاب الله وسنة رسوله، واتبعوا روايات الكذابين عن الأئمة، والتي ¬
بداية تدوين الحديث عندهم
اعترفت بكذبهم كتب الشيعة نفسها كما سيأتي (¬1) . بداية تدوين الحديث عندهم: قال ابن النديم: "إن أول كتاب ظهر للشيعة كتاب سليم بن قيس الهلالي" (¬2) . رواه عن أبان بن أبي عياش لم يروه غيره (¬3) ، وقد كان لنا وقفة عند هذا الكتاب في أثناء الحديث عن أسطورة "التحريف عند الشيعة" وقد قدّم لنا أحد أساطين الشيعة المتأخرين اعترافاً يقول: "بأن هذا الكتاب موضوع في آخر الدولة الأموية.." يعني لا صحة لنسبته لسليم. وقد تبين لنا أن "سليماً" هذا لا ذكر له في مصادر أهل السنة مع تعظيم الشيعة لأمره، وقد يقال بأنه اسم لا مسمى له؛ إذ لو كان كما يقولون.. لكان شيئاً مذكوراً. ويبدو أن أوسع جمع لآثارهم - في العصور المتقدمة - هو ما قام به أبو جعفر القمي محمد بن الحسن بن فروخ الصفار القمي (المتوفى سنة 290هـ) في كتابه "بصائر الدرجات في علوم آل محمد وما خصهم الله به" وهو مجموعة لأحاديثهم، وقد طبع سنة 1285هـ (¬4) . وهذا الصفار اعتبره بروكلمان "المؤسس الحقيقي لفقه الإمامية في بلاد العجم" (¬5) . ويرى الدكتور محمد البلتاجي أنه "أول من دوّن فقه وآثار الإمامية الاثني عشرية" (¬6) ، وفي كلام ابن النديم السالف ما ينفي دعوى الأولية. ويكاد شيخهم المجلسي ينقل الكتاب بحذافيره في موسوعته البحار، عبر أبوابه المختلفة. ¬
الكتب الرئيسة عند الاثني عشرية
وقد امتلأ هذا الكتاب بالغلو حيث فيه الطعن في كتاب الله سبحانه، والغلو في الأئمة، وتكفير الصحابة.. إلخ، مما يؤكد أن معظم أخباره مفتراة على الأئمة. وفي أوائل الرابع الهجري جدد التأليف الكليني (المتوفى سنة 328 أو329هـ) في كتابه "الكافي" ثم تعاقب التأليف عندهم بعد ذلك. الكتب الرئيسة عند الاثني عشرية: إن الكتب الرئيسة التي تعتبر مصادر الأخبار عند الاثني عشرية في ثمانية يسمونها: "الجوامع الثمانية" (¬1) ، ويقولون بأنه هي المصادر المهمة للأحاديث المروية من الأئمة (¬2) . قال عالمهم المعاصر محمد صالح الحائري: "وأما صحاح الإمامية فهي ثمانية، أربعة منها للمحمدين الثلاثة الأوائل، وثلاثة بعدها للمحمدين الثلاثة الأواخر، وثامنها لحسين - المعاصر - النوري" (¬3) . أول هذه المصادر وأصحها عندهم الكافي (¬4) . لمحمد بن يعقوب الكليني، ثم ¬
كتاب: "من لا يحضره الفقيه" (¬1) . لشيخهم المشهور عندهم بالصدوق محمد بن بابويه القمي (المتوفى سنة 381هـ) ، ثم تهذيب الأحكام (¬2) ، والاستبصار (¬3) ، كلاهما لشيخهم المعروف بـ"شيخ الطائفة" أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي (المتوفى سنة 360هـ) . قال شيخهم الفيض الكاشاني (المتوفى سنة 1091هـ) : "إن مدار الأحكام الشرعية اليوم على هذه الأصول الأربعة، وهي المشهود عليها بالصحة من مؤلفيها" (¬4) . وقال أغا بزرك الطهراني - من مجتهديهم المعاصرين - وهي: "الكتب الأربعة والمجاميع الحديثية التي عليها استنباط الأحكام الشرعية حتى اليوم" (¬5) . هذه هي المصادر الأربعة المتقدمة عندهم. ثم ألف شيوخهم في القرن الحادي عشر وما بعده مجموعة من المدونات ارتضى المعاصرون منها أربعة سموها بالمجاميع الأربعة المتأخرة وهي: الوافي (¬6) . لشيخهم محمد بن مرتضى المعروف بملا ¬
ملحوظات على الكتب الثمانية
محسن الفيض الكاشاني (المتوفى سنة 1091هـ) ، وبحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار (¬1) . لشيخهم محمد باقر المجلسي (المتوفى سنة 1110 أو 1111هـ) ، ووسائل الشيعة (¬2) . إلى تحصيل مسائل الشريعة تأليف شيخهم محمد بن الحسن الحر العاملي (المتوفى سنة 1104هـ) ، ومستدرك الوسائل (¬3) . لحسين النوري الطبرسي (المتوفى سنة 1320هـ) . ملحوظات على الكتب الثمانية: هناك كتب كثيرة عندهم قالوا: إنها في الاعتبار والاحتجاج كالكتب ¬
الأربعة، كما ذكر ذلك المجلسي في مقدمة بحاره (¬1) . والحر العاملي في الوسائل (¬2) ، وكما نجد ذلك في مقدمات تلك الكتب. ويبدو أن تخصيص ما سلف بالذكر، إما لأنها مجاميع كبيرة، أو قد يكون لمجرد محاكاة أهل السنة وللدعاية المذهبية، ومما يوضح ذلك أنهم اعتبروا مثلاً من المجاميع الثمانية المتقدمة كتاب الوافي، وعدوه أصلاً مستقلاً، مع أنه عبارة عن جمع لأحاديث الكتب الأربعة المتقدمة (الكافي والتهذيب والاستبصار ومن لا يحضره الفقيه) فكيف يعد أصلاً خامساً، ومستقلاً، وهو تكرار لأحاديث الكتب الأربعة؟! وكذلك اعتبروا "الاستبصار" للطوسي مصدراً مستقلاً من المصادر الأربعة المتقدمة، وهو لا يعدو أن يكون اختصاراً لكتاب تهذيب الأحكام لطوسي، كما صرح بذلك الطوسي في مقدمة الاستبصار (¬3) ، وكما يبدو واضحاً لمن شاء المقارنة بين الكتابين، فالدعاية المذهبية واضحة في صنيعهم هذا.. وتجد أن بحار الأنوار وضعه مؤلفه في خمس وعشرين مجلداً، ولما كبر المجلد الخامس والعشرين جعل شطراً منه في مجلد آخر فصار المجموع (26) مجلداً (¬4) ، فقام المعاصرون وزادوا فيه كتباً ليست من وضع المؤلف كجنة المأوى للنوري الطبرسي، وهداية الأخبار للمسترحمي، ومجلدات في الإجازات ليبلغوا به في طبعة جديدة مائة وعشرة مجلدات تبدأ من الصفر (¬5) . كلون من المظاهر الثقافية الشكلية، ¬
والدعاية المذهبية. وهم مغرمون بهذا الاتجاه الدعائي (¬1) . أما موضوع هذه المدونات فإن التهذيب، والاستبصار، ومن لا يحضره الفقيه، ووسائل الشيعة، ومستدرك الوسائل كلها في الفقه، وكذلك الكافي، فإن المجلدين الأول والثاني في الأصول وسائر المجلدات الباقية في الفقه وهو مما يسمى "فروع الكافي". ويلاحظ التشابه في كثير من مسائلهم الفقهية مع أهل السنة؛ مما يؤكد ما يقول بعض أهل العلم من أخذهم لذلك من أهل السنة (¬2) ، ولهم مفردات غريبة، ومسائل منكرة لا تخطر على البال تستحق أن يكتب فيها تأليف خاص، وقد جمع جزءاً منها شيخهم المرتضى في كتاب سماه "الانتصار" (¬3) . وقد نقل ابن عقيل الحنبلي بعض هذه المسائل، وهو يتعجب منها، وقد سجلها ابن الجوزي في المنتظم (¬4) . من خط ابن عقيل، كما أشار إليها في الموضوعات بقوله: "ولقد وضعت الرافضة كتاباً في الفقه وسموه مذهب الإمامية، وذكروا فيه ما يخرق إجماع المسلمين ¬
بلا دليل أصلاً (¬1) . أما بالنسبة للقسم الباقي من هذه المدونات وهي أصول الكافي، وبحار الأنوار فهي تتعلق بمسائل: التوحيد، والعدل، والإمامة.. وأكثر ما فيها يدور حول عقائدهم وآرائهم في الإمامة والأئمة الاثني عشر والنص عليهم، وصفاتهم، وأحوالهم، وزيارة قبوهم، والحديث عن أعدائهم، وعلى رأسهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونلحظ أن كل شيء - في الغالب - يدور في فلك الإمامة والأئمة. والقارئ لهذه الأحاديث في هذه المدونات وغيرها من كتب الرواية عندهم يجد أن هناك فرقاً واضحاً وكبيراً بين الروايات التي ترد عن طريق أهل السنة ويطلق عليها الحديث، وبين الروايات التي ترد عن طريق الشيعة ويطلق عليها اللفظ نفسه، فكتب السنة الستة وغيرها إذا روت حديثاً فهو منسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهي أحاديثه هو. أما كتب الحديث عند الشيعة فهي تأتي بالرواية عن أحد أئمتهم الاثني عشر ويعتقدون - كما مر - أن لا فرق بين ما يروونه عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن أحد أئمتهم. كما أن القارئ لكتب الحديث عندهم لا يجد إلا القليل النادر منها هو المسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأكثر ما يروونه في الكافي، واقف عند جعفر الصادق، وقليل منها يعلو إلى أبيه محمد الباقر، وأقل من ذلك ما يعلوا إلى أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - ونادراً ما يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم. كما يلحظ أن مدوناتهم الأربع المتأخرة ألفت في القرن الحادي عشر وما بعده، وآخرها ألفه النوري الطبرسي (المتوفى سنة 1320هـ) وهو من معاصري الشيخ محمد عبده. وقد جمع فيه ثلاثة وعشرين ألف حديث عن الأئمة (¬2) . لم ¬
تعرف من قبل، فهي متأخرة عن عصور الأئمة بمئات السنين، فإذا كان هؤلاء قد جمعوا تلك الأحاديث عن طريق السند والرواية فكيف يثق عاقل برواية لم تسجل طيلة أحد عشر قرناً أو ثلاثة عشر قرناً!! وإذا كانت مدونة في كتب فلم يعثر على هذه الكتب إلا في القرون المتأخرة (¬1) ، ولم يجمع تلك الروايات متقدموهم، ولم لم تذكر تلك الكتب وتسجل في كتبهم القديمة؟! كيف لم يسجلها الكليني وهو بحضرة السفراء الأربعة سفراء المهدي؟! وقد سماه الكافي لأنه كاف للشيعة، وقد عرضه على مهديهم - بواسطة السفراء - فقال: كاف لشيعتنا - كما سلف (¬2) .- بل إن الطوسي قال بأنه جمع في كتابه تهذيب الأحكام جميع ما يتعلق بالفقه من أحاديث أصحابهم وكتبهم وأصولهم، لم يتخلف عن ذلك إلا نادر قليل وشاذ يسير (¬3) . فهل هذه الكتب وضعت فيما بعد في أيام الدولة الصفوية، ونسبت لشيوخهم الأوائل؟ هذا ليس ببعيد. بل إن كتبهم الأربعة الأولى لم تخل من دس وزيادة، وآية ذلك أن كتاب ¬
تهذيب الأحكام للطوسي بلغت أحاديثه (13950) حديثاً كما ذكر ذكر أغا بزرك الطهراني في الذريعة (¬1) ، ومحسن العاملي في أعيان الشيعة (¬2) . وغيرهما من شيوخهم المعاصرين، في حين أن الشيخ الطوسي نفسه صرح في كتابه عدة الأصول بأن أحاديث التهذيب وأخباره تزيد على (5000) ، ومعنى ذلك أنها لا تصل إلا إلى (6000) في أقصى الأحوال (¬3) . فهل زيد عليها أكثر من الضعف في العصور المختلفة؟! الدليل المادي الملموس أمامنا يؤكد ذلك. وأيضا تراهم اختلفوا هل كتاب الروضة - وهو أحد كتب الكافي التي تضم مجموعة من الأبواب، وكل باب يتضمن عدداً كبيراً من الأحاديث - هل هو من تأليف الكليني أم مزيد فيما بعد على كتابه الكافي (¬4) ، فكأن أمر الزيادة شيء طبيعي ووارد في كل حال. بل الأمر أخطر من ذلك فإن شيخهم الثقة عندهم حسين بن حيدر الكركي العاملي (المتوفى سنة 1076هـ) قال: إن كتاب الكافي خمسون كتاباً بالأسانيد التي فيه لكل حديث متصل بالأئمة (¬5) ، بينما نرى شيخهم الطوسي (المتوفى سنة 360هـ) يقول: "كتاب الكافي مشتمل على ثلاثين كتاباً، أخبرنا بجميع رواياته الشيخ.." (¬6) . فهل زيد على الكافي للكليني فيما بين القرن الخامس، والحادي عشر عشرون كتاباً، مع أن كل كتاب يضم عشرات الأبواب، وكل باب يشمل مجموعة من الأحاديث؟! لعل هذا أمر طبيعي، فمن كذب على رسول الله والصحابة والقرابة فمن باب أولى أن يكذب على شيوخه.. ¬
وشواهد هذا الباب كثيرة. أما متون هذه الكتب ونصوصها فإنك تلحظ فيها ظاهرة الاختلاف والتضاد، ولقد تألم شيخهم محمد بن الحسن الطوسي "لما آلت إليه أحاديثهم من الاختلاف والتباين والمنافاة والتضاد حتى لا يكاد يتفق خبر إلا وبإزائه ما يضاده، ولا يسلم حديث إلا وفي مقابلته ما ينافيه.." واعترف بأن هذا الاختلاف قد فاق ما عند أصحاب المذاهب الأخرى، وأن هذا كان من أعظم الطعون على مذهبهم، وأنه جعل بعض الشيعة يترك هذا المذهب لما انكشف له أمر هذا الاختلاف والتناقض (¬1) . وقام شيخهم الطوسي بمحاولة يائسة لتدارك هذا الاختلاف وتوجيه هذا التناقض فلم يفلح؛ بل زاد الطين بلة، حيث علق كثيراً من اختلاف الروايات على التقية بلا دليل سوى أن هذا الحديث أو ذاك يوافق أهل السنة. والواقع أنه بصنيعه هذا قد "كرس" الفرقة، وأضاع على طائفته كثيراً من سبل الهداية.. ومحاولته كانت في أحاديث الأحكام، أما باقي مسال المذهب فلم يتعرض لها. والدليل المادي على أن محاولته لم تنجح هو كثرة اختلافهم، وقد اشتكى بعض شيوخهم من هذه الظاهرة وهو الفيض الكاشاني صاحب الوافي أحد الكتب الثمانية المعتمدة فقال عن اختلاف طائفته: ".. تراهم يختلفون في المسألة الواحدة على عشرين قولاً أو ثلاثين قولاً أو أزيد؛ بل لو شئت أقول: لم تبق مسألة فرعية لم يختلفوا فيها أو في بعض متعلقاتها" (¬2) . ومن الملاحظ أن اختلافهم هو اختلاف في الأحاديث أو النصوص وليس اختلافاً في الاستنباط، ولا شك أن التناقض أمارة على بطلان المذهب، وكذب الروايات.. وأن ذلك ليس من عند الله لقوله سبحانه: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ ¬
لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} (¬1) . وقد عزت بعض راياتهم ظاهرة الاختلاف إلى كثرة الكذب على الأئمة.. فهذا الفيض بن المختار يشكو لأبي عبد الله - كما تقول رواياتهم - كثرة اختلافهم ويقول: "ما هذا الاختلاف الذي بين شيعتكم.. إني لأجلس في حلقهم بالكوفة فأكاد أن أشك في اختلافهم في حديثهم. فقال أبو عبد الله: هو ما ذكرت يا فيض إن الناس أولعوا بالكذب علينا.. وإني أحدث أحدهم بالحديث فلا يخرج من عندي حتى يتأوله على غيره تأويله، وذلك أنهم لا يطلبون بحديثنا وبحبنا ما عند الله وإنما يطلبون الدنيا وكل يحب أن يدعى رأساً" (¬2) . وقد كثرت شكاوى الأئمة من كثرة الكذابين عليهم (¬3) ، وقد حف بهم ¬
ولاسيما جعفر الصادق مجموعة من المتآمرين والمتكسبين والمحتالين.. وكانوا يستقبلون بعض الوفود القادمة من أصقاع العالم الإسلامي ويأكلون أموالهم باسم الأئمة، ويقدمون لهم تواقيع مزورة باستلامهم ويحدثون عنهم بما لم يقولوا (¬1) . وإذا كذب الأئمة أقوالهم قالوا: إن هذا التكذيب منهم تقية (¬2) . واستمع إلى شريك بن عبد الله القاضي (ت177-178هـ) يصف الأقوام الذين التصقوا بجعفر وادعوا الرواية عنه - كما تنقل ذلك كتب الشيعة نفسها - "قال أبو عمرو الكشي: قال يحيى بن عبد الحميد الحمّاني في كتابه المؤلف في إثبات إمامة أمير المؤمنين - رضي الله عنه -: قلت لشريك: إن أقواماً يزعمون أن جعفر بن محمد ضعيف الحديث، فقال: أخبرك القصة، كان جعفر بن محمد رجلاً صالحاً مسلماً ورعاً فاكتنفه قوم جهال يدخلون عليه ويخرجون من عنده ويقولون: حدثنا جعفر بن محمد، ويحدثون بأحاديث كلها منكرات كذب موضوعة على جعفر، ليستأكلوا الناس بذلك، ويأخذوا منهم الدراهم، كانوا يأتون من ذلك بكل منكر، فسمعت العوم بذلك فمنهم من هلك ومنهم من أنكر" (¬3) . ويبدو أن الإنكار كان من طائفة من المتقدمين.. إذ إن المتأخرين - ولاسيما في العهد الصفوي وما بعده - قد أصبحت الأساطير الكثيرة التي تروى عن جعفر جزءاً من عقائدهم بلا نكير. أما معاني هذه الروايات، ومادتها فإن فيها ما يحكم المرء بوضعه بمجرد النظر في متنه لمخالفته لأصول الإسلام وضروراته، وما علم بالتواتر، وما أجمع المسلمون عليه.. مع مخالفته لصريح العقل، وقد رأيت في رواياتهم ما يلغى هذا المبدأ أعني ¬
مبدأ نقد المتن لظهور القرائن التي تدل على ذلك، فقد جاء في بصائر الدرجات عن سفيان السمط قال: "قلت لأبي عبد الله - عليه السلام -: جعلت فداك؛ إن رجلاً يأتينا من قبلكم يعرف بالكذب فيحدث بالحديث فنستبشعه، فقال أبو عبد الله - عليه السلام -: يقول لك: إني قلت لليل إنه نهار، وللنهار إنه ليل، قال: لا، قال: فإن قال لك هذا إني قلته فلا تكذب به فإنك إنما تكذبني" (¬1) . وجاء أيضاً "إن حديثنا تشمئز منه القلوب فمن عرف فزيدوهم، ومن أنكر فذروهم" (¬2) . وقد ذكر شيخهم المجلسي في الاتجاه (116) حديثاً في باب بعنوان "باب إن حديثهم - عليهم السلام - صعب مستصعب، وإن كلامهم ذو وجوه كثيرة، وفضيلة التدبر في أخبارهم - رضي الله عنهم - والتسليم لهم والنهي عن رد أخبارهم" (¬3) ، وإذا قارنت هذا بما يذهب إليه أهل السنة استبان بصورة أعظم ضلالهم، وبضدها تتميز الأشياء (¬4) . ¬
والغالب في النقد المتن عندهم أنه يعمل به إذا كان الحديث يوافق أهل السنة والذين يسمونهم بالعامة فيردّ الحديث حينئذ، لأن مخالفة العامة كما تقول رواياتهم فيها الرشاد (¬1) . فيزدادون بهذا ضلالاً على ضلالهم.. مع أنه قد جاء عن بعض الأئمة وفي كتب الشيعة نفسها: "لا تقبلوا علينا خلاف كتاب ربنا" (¬2) ، إلا أن هذا المبدأ لم يعمل به شيوخهم.. بل إن الأصل الذي أمر الأئمة بالرجوع إليه (وهو القرآن) قد كثرت أساطيرهم التي تتعرض له. أما مدى صحة هذه الروايات عندهم، والتي تضمنتها تلك المدونات والتعرف على أسانيدهم ورجالهم الذين ارتضوا رواياتهم عن الأئمة، وأقسام الحديث عندهم، ومقاييس نقد السند لديهم، فهذا موضوع هام وكبير يستحق أن يكتب فيه كتابة مستقلة.. وذلك لأهميته في كشف حقيقة هذه المدونات أمام المخدوعين والمغفلين.. وتعرية الباطل واكتشاف الأيدي السبئية التي أسهمت في صنع هذا "الضلال" ونسبته لبعض علماء أهل البيت.. وهو مبحث واسع الأطراف متعدد الجوانب لا يكفي هذا الحيز لتفصيل القول فيه.. فسنكتفي بالعرض المجمل، والإشارة واللمحة. ¬
مدى صحة روايات هذه المدونات
مدى صحة روايات هذه المدونات: لقد جاء على لسان جملة من أعلام أهل السنة بأن الرافضة من أعظم الطوائف افتراء للكذب، وتكذيباً للصدق (¬1) . وحينما قال ابن المطهر: فإن لهم أحاديثهم التي رواها رجالهم الثقات، قال شيخ الإسلام: "من أين لكم أن الذين نقلوا هذه الأحاديث في الزمان القديم ثقات، وأنتم لم تدركوها، ولم تعلموا أحوالهم ولا لكم كتب مصنفة تعتمدون عليها في أخبارهم التي يميز بها بين الثقة وغيره، ولا لكم أسانيد تعرفون رجالها" (¬2) . ولكن هل أئمة الإسلام على علم بهذه المدونات؟ الحقيقة أنه لم يكن للأمة المسلمة مصادر في التلقي معروفة مشهورة غير أمهات مصادر المسلمين من الصحاح والسنن والمسانيد.. والملحوظ أن أئمة الإسلام الذين لهم عناية بأمر الروافض كالاشعري وابن حزم، وابن تيمية، لم يرد عنهم - في حدود تتبعي - ذكر لأسماء هذه المدونات وبالأخص أخطر كتاب لهم وهو في أصول الكافي، رغم أن صاحبه قد توفي سنة 329هـ. فهل مرد ذلك إلى أن تلك المدونات سرية التداول بينهم، أو لاحتقار علماء الإسلام لهم، فلم يلتفتوا إلى كتب الحديث عندهم؟ أو أن هذه الكتب صنفت في إبان الدولة الصفوية، ونسبت لشيوخهم الأوائل؟ قد جاء في أصول الكافي ما يفيد أن كتب الحديث عندهم كانت موضع التداول السري بينهم، ولهذا لم تكن متصلة السند بسبب ظروف التقية كما يدعون. يقول نص الكافي: "إن مشايخنا رووا عن أبي جعفر وأبي عبد الله - عليهما السلام - ¬
وكانت التقية شديدة فكتموا كتبهم ولم ترو عنهم، فلما ماتوا صارت الكتب إلينا. (قال أحد أئمتهم) : حدثوا بها فإنها حق" (¬1) ، وتلحظ في بعض رواياتهم - مثلاً - الأمر بكتمان هذا النص وعدم إذاعته عند غير أهله (¬2) . وفي عصر السيوطي قام أحد الروافض يدعو إلى الاحتجاج بالقرآن فقط دون السنة، وألف في الرد عليه كتابه "الاحتجاج بالسنة"، فلم لم يدع هذا الرافضي إلى كتب أصحابه؟ قد يلتمس من هذا الصنيع أنه يتكتم عليها.. وعلى أية حال لم يكن لكتبهم ذلك الذيوع والانتشار إلا بعد ظهور الطباعة وتفشي أمر الرافضة. ولعل أولى الإشارات لمصادر الشيعة الأربعة الأولى جاءت في كتاب النواقض في الرد على الروافض، حيث ذكر بأنه من هفوات الروافض إنكارهم كتب الأحاديث الصحاح التي تلقتها الأمة بالقبول، وإيمانهم بمقابل ذك بأربعة كتب جمع فيها كثير من الأكاذيب مع بعض الأحاديث وأقوال الأئمة (¬3) . وصاحب النواقض (مخدوم الشيرازي) من القرن العاشر، ولكن لا يعني هذا ظهور أمر هذه المدونات؛ لأن الشيرازي هذا عاش في وسط الرافضة، واضطر أن يتلقى تعليمه بينهم.. فعرف من أمورهم - كما يقول - ما يخفى على الكثير (¬4) . - أما مدى صحة ما في هذه المدونات في نظر هذه الطائفة، فهم في هذا فريقان: صنف يرى صحتها، ويقطع بثبوت كل حرف فيها عن الأئمة، وفريق يرى ¬
أن فيها الصحيح وغيره.. يبين ذلك شيخهم الممقاني فيقول: "إن كون مجموع ما بين دفتي كل واحد من الكتب الأربعة من حيث المجموع متواتراً مما لا يعتريه شك ولا شبهة، بل هي عند التأمل فوق حد التواتر، ولكن هل هي متواترة بالنسبة إلى خصوص كل حديث وبعبارة أخرى هل كل حديث وكلمة بجميع حركاتها وسكناتها الإعرابية والبنائية، وبهذا الترتيب للكلمات والحروف على القطع أم لا؟ فالمعروف بين أصحابنا المجتهدين الثاني كما هو قضية عدها أخبار آحاد، واعتبارهم صحة سندها أو ما يقوم مقام الصحة، وجل الإخبار على الأول كما يقتضيه قولهم بوجوب العمل بالعلم، وأنها قطعية الصدور" (¬1) . إذن الكتب الأربعة عند الإخباريين من الاثني عشرية أعظم من القرآن عند المسلمين.. ولهذا قبلوا رواياتها التي تتعرض لكتاب الله، وجعلوها هي الحاكمة على كتاب الله وذلك هو الضلال العظيم، والكفر الصراح. أما الأصوليون أو المجتهدون كما يسمون فإنهم يعتبرونها من قبيل الآحاد، وينظرون حين الحكم عليها إلى السند، ولذلك قال جعفر النجفي (ت1227هـ) - شيخ الشيعة الإمامية، ورئيس المذهب - في زمنه (¬2) . قال في كتابه "كشف الغطا" عن مؤلفي الكتب الأربعة: " والمحمدون الثلاثة كيف يعول في تحصيل العلم عليهم، وبعضهم يكذب رواية بعض.. ورواياتهم بعضها يضاد بعضاً.. ثم إن كتبهم قد اشتملت على أخبار يقطع بكذبها كأخبار التجسيم والتشبيه وقدم العالم، وثبوت المكان، والزمان" (¬3) . ولكن أصحاب الكتب الأربعة نصوا في مقدماتهم بأنهم لا يذكرون إلا الصحيح، فيجيب صاحب كشف الغطا عن ذلك بقوله: "فلابد من تخصيص ما ذكر في المقدمات أو تأويله على ضرب من المجازات أو الحمل على العدول عما ¬
فات، حيث ذكروا في تضاعيف كتبهم خلاف ما ذكروه في أوائلها (¬1) ، أي أنهم عدلوا عن شرط الصحة الذي ذكروه في مقدمات كتبهم!! ". ثم يأتي الاعتراض الأكثر صعوبة وهو أن هذه الكتب الأربعة مأخوذة كما يقولون من أصول معروضة على الأئمة، وأصول الكافي كتب في عصر الغيبة الصغرى، وكان بالإمكان الوصول إلى حكم الإمام على أحاديثه، بل قالوا بأنه عرض على مهديهم فقال بأنه كاف لشيعتنا (¬2) . كما أن صاحب من لا يحضره الفقيه "أدرك من الغيبة الصغرى نيفاً وعشرين سنة" (¬3) ، فلم لم يعترض الأئمة على ما فيها من موضوعات؟ لم يجد صاحب كشف الغطا جواباً على ذلك إلا الفزع إلى التقية التي هي متعقلهم إذا أعيتهم الحيل فقال: "وأنه لا يجب على الأئمة المبادرة إليهم بالإنكار ولا تمييز الخطأ من الصواب لمنع التقية المتفرعة على يوم السقيفة" (¬4) . ومع ذلك فإن لسائل أن يقول: إذا كان الأصوليون من الشيعة قد سلكوا مسلك التصحيح والتضعيف من خلال دراسة الإسناد فهل للشيعة بصر بالرجال ودراية بعلم الجرح والتعديل؟ والجواب على ذلك أنه: من خلال النظر في كتب الرجال عندهم يتبين بأنه لم يكن لهم كتاب في أحوال الرجال حتى ألف الكشي في المائة الرابعة كتاباً لهم في ذلك، جاء في غاية الاختصار، وليس فيه ما يغني في هذا الباب، وقد أورد فيه أخباراً متعارضة في الجرح والتعديل (¬5) . وليس في كتب رجالهم الموجودة إلا في حال بعض رواتهم (¬6) . كما "أنه في كثير من الأسانيد قد وقع غلط واشتباه في ¬
أسامي الرجال وآبائهم أو كناهم، أو ألقابهم" (¬1) . وقد كان التأليف في أصول الحديث وعلومه معدوماً عندهم حتى ظهر زين الدين العاملي (¬2) . الملقب عندهم بالشهيد الثاني (المقتول سنة 965هـ) (¬3) ، وهذا ما تعترف به كتب الشيعة نفسها. قال شيخهم الحائري: "ومن المعلومات التي لا يشك فيها أحد أنه لم يصنف في دراية الحديث من علمائنا قبل الشهيد الثاني وإنما هو من علوم العامة.." (¬4) ، يعني أهل السنة. (وسيأتي أن تقسيم الحديث إلى صحيح وغيره لم يوجد عندهم أيضاً إلا في القرن السابع) . ويرى صاحب التحفة أن سبب تأليفهم في ذلك هو ما لحظوه في وراياتهم من تناقض وتهافت، وأنهم قد استعانوا في وضع هذه الأصول بما كتبه أهل السنة (¬5) ، غير أن لهم بعض المقاييس الخاصة بهم لم تسلم من ضلال كالعادة في كل ما انفردوا به عن المسلمين. فتجدهم مثلاً يوثقون من ادعى رؤية غائبهم المعدوم الذي لم يولد أصلاً (¬6) ، ويعتبرون ذلك دلالة على كونه فوق العدالة، على حين لا تؤثر عندهم صحبة الرسول شيئاً في التزكية والتعديل - كما سلف - فهم بهذا يجعلون الكذب والضلال دليل العدالة، وعدوا برهان العدالة أمارة على الكذب فانظر وتعجب.. ويوثقون الكليني الذي أخرج أساطير "تحريف القرآن" وأوسع لها في كتابه الكافي، ولذلك قال عنه الكاشاني في تفسيره الصافي (¬7) ، ¬
رجال أسانيدهم
والنوري الطبرسي في فصل الخطاب (¬1) ، ومحمود النجفي الطهراني في قوامع الفضول (¬2) ، بأنه كان يقول يتحريف القرآن. وقال أبو زهرة: فإن من هذا اعتقاده فليس من أهل القبلة (¬3) . ومع ذلك يقول ابن المطهر الحلي بأنه من أوثق الناس في الحديث وأثبتهم (¬4) . بينما يعدون القول بالقياس - والذي هو من مبادئ الفقه الإسلامي - قدح في الرجل عندهم تترك روايته من أجله (¬5) . فانظر كيف يوثقون الكفار، ويردون روايات المسلمين. ومن كان على غير مذهب الإمامية فروايته لا ترتقي للصحة - عندهم - كما سيأتي في تعريف الصحيح عندهم، ولكن الإمامي مقبولة روايته ولو كان مذموماً على لسان الأئمة؛ بل صرح ابن المطهر الحلي بأن "الطعن في دين الرجل لا يوجب الطعن في حديثه" (¬6) ، فإذا كانت هذه بعض مقاييسهم فما حال رجالهم؟ رجال أسانيدهم: إن مصنفي هذه المدونات لم يحصل لهم ملاقاة الأئمة، وما أخذوا أقوالهم إلا بواسطة رجال بينهم وبين الأئمة، فما حال هؤلاء الرجال الذين رووا كل ذلك الضلال عن جعفر وغيره؟ لقد شهد طائفة من أعلام السنة بأن الروافض من أكذب الناس في الحديث واتقوا الرواية عنهم.. لكن الاثني عشرية لا تقبل هذه الشهادات، فهي لا تقبل "روايات العامة" كما يقولون فضلاً عن الأخذ بجرحهم. وقد استقرأ صاحب التحفة الاثني عشرية أحوال رجالهم في الكتب الأربعة ¬
من خلال ما تقوله عنهم كتب الشيعة نفسها (¬1) ، كما فعل مثل ذلك صاحب "الصواقع المحرقة" (¬2) . وقدم الألوسي - رحمه الله - في "كشف غياهب الجهالات" إلمامة موجزة بأحوالهم (¬3) ، كما صدر حديثاً كتاب بعنوان: "رجال الشيعة" درس فيه مؤلفه مجموعة كبيرة من رجالهم من خلال مصادر الشيعة، وما قد يوجد في مصادر السنة، وهي خطوة تستحق الإشادة (¬4) . وتبين من خلال ذلك أن رجال كتبهم في الغالب ما بين كافر لا يؤمن بالله ولا بالأنبياء ولا بالبعث والمعاد، ومنهم من كان من النصارى ويعلن بذلك جهاراً وَيتَزيّا بزيّهم، ولم يدع صحبتهم، ومنهم من أعلن جعفر الصادق كذبهم ونص على ذلك باعتراف كتب الشيعة وقال: "يروون عنا الأكاذيب ويفترون علينا أهل البيت" (¬5) . إلى غير ذلك من أحوال رجالهم، وأنواع ضلالهم. وقد ذكرت هذه المصنفات جملة من أسماء هؤلاء الرجال الذين ذهبوا لهذه المذاهب الملحدة (¬6) . ولقد لخص شيخ الطائفة، وصاحب كتابين (¬7) . من كتبهم الأربعة في الحديث، وصاحب كتابين أو ثلاثة من كتبهم الأربعة المعتمدة في الرجال (¬8) . ¬
لخص الطوسي أحوال رجالهم باعتراف مهمّ أجراه الله سبحانه على لسانه، يقول الطوسي: "إن كثيراً من مصنفي أصحابنا ينتحلون المذاهب الفاسدة - ومع هذا يقول: إن كتبهم معتمدة -" (¬1) . فكأن المهم عندهم تشيع الرجل ولا يضر بعد ذلك انتحاله لأي مذهب فاسد. ولكنهم يردون روايات الزيدية. كما ردوا روايات زيد بن علي وهو من أهل البيت كما فعل الطوسي في الاستبصار (¬2) . مع أن الزيدية شيعة. إذن المقصود عندهم هو الإمام أو الغالي، ولهذا ارتضوا أمر الجارودية مع أنها من غلاة الزيدية، ولكن ارتضوا مذهبها لأنها تكفر معظم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وترد مروياتهم فتشاركهم في عموم مذهبهم (¬3) . ثم بعد ذلك لا يضر أن يكونوا من أصحاب المذاهب الفاسدة، والنحل الزائفة. بل قرر جملة من علماء الرجال عندهم كابن الغضائري، وابن المطهر الحلي بأن القدح في دين الرجل لا يؤثر في صحة حديثه (¬4) . - كما مر -. ولكن هناك جملة من رجالهم ورواة مذهبهم هم من الغلاة كما نص على ذلك شيوخ المذهب القدامى، فلم يكونوا يأخذون برواياتهم، ولكن هذا القدح في هؤلاء الرجال لم يرتضه الشيعة المتأخرون بحجة غريبة، وهي أن المذهب يتطور ويتغير فأصبح ما يعتبر عند القدامى غلواً هو اليوم من ضرورات المذهب الشيعي، فصارت مقاييسهم في نقد مذهب الرجل تتغير من عصر لعصر تبعاً لتغير المذهب وتطوره. قال الممقاني - أكبر شيوخهم في علم الرجال في هذا العصر -: "إن القدماء - يعني من الشيعة - كانوا يعدون ما نعده اليوم من ضروريات مذهب الشيعة غلواً وارتفاعاً، وكانوا يرمون بذلك أوثق الرجال كما لا يخفى على من أحاط ¬
خبراً بكلماتهم" (¬1) . وأمر آخر أخطر من هذا، لقد جاءت روايات بأسانيد ثابتة وصحيحة لديهم تذم وتعلن مجموعة من الكذابين الذين قام الدين الشيعي على رواياتهم، تذمهم بأعيانهم.. فلم يقبل شيوخ الشيعة الذم الوارد فيهم (لأنهم لو قبلوا ذلك لأصبحوا من أهل السنة وتخلوا عن شذوذهم) وقد فزعوا إلى التقية لمواجهة هذا الذم، وهذا ليس له تفسير إلا رد قول الإمام من وجه خفي، وإذا كان منكر نص الإمام كافراً في المذهب الشيعي فهم خرجوا بهذا عن الدين رأساً. وقد اعترف محمد رضا المظفر - وهو من شيوخهم وآياتهم المعاصرين - اعترف بأن جلّ رواتهم قد ورد فيهم الذم من الأئمة ونقلت ذلك كتب الشيعة نفسها، قال وهو يتحدث عما جاء في هشام بن سالم الجواليقي من ذم قال: "وجاءت فيه مطاعن، كما جاءت في غيره من أجلة أنصار أهل البيت وأصحابهم الثقات والجواب عنها عامة مفهوم" (¬2) . (أي العلة المعروفة السائرة عندهم وهي التقية) ثم قال: "وكيف يصح في أمثال هؤلاء الأعاظم قدح؟ وهل قام دين الحق وظهر أمر أهل البيت إلا بصوارم حججهم" (¬3) . لاحظ كيف يصنع التعصب بأهله.. فهم يدافعون عن هؤلاء الذين جاء ذمهم عن أئمة أهل البيت، ويردون النصوص المروية عن علماء أهل البيت في الطعن فيهم والتحذير منهم، والتي تنقلها كتب الشيعة نفسها.. فكأنهم بهذا يكذبون أهل البيت.. بل ويصدقون ما يقوله هؤلاء الأفاكون حيث زعموا أن ذم الأئمة لهم جاء على سبيل التقية.. فهم لا يتبعون أهل البيت في أقوالهم التي تتفق مع نقل الأمة، بل يقتفون أثر أعدائهم ويأخذون بأقوالهم، ويفزعون إلى ¬
التقية في رد أقوال الأئمة. وهناك مجموعة من رجالهم تميزوا بالإكثار من الرواية في كتبهم، وهم يحظون بتوثيق شيوخهم على الرغم من أنهم قد لعنوا أو كفروا أو كذبوا على ألسنة الأئمة وباعتراف كتب الشيعة نفسها. وفي ظني أن جمع ما ورد في هؤلاء الرجال الذين شاعت رواياتهم في كتب الاثني عشرية.. جمع ما ورد فيهم من ذك في كتب الشيعة وما قد يوجد من ذلك في كتب السنة يسهم في إيضاح الرؤية وكشف الكذب على أهل البيت، ويسقط الكثير من تلك الروايات السوداء التي أخذت بالشيعة بعيداً عن جماعة المسلمين، ويكشف الأمر أمام عوام الشيعة وجهالهم الذين لا يعرفون عن مذهبهم إلا أنه مأخوذ عن أهل البيت، كما خدعهم بذلك شيوخهم، وما علموا أن تلك الروايات جاءت بواسطة حثالة من الكذابين الذين تبرأ الأئمة منهن وكذبوهم. فالعوام في الغالب في غفلة من مذهبهم وما يراد بهم. ويأتي على رأس هؤلاء الذين تميزوا بكثرة الرواية عندهم جابر الجعفي، قال الحر العاملي: "روى سبعين ألف حديث عن الباقر - عليه السلام - وروى مائة وأربعين ألف حديث، والظاهر أنه ما روي بطريق المشافهة عن الأئمة عليهم السلام أكثر مما روى جابر" (¬1) . إذاً فجابر يأخذ المرتبة الأولى في الرواية من ناحية العدد، وإذا لحظنا أن مجموع أحاديث كتبهم الأربعة لم تبلغ سوى (44244) (¬2) ، أدركنا ضخامة ما رواه جابر الجعفي، وأن رواياته تأخذ النصيب الأكبر في المدونات الشيعية، فهو أحد أركان دينهم. ولكن جاء في رجال الكشي - أصل كتب الرجال عندهم - عن زرارة بن أعين قال: "سألت أبا عبد الله - عليه السلام - عن أحاديث جابر؟ فقال ما رأيته عن أبي قط إلا مرة واحدة، وما دخل عليّ قط" (¬3) . فالإمام ¬
الصادق هنا يكذب مما يزعمه جابر من روايته عنه وعن أبيه.. فكيف إذاً يروي هذا العدد الضخم من الأحاديث عمن لم يلتق به، أو لم يلتق به إلا مرة واحدة مع أنه صرح بالسماع والتحديث؟! ولم يجد شيخهم الخوئي مخرجاً من هذه الرواية التي تكذب جابراً إلا أن يفزع إلى التقية فيقول بأنه: "لابد من حمله إلى نحو من التورية" (¬1) . لأنه يرى أنه من ثقاتهم، حيث يقول: "الذي ينبغي أن يقال: إن الرجل لابد من عده من الثقات الأجلاء" (¬2) . واستشهد لذلك بتوثيق بعض شيوخهم له كابن قولويه وعلي بن إبراهيم والمفيد، ثم قال: ويقول الصادق في صحيحة زياد إنه كان يصدق علينا (¬3) . وقد جاء في جامع الرواة الإشارة إلى أن هذه الرواية التي يصفها الخوئي بالصحيحة قد رويت عندهم بطريق مجهول (¬4) ، وما أدري لم يؤول الرواية الأخرى ويأخذ بهذه الرواية بلا دليل؟ كما أن المفيد الذي يعتبره الخوئي ممن وثقه كان ينشد أشعاراً كثيرة عنه يستدل بها على اختلاطه كما أشار إلى ذلك النجاشي (¬5) . كما أن النجاشي قال عنه: "وكان في نفسه مختلطاً" (¬6) . وقال هاشم معروف: "إن جابر الجعفي من المتهمين عند أكثر المؤلفين في الرجال" (¬7) . وقال وهو يحكم على بعض رواياتهم: "في سند هذه الرواية صباح المزني، وجابر الجعفي وهما ضعيفان، وقد ورد في جابر قدح ومدح والأكثر على أنه كان مخلطا" (¬8) . ¬
كما أن النجاشي (ت450هـ) وهو خبير رجالهم وصاحب أحد كتبهم الأربعة في الرجال ذكر أنه: "قلّ ما يورد عنه شيء في الحلال والحرام" (¬1) ، ولكن الخوئي يقول: "فإن الروايات عنه في الكتب الأربعة كثيرة في الحلال والحرام (¬2) . فهذا قد يشير إلى شيء آخر وهو أن الرجل بالإضافة إلى كذبه في نفسه، قد كثر الذين يكذبون عليه، وهذا ما صرح به النجاشي في رجاله حينما قال: "روى عنه جماعة غمز فيهم وضعفوا منهم عمرو بن شمر، ومفضل بن صالح.." (¬3) . وقال هاشم معروف في ترجمة عمر بن شمر: "ضعفه المؤلفون في الرجال ونسبوا إليه أنه دس أحاديث في كتب جابر الجعفي" (¬4) ، و"أنه كان يضع الأحاديث في كتب جابر الجعفي وينسبها إليه" (¬5) . فهذا جانب آخر يكشف كذب هذه الروايات الكثيرة المنتشرة في كتبهم عن جابر. كما جاء في رواياتهم مما يثبت أن جابراً أحد المجانين، وإن زعموا أنه افتعل ذلك خشية بطش الخليفة (¬6) . كما صورته رواياتهم بأنه واحد من أمهر السحرة والمشعوذين وإن لم تسمه بذلك (¬7) . وإذا لحظنا أن جابراً قد شاركت رواياته في كثير من أركان الكفر في المذهب الشيعي فهو الذي روى في الكافي أنه لم يجمع القرآن كله إلا الأئمة.. إلخ، وهو أول من وضع التأويل الباطني في كتاب - كما سلف -. وجاء في رواياتهم ما يشير إلى وجوب كتمان تلك التأويلات إلى غير ذلك مما أسهم به في تشييد ¬
الكفر والضلال، كما أن رواياته هي من أكبر الأدلة على كذبه وبهتانه، وقد شهد علماء السنة بأنه أحد الكذابين المفترين. قال الإمام أبو حنيفة: "ما رأيت أحداً أكذب من جابر الجعفي". وقال ابن حبان: "كان سبئياً من أصحاب عبد الله ابن سبأ، وكان يقول: "إن علياً عليه السلام يرجع إلى الدنيا". وقال جرير بن عبد الحميد: "لا أستحل أن أحدث عن جابر الجعفي"، وقال: "هو كذاب يؤمن بالرجعة". وقال زائدة: رافضي يشتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬1) . ومثل جابر الجعفي، زرارة بن أعين (ت150هـ) ، وثقه شيوخهم كالطوسي (¬2) ، والنجاشي (¬3) ، وابن المطهر (¬4) ، وغيرهم (¬5) . واعتبروه أحد الرجال الستة - من أصحاب أبي جعفر، وأبي عبد الله - الذين أجعمعت (¬6) . العصابة على تصديقهم (¬7) ، وله روايات كثيرة في كتب الشيعة، كما أن له إخوة وأبناء شاركوا في ذلك (¬8) . ولهذا قال الطوسي: "ولهم روايات كثيرة وأصول وتصانيف" (¬9) . وذكر الخوئي مجموع رواياته في كتبهم الأربعة فقال: "وقع بعنوان زرارة في إسناد كثير من الروايات تبلغ ألفين وأربعة وتسعين مورداً، فقد روى عن أبي جعفر - عليه السلام -، ورواياته عنه تبلغ ألفاً ومائتين وستة وثلاثين مورداً، وروى عن أبي جعفر وأبي عبد الله - عليهما لسلام - ورواياته عنهما بهذا العنوان ¬
تبلغ اثنين وثمانين مورداً، وروى عن أبي عبد الله - عليه السلام - ورواياته عنه بهذا العنوان، وقد يعبر عنه بالصادق - عليه السلام - تبلغ أربعمائة وتسعة وأربعين مورداً، وروى عن أحدهما عليهما السلام ورواياته عنهما بهذا العنوان تبلغ ستة وخمسين مورداً.." (¬1) . هذا ما يقولون، ولكن يقول سفيان الثوري بأن زارة: "ما رأى أبا جعفر" (¬2) . ويقول سفيان بن عيينة - حينما قيل له: روى زرارة بن أعين عن أبي جعفر كتاباً -: "ما هو ما رأى أبا جعفر ولكنه كان يتتبع حديثه" (¬3) . وقد جاء في ميزان الاعتدال أن زرارة نسب لجعفر الصادق علم أهل الجنة وأهل النار، وقال لابن السماك: إذا لقيته فاسأله هل أنا من أهل النار أم من أهل الجنة؟ ولما بلغ ذلك جعفراً قال: أخبره أنه من أهل النار، فمن ادعى علي علم هذا فهو من أهلها (¬4) ، غير أن بعض آياتهم وشيوخهم في هذا العصر يقول: "لم نجد أثراً مما نسبوه إلى كل من زرارة بن أعين، ومحمد بن مسلم، ومؤمن الطارق وأمثالهم، مع أنا قد استفرغنا الوسع والطاقة بالبحث عن ذلك وما هو إلا البغي والعدوان" (¬5) . فكأنه يشير إلى أنه لا أصل لما يذكر عن زرارة من ذم، وأن ذلك من عدوان الخصوم، وأنه بحث عن ذلك في مصادره واستفرغ الوسع في التقصي فلم يجد له أي أثر.. فهل هذا حق؟ لابد من الرجوع لمصادرهم المعتمدة في الرجال لأجل التثبت من صحة هذه الدعوى، لاسيما وأن عقيدة التقية هي شبهة تمنع الباحث من التصديق، وأولى ما يرجع إليه في هذا الشأن كتب الرجال المعتمدة عندهم.. ففي الفهرست للطوسي يتبين أن زرارة من أسرة نصرانية، إذ إن جده ¬
"سنسن" كان راهباً في بلاد الروم، وكان أبوه عبداً رومياً لرجل من بني شبيان" (¬1) . ويبدو تأثير زرارة في مذهب الشيعة أشبه بتأثير ابن سبأ، بل قال أبو عبد الله: "ما أحدث أحد في الإسلام ما أحدث زرارة من البدع عليه لعنة الله" (¬2) . وقال: ".. زرارة شر من اليهود والنصارى، ومن قال: إنّ مع الله ثالث ثلاثة" (¬3) . ونقل الكشي أن أبا عبد الله لعنه ثلاثاً (¬4) ، وقال: "إن الله نكس قلب زرارة.." (¬5) . وذكر روايات أخرى في ذمه. ولذلك كان زرارة - كما ينقل الكشي - يقول: "وأما جعفر فإن في قلبي عليه لفتة " وعلل لذلك راوي الخبر عن زرارة بقوله: "لأن أبا عبد الله أخرج مخازيه" (¬6) . وقد بلغ تطاول زرارة على أبي عبد الله - كما في رجال الكشي- أن كذبه في قوله (¬7) . وأساء في القول له (¬8) ، وكان يتعمد الكذب، ويصر على نسبته إليه، ففي رجال الكشي ".. عن محمد بن أبي عمير، قال: دخلت على أبي عبد الله - عليه السلام - فقال: كيف تركت زرارة؟ قلت: تركته لا يصلى العصر حتى تغيب الشمس فقال: فأنت رسولي إليه فقل له: فليصل في مواقيت أصحابي فإني قد حرقت. قال: فأبلغته ذلك فقال (يعني زرارة) : أنا والله أعلم أنك لم تكذب عليه، ¬
ولكن أمرني بشيء فأكره أن أدعه" (¬1) . فهو يزعم أن جعفر الصادق هو الذي أمره إلا يصلي العصر حتى تغيب الشمس!! وجعفر بريء من هذا الافتراء. فهذا هو زرارة كما تصفه كتب الشيعة نفسها، ومع ذلك يقول كبير شيوخهم في هذا العصر بأنه قد استفرغ الوسع والطاقة في البحث فلم يجد شيئاً في ذمه، فهل يخفى عليه ذلك أم أن في التقية متسعاً لأن يقول ما يشاء ولا أحد ينكر عليه؟! وكيف يذهب شيوخ الشيعة إلى توثيق زرارة مع هذا التجريح، وهذا التكفير واللعن الذي صدر عن "المعصوم" في اعتقادهم.. والذي يتفق في روايته الكشي، وشيخ الطائفة الطوسي (¬2) .؟ يجيب على ذلك شيخهم الحر العاملي فيقول: "روي أحاديث في ذمه (أي زرارة) ينبغي حملها على التقية، بل يتعين، وكذا ما ورد في حق أمثاله من أجلاء الإمامية" (¬3) ، ويحتجون لذلك بما يروونه عن محمد بن عبد الله بن زرارة وابنيه الحسن والحسين عن عبد الله بن زرارة، قال: قال لي أبو عبد الله (جعفر الصادق) : "اقرأ على والدك السلام وقل له: إنما أعيبك دفاعاً مني عنك، فإن الناس والعدو يسارعون إلى كل من قربناه وحمدنا مكانه، لإدخال الأذى فيمن نحبه ونقربه، فيذمونه لمحبتنا له وقربه ودنوه منا، ويرون إدخال الأذى عليه وقتله.." (¬4) . يحتجون بهذا ولا يلتفتون إلى أن رواية الابن مجروحة، لأنه يدافع عن أبيه، ¬
ثم لو كان ذلك الذم تقية لم يصل إلى هذا الحد من اللعن والتكفير، ثم إن جعفراً كان في عصره محل الإجلال والتكريم فكيف يهان من يحبه ويقربه؟، وإذا كانت التقية من جعفر للدفاع عن زرارة فلماذا يفتري زرارة عليه بأنه أمره ألا يصلي العصر إلا بعد غروب الشمس ويكذبه، ويسيء إليه، فهل في هذا تقية؟!، ولذلك حاول شيخهم أن يتخلص من روايات ذم زرارة في كتبهم بحمل قسم منها على التقية (¬1) . والتخلص من القسم الآخر في الطعن في سنده. وقد لحظت أن طعنه في بعض رجال تلك الروايات لا يستقيم مع ما جاء عنه في كتب الرجال عندهم فهو - مثلاً - قد ردّ روايات في ذم زرارة بحجة أن فيها جبرائيل بن أحمد هو - كما يقول - مجهول (¬2) ، في حين أنه ليس بمجهول عندهم، لأنه كما يقول الأردبيلي: كان مقيماً بكش كثير الرواية عن العلماء بالعراق وقم وخراسان (¬3) . ثم إنه قام بالطعن في روايات الذم فقط وأهمل النظر في روايات المدح وهذا تحيز ظاهر. ولكن شيوخهم يجرون هذا الحكم في كل رجل ذمه الأئمة وارتضى شيوخهم أخباره مثل أحمد بن محمد المروزي (¬4) ، وإسماعيل بن جابر الجعفي (¬5) ، وبريد بن معاوية العجلي (¬6) ، وحريز بن عبد الله السجستاني (¬7) . وغيرهم. ¬
أقسام الحديث عند الشيعة
ولاشك بأن أمر التقية في مثل هذه الحالات ليس بمؤكد، فكان أقل الأحوال أن يتوقف في هؤلاء، وإذا كان شيوخ الشيعة لم يقبلوا ما قيل في رواتهم من قبل أهل السنة، لأنهم خصوم - على حد زعمهم - فإنهم أيضاً لم يقبلوا ما ورد عن أئمتهم وادعو أنه صدر منهم مجاملة ومصانعة لأهل السنة.. فضاعت الحقيقة حينئذ، وقام مذهب الشيعة على أهواء الشيوخ، والرواة الكذبة. أقسام الحديث عند الشيعة: ومع تأخر التأليف عندهم في علم الرجال، واشتماله على ما لا يغني في بيان الحال، فإن القارئ لكتب الشيعة المتأخرة، كمرآة العقول للمجلسي، والمعاصرة مثل الشافي في شرح أصول الكافي، يجد أنهم يذكرون أحياناً أن هذا الحديث صحيح وذاك ضعيف، وإن كانوا لا يلتزمون هذا في الكثير من مصنفاتهم. وقد مرّ أن هذا مسلك طائفة من الاثني عشرية وهم الأصوليون. والعهد بالشيعة أنهم لا بصر لهم بهذه الأمور ولا معرفة لهم بهذا الشأن، وقد شنع عليهم أهل السنة لجهلهم بذلك، فمتى بدأ هذا التقسيم عند الشيعة وما سببه؟ لقد ظهر لي أثناء دراستي لعلم الجرح والتعديل عندهم أن تقسيم الحديث إلى صحيح، وحسن، وموثق، وضعيف (¬1) . قد جاء متأخراً جداً عندهم. ولعل ¬
هذه "القضية" تحتاج إلى شيء من التفصيل باعتبارها في نظري جديدة لم أر من نبه عليها من قبل فأقول: يلحظ أن بداية تقويم الشيعة للحديث وتقسيمه إلى صحيح وغيره، قد كانت في القرن السابع (مع أن بداية دراسة أحوال الرجال عندهم كانت في القرن الرابع- كما مر -) ، وجاءت متوافقة مع حملة شيخ الإسلام ابن تيمية عليهم في منهاج السنة حينما شنع على الشيعة قصورهم في معرفة علم الرجال، وقلة خبرتهم في ذلك، كما انبرى يكشف استدلالات الشيعة من كتب السنة ويبين جهلهم وكذبهم في هذا الباب حيث يستدلون بالضعيف والموضوع، وينقلون من المصادر غير المعتمدة. فهل الشيعة تنبهوا إلى ضعف هذا الجانب عندهم فاتجهوا إلى تمحيص أحاديثهم، أو إنهم رأوا أن تقليدهم لأهل السنة في هذا الباب فيه مجال للتخلص من إلزامات أهل السنة ونقدهم لما جاء في كتب الشيعة من كفر وضلال، فما أن يقول لهم السنيّ: لقد جاء في كتابكم الكافي مثلاً كذا وكذا من الكفر حتى يجد الشيعي الجواب حاضراً وميسوراً، حينما يحكم على الحديث الوضع وفي التقية
متسع..؟ إن التوافق الزمني بين رد شيخ الإسلام ووضعهم لهذا الاصطلاح قد ينبئ عن تأثيرهم بنقد شيخ الإسلام لهم، حيث اعترفوا بـ"أن هذا الاصطلاح (وهو من تقسيم الحديث عندهم إلى صحيح وموثق وضعيف) مستحدث في زمن العلامة" (¬1) . والعلامة إذا أطلق في كتب الشيعة يقصد به ابن المطهر الذي رد عليه شيخ الإسلام. بل هناك ما يؤكد الموضوع أكثر، وهو أن ابن المطهر الحلي هذا هو - كما يقول صاحب الوافي: "أول من اصطلح على ذلك وسلك هذا المسلك" (¬2) . إذن ألا يدل هذا على أن لابن تيمية، ومنهاج السنة أثرا في ذلك، وإن بدء ابن المطهر في وضع هذه المقاييس لشيعته إنما هو سبب النقد الموجه له من ابن تيمية؟ وقد اعترف شيخهم "الحر العاملي" بأن سبب وضع الشيعة لهذا الاصطلاح واتجاههم للعناية بالسند هو النقد الموجه لهم من أهل السنة فقال: "والفائدة في ذكره (أي السند) ... دفع تعيير (يعني أهل السنة) الشيعة بأن أحاديثهم غير معنعنة، بل منقولة من أصول قدمائهم" (¬3) . وكأن هذا النص الخطير يفيد - أيضاً - أن الإسناد عندهم غير موجود، وأن رواياتهم كانت بلا زمام ولا خطام حتى شنع الناس عليهم بذلك فاتجهوا حينئذ لذكر الإسناد. فالأسانيد التي نراها في رواياتهم هي صنعت فيما بعد وركبت على نصوص أخذت من أصول قدمائهم، ووضعت هذه الأسانيد لتوقي نقد أهل السنة، وقولهم بأن أسانيد الشيعة غير معنعنة. ولا يستبعد أن يقوم من ¬
يتولى صناعة تلك الأسانيد بوضع أسماء رجال لا مسمى لهم. وقد لحظت في دراستي لكتاب سليم بن قيس - أول كتاب ظهر لهم - أنهم يضعون روايات أو كتباً لأشخاص لا وجود لهم، حتى قال بعض شيوخهم وهو يعترف بأن كتاب سليم بن قيس موضوع عليه: "والحق أن هذا الكتاب موضوع لغرض صحيح نظير كتاب الحسنية، وطرائف بن طاوس، والرحلة المدرسية" (¬1) . وتبين لنا فيما سلف أن سليم بن قيس قد يكون اسماً لا مسمى له (¬2) . وقد رأيت صاحب الحور العين يقدم شهادة مهمة لأحد علماء الشيعة الزيدية في هذا الشأن حيث قال: قال السيد أبو طالب (¬3) : "إن كثيراً من أسانيد الاثني عشرية مبنية على أسام لا مسمى لها من الرجال، قال: وقد عرفت من رواتهم المكثرين من كان يستحل وضع الأسانيد للأخبار المنقطعة إذا وقعت إليه. وحكي عن بعضهم: أنه كان يجمع روايات بزرجمهر، وينسبها للأئمة بأسانيد يضعها، فقيل له في ذلك، فقال: ألحق الحكمة بأهلها" (¬4) . وقد ذكروا أن من رجالهم حيدر بن محمد بن نعيم السمرقندي قالوا بأنه: "روى جميع مصنفات الشيعة وأصولهم.. وروى ألف كتاب من كتب الشيعة" (¬5) ، ولو كان هذا واقعاً لانتشر ذكره في كتب الرجال والتاريخ ولكني لم أجد له أي ذكر أو إشارة. ومما يؤيد هذا وأنه لا سند لهم في الحقيقة النص التالي الذي جاء في أصح كتبهم، حيث قالوا: "إن مشايخنا رووا عن أبي جعفر وأبي عبد الله - عليهما السلام -، وكانت التقية شديدة فكتموا كتبهم ولم ترو عنهم، فلما ماتوا صارت ¬
الكتب إلينا". ولما سألوا إمامهم عن ذلك قال: "حدثوا بها فإنها حق" (¬1) ، فهذا اعتراف خطير بانقطاع أسانيدهم. ومن يضمن لهم ولا سيما في ظروف الخوف والتقية التي تشير إليها هذه الرواية، من يضمن أن لا تكون هذه الكتب التي صارت إليهم من وضع زنديق ملحد أراد إضلال الشيعة وإبعادهم عن "حظيرة" الجماعة بنسبة روايات تلك الكتب إلى بعض أهل البيت.. وليس هذا ببعيد.. ومما يثبت ذلك كثرة النصوص عندهم والتي تتناول أقدس ما عند المسلمين وهو كتاب الله سبحانه بالطعن مما لا يوجد عند طائفة من طوائف الضلال والكفر إلا عند هذه الطائفة. ويؤكد شيخهم الحر العاملي أن الاصطلاح الجديد (وهو تقسيم الحديث عندهم إلى صحيح وغيره) والذي وضعه ابن المطهر هو محاولة لتقليد أهل السنة حيث قال: "والاصطلاح الجديد موافق لاعتقاد العامة واصطلاحهم، بل هو مأخوذ من كتبهم كما هو ظاهر بالتتبع" (¬2) . وهذا يفيد تأخر الشيعة في الاهتمام بهذه القضية، وإن الدافع لذلك ليس هو الوصول إلى صحة الحديث بقدر ما هو توقي نقد المذهب من قبل الخصوم والدفاع عنه. ولذلك جاء علم الجرح والتعديل عندهم مليئاً بالتناقضات والاختلافات حتى قال شيخهم الفيض الكاشاني: "في الجرح والتعديل وشرايطهما اختلافات وتناقضات واشتباهات لا تكاد ترتفع بما تطمئن إليه النفوس كما لا يخفى إلى الخبير بها" (¬3) . وهذه الاعترافات الخطيرة من الكاشاني، والحر العاملي لم تظهر إلا في ظل الخلاف الذي دار ويدور بين الإخباريين والأصوليين.. والذي - كما نلاحظ - ¬
ارتفعت فيه التقية لاسيما وأن في الشيعة - كما يقول الكافي - خصلتين: "النزق (¬1) . وقلة الكتمان" (¬2) ، فجاءت هذه الإقرارات لتكشف أن "الإسناد" خصيصة من خصائص أهل السنة، وأن اتجاه الشيعة لذلك إنما هو من باب التقليد وصيانة المهذب من النقد.. وكان وضع هذا الاصطلاح على يد ابن المطهر الذي حظي بنقد قوي من شيخ الإسلام ابن تيمية مما يدل على أثر ذلك في الشيعة. وقد صار هذا الاصطلاح مثل عقيدة التقية يتسترون به على غلوهم، فإذا وجه إليه نقده ادعوا أن في رواياتهم الصحيح وغيره، كما تلحظ هذه الظاهرة في كتابات ثلة من شيوخهم المعاصرين. ومنهج التصحيح والتضعيف الذي وضعه المتأخرون إن طبقوه لم يبق لهم من حديثهم إلا القليل، كما كشف ذلك شيخهم يوسف البحراني المتوفى (1186هـ) حيث قال: "والواجب إما الأخذ بهذه الأخبار، كما هو عليه متقدمو علمائنا الأبرار، أو تحصيل دين غير هذا الدين، وشريعة أخرى غير هذه الشريعة، لنقصانها وعدم تمامها، لعدم الدليل على جملة من أحكامها، ولا أراهم يلتزمون شيئاً من الأمرين، مع أنه لا ثالث لهما في البين، وهذا بحمد الله ظاهر لكل ناظر، غير متعسف ولا مكابر" (¬3) . فهذا نص مهم يكشف أخبارهم في ضوء علم الجرح والتعديل الخاص بهم، وأنهم لو استخدموه بدقة لسقطت معظم رواياتهم.. وليس لهم إلا الأخذ برواياتهم بدون تفتيش، كما فعل قدماؤهم، وقبولها بأكاذيبها وأساطيرها، أو البحث عن مذهب سوى مذهب الشيعة، لأن مذهبهم ناقص لا يفي بمتطلبات الحياة. ¬
وإذا أخذنا هذا الاعتراف، ووضعناه مع إقرارهم الذي جاء في أخبارهم بأنهم كانوا لا يعرفون مناسك الحج والحلال والحرام حتى جاء أبو جعفر (¬1) ، وأنه في عهد أبي جعفر وابنه كثر الكذابون على الأئمة (¬2) .- تكاملت الصورة في أن معظم رواياتهم مكذوبة، ولو طبق علم الجرح والتعديل لانكشف أمرها بذلك وظلوا كما كانوا من قبل أبي جعفر لا يعرفون الكثير من أمور دينهم إلا عن طريق كتب المسلمين. ولكن يبدو أنهم لم يلتزموا بتطبيق هذه الأصول التي وضعوها. فتراهم مثلاً يحكمون بصحة كتاب نهج البلاغة، حتى قال أحد شيوخهم المعاصرين: "إن الشيعة على كثرة فرقهم واختلافها متفقون متسالمون على أن ما نهج البلاغة هو من كلام أمير المؤمنين - رضي الله عنه - اعتماداً على رواية الشريف ودرايته ووثاقته".. حتى كاد أن يكون إنكار نسبته إليه - رضي الله عنه - عندهم من إنكار الضروريات وجحد البديهيات اللهم إلا شاذاً منهم.. وأن جميع ما فيه من الخطب والكتب والوصايا والحكم والآداب حاله كحال ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم (¬3) . مع أن كتاب النهج مطعون في سنده ومتنه، فقد جمع بعد أمير المؤمنين بثلاثة قرون ونصف بلا سند، وقد نسبت الشيعة تأليف نهج البلاغة إلى الشريف الرضي (¬4) . وهو غير مقبول عند المحدثين لو أسند خصوصاً فيما يوافق بدعته فيكف إذا لم يسند كما فعل في النهج؟، وأما المتهم - عند المحدثين - بوضح النهج فهو أخوه علي (¬5) . قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأهل العلم يعلمون أن أكثر خطب هذا الكتاب مفتراه على علي، ولهذا لا يوجد غالبها في كتاب متقدم ¬
ولا لها إسناد معروف" (¬1) . كما أن علامات الوضع لنصوص الكتاب كثيرة ليس هذا موضع تفصليها (¬2) . والغرض هنا أن الشيعة يشترطون في الحكم بالصحة اتصال السند فأين اتصال السند هنا؟ ومن قديم كان شيوخهم لا يعملون بمقاييس الصحة والضعف التي وضعوها بأنفسهم. قال الحر العاملي عن شيخهم الطوسي إنه "يقول: هذا ضعيف، لأن روايه فلان ضعيف، ثم نراه يعلم برواية ذلك الرواي بعينه، بل برواية من هو أضعف منه في مواضع لا تحصى. وكثيراً ما يضعف الحديث بأنه مرسل ثم يستدل بالحديث المرسل، بل كثيراً ما يعمل بالمراسيل وبرواية الضعفاء، ويرد المسند ورواية الثقات" (¬3) . وإذا كان شيخهم البحراني المتوفى سنة (1186هـ) يقرر بأن تطبيق منهجهم في الجرح والتعديل (على ما فيه) يلغي الكثير من أحاديثهم - كما مر - فإن شيخهم الأردبيلي (¬4) . والمتوفى سنة (1101هـ) يؤلف كتابه جامع الرواة ويدعي دعوى في غاية الغرابة، حيث زعم - وهو في القرن الحادي عشر - أنه بتأليفه لكتابه المذكور تتغير أحكامه في اثني عشر ألف حديث عن الأئمة في العصور الأولى، تتغير من القول بضعفها أو إرسالها أو جهالتها إلى القول بصحتها، حيث قال: "بسبب نسختي هذه يمكن أن يصير قريباً من اثني عشر ألف حديث أو أكثر من الأخبار التي كانت بحسب المشهور بين علمائنا - رضوان الله عليهم - مجهولة أو ضعيفة أو مرسلة معلومة الحال وصحيحة لعناية الله تعالى، وتوجه - كذا - سيدنا محمد وآله الطاهرين" (¬5) . ¬
ويستدل بهذا القول صاحب فصل الخطاب على أنه لا مانع من أن تصبح أحاديث التحريف ضعيفة عند قدمائهم لعدم علمهم بطرق صحتها فتتحول عندهم إلى صحيحة (¬1) . ونجد شيخهم المجلسي في كتابه مرآه العقول يضعف جملة من أحاديث الكافي مع أنه يقول: فإننا لا نحتاج إلى سند لهذه الأصول الأربعة، وإذا أوردنا سنداً فليس إلا للتيمن والتبرك والاقتداء بسنة السلف (¬2) ، وهذا تناقض غريب. ولكن شيخهم هاشم معروف يرى "أن اتصاف هذا المقدار من مرويات الكافي بالضعف (¬3) . لا يعني عدم جواز الاعتماد عليها في أمور الدين، ذلك لأن وصف الرواية بالضعف من حيث سندها، لا يمنع من قوتها من ناحية ثانية كوجودها في أحد الأصول الأربعمائة، أو في بعض الكتب المعتبرة.. أو لكونها معمولاً بها عند العلماء وقد نص أكثر الفقهاء على أن الرواية الضعيفة إذا اشتهر العمل بها والاعتماد عليها تصبح كغيرها من الروايات الصحيحة، وربما تترجح عليها في مقام التعارض" (¬4) . ولهذا قال شيخهم الشعراني - كما مر - بأن أسانيد الكافي وإن كان أكثرها ضعيفاً فإن مضامينها صحيحة (¬5) . ويلحظ أن هذا مع ما قبله محاولة للتخلص من تطبيق مبادئ الجرح والتعديل التي وضعها لهم ابن المطهر في القرن السابع وانتهت بهم إلى سقوط كثير من رواياتهم، كما كشف ذلك شيخهم البحراني، فطفقوا يبحثون عما يسند رواياتهم بأي قرينة.. وإلا فما معنى وجودها في كتاب معتبر وهل هناك أكثر ¬
تقويم حال الأئمة الذين تدعي فيهم الشيعة كل تلك الدعاوى
اعتباراً عندهم من الكافي المعروض على مهديهم؟!، أمام قوله: "كوجودها في أحد الأصول الأربعمائة" (¬1) . فإن شيوخهم يقولون بأن الكتب الأربعة وغيرها من كتبهم المعتمدة كالخصال، والأمالي، ومدينة العلم.. منقولة من الأصول الأربعمائة (¬2) . فكيف يجعلون علامة صحة أخبارهم عن الأئمة في الكافي وجودها في أحد الأصول، والكافي برمته منقولة منها - كما يزعمون - أليس هذا تناقضاً؟!. تقويم حال الأئمة الذين تدعي فيهم الشيعة كل تلك الدعاوى: الملاحظ أن روايات الشيعة في كتبها كلها منسوبة إلى الأئمة الاثني عشر، ومعظمها مروي عن جعفر الصادق، وقليل منها (بل نادرٌ ولا يكاد يوجد إلا بكلفة) مروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل أشار شيخهم الحر العاملي إلى أنهم يتجنبون رواية ما يرفع إلى النبي خشية أن يكون من روايات أهل السنة (¬3) . إذن هذه الطائفة "لا تعتني بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعرفة صحيحه من سقيمه والبحث عن معانيه، ولا تعتني بآثار الصحابة والتابعين حتى تعرف مآخذهم ومسالكهم وترد ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول" (¬4) . بل عمدتها ما تزعم روايته عن بعض أهل البيت وليس كل أهل البيت، فقد رد الطوسي روايات زيد بن علي بن الحسين (¬5) . وكفر هؤلاء جملة من أهل البيت لا لشيء إلا لأنهم لم يصدقوا بدعوى إمامة الاثني عشر (¬6) . ويا ليتهم أخذوا بما يقوله أمير ¬
المؤمنين علي، أو قنعوا بمراسيل التابعين كعلي بن الحسين؛ بل يأتون إلى من تأخر زمانه كالعكسريين فيقولون: كل ما قاله واحد من أولئك فالنبي قد قاله. وكل من له عقل يعلم أن العسكريين بمنزلة أمثالهما ممن كان في زمانهما من الهاشميين ليس عندهم من العلم ما يمتازون به عن غيرهم، ويحتاج إليهم في أهل العلم، ولا كان أهل العلم يأخذون عنهم، كما يأخذون عن علماء زمانهم، وكما كان أهل العلم في زمن علي بن الحسين وابنه أبي جعفر وابن ابنه جعفر بن محمد، فأن هؤلاء الثلاثة - رضي الله عنهم - قد أخذ أهل العلم عنهم كما كانوا يأخذون عن أمثالهم بخلاف العسكريين ونحوهما فإنه لم يأخذ أهل العلم المعروفون بالعلم عنهم شيئاً. فيريدون أن يجعلوا ما قاله الواحد من هؤلاء هو قول الرسول الذي بعثه الله إلى جميع العالمين، بمنزلة القرآن والمتواتر من السنن، وهذا مما لا يبنى عليه دينه إلا من كان أبعد الناس من طريقة أهل العلم والإيمان (¬1) . وقد تحدث ابن حزم عن هذه الدعوى للروافض وقال: "وأما من بعد جعفر بن محمد فما عرفنا لهم علماً أصلاً، لا من رواية ولا من فتيا على قرب عهدهم منا، ولو كان عندهم من ذلك شيء لعرف كما عرف عن محمد بن علي وابنه جعفر وعن غيره منهم ممن حدث الناس عنه" (¬2) . وأما من قبل جعفر فلهم ما لنظرائهم من العلم والفضل. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: بأن من يدعي الروافض أن قوله كقول الله ورسوله: "منهم من كان خليفة راشداً تجب طاعته كطاعة الخلفاء قبله، وهو علي، ومنهم أئمة في العلم والدين يجب لهم ما يجب لنظرائهم من أئمة العلم والدين كعلي بن الحسين، وأبي جعفر الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، ومنهم دون ذلك" (¬3) . ثم فصل القول في من هم دون ذلك في موضع آخر؛ فذكر بأن موسى بن ¬
جعفر ليس له كثير رواية، وقد روى عن أبيه، وروى عنه أخوه علي، وروى له الترمذي وابن ماجه، وأما من بعد موسى فلم يؤخذ عنهم من العلم، وليس لهم رواية في الكتب الأمهات من الحديث، ولا فتاوى في الكتب المعروفة التي نقل فيها فتاوى السلف، ولا لهم تفسير ولا غيره، ولا لهم أقوال معروفة، ولكن لهم من الفضائل والمحاسن ما هم له أهل - رضي الله عنهم - (¬1) . فكأن شيخ الإسلام - رحمه الله - يستدرك على ابن حزم.. فيزيد موسى بن جعفر، ويبين أنه كان له رواية في كتب السنة، إلا أنها ليست كثيرة. وقد حدّد الذهبي رواياته في الكتب الستة فقال: له عند الترمذي وابن ماجه حديثان (¬2) . ولكن يلحظ أيضاً أن ابنه علي بن موسى الرضا؛ له رواية في سنن ابن ماجه، كما أشار إلى ذلك الذهبي، وابن حجر حيث رمزا له - عند ذكر ترجمته - بالقاف إشارة إلى ذلك (¬3) . وقد ذكر المزي بأنها رواية وحدة فقط (¬4) . وبالرجوع إلى سنن ابن ماجه تبين أن تلك الرواية جاءت من طريق أبي الصلت الهروي (¬5) . وهو ممن لا يحتج له، حتى قال فيه الدارقطني: "رافضي خبيث متهم بوضع حديث الإيمان في القلب" (¬6) . وهو الحديث الذي جاء في سنن ابن ماجه من طريق أبي الصلت عن علي بن موسى، ولذلك قال ابن السمعاني: إن الخلل في روايات علي الرضا من رواته، فإنه ما روى عنه إلا متروك (¬7) . وقال فيه ابن ¬
حجر: إنه صدوق والخلل ممن روى عنه (¬1) . ولعل هذا ما أشار إليه شيخ الإسلام حينما قال: "لم يأخذ عنه أحد من أهل العلم بالحديث شيئاً، ولا روى له حديثاً في كتب السنة، وإنما يروي له أبو الصلت الهروي وأمثاله نسخاً عن آبائه فيها من الأكاذيب ما نزه الله عنه الصادقين" (¬2) . وأما من بعد علي الرضا - وهو من يعده الاثنا عشرية إمامهم الثامن - فلم يؤثر عنهم في كتب السنة من العلم شيء، وحينما ادعى ابن المطهر الحلي أن الحسن العسكري (إمامهم الحادي عشر) قد "روت عنه العامة (يعني أهل السنة) كثيراً"؛ نفى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وقال: بأن ذلك من الدعاوى المجردة، والأكاذيب المثبتة، فإن العلماء المعروفين بالرواية الذين كانوا في زمن هذا الحسن بن عليّ العسكري ليست لهم عنه رواية مشهورة في كتب أهل العلم. وقال: "بأن شيوخ أهل كتب السنة (البخاري ومسلم وأبي داود والنسائي وابن ماجه) كانوا موجودين في ذلك الزمان وقريباً منه مثله وبعده، وقد جمع الحافظ أبو القاسم ابن عساكر أسماء شيوخ الكل - يعني شيوخ هؤلاء الأئمة -، فليس في هؤلاء الأئمة من روى عن الحسن بن علي العسكري مع ورايتهم عن ألوف مؤلفة من أهل الحديث، فكيف يقال: روت عنه العامة كثيراً، وأين هذه الروايات؟ " (¬3) . وقد رأيت الحافظ ابن حجر في ترجمة الحسن بن علي العسكري يذكر بأن ابن الجوزي ضعفه في الموضوعات (¬4) . فانظر الفرق بين هذا، وبين من يعد ¬
كلامه وحياً يوحى. وقد أثار ابن حزام على الشيعة ما ثبت تاريخياً من أن بعض أئمتهم المذكورين مات أبوه وهو ابن ثلاث سنوات، ثم قال: "فنسألهم من أين علم هذا الصغير جميع علومه الشريعة وقد تعذر تعليم أبيه له لصغره؟ فلم يبق إلا أن يدّعوا له الوحي فهذه نبوة وكفر صريح، وهم لا يبلغون إلى أن يدعوا له النبوة، وأن يدعوا له معجزة تصحيح قوله. فهذه دعوة باطلة، ماظهر منها قط شيء، أو يدّعوا له الإلهام فما يعجز أحد عن هذه الدعوى" (¬1) . وكأن ابن حزم يتنبأ بما ستضيفه الشيعة، أو هو يكشف شيئاً يتسترون عليه، فقد قالوا بالإلهام والوحي للإمام - كما سلف - وجاء في روايتهم ما يؤكد القول بإمامة الأطفال، ففي أصول الكافي "عن ابن بزيع قال: سألته يعني أبا جعفر - رضي الله عنه - عن شيء من أمر الإمام، فقلت: يكون ابن أقل من سبع سنين؟ فقال: نعم، وأقل من خمس سنين" (¬2) . وقالوا بأن الجواد كان إماماً وهو ابن خمس سنوات (¬3) ، وقد مضى احتجاجهم بروايات منسوبة لمنتظرهم وهو ابن ليلة واحدة. ويكفي مجرد تصور هذا لمعرفة مدى بطلان رواياتهم التي ينسبونها للأئمة، إذ قد علم بنص القرآن والسنة المتواترة وإجماع الأمة، أن مثل هذا يجب أن يكون تحت ولاية غيره في نفسه وماله، فتكون نفسه محضونة ومكفولة لمن يستحق كفالته الشرعية، وهو قبل السبع لا يؤمر بالصلاة، فإذا بلغ السبع أمر بها.. فكيف يكون مثل هذا إماماً معصوماً، قوله قول الله ورسوله؟، وهل يؤمن بهذا إلا من أعمى الله قلبه.. ¬
ولذلك اعترفت كتب الفرق عند الشيعة، بأن طوائف من الشيعة أنكروا إمامة الجواد لاستصغارهم لسنه، وقالوا: لا يجوز الإمام إلا بالغاً، ولو جاز أن يأمر الله عز وجل بطاعة غير بالغ لجاز أن يكلف الله غير بالغ، فكما لا يعقل أن يحتمل التكليف غير بالغ فكذلك لا يفهم القضاء بين الناس دقيقه وجليله وغامض الأحكام وشرائع الدين، وجميع ما أتى به النبي - صلى الله عليه وآله -، وما تحتاج إليه الأمة إلى يوم القيامة من أمر دينها ودنياها طفل غير بالغ (¬1) . وقد أدى بهم القول بإمامة طفل في حكم الحضانة.. إلى قبول رواية الكذابين الذين نسبوا لبعض الأئمة أقوالاً لم تصدر منهم، لأنهم لم يدركوهم إلا في مرحلة الطفولة. قال الممقاني في ترجمة المعلى بن خنيس: "إن المعلى قتل لأربع وثلاثين ومائة، والكاظم طفل لأنه ولد سنة 28 أو 29 ومائة، فعمره عند قتل المعلى ست أو سبع سنين" (¬2) . ولكنه يروي عن الكاظم والشيعة تقبل روايته. يقول الممقاني في توجيه ذلك: "وفيه أن صغرهم لا يمنع من علمهم بالأحكام، ألا ترى إلى إمامة الجواد وهو صغير فيمكن أن يكون المعلى سأل الكاظم وهو صغير فروى عنه" (¬3) . ثم إنهم فيما ينقلونه عن بعض علماء أهل البيت لا ينظرون في الإسناد إليهم هل ثبت النقل إليهم أم لا، فإنهم لا معرفة لهم بصناعة الحديث والإسناد (¬4) . فهم في حقيقة الأمر "ليس لهم أئمة يباشرونهم بالخطاب إلا شيوخهم الذين يأكلون أموالهم بالباطل ويصدونهم عن سبيل الله" (¬5) ، ولهذا وجدوا كتباً منسوبة لأوائلهم، ¬
مقطوعة الإسناد، بسبب الخوف من دولة الخلافة الإسلامية - كما يقولون - وقيل لهم اعملوا بها فإنها صادقة - كما مر -. وكان شيوخهم يقبلون بما جاء في هذه الكتب بلا تمحيص.. حتى إذا جاء القرن السابع بدأ ابن المطهر بتقسيم الحديث عندهم إلى صحيح وغيره. وفي القرن ألف أول كتاب عندهم في مصطلح الحديث.. وخالفهم في ذلك طائفة منهم وهم الإخبارون، الذين رفضوا ذلك وقالوا: إنه مجرد محاكاة وتقليد لأهل السنة.. وفضحوا أمر الشيعة في هذا الباب. وقد شهد طائفة من أعلام المسلمين بأن صناعة الكذب رائجة في الأوساط الشيعية، وأنهم يرون ذلك من الدين بحكم عقيدة التقية - كما سلف الإشارة إلى ذلك (¬1) .-، وقد بلغ التعصب المذهبي مداه حينما قبلوا روايات الكذابين، ومن أنكر إمامة بعض الأئمة.. لمجرد الانتساب للتشيع، وردوا روايات الصحابة الذين أثنى الله عليهم ورسوله.. وكانت مقاييسهم في توثيق الرجال في غاية العجب؛ فمن زعم أنه رأى المنتظر، أو أكثر من الافتراء على أهل البيت (¬2) . أو زعم أنهم ضمنوا له الجنة (¬3) . ¬
أو أنه كان يغلو فيهم (¬1) . فهو الثقة المأمون. فكيف يجعل الكذب أصلاً للتوثيق والتعديل.. وإذا تدبرت رجال السند على ضوء كتب الرجال عندهم رأيت أن كبارهم، والمكثرين من الرواية عندهم قد نالوا من ذم الأئمة، وحاق بهم لعنهم، وكان الأئمة يتبرؤون منهم ويكذبونهم.. وقد نقلت ذلك كتب الشيعة نفسها (¬2) . ولكن شيوخ الشيعة أعرضوا عن وصايا الأئمة وأقوالهم بلا مبرر إلا دعوى التقية التي هي في مثل هذا المقام كنسيج العنكبوت أو أوْهَى.. ومن بعد السند.. المتن.. فكثير من متون هذه الروايات كما رأينا في أبواب هذه الرسالة وفصولها.. وكما يظهر ذلك لمن راجع أصول الكافي، أو البحار، أو تفسير القمي، والعياشي، أو رجال الكشي - كثير من متونها هي معروف كذبها من الإسلام بالضرورة، لأنها تنال من كتاب ربنا، وتحارب سنة نبينا، وتكفر خير القرون ومن تبعهم بإحسان، وتقول بعقائدنا ليس لها في كتاب الله برهان.. فيكفي في الحكم على أحاديثهم؛ النظر في متونها "وكل متن يباين المعقول، أو يخالف المنقول، أو يناقض الأصول فاعلم أنه موضوع (¬3) . على الرسول". ¬
الفصل الثالث: عقيدتهم في الإجماع
الفصل الثالث: عقيدتهم في الإجماع الإجماع من أصول أهل السنة، وهو الأصل الثالث بعد الكتابة والسنة الذي يعتمد عليه في العلم والدين (¬1) ، ولذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فمن قال بالكتاب والسنة والإجماع كان من أهل السنة والجماعة" (¬2) . وأهل السنة يَزِنُون بهذه الأصول الثلاثة جميع ما عليه الناس من أقوال وأعمال.. مما تعلق بالدين (¬3) ، وسموا أهل الجماعة، لأن الجماعة هي الاجتماع وضدها الفرقة (¬4) . والإجماع الذي ينضبط هو ما كان عليه السلف الصالح، إذ بعدهم كثر الاختلاف وانتشرت الأمة (¬5) . والشيعة لا ترى إجماع الصحابة والسلف أو إجماع الأمة إجماعاً، ولها في هذا الباب عقائد مخالفة نذكرها فيما يلي: أولاً: الحجة في قول الإمام لا في الإجماع نقلت كتب الأصول عند أهل السنة أن الشيعة تقول: "إن الإجماع حجة لا لكونه إجماعاً، بل لاشتماله على قول الإمام المعصوم، وقوله بانفراده عندهم حجة" (¬6) . ¬
ونستطلع فيما يلي رأي الشيعة من مصادرها، يقول ابن المطهر الحلي: "الإجماع إنما هو حجة عندنا لاشتماله على قول المعصوم، فكل جماعة كثرت أو قلت كان قول الإمام في جملة أقوالها، فإجماعها حجة لأجله لا لأجل الإجماع" (¬1) . وبمثل هذا قال عدد من شيوخهم (¬2) . إذن الإجماع ليس حجة عندهم بدون وجود الإمام الذي يعتقدون عصمته، فمدار حجية الإجماع هو على قوله لا على نفس الإجماع، فهم في الحقيقة لم يقولوا بحجة الإجماع، وإنما قالوا بحجية قول المعصوم، ودعواهم الاحتجاج بالإجماع تسمية لا مسمى لها، فقول ابن المطهر: "الإجماع حجة عندنا" من لغو القول؛ إذ الأصل أن يقول: الإجماع ليس بحجة عندنا، لأن الحجة في قول الإمام المعصوم.. لأن هذا هو مقتضى مذهبهم، فهم جعلوا الإمام بمثابة النبي أو أعظم؛ فهو عندهم ينكت في أذنه، ويأتيه الملك، بل يرى خلقاً أعظم من جبرائيل وميكائيل، إلى آخر ما فصلنا القول فيه عنهم في معتقدهم في السنة، فهم ليسوا بحاجة للإجماع والإمام حاضر بينهم، كما أن الصحابة ليسوا بحاجة للإجماع والرسول حاضر بينهم. فعندهم في كل عصر نبي يسمى الإمام، والحجة في قوله لا في الإجماع، ولهذا قالوا: "ونحن لما ثبت عندنا بالأدلة العقلية والنقلية كما هو مستقصى في كتب أصحابنا الإمامية أن زمان التكليف لا يخلو من إمام معصوم حافظ للشرع يجب الرجوع إلى قوله فيه، فمتى اجتمعت الأمة على قول كان داخلاً في جملتها لأنه سيدها، والخطأ مأمون على قوله، فيكون ذلك الإجماع حجة. فحجية الإجماع عندنا إنما هو باعتبار كشفه عن الحجة التي هي قول المعصوم" (¬3) . والأرض لا تخلو من إمام، لأنه - كما يزعمون - "لو خلت الأرض من إمام ¬
لساخت" (¬1) ، ومعنى هذا استمرار تعطيل مبدأ الإجماع. وأنت إذا تأملت أقوالهم في الإجماع لا تكاد تلمس فرقاً بين مفهوم السنة عندهم، والإجماع إلا باللفظ فقط؛ لأن السنة قول المعصوم، والإجماع المعتبر عندهم هو الكاشف عن قول المعصوم. ولك أن تعجب لماذا يعدون الإجماع أصلاً يقررونه في كتبهم الأصولية. وهو اسم بلا مسمى حتى قرروا بأنه لا عبرة بأقوال ففقهائهم ولو بلغوا المائة، قالوا: "أما الإجماع فعندنا هو حجة بانضمام المعصوم، فلو خلا المائة من فقهائنا عن قوله لما كان حجة، ولو كان في اثنين لكان قولهما حجة، لا باعتبار اتفاقهما بل باعتبار قوله" (¬2) . فمعنى هذا أن الإجماع لغو لا فائدة في القول فيه أصلاً، وإنما نهاية أمرهم أنهم سموا السنة باسم الإجماع. ويبدو أن هذا الاعتراض أثير على الشيعة في عصور متقدمة، فقد نقل بعض شيوخ الشيعة عن الشريف المرتضى أنه قال: "إننا لسنا بادئين بالحكم بحجية الإجماع حتى يرد كونه لغواً، وإنما بدأ بذلك المخالفون، وعرضوه علينا، فلم نجد بداً من موافقتهم عليه.. فوافقناهم في أصل الحكم لكونه حقاً في نفسه، وإن خالفناهم في علته ودليله" (¬3) . أي: إنهم قلدوا لمجرد التقليد والمحاكاة. وقال صاحب قوامع الفضول أيضاً: "تنعدم فائدة الإجماع لو علم حال شخص الإمام خروجاً أو دخولاً (¬4) . أو حال قوله تقية أو نحوها، لكن الذي يسهل الخطب هو أن عقد باب الإجماع منهم دوننا كي يتجه علينا ذلك" (¬5) . ¬
ومادام أهل السنة اعتبروا هذا أصلاً، فلماذا تجارونهم وعقيدتكم في الإمام تناقض القول به أصلاً؟! ويقول محمد رضا المظفر: "إن الإجماع لا قيمة علمية له عند الإمامية ما لم يكشف عن قول المعصوم.. فإذا كشف على نحو القطع عن قوله فالحجة في الحقيقة هو المنكشف لا الكاشف، فيدخل حينئذ في السنة، ولا يكون دليلاً مستقلاً في مقابلها" (¬1) . ويقول رضا الصدر: "وأما الإجماع عندنا - معاشر الإمامية - فليس بحجة مستقلة تجاه السنة، بل يعد حاكياً لها، إذ منه يستكشف رأي المعصومين عليهم السلام" (¬2) . ويذكر شيخهم محمد جواد مغنية (وهو من شيخهم المعاصرين) : "أن ثمة تبايناً بين موقف متقدمي الشيعة وبين موقف متأخريهم في مسألة الإجماع، حيث اتفق المتقدمون (من الشيعة) على أن مصادر التشريع أربعة: الكتاب، والسنة، والإجماع، والعقل، وغالوا في الاعتماد على الإجماع حتى كادوا يجعلونه دليلاً على كل أصل وكل فرع، وعد المتأخرون لفظ الإجماع مع هذه المصادر ولكنهم أهملوه، بل لم يعتمدوا عليه إلا منضماً مع دليل آخر في أصل معتبر" (¬3) . ولكن هذا الكلام ليس على إطلاقه، إذ من المتأخرين من يعد الإجماع دليلاً مستقلاً" (¬4) . ¬
هذا وإمامهم انقطع ظهوره منذ القرن الثالث، فكيف الطريق للوصول لرأيه الكاشف عن حجية الإجماع؟ يرى شيخهم الحر العاملي ومن سلك سبيله من الإخباريين أن يتعذر الوصول لرأيه بعد غيبته، وبالتالي لا يثبت الإجماع، لأنه لا يمكن تحصيل العلم بدخوله فيهم ولا يظن به بعد غيبته، فلا يدرى في البر أم في البحر، في المغرب أم في المشرق (¬1) . بينما يذهب الأصوليون إلى ثبوت الإجماع، وإمكانية معرفة رأي الإمام. يقول شيخهم الهمداني في مصباح الفقيه: "إن المدار على حجية الإجماع على ما استقر عليه رأي المتأخرين ليس على اتفاق الكل، بل ولا على اتفاقهم في عصر واحد، بل على استكشاف رأي المعصوم بطريق الحدس (¬2) . من فتوى علماء الشيعة الحافظين للشريعة، وهذا مما يختلف باختلاف الموارد، فرب مسألة لا يحصل فيها الجزم بموافقة الإمام، وإن اتفقت فيها آراء جميع الأعلام.. ورب مسألة يحصل فيها الجزم بالموافقة ولو من الشهرة" (¬3) . ¬
فمن هنا يتبين أن الطريق - عندهم - لاكتشاف قول الإمام هو الحدس، فانظر كيف يجعلون اكتشاف قول المعصوم بطريق الحدس والظن هو العمدة، وإجماع السلف ليس بعمدة، إنها مفارقات في غاية الغرابة، واتفاق جميع أعلامهم لا يحصل به الجزم بموافقة الإمام، ومجرد الشهرة يحصل بها الجزم ولو لم يحصل اتفاق. إنها مقاييس مقلوبة، كما أنه اعتراف منهم بأن شيوخهم قد يتفقون على ضلالة. ومع إنكارهم حجية الإجماع في الحقيقة، فقد أثبتوا العمل بقول طائفة مجهولة وترك ما تقوله الطائفة المعروفة، وهذه من ثمار الشذوذ، وقد عللوا لهذا المسلك الشاذ بأن الإمام مع الطائفة المجهولة. يقول صاحب معالم الدين: "إذا اختلفت الإمامية على قولين، فإن كانت إحدى الطائفتين معلومة النسب ولم يكن الإمام أحدهم كان الحق مع الطائفة الأخرى، وإن لم تكن معلومة النسب.." (¬1) . حتى اعتبروا وجود هذه الطائفة المجهولة شرطاً لتحقق الإجماع في عصور الغيبة. قالوا: "الحق امتناع الاطلاع عادة على حصول الإجماع في زماننا هذا وما ضاهاه من غير جهة النقل، إذ لا سبيل إلى العلم بقول الإمام، كيف وهو موقوف على وجود المجتهدين المجهولين ليدخل في جملتهم ويكون قوله رضي الله عنه مستوراً بين أقوالهم، وهذا مقطوع بانتفائه، فكل إجماع يدعى في كلام الأصحاب مما يقرب من عصر الشيخ إلى زماننا، وليس مستنداً إلى نقل متواتر وآحاد حيث يعتبر أو مع القرائن المفيدة للعلم، فلابد أن يراد به ما ذكره الشهيد من الشهرة" (¬2) . العمدة عندهم قول الطائفة المجهولة، وهذا عزيز الوجود، فمنذ ما يقارب عصر شيخ طائفة الطوسي لم يطلع على مثل هذا، والإجماع الموجود هو الإجماع المنقول (¬3) . وكأنه ¬
قبل عصر الشيخ قد وجد مثل هذا الإجماع. وهؤلاء الذين يرفضون إجماع الصحابة، يبحثون عن قول طائفة مجهولة ليأخذوا به. ثم هم قد أصابوا في عدم الاعتداد بأقوال شيخهم وإن اتفقت كلمتهم، ولكنهم ضلوا في إعراضهم عما أجمع عليه الصحابة والسلف. وهم في وصولهم إلى ما يسمى "بالإجماع" عندهم، يتخبطون أيما تخطب حتى صارت إجماعاتهم المتعارضة كرواياتهم المتضاربة التي تلاحظها أثناء مراجعتك لكتاب الاستبصار أو البحار أو غيرهما، بل إن العالم الواحد تتضارب أقواله في دعوى الإجماع، انظر - مثلاً - ابن بابويه القمي صاحب "من لا يحضره الفقيه" أحد الكتب الأربعة التي عليها مدار العمل عندهم، قالوا إنه: ".. ليدعي الإجماع في مسألة ويدعي إجماعاً آخر على خلافها وهو كثير" (¬1) . حتى قال صاحب جامع المقال: "ومن هذه طريقته في دعوى الإجماع كيف يتم الاعتماد عليه والوثوق بنقله" (¬2) . بل إنهم يدعون الإجماع في أمر لا قائل به، يقول شيخهم النوري الطبرسي: "ربما يدعي الشيخ والسيد إجماع الإمامية على أمر وإن لم يظهر له قائل" (¬3) . كما ¬
ذكر شيخهم الطبرسي وأكد على وجود "الإجماعات المتعارضة من شخص واحد ومن معاصرين أو متقاربي العصر، ورجوع المدعي عن الفتوى التي ادعى الإجماع فيها ودعوى الإجماع في مسائل غير معنونة (كذا) في كلام من تقدم على المدعي، وفي مسائل قد اشتهر خلافها بعد المدعي، بل في زمانه، بل ما قبله" (¬1) . هذا قول الطبرسي وهو الخبير المتتبع لكتبهم، واضطر ليكشف هذا لنصرة مذهبه الذي ألف فصل الخطاب من أجله، ويرد دعوى الإجماع على خلافه فاستفدنا من هذا الاعتراف غير المقصود لذاته لنبين اضطرابهم في هذا الأصل، واضطرابهم في تحديده وفي تطبيقه. ثم إنهم - وهم يقولون بأن الإجماع وهو ما يكشف عن قول المعصوم - لا يطبقون هذا، بل يتتبعون اتفاق أصحابهم لا قول معصومهم. ولهذا قال صاحب معالم الدين حينما ذكر ما قاله أحد كبار شيوخهم من أن العمدة هو كلام المعصوم لا اتفاق الفقهاء بدونه، فقال: "والعجب من غفلة الأصحاب عن هذا الأصل وتساهلهم في دعوى الإجماع عند احتجاجهم به للمسائل الفقهية، حتى جعلوه عبارة عن مجرد اتفاق الجماعة من الأصحاب فعدلوا به عن معناه الذي جرى عليه الاصطلاح من غير قرينة جلية، ولا دليل على الحجية معتداً - كذا - به" (¬2) . فهم لا يقولون بالإجماع على الحقيقية، ومع ذلك يجعلونه من أصول أدلتهم، ويتناقضون في دعواه وتطبيقه أيما تناقض. والتناقض في القول دليل بطلانه. وحتى يتجلى لك الفرق جلياً بين مذهب أهل السنة في القول بحجية الإجماع، وبين مذهب الشيعة في ذلك، فلك أن تتصور أنه لو صدر من إمامهم محمد الجواد، والذي قالوا بإمامته وهو ابن خمس سنين (¬3) ، لو صدر منه وهو ¬
ثنايا: ما خالف العامة ففيه الرشاد
في هذا العمر قول أو رأي، أو نسب إليه عن طريق جماعة من الروافض أنه يقول في أمر شرعي بحكم، أو قول، وخالفته في ذلك الأمة الإسلامية جمعياً، فإن الحاجة في رأيه لا في إجماع الأمة" (¬1) . ولو أثر عن منتظرهم الذي قال التاريخ بأنه لا وجود له - كما سيأتي - قول، ولو عن طريق حكايات الرقاع، وخالفه في هذا القول أو ذلك الحكم المسلمون جميعاً، فإن القول هذا المعدوم الذي لم يوجد، ولا عبرة بقول المسلمين جميعاً. قال مفيدهم في تقرير هذا: "فلو قال (يعني الإمام) قولاً لم يوافقه عليه أحد من الأنام لكان كافيًا في الحجة والبرهان" (¬2) . وهذا مذهب في غاية البطلان لا يحتاج إلى مناقشة. ولهذا قرر المفيد أن هذا مما شذت به طائفته، فقال: "وهذا مذهب أهل الإمامة خاصة، ويخالفهم فيه المعتزلة والمرجئة والخوارج وأصحاب الحديث.." (¬3) . ثناياً: ما خالف العامة ففيه الرشاد الإجماع عند جمهور المسلمين ينظر فيه إلى إجماع الأمة، لأن الأمة لا يمكن أن تجتمع على ضلالة. قال تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (¬4) . ¬
وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهو ظاهرون على الناس" (¬1) . وروي عنه صلى الله عليه وسلم عدة روايات في أن هذه الأمة "لا تجتمع على ضلالة" (¬2) . ¬
هذا بالنسبة لجمهور المسلمين، أما طائفة الشيعة فالنظر عندهم في الإجماع إلى الإمام لا إلى الأمة، والاعتبار بمن دان بإمامة الاثني عشر بشرط أن يكون من ضمنهم الإمام، أو يكون إجماعهم كاشفا عن قول الإمام - كما قدمنا - ولا يلتفت إلى اتفاق العلماء المجتهدين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم. بل الأمر أعظم من عدم اعتبار إجماعهم، حيث تعدى ذلك إلى القول بأن مخالفة إجماع المسلمين فيه الرشاد، وصار مبدأ المخالفة أصلاً من أصول الترجيح عندهم، وأساساً من أسس مذهبهم، وجاءت عندهم نصوص كثيرة تؤكد هذا المبدأ وتدعو إليه. ففي أصول الكافي سؤال أحد أئمتهم يقول: إذا ".. وجدنا أحد الخبرين موافقاً للعامة (يعني أهل السنة) والآخر مخالفاً لهم بأي الخبرين يؤخذ؟ فقال: ما خالف العامة ففيه الرشاد، فقلت (القائل هو الراوي) : جعلت فداك، فإن وافقها الخبران جميعاً؟ قال: ينظر إلى ما هم إليه أميل حكامهم وقضاتها فيترك ويؤخذ بالآخر، قلت: فإن وافق حكامهم الخبرين جميعاً؟ قال: إذا كان ذلك فارجئه حتى تلقى إمامك، فإن الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات" (¬1) . ¬
وذكر ثقتهم الكليني أن من وجوه التمييز عند اختلاف رواياتهم قول إمامهم: "دعوا ما وافق القوم فإن الرشد في خلافهم" (¬1) . وقال أبو عبد الله - كما يفترون -: "إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فخذوا بما يخالف القوم" (¬2) . وعن الحسن بن الجهم قال: قلت للعبد الصالح (¬3) .- رضي الله عنه -: "هل يسعنا فيما ورد علينا منكم إلا التسليم لكم؟ فقال: لا والله لا يسعكم إلا التسليم لنا، فقلت: فيروى عن أبي عبد الله شيء، ويروى عنه خلافه فأيهما نأخذ؟ فقال: خذ بما خالف القوم (إشارة لأهل السنة) وما وافق القوم فاجتنبه" (¬4) . ويعللون الأخذ بهذا المبدأ بما يرويه أبو بصير عن أبي عبد الله قال: "ما أنتم والله على شيء مما هم فيه، ولا هم على شيء مما أنتم فيه، فخالفوهم فما هم من الحنيفية على شيء" (¬5) . ويغرر هؤلاء الزنادقة الذين يبغون في الأمة الفرقة والخلاف، بأولئك الأتباع الجهال الذين تعطلت ملكة التفكير عندهم بعدما شحنت نفوسهم بما يسمى "محن آل البيت" و"خدرت" عقولهم بما يقال لهم من ثواب كبير ينتظرهم بمجرد حب آل البيت، غرر هؤلاء الزنادقة بأولئك الأتباع فقالوا: إن الأصل في هذا المبدأ "أن علياً - رضي الله عنه - لم يكن يدين الله بدين إلا خالف - كذا - عليه الأمة إلى غيره إرادة لإبطال أمره، وكانوا يسألون أمير المؤمنين عن الشيء الذي لا ¬
يعلمونه، فإذا أفتاهم جعلوا له - كذا - من عندهم ليلتبسوا - كذا - على الناس" (¬1) . مع أنهم يقولون بأن عمر كان يستشيره في كل صغيرة وكبيرة، ويأخذ بقوله ويعمل بفتواه، وأن الصحابة كانت ترجع إليه في مشكلاتهم (¬2) ، وأن عمر قال: لا عشت في أمة لست لها يا أبا الحسن (¬3) . لا عشت لمعضلة لا يكون لها أبا الحسن (¬4) . فأي القولين نأخذ به ونصدقه؟ ولكن هذا هو دأب هؤلاء الوضّاع التناقض، وهذه ثمار الكذب. كما يوصون أتباعهم بالوصية التالية والتي تعمق الخلاف وتضمن استمراره، وتكفل لهذه الفئة العزلة عن جماعة المسلمين وإجماعهم: عن علي ابن أسباط قال: قلت للرضا - رضي الله عنه -: يحدث الأمر لا أجد بدّاً من معرفته، وليس في البلد الذي أنا فيه أحد أستفتيه من مواليك، قال: ائت فقيه البلد، فاستفته عن أمرك، فإذا أفتاك بشيء فخذ بخلافه، فإن الحق فيه" (¬5) . وعلق على هذا النص أحد شيوخهم، فقال: "من جملة نعماء الله على هذه الطائفة المحقة أنه خلى بين الشيطان وبين علماء العامة، فأضلهم في جميع المسائل النظرية حتى يكون الأخذ بخلافهم ضابطة لنا، ونظيره ما ورد في حق النساء شاوروهن وخالفوهن" (¬6) . هذه النصوص في منتهى الخطورة، وهي من وضع زنديق ملحد أراد الكيد ¬
الجانب النقدي لهذه المقالة
للأمة ودينها، وأراد أن يفتح للقوم باباً واسعاً للخروج من الإسلام، حيث يتجهون إلى مخالفة كل أمر من الدين عليه أمة الإسلام. وكيف يدعو قوم هذه عقائدهم إلى التقريب؟! وكيف يزعمون إمكانية اللقاء مع أهل السنة الذين يكون الرشد في خلافهم؟! الجانب النقدي لهذه المقالة: بالإضافة إلى ما ألمحنا إليه في أثناء العرض نوضح هذه المسألة أكثر، فأقول: أما ثبوت حجية الإجماع، فقد تكفلت كتب الأصول ببيانه، والاستدلال عليه بما يغني ويكفي. والشيعة تقر بالإجماع اسماً، وتخالفه في الحقيقة - كما سلف -. وقد نقل شخيهم المعاصر مغنية اتفاق شيعته القدماء على القول بالإجماع، وأن المتأخرين عدوه من أصول أدلتهم، ولكن لم يعتمدوا عليه (¬1) ، وهذا يعني أنهم خالفوا الإجماع الذي عدوه من أصول أدلتهم، أو أن قدماء الشيعة قد أجمعوا على ضلالة، أو أن متأخريهم خالفوا الحق الذي أجمع عليه متقدموهم.. والحقيقة أن مآل الجميع إلى الإنكار، وإن كثر ادعاء بعضهم في هذا الباب لاسيما في كتب الأصول عندهم، ذلك أن دعوى الإجماع عند التمحيص مجرد لغو لا حقيقة له. ولكن بالإضافة إلى ذلك، فإن حيرتهم في الوصول إلى هذا الإجماع الذي يدعونه برهان جلي يدل على أنهم ليسوا على شيء، ومن أوضح الأمثلة على ذلك اشتراطهم وجود عالم مجهول النسب لتحقق الإجماع على اعتبار أن يكون هو الإمام الغائب، وقد اعتبر شيخ الإسلام ابن تيمية ذلك من أعظم الجهل، حيث قال: "رأيت في كتب شيوخهم أنهم إذا اختلفوا في مسألة على قولين، وكان أحد القولين يعرف قائله، والآخر لا يعرف قائله، فالصواب عندهم القول الذي لا ¬
يعرف قائله. قالوا: لأن قائله إذا لم يعرف كان من أقوال المعصوم، فهل هذا إلا من أعظم الجهل". وتعجب كيف يجعلون عدم العلم بالقول وصحته، دليلاً على صحته، وقال: "من أين يعرف أن القول الآخر الذي لم يعرف قائله إنما قاله المعصوم؟ ولم لا يجوز أن يكون المعصوم قد وافق القول الذي يعرف قائله، وأن القول الآخر قد قاله من لا يدري ما يقول، بل قاله شيطان من شياطين الجن والإنس؟ فهم أثبتوا الجهل بالجهل، حيث جعلوا عدم العلم بالقائل دليلاً على أنه قول المعصوم. وهذه حال من أعرض عن نور السنة التي بعث الله بها رسوله، فإنه يقع في ظلمات البدع، ظلمات بعضها فوق بعض" (¬1) . وقد انتقدهم شيخهم الحر العالي "صاحب الوسائل" على هذا المسلك (¬2) ، فقال: "وقولهم باشتراط دخول مجهول النسب فيهم أعجب وأغرب، وأي دليل دل عليه؟ وكيف يحصل مع ذلك العلم بكونه هو المعصوم أو الظن به" (¬3) . وأمر آخر لا يقل عن هذا، وهو كيف يجعل قول طفل عمره خمس سنين لم يخرج عن طور الحضانة بمنزلة إجماع الأمة بأسرها، بل يرفض إجماع الأمة ويؤخذ بقول صبي أو معدوم؟! هذا في غاية الفساد. وإذا بحثت عن إجماعهم (الاسمي) الذي يكشف عن رأي المعصوم - كما يزعمون - لم تجد إلا روايات يعارض بعضها بعضاً، كما ترى ذلك في روايات التهذيب والاستبصار. وقد صرح به شيخ الطائفة في مقدمة التهذيب، وذكر أن هذا من أسباب خروج الكثير من التشيع - كما مر - (¬4) . ¬
ثم يلحظ أن أهم مسألة عند الشيعة وهي مسألة الإمام قد تضاربت في تعيينه فرق الشيعة، واختلفت مذاهبهم، واضطربت اتجاهاتهم حوله بشكل كبير، كما حفلت ببيانه وتفصيله كتب المقالات عند الفريقين، فأين تحقق الإجماع وأصل المذهب تنخر فيه الاختلافات، وتدور في شانه المنازعات؟ وترى كذلك أن دعوى الإجماع عندهم متعارضة متضاربة. وما انفردت به الشيعة عن الجماعة وادعت الإجماع عليه هي أقوال في غاية الفساد سواء في الأصول أو الفروع، كإيمانهم بذلك المنتظر الذي لم يولد، ومبالغاتهم في أوصاف الإمام ومعجزاته، وإلى آخر ما شذوا به مما سيأتي بسطه وبيانه. بل قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "الشيعة ليس لهم قول واحد يتفقون عليه" (¬1) . وهذا حق اعترفت به الشيعة نفسها، حيث جاء في أصول الكافي: "عن زرارة بن أعين عن أبي جعفر - رضي الله عنه - قال: سألته عن مسألة فأجابني، ثم جاءه رجل فسأله عنها، فأجابه بخلاف ما أجابني، ثم جاءه رجل آخر فأجابه بخلاف ما أجابني وأجاب صاحبي، فلما خرج الرجلان قلت: يا ابن رسول الله، رجلان من أهل العراق من شيعتكم قدما يسألان فأجبت كل واحد منهما بغير ما أجبت به صاحبه؟ فقال: يا زرارة، إن هذا خير لنا ولكم، ولو اجتمعتم على أمر واحد لصدقكم الناس علينا، ولكان أقلّ لبقائنا وبقائكم" (¬2) . فهذا يؤكد أن من أصول مذهبهم بحكم عقيدة التقية اختلاف أقوالهم وتباين آرائهم، حتى لا يقف - بزعمهم - الأعداء على حقيقة مذهبهم، فكان من أثر ذلك أن ضاع المذهب، ولم يعرف حقيقة رأي الأئمة، فكيف يمكن تحقق الإجماع على قول أو حكم في ظل هذا الاختلاف والاضطراب؟! والإمام أبو جعفر بريء من هذا، لكن هذا من اختراع الزنادقة حتى ¬
لا يعرف الشيعة رأي أبي جعفر وغيره من علماء آل البيت ليتسنى لهم نشر كفرهم وغلوهم، وكلما كذب هذا الغلو أئمة أهل البيت قالوا: هذا تقية. قال علامة الهند صاحب التحفة الاثني عشرية: وأما الإجماع فدعواهم أنه من أدلتهم باطل، لأنه كونه حجة ليس بالأصالة، بل لكون قول المعصوم في ضمنه، فمدار حجيته على قول المعصوم لا على نفس الإجماع. وهم ينازعون في ثبوت عصمة الإمام، كما ينازعون في تعيينه. وأيضاً إجماع الصدر الأول - يعني قبل حدوث الاختلاف في الأمة - غير معتبر عندهم، لأنهم أجمعوا على خلافة أبي بكر وعمر.. ومنع ميراث النبي صلى الله عليه وسلم وحرمة المتعة، وهذا باطل في نظرهم، فإذا كان هذا الإجماع غير معتبر عندهم فبعد حدوث الاختلاف في الأمة وتفرقهم بفرق مختلفة كيف يتصور الإجماع، ولاسيما في المسائل الخلافية المحتاجة إلى الاستدلال وإقامة الحجة القاطعة. ثم أشار صاحب التحفة إلى صور من التناقض عندهم، حيث إن بعضهم نقل إجماع فرقتهم على أمر وكذبهم وأنكر عليهم بذلك الآخرون منهم. وأن شيخهم (الشهيد الثاني) وهو من أجلة علمائهم قد أفرد فصلاً مستقلا ًفي أن شيخ الطائفة قد ادعى في مواضع إجماع الفرقة مع أنه قال هو بخلافه في مواضع أخر (¬1) . ثم نقل صاحب التحفة نص كلامه (¬2) . وأقول: إن مذهبهم بأن الإجماع حجة من جهة كشفه عن رأي المعصوم ¬
فقط لا من جهة أن الأمة لا تجتمع على ضلالة، كما عليه أهل السنة، فوق أن هذا إنكار للإجماع على الحقيقة، فإن في ذلك مخالفة للحديث الثابت عندهم وهو: "لا تجتمع أمتي على ضلالة" (¬1) . كما أن هذا الحديث أيضاً ورد من طرق أهل السنة كما سبق تخريجه" (¬2) . فلماذا لا يؤخذ بهذا النص الذي يستدل به كل الفريقين، وليس ذلك فحسب بل قد ورد أيضاً في الاحتجاج - وهو من كتبهم المعتمدة كما قرر ذلك المجلسي وغيره - رواية عن أبي الحسن علي بن محمد العسكري - رضي الله عنه - في حديث طويل قال: "واجتمعت الأمة قاطبة لا اختلاف بينهم في ذلك على أن القرآن حق لا ريب فيه عند جميع فرقها، فهم في حالة الاجتماع عليه مصيبون وعلى تصديق ما أنزل الله مهتدون لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تجتمع أمتي على الضلالة" فأخبر أن ما أجمعت عليه الأمة، ولم يخالف بعضها بعضاً هو الحق، فهذا معنى الحديث، لا ما تأوله الجاهلون، ولا ما قاله المعاندون من إبطال حكم الكتاب، واتباع حكم الأحاديث المزورة، والروايات المزخرفة، واتباع الأهواء المردية المهلكة التي تخالف نص الكتاب، وتحقيق الآيات الواضحات النيرات.." (¬3) . فأنت ترى في هذا النص إمامهم لم يقل: انظروا إلى ما اتفق عليه الجماعة التي فيها المعصوم، ودعوا رأي الجماعة الأخرى، ولم يقل: ابحثوا عن الجماعة أو الشخص المجهول النسب، فقد يكون المنتظر من ضمن تلك الجماعة، أو يكون هو نفسا المجهول النسب، بل قال: بأن ما أجتمعت عليه الأمة ولم يخالف بعضها بعضاً هو الحق، وبين أن أساس إصابة الحق هو الاعتماد على الكتاب والسنة، وأن إصابة الحق في حالة الإجماع محققة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تجتمع أمتي على ¬
ضلالة" وهذا الحديث هو أحد حجج جمهور المسلمين في إثبات حجية الإجماع. وحذر من اتباع غير ذلك من الروايات المكذوبة. فلماذا تشذ هذه الطائفة، وتأخذ بتلك الروايات المكذوبة، وتدع قول إمامهم، وتفارق الأمة، وتنبذ إجماعها، وتأخذ برأي طفل صغير أو معدوم، وتدع ما أجمع عليه أمة الإسلام، كل ذلك لأن زنديقاً وضع لها أصلاً يقول بأن ما خالف العامة فيه الرشاد "فجمعوا مخالفة أهل السنة والجماعة الذين هم على ما كان عليه الرسول وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين أصلاً للنجاة، فصار كلما فعل أهل السنة شيئاً تركوه، وإن تركوا شيئاً فعلوه، فخرجوا بذلك عن الدين رأساً، وذلك هو الضلال المبين باليقين" (¬1) . والله سبحانه وتعالى يقول: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (¬2) . ولو كان هذا الأصل؛ أعني قولهم: ما خالف العامة - أي أهل السنة - فيه الرشاد، لو كان هذا من عند الأئمة كما تزعم هذه الزمة لكان الأئمة أسبق الناس إلى تطبيقه على أنفسهم، والواقع الذي يوافقنا شيوخ الشيعة عليه أن علياً - رضي الله عنه - لم يشذ عن الصحابة، بل إنه كما يقول شيخهم الشريف المرتضى: "دخل في آرائهم، وصلى مقتدياً بهم، وأخذ عطيتهم، ونكح سبيهم، وأنكحهم، ودخل في الشورى" (¬3) . وغير ذلك. ولم يذهب إلى مخالفتهم في شيء مما أجمعوا عليه، وكان رضي الله عنه يكره الاختلاف، كما روى البخاري عن علي - رضي الله عنه - قال: "اقضوا كما كنتم تقضون، فإني أكره الاختلاف حتى يكون الناس جماعة" (¬4) . قال ابن حجر: قوله: "فإني أكره الاختلاف" أي: الذي يؤدي إلى النزاع. ¬
قال ابن التين: يعني مخالفة أبي بكر وعمر، وقال غيره: المراد المخالفة التي تؤدي إلى النزاع والفتنة، ويؤيده قوله بعد ذلك "حتى يكون الناس جماعة" (¬1) . وكل ما ينفرد به الشيعة وتشذ به ليس من "هدي" علي - رضي الله عنه - وكان علي - رضي الله عنه - مع الأمة في إجماعها، لأن فيه الرشاد، لا في مخالفتهم كما تدعيه هذه الزمرة الحاقدة على الأمة، والتي تبغي فيها الفرقة والشتات، ولهذا لم نجد إجابة عن موافقة علي - رضي الله عنه - للأمة إلا بدعوى التقية، أي نفاق عليّ للصحابة - برأه الله مما يفترون - وهي دعوى تتناقض مع العقل والتاريخ، فضلاً عن الشرع والدين. فلم يستطع شيوخ الشيعة - كما ترى - أن يثبتوا على علي تطبيقه لهذا الأصل المفترى، بل أقروا بموافقته للأمة على لسان شيخهم الشريف المترضى، وحتى إبّان خلافته، وامتلاكه لزمام الأمور والتي تنتفي معها "التقية" لم يقدروا على إنكار موافقته للأمة. يقول شيخهم نعمة الله الجزائري: "ولما جلس أمير المؤمنين - عليه السلام - على سرير الخلافة لم يتمكن من إظهار ذلك القرآن وإخفاء هذا؛ لما فيه من إظهار الشنعة على من سبقه، كما لم يقدر على النهي عن صلاة الضحى، وكما لم يقدر على إجراء المتعتين متعة الحج ومتعة النساء.. وكما لم يقدر على عزل شريح عن القضاء، ومعاوية عن الإمارة" (¬2) . فثبت بنقل الفريقين أن أمير المؤمنين لم يفارق إجماع الأمة، وأن الإمامية قد خالفت سريته حينما وضعت لنفسها مبدأ مخالفة الأمة، فليست له بشيعة، وليس لها بإمام. ¬
الجزء 2
الباب الثاني: عقيدتهم في أصول الدين وفيه أربعة فصول: الفصل الأول: عقيدتهم في توحيد الألوهية. الفصل الثاني: عقيدتهم في توحيد الربوبية. الفصل الثالث: عقيدتهم في أسماء الله وصفاته. الفصل الرابع: عقيدتهم في الإيمان وأركانه.
الفصل الأول: عقيدتهم في توحيد الألوهية
الفصل الأول: عقيدتهم في توحيد الألوهية والمقصود بتوحيد الألوهيّة: إفراد الله تعالى بالعبادة؛ لأنّه سبحانه المستحقّ أن يُعبد وحده لا شريك له، وإخلاص العبادة له، وعدم صرف أي نوع من أنواع العبادة لغيره (¬1) . وهذا التوحيد هو الذي دعت الرسل إليه؛ لأن إقرار أقوامهم بتوحيد الربوبية معلوم، كما أخبر الله - عز وجل - عن أنبيائه نوح، وهود، وصالح، وشعيب أنهم قالوا لقومهم: {اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (¬2) ، وأخبر سبحانه أن هذه دعوة الرسل عامة، فقال جل شأنه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} (¬3) . وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (¬4) . وهو أصل النّجاة، وأساس قبول العبادات: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} (¬5) . فهل حافظت الشيعة على هذا الأصل الأصيل، والركن المتين، أو أن اعتقادها في الأئمة قد أثر على عقيدتها في توحيد الله سبحانه؟ هذا ما سنتناوله بالحديث فيما يلي، حيث سأعرض لسبعة مباحث - إن شاء الله -. ¬
أولها: اعتقادهم أن نصوص القرآن الواردة في أعظم أصل من أصول الدين، والذي وقع فيه الضلال في العالمين، وهو توحيد العبادة، اعتقادهم أن الغاية منه تقرير ولاية عليّ والأئمة وعدم إشراك أحد معهم في الإمامة. والمبحث الثاني: اعتقادهم أن أصل قبول الأعمال هو الإيمان بإمامة الاثني عشر وولايتهم وليس توحيد الله عز وجل. والمبحث الثالث: اعتقادهم أن الأئمة هم الواسطة بين الله والخلق، حتى صاروا يعبدونهم ويدعونهم رغبًا ورهبًا. والمبحث الرابع: اعتقادهم أن للأئمة حق التشريع والتحليل والتحريم. والمبحث الخامس: اعتقادهم أن تراب قبر الحسين شفاء من كل داء، وأمان من كل خوف. والمبحث السادس: دعاؤهم بالطلاسم والرموز لكشف البلايا ورفع الملمات، واستعانتهم بالمجهول لطلب الهداية. والمبحث السابع: استخارتهم بما يشبه رقاع الجاهلية (¬1) . ¬
المبحث الأول: نصوص التوحيد جعلوها في ولاية الأئمة
المبحث الأول: نصوص التوحيد جعلوها في ولاية الأئمة فأول ما نفاجأ به أن نصوص القرآن التي تأمر بعبادة الله وحده، غيروا معناها إلى الإيمان بإمامة علي والأئمة، والنصوص التي تنهى عن الشرك جعلوا المقصود بها الشرك في ولاية الأئمة. أـ ففي قوله سبحانه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} (¬1) . جاء في الكافي (¬2) . - أصح كتاب عندهم في الرواية - وفي تفسير القمي (¬3) . - عمدة تفاسيرهم - وفي غيرهما من مصادرهم المعتمدة (¬4) . تفسيرها بما يلي: "يعني إن أشركت في الولاية غيره" (¬5) ، وفي لفظ آخر: "لئن أمرت بولاية أحد مع ولاية علي من بعدك ليحبطن عملك" (¬6) . وقد ساق صاحب البرهان في تفسير القرآن أربع روايات لهم في تفسير الآية السابقة بالمعنى المذكور (¬7) . وقد جاء في سبب نزولها عندهم: " ... إن الله عز وجل حيث أوحى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقيم عليًا للناس علمًا اندس إليه معاذ بن جبل فقال: أشرك في ولايته الأول والثاني (يعنون أبا بكر وعمر) حتى يسكن الناس إلى قولك ¬
ويصدقوك، فلما أنزل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} (¬1) . شكا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جبرائيل فقال: إن الناس يكذبوني ولا يقبلون مني، فأنزل الله عز وجل: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (¬2) . وحتى يدرك القارئ مدى تحريفهم لآيات الله، وتآمرهم لتغيير دين الإسلام بتغيير أصله العظيم وهو التوحيد، نسوق الآية وما قبلها وما بعدها، ونتبع ذلك ببيان معناها. قال تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ، وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ، بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ} . فالآية كما هو واضح من سياقها تتعلق بتوحيد الله في عبادته، فهم غيروا الأمر فاعتبروا الآية متعلقة بعلي، مع أنه ليس له ذكر في الآية أصلاً، فكأنهم جعلوه هو المعبر عنه بلفظ الجلالة (الله) وجعلوا "العبادة" هي الولاية. والآية واضحة المعنى بينة الدلالة، ليس بين معناها وتأويلهم المذكور أدنى صلة. قال أهل العلم في تفسيرها: إن الله سبحانه أمر نبيه أن يقول هذا للمشركين لما دعوه إلى ما هم عليه من عبادة الأصنام، وقالوا: هو دين آبائك (¬3) . والمعنى: قل يا محمد لمشركي قومك، أتأمرونني بعبادة غير الله أيها الجاهلون بالله ولا تصلح العبادة لشي سواه سبحانه. ولما كان الأمر بعبادة غير الله لا يصدر إلا من غبي جاهل ناداهم بالوصف المقتضي ذلك فقال: {أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} . ثم بين سبحانه أنه قد أوحى إلى نبيه وإلى الرسل من ¬
قبله: لئن أشركت بالله ليبطلن عملك. وهذا في بيان خطر الشرك وشناعته، وكونه بحيث ينهى عنه من لا يكاد يباشره فكيف بمن عداه؟ ثم قال سبحانه: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ} لا تعبد ما أمرك به المشركون بل اعبد الله وحده دون كل ما سواه من الآلهة والأوثان (¬1) . فالمعنى كما ترى واضح جلي، لا يلتبس إلا على صاح هوى مغرض، قد أعماه هواه عن رؤية الحق، فهذه الزمرة التي وضعت هذه الروايات كان جل همها، وغاية قصدها البحث عن سند لدعواهم في الإمامة، فكانت تخبط في هذا الأمر خبط عشواء، لا تستند في الاستدلال إلى أصل من لغة أو عقل فضلاً عن الشرع والدين. وفي ظني أنه لا يبعد أن يكون من بينها من يتعمد سلوك هذه المسالك.. حتى يبعد ناشئة الشيعة، وعقلاءها عن دين الإسلام، لأنهم إذا رأوا أن هذه الأدلة، والمسائل وأمثالها فاسدة في العقل، وظنوا أن هذا هو الإسلام شكوا في الإسلام نفسه، وهذه إحدى الأهداف البعيدة لتلك الزمرة الحاقدة التي رامت الكيد للأمة ودينها، وإبعاد الشيعة عن دين الإسلام، ولا سيما أنك تجد في النص الشيعي السالف الذكر النيل من رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث نسبوا إليه عليه الصلاة والسلام المخالفة بعدم امتثال أمر ربه ابتداء، وهو تنقص لمقام المعصوم (من قوم بالغوا في دعوى عصمة من دون النبي وهم الأئمة) وتنقص الأنبياء كفر (¬2) . كذلك يظهر في النص الإساءة للمعصوم عليه الصلاة والسلام بتصويره في موقف الخائف الوجل من قومه، المتردد في تنفيذ أمر ربه، حتى إنه لم يفارق هذا الموقف إلا حينما نزل عليه التهديد بإحباط عمله. ب ـ وفي قوله سبحانه: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ ¬
يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا..} (¬1) . وهذه الآية- كما هو واضح - تبين ما عليه أهل الشرك من إعراض عن عبودية الله وحده، وهي جواب المشركين حينما طلبوا الخروج من النار، والرجعة إلى الدنيا فقالوا: {فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ} فكان جوابهم {ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ} أي ذلك الذي أنتم فيه من العذاب بسبب أنه إذا دعي الله في الدنيا وحده دون غيره كفرتم به وتركتم توحيده {وَإِن يُشْرَكْ بِهِ} غيره من الأصنام أو غيرها {تُؤْمِنُوا} بالإشراك به وتجيبوا الداعي إليه، فبين سبحانه لهم السبب الباعث على عدم إجابتهم إلى الخروج من النار وهو ما كانوا فيه من ترك توحيد الله وإشراك غيره به في العبادة التي رأسها الدعاء، فهي مع ما قبله خبر عن جزاء المشركين في الآخرة، وأن مصيرهم إلى النار لا يخرجون منها، وأنهم يطلبون الرجعة إلى الدنيا ولا يجابون بسبب إشراكهم بالله في عبادته (¬2) . ولكن الشيعة تروي عن أئمتها في تأويل الآية غير ما فهمه المسلمون منها. تقول: "عن أبي جعفر في قوله عز وجل: {ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ} بأن لعلي ولاية {وَإِن يُشْرَكْ بِهِ} من ليست له ولاية {تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} " (¬3) . ومعلوم أن هذا التأويل من جنس تأويلات الباطنية، إذ لا دلالة عليه من لفظ الآية ولا سياقها مطلقًا، ولذلك فإن صاحب مجمع البيان أعرض عن تأويلات طائفته حب رواياتها عن أئمتها وفسر الآية بمقتضى ظاهرها، وما قاله السلف ¬
في تفسيرها (¬1) . لكن مثل هذه الأصوات المعتدلة سرعان ما تموت في جو التقية الخانق. جـ وتمضي رواياتهم على ذلك المنهج الضال، والتأويل الفاسد، ففي قوله سبحانه: {أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} (¬2) . قال أبو عبد الله - كما يفترون -: "أي إمام هدى مع إمام ضلال في قرن واحد" (¬3) . إن هذه الروايات وأمثالها هي التربة الصالحة لنشوء الاتجاهات الغالية التي تؤله عليًا، والتي لا تزال تظهر في هذه الطائفة بين آونة وأخرى، وإلا فالآية لا صلة لها بإمامهم، بل هي لتقرير وحدانية الله، فالله جل شأنه قال: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ، أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} الآيات (¬4) . يقول الله في آخر كل آية: {أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ} أي: أإله مع الله فعل هذا؟ وهذا استفهام إنكار يتضمن نفي ذلك، وهم كانوا مقرين بأنه لم يفعل ذلك غير الله؟ فاحتج عليهم بذلك، وأن ذلك يستلزم ألا يعبد إلا الله وحده (¬5) . د ـ وإذا كان الله جل شأنه يقول: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (¬6) ، فإن تلك الزمرة التي وضعت روايات الشيعة قالت وكأنها تضاهي معنى هذه الآية أو تعارضه، قالت: "ما بعث الله نبيًا قط إلا بولايتنا والبراء من أعدائنا" (¬7) . ¬
وفي رواية أخرى: "ولايتنا ولاية الله التي لم يبعث نبيًا قط إلا بها" (¬1) ، فجعلوا أمر إمامة أئمة لم يخلقوا هو أصل دعوة الأنبياء (¬2) .!! هذا ورواياتهم في تأويل نصوص التوحيد والنهي عن الشرك بالمعنى المبتدع عندهم لا تكاد تخلو منها آية من آيات القرآن المتعلقة بالتوحيد، والنهي عن الشرك (¬3) ، ولهذا جعل أحد شيوخهم هذا التأويل قاعدة مطردة في القرآن فقال: "كل ما ورد ظاهره في الذين أشركوا مع الله سبحانه ربًا غيره من الأصنام التي صنعوها بأيديهم ثم عظموها وأحبوها والتزموا عبادتها وجعلوهم شركاء ربهم، وقالوا: هؤلاء شفعاؤنا عند الله بغير أمر من الله بل بآرائهم وأهوائهم، فبطنه وارد ¬
في الذين نصبوا أئمة بأيديهم وعظموهم وأحبوهم والتزموا طاعتهم وجعلوهم شركاء إمامهم الذي عينه الله لهم.." (¬1) . ووضعهم هذا قاعدة يعني أن أخبارهم تواطأت وتضافرت لإثبات هذا المنكر، وهذا ما صرحوا به فقالوا: "إن الأخبار متضافرة إنّ الأخبار متضافرة في تأويل الشّرك بالله والشّرك بعبادته بالشّرك في الولاية والإمامة؛ أي يشرك مع الإمام من ليس من أهل الإمامة، وأن يتّخذ مع ولاية آل محمد رضي الله عنهم (أي الأئمّة الاثنا عشر) ولاية غيرهم" (¬2) . وهكذا لا تكاد تخلو آية من آيات القرآن من موضوع التوحيد والنهي عن الشرك إلا وراموا تحريفها وتعطيل معناها وتحويلها إلى ولاية علي والأئمة ولو كانت صريحة واضحة بينة. وهذه التأويلات هي مفتاح كل شر، وباب كل فتنة (¬3) ، كيف وهي تتعلق بأصل الدين، وما اتفقت عليه دعوة المرسلين، وبه نزلت الكتب، ومن أجله أرسلت الرسل، وبه انقسم الناس إلى فريقين: فريق في الجنة، وفريق في الجحيم. وقبل أن نرفع القلم في هذه المسألة أشير إلى رواية من كتبهم تنقض تأويلاتهم، وتبين أصلها ومنبتها، فقد جاء في تفسيرهم "البرهان": عن حبيب بن معلى الخثعمي قال: ذكرت لأبي عبد الله رضي لله عنه ما يقول أبو الخطاب، فقال: أجل إليّ ما يقل. قال: في قوله عز وجل: {إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ} أنه أمير المؤمنين {وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ} فلان وفلان (¬4) . قال أبو عبد الله: ¬
من قال هذا فهو مشرك بالله عز وجل ثلاثًا أنا إلى الله منهم بريء ثلاثًا، بل عني الله بذلك نفسه، قال: فالآية الأخرى التي في حم قول الله عز وجل: {ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ} ثم قلت: زعم أنه يعني بذلك أمير المؤمنين صلى الله عليه وسلم. قال أبو عبد الله: من قال هذا فهو مشرك بالله عز وجل ثلاثًا أنا إلى الله منهم بريء ثلاثًا، بل عني الله بذلك نفسه، قال: فالآية الأخرى التي في حم قول الله عز وجل: {ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ} ثم قلت: زعم أنه يعني بذلك أمير المؤمنين صلى الله عليه وسلم. قال أبو عبد الله: من قال هذا فهو مشرك بالله ثلاثًا أنا إلى الله منهم بريء ثلاثًا، بل عني الله بذلك نفسه" (¬1) . وقد مرّ أن الآية الأخيرة التي أشارت إليها الرواية جاء تأويلها بمثل ما قال أبو الخطاب في عدد من مصادرهم المعتمدة كالكافي، والبرهان، والبحار، وتفسير الصافي وغيرها كما سلف (¬2) . أما الآية الأولى فقد جاء تأويلها بمثل هذا المنكر الذي أنكره أبو عبد الله - باعترافهم - في رواية ينسبونها لأبي عبد الله خرجها صاحب الكافي (¬3) . وذكرها صاحب البحار (¬4) . وغيرهما (¬5) . فأبو عبد الله يحكم على شيوخ الشيعة الذين ارتضوا هذا التأويل بالشرك. وقد جاءت عندهم روايات كثيرة ليست من قبيل التأويل للآيات، بل هي أحاديث مستقلة عن أئمتهم تؤصل هذا المنكر، وتثبت قاعدته، كقولهم: "من أشرك مع إمام إمامته من عند الله من ليست إمامته من الله كان مشركًا" (¬6) . وفي هذا المعنى عدة روايات (¬7) . وأكد ذلك شيوخهم، قال صدوقهم ابن بابويه: ".. إن الله هو الذي لا يخليهم في كل زمان من إمام معصوم، فمن عبد ربًا لم يقم لهم الحجة، فإنما عبد ¬
غير الله عز وجل" (¬1) . وهو يعني أن من آمن بالله سبحانه ربًا، وأخلص له العبادة، ولكن اعتقد أنه لم يول عليًا، ولم ينص على إمامته، فقد عبد غير الله!!. وأخذوا من هذه النصوص وغيرها الحكم بتكفير من عداهم من المسلمين. قال المجلسي: "اعلم أنّ إطلاق لفظ الشّرك والكفر - يعني في نصوصهم - على من لم يعتقد إمامة أمير المؤمنين والأئمّة من ولده عليهم السّلام، وفضّل عليهم غيرهم يدلّ أنّهم كفّار مخلّدون في النار" (¬2) . وكل ذلك دعاوى لا سند لها من كتاب الله سبحانه وهي غير دين الإسلام تمامًا ولو كان شيء مما يقولون حقًا لكان له ذكر في كتاب الله في آيات كثيرة صريحة مبينة لا لبس فيها ولا غموض تبين للأمة هذا الأمر، ولو كان شيء من ذلك واقعًا لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم بيانًا واضحًا وشافيًا كافيًا، ولنقلته الأمة بأجمعها.. وأصبح من الأمور المشهورة المعروفة.. ولم يستقل بنقله حثالة من الكذابين. ولو كان شيء من ذلك حقًا لما أعرض عنه صحابة رسول الله، ولما تخلفوا عن القيام به، وهم الذين بذلوا المال والنفس وهجروا الأهل والولد وفارقوا الأوطان واعتزلوا القرابة والعشيرة، وبذلوا حياتهم لهذا الدين. وآيات القرآن صريحة واضحة في أن أصل هذا الدين وأساسه هو توحيد الله سبحانه وإفراده جل شأنه بالعبودية، وشواهد هذا في القرآن كثير {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ} (¬3) . {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ} (¬4) . {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ} (¬5) . وغير ذلك كثير. ¬
أما ولاية الاثني عشر فليس لها ذكر على وجه الإطلاق في كتاب الله. وقد اعترفت بذلك نصوصهم - كما سلف -. فهذه التحريفات والتأويلات الخطرة ابتداع في الدين كبير، وإغفال لأصل الدين العظيم.. وفتح لأبواب الشرك، وتيسير لأسبابه.
المبحث الثاني: الولاية أصل قبول الأعمال عندهم
المبحث الثاني: الولاية أصل قبول الأعمال عندهم إن التوحيد هو أصل قبول الأعمال، والشرك بالله سبحانه هو سبب بطلانها. قال تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} (¬1) ، ولكن الشيعة جعلوا ذلك كله لولاية الاثني عشر، وجاءت رواياتهم لتجعل المغفرة والرضوان والجنات لمن اعتقد الإمامة وإن جاء بقراب الأرض خطايا، والطرد والإبعاد والنار لمن لقي الله لا يدين بإمامة الاثني عشر، فقالوا: "إنّ الله عزّ وجلّ نصب عليًّا علمًا بينه وبين خلقه فمن عرفه كان مؤمنًا، ومن أنكره كان كافرًا، ومن جهله كان ضالاً، ومن نصب معه شيئًا كان مشركًا، ومن جاء بولايته دخل الجنّة" (¬2) . وقالوا في رواياتهم: " ... فإن من أقر بولايتنا ثم مات عليها قبلت منه صلاته، وصومه، وزكاته، وحجه، وإن لم يقر بولايتنا بين يدي الله جل جلاله لم يقبل الله عز وجل شيئًا من أعماله" (¬3) . وقال أبو عبد الله - كما يزعمون -: "من خالفكم وإن تعبد منسوب إلى هذه الآية: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ، عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ، تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} " (¬4) . وزعموا أن جبرائيل نزل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، السلام يقرئك السلام ويقول: "خلقت السماوات السبع وما فيهن، والأرضين السبع وما ¬
عليهن، وما خلقت موضعًا أعظم من الركن والمقام، ولو أن عبدًا دعاني هناك منذ خلقت السّماوات والأرضين ثم لقيني جاحدًا لولاية علي لأكببته في سقر" (¬1) . ولا تترك رواياتهم وجهًا من أوجه المبالغة في عبادة جاحد الولاية وعدم نفعها له إلا وتذكره حتى قالت: " ... لو سجد حتى ينقطع عنقه ما قبل الله منه إلا بولايتنا أهل البيت" (¬2) . وزعمت أن الله قال - كما يفترون -: "يا محمد، لو أنّ عبدًا يعبدني حتى ينقطع ويصير كالشّنّ ثم أتاني جاحدًا لولايتهم ما أسكنته جنّتي ولا أظللته تحت عرشي" (¬3) . وادعت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو جاء أحدكم يوم القيامة بأعمال كأمثال الجبال ولم يجئ بولاية علي بن أبي طالب لأكبّه الله عزّ وجلّ بالنّار" (¬4) . "ولو أن عبدًا جاء يوم القيامة بعمل سبعين نبيًا ما قبل الله ذلك منه حتى يلقاه بولايتي وولاية أهل بيتي" (¬5) . بل إنهم جعلوا التوحيد لا يقبل إلا بالولاية، ففي أخبارهم "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قال: لا إله إلا الله دخل الجنّة، فقال رجلان من أصحابه: فنحن نقول: لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّما تقبل شهادة أن لا إله إلا الله من هذا وشيعته، ووضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على رأس عليّ وقال لهما: من علامة ذلك ألا تجلسا مجلسه ولا تكذبا قوله ... " (¬6) . فهذا يقتضي عندهم أن الولاية مقدمة على الشهادة وهي أساس قبولهم.. ولا تقبل الشهادة إلا من شيعة علي. ¬
واعتقاد الإمامة هو مناط عفو الله ومغفرته، وإنكارها هو سبب سخط الله وعقابه، وجاءت عندهم بهذا المعنى روايات كثيرة؛ فقد رووا "عن علي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جبرائيل عن الله عز وجل قال: وعزتي وجلالي لأعذبن كل رعية في الإسلام دانت بولاية إمام جائر ليس من الله عز وجل، وإن كانت الرعية في أعمالها برة تقية، ولأعفون عن كل رعية دانت بولاية إمام عادل من الله تعالى، وإن كانت الرعية في أعمالها طالحة سيئة" (¬1) . ورواياتهم في هذه المسألة كثيرة جاء على أكثرها صاحب البحار، فقد ذكر مثلاً عشرين رواية في "باب أنهم عليهم السلام أهل الأعراف.. لا يدخل الجنة إلا من عرفهم وعرفوه" (¬2) . وإحدى وسبعين رواية في "باب أنه لا تقبل الأعمال إلا بالولاية" (¬3) . وغيرها. وكل هذه الروايات ليست من الإسلام في شيء، فأمامنا كتاب الله سبحانه ليس فيه مما يدعون شيء، وهو الفيصل الأول، والمرجع الأول في كل خلاف. القرآن العظيم ذكر أن اصل قبول الأعمال هو التوحيد وسبب الحرمان هو الشرك، قال تعالى: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} (¬4) ، {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} (¬5) . وكل ما ذكر من مبالغات الشيعة تكذبها آيات القرآن؛ فالله سبحانه يقول: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ} (¬6) . ولم يذكر سبحانه من ضمن ذلك الولاية، وكذلك قال سبحانه: {مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} (¬7) . ¬
وهم يزعمون أو ولاية الاثني عشر أعظم من الصلاة وسائر أركان الإسلام (¬1) . والصلاة ذكرت في القرآن بلفظ صريح واضح في أكثر من ثمانين موضعًا، ولم تذكر ولايتهم مرة واحدة.. فهل أراد جل شأنه ضلال عبادة، أو لم يبين لهم طريق الوصول إليه!! سبحانه هذا بهتان عظيم: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ} (¬2) . وقد جاء في رواياتهم ما ينقض ما قالوه، وإن كانت لا تلبث تأويلاتهم، أو تقيتهم من وأد مثل هذه النصوص المعتدلة، ولكن أذكر ذلك لإقامة الحجة عليهم من كتبهم، ولبيان ما عليه نصوصهم من تناقض.. جاء في تفسير فرات: "قال علي بن أبي طالب: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لما نزلت: {قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} (¬3) . قال جبرائيل: يا محمد، إن لكل دين أصلاً ودعامة، وفرعًا وبنيانًا، وإن أصل الدين ودعامته قول: لا إله إلا الله، وإن فرعه وبنيانه محبتكم أهل البيت وموالاتكم فيما وافق الحق ودعا إليه" (¬4) . فهذا النص يخالف ما تذهب إليه أخبارهم، حين يجعل أصل الدين شهادة التوحيد، لا الولاية، ويعد محبة أهل البيت هي الفرع وهي مشروطة بمن وافق الحق منهم ودعا إليه. ¬
المبحث الثالث: اعتقادهم أن الأئمة هم الواسطة بين الله والخلق
المبحث الثالث: اعتقادهم أن الأئمة هم الواسطة بين الله والخلق يقول الاثنا عشرية: إن الأئمة الاثني عشر هم الواسطة بين الله وخلقه. قال المجلسي عن أئمته: "فإنهم حجب الرب، والوسائط بينه وبين الخلق" (¬1) . وعقد لذلك بابًا بعنوان "باب أن الناس لا يهتدون إلا بهم، وأنهم الوسائل بين الخلق وبين الله، وأنه لا يدخل الجنة إلا من عرفهم" (¬2) . وجاء في أخبارهم أن أبا عبد الله قال: "نحن السّبب بينكم وبين الله عزّ وجلّ" (¬3) . وجاء في كتاب "عقائد الإمامية" أن الئمة الاثني عشر هم: "أبواب الله والسبل إليه ... إنهم كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق" (¬4) . وإذا كان المسلمون يعتقدون أن الرسل هم الواسطة بين الله والناس في تبليغ أمر الله وشرعه، فإن الاثني عشرية تعتقد أن هذا المعنى موجود في الأئمة، لأنهم يتلقون من الله - كما مر في فصل عقيدتهم في السنة - وتزيد على ذلك فتجعل لهم من خصائص الألوهية ما يخرج بمن يؤمن به من دين التوحيد إلى دين المشركين حين تجعل هداية الخلق إليهم، وأن الدعاء لا يقبل إلا بأسمائهم، وأنه يستغاث بهم عد الشدائد والملمات، ويحج إلى مشاهدهم، والحج إليهم أفضل من الحج إلى بيت الله، وكربلاء أفضل من الكعبة، ولزيارة أضرحة الأئمة مناسك وآداب سموها ¬
"مناسك المشاهد" وجعلوها تحج كما يحج بيت الله الذي جعله الله قيامًا للناس، ويطاف بها كما يطاف بالبيت، وتتخذ قبلة كبيت الله الحرام. وسأعرض - إن شاء الله - لهذه المسائل من خلال النقل الأمين - بحول الله - من كتب الشيعة المعتمدة عندها. وقبل أن أعرض لهذه المسائل أبين أن دعوى «الواسطة» للأئمة غريبة على نصوص الإسلام، بل هي منكرة، لأنها عين دين المشركين، وقد بعث الرسل لتخليص البشرية من هذا الشرك. وليس بين المسلم في عبادته لربه ودعائه له، حجب تمنعه، ولا واسطة تحجبه. قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (¬1) . وقال تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (¬2) . وقال أهل العلم: "إن من جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم ويدعوهم ويسألهم كَفَرَ إجماعًا؛ لأن ذلك كفعل عابدي الأصنام الذين قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (¬3) ." (¬4) . وحينما سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عمن قال: لابد لنا من واسطة بيننا وبين الله فإننا لا نقدر أن نصل إليه إلا بذلك. أجاب - رحمه الله - بقوله: إن أراد أنه لابد لنا من واسطة تبلغنا أمر الله فهذا حق فإن الخلق لا يعلمون ما يحبه الله ويرضاه ويأمر به وينهى عنه إلا ¬
بواسطة الرسل الذين أرسلهم الله إلى عباده، وهذا ما أجمع عليه أهل الملل من المسلمين واليهود والنصارى، فإنهم يثبتون الوسائط بين الله وبين عباده، وهم الرسل الذين بلغوا عن الله أوامره ونواهيه، قال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} ، ومن أنكر هذه الوسائط فهو كافر بإجماع أهل الملل. وإن أرادوا بالواسطة: أنه لابد من واسطة يتخذها العباد بينهم وبين الله في جلب المنافع ودفع المضار، مثل أن يكونوا واسطة في رزق العباد ونصرهم وهداهم، يسألون ذلك ويرجعون إليه فيه، فهذا من أعظم الشرك الذي كفَّر الله به المشركين، حيث اتخذوا من دون الله أولياء وشفعاء يجتلبون بهم المنافع ويدفعون بهم المضار، فمن جعل الأنبياء أو الملائكة أو الأئمة والأولياء وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار مثل أن يسألهم غفران الذنوب، وهداية القلوب وتفريج الكربات، وسد الفاقات فهو كافر بإجماع المسلمين. إلى أن قال: فمن أثبت وسائط بين الله وبين خلقه كالحجاب الذي بين الملك ورعيته، بحيث يكونون هم يرفعون إلى الله حوائج خلقه، وأن الله إنما يهدي عباده وينصرهم ويرزقهم بتوسطهم، بمعنى أن الخلق يسألوهم وهم يسألون الله، كما أن الوسائط عند الملوك يسألون الملوك حوائج الناس لقربهم منهم، والناس يسألونهم أدبًا منهم أن يباشروا سؤال الملك، أو لأن طلبهم من الوسائل أنفع لهم من طلبهم من الملك لكونهم أقرب إلى الملك من الطالب، فمن أثبتهم وسائط على هذا الوجه فهو كافر مشرك يجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل (¬1) . وأعود - الآن - لعرض المسائل التي أشرت إليها آنفًا من خلال كتب الشيعة نفسها لتتضح حقيقة الشرك والدعوة إليه الكامنة في المذهب الإمامي الاثني ¬
المسألة الأولى: قولهم: لا هداية للناس إلا بالأئمة
عشري. المسألة الأولى: قولهم: لا هداية للناس إلا بالأئمة قال أبو عبد الله: "بلية الناس عظيمة؛ إن دعوناهم لم يجيبونا، وإن تركناهم لم يهتدوا بغيرنا" (¬1) . فهذا النص يقرر أن هداية الناس لا تتحقق إلا بالأئمة، وأن الناس في بلاء وضلال دائم لأنهم يرفضون إجابة دعوة الأئمة. وكلا الحكمين (حصر الهداية بالأئمة، والحكم بالضلال على الناس) باطل من القول وزور لمخالفته للنقل والعقل والواقع. ومرة أخرى تقول أخبارهم: "قال أبو جعفر: بِنَا عُبِدَ الله، وبِنَا عُرِفَ الله، وبِنَا وُحِّدَ الله" (¬2) . فهي لا تنفي الهداية عن الأمة، ولكن تجعل مصدرها الأئمة. والحق أن الهداية بمعنى التوفيق إلى الحق وقبوله، لا يملكها إلا رب العباد، ومقلب القلوب والأبصار، والذي يحول بين المرء وقلبه، والذي إذا قال للشيء: كن فيكون.. والشيعة في إطلاقها هذه العبارات بلا أي قيد تجعل لأئمتها مشاركة لله جل شأنه في هذه الهداية، وهو شرك أكبر؛ فالله سبحانه هو الهادي وحده لا شريك له. قال تعالى: {مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا} (¬3) . ويقول لنبيه - عليه السلام -: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء} (¬4) . ¬
المسألة الثانية: قولهم: لا يقبل الدعاء إلا بأسماء الأئمة
أما هداية الدلالة على الحق والإرشاد إليه فهذه وظيفة الرسل ومن تبعهم بإحسان، ولا تنحصر في الاثني عشر. {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (¬1) . وإطلاق القول بأن هداية العباد لا تتم إلا بالأئمة جرأة على الله سبحانه. المسألة الثانية: قولهم: لا يقبل الدعاء إلا بأسماء الأئمة قالوا: لا يفلح من دعا الله بغير الأئمة، ومن فعل ذلك فقد هلك. جاء في أخبارهم عن الأئمة: "من دعا الله بنا أفلح، ومن دعا بغيرنا هلك واستهلك" (¬2) . وبلغت جرأتهم في هذا الباب أن قالوا: "إنّ دعاء الأنبياء استجيب بالتّوسل والاستشفاع بهم صلوات الله عليهم أجمعين" (¬3) . وقد استشهد على ذلك المجلسي بإحدى عشرة رواية من رواياتهم (¬4) . كما عرض لروايات كثيرة مماثلة في أبواب أحوال الأنبياء، وبالأخص في أحوال آدم وموسى وإبراهيم، وكذا في أبواب معجزات النبي (¬5) . وجاءت روايات كثيرة في هذا المعنى في عدد من مصادرهم المعتمدة (¬6) . وهذا "الزعم" الخطير يهدف بطريقة ماكرة، وأسلوب مقنع إلى "تأليه الأئمة" وأنهم ملجأ المحتاجين ومفزع الملهوفين وأمان الخائفين وقبلة الداعين، ولا تستجاب الدعوات إلا بذكر أسمائهم، فأي فرق بين هذا وبين ما يزعمه المشركون في أصنامهم؟! نعم هناك فرق، وهو أن المشركين في وقت الشدة يخلصون الدعاء لله ¬
{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (¬1) . هذه الآية تبني ما هو الشّرك وما هو التّوحيد، فهي تتعلّق بالإخلاص في الدّعاء عند اضطراب الموج ولا تتعلّق بالإمامة. أما هؤلاء فإنهم يشركون في الرخاء والشدة، بل يزعمون أن الشدة لا ترفع إلا بالدعاء بأسماء الأئمة. تقول إحدى رواياتهم: "عن الرضا عليه السلام قال: لمّا أشرف نوح عليه السّلام على الغرق دعا الله بحقّنا فدفع الله عنه الغرق، ولمّا رمي إبراهيم في النّار دعا الله بحقّنا فجعل الله النّار عليه بردًا وسلامًا، وإنّ موسى عليه السّلام لمّا ضرب طريقًا في البحر دعا الله بحقّنا فجعله يبسًا، وإنّ عيسى عليه السّلام لمّا أراد اليهود قتله دعا الله بحقّنا فنجّي من القتل فرفعه الله" (¬2) . وكما أن الاستجابة لدعاء الأنبياء بسبب الأئمة، فإن ما جرى لبعض الأنبياء هي بزعمهم بسبب موقفهم من الأئمة، فآدم عليه السلام - كما يفترون - ".. لما أسكنه الله الجنة مثّل له النبي وعلي والحسن والحسين صلوات الله عليهم فنظر إليهم بحسد، ثم عرضت عليه الولاية فأنكرها فرمته الجنة بأوراقها، فلما تاب إلى الله من حسده وأقر بالولاية ودعا بحق الخمسة محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم غفر الله له، وذلك قوله: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ} (¬3) . "كما ادعوا أنّ يونس عليه السّلام حبسه الله في بطن الحوت لإنكاره ولاية علي بن أبي طالب ولم يخرجه حتى قبلها" (¬4) . هذا ما تقوله الشيعة وتفتريه، ولكن يقول الله سبحانه: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (¬5) . ولم يقل سبحانه: فادعوه بأسماء الأئمة أو مقامات الأئمة أو مشاهدهم. كما قال جل شأنه: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (¬6) . ولو كان ¬
أساس قبول الدعاء ذكر أسماء الأئمة لقال: ادعوني بأسماء الأئمة أستجب لكم، بل إن هذا الأمر الذي تدعيه الشيعة وتفتريه من أسباب رد الدعاء وعدم قبوله، لأن الإخلاص في الدعاء لله أصل في الإجابة والقبول. قال تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (¬1) . {وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (¬2) . وهؤلاء الأئمة هم من سائر البشر {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (¬3) . ولم يجعل الله عز وجل بينه وبين خلقه في عبادته ودعائه وليًا صالحًا ولا ملكًا مقربًا ولا نبيًا مرسلاً، بل الجميع عباد الله {لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ ... } (¬4) . الآية، {إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} (¬5) . وتربية الشيعي من خلال أدعيته ومناجاته لله على هذا المنهج هي تربية خطيرة.. حيث تزرع في قلبه ومشاعره الاتجاه إلى غير الواحد القهار، وتنمي في نفسه التوجه إلى البشر لا إلى خالق البشر، ويترعرع في هذا المحضن الوثني لينشأ أولاده وأحفاده على هذه الطريق، ولربما ينسى ذكر الله سبحانه أصلاً؛ لأن ذكر الأئمة في لسانه، ووجودهم في قلبه حين الدعاء والتوجه. ويتركز ذلك من خلال الكلمة والقدوة. وقد صرحت بعض رواياتهم بشيء من هذا المعنى، حيث تقول بأن بعض الشّيعة كتب إلى إمامه يشتكي أو يسأل ويقول: "إنّ الرّجل يحبّ أن يفضي إلى إمامه ما يحبّ أن يفضي إلى ربّه" فجاء الجواب: "إذا كانت لك حاجة فحرّك ¬
شفتيك، فإنّ الجواب يأتيك" (¬1) . فهم أسرع إجابة وأقضى للحاجة، وهذا شرك يهون عند شرك الجاهلية الأولى.. وواقع مشاهد الشيعة ومزاراتهم يعبر عن الثمرات المرة لهذه الأساطير. ودعوى أن دعاء الأنبياء استجيب بالتوسل بالأئمة هي دعوى جاهلة غبية؛ إذ ليس للأئمة وجود في حياة الأنبياء عليهم السلام، وهي دعوة للشرك بالله سبحانه؛ إذ إنهم جعلوا مفتاح الإجابة وأساس القبول هو ذكر أسماء الأئمة، فهي كقول المشركين بأن أصنامهم تقربهم إلى الله زلفى.. وهي زعم باطل، إذ إن الأنبياء عليهم السلام - كما جاء في قول أصدق القائلين - إنما دعوا الله عز وجل باسمه سبحانه وبوحدانيته جل شأنه. قال سبحانه عن يونس: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لا إِلَهَ إِلا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} (¬2) . والكلمات التي قالها آدم عليه السلام وزوجه هي كما قال الله سبحانه: {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (¬3) . وهذه المقالة من الشيعة معلوم فسادها من الدين بالضرورة، وهي من وضع زنديق ملحد أراد إدخال الشرك في دين الإسلام {يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (¬4) . ونقلت كتب الشيعة نفسها ما يناقض هذه الدعوى عن الأئمة في مناجاتهم لله ودعائهم له، فأمير المؤمنين كان يقول كما تنقل كتب الشيعة: "إلهي أفكّر في عفوك فتهون عليّ خطيئتي، ثم أذكر العظيم من أخذك فتعظم علي بليتي، ثم قال: آه إن أنا قرأت في الصحف سيئة أنا ناسيها وأنت محصيها، فتقول: خذوه! ¬
المسألة الثالثة: الاستغاثة بالأئمة
فيا له من مأخوذ لا تنجيه عشيرته، ولا تنفعه قبيلته" (¬1) . وما من إمام إلا قد رووا عنه الكثير من أمثال هذا الدعاء، مما لا يتسع المجال لعرضه وقد أتى على أكثره المجلسي في بحاره (¬2) . المسألة الثالثة: الاستغاثة (¬3) بالأئمة لا يستغاث إلا بالله وحده، ولكن الشيعة تدعو إلى الاستغاثة بأئمتها فيما لا يقدر عليه إلا الله وحده، وقد خصصت بعض رواياتها وظيفة كل إمام في هذا الباب فقالت: ".. أمّا عليّ بن الحسين فللنّجاة من السّلاطين ونفث الشّياطين، وأمّا محمّد بن علي وجعفر بن محمّد فللآخرة وما تبتغيه من طاعة الله عزّ وجلّ، وأمّا موسى بن جعفر فالتمس به العافية من الله عزّ وجلّ، وأمّا عليّ بن موسى فاطلب به السّلامة في البراري والبحار، وأمّا محمّد بن علي فاستنزل به الرّزق من الله تعالى، وأمّا عليّ بن محمّد فللنّوافل وبرّ الإخوان وما تبتغيه من طاعة الله عزّ وجلّ، وأمّا الحسن بن عليّ فللآخرة، وأمّا صاحب الزّمان فإذا بلغ منك السّيف الذّبح فاستعن به فإنّه يعينك" (¬4) . ثم جاء صاحب البحار بدعاء يتضمن الاستغاثة بالأئمة على هذا النحو السالف الذكر اعتبره من قبيل الشرح لهذا النص (¬5) . وقد قرر المجلسي أنهم - كما يزعم - "الشّفاء الأكبر والدّواء الأعظم لمن ¬
استشفى بهم" (¬1) . وأدعيتهم تنسج على هذا المنوال، حيث الأئمة عندهم هم المستغاث والمرتجى، فيتوجه الشيعي للإمام ويقول - كما جاء في رواياتهم - عن إمامهم المنتظر: ".. أركان البلاد، وقضاة الأحكام، وأبواب الإيمان.. منائح العطاء، بكم إنفاذه محتومًا مقرونًا، فما شيء منه إلا وأنتم له السّبب وإليه السّبيل.. فلا نجاة ولا مفزع إلا أنتم، ولا مذهب عنكم يا أعين الله النّاظرة.." (¬2) . ولا يخفى ما في هذا النص من تأليه للأئمة، حيث جعلهم سبب كل شيء، ولا مفزع إلا إليهم، وبهم العطاء محتومًا ... !! وأدعية كثيرة تسير على هذا الضلال في الغلو بالأئمة إلى مقام خالق الأرض والسماوات، وهي قد جمعت في كتب الأدعية عندهم كمفاتيح الجنان وعمدة الزائر وغيرهما، وقد وردت في كتبهم المعتمدة في أبواب المزار، والأدعية، ودراستها وجمعها وتحليلها يحتاج إلى بحث مستقل، وترى في تلك الأدعية السبئية قد أطلت بوجهها المظلم الذي يؤله عليًا من خلال هاتيك الدعوات والاستغاثات. وهناك "رقاع" تكتب، وتوضع على قبول الأئمة، لأن قبور الأئمة وأضرحتهم التي لا تنفع ولا تضر هي - بزعمهم - مناط الرجاء ومفزع الحاجات. قالوا: "إذا كان لك حاجة إلى الله عزّ وجلّ فاكتب رقعة على بركة الله، واطرحها على قبر من قبور الأئمّة إن شئت، أو فشدّها واختمها واعجن طينًا نظيفًا واجعلها فيه، واطرحها في نهر جارٍ، أو بئر عميقة، أو غدير ماء، فإنّها تصل إلى السّيّد عليه السّلام وهو يتولّى قضاء حاجتك بنفسه" (¬3) . ثم ذكروا أنه يكتب في هذه الرّقعة: "بسم الله الرّحمن الرّحيم، كتبت إليك ¬
يا مولاي صلوات الله عليك مستغيثًا، فأغثني يا مولاي صلوات الله عليك عند اللهف، وقدّم المسألة لله عزّ وجلّ في أمري قبل حلول التّلف وشماتة الأعداء، فبك بسطت النّعمة عليّ، واسأل الله (الخطاب للإمام في قبره) جلّ جلاله لي نصرًا عزيزًا.." (¬1) . ثم ذكروا بأنه يصعد النّهر أو الغدير وينادي على أحد أبواب المنتظر (¬2) . فينادي أحدهم ويقول: "يا فلان بن فلان سلام الله عليك، أشهد أنّ وفاتك في سبيل الله وأنت حيّ عند الله مرزوق، وقد خاطبتك في حياتك التي لك عند الله جلّ وعزّ، وهذه رقعتي وحاجتي إلى مولانا عليه السّلام فسلّمها إليه فأنت الثّقة الأمين" (¬3) . قالوا: "ثم ارم بها في النّهر وكأنّك تخيل لك أنّك تسلّمها إليه" (¬4) . وهناك رسائل أيضًا تبعث إلى المنتظر المعدوم لطلب الاستغاثة. وقد قرر المحققون من أهل العلم بالأنساب والتواريخ أن هذا المنتظر الذي تنتظره الرافضة لم يولد أصلاً؛ لأن الحسن العسكري مات عقيمًا - كما سيأتي - ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية عن هذا المنتظر: "وهو شيء لا حقيقة له ولم يكن هذا في الوجود قط" (¬5) . ومع هذا فقد وضعوا من الروايات في مشروعية إرسال رقاع إلى هذا المعدوم لطلب الاستغاثة والنجدة فيما لا يقدر عليه إلا الله، فمن ذلك أيضًا: قالوا: تكتب رقعة إلى صاحب الزّمان وتكتب فيها "بسم الله الرّحمن الرّحيم، ¬
توسّلت بحجّة الله الخلف الصّالح محمد بن الحسن (¬1) . بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، النّبأ العظيم، والصّراط المستقيم، والحبل المتين، عصمة الملجأ، وقسيم الجنّة والنّار أتوسّل إليك بآبائك الطّاهرين.. وأمّهاتك الطّاهرات، الباقيات الصّالحات.. أن تكون وسيلتي إلى الله عزّ وجلّ في كشف ضرّي وحلّ عقدي وفرج حسرتي، وكشف بليّتي ... " (¬2) . قالوا: "ثم تكتب رقعة أخرى لله سبحانه وتطيب الرّقعتين، وتُجمل رقعة الباري تعالى في رقعة الإمام رضي الله عنه وتطرحهما في نهرٍ جارٍ أو بئر ماء بعد أن تجعلهما في طين حرّ (¬3) ." (¬4) . انظر في هذا النص وصفه لهذا المعدوم بأنه عصمة الملجأ، وفارج الحسرة، وكاشف البلية. وهي صفات لا تطلق إلا على من يجيب المضطر إذا دعاه، ويكشف السوء، ومن يهدي من يعتصم به إلى صراط مستقيم وهو الخالق جل علاه. ولكن هؤلاء جعلوا لهذا المعدوم خصائص الرب عز وجل. وتأمل قوله في نهاية النص: "وتجعل رقعة الباري في رقعة الإمام" فكأنهم يجعلون هذا المعدوم هو المقدّم في طلب الحاجات!! ثم ساق المجلسي استغاثة أخرى بهذا المنتظر، وفيها "ارجع فيما أنت بسبيله إلى الله تعالى، واستعن بصاحب الزمان (¬5) . عليه السلام، واتخذه لك مفزعًا، فإنه نعم المعين، وهو عصمة أوليائه المؤمنين.. وقل: السلام عليك يا إمام المسلمين ¬
المسألة الرابعة: قولهم: إن الحج إلى المشاهد أعظم من الحج إلى بيت الله
والمؤمنين، السلام عليك يا وارث علم النبيين، السلام عليك يا عصمة الدين، السلام عليك يا معز المؤمنين المستضعفين، السلام عليك يا مذل الكافرين المتكبرين الظالمين، السلام عليك يا مولاي يا صاحب الزمان.. يا مولاي، حاجتي كذا وكذا فاشفع لي في نجاحها" (¬1) . وصاحب الزمان عندهم قد عجز عن الخروج إلى شيعته خوف القتل كما تقرر نصوصهم المعتبرة - كما سيأتي - فكيف يوصف بهذه الأوصاف، ويطلب منه هذا الحاجات مما لا يقدر عليه إلا كاشف الملمات وهو عاجز عن حماية نفسه قد قبع في سردابه وتوارى عن الأنظار؟! المسألة الرابعة: قولهم: إن الحج إلى المشاهد أعظم من الحج إلى بيت الله قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "حدثني الثقات أن فيهم من يرى الحج إلى المشاهد أعظم من الحج إلى البيت العتيق، فيرون الإشراك بالله أعظم من عبادة الله وحده، وهذا من أعظم الإيمان بالطاغوت" (¬2) . هذه المسألة التي قال عنها عالم من أكبر علماء أهل السنة المعنيين بتتبع أمر الرافضة والرد عليهم بأنه قد وصله خبرها عن طريق بعض الثقات هي اليوم مقررة ومعلنة في المعتمد من كتب الاثني عشرية في عشرات من الروايات تنص على أن زيارة المشهد أفضل من الحج إلى بيت الله الحرام. جاء في الكافي وغيره: "إنّ زيارة قبر الحسين تعدل عشرين حجّة، وأفضل من عشرين عمرة وحجّة" (¬3) . وحينما قال أحد الشّيعة لإمامه: "إنّي حججت تسع عشرة حجّة، وتسع ¬
عشرة عمرة" أجابه الإمام - بأسلوب يشبه السخرية - قائلاً: "حجّ حجّة أخرى، واعتمر عمرة أخرى، تكتب لك زيارة قبر الحسين عليه السّلام" (¬1) . فكأنه يقول له: علام تبذل كل هذا الجهد، وزيارة قبر الحسين أفضل من عملك هذا، ثم تراه وجهه لإكمال عشرين حجة وعمرة ليتحقق له بذلك فضل زيارة واحدة لقبر الحسين، ولم يوجهه لزيارة الحسين، وذلك زيادة في التقريع وإظهار السخرية وإبداء التحسر. وتذهب رواياتهم إلى المبالغة بالقول بأفضلية زيرة قبر الحسين وقبور سائر الأئمة على الركن الخمس من أركان الإسلام حج بيت الله الحرام، وتصل في ذلك إلى درك من العته والجنون، أو الزندقة والإلحاد لا يكاد يصل إليه أحد في هذا الباب، حتى ليقول القائل بأن هذا دين المشركين لا دين المسلمين الموحدين؛ لأن هؤلاء يقدمون لنا دينًا آخر غير ما يعرفه المسلمون؛ دين شيوخهم وآياتهم لا دين رب العالمي، وتخرصات وأوهام رجالهم، لا وحي سيد المرسلين، فهي أشبه ما تكون بمؤامرة لتغيير دين المسلمين، وتغيير قبلة المسلمين، بيت رب العالمين. وتقدم لنا رواياتهم هذا المعنى بصور مختلفة وأساليب متنوعة لتؤثر في قلوب السذج والجهلة، وتخدع عقول الناشئة والعجم، فما أسرع تأثير البدعة في هؤلاء (¬2) . فهذا أحد الأعراب يشد الرحل من اليمن لزيارة الحسين - كما تزعم أساطيرهم - فيلتقي بجعفرهم الذي يسمونه بالصادق، لأن جعفر بن عبد الله بريء من افتراءات هؤلاء وأكاذيبهم، فيسأله جعفر عن أثر زيارة قبر الحسين فقال هذا الأعرابي: إنه يرى البركة من ذلك في نفسه وأهله وأولاده وأمواله وقضاء حوائجه، فقال أبو عبد الله - كما تقول الرواية -: أفلا أزيدك من فضله فضلاً يا أخا اليمن؟ قال: زدني يا ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إن زيارة أبي عبد الله ¬
عليه السلام - يعني نفسه - تعدل حجة مقبولة زاكية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله فتعجب من ذلك، فقال له: أي والله وحجتين مبرورتين متقبلتين زاكيتين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتعجب، فلم يزل أبو عبد الله عليه السلام يزيد حتى قال: ثلاثين حجة مبرورة متقبلة زاكية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬1) . بهذا الأسلوب الغريب الذي أشبه ما يكون بلعب الأطفال ومحاوراتهم يقرر جعفرهم أن زيارة الضريح أفضل من ثلاثين حجة. ويفترون أيضًا على رسول الله بأنه قرر هذا الشرك بنفس هذا الأسلوب الذي بلفظه يكشف كذبهم فضلاً عن معناه، حيث تقول روايتهم: "كان الحسين عليه السلام ذات يوم في حجر النبي صلى الله عليه وسلم وهو يلاعبه ويضاحكه، وإن عائشة قالت: يا رسول الله ما أشد إعجابك بهذا الصبي!! فقال لها: وكيف لا أحبه وأعجب به وهو ثمرة فؤادي وقرة عيني، أما إن أمتي ستقتله فمن زاره بعد وفاته كتب الله له حجة من حججي، قالت: يا رسول الله حجة من حججك؟!، قال: نعم وحجتين، قالت: حجتين؟ قال: نعم وأربعًا. فلم تزل تزاده وهو يزيد حتى بلغ سبعين حجة من حجج رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعمارها" (¬2) . وتذهب رواية أخرى إلى أن "من زار قبر أبي عبد الله كتب الله له ثمانين حجة مبرورة" (¬3) . وتزيد رواية أخرى على ذلك فتقول: "من أتى قبر الحسين عليه السّلام عارفًا بحقّه كان كمن حجّ مائة حجّة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم" (¬4) . ¬
وتتنافس رواياتهم في المبالغة في الأعداد لتتجاوز المئات إلى مرحلة الآلاف، وتتجاوز ذلك إلى ذكر أصناف من الثواب والأجر، وكأن الدين هو مجرد زيارة قبر، والوقوف على ضريح. فقد جاء في "وسائل الشيعة" وغيره عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر قال: "لو يعلم الناس ما في زيارة الحسين عليه السلام من الفضل لماتوا شوقًا، وتقطعت أنفسهم عليه حسرات، قلت: وما فيه؟ قال: من زاره تشوقًا إليه كتب الله له ألف حجّة متقبّلة، وألف عمرة مبرورة، وأجر ألف شهيد من شهداء بدر، وأجر ألف صائم، وثواب ألف صدقة مقبولة، وثواب ألف نسمة أريد بها وجه الله، ولم يزل محفوظًا سنته من كلّ آفة أهونها الشيطان، ووكل به ملك كريم يحفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوق رأسه ومن تحت قدمه، فإن مات سنته حضرته ملائكة الرّحمن يحضرون غسله وأكفانه والاستغفار له ويشيّعونه إلى قبره بالاستغفار له، ويفسح له في قبره مدّ بصره، ويؤمنه الله من ضغطة القبر، ومن منكر ونكير يروعانه، ويفتح له باب إلى الجنة، ويعطى كتابه بيمينه ويعطى له يوم القيامة نور يضيء لنوره ما بين المشرق والمغرب، وينادي مناد هذا من زار الحسين شوقًا إليه، فلا يبقى أحد يوم القيامة إلا تمنّى يومئذ أنّه كان من زوّار الحسين عليه السّلام" (¬1) . وفي رواية أخرى: "إن الرجل منكم ليغتسل في الفرات ثم يأتي قبر الحسين عارفًا بحقه فيعطيه الله بكل قدم يرفعها أو يضعها مائة حجة مقبولة، ومائة عمرة مبرورة، مائة غزوة مع نبي مرسل أو إمام عادل" (¬2) . ورواية ثالثة تقول: "من زار الحسين عليه السلام يوم عاشوراء حتى يظل عنده باكيًا لقي الله عز وجل يوم القيامة بثواب ألفي ألف حجة، وألفي ألف ¬
عمرة، وألفي ألف غزوة، وثواب كل حجة وعمرة وغزوة كثواب من حج واعتمر وغزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع الأئمة الراشدين صلوات الله عليهم.." (¬1) . ثم ذكرت الرواية أن هذا الفضل كله يحصل أيضًا لمن لم يستطع زيارة قبره في هذا اليوم، ولكن صعد على سطح داره وأومأ إليه بالسلام ثم دعا على قاتله وندب الحسين وبكاه ولم ينتشر في يومه هذا في حاجة (¬2) . وعلى غرار هذا عشرات من الأمثلة تكل اليد من نقلها، ويتعب الفؤاد من تأملها، لأنها روايات الهدف منها صرف الناس عن عبادة الواحد القهار إلى عبادة المخاليق الضعفاء، وغايتها التحلل من تكاليف الإسلام وشرائع الدين إلى مجرد نقل القدم إلى قبر ليحصل بذلك على كل الأجر، حتى تنتهي بمعتقدها إلى ضرب من الإباحية، والإعراض عن أوامر الله وشرائعه، والتعدي على محارمه. فلو كان شيء من هذا حقًا لذكره القرآن العظيم في آياته، لماذا يذكر الحج في آيات عدة من القرآن، ولا تذكر زيارة قبر الإمام مطلقًا.. وهي أفضل من الحج إلى بيت الله الحرام - بزعمهم -؟! وقد تنبه أحد الشيعة لذلك وتعجب لماذا تخص زيارة الحسين بهذا الفضل الذي يربو على فضل الحج مئات المرات وليس لها ذكر في القرآن؟! أليس هذا دليل الوضع والافتراء؟!! فقال - بعد أن استمع من إمامه لفضائل زيارة قبر الحسين المزعومة - قال: "قد فرض الله على الناس حج البيت، ولم يذكر زيارة قبر الحسين عليه السلام" (¬3) . ¬
فأجاب إمامهم بجواب يبدو فيه الاضطراب، حيث قال: "وإن كان كذلك فإن هذا شيء جعله الله هكذا" (¬1) . وهذا اعتراف منهم وهم أرباب التأويل الباطني بخلو القرآن من هذه البدعة، وهذا كافٍ في نقض مزاعمه من كتبهم. فالإقرار هو سيد الأدلة، وبأيديهم يهدمون بيوتهم. وكأن إمامهم في جوابه هذا يقول: لا جواب عندي، الأمر هكذا، لم يبين الله لعباده سبيل عبادتهم وما يتقون. ثم حاول بعد هذه الكلمة المضطربة أن يتلمس جوابًا بعيدًا عن الموضوع فأردف قائلاً: "أما سمعت قول أمير المؤمنين: إن باطن القدم أحق بالمسح من ظاهر القدم، ولكن الله فرض هذا على العباد" (¬2) . وهذا اعتراف منهم أيضًا بأن زيارة قبر الحسين كباطن القدم (والأصح كباطن الخف) لم تدخل فيما فرض الله، ثم واصل الاعتذار فقال: "أوما علمت أن الموقف لو كان في الحرم كان أفضل لأجل الحرم ولكن الله صنع ذلك في غير الحرم" (¬3) . وهذا كسابقه اعتراف بأن الزيارة لم تفرض، وإن كانت في نظر هذه الزمرة أحق.. ثم هي في اعتذارها تحاول أن تجعل من نفسها رقيبة على تشريع رب العالمين، فكأنها تشير بأن الله سبحانه لم يفعل ما هو أولى وأحق (تعالى الله عما يقوله الظالمون) ، حيث لم يجعل موقف عرفات في الحرم بل جعله في الحل، وهكذا تتطاول هذه الزمرة الملحدة التي وضعت هذه الأخبار، وخدعت بها الأغرار تتطاول على شرع الله وحكمته، وتضع من نفسها وصية على أمر الله. ورواياتهم في هذا كثيرة للغاية - كما أشرنا من قبل - وإنني الآن أمام زخم هائل من الروايات التي لا تخطر ببال من لم يخض غمار هذه الأساطير؛ روايات ¬
كثيرة ما أدري ما آخذ منها وما أدع، فكل منها يثير العجب والاستنكار لكل من كان على صلة بكتاب ربه، أو على أدنى وعي بأمر دينه، ولم يلجم عقله التعصب ويغلق فكره الهوى وتأخذه العزة بالإثم تعصبًا لبدعته وطائفته. ولو حاول الشيعي أن يتخلى عن هذه الأساطير التي تشده إلى الظلام ولو لحظة ثم يتفكر في أمر هذا الخطر الأكبر الذي يأخذ به ليلقيه في غياهب الشرك وظلماته، لينسى ربه وخالقه، ويتعلق بقبر مخلوق قد أرم لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا ولا حياة ولا نشورًا {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} (¬1) . والعجب أنه ورد عندهم بعض الروايات في تخفيف هذا الغلو الذي يجعل من الشخوص إلى القبر أفضل من حج بيت الله الحرام، ولكن شيخ الشيعة المجلسي رد ذلك بحجة التقية. تقول روايتهم: «عن حنان قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ما تقول في زيارة قبر الحسين صلوات الله عليه فإنه بلغنا عن بعضكم أنه قال: تعدل حجة وعمرة؟ قال فقال: ما أضعف هذا الحديث ما تعدل هذا كله ولكن زوروه ولا تجفوه فإنه سيد شباب أهل الجنة (¬2) . قال المجلسي في تأويل هذا النص الذي ينقض عشرات الروايات التي جاء بها، ويكشف ضلال ما عليه طائفته قال: "لعل المراد أنها لا تعدل الواجبين من الحج والعمرة والأظهر أنه محمول على التقية" (¬3) ، أي إن جعفرًا يقول هذا الكلام على سبيل الكذب مجاملة لأهل السنة أو خوفًا منهم وليس من دين الشيعة.. وهكذا يفعل شيوخهم بكل رواية عن أهل البيت لا توافق أهواءهم يبطلون مفعولها بهذه الحجة الجاهزة "التقية" فصار التشيع يكتسب غلوه على مر الأيام بفعل شيوخه وصار دينهم دين شيوخ الرافضة لا دين الأئمة.. ¬
زيارة كربلاء يوم عرفة أفضل من سائر الأيام
زيارة كربلاء يوم عرفة أفضل من سائر الأيام: مما يكشف أن هذه الروايات هي ثمرة مؤامرة ضد الأمة لصرفها عن بيت ربها، والعمل على إفساد أمرها، وتفريق اجتماعها.. والحيلولة دون تلاقيها في هذا المؤتمر السنوي العام.. أن هذه الروايات خصت زيارة الحسين يوم عرفة بفضل خاص، تقول: "من أتى قبر الحسين عارفًا بحقّه في غير يوم عيد كتب الله له عشرين حجّة وعشرين عمرة مبرورات مقبولات.. ومن أتاه في يوم عيد كتب الله له مائة حجّة ومائة عمرة.. ومن أتاه يوم عرفة عارفًا بحقّه كتب الله له ألف حجّة وألف عمرة مبرورات متقبّلات، وألف غزوة مع نبي مرسل أو إمام عادل" (¬1) . وتكاد بعض رواياتهم تصرح بالهدف، فهذا جعفرهم يقول: "لو أنّي حدّثتكم بفضل زيارته وبفضل قبره لتركتم الحجّ رأسًا وما حجّ منكم أحد، ويحك أما علمت أنّ الله اتّخذ كربلاء حرمًا آمنًا مباركًا قبل أن يتّخذ مكّة حرمًا.." (¬2) . فأنت تلاحظ أنه صرح من طرف خفي أن ترك الحج وزيارة كربلاء أولى. وقال: "إنّ الله يبدأ بالنّظر إلى زوّار قبر الحسين بن علي عشيّة عرفة قبل نظره إلى أهل الموقف"، (قال الراوي: وكيف ذلك؟) قال أبو عبد الله - كما يزعمون -: لأنّ في أولئك أولاد زنا وليس في هؤلاء أولاد زنا (¬3) ، وأولاد الزّنا عند الشّيعة هم غير الشّيعة من المسلمين (¬4) . ¬
ويظهر من روايتهم أن لهذه الأساطير تأثيرها حتى قال أحد نقلة هذه الأسطورة ورواتها بعد سماعه دعاء من جعفرهم لزوار قبر الحسين قال: "والله لقد تمنيت أني زرته ولم أحج.." (¬1) . وتتحدث رواية أخرى أن من أراد "أن يتنفل بالحج والعمرة فمنعه من ذلك شغل دنيا أو عائق فأتى الحسين بن علي في يوم عرفة أجزأه ذلك من أداء حجته وضاعف الله له بذلك أضعافًا مضاعفة (قال الراوي) : قلت: كم تعدل حجة وكم تعدل عمرة؟ قال: لا يحصى ذلك. قلت: مائة. قال: ومن يحصي ذلك؟ قلت: ألف. قال: وأكثر، ثم قال: وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها (¬2) . وأنت تلاحظ أن صدر النص يشير إلى أن الحج أفضل، وأن زيارة الحسين هي البديل عند حصول عائق بينما عجزه يشير إلى خلاف ذلك. قال شيخهم الفيضي الكاشاني في التعليق عما تذكره رواياتهم من فضائل زيارة قبر الحسين: "إن هذا ليس بكثير على من جعله الله إمامًا للمؤمنين، وله خلق السّماوات والأرضين، وجعله صراطه وسبيله، وعينه، ودليله، وبابه الذي يؤتى منه، وحبله المتّصل بينه وبين عباده من رسل وأنبياء وحجج وأولياء، هذا مع أنّ مقابرهم رضي الله عنهم فيها أيضًا إنفاق أموال، ورجاء آمال، وإشخاص أبدان، وهجران أوطان، وتحمّل مشاق، وتجديد ميثاق، وشهود شعائر، وحضور مشاعر" (¬3) . ¬
زيارة قبر الحسين أفضل الأعمال
تأمل هذا الغلو، حيث جعل الحسين هو الحبل والواسطة بين الله وعباده، وأنه عين الله وبابه!! ولاحظ توجيهه لفضل زيارة قبر الحسين بفعل أسباب الوقوع في الشرك نفسه من شد الرحال إلى القبر، وإنفاق الأموال لها أو عندها طلبًا لشفاعتها، وتعلق الآمال عليها، إلى آخر ما ذكره من أعمال الشرك وأسبابه، ومع ذلك فهذا عندهم من أفضل الطاعات!! (¬1) . زيارة قبر الحسين أفضل الأعمال: ليست زيارة قبر الحسين عن هؤلاء أفضل من الحج فحسب، بل أفضل الأعمال، جاء في رواياتهم أنّ زيارة قبر الحسين "أفضل ما يكون من الأعمال" (¬2) . وفي رواية أخرى "من أحبّ الأعمال زيارة قبر الحسين" (¬3) ، وأنشأ المجلسي بابًا خاصًا بهذا العنوان ذكر فيه جملة من جنس هذه الروايات (¬4) . وهكذا تنسى شرائع الإسلام وأوامره، ويهتم هؤلاء بالقبور والأضرحة ويجعلونها من أفضل الأعمال بلا دليل إلا ما صنعته أوهامهم وأوحاه لهم شياطينهم، ليشرعوا من الدين ما لم يشرعه الله. قولهم: إن كربلاء أفضل من الكعبة: قبلة المسلمين، وأقدس مقدساتهم، وأفضل البقاع بيت الله الحرام، مهوى أفئدة المسلمين، الذي لا يشرع الطواف إلا به.. والذي جعله الله مثابة للناس ¬
وأمنًا.. ملتقى المسلمين العام، وقبلتهم التي يتجهون إليها جميعًا.. تقول روايات الاثني عشرية بأنها ليست إلا ذنبًا ذليلاً مهينًا لأرض كربلاء (¬1) . إن وراء الأكمة ما وراءها.. لقد أقضَّ مضاجع الأعداء اجتماع المسلمين في هذا الملتقى الطاهر، وأرَّق أجفانهم تلاقيهم وتوجيههم لهذا المكان الواحد.. فراموا الكيد لذلك بكل وسيلة.. وراحوا يبحثون عما يصرفون به قلوب المسلمين.. وكان المدخل الميسر لهم عن طريق التشيع، فقالوا: إن قبر الحسين أفضل من الكعبة البيت الحرام.. ووضعوا من الروايات ما يحتالون به لإثبات هذه المقالة، ونسبوها لبعض آل البيت زورًا وبهتانًا.. علها تجد طريقها لقلوب المغفلين، وعقول الجاهلين، ويميل إليها أهل الأهواء، والابتداع، وأصحاب الأحقاد المتوارثة، والثارات القديمة، ومن يبغي في الأمة الفرقة والشتات. لقد اعتبر الشيعة كربلاء وغيرها من أماكن قبور أئمتهم المزعومة حرمًا مقدسًا؛ فالكوفة حرم، وقُمّ حرم، وغيرها، جاء في رواياتهم "إنّ الكوفة حرم الله وحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم أمير المؤمنين، وإنّ الصّلاة فيها بألف صلاة والدّرهم بألف درهم" (¬2) . ويروون عن جعفرهم "إنّ لله حرمًا هو مكّة، ولرسوله حرمًا وهو المدينة، ولأمير المؤمنين حرمًا وهو الكوفة، ولنا حرمًا وهو قم (¬3) ، ستدفن فيه امرأة من ولدي تسمّى فاطمة، من زارها وجبت له الجنّة" (¬4) . وقال علي بن الحسن - كما يفترون علي -: "اتّخذ الله أرض كربلاء حرمًا ¬
آمنًا مباركًا قبل أن يخلق الله أرض الكعبة ويتّخذها حرمًا بأربعة وعشرين ألف عام، وقدّسها وبارك عليها، فما زالت قبل خلق الله الخلق مقدّسة مباركة ولا تزال كذلك حتى يجعلها الله أفضل أرض في الجنّة، وأفضل منزل ومسكن يسكن فيه أولياءه في الجنّة" (¬1) . وتقديسهم لأرض كربلاء لأنه ضمت جسد الحسين فاستمدت قداستها بوجوده فيها. فهل كان الحسين مدفونًا فيها قبل خلق الكعبة بأربعة وعشرين ألف عام، أو هي معدة لاستقباله منذ غابر الأزمان؟! وإذا كان كل هذا الفضل بوجود جسد الحسين فلماذا لم تفضل المدينة وفيها جسد رسول الله؟! إن هذا تناقض في بنية المذهب.. وهو يكشف أنه ليس الهدف تقديس الحسين، ولكن الكيد للأمة ودينها. وقد جاءت روايات كثيرة عندهم تفضل كربلاء على بيت الله. فتتحدث بعض هذه الأساطير عن محاورة جرت بين كربلاء والكعبة يتبين منها أن هؤلاء الوضاعين لا عقل عندهم فضلاً عن الدين، قال جعفرهم: "إن أرض الكعبة قالت: من مثلي وقد بني بيت الله على ظهري يأتيني الناس من كل فجر عميق وجعلت حرم الله وأمنه. فأوحى الله إليها - كما يفترون - أن كفي وقرّي ما فضل ما فضّلت به فيما أعطيت أرض كربلاء إلا بمنزلة الإبرة غرست في البحر فحملت من ماء البحر، ولولا تربة كربلاء ما فضلتك، ولولا من تضمنه أرض كربلاء ما خلقتك ولا خلقت البيت الذي به افتخرت، فقرِّي واستقري وكوني ذنبًا متواضعًا ذليلاً مهينًا غير مستنكف ولا مستكبر لأرض كربلاء وإلا سخت بك وهويت بك في نار جهنم" (¬2) . ¬
ولكن الكعبة لم تأخذ بالنصيحة كما تقول روايات الشيعة!! فلم تتواضع لأرض كربلاء، وتصبح كالذنب الذليل المهين لها، فحلت بها العقوبة، بل إن العقوبة - كما يقولون - وقعت على كل ماء وأرض ما عدا كربلاء، قالوا في رواياتهم: ".. فما من ماء ولا أرض إلا عوقبت لترك التواضع لله، حتى سلط الله على الكعبة المشركين، وأرسل إلى زمزم ماء مالحًا حتى أفسد طعمه.." (¬1) . أما كربلاء فقد نجت من العقوبة على الرغم أنها افتخرت وقالت: "أنا أرض الله المقدسة المباركة، الشفاء في تربتي ومائي ولا فخر.." (¬2) . هذا جزء مما يدعونه حول كربلاء، وجمعه كله وتحليله يستغرق مؤلفًا خاصًا، وهي كلمة لا يمكن أن تخضع للمناقشة بالعقل والمنطق؛ فهي من جنس هذيان المحمومين وكلمات المجانين، ولو لم أجدها في كتبهم المعتمدة، وبروايات عديدة لما أثبتها.. وهذه الدعاوى والمخاريق هي إساءة بالغة لأهل البيت الذين يزعمون محبتهم والتشيع لهم، ولكنهم كانوا عليهم أشد من أعدائهم، وهي فضيحة من فضائح دين الشيعة قد تنتهي بقارئها والمؤمن بها من مثقفي الشيعة وعقلائهم إلى درب الإلحاد والضلال. ولقد خاب واضع هذه الأساطير وفشل في تحقيق أهدافه، فلم يتجه المسلمون إلى كربلاء، وظلت هذه الروايات لا تؤثر إلا بأولئك الذين أصمهم التعصب عن سماع الحق وأعمى قلوبهم، فهاموا في أودية من الضلال. فما دام كتاب الله سبحانه بين المسلمين فلن يغتر بمثل هذه المؤامرات إلا من اتخذ كتاب الله مهجورًا، ولم ير الحق إلا فيما قاله الحجة والسيد والآية وما سارت عليه طائفته، وإن كان لا شاهد له من كتاب الله سبحانه. والذي يروي هذه الأسطورة السالفة الذكر عن جعفر الصادق رجل يدعى ¬
زوار الحسين تأتيهم الملائكة ويناجيهم الله
صفوان الجمال، وهو كما يزعم شيوخ الشيعة من رجال جعفر وهو ثقة عندهم (¬1) ، فقد يكون هو الذي باء بإثم هذا الإفك، إذا لم يكن السند مصنوعًا، ولم أجد لهذا الرجل ذكرًا في الكتب التي رجعت إليها من كتب الرجال عند أهل السنة. زوار الحسين تأتيهم الملائكة ويناجيهم الله: وصلت مبالغات الشيعة في الحديث عن فضائل زيارة قبر الحسين والأئمة الآخرين إلى درجة لا تتصور ولا يقبلها ذو عقل، قال جعفرهم: "من خرج من منزله يريد زيارة الحسين كتب الله له بكلّ خطوة حسنة.. إلى أن قال: وإذا قضى مناسكه.. أتاه ملك فقال له: أنا رسول الله، ربّك يقرئك السّلام ويقول لك: استأنف فقد غفر لك ما مضى" (¬2) . فالملائكة تقابل زوار القبر، وتبلغهم سلام الله وتوزع عليهم صكوك الغفران!! هذه دعاوى فوق الجنون بدرجات، وأعظم منها وأكبر جرأتهم على القول بأن الله يناجي زوار الحسين، قالت رواياتهم: ".. فإذا أتاه (يعني أتى الزّائر قبر الحسين) ناجاه الله فقال: عبدي، سلني أعطك، ادعني أجبك" (¬3) . وهكذا يفترون الكذب على الله، وإنما يفتري الكذب على الله الذين لا يؤمنون، ويزعمون وهم الذين سلكوا مسلك أهل التعطيل في كلام الله سبحانه، أن الله يناجي ويكلم زوار الحسين.. وهذه فرية خطيرة.. وبهتان عظيم. ولم يكتفوا بذلك كعادتهم في الغلو والمبالغة، بل زعموا أن الله - تعالى عما ¬
مناسك المشاهد
يقوله الظالمون علوًا كبيرًا - يزور قبور الأئمة مع الشيعة، ففي البحار للمجلسي "إنّ قبر أمير المؤمنين يزوره الله مع الملائكة ويزوره الأنبياء ويزوره المؤمنون" (¬1) . كبرت كلمة تخرج من أفواههم، وتسطرها أقلامهم، إن يقولون إلا كذبًا. مناسك المشاهد: زيارة الأضرحة فريضة من فرائض مذهبهم (¬2) ، يكفر تاركها (¬3) . وقد عقد لذلك المجلسي بابًا بعنوان: "باب أن زيارته (¬4) . واجبة مفترضة مأمور بها، وما ورد من الذم والتأنيب والتوعد على تركها" وذكر فيه (40) حديثًا من أحاديثهم (¬5) . ومن هنا وضعوا لها مناسك كماسك الحج إلى بيت الله الحرام. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وقد صنف شيخهم ابن النعمان المعروف عندهم بالمفيد كتابًا سماه "مناسك المشاهد" جعل قبور المخلوقين تحج كما تحج الكعبة البيت الحرام الذي جعله الله قيامًا للناس، وهو أول بيت وضع للناس، فلا يطاف إلا به ولا يصلى إلا إليه ولم يأمر إلا بحجه" (¬6) . ولكن كشف لنا اليوم شيخهم أغا بزرك الطهراني في كتابه "الذريعة" أن ما صنفه شيوخهم في المزار ومناسكه قد بلغ ستين كتابًا (¬7) ، كلها ألفت لإرساء ¬
قواعد هذا الشرك وتشييد بنائه، وهذا عدا ما اشتملت عليه كتب الأخبار المعتمدة عندهم من أبواب خاصة بالمشاهد - كما سيأتي - ومن هذه المناسك ما يلي: أـ الطواف بها: اتفق المسلمون على أنه لا يشرع الطواف إلا بالبيت المعمور (¬1) ... ولكن شيوخ الشيعة شرعوا لأتباعهم الطواف بأضرحة الموتى من الأئمة، ووضعوا من الروايات على آل البيت ما يسندون به هذا الشرك، فقال المجلسي بأنه ورد في بعض زيارات الأئمة "إلا أن نطوف حول مشاهدكم"، وفي بعض الروايات "قبّل جوانب القبر"، كما قال بأن الرضا كان - على حد زعمه - يطوف بقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬2) . وأخذ من ذلك "شرعية" هذا "النسك الوثني" في مذهبهم، ولم يلتفت إلى نصوص القرآن الصريحة الواضحة في النهي عن الشرك والوعيد عليه بنار جهنم وبئس المصير، ولكن أشكل عليه روايات لهم تناقض - كالعادة - مذهبهم في المشاهد وهي مروية عن أئمتهم فرام التخلص منا بالتأويل. فقد جاء في رواياتهم ما ينهى عن الطواف بالقبور كقول إمامهم: "لا تشرب وأنت قائم ولا تطف بقبر،..فإن من فعل ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه، ومن فعل شيئًا من ذلك لم يكن يفارقه إلا ما شاء الله" (¬3) . وقد أجهد المجلسي نفسه قال في تأويل هذه الرّواية فقال: "يحتمل أن يكون النّهي عن الطّواف بالعدد المخصوص الذي يُطاف بالبيت" (¬4) . فأنت ترى أن المجلسي لم يحاول أن يسلك ما يتفق مع كتاب الله سبحانه وما عليه المسلمون، وما جاء عندهم أيضًا: "ولا تطف على قبر" فينصح لنفسه ¬
وطائفته بالنهي عن هذه البدعة فيقر بذلك، ويؤول ما يخالفه، لأنه شذوذ وانحراف وباب من أبواب الشرك بالله، لم يفعل ذلك بل تكلف في تأويل نصهم الذي يدل على المعنى الحق حتى قال: "يحتمل أن يكون المراد بالطواف المنفي هنا التغوط" (¬1) . فدين الشيعة هو دين المجلسي لا دين الأئمة، وعمل الشيعة بما قاله شيوخهم لا ما قاله إمامهم.. فأعرضوا عن قول الإمام: "ولا تطف بقبر"، كما أعرضوا من قبل عن قول الله ورسوله وإجماع المسلمين، فضلّوا وأضلّوا قومهم سواء السّبيل. ب ـ الصلاة عند الضريح: من مناسك المشاهد والأضرحة أداء ركعتين أو أكثر عند قبور الأئمة، وربما يتخذونها قبلة - كما سيأتي - وكل ركعة تؤدى عند القبور تفضل على الحج إلى بيت الله الحرام مئات المرات، جاء في أخبارهم: "الصّلاة في حرم الحسين لك بكلّ ركعة تركعها عنده كثواب من حجّ ألف حجّة، واعتمر ألف عمرة، وأعتق ألف رقبة، وكأنّما وقف في سبيل الله ألف ألف مرّة مع نبي مرسل" (¬2) . وليس هذا خاصًا بقبر الحسين بل كل قبور أئمتهم كذلك، ففي البحار: "من زار الرضا (¬3) . أو واحدًا من الأئمة فصلى عنده.. فإنه يكتب له (ثم ذكر ما جاء في النص السابق وزاد) وله بكل خطة مائة حجة، ومائة عمرة، وعتق مائة رقبة في سبل الله، وكتب له مائة حسنة، وحط عنه مائة سيئة (¬4) . انظر كيف يفضلون الصلاة عند القبور على الحج إلى بيت الله الحرام، ¬
فيقدمون الشرك على التوحيد. وقديمًا كان المشركون يقولون بأن دينهم أفضل من دين الله، وأنهم أهدى من الذين آمنوا سبيلاً. واتخاذ القبور مساجد ملعون فاعلها على لسان رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، حيث قال: "لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" (¬1) . وفي الصحيحين أيضًا أنه ذكر له في مرض موته كنيسة بأرض الحبشة، وذكر له من حسنها وتصاوير فيها فقال: "إن أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا، وصوروا فيه تلك التصاوير، أولئك شرار الخلق عند الله" (¬2) . وقد ثبت أيضًا النهي عن اتخاذ القبور مساجد في كتب الاثني عشرية نفسها، ولكن شيوخهم يؤولونه - كما سيأتي -. جـ الانكباب على القبر: من مناسك المشاهد عندهم الانكباب على القبر، ووضع الخد عليه، وتقبيل ¬
الأعتاب. ومناجاة صاحب القبر حتى ينقطع النفس كما يقولون. قال المجلسي: "باب ما يستحب فعله عند قبره عليه السلام.." (¬1) . ثم ذكر أن شيخ طائفتهم الطّوسي قال في وصفه لأعمال زيارة يوم الجمعة: ".. ثم تنكبّ على القبر وتقول: مولاي إمامي، مظلوم استعدى على ظالمه، النّصر، النّصر حتى ينقطع النّفس" (¬2) . وفي أكثر زياراتهم يؤكدون في أثنائها وخاتمتها على الانكاب على القبر، ودعائه، فهذه زيارة للحسين أوصى بها جعفر الصادق - كما يزعمون - وأمر قبل بدء هذه الزيارة بصيام ثلاثة أيام ثم الاغتسال، ولبس ثوبين طاهرين، ثم صلاة ركعتين، ثم قال: "فإذا أتيت الباب فقف خارج القبّة، وأوم بطرفك نحو القبر وقل: يا مولاي يا أبا عبد الله يا ابن رسول الله عبدك وابن عبدك وابن أمتك، الذّليل بين يديك، المقصّر في علو قدرك، المعترف بحقّك، جاءك مستجيرًا بذمّتك، قاصدًا إلى حرمك، متوجّهًا إلى مقامك - إلى أن قال:- ثمّ انكبّ على القبر وقُل: يا مولاي أتيتك خائفًا فآمنّي، وأتيتك مستجيرًا فأجرني.. ثم انكبّ على القبر ثانية" (¬3) . إلى آخر الزيارة التي يدعو فيها مخلوقًا من دون الله سبحانه، ويتضرع إليه وكأنه يتضرع أمام الله، فماذا يكون الشرك إذا لم يكن هذا شركًا؟! ومثل ذلك قال مفيدهم: "فإذا أردت الخروج فانكبّ على القبر وقبّله - إلى أن قال:- ثم ارجع إلى مشهد الحسين وقل: السّلام عليك يا أبا عبد الله، أنت لي جُنَّة من العذاب" (¬4) . وهكذا أصبح في دينهم الشرك بالله من المستحبات، فهو سجود على القبر أو لصاحب القبر يسمونه "الانكباب"، ودعاء للميت الذي لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا وكأنهم يدعون خالق السماوات والأرض القادر على كل شيء {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ ¬
غَافِلُونَ} (¬1) ، وهم يعدون هذا من أفضل القربات، ويوهمون الأتباع بأن هذا الشرك "يوجب غفران الذّنوب ودخول الجنّة، والعتق من النّار، وحطّ السّيئات، ورفع الدّرجات، وإجابة الدّعوات" (¬2) . و"توجب طول العمر وحفظ النّفس والمال، وزيادة الرّزق وتنفّس الكرب، وقضاء الحوائج" (¬3) . و"تعدل الحجّ والعمرة والجهاد والإعتاق" (¬4) . إلى آخر الفضائل الموهومة.. فشرعوا من الدّين ما لم يأذن به الله. ولهم تعلق بكل عمل يتصل بالشرك بالله من قريب أو بعيد، حتى وإن لم يوجد نص يعتمدون عليه من كتبهم المليئة بما يغني في باب الشرك وأسبابه، يقول المجلسي - مثلاً -: "وأمّا تقبيل الأعتاب فلم نقف على نصّ يعتدّ به ولكن عليه الإماميّة" (¬5) . أي أنهم يتعبدون بذلك مجاراة لأسلافهم وتقليدًا لهم، فكأن الشرك وأعماله المنتشرة في أمهات كتبهم لم تملأ ما في نفوسهم، فتعلقوا بما عليه من سبقهم كحال المشركين الذين قالوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} (¬6) . وكل إمام ينسب له من المبادئ الشركية الجديدة، حتى "المنتظر" الذي لم يولد له قوانين جديدة في هذا الباب منها استقبال القبر في الصلاة واستدبار الكعبة - كما سيأتي - ومنها في مسألتنا هذه وضع الخد على القبر، فقد خرجت الرواية فيها - كما يقولون - من الناحية المقدسة، أي من قبل المهدي المنتظر المزعوم بواسطة سفرائه الكذبة حيث قال مهديهم: " ... والذي عليه العمل أن يضع خدّه الأيمن على القبر" (¬7) . ¬
ولهذا قرر شيوخهم أن من آداب زيارة هذه الأضرحة "وضع الخدّ الأيمن عند الفراغ من الزّيارة والدّعاء" (¬1) . وقالوا: "لا كراهة في تقبيل الضّرايح؛ بل هو سنّة عندنا ولو كان هناك تقية فتركه أولى" (¬2) . هذه مبادئ جديدة ابتدعها شيوخ السوء من الرافضة "وقد اتفق المسلمون على أنه لا يشرع الاستلام والتقبيل إلا للركنين اليمانيين، فالحجر الأسود يستلم ويقبل، واليماني يستلم، وقد قيل إنه يقبل وهو ضعيف، وأما غير ذلك فلا يشرع استلامه ولا تقبيله كجوانب البيت، والصخرة والحجرة النبوية، وسائر قبور الأنبياء والصالحين" (¬3) . والهدف من هذه المبادئ الصد عن دين الله سبحانه، والدعوة إلى الشرك بالله وتهيئة أسبابه، وقد وضعت أدعية تقال أثناء هذه الأعمال فيها من الشرك بالله سبحانه، وتأليه الأئمة ما يستقل عنده فعل المشركين. د ـ اتخاذ القبر قبلة كبيت الله: قال شيخ الشيعة المجلسي: "إنّ استقبال القبر أمر لازم، وإن لم يكن موافقًا للقبلة.. واستقبال القبر للزّائر بمنزلة استقبال القبلة وهو وجه الله، أي جهته التي أمر النّاس باستقبالها في تلك الحالة" (¬4) . وحينما وجد المجلسي في روايات قومه نصين متعارضين - كالعادة - الأول: عن أبي جعفر محمد الباقر يقول: "إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم.. قال: لا تتّخذوا قبري قبلة ولا مسجدًا، فإنّ الله عزّ وجلّ لعن الذين اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد" (¬5) . ¬
والثاني: من مهديهم المنتظر (الذي لا وجود له كما يقول أهل العلم) ونصه: "كتب الحميري (¬1) . إلى النّاحية المقدّسة (¬2) . يسأل عن الرّجل يزور قبور الأئمّة عليهم السّلام.. هل يجوز لمن صلّى عند بعض قبورهم عليهم السّلام أن يقوم وراء القبر ويجعل القبر قبلة أم يقوم عند رأسه أو رجليه؟ وهل يجوز أن يتقدم القبر ويصلي ويجعل القبر خلفه أم لا؟ فأجاب (المهدي المزعوم) :.. أمّا الصّلاة فإنّها خلفه ويجعل القبر أمامه، ولا يجوز أن يصلي بين يديه ولا عن يمينه ولا عن يساره؛ لأن الإمام صلى الله عليه لا يتقدم عليه ولا يساوى" (¬3) . حينما وجد المجلسي هذين النصين رجح لقومه العمل بالنص الثاني فقال: "يمكن حمل الخبر السّابق على التّقية أو على أنّه لا يجوز أن يجعل قبورهم بمنزلة الكعبة يتوجّه إليها من كلّ جانب (¬4) . ومن الأصحاب من حمل الخبر الأوّل على الصّلاة جماعة، والخبر الثّاني على الصّلاة فرادى، وستأتي الأخبار المؤيدة للخبر الثاني (يعني في اتخاذ القبر قبلة) في أبواب الزيارات" (¬5) . انظر كيف يؤيد شيوخهم الشرك بالله سبحانه، ويردون الحق ولو جاء في كتبهم، فيرجّح المجلسي ما جاء عن المنتظر الذي لا حقيقة له، ويردّ ما روي عن أبي جعفر عن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم والموافق للكتاب والسّنّة وإجماع الأمّة. وقد توقف المجلسي أيضًا عند قول إمامه وهو يبين طريقة زيارة القبر من البعيد عنه قال: "اغتسل يوم الجمعة أو أي يوم شئت، والبس أطهر ثيابك واصعد ¬
إلى أعلى موضع في دارك أو الصّحراء فاستقبل القبلة بوجهك بعدما تبيّن أنّ القبر هنالك". توقف المجلسي عند هذا النص، لأن استقبال القبر في دينه أمر لازم فقال: "قوله: فاستقبل القبلة بوجهك لعله عليه السلام إنما قال ذلك لمن أمكنه استقبال القبر والقبلة معًا ... ويحتمل أن يكون المراد بالقبلة هنا جهة القبر مجازًا.. ولا يبعد أن تكون القبلة تصحيف القبر" (¬1) . كل هذه التكلفات والتأولات لأنه يقول بأن طائفته "حكموا باستقبال القبر مطلقًا (أي في كل أنواع الزيارات) ، وهو الموافق للأخبار الأخر في زيارة البعيد" (¬2) . وقال: إنه مع بعد الزائر عن القبر يستحسن استقبال القبر في الصلاة واستدبار الكعبة (¬3) ، وذلك عند أداء ركعتي الزيارة التي قالوا فيها: "إن ركعتي الزيارة لابد منهما عند كل قبر" (¬4) . وهذا ليس بغريب من قوم زعموا أن كربلاء أفضل من الكعبة. فماذا نسمي هذا الدين الذي يأمر أتباعه باستدبار الكعبة واستقبال قبور الأئمة؟ وماذا نسمي هؤلاء الشيوخ الذين يدعون لهذا الدين؟ فليسم بأي اسم إلا الإسلام دين التوحيد الذي نهى رسوله عليه الصلاة والسلام عن الصلاة في المقابر فكيف باتخاذ القبور قبلة!! ومن العجب أن هذا النهي عن اتخاذ القبور مسجدًا وقبلة ورد في كتب الشيعة نفسها، كما جاء في الوسائل للحر العاملي (¬5) . وغيره، كما ورد أيضًا بطلان ¬
الصلاة إلى غير القبلة (¬1) . والتناقض في هذا المذهب من أعجب العجب. هذا بعض ما جاء في مصادرهم المعتمدة حول المشاهد، وهو قليل من كثير، حيث إن لهم عناية ظاهرة، واهتمامًا واسعًا بأمر المشاهد ومناسكها كاهتمامهم بمسألة الإمامة، وقد خصصت مصادرهم المعتمدة له قسمًا خاصًا مما لا تجده في كتب المسلمين الموحدين. ففي بحار الأنوار للمجلسي، كتاب مستقبل سماه "كتب المزار" يتضمن أبوابًا كثيرة، اشتملت على مئات الروايات، وقد استغرق ذلك حوالي ثلاثة مجلدات (¬2) . من طبعة البحار الأخيرة. وكذلك في وسائل الشيعة للحر العاملي ذكر (106) بابًا بعنوان: أبواب المزار" (¬3) . وفي الوافي للكاشاني الجامع لأصولهم الأربعة عقد ثلاثة وثلاثين بابًا بعنوان "أبواب المزارات والمشاهد" (¬4) . وفي كتاب من لا يحضره الفقيه لابن بابويه (أحد مصادرهم المعتمدة) أبواب عدة حول المشاهد وتعظيمها كباب تربة الحسين وحريم قبره، وأبواب زيارة الأئمة وفضلها (¬5) . وفي تهذيب الأحكام للطوسي مجموعة كبيرة من الأبواب تتضمن تعظيم ¬
المشاهد والقبور، ومناجاة الأئمة بأدعية تتضمن تأليفهم (¬1) . وفي مستدرك الوسائل ستة وثمانون بابًا حوت (276) رواية في الزيارات والمشاهد (¬2) . هذا عدا ما اشتملت عليه كتبهم الأخرى التي هي في منزلة المصادر الثمانية عندهم كثواب الأعمال لابن بابويه وغيره. وهذا غير ما ألف في المزارات من كتب خاصة به في الماضي والحاضر مثل: كامل الزيارات لابن قولويه، ومفاتيح الجنان لعباس القمي، وعمدة الزائر لحيدر الحسيني، وضياء الصالحين للجوهري وغيرها. وكلها تتحدث عن الفضائل المزعومة لمن شد الرحل لزيارة أضرحة الأئمة وطاف بها، ودعا في رحابها، واستغاث بمن فيها، وتذكر مئات الأدعية التي فيها من الغلو في الأئمة ما يصل بهم إلى مقام الخالق جل شأنه، وفيها من الشرك بالله ما الله به عليم. وكان لاهتمامهم بهذا المعول الهادم لأصل التوحيد أثره في ديار الشيعة، حيث عمرت بيوت الشرك التي يسمونها المشاهد، وعطلت بيوت التوحيد وهي المساجد وبقي هذا الاهتمام إلى اليوم كما سيأتي - إن شاء الله - (¬3) . ¬
الجانب النقدي (لمسألة المشاهد عند الشيعة)
الجانب النقدي (لمسألة المشاهد عند الشيعة) : إن للمسلمين كعبة واحدة يتجهون إليها في صلاتهم ودعائهم، ويحجون إليها، ويطوفون بها، أما الشيعة فلهم مزارات ومشاهد وكعبات عبارة عن أضرحة الموتى من الأئمة (¬1) وغيرهم (¬2) ، وهي قبور تنافس بيت الله بل تفضل عليه، ويقام فيها الشرك ويهدم التوحيد. وقد يقال: إن الشرك والمشاهد منتشرة في كثير من بلاد السنة. وقد أثار شيخ الإسلام ابن تيمية هذا السؤال في أثناء حديثه عن غلو الشيعة في أئمتها وما عندها من الشرك والبدعة حيث قال: "فإن قيل: ما وصفت به الرافضة من الغلو والشرك والبدع موجود كثير منه في كثير من المنتسبين إلى السنة.."، وأجاب رحمه الله عن ذلك: بأن هذا كله مما نهى الله عنه ورسوله، وكل ما نهى الله عنه ورسوله فهو مذموم منهي عنه سواء كان فاعله منتسبًا إلى السنة أو التشيع، ولكن ما عند الرافضة من هذه الأمور المخالفة للكتاب والسنة أكثر مما عند أهل السنة (¬3) . ¬
وأضيف أيضًا أن الفرق بين الشيعة وأهل السنة في ذلك أن ما عند أهل السنة هو انحراف في واقعهم تنكره أصولهم، وما عند الشيعة هو ما يتفق مع أصولهم بل هو ما تدعو إليه وتحث عليه أحاديثهم ورواياتهم - كما رأينا - فهو معروف في أصول الشيعة منكر في أصول أهل السنة. ونتيجة هذا الفرق أن ما عند أهل السنة قابل للإصلاح وما عند الشيعة غير قابل حتى تغير أصولهم أولاً، وهذه النتيجة ليست نظرية أو خيالية بل ظهرت بشكل واقع في تأثير حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في العالم الإسلامي في محاربة الشرك، واستعصاء الشيعة على هذا الإصلاح. وقد شهد بهذه الحقيقة شاهد من أهلها: يقول العالم الإيراني - الشيعي الصل - أحمد الكسروي (¬1) .: "ومما يرى من لجاج الشيعة أنه قد انقضى منذ ظهور الوهابيين أكثر من مائة وخمسين عامًا، وجرت في تلك المدة مباحثات ومجادلات كثيرة بينهم وبين الطوائف الأخرى من المسلمين، وانتشرت رسالات وطبعت كتب، وظهر جليًا أن ليست زيارة القبب، والتوسل بالموتى، ونذر النذور للقبور وأمثالها إلا الشرك، ولا فرق بين هذه وبين عبادة الأوثان التي كانت جارية بين المشركين من العرب فقام الإسلام يجادلها ويبغي قلع جذورها، يبين ذلك آيات كثيرة من القرآن، فأثرت الوهابية في سائر طوائف المسلمين غير الروافض أو الشيعة الإمامية، فإن هؤلاء لم يكترثوا بما كان، ولم يعتنوا بالكتب المنتشرة والدلائل المذكورة أدنى اعتناء، ولم يكن نصيب الوهابيين منهم إلا اللعن والسب كالآخرين" (¬2) . إن الشرك قد ألبس في مصادر الشيعة المعتمدة ثوب الحق، وأصبح هو الدين، وهذا هو الخطر الأكبر، والداء الأعظم. لقد عقدت أمهات كتبهم "أبوابًا" ¬
كثيرة ضمنتها مئات من الروايات تجسد الشرك وترسي قواعده، وألفت في هذا كتبٌ مستقلة جمعت من الشر في هذا السبيل فأوعت - كما مر -. لقد غلت الرافضة بالأئمة وقبورهم، وصنعوا صنيع النصارى في غلوهم في المسيح.. فترك هؤلاء الروافض عبادة الله وحده لا شريك له فتراهم يعطلون المساجد التي أمر الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه.. ويعظمون المشاهد المبنية على القبور فيعكفون عليها مشابهة للمشركين، ويحجون إليها كما يحج الحاج إلى البيت العتيق، بل السفر إليها والطواف بها والصلاة عندها وتقديم القرابين في رحابها والانكباب على الضريح والاستغاثة به، وطلب الشفاء منه، أو التوسل به وطلب شفاعته هي عندهم من أفضل القربات وأعظم الطاعات - كما مضى ذكر بعض شواهده - ومن أضل ممن يفضل الشرك على التوحيد، ويعمر المشاهد ويعطل المساجد، و"يعتاض عن أرض مكة والحرم وعفرة ومنى بأرض كربلاء" (¬1) . ويستبدل الباطل بالحق، ويرى أنه أهدى من الذين آمنوا سبيلاً؟! وقد علم بالاضطرار من دين الإسلام أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بما ذكروه من أمر المشاهد ولا شرع ولا شرع لأمته مناسك عند قبور الأنبياء والصالحين، بل هذا من دين المشركين (¬2) . الذين قال الله تعالى فيهم: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} (¬3) . قال ابن عباس وغيره: هؤلاء.. أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابًا وسموها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت (¬4) . ¬
وقد قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - لأبي الهياج الأسدي: "ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته" (¬1) . وهذا المعنى أقرت به بعض روايات الشيعة، فقد روى الكليني عن أبي عبد الله قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فقال: لا تدع صورة إلا محوتها ولا قبرًا إلا سوّيته (¬2) . وفي رواية أخرى «بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في هدم القبور وكسر الصّور" (¬3) . وعن أبي عبد الله قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلى على قبر أو يقعد عليه أو يبنى عليه (¬4) . وعن أبي عبد الله قال: لا تبنوا على القبور.. فإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كره ذلك (¬5) ، وعنه أيضًا عن آبائه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يجصّص المقابر (¬6) . وقد زعم الحرّ العاملي أنّ هذا النهي يشمل كل قبر "غير قبر النبي صلى الله عليه وسلم والأئمة عليهم السلام وأن هذا النّهي لمجرّد الكراهة" (¬7) . وصيغة العموم واضحة في هذه الروايات، كما أن دلالة التحريم بينة، ولا دليل ¬
عند العاملي سوى ما شذت به طائفته في واقعها وفي جملة من رواياتها، والشذوذ دليل على البطلان لمخالفته لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة بما فيهم أهل البيت الذين أثر عنهم التحذير من ذلك، لأن ذلك وسيلة للشرك بالله، ثم إن الحكمة التي ورد من أجلها النهي لا تفرق بين قبر وقبر، وقد يكون الخطر في قبور الأئمة أشد لعظيم الافتتان بهم، ولهذا كان أصل الشرك هو الغلو في الصالحين (¬1) . وتناقض كتب الشيعة نفسها حينما تنقل أدعية الأئمة، ومناجاتهم لله سبحانه، وتضرعهم بالاستكانة إليه، وإخلاص الدعاء له وحده، وإظهار الضعف والافتقار إليه سبحانه، مما يكشف باطل الشيعة، ويبين أن ما تفعله في مزاراتها، وتدعو إليه في رواياتها ليس من هدي الأئمة. فهذا جعفر الصادق كان من دعائه كما تعترف كتب الشيعة: "اللهم إنّي أصبحت لا أملك لنفسي ضرًّا ولا نفعًا ولا حياة ولا موتًا ولا نشورًا، قد ذلّ مصرعي، واستكان مضجعي، وظهر ضري، وانقطع عذري، وقل ناصري، وأسلمني أهلي ووالدي وولدي بعد قيام حجتك عليّ، وظهور براهينك عندي، ووضوح أدلتك لي. اللهم وقد.. أعيت الحيل، وتغلقت الطرق، وضاقت المذاهب، ودرست الآمال إلا منك، وانقطع الرّجاء إلا من جهتك.." (¬2) . هذا ما يجأر به جعفر ويلجأ به إلى الله فهو لا يملك شيئًا من النفع، أو الضر لنفسه فكيف لغيره، وإذا كان ذلك في حياته فهو بعد موته أعجز. ¬
وكثير من الأئمة نقل عنهم أمثال هذه الدعوات (¬1) . كما تنقل كتب الشيعة أن أمير المؤمنين عليًا صور حالته في القبر في مناجاته لربه فقال: "إلهي كأني بنفسي قد أضجعت في حقرتها، وانصرف عنها المشيعون من جيرتها.. ولم يخف على الناظرين ضرّ فاقتها.. قد توسدت الثرى وعجز حيلتها.." (¬2) . فليس له حيلة في نفسه إلا برحمة من الله وفضل، فكيف يطلب منه في قبره الشفاعة والغفران وينسى ذو الرحمة الواسعة والفضل العظيم. والحسين لم يستطع أن يدفع عن نفسه القتل فكيف يطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله؟! وقد نقلت كتب الشيعة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعوذه هو والحسن بهذه العوذة وهو هذا الدعاء: بسم الله الرحمن الرحيم: أعيذ نفسي وديني وأهلي ومالي وولدي وخواتيم عملي، وما رزقني ربي وخولني بعزة ربي وعظمة الله.. إلخ (¬3) . فهو أضعف من أن يقي نفسه شر ما يصيبها إلا بحفظ الله، فإذا كان ذلك في حياته فهو بعد موته أعجز، والله سبحانه لم يجعل بينه وبين خلقه واسطة إلا الرسل للإبلاغ والبيان. ¬
المبحث الرابع: قولهم: إن الإمام يحرم ما يشاء ويحل ما يشاء
المبحث الرابع: قولهم: إن الإمام يُحرّم ما يشاء ويُحلّ ما يشاء من أصول التوحيد الإيمان بأن الله سبحانه هو المشرع وحده سبحانه، يحل ما يشاء ويحرم ما يشاء، لا شريك له في ذلك، ورسل الله يبلغون شرع الله لعباده، ومن ادعى أن له إمامًا يحل ما يشاء ويحرم ما يشاء فهو داخل في قوله سبحانه: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} (¬1) . فأشرك مع الله غيره. والشيعة تزعم في رواياتهم أن الله سبحانه وتعالى "خلق محمّدًا وعليًّا وفاطمة فمكثوا ألف دهر ثم خلق جميع الأشياء فأشهدهم خلقها وأجرى طاعتهم عليها وفوّض أمورهم إليها، فهم يحلّون ما يشاءون ويحرّمون ما يشاءون" (¬2) . وقد بين شيخهم المجلسي بعض فقرات هذا النص فقال: "وأجرى طاعتهم عليها، أي أوجب وألزم على جميع الأشياء طاعتهم حتى الجمادات من السّماويّات والأرضيّات، كشقّ القمر وإقبال الشّجر وتسبيح الحصى وأمثالها ممّا لا يحصي، وفوّض أمورها إليهم من التّحليل والتّحريم والعطاء والمنع.." (¬3) . ثم بين أن ظاهر هذا النص يدل على تفويض الأحكام "أحكام التحليل والتحريم إليهم". وجاءت الرواية عندهم صريحة بهذا فيما ذكره المفيد في الاختصاص، والمجلسي في البحار وغيرهم عن أبي جعفر قال: "من أحللنا له شيئًا أصابه من أعمال الظّالمين (¬4) . فهو حلال لأن الأئمة منا مفوض إليهم، فما أحلوا فهو حلال، ¬
وما حرموا فهو حرام" (¬1) . هكذا يصرحون بأن للأئمة حق التشريع والتحليل والتحريم فما أحلوه من بين مال المسلمين فهو حلال، وما حرموه فهو حرام ... فجعل هؤلاء من أئمتهم أربابًا من دون الله، لأن جعلهم جهة تحريم وتحليل وتشريع هو شرك في توحيد الربوبية، لأن الحاكمية والتشريع لله، كما أن طاعتهم في تشريعهم المخالف لشريعة رب العالمين، والتي قد تنسخ أو تقيد أو تخصص ما جاء به خاتم النبيين (¬2) . هو عبودية لهم من دون الله.. وحق التشريع لا يملكها إلا رب العباد، والرسل عليهم الصلاة والسلام إنما هم مبلغون عن الله سبحانه لا يحرمون ولا يحلون إلا ما يأمرهم الله به، ويوحيه إليهم. وقد قال الله جل شأنه فيمن اتبع مشايخه فيما يحلون ويحرمون من دون شرع الله وحكمه قال سبحانه: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ} (¬3) . فجعل سبحانه اتباعهم فيما يحلون من الحرام، ويحرمون من الحلال - كما جاء في تفسير الآية (¬4) .- عبادة لهم، حيث "تلقوا الحلال والحرام من جهتهم وهو أمر لا يتلقى إلا من جهة الله عز وجل" (¬5) . وقد شابه اعتقاد الشيعة في أئمتهم ومشايخهم اعتقاد النصارى في رؤسائهم؛ فالجميع اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله سبحانه. ¬
والشيعة حينما اعتقدت في أئمتها أنهم جهة تشريع أكملت ذلك بدعواها أن الناس جميعًا عبيد للأئمة لتتضح صورة الشرك أكثر. قال الرضا: "الناس عبيد لنا في الطاعة، موالٍ لنا في الدين فليبلغ الشاهد الغائب" (¬1) . مع أن الله سبحانه يقول: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللهِ} (¬2) . فالناس جميعًا عبيد لله وحده لا لأحد سواه، ولو كان من عباد الله المرسلين الذين آتاهم الله الكتاب والحكم والنبوة، فكيف بأئمة الشيعة، أو من تدعي فيه الإمامة. وبما أن الأئمة - حسب اعتقاد الشيعة - جهة تحليل وتحريم، جهة تحليل وتحريم، فإن لهم الخيار في أن يبينوا للناس أمر الحلال والحرام وأن يكتموا. جاء في الكافي وغيره: "عن معلى بن محمد عن الوشاء قال: سألت الرضا رضي الله عنه فقلت له: جعلت فداك {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (¬3) . فقال: نحن أهل الذكر، ونحن المسؤولون، قلت: فأنتم المسؤولون ونحن السائلون؟ قال: نعم، قلت: حقًا علينا أن نسألكم؟ قال: نعم، قلت: حقًا عليكم أن تجيبونا؟ قال: لا، ذاك إلينا إن شئنا فعلنا وإن شئنا لم نفعل" (¬4) . وفي هذا المعنى روايات كثيرة عندهم (¬5) . مع أن هذا لم يكن لرسول الهدى صلى الله عليه وسلم أفضل الرسل أجمعين. قال تعالى: ¬
{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (¬1) ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (¬2) . وقد جاء الوعيد الشديد لمن كتم ما أنزل الله من الهدى والحق، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ} (¬3) . وقد ورد في الحديث المروي من طرق متعددة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من سئل عن علم ثم كتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار" (¬4) . فهل بيان ما يحتاج الناس إليه من الحق والهدى خاضع للإرادات والمزاج والهوى حتى يقال: "ليس علينا الجواب إن شئنا أجبنا وإن شئنا أمسكنا" (¬5) .؟! ولأن البيان والتعليم خاضع لإرادة أئمة الشيعة، فقد ظل الشيعة - كما تقول أخبارهم - "لا يعرفون مناسك حجهم وحلالهم وحرامهم حتى كان أبو جعفر (محمد الباقر) ففتح لهم، وبين مناسك حجهم وحلالهم وحرامهم" (¬6) . "ولم يكتف الشيعة بذلك بل زعموا أن لأئمتهم "حق" إضلال الناس، وإجابتهم بالأجوبة المختلفة المتناقضة، لأنه قد فوض إليهم ذلك. جاء في الاختصاص للمفيد عن موسى بن أشيم قال: دخلت على أبي عبد الله فسألته عن مسألة ¬
فأجابني فيها بجواب، فأنا جالس إذ دخل رجل فسأله عنها بعينها فأجابه بخلاف ما أجابني وخلاف ما أجاب به صاحبي، ففزعت من ذلك وعظم عليَّ، فلما خرج القوم نظر إليَّ وقال: يا ابن أشيم إن الله فوض إلى داود أمر ملكه فقال: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (¬1) ، وفوض إلى محمد صلى الله عليه وسلم أمر دينه فقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} (¬2) ، وإن الله فوض إلى الأئمة منا وإلينا ما فوض إلى محمد صلى الله عليه وسلم فلا تجزع" (¬3) . وهكذا يفترون الكذب.. فالأئمة - كما تقول أخبارهم - هم المشرعون، وأمر التحليل والتحريم بأيديهم، ولهم حق كتمان ما يحتاج الناس إليه حتى أركان الإسلام وأصوله إن شاءوا أجابوا الناس، وإن شاءوا منعوهم، ولذلك ظل الشيعة في جهل في أمر الحج - كما يشهدون على أنفسهم - إلى زمن الباقر؛ لأنهم لا يأخذون مما رواه الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما يأخذون ما جاء عن الأئمة، والأئمة كتموا أمر المناسك عليهم. وتستمر مسيرة الافتراء بأيدي هؤلاء القوم على دين الله وكتابه، ورسوله وأهل بيته، وهم يتسترون على هذه الدعاوى المنكرة، والاتجاهات الكافرة بدعوى التشيع لآل البيت، فهل هؤلاء شيعة لعلي والحسن والحسين وعلي بن الحسين وهم يفترون عليهم.. كل هذه الافتراءات، ويرمونهم بأنهم لم يبينوا للناس أمر الحلال والحرام، والحج، وأن من شرعتهم كتمان الحق، وإضلال الناس بالأجوبة المتناقضة؟! ¬
المبحث الخامس: قولهم: إن تراب قبر الحسين شفاء من كل داء
المبحث الخامس: قولهم: إن تراب قبر الحسين شفاء من كل داء تقول الشيعة - مخالفة بذلك النقل والعقل، والطب والحكمة بأن تربة الحسين هي الكفيلة لشفاء الأدواء والأسقام بشتى أنواعها وأشكالها، وكأنهم بهذا اعتقدوا فيما لا ينفع بالحس والمشاهدة، وبالطبع والعقل، اعتقدوا فيه النفع، وزعموا أن الشفاء يتحقق من تراب قبر لا من رب الأرباب، مخالفين بذلك قول الله: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ} (¬1) ، وقوله: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} (¬2) ، وقوله: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} (¬3) . فهم باعتقادهم بهذا التراب الدواء والشفاء قد شابهوا المشركين في اعتقادهم بأحجارهم النفع والضر. ولقد ذكر صاحب البحار ما يصل إلى ثلاث وثمانين رواية عن تربة الحسين وفضلها وآدابها وأحكامها (¬4) ، فجعلت هذه الرّوايات من هذه التّربة البلسم الشّافي من كلّ داء (¬5) ، والحصن الحصين من كلّ خوف (6) ، يشرب منها المريض ¬
فيتحوّل إلى صحيح، كأن لم يكن به بأس (¬1) . ويحنّك بها الطّفل فتكون مأمنه من الأخطار (¬2) ، وتوضع مع الميّت في قبره لتقيه من العذاب (¬3) ، ويمسك بها الرّجل يعبث بها ساهيًا يقلّبها فيكتب له أجر المسبّحين، لأنّها تسبّح بيد الرّجل من غير أن يسبّح (¬4) . إنّ الله جعل تربة جدّي الحسين رضي الله عنه شفاء من كلّ داء، وأمانًا من كلّ خوف، فإذا تناولها أحدكم فليقبّلها ويعضها على عينه وليمرّها على سائر جسده وليقل: "اللهمّ بحقّ هذه التّربة وبحقّ من حلّ بها وثوى فيها.. إلخ" (¬5) . وما أن يحس الشيعي بألم المرض وشدته حتى يتجه إلى طينة الضريح وعليه أن يختار الوقت المناسب، فيتجه إليه - كما تقول أخبارهم - في جنح الليل البهيم وليكن في آخره، ويغتسل ويلبس أطهر ثيابه، وإذا وصل فليقف عند الرأس ويصلي، وإذا فرغ من صلاته سجد سجدة طويلة يكرر فيها كلمة واحدة ألف مرة، هذه الكلمة هي "شكرًا"، ثم يقوم ويتعلق بالضريح ويقول: "يا مولاي يا ابن رسول الله إني آخذ من تربتك بإذنك اللهم فاجعلها شفاء من كل داء، وعزًا من كل ذل، وأمنًا من كل خوف، وغنىً من كل فقر.." (¬6) . ¬
ثم بعد ذلك يأخذ من الطينة "بثلاث أصابع ثلاث قبضات" وتوصيه الرواية بأن يجعل ذلك في خرقة نظيفة ويختمها بخاتم فصه عقيق.. ثم يستعمل منها وقت الحاجة مثل الحمصة فإنه يشفي (¬1) . وتزيد رواية أخرى بأن عليه أن يتباكى ويقول: "بسم الله وبالله وبحق هذه التربة المباركة، وبحق الوصي الذي تواريه وبحق جده وأبيه، وأمه وأخيه، وبحق أولاده الصادقين، وبحق الملائكة المقيمين عند قبره ينتظرون نصرته، صلّ عليهم أجمعين، واجعل لي ولأهلي وولدي وإخوتي وأخواتي فيه الشفاء من كل داء.." (¬2) . وتتحدث بعض الروايات عن طرق أخرى للاستشفاء بها فتقول: قال أبو عبد الله: إن الله جعل تربة جدي الحسين رضي الله عنه شفاء من كل داء، وأمانًا من كل خوف، فإذا تناولها أحدكم فليقبلها ويضعها على عنه وليمرها على سائر جسده وليقل: "اللهم بحق هذه التربة وبحق من حل بها وثوى فيها.. إلخ" (¬3) . وتذكر رواية أخرى طريقة تناولها ببيان المقدار والصفة، حيث قال جعفرهم - حينما سئل عن كيفية تناولها -: "إذا تناول التّربة أحدكم فليأخذ بأطراف أصابعه وقدره مثل الحمّصة فليقبّلها وليضعها على عينه.." (¬4) . فهذا هو المستشفى المتنقل مع كل شيعي. ويبدو أن هذه الطينة زادت مرضهم مرضًا، ومن تعلق بشيء وكل إليه، ولهذا شكا بعض الشيعة لإمامه ما يجده من ضعف القدرة، فعزاه إمامه بقوله: "كذلك جعل الله أولياءنا وأهل مودتنا وجعل البلاء إليهم سريعًا" (¬5) . ¬
هذا وكما أن الشيعي يتجه حين نزول المرض به إلى صنمه والذي يسميه "بالطينة"، فإنه أيضًا يلجأ إلى هذا الصنم وقت الخوف ومداهمة العدو، فيصطحبه معه في ظروف الخوف. يقول إمامهم: "إذا خفت سلطانًا أو غير سلطان فلا تخرجنّ من منزلك إلا ومعك من طين قبر الحسين" (¬1) وأمره أن يقول: "اللهمّ إنّي أخذته من قبر وليّك وابن وليّك، فاجعله لي أمنًا وحرزًا لِمَا أخاف وما لا أخاف" (¬2) . ولا ينسى راوي هذه الأسطورة أن يذكر طائفته بأنه فعل ذلك فكانت له الأمان من كل ما خاف وما لم يخف ولم ير مكروهًا (¬3) . وهذه الطينة هي أمل الحور العين، ولذلك فالحور كما تقول أساطيرهم يطلبن من الملائكة حينما يهبطون إلى الأرض أن تكون هداياهن من طين قبر الحسين (¬4) . كما تصف رواياتهم السّجود على هذه الطّينة بأنّها "تخرق الحُجُب السّبع" (¬5) . هذا جزء من دعاواهم حول طينة الحسين، وكأنهم في اعتقادهم بهذه الطينة فعلوا أكثر من المشركين الذين قالوا في أصنامهم بأنها تقربهم إلى الله زلفى، فقد جعلوا لهذه الطينة خواص لا يقدر عليها إلا رب العزة جل علاه، اتخذوها ربًا وإلهًا مع الله سبحانه. ودعوى الاستشفاء بهذه الطينة منكر من القول وزور، وهي من دين الشيعة لا من دين الإسلام {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ ¬
مِنَ الْخَاسِرِينَ} (¬1) ، وليس لها ذكر في كتاب ربنا ولا سنة نبينا، والله سبحانه بيّن في كتابه أن القرآن العظيم شفاء لعباده المؤمنين {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء} (¬2) . {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} (¬3) . وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم بينت من الأدعية والأوراد التي فيها اللجوء إلى الله وحده لا إلى تراب ولا صنم، بل ولا ملك مقرب ولا نبي مرسل وإنما إلى الله وحده، ويتحقق بسببها - بإذنه تعالى - الحفظ للمسلم والأمان (¬4) . كما أن المسلم مأمور بالأخذ بالسباب الطبيعية للشفاء.. أما أكل التراب فهو بدعة كبرى، وأضحوكة ليس لها مثيل إلا في دين هؤلاء القوم. ¬
المبحث السادس: دعاؤهم بالطلاسم والرموز واستغاثتهم بالمجهول
المبحث السادس: دعاؤهم بالطلاسم والرموز واستغاثتهم بالمجهول ومن ضلالهم وشركهم دعاؤهم بالرموز والطلاسم والحروف، واعتبار ذلك من أحراز الأئمة وأدعيتهم وحجبهم، فيكتبونها ويتمتمون بها.. من أجل الشفاء، والسلامة، وقد جمع من ذلك المجلسي فأكثر، فقد أورد في كتابه طائفة من الألفاظ التي لا معنى لها، ووضع صور بعض الطلاسم برسم غريب في كتابه البحار على أن ذلك من هدي الأئمة للشفاء (¬1) إلى آخر هذه الطلاسم، ثم رسم رموزًا غريبة على شكل خطوط متداخلة (¬2) . والأحجية بالحروف التي لا معنى لها هي من عوذات الأئمة كما يفترون (¬3) . والله سبحانه يقول: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (¬4) . وكتابة ¬
الأحجبة والحروز بهذه الطلاسم والحروف هي من الشرك بالواحد القهار، لأنها دعاء لغير الله سبحانه لأنها ليست من أسمائه سبحانه وصفاته، وأسماء الله سبحانه هي ما ورد في الكتاب والسنة وهي توفيقية لا يجوز أن ندعو الله سبحانه بغيرها. كما أن هذه الطلاسم لا معنى لها معروف، ولهذا قال الإمام الصغاني: "وربما يكون التلفظ بتلك الكلمات كفرًا لأنا لا نعرف معناها بالعربية، وقد قال الله تعالى: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} (¬1) . وهو يقول: "آهيا شراهيا.." (¬2) . ثم ذكر أنه قد ضل بهذه الدعوات المجهولات خلق كثير (¬3) . أما الاستعانة بالمجهول فإنهم يستغيثون به عند الضلال في الطريق كما استغاثوا من قبل بالميت، والمعدوم - كما سلف -، و"الاستعانة بالأموات أو الغائبين عن نظر من استعان بهم من ملائكة أو جن أو إنس في جلب نفع أو دفع ضر نوع من الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله إلا لمن تاب منه؛ لأن هذا النوع من الاستعانة قرب وعبادة، وهي لا تجوز إلا لله خالصة لوجهه الكريم. ومن أدلة ذلك ما علم الله عباده أن يقولوه في آية: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (¬4) . أي لا نعبد إلا إياك ولا نستعين إلا بك، وقوله سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ} (¬5) . وغيرها" (¬6) . جاء في مصادرهم المعتمدة "عن أبي بصير عن أبي عبد الله قال: إذا ضللت ¬
الطريق فناد: يا صالح أو يا أبا صالح أرشدونا إلى الطريق يرحمكم الله" (¬1) . قال ابن بابويه في باب: دعاء الضال عن الطريق بعد ذكره للرواية السالفة: "وروي أن البر موكل به صالح، والبحر موكل به حمزة" (¬2) . ومن هو صالح أو حمزة؟ جاء ما يكشف عن هوية "صالح" في الخصال لابن بابويه بإسناده عن علي في حديث الأربعمائة قال: "ومن ضل منكم في سفر وخاف على نفسه فليناد: يا صالح أغثني، فإن في إخوانكم من الجن جنيًا يسمى صالح يسبح في البلاد لمكانكم محتسبًا نفسه لكم، فإذا سمع الصوت أجاب وأرشد الضال منكم وحبس عليه دابته" (¬3) . وهذا ورثوه فيما يبدو عن أهل الجاهلية الأولى، فهو من دينها، كما يدل على ذلك قوله سبحانه: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} (¬4) . قال أهل العلم: "كانت عادة العرب في جاهليتها إذا نزلت مكانًا يعوذون بعظيم ذلك المكان أن يصيبهم بشيء يسوءهم، كما كان أحدهم يدخل بلاد أعدائه في جوار رجل كبير وذمامته وخفارته، فلما رأت الجن أن الإنس يعوذون بهم من خوفهم منهم زادوهم رهقًا أي خوفًا وإرهابًا وذعرًا حتى بقوا أشد منهم مخافة وأكثر تعوذًا بهم، كما قال قتادة {فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} أي إثمًا، وازدادت الجن عليهم بذلك جرأة ... فإذا عاذوا بهم من دون الله رهقتهم الجن الأذى عند ذلك" (¬5) . ¬
فلما جاء الإسلام عاذوا بالله وحده وتركوهم (¬1) . والاستعاذة بالجن من الشرك، لأنه استعاذة بغير الله (¬2) . {وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (¬3) . ¬
المبحث السابع: استخارتهم بما يشبه أزلام الجاهلية
المبحث السابع: استخارتهم بما يشبه أزلام الجاهلية كانت العرب في جاهليتها إذا أراد أحدهم سفرًا أو غزوًا ونحو ذلك أجال القداح وهي الأزلام، وكانت عبارة عن قداح ثلاثة، على أحدها مكتوب افعل، وعلى الآخر لا تفعل، والثالث غفل ليس عليه شيء، ومن الناس من قال: مكتوب على الواحد أمرني ربي، وعلى الآخر نهاني ربي، والثالث غفل ليس عليه شيء، فإذا أجالها فطلع سهم الأمر فعله، أو النهي تركه، وإن طلع الفارغ أعاد (¬1) . وقد ابتلي فئات من الناس بالأزلام، كما ابتلوا بالأنصاب، فالأنصاب للشرك في العبادة والأزلام للتكهن وطلب علم ما استأثر الله به، هذا للعلم وتلك للعمل ودين الله وشرعه مضاد لهذا وهذا. وقد أدخلت طائفة الاثني عشرية الاستخارة بالأزلام في دينها وأضافت عليها بعض الإضافات وسموها الرقاع. وعقد الحر العاملي لهذا بابًا بعنوان "باب استحباب الاستخارة بالرقاع وكيفيتها" (¬2) . وذكر في هذا الباب جملة من أحاديثهم في ذلك بلغت خمس روايات، أما المجلسي فقد ذكر أنواعًا من الاستخارات تدخل في هذا المعنى في أبواب ثلاثة وهي باب الاستخارة بالرقاع (¬3) ، وباب الاستخارة بالبنادق (¬4) ، وباب الاستخارة بالسبحة والحصى (¬5) . ¬
وفي هذه الاستخارات تذكر كتب الشيعة كيفية قد تختلف في البداية عن طرق أهل الجاهلية حيث الصلاة والدعاء، وهي صلاة على طريقة مبتدعة، ثم دعاء معين ولكنها تنتهي بما يشبه عمل الجاهلية حيث استكشاف ما هو خير عن طريق تحريك السبحة، أو كتاب افعل أو لا تفعل في رقاع معينة واختبار ذلك عدة مرات. ومن أمثلة ذلك ما جاء عند الكليني (¬1) ، والطوسي (¬2) ، والحر العاملي (¬3) . وغيهم (¬4) . عن هارون بن خارجة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إذا أردت أمرًا فخذ ست رقاع فاكتب في ثلاث منها: «بسم الله الرحمن الرحيم خيرة من الله العزيز الحكيم لفلان بن فلانة هكذا النسبة للأم، والله يقول: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ} (¬5) . افعل، وفي ثلاث منها: بسم الله الرحمن الرحيم خيرة من الله العزيز الحكيم لفلان بن فلانة لا تفعل، ثم ضعها تحت مصلاك، ثم صل ركعتين، فإذا فرغت فاسجد سجدة وقل فيها مائة مرة: أستخير الله برحمته خيرة في عافية، ثم استو جالسًا وقل: اللهم خر لي واختر لي في جميع أموري، في يسر منك وعافية، ثم اضرب بيدك إلى الرقاع فشوشها وأخرج واحدة، فإن خرج ثلاث متواليات افعل. فافعل الأمر الذي تريده، وإن خرج ثلاث متواليات لا تفعل فلا تفعله، وإن خرجت واحدة افعل والأخرى لا تفعل فأخرج من الرقاع إلى خمس فانظر أكثرها فاعمل به ودع السادسة لا تحتاج إليها» . أما الاستخارة بالبنادق فيفسرها ما جاء في روايتهم التي تقول: ".. انوِ الحاجة في نفسك ثم اكتب رقعتين، في واحدة لا، وفي واحدة نعم، واجعلهما في بندقتين من طين، ثم صلِّ ركعتين واجعلهما تحت ذيلك وقل: يا الله، إني أشاورك ¬
في أمري هذا وأنت خير مستشار ومشير فأشر علي مما فيه صلاح وحسن عاقبة، ثم أدخل يدك فإن كان فيها نعم فافعل، وإن كان فيها لا، لا تفعل" (¬1) . وجاء في أخبارهم أن "استخارة مولانا أمير المؤمنين وهي أن تضمر ما شئت وتكتب هذه الاستخارة وتجعلهما في مثل البندق ويكون بالميزان (¬2) . وتضعهما في إناء فيه ماء ويكون على ظهر إحداهما افعل والأخرى لا تفعل، فأيهما طلع على وجه الماء فافعل به، ولا تخالفه (¬3) . ولا شك بأن أمير المؤمنين عليًا بريء من لوثات الجاهلية وأوهامها، وهذا مما دسته الشيعة عليه، ولذلك لم ينقله عنه سواها.. أما الاستخارة بالسبحة والحصى فقد قال شيخهم المجلسي: "سمعت والدي يروي عن شيخه البهائي.. أنه كان يقول: سمعنا مذاكرة عن مشايخنا عن القائم صلوات الله عليه في الاستخارة بالسبحة أنه يأخذها، ويصلي على النبي وآله صلوات الله عليهم ثلاث مرات، ويقبض على السبحة، ويعد اثنتين اثنتين، فإن بقت واحدة فهو افعل، وإن بقيت اثنتان فهو لا تفعل" (¬4) . هذا الأنواع من الاستخارة ذات أصل جاهلي حاولوا إلباسه ثوب الإسلام. وقد أمر الله المؤمنين إذا ترددوا في أمورهم أن يستخيروه بأن يعبدوه ثم يسألوه الخيرة في الأمر الذي يريدونه (¬5) ، لما روى الإمام أحمد والبخاري وأهل السنن عن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة كما يعلمنا السورة من القرآن يقول: "إذا همَّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ¬
ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب ... " (¬1) . وهذه الاستخارة جاءت أيضًا في كتب الشيعة بنفس النص السابق (¬2) . الوارد في أمهات كتب المسلمين (مصادر أهل السنة) ، ولكن عقيدة التقية التي كانت من أهم العوامل التي نأت بالشيعة عن الانضواء تحت لواء الجماعة.. جعلت بعض شيوخ الشيعة يرجح العمل برقاع الجاهلية على غيرها لا لشيء إلا لأنها مما شذت به طائفته عن هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم وما عليه أهل السنة، ذلك أن ما يتفق من رواياتهم مع إجماع المسلمين يصبح العمل به عند الشيعة موضع تردد لاحتمالات التقية المزعومة. قال الحر العاملي: "قد رجح ابن طاووس العمل باستخارة الرقاع بوجوه كثيرة منها.. أنها لا تحتمل التقية لأنه لم ينقله أحد من العامة" (¬3) . ويعني بالعامة أهل السنة، وهذا اعتراف منهم أن استخارة الرقاع مما شذت به طائفتهم. ويبدو أن بعض شيوخهم رابهم أمر هذه الرقاع وشعروا بشذوذه فقال بعضهم (¬4) .: "وأما الرقاع وما يتضمن افعل ولا تفعل ففي حيز الشذوذ" (¬5) . كما طعن بعضهم في إسنادها (¬6) . ولكن هذا الصوت الذي ينكر هذا الاتجاه في الاستخارة لم يرق لبعض ¬
متأخري الشيعة، فقد ردوه وقالوا: "إنه لا مأخذ له مع اشتهارها بين الأصحاب، وكيف تكون شاذة وقد دونها المحدثون في كتبهم، والمصنفون في مصنفاتهم" (¬1) ، ثم قالوا بأنه قد ألف أحد شيوخهم (¬2) . كتابًا ضخمًا في الاستخارات واعتمد فيه على رواية الرقاع وذكر من آثارها عجائب وغرائب (¬3) ، وقالوا بأنه لم ينكرها إلا قلة (¬4) . منهم لا عبرة بإنكاره. هذه حكاية الاستخارة بالرقاع، والبنادق، والسبحة، والحصى، وما دار حولها من جدل.. وهي عين استخارة المشركين "افعل أو لا تفعل" سوى أنهم أضافوا إليها صلاةً ودعاءً، وخصصت بعض رواياتهم موضع هذه الاستخارة بأن تكون عند قبر الحسين (¬5) . ليتسع باب الشرك أكثر. وهذه بدعة انفرد بها هؤلاء القوم، جعلتهم يتعلقون، ويأتمرون بما تهديهم إليه هذه الأزلام. مع أن الله سبحانه يقول: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ} - إلى قوله سبحانه -: {وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ ... } (¬6) . أي حرم عليكم أيها ¬
المؤمنون الاستقسام بالأزلام، والاستقسام مأخوذ من طلب القسم من هذه الأزلام (¬1) . قال ابن عباس: "هي قداح كانوا يستقسمون بها في الأمور" (¬2) . أي يطلبون بها علم ما قسم لهم (¬3) . وقوله سبحانه: {ذَلِكُمْ فِسْقٌ} أي تعاطيه فسق وغيٌّ وضلالة وجهالة وشرك" (¬4) . وهؤلاء الروافض في استخارتهم تلك ساروا في خطا المشركين، ورجحوا العمل بهذه "الأزلام" (¬5) . على الاستخارة الشرعية، لأن انفرادهم بها عن المسلمين دليل الصحة عندهم، كما هي قاعدتهم، كما ألزموا أتباعهم العمل بنتيجتها، وتوعدوا على مخالفتها (¬6) . فكأنهم اعتقدوا أنها تأتيهم بالخبر عن الله، وهذا كالاستقسام بالأزلام عند المشركين. قال ابن القيم: "الاستقسام هو إلزام أنفسهم بما تأمر به القداح كقسم اليمين.." (¬7) . فكيف يزعم الرافضي أن ما خرج من هذه الرقاع التي يستقسم بها هي عين ما أراد الله فيلزم نفسها بها.. أطّلع الغيب أم اتّخذ عند الرحمن عهدًا؟ ! فهذه الرقاع تدفعه للمضي في أمره أو تمنعه بلا بينة ولا برهان كحال أهل الشرك، ولعله "لا فرق بين ذلك وبين قول المنجم: لا تخرج من أجل نجم كذا". والله سبحانه يقول: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا} (¬8) . (¬9) . فهؤلاء يقولون: اعمل أو لا تعمل، بأمر الحصى والجمادات. ¬
الفصل الثاني: عقيدتهم في توحيد الربوبية
الفصل الثاني: عقيدتهم في توحيد الربوبية وتوحيد الربوبية هو إفراد الله سبحانه بالملك والخلق والتدبير، فيؤمن العبد بأنه سبحانه الخالق الرازق، المحيي، المميت، النافع، الضار، المالك، المدبر، له الخلق والأمر كله، كما قال سبحانه: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (¬1) . وقال: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} (¬2) . لا شريك له في ذلك سبحانه ولا نظير (¬3) . وليس المقصود هنا دراسة هذا الأصل، وإنما القصد معرفة اعتقاد الشيعة فيه.. وهل تأثر هذا الأصل الأصيل والركن العظيم عندهم بما يدعونه في الإمام؟ لقد بين القرآن العظيم أن مشركي قريش مع كفرهم بعبادته سبحانه وصرفهم أنواعًا من العبادات لغيره، إلا أنهم يؤمنون بأن الله سبحانه هو خالقهم ورازقهم، قال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (¬4) ، وقال: {قُلْ ¬
مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} (¬1) . ولكنهم مع ذلك أشركوا مع الله غيره في عبادته، ولهذا قال سبحانه: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ) (¬2) . قال مجاهد: "إيمانهم بالله قولهم: إن الله خلقنا ويرزقنا ويميتنا فهذا إيمان مع شرك عبادتهم غيره" (¬3) . فهل كانت الشيعة أكثر كفرًا من المشركين في هذا؟ لقد بين أهل العلم أن الإيمان بربوبية الله سبحانه أمر قد فطر عليه البشر وأن الشرك في الربوبية باعتبار إثبات خالقين متماثلين في الصفات والأفعال لم يثبت عن طائفة من الطوائف في التاريخ البشري، وإنما ذهب بعض المشركين إلى أن ثم خالقًا خلق بعض العالم (¬4) . ولهذا كان السؤال: هل تأثر هذا الأصل في دين الشيعة؟، بمعنى هل وجد الإشراك الجزئي عندهم، باعتبار ما يولونه الأئمة من اهتمام، وما يعطونهم من أوصاف، وما يضفونه عليهم من ألقاب؟ سيتبين هذا من خلال التتبع لما جاء عن أئمتهم في كتبهم المعتمدة، ورواياتهم المعتبرة عندهم، حيث أعرض خمسة مباحث: أولها: قولهم: إن الرب هو الإمام، وثانيها: اعتقادهم أن الدنيا والآخرة للإمام، وفي المبحث الثالث: قولهم: إن السحاب والرعد هو من أمر الأئمة، ومسخر للأئمة وهو ما أسميته (إسناد الحوادث الكونية إلى الأئمة) ، وفي المبحث الرابع: قولهم بحلول جزء إلهي في الأئمة، وفي الخامس: زعمهم تأثير الأيام بالنفع والضر، وسيأتي أيضًا في ¬
أقوالهم بأركان الإيمان مبحث قولهم بالقدر وأن العبد يخلق فعله، وهذا شرك في الربوبية، وقد أرجأت عرضه إلى هناك حتى يكتمل النظر في أقوالهم في أركان الإيمان.
المبحث الأول: قولهم: إن الرب هو الإمام
المبحث الأول: قولهم: إن الرب هو الإمام جاء في أخبارهم أن عليًا - كما يفترون عليه - قال: أنا رب الأرض الذي يسكن الأرض به (¬1) . فانظر إلى هذا التطاول والغلو.. فهل رب الأرض إلا الواحد القهار، وهل يمسك السماوات والأرض إلا خالقهما سبحانه ومبدعهما. {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ..} (¬2) . وقال إمامهم: "أنا رب الأرض" يعني إمام الأرض، وزعم أنه هو المقصود بقوله سبحانه: {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} (¬3) . (¬4) . وفي قوله سبحانه: {أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا} (¬5) . قالوا: يرد إلى أمير المؤمنين فيعذبه عذابًا نكرًا (¬6) . وفي قوله سبحانه: {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (¬7) . جاء في تفسير العياشي: يعني التسليم لعلي رضي الله عنه ولا يشرك معه في الخلافة من ليس له ¬
ذلك ولا هو من أهله (¬1) ، وبنحو ذلك جاء تأويلها عند القمي في تفسيره (¬2) . ولا تظن أن هذا التأويل من باب أن رب تأتي في اللغة بمعنى صاحب أو سيد، إذ إن هذه الآيات نص في الرب سبحانه لا يحتمل سواه، فالإضافة عرفته وخصصته. وقد قال أئمة اللغة: إن الرب إذا دخلت عليه (أل) لا يطلق إلى على الله سبحانه (¬3) . قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الأسماء والصفات نوعان: نوع يختص به الرب، مثل الإله ورب العالمين ونحو ذلك، فهذا لا يثبت للعبد بحال، ومن هنا ضل المشركون الذين جعلوا لله أندادًا، والثاني: ما يوصف به العبد في الجملة كالحي والعالم والقادر إلا أنه لا يجوز أن يثبت للعبد مثل ما يثبت للرب أصلاً (¬4) . ولكن هؤلاء جعلوا لفظ الرب الخاص بالله سبحانه اسمًا لإمامهم عبر تأويلاتهم الكثيرة. وهذه التأويلات وضعها لهم زنديق ملحد أراد بذلك صرف الشيعة من ربها.. وقد تكون فرقهم التي قالت بربوبية عليّ، والرجال الذين ذهبوا هذا المذهب والذي نسمع نعيقهم إلى يومنا هذا قد شربوا من هذا المستنقع الآسن الذي احتفظت به كتب الاثني عشرية المعتمدة عندها. ¬
المبحث الثاني: قولهم بأن الدنيا والآخرة كلها للإمام يتصرف بها كيف يشاء
المبحث الثاني: قولهم بأن الدنيا والآخرة كلها للإمام يتصرف بها كيف يشاء عقد صاحب الكافي لهذا بابًا بعنوان: "باب أن الأرض كلها للإمام" (¬1) ، ومما جاء فيه: عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "أما علمت أن الدنيا والآخرة للإمام يضعها حيث يشاء ويدفعها إلى من يشاء، جائز له ذلك من الله.." (¬2) . أليس في هذا النص شرك في ربوبية الله سبحانه؛ لأن الله جل شأنه يقول: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} (¬3) . ويقول سبحانه: {وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} (¬4) . ويقول جل شأنه: {لِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ} (¬5) . وقال: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} (¬6) ، وقال سبحانه: {فَلِلَّهِ الأَخِرَةُ وَالأُولَى} (¬7) . كما قال سبحانه: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ} (¬8) ، وقال سبحانه: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ} (¬9) . ¬
وقال: {فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ} (¬1) . فهو سبحانه قد تفرد بالملك والرزق والتدبير لا شريك له في ذلك. فكيف تدعي هذه الزمرة ما لا سلطان للبشر عليه، وتعطي الأئمة ما هو من مقتضيات ربوبية الله سبحاه، ما لهم بذلك من برهان إلا اتباع ما تمليه شياطينهم، وتسطره زنادقتهم، ومن العجب أنهم يعطون أئمتهم ملك الله وعلمه وحقوقه وأفعاله.. ويقولون: إن ذلك من الله أو "جائز له ذلك من الله" فهل هذا إلا مجرد تستر على الإلحاد، ومحاولة لإخفاء الهدف الخطير الذي تسعى إليه شياطينهم في تأليه الأئمة، وإضفاء صفات الربوبية عليهم؟! ¬
المبحث الثالث: إسناد الحوادث الكونية إلى الأئمة
المبحث الثالث: إسناد الحوادث الكونية إلى الأئمة كل ما يجري في هذا الكون فهو بأمر الله وتقديره لا شريك له سبحانه، لكن في كتب الاثني عشرية ما يثير العجب في هذا؛ حيث تدعي بأن لأئمتها أمرًا في ذلك، تقول روايتهم: "عن سماعة بن مهران قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام فأرعدت السماء وأبرقت، فقال أبو عبد الله عليه السلام: أما إنه ما كان من هذا الرعد ومن هذا البرق فإنه من أمر صاحبكم، قلت: من صاحبنا؟ قال: أمير المؤمنين عليه السلام" (¬1) . يعني كل ما وقع من رعد وبرق فهو من أمر علي، لا من أمر الواحد القهار.. فماذا يستنبط المسلم المنصف من هذه الرواية، والله جل شأنه يقول: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِىءُ السَّحَابَ الثِّقَالَ} (¬2) .؟ أليست هذه هي السبئية قد أطلت برأسها المشوه من خلال كتب الاثني عشرية؟ أليس هذا ادعاء لربوبية علي، أو أن له شركًا في الربوبية؟ كيف يتجرأ قلم المجلسي ومن قبله المفيد على كتابة هذه الأسطورة ونسبتها إلى جعفر؟ فإن هذا الإلحاد لا يخفى على أمثالهم، ولا يؤمن بهذا ويدعو إليه إلا كل زنديق وملحد، والعجب من قوم يستقون دينهم من كتب حوت هذا الغثاء، ويعظمون شيوخًا يجاهرون بهذا البلاء، أليس في هذه الطائفة من صاحب عقل ودين يعلن الصيحة والنكير على هذا الضلال المنتشر، والكفر المبين يبرئ "أهل البيت الأطهار" من هذا الدرن ¬
القاتل وينقي ثوب التشيع مما لطخه به شيوخ الدولة الصفوية من كفر وضلال. أم أن كل صوت صادق إما أن يعاجل بالقتل كما فعلوا مع الكسروي، أو يحمل قوله على التقية كما صنعوا في الكثير من رواياتهم، وطائفة من أقوال شيوخهم، فهل وصل هذا المذهب في سبيل عودته إلى نور الحق إلى طريق مسدود..؟ أحسب أن أولئك الأتباع الأغرار لا يظنون بان هناك إسلامًا إلا هذا؛ لأن طوائف من السنة والشيعة أوهموهم بأن لا فرق بين المذهبين إلا في بعض مسائل الفروع فأوصدوا أمامهم مجال النظر والتفكير والبحث بهذا الوهم الشائع الكبير (¬1) . ويقولون بأن السحاب هو المطية الذلول لعلي يسيرها كيف شاء. تقول روايتهم: ".. ما كان من سحاب فيه رعد وصاعقة وبرق فصاحبكم يركبه، أما أنه سيركب السحاب، ويرقى في الأسباب أسباب؛ السماوات والأرضين السبع، خمس عوامر وثنتان خراب" (¬2) . وكأنهم بهذا يقولون إن عليًا هو الذي يسير السحاب؛ فيكفرون بقول الله سبحانه: {حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء} (¬3) ، وقوله: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاء} (¬4) . ويبدو أن قول الاثني عشية: إن عليًا يركب السحاب امتداد للمذهب السبئي الذي يقول بأن عليًا: "هو الذي يجيء في السحاب والرعد صوته والبرق تبسمه" (¬5) . ¬
وينقل لنا المجلسي رواية طويلة في ثماني صفحات (¬1) ، تجعل لعلي قدرات مطلقة، فهو ينقل أصحابه إلى عالم السماوات والأرض، ويعرض عليهم معجزات أعظم من معجزات الأنبياء، ويمر بأقوام فيهلكهم بصعقة واحدة. ويتعاظم حتى يقول: إني لأملك من ملكوت السماوات والأرض ما لا يحتملون العلم ببعضه.. يقول المجلسي - في حديثه هذا -: إن عليًا أومأ إلى سحابتين فأصبحت كل سحابة كأنها بساط موضوع فركب على سحابة بمفرده، وركب بعض أصحابه - كما تقول الرواية - كسلمان والمقداد.. السحابة الأخرى، وقال علي وهو فوق السحابة: "أنا عين الله في أرضه، أنا لسان الله الناطق في خلقه، أنا نور الله الذي لا يطفأ، أنا رب الله الذي يؤتى منه، وحجته على عباده" (¬2) . ومضت القصة الطويلة في سرد غريب، أصحاب علي يسألونه عن معجزات الأنبياء فيقول: أنا أريكم أعظم منها حتى قال: "والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إني لأملك من ملكوت السماوات والأرض ما لو علمتم ببعضه لما احتمله جنانكم، إن اسم الله الأعظم على اثنين وسبعين حرفًا، وكان عند آصف بن برخيا حرف واحد فتكلم به فخسف الله عز وجل الأرض ما بينه وبين عرش بلقيس، حتى تناول السرير، ثم عادت الأرض كما كانت أسرع من طرف النظر، وعندنا نحن والله اثنان وسبعون حرفًا وحرف واحد عند الله عز وجل استأثر به في علم الغيب" (¬3) . ثم تذكر هذه الأسطورة بأنهم مروا على عوالم غريبة فزار الأنبياء، فكان من الأنبياء من يبكي لما رأى أمير المؤمنين، ولما قيل له: ما بكاؤك؟ قال: "إن أمير المؤمين كان يمر بي عند كل غداة فيجلس فتزداد عبادتي بنظري إليه فقطع ذلك منذ عشرة أيام فأقلقني ذلك" (¬4) . ¬
وتقول القصة بأن عليًا كان يقول لأصحابه: "غضوا أعينكم" فينقلهم إلى مدينة أسواقها قائمة، وأهلها أعظم من طول النخل، ويقول: "إن هؤلاء من قوم عاد، ثم يصعق فيهم عليّ صعقة فتهلكهم" (¬1) . وهكذا تمضي القصة حتى يعودوا تقلهم السحاب ثم يهبطون في دار أمير المؤمنين في أقل من طرف النظر، قالوا: "وكان وصولنا إلى المدينة وقت الظهر والمؤذن يؤذن، وكان خروجنا منها وقت علت الشمس" (¬2) . فقال أمير المؤمنين: "لو أنني أردت أن أجوب الدنيا بأسرها والسماوات السبع وأرجع في أقل من الطرف لفعلت بما عندي من اسم الله الأعظم، فقلنا: يا أمير المؤمنين أنت والله الآية العظمى والمعجز الباهر" (¬3) . هذه الرواية الطويلة بكل ما فيها من "بلايا" لم يتجاسر شيخهم المجلسي على ردها، بالرغم من انه قال بأن هذا النص: "لم نره في الأصول التي عندنا" (¬4) ، إلا أنه قال بأننا "لا نردها، ونرد علمها إليهم عليهم السلام" (¬5) . فانظر إلى نص لا يوجد في أصولهم المعتبرة، وحوى من الغلو ما لا يخطر بالبال، ومع ذلك لم يتجرأ على رده.. فكيف إذن بالروايات الأخرى المثبتة في أصولهم. فقبولها من باب أولى. ¬
المبحث الرابع: الجزء الإلهي الذي حل في الأئمة
المبحث الرابع: الجزء الإلهي الذي حل في الأئمة وترد عندهم رايات تدعي بأن جزءًا من النور الإلهي حل بعليّ. قال أبو عبد الله: "ثم مسحنا بيمينه فأضى نوره فينا" (¬1) . "..ولكن الله خلطنا بنفسه.." (¬2) . كانوا قبل خلق الخلق أنوارًا. وهذا الجزء الإلهي الذي في الأئمة - كما يزعمون - أعطوا به قدرات مطلقة، ولذلك فإن من يقرأ ما يسمونه معجزات الأئمة - وتبلغ مئات الروايات - يلاحظ أن الأئمة أصبحوا كرب العالمين - تعالى الله وتقدس عما يقولون - في الإحياء والإماتة والخلق والرزق (¬3) . إلا أن رواياتهم تربط هذا بأنه من الله كنوع من التلبيس والإيهام. فهذا - مثلاً - عليّ يُحْيِي الموتى. جاء في الكافي عن أبي عبد الله قال: "إنّ أمير المؤمنين له خؤولة في بني مخزوم وإنّ شابًّا منهم أتاه فقال: يا خالي إنّ أخي مات وقد حزنت عليه حزنًا شديدًا، قال: فقال: تشتهي أن تراه؟ قال: بلى، قال: فأرني قبره، قال: فخرج ومعه بردة رسول الله متّزرًا بها، فلمّا انتهى إلى القبر ¬
تلملمت شفتاه ثم ركضه برجله فخرج من قبره وهو يقول بلسان الفرس، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: ألم تمت وأنت رجل من العرب؟ قال: بلى، ولكنا متنا على سنة فلان وفلان (أي أبو بكر وعمر) فانقلبت ألسنتنا" (¬1) . بل إن عليًا - كما يزعمون - أحيى موتى مقبرة الجبانة بأجمعهم (¬2) ، وضرب الحجر فخرجت منه مائة ناقة (¬3) . وقال سلمان - كما يفترون -: "لو أقسم أبو الحسن على الله أن يحيي الأوّلين والآخرين لأحياهم" (¬4) . هذا الغلو هو بلا شك ارتضعوه من أفاويق المذاهب الوثنية التي تدعي في أصنامها ومعبوداتها ما للرب سبحانه من أفعال، ويكفي في فساده مجرد تصوره؛ إذ هو مخالف للنقل والعقل والسنن الكونية كما هو منقوض بواقع الأئمة وإقراراتهم، ورسول الهدى صلى الله عليه وسلم يقول - كما أمره ربه -: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللهُ} (¬5) . ومن الطريف أن كتب الشيعة مع تعظيم الأئمة والغلو فيهم تروي ما يخالف هذا، لتثبت تناقضها فيما تقول كالعادة في كل كذب وباطل، فقد جاء في رجال الكشي أن جعفر بن محمد قال: "فوالله ما نحن إلا عبيد الذي خلقنا واصطفانا، ما نقدر على ضرّ ولا نفع، وإن رحمنا فبرحمته، وإنّ عذّبنا فبذنوبنا، والله ما لنا على الله حجّة، ولا معنا من الله براءة، وإنّا لميّتون ومقبورون ومنشورون ومبعوثون وموقوفون ومسؤولون، ويلهم! ما لهم لعنهم الله فقد آذوا الله وآذوا ¬
رسوله صلى الله عليه وسلم في قبره، وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمد بن علي صلوات الله عليهم.. أشهدكم أنّي امرؤ ولدني رسول الله صلى الله عليه وسلم وما معي براءة من الله، إن أطعته رحمني، وإن عصيته عذّبني عذابًا شديدًا" (¬1) . ولكن شيوخ الشيعة يعدون مثل هذه الإقرارات من باب التقية (¬2) . فأضلوا قومهم سواء السبيل، وأصبح مذهب الشّيعة مذهب الشّيوخ لا مذهب الأئمّة. وهذه المقالة التي عرضت لبعض شواهدها عندهم والتي تزعم حلول جزء إلهي بالأئمة، قد تطورت عند بعض شيوخهم واتسع نطاقها إلى القول "بوحدة الوجود" (¬3) . وعدوا ذلك أعلى مقامات التوحيد، فهو الغاية في التوحيد عند شيخهم النراقي (¬4) ، كما أن شيخهم الكاشاني - صاحب الوافي أحد أصولهم الأربعة المتأخرة - كان يقول بعقيدة وحدة الوجود، وله رسالة في ذلك، جرى فيها مجرى ابن عربي وعبر عنه ببعض العارفين (¬5) . والاتجاه الصوفي المتطرف قد تغلغل في كيان المذهب الاثني عشري، وعشعش في عقول أساطين المذهب من المتأخرين، وبين الأفكار الصوفية الغالية والعقائد الشيعية المتطرفة تشابه وتلاق (¬6) . ¬
المبحث الخامس: قولهم بتأثير الأيام والليالي بالنفع والضر
المبحث الخامس: قولهم بتأثير الأيام والليالي بالنفع والضر قال الله سبحانه: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} (¬1) . فالضر والنفع من الله وحده، وليس للأنواء والأيام والليالي وغيرها تأثير في ذلك، والشيعة تخالف هذا بدعواها أن في بعض الأيام شؤمًا لا تقضى فيه الحاجات. قال أبو عبد الله: "لا تخرج يوم الجمعة في حاجة، فإذا كان يوم السبت وطلعت الشمس فاخرج في حاجتك" (¬2) . وقال: "السبت لنا، والأحد لبني أمية" (¬3) . وقال: ".. فأي يوم أعظم شؤمًا من يوم الاثنين.. لا تخرجوا يوم الاثنين واخرجوا يوم الثلاثاء" (¬4) . وقال أبو عبد الله: "لا تسافر يوم الاثنين ولا تطلب فيه حاجة" (¬5) . وقال: "آخر أربعاء في الشهر يوم نحس مستمر" (¬6) . وقال أمير المؤمنين علي - كما يفترون -: "يوم السبت يوم مكر وخديعة، ويوم الأحد يوم غرس وبناء، ويوم الاثنين يوم سفر وطلب، ويوم الثلاثاء يوم حرب ¬
ودم، ويوم الأربعاء يوم شؤم يتطير فيه الناس، ويوم الخميس يوم الدخول على الأمراء وقضاء الحوائج، ويوم الجمعة يوم خطبة ونكاح" (¬1) . وثمة أحاديث أخر عندهم بهذه المعاني (¬2) ، ومن مجموع هذه الروايات يتبين أن الجمعة، والأحد، والاثنين، والأربعاء أيام فيها شؤم ذاتي فلا يناسب قضاء الحاجات فيها. ولكن تلحظ أن الرواية الأخيرة اعتبرت يوم الاثنين يوم سفر وطلب، وهذا يخالف ما مضى من روايات، ولذلك حمل شيخهم الحر العاملي هذا على التقية (¬3) . فعلى هذا كل هذه الأيام الأربعة أيام مشؤومة فلم يبق أمام الشيعي من وقت للعمل من الأسبوع سوى أيام ثلاثة. وهذا نوع من التطير (¬4) ، وهو التشاؤم ببعض الأيام، أو الطيور والأسماء، والألفاظ والبقاع وغيرها، وهو من عمل الجاهلية والمشركين، وقد ذمهم الله تعالى به ومقتهم، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التطير وأخبر أنه شرك، وأنه لا تأثير له في جلب نفع ولا دفع ضر، وهي من إلقاء الشيطان وتخويفه ووسوسته. ¬
قال تعالى: {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} (¬1) . قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللهُ} يقول: مصائبهم عند الله {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} . وقال ابن جريج عن ابن عباس قال: " {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللهُ} أي: من قبل الله" (¬2) . وعن ابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الطيرة شرك الطيرة شرك ثلاثًا" (¬3) . وهذا صريح في تحريم الطيرة، وأنها من الشرك، لما فيها من تعلق القلب بغير الله تعالى (¬4) . وقال ابن حجر: "وإنما جعل ذلك شركًا لاعتقادهم أن ذلك يجلب نفعًا أو يدفع ضرًا فكأنهم أشركوه مع الله تعالى" (¬5) . وهي دعوة باطلة لإضاعة الأوقات وتأجيل الحاجات، وصرف للقلوب عن الخالق البارئ إلى مخلوقات لا تضر ولا تنفع. غير أنه لا يكاد يوجد شذوذ عند الشيعة إلا وفيه من رواياتهم نفسها ما يرد هذا الشذوذ ويبطله، فقد جاء في رواياتهم ما ينقض هذه الدعاوى، وأبلغ ما يكون نقض الخصم لكلامه بنفسه، فقد روت كتب الشيعة أن أبا عبد الله قال: لا ¬
طيرة (¬1) . وقال: كفارة الطيرة التوكل (¬2) . وقال أبو الحسن الثاني رضي الله عنه: "من خرج يوم الأربعاء.. خلافًا على أهل الطيرة وقي من كل آفة وعوفي من كل عاهة وقضى الله له حاجته" (¬3) . وجاء عندهم أيضًا: "إذا تطيرت فامض" (¬4) . وجاء في البحار وغيره "في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب الفأل، ويكره الطيرة، وكان عليه السلام يأمر من رأى شيئًا يكرهه، ويتطير منه أن يقول: "اللهم لا يؤتي الخير إلا أنت ولا يدفع السيئات إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بك" (¬5) . فهذا تناقض، والتناقض علامة بطلان المذهب، ولكن مبدأ التقية، ومخالفة العامة يعطل الاستفادة من هذه النصوص وأمثالها، ولذلك تلحظ أن شيخهم الحر العاملي حمل حديثهم الذي يقول "بأن يوم الاثنين" يوم سفر وطلب على التقية. ¬
الفصل الثالث: عقيدتهم في أسماء الله وصفاته
الفصل الثالث: عقيدتهم في أسماء الله وصفاته للشيعة في هذا الفصل أربع ضلالات: الضلالة الأولى: ضلالة الغلو في الإثبات (وما يسمى بالتجسيم) . الضلالة الثانية: تعطيلهم الحق جل شأنه من أسمائه وصفاته. الضلالة الثالثة: وصف الأئمة بأسماء الله وصفاته. الضلالة الرابعة: تحريف الآيات بدافع عقيدة التعطيل للأسماء والصفات. وسأتوقف عند كل مسألة من هذه المسائل الأربع وأبين مذهب الشيعة فيها من خلال مصادرها - إن شاء الله -.
المبحث الأول: الغلو في الإثبات (التجسيم)
المبحث الأوّل: الغلو في الإثبات (التّجسيم) اشتهرت ضلالة التّجسيم بين اليهود (¬1) ، أوّل من ابتدع ذلك بين المسلمين هم الرّوافض، ولهذا قال الرّازي: "اليهود أكثرهم مشبّهة، وكان بدء ظهور التّشبيه في الإسلام من الرّوافض مثل هشام بن الحكم، وهشام بن سالم الجواليقي، ويونس بن عبد الرحمن القمي وأبي جعفر الأحول" (¬2) . وكل هؤلاء الرجال المذكورين هم ممن تعدهم الاثنا عشرية في الطليعة من شيوخها، والثقات من نقلة مذهبها (¬3) . ¬
وقد حدد شيخ الإسلام ابن تيمية أول من تولى كبر هذه الفرية من هؤلاء فقال: "وأول من عرف في الإسلام أنه قال: إن الله جسم هو هشام بن الحكم" (¬1) . وقبل ذلك يذكر الأشعري في مقالات الإسلاميين أنّ أوائل الشّيعة كانوا مُجسّمة، ثم بيّن مذاهبهم في التّجسيم، ونقل بعض أقوالهم في ذلك، إلا أنّه يقول بأنّه قد عدل عنه قوم من متأخّريهم إلى التّعطيل (¬2) . وهذا يدل على أن اتجاه الاثني عشرية إلى التعطيل قد وقع في فترة مبكرة، وسيأتي ما قيل في تحديد ذلك (¬3) . وقد نقل أصحاب الفرق كلمات مغرقة في التشبيه والتجسيم منسوبة إلى هشام بن الحكم وأتباعه تقشعر من سماعها جلود المؤمنين. يقول عبد القاهر البغدادي: "زعم هشام بن الحكم أن معبوده جسم ذو حد ونهاية وأنه طويل عريض عميق وأن طوله مثل عرضه.." (¬4) . ويقول: إن هشام بن سالم الجواليقي مفرط في التجسيم والتشبيه لأنه زعم أن معبوده على صورة الإنسان.. وأنه ذو حواس خمس كحواس الإنسان (¬5) ، وكذلك ذكر أن يونس بن عبد الرحمن القمي مفرط أيضًا في باب التشبيه، وساق بعض أقواله في ذلك (¬6) . وقال ابن حزم: "قال هشام إن ربه سبعة أشبار بشبر نفسه" (¬7) . ¬
وقد نقل الإسفراييني مقالة هشام بن الحكم، وهشام الجواليقي وأتباعهما في التجسيم، ثم قال: "والعاقل بأول وهلة يعلم أن من كانت هذه مقالته لم يكن له في الإسلام حظ" (¬1) . وقد استفاض عن هشام بن الحكم ومن تبعه أمر الغلو في التجسيم في كتب الفرق وغيرها (¬2) . وتحدثت عن ذلك أيضًا بعض كتب المعتزلة والزيدية. وممن نقل ذلك عن الروافض من المعتزلة الجاحظ حيث قال: وتكلمت هذه الرافضة وجعلت له صورة وجسدًا، وكفرت من قال بالرؤية على غير التجسيم والتصوير (¬3) ، وكذلك ابن الخياط (¬4) ، والقاضي عبد الجبار (¬5) . ومن الزيدية (¬6) . ومن الزّيديّة (¬7) . ابن المرتضى اليماني حيث قال بأن جل الروافض على التجسيم إلا من اختلف منهم بالمعتزلة (¬8) . إذًا تشبيه الله سبحانه بخلقه كان في اليهود، وتسرّب إلى التّشيّع، لأنّ التّشيّع كان مأوى لكلّ من أراد الكيد للإسلام وأهله، وأول من تولى كبره هشام بن الحكم (¬9) ، ثم تعدى أثره إلى آخرين عرفوا بكتب الفرق بمذاهب ضالة غالية منسوبة إليهم (¬10) .، ثم تعدى أثره إلى آخرين عرفوا بكتب الفرق بمذاهب ضالة غالية ¬
منسوبة إليهم (¬1) . ولكن شيوخ الاثني عشرية يدافعون عن هؤلاء الضلال الذين استفاض خبر فتنتهم، واستطار شرهم ويتكلفون تأويل كل بائقة منسوبة إليهم أو تكذيبها (¬2) . حتى قال المجلسي: "ولعل المخالفين نسبوا إليهما (¬3) . هذين القولين (¬4) . معاندة" (¬5) . وأقول: أما إنكار بعض الشيعة لذلك فقد عهد منهم التكذيب بالحقائق الواضحات، والتصديق بالأكاذيب البينات. وأما دفاعهم عن هؤلاء الضلال فالشيء من معدنه لا يستغرب، فهم يدافعون عن أصحابهم، وقد تخصص طغام منهم للدفاع عن شذاذ الآفاق، ومن استفاض شره، وتناقل الناس أخبار مروقه وضلاله، في حين أنهم يتناولون من أثنى الله عليهم ورسوله بالذم والتفكي. وقد يقال: إن ما سلف من أقوال عن هشام وأتباعه هي من نقل خصوم الشيعة فلا يكون حجة عليهم. ومع أن تلك النقول عن أولئك الضلال قد استفاضت من أصحاب المقالات على اختلاف اتجاهاتهم، وهم أصدق من الرافضة مقالاً، وأوثق نقلاً، وهي تثبت أن الرافضة هم الأصل في إدخال هذه البدعة على المسلمين. لكن القول بأن نسبة التجسيم إليهم قد جاءت من الخصوم، ولا شاهد عليها من كتب ¬
الشيعة قد يتوهمه من يقرأ إنكار المنكرين لذلك من الشيعة، وإلا فالواقع خلاف ذلك. إذ قد جاء في رواياتهم في كتبهم المعتمدة ما يدل على أن متكلمي الشيعة كهشام بن الحكم، وهشام بن سالم الجواليقي ويونس بن عبد الرحمن القمي وأمثالهم لم يكتفوا بمجرد إثبات الصفات كما دل عليه القرآن والسنة، بل تجاوزوا ذلك حتى ابتدعوا الغلو في الإثبات والتجسيم. جاء في أصول الكافي للكليني، وفي التوحيد لابن بابويه وغيرهما ما يدل على أن الشيعة في سنة (255هـ) قد تاهوا في بيداء مظلمة، إذ قد غرقوا في خلافهم في التجسيم؛ فمن قائل: إنه صورة، ومن قائل: إنه جسم، وقد صوروا هذا الواقع لإمامهم فحكم عليهم بأنهم بمعزل عن التوحيد، تقول الرواية كما يرويها صدوقهم القمي عن سهل قال: كتبت إلى أبي محمد سنة (255هـ) قد اختلف يا سيدي أصحابنا في التوحيد؛ منهم من يقول: هو جسم (¬1) ، ومنهم من يقول: هو صورة، فإن رأيت يا سيدي أن تعلمني من ذلك ما أقف عليه ولا أجوزه فعلت متطولاً على عبدك؟ فوقع بخطه: سألت عن التوحيد وهذا عنكم معزول، الله تعالى واحد أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد. خالق وليس بمخلوق، يخلق تبارك وتعالى ما يشاء من الأجسام ويصور ما يشاء وليس بمصوَّر، جل ثناؤه وتقدست أسماؤه، وتعالى أن يكون له شبيه هو لا غيره ليس كمثله شيء وهو السميع البصير (¬2) . ¬
وقد كان لهشام بن الحكم وهشام بن سالم الجواليقي بالذات دور ظاهر في اتجاه التجسيم عند الشيعة كما تذكر ذلك مجموعة من رواياتهم. جاء في أصول الكافي وغيره.. عن محمد بن الفرج الرّخجي قال: "كتبت إلى أبي الحسن عليه السلام أسأله عما قال هشام بن الحكم في الجسم وهشام بن سالم في الصورة، فكتب: دع عنك حيرة الحيران واستعذ بالله من الشيطان، ليس القول ما قال الهشامان" (¬1) . وكان الأئمة يتبرؤون منهما ومن قولهما، وحينما جاء بعض الشيعة إلى إمامهم وقال له: "إني أقول بقول هشام" قال إمامهم (أبو الحسن علي بن محمد) : "ما لكم ولقول هشام؟ إنه ليس منا من زعم أن الله جسم، ونحن منه براء في الدنيا والآخرة" (¬2) . وتفصح بعض رواياتهم عما قالوه في الرب جل شأنه وتقدست أسماؤه، فهذا أحد رجالهم (¬3) . ينقل لأبي عبد الله - كما تقول الرواية - ما عليه طائفة من الشيعة من التجسيم فيقول: "إن بعض أصحابنا يزعم أن الله صورة مثل الإنسان، وقال آخر: إنه في صورة أمرد جعد قطط! فخرّ أبو عبد الله عليه السلام ساجدًا ثم رفع رأسه فقال: سبحان الذي ليس كمثله شيء ولا تدركه الأبصار ولا يحيط به علم.." (¬4) . وروى ابن بابويه عن إبراهيم بن محمد الخراز ومحمد بن الحسين قالا: "دخلنا على أبي الحسن الرضا عليه السلام فحكينا له ما روي أن محمدًا رأى ربه في هيئة الشاب الموفق في سن أبناء ثلاثين سنة، رجلاه في خضره وقلنا: إن هشام بن ¬
سالم وصاحب الطاق (¬1) . والميثمي (¬2) . يقولون: إنه أجوف إلى السرة والباقي صمد، فخر ساجدًا ثم قال: سبحانك ما عرفوك ولا وحدوك فمن أجل ذلك وصفوك، سبحانك لو عرفوك لوصفوك بما وصفت به نفسك.." (¬3) . فأنت ترى أن كبار متكلميهم قد غلوا في الإثبات، حتى شبهوا الله جل شأنه بخلقه وهو كفر بالله سبحانه؛ لأنه تكذيب لقوله سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (¬4) . وعطلوا صفاته اللائقة به سبحانه فوصفوه بغير ما وصف به نفسه، وإمامهم كان ينكر عليهم هذا المنهج الضال، ويأمر بالالتزام في وصف الله، بما وصف به نفسه. ورواياتهم في هذا الباب كثيرة (¬5) . فهذا الاتجاه إلى الغلو في الإثبات، قد طرأ على الإثبات الحق الذي عليه علماء أهل البيت، وأصبح المذهب يتنازعه اتجاهان: اتجاه التجسيم الذي تزعمه هشام، واتجاه التنزيه الذي عليه أهل البيت كما تشير إليه روايات الشيعة نفسها، وكما هو "ثابت مستفيض في كتب أهل العلم" (¬6) . ¬
المبحث الثاني: التعطيل عندهم
المبحث الثاني: التعطيل عندهم بعد هذا الغلو في الإثبات بدأ تغير المذهب في أواخر المائة الثالثة؛ حيث تأثر بمذهب المعتزلة في تعطيل البارئ سبحانه من صفاته الثابتة له في الكتاب والسنة، وكثر الاتجاه إلى التعطيل عندهم في المائة الرابعة لما صنف لهم المفيد وأتباعه كالموسوي الملقب بالشريف المرتضى، وأبي جعفر الطوسي، واعتمدوا في ذلك على كتب المعتزلة (¬1) . وكثير مما كتبوه في ذلك منقول عن المعتزلة نقل المسطرة، وكذلك ما يذكرونه في تفسير القرآن في آيات الصفات والقدر ونحو ذلك هو منقول من تفاسير المعتزلة (¬2) . ولهذا لا يكاد القارئ لكتب متأخري الشيعة يلمس بينها وبين كتب المعتزلة في باب الأسماء والصفات فرقًا، فالعقل - كما يزعمون - هو عمدتهم فيما ذهبوا إليه، والمسائل التي يقررها المعتزلة في هذا الباب أخذ بها شيوخ الشيعة المتأخرون كمسألة خلق القرآن، ونفي رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة، وإنكار الصفات. بل إن الشبهات التي يثيرها المعتزلة في هذا، هي الشبهات التي يثيرها شيوخ الشيعة المتأخرون. والفرق الذي قد يلمسه القارئ في هذه المسألة هو أن الشيعة أسندوا روايات إلى الأئمة تصرح بنفي الصفات وتقول بالتعطيل، مع أنهم كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية قد "أسسوا دينهم على أن باب التوحيد والصفات لا يتبع فيه ¬
ما رأوه بقياس عقولهم" (¬1) . وهذا تلمسه في طريقة احتجاجهم على مذهبهم في التعطيل كما في النكت الاعتقادية للمفيد، ونهج المسترشدين لابن المطهر وغيرها من كتبهم الكلامية حيث اعتمدوا المنهج العقلي الكلامي البحث في صفات الله. وهذا مخالف للمنهج الشرعي والعلمي والعقلي؛ إذ إن صفات الله سبحانه من الغيب الذي يتوقف العلم به على الكتاب والسنة. ومع اعتمادهم الدليل العقلي كمنهج أهل الاعتزال فإنك تلاحظ أنهم جاءوا بروايات كثيرة عن الأئمة يسندون بها مذهبهم في التعطيل، ويفترون على أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - وبعض علماء أهل البيت كمحمد الباقر وجعفر الصادق بأنهم يقولون بالتعطيل. واعتبر بعض شيوخهم المعاصرين أن هذا هو عمدتهم في نفي الصفات؛ حيث قال - تحت عنوان طريقة معرفة الصفات -: "هل يبقى مجال للبحث عن الصفات وهل له طريق إلا الإذعان بكلمة أمير المؤمنين رضي الله عنه: كمال الإخلاص نفي الصفات عنه" (¬2) . فترى القوم ليس لهم منهج ثابت، ذلك أن مسالك التقليد عرضة لتناقض، فهم حينًا يعتمدون العقل، وتارة يعتمدون الخبر.. فهم بين مشرب أخباري، ومشرب اعتزالي عقلي يتأرجحون. هذا والثابت عن علي رضي الله عنه وأئمة أهل البيت إثبات الصفات لله.. والنقل بذلك ثابت مستفيض في كتب أهل العلم (¬3) . وهذا أيضًا ما تعترف به بعض روايات لهم موجودة وسط ركام هائل من التعطيل، وسيرد شيء منها بعد قليل. ولكن الأمثلة على رواياتهم التي نسبوها لأهل البيت والتي تصرح بنفي ¬
الصفات كثيرة، منها قولهم: "وكمال التوحيد نفي الصفات عنه" (¬1) ، وقولهم: "وحمد الله نفي الصفات عنه" (¬2) ، "ولا نفي (للتشبيه) مع إثبات الصفات" (¬3) . وصرح علامتهم ابن المطهر بأن مذهبهم في الأسماء والصفات كمذهب المعتزلة (¬4) ، ومنهم من قال: "وكمذهب الفلاسفة" (¬5) . كما وصفت مجموعة من رواياتهم رب العالمين بالصفات السلبية التي ضمنوها نفي الصفات الثابتة له سبحانه، فقد روى ابن بابويه أكثر من سبعين رواية تقول إنه تعالى: "لا يوصف بزمان ولا مكان، ولا كيفية، ولا حركة، ولا انتقال، ولا بشيء من صفات الأجسام، وليس حسًا ولا جسمانيًا ولا صورة.." (¬6) . وشيوخهم ساروا على هذا النهج الضال من تعطيل الصفات الواردة في الكتاب والسنة ووصفه سبحانه بالسلوب. قال شيخهم محمد الحسيني الشهير بالقزويني (ت1300هـ) والذي يلقبونه بالإمام الثالث عشر لأنه قابل منتظرهم - المزعوم - ثلاث مرات. قال في وصف الله سبحانه: ".. لا جزء له، وما لا جزء له لا تركيب فيه، وما ليس بمركب ليس بجوهر ولا عرض، وما ليس بجوهر ليس بعقل ولا نفس ولا مادة ولا صورة ولا جسم، وما ليس بجسم ليس في مكان ولا في زمان ولا في جهة، ولا في وقت، وما ليس في جهة لا كم له ولا كيف ولا رتبة، وما لا كم له ولا كيف له ولا جهة لا وضع له، وما ليس له وضع ولا في وقت ولا في مكان لا إضافة له ولا نسبة، وما لا نسبة له لا فعل فيه ولا انفعال، وما ليس بجسم ولا لون ولا في مكان ولا جهة لا يرى ولا يدرك.." (¬7) . ¬
فأنت ترى أن هذا النفي المحض الذي استقاه من ركام الفلاسفة وغثاء الملاحدة يتضمن نفي الوجود الحق {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬1) . وليس هذا بجديد، فهو سبيل من زاغ وحاد عن منهج الرسل عليهم السلام "من الكفار والمشركين والذين أوتوا الكتاب ومن دخل في هؤلاء من الصابئة (¬2) . والمتفلسفة والجهمية (¬3) . والباطنية (¬4) . ونحوهم. فإنهم يصفونه سبحانه بالصفات ¬
السلبية على وجه التفصيل ولا يثبتون إلا وجودًا مطلقًا لا حقيقة له عند التحصيل، فقولهم يستلزم غاية التعطيل وهو نفي الوجود الحق؛ لأنهم يعطلون الأسماء والصفات تعطيلاً يستلزم نفي الذات. كما يستلزم غاية التمثيل حيث يمثلونه بالممتنعات والمعدومات والجمادات (¬1) . وهؤلاء جميعهم يفرون من شيء فيقعون في نظيره وفي شر منه مع ما يلزمهم من التحريفات والتعطيلات (¬2) . والله سبحانه بعث رسله في صفاته بإثبات مفصل، ونفي مجمل (¬3) . ولهذا يأتي الإثبات للصفات في كتاب الله مفصلاً، والنفي مجملاً (¬4) . قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (¬5) . فالنفي جاء مجملاً {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وهذه طريقة القرآن في النفي غالبًا. قال تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} (¬6) . أي نظيرًا يستحق مثل اسمه، ويقال: مساميًا يساميه (¬7) . وهذا معنى ما يروى عن ابن عباس: هل تعلم له مثلاً أو شبيهًا (¬8) . وقال سبحانه: {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (¬9) . أما في الإثبات فيأتي التفصيل {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} وكآخر سورة الحشر: ¬
{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ، هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (¬1) . وشواهد هذا كثيرة (¬2) . فطريقة هؤلاء في النفي المحض لا تتفق مع طريقة القرآن، كما لا تتفق مع الفطر السليمة والعقول الصريحة، بل هي منكرة في مدح البشر للبشر فكيف يوصف بها رب العالمين (¬3) .؟! والشيعة تروي عن أئمتها "أن الخالق لا يوصف إلا بما وصف به نفسه" ولكنها تعرض عن ذلك كما أعرضت عن كتاب الله سبحانه، وعن مقتضى العقل والفطرة، وتؤثر في ذلك التقليد المحض، والأخذ من "نفايا" الفلسفات البائدة وإلا فكيف يتجرأ عاقل على الاعتماد في أمر غيبي لا سبيل للوصول إلى المعرفة فيه على سبيل التفصيل إلا بخبر السماء على العقل القاصر والفكر العاثر، وتحكيم خيالات البشر المتناقضة، وتصوراتهم المتعارضة؟! وهؤلاء المعطلة قد رد عليهم أئمة الإسلام وبينوا باطلهم، ولن نكرر القول ونبدئ فيه ونعيد.. ولكن الذي يمكن أن يضاف في هذا المجال بعد ظهور الكتاب الشيعي وانتشاره هو تصوير هذه المسألة من كتب الشيعة ومن خلال روايات ¬
1- المسألة الأولى: قولهم بأن القرآن مخلوق
الشيعة عن أئمتها، وكلام شيوخهم المبني على مجاراة أهل التعطيل، ليتبين مدى تناقضهم، وانفصالهم عن أئمتهم، ومدى تدخل الأيدي السبئية لتحوير مذهب الأئمة، ووضع روايات تحاكي مذهب التعطيل، وتصدق مذهبهم في التقليد، وسأختار ثلاثة مسائل في ذلك: الأولى: مسألة خلق القرآن. الثاني: مسألة الرؤية. الثالثة: مسألة النزول الإلهي. ثم أبين بعد ذلك من خلال نصوص الشيعة نفسها أن مذهب الأئمة كان وسطًا بين غلو الممثلة، وجفاء المعطلة. وهو ما يتفق مع مذهب أهل السنة، وهو الموافق للنقل الصحيح والعقل الصريح. 1- المسألة الأولى: قولهم بأن القرآن مخلوق: القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، وعلى هذا دل الكتاب والسنة وإجماع السلف (¬1) ، والاثنا عشرية حذت حذو الجهمية في القول بخلق القرآن، فقد عقد شيخ الشيعة في زمنه المجلسي في البحار في كتاب القرآن بابًا بعنوان: "باب أنّ القرآن مخلوق" (¬2) أورد فيه إحدى عشرة رواية، ومعظم هذه الروايات تخالف ما ذهب إليه، ولكن لشيوخ الشيعة مسلكًا في تأويلها سنذكره بعد قليل. ويقول آية الشيعة محسن الأمين: "قالت الشّيعة والمعتزلة: القرآن مخلوق" (¬3) . ¬
وهذا بناءً على إنكارهم لصفة الكلام لله وزعمهم أن الله سبحانه "يوجد الكلام في بعض مخلوقاته كالشجرة حين كلم موسى، وكجبرائيل حين أنزل بالقرآن" (¬1) . هذا بعض ما يقوله شيوخهم في هذا الأمر (¬2) . وإذا رجعت إلى الروايات التي ينقلونها عن (آل البيت) وجدتها تخالف في أكثرها ما يذهب إليه هؤلاء، فمن ذلك: ما جاء في تفسير العياشي: "عن الرضا أنه سئل عن القرآن فقال: ... إنه كلام الله غير مخلوق.." (¬3) . وفي رجال الكشي: " ... إن الكلام ليس بمخلوق.." (¬4) . وفي "التوحيد" لابن بابويه القمي قيل لأبي الحسن موسى رضي الله عنه: "يا ابن رسول الله، ما تقول في القرآن؛ فقد اختلف فيه من قبلنا فقال قوم: إنه مخلوق، وقال قوم: إنه غير مخلوق؟ فقال رضي الله عنه: أما إني لا أقول في ذلك ما يقولون، ولكني أقول: إنه كلام الله عز وجل" (¬5) . ¬
وفي هذا المعنى روايات كثيرة عندهم (¬1) . ولكن يلاحظ أن شيخ الشيعة في زمنه ابن بابويه القمي قد ذهب في تأويل هذه النصوص إلى اتجاه آخر فأثبت أن قول الأئمة: القرآن غير مخلوق يعني "أنه غير مخلوق أي غير مكذوب لا يعني به أنه غير محدث" (¬2) . وقال: "وإنما امتنعنا من إطلاق المخلوق عليه لأن المخلوق في اللغة قد يكون مكذوبًا، ويقال: كلام مخلوق أي مكذوب" (¬3) . ولا شك أن هذا التأويل لا يسلم له لأنه من الواضح أن النصوص السابقة ترد على ما ذهب إليه أهل الاعتزال من القول بأن القرآن مخلوق، فقال السلف ردًا عليهم: إنه غير مخلوق ولم يريدوا بذلك أنه غير مكذوب كما يزعم ابن بابويه وغيره، فإن أحدًا من المسلمين لم يقل: إنه مكذوب، بل هذا كفر ظاهر يعلمه كل مسلم، وإنما قالوا: إنه مخلوق خلقه في غيره فرد السلف هذا القول، كما تواترت الآثار عنهم بذلك، وصنف في ذلك مصنفات متعددة (¬4) . وفي كتاب تفسير الصراط المستقيم لآيتهم البروجردي نقل نصًا عن ابن بابويه - أيضًا - يحيل فيه النصوص التي فيها المعنى السابق على التقية فقال: "ولعلّ المنع من إطلاق الخلق على القرآن إمّا للتّقية مماشاة مع العامّة، أو لكونه موهمًا لمعنى آخر أطلق الكفّار عليه بهذا المعنى في قولهم: إن هذا إلا اختلاق" (¬5) . فلم يجد هؤلاء الشيوخ ما يلوذون به إلا القول "بالتقية" أو ما ماثلها.. وهذا المنهج يثبت أنهم ليسوا على شيء، وأن احتمال التقية في كل نص قد أفسد عليهم أمرهم وأضاع حقيقة المذهب، فأصبح دينهم دين المجلسي، أو الكليني، أو ¬
ابن بابويه القمي لا روايات الأئمة (¬1) . وتسنى لكل شيخ، أو زنديق أو مفتر يلبس ثوب المشيخة، ويتظاهر بالعلم أن يأخذ ما شاءت له زندقته أو جهله وهواه وتعصبه واحدًا من هذه الأقوال المتعارضة المتضاربة ويعرض عن الأقوال الأخرى ولو كانت حقًا، ويجد ما يبرر هذا التصرف من الاحتجاج بالتقية، أو دعوى أن في ذلك مخالفة للعامة - أي أهل السنة - ففي خلافهم الرشاد - كما يفترون -، وهكذا يضيع العلم والحق والدين بهذه الطريقة الماركة، ويكتب على الأمة الفرقة والخلاف بهذه الأساليب التي هي من وحي الشيطان ومكره ... ولو أحسن محسن للشيعة وأراد بها الخير من شيوخها لسلك بها طريق الجماعة وأخذ من رواياتهم ما يتفق وكتاب الله، وما عليه أهل السنة والجماعة، وتخلص من مكر القمي والكليني والمجلسي، ولا سيما، والأئمة تشتكي من كثرة الكذابين عليها حتى قالوا: "بأن الناس أولعوا بالكذب علينا" (¬2) . ولو أردت أن تطبيق هذه النظرية - أعني ما تتفق فيه روايات أهل السنة مع روايات الشيعة عن أهل البيت في هذه المسألة - لوجدت أن كتب الشيعة روت - كما سبق - روايات عن أهل البيت بأن كلام الله منزل غير مخلوق، وكتب أهل السنة روت مثل هذا؛ فقد أخرج البخاري في كتاب أفعال العباد (¬3) . وابن ¬
أبي حاتم (¬1) ، وأبو سعيد الدارمي (¬2) ، والآجري في الشريعة (¬3) ، والبيهقي في الاعتقاد (¬4) ، والأسماء والصفات (¬5) ، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (¬6) ، وابو داود في مسائل الإمام أحمد (¬7) . عن جعفر الصادق أنه قال حينما سئل عن القرآن قال: "ليس بخالق ولا مخلوق". قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إنه قد استفاض ذلك عن جعفر (¬8) . فلماذا لا يؤخذ بالمعنى المتفق عليه ويترك الباطل الذي لا يسنده إلا أقوال شيوخ يبغون في الأمة الفرقة والخلاف، وينشدون الشذوذ والعزلة ليتسنى لهم تحصيل الأموال الطائلة باسم الخمس، وتتحقق لهم الوجاهة الاجتماعية، والمنزلة (المقدسة) باسم النيابة عن الإمام الغائب؟ ولهذا ما برحوا يؤكدون على القول: إن ما خالف العامة ففيه الرشاد. "والعامة" أو أهل السنة بالمعنى العام يدخل فيه المعتزلة (¬9) ، وهم قلدوا المعتزلة في هذا، ذلك أن مسألة خلق القرآن من عقائد أهل الاعتزال، قال عبد الجبار في شرح الأصول الخمسة: "وأما مذهبنا في ذلك (أي في القرآن) فهو أن القرآن كلام الله تعالى ووحيه وهو مخلوق محدث" (¬10) . ¬
وقد تلقته الشيعة فيما تلقته من آراء المعتزلة.. فهي بضاعة اعتزالية، فلم يتحقق لهم مخالفة العامة. وأول من قال بهذه المقالة هو الجعد بن درهم (¬1) . قال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: "أول من أتى بخلق القرآن جعد بن درهم (¬2) . فهو أول من قال بمبدأ التعطيل في هذه الأمة، ثم تلقى ذلك عنه الجهم بن صفوان" (¬3) . ويشير البعض إلى أن هذه المقالة ترتد في أصولها إلى مؤثرات أجنبية، فقد ذكر ابن الأثير، وشيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهما أن الجعد أخذ ذلك - أي القول بخلق القرآن - عن أبان بن سمعان، وأخذه هذا من طالوت ابن أخت لبيد بن أعصم اليهودي الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم وكان يقول بخلق التوراة، وكان طالوت زنديقًا، وهو أول من صنف لهم في ذلك ثم أظهره الجعد بن درهم (¬4) ، كما يذكر الخطيب البغدادي أن والد بشر المريسي وهو أحد كبار القائلين بخلق القرآن من المعتزلة كان يهوديًا (¬5) . ومن هنا يظهر الأثر اليهودي في ظهور هذه المقالة. ¬
ويشير شيخ الإسلام - رحمه الله - إلى مؤثرات أخرى حيث يذكر أن الجعد بن درهم كان من أهل حران، وكان فيهم من بقايا الصابئين والفلاسفة خصوم إبراهيم عليه السلام؛ لهذا أنكر تكليم موسى وخلة إبراهيم موافقة لفرعون والنمرود بناء على أصل هؤلاء النفاة وهو أن الرب تعالى لا يقوم به كلام، ولا محبة لغيره، فقتله المسلمون، ثم انتشرت مقالته فيمن ضل من هذا الوجه (¬1) . وتلك الروايات الواردة في كتب الشيعة والتي تنص على أن القرآن منزل غير مخلوق قد تمثل مذهب قدماء الشيعة الذين كانوا على هذا الاعتقاد كما أشار إلى ذلك أهل العلم (¬2) .؛ لأن القول بأن القرآن مخلوق هو من إحداث متأخري الشيعة (¬3) . كما أن الاعتقاد بأن القرآن منزل غير مخلوق، هو الثابت عن أهل البيت، إذ ليس من أئمة أهل البيت مثل علي بن الحسين وأبي جعفر الباقر وابنه جعفر بن محمد من يقول بخلق القرآن، ولكن الإمامية تخالف أهل البيت في عامة أصولهم (¬4) . أما قولهم بأن كلام الله لموسى خلقه في شجرة؛ فهو مخالف لصريح قوله سبحانه: {وَكَلَّمَ الله مُوسَى تَكْلِمًا} (¬5) . فالتأكيد بالمصدر "تكليمًا" ينفي التأويل الذي يشيرون إليه، ولذا قال غير واحد من العلماء: التوكيد بالمصدر ينفي المجاز (¬6) . ولو كان الأمر على ما يدعون لم يكن في ذلك مزية لموسى عليه السلام، وفضيلة اختص بها، ونوه الله سبحانه بذكرها فإن "من سمع كلام الله من مالك أو من نبي أتاه به من عند الله أفضل مرتبة في سماع الكلام من موسى؛ لأنهم سمعوه ¬
من نبي، وموسى سمعه من شجرة.. ويلزمهم أن تكون الشجرة هي التي قالت: (إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني) وهذا ظاهر الفساد" (¬1) . والرد على الجهمية القائلين بنفي الصفات كثير في كلام التابعين وتابعيهم، والأئمة المشاهير، وفي مسألة القرآن آثار كثيرة جدًا (¬2) ، وهي مذكورة في الكتب المتخصصة في ذلك (¬3) . ولكن الذي يمكن أن يضاف فيما يتصل بنقد المذهب الشيعي في ذلك بعد ظهور كتبهم وانتشارها أنهم وهم ينفون هذه الفضيلة لموسى عليه السلام، وينكرون مناجاة الله له ومناداته، ويزعمون أن الشجرة هي التي كلمت موسى عليه السلام - لم يأخذوا بهذا المنهج فيما يتصل بالإمام، ونسوا هذه القضية في حديثهم عن فضائل الأئمة.. لقد جاء في كتابهم المعتمد عندهم "بحار الأنوار" باب بعنوان "باب أنّ الله تعالى ناجاه صلوات الله عليه.." (¬4) . وساق فيه مجموعة من رواياتهم في هذا المعنى عزاها - كعادته - إلى طائفة من كتبهم المعتمدة. تقول إحدى هذه الروايات: "لمّا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ببراءة مع أبي بكر وأنزل الله عليه: تترك من ناجيته غير مرّة، وتبعث من لم أناجه؟ (¬5) فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ براءة منه ودفعها إلى علي رضي الله عنه فقال له علي: أوصني يا رسول الله، فقال له: إنّ الله يُوصيك ويناجيك، قال: فناجاه يوم براءة قبل صلاة الأولى إلى صلاة العصر" (¬6) . وتقول رواية أخرى: ".. إنّ الله ناجاه (يعني عليًّا) يوم الطّائف ويوم عقبة ¬
تبوك، ويوم حنين" (¬1) . وفي بصائر الدرجات، والاختصاص وبحار الأنوار، رواية تقول: "عن أبي عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل الطائف: لأبعثن إليكم رجلاً كنفسي يفتح الله به الخيبر، سوطه سيفه"، ثم تذكر الرواية اختيار علي لهذه المهمة، وأن الرسول لحق به ولما وصلها كان علي على رأس الجبل فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اثبت، فثبت، فسمعنا مثل صرير الزجل (¬2) . فقيل: يا رسول الله، ما هذا؟ قال: إنّ الله يناجي عليًّا رضي الله عنه" (¬3) . وبغض النظر عما في هذه الرواية من أخطاء تاريخية في خلطها بين فتح خيبر والطائف، فلعل القارئ يلاحظ هذا التشبيه لكلام الحق جل شأنه ... فعنصر التجسيم والتمثيل واضح في قوله: "مثل صرير الزجل" ولا تشير الرواية إلى أن هذا قد سمعه علي من شجرة ونحوها، فما بالهم يذهبون تارة إلى التعطيل المحض، وتارة إلى التجسيم، هل هذه الروايات تمثل الأدوار التي مرت بها مراحل التشيع حينما كان الشيعة مجسمة، ثم تحولوا إلى مرحلة التعطيل في المائة الثالثة حينما هبت عليهم أعاصير الاعتزال؟! أم أن وضّاع هذه الروايات يمثلون على نحلة وكل يضع ما تمليه عليه عقيدته؟! والتشيع يحتضن الجميع بلا تفريق؛ فحب علي حسنة لا تضر معها سيئة كما يقولون. ولا يجدون ما يلجؤون إليه في تعليله سوى القول بالتقية، ولا يكاد يجزم ¬
2- مسألة الرؤية
شيخ من مشايخهم بمعرفة أي القولين تقية إلا بالقول بأن ما خالف العامة (يعني أهل السنة) فيه الرشاد. وليتهم قالوا: ما وافق القرآن هو الحق وما سواه تقية. وبعد، أليس يكفي في بيان فساد مذهبهم أنه عنصر غريب على الأمة، وأنه خلاف ما عليه أهل البيت، وخلاف ما اتفقت فيه روايات لهم مع ما جاء عند أهل السنة، وأن رواياتهم كلها متعارضة متناقضة؟! 2- مسألة الرؤية: الرؤية حق لأهل الجنة، بغير إحاطة ولا كيفية، كما نطق به كتاب ربنا {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (¬1) . وأما الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الدالة على الرؤية فمتواترة رواها أصحاب الصحاح والمسانيد والسن (¬2) . وقد قال بثبوت الرؤية الصحابة والتابعون، وأئمة الإسلام المعروفون بالإمامة في الدين، وسائر طوائف أهل الكلام المنسوبين إلى السنة والجماعة (¬3) . وخالف في ذلك الجهمية والمعتزلة ومن تبعهم من الخوارج والإمامية (¬4) . وقولهم باطل مردود بالكتاب والسنة وإجماع السلف (¬5) . ¬
وأذكر فيما يلي قول الشيعة من مصادرها: لقد ذهبت الشيعة الإمامية بحكم مجاراتهم للمعتزلة إلى نفي الرؤية، وجاءت روايات عديدة ذكرها ابن بابويه في كتابه التوحيد وجمع أكثرها صاحب البحار تنفي ما جاءت به النصوص من رؤية المؤمين لربهم في الآخرة، فتفتري - مثلاً - على أبي عبد الله جعفر الصادق بأنه سئل "عن الله تبارك وتعالى هل يرى في المعاد؟ فقال: سبحان الله وتعالى عن ذلك علوًا كبيرًا.. إن الأبصار لا تدرك إلا ما له لون وكيفية، والله خالق الألوان والكيفية" (¬1) . ويظهر أن الحجة التي احتج بها هؤلاء الذين وضعوا هذه الرواية على جعفر تتضمن نفي الوجود الحق، لأن ما لا كيفية له مطلقًا لا وجود له. ولهذا قال بعض السلف حينما سئل عن الاستواء قال: الاستواء معلوم والكيف مجهول (¬2) . ولم يقل: لا كيفية له. فالمنفي هنا علم البشر بالكيفية لا ذات الكيفية، كما أن هذا يناقض ما رواه صاحب الكافي عن أبي عبد الله أنه قال: ".. ولكن لابد من إثبات أن له كيفية لا يستحقها غيره ولا يشارك فيها ولا يحاط بها ولا يعلمها غيره" (¬3) . وقال شيخهم وآيتهم جعفر النّجفي صاحب كشف الغطا: "ولو نسب ¬
3- مسألة نزول الرب جل شأنه
إلى الله بعض الصّفات.. كالرّؤية حكم بارتداده" (¬1) . وجعل الحرّ العاملي نفي الرؤية من أصول الأئمة، وعقد لذلك بابًا بعنوان "باب أنّ الله سبحانه لا تراه عين ولا يدركه بصر في الدّنيا ولا في الآخرة" (¬2) . فنفيهم لرؤية المؤمنين لربهم في الآخرة خروج عن مقتضى النصوص الشرعية، وهو أيضًا خروج عن مذهب أهل البيت، وقد اعترفت بعض رواياتهم بذلك، فقد روى ابن بابويه القمّي عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: قلت له: أخبرني عن الله عزّ وجلّ هل يراه المؤمنون يوم القيامة؟ قال: نعم (¬3) . 3- ومثل مسألة "الرؤية" مسألة أخرى هي "نزول الرب جل شأنه": والذي استفاضت به السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم واتفق سلف الأمة وأئمتها وأهل العلم بالسنة والحديث على تسديق ذلك وتلقيه بالقبول (¬4) . وإثباته على ما يليق بجلاله سبحانه ويختص بعظمته. وقد جاءت عند الاثني عشرية روايات نسبوها لأهل البيت تنكر ذلك (¬5) . في حين يوجد روايات أخرى تثبت النزول الإلهي وهي التي تتفق مع نقل أهل السنة عنهم. جاء في كتب الشيعة "قال سائل لأبي عبد الله: تقول إنّه ينزل إلى السّماء الدّنيا؟ قال أبو عبد الله: نقول بذلك، لأنّ الرّوايات قد صحّت به ¬
والأخبار" (¬1) . ومثل هذا المعنى جاء في تفسير القمي أصل أصول التفاسير عندهم كما أثبت ذلك صاحب البحار (¬2) ، وإن كان ناشر الكتاب والمعلق عليه أضاف إليه ما يغير معناه (¬3) . ولم يتفطن أن بقية النص تكشف ما زاده فيه (¬4) . واختلاف رواياتهم بهذه الصورة يدل على أن جانبًا منها باطل بلا ريب، ولا شك بأن الروايات التي تتفق مع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع السلف هي الصواب، وإن أعرض عنه شيوخ الشيعة مجاراة لأهل الاعتزال. ثم إن اختلاف شيوخ الإمامية المتقدمين عن متأخريهم في هذا الباب يلزم منه أن أحدهما على ضلال، وعليه "لزم ضرورة أن شيوخ الإمامية ضلوا في التوحيد إما متقدموهم وإما متأخروهم" (¬5) . وقد جاءت روايات تدل على أن الأئمة - باعتراف كتب الشيعة - قد أخذوا بالمنهج الوسط بين غلو متقدمي الشيعة في الإثبات، وبين غلو متأخريهم في التعطيل. وعقد صاحب الكافي بابًا بعنوان "باب النهي عن الصفة بغير ما وصف به نفسه تعالى" وذكر فيه اثنتي عشرة رواية عن الأئمة (¬6) . افتتح الباب برواية "عبد الرحيم بن عتيك القصير قال: كتبت على يدي عبد الملك بن أعين إلى ¬
أبي عبد الله عليه السلام: "إن قومًا بالعراق يصفون الله بالصورة وبالتخطيط فكتب إليّ: سألت رحمك الله عن التوحيد وما ذهب إليه من قبلك، فتعالى الله الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وتعالى عما يصفه الواصفون المشبهون الله بخلقه المفترون على الله، فاعلم رحمك الله أن المذهب الصحيح في التوحيد ما نزل به القرآن من صفات الله جل وعز، فانف عن الله تعالى البطلان والتشبيه فلا نفي ولا تشبيه (¬1) . لا تعدوا القرآن فتضلوا بعد البيان" (¬2) . وعن المفضل قال: سألت أبا الحسن عن شيء من الصفة فقال: "لا تجاوز ما في القرآن" (¬3) . لاحظ أن هذا النص الذي ورد في أصح كتبهم الأربعة يأمرهم باتباع ما نزل به القرآن من صفات الله سبحانه. فمن قلد أهل الاعتزال، أو حكم العقل وأعرض عن كتاب الله، لم يتبع كتاب الله، ولم يأخذ بوصية إمامه. قال الرضا: "للناس في التوحيد ثلاثة مذاهب: نفي، وتشبيه، وإثبات بغير تشبيه؛ فمذهب النفي لا يجوز، ومذهب التشبيه لا يجوز؛ لأن الله تبارك وتعالى لا يشبه شيء والسبيل في الطريقة الثالثة إثبات بلا تشبيه" (¬4) . فأوائل الشيعة أخذوا بالتشبيه وأواخرهم أخذوا بالنفي، وأعرضوا عن المذهب الوسط، وهو مذهب الأئمة كما تقر به "نقولهم" فدل على أنهم ليسوا على ¬
شيء في هذا الباب فلم يأخذوا بمنهج القرآن والسنة ولم يأخذوا بطريقة الأئمة الذين يزعمون أنهم قدوتهم، بل ساروا مع أهل التمثيل أولاً، وخالفوا قول الله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ثم أخذوا بمسلك أهل التعطيل وأعرضوا عن نصوص الصفات الواردة عن الله ورسوله.
المبحث الثالث وصفهم الأئمة بأسماء الله وصفاته وهو ما انفردت به الشيعة، وشذت به عن الأمة ... فإذا كان شيوخ الشيعة المتقدمون قد شبهوا الخالق سبحانه بصفات المخلوقين، ثم واجه هذه الموجة الغالية في التجسيم موقف آخر قد يمثل ردة فعل له، وهو موقف التعطيل.. فشبهوا الله سبحانه بالمعدومات والجمادات والممتنعات، وعطلوا نصوص الأسماء والصفات. فهم لم يصفوا الله سبحانه بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم لا في مذهبهم الأول ولا في مذهبهم الأخير.. إذا كان الأمر كذلك فإنهم لم يكتفوا بذلك، بل تطور الأمر إلى أن الأسماء والصفات الواجبة لله سبحانه وصفوا بها بعض البشر (الأئمة) فخرجوا بمذهب ثالث وهو تشبيه المخلوق بالخالق، فشابهوا النصارى في ذلك كما شابهوا اليهود في المذهب الأول (التجسيم) . لقد خرجوا ببدعة ثالثة أحدثوها في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، حيث زعموا أن الأئمة هم أسماء الله، فأسماء الله سبحانه التي ذكرها في كتابه هي - على حد زعمهم - عبارة عن الأئمة الاثني عشر، وهذا يتضمن تعطيل الله من أسمائه الحسنى، وإعطاءها بعض البشر، ويزعمون أن النص من "المعصوم" قد ورد بذلك، وهذا إفك عظيم افتروه؛ فويل لهم مما يفترون. روى الكليني في أصل الكافي عن أبي عبد الله في قول الله عز وجل: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (¬1) . قال: "نحن والله الأسماء الحسنى التي لا يقبل الله من العباد عملاً إلا بمعرفتنا" (¬2) . ¬
وهذا المعنى تناقله أساطين المذهب في روايات عديدة منسوبة لجعفر الصادق وغيره (¬1) . الله سبحانه يقول: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} وهؤلاء يقولون: نحن الأسماء الحسنى، فأي محاداة لله وكتابه أعظم من هذا! إن من معين هذه النصوص المظلمة تستقي طوائف الباطنية الملحدة والتي تذهب لتأليه الأئمة.. ومن مائها الآسن ترتوي. وتفصل روايات أخرى لهم ما أجملته الرواية السابقة فيروون عن أبي جعفر أنه قال: "نحن وجه الله نتقلب في الأرض بين أظهركم، ونحن عين الله في خلقه، ويده المبسوطة بالرحمة على عباده، عرفنا من عرفنا وجهلنا من جهلنا" (¬2) . وعن أبي عبد الله: "إن الله خلقنا فأحسن صورنا وجعلنا عينه في عباده، ولسانه الناطق في خلقه، ويده المبسوطة على عباده بالرأفة والرحمة، ووجهه الذي يؤتى منه، وبابه الذي يدل عليه، وخزانه في سمائه وأرضه، بنا أثمرت الأشجار وأينعت الثمار، وجرت الأنهار، وبنا ينزل غيث السماء وينبت عشب الأرض، وبعبادتنا عبد الله ولولانا ما عُبد الله" (¬3) . وزعموا أن أمير المؤمنين عليًا قال: "أنا عين الله وأنا يد الله وأنا حبيب الله وأنا باب الله" (¬4) . وقال - كما يفترون -: "أنا علم الله، وأنا قلب الله الواعي، ولسان الله النّاطق، وعين الله النّاظرة، وأنا جنب الله وأنا يد الله" (¬5) . ¬
وفي التوحيد لابن بابويه أنّ أبا عبد الله قال: "إنّ لله عزّ وجلّ خلقًا من رحمته، خلقهم من نوره.. فهم عين الله النّاظرة وأذنه السّامعة، ولسانه النّاطق في خلقه بإذنه.. بهم يمحو السّيّئات، وبهم يدفع الضّيم، وبهم يُنزّل الرّحمة، وبهم يحيي ميتًا، وبهم يميت حيًّا، وبهم يبتلي خلقه، وبهم يقضي في خلقه قضيّته" (¬1) . وقد ذكر المجلسي ستًا وثلاثين رواية تقول إن الأئمة هم وجه الله ويد الله (¬2) . وفي رجال الكشّي وغيره قال علي - كما يفترون -: "أنا وجه الله، أنا جنب الله، وأنا الأوّل، وأنا الآخر، وأنا الظّاهر، وأنا الباطن.." (¬3) . وجاءت عندهم روايات عديدة في كثير من مصادرهم المعتمدة تفسر قوله سبحانه: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} (¬4) . وقوله سبحانه: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} (¬5) . بما رووه عن جعفر أنّه قال: "نحن وجه الله" (¬6) "نحن الوجه الذي يؤتى الله منه" (¬7) ، "نحن وجه الله الذي لا يهلك" (¬8) ، وروايات أخرى بهذا المعنى (¬9) . وجاء في تفسير العياشي، رواية طويلة تقشعر منها أبدان المؤمنين تصف ¬
ما يجري في يوم القيامة، وتقول نهاية الرواية - على لسان الأئمة -: "ثم يؤتى بنا فنجلس على عرش ربّنا.." (¬1) . هذا ونصوصهم التي تفسر أسماء الله عز وجل وصفاته بالإمام والأئمة كثيرة. كما أنهم أضفوا على الأئمة أيضًا بعض صفات الرب سبحانه كالعلم بالغيب، وعقد لذلك صاحب الكافي بابًا بعنوان "باب أن الأئمة يعلمون علم ما كان وما يكون وأنه لا يخفى عليهم الشيء" (¬2) . وضمنه طائفة من رواياتهم. وعقد بابًا آخر بعنوان "باب أن الأئمة إذا شاءوا أن يعلموا علموا" (¬3) . وذكر فيه جملة من أحاديثهم، ومن روايات هذه الأبواب: قال أبو عبد الله - كما يفترون -: "إنّي لأعلم ما في السّماوات وما في الأرض وأعلم ما في الجنّة وأعلم ما في النّار، وأعلم ما كان وما يكون.." (¬4) . "وعن سيف التمار قال: كنا مع أبي عبد الله رضي الله عنه جماعة من الشيعة في الحجر فقال: علينا عين؟ فالتفتنا يمنة ويسرة فلم نر أحدًا، فقلنا: ليس علينا عين. فقال: وربّ الكعبة وربّ البنية - ثلاث مرّات - لو كنت بين موسى والخضر لأخبرتهما أنّي أعلم منهما ولأنبأتهما بما ليس في أيديهما، لأنّ موسى والخضر عليهما السّلام أعطيا علم ما كان ولم يُعطيا علم ما يكون وما هو كائن حتى تقوم السّاعة، وقد ورثناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وراثة" (¬5) . وبعد، فهذه كلمات لا تحتاج إلى تعليق، وأقول هي "زبالة" المذاهب ¬
الباطنية، التي كان لها وجود في تاريخ المسلمين، والتي تذهب إلى تأليه عليّ والأئمة. قد استوعبتها الاثنا عشرية في بنية مذهبها. وهم يلصقون هذه المفتريات بأهل البيت ليتخذوا منهم "عكازة" يعتمدون عليها لنشر مذهبهم. وإلا فمن يقول: "أنا الأول والآخر والظاهر والباطن" (¬1) .؛ هل يختلف عن فرعون الذي قال: "أنا ربكم الأعلى"؟! وكيف يتجرأ أساطين المذهب كالكشي والطوسي على نقل هذا الإلحاد، وكيف يعدون الكليني ثقة إسلامهم وهو ينقل هو وأضرابه هذا الكفر البواح؟! وهل ثمة عذر لمعتذر؟ وقد حاول شيخهم المجلسي اللجوء إلى المجاز لتفسير بعض نصوصهم الواردة في هذا الباب حيث قال: "إن تلك المجازات شائعة في كلام العرب، فيقال: لفلان وجه عند الناس، ولفلان يد على فلان وأمثال ذلك، والوجه يطلق على الجهة، فالأئمة الجهة التي أمر الله بالتوجه إليها، ولا يتوجه إليه تعالى إلا بالتوجه إليهم، وكل شيء هالك باطل مضمحل إلا دينهم وطريقتهم وطاعتهم، وهم عين الله أي شاهده على عباده، فكما أن الرجل ينظر بعينه ليطلع على الأمور فكذلك خلقهم الله ليكونوا شهداء من الله عليهم ناظرين في أمورهم. وإطلاق اليد على النعمة والرحمة والقدرة شائع، فهم نعمة الله التامة، ورحمته المبسوطة، ومظاهر قدرته الكاملة. والجنب: الجانب والناحية وهم الجانب الذي أمر الخلق بالتوجه إليهم.. ويحتمل أن يكون كناية عن أن قرب الله تعالى لا يحصل إلا بالتقرب بهم، كما أن قرب الملك يكون بجنبه" اه (¬2) . إن هذا الاعتذار دليل على رضا شيوخهم بهذا الكفر البين، وإلا فكيف يلتمس لهذا الإلحاد الظاهر مخرجًا؟! لم لا يضرب به الجدار، وينقي "ثوب التشيع" ¬
من أدران رؤوس الملاحدة، وزبانية الكفر؟ وهل يصح تأويل المجلسي إلا إذا صح تأويل قول فرعون "أنا ربكم الأعلى" إلا إذا كان هذا التأويل لمجرد التستر على الباطل، والدفاع بالهوى عن مقالات الملاحدة. إن التعلق بالمجاز - على فرض القول (¬1) . به - لا مكان له هنا؛ لأن المجاز في اللغة يلاحظ فيه وجود علاقة بين المعنى الأصلي والمعنى المجازي، مع وجود قرينة تمنع إرادة المعنى الأصلي (¬2) . والأصل في الكلام الحقيقة "ولا يصار إلى المجاز إلا إذا تعذر حمل الكلام على حقيقته" (¬3) . ولذلك فإن فرقًا كثيرة في الاثني عشرية وغيرها عدت ذلك الكلام حقيقة، واعتقدت في الأئمة الألوهية بمقتضى هذا الكفر الذي ينقله لهم شيوخ الاثني عشرية، وكان حق هذه المقالة الرفض والتكذيب؛ لأنه لا معنى لدعوى المجاز، فهل توجد علاقة وقرينة لجعل معاني أسماء الله الحسنى وصفاته العليا للأئمة؟! فأين العلاقة في قولهم بأن أسماء الله "الأول والآخر والظاهر والباطن" هي أوصاف للأئمة؟!! وقوله سبحانه: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} أين القرينة الصارفة لهذه الآية عن معناها الأصلي وهو أسماء الله سبحانه؟! لا يوجد شيء من ذلك إلا إن كانت هي زعمهم أن في الأئمة جزءاً إلهيًا، فقد أخرج صاحب الكافي عن الأئمة أنهم قالوا: "إنّ الله خلطنا بنفسه" (¬4) . فإذا كانت هذه هي القرينة فهي تؤكد مبدأ الغلو ولا تنفيه، وتعطي الأئمة جزءاً من صفات الله سبحانه. وأنت تلاحظ في كلمات المجلسي مظاهر الغلو في الأئمة وتكاد تكون مجرد صدى لتلك الروايات. فهل يمكن أن يقارن قول العرب: لفلان وجه عند الناس بقول إمامهم - ¬
كما يفترون -: "أنا وجه الله"؟! وهل يقبل أن تجعل قرينة ذلك أن عليًا والأئمة هم الجهة التي أمر الله بالتوجه إليها.. هل عندهم من برهان بهذا فيخرجوه لنا؟ لا يتوجه الناس بعبادتهم ودعائهم إلا إلى الله وحده، ولا يستقبل المسلمون في صلواتهم إلا إلى بيت الله، ولا واسطة بين الله وخلقه إلا في تبليغ وحيه سبحانه، ولا واسطة في التبليغ إلا رسل الهدى عليهم السلام، وكل يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف يقال بعد هذا: إن الأئمة هم الجهة التي يتوجه الناس إليها؟! أما دعوى "أن الأئمة يعلمون ما كان وما يكون ولا يخفى عليهم الشيء" فهذه صفة للحق جل شأنه لا يشاركه فيها أحد سبحانه. قال تعالى: {قُل لا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ} (¬1) . {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} (¬2) . {إِنَّ اللهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء} (¬3) . والله سبحانه أمر أفضل الخلق رسول الهدى صلى الله عليه وسلم أن يقول: {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} (¬4) ، {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} (¬5) . فأمره سبحانه أن يفوض الأمور إليه، وأن يخبر عن نفسه أنه لا يعلم بغيب المستقبل، ولا اطلاع له على شيء من ذلك إلا بما أطلعه الله عليه كما قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا، إِلا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ ... } (¬6) . وقد ذكر علماء الإسلام أن من ادعى شيئًا من علم الغيب فقد كفر، ¬
فقد أضاف الله سبحانه علم الغيب إلى نفسه في غير ما آية من كتابه، فلا يظهر على غيبه إلا من اصطفى من رسله (¬1) ، وهذا هو الغيب المطلق المحجوب عن جميع الخلق (¬2) . وقد عثرت وسط هذا الركام من هذه الدعاوى الغبية الملحدة حول الأئمة على بعض النصوص التي روتها كتب الشيعة والتي تجرد الأئمة من هذه الصفات التي خلعوها عليهم، وهي لا تنبغي إلا للحق جل شأنه. قال أبو عبد الله - كما يروي صاحب الكافي -: "يا عجبًا لأقوام يزعمون أنا نعلم الغيب، ما يعلم الغيب إلا الله عز وجل، لقد هممت بضرب جاريتي فلانة فهربت مني، فما علمت في أي بيوت الدار هي.." (¬3) . ولو كان أبو عبد الله - كما يزعم الكليني في أبوابه التي عقدها بعد ذكره لهذا النص - لو كان يعلم ما يكون ولا يخفى عليه الشيء، وإذا شاء أن يعلم - علم لم يخف عليه موضع الجارية. وكان الأئمة من قديم يشكون من مزاعم هؤلاء الذين جمع أقوالهم صاحب ¬
الكافي وأسندها للأئمة، ولهذا جاء في حديث لهم ذكره صاحب البحار وصاحب الاحتجاج عن بعض أئمتهم قال: "تعالى الله عز وجل عما يصفون سبحانه وبحمده، ليس نحن شركاء في علمه ولا في قدرته، بل لا يعلم الغيب غيره، كما قال في محكم كتابه تبارك وتعالى: {قُل لا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ} (¬1) أني بريء إلى الله وإلى رسوله ممن يقول: إنا نعلم الغيب أو نشارك الله في ملكه، أو يحلنا محلاً سوى المحل الذي رضيه الله لنا". وروايات الشيعة تكشف نفسها بنفسها وتتناقض نصوصها. وقول الأئمة: إنهم مصدر الرزق وإنزال الغيث.. إلخ والذي يرويه شيوخ الاثني عشرية هو من مخلفات غلاة الشيعة والذين أنكر الأئمة مذهبهم. فقد جاء في أخبارهم أن أبا عبد الله قال حينما قيل له: إن المفضل بن عمر يقول: إنكم تقدرون أرزاق العباد. فقال: "والله ما يقدر أرزاقنا إلا الله، ولقد احتجت إلى طعام لعيالي فضاق صدري وأبلغت إليّ الفكرة في ذلك حتى أحرزت قوتهم؛ فعندها طابت نفسي، لعنه الله وبرئ منه» (¬2) . ولكن هذه الروايات هي كالشعرة البيضاء في الثور الأسود، وفي التقية متسع لكل نص تضيق به نفوس شيوخ الشيعة، وإذا أردت مثالاً على ذلك فاسمع ما يقوله شارح الكافي تعقيبًا على قول أبي عبد الله الذي نقلناه آنفًا (والذي يتعجب فيه أبو عبد الله من قوم نسبوا له العلم بالغيب، ويذكر للرد عليهم بأن جاريته قد اختفت في داره فلم يدر أين هي فكيف يقال عنه إنه يعلم ما كان وما يكون) . قال شارح الكافي.. ".. الغرض من هذا التعجب وإظهاره هو ألا يتخذه الجهال ¬
إلهًا، أو يدفع عن وهم بعض الحاضرين المنكر لفضله ما نسبوه إليه من العلم بالغيب حفظًا لنفسه، وإلا فهو رضي الله عنه كان عالمًا بما كان وما يكون، فكيف يخفى عليه مكان الجارية؟ فإن قلت: إخباره بذلك على هذا يوجب الكذب، قلت: إنما يوجب الكذب لو لم يقصد التورية وقد قصدها، فإن المعنى ما علمت علمًا غير مستفاد منه تعالى بأنها في أي بيوت الدار" (¬1) . انظر التكلف العجيب في رد هذه الرواية لإثبات أن الإمام يعلم ما كان وما يكون حتى ارتكب في سبيل ذلك نسبة الإمام إلى الكذب، وهدم أصلاً من أصولهم وهو العصمة. وإذا كان الإمام أراد بهذا القول ألا يتخذه الجهال إلهًا فهل أنت بإثباتك لضد قوله تريد أن تدعو إلى تأليه الإمام، وأين الدليل على وجود بعض الحاضرين الذين يخشى من وجودهم الإمام وسلسلة السند كلهم شيعة؟! وعلى أي وجه من وجوه اللغة يعتبر هذا من قبيل التورية؟! أما شيخهم الآخر الشعراني المعلق على الشرح فلم يعجبه هذا التكليف في تأويل الرواية، ورام ردها بأقصر طريق وهو الحكم بأن الرواية كذب (¬2) . وهكذا يشيع الزنادقة عن علماء أهل البيت مثل هذه الإشاعات الكاذبة، فإذا أنكروا على هؤلاء الزنادقة فريتهم، وفضحوا باطلهم أمام الملأ حمل شيوخ الشيعة هذا التكذيب والإنكار على التقية.. فصارت التقية حيلة بيد غلاة الشيعة لإبقاء التشيع في دائرة الغلو، ورد الحق، والإساءة لأهل البيت. وقد ادعى زارة بن أعين أن جعفر بن محمد يعلم أهل الجنة وأهل النار، فأنكر ذلك جعفر لما بلغه ذلك، وكفّر من قاله، ولكن زرارة حينما نقل له موقف جعفر قال لمحدثه: "لقد عمل معك بالتقية" (¬3) . ¬
المبحث الرابع دعوى التحريف لتأييد مذهبهم في التعطيل وهو مسلك لم يسلكه أحد غيرهم، وشذوذ اختصوا به عن سواهم؛ حيث راموا التخلص من آيات الإثبات للأسماء والصفات في كتاب الله سبحانه بدعوى خطيرة، سبق أعرضنا لها مفصلة، ولذلك سنشير إليها هنا باقتضاب ونقتصر على ما يتصل منها بباب الأسماء والصفات، هذه الدعوى هي تحريفهم للآية عما أنزل الله، فمثلاً روى ابن بابويه عن الرضا علي بن موسى في قول الله سبحانه: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأمُورُ} (¬1) . قال الرضا: "إنها هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله بالملائكة في ظلل من الغمام، وهكذا نزلت" (¬2) . قال الرضا: "إنها هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله بالملائكة في ظلل من الغمام، وهكذا نزلت" (¬3) . وهدف الشيعة من هذا التحريف واضح، فهم يحاولون بذلك نفي الإتيان عن الله سبحانه كقول المعتزلة. وفي الاحتجاج للطبرسي عن أمير المؤمنين علي قال يخاطب أحد الزنادقة لإقناعه بالإسلام!!: "وأما قوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} فإنما نزلت كل شيء هالك إلا دينه؛ لأن من المحال أن يهلك منه كل شيء ويبقى الوجه، هو أجل وأعظم من ذلك" (¬4) . وواضح أن واضع هذه الأسطورة أعجمي جاهل لا يفقه من أمر العربية شيئًا، وزنديق حاقد في افترائه على كتاب الله، وتعطيله لصفات الله، ونسبة هذا الكفر لأمير المؤمنين علي. ومن كبير مكره وحقده زعمه أن هذه إجابة أمير ¬
المؤمنين لإقناع أحد الزنادقة. إن هذا المنهج في التعطيل يدل على أن هذه الزمرة التي وضعت هذه الروايات لا ترعى في سبيل الدفاع عن مبادئها أية حرمة، ولا تقف عند حد. وإذا كانت فرق العطلة من المعتزلة وغيرها لم تحاول أن تمس لفظ كتاب الله سبحانه، ورامت البحث عن تأويل للمعنى، فإن هذه الفئة قد تخطت الحدود وتجاوزت المبادئ فرامت إثبات مبدئها، يما يخرجها عن الإسلام أصلاً، فدل على أن هناك فئات من أهل التعطيل تريد الكيد للأمة بمحاربة أصل دينها وهو كتاب الله العظيم. ولقد انكشف بهذه الوسيلة أمرها وافتضح شأنها. والله من ورائهم محيط.
الفصل الرابع: اعتقادهم في الإيمان وأركانه
الفصل الرابع: اعتقادهم في الإيمان وأركانه وفي هذا الفصل عرض لمبحثين الأول: قولهم في الإيمان والوعد والوعيد، والثاني: قولهم في أركان الإيمان. وفي المبحث الأول خمس مسائل: المسألة الأولى: مفهوم الإيمان عندهم. المسألة الثانية: قولهم بشهادة ثالثة مع الشهادتين. المسألة الثالثة: القول بالإرجاء. المسألة الرابعة: بيان قولهم بالوعد. المسألة الخامسة: بيان قولهم بالوعيد. وفي المبحث الثاني: بيان لقولهم في أركان الإيمان.
المبحث الأول: قولهم في الإيمان والوعد والوعيد
المبحث الأول: قولهم في الإيمان والوعد والوعيد المسألة الأولى: مفهوم الإيمان عندهم: لقد أدخل الاثنا عشرية الإيمان بالأئمة الاثني عشر في مسمى الإيمان (¬1) ، بل جعلوه هو الإيمان بعينه. جاء في أصول الكافي: "الإسلام هو الظاهر الذي عليه الناس: شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله" ثم ذكر بقية أركان الإسلام، ثم قال: "الإيمان معرفة هذا الأمر مع هذا، فإن أقر بها ولم يعرف هذا الأمر كان مسلمًا وكان ضالاً" (¬2) . ويقولون بأن الثواب في الآخرة ليس على الإسلام، إنما هو على الإيمان. وعقد لذلك صاحب الكافي بابًا بعنوان: "باب أن الإسلام يحقن به الدم وأن الثواب على الإيمان" (¬3) . ويفسرون قوله سبحانه: {قُولُواْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ، فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ ... } (¬4) - بما يرونه عن أبي جعفر قال: "إنما عني بذلك عليًا، والحسن، والحسين، وفاطمة. وجرت بعدهم في الأئمة. قال: ثم يرجع القول من الله في الناس فقال: ¬
المسألة الثانية: الشهادة الثالثة
{فَإِنْ آمَنُواْ} يعني الناس {بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ} يعني عليًا وفاطمة والحسن والحسين والأئمة من بعدهم، {فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} " (¬1) . ولهذا قال ابن المطهر الحلي: "إن مسألة الإمامة (إمامة الاثني عشر) هي أحد أركان الإيمان المستحق بسببه الخلود في الجنان والتخلص من غضب الرحمن" (¬2) . وقال محمد جواد العاملي: "الإيمان عندنا إنما يتحقق بالاعتراف بإمامة الأئمة الاثني عشر عليهم السلام، إلا من مات في عهد أحدهم فلا يشترط في إيمانه إلا معرفة إمام زمانه ومن قبله" (¬3) . وقال أمير محمد القزويني (من شيوخهم المعاصرين) : "إن من يكفر بولاية علي وإمامته - رضي الله عنه - فقد أسقط الإيمان من حسابه وأحبط بذلك علمه" (¬4) . المسألة الثانية: الشهادة الثالثة وبمقتضى هذا الإيمان الذي لا يعرفه سوى الاثني عشرية، فإنهم اخترعوا "شهادة ثالثة" هي شعار هذا الإيمان الجديد، هي قولهم: "أشهد أن عليًا ولي الله" يرددونها في أذانهم وبعد صلاتهم، ويلقنونها موتاهم. فالإقرار بالأئمة مع الشهادتين يقال بعد كل صلاة، وعقد الحر العاملي بابًا في هذا المعنى (¬5) . وجاء في أخبارهم عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: "لو أدركت ¬
عكرمة (¬1) . عند الموت لنفعته، فقيل لأبي عبد الله عليه السلام: بماذا كان ينفعه؟ قال: يلقنه ما أنتم عليه" (¬2) ، وعن أبي بصير عن أبي جعفر قال: لقنوا موتاكم عند الموت شهادة أن لا إله إلا الله والولاية" " (¬3) . ويلقن هذه الشهادة عند إدخاله للقبر (¬4) ، وكذلك عند انصراف الناس عنه، وبوَّب لذلك المجلسي فقال: "باب استحباب تلقين الولي الميت الشهادتين والإقرار بالأئمة عليهم السلام بأسمائهم بعد انصراف الناس" (¬5) ، وساق في ذلك جملة من رواياتهم. وهذه الشهادة الجديدة هي إقرار بمسألة الإمامة التي يرى ابن المطهر أنها "أهم المطالب في أحكام الدين وأشرف مسائل المسلمين" (¬6) . وبعد، فإن الاعتقاد بأن الإيمان بالاثني عشر هو ركن الإيمان، أو هو الإيمان نفسه وهو أهم مطالب الدين ... إن هذا "الاعتقاد" إحدى الدلائل البينة، والأمارات الواضحة على بطلان مذهبهم، وأنهم شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله. فلا جاء في القرآن ولا ثبت في السنة شيء من ذلك (¬7) ، ولهذا رأى شيخ الإسلام أن قولهم بأن الإمامة - فضلاً عن القول بإمامة الاثني عشر التي لا يوافقهم أحد من المسلمين عليها إلا من ارتضى مذهبهم من الروافض - أهم مطالب الدين هو ¬
المسألة الثالثة: القول بالإرجاء
كفر، لأنه من المعلوم من الدين بالضرورة أن الإيمان بالله ورسوله أهم من مسألة الإمامة (¬1) . وإذا كانت الإمامة بهذه المثابة التي يزعمون، فأبعد الناس عنها الرافضة الذين يرون أن كل راية ترفع قبل قيام "المعدوم" والذي يسمونه المنتظر هي راية جاهلية (¬2) ، ويكفرون بما وراءه من الخلفاء ما عدا خلافة علي والحسن. كما أن مجرد المعرفة للأئمة لا يحصل بها نيل درجة الكرامة، لأن هذا لا يحصل بمجرد معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم إذا لم يطع أمره ويتبع قوله (¬3) . المسألة الثالثة: القول بالإرجاء هذا وإذا كان الإيمان عندهم هو الإقرار بالأئمة الاثني عشر، فقد أصبح معرفة الأئمة عندهم كافية في الإيمان ودخول الجنان، فأخذوا بمذهب المرجئة (¬4) . رأسًا. ولهذا عقد صاحب الكافي بابًا بعنوان: "باب أن الإيمان لا يضر معه سيئة، والكفر لا ينفع معه حسنة" (¬5) ، وذكر فيه ستة أحاديث منها قول أبي عبد الله: "الإيمان لا يضر معه عمل، وكذلك الكفر لا ينفع معه عمل" (¬6) . والإيمان حسب مصطلحهم هو حب الأئمة أو معرفتهم. ¬
وحين قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "إن أكثر الشيعة يعتقدون أن حب علي حسنة لا يضر معها سيئة" (¬1) . رد عليه بعض شيوخهم وآياتهم في هذا العصر فقال: "ما نسبه إلى كثير من الشيعة من القول بأن حب علي حسنة ليس يضر معه سيئة، فإنه بهتان منه، فإنهم جميعًا متفقون على ذلك، فتخصيصه الكثير منهم بهذه العقيدة ليس له وجه سوى الكذب" (¬2) . قال شيخ الإسلام: "وإذا كانت السيئات لا تضر مع حب علي، فلا حاجة إلى الإمام المعصوم الذي هو لطف في التكليف، فإنه إذا لم يوجد إنما توجد سيئات ومعاص، فإذا كان حب علي كافيًا فسواء وجد الإمام أو لم يوجد" (¬3) . فصارت مسألة إمامة المعصوم المبنية على قاعدة اللطف منقوضة بمسألة المحبة المجردة، وكل قول عندهم لابد أن يهدم قولاً آخر وهكذا الشأن في كل دين ليس من عند الله سبحانه. ولعلهم يفارقون المرجئة من حيث إن المرجئة تقول: الإيمان هو المعرفة بالله، وهم يقولون: الإيمان معرفة الإمام أو حبه. وأخبارهم في هذا الباب كثيرة في عشرات من الأحاديث، فقد جاء عندهم "وهل الدين إلا الحب" (¬4) . وذكر المجلسي (154) رواية في باب بعنوان: "باب ثواب حبهم وولايتهم وأنهم أمان من النار" (¬5) ، كما جاء في عنوان آخر: "أن ولايته (يعني عليًا) عليه السلام حصن من عذاب الجبار، وأنه لو اجتمع الناس على حبه ما خلق الله النار" (¬6) ، وجاء في أحاديثهم "لا يدخل الجنة إلا من أحبه ¬
من الأولين والآخرين، ولا يدخل النار إلا من أبغضه من الأولين والآخرين" (¬1) . وعلى هذا التقدير سقط الإيمان بالله ورسوله، وجميع العقائد الدينية، وجميع التكليفات والأحكام الشرعية، ولم يبق في شريعة الإسلام غير حب علي، وهذه المفتريات قد أضلت كثيرًا ممن يحب الإباحة ويتبع الشهوات (¬2) . وهذه الروايات يلزم منها أن القرآن لم ينزل لهداية الخلق، بل لضلالتهم؛ إذ لم يذكر فيه حب علي وبغضه مع أنه هو أصل دخول الجنة أو دخول النار. قال السويدي: "وإذا كان حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم غير كاف في النجاة والخلاص من العذاب بلا إيمان وعمل صالح فكيف يكون حب علي كافيًا، وهذا مخالف لقوله سبحانه: {مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} (¬3) . وقوله: {وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (¬4) .؟ بل مخالف لأصولهم ورواياتهم، أما المخالفة للأصول، فلأنه إذا ارتكب رافضي الكبائر ولم يعاقبه الله على ذلك يلزم ترك الواجب على الله تعالى عندهم. وأما المخالفة للروايات فلأن عليًا والسجاد والأئمة الآخرين قد روي عنهم في أدعيتهم الواردة عندهم بطرق صحيحة البكاء والاستعاذة من عذاب الله تعالى، وإذا كان مثل هؤلاء الأئمة الكرام خاشعين خائفين من عذاب الله فكيف يصح لغيرهم أن يغتر بمحبتهم ويتكل عليهم في ترك العمل (¬5) .؟ ". وانظر في قولهم: "إنه لا يدخل النار إلا من أبغضه من الأولين والآخرين" تجد أنه يدل صراحة على أنه لا يدخل النار مثل فرعون وهامان وقارون وسائر رؤساء الكفر وأتباعهم من الأمم الماضية لأنهم لم يبغضوا عليًا، بل لم يعرفوه، فانظر كيف أدى بهم الغلو. ولا شك أن هذه مقالة لا يتكلف في ردها، لأنه معلوم بطلانها من الإسلام ¬
المسألة الرابعة: قولهم في الوعد
بالضرورة، ولو كان الأمر كما يزعمون لما أرسلت الرسل، وأنزلت الكتب، وشرعت الشرائع. لكن هذه العقيدة بقيت آثارها في المجتمعات الشيعية من الاستهانة بشرائع الله، والجرأة على حدود الله. المسألة الرابعة: قولهم في الوعد قال ابن بابويه: "اعتقادنا في الوعد أن من وعد الله على عمل ثوابًا فهو منجزه" (¬1) . وقد توسعوا في مفهوم الوعد فاخترعوا روايات وأخبارًا ونسبوها لجعفر الصادق وغيره تثبت الوعد بالثواب على أعمال ما أنزل الله بها من سلطان. بل إن الدليل والبرهان قام على منعها وتحريمها أو اعتبارها ضربًا من الشرك أو الإلحاد كلعن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جعلوه من أفضل القربات (¬2) . ولطم الخدود وشق الجيوب، وتعذيب النفس، وضربها بالسكاكين والسيوف باسم عزاء الحسين وهو عندهم من عظيم الطاعات (¬3) . والحج إلى الأضرحة والطواف بها ودعائها والاستغاثة بها من أجل العبادات عندهم (¬4) . واستحداثهم لعبادات ما نزل بها من عند الله نص، وترتيب عظيم الثواب عليها (¬5) . ¬
وجاءت أخبارهم تقول بأن الأئمة يملكون الضمان لشيعتهم بدخول الجنة، وقد شهدوا بذلك لبعض أتباعهم على وجه التعيين، فهم يعدون بالثواب ويحققونه!!. ومن نصوصهم في هذا ما جاء في رجال الكشي: ".. عن زياد القندي عن علي بن يقطين، أن أبا الحسن قد ضمن له الجنة" (¬1) ، وفي رواية أخرى "عن عبد الرحمن الحجاج، قال: قلت لأبي الحسن رضي الله عنه: إن علي بن يقطين أرسلني إليك برسالة أسألك الدعاء له، فقال: في أمر الآخرة (¬2) .؟ قلت: نعم، قال: فوضع يده على صدره ثم قال: ضمنت لعلي بن يقطين ألا تمسه النار" (¬3) . فانظر إلى هذا "التألي" على الله، وكأن لديهم خزائن رحمة الله، وبيدهم مقاليد كل شيء، فهم يضمنون ولا يستثنون، ويوزعون صكوك الغفران والحرمان، فهل لهم مع الله تدبير؟ أو هم رسل يوحى إليهم، أو اطلعوا على الغيب، أو اتخذوا عند الرحمن عهدًا؟! إن مثل هذه المزاعم تبين أن واضعي هذه الأساطير هم فئة من الزنادقة الذين لا يؤمنون بقرآن ولا سنة، وهدفهم إفساد هذا الدين، فلم يجدوا مكانًا لتحقيق ذلك إلا في محيط التشيع. وعلي بن يقطين الذي ضمن له هؤلاء الزنادقة "جنتهم" قد يكون شريكًا لهم في المذهب، فقد ذكر الطبري في حوادث سنة 169هـبأنه قتل على الزندقة (¬4) . وأخبار ضمان الأئمة لأتباعهم الجنة مستفيضة أخبارها في كتب الاثني ¬
المسألة الخامسة: قولهم في الوعيد
عشرية (¬1) . المسألة الخامسة: قولهم في الوعيد قال المفيد: "اتفقت الإمامية على أن الوعيد بالخلود في النار متوجه إلى الكفار خاصة دون مرتكبي الذنوب من أهل المعرفة بالله تعالى والإقرار بفرائضه من أهل الصلاة" (¬2) ، وأنهم بارتكاب الكبيرة لا يخرجون عن الإسلام، وإن كانوا يفسقون بما فعلوه من الكبائر والآثام (¬3) . وهذا القول في ظاهره موافق لمذهب أهل السنة، لكنهم خرجوا عن تحقيق هذا المذهب من طريق آخر، حيث توسعوا في مفهوم الكفر والمكفرات، ولذلك "اتفقت الإمامية على أن أصحاب البدع كلهم كفار، وأن على الإمام أن يستتيبهم عند التمكن بعد الدعوة لهم وإقامة البينات عليهم فإن تابوا عن بدعهم وصاروا إلى الصواب وإلا قتلهم لردتهم عن الإيمان، وأن من مات منهم على تلك البدعة فهو من أهل النار" (¬4) . واتفقت على القول بكفر من حارب أمير المؤمنين عليًا وأنهم "كفار ضلال ملعونون بحربهم أمير المؤمنين وأنهم بذلك في النار مخلدون" (¬5) . وهكذا حكمهم في كل من خالفهم، ولذلك قال ابن بابويه: "واعتقادنا فيمن خالفنا في شيء واحد من أمور الدين كاعتقادنا فيمن خالفنا في جميع أمور الدين" (¬6) . ¬
فهم من هذا الباب وعيدية، ولهذا قال شيخ الإسلام بأن متأخري الشيعة وعيدية في باب الأسماء والأحكام (¬1) . ويذكر الأشعري بأن طائفة من الروافض "يثبتون الوعيد على مخالفيهم ويقولون: إنهم يعذبون، ولا يقولون بإثبات الوعيد في من قال بقولهم، ويزعمون أن الله سبحانه يدخلهم الجنة، وإن أدخلهم النار أخرجهم منها، ورووا في أئمتهم أن ما كان بين الله وبين الشيعة من المعاصي سألوا الله فيهم فصفح عنهم، وما كان بين الشيعة وبين الأئمة تجاوزوا عنه، وما كان بين الشيعة وبين الناس من المظالم شفعوا لهم إليهم حتى يصفحوا عنهم" (¬2) . وهذا المعنى الذي يتحدث عنه الأشعري قد تبنى المجلسي إشاعته في باب عقده بعنوان: "باب الصفح عن الشيعة" وذكر فيه سبعًا وتسعين رواية (¬3) . وبعدما ذكر هذه الروايات كلها كأنه استقلها فقال: قد مرت أخبار كثيرة من هذا الباب في أبواب المعاد من الحوض والشفاعة وأحوال المؤمنين والمجرمين في القيامة وغيرها، وأبواب فضائل الأئمة (¬4) . وقد صدر الباب المذكور بحديث يحكي نفس المذهب الذي أشار إليه الأشعري، يقول حديثهم: "إذا كان يوم القيامة ولينا حساب شيعتنا، فمن كانت مظلمته فيما بينه وبين الله عز وجل حكمنا فيها فأجابنا، ومن كانت مظلمته فيما بينه وبين الناس استوهبناها فوهبت لنا، ومن كانت مظلمته فيما بينه وبيننا كنا أحق من عفا وصفح" (¬5) . فهم وعيدية بالنسبة لمن خالفهم، كما أنهم مرجئة فيمن دان بقولهم. ¬
المبحث الثاني: قولهم في أركان الإيمان
المبحث الثاني: قولهم في أركان الإيمان أركان الإيمان تشمل: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والإيمان بالقدر، كما في قوله تعالى: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ ... } (¬1) . وقوله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (¬2) . وقد سبق الحديث مفصلاً عن انحراف الشيعة في باب الإيمان بالله، في ربوبيته، وإلهيته، وأسمائه وصفاته. وهنا سيكون الحديث عن قولهم في بقية أركان الإيمان، حيث يبدو أن مسألة الإمامة كان لها أثرها على ذلك، فهم مع إثبات أركان الإيمان من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والقدر واليوم الآخر، يبدو أثر الإمامة واضحًا في بيانهم لهذه الأركان، وحديثهم عنها، كما سيتبين في الصفحات التالية: الإيمان بالملائكة: وقد نال هذا الركن من أركان الإيمان نصيبه، فالملائكة خلقوا من نور الأئمة وهم خدم للأئمة، ومنهم طوائف قد كلفوا - بزعمهم - للعكوف على قبر الحسين.. إلخ. ¬
تقول أخبارهم: "خلق الله من نور وجه علي بن أبي طالب سبعين ألف ملك يستغفرون له ولمحبيه إلى يوم القيامة" (¬1) . وأحيانًا يقولون: "خلق الله الملائكة من نور علي" (¬2) . وقد زعموا أن من ملائكة الرحمن من لا وظيفة لهم إلا البكاء على قبر الحسين، والتردد لزيارته، قالوا: "وكَّل الله بقبر الحسين أربعة آلاف ملك شعث غبر يبكونه إلى يوم القيامة.." (¬3) . وزيارة قبر الحسين هي أمنية أهل السماء، قالوا: "وليس شيء في السماوات إلا وهم يسألون الله أن يؤذن لهم في زيارة الحسين ففوج ينزل وفوج يعرج" (¬4) . وقالوا: "إن الملائكة لخدامنا وخدام محبينا" (¬5) . وجاء في آخر حديث طويل لهم "إن جبرائيل دعا أن يكون خادمًا للأئمة، قالوا: فجبريل خادمنا" (¬6) . وقد قال شيخ الإسلام - رحمه الله - وهو يرد على ابن المطهر نقله لمثل هذا اللقب للملائكة قال: "فتسمية جبريل رسول الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم خادمًا عبارة من لا يعرف قدر الملائكة وقدر إرسال الله لهم إلى الأنبياء.." (¬7) . وكيف يطلق هذا اللقب "الوضيع" فيمن وصفه الله بقوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ ¬
رَسُولٍ كَرِيمٍ، ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} (¬1) . فالمراد بالرسول الكريم هنا جبريل، وذي العرش رب العزة سبحانه. ولهم دعاوى في هذا الباب كثيرة، وكأنه لا وظيفة للملائكة إلا أمر أئمتهم الاثني عشر، أو كأنهم ملائكة الأئمة لا ملائكة الله!. قال أبو عبد الله: "إن الملائكة لتنزل علينا في رحالنا وتتقلب في فرشنا، وتحضر موائدنا، وتأتينا من كل نبات في زمانه رطب ويابس، وتقلب علينا أجنحتها، وتقلب أجنحتها على صبياننا، وتمنع الدواب أن تصل إلينا، وتأتينا في وقت كل صلاة لتصليها معنا، وما من يوم يأتي علينا ولا ليل إلا وأخبار أهل الأرض عندنا، وما يحدث فيها، وما من ملك يموت في الأرض ويقوم غيره إلا وتأتينا بخبره وكيف كانت سيرته في الدنيا" (¬2) . ويقولون بأن وسائد وقلائد أولادهم يأخذونها من أجنحة الملائكة، بل إن الملائكة تتولى رعاية أطفالهم، حتى قال أبو عبد الله: "هم ألطف بصبياننا منا بهم" (¬3) . والملائكة في أخبار الشيعة مكلفون بمسألة الولاية، ولكنهم يقولون أنه لم يستجب منهم إلا طائفة المقربين (¬4) . رغم أن العقوبة تحل بمن يخالف منهم في أمر الولاية - في زعمهم - حتى إن أحد الملائكة عوقب بكسر جناحه لرفضه ولاية أمير المؤمنين ولم يبرأ إلا حينما تمسح وتمرغ بمهد الحسين (¬5) . ولم تشرف الملائكة - بزعمهم - إلا بقبولها ولاية علي (¬6) . ¬
وحياة الملائكة موقوفة على الأئمة والصلاة عليهم، لأنه "ليس لهم طعام ولا شراب إلا الصلاة على علي بن أبي طالب ومحبيه، والاستغفار لشيعته المذنبين" (¬1) ، وكانت الملائكة لا تعرف تسبيحًا ولا تقديسًا من قبل تسبيحنا (يعني تسبيح الأئمة) وتسبيح شيعتنا (¬2) . ولذلك فإن الملائكة تراعي أمر الشيعة على وجه الخصوص، فإذا خلا الشيعي بصاحبه اعتزلهم الحفظة فلم يكتبوا عليهم شيئًا، يقولون: إذا التقى الشيعي مع الشيعي يتساءلان، قالت الحفظة: اعتزلوا بنا، فإن لهم سرًا وقد ستره الله عليهما (¬3) ، مع أن الله سبحانه يقول: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ، مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (¬4) . وقال سبحانه: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} (¬5) . هذا ومزاعمهم في هذا الباب متنوعة، وفيها من التطاول على مقام الملائكة المقربين، والكذب عليهم، مع مبالغات غريبة، ومجازفات طاغية، أقرب ما تكون إلى إنكار الملائكة؛ لأن إنكار وظائفهم وخصائصهم وما شرفهم الله به، ووضع دين الولاية هو شرعتهم، والشرك عند قبر الحسين هو عمل طائفة منهم قد يهون عنده إنكارهم أصلاً، ولقد اقتربوا من الإنكار حينما أولوا أسماء وألقاب الملائكة في القرآن بالأئمة، أو جعلوا وظائف الملائكة للأئمة. وبهذا عقد المجلسي بابًا بعنوان "باب أنهم عليهم السلام الصافون والمسبحون وصاحب المقام المعلوم وحملة عرش الرحمن وأنهم السفرة الكرام البررة" (¬6) . ¬
الإيمان بالكتب
هذا ما يقولونه في الملائكة، والله سبحانه يقول: {بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ، لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} (¬1) . {مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ} (¬2) . الإيمان بالكتب: والشيعة قد تأثر هذا الجانب عندها بمقتضى عقائدها التي انفردت بها عن سائر المسلمين في مسألة الإمامة وغيرها، فآمنت بكتب ما أنزل بها من سلطان، حيث ادعت أن الله سبحانه أنزل على أئمتها كتبًا من السماء، كما أنزل كتبه على أنبيائه. كما زعمت بأن لدى الأئمة الاثني عشر الكتب السماوية التي نزلت على جميع الأنبياء فهم يقرأونها ويحتكمون إليها. وإليك بيان هاتين القضيتين، من خلال النقل الأمين من كتب الشيعة المعتمدة: المسألة الأولى: دعواهم تنزل كتب إلهية على الأئمة (¬3) : تضمنت كتب الشيعة المعتمدة عندها دعاوى عريضة، ومزاعم خطيرة ليس لها وجود في عالم الواقع، ولا يرى لها عين ولا أثر، وليس لها في كتب الأمة شاهد ولا خبر. تلك المزاعم والدعاوى تتضمن أن هناك كتبًا مقدسة نزلت من السماء بوحي من رب العزة جل علاه إلى "الأئمة". وأحيانًا تورد كتب الشيعة نصوصًا ¬
وأخبارًا يزعمون أنها مأخوذة من تلك الكتب، وعلى هذه الروايات المدعى أخذها من تلك الكتب تبنى عقائد ومبادئ. وكأن الذين وضعوا أصول التشيع لم يكتفوا لتأييد أصولهم بكل ما مضى من دعاوى حول كتاب الله، وخافوا ألا تكون وافية بالغرض فيفرّ أتباعهم من حولهم، وتضيع مصادر الثروة عليهم فيخسروا المال والجاه والتقديس الذي يجنونه من أولئك الأتباع باسم الخمس والنيابة عن الإمام. فافتعلوا هذه الدعوى ليضمنوا بها - مع أخواتها - تحقيق تلك الأهداف، وليسددوا بها سهمًا آخر ضد الأمة ودينها. وهذه الدعوى لا تكاد تختلف عن دعوى أكثر المتنبئين بتنزل كتب، أو وحي عليهم. ولعل جذور هذه المقالة بدأت في عصر علي - رضي الله عنه - كما أشارت إلى ذلك إحدى روايات الإمام البخاري - رضي الله عنه - عن أبي جحيفة قال: "قلت لعليّ: هل عندكم كتاب؟ قال: لا، إلا كتاب الله، أو فهم أعطيه رجل مسلم، أو ما في هذه الصحيفة. قال: قلت: فما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل وفكاك الأسير ولا يقتل مسلم بكافر" (¬1) . وفي رواية أخرى للبخاري جاء السؤال: "هل عندكم شيء من الوحي إلا ما في كتاب الله" (¬2) . (وهي تفسر المراد بالكتاب) . قال ابن حجر: "وإنما سأله أبو جحيفة عن ذلك، لأن جماعة من الشيعة كانوا يزعمون أن عند أهل البيت - لاسيما عليًا - أشياء من الوحي خصهم النبي صلى الله عليه وسلم بها لم يطلع غيرهم عليها، وقد سأل عليًا عن هذه المسألة أيضًا قيس ¬
أ- "مصحف فاطمة"
ابن عباد، والأشتر النخعي، وحديثهما في مسند النسائي" (¬1) . فإذن نواة هذه المقالة ظهرت في عصر متقدم.. أما من تولى كبرها فإن في رسالة "الإرجاء" للحسن بن محمد بن الحنفية ما يشير إلى أن السبئيين - أتباع عبد الله بن سبأ - قد بدأوا في إشاعة مثل هذه المقالات حيث قالا: "هدينا لوحي ضل عنه الناس، وزعموا أن نبي الله كتم تسعة أعشار القرآن" (¬2) . وفي كتاب أحوال الرجال أن عبد الله بن سبأ زعم أن القرآن جزء من تسعة أجزاء وعلمه عند علي (¬3) . إذن كانت دعوى السبئيين تشير إلى علم مخزون عند علي، فهذه أصل الدعوى، وقد تطورت واتخذت صورًا وأشكالاً متعددة كلها ترجع إلى دعوى أن عند آل البيت ما ليس عند الناس، والتي نفاها أمير المؤمنين علي نفيًا قاطعًا، وما تفرع من الباطل فهو باطل، فالفرع له حكم أصله. وإليك بكل أمانة بعض ما وجدناه في كتبهم المعتبرة عندهم من هذه الدعاوى والمزاعم: أ- "مصحف فاطمة": تدعي كتب الشيعة نزول مصحف على فاطمة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. تقول إحدى روايات الكافي عن مصحف فاطمة: ".. إن الله تعالى لما قبض نبيه صلى الله عليه وسلم دخل على فاطمة عليها السلام من وفاته من الحزن ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، فأرسل الله إليها ملكًا يسلي غمها ويحدثها فشكت ذلك إلى أمير المؤمنين رضي الله عنه فقال: إذا أحسست بذلك، وسمعت الصوت ¬
قولي لي، فأعلمته بذلك، فجعل أمير المؤمنين رضي الله عنه يكتب كل ما سمع حتى أثبت من ذلك مصحفًا.. أما إنه ليس فيه شيء من الحلال والحرام ولكن فيه علم ما يكون" (¬1) . تفيد هذه الرواية بأن الغرض من هذا المصحف أمر يخص فاطمة وحدها وهو تسليتها وتعزيتها بعد وفاة أبيها صلى الله عليه وسلم، وأن موضوعه "علم ما يكون"، وما أدري كيف يكون تعزيتها بإخبارها بما يكون وفيه - على ما تنقله الشيعة - قتل أبنائها وأحفادها، وملاحقة المحن لأهل البيت؟! ثم كيف تعطى فاطمة "علم ما يكون" "علم الغيب" ورسول الهدى يقول كما أمره الله: {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} فهل هي أفضل من رسول الله؟ وتقول هذه الرواية بأن عليًا هو الذي كتب ما أملاه الملك رغم أن رواياتهم الأخرى تقول بأن بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم كان منشغلاً بجمع القرآن (¬2) . والكذب لا محالة له من التناقض والاختلاف. ويقولون بأن مصحفهم هذا ثلاثة أضعاف القرآن. جاء في الكافي "عن أبي بصير قال: دخلت على أبي عبد الله ... ثم ذكر حديثًا طويلاً في ذكر العلم الذي أودعه الرسول صلى الله عليه وسلم عند أئمة الشيعة - كما يزعمون - وفيه قول أبي عبد الله: "وإنّ عندنا لمصحف فاطمة عليها السّلام. قلت (القول للرّاوي) : وما مصحف فاطمة عليها السّلام؟ قال: مصحف فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرّات ما فيه من قرآنكم حرف واحد" (¬3) . فهذه الأسطورة التي يرويها "ثقة الإسلام عندهم" بسند صحيح عندهم ¬
كما يقرره شيوخهم (¬1) . تقول: "إن مصحفهم يفوق المصحف في حجمه، ويخالفه في مادته.." فهل معنى هذا أكتاب الله أقل من مصحف فاطمة، وأن مصحف فاطمة أكمل وأوفى من كتاب الله سبحانه الذي أنزله الله سبحانه {تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (¬2) ، وجعله دستورًا ومنهاج حياة للأمة إلى أن تقوم الساعة؟! وهل الأمة محتاجة إلى كتاب آخر غير كتاب الله ليكمل به دينها؟! وإذا فقدته فهي لم تستكمل أسباب الهداية والخير، وهي اليوم قد فقدته، إذ لا وجود له باعتراف الجميع.. ثم كيف يكون كتاب تسلية وتعزية كما تقول روايتهم السابقة أكمل من كتاب الله سبحانه؟ أليس هذا الزعم غاية في التحلل من العقل والجرأة على الكذب؟ هذا وتختلف أساطيرهم في وصف مصحف فاطمة كطبيعة الأكاذيب، فإذا كانت الرواية المذكورة تذكر بأن هذا المصحف من إملاء أحد الملائكة، والمصحف كان نزوله بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.. فإن رواية أخرى عندهم تقول: "وخلفت فاطمة عليها السّلام ما هو قرآن، ولكنّه كلام من كلام الله أنزله عليها إملاء رسول الله وخطّ عليّ" (¬3) . فهذا يعني أن المصحف كان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمملي هو رسول الله، والكلام كلام الله. وهذه الرواية يكاد آخرها يناقض أولها، إذ كيف ينزل على فاطمة ثم يكون من إملاء رسول الله وخط عليّ؟! وتقول رواية أخرى: "مصحف فاطمة عليها السلام ما فيه شيء من كتاب الله وإنما هو شيء ألقي عليها" (¬4) . فهذا يشير إلى أن المصحف ألقي عليها ¬
من السماء ولم يكن المملي رسول الله ولا خط علي، ولم يحضر ملك يحدثها ويؤنسها ليكتب عليّ ما يقوله الملك - بدون علمه كما يبدو - ليجتمع من ذلك مصحف فاطمة، لم يحدث شيء من ذلك إنما هو شيء ألقي عليها ثم إنه بعد وفاة أبيها لا في حياته. وكان الأئمة - كما تزعم كتب الشيعة - يتخذون من مصحف فاطمة وسيلة لمعرفة علم الغيب، واستطلاع ما يكون. يقول أبو عبد الله - كما يزعمون -: "تظهر الزنادقة في سنة ثمان وعشرين ومائة وذلك أني نظرت في مصحف فاطمة عليها السلام ... " (¬1) . أي فأخذت ذلك منه. وليس في هذه السنة التي حددتها هذه الأسطورة أحداث بارزة - كما يظهر من كتب التواريخ اللهم إلا قتل بعض الرؤوس الضالة كالجهم بن صفوان وغيره، وهذا ضد ما تزعمه الأسطورة من ظهورهم، وتقول أيضًا: قال أبو عبد الله: "إني نظرت في مصحف فاطمة عليها السلام قبيل فلم أجد لبني فلان فيها إلا كغبار النعل" (¬2) . وهذه الأسطورة مغلفة بشيء من التقية، فلم يفصح عن اسم بني فلان، ولا المشار إليه بقوله فيها، ولم يوضح شيخهم المجلسي ذلك كعادته، وقد يشيرون بذلك إلى الخلافة، وببني فلان إلى أولاد الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، فهم دائمًا حولها يدندنون كقولهم "أولاد الحسن يحملهم الحسد وطلب الدنيا في الإنكار" (¬3) . والمقصود أن مصحف فاطمة أداة عندهم لاستطلاع ما يحدث في هذه الكون، ولو كان شيء من ذلك لتغير وجه التاريخ.. ولما حصل للأئمة ما حصل مما تصوره كتب الشيعة من المحن، ولما غاب منتظرهم واختفى خوفًا من القتل، ولما كان للتقية أدنى حاجة، إذ بمعرفة أسباب وقوع المكروه يتقون المكروه، وبمعرفة أسباب المرغوب والمحبوب يفوزون بالمحبوب. فإن زعموا أنهم لا قدرة لهم على ¬
تغيير شيء من ذلك فهم إذن كسائر الناس يجري فيها قدر الله، وعلمهم بما يحدث يزيدهم حزنًا لا يؤنسهم ويزيل وحشتهم - كما تزعم روايتهم - ما دام أنهم لا حيلة لهم في التغيير. وإذا كانت هذه الروايات تجعل موضوع مصحف فاطمة هو "علم ما يكون".. فإن حديثًا آخر من أحاديثهم - يقول كما يروي ثقة الإسلام عندهم -: إن أبا عبد الله قال عن مصحف فاطمة: "ما أزعم أن فيه قرآنًا، وفيه ما يحتاج الناس إلينا ولا نحتاج إلى أحد حتى فيه الجلدة ونصف الجلدة وربع الجلدة وأرش الخدش" (¬1) . فهذا النص يجعل من مصحف فاطمة بالإضافة إلى علم ما يكون، علم الحدود والديات، ففيه حتى أرش الخدش، بل فيه التشريع كله فلا يحتاج فيه الأئمة معه إلى أحد، فهي يعني هذا أنهم لا يحتاجون إلى كتاب الله، وأنهم استغنوا عن شريعة القرآن بمصحف فاطمة فلهم دينهم ولأمة الإسلام دينها؟! وهل التشريع الإسلامي العظيم لم يكمل بكتاب الله وسنة رسوله ليحتاج بعد ذلك إلى مصحف فاطمة، أو أن مصحف فاطمة يغني عن الجميع؟! إن المغزى من هذه النصوص واضح، فإعطاء الأئمة علم ما يكون من إضفاء لصفة الألوهية عليهم بمنحهم ما هو من خصائص الإله "وهو علم الغيب"، وجعل مصحف فاطمة يحوي علم الحدود والديات هو اتهام "مبطن" بقصور التشريع الإسلامي. ثم عندهم رواية أخرى تقول: إن علم التشريع موجود في الجامعة لا في مصحف فاطمة، يقولون: "إن عندنا لصحيفة يقال لها الجامعة ما من حلال ولا حرام إلا وهو فيها حتى أرش الخدش" (¬2) ، وكذا في صحيفة عندهم تسمى صحيفة الحدود فيها من الحدود "ثلث جلدة من تعدى ذلك كان عليه حدّ ¬
جلدة" (¬1) . أما علم ما يكون فهو الآخر قالوا بأن وسيلته غير مصحف فاطمة؛ لأنه في الجفر، وخلق أعظم من جبرائيل وميكائيل (¬2) . إلخ حتى قاالوا: "ما ينقلب طائر في الهواء إلا وعندنا فيه علم" (¬3) . ثم رجعوا وقالوا: إن العلم كله إنما يؤخذ من كتاب الله، كقوله روايتهم بأن أبا عبد الله قال: "إني أعلم ما في السماوات وما في الأرض، وأعلم ما في الجنة، وأعلم ما في النار، وأعلم ما كان وما يكون". قال (الراوي) : ثم مكث هنيهة فرأى أن ذلك كبر على من سمعه منه فقال: "علمت ذلك من كتاب الله عز وجل، إن الله عز وجل يقول: فيه تبيان كل شيء" (¬4) . وقد مضى ما نقله بعض شيوخهم المعاصرين من القول بإيمان الشيعة بسلامة كتاب الله، لأنه قوبل على مصحف فاطمة (¬5) . ولكن قال شيخهم الآخر الخنيزي: إن مصحف فاطمة غير القرآن وعلى ذلك تدل نصوصهم (¬6) . أقوال وروايات يكذب بعضه الآخر، ولا يخجلون من ذلك لأن دينهم التقية. وفي كتاب "دلائل الإمامة" وهو من كتبهم المعتمدة عندهم (¬7) . ترد رواية ¬
تصف هذا المصحف المزعوم بأن فيه "خبر ما كان وما يكون إلى يوم القيامة، وفيه خبر سماء سماء، وعدد ما السماوات من الملائكة وغير ذلك، وعدد كل من خلق الله مرسلاً وغير مرسل، وأسماءهم، وأسماء من أرسل إليهم، وأسماء من كذب ومن أجاب، وأسماء جميع من خلق الله من المؤمنين والكافرين، وصفة كل من كذب، وصفة القرون الأولى وقصصهم، ومن ولي من الطواغيت ومدة ملكهم وعددهم، وأسماء الأئمة وصفتهم وما يملك كل واحد واحد ... فيه أسماء جميع ما خلق الله وآجالهم، وصفة أهل الجنة وعدد من يدخلها، وعدد من يدخل النار، وأسماء هؤلاء وهؤلاء، وفيه علم القرآن كما أنزل، وعلم التوراة كما أنزلت، وعلم الإنجيل كما أنزل، وعلم الزبور، وعدد كل شجرة ومدرة في جميع البلاد" (¬1) . هذه المواضيع كلها في "ورقتين من أوله" (¬2) . يقول الراوي: "إن إمامهم قال: وما وصفت لك بعد ما في الورقة الثالثة ولا تكلمت بحرف منه" (¬3) . وما ندري بأي حجم يكون هذا "الورق"؟! كما لا ندري لماذا لم يستفد أئمتهم من هذه العلوم في سبيل استرداد الإمامة التي حرموها - كما تزعم الشيعة -؟ ولماذا لا يخرج منتظرهم من سردابه، وكيف يخاف القتل - كما يعللون سر اختفائه - فيظل مختفيًا - وكل هذه العلوم عنده؟! وتصف رواية "دلائل الإمامة" صفة نزول هذا المصحف على خلاف ما جاء في الرواية السالفة عن الكافي من أن عليًا كتب ما سمعه من الملك حتى أثبت بذلك مصحفًا، تقول رواية "الدلائل" إنه نزل جملة واحدة من السماء بواسطة ثلاثة من الملائكة وهم "جبرائيل وإسرافيل وميكائيل ... فهبطوا به وهي قائمة تصلي، فلما زالوا قيامًا حتى قعدت، ولما فرغت من صلاتها سلموا عليها وقالوا: ¬
ب- كتاب أنزل على الرسول قبل أن يأتيه الموت
السلام يقرئك السلام، ووضعوا المصحف في حجرها" (¬1) . فقالت: لله السلام ومنه السلام وإليه السلام وعليكم يا رسل الله السلام، ثم عرجوا إلى السماء فما زالت من بعد صلاة الفجر إلى زوال الشمس تقرؤه حتى أتت على آخره "ولقد كانت عليها السلام مفروضة الطاعة على جميع من خلق الله من الجن والإنس والطير والوحش والأنبياء والملائكة. قلت: جعلت فداك فلمن صار ذلك المصحف بعد مضيها؟ قال: دفعته إلى أمير المؤمنين، فلما مضى صار إلى الحسن ثم إلى الحسين ثم عند أهله حتى يدفعوه إلى صاحب هذا الأمر ... " (¬2) . هذا بعض ما جاء في كتبهم عن مصحف فاطمة المزعوم، وهو يبين أن لفاطمة مصحفًا نزل عليها بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم فيه علم الغيب وعلم الحدود والديات وغيرها مما سلف ذكره، وأنه اليوم عند إمامهم الغائب! وهو وحي كالقرآن، إلا أنه مثله ثلاث مرات ما فيه من قرآننا حرف واحد، فهل نزل هذا المصحف ليكمل القرآن؟! هذا ومثل هذا المصحف المزعوم "مصاحف كثيرة" تدعي الشيعة فيها ما يشبه دعواها حول مصحف فاطمة، وهذا موضوع واسع يحتاج إلى بحث مستقل، ولذلك سنذكر فيما يلي بعض أسماء هذه المصاحف وشيئًا مما يعرّف بها وندع التفصيل والتحليل. ب- كتاب أنزل على الرسول قبل أن يأتيه الموت - كما يزعمون -: "عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: إن الله عز وجل أنزل على نبيه كتابًا قبل أن يأتيه الموت فقال: يا محمد، هذا الكتاب وصيتك إلى النجيب ¬
من أهل بيتك، فقال: ومن النجيب من أهلي يا جبرائيل؟ فقال: علي بن أبي طالب عليه السلام، وكان على الكتاب خواتيم من ذهب، فدفعه النبي صلى الله عليه وسلم إلى عليّ عليه السلام وأمره أن يفك خاتمًا منها ويعمل بما فيه، ففك عليه السلام خاتمًا وعمل بما فيه، ثم دفعه إلى ابنه الحسن عليه السلام ففك خاتمًا وعمل بما فيه، ثم دفعه إلى الحسين عليه السلام ففك خاتمًا فوجد فيه أن اخرج بقوم إلى الشهادة فلا شهادة لهم إلا معك وأشر نفسك لله عز وجل ففعل. ثم دفعه إلى علي بن الحسين عليه السلام ففك خاتمًا فوجد فيه: اصمت والزم منزلك واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ففعل، ثم دفعه إلى محمد بن علي عليه السلام ففك خاتمًا فوجد فيه: حدث الناس وأفتهم ولا تخافن إلا الله فإنه لا سبيل لأحد عليك، ثم دفعه إليّ ففككت خاتمًا فوجدت فيه: حدّث الناس وأفتهم وانشر علوم أهل بيتك، وصدق آباءك الصالحين ولا تخافن أحدًا إلا الله وأنت في حرز وأمان ففعلت، ثم ادفعه إلى موسى بن جعفر وكذلك يدفعه موسى إلى الذي بعده، ثم كذلك أبدًا إلى قيام المهدي عليه السلام" (¬1) . إن هذا الكلام ممكن أن يؤخذ منه أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يجهل من هو النجيب من أهل بيته إلى وقت وفاته فهو يسأل من هو النجيب، وهذا يعني أنه لم يعلن للناس، وبهذا تسقط أخبار الشيعة كلها، أو يقال إن هناك مجموعة من النجباء من أهل البيت والسؤال للتعرف على المقصود منهم، وهذا أيضًا يلغي دعاوى الشيعة في أفضلية عليّ. ثم إن الكتاب لم يفصح عما أمر به علي والحسن، وبين ما أمر به الحسين وهو خروجه إلى الموت، وهذا يخالف الواقع تاريخيًا من أن الحسين لم يكن في ذهابه يتوقع ما حصل له، وأن الذي تولى كبر ما حصل للحسين رضي الله - بعد قتله - هم الذين غرروا به وخدعوه، فلما خرج إليهم خذلوه وتخلوا عن نصرته، وهم يزعمون التشيع له. وقد كتبوا إليه كتبًا عديدة في توجهه إلى طرفهم، ¬
فلما قرب من ديارهم تقاعسوا عن نصرته، بل رجع أكثرهم مع الأعداء خوفًا وطمعًا وصاروا سببًا لشهادته وشهادة كثير ممن معه (¬1) . ولذلك حكمت كتب الشيعة بردة من بعد الحسين إلا ثلاثة (¬2) ، فهل هذه الرواية محاولة للدفاع عن هذه الفئة؟! ثم كيف يفرقون بين الأئمة في وجوب الدعوة ونشر العلم، وأن فيهم من يسعه الصمت ولزوم البيت ومنهم من يلزمه نشر العلم وإظهار الدعوة؟! ثم هذه الرواية تعترف بأن الشيعة لم يكن لديهم من يحدثها وينشر العلم بينها حتى جاء أبو جعفر الصادق، وهذا ما تؤكده روايتهم التي تقول: "كانت الشيعة قبل أن يكون أبو جعفر وهم لا يعرفون مناسك حجهم وحلالهم وحرامهم، حتى كان أبو جعفر ففتح لهم، وبين لهم مناسك حهم وحلالهم وحرامهم.." (¬3) . وهذا يعني الحكم بأن أوائل الشيعة من قبل أبي جعفر كانوا يعبدون الله على جهل. ثم هل كان علي بن الحسين ممن لزم بيته وآثر الصمت، أو هو قد خان الوصية وخالف الكتاب المختوم بالذهب فنشر العلم، ودعا إلى سبيل الله على بصيرة؟!! لقد كان علي بن الحسين من كبار التابعين وساداتهم علمًا ودينًا، وهو الذي قال في مثل هؤلاء المفترين: "أحبونا حب الإسلام، فوالله مازال بنا ما تقولون حتى بغضتمونا إلى الناس" (¬4) . قال الزهري: "ما رأيت قرشيًا أفضل منه وما رأيت أفقه منه (¬5) . وكان ثقة مأمونًا كثير الحديث.." (¬6) . ¬
ج- "لوح فاطمة"
وقد اعترف شيخهم المفيد بنشره للعلم، قال: "وقد روى عنه فقهاء العامة - يعني أهل السنة - من العلوم ما لا تحصى كثرة، وحفظ عنه من المواعظ والأدعية والحلال والحرام، والمغازي والأيام ما هو مشهور بين العلماء، ولو قصدنا إلى شرح ذلك لطال به الخطاب" (¬1) . وهكذا تتناقض أخبارهم وتتعارض أقوالهم وهو دليل الكذب والافتراء. ج- "لوح فاطمة": وهذا - كما يؤخذ من رواياتهم - غي مصحف فاطمة، لأن مصحف فاطمة نزل بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بواسطة الملك وكتبه عليّ من فم الملك وسلمه لفاطمة، أو نزل جملة واحدة ثلاثة من الملائكة ... إلى آخر ما بينا من أوصاف القوم لهذا الكتاب. أما لوح فاطمة فله صفات أخرى منها: أنه نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم وأهداه لفاطمة، إلى غير ذلك من أوصافه، وقد نقلوا عن لوح فاطمة بعض النصوص التي تؤيد عقائدهم. ويبدو أن هذا الخبر عن «لوح فاطمة» والنص المنقول منه على درجة عالية من السرية، ففي نهاية النص - كما سيأتي - أمر بكتمانه عن غير أهله فهو سر من أسرارهم، ولا ندري كيف تسرب ولماذا تسرب ومتى؟ وإليك النص: روى صاحب الوافي عن الكافي عن أبي بصير عن أبي عبد الله قال: قال أبي لجابر بن عبد الله الأنصاري: إن لي إليك حاجة متى يخف عليك أن أخلو بك فأسألك عنها؟ قال له جابر: في أي الأحوال أحببت، فخلا به في بعض الأيام فقال له: يا جابر، أخبرني عن اللوح الذي رأيته في يد أمي فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أخبرتك به أمي أنه في ذلك اللوح مكتوب، فقال جابر: أشهد بالله أني دخلت على أمك فاطمة عليها السلام في حياة رسول الله صلى الله عليه ¬
د- دعواهم نزول اثنتي عشرة صحيفة من السماء تتضمن صفات الأئمة
وآله فهنيتها بولادة الحسين فرأيت في يديها لوحًا أخضر ظننت أنه من زمرد ورأيت فيه كتابًا أبيض شبه لون الشمس فقلت لها: أبي وأمي أنت يا بنت رسول الله ما هذا اللوح؟ فقالت: هذا لوح أهداه الله تعالى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، فيه اسم أبي واسم بعلي واسم ابني واسم الأوصياء من ولدي، وأعطانيه أبي ليبشرني بذلك. قال جابر: فأعطتنيه أمك فاطمة عليها السلام فقرأته واستنسخته، فقال أبي: فهل لك يا جابر أن تعرضه علي؟ قال: نعم، فمشى معه أبي إلى منزل جابر فأخرج صحيفة من رق فقال: يا جابر، انظر في كتابك لأقرأ عليه، فنظر جابر في نسخته وقرأ أبي، فما خالف حرف حرفًا، فقال جابر: أشهد بالله أني هكذا رأيته في اللوح مكتوبًا: "بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من الله العزيز الحكيم لمحمد نبيه ونوره وسفيره وحجابه ودليله، نزل به الروح الأمين من عند رب العالمين، عظم يا محمد أسمائي واشكر نعمائي.." (¬1) . د- دعواهم نزول اثنتي عشرة صحيفة من السماء تتضمن صفات الأئمة: في حديث طويل من أحاديثهم - يرويه صدوقهم ابن بابويه القمي - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال - كما يفترون -: "إن الله تبارك وتعالى أنزل عليّ اثني عشر خاتمًا، واثني عشر صحيفة، اسم كل إمام على خاتمه وصفته في صحيفته" (¬2) . ومزاعمهم في هذا الباب كثيرة (¬3) . ¬
وهكذا يحاول القوم أن يسلكوا كل وسيلة لتثبيت معتقدهم في الأئمة.. بعد أن زلزل دعواهم خلو كتاب الإسلام العظيم "مما يثبتها" فراحوا يزعمون تنزل كتب إلهية مع القرآن فكانت هذه الدعوى فضيحة تضاف لقائمة فضائحهم وأكاذيبهم.
صورة لأحد الكتب المزعومة ص 602.
نقد هذه المقالة
نقد هذه المقالة: قال الله تعالى: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ..} (¬1) . وقال تعالى: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا، أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا، أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً، أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً} (¬2) . وقال سبحانه: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} (¬3) . فالذين طلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم صحيفة مكتوبة من السماء هم الكفار وأهل الكتاب.. فلم يجابوا.. فأراد الكليني وأمثاله ممن أشاع هذه الفرية أن يصوروا خير أمة أخرجت للناس بأنهم أشد كفرًا من اليهود والذين كفروا؛ لأنهم أنزل عليهم كتب من السماء فلم يؤمنوا أي لم يعرفوا الأئمة الاثني عشر. والآية صريحة في بطلان ما يدعي هؤلاء الروافض، إذ لو كان شيء من دعاوي الشيعة واقعًا لأشارت إليه الآيات، ولم تنكر على هؤلاء دعواهم، أو لقال ¬
النبي صلى الله عليه وسلم لهم: دونكم ما نزل على فاطمة، أو ما نزل عليّ، أو ما سينزل على الأئمة، ولكن شيئًا من ذلك لم يحدث فما أجرأ هؤلاء على الكذب المكشوف. ولماذا تنقل الأمة القرآن والسنة.. وتترك هذه الكتب المزعومة لينفرد بنقلها هؤلاء؟ ولا يعرف أحد من الأمة ولا علماء التاريخ، ولا أهل الأديان شيئًا عن أمر هذه "الكتب"؟ وكيف تختلف الشيعة في أمر تعيين الإمام إلى عشرات الفرق وعندها هذه الصحف المنزلة؟ وقد وقفت على نص عندهم جاء في الكافي، يناقض هذه الدعوى وهو عن أبي عبد الله - الذي يفترون عليه كل تلك الافتراءات - قال: "إن الله عز ذكره ختم بنبيكم النبيين فلا نبي بعده أبدًا، وختم بكتابكم الكتب فلا كتاب بعده أبدًا، وأنزل فيه تبيان كل شيء وخلقكم وخلق السماوات والأرض ونبأ ما قبلكم وفصل ما بينكم وخبر ما بعدكم وأمر الجنة والنار وما أنتم صائرون إليه" (¬1) . وهذا نص لا يحتاج إلى تعليق فهو يكذب كل هذه الدعاوى وينفي وقوعها نفيًا قاطعًا. وفي حديث آخر عندهم قال الرضا: "شريعة محمد صلى الله عليه وسلم لا تنسخ إلى يوم القيامة، فمن ادعى بعده نبوة، أو أتى بعد القرآن بكتاب فدمه مباح لكل من سمع ذلك منه" (¬2) . ونحن هنا نخاطبهم بعقليتهم وإلا فإن هذه المقالة يكفي في معرفة فسادها مجرد عرضها، وإن إجماع الأمة قائم على أنه لا كتاب إلا كتاب الله سبحانه، وكل من ادعى أنه عنده كتاب إلهي فهو كاذب زنديق. وما الحاجة لنزول هذه الكتب والله سبحانه يقول: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (¬3) ، {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي ¬
هِيَ أَقْوَمُ} (¬1) . وأين هذه المصاحف والصحف اليوم، وهل لها من أثر، وما فائدة خزنها عند المنتظر.. ولكن يبدو أن منهدسي بناء التشيع وضعوا أمثال هذه الروايات خوفًا من أن يفقد المذهب أتباعه لعدم وجود ما يشهد له من كتاب الله. كما كان لهم هدف أبعد من ذلك وهو الكيد للأمة ودينها، والأخذ بالشيعة بعيدًا عن المسلمين لتستقل بكتبها عن كتاب الله. ومن الغريب أن من شيوخ الشيعة القدامى والمعاصرين من أنكر ما ينسب لمذهب الشيعة الاثني عشرية من القول بالتحريف، وعدّ رواياتهم وإن كثرت من قبيل الأساطير التي تسربت للمذهب (¬2) فهل لأن الأولى عرفها المسلمون عن الشيعة، والأخرى كانت غير معروفة؟! وهذه الدعوة تتضمن أمورًا في غاية الخطورة منها: أن الوحي لم ينقطع والنبوة لم تختم، وأن الأئمة بمنزلة الأنبياء أو أعظم، فهم تنزل عليهم الكتب المتعددة من السماء، وهذا ما لم يتحقق للرسول صلى الله عليه وسلم، ومنها تضليل الصحابة والأمة جميعًا بأنها ردت الكتب المنزلة. وهذه الدعوى إحدى المعالم الواضحة على أن هذا المذهب قد ابتلي بشرذمة من الكذابين الذين لا يتورعون عن أي كذب، فهم كذبوا على رسول الله بوضع الأحاديث، وكذبوا على الله سبحانه بوضع هذه "الكتب"!! وإنما يفتري الكذب على الله الذين لا يؤمنون. ¬
المسألة الثانية: دعواهم بأن جميع الكتب السماوية عند الأئمة
المسألة الثانية: دعواهم بأن جميع الكتب السماوية عند الأئمة تدعي الشيعة بأن عند الأئمة الاثني عشر كل كتاب نزل من السماء وأنهم يقرؤونها على اختلاف لغاتها، وعقد صاحب الكافي بابًا لهذا الموضوع بعنوان: "باب أن الأئمة عندهم جميع الكتب التي نزلت من عند الله عز وجل وأنهم يعرفونها على اختلاف ألسنتها" (¬1) . وضمنه طائفة من رواياتهم. ومثله فعل صاحب البحر فذكر بابًا بعنوان: "باب في أنّ عندهم صلوات الله عليهم كتب الأنبياء عليهم السّلام يقرؤونها على اختلاف لغاتها" (¬2) . وذكر في هذا الباب (27) حديثًا من أحاديثهم. تقول هذه الروايات عن الأئمة: "كل كتاب نزل فهو عند أهل العلم ونحن هم" (¬3) ، "إن عندنا صحف إبراهيم وألواح موسى" (¬4) ، "إن عندنا علم التوراة والإنجيل والزبور وبيان ما في الألواح" (¬5) . وتأتي رواية أخرى تفسر المراد بالألواح وأنها ألواح موسى، وتصف هذه الألواح بأنها زبرجدة من الجنة وفيها تبيان كل شيء هو كائن إلى أن تقوم الساعة، وأنها مكتوبة بالعبرانية وأن الرسول صلى الله عليه وسلم دفعها إلي أمير المؤمنين علي وقال: "دونك هذه ففيها علم الأولين والآخرين وهي ألواح موسى وقد أمرني ربي أن أدفعها إليك. قال يا رسول الله لست أحسن قراءتها، قال: إن جبرائيل أمرني أن آمرك أن تضعها تحت رأسك ليلتك هذه فإنك تصبح وقد علمت قراءتها قال: فجعلها تحت رأسه فأصبح وقد علمه الله كل شيء فيها فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينسخها فنسخها في جلد شاة وهو الجفر وفيه علم الأولين والآخرين، وهو عندنا" (¬6) . ¬
وإذا كانت هذه الرواية تحدد مضمون الجفر بأنه (ألواح موسى) ، فإن رواية أخرى لهم تخرج عن هذا التحديد وتقول بأن أبا عبد الله قال: "إنّ عندي الجفر الأبيض.. فيه: زبور داود، وتوراة موسى، وإنجيل عيسى، وصحف إبراهيم، والحلال والحرام، ومصحف فاطمة. ما أزعم أنّ فيه قرآنًا وفيه ما يحتاج النّاس إلينا ولا نحتاج إلى أحد، حتى فيه الجلدة ونصف الجلدة وربع الجلدة وأرش الخدش" (¬1) . وكأن شارح الكافي استكثر أن يكون كل ذلك مكتوبًا في الجفر الذي هو جلد شاة - كما تفسره الرواية السابقة - فقال: "الظاهر أن الجفر وعاء فيه هذه الصحف لا أنها مكتوبة فيه" (¬2) . في حين أن صريح الرواية السابقة يخالف هذا حيث نصت على أن عليًا (نسخها في جلد شاة) . ومعنى هذا أن جلد الشاة يستحيل أن يستوعب كل هذه الكتب، والتي يتضمن أحدها وهو ألواح موسى، علم الأولين والآخرين، وهذا يكشف أن هذه الدعاوي من وضع جاهل لا يحسن أن يضع. وكل عاقل يدرك أن لو كان عند الأئمة علم الأولين والآخرين لتغير وجه التاريخ. والزعم بأن عند الأئمة الكتب السماوية كلها لم يأخذ الشك النظري فحسب، بل تجاوز ذلك إلى محيط العمل، فها هو أبو الحسن - بزعمهم - يقرأ الإنجيل أمام نصراني يقال له بريه فيقول هذا النصراني بعد سماعه لقراءة إنجيله عن الإمام: إياك كنت أطلب منذ خمسين سنة، ثم إن النصراني - كما تقول الرواية - آمن وحسن إسلامه. وقال للإمام: "أنى لكم التوراة والإنجيل وكتب الأنبياء؟ فقال: هي عندنا وراثة من عندهم نقرؤها كما قرؤوها، ونقولها كما قالوا: ¬
إن الله لا يجعل حجة في أرضه يسأل عن شيء فيقول لا أدري" (¬1) . فيؤخذ من هذه الرواية أن الأئمة يقرؤون التوراة والإنجيل وغيرهما، كما قرأها الأنبياء، حتى يجدوا ما يجيبون فيه على أسئلة الناس. بل الأمر تعدى مجرد القراءة والفتوى إلى مجال الحكم والقضاء، ووضع صاحب الكافي لهذا بابًا بعنوان: "باب في الأئمة أنهم إذا ظهر أمرهم حكموا بحكم داود وآل داود ولا يسألون البينة عليهم السلام" (¬2) . ومن الروايات التي ذكرها في هذا الباب: ".. عن جعيد الهمداني عن علي بن الحسن رضي الله عنه قال: سألته بأي حكم تحكمون؟ قال: حكم آل داود فإن أعيانا شيء تلقانا به روح القدس" (¬3) . وترد عندهم نصوص كثيرة تقول بأن مهديهم المنتظر يحكم بحكم آل داود ولا يسأل بينة (¬4) ، ويذكرون جملة من الأحكام التي يحكم بها مهديهم بموجب شريعته الخاصة مثل "كونه لا يقبل الجزية من أهل الكتاب، ويقتل كل من بلغ عشرين سنة ولم يتفقه في الدين، وأنه لا يقبل البينة، ويحكم بحكم آل داود وأمثالها" (¬5) . كما سيأتي - إن شاء الله - تفصيله في عقيدتهم في المهدي المنتظر. وجاءت عندهم عدة روايات تذكر بأن عليًا يقول: لو تمكنت من الأمر لحكمت لكل طائفة بكتابها (¬6) ، فمن هذه الروايات: زعمهم أن عليًا قال: "لو ¬
ثنيت لي وسادة" (¬1) ، أو "لو ثنى الناس لي وسادة كما ثني لابن صوحان (¬2) . لحكمت بين أهل التوراة بالتوراة، ولحكمت بين أهل الإنجيل بالإنجيل ولحكمت بين أهل الزبور بالزبور، ولحكمت بين أهل الفرقان بالفرقان" (¬3) . نقد هذه المقالة: بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى جميع الثقلين، وختم به النبوات، ونسخ برسالته سائر الرسالات {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (¬4) . "ولو كان موسى وعيسى حيين لكانا من أتباعه صلى الله عليه وسلم" (¬5) . "وإذا نزل عيسى عليه السلام إلى الأرض فإنما يحكم بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم" (¬6) . فقد نسخ الله سبحانه بكتابه الكتب السماوية كلها، قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ، وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكَ..} (¬7) . ¬
قال ابن جرير في قوله سبحانه: {فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ} : "وهذا أمر من الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن يحكم بين المحتكمين إليه من أهل الكتاب وسائر أهل الملل بكتابه الذي أنزله إليه وهو القرآن الذي خصه بشريعته، فالله سبحانه أنزل القرآن مصدقًا ما بين يديه من الكتب ومهيمنًا عليه، رقيبًا على ما قبله من سائر الكتب قبله صلى الله عليه وسلم (¬1) . وكتب الشيعة تقول بأن الأئمة يحكمون بحكم آل داود، ويحكمون لكل أصحاب دين بكتابه، فهل هذا خروج عن شريعة الإسلام، أو دعوة إلى وحدة الأديان؟! وقد يكون هذا من الأدلة على أن التشيع مأوى النحل والأديان، وكل صاحب دين يجد فيه بغيته، وينفث من خلاله سمومه على الإسلام. أما قول الشيعة بأن كتب الأنبياء عند أئمتهم فهذا ما لا يملكون عليه دليلاً سوى دعاوى لا يصدقها الواقع، كيف والمصطفى صلى الله عليه وسلم لا يملك ذلك، كما يدل على ذلك ما جاء في الصحيحين وغيرهما: "إن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن رجلاً منهم وامرأة زنيا: فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ فقالوا: نفضحهم ويجدلون. فقال عبد الله بن سلام: كذبتم، إن فيها الرجم. فأتوا بالتوراة فنشروها، فوضع أحدهم يده على آية الرجم، فقرأ ما قبلها وما بعدها. فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك، فرفع يده، فإذا فيها آية الرجم، فقالا: صدق يا محمد، فيها آية الرجم. فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما" (¬2) . ¬
قال أهل العلم: "وقوله صلى الله عليه وسلم: "ما تجدون في التوراة في شأن الرجم" يحتمل أن يكون قد علم بالوحي أن حكم الرجم فيها ثابت على ما شرع ... ويحتمل أن يكون علم بذلك بخبر عبد الله بن سلام ومن أسلم من علماء اليهود على وجه حصل له به العلم بصحة ما نقلوه، ويحتمل أن يسألهم عن ذلك ليعلم ما عندهم فيه ثم يستعلم صحة ذلك من قبل الله تعالى" (¬1) . ولم يذكروا احتمال أن تكون التوراة موجودة عنده بل هذا من بدع الشيعة.. ولو كان الأمر على ما زعمت كتب الشيعة لأظهر التوراة الموجودة عنده ولم يأمرهم بالإتيان بها، لو لطلبها من ابن أخيه علي. وأمر آخر وهو أن الشيعة تزعم أن الكتب السماوية السابقة والموجودة عند الأئمة لم تصل إليها يد التحريف والتبديل. وقد بين الله سبحانه لنا أهل الكتاب حرفوا الكلم عن مواضعه ومن بعد مواضعه، وأنهم نسوا حظًا مما ذكروا به، وإنما أوتوا نصيبًا من الكتاب؛ إذ نسوا نصيبًا آخر وأضاعوه. ولما خرجت أمة القرآن من الأمية وعرفوا تاريخ أهل الكتاب ظهر لهم أن اليهود فقدوا التوراة التي كتبها موسى ثم لم يجدوها، وإنما كتب لهم بعض علمائهم ما حفظوه منها ممزوجًا مما ليس منها، والتوراة التي بين أيديهم تثبت ذلك (¬2) . "وأما الأناجيل فالاضطراب فيها أعظم منه في التوراة، ونسخ الزبور يخالف بعضها بعضًا مخالفة كثيرة في كثير من الألفاظ والمعاني، ويقطع من رآها أن كثيرًا منها كذب على زبور داود عليه السلام" (¬3) . ولسنا في مقام دراسة هذه المسألة وبسطها، وإنما الغرض الإشارة إلى نتيجة الدراسات التي قامت حول الكتب السابقة والتي تقول بأنه لم يبق منها كتاب ¬
الإيمان بالرسل
على ما أنزل لم يصل إليه تحريف.. إلا أن كتب الشيعة تدعي أن عندها هذه الكتب وغيرها من الكتب السماوية لم ينلها تغيير.. ولو كان عند الأئمة الكتب الأصلية غير المحرفة لكان واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحتم عليهم أن يواجهوا بها اليهود والنصارى ليردوهم إلى الحق وليظهروا ما فيها من الأخبار من ظهور النبي صلى الله عليه وسلم ووجوب اتباعه، ولو فعلوا ذلك لرجع أكثر اليهود والنصارى عن كفرهم ولنقل ذلك واشتهر. ولعل من سمع هذه الدعوى يسأل: أين هذه الكتب السماوية، في أي مكان توجد وعند من؟ وما الهدف من وجودها عند أئمتهم؟ هل ليكملوا بها شريعة الإسلام؟! ولم لم يحتجوا بها على تحريف أهل الكتاب ويقيموا الحجة عليهم؟ هل هذا تقصير منهم؟ هذه أسئلة لا جواب عليها يرتضى، لأنها تدور على أسطورة لا حقيقة لها.. وليست هذه الدعوى بغريبة على قوم ادعوا لأئمتهم كل شيء.. ولكن الغريب أن تجد من يصدق بها في عالم اليوم. ولذلك فإن الشيعة تقول في كل وهم من هذه الأوهام - أعني الكتب السرية والمصاحف السماوية ومواريث الأنبياء.. إلخ -: إن مستقرها ومستودعها عند الغائب الموهوم المهدي المنتظر (¬1) ، فتعلق أتباعهم بهذا السراب الخادع أساطير يتبع بعضها بعضًا. الإيمان بالرسل: وضلال الشيعة في هذا الركن يتمثل في عقائد متعددة كقولهم بأن الأئمّة يُوحى إليهم (¬2) ، كما سبق إثباته في "فصل السنة"، وفي مسألة الإيمان بالكتب. ¬
تفضيلهم الأئمة على الأنبياء والرسل
وكقولهم بعصمة الأئمة، وضرورة اتباع قولهم (¬1) ، فهم أعطوهم بهذا معنى النبوة، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فمن جعل بعد الرسول معصومًا يجب الإيمان بكل ما يقوله فقد أعطاه معنى النبوة وإن لم يعطه لفظها" (¬2) . وبالغوا في الضلالة حينما زعموا أن الأنبياء عليهم السلام هم أتباع لعلي، وأن منهم من عوقب لرفضه ولاية علي، حتى جاء في أخبارهم "عن حبّة العرني قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: إنّ الله عرض ولايتي على أهل السّماوات وأهل الأرض أقرّ بها من أقرّ، وأنكرها من أنكر، أنكرها يونس فحبسه الله في بطن الحوت حتى أقرّ بها" (¬3) . ولهم في هذا المعنى روايات كثيرة (¬4) . من هنا قرروا: بأن الأئمة هم أفضل من الأنبياء، وأن الأئمة جاءوا بالمعجزات لإقامة الحجة على الخلق أجمعين. وسأعرض لهاتين المسألتين بشيء من التفصيل في الصفحات التالية. تفضيلهم الأئمة على الأنبياء والرسل: الرّسل أفضل البشر وأحقّهم بالرّسالة؛ حيث أعدّهم الله تعالى لكمال العبوديّة والتّبليغ والدّعوة والجهاد {اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (¬5) ، فهم قد امتازوا "برتبة الرّسالة عن سائر النّاس" (¬6) . وقد أوجب الله على الخلق متابعتهم. قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ ¬
لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ} (¬1) . ولا يفضل أحد من البشر عليهم. قال الطّحّاوي في بيان اعتقاد أهل السّنّة: "ولا نفضّل أحدًا من الأولياء على أحد من الأنبياء عليهم السّلام ونقول: نبي واحد أفضل من جميع الأولياء" (¬2) . وتفضيل الأئمة على الأنبياء هو مذهب غلاة الروافض، كما نبه على ذلك عبد القاهر البغدادي (¬3) ، والقاضي عياض (¬4) ، وشيخ الإسلام ابن تيمية (¬5) . وقد ذكر الإمام محمد بن عبد الوهاب أن "من اعتقد في غير الأنبياء كونه أفضل منهم ومساويًا لهم فقد كفر"، وقد نقل الإجماع على ذلك غير واحد من العلماء (¬6) . ولذلك قال القاضي عياض: "نقطع بتفكير غلاة الرّافضة في قولهم: إنّ الأئمّة أفضل من الأنبياء" (¬7) . وهذا المذهب بعينه قد غدا من أصول الاثني عشرية، فقد قرّر صاحب الوسائل أنّ تفضيل الأئمّة الاثني عشر على الأنبياء من أصول مذهب الشّيعة التي نسبها للأئمّة (¬8) ، وقال بأن الروايات عندهم في ذلك أكثر من أن تحصى (¬9) ، وفي بحار الأنوار للمجلسي عقد بابًا بعنوان "باب تفضيلهم عليهم السّلام على الأنبياء وعلى جميع الخلق وأخذ ميثاقهم عنهم وعن الملائكة وعن سائر ¬
الخلق، وأنّ أولي العزم إنّما صاروا أولي العزم بحبّهم صلوات الله عليهم" (¬1) . واستشهد لهذا الأصل بثمانية وثمانين حديثًا من أحاديثهم المنسوبة للاثني عشر (¬2) . وقال: "والأخبار - يعني أخبارهم - في ذلك أكثر من أن تحصى وإنما أوردنا في هذا الباب قليلاً منها وهي متفرقة في الأبواب لاسيما باب صفات الأنبياء وأصنافهم عليهم السلام، وباب أنهم عليهم السلام كلمة الله، وباب بدو أنوارهم، وباب أنهم أعلم من الأنبياء، وأبواب فضائل أمير المؤمنين وفاطمة صلوات الله عليهما" (¬3) . وقد قرّر شيخهم ابن بابويه في اعتقاداته التي تسمّى دين الشّيعة الإماميّة هذا المبدأ عندهم فقال: "يجب أن يعتقد أنّ الله عزّ وجلّ لم يخلق خلقًا أفضل من محمّد صلى الله عليه وسلم والأئمّة، وأنّهم أحبّ الخلق إلى الله عزّ وجلّ وأكرمهم وأوّلهم إقرارًا به لِمَا أخذ الله ميثاق النّبيّين في الذّر، وأنّ الله تعالى أعطى كلّ نبيّ على قدر معرفته نبيّنا صلى الله عليه وسلم وسبقه إلى الإقرار به، ويعتقد أنّ الله تعالى خلق جميع ما خلق له ولأهل بيته عليهم السّلام وأنّه لولاهم ما خلق السّماء ولا الأرض ولا الجنّة ولا النّار ولا آدم ولا حوّاء ولا الملائكة ولا شيئًا ممّا خلق صلوات الله عليهم أجمعين" (¬4) . وقد نقل صاحب البحار هذا النّصّ وعقّب عليه بقوله: "اعلم أنّ ما ذكره رحمه الله من فضل نبيّنا وأئمّتنا صلوات الله عليهم على جميع المخلوقات وكون أئمّتنا أفضل من سائل الأنبياء هو الذي لا يرتاب فيه من تتبّع أخبارهم عليهم السّلام على وجه الإذعان واليقين، والأخبار في ذلك أكثر من أن تُحصى.. وعليه عمدة ¬
الإماميّة ولا يأبى ذلك إلا جاهل بالأخبار" (¬1) . وقد ألّف بعض شيوخهم في هذا المذهب مؤلّفات (¬2) . وهذه المقالة هي التي يجاهر بها الخميني ومن يشايعه في هذا العصر كما قرّر ذلك في كتابه الحكومة الإسلاميّة - كما سيأتي - (¬3) . وتعزو رواياتهم هذه الأفضلية إلى أمور يرونها في الأئمة مغرقة في الغلو والضلال تقشعر من سماعها أبدان المؤمنين (وقد مر بعضها في فصلي اعتقادهم في توحيد الألوهية والربوبية) . وليس الأئمة أفضل من الأنبياء فحسب؛ بل ما استحق الأنبياء ما هم فيه من فضل - بزعمهم - إلا بسبب الولاية. قال إمامهم "ما استوجب آدم أن يخلقه الله بيده وينفخ فيه من روحه إلا بولاية علي عليه السّلام، وما كلّهم الله موسى تكليمًا إلا بولاية علي عليه السّلام، ولا أقام الله عيسى بن مريم آية للعالمين إلا بالخضوع لعليّ عليه السّلام"، ثم قال: أجمل الأمر ما استأهل خلق من الله النّظر إليه إلا بالعبوديّة لنا (¬4) . ولو ذهبت أنقل من أحاديث "بحارهم" وغيره من هذا "اللون" لاستغرق ذلك صفحات طويلة (¬5) . ¬
ويبدو أن هذا هو المذهب الذي استقر عليه مذهب الاثني عشرية عبر التغيرات والتطورات التي تلاحق المذهب، والذي أشار الممقاني إلى طبيعتها وهو التطور نحو الغلو (¬1) ، فإن الشيعة في هذه المسألة (أعني مسألة تفضيل الأنبياء على الأئمة) كانوا ثلاث فرق - كما يقول الأشعري -: فرقة: يقولون بأن الأنبياء أفضل من الأئمة، غير أن بعض هؤلاء جوزوا أن يكون الأئمة أفضل من الملائكة. والفرقة الثانية: يزعمون أن الأئمة أفضل من الأنبياء والملائكة. والفرقة الثالثة: وهم القائلون بالاعتزال والإمامة، يقولون: إن الملائكة والأنبياء أفضل من الأئمة (¬2) . ويضيف المفيد في أوائل المقالات مذهبًا رابعًا لهم وهو أفضلية الأئمة على سائر الأنبياء ما عدا أولي العزم (¬3) . ثم لا يبوح بذكر المذهب الذي يعتمده من هذه المذاهب بل يذكر توقفه للنظر في ذلك (¬4) . ولكن يظهر أن كل هذه المذاهب تلاشت بسعي شيوخ الدولة الصفوية ومن تبعهم واستقر المذهب على الغلو في الأئمة، حتى إن المجلسي يقول في عنوان الباب الذي عقده في بحاره لهذا الغرض: "إنّ أولي العزم إنّما صاروا أولي العزم بحبّهم صلوات الله عليهم" ولا يستثني في ذلك أحدًا من المرسلين، حتى نبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلم (¬5) . ¬
وجاءت عندهم نصوص تعقد مقارنات بين رسول الله وعلي، وتنتهي بأن لعلي فضل التميز على رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث شاركه علي في خصائصه، وانفرد علي بفضائل لم يشاركه فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعقد لهذه النصوص صاحب البحار بابًا بعنوان "باب قول الرسول لعلي: أعطيت ثلاثًا ما أعط" - كذا - (¬1) . وقد جاء في الكافي والبحار وغيرهما نصوص كثيرة تقول بأن لعلي والأئمة من الفضل ووجوب الطاعة كرسول الله، ولكنها ما تلبث أن تنتقل بالقارئ إلى أن الأئمة أفضل من رسول الله، بل تذهب إلى القول بأن عليًا والأئمة انفردوا بخصائص لا يشاركهم فيها أحد من الخلق، وإذا تدبرت تلك الخصائص وجدت أنها من صفات الرب جل شأنه، وبحسبك أن تعرف أن من هذه الأوصاف التي يتنطع بها الروافض ما ينسبونه لعلي أنه قال: "لم يفتني ما سبقني ولم يعزب عني ما غاب عني ... إلخ" (¬2) . فما أعظم افتراءهم على الله، وعلى دينه، وعلى نبيه، وعلي، وأهل البيت. ولقد أنكر أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - تفضيله على الشيخين أبي بكر وعمر، وهدد من يتفوه بذلك بأنه سيجلده حد المفتري (¬3) . وتواتر عنه من ثمانين ¬
وجهًا أنه كان يقول على منبر الكوفة: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر (¬1) . ونقلت ذلك كتب الشيعة نفسها (¬2) . فما حاله رضي الله عنه مع هذا الصنف الذي يدعي التشيع له ويفضله على أنبياء الله؟ لا شك أن إنكاره عليهم أعظم وأشد، وقد قرر بعض أهل العلم بأن من فضَّل عليًا - فكيف ممن بعده - على نبي الله إبراهيم أو محمد فإنه أشد كفرًا من اليهود والنصارى (¬3) . وقد روت كتب الشيعة أنه عندما قيل لأمير المؤمنين: أنت نبي، قال: "ويلك إنما أنا عبد من عبيد محمد صلى الله عليه وسلم" (¬4) . قال ابن بابويه: يعني بذلك عبد طاعته لا غير ذلك (¬5) . ويحتمل أن هذا الاتجاه الغالي الذي استقر عليه المذهب الاثني عشري كان من آثار فرقة من فرق الشيعة تذهب إلى تفضيل علي على محمد صلى الله عليه وسلم يقال لها العلبائية (¬6) . وفي ظني أن عقيدة عصمة الإمام عندهم تؤدي إلى ظهور هذا المذهب وأمثاله؛ ذلك أنهم يصفون الأئمة بأوصاف لا يتصف بها أحد من أنبياء الله ورسله - كما سيأتي - وإن من يرجع إلى كتاب الله سبحانه يجد أنه ليس لأئمتهم ¬
الاثني عشر ذكرا، فضلاً عن أن يقدموا على أنبياء الله ورسله. كما أنه يلاحظ "أن الأنبياء لكونهم أرفع رتبة يقدمون بالذكر على غيرهم من صالحي عباد الله. قال تعالى: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ} (¬1) . (¬2) . فرتب الله سبحانه عباده السعداء المنعم عليهم أربع مراتب (¬3) . "وكتاب الله يدل في جميع آياته على اصطفاء الأنبياء واختيارهم على جميع العالم" (¬4) . وقد أجمع أهل القرون الثلاثة على تفضيل الأنبياء على من سواهم، وهذا الإجماع حجة - حتى عند الشيعة - لأن فيهم الأئمة (¬5) . قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "اتفق سلف الأمة وأئمتها وسائر أولياء الله تعالى على أن الأنبياء أفضل من الأولياء الذي ليسوا بأنبياء" (¬6) . والعقل يدل صريحًا على أن جعل النبي واجب الطاعة وجعله أمرًا وناهيًا وحاكمًا على الإطلاق والإمام نائبًا وتابعًا له لا يعقل بدون فضيلة النبي عليه، ولما كان هذا المعنى موجودًا في حق كل نبي مفقودًا في حق كل إمام لم يكن إمام أفضل من نبي أصلاً، بل يستحيل (¬7) . ثم إنّه قد ورد في كتب الشّيعة نفسها ما يتّفق مع النّصّ والإجماع والعقل، وينفي ذلك الشّذوذ؛ وهو ما رواه الكليني عن هشام الأحول عن زيد بن علي أنّ الأنبياء أفضل من الأئمّة، وأنّ من قال غير ذلك فهو ضالّ (¬8) . ¬
معجزات الإمام
وروى ابن بابويه عن الصّادق ما ينصّ على أنّ الأنبياء أحبّ إلى الله من علي (¬1) . ولا شك أن هذا المذهب واضح البطلان، يدرك بطلانه بصري العقل وبما علم من الدين بالضرورة، وبالتاريخ والسير والفطر، ولا يحتاج إلى تكلف في إبطاله وهو أحد البراهين على فساد المذهب الرافضي. معجزات الإمام: يرى أهل السنة "أن المعجزات (¬2) . لا يأتي بها أحد إلا الأنبياء عليهم السلام (¬3) ، خلافًا للروافض الذين جعلوا علامة الإمام عندهم صدور المعجزة منه، لأنهم يقولون: "إنّ الإمامة استمرار للنّبوّة (¬4) . فكما أنّ الله سبحانه يختار من يشاء من عباده للنّبوّة والرّسالة ويؤيّده بالمعجزة.. فكذلك يختار للإمامة" (¬5) . وقد امتلأت كتب الحديث عندهم بالحديث عن هذه المعجزات، ورواية قصصها وأحداثها - المزعومة - وقد يقال بأن غاية ما هنالك بأنهم سموا الكرامات معجزات. ¬
ولا شك أن "من أصول أهل السنة والجماعة التصديق بكرامات الأولياء وما يجري على أيديهم من خوارق العادة في أنواع العلوم والمكاشفات وأنواع القدرة والتأثيرات كالمأثور عن سالف الأمم في سورة الكهف وغيرها، وعن صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين وسائر قرون الأمة، وهي موجودة فيها إلى يوم القيامة" (¬1) . وإذا كان الأمر كذلك فتسمية الكرامات بمعجزات مجرد اختلاف في الاصطلاح ولهذا حينما قال ابن المطهر الحلي عن أمير المؤمنين علي: "وظهرت منه معجزات كثيرة" عقب على ذلك شيخ الإسلام بقوله: "فكأنه يسمي كرامات الأولياء معجزات وهذا اصطلاح كثير من الناس فيقال: علي أفضل من كثير ممن له كرامات، والكرامات متواترة عن كثير من عوام أهل السنة الذين يفضلون أبا بكر وعمر فكيف لا تكون الكرامات ثابتة لعلي رضي الله عنه، وليس في مجرد الكرامات ما يدل على أنه أفضل من غيره" (¬2) . وقد رأى شيخ الإسلام أن اهتمام الروافض بأمر ما ينسب للأئمة من كرامات إنما سببه أن "الرافضة لجهلهم وظلمهم وبعدهم عن طريق أولياء الله ليس لهم من كرامات الأولياء المتقين ما يعتد به، فهو لإفلاسهم منها إذا سمعوا شيئًا من خوارق العادات عظموه تعظيم المفلس للقليل من النقد، والجائع للكسرة من الخبر.." (¬3) . ولكن الإمامية هل ترى هذه الخوارق من كرامات أولياء الله وتسميها معجزات؟ إن المتأمل للمذهب الإمامي يرى أنهم يذهبون في هذه الكرامات إلى ¬
مذهب آخر؛ فهم يرون أنها معجزات لإثبات الإمامة وإقامة الحجة - كما يزعمون - على الخلق، لأن الأئمة كما تقول رواياتهم هم الحجة البالغة على من دون السماء وفوق الأرض (¬1) . بل يقول ثقة إسلامهم الكليني: "إن الحجة لا تقوم لله على خلقه إلا بإمام" (¬2) . وجاءت روايات كثيرة عندهم بهذا المعنى، ولذا قالوا "فنحن حجج الله في عباده" (¬3) ، "ولولانا ما عبد الله" (¬4) ، "الأوصياء هم أبواب الله عز وجل التي يؤتى منها ولولاهم ما عرف الله عز وجل، وبهم احتج الله تبارك وتعالى على خلقه" (¬5) . ولذلك قال البحراني في كتابه الذي صنفه في معجزات الأئمة: "إن الله أظهر على أيديهم المعاجز والدلائل لأنهم حجته على عباده" (¬6) . فهم يجعلون الأئمة كالأنبياء والرسل الذين يقيم الله بهم الحجة على خلقه فهم يحتاجون للمعجزات لإثبات رسالتهم كما يحتاج الأنبياء. بل هم في الفضل، ووجوب الطاعة، وتحقق المعجزات قد يصلون إلى مرتبة أفضل الرسل والأنبياء أو أعظم. قال أبو عبد الله - كما يزعمون -: "ما جاء به عليّ رضي الله عنه آخذ به وما نهي عنه أنتهي عنه، جرى له من الفضل مثل ما جرى لمحمد صلى الله عليه وسلم". وكذلك يجري لأئمة الهدى واحدًا بعد واحد. كان أمير المؤمنين كثيرًا ما يقول: "لقد أعطيت خصالاً ما سبقني إليها ¬
أحد قبلي، علمت المنايا والبلايا والأنساب وفصل الخطاب، فلم يفتني ما سبقني ولم يعزب عنّي ما غاب عنّي أبشر بإذن الله وأودي عنه كلّ ذلك مكّنني فيه بعلمه" (¬1) . فأنت ترى أن النص يؤكد بأن من أخذ عن أحد من الأئمة فكأنما أخذ عن رسول الله، أو أفضل؛ ولذلك فإن جعفرًا يفضل الأخذ عن عليّ لا عن رسول الله (¬2) . ثم يبرهن على ما تميز به عليّ من معجزات وصفات ليست لمحمد صلى الله عليه وسلم في قوله: (أنا قسيم الله ... إلخ) ، ويؤكد هذا المعنى في خاتمة النص وهو قوله: "لقد أعطيت خصالاً ما سبقني إليها أحد.." ويضفي على علي صفات الجبار جل علاه حينما يقول: "علمت المنايا والبلايا"، وكذلك حينما يقول: "فلم يفتني ما سبقني ولم يعزب عني ما غاب عني"، فالذي لا يعزب عنه شيء ولا يفوته شيء هو الرّبّ جلّ جلاله. لكنّ الرّبّ عندهم يبدو له كما زعموا. فهذه ليست معجزات، هذه افتراءات وتأليه للأئمة. ولكن الشيعة الإمامية ترى أن هذه معجزات جرت للأئمة لإقامة الحجة على الخلق.. وليست أيضًا من قبيل الكرامات بل هي كمعجزات الأنبياء أو أعظم، وقد بوّب صاحب البحار لهذا المعنى بابًا بعنوان "إنّهم يقدرون على إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وجميع معجزات الأنبياء" (¬3) . وأورد فيه جملة من أحاديثهم، ولهذا عرف شيخهم القزويني المعجزة التي تحصل للأئمة بأنها "ما كان خارقًا للعادة أو صارفًا للقدرة عند التحدي مع عدم المعارضة، والمطابقة ¬
للدعوى" (¬1) . فهي معجزة خارقة للعادة المقصود بها التحدي لإقامة الدعوى. وقد صنفوا المصنفات في معجزات الأئمة كما يكتب أهل السنة في معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬2) ، بل إن أخبارهم في ذلك تخرج بالأئمة من طور البشر إلى مقام الخالق جل علاه. وللقوم ولع غريب وتعلق عجيب بسرد الحكايات وغرائب الأساطير والتي هي أحيانًا أشبه بعمل السحرة والمشعوذين، وحينًا هي من ضروب الخيال، ¬
وغرائب الأحلام. ويزعمون أن هذا من أصول ثبوت إمامتهم. بل جعلوا لأتباع الأئمة معجزات تضاهي معجزات الأئمة (¬1) . وقد يقال: تلك حكايات وأساطير ذهبت مع ذهاب الأئمة وليس لها وجود واقعي، وأقول: إن هذه المعجزات لا تزال تولد عند الشيعة وتتجدد لا بقراءة هذه الأساطير في المجالس وتخدير العقول وتكبيل الأفكار بها فحسب، بل اتخذت صورة واقعية تتمثل في جانبين: الأول: ما ينسبونه للغائب المنتظر من معجزات وخوارق ينقلها جملة من شيوخهم الذين يزعمون الصلة به، فهذا ابن المطهر الحلي يستعير كتابًا كبيرًا ليرد عليه - كما يقولون - ولا يسمح له صاحب الكتاب باستعارته إلا ليلة واحدة فيأتيه هذا المنتظر فينسخ له الكتاب كله (¬2) . وحكاياتهم في هذا الباب كثيرة سجل جملة منها شيخهم النوري الطبرسي في كتابه جنة المأوى، فالمعجزات تجري الآن علي أيدي غائبهم، ويظهرها في أشخاص شيوخهم وآياتهم. الثاني: ما يدعونه من حصول الخوارق عند قبورهم فأضلوا قومهم سواء السبيل وأغروهم بالشرك وفتحوا لهم أبوابه. وقد عقد المجلسي جملة من أبواب بحاره لهذا الغرض مثل "الباب التاسع والعشرون ما ظهر عند الضريح المقدس من المعجزات والكرامات" (¬3) ، ومثل "الباب الخمسون جور الخلفاء على قبره الشريف وما ظهر من المعجزات عند ضريحه ومن تربته وزيارته" (¬4) . وهكذا يذكر عند الحديث ¬
عن كل إمام معجزاته المزعومة. وقد ألفوا في هذه الخرافات مصنفات (¬1) . وقد تحدثت أساطيرهم عن معجزات جرت من الأضرحة، وساق الكثير منها المجلسي في أبوابه التي عقدها في أخبار كل إمام. وجاء بقصص خيالية تثير العجب من هؤلاء القوم الذين ألفوا الخرافة، ووجدت طريقها لقلوبهم بكل يسر. قصص تتحدث عن شفاء الضريح للأمراض المستعصية، فتذكر أن أعمى أبصر بمجرد مجاورته للضريح (¬2) . وأن الحيوانات تذهب لأضرحة أئمتهم طلبًا للشفاء، فهذا حيوان يتمرغ على القبر لشفاء جرحه فيشفى (¬3) . بل جعلوا أئمتهم وهم رهائن قبورهم يتصرفون تصرف الأحياء فجاءوا بقصص تتحدث عن أن الضريح يودع الأمانات فيحفظها (¬4) . ويبدو أن واضع هذا بعض السدنة اللصوص الذي لم يكفه ما يأخذ من هؤلاء الأغرار من أموال يبذلونها على عتبات الضريح فحاول أن يأخذ المزيد بالسرقة والخداع. والضريح يخاطب فيستجيب.. فهذا أحد زوار القبر يتمزق رداؤه عند الضريح فيقول: "ما أعرف عوض هذا إلا منك، فيتحقق له ما أراد" (¬5) . كل هذه الأساطير تصاغ في قالب قصصي خيالي للتأثير على السذج من العامة، وهي قصص كثيرة وطويلة تنتهي بمثل هذه الغرائب التي تدعو للشرك ¬
بالله سبحانه، وتشل العقل، وتعطل التفكير، وتثبط عن العمل الصالح، وقد تنأى بعقلائهم إلى الكفر بالدين أصلاً إذا رأى هذه الخرافات الباطلة بضرورة العقل. وقد استنكر جعفر الصّادق ما ينسبه له شيعة الكوفة من تلك المبالغات فقال - كما تروي كتب الشيعة -: "والله لو أقررت بما يقول فيّ أهل الكوفة لأخذتني الأرض، وما أنا إلا عبد مملوك لا أقدر على شيء بضرّ ولا بنفع" (¬1) . ولا يستبعد أن تلك الدعاوى الغالية في الأئمة والتي ترفع الأئمة إلى مقام الألوهية ويسمونها معجزات لا يستبعد أن هذه موروثة عن المجوسية الذين دخلوا في سلك التشيع للكيد للإسلام أو لإظهار عقائدهم باسم الإسلام ذلك أن "المجوس تدعي لزرادشت من المعجزات والآيات أكثر مما يدعيه النصارى" (¬2) . أما قولهم بأن الأئمة هم الحجة على الناس ولا تقوم الحجة على خلقه إلا بهم، ولهذا جرت المعجزات على أيديهم لإثبات الإمامة.. فهذا إذا بحثت عنه في كتاب الله سبحانه لم تجد ما يدل عليه البتة، بل تجد ما يخالفه وهو أن حجة الله على عباده قامت بالرسل. قال تعالى: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (¬3) . ولم يذكر الأئمة. فعلم أن هذه الدعوى هي محض اختلاق، وأما تلك المعجزات التي ينسبونها للأضرحة أو الغائب المنتظر فهي كذب وبهتان، أو من وحي شيطان، فالغائب لا وجود له إلا في خيالات طائفة الاثني عشرية كما يقرره طوائف من الشيعة، وكما يذكر ذلك أهل العلم بالأنساب والتواريخ. أما معجزات الأضرحة فإنها دعوى شيطانية للشرك، وهؤلاء أموات قد أفضوا إلى ما قدموا لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًا.. وهم في حياتهم يلجؤون إلى الله سبحانه ينفون عن أنفسهم الحول والقوة. ¬
الإيمان باليوم الآخر
وقد نقلت كتب الشيعة نفسها أحاديث كثيرة في هذا المعنى، والله سبحانه أمر نبيه أن يقول: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللهُ} (¬1) ، {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا إِلاَّ مَا شَاء اللهُ} (¬2) ، {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} (¬3) ، {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً} (¬4) ، {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} (¬5) . فهذا هو رسول الهدى وخاتم الأنبياء وسيد الأولين والآخرين فكيف بمن دونه. الإيمان باليوم الآخر: لهم في الركن العظيم أقوال منكرة، وبدع كثيرة. فآيات القرآن في اليوم الآخر أوّلوا معناها بالرجعة (¬6) . وهذه حيلة ماكرة من واضعي هذه النصوص لإنكار أمر اليوم الآخر بالكلية، وأقل ما فيها أنها تصرف قلوب الشيعة، عن ذلك اليوم، أو تمحو معاني اليوم الآخر من نفوسهم، لأنهم لا يقرأون في آيات اليوم الآخر إلا تأويلات شيوخهم له بالرجعة. ومن بدعهم أيضًا قولهم بأن أمر الآخرة للإمام. يقول صاحب الكافي في أخباره: "الآخرة للإمام يضعها حيث يشاء ويدفعها إلى من يشاء جائز له ذلك من الله" (¬7) . أما لماذا أمر الآخرة للإمام فإن هذا فرع عن تصورهم لأمر الجنة والنار، ¬
إذ يقولون: "لولا الأئمّة ما خلقت الجنّة والنّار" (¬1) . و"إنّ الله خلق الجنّة من نور الحسين" (¬2) . وعقد شيخهم البحراني بابًا في ذلك بهذا العنوان المذكور (¬3) . ومرة يقولون بأنّ الجنّة هي من مهر فاطمة في زواجها على عليٍّ. وما أدري كيف تكون مهرها وهي مخلوقة من نور ابنها؟! والأصل في المهر أن يدفع من قبل الزوج، فقد روى الشّيخ الطّوسي في مجالسه عن أبي بصير عن أبي عبد الله قال: "إنّ الله تعالى أمهر فاطمة رضي الله عنها ربع الدّنيا فربعها لها، وأمهرها الجنّة والنّار، تدخل أعداءها النّار وتدخل أولياءها الجنّة" (¬4) . وعقد لذلك صاحب المعالم الزّلفى بابًا بعنوان "الباب الرّابع أنّ الجنّة في مهر فاطمة" (¬5) . أي أن الجنة جزء من مهر فاطمة. ثم إن المهر الأصل أن يصل إلى صاحبه في الدنيا، ولذلك قالوا: إن الأئمة يأكلون في الدنيا من نعيم الجنة، وخصّص لهذه المسألة شيخهم البحراني بابًا بعنوان "باب أنّ طعام الجنّة في الدّنيا لا يأكله إلا نبي أو وصي نبي". أورد فيه روايات كثيرة من كتبهم المعتمدة عندهم تتضمن أن الفواكه والرمان والأطباق المليئة بأنواع الطعام تأتيهم من الجنة يأكلون منها، وصاغ هذه المزاعم في قصص طويلة. وفات عليهم أن يزيدوا في قولهم عمن يأكل طعام الجنة لا يأكله إلا نبي، أو وصي نبي "أن يزيدوا أو بنت نبي"، لأنهم بهذا قد حرموا فاطمة من مهرها، ¬
ومما خلق من نور ولدها، لأنها ليست من الأوصياء باتفاقهم فلا تأكل من طعام الجنة، ويبدو أنهم لم يزيدوا ذلك خشية أن تدخل فيه بنات النبي الأخريات، وليس لهن نصيب من الود في دين الشيعة. وما دام أمر الآخرة في نظر هذه الزمرة للإمام بهذه الوجوه المذكورة، فإن كل مراحل الحياة الأخروية صبغتها الشيعة بآثار غلوهم في الإمام والأئمة. فالأئمة يحضرون عند الموت. قال المجلسي في بيان اعتقادات طائفته: "يجب الإقرار بحضور النبي والأئمة الاثني عشر صلوات الله عليهم عند موت الأبرار والفجار والمؤمنين والكفار، فينفعون المؤمنين بشفاعتهم في تسهيل غمرات الموت وسكراته عليهم، ويشددون على المنافقين ومبغضي أهل البيت صلوات الله عليهم، ولا يجوز التفكر في كيفية ذلك إنهم يحضرون - كذا - في الأجساد الأصلية أو المثالية أو بغير ذلك" (¬1) . وحينما يوضع الميت في قبره، يجعل معه تربة من تراب الحسين، لأنها بزعمهم أمان له، وعقد لهذا الحر العاملي بابًا بعنوان "باب استحباب وضع التّربة الحسينيّة مع الميّت في الحنوط والكفن وفي القبر" (¬2) ، وكذلك خصّص لها صاحب مستدرك الوسائل بابًا بنفس العنوان المذكور (¬3) . ومن وصاياهم في ذلك قولهم: "ويجعل معه شيء من تربة الحسين فقد روي أنّها أمان" (¬4) ، ولهم في هذه المسألة أحاديث كثيرة (¬5) . والتكليف بزعمهم ورفع الدرجات وعمل الحسنات يحصل من الميت ¬
الشيعي وهو في قبره. روى الكليني في الكافي عن حفص قال: سمعت موسى بن جعفر يقول: الرجل أيحب البقاء في الدنيا؟ قال: نعم، فقال: ولم؟ قال: لقراءة قل هو الله أحد. فسكت عنه فقال له بعد ساعة: يا حفص من مات من أوليائنا وشيعتنا ولم يحسن القرآن علم في قبره ليرفع الله به من درجته، فإن درجات الجنة على قدر آيات القرآن (¬1) . فالشيعي في قبره يعلم القرآن ويشتغل بقراءته فيستمر عمل الحسنات منه حتى بعد موته! وهذه فريدة من فرائدهم. فهل هذه دعوة مبطنة وحيلة أخرى لهجر القرآن وتعلمه وقراءته بانتظار حصول ذلك في القبر؟ وأول ما يسأل عنه في القبر هو حب الاثني عشر قالوا: "أول ما يسأل عنه العبد حبنا أهل البيت" (¬2) . فيسأله ملكان عن "من يعتقده من الأئمّة واحد بعد واحد، فإن لم يجب عن واحد منهم يضربانه بعمود من نار يمتلئ قبره نارًا إلى يوم القيامة" (¬3) ، وأما "إذا كان في حياته معتقدًا بهم (يعني الاثني عشر) فإنه يستطيع الرد على أسئلتهم (يعني أسئلة الملائكة) ويكون في رغد إلى يوم الحشر" (¬4) . ويعتقد الشيعة بحشر بعد الموت لا يشاركهم في القول به أحد، يقول المجلسي في الاعتقادات: "يحشر الله تعالى في زمن القائم أو قبيله جماعة من المؤمنين لتقر أعينهم برؤية أئمتهم ودولتهم، وجماعة من الكافرين والمخالفين للانتقام عاجلاً في الدنيا" (¬5) . أما اعتقادهم في الحشر يوم القيامة، فإن لهم فيه أقوالاً منكرة؛ ففي أخبارهم ¬
أن حشر الناس يوم القيامة لا يشمل الجميع كما هو اعتقاد المسلمين، بل هناك فئة لا يشملها الحشر، ولا تتعرض لهول ذلك اليوم، ولا تقف ذلك الموقف العظيم، ولا تمر على الصراط بل ينتقلون من قبورهم إلى الجنة بلا وسائط. أولئك هم أهل مدينة "قم"، تقول أخبارهم: "إن أهل مدينة قم يحاسبون في حفرهم ويحشون من حفرهم إلى الجنة" (¬1) . وليس ذلك فحسب، بل إن أحد أبواب الجنة قد خصص - بزعمهم - لأهل "قم" عن أبي الحسن الرضا قال: "إنّ للجنّة ثمانية أبواب، ولأهل قم واحد منها فطوبى لهم ثم طوبى" (¬2) . و"هم خيار شيعتنا من بين سائر البلاد خمّر الله تعالى ولايتنا في طينتهم" (¬3) . قال شيخهم عباس القمي (من المعاصرين) : "وقد وردت روايات كثيرة عن أئمة أهل البيت في مدح قم وأهلها، وأنها فتح إليها بابًا - كذا - من أبواب الجنة" (¬4) . وخصّوا (قم) بفضائل أخرى (¬5) ، حتى أغروا شيعتهم بشراء أرضها، وخدعوهم بقولهم: إنّ قم يبلغ من العمارة إلى أن يشترى موضع فرس بألف درهم (¬6) . فحاولوا التأثير عليهم من الجانب المادي، والجانب الروحي.. وقد يكون في الموضوع جانب سياسي، حيث إن قم في إيران وهي مركز الدولة الصفوية، بالإضافة إلى الهدف المقيت الذي تسعى إليه هذه الزمرة التي وضعت هذه الروايات، لإشاعة الكفر والزندقة، إبعاد الشيعة عن الإسلام، وقد تجد من ¬
يساندها من شياطين الجن أيضًا، وما أسهل ذلك، لأنهم سيأتون إليهم بثوب "المهدي المنتظر" المزعوم ويضعون في دينهم ما يشاءون. وقد زاد أحد شيوخهم المعاصرين في عدد أبواب الجنة المفتوحة على قم - كما يفترون - فذكر بأن في أخبارهم أن الرضا قال: للجنّة ثمانية أبواب فثلاثة منها لأهل قم (¬1) . وجعلوا أمور الحساب، والصراط والميزان، والجنة والنار بيد الأئمة، قال أبو عبد الله: "إلينا الصّراط وإلينا الميزان وإلينا حساب شيعتنا" (¬2) . وعدّ الحرّ العاملي من أصول الأئمّة الإيمان بأنّ حساب جميع الخلق يوم القيامة إلى الأئمّة (¬3) . وجاءت عندهم روايات كثيرة تقول: "لا يجوز الصّراط أحد إلا ومعه ولاية من علي" (¬4) . أو "جواز فيه ولاية علي" (¬5) ، أو "كتاب فيه براءة بولاية علي" (¬6) . وفي كتاب الاعتقادات لابن بابويه في "باب الاعتقاد في الصراط" قال: ".. والصراط في وجه آخر اسم حجج الله فمن عرفهم في الدنيا وأطاعهم أعطاه الله جوازًا على الصراط الذي هو جسر جهنم يوم القيامة.. قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم لعلي: يا علي إذا كان يوم القيامة أقعد أنا وأنت وجبرائيل على الصّراط فلا يجوز على الصّراط إلا من كانت معه براءة بولايتك" (¬7) . وقال بأنّ على الصّراط عقبة اسمها الولاية "يوقف جميع الخلائق عندها ¬
فيسألون عن ولاية أمير المؤمنين والأئمّة من بعده فمن أتى بها نجا وجاوز، ولن لم يأت بها بقي" (¬1) . وعقد المجلسي بابًا بعنوان "باب أنّه عليه السّلام قسيم الجنّة والنّار وجواز الصّراط" (¬2) . وعقد البحراني بابًا بنحو ذلك (¬3) . وساقا فيهما روايات عدة عن أساطين المذهب، وكتبهم المعتمدة عندهم. والمعلومات التي تقدمها الاثنا عشرية في معنى أنه قسيم الجنة والنار لا تعطى إلا للخواص، ذلك أن المأمون - كما تقول أخبارهم - سأل عن معنى أن عليًا قسيم الجنة والنار فأجابه الرضا بأن حب علي إيمان وبغضه كفر فصار حينئذ قسيم الجنة والنار، ولكنه حينما لحق به أبو الصلت الهروي قال له الرضا: "إنما كلمته من حيث هو، ولقد سمعت أبي يحدث عن آبائه عن عليّ رضي الله عنه أنّه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا علي أنت قسيم الجنّة والنّار يوم القيامة، تقول للنّار هذا لي وهذا لك" (¬4) . ويقولون بأنه صاحب الجنة والنار، قالت أخبارهم: "إذا كان يوم القيامة وضع منبر يراه الخلائق يصعده رجل يقوم ملك عن يمينه وملك عن شماله، ينادي الذي عن يمينه: يا معشر الخلائق، هذا عليّ بن أبي طالب صاحب الجنّة يدخلها من يشاء، وينادي الذي عن يساره: يا معشر الخلائق، هذا عليّ بن أبي طالب صاحب النّار يدخلها من يشاء" (¬5) . بل وصلوا إلى القول بأنه ديان الناس يوم القيامة، "عن المفصل بن عمر الجعفي عن أبي عبد الله قال: سمعته يقول: إن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ¬
لديّان الناس يوم القيامة.." (¬1) . وهذه الجنة التي يتحدثون عنها هي قصر على الروافض لا يشاركهم فيها أحد لأنها لأئمتهم، كما أن النار التي مفاتيحها بيد الأئمة هي لأعدائهم، قالوا: "إنما خلقت الجنة لأهل البيت، والنار لمن عاداهم" (¬2) . ولكنهم ينسون هذا ويقولون بأن "الشيعة يدخلون الجنة قبل سائر الناس من الأمم بثمانين عامًا" (¬3) . ومن أصولهم "أن الناس يدعون بأسماء أمهاتهم يوم القيامة إلا الشيعة فيدعون بأسماء آبائهم" (¬4) . هذا ويعتقدون بجنة غير جنة الخلد، يسمونها جنة الدنيا، وكذلك بنار يعذب بها الناس غير نار الآخرة. يقول المجلسي: "ويجب أن يعتقد أن لله تعالى في الدنيا جنة ونارًا سوى جنة الخلد ونار الخلد" (¬5) ، وأهل القبور قد ينتقلون إليهما، وذلك أنهم "بعد السؤال وضغطة القبر ينتقلون إلى أجسادهم المثالية فقد يكونون على قبورهم، ويطلعون على زوارهم، وقد ينتقلون إلى النجف" (¬6) . ومزاعمهم في هذا الباب يصعب حصرها.. بدع كثيرة منكرة.. وما ذكرته مجرد إشارات لو قمنا باستعراض نصوصها وتحليلها لاستغرق ذلك صفحات كثيرة. ¬
وكلها بدع ليس عليها من كتاب الله برهان، وليس لها في كتب الأمة شاهد ولا خبر.. ويكفي في بيان وضعها، ومعرفة كذبها مجرد عرضها.. فهم جعلوا الآخرة للأئمة والله سبحانه يقول: {فَلِلَّهِ الآَخِرَةُ وَالأُولَى} (¬1) . وما أشبه قولهم هذا بمزاعم يهود في قولهم إن الآخرة لهم. قال تعالى: {قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ، وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ} (¬2) . كما جعلوا للأئمة الحكم والأمر في يوم القيامة والله جل شأنه يقول: {لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (¬3) . وقالوا بأن الجنة لهم كما قال اليهود: {لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ، بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (¬4) . ونقول لهم في كل مزاعمهم التي مرت: {هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} بل أنتم بش كسائر البشر، وما تدعونه إنما هو كيد عاجز، وصنعة حاقد، وتدبير زنديق، وبين أيدينا كتاب الله سبحانه لم يدع لهذه التخرصات والأوهام سبيلاً إلى قلب من احتكم إليه وجعله إمامه وقائده. وأما من أغلق عقله، وأخذته العزة بالإثم، وأعمى تفكيره التعصب فسيجد مغبة ذلك في يوم {لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} (¬5) . ¬
الإيمان بالقدر
الإيمان بالقدر: يقول شيخ الإسلام ابن تيمية بأن "قدماء الشيعة كانوا متفقين على إثبات القدر، وإنما شاع فيهم نفي القدر من حين اتصلوا بالمعتزلة" (¬1) . وهذا كان في أواخر المائة الثالثة، وكثر بينهم في المائة الرابعة لما صنف لهم المفيد وأتباعه (¬2) . كما أن "سائر علماء أهل البيت متفقون على إثبات القدر" (¬3) . ويذكر الأشعري أن الرافضة في أفعال العباد ثلاثة فرق: فرقة يقولون بأن أعمال العباد مخلوقة لله، وأخرى تقابلها فتنفي أن تكون أعمال العباد مخلوقة لله، وثالثة تتوسط وتقول: لا جبر كما قال الجهمي، ولا تفويض كما قال المعتزلة؛ لأن الرواية عن الأئمة - كما زعموا - جاءت بذلك، ولم يتكلفوا أن يقولوا في أعمال العباد هل هي مخلوقة أو لا شيئًا (¬4) . واعتبر شيخ الإسلام هذه الطائفة متوقفة بينما الأولى مثبتة والثانية نافية (¬5) ، ولا يذكر صاحب التحفة الاثني عشرية عن الإمامية إلا قولهم: "إن العبد يخلق فعله" (¬6) . هذا ما تقوله مصادر أهل السنة. وبالرجوع إلى مصادر الشيعة يتبين ما يلي: نرى ابن بابويه القمي الملقب عندهم بالصدوق، يقول في عقائده التي ¬
سجلها على أنها تمثل عقائد الشيعة واشتهرت باسم عقائد الصدوق يقول: "اعتقادنا في أفعال العباد أنها مخلوقة خلق تقدير لا خلق تكوين، ومعنى ذلك أنه لم يزل الله عالمًا بمقاديرها" (¬1) . وهذا فيه إثبات علم الله عز وجل بأعمال العباد فقط لا إثبات عموم مشيئته سبحانه، وهو لا يقتضي أن الله خالق أفعال العباد، ومع ذلك فقد تعقبه شيخهم المفيد فقال: "الصحيح عن آل محمد صلى الله عليه وسلم أن أفعال العباد غير مخلوقة لله، والذي ذكره أبو جعفر قد جاء به حديث غير معمول به، ولا مرضي الإسناد، والأخبار الصحيحة بخلافه، وليس يعرف في لغة العرب أن العلم بالشيء هو خلق له" (¬2) . ثم قال: "وقد روي عن أبي الحسن أنه سئل عن أفعال العباد فقيل له: هل هي مخلوقة لله تعالى؟ فقال عليه السلام: لو كان خالقًا لها لما تبرأ منها وقد قال سبحانه: {أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} ولم يرد البراءة من خلق ذواتهم وإنما تبرأ من شركهم وقبائحهم" (¬3) . ويبدو في هذا الاستدلال الذي عزاه مفيدهم إلى الرضا التكلف الواضح، فبراءة الله عز وجل من المشركين لعدم رضاه سبحانه عن عملهم، ولا ينفي هذا قدرة الله سبحانه ومشيئته الشاملة النافذة، قال تعالى: {وَلَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكُواْ} (¬4) . وجاء في رواياتهم ما ينقض هذا ويتفق مع الحق، حيث قالوا: "ما خلال الله فهو مخلوق، والله خالق كل شيء" (¬5) . ثم إن المفيد يذهب إلى معنى أن العباد خالقون لأفعالهم، لكنه لا يستحسن هذا التعبير فيقول: "أقول: إن الخلق يفعلون، ويحدثون ويخترعون ويصنعون ¬
ويكتسبون، ولا أطلق القول عليهم بأنهم يخلقون ولا هم خالقون، ولا أتعدى ذكر ذلك فيما ذكره الله تعالى ولا أتجاوز به مواضعه من القرآن، وعلى هذا القول إجماع الإمامية والزيدية والبغداديين من المعتزلة وأكثر المرجئة وأصحاب الحديث، وخالف فيه البصريون من المعتزلة وأطلقوا على العباد أنهم خالقون فخرجوا بذلك عن إجماع المسلمين" (¬1) . فهو يلتزم - كما يزعم - منهج القرآن؛ لأنه سماهم فاعلين وعاملين ولم يسمهم خالقين، غير أن إجماع طائفته لم يستمر - إن كان قد حصل - إذ إن طائفة من شيوخهم سلكوا مسلك معتزلة البصرة في إطلاق لفظ "الخلق" (¬2) . والفرق اللفظي بينهم وبين معتزلة البصرة قد توارى فيما بعد على يد ثلة من أساطين المذهب. فقد عقد شيخهم الحرّ العاملي (ت1104هـ) صاحب الشيعة في كتابه الذي يتحدث فيه عن أصول أئمته عقد بابًا بعنوان "باب أنّ الله سبحانه ¬
خالق كلّ شيء إلا أفعال العباد" (¬1) ، وقال: "أقول: مذهب الإماميّة والمعتزلة أنّ أفعال العباد صادرة عنهم وهم خالقون لها" (¬2) . وكذلك قال شيخهم الطبطبائي: "ذهبت الإمامية والمعتزلة إلى أن أفعال العباد وحركاتهم واقعة بقدرتهم واختيارهم فهم خالقون لها، وما في الايات من أنه تعالى خالق كل شيء وأمثالها إما مخصص بما سوى أفعال العباد، أو مؤول بأن المعنى أنه خالق كل شيء إما بلا واسطة أو بواسطة مخلوقاته" (¬3) . وقال القزويني: "وأفعال العباد مخلوقة لهم" (¬4) . وغير هؤلاء كثير (¬5) . وهو كما ترى عين مذهب أهل الاعتزال، فهل مقالة هؤلاء طارئة على المذهب الشيعي كما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره، وإن قدماء الشيعة لم يكونوا على هذا المعتقد، أو أن هذا هو مذهب الأقدمين ومن بعدهم؟ لعل أفضل مرجع يرجع إليه لاستقراء هذه الحقيقة هو كتب الحديث عند الشيعة. وقد رجعت إلى مصادر الشيعة المعتمدة في الرواية وبالذات إلى مراجعها الرئيسة؛ فرأيت مجموعة كبيرة من الروايات تخالف ما هو شائع عن مذهب الشيعة ¬
من القول بمذهب المعتزلة في أفعال العباد، وتعارض ما قرره طائفة من شيوخهم في هذه المسألة من الأخذ بمسلك أهل الاعتزال، كما سبق ذكر بعض شواهده من أقوال المفيد، وابن المطهر، والحر العاملي وأضرابهم مما سجلوه في كتب العقيدة التي كتبوها لتعبر عن مذهب الشيعة. فمن رواياتهم التي وصفنا: "قال أبو جعفر وأبو عبد الله» : إن الله أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه على الذنوب، ثم يعذبهم عليها، والله أعز من أن يريد أمرًا فلا يكون، قال: فسئلا عليهما السلام هل بين الجبر والقدر منزلة ثالثة؟ قال: نعم أوسع ما بين السماء والأرض" (¬1) . يعني أن بين القول بالجبر والقول بنفي القدر منزلة ثالثة وسط. وجاءت عندهم مجموعة من الروايات تقول بأن مذهبهم في القدر هو أمر بين الأمرين لا جبر ولا تفويض (¬2) . ولهذا قال المجلسي: "اعلم أنّ الذي استفاض عن الأئمّة هو نفي الجبر والتّفويض وإثبات مر بين الأمرين" (¬3) . ونفي الجبر واضح القصد وهو الخروج عن مذهب الجبرية، ولكن ماذا يريدون بالتفويض؟ يقول المجلسي: "وأما التفويض فهو ما ذهب إليه المعتزلة من أنه تعالى أوجد العباد، وأقدرهم على تلك الأفعال وفوض إليهم الاختيار، فهم مستقلون بإيجادها وفق مشيئتهم وقدرتهم وليس لله في أفعالهم صنع" (¬4) . ¬
كذلك عندهم روايات أخرى تنتقد مذهب المعتزلة، وتشنع على القائلين به، فهو رد على الشيعة نفسها في سلوكها مسلك المعتزلة، جاء في تفسير القمي - في التشنيع على القدرية نفاة القدر من المعتزلة ومن نهج سبيلهم - قول إمامهم: "القدرة الذين يقولون لا قدر، ويزعمون أنهم قادرون على الهدى والضلالة، وذلك إليهم إن شاءوا اهتدوا، وإن شاءوا ضلوا، وهم مجوس هذه الأمة، وكذب أعداء الله؛ المشيئة والقدرة لله {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ، فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ} (¬1) . من خلقه الله شقيًا يوم خلقه كذلك يعود إليه شقيًا، ومن خلقه سعيدًا يوم خلقه كذلك يعود إليه سعيدًا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من سعد في بطن أمه" (¬2) . وقال أبو عبد الله: "إنك لتسأل عن كلام أهل القدر وما هو من ديني ولا دين آبائي ولا وجدت أحدًا من أهل بيتي يقول به" (¬3) . وقال: "ويح هذه القدرية أما يقرأون هذه الآية: {إِلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ} ويحهم من قدّرها إلا الله تبارك وتعالى" (¬4) . وغيرها كثير (¬5) . هذه الروايات تعبر عن مذهب الأئمة في إثبات القدر، وقد تشير إلى ما عليه قدماء الشيعة من الإثبات، وقد أعرض عن هذه الروايات الشيعة المتأخرون بلا دليل سوى تقليد أهل الاعتزال، وأغمضوا النظر عما يعارض ذلك من روايات كثيرة عندهم، بل إن الشيعة جعلوا من أصولهم العدل كالمعتزلة سواءً بسواء. وهذه الكلمة في ظاهرها لفظ جميل، ولكنها تخفي وراءها معنىً خطيرًا، وهو إنكار قدر الله عز وجل. ¬
قال أحد شيوخهم: "أمّا الإماميّة فالعدل من أركان الإيمان عندهم بل ومن أصول الإسلام" (¬1) . مع أن أقوال الأئمة - كما أثبتته كتبهم المعتمدة عندهم - لا تصرح بنفي القدر في أكثر رواياتهم - كما مضى - بل تهاجم المعتزلة وتنتقد مذهبها في القدر، كما تقرر جملة أن الحق ليس مع المعتزلة القدرية، ولا مع الجبرية بل الحق منزلة أخرى ثالثة، وهذا حق، ولكن تفسير هذه المنزلة، أو الأمر بين الأمرين ما هو؟ لقد أحجمت بعض رواياتهم عن تفيسر هذا واكتفت بإطلاق هذا القول. ولما سئل أبو عبد الله عن معناه لم يجب وقالت رواياتهم في وصف موقفه من هذا السؤال: "فقلب يده مرتين أو ثلاثًا ثم قال: لو أجبتك فيه لكفرت" (¬2) . وقد حمل بعض شيوخهم هذا الموقف من "جعفر" على التقية "لأنه - بزعمهم - كان يعلم أنه لا يدركه عقل السائل فيشك فيه أو يجحده فيكفر" (¬3) . ولعل هذا التوقف هو ما أشار إليه الأشعري من أنه أحد مذاهب الرافضة الثلاثة. كما أن المذهب الأول قد جاء على لسان شيخهم المفيد في قوله: "إن أفعال العباد غير مخلوقة لله" (¬4) . وقد لوحظ أن المذهب الثالث وهو الإثبات قد نطقت به طائفة من رواياتهم، فأنت ترى أن المذاهب الثلاثة للرافضة التي أشار إليها الأشعري في مقالاته قد وجدت كلها ضمن مقالات الاثني عشرية ورواياتهم. وذكر صدوقهم في عقائده رواية تفسر قولهم بالأمر بين الأمرين؛ حيث ¬
قال: قيل لأبي عبد الله: "ما أمر بين الأمرين؟ فقال: ذلك مثل رجل رأيته على المعصية فنهيته فلم ينته فتركته ففعل تلك المعصية فليس حيث لا يقبل منك فتركته كنت أنت الذي أمرته بالمعصية" (¬1) . فهو هنا يفسر القدر بالأمر والنهي فحسب.. وهو لا يكفي في بيان المذهب الحق في القدر.. إذ كان الله سبحانه لا سلطان له على العبد إلا أمره أو نهيه. ولكن نجد من شيوخهم من فسر ذلك بمقتضى مذهب أهل السنة وقال بما جاء في رواياتهم من الإثبات، وأعرض عما قاله طائفة من شيوخه وجعل ذلك هو معتقد طائفته فقال بعدما ذكر ضلال الجبرية فيما ذهبوا إليه ,ان من قال بقولهم فقد نسب الظلم إليه تعالى عن ذلك، وضلال القدرية فيما أخذوا به من نفي القدر، وأن من قال بذلك فقد أشرك مع الله غيره في الخلق - قال: «واعتقادنا في ذلك تبع لما جاء عن أئمتنا الأطهار عليهم السلام من الأمر بين الأمرين والطريق الوسط بين القولين.. فقد قال إمامنا الصادق عليه السلام لبيان الطريق الوسط كلمته المشهورة: "لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين الأمرين". ما أجمل هذا المغزى، وما أدق معناه وخلاصته: "أن أفعالنا من جهة هي أفعالنا حقيقة ونحن أسبابها الطبيعية وهي تحت قدرتنا واختيارنا، ومن جهة أخرى هي مقدورة لله تعالى وداخلة في سلطانه لأنه هو مفيض الوجود ومعطيه، فلم يجبرنا على أفعالنا حتى يكون قد ظلمنا على المعاصي، لأن لنا القدرة والاختيار فيما نفعل، ولم يفوض إلينا خلق أفعالنا حتى يكون قد أخرجها عن سلطانه، بل له الخلق والأمر وهو قادر على كل شيء ومحيط بالعباد" (¬2) . وهذه الكلمات لا تخالف ما قاله أهل السنة في باب أفعال العباد، وهي ¬
تفيد أن من شيوخ الشيعة المتأخرين من يذهب إلى ما ذهب إليه أوائلهم، وما قررته معظم رواياتهم إذا لم يكن قد جعل لكلماته ضربًا من التأويل أو لونًا من الاتقاء فذاك علمه عند الله. وهذا لا ينفي أن شيوخ المذهب وأساطين الطّائفة قد ذهبوا في الغالب إلى ما ذهب إليه أهل الاعتزال. ويمكن أن يقال: قد كان في القديم الإثبات هو الأصل والنفي طارئ نتيجة التأثر بالاتجاه الاعتزالي، وعند المتأخرين النفي هو الكثير الغالب، والإثبات موجود عند البعض. ولا شك بأن من قال بالنفي فقد قال بجزء من الأدلة وعطل الباقي، ومن قال بالجبر فقد عمل بالجزء الآخر وعطل ما سواه، ومن أخذ بالقول الوسط فقد أعمل الأدلة كلها، وآيات القرآن أثبتت للعبد فعلاً وقدرة ومشيئة، ولكنها تابعة لقدرة الله ومشيئته، قال تعالى: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلا أَن يَشَاء اللَّهُ} (¬1) . قال شيخ الإسلام: "فجمهور أهل السنة من السلف والخلف يقولون: إن العبد له قدرة وإرادة وفعل، والله خالق ذلك كله كما هو خالق كل شيء، كما دل على ذلك الكتاب والسنة" ثم ساق الأدلة في ذلك (¬2) . والروايات الكثيرة عند الرافضة - والتي مضى بعضها - هي أكبر شاهد من مذهبهم نفسه على بطلان ما ذهب إليه شيوخهم من الأخذ بمذهب أهل ¬
الاعتزال (¬1) . ¬
الباب الثالث: أصولهم ومعتقداتهم (الأخرى) التي تفردوا بها
الباب الثالث: أصولهم ومعتقداتهم (الأخرى) التي تفردوا بها وفيه ثمانية فصول: الفصل الأول: الإمامة. الفصل الثاني: عصمة الإمام. الفصل الثالث: التقية. الفصل الرابع: المهدية والغيبة. الفصل الخامس: الرجعة. الفصل السادس: الظهور. الفصل السابع: البداء. الفصل الثامن: الطينة.
الفصل الأول: الإمامة
الفصل الأول: الإمامة الإمامة عند الشيعة هي الأصل الذي تدور عليه أحاديثهم وترجع إليه عقائدهم، وتلمس أثره في فقههم وأصولهم، وتفاسيرهم وسائر علومهم. ولقد اهتم الشيعة بأمرها في القديم والحديث. وفيما يلي عرض لأهم جوانبها: مفهومها، ومنشئها، ومنزلتها في مذهبهم، وكتمانهم لها في بادئ الأمر، ثم بدء شيوخ الشيعة في الاستدلال عليها، وعرض لما يعدونه أقوى أدلتهم فيها ومناقشته، ثم حديث عن تكفيرهم لمنكرها، حتى كفروا الصحابة، وأهل البيت، وحكام المسلمين، وقضاتهم، والأمصار الإسلامية وشعوبها، والفرق الإسلامية بكل اتجاهاتها، والأمة جميعًا، كل ذلك على سبيل التعيين والتخصيص. وسيتبين هذا في الصفحات التالية، ومن خلال ما قالته كتبهم المعتمدة عندهم.
مفهوم الإمامة عند الشيعة ومنشؤها
مفهوم الإمامة (¬1) عند الشيعة ومنشؤها: لعل أول من تحدث عن مفهوم الإمامة بالصورة الموجودة عند الشيعة هو ابن سبأ، الذي بدأ يشيع القول بأن الإمامة هي وصاية من النبي، ومحصورة بالوصي، وإذا تولاها سواه يجب البراءة منه وتكفيره، فقد اعترف كتب الشّيعة بأنّ ابن سبأ "كان أوّل من أشهر القول بفرض إمامة عليّ، وأظهر البراءة من أعدائه، وكاشف مخالفيه وكفّرهم" (¬2) . لأنه كان يهودي الأصل، يرى أن يوشع بن نون هو وصي موسى، فلما أسلم أظهر هذه المقالة في علي بن أبي طالب (¬3) . وهذا ما تواضع عليه شيوخ الشيعة، فابن بابويه القمي يسجّل عقائد الشّيعة في القرن الرّابع ويقول بأنّهم: "يعتقدون بأنّ لكلّ نبي وصيًّا أوصى إليه بأمر الله تعالى" (¬4) . ويذكر أن عدد الأوصياء "مائة ألف وصي، وأربعة وعشرون ألف وصي" (¬5) ، كما يذكر المجلسي في أخباره "أن عليًا هو آخر الأوصياء" (¬6) ، وجاء ¬
في بعض عناوين الأبواب في الكافي "باب أن الإمامة عهد من الله عز وجل معهود من واحد إلى واحد" (¬1) . و"باب ما نص الله عز وجل ورسوله على الأئمة واحدًا فواحدًا" (¬2) . وقد ضمنها مجموعة من أخبارهم التي يعدونها من الأدلة التي لا يرقى إليها الشك. ولهذا قال شيخهم مقدار الحلي (ت821) بأن مستحق الإمامة عندهم لابد أن "يكون شخصًا معهودًا من الله تعالى ورسوله لا أي شخص اتفق" (¬3) . ويقرّر محمد حسين آل كاشف الغطا أحد مراجع الشيعة في هذا العصر: "أنّ الإمامة منصب إلهي كالنّبوّة، فكما أنّ الله سبحانه يختار من يشاء من عباده للنّبوّة والرّسالة ويؤيّد بالمعجزة التي هي كنصّ من الله عليه.. فكذلك يختار للإمامة من يشاء ويأمر نبيّه بالنّصّ عليه وأن ينصبه إمامًا للنّاس من بعده" (¬4) . فأنت ترى أن مفهوم الإمامة عندهم كمفهوم النّبوّة، فكما يصطفي الله سبحانه من خلقه أنبياء، يختار سبحانه أئمّة، وينصّ عليهم، ويعلم الخلق بهم، ويقيم بهم الحجّة، ويؤيّدهم بالمعجزات، وينزّل عليهم الكتاب، ويُوحي إليهم، ولا يقولون أو يفعلون إلا بأمر الله ووحيه.. أي إنّ الإمامة هي النّبوّة، والإمام هو النّبيّ، والتّغيير في الاسم فقط. ولذلك قال المجلسي: "إنّ استنباط الفرق بين النّبيّ والإمام من تلك الأخبار لا يخلو من إشكال" (¬5) ، ثم قال: "ولا نعرف جهة لعدم اتّصافهم بالنّبوّة إلا رعاية خاتم الأنبياء، ولا يصل عقولنا فرق بين النّبوّة والإمامة" (¬6) . هذا قولهم في مفهوم الإمامة، ويكفي في نقده أنه لا سند لهم فيه إلا ابن سبأ واليهودية. ¬
منزلة الإمامة عندهم
منزلة الإمامة عندهم: مسألة الإمامة عند أهل السنة ليست من أصول الدين التي لا يسع المكلف الجهل بها، كما قرره جمع من أهل العلم (¬1) . ولكنها عند الشيعة (بمفهومها السبئي) لها شأن آخر، فالنوبختي يذكر بأن من فرق الشيعة من يذهب إلى أن الإمامة من أجل الأمور بعد النبوة (¬2) ، ولكنها عند آل كاشف الغطاء: "منصب إلهي كالنبوة" (¬3) . وفي أحاديث الكليني في الكافي تعلو على مرتبة النبوة (¬4) ، وهذا ما يجاهر به جملة من شيوخهم. قال شيخهم نعمة الله الجزائري: "الإمامة العامّة التي هي فوق درجة النّبوّة والرّسالة.." (¬5) . وقال هادي الطّهراني - أحد مراجعهم وآياتهم في هذا العصر -: "الإمام أجلّ من النّبوّة، فإنّها مرتبة ثالثة شرّف الله تعالى بها إبراهيم بعد النّبوّة والخلة.." (¬6) . وفي الكافي روايات تجعل الإمامة أعظم أركان الإسلام. روى الكليني بسنده عن أبي جعفر قال: "بني الإسلام على خمس: على الصّلاة والزّكاة والصّوم والحجّ والولاية، ولم يناد بشيء كما نودي بالولاية، فأخذ النّاس بأربع وتركوا هذه - يعني الولاية -" (¬7) . ¬
فأنت ترى أنهم أسقطوا الشّهادتين من أركان الإسلام، ووضعوا مكانهما الولاية، وعدوها من أعظم الأركان، كما يدل عليه قولهم: "ولم يناد بشيء كما نودي بالولاية" وكما يدل عليه حديثهم الآخر. وقد ذكر فيه نص الرواية السابقة وزاد: "قلت (الراوي) : وأي شيء من ذلك أفضل؟ فقال: الولاية أفضل" (¬1) . ورواية ثالثة بنحو الرواية الأولى، مع زيادة تقول: "فرخص لهم في أشياء من الفرائض الأربع (¬2) . حتى قالوا في أخبارهم أيضًا بأنه: "عرج بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم السّماء مائة وعشرين مرّة، ما من مرّة إلا وقد أوصى الله عزّ وجلّ فيها إلى النّبيّ بالولاية لعليّ والأئمّة من بعده أكثر ممّا أوصاه بالفرائض" (¬3) . "وما وكّد على العباد في شيء ما وكد عليهم بالإقرار بالإمامة، وما جحد العباد شيئًا ما جحدوها" (¬4) . وبهذا الضلال يهذي شيوخهم، قال أحد مراجعهم في هذا العصر: "إن أعظم ما بعث الله تعالى نبيه من الدين إنما هو أمر الإمامة" (¬5) . هذه منزلة إمامة الاثني عشر عندهم، وما أدري أين سند هذه المنزلة المزعومة، وكتاب الإسلام العظيم - كتاب الله - تذكر فيه مرات، وتؤكد كرات أركان الإسلام: الشهادتان، والصلاة، والصوم، والزكاة، والحج ولا ذكر فيه لشأن ولاية أئمتهم؟! ¬
سرية هذا المبدأ
سرية هذا المبدأ: وكانت مسألة الإمامة بمفهوم الشيعة تعني أن هناك خلية سرية وضعت لأتباعها هذا المبدأ لتعمل على تقويض أركان الخلافة الإسلامية.. ولذلك فإنها ما إن كشفت هذا الوجه في عهد الخلافة الراشدة.. حتى وقف منها أمير المؤمنين عليّ موقفًا حازمًا وصارمًا.. فتعقب ابن سبأ ونفاه إلى المدائن، ونفى ما حاول إشاعته من أفكار في المجتمع الإسلامي.. كما تعترف بذلك كتب الشيعة نفسها (¬1) . فعادت هذه الخلية تدعو لهذا المبدأ في سرية تامة، وكانت تقول في عصر علي الرضا كما يظهر من إسناد النص إليه، تقول: "ولاية الله أسرها إلى جبرائيل، وأسرها جبرائيل إلى محمد، وأسرها محمد إلى عليّ، وأسرها علي إلى من شاء الله، ثم أنتم تذيعون ذلك، من الذي أمسك حرفًا سمعه؟ " (¬2) . قال أبو جعفر رضي الله عنه: "في حكمة آل داود ينبغي للمسلم أن يكون مالكًا لنفسه مقبلاً على شأنه عارفًا بأهل زمانه، فاتقوا الله، ولا تذيعوا حديثنا" (¬3) . فهذا النص يشير إلى أن الولاية من الأسرار في أصل التنزيل الإلهي ويحذر من إظهار الحديث عنها.. أي إنه في العهد الإسلامي الزاهر المتقدم لا صوت مسموعًا للولاية وشأنها.. ويعلل شارح الكافي ذلك بقوله: "لما كانت التقية شديدة في عصرهم عليهم السلام أمروا شيعتهم بكتمان أسرارهم وإمامتهم وأحاديثهم وأحكامهم المختصة بمذهبهم..". (¬4) . ¬
وعند حديث الكليني الذي يقول: ".. ولا تبثّوا سرّنا، ولا تذيعوا أمرنا" (¬1) . قال شارح الكافي: "وهو أمر الإمامة والخلافة.." (¬2) . وقال عند حديث آخر يسندونه لجعفر ويقول: "المذيع حديثنا كالجاحد له" (¬3) . قال: "واعلم أنّه عليه السّلام كان خائفًا من أعداء الدّين على نفسه المقدّسة وعلى شيعته، وكان في تقية شديدة منهم فلذلك نهى عن إذاعة خبر دالّ على إمامته أو إمامة آبائه" (¬4) . وكان هناك ميثاق دائم بينهم على الكتمان، قالوا: "إنّ أمرنا مستور مقنّع بالميثاق (¬5) . فمن هتك علينا أذلّه الله" (¬6) . وتحدد بعض نصوصهم بدء إذاعة أمر الولاية بأنه كان على يد طائفة الكيسانية فتقول: "ما زال سرنا مكتومًا حتى صار في يد ولد كيسان (¬7) . فتحدثوا به في الطريق وقرى السواد" (¬8) . وهذه الخلية التي وضعت الخطوط الأساسية لأمر الولاية على وفق المنهج السبئي لا تنسى أن توصي أتباعها بأن يتستروا بالاتجاه الشيعي المعتدل لنشر فكرتهم بين الناس، فقد جاء في أصول الكافي: "كفوا ألسنتكم والزموا بيوتكم فإنه لا يصيبكم أمر تخصون به أبدًا، ولا تزال الزيدية لكم وقاء أبدًا" (¬9) . ¬
حصر الأئمة بعدد معين
ويحتمل أن المراد أن الزيدية لإظهارها طلب الولاية هي التي يوقع بها وتسلمون أنتم لالتزامكم بالتقية كما أشار إليه شارح الكافي (¬1) . وإذا كانت الولاية صنو النّبوّة أو أعظم فلماذا تكون سرّيّة مُحاطة بالكتمان، حتى إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي أمره الله أن يبلّغ ما أنزل الله - يخفي أمرها ويسرّها إلى عليّ، ثم يسرّها عليّ إلى من شاء؟! ولا تحدد هذه الرواية الأشخاص الذين أسرها عليّ إليهم.. وتترك الأمر لمشيئته يختار ما يريد، أما غير علي فلا خيرة له في الاختيار! فكيف تكون الولاية التي هي أصل النجاة عندهم، وأساس قبول الأعمال، والفيصل بين الإيمان والكفر كيف تظل سرية حتى يتولى نشرها ولد كيسان؟! ويعدون ذلك خروجًا عن الأصل المأمور به. إن هذه النصوص تدل على أن واضعي هذه الفكرة هم من أعداء الأمة، واستغلوا هذه المسألة لتنفيذ أغراضهم، ولذلك أحاطوها بجو من السرية والكتمان، ونسبوها لآل البيت، لتجد طريقها إلى قلوب الناس الذين آلمهم ما جرى من أحداث على بعض علماء أهل البيت، والتي كانت هذه الزمر الحاقدة المدعية للتشيع أحد أسبابها الرئيسة. حصر الأئمة بعدد معين: كان ابن سبأ ينتهي بأمر الوصية عند عليّ، ولكن جاء فيما بعد من عممها في مجموعة من أولاده.. وكانت "الخلايا" الشيعية تعمل بصمت وسرية.. ومع ذلك فقد كانت تصل بعض هذه الدعاوى إلى بعض أهل البيت، فينفون ذلك نفيًا قاطعًا، كما فعل جدهم أمير المؤمنين عليّ، ولذلك اخترع أولئك الكذابون على أهل البيت "عقيدة التقية" حتى يسهل نشر أفكارهم وهم في مأمن من تأثر الأتباع بمواقف أهل البيت الصادقة والمعلنة للناس. ¬
ترد رواية في "رجال الكشي" - أهم كتاب عندهم -: "في الرجال" تكشف بأن شيطان الطاق (¬1) . هو الذي بدأ يشيع القول بأن الإمامة محصورة بأناس مخصوصين من آل البيت، وأنه حينما علم بذلك زيد بن عليّ بعث إليه ليقف على حقيقة الإشاعة، فقال له زيد: "بلغني أنك تزعم أن في آل محمد إمامًا مفترض الطاعة؟ قال شيطان الطاق: نعم، وكان أبوك علي بن الحسين أحدهم، فقال: وكيف وقد كان يؤتى بلقمة وهي حارة فيبردها بيده ثم يلقمنيها، أفترى أنه كان يشفق عليّ من حر اللقمة، ولا يشفق علي من حر النار؟ قال (شيطان الطاق) : قلت له: كره أن يخبرك فتكفر فلا يكون له فيك الشفاعة، لا والله فيك المشيّة - كذا -" (¬2) . وفي رواية الكليني في الكافي: قال زيد بن علي لأبي جعفر: "يا أبا جعفر كنت أجلس مع أبي على الخوان فيلقمني البضعة السمينة، ويبرد لي اللقمة الحارة حتى تبرد، شفقة عليّ، ولم يشفق عليّ من حر النار، إذ أخبرك بالدين ولم يخبرني به؟ فأجابه شيطان الطاق: جعلت فداك، من شفقته عليك من حر النار لم يخبرك، خاف عليك أن لا تقبله فتدخل النار، وأخبرني أنا، فإن قبلت نجوت، وإن لم أقبل لم يبال أن أدخل النار.." (¬3) . وينقل الأستاذ محب الدين الخطيب هذا النص من تنقيح المقال للمقاني (¬4) ، ويأخذ منه أن شيطان الطاق هو أول من اخترع هذه العقيدة الضالة وحصر الإمامة والتشريع وادعى العصمة لأناس مخصوصين من آل البيت (¬5) . ¬
كما نقل الأستاذ محب هذا النص أيضًا من تنقيح المقال في تعليقه على مختصر التحفة وعقب على ذلك بقوله: "وهكذا اخترع شيطان الطاق أكذوبة الإمامة، التي صارت من أصول الديانة عند الشيعة، واتهم الإمام عليًا زين العابدين بن الحسين بأنه كتم أساس الدين حتى عن ابنه الذي هو من صفوة آل محمد، كما اتهم الإمام زيدًا بأنه لم يبلغ درجة أخس الروافض في قابليته للإيمان بإمامة أبيه.. والشيعة هم الذين يروون هذا الخبر في أوثق المصادر عندهم ويعلنون فيه أن شيطان الطاق يزعم بوقاحته أنه يعرف عن والد الإمام زيد ما لا يعرفه الإمام زيد من والده مما يتعلق بأصل من أصول الدين عندهم. وليس هذا بكثير على شيطان الطاق الذي روى عنه الجاحظ في كتابه عن الإمامة: أن الله لم يقل: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} (¬1) . وتذكر كتب الشيعة أنه بلغ جعفرًا ما يقوله شيطان الطاق، وما يجادل به في أمر الإمامة فقال: "لو شاء ظريف من مخاصميه أن يخصمه فعل؟ قلت (القائل هو الراوي) : كيف ذاك؟ فقال: يقول: أخبرني عن كلامك هذا من كلام إمامك؟ فإن قال: نعم، كذب علينا، وإن قال: لا، قال له: كيف تتكلم بكلام لم يتكلم به إمامك، ثم قال (أي جعفر الصادق) : إنهم يتكلمون بكلام إن أنا أقررت به ورضيت به أقمت على الضلالة، وإن برئت منه شق علي، نحن قليل وعدونا كثير، قلت (أي الراوي) : جعلت فداك فأبلغه عنك ذلك؟ قال: أما إنهم قد دخلوا في أمر ما يمنعهم عن الرجوع عنه إلا الحميّة، قال: فأبلغت أبا جعفر الأحول ذاك فقال: صدق بأبي وأمي ما يمنعني من الرجوع عنه إلا الحمية" (¬2) . ولقد شارك شيطان الطاق رجل آخر هو هشام بن الحكم (¬3) . (المتوفى سنة ¬
179) بل يرى القاضي عبد الجبار الهمداني أن الذي ادعى النص، وجرأ الناس على شتم أبي بكر وعمر وعثمان والمهاجرين والأنصار هشام بن الحكم وهو ابتدأه ووضعه، وما ادعى هذا النص أحد قبله (¬1) . وفي رجال الكشي ما يفيد أن مؤامرة هشام بن الحكم في مسألة الإمامة وصل خبرها إلى هارون الرشيد، حيث قال له يحيى بن خالد البرمكي: "يا أمير المؤمنين، إني قد استنبطت أمر هشام فإذا هو يزعم أن لله في أرضه إمامًا غيرك مفروض الطاعة، قال: سبحانه الله! قال: نعم، ويزعم أن لو أمره بالخروج لخرج" (¬2) . فيظهر أن هارون - كما يدل عليه هذا النص - فوجئ بهذه المقالة مما يدل على جدتها. وقد أشاع هشام بن الحكم أن ما يقول به في الإمامة إنما هو عن أمر موسى الكاظم، فأساء إليه أبلغ الإساءة حتى سجنه المهدي العباسي ثم أخرجه "وأخذ عليه العهد أن لا يخرج عليه ولا على أحد من أولاده، فقال: والله ما هذا من شأني ولا حدثت فيه نفسي" (¬3) . وقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أن موسى الكاظم - رحمه الله - متهم بالتطلع للملك، ولذلك سجنه المهدي ثم الرشيد (¬4) . ويبدو أن الذي يعمل على ترويج هذه الإشاعة في الخفاء ضده هو هشام بن الحكم ومن لف لفه.. ولذلك أقرت روايات الشيعة بأن سبب سجن موسى هو هشام بسبب ما ينسبه له من أقوال، وما يشيعه عنه من افتراءات تدور حول الإمامة وأحقيته بها.. ولذلك لما بلغ هارون شيء من ذلك عن هشام قال لعامله: "شد يدك بهذا وأصحابه، وبعث ¬
إلى أبي الحسن موسى عليه السلام فحبسه، فكان هذا سبب حبسه مع غيره من الأسباب" (¬1) . واتهمت نصوص الشيعة هشامًا بأنه هو الذي شارك في قتل موسى الكاظم (¬2) . فقالت: "هشام بن الحكم.. ضال مضل شرك في دم أبي الحسن" (¬3) . وقد طلب منه أبو الحسن - كما تقول روايتهم - أن يكف عن الكلام، ولكنه أمسك عن الكلام شهرًا ثم عاد، فقال له أبو الحسن: "أيسرك أن تشرك في دم امرئ مسلم؟ قال: لا، قال: وكيف تشرك في دمي، فإن سكت وإلا فهو الذبح؟ فما سكت حتى كان من أمره ما كان (صلى الله عليه) " (¬4) . ولذلك قال أبو الحسن الرضا - كما تروي كتب الشيعة -: " ... هشام بن الحكم فهو الذي صنع بأبي الحسن ما صنع وقال لهم وأخبرهم، أترى الله يغفر له ما ركب منا" (¬5) . وكشفت كتب الشيعة بأن هشامًا قد تربى في أحضان بعض الزنادقة، ففي رجال الكشي ".. وهشام من غلمان أبي شاكر، وأبو شاكر زنديق" (¬6) ، ومع ذلك فإن أحد آيات الشيعة في هذا العصر يقول عن هشام صاحب كل هذه البلايا التي تنقلها أوثق كتب الشيعة في الرجال يقول عنه: "لم يعثر أحد من سلفنا على شيء مما نسبه الخصم إليه.." (¬7) . وما أدري هل يخفى عليه الأمر؟ أو ينكر ¬
تقية؛ لأنه يظن أن الناس لا علم لهم بما فيه كتبهم. فإذًا هشام بن الحكم، وشيطان الطاق وأتباعهما هم الذين أحيوا نظرية ابن سبأ في أمير المؤمنين عليّ ثم عمومها على آخرين من سلالة أهل البيت، واستغلوا بعض ما جرى على أهل البيت، كمقتل علي والحسين، في إثارة مشاعر الناس وعواطفهم، والدخول إلى قلوبهم لتحقيق أغراضهم ضد الدولة الإسلامية في ظل هذا الستار. ويبدو أن عقيدة حصر الإمامة بأناس معينين سرت في الكوفة (¬1) . بسعي مجموعة من أتباع هشام والشيطان، وكان بعض من تعرض عليه هذه الدعوة في المجتمع الإسلامي، يذهب إلى جعفر يسأله عن حقيقة الأمر، فيروي الكشي بسنده عن سعيد الأعرج. قال: كنا عند أبي عبد الله رضي الله عنه فاستأذن له رجلان، فأذن لهما، فقال أحدهما: أفيكم إمام مفترض الطاعة؟ قال: ما أعرف ذلك فينا، قال: بالكوفة قوم يزعمون أن فيكم إمامًا مفترض الطاعة، وهم لا يكذبون أصحاب ورع واجتهاد.. منهم عبد الله بن يعفور وفلان وفلان، فقال أبو عبد الله رضي الله عنه: ما أمرتهم بذلك، ولا قلت لهم أن يقولوه (¬2) ، قال: فما ذنبي! واحمر وجهه وغضب غضبًا شديدًا، قال: فلما رأيا الغضب في وجهه قاما فخرجا، قال: أتعرفون الرجلين؟ قلنا: نعم هما رجلان من الزيدية (¬3) . إذن فكرة حصر الأئمة بعدد معي قد وضع جذورها في القرن الثاني زمرة ممن يدعي الصلة بأهل البيت أمثال شيطان الطاق وهشام بن الحكم. ولقد اختلفت اتجاهات الشيعة وتباينت مذاهبهم في عدد الأئمة، قال في مختصر التحفة: "اعلم أن الإمامية قائلون بانحصار الأئمة، ولكنهم مختلفون في ¬
مقدارهم، فقال بعضهم: خمسة، وبعضهم: سبعة، وبعضهم: ثمانية، وبعضهم: اثنا عشر، وبعضهم: ثلاث عشر" (¬1) . وأقوالهم في هذا كثيرة وأظن أنني لو قمت بنقل اتجاهاتهم في ذلك من خلال كتب الفرق لقطع القارئ القراءة من الملل لكثرة خلافهم الذي يمضي على وتيرة واحدة، إذ بعد وفاة كل إمام من أهل البيت تنشأ بعده فرق.. منهم من يتوقف عليه ويجعل عدد الأئمة ينتهي به، ومنهم من يذهب يلتمس رجلاً آخر من أهل البيت يتخذه إمامًا، ويكتسب من خلال ذلك، ويحقق ما في نفسه من موروثات دينية سابقة، أو تطلعات عرقية وشعوبية، وينفذ من وراء ذلك أحقاده ومطامعه.. وبحسب القارئ أن يطلع على كتب الفرق ليجد ذلك.. بل إن كتب الفرق عند الشيعة نقلت صورة هذا التباين والتناقض سواء كانت من كتب الإسماعيلية كمسائل الإمامة للناشئ الأكبر، أو الزينة لأبي حاتم الرازي، أو من كتب الاثني عشرية مثل: المقالات والفرق للأشعري القمي، وفرق الشيعة للنوبختي، أو من كتب الزيدية كالمنية والأمل للمرتضى. وقضية الإمامة عندهم ليس بالأمر الفرعي الذي يكون فيه الخلاف أمرًا عاديًا، بل هي أساس الدين وأصله المتين، ولا دين لمن لم يؤمن بإمامهم ولذلك يكفر بعضهم بعضًا، بل إن أتباع الإمام الواحد يكفر بعضهم بعضًا ويلعن بعضهم بعضًا (¬2) . أما الاثنا عشرية فقد استقر قولهم - فيما بعد - بحصر الإمامة في اثني عشر إمامًا، و"لم يكن في العترة النبوية بني هاشم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعليّ رضي الله عنهم من يقول بإمامة الاثني عشر.." (¬3) . وإنما عرف الاعتقاد باثني عشر إمامًا بعد وفاة الحسن العسكري كما سبق (¬4) . ¬
وتجد في بعض الروايات عند الاثني عشرية ملامح من الحيرة والتردد في عدد الأئمة، مما يدل على أن تلك الروايات موضوعة قبل وفاة الحسن العسكري، وأنه قبل ذلك لم تعرف عقيدة الإيمان بالاثني عشر الذين تنتسب إليهم الاثنا عشرية، أو أنها موضوعة قبل تحدد هذه العقيدة عند الجعفرية، ولا شك أن تلك الروايات نقد واضح للاتجاه الاثني عشري. فقد جاء في روايات الكافي أن عليًا يسر بالولاية إلى من شاء (¬1) . وقال شارح الكافي: إلى من شاء من الأئمة المعصومين (¬2) ، ولا تحدد هذه الرواية العدد، ولا تعين الشخص، فكأن الأمر غير مستقر في تلك الفترة التي وضع فيها الخبر، بينما تجد روايات عندهم تجعل الأئمة سبعة وتقول: "سابعنا قائمنا" (¬3) . وهذا ما استقر عليه الأمر عند الإسماعيلية. ولكن لما زاد عدد الأئمة أكثر عند الموسوية أو القطعية والتي سميت بالاثني عشرية صار هذا النص الآنف الذكر مبعث شك في عقيدة الإمامة لدى أتباع هذه الطائفة وحاول مؤسسو المذهب التخلص منه، ونفي شك الأتباع بالرواية التالية: "عن داود الرقي قال: قلت لأبي الحسن الرضا رضي الله عنه: جعلت فداك إنه والله ما يلج في صدري من أمرك شيء إلا حديثًا سمعته من ذريح يرويه عن أبي جعفر رضي الله عنه. قال لي: وما هو؟ قال: سمعته يقول: سابعنا قائمنا إن الله. قال: صدقت وصدق ذريح وصدق أبو جعفر رضي الله عنه، فازددت والله شكًا، ثم قال: يا داود بن أبي خالد، أما والله لولا أن موسى قال للعالم: ستجدني إن شاء الله صابرًا ما سأله عن شيء، وكذلك أبو جعفر عليه السلام لولا أن قال: إن شاء الله لكان كما قال، قال: فقطعت عليه" (¬4) . فكأنهم يجعلون هذا من باب البداء وتغير المشيئة والذي هو من عقائدهم - ¬
كما سيأتي - لأنهم يجدون به وسيلة للتخلص من أمثال هذه الأقوال. ولقد كان أول كتاب ظهر للشيعة وهو كتاب سليم بن قيس قرر أن عدد الأئمة ثلاثة عشر، وكان هذا من أسباب القدح فيه عند طائفة من شيوخ الاثني عشرية. كما أنك ترى الكافي أصح كتبهم الأربعة قد احتوى على جملة من أحاديثهم تقول بأن الأئمة ثلاثة عشر. فقد روى الكليني بسنده عن أبي جعفر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني واثني عشر إمامًا من ولدي وأنت يا علي زرّ الأرض - يعني أوتادها وجبالها - بنا أوتد الله الأرض أن تسيخ بأهلها، فإذا ذهب الاثنا عشر من ولدي ساخت الأرض بأهلها ولم ينظروا (¬1) . فهذا النص أفاد أن أئمتهم - بدون علي - اثنا عشر ومع علي يصبحون ثلاثة عشر. وهذا ينسف بنيان الاثني عشرية.. ولهذا يظهر أن شيخهم الطوسي في الغيبة تصرف في النص وغير فيه فأورده بهذا اللفظ: "إني وأحد عشر من ولدي" (¬2) . كذلك روت كتب الشيعة الاثني عشرية عن أبي جعفر عن جابر قال: "دخلت على فاطمة وبين يديها لوح فيه أسماء الأوصياء من ولدها فعددت اثني عشر آخرهم القائم، ثلاثة منهم محمد وثلاثة منهم علي" (¬3) . فانظر كيف اعتبروا أئمتهم اثني عشر كلهم من أولاد فاطمة، فإذن علي ليس من أئمتهم لأنه زوج فاطمة لا ولدها، أو يكون مجموع أئمتهم ثلاثة عشر. ومما يدل أيضًا على أنهم لم يعتبروا عليًا من أئمتهم قوله: ثلاثة منهم علي، فإن المسمى بعلي من الأئمة عند الاثني عشرية أربعة: أمير المؤمنين علي، وعلي بن ¬
الحسين، وعلي الرضا، وعلي الهادي. ولذلك فإن ابن بابويه غير في النص فيما يبدو - في كتابه الخصال - حيث جاء النص عنده بدون لفظة "من ولدها"، ولكن لم يفطن لباقي النص وهو قوله: "ثلاثة منهم علي" فأثبته كما جاء في المصادر الاثني عشرية الأخرى (¬1) .؛ ولكنه في كتابه عيون أخبار الرضا غير النص في الموضعين بما يتفق ومذهبه أو غيّره غيره (¬2) . ومن العجب أن بعض شيوخهم حكم بوضع كتاب سليم بن قيس لأنه اشتمل على أن الأئمة ثلاثة عشر ولم يحكم بمثل ذلك على الكافي الذي ورد فيه مثل ذلك، والمصادر الأخرى التي شاركته في هذا الاتجاه. والقول بأن الأئمة ثلاثة عشر قامت فرقة من الشيعة تقول به، ولعل تلك النصوص من آثارها، وقد ذكر هذه الفرقة الطوسي في رده على من خالف الاتجاه الاثني عشري، الذي ينتمي إليه (¬3) ، وكذلك النجاشي في ترجمة هبة الله أحمد بن محمد (¬4) . وكل فرقة من هذه الفرق تدعي أنها على الحق، وأن الخبر في تعيين أئمتها متواتر، وتبطل ما ذهبت إليه الفرق الشيعية الأخرى، وهذا دليل على أنهم ليسوا على شيء؛ إذ لو تواتر خبر إحدى فرقهم لم يقع الاختلاف قط بينهم ... فإن هذه مزاعم افتروها على أهل البيت على وفق مصلحة الوقت، فكل طائفة تقرر إمامًا تدعو إليه ليأخذوا بهذه الذريعة الخمس والنذور والتحف والهدايا من أتباعهم باسم إمامهم المزعوم ويتعيشوا بها، ومتأخروهم قد قلدوا أوائلهم بلا دليل، وسقطوا في ورطة الضلال، {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءهُمْ ضَالِّينَ، فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ ¬
يُهْرَعُونَ} (¬1) . (¬2) . نقد حصرهم الأئمة بعدد معين: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (¬3) . ولم يحصر سبحانه أولي الأمر بعدد معين وهذا واضح جلي. وأمر تعيين الأئمة من أعظم أمور الدين عندهم، وهو صنو النبوة أو أعظم.. فكيف لا يبين الله ذلك في كتابه، ويذكر الأئمة بأسمائهم وأعيانهم؟ لا يوجد لأئمتهم ذكر في كتاب الله، وليس هناك نص صحيح متواتر في تعيين أئمتهم.. ولو وجد لما تخبط الشيعة وتاهوا في أمر تعيين الإمام كما حكت ذلك كتب المقالات؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الثابتة عنه المستفيضة لم يوقت ولاة الأمور في عدد معين، ففي الصحيحين عن أبي ذر قال: "إن خليلي أوصاني أن أسمع وأطيع وإن كان عبدًا حبشيًا مجدع الأطراف" (¬4) . أما كتب الشيعة الاثني عشرية فهي طافحة بالروايات التي تحدد الأئمة باثني عشر، والملاحظ أن هذه الروايات كانت موضع التداول السري، وكان الأئمة يكذبون رواتها، مما يثير الشكوك في صدقها، لا سيما وكتاب الله سبحانه - والذي أمر الأئمة بالرجوع إليه في الحكم على ما ينسب إليهم من أقوال - لا شاهد فيه لهذه الروايات إلا عن طريق التأويلات الباطنية، والروايات الموضوعة، فيصبح ¬
عمدتهم في النهاية هذه الروايات.. التي تؤكد الشواهد كذبها، كما أن الأوائل الذين جمعوا هذه الروايات وهم: الصفار وإبراهيم القمي والكليني هم من الغلاة الذين يجب اعتبارهم خارج الصف الإسلامي لنقلهم أساطير نقص القرآن وتحريفه، فهم بهذا غير مأمونين وكتبهم غير موثوقة. وكتاب النّهج الذي هو أصح كتاب عند الشيعة لا ذكر فيه للأئمّة الاثني عشر بأسمائهم وأعيانهم؛ بل جاء فيه ما ينقض مبدأ حصر الأئمّة، حيث قال صاحب نهج البلاغة: ".. إنّه لا بدّ للنّاس من أمير برّ أو فاجر.. يقاتل به العدو، وتأمن السّبل، ويؤخذ به للضّعيف من القوي حتى يستريح بر، ويستراح من فاجر" (¬1) . فلم يحدد الأئمة بعدد معين. فأين تذهب الشيعة، وهي تزعم أنها تصدق بكل حرف في النهج؟! كما أن اختلاف أقوال فرق الشيعة في هذا الأمر، وتباين مذاهبهم في تحديد عدد الأئمة وأعيانهم يكشف حقيقة هذه الدعوى، إذ كل طائفة تدحض مزاعم الأخرى وتكذبها، وكفى الله المؤمنين القتال (¬2) . ومسألة حصر الأئمة بعدد معين لا يقبلها العقل ومنطق الواقع؛ إذ بعد انتهاء العدد المعين هل تظل الأمة بدون إمام؟ ولذلك فإن عصر الأئمة الظاهرين عند الاثني عشرية لا يتعدى قرنين ونصف إلا قليلاً. وقد اضطر الشّيعة للخروج عن حصر الأئمّة بمسألة نيابة المجتهد عن الإمام، واختلف قولهم في حدود النيابة (¬3) . وفي هذا العصر اضطرّوا للخروج نهائيًّا عن ¬
هذا الأصل الذي هو قاعدة دينهم، فجعلوا رئاسة الدّولة تتمّ عن طريق الانتخاب.. لكنهم خرجوا عن حصر العدد إلى حصر النوع فقصروا رئاسة الدولة على الفقيه الشيعي (¬1) . هذا ويحتجّ الاثنا عشريّة في أمر تحدي عدد الأئمّة بما جاء في كتب السّنّة عن جابر بن سمرة قال: "يكون اثنا عشر أميرًا - فقال كلمة لم أسمعها، فقال أبي: إنّه قال: كلّهم من قريش" هذا لفظ البخاري (¬2) ، وفي مسلم عن جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يزال الإسلام عزيزًا إلى اثني عشر خليفة" ثم قال كلمة لم أفهمها. فقلت لأبي: ما قال؟ فقال: "كلّهم من قريش" (¬3) . وفي لفظ: "لا يزال هذا الدّين عزيزًا منيعًا إلى اثني عشر خليفة" (¬4) ، وفي لفظ آخر: "لا يزال أمر النّاس ماضيًا ما وليهم اثنا عشر رجلاً" (¬5) . وعند أبي داود: "لا يزال هذا الدّين قائمًا حتى يكون عليكم اثنا عشر خليفة، كلّهم تجتمع عليهم الأمّة" (¬6) . وأخرجه أبو داود أيضًا من طريق الأسود بن سعيد عن جابر بنحو ما مضى قال: "وزاد فلما رجع إلى منزله أتته قريش فقالوا: ثم يكون ماذا؟ قال: الهرج" (¬7) . يتعلق الاثنا عشرية بهذا النص ويحتجون به على أهل السنة، لا لإيمانهم بما جاء في كتب أهل السنة (¬8) ، ولكن للاحتجاج عليهم بما يسلمون به. ¬
وبالتأمل في النص بكل حيدة وموضوعية نجد أن هؤلاء الاثني عشر وصفوا بأنّهم يتولّون الخلافة، وأن الإسلام في عهدهم يكون في عزة ومنعة، وأن الناس تجتمع عليهم ولا يزال أمر الناس ماضيًا وصالحًا في عهدهم. وكلّ هذه الأوصاف لا تنطبق على من تدّعي الاثنا عشريّة فيهم الإمامة، فلم يتولّ الخلافة منهم إلا أمير المؤمنين علي والحسن مدّة قليلة، ولم تجتمع في عهدهما الأمة، كما لم يقم أمر الأمة في مدة أحد من هؤلاء الاثني عشر - في نظر الشيعة أنفسهم - بل ما زال أمر الأمة فاسدًا.. ويتولى عليهم الظالمون بل الكافرون (¬1) ، وأن الأئمّة أنفسهم كانوا يتستّرون في أمور دينهم بالتّقية (¬2) ، وأن عهد أمير المؤمنين علي وهو على كرسي الخلافة عهد تقية، كما صرّح بذلك شيخهم المفيد (¬3) . فلم يستطع أن يظهر القرآن، ولا أن يحكم بجملة من أحكام الإسلام، كما صرح بذلك شيخهم الجزائري (¬4) ، واضطرّ إلى ممالأة الصّحابة ومجاراتهم على حساب الدّين، كما أقرّ بذلك شيخهم المرتضى (¬5) . فالحديث في جانب ومزاعم هؤلاء في جانب آخر. ثم إنه ليس في الحديث حصر للأئمة بهذا العدد؛ بل نبوءة منه صلى الله عليه وسلم بأن الإسلام لا يزال عزيزًا في عصر هؤلاء. وكان عصر الخلفاء الراشدين وبني أمية عصر عزة ومنعة، ولهذا قال شيخ الإسلام: "إن الإسلام وشرائعه في زمن بني أميّة أظهر وأوسع ممّا كان بعدهم، ثم استشهد بحديث "لا يزال هذا الأمر عزيزًا إلى اثني عشر خليفة كلهم من قريش". ثم قال: وهكذا كان، فكان الخلفاء أبو بكر وعثمان وعلي، ثم تولى من اجتمع الناس عليه وصار له عز ومنعة معاوية وابنه يزيد ثم عبد الملك وأولاده ¬
الأربعة وبينهم عمر بن عبد العزيز وبعد ذلك حصل من النقص ما هو باق إلى الآن" ثم شرح ذلك.. (¬1) . ونجد أن الاثني عشرية ترى دوام "ولاية المنتظر.. إلى آخر الدهر، وحينئذ فلا يبقى زمان يخلو عندهم من الاثني عشر، وإذا كان كذلك لم يبق الزمان نوعين: نوع يقوم فيه أمر الأمة، ونوع لا يقوم بل هو قائم في الأزمان كلها وهو خلاف الحديث (¬2) ، وخلاف ما يعتقده هؤلاء بأن عصر الاثني عشر إلى أن يخرج المنتظر هو عصر تقية من تركها من الشيعة بمنزلة من ترك الصلاة" (¬3) . كما أن الأمة لم تجتمع عليهم لأنهم لم يتولوا حكمًا - ما عدا عليًا والحسن - بل الشيعة أنفسهم مختلفون في شأنهم وفي أعدادهم وأعيانهم اختلافًا لا يكاد يحصى إلا بكلفة، كما حفلت بتصوير ذلك كتب الفرق والمقالات. ثم إنه قال في الحديث: "كلهم من قريش" وهذا يعني أنهم لا يختصون بعلي وأولاده "ولو كانوا مختصين بعلي وأولاده لذكر ما يميزون به، ألا ترى أنه لم يقل: كلهم من ولد إسماعيل ولا من العرب، وإن كانوا كذلك، لأنه قصد القبيلة التي يمتازون بها، فلو امتازوا بكونهم من بني هاشم، أو من قبيل علي لذكروا بذلك، فلما جعلهم من قريش مطلقًا علم أنهم من قريش، بل لا يختصون بقبيلة، بل بنو تيم وبنو عدي، وبنو عبد شمس، وبنو هاشم، فإن الخلفاء الراشدين كانوا من هذه القبائل" (¬4) . فإذن لم يبق من الأوصاف التي تنطبق على ما يريدون إلا مجرد العدد، والعدد لا يدل على شيء.. ألا ترى أن هذا الرقم وصف به هؤلاء الخلفاء الصلحاء كما وصف به أضدادهم، فقد جاء في صحيح مسلم "في أمتي اثنا عشر ¬
استدلالهم على مسألة الإمامة
منافقًا" (¬1) . ويبد أن هذا الرقم الذي تدعيه الشيعة الاثني عشرية يعود في الأصل إلى زعم يهودي قديم ورد في كتاب دانيال (¬2) ، كما أشار شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أن في التوراة مثل ذلك (¬3) . استدلالهم على مسألة الإمامة: من أصول الروافض "أنه لا يجوز للرعية اختيار إمام، بل لابد فيه من النص" (¬4) . "فالإمامة لا تكون إلا بالنّصّ" (¬5) . وأن الرسول صلى الله عليه وسلم نص على علي وأولاده (¬6) ، فهم الئمة إلى أن تقوم الساعة. وقد رأينا بدايات هذه العقيدة على أيدي السبئية، والهشامية والشيطانية. إلا أن شيوخ الشيعة ادعوا أن هذا الأمر هو من شرع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأقوال أئمة أهل البيت. وأخذوا يستدلون على ذلك "بنصوص ينقلونها ويؤولونها على مقتضى مذهبهم لا يعرفها جهابذة السنة ولا نقلة الشريعة، بل أكثرها موضوع أو مطعون في طريقه أو بعيد عن تأويلاتهم الفاسدة" (¬7) . ¬
وبالغوا كعادتهم في جمع الروايات وحشد النصوص في ذلك حتى ألف شيخهم ابن المطهر كتابًا سماه "الألفين في إمامة أمير المؤمنين" (¬1) . وقل من مؤلفي الشيعة من لم يتكلم عن هذه القضية ويستدل لها (¬2) ، لأنها عب دينهم وعماده. وإذا علمت أن كل هذه الروايات تفرد بنقلها حسب منطق الشيعة آحاد الناس، بل الواحد وهو علي لأنه هو الباب، ومن ادعى سماعًا من غيره فقد أشرك (¬3) ، كما أن ما سوى علي وبضعه نفر من الصحابة ثلاثة أو أربعة أو سبعة ما سوى هؤلاء محكوم عليهم في كتب الشيعة بالردة، فلا تقبل روايتهم.. وتفرد الواحد بالنقل موضع شك ولا سيما والجم الغفير على خلافه.. فاضطروا حينئذ للقول بالعصمة. ولكن العصمة كيف تثبت بخبر من ادعاها وهو واحد.. فاضطروا حينئذ للقول ببدعة أخرى وهي إثبات المعجزة للأئمة، فصارت قضية الإمامة ترتكز عندهم على ثلاث شعب: النص، والعصمة، والمعجزة. قال شيخهم المفيد: "إن الإمامة توجب لصاحبها عند الاثني عشرية: العصمة، والنص، والمعجزة ... " (¬4) . وقد مضى القول بأن المعجزات لا يأتي بها إلا الأنبياء، وأن الشيعة قالت بها في حق الأئمة؛ لأنهم أعطتهم معنى النبوة دون اسمها، وزعمت أنهم هم الحجة على العباد، وليس لهم في ذلك من برهان إلا اتباع ما وضعه زنادقة العصور الماضية.. قال تعالى: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (¬5) ، ولم يقل ¬
سبحانه: والأئمة، فحجة الله قامت على عباده بالرسل وأيدهم سبحانه بالآيات. ولا يملك الشيعة في باب معجزات الأئمة إلا دعاوى مجردة لا يعجز عن تأليفها المحتالون والمتآمرون (¬1) . أما مسألة العصمة فلأهميتها في المذهب الشيعي، فقد خصص لها الفصل التالي لهذا الفصل. ثم إن المعجزة على تقدير الصدور موقوفة على الخبر، وكيف يوثق بخبر مرتدين؟! وكذا الشأن في العصمة، ومع ذلك فإن الشيعة تولي مسألة الخبر المتمثل في دعوى النص والوصية أهمية كبرى، فهي الحجر الأول في بناء المذهب، والقاعدة الأساسية في كيانهم العقدي. ولا شك أن النص على عين من يتولى إمامة المسلمين إلى أن تقوم الساعة غير ممكن، إلا في عقل الرافضة، وقد انتهى بهم هذا القول إلى الاستسلام لوهم كبير، حيث اضطروا إلى القول بحياة واحد من البشر قرونًا مديدة (وهو مهديهم الذي ينتظرونه) فأصبحوا ضحكة الأمم.. وقد رد عليهم عليّ الرضا - والذي يدعون إمامته - برد هو من أبلغ الردود وأقواها في هذه المسألة، والشيعة تنقله في أوثق كتبها في الرجال، حيث قال: "لو كان الله يمدّ في أجل أحد من بني آدم لحاجة الخلق إليه لمد الله في أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم" (¬2) . لكنهم يخالفون هذا الأصل الواضح ويعتقدون أن بقاء المنتظر كل هذه القرون إنما هو لحاجة الخلق بل والكون كله إليه، ولو خلت منه الأرض لساخت بأهلها. وبعد هذا التأصيل لقضية النص، لا أعتقد أننا بحاجة إلى أن نتتبع النصوص في هذه المسألة؛ لأن هذه القضية انتهت عندهم اليوم إلى الإيمان بهذا المنتظر الذي ¬
لا يسمع له حس ولا خبر ولا يرى له عين ولا أثر. ولو كان للناس فيه حاجة لبقي رسول الله وهو أفضل منه، ولكن الأمة في غنى بقرآنها وسنة نبيها عن كل منتظر موهوم وكتاب مزعوم، وسيأتي نقض مسألة الغيبة. ولكن الشيعة ترى أن القرآن نص على "إمامتهم"، وكذلك تزعم أن أمر "النص" متفق عليه بين أهل السنة والشيعة، فهي تريد أن تشرك السنة في "أوهامها" وتخدع بذلك أتباعها.. وما دام الأمر كذلك فلندرس ما تقدمه كتب الشيعة في هذا الباب، وسنختار أقوى أدلتها في ذلك من الكتاب والسنة، ثم نعرج بعد ذلك على أدلتها الخاصة بها. ونختم القول بنقد "مسألة النص" من الكتاب والسنة، والاعتبار العقلي، والأمور المعلمة والمتفق عليها. أدلتهم من القرآن: قال شيخ الطائفة - كما يلقبونه - الطوسي: "وأما النص على إمامته من القرآن فأقوى ما يدل عليه قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} (¬1) ." (¬2) . وقال الطبرسي: "وهذه الآية من أوضح الدلائل على صحة إمامة علي بعد النبي بلا فصل" (¬3) . ويكاد شيوخهم يتفقون على أن هذا أقوى دليل عندهم؛ حيث يجعلون له الصدارة في مقام الاستدلال في مصنفاتهم (¬4) . أما كيف يستدلون بهذه الآية على مبتغاهم؟ فإنهم يقولون: "اتفق المفسرون والمحدثون من العامة والخاصة أنها نزلت في علي لما تصدق بخاتمه على المسكين في ¬
الصلاة بمحضر من الصحابة وهو مذكور في الصحاح الستة" (¬1) . و"إنما" للحصر باتفاق أهل اللغة، والولي بمعنى الأولى بالتصرف المرادف للإمام والخليفة (¬2) . فأنت ترى أن الشيعة تعتمد في استدلالها بالآية بما روي في سبب نزولها؛ لأنه ليس في نصها ما يدل على مرادها، فصار استدلالهم بالرواية لا بالقرآن، فهل الرواية ثابتة، وهل وجه استدلالهم سليم؛ يتبين هذا بالوجوه التالية: أولاً: أن زعمهم بأن أهل السنة أجمعوا على أنها نزلت في عليّ هو "من أعظم الدعاوى الكاذبة، بل أجمع أهل العلم بالنقل على أنها لم تنزل في علي بخصوصه، وأن عليًا لم يتصدق بخاتمه في الصلاة، وأجمع أهل العلم بالحديث على أن القصة المروية في ذلك من الكذب الموضوع" (¬3) . وقوله: إنها "مذكورة في الصحاح الستة" كذب؛ إذ لا وجود لهذه الرواية في الكتب الستة (¬4) . وقد ساق ابن كثير الآثار التي تروى في أن هذه الآية نزلت في علي حين تصدق بخاتمه، ¬
وعقب عليها بقوله: "وليس يصح شيء منها بالكلية لضعف أسانيدها، جهالة رجالها" (¬1) . ثانياً: أن هذا الدليل الذب يستدلون به ينقض مذهب الاثني عشرية؛ لأنه يقصر الولاية على أمير المؤمنين بصيغة الحصر "إنما" فيدل على سلب الإمامة عن باقي الأئمة، فإن أجابوا عن النقض بأن المراد حصر الآية في بعض الأوقات، أعني وقت إمامته لا وقت إمامة من بعده، وافقوا أهل السنة في أن الولاية العامة كانت له وقت كونه إمامًأ لا قبله، وهو زمان خلافة الثلاثة (¬2) . ثالثًا: أن الله تعالى لا يثني على الإنسان إلا بما هو محمود عنده، إما واجب وإما مستحب، والتصدق أثناء الصلاة ليس بمستحب باتفاق علماء الملة، ولو كان مستحبًا لفعله الرسول صلى الله عليه وسلم ولحض عليه، ولكرر فعله، وإن في الصلاة لشُغلاً، وإعطاء السائل لا يفوت؛ إذ يمكن للمتصدق إذا سلم أن يعطيه؛ بل إن الاشتغال بإعطاء السائلين يبطل الصلاة كما هو رأي جملة من أهل العلم (¬3) . رابعًا: أنه لو قدر أن هذا مشروع في الصلاة لم يختص بالركوع، فكيف يقال: لا ولي إلا الذين يتصدقون في حال الركوع، فإن قيل: هذه أراد بها التعريف بعلي، قيل له: أوصاف علي التي يعرف بها كثيرة ظاهرة، فكيف يترك تعريفه بالأمور المعروفة ويعرف بهذا الأمر الذي لا يعرفه إلا من سمعه وصدق به؟! وجمهور الأمة لا تسمع هذا الخبر ولا هو في شيء من كتب المسلمين المعتمدة (¬4) . خامسًا: وقولهم: إن عليًا أعطى خاتمه زكاة في حال ركوعه فنزلت الآية - مخالف للواقع؛ ذلك أن عليًا رضي الله عنه لم يكن ممن تجب عليه الزكاة على ¬
عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه كان فقيرًا، وزكاة الفضة إنما تجب على من ملك النصاب حولاً وعلي لم يكن من هؤلاء. كذلك فإن إعطاء الخاتم في الزكاة لا يجزي عند كثير من الفقهاء إلا إذا قيل بوجوب الزكاة في الحلي، وقيل إنه يخرج من جنس الحلي، ومن جوز ذلك بالقيمة فالتقويم في الصلاة متعذر، والقيم تختلف باختلاف الأحوال (¬1) . سادسًا: لما تبين أن الروايات التي أولوا بمقتضاها الآية باطلة سندًا ومتنًا، فلا متمسك لهم حينئذ بالآية بوجه سائغ؛ بل إن الآية حجة عليهم؛ لأنها جاءت بالأمر بموالاة المؤمنين، والنهي عن موالاة الكافرين (¬2) ، وليس للرافضة - فيما يظهر من نصوص وتاريخها - من ذلك نصيب. وهذا المعنى يدرك بوضوح من سياق الآيات؛ إذ قبل هذه الآية الكريمة جاء قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (¬3) . فهذا نهي صريح عن موالاة اليهود والنصارى بالود والمحبة والنصرة.. ولا يراد بذلك باتفاق الجميع الولاية بمعنى الإمارة، وليس هذا بوارد أصلاً، ثم أردف ذلك بذكر من تجب موالاته وهو الله ورسوله والمؤمنون، فواضح من ذلك أن موالاة المحبة والنصرة التي نهى عنها في الأولى هي بعينها التي أمر بها المؤمنين في هذه الآية بحكم المقابلة كما هو بين جلي من لغة العرب. قال الرازي: "لما نهى في الآيات المتقدمة عن موالاة الكفار، أمر في هذه الآية بموالاة من تجب موالاته" (¬4) . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إنه من المعلوم ¬
المستفيض عند أهل التفسير خلفًا عن سلف أن هذه الآية نزلت في النهي عن موالاة الكفار، والأمر بموالاة المؤمنين" (¬1) . سابعًا: قولهم: "إن المراد بقوله: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ} الإمارة - لا يتفق مع قوله سبحانه: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ} ؛ فإن الله سبحانه لا يوصف بأنه متول على عباده، وأنه أمير عليهم، فإنه خالقهم ورازقهم وربهم ومليكهم له الخلق والأمر، لا يقال: إن الله أمير المؤمنين كما يسمى المتولي مثل علي وغيره أمير المؤمنين (¬2) ، وأما الولاية المخالفة للعداوة فإنه يتولى عباده المؤمنين فيحبهم ويحبونه، ويرضى عنهم ويرضون عنه، ومن عادى له وليًا فقد بارزه بالمحاربة (¬3) . ، فهذه الولاية هي المقصودة في الآية (¬4) ، وقوله: {وَهُمْ رَاكِعُونَ} أي خاضعون لربهم منقادون لأمره، والركوع في أصل اللغة بمعنى الخضوع، أي يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة في حال الركوع وهو الخشوع والإخبات والتواضع لله" (¬5) . ثامنًا: إن الفرق بين الولاية بالفتح، والولاية بالكسر معروف في اللغة، فالولاية ضد العداوة وهي المذكورة في هذه النصوص، ليست هي الولاية بالكسر التي هي الإمارة، وهؤلاء الجهال يجعلون الولي هو الأمير ولا يفرقون بين اللفظين، مع أنه واضح "أن الولاء بالفتح وهو ضد العداوة، والاسم منه مولى وولي، ¬
والولاية بالكسر والاسم منها والي ومتولي" (¬1) . ولهذا قال الفقهاء: إذا اجتمع في الجنازة الوالي والولي فقيل: يقدم الوالي وهو قول أكثرهم، وقيل: يقدم الولي: فلفظ الولي والولاية غير لفظ الوالي (¬2) . ولو أراد سبحانه الولاية التي هي الإمارة لقال: (إنما يتولى عليكم) .. فتبين أن الآية دلت على الموالاة المخالفة للمعادة الثابتة لجميع المؤمنين بعضهم على بعض (¬3) ، ولهذا جاء قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا} بصيغة الجمع. وإذا كانت هذه أقوى أدلتهم - كما يقوله شيوخهم - تبين أنهم ليسوا على شيء؛ ذلك أن الأصل أن يستعمل في هذا الأمر العظيم - والذي هو عند الشيعة أعظم أمور الدين، ومنكره في عداد الكافرين - صيغة واضحة جلية، يفهمها الناس بمختلف طبقاتهم، يدركها العامي، كما يدركها العالم، ويفهمها اللاحق، كما يفهمها الحاضر، ويعرفها البدوي، كما يعرفها الحضري، فلما لم يستعمل مثل ذلك في كتاب الله دل على أنه لا نص كما يزعمون، فليست الآية المذكورة - وغيرها مما يستدلون به - من ألفاظ الاستخلاف المعروفة في لغة العرب، والقرآن نزل بلسان عربي مبين. فأين يذهب الشيعة بعد هذا؟ إما إلى الكفر بالقرآن وهو كفر بالإسلام، وإما ترك الغلو والتطرف والتعصب والرجوع إلى الحق، وهذا هو المطلوب. هذه أقوى آية يستدلون بها من كتاب الله، ويسمونها آية الولاية، ولهم تعلق بآيات أخرى ذكرها ابن المطهر الحلي، وأجاب عليها شيخ الإسلام ابن تيمية بأجوبة جامعة (¬4) ، ومن يراجع كتب التفسير والحديث عندهم يلاحظ أنهم ¬
أجروا القرآن في فلك الولاية والأئمة كما مضى نقل صورة من ذلك وهذا برهان عجزهم وفشلهم. وقد تبين أن القرآن ليس في ظاهره ما يدل على ما يذهبون إليه من النص على عليّ أو بقية الاثني عشر، وأن كل ما يستدلون به من آيات يحاولون أن يصرفوا معناها إلى ما يريدون بمقتضى روايات موضوعة، وتأويلات باطلة.. فهم في الحقيقة لا يستدلون بالقرآن، وإنما يستدلون بالأخبار، فدعواهم أخذ الأدلة من القرآن دعوى لا حقيقة لها. أدلتم من السنة: أما السنة المطهرة فقد تعلق الشيعة في إثبات النص من طرق أهل السنة بما ورد في فضائل علي - رضي الله عنه -، ويلاحظ أن باب الفضائل مما كثر فيه الكذب، ويقال بأن الشيعة هم الأصل فيه. يقول ابن أبي الحديد: "الكذب في أحاديث الفضائل جاء من جهة الشيعة" (¬1) . ولهذا تجد في كتب الموضوعات الأحاديث الموضوعة في حق علي أكثر من غيره من الخلفاء الأربعة. والفضائل الواردة في حق علي رضي الله عنه ليست من ألفاظ النصوص والوصايا والاستخلاف، لا في لغة العرب ولا في عرفهم ولا في شريعة الإسلام ولا في عقول العقلاء، إنما هي فضائل أدخلها هؤلاء في الدعاوى. وقد قام ابن حزم بحصر الأحاديث الواردة في فضائل علي فقال: وأما الذي صح من فضائل علي فهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلا أنّه لا نبيّ ¬
بعدي" (¬1) . وهذا لا حجة فيه للرافضة (¬2) . ¬
وقوله عليه السلام: "لأعطين الراية غدًا رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله" (¬1) ، وهذه صفة واجبة لكل مسلم وفاضل (¬2) . وعهده عليه السلام: "أن عليًا لا يحبه إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق" (¬3) . وقد صح مثل هذا في الأنصار- رضي الله عنهم - أنه لا يبغضهم من يؤمن بالله واليوم الآخر (¬4) . ¬
وأمّا "من كنت مولاه فعليّ مولاه" (¬1) ، فلا يصح من طريق الثقات أصلاً. "وأما سائر الأحاديث التي تتعلق بها الرافضة فموضوعة، يعرف ذلك من له أدنى علم بالأخبار ونقلتها" (¬2) . وقد نقل هذا النص عن ابن حزم شيخ الإسلام ابن تيمية وعقب عليه بقوله: «فإن قيل: لم يذكر ابن حزم ما في الصحيحين من قوله: "أنت مني وأنا منك" (¬3) . وحديث المباهلة (¬4) . والكساء (¬5) .؟ قيل: مقصود ابن حزم الذي في الصحيح ¬
من الحديث الذي لا يذكر فيه إلا علي، وأما تلك ففيها ذكر غيره، فإنه قال لجعفر: "أشبهت خلقي وخلقي". وقال لزيد: "أنت أخونا ومولانا"، وحديث المباهلة والكساء فيهما ذكر علي، وفاطمة، وحسن، وحسين رضي الله عنهم فلا يرد هذا على ابن حزم" (¬1) . ولكن الرافضة قد توسعوا في هذا الباب، واختلقوا الروايات، وزادوا على النصوص الصحيحة نصوصًا كاذبة.. وقد ذكرت كتب الموضوعات جملة من الروايات التي يستند إليها الروافض (¬2) ، قال ابن الجوزي: "فضائله - يعني عليًا - الصحيحة كثيرة، غير أن الرافضة لم تقنع، فوضعت له ما يضع ولا يرفع" (¬3) . وتجدهم في كتبهم يحتجون بكثير من الروايات التي يعزونها لكتب أهل السنة من باب الخداع والكذب إذ لا وجود لها أصلاً، ولذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ورأيت كثيرًا من ذلك المعزو الذي عزاه أولئك (يعني بهم شيوخ الروافض الذين اطلع على كتبهم) إلى المسند والصحيحين وغيرهما باطلاً لا حقيقة له" (¬4) . وقد جمع ابن المطهر الحلي جل ما يحتجون به في هذا الباب، وكشف شيخ الإسلام ما فيها من حق وباطل في "منهاج السنة" (¬5) . ¬
لكن للروافض وسائل خفية ماكرة في طريقتهم في الاحتجاج من كتب أهل السنة، لعل أول من تولى كشفها وشرحها علامة الهند شاه عبد العزيز الدهلوي في كتابه التحفة الاثني عشرية (¬1) ، وكذلك فعل شيخ العلماء الأعلام فريد دهره ووحيد عصره - كما يصفه الألوسي - الشيخ محمد الشهير بخواجة نصر الله الهندي المكي في كتابه "الصواعق المحرقة" وقد اختصره الألوسي - رحمه الله - وسماه "السيوف المشرقة" (¬2) . والشيخ السويدي - رحمه الله - قد ساهم في ذلك في كتابه "نقض عقائد الشيعة" (¬3) ، وقد أوردت طائفة من هذه الوسائل في رسالتي "فكرة التقريب" (¬4) . مما لا حاجة لإعادته. هذا وكما ذكرنا ما يراه الشيعة أنه أقوى أدلتهم من القرآن في إثبات الإمامة بحسب مفهومهم، نذكر أيضًا ما يرونه أقوى أدلتهم من السنة ونبين ما فيه. عمدة أدلتهم من السنة: عمدة أدلتهم هو ما يسمونه "حديث الغدير"، وقد بلغ من اهتمام الروافض بأمره أن ألف أحد شيوخهم المعاصرين كتابًا من ستة عشر مجلدًا، يثبت به صحة هذا الحديث وشهرته سماه: "الغدير في الكتاب والسنة والأدب". فهم يرون أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما وصل إلى غدير خم (¬5) . بعد منصرفه من حجة الوداع بيَّن للمسلمين أن وصيته وخليفته من بعده علي بن أبي طالب؛ حيث أمره الله عز وجل بذلك في قوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ ¬
فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (¬1) . وقد أورد شيخهم المجلسي في هذا المعنى (105) من أحاديثهم (¬2) ، وقال: "إنا ومخالفينا قد روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قام يوم غدير خم وقد جمع المسلمون فقال: أيها الناس، ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ فقالوا: اللهم بلى، قال صلى الله عليه وسلم: من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله.." (¬3) . وقد أوردت كتب التفسير عندهم هذا الحديث للاحتجاج به على إمامة علي (¬4) . عند قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ..} الآية (¬5) . وكذلك سائر كتبهم التي تتحدث عن مسألة الإمامة (¬6) . وهم يذكرون هذا الخبر في طليعة الأخبار التي يحتجون بها على أهل السنة. قال شيخهم عبد الله شبر: "ما روى العامة بأسرهم بطرق متواترة وأسانيد متضافرة تنيف على مائة طريق واتفقوا على صحته واعترفوا بوقوعه وهو حديث الغدير، ثم ذكر ملخصه بنحو ما ذكرناه آنفًا" (¬7) . ¬
والحديث احتج به ابن المطهر، وأجاب عليه شيخ الإسلام جوابًا شافيًا (¬1) ، كما ناقش الإمام محمد بن عبد الوهاب شيخهم المفيد في إيراده لهذا الحديث بالصورة التي تراها الشيعة (¬2) . وتعرض لهذا الحديث معظم أهل السنة الذين ردوا على الروافض (¬3) . ونوجز جواب أهل السنة فيما يلي: أن الحديث زاد الوضّاعون فيه، ولا يصحّ منه في نظر طائفة من أهل العلم في الحديث إلا قوله: "من كنت مولاه فعليّ مولاه" (¬4) ، بينما يرى بعض أهل العلم أن الحديث لا يصح منه شيء البتة. قال ابن حزم: "وأما من كنت مولاه فعلي مولاه فلا يصح من طريق الثقات أصلاً» (¬5) . ونقل عن البخاري وإبراهيم الحربي ¬
وطائفة من أهل العلم بالحديث أنهم طعنوا فيه وضعفوه (¬1) . قال شيخ الإسلام: "وأما قوله: "من كنت مولاه فعلي مولاه" فليس هو في الصّحاح، لكن هو ممّا رواه أهل العلم وتنازع النّاس في صحّته (¬2) . وأمّا قوله: "اللهمّ وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله" فهو كذب باتفاق أهل المعرفة بالحديث" (¬3) . ثم بين شيخ الإسلام أن الكذب يعرف من مجرد النظر في متنها، لأن قوله: "اللهم انصر من نصره.." خلاف الواقع التاريخي الثابت (¬4) . فلا تصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما قوله: "اللهم وال من والاه وعاد من عاداه" فهو مخالف لأصل الإسلام، فإنّ القرآن قد بيّن أنّ المؤمنين إخوة مع قتالهم وبغي بعضهم على بعض (¬5) . قال شيخ الإسلام ابن تيمية - بعد ذكره لخلاف أهل العلم في ثبوت قوله: "من كنت مولاه فعلي مولاه"-: إن لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قاله فلا كلام، فإن قاله فلم يرد به قطعًا الخلافة بعده؛ إذ ليس في اللفظ ما يدل عليه، وهذا الأمر العظيم يجب أن يبلغ بلاغًا مبينًا.. والموالاة ضد المعاداة. وهذا حكم ثابت لكل مؤمن (¬6) ، فعلي رضي الله عنه من المؤمنين الذين يتولون المؤمنين ويتولونه، وفي هذا الحديث إثبات إيمان علي في الباطن، والشهادة له بأنه يستحق الموالاة باطنًا وظاهرًا، ويرد ما يقوله فيه أعداؤه من الخوارج والنواصب، ولكن ليس فيه أنه ليس من المؤمنين مولى غيره، فكيف ورسول الله صلى الله عليه وسلم له موال وهم ¬
صالحوا المؤمنين (¬1) . قال الفيروزآبادي صاحب القاموس: "وأما ما يظنه من يظن من الرافضة أن في الآية (¬2) . أو في الحديث دلالة على أن عليًا - رضي الله عنه - هو الخليفة بعد النبي صلى الله عليه وسلم فمن الجهل المقطوع بخطأ صاحبه؛ فإن الولاية بالفتح هي ضد العداوة، والاسم منها مولى ووليّ، والولاية بكسر الواو هي الإمارة، والاسم منها والي ومتولي.. والموالاة ضد المعاداة وهي من الطرفين كقوله تعالى: {وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} (¬3) ، وقال: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} (¬4) . وقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} (¬5) ." (¬6) . والآيات في هذا المعنى كثيرة (¬7) . ويبدو أن الرافضة وجدوا أن الحديث لا يخدم أغراضهم، فزادوا فيه زيادات فاحشة. وقد رأى الإمام محمد بن عبد الوهاب في جملة من الزيادات التي زادها الروافض في هذا الحديث ما هو كفر بإجماع المسلمين (¬8) ، ومن يقرأ زياداتها في ذلك من خلال ما جمعه المجلسي في بحاره يرى من الكفر والضلال ما يستغرق شرحه الصفحات الطوال، ويكفي في الحكم بكذبه مجرد النظر إلى متنه. ¬
ومن المعلوم لغة وعقلاً وعرفًا، فضلاً عن الشرع أن الاستخلاف لا يكون بمثل هذه الألفاظ، لذلك قال الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب - كما يروي البيهقي - حينما قيل له: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: من كنت مولاه فعلي مولاه؟ فقال: أما والله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كان يعني الإمرة والسلطان والقيام على الناس بعده لأفصح لهم بذلك، كما أفصح لهم بالصلاة والزكاة وصيام رمضان وحج البيت، ولقال لهم: إن هذا ولي أمركم من بعدي فاسمعوا له وأطيعوا فما كان من وراء هذا شيء، فإن أنصح الناس للمسلمين رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬1) . والمعنى الذي في الحديث يعمّ كلّ مؤمن، ولكن خصّ بذلك عليًّا - رضي الله عنه - لأنّه قد نقم منه بعض أصحابه، وأكثروا الشّكاية ضدّه حينما أرسله النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قبل خروجه من المدينة لحجّة الوداع (¬2) ، ولذلك قال البيهقي: "ليس فيه إن صح إسناده نص على ولاية علي بعده فقد ذكرنا من طرقه في كتاب الفضائل ما دل على مقصود النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، وهو أنه لما بعثه إلى اليمن كثرت الشكاة عنه وأظهروا بغضه، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يذكر اختصاصه به ومحبته إياه ويحثهم بذلك على محبته وموالاته وترك معاداته فقال: من كنت وليه فعلي وليه، وفي بعض الروايات: من كنت مولاه فعلي مولاه، والمراد به ولاء الإسلام ومودته. وعلى المسلمين أن يوالي بعضهم بعضًا ولا يعادي بعضهم بعضًا" (¬3) . ¬
وبعد أن عرضنا لأهم دليل عندهم من كتاب الله، وأقوى دليل عندهم من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ندع استعراض باقي أدلتهم إلى كتب أهل السنة التي تتبعت شبه الروافض التي يثيرونها من كتب السنة وأتت عليها من القواعد. ولا شك أن التعرف على هذه الشبه والرد عليها أمر ميسور، إذ يكفي الرجوع إلى منهاج السنة وما ماثله من كتب أهل السنة.. ولكن استعراضها كلها في بحثنا يستوعب المجلدات ولن يأتي بجديد.. ولذلك اقتصرنا على أقوى دليل عندهم من الكتاب والسنة. وسبب آخر في غاية الأهمية وهو أن هؤلاء الروافض لا يؤمنون أصلاً بما جاء عن طريق أهل السنة ولو كان في غاية الصحة - كما سلف - لكن هم يثيرون هذه الشبهات ليحققوا بها أمرين - فيما أرى -: الأول: إقناع المتشككين والحائرين من أتباعهم، وذلك بخداعهم أن هذه العقائد متفق عليها بين السنة والشيعة، ولكن أهل السنة يكابرون. الثاني: إشغال أهل السنة بهذه المسائل والدفاع عنها حتى لا يتمكنوا من
الوصول إلى كتب الروافض المعتمدة في الحديث والرجال والتفسير ودراستها بعين بصيرة ناقدة.. وكشف الأمر أمام الأتباع الجهلة. ولذلك أقول: إن علماء السنة قدموا جهدًا عظيمًا في مواجهة الأمر الأول، أما الثاني فإن عدم توفر كتب الروافض - فيما يظهر - حال بينهم وبين نقدها، وكشف ما فيها، إلا في العصور المتأخرة، حيث بدأ علماء الهند والباكستان الإسهام في ذلك. والموضوع لا يزال بحاجة إلى مواصلة هذا الطريق وتضافر الجهود، بدراسات علمية موضوعية تبين الحقيقة وتكشف الزيف أمام أولئك المغرورين والمخدوعين. ونعود الآن إلى مسألة النص في كتب الشيعة بعد أن أشرنا إلى أقوى أدلتهم من طريق السنة. النص في كتب الشيعة: أصل قول الرافضة هو دعوى النص (¬1) . وقد تنوعت احتجاجاتهم على مسألة النص؛ فهي تارة كتب إلهية تنزل من السماء في النص على علي والأئمة، ولكن هذه الكتب غابت منذ سنة 260هـمع الغائب المنتظر (¬2) . وهي أخرى نصوص صريحة في القرآن في النص على الاثني عشر، ولكن هذه النصوص اختفت من القرآن بفعل الصحابة (¬3) ، وهي ثالثة نصوص صريحة من الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن الأمة أجمعت على كتمانها، وكان أول من أظهر القول بها - كما في رجال الكشي وغيره - ابن سبأ (¬4) . وهي تارة رابعة تأويلات باطنية لآيات القرآن بالأئمة، ولكن لا يعرف ¬
هذه التأويلات إلا الأئمة (¬1) . ويدعمون ذلك بدعاوى غريبة في الأئمة من معجزات خارقة، وعصمة مطلقة وكتب موروثة، وعلوم متلقاة عن الوحي السماوي.. وعلامات في الأئمة ينفردون بها دون سائر البشر.. إلخ. وقد تفرد بنقل دعوى النص في بدايتها ابن سبأ، ثم عممت هذه الدعوى على آخرين من آل محمد اختلفت فرق الشيعة في أعدادهم وأعيانهم اختلافًا كبيرًا، وقد تولى كبرها هشام بن الحكم وشيطان الطاق كما يقوله طائفة من أهل العلم، ثم كان استقرار القول باثني عشر إمامًا بعد سنة (260هـ) على يد ثلة ممن ادعوا واخترعوا فكرة الإمام الغائب، والنيابة عنه والارتزاق باسمه كما سيأتي في مسألة الغيبة. ورواياتهم في النص على الأئمة قد استحوذت على حيز كبير من كتبهم المعتمدة في الكافي والبحار وكتب التفسير، وعامة كتب شيوخهم كالمفيد وابن بابويه، والطوسي، وابن المطهر وغيرهم. وما دام قد قام ما يشبه الاتفاق بين كتب السنة والشيعة على أن الذي تولى كبر فرية النص هو ابن سبأ، ونقلت كتب الشيعة أن أحاديث النص كانت موضوع التداول السري بين العناصر المنتسبة للتشيع (¬2) ، ولم تعلن ذلك أمام علماء الإسلام بما فيهم أئمة أهل البيت، وهذا الجو السري مجال واسع للوضع والافتراء. وقد كانت بداية التدوين من عناصر ليست من الإسلام في شيء لافترائها على كتاب الله كالصفار وإبراهيم القمي والكليني، فما دام الأمر كذلك فهل يثق المسلم بمثل هذه النصوص التي تكاثرت على مر الزمان؟! وبعض الشيعة الأصوليين قد لا يثقون بكل ما جاء في هذه المدونات، حتى قال جعفر آل كاشف الغطا في كتابه "كشف الغطا" والذي تعتمد عليه الشيعة ¬
اليوم، قال: المحمدون الثلاثة كيف يوثق بتحصيل العلم عليهم (¬1) . والكتاب الوحيد الذي تطمئن الشيعة إلى كل كلمة فيه هو كتاب نهج البلاغة مع أنه لم يجمع إلا في القرن الرابع عن أمير المؤمنين في القرن الأول وليس له سند معروف (¬2) . فإذا كان هذا هو عمدة كتبه فما حال الكتب الأخرى؟ ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ليس أحد من الإمامية ينقل هذا النص بإسناد متصل فضلاً عن أن يكون متواترًا" (¬3) . ومع ذلك إذا أردنا أن نحتكم إلى نهج البلاغة نجد فيه ما ينفي دعوى النص ويهدم كل ما زعموه في هذا الباب، أو يثبت التناقض، والتناقض دليل بطلان المذهب. جاء في نهج البلاغة أن أمير المؤمنين عليًا قال - لما أراده الناس على البيعة -: "دعوني والتمسوا غيري فإنّنا مستقبلون أمرًا له وجوه وألوان لا تقوم له القلوب ولا تثبت عليه العقول، وإن تركتموني فإنّي كأحدكم، ولعليّ أسمعكم وأطوعكم لمن وليّتموه أمركم، وأنا لكم وزيرًا خير منّي لكم أميرًا" (¬4) . ¬
وهذا النص يدل على أنه لم يكن منصوصًا عليه بالإمامة من جهة الرسول وإلا لما جاز أن يقول: "دعوني.. إلخ، ولعلّي.. إلخ، وأنا لكم.. إلخ" (¬1) . فكيف يرفض الإمام المعصوم مبايعته بالإمامة في قوله: "دعوني" مع أن ذلك أهم ركن من أركان الدين؟ وكيف يأمرهم بمبايعة غيره في قوله: "التمسوا غيري" مع أن كتب الشيعة تقول: ثلاثة لا ينظر الله إليهم ولا يكلمهم ولهم عذاب أليم: "من بايع إمامًا ليس من عند الله.." (¬2) ؟! فهل يأمرهم بالكفر بعد الإيمان.. أو أن دعاوى الشيعة في هذا الباب لا صلة لها بالإمام عليّ، وإنما هي دسيسة حاقد، وصنيعة كافر موتور.. أراد تفرقة الأمة وبث النزاع والخلاف في صفوفها؟ إن ابن المطهر الحلي يقرر بأن من طلب الإقالة فليس بإمام؛ إذ "لو كان إمامًا لم يجز له طلب الإقالة" (¬3) . فكيف بمن يرد بيعته، ويأمر بمبايعة غيره.. ألا تكون من باب أولى ألا يكون عنده نص بإمامته من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وهذا المعنى الذي جاء في النهج يتفق مع ما أثبتته القرائن والأحداث التاريخية من أن الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم ما كانوا يتطلعون لمنصب الخلافة، ولا يستشرفونه.. لأن ذلك في نظرهم أمانة عظيمة، وتكليف باهظ. "وقد اتفق أهل السنة والشيعة على أن عليًا لم يدع إلى مبايعته في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان ولا بايعه على ذلك أحد" (¬4) . ولكن الشيعة تفسر ذلك بتفسير لا يليق بمقام أمير المؤمنين؛ إذ "تعتقد أنه كان يريد ذلك، وتعتقد أنه الإمام المستحق للإمامة دون غيره ولكن كان عاجزًا عنه" (¬5) . فكان يلوذ بالتقية، وتخلى ¬
عن أعظم أمر من أمور الدين كما يراها هؤلاء، وهذا ما حدا بطائفة من الشيعة وهي الكاملية إلى تكفيره - رضي الله عنه - لتخليه عن المطالبة بهذا الأمر، وهذا لأن من وضع هذا الاعتقاد لا يقصد نصرة أمير المؤمنين ومشايعته وإنما يرمي إلى تفرقة الأمة والكيد لها.. ولهذا كانت النتيجة لمقالته الحكم بالضلال على جميع الأمة بما فيهم أمير المؤمنين علي. ثم قرر أمير المؤمنين - كما يذكر صاحب النهج - في قوله: "ولعليّ أسمعكم وأطوعكم لِمَن وليّتموه أمركم" بأنه رضي الله عنه سيكون أكثر سمعًا وطاعة لمن ولاه المسلمون واختاروه خليفة.. وهذا ينقض دعوى التّقية في مبايعته لمن سبقه وطاعته لهم رضي الله عنه، إذ إن من يتعامل معهم بالتقية لا يكون كأحد المسلمين المبايعين فضلاً عن أن يكون أكثرهم سمعًا وطاعة. وقوله: "لمن وليتموه" يقتضي أن أمر الولاية يعود إلى رأي جمهور المسلمين واتفاقهم، لا إلى نص مزعوم، كما لا ينحصر في شخص معلوم. ثم يدفع أمر مبايعته مرة أخرى وبطريق آخر في قوله: "وأنا لكم وزيرًا خير مني لكم أميرًا" وهذا أيضًا ينفي ما نسبه الروافض إليه - رضي الله عنه - من التفاخر بالفضائل والتظاهر بالخوارق والمعجزات.. والطعن في الخلفاء السابقين للاحتجاج على أحقيته بالإمامة. لذلك تنسف الوصية من القواعد. وهو يشير في نص آخر إلى أن قبوله للخلافة لا عن رغبة بها ولا تطلع إليها، ولكنه استجابة لحمل المسلمين له على ذلك، ولم يدّع نصًّا ولا وصيّة فهو يقول: "والله ما كانت لي في الخلافة رغبة ولا في الولاية إربة (¬1) ، ولكنّكم دعوتموني إليها، وحملتوني عليها.." (¬2) . ويذكر أن ثبوت خلافته تم بمبايعة المهاجرين والأنصار الذين كانت الشورى لهم، وكان إجماعهم هو المعتبر في هذا المقام، ولو كان هؤلاء مرتدين ¬
كما تصفهم كتب الشيعة لم يجز اعتبار بيعتهم وإجماعهم، ولو كان ثمة نص لم يحتج إلى بيعتهم وإجماعهم. يقول أمير المؤمنين - كما في النهج -: "إنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه (فطرقة بيعته لا تختلف عمّن سبقه) فلم يكن للشّاهد أن يختار ولا للغائب أن يَرُدَّ (وهذا يوحي بأن بيعته لم تكن ثابتة من قبل كما يزعم الإمامية، وإنما بعد ثبوتها بالبيعة لم يكن ثمة مجال للرد حينئذ) وإنّما الشّورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل وسمّوه إمامًا كان ذلك رضى (فإجماعهم هو الأصل في الاختيار لا النص) ، فإن خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردّوه إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه على اتّباعه غير سبيل المؤمنين وولاّه ما تولّى". (¬1) . فهذا نص صريح - أيضًا - في عدم وجود نص، فالشورى - في أمر الإمامة - هي للمهاجرين والأنصار، ومن أجمعوا عليه هو الإمام، ومن خرج عن ذلك وجب قتاله لاتباعه غير سبيل المؤمنين، ولو كان هناك نص في الإمام لم يقل علي رضي الله عنه ذلك. فهذه النصوص من كتاب نهج البلاغة الذي ترى الشيعة أنه من الكلام الذي لا ريب فيه، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فهو من كلام المعصوم على وجه اليقين عندهم. ولا يشك الشيعة في كلمة منه، وهي تهدم كل ما بنوه من دعاوى حول النص على عليّ والأئمة. وهذا المعنى المروي عن علي في النهج يتفق مع ما جاء عن طريق أهل السنة عن أمير المؤمنين فيأخذ صفة الإجماع عند الفريقين، فقد روى الإمام أحمد في مسنده عن وكيع عن الأعمش عن سالم بن أبي الجعد عن عبد الله بن سبع قال: ¬
سمعت عليًّا يقول: (وذكر أنّه سيقتل) قالوا: فاستخلف علينا، قال: لا، ولكن أترككم إلى ما ترككم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالوا: ما تقول لربّك إذا أتيته؟ قال: أقول: "اللهمّ تركتني فيهما ما بدا لك ثم قبضتني إليك وأنت فيهم، فإن شئت أصلحتهم، وإن شئت أفسدتهم" (¬1) . وروى الإمام أحمد مثله عن أسود بن عامر بن الأعمش عن سلمة بن كهيل عن عبد الله بن سبع (¬2) . وفي هذا الباب روايات أخرى (¬3) . وقد قال العباس لعلي - رضي الله عنهما -: ".. فاذهب بنا إليه (يعني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) فنسأله فيمن هذا الأمر؟ فإن كان فينا عرفناه وإن كان في غيرنا أمرناه فوصاه بنا.." (¬4) . وقد كان هذا كما جاء في بعض الروايات "يوم الاثنين يوم الوفاة، فدل على أنه عليه السلام توفي عن غير وصية في الإمارة" (¬5) . وقد جاء في صحيح البخاري أنّهم "ذكروا عند عائشة أنّ عليًّا - رضي الله عنه وعنها - كان وصيًّا فقالت: متى أُوصِيَ إليه؟! وقد كنت مسندته إلى صدري، أو قالت: حجري فدعا بالطّست، فلقد انخنث في حجري فما شعرت أنّه قد مات فمتى أوصى إليه" (¬6) . ¬
وقد صح عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم لم يوص "أخرجه ابن أبي شيبة من طريق أرقم بن شرحبيل عنه" (¬1) . ¬
الاستدلال بالأمور المعلومة والمتفق عليها في مسألة النص
الاستدلال بالأمور المعلومة والمتفق عليها في مسألة النص: إن لدى أهل السنة أدلة ثابتة صحيحة عندهم في أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينص على عليّ بالإمامة. وما تنسبه الشيعة من نصوص لأهل السنة هي باطلة في أصلها أو في دلالتها، ولا حجة فيها عليهم. ولدى الشيعة أدلتهم في ثبوت النص سجلوها في كتبهم الخاصة بهم، وأهل السنة لا يؤمنون بها، ويرون أنها وضعت على الأئمة من قبل بعض الروافض. وما في كتب الشيعة من أدلة تنقض ما ادعوه في هذا الباب كما في نهج البلاغة وغيره يلجؤون في ردها إلى التأويل أو دعوى التقية، فليرجع في الحكم في هذه المسألة التي هي أصل الأصول عند الشيعة إلى الأمور المعلومة والمتواترة والمتفق عليها "نقدر - كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - أن الأخبار المتنازع فيها لم توجد أو لم يعلم أيها الصحيح، ونترك الاستدلال بها في الطرفين، ونرجع إلى ما هو معلوم بغير ذلك من التواتر وما يعلم من العقول والعادات وما دلت عليه النصوص المتفق عليها" (¬1) .: أولاً: لندع جانب الرّوايات المختَلَف فيها ونحتكم إلى كتاب الله سبحانه عن طريق فهمه من خلال اللّغة العربيّة. فالله سبحانه أنزل القرآن بلسان عربي ¬
مبين، وقد اتّفق أهل السّنّة والشّيعة على حدود العربيّة، واتّفقوا على ما وضع لمفرداتها من المعاني، ومعنى هذا أنّ اللّغة العربيّة يمكن أن تكون المرجع في الحكومة في هذا الأمر. فهل نجد في كتاب الله ذِكرًا للأئمّة الاثني عشر بأسمائهم، كما ذكر رسول الهدى صلى الله عليه وسلم باسمه ووصفه؛ لأنّ الإمام عندهم كالنّبي، ومنكر الإمام كمنكر النبي أو أعظم. وهل نجد لإمامة الاثني عشر ذكرًا صريحًا في كتاب الله كما ذكرت أركان الإسلام صريحة واضحة في مواضع متفرقة من كتاب الله من غير حاجة لمعرفة أصلها إلى تأويل باطني أو روايات موضوعة، والإمامة عندهم أعظم أركان الإسلام؟! فكيف لا تذكر ولا يشار إليها؟ أليس هذا دليلاً على أنّ مزاعم الإماميّة في هذا الباب لا أصل لها؟ وحينئذ لابد من رفض هذه المزاعم لمناقضتها لكتاب الله. وقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية في مناقشته لابن المطهر الحلي إلى هذا المنهج فقال: "فإن تركوا الرواية رأسًا أمكن أن تترك الرواية" (¬1) ، ثم طبق هذا المنهج في الاحتجاج لإبطال دعوى الروافض في الإمامة فقال: "وهب أنا لا نحتج بالحديث فقد قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ، أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (¬2) . فشهد لهؤلاء بالإيمان من غير ذكر للإمامة. وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (¬3) . فجعلهم صادقين في ¬
الإيمان من غير ذكر الإمامة. وساق شيخ الإسلام شواهد أخرى من هذا القبيل (¬1) ، وهي وغيرها تبين أن إمامة الاثني عشر التي تجعلها الاثنا عشرية أصل الدين وأساسه، ليس لها أصل في كتاب الله سبحانه. ثانيًا: أن هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله، فلو كان له أصل لنقل كما نقل أمثاله من حديثه، لاسيما مع كثرة ما ينقل في فضائل علي من الكذب الذي لا أصل له فكيف لا ينقل الحق الذي قد بلغ للناس؟! ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أمته بتبليغ ما سمعوا منه، فلا يجوز عليهم كتمان ما أمرهم الله بتبليغه (¬2) . ولو كتم الصّحابة مسألة النّصّ عليه لكتموا فضائل علي ومناقبه ولم ينقلوا منها شيئًا، وهذا خلاف الواقع، فَعُلِمَ أنّه لو كان شيء من ذلك لنقل؛ لأنّ "النّصّ على الخلافة واقعة عظيمة، والوقائع العظيمة يجب اشتهارها جدًا، فلو حصلت هذه الشهرة لعرفها المخالف والموافق، وحيث لم يصل خبر هذا النص إلى أحد من الفقهاء والمحدثين علمنا أنه كذب" (¬3) ، وإنما تفرد بنقله الشيعة "وهم فيه مدعون وفيما نقلوه متهمون لا سيما مع ما ظهر من كذبهم وفسقهم وبدعتهم وسلوكهم طرق الضلالة والبهث بادعاء المحال ومخالفة العقول، وسب أصحاب الرسول" (¬4) . والصحابة رضوان الله عليهم نقلوا إلينا ما صدر عنه صلى الله عليه وسلم من قوله وفعله، وأمره ونهيه، وأكله وشربه، وقعوده، ونومه، وسائر أحواله عليه الصلاة والسلام، فكيف يتصور أن ينص النبي صلى الله عليه وسلم على علي بالخلافة ولا ينقل ذلك بحال؟! قال ابن حزم: "وبرهان ضروري وهو أن رسول الله مات وجمهور الصحابة رضوان الله عليهم، حاشا من كان منهم في النواحي يعلم الناس الدين، فما منهم أحد أشار إلى علي بكلمة يذكر فيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نص عليه. ¬
ومن المحال الممتنع الذي لا يمكن البتة اتّفاق أكثر من عشرين ألف إنسان متنابذي الهمم والنّيّات والأنساب.. على طيّ عهد عهده رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، وما وجدنا قطّ رواية عن أحد في النّصّ المدّعى إلا رواية واهية عن مجهولين إلى مجهول يكنّى أبا الحمراء لا يعرف من هو في الخلق (¬1) . ثالثًا: أن الإمامة من المفرضات التي تتعلق بها مصالح الناس كلهم، فإذا قيل فيها: إن النبي صلى الله عليه وسلم نص على أحد بعينه، والصحابة غيروا وبدلوا، أمكن حينئذ لكل ملحد أن يقول: إن الصلوات الخمس كانت عشرًا وإنما الصحابة كتموها وجعلوها خمسًا بأهوائهم، وهكذا إذا ادعى مدع تغيير ما نص عليه النبي صلى الله عليه وسلم أمكن ذلك في جميع الفرائض ويتعدى ذلك إلى أن يحصل الثقة بشيء من أمور الدين أصلاً (¬2) . رابعًا: أن قول الروافض بالنص على علي كقول من يزعم النص على العباس، فإن قالوا: ليس النص على العباس بصحيح، قيل: ولا النص على عليّ صحيح، وبإبطالهم النص على العباس يبطل النص على عليّ، لأن الكل لم يرد به نص صحيح صريح، وهناك فرق شيعية كثيرة تنازع الروافض في النص على الكثير ممن تدعي إمامته، حتى ينازعها في إمامها الثاني عشر عشرون فرقة، والكل يزعم بطلان نص الآخر. والنص في اللغة مأخوذ من المنصة وهي الظاهر على الفرس لظهوره، فأين ظهور النص، ولو كان لذلك أصل لظهر واشتهر ونقل وتداولته الألسنة وشاع بين الخاص والعام، فإن قالوا: فقد نص ولكنهم كتموه، قيل لهم: فقد نص على عمه العباس ولكنهم كتموه، وأيضًا فإذا أمكن أن يكتم مثل هذا ولا يظهر يسوغ لقائل أن يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان له ابن ونص عليه وأن الصحابة حسدوه ¬
وقتلوه، وما أشبه هذه الدواعي الفاسدة التي لا يصير إليها عاقل (¬1) . خامسًا: أنا رأينا أبا بكر حيث نص على عمر ما اختلف فيه اثنان، ولا وقع في ذلك خفاء، وكذلك حيث نص عمر على ستة أنفس من قريش ظهر ذلك عنهم ظهورًا لا يسع جحده، لا يمكن رده، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل، ومبادرة الخلق إلى امتثال أمره أكثر، وتشوف النفوس إلى نقل ما صدر عنه أعظم، فمن المحال البين أن ينص أبو بكر على واحد ولا يقع خلاف فيمن استخلفه، ولا أمكن أحد أن يكتمه، وكذلك عمر، بل معاوية حيث نص على يزيد، اشتهر ذلك ونقل عنه اشتهارًا ظاهرًا متواترًا لا نزاع فيه ولا مراء، فكيف نقل نص معاوية، وكتم نص رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما نقله أحد (¬2) ، باعتراف الشيعة الذين يقرون بأن مسألة الولاية وأحاديثها سر من أسرارهم؟! سادسًا: كيف يقبل المهاجرون والأنصار والمسلمون جميعًا أمر أبي بكر في عمر حين استخلفه، ولم يختلف اثنان على إمامة عمر، ولا يقبلون أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في علي، فهل صار المسلمون أطوع لأبي بكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! "كيف يحتمل عقل عاقل، أو يشتبه على بر أو فاجر - إلا من أراد الله فتنته - أن المهاجرين والأنصار وجميع التابعين لهم بإحسان علموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نص على علي بن أبي طالب، وأمرهم أن يوالوه فعصوه وتركوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وأمرهم أبو بكر أن يولوا عمر بن الخطاب فاتبعوه وأطاعوه، وأمرهم عمر بن الخطاب أن يولوا الستة فلم يخالفوه ولم يعصوه" (¬3) . وكيف يتصور أن يقوم المسلمون بالصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد وغيرها من فرائض الإسلام ويتركون فريضة واحدة تحبط عملهم كله وهي بيعة علي، ¬
وأي مصلحة لهم في مبايعة أبي بكر وترك مبايعة علي؟ (¬1) . سابعًا: لو كان النّصّ على عليّ صحيحًا لم يجز لعليّ رضي الله عنه أن يدخل مع السّتّة الذي نصّ عليهم عمر، وكان يقول: أنا المنصوص عليّ فلا حاجة لي إلى الدّخول فيمن نصّ عليه عمر (¬2) ، ولم يجز له أن يبايع أبا بكر وعمر وعثمان، ولا يجوز أن يظنّ بعليّ - رضي الله عنه - أنّه أمسك عن ذكر النّصّ عليه خوف الموت، وهو الأسد شجاعة، وقد عرض نفسه للموت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّات، ثم يوم الجمل، وصفّين، فما الذي جبنه بين هاتين الحالتين؟ (¬3) . وألجأه إلى التّقية. وإذا كان منصوصًا عليه بالإمامة، ومفوضًا إليه أمر الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قلد أمرًا يجب عليه القيام به، ومدافعة المبطل عنه بكل وجه، وإن أهمل ذلك وتركه من غير سبب، فقد خالف وحاشاه من ذلك، ولو كان مغلوبًا عليه فلا بد أن يجري سبب يوجب عذره من أخذ حقه سيما مع التفويض إليه. ورأينا عثمان بن عفان وهو أضعف عندكم من علي لم يسلمها إلى غير أهلها، ورضي بحكم الله وقضائه، ولم يضيع ما جعل إليه، ورأينا أبا بكر حيث ارتدت قبائل العرب، ومنعوا الزكاة لم يهمل أمر الأمة ولو أهمله لانهدم الإسلام، فقاتلهم ونصره الله عليهم.. وما كان في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من يسكت عن حق رآه (¬4) . فكيف ينسب هؤلاء الروافض إلى أمير المؤمنين علي الرضى بالباطل، والجبن والخوف عن المطالبة بحقه، حتى ارتد الناس كلهم بسبب تأخره عن إعلان حقه والدعوة إليه، ولم يبق منهم إلا النزر اليسير - كما يقولون - وهو أسد الله وأسد ¬
رسوله؟! بل لم ينقل أنه دعا إلى نفسه، وجادل من أجل بيعته، فضلاً عن القتال، ولو وقع ذلك لاشتهر، وقد وقعت مناسبات مهمة، وأحداث خطيرة توجب إظهار النص كحادثة السقيفة، وحادثة الشورى، فلم يفعل شيئًا من ذلك (¬1) ، بل إنه دعا أصحابه إلى بيعته كما تقر الرافضة ولم يدّع نصًا (¬2) . وقد ذكر شيخ الإسلام بأن من الطرق التي نعلم منها بالاضطرار أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبلغ شيئًا من إمامة علي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات وطلب بعض الأنصار أن يكون منهم أمير، ومن المهاجرين أمير (¬3) . فأنكروا ذلك عليه وقالوا: الإمارة لا تكون إلا في قريش (¬4) . وروى الصحابة في متفرقة الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ¬
أن الإمامة في قريش، ولم يرو واحد منهم لا في ذلك المجلس ولا غيره ما يدل على إمامة علي، وبايع المسلمون أبا بكر، وكان أكثر بني عبد مناف من بني أمية وبني هاشم وغيرهم لهم ميل قوي إلى علي بن أبي طالب يختارون ولايته، ولم يذكر أحد منهم هذا النص، وهكذا جرى الأمر في عهد عمر وعثمان، وفي عهده أيضًا لما صارت له ولاية لم يذكر هو ولا أحد من أهل بيته ولا من الصحابة المعروفين هذا النص. ولو كان للنص وجود ما حصل الاختلاف في عهده، إذ لم تتفق الأمة فيه لا عليه ولا على غيره. وقد جرى تحكيم الحكمين ومعه أكثر الناس فلم يكن في المسلمين من أصحابه فضلاً عن غيرهم من احتج في مثل هذا المقام الذي تتوفر فيه الهمم والدواعي على إظهاره، وقد احتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم: "تقتل عمارًا الفئة الباغية" (¬1) ، وهذا الحديث خبر واحد أو اثنين أو ثلاثة ونحوهم، وليس هذا متواترًا، والنص عند القائلين به متواتر، فيا لله العجب كيف ساغ عند الناس احتجاج شيعة علي بذلك الحديث، ولم يحتج أحد منهم بالنص (¬2) .؟! أما دعوى النص على إمامة الاثني عشر، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم نص على ذلك فهي أعظم استحالة، وأوضح بطلانًا، وأظهر كذبًا، فلم ينقله إلا الاثنا عشرية، وسائر فرق الشيعة تكذبها وهم فرقة من نحو سبعين فرقة من طوائف الشيعة. والنصوص التي ينقلها الاثنا عشرية تعارضها نصوص القائلين بإمامة غير ¬
الاثني عشر من فرق الشيعة البالغة الكثرة، فإن كل طائفة تدعي من النص غير ما تدعيه الاثنا عشرية. وهذه الدعوى لم تظهر إلا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم بأكثر من مائتين وخمسين سنة، فهو من اختلاق متأخري الشيعة، ومن قبلهم يخالفهم في ذلك. وأهل السنة وعلماؤهم وهم أضعاف أضعاف الشيعة يعلمون أن هذا كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم علمًا يقينًا لا يخالطه الريب، ويباهلون الشيعة على ذلك. والمنقول بالنقل المتواتر عن أهل البيت يكذب مثل هذا وأنهم لم يكونوا يدعون أنه منصوص عليهم بل يكذبون من يقول ذلك، فضلاً عن أن يثبتوا النص على اثني عشر (¬1) . ولو كان الأمر في الإمامة على ما يقول هؤلاء الروافض لَمَا كان الحسن رضي الله عنه في سعة من أن يسلّمها إلى معاوية رضي الله عنه، فيعينه على الضّلال وعلى إبطال الحقّ وهدم الدّين، فيكون شريكه في كلّ مظلمة، ويبطل عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويوافقه على ذلك أخوه الحسين رضي الله عنهما، فما نقض قطّ بيعة معاوية إلى أن مات، فكيف استحلّ الحسن والحسين رضي الله عنهما إبطال عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهما طائعين غير مكرهين؟ مع أنّ الحسن معه أزيد من مائة ألف عنان يموتون دونه. فتالله لولا أن الحسن رضي الله عنه علم أنه في سعة من إسلامهم إلى معاوية، وفي سعة من أن لا يسلمها لما جمع بين الأمرين، فأمسكها ستة أشهر لنفسه وهي سحقه، وسلمها بعد ذلك لغير ضرورة، وذلك له مباح؛ بل هو الأفضل بلا شك، لأن جده رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خطب بذلك على المنبر وقال: "إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين طائفتين عظيمتين من المسلمين" رويناه من طريق البخاري (¬2) . ¬
هذا والبراهين المعلومة الضرورية في هذا الباب كثيرة، ويكفي بعضها لمعرفة الحق لمن تجرد عن الهوى والتعصب.
حكم من أنكر إمامة أحد الاثنى عشر
حكم من أنكر إمامة أحد الاثنى عشر: الإمامة صنو النبوة أو أعظم، وهي أصل الدين وقاعدته الأساسية عندهم.. لهذا جاء حكم الشيعة الاثني عشرية على من أنكر إمامة واحد من أئمتهم الاثني عشر مكملاً لهذا الغلو، حيث حكموا عليه بالكفر والخلود في النار. قال ابن بابويه: "واعتقادنا فمن جحد إمامة أمير المؤمنين والأئمّة من بعده أنّه بمنزلة من جحد نبوّة الأنبياء". واعتقادنا فيمن أقر بأمير المؤمنين وأنكر واحدًا من بعده من الأئمة أنه بمنزلة من آمن بجميع الأنبياء ثم أنكر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم (¬1) . فهذا النص يقتضي أن الاثني عشرية تكفر كل فرق المسلمين حتى فرق الشيعة التي وجدت على مدار التاريخ، مع أنها تتلقى عنهم دينها، لأن رواتهم من رجالها. وقال شيخهم الطّوسي: "ودفع الإمامة كفر، كما أنّ دفع النّبوّة كفر، لأنّ الجهل بهما على حدّ واحد" (¬2) . وهذا فيما يبدو لم يقنع ابن المطهّر الحلّي فرأى أن إنكار إمامة الاثني عشر أعظم من إنكار النبوة، فقال: "الإمامة لطف عامّ، والنّبوّة لطف خاصّ لإمكان خلو الزّمان من نبيّ حيّ بخلاف الإمام، وإنكار اللّطف العامّ شرّ من إنكار اللّطف ¬
الخاصّ" (¬1) . فهو يجعل من لم يؤمن بأئمتهم أشد كفرًا من اليهود والنصارى، وقد بنى ذلك على أن الزمان لا يخلو من إمام، وهو إشارة إلى عقيدتهم بالإيمان بوجود إمامهم المنتظر الغائب، والذي أنكره طوائف من الشيعة، وقرر المحققون من علماء النسب والتاريخ أنه لم يولد أصلاً - كما سيأتي - ولكن شيخ الشيعة يرى أن إنكاره أعظم الكفر. وينقل شيخهم المفيد اتفاقهم على هذا المذهب في تكفير أمة الإسلام فيقول: "اتّفقت الإماميّة على أنّ من أنكر إمامة أحد من الأئمّة وجحد ما أوجبه الله تعالى له من فرض الطّاعة فهو كافر ضالّ مُستحقّ للخلود في النّار" (¬2) . وبلغ الأمر بشيخهم نعمة الله الجزائري أن يعلن انفصال الشيعة عن المسلمين بسبب قضية الإمامة فيقول: "لم نجتمع معهم على إله ولا نبي ولا على إمام، وذلك أنهم يقولون: إن ربهم هو الذي كان محمد صلى الله عليه وسلم نبيه، وخليفته بعده أبو بكر، ونحن لا نقول بهذا الرب ولا بذلك النبي، بل نقول إن الرب الذي خليفته نبيه أبو بكر ليس ربنا ولا ذلك النبي نبينا" (¬3) . وبعد هذا التكفير العام، خصصوا باللعن والحكم بالردة جميع فئات المسلمين ما عدا الاثني عشرية فتناول تكفيرهم: 1- الصحابة رضوان الله عليهم، وعلى رأسهم خير هذه الأمة بعد خاتم الأنبياء أبو بكر وعمر رضي الله عنهما. 2- أهل البيت. 3- خلفاء المسلمين وحكوماتهم. 4- الأمصار الإسلامية وأهلها. ¬
1- الصحابة رضوان الله عليهم
5- قضاة المسلمين. 6- أئمة المسلمين وعلمائهم. 7- الفرق الإسلامية. 8- الأمة. وسأذكر عقيدتهم في هذه الفئات تفصيلاً فيما يلي: 1- الصحابة رضوان الله عليهم: كتب الشيعة مليئة باللعن والتفكير لمن رضي الله عنهم ورضوا عنه، من المهاجرين والأنصار، وأهل بدر، وبيعة الرضوان، وسائر الصحابة أجمعين، ولا تستثني منهم إلا النزر اليسير الذي لا يبلغ عدد أصابع اليد، وأصبحت هذه المسألة بعد ظهور كتبهم وانتشارها من الأمور التي لا تحجب بالتقية. وإ كانت من قبل قد تخفى على بعض أئمة الإسلام. فقد جاء في شرح مسلم للنووي بأن الإمامية يقولون بأن الصحابة مخطئون في تقديم غير علي لا كفار (¬1) . ولكن من أهل العلم وأصحاب المقالات من اطلع على هذا الأمر عند الإمامية، قال القاضي عبد الجبار: "وأما الإمامية فقد ذهبت إلى أن الطريق إلى إمامة الاثني عشر النص الجلي، الذي يكفر من أنكره، ويجب تكفيره، فكفروا لذلك صحابة النبي عليه السلام" (¬2) . وقريب من هذا المعنى قال عبد القاهر البغدادي (¬3) ، وابن تيمية (¬4) . وغيرهما (¬5) . ¬
ولكن العدد الذي تستثنيه الرافضة من حكمها العام بالتكفير لم أجد من أشار إليه بما يتفق مع ما جاء في كتب الاثني عشرية، فيقول عبد القاهر البغدادي: "وأما الإمامية فقد زعم أكثرهم (¬1) . أن الصحابة ارتدت بعد النبي صلى الله عليه وسلم سوى علي وابنيه ومقدار ثلاثة عشر منهم". ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن الرافضة تقول: إن المهاجرين والأنصار كتموا النص، فكفروا إلا نفرًا قليلاً.. إما بضعة عشر أو أكثر، ثم يقولون: إن أبا بكر وعمر ونحوهما مازالا منافقين. وقد يقولون: بل آمنوا ثم كفروا" (¬2) . وستجد أن العدد الذي تستثنيه الاثني عشرية أقل مما يذكرون. هذا ما جاء في كتب أهل السنة وغيرهم حول مذهب الشيعة في الصحابة، وسنرى فيما يلي ماذا تقول الشيعة من خلال مصادرها المعتمدة عندها. تقول كتب الاثني عشرية: إن الصحابة بسبب توليتهم لأبي بكر قد ارتدوا إلا ثلاثة، وتزيد بعض رواياتهم ثلاثة أو أربعة آخرين رجعوا إلى إمامة علي، ليصبح المجموع سبعة، ولا يزيدون على ذلك. ولقد تداولت الشيعة أنباء هذه "الأسطورة" في المعتمد من كتبها، فسجلوا ذلك في أول كتاب ظهر لهم وهو كتاب سليم بن قيس (¬3) ، ثم تتابعت كتبهم في تقرير ذلك وإشاعته وعلى رأسها الكافي (¬4) . أوثق كتبهم الأربعة، ورجال الكشي (¬5) . عمدتهم في كتب الرجال، وغيرها من مصادرهم كتفسير العياشي (¬6) ، ¬
والبرهان (¬1) ، والصافي (¬2) ، وتفسير نور الثقلين (¬3) ، والاختصاص (¬4) ، والسرائر (¬5) ، وبحار الأنوار (¬6) . وليست هذه مجرد آراء لبعض شيوخهم، ولكنها روايات عن معصوميهم تحمل صفة "العصمة" والقدسية عندهم. أما السب لذلك الجيل القرآن الفريد، على ألسنة شيوخهم فهو قد سود معظم كتبهم. ولو ذهبت أسرد للقارئ ما رأيت من هذا الغثاء لبلغ مجلدات، وسأكتفي بذكر بعض النصوص التي فيها التصريح بالتكفير؛ إذ هو يكشف ويغني عما دونه من سب وطعن. روى ثقتهم الكليني في الكافي: "عن حمران بن أعين قال: قلت لأبي جعفر عليه السّلام: جعلت فداك، ما أقلنا لو اجتمعنا على شاة ما أفنيناها؟ فقال: ألا أحدّثك بأعجب من ذلك، المهاجرون والأنصار ذهبوا إلا - وأشار بيده - ثلاثة" (¬7) (¬8) . فالتكفير - كما ترى - يتناول أفضل صحابة رسول الله وهم المهاجرون ¬
والأنصار، ويبين أن الشيعة في عصر أبي جعفر لا يرون أحدًا من المسلمين على الإسلام إلا قلة شاذة تقول برأيهم، وهي لا تشكل بالنسبة إلى مجموع المسلمين شيئًا، حتى إنها لو اجتمعت على أكل شاة لما أتت عليها، وقد شكوا ذلك إلى إمامهم، فقال لهم معزيًا بأن الشيعة الأوائل كانوا لا يتجاوزون الثلاثة والباقي في حكم المرتدين. وهذا النص قد يبين أن الرافضة إلى عهد أبي جعفر محمد الباقر، كانوا قلة شاذة بالنسبة للمسلمين، وأن دعوتهم لم تجد القبول، ولم تحظ بالانتشار، وكانت تعيش في سراديب التقية والكتمان، ويعزي رؤساؤها أتباعهم بما يفترونه على أهل البيت من أمثال هذه المفتريات. ولم تكشف رواية الكافي أسماء الثلاثة الذين سلموا من الردة، حيث قالوا بمذهب الرافضة، لكن مذهب الرفض لم يظهر أصله إلا بعد مقتل عثمان، فهؤلاء ليسوا بصحابة، ولا يبعد أن يكون هؤلاء من السبئيين الذين بدأ النشاط الرافضي على أكتافهم، ولا يستبعد أن هؤلاء السبئيين يتخذون أسماء "مستعارة" وقد تكون أسماء صحابة لهم مكانتهم. وهذا ما جاء في رجال الكشي ".. عن حنان بن سدير عن أبيه عن أبي جعفر عليه السلام قال: كان الناس أهل الردة بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثة، فقلت: ومن الثلاثة؟ فقال: المقداد بن الأسود، وأبو ذر الغفاري، وسلمان الفارسي، ثم عرف الناس بعد يسير، وقال: هؤلاء الذين دارت عليهم الرحا وأبوا أن يبايعوا لأبي بكر حتى جاءوا بأمير المؤمنين مكرهًا فبايع" (¬1) . فهذا النص بالإضافة إلى تكفيره لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد يشير إلى الخلية الأولى لمذهب الرفض وأنها تتقنع بهذه الأسماء المستعارة. وحتى هؤلاء الثلاثة ¬
الذين تستثنيهم أخبار الشيعة، لم يسلموا من شك في "معرفة" الإمام التي هي أصل الإيمان باستثناء واحد منهم، ولذلك حينما قال أبو جعفر: ارتد الناس إلا ثلاثة، أردف قائلاً: «إن أردت الذي لم يشك، ولم يدخله شيء فالمقداد. فأما سلمان فإنه عرض في قلبه عارض أن عند أمير المؤمنين عليه السلام اسم الله الأعظم لو تكلم به لأخذتهم الأرض، وهو هكذا، فلبب (¬1) . ووجئت (¬2) . عنقه حتى تركت كالسلقة (¬3) ، فمر به أمير المؤمنين عليه السلام فقال له: يا أبا عبد الله، هذا من ذاك، بايع، فبايع. وأما أبو ذر فأمر أمير المؤمنين عليه السلام بالسكوت، ولم يأخذه في الله لومة لائم، فأبى إلا أن يتكلم فمر به عثمان فأمر به" (¬4) . - كذا -. وهؤلاء الثلاثة الذين نجوا من الردة، لم يسلموا أيضًا من قدح الشيعة وعيبهم، فتذكر أخبارهم بأن العلاقة بين هؤلاء الثلاثة طيبة في الظاهر، ولكن لو علم كل واحد منهم بما في قلب الآخر لقتله، أو ترحم على قاتله؛ لأن كلاً منهم أجنبي في باطنه واعتقاده عن صاحبه، ففي رجال الكشي "قال أمير المؤمنين: يا أبا ذر، إن سلمان لو حدثك بما يعلم لقلت: رحم الله قاتل سلمان" (¬5) . وعن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا سلمان، لو عرض علمك على مقداد لكفر، يا مقداد لو عرض علمك على سلمان لكفر (¬6) . ولذلك فإن التعامل قائم بينهم (وهم خلص الشيعة في زعم الروافض) على أساس التقية والكتمان، "فعن جعفر عن أبيه رضي الله عنه قال: ذكرت التقية يومًا ¬
عند علي عليه السلام فقال: إن عَلِمَ أبو ذر ما في قلب سلمان لقتله، وقد آخر رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما فما ظنك بساير الخلق" (¬1) . وهذه النصوص تنطبق على أهل البدعة والكفر؛ لأنك {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} ويبرأ منها صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. لكن هذه النصوص يؤخذ منها تكفير الشيعة لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما يؤخذ منها أيضًا الصورة غير المنظورة في الظاهر لأهل الرفض؛ حيث قتلهم وتناكر قلوبهم، وإضمار السوء لبعضهم، واعتقادهم بأنه ليس على الإيمان سواهم، وهذه خصائص الرعيل الأول عندهم فما ظنك بسائرهم؟ وتقول نصوص الشيعة: إن هؤلاء الثلاثة قد لحق بهم أربعة آخرون، ليصل عدد المؤمنين (أو قل: الروافض) في عصر الصحابة إلى سبعة، ولكنهم لم يتجاوزوا هذا العدد. وهذا ما تتحدث عنه أخبارهم حيث تقول: "عن الحارث بن المغيرة النصري، قال: سمعت عبد الملك بن أعين يسأل أبا عبد الله رضي الله عنه فلم يزل يسأله حتى قال له: فهلك الناس إذًا (¬2) .؟ فقال: إي والله يا ابن أعين هلك الناس أجمعون، قلت: من في الشرق ومن في الغرب؟ قال: فقال: إنها فتحت على الضلال إي والله هلكوا إلا ثلاثة. ثم لحق أبو ساسان (¬3) ، وعمار (¬4) ، وشتيرة (¬5) ، ¬
وأبو عمرة (¬1) . وصاروا سبعة" (¬2) . وتؤكد جملة من نصوصهم على أن العدد لم يزد على ذلك. قال أبو جعفر: "وكانوا سبعة، فلم يكن يعرف حق أمير المؤمنين عليه السلام إلا هؤلاء السبعة" (¬3) . وكان أبو عبد الله يقسم على ذلك فيقول: "فوالله ما وفى بها إلا سبعة نفر" (¬4) . وتتفاوت أخبارهم وتختلف في تعيين بعض هؤلاء السبعة (¬5) ، فيما يبدو أنه اختلاف بين الفرق الشيعية في تعيين آحادهم، وكل يضع من جهته، أو لأن من طبيعة الكذب الاختلاف والتناقض. وإن كان يحتمل - كما قلت - أن الرافضة تكفر الصحابة كلهم، وأن هؤلاء السبعة رموز على "الخلية الأولى للرفض" لأن صفاتهم، وعلاقاتهم، ومذهبهم ليست من الصحابة في شيء. ¬
والرافضة تؤول أحيانًا (¬1) . آيات الإيمان والثناء على الصحابة بهذا العدد اليسير الذي تستثنيه من الأصل العام في التكفير، ففي تفسير القمي في قوله سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ، أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (¬2) . قال: "فإنها نزلت في أمير المؤمنين عليه السلام، وأبي ذر وسلمان والمقداد" (¬3) . وفاتهم أن الشيعة إنما تثني على هؤلاء الثلاثة، وتدخلهم في عداد المؤمنين، لا لهذه الأوصاف المذكورة في الآية ولكن لأنهم آمنوا بإمامة علي، وكفروا بإمامة أبي بكر، وهذا الأصل الذي تزن به الشيعة من خالفها ليس له ذكر في هذه الآية التي جعلوها نصًا في إيمان الثلاثة، وكذلك الشأن في آيات القرآن كلها فهي رد عليهم لا حجة لهم. وجعلوا آيات الكفر والكافرين والشرك والمشركين في سائر الصحابة أجمعين، كما نجد ذلك في عدد من أبواب الكافي وبحار الأنوار (¬4) . ومع هذا الحكم العام في التكفير لأصحاب محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وأنصاره وأحبابه، وأصفيائه، فإنهم يخصون، كبار الصحابة رضوان الله عليهم بمزيد من الطعن والتكفير، ولهم في ذلك أقوال ونصوص تقشعر من سماعها جلود المؤمنين. فهم يخصون الخلفاء الثلاثة أبا بكر وعمر وعثمان، وزراء رسول الله وأصهاره بالنصيب الأوفى من التكفير، وقد عقد شيخهم المجلسي في كتابه البحار - الذي عده بعض شيوخهم المعاصرين المرجع الوحيد في تحقيق معارف ¬
المذهب - (¬1) . - بابًا بعنوان "باب كفر الثّلاثة ونفاقهم وفضائح أعمالهم" (¬2) . وعقد شيخهم الآخر البحراني عدة أبواب في هذا الموضوع منها: "الباب 97: اللّذان تقدّما على أمير المؤمنين عليهما مثل ذنوب أمّة محمّد إلى يوم القيامة (¬3) . والباب 98 أن إبليس أرفع مكانًا في النار من عمر، وأن إبليس شرف عليه في النار» (¬4) . وجاءت رواياتهم مغرقة في هذا الكفر تضرب في كل اتجاه فيه، فهي مرة لا تكفر الشيخين فحسب؛ بل ترى أن من أعظم الكفر الحكم بإسلامهما حتى روى صاحب الكافي: "ثلاثة لا يكلّمهم الله يوم القيامة ولا يزكّيهم ولهم عذاب أليم: من ادّعى إمامة من الله ليست له (¬5) ، ومن جحد إمامًا من الله (¬6) ، ومن زعم أنّ لهما في الإسلام نصيبًا" (¬7) ، وحينًا تنعتهم بأنّهم الجبت والطّاغوت (¬8) ، وتارة تصبّ عليهم اللّعنات ولا سيّما في أدعية الزّيارات (¬9) ، و"أذكار" ما بعد الصّلوات حيث يستبدلونها باللّعن على الشّيخين وسائر المسلمين (¬10) . وقد نقل بعض من كتب عن الشيعة في هذا العصر شيئًا من سوآت الشيعة وعواتها في تكفير صديق الأمة وفاروقها (¬11) ، ولكن الذي يمكن أن أضيفه هنا، ¬
أن ما كتبه شيوخ الشّيعة في ظل الدّولة الصّفويّة كان فيه التّكفير لأفضل أصحاب محمّد صلى الله عليه وسلم صريحًا ومكشوفًا، وما كتبه أوائل الشّيعة في عصر الكليني وما بعده كان بلغة الرّمز والإشارة، وقد كشف أقنعة هذه الرموز شيوخ الشيعة المتأخرون حينما ارتفعت التقية إلى حد ما وظهرت الاثنا عشرية على حقيقتها. فمن مصطلحاتهم الخاصة: تسمية الشيخين بالفصيل ورمع، وذلك لأنهم لا يجرؤون على التصريح بالاسم في إبان قوة دولة الإسلام. جاء في تفسير العيّاشي: ".. قلت (الراوي يقول لإمامهم) : ومن أعداء الله أصلحك الله؟ قال: الأوثان الأربعة، قال: قلت: من هم؟ قال: أبو الفصيل، ورمع، ونعثل، ومعاوية، ومن دان دينهم، فمن عادى هؤلاء فقد عادى أعداء الله" (¬1) . قال شيخهم المجلسي في بيانه لهذه المصطلحات: "أبو الفصيل أبو بكر؛ لأنّ الفصيل والبكر متقاربان في المعنى، ورمع مقلوب عمر، ونعثل هو عثمان" (¬2) . وعند قوله سبحانه: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ} (¬3) . روى العياشي عن أبي بصير عن جعفر بن محمد عليه السلام قال: "يؤتى بجهنم لها سبعة أبواب، بابها الأول للظالم وهو زريق، وبابها الثاني لحبتر، والباب الثالث للثالث، والرابع لمعاوية، والباب الخامس لعبد الملك، والباب السادس لعسكر بن هوسر، والباب السابع لأبي سلامة، فهم أبواب لمن اتبعهم" (¬4) . قال المجلسي في تفسير هذا النص: "زريق كناية عن الأول؛ لأن العرب تتشام بزرقة العين، والحبتر هو الثعلب، ولعله إنما كنى عنه لحيلته ومكره، وفي غيره من الأخبار وقع بالعكس وهو أظهر؛ إذ الحبتر بالأول أنسب ويمكن أن ¬
يكون هنا أيضًا المراد ذلك، إنما قدم الثاني لأنه أشقى وأفظ وأغلظ، وعسكر بن هوسر كناية عن بعض خلفاء بني أمية أو بني العباس، وكذا أبي سلامة كناية عن أبي جعفر الدوانيقي، ويحتمل أن يكون عسكر كناية عن عائشة وساير أهل الجمل؛ إذ كان اسم جمل عائشة عسكرًا وروي أنه كان شيطانًا" (¬1) . كما يردّ في كثير من نصوصهم الإشارة إلى هذين العظيمين بلقب "فلان وفلان"، كما في روايتهم التي تقول: عن أبي عبد الله في قوله: {وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} (¬2) . قال: وخطوات الشّيطان والله ولاية فلان وفلان (¬3) . وفي قوله سبحانه: {..أَوْ كَظُلُمَاتٍ} قالوا: فلان وفلان {فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ} يعني نعثل {مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ} طلحة والزبير {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} (¬4) . معاوية.. (¬5) . قال المجلسي: المراد بفلان وفلان أبو بكر وعمر، ونعثل هو عثمان (¬6) . ومن مصطلحاتهم أيضًا للرمز للشيخين ما جاء في تأويلهم سورة الليل وفيها {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا} هو قيام القائم {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} حبتر ودلام غشيًا عليه الحق (¬7) . قال شيخ الدولة الصفوية - في زمنه - (المجلسي) : حبتر ودلام: أبو بكر وعمر (¬8) . ¬
وتجد بعض النصوص التي فيها الرمز للشيخين في كتب أوائلهم، ولكن حينما ينقلها عنهم بعض شيوخ الدولة الصفوية يستبدل الرمز بالاسم الصريح (¬1) . كما تطاولوا بالسب والتكفير، وعلى سبيل التعيين على كثير من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويختارون منهم أعيانهم وخيارهم، فكما طعنوا وكفروا الخلفاء الثلاثة، فكذلك يفعلون في آخرين من فضلاء الصحابة وعظمائهم كعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وأبي عبيدة بن الجراح، وسالم مولى أبي حذيفة، جاء في تفسير القمي والصافي: "عن الصادق: لما أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غدير خم كان بحذائه سبعة نفر من المنافقين وهم: أبو بكر، وعمر (¬2) ، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وأبو عبيدة، وسالم مولى أبي حذيفة، والمغيرة بن شعبة. قال عمر (¬3) .: أما ترون عينه كأنما عين مجنون يعني النبي، الساعة يقوم ويقول: قال لي ربي (¬4) . فلما قام قال: أيها الناس من أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا: الله ورسوله. قال: اللهم فاشهد، ثم قال: ألا من كنت مولاه فعلي مولاه، وسلموا عليه بإمرة أمير المؤمنين فنزل جبرائيل وأعلم رسول الله (¬5) . ¬
بمقالة القوم فدعاهم وسألهم فأنكروا وحلفوا فأنزل الله: {يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ} " (¬1) . ومثل هؤلاء أيضًا يتناولون آخرين من فضلاء الصحابة ونقلة الشريعة كأبي هريرة (¬2) ، وأنس بن مالك (¬3) ، والبراء بن عازب (¬4) ، وطلحة والزبير بن العوام (¬5) . وغيرهم. أما كلام شيوخهم في هؤلاء العظماء فقد سود الصفحات، فإنه لا يخلو مصنف من مصنفاتهم في مسألة الإمامة ونحوها إلا وفيه من التكفير والسب واللعن ما لا يخطر ببال مسلم، لأنهم لا يرونهم على الإسلام أصلاً، وفضلاً عن ذلك فإنهم يرونهم من ألد أعدائهم، ومن الظالمين لهم، لأنهم بايعوا أباب بكر وعمر وعثمان وكانوا في عهدهم على كلمة سواء، وكانوا بنعمة الله إخوانًا فأقاموا دولة الإسلام، وفتحوا البلاد ونشروا الإسلام بين العباد، وأطفأوا نار المجوسية، وحطموا طاغوت الوثنية، وأخرجوا الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد وخالقهم، فأوغروا بذلك صدور الزنادقة الحاقدين من أصحاب تلك البلاد المفتوحة، وأتباع تلك الديانات الموضوعة، فكان من كيدهم الدخول لإفساد أمر هذه الأمة من طريق التشيع، وكان من الطبيعي أن تكون مسألة الإمامة هي هدفهم، وشغلهم الشاغل، فكان من أمرهم ما كان، ثم أصبح كيدهم وخلاصة مكرهم عقيدة لهؤلاء الشيع ¬
كفروا بها الحاكم والمحكوم. قال ابن بابويه في الاعتقادات: "فمن ادعى الإمامة وليس بإمام فهو الظالم الملعون، ومن وضع الإمامة في غير أهلها فهو ظالم ملعون" (¬1) . فهذا تكفير للحاكم والمحكوم في مختلف العصور (ما عدا حكم علي والحسن) وحينما سئل شيخهم المفيد الملقب عندهم بركن الإسلام وآية الله الملك العلام عما ورد عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أنه قال: لا أوتى برجل يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري. فأجاب: عليه من الله ما يستحق "إن الوجه فيه أن المفاضل بينه وبين الرجلين إنما وجب عليه حد المفتري، لأن المفاضلة لا تكون إلا بين متقاربين في الفضل، وكان الرجلان بجحدهما النص قد خرجا عن الإيمان بطل أن يكون لهما فضل في الإسلام فكيف يحصل لهما من الفضل ما يقارب فضل أمير المؤمنين؟ ومتى فضل إنسان أمير المؤمنين عليهما فقد افترى بالتفضيل لأمير المؤمنين عليهما، من حيث كذب في إثبات فضل لهم في الدين، وجرى في هذا الباب مجرى من فضل المسلم البر التقي على الكافر المرتد، ومجرى من فضل جبرائيل على إبليس، ورسوله الله على أبي جهل بن هشام" (¬2) . فانظر كيف عدّ أفضل الأمة بعد نبيها بمنزلة إبليس وأبي جهل. وهذا موضع إجماع طائفته حيث يقول: "فقد حصل الإجماع على كفره (يعني عمر) بعد إظهاره الإيمان" (¬3) . وقال شيخهم المجلسي: "وممّا عدّ من ضروريّات دين الإماميّة (¬4) . استحلال ¬
المتعة، وحجّ التّمتّع، والبراءة من أبي بكر وعمر وعثمان ومعاوية" (¬1) . ومن لم يبرأ من أبي بكر وعمر وعثمان فهو عدو وإن أحب عليًا (¬2) . ولذلك يتعبّدون الله سبحانه بعد كلّ صلاة بلعن الخلفاء الثّلاثة وغيرهم من فضلاء الصّحابة، وبعض أمّهات المؤمنين رضوان الله عليهم أجمعين. وعقد لذلك الحرّ العاملي بابًا بعنوان: "باب استحباب لعن أعداء الدّين عقيب الصّلاة بأسمائهم"، وذكر فيه ما روى الكليني عن ابن ثوير والسّراج قالا: سمعنا أبا عبد الله رضي الله عنه وهو يلعن في دبر كلّ مكتوبة أربعة من الرّجال وأربعًا من النّساء، فلانًا وفلانًا وفلانًا (الخلفاء الثّلاثة) ويسمّيهم ومعاوية، وفلانة وفلانة (عائشة، وحفصة رضي الله عنهما) وهندًا وأمّ الحكم أخت معاوية (¬3) . وفي مستدرك الوسائل لشيخهم النّوري الطّبرسي عقد بابًا بعنوان: "باب استحباب لعن أعداء الدّين عُقيب الصّلاة بأسمائهم" (¬4) . وساق فيه جملة من رواياتهم ومنها: "عن أبي عبد الله أنّه قال: إنّ من حقّنا على أوليائنا وأشياعنا أن لا ينصرف الرّجل فيهم حتى يدعو بهذا الدّعاء: اللهمّ.. ضاعف لعنتك وبأسك ونكالك وعذابك على اللّذين كفرا نعمتك، وخوّفا رسولك.. وحلا عقده في وصيه، ونبذا عهده في خليفته من بعده، وادعيا مقامه، وغيّرا أحكامه، وبدّلا سنّته، وقلبا دينه، وصغّرا قدر حجّتك وحججك، وبدءا بظلمهم، وطرقا طريق الغدر عليهم، والخلاف عن أمرهم، والقتل لهم.. ومنعا خليفتك من سدّ الثّلم، وتقويم العوج، وإمضاء الأحكام، وإظهار دين الإسلام، وإقامة حدود القرآن، اللهمّ العنهما، وابنتيهما، وكلّ من مال ميلهم، وحذا حذوهم، وسلك طريقتهم وتصدّر ببدعتهم لعنًا لا يخطر على البال، ويستعيذ منه أهل النّار، العن اللهمّ من دان بقولهم، ¬
واتّبع أمرهم، ودعا إلى ولايتهم، وشكّ في كفرهم من الأوّلين والآخرين" (¬1) . فانظر كيف لعنوا في هذه "الكلمات المظلمة" المسلمين جميعًا من الأوّلين والآخرين، وخصّوا بمزيد من اللّعن والتّكفير من أقاما دولة الإسلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونشرا دين الله في العالمين، وعدوهما وجميع من ابتعهما (أي جميع المسلمين) من أعداء الدين، فأي دين يعتقده هؤلاء الذين يعدون صحابة رسول الله ومن اتبعهم بإحسان هم أعداء للدين؟ فليكن أي دين ونحلة إلا دين الإسلام، إن هذه "اللعنات" تؤكد أن واضعها من أتباع تلك الديانات التي قضى عليها الإسلام بقيادة أبي بكر وعمر وإخوانهما رضوان الله عليهم جميعًا. وفي مزاراتهم يجري أيضًا - بواسطة الأدعية التي وضعها لأولئك الأتباع زنادقة العصور البائدة - غرس الأحقاد وبثّ الضّغائن، وتأجيج العداوة في لعنات متتالية ومتتابعة على خير القرون، ففي زيارة فاطمة - مثلاً - يلعنون أبا بكر وبقيّة الصّحابة رضوان الله عليهم في دعاء يقولون فيه: "السّلام عليك يا فاطمة يا سيّدة نساء العالمين، لعن الله مانعك إرثك، ودافعك عن حقّك، والرّادّ عليك قولك، لعن الله أشياعهم وأتباعهم وألحقهم بدرك الجحيم" (¬2) . وتلاحظ أن واضع هذا الدعاء يقصد فيه لعن صديق هذه الأمة ثم يلحق فيه كل من شايعه، فيدخل فيهم أمير المؤمنين علي، لأنه من شيعة أبي بكر وأعوانه ووزرائه. ولا تخفى هذه الحقيقة على واضع هذا الدعاء، ولكنه عدو للجميع ويتستر بالتشيع لأن العقل الشيعي في غيبوبة بفعل العواطف المشحونة - زورًا - بظلم آل البيت وقهرهم وضياع حقهم، وصراعهم مع أعدائهم وهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد حشدوا في ذلك ركامًا هائلاً من الأساطير لا تبقى في قلب من يؤمن ¬
بها إلا الحقد، والتعطش لسفك الدماء، والرغبة في الانتقام (¬1) . وواقعهم يشهد بذلك. مثالب الصحابة (المزعومة) : ومع اللعن والتكفير لخير القرون، فإن الشيعة ملأت الصفحات فيما يسمونه بمثالب الصحابة ومعايبهم (¬2) ، وانشغل بعض أهل السنة في الرد عليهم (¬3) ، والحقيقة المهمة في هذا الموضوع أن إثارة الشيعة لهذه القضايا هو في حقيقة أمره تستر على السبب الحقيقي من موقفهم من الصحابة، ذلك أن الصحابة رضوان الله عليهم لو كانوا في عصمة من كل خطأ، وفي حرز من كل ذنب، لما رضي عنهم الإمامية، لأن ذنب الصحابة عند هؤلاء هو بيعتهم لأبي بكر دون علي، وكل ذنب يغتفر إلا هذا الأمر، كما أن من جاء بقراب الأرض خطايا ومعه "جواز الولاية" فقد نجا. ¬
وقد تنبه إلى هذه الحقيقة المهمة القاضية عبد الجبار فقال: "وكثيرًا تسأل الإمامية عما كان من عثمان في تولية أقاربه وغير ذلك، وفي سير طلحة والزبير وعائشة إلى البصرة، وما ذاك إلا لضعفهم وانقطاعهم؛ لأن عثمان لو لم يول أقاربه ولم يصنع ما صنع لكان كافرًا مشركًا عندهم بادعائه الإمامة لنفسه ولأبي بكر وعمر، ولو كان طلحة والزبير وعائشة في عسكر أمير المؤمنين وفي المحاربين معه ما كانوا إلا مشركين باعتقادهم إمامة أبي بكر وعمر وعثمان، فمن يكلم الإمامية في إثارتهم لهذه المسائل كمن يكلم اليهود في وجوب النية في الطهارة، أو يكلم النصارى في استحلالهم الخمر، وإنما يكلم في هذا من قال: لا ذنب لعثمان إلا ما أتاه من الحمى، وتولية الأقارب، ولولا ذلك لكان مثل عمر، ومن قال: لا ذنب لطلحة والزبير وعائشة إلا مسيرهم إلى البصرة، ولولا ذلك لكانوا مثل أبي عبيدة وعبد الرحمن وابن مسعود. فاعرف هذا ولا تكلمهم فيه البتة، وكلمهم فيما يدعونه من النص فهو الأصل" (¬1) . ¬
2- تكفيرهم أهل البيت
2- تكفيرهم أهل البيت: هذه الرّوايات التي تحكم بالرّدة على ذلك المجتمع المثالي الفريد، ولا تستثني منهم جميعًا إلا سبعة في أكثر تقديراتها، لا تذكر من ضمن هؤلاء السّبعة أحدًا من أهل بيت رسول الله باستثناء بعض روايات عندهم جاء فيها استثناء علي فقط، وهي رواية الفضيل بن يسار عن أبي جعفر قال: صار الناس كلهم أهل جاهلية إلا أربعة: علي، والمقداد، وسلمان، وأبو ذر. فقلت: فعمار؟ فقال: إن كنت تريد الذين لم يدخلهم شيء فهؤلاء الثلاثة (¬1) . فالحكم بالرّدّة في هذه النّصوص شامل للصّحابة وأهل البيت النّبويّ من زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرابته، مع أن واضعها يزعم التشيع لأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل هذا إلا دليل واضح على أن التشيع إنما هو ستار لتنفيد أغراض خبيثة ضد الإسلام وأهله، وأن واضعي هذه الروايات أعداء للصحابة وللقرابة؟ ولا يستعبد - كما سبق - أن تلك الأسماء التي تستثنى هي «أسماء مستعارة» للزنادقة الذين يشكلون الخلية الأولى "للرفض"، ولا يعني بهم الصحابة، وإلا لماذا لم يذكر أحد معهم من أهل البيت؟ ولماذا هؤلاء الصحابة الذين يستثنون ما ظهر منهم منابذة ومناوأة للخليفتين الراشدين بل ظهر منهم الحب والمؤازرة؟! لقد حكموا بالردة في نصوصهم التي مر ذكرها، على الحسن والحسين وآل عقيل وآل جعفر، وآل العباس، وزوجات رسول الله أمهات المؤمنين. بل إن الشيعة خصت بالطعن والتكفير جملة من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كعم النبي العباس، حتى قالوا بأنه نزل فيه قوله سبحانه: {وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} (¬2) . وكابنه عبد الله بن عباس ¬
حبر الأمة وترجمان القرآن، فقد جاء في الكافي ما يتضمن تكفيره، وأنه جاهل سخيف العقل (¬1) . وفي رجال الكشي: "اللهم العن ابني فلان واعم أبصارهما، كما عميت قلوبهما.. واجعل عمى أبصارهم دليلاً على عمى قلوبهما" (¬2) . وعلق على هذا شيخهم حسن المصطفوي فقال: "هما عبد الله بن عباس وعبيد الله بن عباس" (¬3) . وبنات النبي صلى الله عليه وسلم يشملهن سخط الشيعة وحنقهم، فلا يذكرن فيمن استثنى من التكفير، بل ونفى بعضهم أن يكن بنات للنبي صلى الله عليه وسلم - ما عدا فاطمة (¬4) . - فهل يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم من يقول فيه وفي بناته هذا القول؟! وقد نص صاحب الكافي في رواياته على أن كل من لم يؤمن بالاثني عشر فهو كافر، وإن كان علويًا فاطميًا (¬5) ، وهذا يشمل في الحقيقة التكفير لجيل الصحابة ومن بعدهم بما فيهم الآل والأصحاب؛ لأنهم لم يعرفوا فكرة "الاثني عشر" التي لم توجد إلا بعد سنة (260هـ) . كما باءوا بتفكير أمهات المؤمنين أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إذ لم يستثنوا واحدة منهن في نصوصهم.. ولكنهم يخصون منهن عائشة (¬6) . وحفصة (¬7) .- رضي الله عنهن جميعًا - بالذم واللعن والتكفير. وقد عقد شيخهم المجلسي بابًا بعنوان "باب أحوال عائشة وحفصة" ذكر فيه (17) رواية (¬8) ، وأحال في بقية ¬
الروايات إلى أبواب أخرى (¬1) ، وقد آذوا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهل بيته أبلغ الإيذاء. حتى اتهموا في أخبارهم من برأها الله من سبع سماوات؛ عائشة الصديقة بنت الصديق بالفاحشة، فقد جاء في أصل أصول التفاسير عندهم (تفسير القمي) هذا القذف الشنيع (¬2) المتضمن تكذيب القرآن العظيم، قال ابن كثير في تفسير سورة النور: "أجمع أهل العلم - رحمهم الله - قاطبة على أن من سبها ورماها بما ¬
رماها به بعد هذا الذي ذكر في الآية فإنه كافر، لأنه معاند للقرآن" (¬1) . وقال القرطبي: "فكل من سبها مما برأها الله منه مكذب لله، ومن كذب الله فهو كافر" (¬2) . هذا وظاهرة التكفير عند الشيعة لا تخص جيل الصحابة، وإن كان الصحابة ينالهم النصيب الأوفى من السب والتكفير باعتبار أنهم حملة الشريعة، ونقلة الكتاب والسنة، والمبلغون عن رسول الله دين الله، ولذلك صار "الطعن فيهم طعن في الدين" (¬3) . وكان هذا هو هدف الزنادقة من وراء الحملة الضارية عليهم، ولكن سلسلة التكفير عند الشيعة مستمرة. فكما قالت كتب الشيعة: إن الناس ارتدوا بعد وفاة الرسول إلا ثلاثة، قالت أيضًا: "ارتد الناس بعد قتل الحسين إلا ثلاثة: أبو خالد الكابلي، ويحيى أم الطويل، وجبير بن مطعم" (¬4) . فأنت ترى أن هذا النص لا يستثني أحدًا من أهل البيت ولا الحسن بن علي الذي تعده الاثنا عشرية إمامها، ويبدو أنها لا تستثنيه لأنها عليه ساخطة لقيامه بمصالحة معاوية حتى خاطبه بعض الشيعة بقوله: "يا مذل المؤمنين" (¬5) ، ووثب عليه أهل عسكره فانتهبوا فسطاطه، وأخذوا متاعه، وطعنه ابن بشير الأسدي في خاصرته فردوه جريحًا إلى المدائن (¬6) . ¬
3- تكفيرهم خلفاء المسلمين وحكوماتهم
3- تكفيرهم خلفاء المسلمين وحكوماتهم: في دين الاثني عشرية أن كل حكومة غير حكومة الاثني عشر باطلة، وصاحبها ظالم وطاغوت يعبد من دون الله، ومن يبايعه فإنما يعبد غير الله. وقد أثبت الكليني هذا المعنى في عدة أبواب مثل: باب من ادعى الإمامة وليس لها بأهل، ومن جحد الأئمة أو بعضهم، ومن أثبت الإمامة لمن ليس لها بأهل، وذكر فيه اثني عشر حديثًا عن أئمتهم (¬1) ، وباب فيمن دان الله عز وجل بغير إمام من الله جل جلاله، وفيه خمسة أحاديث (¬2) . وفي البحار "باب عقاب من ادعى الإمامة بغير حق أو رفع راية جور، أو أطاع إمامًا جائرًا" (¬3) . وكل خلفاء المسلمين ما عدا عليًا والحسن طواغيت - حسب اعتقادهم - وإن كانوا يدعون إلى الحق، ويحسنون لأهل البيت، ويقيمون دين الله، ذلك أنهم يقولون: "كل راية ترفع قبل راية القائم (¬4) . رضي الله عنه صاحبها طاغوت" (¬5) . قال شارح الكافي: "وإن كان رافعها يدعو إلى الحق" (¬6) ، وحكم المجلسي على هذه الرواية بالصحة (¬7) . حسب مقاييسهم. أما من قبل سنة (260هـ) فيقول شيخهم المجلسي عن الخلفاء الراشدين: "إنهم لم يكونوا إلا غاصبين جائرين مرتدين عن الدين، لعنة الله عليهم وعلى من اتبعهم في ظلم أهل البيت من الأولين والآخرين" (¬8) . ¬
4- الحكم على الأمصار الإسلامية بأنها دار كفر
4- الحكم على الأمصار الإسلامية بأنها دار كفر: جاء في أخبارهم تخصيص كثير من بلاد المسلمين بالسب، وتفكير أهلها على وجه التعيين، ويخصون منها غالبًا ما كان أكثر التزامًا بالإسلام واتباعًا للسنة، فقد صرحوا بكفر أهالي مكة والمدينة في القرون المفضلة، ففي عصر جعفر الصادق كانوا يقولون عن أهل مكة والمدينة: "أهل الشّام شرّ من أهل الرّوم (يعني شرّ من النّصارى) ، وأهل المدينة شرّ من أهل مكّة، وأهل مكّة يكفرون بالله جهرة" (¬1) . "وعن أبي بصير، عن أحدهما عليهما السلام قال: إن أهل مكة ليكفرون بالله جهرة، وإن أهل المدينة أخبث من أهل مكة، أخبث منهم سبعين ضعفًا" (¬2) . ومن المعلوم أن أهل المدينة كانوا - ولا سيما في القرون المفضلة - يتأسون بأثر رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من سائر الأمصار، ولهذا لم يذهب أحد من علماء المسلمين إلى أن إجماع أهل مدينة من المدائن حجة يجب اتباعها غير المدينة (¬3) . وقد ظل أهل المدينة متمسكين بمذهبهم القديم، منتسبين إلى مذهب مالك إلى أوائل المائة السادسة أو قبل ذلك أو بعد ذلك، فإنهم قدم إليهم من رافضة المشرق من أفسد مذهب كثير منهم (¬4) . وهذا الالتزام بالإسلام قد أغاظ هؤلاء الزنادقة، فعبروا عن حقدهم بهذه ¬
الكلمات، والتاريخ يعيد نفسه، ففي هذا العصر خطب خطيبهم وقال: بأن مكة يحكمها شرذمة أشرَّ من اليهود (¬1) . وقد كشف شيخهم المعاصر والذي علق على نصوص الكافي عن وجه هذه الكلمات، وأبان عن فحوى هذه النصوص فقال: "لعل هذا الكلام في زمن بني أمية وأتباعهم، كانوا منافقين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، والمنافقون شر من الكفار وهم في الدرك الأسفل من النار.. ويحتمل أن يكون هذا مبنيًا على أن المخالفين غير المستضعفين مطلقًا شر من سائر الكفار كما يظهر من كثير من الأخبار" (¬2) . فهو يرى أن هذا التكفير حق، ويخرج الحكم عليهم بأنهم شر من الكفار بأحد أمرين: إما باتباعهم للأمويين أي: بمقتضى مبايعتهم لخلفاء المسلمين من الأمويين، وهذا نفاق أكبر عندهم، أو لأن المخالف شر من الكافر.. وبهذا التخريج الأخير يشمل التفكير ديار المسلمين في كل الأزمان. وقالوا أيضًا عن مصر وأهلها: "أبناء مصر لعنوا على لسان داود عليه السّلام، فجعل الله منهم القردة والخنازير" (¬3) . "وما غضب الله على بني إسرائيل إلا أدخلهم مصر، ولا رضي عنهم إلا أخرجهم منها إلى غيرها" (¬4) . "بئس البلاد مصر! أما إنها سجن من سخط الله عليه من بني إسرائيل" (¬5) . "انتحوا مصر لا تطلبوا المكث فيها (لأنه) يورث الدياثة" (¬6) . ¬
وجاءت عندهم عدة روايات في ذم مصر، وهجاء أهلها، والتحذير من سكناها، ونسبوا هذه الروايات إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى محمد الباقر، وإلى علي الرضا، وهذا رأي الروافض في مصر في تلك العصور الإسلامية الزاهرة، وقد عقب المجلسي على هذه النصوص بقوله بأن مصر صارت من شر البلاد في تلك الأزمنة، لأن أهلها صاروا من أشقى الناس وأكفرهم (¬1) . كل ذلك لأنها لم تأخذ بنهج الروافض، ويحتمل أن هذه الروايات قبل أو بعد الحقبة الإسماعيلية من تاريخ مصر، لأن من يشاركهم في رفضهم.. ويقيم دولة تسمح بكفرهم لا ينالون منه بمثل هذا. ولا يبعد أن هذه النصوص هي تعبير عن حقد الرافضة وغيظهم على مصر وأهلها بسبب سقوط دولة إخوانهم الإسماعيليين على يد القائد العظيم صلاح الدين الذي طهر أرض الكنانة من دنسهم ورجسهم. وأين هذه الكلمات المظلمة في حق مصر وأهلها من الباب الذي عقده مسلم في صحيحه "باب وصية النبي صلى الله عليه وسلم بأهل مصر" (¬2) . وجاء عندهم ذم كثير من بلدان الإسلام وأهلها (¬3) . ولم يستثن من ديار المسلمين إلا من يقول بمذهبهم وهي قليلة في تلك الأزمان، حتى جاء عندهم "إن الله عرض ولايتنا على أهل الأمصار فلم يقبلها إلا أهل الكوفة" (¬4) . ¬
5- قضاة المسلمين
5- قضاة المسلمين: تعد أخبارهم قضاة المسلمين طواغيت لارتباطهم بالإمامة الباطلة بزعمهم، فقد جاء في الكافي عن عمر بن حنظلة قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة أيحل ذلك؟ قال: من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت، وما يحكم له فإنما يأخذ سحتًا، وإن كان حقًا ثابتًا له؛ لأنه أخذ بحكم الطاغوت، وقد أمر الله أن يكفر به. قال تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ} (¬1) . (¬2) . فأنت ترى أنهم اعتبروا قضاة المسلمين وحكامهم طواغيت، واعتبروا أحكامهم باطلة، ومن يأخذ حقه بواسطتها فإنما يأكل الحرام، وهذا الحكم يعم قضاة المسلمين على مدى القرون وتعاقب الأجيال، وهذه الرواية تحكم على القضاء والقضاة في عصر جعفر الصادق، كما يظهر من إسنادهم للرواية إلى جعفر، فإذا كان هذا نظرهم في قضاة المسلمين في القرون المفضلة فما بالك فيمن بعدهم. ويبدو أنهم يريدون قضاة يحكمون بحكايات الرقاع، وبالجفر والجامعة، ومصحف فاطمة، وحكم آل داود، ولا يسألون البينة، كما جاء ذلك في أخبارهم (¬3) . لا في حكم الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، فهم الذين تتناولهم الآية التي استدلوا بها، لأنها نزلت في بعض المنافقين الذين فضلوا حكم الطاغوت على حكم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم (¬4) . وهؤلاء الروافض من جنس أولئك ¬
المنافقين. وهذه النظرة لم يتغير منها شيء في نفوس شيوخهم في هذا العصر؛ فها هو الخميني يعقب على حديثهم هذا فيقول - مؤكدًا معناه -: "الإمام عليه السلام نفسه ينهى عن الرجوع إلى السلاطين وقضاتهم ويعتبر الرجوع إليهم رجوعًا إلى الطاغوت" (¬1) . ويقول المعلق على الكافي: والآية بتأييد الخبر تدل على عدم الترافع إلى حكم الجور مطلقًا، وربما قيل بجواز التوسل بهم إلى أخذ الحق المعلوم، اضطرارًا مع عدم إمكان الترافع إلى الفقيه العدل (¬2) . ولكن يظهر أن هذه المبادئ التي وضعها الزنادقة لم تجد القبول لدى بعض أتباعهم، لأنه يجد في ظل قضاة المسلمين العدل والإنصاف ما لا يجد عند قومه، وقد اعترف بعضهم لشيخ الإسلام ابن تيمية فقال له: أنتم (يعني أهل السنة) تنصفوننا ما لا ينصف بعضنا بعضًا (¬3) . وقد اشتكى بعض رجالهم لإمامه بأنهم يجدون عند أهل السنة كثرة الأمانة، وحسن الخلق، وحسن السمت، ويجدون على الضد من ذلك في الشيعة فيغتمون لذلك (¬4) . ¬
6- أئمة المسلمين وعلماؤهم
6- أئمة المسلمين وعلماؤهم: حذروا من التلقي عن شيوخ المسلمين وعلمائهم، وعدوهم كملل أهل الشرك "عن هارون بن خارجة قال: قلت لأبي عبد الله عليه السّلام: إنّا نأتي هؤلاء المخالفين (¬1) . فنسمع منهم الحديث يكون حجّة لنا عليهم؟ قال: لا تأتهم ولا تسمع منهم، لعنهم الله ولعن مللهم المشركة" (¬2) . وجاء في الكافي عن سدير عن أبي جعفر قال: ".. يا سدير فأريك الصّادّين عن دين الله، ثم نظر إلى أبي حنيفة وسفيان الثّوري في ذلك الزّمان وهم حلق في المسجد، فقال: هؤلاء الصّادّون عن دين الله بلا هدى من الله ولا كتاب مبين، إنّ هؤلاء الأخابث لو جلسوا في بيوتهم فجال النّاس، فلم يجدوا أحدًا يخبرهم عن الله تبارك وتعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم حتى يأتونا فنخبرهم عن الله تبارك وتعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم" (¬3) . فيبدوا أن الغيظ أخذ من هؤلاء الباطنيين مأخذه، وهم يرون أئمة أهل السنة يعلمون الناس القرآن والسنة، ويدعون إلى دين الإسلام والناس مقبلون عليهم، ينهلون من علمهم ويأخذون عنهم، فترى حلقهم في المسجد، عامرة بالرواد، مزدانة بالعلم.. تغمرها السكينة، وتحفها الرحمة، وتغشاها الملائكة، وكان هؤلاء العلماء الأعلام للمتقين أئمة وقادة، وأولئك الباطنيون قد قبعوا في بيوتهم، لا يلتفت إليهم، ولا يحفل بهم، قد استولت عليهم الذلة، والمسكنة وباءوا بغضب الناس، واحتقارهم. فكانت أمنياتهم التي وضعوها على ألسنة أهل البيت للتغرير بالأتباع، ومحاولة إيجاد الفتنة والعزلة بين أهل البيت وأئمة المسلمين، كانت هذه الأمنيات تكفر أئمة المسلمين وتتمنى أن تخلو الأرض منهم لتتهيأ لهم الفرصة لتحقيق أغراضهم. ¬
7- الفرق الإسلامية
7- الفرق الإسلامية: ويخصون كثيرًا من الفرق الإسلامية بالتكفير والطعن، ولا سيما أهل السنة والذين يلقبونهم حينًا بالنواصب، وأحيانًا بالمرجئة. جاء في الكافي: "عن أبي مسروق قال: سألني أبو عبد الله عن أهل البصرة ما هم؟ فقلت: مرجئة وقدرية (¬1) ، وحرورية. فقال: لعن الله تلك الملل الكافرة المشركة التي لا تعبد الله على شيء" (¬2) . ويعنون بالمرجئة أهل السنة، ولهذا تجد شيخهم المجلسي يشرح حديثهم الذي يقول: "اللهم العن المرجئة فهم أعداؤنا في الدنيا والآخرة" (¬3) . ويرجح أن المراد بالإرجاء في هذا النص تأخير عليّ عن الدرجة الأولى إلى الدرجة الرابعة (¬4) . ويكفي أن تعرف أن الزيدية وهي من الشيعة نالهم من الذم والتكفير مالا يخطر بالبال. قالوا - مثلاً - عن الزيدية عن عمر بن يزيد قال: سألت أبا عبد الله عن الصدقة على الناصب وعلى الزيدية قال: لا تصدّق عليهم بشيء ولا تسقهم من الماء إن استطعت، وقال لي: الزيدية هم النصاب (¬5) . وفي الكافي "عن عبد الله بن المغيرة قال: قلت لأبي الحسن رضي الله عنه: إنّ لي جارين أحدهما ناصب والآخر زيدي ولا بدّ من معاشرتهما فمن أعاشر؟ فقال: هما سيان، من كذب بآية من كتاب الله فقد نبذ الإسلام وراء ظهره هو المكذّب بجميع القرآن والأنبياء ¬
والمرسلين، ثم قال: إنّ هذا نصب لك، وهذا الزّيدي نصب لنا" (¬1) . ولم يشفع للزيدية عندهم أنهم "دعوا إلى ولاية علي" (¬2) . وكانوا شيعة: لأنهم "خلطوها بولاية أبي بكر وعمر" (¬3) . وهذا عندهم ذنب لا يغفر، بل إن مجرد محبة أبي بكر عندهم هي من الكفر. جاء في البحار "عن أبي علي الخراساني عن مولى لعليّ بن الحسين عليه السّلام قال: كنت معه عليه السّلام في بعض خلواته فقلت: إنّ لي عليك حقًّا ألا تخبرني عن هذين الرّجلين: عن أبي بكر وعمر؟ فقال: كافران كافر من أحبّهما" (¬4) . وعدوا مجرد الاعتقاد بإمامة أبي بكر وعمر من النصب الذي هو أعظم الكفر عندهم. ولهذا قال الملجسي: "قد يطلق الناصب على مطلق المخالف غير المستضعف كما هو ظاهر من كثير من الأخبار" (¬5) . وقال أيضًا: "لا تجوز الصلاة على المخالف لجبر أو تشبيه أو اعتزال أو خارجية أو إنكار إمامة إلا للتقية، فإن فعل (يعني صلى عليه تقية) لعنه بعد الرابعة" (¬6) . وقد قال المفيد بأن كل أهل البدع كفار (¬7) ، ولهذا عقد المجلسي بابًا بعنوان: "باب كفر المخالفين والنصاب" (¬8) . ¬
وقال المجلسي: "كتب أخبارنا مشحونة بالأخبار الدالة على كفر الزيدية وأمثالهم من الفطحية، والواقفة" (¬1) . وهذه الفرق التي يذكر كلها شيعة، فما بالك بمن دونهم - في رأيهم -. بل إن رجال الاثني عشرية يكفر بعضهم بعضًا، استمع إلى ما يرويه الكشي، ويوافقه عليه شيخ طائفتهم الطوسي (¬2) ، عن حال أصحابهم من التكفير والاختلاف والتنابذ، حيث يقول في روايته بأنه في سنة (190هـ) اجتمع ستة عشر رجلاً في باب أبي الحسن الثاني، فقال له أحدهم ويدعى جعفر بن عيسى: "يا سيدي، نشكو إلى الله وإليك (¬3) . ما نحن فيه من أصحابنا، فقال: وما أنتم فيه منهم؟ فقال جعفر: هم والله يزندقونا ويكفرونا ويتبرؤون منا، فقال: هكذا كان أصحاب علي بن الحسين، ومحمد بن علي، وأصحاب جعفر، وموسى: صلوات الله عليهم، ولقد كان أصحاب زرارة يكفرون غيرهم، وكذلك غيرهم كانوا يكفرونهم.." وقال يونس: "جعلت فداك إنهم يزعمون أنا زنادقة" (¬4) . وهذا حال "رعيلهم الأول" الذين ينتسبون زورًا لأهل البيت، فما حال من بعدهم؟! ¬
8- الأمة كلها
8- الأمة كلها: ولعن الأمة الإسلامية وتكفيرها مما استفاض في كتب الشيعة، ولذلك فإن أدعية الزيارة والمشاهد التي يلهج بها الشيعة ويرددونها لا تخلو من لعن لهذه الأمة المباركة الوسط. ففي زيارة أمير المؤمنين علي يقولون: "لعن الله من خالفك، ولعن الله من افترى عليك وظلمك، ولعن الله من غصبك (¬1) ، ولعن الله من بلغه ذلك فرضي به (¬2) ، أنا إلى الله منهم بريء، لعن الله أمة خالفتك (¬3) . وأمة جحدتك، وجحدت ولايتك (¬4) ، وأمة تظاهرت عليك، وأمة حادت عنك وخذلتك، الحمد لله الذي جعل النار مثواهم وبئس الورد المورد، وبئس ورد الواردين.. اللهم العن الجوابيت والطواغيت والفراعنة، واللات والعزى، وكل ند يدعى دون الله (¬5) ، وكل مفتر، اللهم العنهم وأشياعهم وأتباعهم، وأولياءهم، وأعوانهم، ومحبيهم لعنًا كثيرًا" (¬6) . وهذه اللعنات التي تجري على ألسنة هؤلاء مكان التسبيح والتهليل لها آثارها ¬
في تعبئة نفوسهم حقدًا وكراهية للأمة ودينها.. والأمة عند هؤلاء الروافض لها ألقاب وشناعات وخواص لا توجد في كتب طائفة من الطوائف، لا لشيء إلا لأن الأمة ارتضت من رضيه الصحابة والمهاجرون لهم خليفة. فهي أحيانًا تقذف الأمة الإسلامية جميعًا وتتهمها بالفجور (¬1) ، وحينًا تدعي بأنهم كلهم أولاد زنا (¬2) ، ولذلك فإنهم يوم القيامة يظهرون على حقيقتهم فيدعون بأسماء أمهاتهم (¬3) ، ومرة تقول بأنهم خلق منكوس وهم ليسوا من البشر، بل هم قردة وكلاب وخنازير (¬4) ، ولهم أقوال ولعنات في الأمة كثيرة منكرة. ¬
هذه نصوص الاثني عشرية لم تدع أحدًا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلا وتناولته بالطعن والتكفير، وخصت بذلك صحابة رسول الله من المهاجرين والأنصار وأهل البيت النبوي، والأمصار الإسلامية وأهلها، والفرق الإسلامية، وأمة محمد وتلعن الجميع في دعواتها وصلواتها وزياراتها، فهل استثنت الشيعة أحدًا؟ نعم، إنها استثنت الفئة التالية ودافعت عنهم وأثنت عليهم.
الفئة التي تستثنيها الشيعة من عموم اللعن والتكفير للأمة: وإذا كفرت الاثنا عشرية الصحابة والقرابة، والخلفاء، والقضاة، والأئمة والفرق الإسلامية بما فيها فرق من الشيعة. فمن تثني عليه؟ لقد رأيتها تثني على أقزام التاريخ، وحثالة البشر، بل تمدح وتدافع عن الكفرة الملحدين، والزنادقة والمنافقين، (والأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف) . فهي تدافع عن المرتدين كأصحاب مسيلمة الكذاب (¬1) ، وعن الزنادقة: كالمختار بن أبي عبيد (¬2) ، والنصير الطوسي (¬3) ، وعن الكذابين والمفترين كجابر الجعفي (¬4) ، وزرارة بن أعين (¬5) ، وعن المجوس الحاقدين مثل أبي لؤلؤة المجوسي - قاتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه - حتى إنها تسميه بابا شجاع الدين (¬6) . كما تتلقى دينها عن الكفرة الذين يعتقدون في كتاب الله النقص والتحريف وفي صحابة رسول الله الكفر والردة: كإبراهيم القمي، والكليني وأمثالهما وتجعل منهم ثقات دينها، وعمدة رواياتها. ¬
النقد
النقد: هذا التكفير العام الشامل الذي لم ينج منه أحد هل يحتاج إلى نقد؟ إن بطلانه أوضح من أن يبين، وكذبه أجلى من أن يكشف، وتكفير الأمة امتداد لتكفير الصحابة، والسبب واحد لا يختلف. ومن الطبيعي أن من يحقد على صحابة رسول الله ويسبهم ويكفرهم يحقد على الأمة جميعًا ويكفرها، كما قال بعض السلف: "لا يغلّ قلب أحد على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا كان قلبه على المسلمين أغلّ" (¬1) . فإذا لم يرض عن أبي بكر وعمر وعثمان، وأهل بدر وبيعة الرضوان، والمهاجرين والأنصار وهم في الذروة من الفضل والإحسان، فهل يرضى بعد ذلك عن أحد بعدهم؟! ومبنى هذا الموقف هو دعوى الروافض أن الصحابة رضوان الله عليهم أنكروا النص على إمامة علي وبايعوا أبا بكر، وقد مضى بيان بطلان النص بالنقل والعقل وبالأمور المتواترة المعلومة. وما بني على الباطل فهو باطل. ولقد كان حكمهم بردة ذلك "الجيل القرآني الفريد" من الظواهر الواضحة على بطلان مذهب الرفض من أساسه، وأنه إنما وضع أصوله شرذمة من الزنادقة، وبطلان هذه المقالة معروف بداهة، ولذلك قال أحمد الكسروي (الإيراني والشيعي الأصل) : "وأما ما قالوا من ارتداد المسلمين بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فاجتراء منهم على الكذب والبهتان، فلقائل أن يقول: كيف ارتدوا وهم كانوا أصحاب النبي آمنوا به حين كذبه الآخرون، ودافعوا عنه واحتملوا الأذى في سبيله ثم ناصروه في حروبه، ولم يرغبوا عنه بأنفسهم، ثم أي نفع لهم في خلافة أبي بكر ليرتدوا عن دينهم لأجله؟! فأي الأمرين أسهل احتمالاً: أكذب رجلاً أو رجلين من ذوي الأغراض الفاسدة، أو ارتداد بضع مئات من خلص المسلمين؟ فأجيبونا إن كان ¬
لكم جواب" (¬1) . ومع وضوح بطلان مذهبهم - كما ترى - لمخالفته للشرع والعقل والتاريخ، وما علم من الإسلام بالضرورة، فإنه لابد من وقفة ولو سريعة في الرد عليه؛ لأنه وجد في الماضي ويوجد اليوم من يتجاهل الدلائل والبراهين في ذلك، وحسبك أن تعرف أن أحد آيات الشيعة في هذا العصر، ومن يرفع شعار الوحدة الإسلامية، ويرددها في نشراته وخطبه ورحلاته (¬2) . وهو شيخهم محمد الخالصي قد كتب رسالة للشيخ محمد بهجة البيطار في تاريخ 26 ربيع الأول سنة 1382هـيقول فيها: "لم أذكر الصحابة بخير لأني لا أريد أن أتعرض لعذاب الله وسخطه بمخالفتي كتابه وسنته في مدح من ذمه الكتاب والسنة، والإطراء على من قبح أعماله القرآن المجيد، والأحاديث المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وغاية ما كنت أكتبه وأقوله هو أن كتاب الله وسنته لم تذكر الصحابة بخير، ولا تدل على فضل لهم لأنهم صحابة" (¬3) . فالخالصي هنا لا يذكر الصحابة بخير مع تواتر النصوص في فضلهم، ولكنه يقول عن أئمته: إن "الأئمة الاثني عشر أركان الإيمان ولا يقبل الله تعالى الأعمال من العباد إلا بولايتهم" (¬4) . مع أن الاثني عشر لا ذكر لهم ولا لإمامتهم أصلاً في كتاب الله سبحانه. فانظر كيف يكذبون بالحقائق الواضحات، ويصدقون بالكذب الصريح. وإذا كان الأمر وصل إلى هذا الحد فإننا نسوق الأدلة والبراهين على نقض مذهب الرافضة، وبيان فضل الصحابة من الكتاب والسنة، وأقوال الأئمة، والتاريخ، والعقل، والأمور المعلومة المتواترة.. ونكشف - من خلال كتب الشيعة نفسها - مؤسس وواضع هذه العقيدة في المذهب الشيعي. ¬
وهو بالتالي نقض لمذهبهم في تكفير الأمة جميعًا، لأن السبب الذي كفروا به الصحابة هو السبب بعينه الذي كفروا به سائر المسلمين، ولكن الصحابة - رضوان الله عليهم - يختصون بالمزيد من السب واللعن والتكفير قديمًا وحديثًا بهدف إبطال الشريعة التي ينقلونها للأمة. أـ القرآن الكريم: لقد شهدت نصوص القرآن على عدالتهم والرضا عنهم، وأثنى الله عليهم في آيات كثيرة جلية واضحة، لا نحتاج لمعرفة معناها إلى تأويل باطني كحال الشيعة في تأويل آيات القرآن بالاثني عشر. ـ قال جل شأنه: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (¬1) . "وكفى فخرًا لهم أن الله تبارك وتعالى شهد لهم بأنهم خير الناس، فإنهم أول داخل في هذا الخطاب، ولا مقام أعظم من مقام قوم ارتضاهم الله عز وجل لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونصرته" (¬2) . ولهذا جاء تأويلها عن السلف بأقوال "مقتضاها أن الآية نزلت في الصحابة، قال الله لهم كنتم خير أمة" (¬3) . ـ وقال سبحانه: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (¬4) . ¬
فالآية صريحة الدلالة على رضاء الله سبحانه عن المهاجرين والأنصار، والتابعين لهم بإحسان، وتبشيرهم بالفوز العظيم، والخلود في جنات النعيم، ولهذا قال ابن كثير عند هذه الآية: "فيا ويل من أبغضهم أو سبهم، أو أبغض أو سب بعضهم ولا سيما سيد الصحابة بعد الرسول وخيرهم وأفضلهم أعني الصديق الأكبر والخليفة الأعظم أبا بكر بن أبي قحافة رضي الله عنه، فإن الطائفة المخذولة من الرافضة يعادون أفضل الصحابة ويبغضونهم ويسبونهم (¬1) ، عياذًا بالله من ذلك. وهذا يدل على أن عقولهم معكوسة، وقلوبهم منكوسة، فأين هؤلاء من الإيمان بالقرآن، إذ يسبون من رضي الله عنهم" (¬2) . ـ وقال سبحانه: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} (¬3) . قال ابن حزم: "فمن أخبرنا الله سبحانه أنه علم ما في قلوبهم، ورضي عنهم، وأنزل السكينة عليهم فلا يحل لأحد التوقف في أمرهم ولا الشك فيهم البتة" (¬4) . "والذين بايعوا تحت الشّجرة بالحديبيّة عند جبل التّنعيم (¬5) . كانوا أكثر من ألف وأربعمائة، بايعوه لما صده المشركون عن العمرة (¬6) . وهؤلاء كما يقول شيخ الإسلام ابن تيميّة هم أعيان من بايع أبا بكر وعمر ¬
وعثمان رضي الله عنهم (¬1) . ولقد خاب وخسر من رد قول ربه أنه رضي عنه المبايعين تحت الشجرة.. وقد علم كل أحد له أدنى علم أن أبا بكر وعمر وعثمان وعليًا وطلحة والزبير وعمارًا والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهم من أهل هذه الصفة، وقد انتظمت الخوارج والروافض البراءة منهم خلافًا لله عز وجل وعنادًا (¬2) . وقال تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (¬3) . فانظر إلى عظيم مقام الصحابة، حيث أثنى الله عليهم بهذه الأوصاف، وأخبر أن صفتهم مذكورة في التوراة والإنجيل، حتى ذكر بعض أهل العلم أنّ ظاهر هذه الآية يُوجب أنّ الرّوافض كفّار؛ لأنّ في قلوبهم غيظًا من الصّحابة وعداوة لهم، والله يقول: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} ، فبيّن أنّ من كان في قلبه غيظ منهم فهو من الكفّار (¬4) . ـ وقال تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} (¬5) . وقد حكم الله لمن وعد بالحسنى بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا ¬
الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ، لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ، لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ} (¬1) . فجاء النص أن من صحب النبي صلى الله عليه وسلم فقد وعده الله تعالى بالحسنى، وقد نص الله سبحانه: {إِنَّ اللهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} (¬2) . وصح بالنص أن كل من سبقت له من الله تعالى الحسنى، فإنه مبعد عن النار لا يسمع حسيسها، وهو فيما اشتهى خالد لا يحزنه الفزع الأكبر.. وليس المنافقون ولا سائر الكفار من أصحابه صلى الله عليه وسلم (¬3) . ـ وقال سبحانه: {لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ، وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (¬4) . وهذه الآيات تتضمّن الثّناء على المهاجرين والأنصار، وعلى الذين جاءوا من بعدهم يستغفرون لهم، ويسألون الله ألا يجعل في قلوبهم غلاًّ لهم، وتتضمّن أنّ هؤلاء الأصناف هم المستحقّون للفيء. ولا ريب أن هؤلاء الرّافضة خارجون من الأصناف الثلاثة، فإنهم لم يستغفروا للسّابقين، وفي قلوبهم غلّ عليهم. ففي الآيات الثناء على الصحابة وعلى أهل السنة الذين يتولونهم وإخراج الرافضة من ¬
ذلك، وهذا ينقض مذهب الرافضة (¬1) . والآيات في هذا الباب كثيرة (¬2) . ¬
ب ـ السنة المطهرة: وكتب السنة مليئة بالثناء على الصحب، وبيان فضلهم عن سيد الخلق صلى الله عليه وسلم. 1ـ فنصوص تثني عليهم جميعًا كقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبّوا أصحابي، لا تسبّوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنّ أحدكم أنفق مثل أُحُدٍ ذهبًا ما أدرك مُدَّ أحدهم ولا نصيفه" (¬1) . وقوله عليه الصلاة والسلام: "خير النّاس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم،» ، قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه قرني أو ثلاثة" (¬2) . 2ـ ونصوص تثني على جماعات منهم على سبيل التعيين كأهل بدر، وقد قال فيهم صلى الله عليه وسلم: ".. وما يدريك لعلّ الله اطّلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" (¬3) . وأصحاب الشّجرة أهل بيعة الرّضوان، وقد قال فيهم صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل النّار - إن شاء الله - من أصحاب الشّجرة أحد، الذين بايعوا تحتها" (¬4) . ¬
وغيرهما (¬1) . 3ـ ونصوص تثني على آحادهم وهي كثيرة ذكرتها كتب الصحاح، والسنن والمسانيد. ولكن الشيعة قد رضيت لنفسها أن تنأى عن هذا المورد العظيم فهي لا تعرج في مقام الاستدلال عليها، ولا تحتج بها، ولا معنى لاحتجاجنا عليهم برواياتنا فهم لا يصدقونها، كما أنه لا معنى لاحتجاجهم علينا برواياتهم فنحن لا نصدقها، وإنما ينبغي أن يحتج الخصوم بعضهم على بعض بما يصدقه الذي تقام عليه الحجة به، سواء صدقه المحتج أو لم يصدقه (¬2) . ولذا أكتفي في هذا المقام بالإحالة على الكتب الأمهات في أبواب فضائل الصحابة؛ ففيها أحاديث كثيرة في فضل الصحابة والثناء عليهم، والنهي عن سبهم وأقيم عليهم الحجة من كتبهم أيضًا، من أقوال الأئمة التي يعدونها كأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. ¬
جـ ثناء الأئمة على الصحابة رضوان الله عليهم: في الخصال لابن بابويه القمي: «عن أبي عبد الله قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اثني عشر ألفًا (¬1) ، ثمانية آلاف في المدينة وألفان من أهل مكّة، وألفان من الطّلقاء، لم يرد فيهم قدري، ولا مرجئ، ولا حروري، ولا معتزلي، ولا صاحب رأي، كانوا يبكون اللّيل والنّهار» (¬2) . وفي البحار للمجلسي: عن الصّادق عن آبائه عن علي عليه السّلام قال: "أوصيكم بأصحاب نبيّكم لا تسبّوهم، الذين لم يحدثا بعده حدثًا ولم يؤووا مُحدِثًا، فإنّ رسول الله أوصى بهم الخير" (¬3) . وفي البحار أيضًا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "طوبى لمن رآني، وطوبى لمن رأى من رآني، وطوبى لمن رأى من رأى من رآني" (¬4) . ¬
وعن موسى بن جعفر (إمامهم السّابع) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أمنة لأصحابي، فإذا قبضت دنا من أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمّتي، فإذا قبض أصحابي دنا من أمّتي ما يوعدون، ولا يزال هذا الدّين ظاهرًا على الأديان كلّها ما دام فيكم من قد رآني" (¬1) . وفي معاني الأخبار لشيخهم ابن بابويه القمي (الصدوق) : "عن جعفر بن محمد عن آبائه عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما وجدتم في كتاب الله عز وجل فالعمل لكم به، لا عذر لكم في تركه، وما لم يكن في كتاب الله عز وجل، وكانت فيه سنة مني فلا عذر لكم في ترك سنتي، وما لم يكن فيه سنة مني فما قال أصحابي فقولوا به، فإنما مثل أصحابي فيكم كمثل النجوم بأيها أخذ اهتدي، وبأي أقاويل أصحابي أخذتم اهتديتم (ثم زاد دعاة التفرقة على هذا النص الزيادة التالية) فقيل: يا رسول الله، ومن أصحابك؟ قال: أهل بيتي" (¬2) . ولا شك أن تفسير الصحابة بأهل البيت فقط بعيد جدًا، وقد لاحظ صدوقهم هذا البعد فعقب على النص السالف بقوله: "إن أهل البيت لا يختلفون، ولكن يفتون الشيعة بمر الحق، وربما أفتوهم بالتقية، فما يختلف من قولهم فهو للتقية، والتقية رحمة للشيعة" (¬3) . فهو هنا يحمل "النص الذي يثني على الصحابة" على التقية، والعقل والمنطق يعترض على هذا "التأويل" فلم يكون الثناء على الصحابة الذي أثنى عليهم الله ورسوله، وشهد التاريخ بفضلهم وجهادهم تقية، ويكون السب لهم هو الحقيقة وهو مذهب الأئمة؟ إنه لا دليل لهم على هذا المذهب سوى أنه يتمشى مع منطق أعداء الأمة. ثم إن النص السابق يرويه "جعفر الصادق" عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل ¬
رسول الله يكذب على الأمة - تقية - أو أن جعفرًا يكذب على رسول الله من أجل التقية؟! وكلا الأمرين طعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته ومخالفة صريحة للنصوص. وفي نهج البلاغة يقول علي رضي الله عنه في أبي بكر أو عمر رضي الله عنهما على اختلاف بين شيوخ الشيعة في ذلك (¬1) .: "لله بلاء فلان (¬2) . فلقد قوم الأود (¬3) ، وداوى العَمَد (¬4) ، وأقام السّنّة.. وخلف الفتنة (¬5) ، ذهب نقي الثّوب، قليل العيب، أصاب خيرها وسبق شرّها، أدّى إلى الله طاعته واتّقاه بحقّه" (¬6) . وهذا نصّ عظيم يهدم كلّ ما بنوه وزعموه عن عداوة وصراع بين علي والشيخين رضي الله عنهم. وقد احتار "الروافض" بمثل هذا النص؛ لأنه في نهج البلاغة وما في النهج عندهم قطعي الثبوت، وصور شيخهم ميثم البحراني (¬7) . ذلك بقوله: "واعلم أن الشيعة قد أوردوا هنا سؤالاً فقالوا: إن هذه الممادح التي ذكرها في حق أحد الرجلين تنافي ما أجمعنا عليه من تخطئتهم وأخذهما لمنصب الخلافة، فإما أن لا يكون هذا الكلام من كلامه رضي الله عنه، وإما أن يكون إجماعنا خطأ". ثم حملوا هذا الكلام على التقية وأنه إنما قال هذا المدح من أجل "استصلاح من يعتقد صحة خلافة الشيخين واستجلاب قلوبهم بمثل هذا الكلام". أي: أن عليًا - في ¬
زعمهم - أراد خداع الصحابة، وأظهر لهم خلاف ما يبطن فهو خطب هذه الخطبة العامة أمام الناس، وهي مبنية على الكذب، هذا هو جواب من يزعم التشيع لعلي (¬1) . وما أعتقد أن عاقلاً يرضى هذا "الجواب"، وإننا نقول بأن إجماع الشيعة ضلال، وقول علي هو الحق والصدق، وهو الذي لا يخاف في الله لومة لائم. وقد يقول قائل: هذه النصوص المنقولة من كتبهم تناقض ما سلف من تكفير الشيعة للصحابة، وأقول: نعم، لأن هذا المذهب يحمل في رواياته هذه الصورة المتناقضة، لكن شيوخهم وضعوا أصولاً وأقوالاً نسبوها للأئمة للتخلص من هذه الأخبار، والخروج من هذا التناقض، فمن أصولهم أن هذا التناقض أمر مقصود لإخفاء حقيقة المذهب حتى لا يقضى على المذهب وأهله من قبل العامة (يعني أهل السنة) (¬2) . وقالوا عند الاختلاف: "خذوا بما خالف العامة، فإن فيه الرشاد" (¬3) . ولذلك يحمل شيوخهم أمثال هذه الروايات على التقية، ولأنها روايات قليلة بالنسبة لأخبارهم الكثيرة التي تفكر وتلعن، فهم لا يأخذون بها، فمفيدهم يقول: "ما خرج للتقية لا يكثر روايته عنهم كما تكثر روايات المعمول به" (¬4) . ولذلك تجد في تعقيب ابن بابويه إشارة إلى أن مدح الصحابة في الرواية التي ذكرها إنما هو على سبيل التقية، وكذلك في تعقيب ميثم. وإذا كان الأمر كذلك فإني إنما ذكرت هذه الأخبار وأمثالها لإثبات تناقض المذهب أمام العقلاء، وتبصير من يريد الحق من أتباع المذهب إلى أن هذه الروايات هي الحقيقة لا التقية؛ لاتفاقها مع كتاب الله سبحانه وإجماع الأمة. ¬
وبيان أن عقيدة التقية جعلت من المذهب ألعوبة بأيدي الشيوخ يوجهونه وفق إرادتهم، فلم يعد مذهب أهل البيت، إنما مذهب الكليني والقمي والمجلسي وأضرابهم.
دلالة العقل والتاريخ وما علم بالتواتر وأجمع الناس عليه: أولاً: قد عرف بالتواتر الذي لا يخفى على العامة والخاصة أن أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم كان لهم بالنبي صلى الله عليه وسلم اختصاص عظيم وكانوا من أعظم الناس اختصاصًا به، وصحبة له وقربًا إليه، وقد صاهرهم كلهم، وكان يحبهم ويثني عليهم، وحينئذ فإما أن يكونوا على الاستقامة ظاهرًا وباطنًا في حياته وبعد موته، وإما أن يكونوا بخلاف ذلك في حياته أو بعد موته، فإن كانوا على غير الاستقامة مع هذا القرب فأحد الأمرين لازم، إما عدم علمه بأحوالهم، أو مداهنته لهم، وأيهما كان فهو من أعظم القدح في الرسول صلى الله عليه وسلم كما قل: فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم وإن كانوا انحرفوا بعد الاستقامة فهذا خذلان من الله للرسول في خواص أمته، وأكابر أصحابه، ومن وعد أن يظهر دينه على الدين كله، فكيف يكون أكابر خواصه مرتدين؟ فهذا ونحوه من أعظم ما يقدح به الرافضة في الرسول صلى الله عليه وسلم كما قال مالك وغيره: إنّما أراد هؤلاء الرّافضة الطّعن في الرّسول صلى الله عليه وسلم ليقول القائل: رجل سوء كان له أصحاب سوء، ولو كان رجلاً صالحًا لكان أصحابه صالحين، ولهذا قال أهل العلم: إن الرافضة دسيسة الزندقة (¬1) . ثانيًا: إن المرتد إنما يرتد لشبهة أو شهرة، ومعلوم أن الشبهات والشهوات في أوائل الإسلام كانت أقوى، حيث كان الإسلام إذ ذاك قليلاً، والكفار مستولون على عامة الأرض، وكان المسلمون يؤذون بمكة ويلقون من أقاربهم وغيرهم من المشركين من الأذى ما لا يعلمه إلا الله، وهم صابرون على الأذى متجرعون لمرارة ¬
البلوى، وقد اتبعوه صلى الله عليه وسلم وهو وحيد فقير، ذليل خائف، مقهور مغلوب، وأهل الأرض يد واحدة في عداوته، وقد خرجوا من ديارهم وأموالهم وتركوا ما كانوا عليه من الشرف والعزة حبًا لله ورسوله. وهذا كله فعلوه طوعًا واختيارً، فمن كان إيمانهم مثل الجبال في حال ضعف الإسلام، كيف يكون إيمانهم بعد ظهور آياته وانتشار أعلامه (¬1) .؟! لاسيما والسبب الذي تكفرهم الرافضة من أجله وهو بيعة أبي بكر من دون علي، لا يوجد فيه ما يدفعهم إلى التضحية بإيمانهم، وخسارة سابقتهم وجهادهم وبيع آخرتهم من أجل أبي بكر، فما الذي حملهم على ذلك وهم يعلمون أنه كفر بربهم، ورجوع عن دينهم، وتركوا اتباع قول رسول الله في بيعة علي بن أبي طالب، وقد علموا أنها طاعة نبيهم، والثبات على دينهم، هل يعقل أن يطيع المهاجرون والأنصار أبا بكر في الكفر بالله، ويتركوا اتباع قول رسول الله في علي؟ وهم الذين خرجوا من ديارهم يبتغون فضلاً من الله ورضوانًا، وينصرون الله ورسوله، أولئك هم الصادقون. ثالثًا: إن مذهب الرافضة في تكفير الصحابة يترتب عليه تكفير أمير المؤمنين لتخليه عن القيام بأمر الله، ويلزم عليه إسقاط تواتر الشريعة، بل بطلانها ما دام نقلتها مرتدين، ويؤدي إلى القدح في القرآن العظيم، لأنه وصلنا عن طريق أبي بكر وعمر وعثمان وإخوانهم، وهذا هو هدف واضع هذه المقالة، ولذلك قال أبو زرعة: «إذا رأيت الرجل ينتقص أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم حق والقرآن حق، وإنا أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى وهم زنادقة" (¬2) . ولذلك اعترفت كتب الشّيعة أن الذي وضع هذه المقالة هو ابن سبأ فقالت ¬
إنه: "أوّل من أظهر الطّعن في أبي بكر عمر وعثمان والصّحابة، وتبرأ منهم، وادّعى أنّ عليًّا عليه السّلام أمره بذلك" (¬1) . رابعًا: أنّ عليًّا رضي الله عنه لم يكفّر أحدًا ممّن قاتله حتى ولا الخوارج، ولا سبى ذرية أحد منهم، ولا غنم ماله، ولا حكم في أحد ممن قاتله بحكم المرتدين كما حكم أبو بكر وسائر الصحابة في بني حنيفة وأمثالهم من المرتدين، بل كان يترضى عن طلحة والزبير وغيرهما ممن قاتله، ويحكم فيهم وفي أصحاب معاوية ممن قاتله بحكم المسلمين، وقد ثبت بالنّقل الصّحيح أنّ مناديه نادى يوم الجمل: لا يتبع مدبر، ولا يجهز على جريح، ولا يغنم مال (¬2) . واستفاضت الآثار أنه كان يقول عن قتلى عسكر معاوية: إنهم جميعًا مسلمون ليسوا كفارًا ولا منافقين (¬3) . وهذا ثبت بنقل الشّيعة نفسها، فقد جاء في كتبهم المعتمدة عندهم: "عن جعفر عن أبيه أنّ عليًّا - عليه السّلام - لم يكن ينسب أحدًا من أهل حربه إلى الشّرك، ولا إلى النّفاق، ولكنّه يقول: هم بغوا علينا" (¬4) . ولكن عقيدة التقية عندهم تجعل دينهم دين الشيوخ لا دين الأئمة، فقد قال الحر العاملي في التعليق على النص السابق: "أقول: هذا محمول على التّقية" (¬5) . وجاء في كتاب علي إلى أهل الأمصار يذكر فيه ما جرى بينه وبين أهل صفين: "وكان بدء أمرنا التقينا والقوم من أهل الشّام، والظّاهر أنّ ربّنا واحد، ودعوتنا في الإسلام واحدة، ولا نستزيدهم في الإيمان بالله، والتّصديق برسوله، ولا يستزيدوننا، الأمر واحد إلا ما اختلفنا فيه من دم عثمان ونحن منه براء" (¬6) . ¬
وقد أنكر على من يسب معاوية ومن معه فقال: "إنّي أكره لكم أن تكونوا سبّابين، ولكنّكم لو وصفتم أعمالهم، وذكرتم حالهم، كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبّكم إياهم: اللهم احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم" (¬1) . فهذا السب والتكفير لم يكن من هدي علي باعتراف أصح كتاب في نظر الشيعة. خامسًا: "إن الذين تستثنيهم الرافضة من حكمها بالردة كسلمان وعمار والمقداد، إنما استثنتهم لأنهم بزعمها على مذهب الرفض من تفكير أبي بكر وعمر، وإنكار بيعتهما، وهذا من جملة نصب الرافضة وتلبيسهم؛ لأنه لم يعهد لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما منازع في إمامتهما لا هؤلاء ولا غيرهم. وهذا سلمان كان أميرًا على مدائن كسرى من قبل عمر يدعو إلى إمامته وطاعته.. وهذا عمّار كان أميرًا من قبل عثمان - رضي الله عنه - على الكوفة، وهذا المقداد وغيره كانوا في عساكر الصّحابة وغزواتهم فكيف يمشي تلبيس الرافضة" (¬2) . سادسًا: من المعلوم المقطوع به من وقائع التاريخ وأحداثه المعلومة المستفيضة حال الصحابة رضوان الله عليهم، وأنهم لم يؤثروا على الله شيئًا، وبلغ المكروه بهم كل مبلغ، وبذلوا النفوس في الله حتى أيد الله تعالى بهم نبيه، وأظهر بهم دينه، فكيف يجسر على الطعن عليهم من عرف الله ساعة في عمره؟ أم كيف يجترئ على سبهم وانتقاصهم من يزعم أنه مسلم (¬3) .؟! ولهذا قال الخطيب البغدادي: "على أنه لو لم يرد من الله عز وجل فيهم شيء مما ذكرناه لأوجبت الحال التي كانوا عليها من الهجرة والجهاد والنصرة، وبذل المهج والأموال، وقتل الآباء والأولاد، والمناصحة في الدين، وقوة الإيمان واليقين القطع على عدالتهم ¬
والاعتقاد بنزاهتهم" (¬1) . ومن يراجع أحداث السيرة وما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه من أذى واضطهاد، حتى رمتهم العرب عن قوس واحدة، وتحملوا اضطهاد قريش في بطحاء مكة، وقاسوا مرارة المقاطعة وشدة الحصار في الشعب، وعانوا من فراق الوطن والأهل والعشيرة فهاجروا إلى الحبشة، والمدينة، وقاموا بأعباء الجهاد وتضحياته، وحاربوا الأهل والعشيرة، إلى آخر ما هو مشهور ومعلوم من حالهم. من يتأمل شيئًا من هذه الأحوال، يعرف عظمة ذلك الجيل، وقوة إيمانه، وصدق بلائه. سابعًا: قامت القرائن العملية، والأدلة الواقعية من سيرة أمير المؤمنين علي في علاقته مع إخوانه أبي بكر وعمر وعثمان مما اشتهر وذاع ونقله حتى الروافض ما يثبت المحبة الصادقة، والإخاء الحميم بين هذه الطليعة المختارة، والصفوة من جيل الصحابة رضوان الله عليهم. وتأتي في مقدمة هذه الأدلة والقرائن تزويج أمير المؤمنين علي ابنته أم كلثوم لأمير المؤمنين عمر (¬2) . فإذا كان عمر فاروق هذه الأمة قد صار عند الاثني عشرية أشد كفرًا من إبليس، أفلا يرجعون إلى عقولهم ويتدبروا فساد ما ينتهي إليه مذهبهم؟! إذ لو كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما كافرين لكان علي بتزويجه ابنته أم كلثوم الكبرى من عمر رضي الله عنه كافرًا أو فاسقًا معرضًا بنته للزنا، لأن وطء الكافر للمسلمة زنا محض (¬3) . والعاقل المنصف البريء من الغرض، الصادق في تشيعه لا يملك إلا الإذعان لهذه الحقيقة، حقيقة الولاء والحب بين الخلفاء الأربعة رضوان الله عليهم، ولذلك لما قيل لمعز الدولة أحمد بن بويه - وكان رافضيًا يشتم صحابة رسول الله -: "إن ¬
عليًا - عليه السلام - زوج ابنته أم كلثوم من عمر بن الخطاب، استعظم ذلك وقال: ما علمت بهذا، وتاب وتصدق بأكثر ماله وأعتق مماليكه ورد كثيرًا من المظالم وبكى حتى غشي عليه" (¬1) . لشعوره بعظيم جرمه فيما سلف من عمره، الذي أمضاه ينهش في أعراض هؤلاء الأطهار مغترًا بشبهات الروافض. وقد حاول شيوخ الشّيعة إبطال مفعول هذا الدّليل فوضعوا روايات الأئمّة تقول: "ذلك فرج غصبناه" (¬2) ، فزادوا الطين بلة، حيث صوّروا أمير المؤمنين في صورة "الدّيّوث" الذي لا ينافح عن عرضه، ويقر الفاحشة في أهله، وهل يتصور مثل هذا في حق أمير المؤمنين علي؟! "إنّ أدنى العرب يبذل نفسه دون عرضه، ويقتل دون حرمه، فضلاً عن بني هاشم الذين هم سادات العرب وأعلاها نسبًا وأعظمها مروءة وحمية، فكيف يثبتون لأمير المؤمنين مثل هذه المنقصة الشنيعة، وهو الشجاع الصنديد، ليث بني غالب، أسد الله في المشارق والمغارب؟! " (¬3) . ويبدو أن بعضهم لم يعجبه هذا التوجيه، فرام التخلص من هذا الدليل بمنطق أغرب وأعجب، حيث زعم أنّ أم كلثوم لم تكن بنت علي ولكنّها جنّيّة تصوّرت بصورتها (¬4) . ومن القرائن أيضًا علاقات القربى القائمة بينهم، ووشائج الصلة، وكذلك مظاهر المحبة، حتى إنّ عليًّا والحسن والحسين يسمّون بعض أولادهم باسم أبي بكر وعمر، وهل يطيق أحد أن يسمي أولاده بأسماء أشد أعدائه كفرًا وكرهًا له؟ وهل يطيق أن يسمع أسماء أعدائه تتردد في أرجاء بيته، يرددها مع أهلها في يومه ¬
مرات وكرات؟! (¬1) . ¬
الفصل الثاني: عصمة الإمام
الفصل الثاني: عصمة الإمام مسألة عصمة الإمام لها أهمية كبرى عند الشيعة (¬1) ، وهي من المبادئ الأولية في كيانهم العقدي (¬2) . والعصمة في كلام العرب: تعني المنع، وعصمة الله عبده: أن يعصمه مما يوبقه، واعتصم فلان بالله إذا امتنع به (¬3) . أما معنى العصمة عند الشيعة فيختلف بحسب أطوار التشيع وتطوراته، لكن يظهر أن مذهب الشيعة في عصمة الأئمة قد استقر على ما قرره شيخ الشيعة - في زمنه - المجلسي - صاحب بحار الأنوار (المتوفى سنة 1111هـ) في قوله: "اعلم أنّ الإماميّة اتّفقوا على عصمة الأئمّة - عليهم السّلام - من الذّنوب - صغيرها وكبيرها - فلا يقع منهم ذنب أصلاً لا عمدًا ولا نسيانًا ولا الخطأ في التّأويل ولا للإسهاء من الله سبحانه" (¬4) . فالمجلسي يسبغ على أئمته العصمة من كافة الأوجه المتصورة: العصمة من المعصية كلها - صغيرة أو كبيرة - العصمة من الخطأ، والعصمة من السهو والنسيان. وهذه الصّورة للعصمة التي يرسمها المجلسي، ويعلن اتفاق الشيعة عليها لم تتحقّق لأنبياء الله ورسله كما يدلّ على ذلك صريح القرآن، والسّنّة، وإجماع ¬
الأمة (¬1) ، فهي غريبة على الأصول الإسلامية، بل إنّ النّفي المطلق للسّهو والنّسيان عن الأئمّة تشبيه لهم بمن لا تأخذه سنة ولا نوم، ولهذا قيل للرّضا - وهو الإمام الثّامن الذي تدعي الشيعة عصمته -: "إنّ في الكوفة قومًا يزعمون أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يقع عليه السّهو في صلاته، فقال: كذبوا - لعنهم الله - إنّ الذي لا يسهو هو الله الذي لا إله إلا هو" (¬2) . وهذا النص - إن صح - من الممكن أن نستقرئ منه بأن نفي السهو - والذي أصبح من أسس مفهوم العصمة عند الاثني عشرية المتأخرين - كان في عصر الرضا عقيدة لقوم ينتسبون للتشيع، لم يذكر لهم اسم لقلتهم أو حقارتهم أو شناعة قولهم، وكانوا يخصون بهذه العقيدة أفضل الخليفة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وقد قوبل هذا الاتجاه الغالي باللعن والتكذيب والتفكير من إمام الشيعة نفسه؛ لأن في هذا تشبيهًا للرسول صلى الله عليه وسلم بمن لا تأخذه سنة ولا نوم، فماذا يقول الرضا إذًا فيمن يطلق هذا الوصف عليه، وعلى آخرين معه من أجداده وأبنائه؟ لا شك أن إنكاره عليهم أشد وأعظم، كما يمكن أن يؤخذ من هذا النص تأخر شيوع هذا الاتجاه عن عصر الرضا. وهذا يدعونا لبحث بواكير النشأة لهذه العقيدة وتطورها. ¬
نشأة هذه العقيدة وتطورها
نشأة هذه العقيدة وتطورها إن شيخ الإسلام ابن تيمية يقرر أن معتقد العصمة كان من آراء ابن سبأ (¬1) ، ولكن لم أجد لفظ "العصم" مأثورًا عن ابن سبأ - في حدود اطلاعي -، ولا شك أن ابن سبأ قد نقل عنه ما يؤدي إلى القول بالعصمة وأعظم، فقد نقل عنه القول بألوهية أمير المؤمنين (¬2) ، لكنه لم يقل بالعصمة حسب النظرية الإمامية، وكانت آراؤه في الغالب خاصة بأمير المؤمنين علي، حتى إنه كان أول من قال بالتوقف من الشيعة (¬3) . - أي انتظار ظهور الإمام علي ورجعته -. ويرى القاضي عبد الجبار أن القول بعصمة الإمام وأنه لا يجوز عليه الخطأ والزلل في حال من الأحوال ولا يلحقه سهو ولا غفلة لم يعرف في عصر الصحابة والتابعين لهم إلى زمن هشام بن الحكم حيث ابتدع هذا القول (¬4) . ويتفق معه محب الدين الخطيب في تحديد الحقبة الزمنية التي نشأت فيها عقيدة العصمة، لكنه يعزوها إلى شخص آخر من معاصري هشام بن الحكم فيقول: "وأول من اخترع لهم هذه العقيدة الضالة خبيث يسميه المسلمون شيطان الطاق وتسميه الشعية "مؤمن آل محمد" (¬5) ، واسمه محمد بن علي الأحول" (¬6) . ¬
وقد أشار دونلدسن إلى احتمال أن فكرة العصمة قد بدأت عند الشيعة في عصر جعفر الصادق (¬1) ، ويلحظ أن هشام بن الحكم، وشيطان الطاق من المعاصرين لجعفر، فلعل هذه العقيدة عرفت عند الشيعة في عصر جعفر الصادق، ولكنها تطورت، ومرت بمراحل حتى استقرت على تلك الصورة التي يعرضها المجلسي. أطوار عقيدة العصمة: وإذا حاولنا أن نرجع إلى النصوص الشيعية التي ورد فيها النص على العصمة لنستقرئ من خلالها الأطوار التي مرت بها هذه العقيدة نجد ما يلي: تنسب كتب الشيعة إلى زين العابدين علي بن الحسين أنّه قال: "المعصوم هو من اعتصم بحبل الله، وحبل الله هو القرآن" (¬2) . وسواء صحت نسبة هذا النص إلى علي بن الحسين أم لم تصح فإنه يطلعنا على تلك النظرة السليمة للعصمة، وربطها بهذا المعنى الإسلامي الجميل في تلك الفترة المبكرة من تاريخ التشيع، فالاعتصام بالقرآن والتمسك به هو العصمة والنجاة، وهذا المعنى ليس مقصورًا على أناس معينين، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا} (¬3) ، {وَمَن يَعْتَصِم بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (¬4) . وبعد ذلك نجد أن هشام بن الحكم الذي ينسب له القاضي عبد الجبار اختراع عقيدة العصمة يسأله أحد رجال الشيعة ويدعى حسين الأشقر فيقول: ما معنى قولكم: "إن الإمام لا يكون إلا معصومًا؟ " فقال هشام: سألت أبا عبد الله (جعفر الصادق) عن ذلك فقال: "المعصوم هو الممتنع بالله من جميع محارم الله، ¬
وقال تبارك وتعالى: {وَمَن يَعْتَصِم بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (¬1) . ويقول شيعي آخر يدعى ابن أبي عمير: ما استفدت من هشام بن الحكم في طول صحبتي إياه شيئًا أحسن من هذا الكلام في عصمة الإمام وهو: أن الإمام لا يذنب؛ لأن منافذ الذنوب الحرص والحسد والغضب والشهوة، وهذه الأوجه منتفية عن الإمام (¬2) . ولكن هذا المفهوم - على كل حال - ليس من غلوّ المجلسي في العصمة، ولا يترتب عليه من الآثار ما يترتب على عصمة الشيعة في صياغتها الأخيرة والتي تزيد على ذلك، بجعل كلام الإمام وحيًا يوحى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وتنفي عنه العوارض البشرية من السهو والغفلة والنسيان لتخرج به من طور المخلوقين إلى صفات خالق البشر. كما يلحظ أن الحكم بامتناع الإمام من المعصية ولزوم فعله للطّاعة يعني أنّه مجبور من الله - سبحانه - على ذلك، وهذا يتعارض مع مذهب الاثني عشريّة في القدر، من القول بالحرّيّة والاختيار، وأنّ العبد يخلق فعله، ممّا يدلّ على أنّ مفهوم العصمة هذا سابق لمذهبهم في القدر والذي أخذوه عن المعتزلة في المائة الثّالثة. ولهذا نجد أنه بعد تأثر الشيعة بالفكر الاعتزالي اصطبغ مفهوم العصمة عندهم ببعض الأفكار الاعتزالية كفكرة اللطف الإلهي، وفكرة الاختيار الإنساني، كما نلاحظ هذا في تعريف المفيد (المتوفى سنة 413هـ) للعصمة حيث قال: "بأنها لطف يفعله الله - تعالى - بالمكلف بحيث يمنع منه وقوع المعصية، وترك الطاعة مع قدرته عليها" (¬3) ، فليس معنى العصمة أن يجبر الله الإمام على ترك المعصية بل ¬
يفعل به ألطافًا يترك معها المعصية مختارًا. فتلحظ الاستعانة بمصطلحات المعتزلة لتحديد مفهوم العصمة. ومسألة العصمة لم تقف عند حد نفي المعصية بل تجاوزت ذلك.. ففي القرن الرابع يقرر ابن بابويه (المتوفى سنة 381هـ) عقيدة الشيعة في العصمة في كتابه الاعتقادات الذي يسمى "دين الشيعة الإمامية" فيقول: "اعتقادنا في.. الأئمة.. أنهم معصومون مطهرون من كل دنس، وأنهم لا يذنبون ذنبًا صغيرًا ولا كبيرًا، ولا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ومن نفى عنهم العصمة في شيء من أحوالهم فقد جهلهم، ومن جهلهم فهو كافر، واعتقادنا فيهم أنهم معصومون موصوفون بالكمال والتمام والعلم من أوائل أمورهم وأواخرها، لا يوصفون في شيء من أحوالهم بنقص ولا عصيان ولا جهل" (¬1) . فهو هنا ينفي المعصية، وأيضًا الجهل والنقص، ويثبت الكمال الذي يلازمهم من أول حياتهم إلى آخرها، ويكفر من خالف ذلك. فهذا طور آخر انتقل إليه مسألة العصمة، ولكنه لم يصرح بنفي السهو عن الأئمة كما فعل المجلسي وشيوخ الشيعة المتأخرون، بل إنّه نصّ في كتابه "من لا يحضره الفقيه" على أنّ نفي السّهو عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم هو مذهب الغلاة والمفوّضة، يقول: "إنّ الغلاة والمفوّة - لعنهم الله - ينكرون سهو النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يقولون: لو جاز أن يسهو في الصّلاة لجاز أن يسهو في التّبليغ؛ لأن الصلاة فريضة كما أن التبليغ فريضة.. وليس سهو النبي صلى الله عليه وسلم كسهونا؛ لأن سهوه من الله عز وجل وإنّما أسهاه الله ليعلم أنّه بشر مخلوق فلا يتّخذ ربًا معبودًا دونه، وليعلم النّاس بسهوه حكم السّهو، وكان شيخنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد يقول: أوّل درجة في الغلو نفي السّهو عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأنا أحتسب الأجر في تصنيف كتاب مفرد في إثبات سهو النّبيّ والرّد على مُنكريه" (¬2) . ¬
فأنت ترى أن ابن بابويه وهو رئيس الشّيعة - كما يسمّونه - ينكر على من نفى السّهو عن المصطفى صلى الله عليه وسلم، فكيف بمن هو أقل منه كالأئمة؟! ويعدّ نفي السّهو علامة الغلو، ويشير إلى أن هذا القول من مذاهب الغلاة.. ويلمح إلى ما ينطوي عليه نفي السهو من تشبيه المخلوق بالخالق جل شأنه. ولكن نفي السّهو هو ممّا أضافه الشّيعة المتأخّرون إلى مسألة العصمة، في تطور آخر لهذه القضية، ولذلك فإن نصوصهم الموضوعة سلفًا عن الأئمة تخالف ذلك، فأبو عبد الله كان يقول - لمّا ذكر له السّهو -: "أو ينفلت من لك أحد؟ ربّما أقعدت الخادم خلفي يحفظ عليّ صلاتي" (¬1) . والرضا يلعن من ينفي السهو عن النبي صلى الله عليه وسلم - كما مرّ - ويقول: إن الذي لا يسهو هو الله سبحانه، وكتب الشيعة روت أخبارًا في سهوه صلى الله عليه وسلم في صلاته (¬2) . ومن الغريب أنهم يحتجّون بإجماعهم رغم أنّه منقوض بمخالفة شيعة القرن الرّابع من قبلهم، وبنصوصهم. ولكن شهوة الغلو تقول: "إنّ أصحابنا الإماميّة أجمعوا على عصمة الأئمّة - صلوات الله عليهم - من الذّنوب الصّغيرة والكبيرة عمدًا وخطأ ونسيانًا من وقت ولادتهم إلى أن يلقوا الله عزّ وجلّ" (¬3) . وإذا قيل لهم كيف ينعقد إجماعكم، وشيخكم الصّدوق ابن بابويه وشيخه ابن الوليد قد خالفا هذا المذهب؟ قالوا: "إن خروجهما لا يخل بالإجماع لكونهما معروفي النسب" (¬4) ، أما القسم الآخر الذين قالوا بالعصمة المطلقة ففيهم من لا تعرف هويته ونسبه أو كلهم كذلك، فيحتمل أن يكون الإمام الغائب خرج من ¬
مخبئه وأدلى بصوته معهم، وقوله هو العمدة في الإجماع (¬1) ، أي أنه يكفي في إثبات حجية الإجماع في هذه المسألة وجود الظن بأن الغائب المعصوم يوجد مع الفئة المجهولة التي قررت نفي السهو. ولك أن تعجب كيف يردون النصوص الصريحة في إثبات السهو والواردة في كتبهم عن الأئمة ويتعلقون بإجماع يكشف عن قول المعصوم الغائب على سبيل الظن والاحتمال؟! ولكن مذهب الشيعة هو مذهب الشيوخ لا مذهب الأئمة. ولقد احتار المجلسي - وهو يرى النصوص التي تخالف إجماع أصحابه - فقال: "المسألة في غاية الإشكال لدلالة كثير من الأخبار والآيات على صدور السّهو عنهم، وإطباق الأصحاب إلا من شذ منهم على عدم الجواز" (¬2) . وهذا اعتراف من المجلسي بأن إجماع الشيعة المتأخرين على عصمة الأئمة بإطلاق يخالف رواياتهم، وهذا دليل واقعي واعتراف صريح في أنهم يجمعون على ضلالة، وعلى غير دليل حتى من كتبهم. ¬
استدلالهم على عصمة أئمتهم
استدلالهم على عصمة أئمتهم استدلالهم بالقرآن: رغم أن كتاب الله سبحانه ليس فيه ذكر للاثني عشر أصلاً - كما مرّ - فضلاً عن عصمتهم، إلا أن الاثني عشرية تتعلق بالقرآن لتقرير العصمة، ويتفق شيوخهم على الاستدلال بقوله - سبحانه -: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} (¬1) . وبهذه الآية صدر المجلسي بابه الذي عقده في بحاره بشأن العصمة بعنوان "باب.. لزوم عصمة الإمام" (¬2) . وجملة من شيوخ الشيعة المعاصرين يجعلون هذه الآية أصل استدلالهم من القرآن، ولا يستدلون بسواها مثل محسن الأمين (¬3) ، ومحمد حسين آل كاشف الغطا، والذي يقول بأنّ هذه الآية صريحة في لزوم العصمة (¬4) . ويتولى صاحب مجمع البيان سياق وجهة استدلال أصحابه بهذه الآية على مرادهم فيقول: "استدل أصحابنا بهذه الآية على أن الإمام لا يكون إلا معصومًا من القبايح؛ لأنّ الله - سبحانه - نفى أن ينال عهده - الذي هو الإمامة (¬5) . - ظالم، ومن ليس بمعصوم فقد يكون ظالمًا إمّا لنفسه، وإما لغيره. ¬
فإن قيل: إنما نفى أن ينال ظالم في حال ظلمه، فإذا تاب فلا يسمى ظالمًا فيصح أن يناله. والجواب: أن الظّالم وإن تاب فلا يخرج من أن تكون الآية قد تناولته في حال كونه ظالمًا، فإذا نفى أن يناله فقد حكم عليه بأنه لا ينالها، والآية مطلقة غير مقيّدة بوقت دون وقت فيجب أن تكون محمولة على الأوقات كلها، فلا ينالها الظّالم وإن تاب فيما بعد" (¬1) . نقد استدلالهم: أولاً: اختلف السلف في معنى العهد على أقوال: قال ابن عباس والسدي: إنه النبوة، قال: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} "أي نبوتي"، وقال مجاهد: الإمامة، أي لا أجعل إمامًا ظالمًا يقتدى به، وقال قتادة وإبراهيم النّخعي وعطاء والحسن وعكرمة: لا ينال عهد الله في الآخرة الظّالمين فأمّا في الدّنيا فقد ناله الظّالم فأمن به وأكل وعاش.. قال الزّجّاج: وهذا قول حسن، أي لا ينال أماني الظّالمين؛ أي: لا أؤمنهم من عذابي. والمراد بالظّالم: المشرك، وقال الربيع بن أنس والضحاك، عهد الله الذي عهد إلى عباده: دينه، يقول: لا ينال دينه الظالمين، ألا ترى أنه قال: {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ} يقول: ليس كلّ ذرّيتك يا إبراهيم على الحقّ.. وروي عن ابن عباس - أيضًا - {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} ، قال: ليس للظالمين عهد، وإن عادته فانقضه (¬2) . فالآية - كما ترى - اختلف السلف في تأويلها، فهي ¬
ليست في مسألة الإمامة أصلاً في قول أكثرهم، والذين فسروها بالإمامة قصدوا إمامة العلم والصلاح والاقتداء، لا الإمامة بمفهوم الرافضة. ثانيًا: لو كانت الآية في الإمامة فهي لا تدلّ على العصمة بحال؛ إذ لا يمكن أن يقال بأنّ غير الظّالم معصوم لا يخطئ ولا ينسى ولا يسهو.. إلخ كما هو مفهوم العصمة عند الشيعة، إذ يكون قياس مذهبهم من سها فهو ظالم ومن أخطأ فهو ظالم.. وهذا لا يوافقهم عليه أحد ولا يتّفق مع أصول الإسلام، فبيّن إثبات العصمة، ونفي الظّلم فرق كبير؛ لأنّ نفي الظّلم إثبات للعدل، لا للعصمة الشّيعيّة. ثالثًا: لا يسلم لهم أن من ارتكب ظلمًا ثم تاب منه لحقه وصف الظلم ولازمه، ولا تجدي التوبة في رفعه، فإن أعظم الظّلم الشّرك، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ} (¬1) ، ثم فسّر الظّلم بقوله: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (¬2) . ومع هذا قال - جلّ شأنه - في حقّ الكفّار: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ} (¬3) . لكن قياس قول هؤلاء أنّ من أشرك ولو لحظة، أو ارتكب معصية ولو صغيرة فهو ظالم لا ينفكّ عنه وصف الظّلم، ومؤدّى هذا أنّ المشرك ولو أسلم فهو مشرك لأنّ الظّلم هو الشّرك (¬4) . فصاروا بهذا أشدّ من الخوارج الوعيديّة؛ لأن الخوارج لا يثبتون الوعيد لصاحب الكبيرة إلا في حالة عدم توبته. ¬
ومن المعلوم في بدائه العقول فضلاً عن الشرع والعرف واللغة "أن من كفر أو ظلم ثمّ تاب وأصلح لا يصحّ أن يطلق عليه أنّه كافر أو ظالم.. وإلا جاز أن يُقال: صبي لشيخ، ونائم لمستيقظ، وغني لفقير، وجائع لشبعان، وحي لميت، وبالعكس، وأيضًا لو اطرد ذلك يلزم من حلف لا يسلم على كافر فسلم على إنسان مؤمن في الحال إلا أنه كان كافرًا قبل سنين متطاولة أن يحنث، ولا قائل به" (¬1) . ومن المعروف أنه قد يكون التائب من الظلم أفضل ممن لم يقع فيه. ومن اعتقد أن كل من لم يكفر ولم يقتل ولم يذنب أفضل من كل من آمن بعد كفره واهتدى بعد ضلاله، وتاب بعد ذنوبه، فهو مخالف لما علم بالاضطرار من دين الإسلام، فمن المعلوم أن السابقين أفضل من أولادهم، وهل يشبه أبناء المهاجرين والأنصار بآبائهم عاقل (¬2) .؟! كما أن استدلالهم هذا يؤدي إلى أن جميع المسلمين وكذلك الشيعة وأهل البيت - إلا من تعتقد الشيعة عصمتهم - جميعهم ظلمة لأنهم غير معصومين، وقد قال شيخهم الطوسي بأن الظّلم اسم ذمّ فلا يجوز أن يطلق إلا على مستحقّ اللّعن لقوله - تعالى -: {أَلاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} (¬3) . رابعًا: وأختم القول بما قرره أحد علماء الشيعة الزيدية في نقض استدلال الشيعة الاثني عشرية بهذه الآية حيث قال: "احتج الرافضة بالآية على أن الإمامة لا يستحقها من ظلم مرة، ورام الطعن في إمامة أبي بكر وعمر، وهذا لا يصح لأن العهد إن حمل على النبوة فلا حجة، وإن حمل على الإمامة فمن تاب من الظّلم لا يوصف بأنّه ظالم، ولم يمنعه - تعالى - من نيل العهد إلا حال كونه ظالمًا" (¬4) . ¬
أدلتهم من السنة: ويتمسكون بروايات من طرق أهل السنة للاحتجاج بها على أهل السنة، وإقناع قومهم بأن ما هم عليه موضع إجماع، وهي ما بين كذب، أو بعيد عن استدلالهم، وقد مضى الحديث فيها في فصل الإمامة. والروايات التي يحتجون بها هي تتعلق بأهل البيت، ولا حجة للاثني عشرية في ذلك أصلاً لما ثبت من أن الاثني عشرية ليس لها علاقة بأهل البيت إلا العلاقة المزعومة بعلي وبعض أولاده، وهما الحسن والحسين، وبعض ذرية الحسين، وقد انقطع النسل الذين يقولون بإمامتهم لوفاة الحسن العسكري عقيمًا، فعلاقتهم منذ سنة 260 هـ بشيوخ يزعمون النيابة عن معدوم لا وجود له، وهم الذين انتهوا بالمذهب إلى هذه النهاية المفزعة التي مر علينا جملة من صورها. وقد سلف ذكر الشواهد في تكفيرهم لأهل البيت، ولذلك فإنّ تمسّكهم بالقول بعصمة أهل البيت هو من خداع العناوين. غير أن الاثني عشرية تقيم معتقدها في العصمة وغيرها بما يرويه صاحب الكافي، وإبراهيم القمي، والمجلسي وأضرابهم من روايات منكرة في متنها فضلاً عن إسنادها، تثبت لهؤلاء الاثني عشر العصمة المزعومة، وقد ساق المجلسي في بابه الذي عقده في شأن العصمة ثلاثًا وعشرين رواية من روايات شيوخه كالقمي، والعياشي والمفيد وغيرهم، وقد ذكرها بعد استدلاله بآية البقرة، التي تبين لنا أن استدلالهم فيها باطل. أما الكليني في الكافي فقد عقد مجموعة من الأبواب في معنى العصمة المزعومة، ساق فيها أخبارًا بسنده عن الاثني عشر يدّعون فيها أنهم معصومون بل وشركاء في النبوة، بل ويتصفون بصفات الألوهية، وقد مر في باب اعتقادهم في
أصول الدين أمثلة من ذلك، وتجد ذلك في الكافي في باب "أن الأئمة هم أركان الأرض" وأثبت فيه ثلاثة روايات تقول بأن الأئمة الاثني عشر كرسول الله في وجوب الطاعة، وفي الفضل، وفي التكليف، فعلي "جرى له من الطاعة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لرسول الله صلى الله عليه وسلم" (¬1) ، كذا سائر الاثني عشر، ثم ما تلبث أن ترفعهم عن مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مقام رب العالمين حيث تقول بأن عليًا قال: "أُعطيت خصالاً لم يعطهنّ أحد قبلي: علّمت علم المنايا والبلايا.. فلم يفتني ما سبقني ولم يعزب عنّي ما غاب عنّي" (¬2) . والذي يعلم المنايا والبلايا هو الله - سبحانه - {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} (¬3) . والذي لا يعزب عنه شيء، ولا يفوته شيء هو الخالق - جل علاه - قال تعالى: {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} (¬4) . فالأمر تعدى حدود العصمة إلى دعوى الرسالة والألوهية، وهذا خروج عن الإسلام رأسًا. وقد تتابعت أبواب الكافي في هذا المعنى (¬5) ، وهي لا تخرج عن دعاوى المتنبئين والملحدين على مدار التاريخ سوى أنهم نسبوا هذه المفتريات إلى جملة من أهل البيت الأطهار. ¬
أدلتهم العقليّة على مسألة العصمة: نستطيع أن نرجع أدلتهم العقلية التي يستدلون بها على عصمة الإمام إلى أصل واحد، وهو أنّ الأمّة كلّها معرّضة للخطأ والضّلال، والعاصم لها من الضّلال هو الإمام. ولهذا رتبوا أدلتهم على هذا الأساس فقالوا: إن الأمة لابد لها من رئيس معصوم يسدد خطأها، فلو جاز الخطأ عليه لزم له آخر يسدّده فيلزم التّسلسل فحينئذ يلزم القول بعصمة الإمام؛ لأن الثقة عندهم بالإمام لا بالأمة.. وقالوا بأنه هو الحافظ للشرع، ولا اعتماد على الكتاب والسنة والإجماع بدونه..إلخ (¬1) . والحقيقة غير هذا تمامًا، فالأمّة معصومة بكتاب ربّها وسنّة نبيّها صلى الله عليه وسلم، ولا تجمع الأمّة على ضلالة، وعصمة الأمّة مغنية عن عصمة الإمام، وهذا مما ذكره العلماء في حكمة عصمة الأمة قالوا: لأن من كان من الأمم قبلنا كانوا إذا بدلوا دينهم بعث الله نبيًا يبين الحق، وهذه الأمّة لا نبي بعد نبيّها، فكانت عصمتها تقوم مقام النّبوّة، فلا يمكن أحد منهم أن يبدّل شيئًا من الدّين إلا أقام الله من يبيّن خطأه فيما بدّله، ولذلك فإنّ الله - سبحانه - قرن سبيل المؤمنين بطاعة رسوله في قوله - عزّ وجلّ -: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا} (¬2) . فعصمة الأمة وحفظها من الضلال - كما جاءت بذلك النصوص الشرعية - تخالف تمامًا من "يوجب عصمة واحد من المسلمين، ويجوز على مجموع المسلمين - ¬
إذا لم يكن فيهم معصوم - الخطأ" (¬1) . وكل ما سطروه وملأوا به الصفحات من أدلة عقلية تؤكد الحاجة إلى معصوم قد تحققت بالرسول صلى الله عليه وسلم، ولذلك فإن الأمة ترد عند التنازع إلى ما جاء به الرسول من الكتاب والسنة ولا ترد إلى الإمام {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ} (¬2) . "قال العلماء: إلى كتاب الله، وإلى نبيّه صلى الله عليه وسلم، فإن قبض فإلى سنّته" (¬3) ، وهي بهدي الكتاب والسنة لا تجمع على ضلالة؛ لأنها لن تخلو من متمسك بهما إلى أن تقوم الساعة. ولهذا فإن الحجة على الأمة قامت بالرسل، قال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ} إلى قوله: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (¬4) ، ولم يقل - سبحانه -: والأئمة، وهذا يبطل قول من أحوج الخلق إلى غير الرسل كالأئمة (¬5) . وأدلّتهم العقليّة التي تؤكّد الحاجة إلى إمام معصوم، وأنّ الأمّة بدونه لا إيمان لها ولا أمان، هذه الحجج هي أيضًا تؤدّي في النّهاية إلى إبطال عصمة الأئمّة عندهم؛ لأنّ أئمّتهم لم يتحقّق بهام مقاصد الإمامة التي يتحدّثون عنها. والواقع أنّه يكفي من ذلك انتهاء ظهور الإمام عندهم منذ سنة (260هـ) ، سواء كان لم يوجد أصلاً - كما يقوله أكثر الفرق الشّيعيّة التي وجدت إثر وفاة الحسن، وكما تقوله أسرة الحسن وعلى رأسهم أخوه جعفر، وكما يؤكّده علماء النّسب والتّاريخ، كما سيأتي - أو هو مختف لم يظهر - كما تقوله الاثنا عشريّة - فإنّ هذا الغائب الموعود أو المعدوم لم ينتفع به في دين ولا دنيا. ¬
وهذه ثلمة لا تسد، وفتق لا يرتق في المذهب الاثني عشري لا يبقي ولا يذر لحججهم وزنًا ولا أثرًا، وكذلك أجداده من قبل إذ لم يتول منهم أحد ما عدا أمير المؤمنين علي، والحسن قبله تنازله، ولهذا قال أهل العلم: إن دعوى العصمة عندهم ليس عليها دليل إلا زعمهم بأن الله لم يخل العالم من أئمة معصومين لما في ذلك من المصلحة واللطف.. وكذلك أجداده المتقدمون لم يحصل بهم المصلحة واللطف الحاصلة من إمام معصوم ذي سلطان كما كان النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة، فإنه كان إمام المؤمنين الذي يجب عليهم طاعته، ويحصل بذلك سعادتهم، ولم يحصل بعده أحد له سلطان تدعى له العصمة إلا علي - رضي الله عنه - ومن المعلوم أن المصلحة واللّطف الذي كان المؤمنون فيها زمن الخلفاء الثّلاثة أعظم من المصلحة واللّطف الذي كان في خلافة علي زمن القتل والفتنة والافتراق (¬1) . أما من دون علي فإنما كان يحصل للناس من علمه ودينه مثل ما يحصل من نظرائه، وكان علي بن الحسين وابنه أبو جعفر، وابنه جعفر بن محمد يعلمون الناس ما علمهم الله كما علمه علماء زمانهم، وكان في زمانهم من هو أعلم منهم وأنفع للأمة، وهذا معروف عند أهل العلم، ولو قدر أنهم كانوا أعلم وأدين فلم يحصل من أهل العلم والدين ما يحصل من ذوي الولاية من القوة والسلطان، وإلزام الناس بالحق ومنعهم باليد عن الباطل. وأما من بعد الثلاثة كالعسكريين فهؤلاء لم يظهر عليهم علم تستفيده الأمة، ولا كان لهم يد تستعين بها الأمة؛ بل كانوا كأمثالهم من الهاشميين لهم حرمة ومكانة، وفيهم من معرفة ما يحتاجون إليه في الإسلام والدين ما في أمثالهم، وهو ما يعرفه كثير من عوام المسلمين.. ولذلك لم يأخذ عنهم أهل العلم كما أخذوا عن أولئك الثلاثة (¬2) . ¬
نقد عام لمبدأ "عصمة الأئمة"
نقد عام لمبدأ "عصمة الأئمة": دعوى العصمة للأئمّة تضاهي المشاركة في النّبوّة، فإنّ المعصوم يجب اتّباعه في كلّ ما يقول، ولا يجوز أن يخالف في شيء، وهذه خاصّة الأنبياء ولهذا أمرنا أن نؤمن بما أنزل إليهم فقال - تعالى -: {قُولُواْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (¬1) فأمرنا أن نقول: آمنا بما أوتي النبيون.. فالإيمان بما جاء به النبيون مما أمرنا أن نقوله ونؤمن به، وهذا ما اتفق عليه المسلمون.. فمن جعل بعد الرّسول معصومًا يجب الإيمان بكلّ ما يقوله فقد أعطاه معنى النّبوّة، وإن لم يعطه لفظها (¬2) . وهذا مخالف لدين الإسلام، للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها. أما القرآن فقال - سبحانه -: {وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ} (¬3) ، فلم يأمرنا بالرد عند التنازع إلا إلى الله والرسول، ولو كان للناس معصوم غير الرسول صلى الله عليه وسلم لأمرهم بالرد إليه؛ فدل القرآن أن لا معصوم إلا الرسول صلى الله عليه وسلم (¬4) . وقال - تعالى -: {وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} (¬5) ، وقال: {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} (¬6) . فدل القرآن - في غير موضع - على أن من أطاع الرسول كان من أهل السعادة، ولم ¬
يشترط في ذلك طاعة معصوم آخر، ومن عصى الرسول كان من أهل الوعيد وإن قدر أنه أطاع من ظن أنه معصوم. وقد اتفق أهل العلم أهل الكتاب والسنة على أن كل شخص - سوى الرسول - فإنه يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يجب تصديقه في كل ما أخبر، واتباعه فيما أمر واجتناب ما نهى عنه وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع فإنه المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى (¬1) . والسنة المطهرة دلت على ذلك، ولكنهم - كما سلف - لا يرجعون إلا إلى أقوال أئمتهم، وإليك ما ينقض مذهبهم من أقوالهم: جاء في نهج البلاغة - الذي لا تشك الشيعة في كلمة منه - ما يهدم كل ما بنوه من دعاوى في عصمة الأئمة؛ حيث قال أمير المؤمنين - كما يروي صاحب النهج -: "لا تخالطوني بالمصانعة، ولا تظنوا بي استثقالاً في حق قيل لي، ولا التماس إعظام النفس، فإنه من استثقل الحق أن يقال له أو العدل أن يعرض عليه، كان العمل بهما أثقل عليه، فلا تكفوا عن مقالة بحق، أو مشهورة بعد، فإنّي لست في نفسي بفوق أن أخطئ ولا آمن ذلك من فعلي" (¬2) . فأمير المؤمنين يطلب من أصحابه ألا يترددوا في إبداء النصيحة والمشورة، ولا يمنعهم من ذلك المجاملة والمصانعة، أو أن يظن به أنه لا يقبل الحق إذا قيل له، استثقالاً له وتعظيمًا لنفسه، فإن الحكم الذي لا يقبل مشورة الرعية ولا يرضى أن يقال له: أخطأت هو عن العمل بالحق والعدل أبعد؛ لأن من يثقله استماع النصيحة فهو عن العمل بها أعجز، فلا تكفوا عن مقالة بحق ولا مشورة بعدل فالجماعة أقرب إلى الحق والعصمة، والفرد لا يأمن على نفسه الوقوع في الخطأ. فهو هنا لم يدّع ما تزعم الشيعة فيه من أنه لا يخطئ بل أكد أنه لا يأمن على نفسه من الخطأ، كما لم يعلن استغناءه ¬
عن مشورة الرعية بل طلب منهم المشورة بالحق والعدل لأن الأمة لا تجتمع على ضلالة، وكل فرد لوحده معرض للضلالة، فعلم أن دعوى العصمة من مخترعات غلاة الشيعة. وجاء في نهج البلاغة - أيضًا -: "لابدّ للنّاس من أمير برّ أو فاجر يعمل في إمرته المؤمن، ويجمع به الفيء، ويقاتل به العدو، وتأمن به السّبل، ويؤخذ به للضّعيف من القوي" (¬1) . فأنت ترى أنه لم يشترط العصمة في الأمير، ولم يشر لها من قريب أو بعيد، بل رأى أنه لابدّ من نصب أمير تناط به مصالح العباد والبلاد، ولم يقل أنه لا يلي أمر الناس إلا إمام معصوم، وكل راية تقوم غير راية المعصوم فهي راية جاهلية - كما تقول كتب الشيعة - ولم يحصر الإمارة في الاثني عشر المعصومين عند الشيعة ويكفر من تولاها من خلفاء المسلمين كما تذهب إليه الشيعة، بل رأى ضرورة قيام الإمام ولو كان فاجرًا، وجعل إمارته شرعية بدليل أنه أجاز الجهاد في ظل إمارة الفاجر؛ فأين هذا مما تقرره الشريعة بمنع الجهاد حتى يخرج المنتظر (¬2) . لأن الإمامة الشرعية محصورة في الاثني عشر؟! وكان الأئمة يعترفون بالذنوب ويستغفرون الله منها.. فأمير المؤمنين يقول في دعائه - كما في نهج البلاغة -: "اللهمّ اغفر لي ما أنت أعلم به منّي، فإن عدت فعد عليّ بالمغفرة، اللهمّ اغفر لي ما وأيت (¬3) . من نفسي ولم تجد له وفاء عندي، اللهمّ اغفر لي ما تقرّبت به إليك بلساني، ثم خالفه قلبي، اللهمّ اغفر لي رمزات الألحاظ، وسقطات الألفاظ، وشهوات الجنان، وهفوات اللّسان" (¬4) . ¬
فأنت ترى الإقرار بالذنب، وبالعودة إليه بعد التوبة، والاعتراف بسقطات الألفاظ وشهوات الجنان، ومخالفة القلب للسان.. كل ذلك ينفي ما تدعيه الشيعة من العصمة، إذ لو كان علي والأئمة معصومين لكان استغفارهم من ذنوبهم عبثًا.. وكل أئمتهم قد نقلت عنهم كتب الشيعة الاستغفار إلى الله - سبحانه - من الذنوب والمعاصي، ولو كانوا معصومين لما كانت لهم ذنوب. قال أبو عبد الله - كما تروي كتب الشيعة -: "إنّا لنذنب ونسيء ثم نتوب إلى الله متابًا" (¬1) . وكان أبو الحسن (موسى الكاظم) يقول - حسب روايات الشيعة -: "ربّ عصيتك بلساني ولو شئت وعزّتك لأخرستني، وعصيتك ببصري ولو شئت لأكمهتني (¬2) ، وعصيتك بسمعي ولو شئت وعزّتك لأصممتني، وعصيتك بيدي ولو شئت وعزّتك لكنعتني (¬3) ، وعصيتك بفرجي ولو شئت وعزّتك لأعقمتني، وعصيتك برجلي ولو شئت وعزّتك لجذمتني، وعصيتك بجميع جوارحي التي أنعمت بها عليّ ولم يكن هذا جزاك منّي" (¬4) . ولقد احتار شيوخ الشيعة في توجيه مثل هذه الأدعية والتي تتنافى ومقرراتهم في العصمة. ولقد نقل لنا أحدهم صورة لهذا التردد حول الحديث السابق فقال: "كنت أفكر في معناه وأقول: كيف يتنزل على ما تعتقده الشيعة من القول بالعصمة؟ وما اتضح لي ما يدفع التردد الذي يوجبه" ثم يذكر بأنه توجه بالسؤال عن هذا إلى شيخهم رضي الدين أبي الحسن علي بن موسى بن طاووس العلوي الحسني وذكر له هذا الإشكال، فقال ابن طاووس: "إنّ الوزير مؤيّد الدّين العلقمي سألني عنه ¬
فقلت: كان يقول هذا ليعلم النّاس"، ويبدو أن ابن العلقمي اقتنع بالجواب ولكن صاحب الإشكال استدرك على جواب ابن طاووس وقال: "إنّي فكّرت بعد ذلك فقلت: هذا كان يقوله في سجدته في اللّيل وليس عنده من يعلّمه". يقول: "ثم خطر ببالي جواب آخر وهو أنه كان يقول ذلك على سبيل التواضع". ولكن لم يقنعه هذا الجواب.. واستقر جواب السائل على أن اشتغالهم بالمباحات من "المأكل والمشرب والتفرغ إلى النكاح يعدونه ذنبًا، ويعتقدونه خطيئة ويستغفرون الله منه". ويذكر أن هذا هو الجواب الذي لا شيء بعده ويتمنى حياة ابن العلقمي ليهديه إليه ويكشف حيرته به (¬1) . وهذا الجواب الذي يرى أنه هو الكاشف لهذه المعضلة عندهم لا يتفق وشريعة الإسلام التي تنهى عن تحريم ما أحل الله وترفض الرهبانية {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (¬2) . وكيف يعد الأئمة هذه الأمور ذنوبًا، كيف يجعلون النكاح الذي هو من شرائع الإسلام ذنبًا يستغفرون الله منه، والله - سبحانه - يقول: {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء} (¬3) . ويعتبرون الأكل والشرب معاصي والله يقول: {كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} (¬4) . ولكن الجواب الذي يكشف هذه المعضلة، ويتفق مع واقع الأئمة وشرائع الإسلام هو بطلان دعوى العصمة بالصورة التي تراها الشيعة وأن الأئمة ليسوا بمعصومين من الخطأ والعصيان، وهذا كما يتفق مع النصوص الشرعية ينسجم مع ¬
واقع الأئمة، وبه تتحقق إمكانية القدوة. ولهذا فإن أنبياء الله - سبحانه - كانوا كسائر البشر يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق.. ويسعون في نشر الدعوة، ويعانون من أذى قومهم، ومن تكاليف الجهاد، كل ذلك لتتحقق بهم القدوة، وليكونوا لمن بعدهم أسوة. وأمر آخر يبطل دعوى العصمة ومن كتب الشيعة نفسها؛ ذلك هو الاختلاف والتّناقض حيال بعض المواقف والمسائل، وأعمال المعصومين لا تتناقض ولا تختلف بل يصدق بعضها بعضًا ويشهد بعضها لبعض.. والاختلاف ناقض للعصمة التي هي شرط للإمامة عندهم، وهو ناقض بالتالي لأصل الإمامة نفسها، ولذلك فإن ظاهرة الاختلاف في أعمال الأئمة كانت سببًا مباشرًا لخروج بعض الشيعة من نطاق التشيع حيث رابهم أمر هذا التناقض. ومن أمثلة ذلك ما يذكره القمي والنوبختي من أنه بعد قتل الحسين حارت فرقة من أصحابه وقالت: قد اختلف علينا فعل الحسن وفعل الحسين، لأنه إن كان الذي فعله الحسن حقًا واجبًا صوابًا من موادعته معاوية وتسليمه له عند عجزه عن القيام بمحاربته مع كثرة أنصار الحسن وقوتهم - فما فعله الحسين من محاربته يزيد بن معاوية مع قلة أنصار الحسين وضعفهم، وكثرة أصحاب يزيد حتى قُتل وقُتل أصحابه جميعًا باطل غير واجب، لأن الحسين كان أعذر في القعود من محاربة يزيد وطلب الصلح والموادعة من الحسن في القعود عن محاربة معاوية، وإن كان ما فعله الحسين حقًا واجبًا صوابًا من مجاهدته يزيد حتى قتل ولده وأصحابه، فقعود الحسن وتركه مجاهدة معاوية وقتاله ومعه العدد الكثير باطل، فشكوا في إمامتهما ورجعوا فدخلوا في مقالة العوام" (¬1) . أما الأمثلة على الاختلاف والتّناقض في أقوال الأئمّة فهو باب واسع، وكان هو الآخر من أسباب انصراف بعض الشيعة من التشيع، وقد شهد بذلك شيخ ¬
الطّائفة الطّوسي وقال بأنّ أخبارهم متناقضة متباينة مختلفة حتى لا يوجد خبر إلا بإزائه ما يضادّه، ولا رواية إلا ويوجد ما يخالفها، وعدّ ذلك من أعظم الطّعون على المذهب الشّيعي، ومن أسباب مفارقة بعض الشّيعة للمذهب (¬1) . وكتابا التهذيب والاستبصار - وهما المصدران المعتمدان من المصادر الأربعة عند الشيعة - يشهدان بهذا التناقض والاختلاف عبر رواياتهما الكثيرة، وقد حاول الطوسي درء هذا الاختلاف ومعالجة هذا التناقض بحمله على التقية فما أفلح إذ زاد الطين بلة. وقد أوجد الشّيعة عقيدة التّقية والبداء لتغطية هذا الاختلاف في أخبار الأئمةّ وأعمالهم.. فاكتشف بعض الشيعة هذه المحاولة، وعرف سبب وضع هاتين العقيدتين، فترك التشيع وقال: إن أئمة الرافضة وضعوا لشيعتهم مقالتين لا يظهرون معهما من أئمتهم على كذب أبدًا، وهما القول بالبداء وإجازة التقية (¬2) . وتنقل كتب الشيعة أن الإمام في مجلس واحد وفي مسألة واحدة يجيب بثلاثة أجوبة مختلفة متباينة، ويحيل ذلك على التقية، أو على حرية الإمام في الفتوى وأن له أن يجيب على الزيادة والنقصان. وقد ذهب رجل من الشيعة يدعى عمر بن رياح ليسأل إمامه، فلما أفتاه عاد إليه من قابل فسأله عن نفس المسألة فأفتاه بخلاف الجواب الأول فاستنكر ذلك وقال: هذا خلاف ما أجبتني في هذه المسألة العام الماضي، فقال له: (أي الإمام) : إن جوابنا خرج على التقية، فتشكك في أمره وإمامته. ثم خرج من عنده ولقي أحد الشيعة (ويدعى محمد بن قيس) وقص عليه ما حدث وقال له: وقد علم الله أني ما سألته عنها إلا وأنا صحيح العزم على التدين بما يفتيني به وقوله ¬
في العمل به، فلا وجه لاتقائه إياي وهذه حالي، فقال له محمد بن قيس: فلعله حضرك من اتقاه؟ فقال: ما حضر مجلسه في واحدة من المسألتين غيري ولكن جوابيه جميعًا خرجا على وجه التبخيت - كذا - ولم يحفظ ما أجاب به في العام الامضي فيجيب بمثله، فرجع عن إمامته وقال: لا يكون إمامًا من يفتي بالباطل (¬1) . وقد روى الكليني عن زرارة بن أعين عن أبي جعفر - رضي الله عنه - قال (زرارة) : "سألته عن مسألة فأجابني، ثم جاءه رجل فسأله عنها فأجابه بخلاف ما أجابني، ثم جاءه رجل فسأله عنها فأجابه بخلاف ما أجابني وأجاب صاحبي، فلما خرج الرجلان قلت: يا ابن رسول الله، رجلان من أهل العراق من شيعتكم قدما يسألان فأجبت كل واحد منهما بغير ما أجبت صاحبيه؟ فقال: يا زرارة إن هذا خير لنا ولكم، ولو اجتمعتم على أمر واحد لصدقكم الناس علينا ولكان أقل لبقائنا وبقائكم" (¬2) . وأحيانًا يفتي في تفسير آية من كتاب الله بثلاثة أجوبة مختلفة متباينة، ويزعم أن هذا قد فوض إليه، يقولون فيه ما يشاؤون (¬3) . فأنت ترى اختلاف الجواب في مسألة واحدة وفي مجلس واحد، والاختلاف ينفي دعوى العصمة.. هذا بحسب المنطق الشيعي، وإلا فإن شيئًا من ذلك لم يحدث من أبي جعفر محمد الباقر، فدينه وعلمه وورعه ينفي أن يفتي في دين الله بالكذب خوفًا وتقية، ولكن هذه الرواية وأمثالها هي حيلة ممن اخترع عقيدة العصمة والغلو في الأئمة لستر الخلاف والتناقص الحاصل في روايتهم والتي هي في الغالب - أيضًا - من صنع أيديهم، فيحصل فيها من التناقض ما يليق بجهلهم. ثم إن المعصوم الذي يدعون اتباعه لم يعصمهم من الخلاف في أصل الدين ¬
عندهم وأساسه وهو الإمامة؛ فتجدهم مختلفين متنابذين متلاعنين يكفر بعضهم بعضًا لاختلافهم في عدد الأئمة، وفي تحديد أعيانهم، وفي الوقف وانتظار عودة الإمام، أو المضي إلى إمام آخر.. هذا عدا الروايات المختلفة المتناقضة في الكثير من أمور الدين - أصوله وفروعه - فما منعت العصمة المزعومة أهل الطائفة من الاختلاف.. وعدم وجود أثرها يدل على انعدام أصلها. هذا، وقد يكون مبدأ العصمة ورثته الشيعة عن المذهب المجوسي، ذلك أن المجوس تدعي في منتظرهم الذي ينتظرون وأصحابه أنهم لا يكذبون، ولا يعصون الله، ولا يقع منهم خطيئة صغيرة ولا كبيرة (¬1) . وقد يقال بأن اعتقادهم في عصمة الأئمة أمر لا يؤثر اليوم لأن الأئمة قد انتهى وجودهم الفعلي منذ عام 260هـ.. ولم يبق إلا الانتظار للغائب الموعود. وأقول: إن هذه العقيدة لها آثارها اليوم في واقع الشيعة، ويتمثل ذلك في جوانب منها: أولاً: علمهم بما يؤثر عن الأئمة الاثني عشر كما يعلم سائر المسلمين بالقرآن والسنة. ثانيًا: غلوهم في قبورهم وأضرحتهم؛ فالغلو في عصمتهم إلى حد وصفهم بصفات الألوهية تحول إلى غلو في قبورهم ومشاهدهم فيطاف بها وتدعى من دون الله سبحانه. ثالثًا: أن المجتهد الشيعي أصبح له شيء من هذه الصفة، فهم يرون أن الراد عليه كالراد على الله، وهو على حد الشرك بالله (¬2) ، وهذا من الخطورة بمكان؛ لأن آيات الشيعة اليوم هم الذين يقودون الحكم في دولة الشيعة.. ¬
فينفذ الشعب تعاليمهم على أنها من شرع الله، ولا يعترض عليهم خشية الوقوع في الشرك. رابعًا: حمل هذا الاعتقاد الفاسد والدينونة به.
الفصل الثالث: التقية
الفصل الثالث: التقية (¬1) . تعريفها: يعرف المفيد التقية عندهم بقوله: "التقية كتمان الحق، وستر الاعتقاد فيه، وكتمان المخالفين، وترك مظاهرتهم بما يعقب ضررًا في الدين أو الدنيا" (¬2) . فالمفيد يعرف التقية بأنها الكتمان للاعتقاد خشية الضرر من المخالفين - وهم أهل السنة كما هو الغالب في إطلاق هذا اللفظ عندهم - أي هي إظهار مذهب أهل السنة (الذي يرونه باطلاً) ، وكتمان مذهب الرافضة الذي يرونه هو الحق، من هنا يرى بعض أهل السنة: أن أصحاب هذه العقيدة هم شر من المنافقين؛ لأن المنافقين يعتقدون أن ما يبطنون من كفر هو باطل، ويتظاهرون بالإسلام خوفًا، وأما هؤلاء فيرون أن ما يبطنون هو الحق، وأن طريقتهم هي منهج الرسل والأئمة (¬3) . ¬
التقية في الأصل عندهم هي مع المسلمين
والتقية في الإسلام غالبًا إنما هي مع الكفار، قال تعالى: {إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً} (¬1) . قال ابن جرير الطبري: "التقية التي ذكرها الله في هذه الآية إنما هي تقية من الكفار لا من غيرهم" (¬2) . ولهذا يرى بعض السلف أنه لا تقية بعد أن أعز الله الإسلام، قال معاذ بن جبل، ومجاهد: كانت التقية في جدة الإسلام قبل قوة المسلمين، أما اليوم فقد أعز الله المسلمين أيتقوا منهم تقاة (¬3) . ولكن تقية الشيعة هي مع المسلمين ولاسيما أهل السنة حتى إنهم يرون عصر القرون المفضلة عهد تقية كما قرره شيخهم المفيد (¬4) ، وكما تلحظ ذلك في نصوصهم التي ينسبونها للأئمة؛ لأنهم يرون أهل السنة أشد كفرًا من اليهود والنصارى؛ لأن منكر إمامة الاثني عشر أشد من منكر النبوة (¬5) . والتقية رخصة في حالة الاضطرار، ولذلك استثناها الله - سبحانه - من مبدأ النهي عن موالاة الكفار فقال - سبحانه -: {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ} (¬6) . فنهى الله - سبحانه - عن موالاة الكفار، وتوعد على ذلك أبلغ الوعيد فقال: {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ} أي ومن يرتكب نهي الله في هذا فقد برئ من الله، ثم قال - سبحانه -: {إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً} أي: إلا من خاف في بعض البلدان والأوقات من شرهم فله أن يتقيهم بظاهره لا بباطنه ونيته (¬7) . ¬
مغالاتهم في أمر التقية
وأجمع أهل العلم على أن التقية رخصة في حال الضرورة، قال ابن المنذر: "أجمعوا على أن من أكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل فكفر وقلبه مطمئن بالإيمان أنه لا يحكم عليه بالكفر" (¬1) . ولكن من اختار العزيمة في هذا المقام فهو أفضل، قال ابن بطال: "وأجمعوا على أن من أكره على الكفر واختار القتل أنه أعظم أجرًا عند الله" (¬2) . ولكن التقية التي عند الشيعة خلاف ذلك، فهي عندهم ليست رخصة بل هي ركن من أركان دينهم كالصلاة أو أعظم، قال ابن بابويه: "اعتقادنا في التقية أنها واجبة، من تركها بمنزلة من ترك الصلاة" (¬3) . قال الصادق: "لو قلت أن تارك التقية كتارك الصلاة لكنت صادقًا" (¬4) . بل نسبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "تارك التقية كتارك الصلاة" (¬5) . ثم زادوا في درجة التقية فجعلوها "تسعة أعشار الدين". ثم لم يكفهم ذلك فجعلوها هي الدين كله ولا دين لمن لا تقية له، جاء في أصول الكافي وغيره أن جعفر بن محمد قال: "إن تسعة أعشار الدين في التقية ولا دين لمن لا تقية له" (¬6) . وعدّوا ترك التقية ذنبًا لا يغفر على حد الشرك بالله، قالت أخبارهم: "يغفر الله للمؤمن كل ذنب، يظهر منه في الدنيا والآخرة، ما خلا ذنبين: ترك ¬
التقية، وتضييع حقوق الإخوان" (¬1) . والتقية في دين الإسلام دين الجهاد والدعوة، لا تمثل نهجًا عامًا في سلوك المسلم، ولا سمة من سمات المجتمع الإسلامي، بل هي - غالبًا - حالة فردية مؤقتة، مقرونة بالاضطرار، مرتبطة بالعجز عن الهجرة، وتزول بزوال حالة الإكراه. ولكنها في المذهب الشيعي تعد طبيعة ذاتية في بنية المذهب، يقول أبو عبد الله: "إنكم على دين من كتمه أعزه الله، ومن أذاعه أذله الله" (¬2) ، وقال: ".. أبى الله - عز وجل - لنا ولكم في دينه إلا التقية" (¬3) . والتقية عندهم حالة مستمرة، وسلوك جماعي دائم، قال ابن بابويه في كتابه "الاعتقادات" المسمى دين الإمامية: "والتقية واجبة لا يجوز رفعها إلى أن يخرج القائم، فمن تركها قبل خروجه فقد خرج عن دين الله - تعالى - وعن دين الإمامية وخالف الله ورسوله والأئمة" (¬4) . وروت كتب الشيعة عن علي بن موسى الرضا - عليه السلام - قال: "لا إيمان لمن لا تقية له، وإن أكرمكم عند الله أعملكم بالتقية" (¬5) . فقيل له: يا ابن رسول الله إلى متى؟ قال: "إلى يوم الوقت المعلوم وهو يوم خروج قائمنا، فمن ترك التقية قبل خروج قائمنا فليس منا" (¬6) . والتقية ملازمة للشيعي في كل ديار المسلمين حتى إنهم يسمون دار الإسلام ¬
"دار التقية"، جاء في رواياتهم: ".. والتقية في دار التقية واجبة" (¬1) . ويسمونها "دولة الباطل". قالوا: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يتكلم في دولة الباطل إلا بالتقية" (¬2) . ويسمونها: "دولة الظالمين" قالوا: "التقية فريضة واجبة علينا في دولة الظالمين، فمن تركها فقد خالف دين الإمامية وفارقه" (¬3) . ويؤكدون على أن تكون عشرة الشيعة مع أهل السنة التقية، وقد ترجم لذلك الحر العاملي فقال: "باب وجوب عشرة العامة (أهل السنة) بالتقية" (¬4) . ونسبوا لأبي عبد الله أنه قال: "من صلى معهم في الصف الأول فكأنما صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصف الأول" (¬5) . وقال: "من صلى خلف المنافقين بتقية كان كمن صلى خلف الأئمة" (¬6) . وقال صاحب كشف الغطاء: "التقية إذا وجبت فمتى أتي بالعبادة على خلافها بطلت، وقد ورد فيها الحث العظيم، وأنها من دين آل محمد، ومن لا تقية له لا إيمان له" (¬7) . بل إن التقية تجري حتى وإن لم يوجد ما يبررها، فأخبارهم تحث الشيعي على استعمال التقية مع من يأمن جانبه حتى تصبح له سجية وطبيعة فيمكنه التعامل بها حينئذ مع من يحذره ويخافه بدون تكلف ولا تصنع، فقد روت كتبهم: "عليكم بالتقية فإنه ليس منا من لم يجعلها شعاره ودثاره مع من يأمنه، لتكون سجيته ¬
سبب غلوهم في التقية
مع من يحذره" (¬1) . ولأن التقية لا تعني - بهذه الصورة - سوى الكذب والنفاق، وهو مما تكرهه الفطرة السليمة وتمجه النفوس السوية ولا تقبله العقول، حاولت روايات الشيعة أن تحببها للأتباع، وتغريهم بالتزامها؛ فزعموا أنها عبادة لله، بل هي أحب العبادات إليه، روى الكليني: ".. عن هشام الكندي قال: سمعت أبا عبد الله يقول: والله ما عبد الله بشيء أحب إليه من الخبء، فقلت: ما الخبء؟ قال: التقية" (¬2) . وجاء في الكافي وغيره: ".. عن محمد بن مروان عن أبي عبد الله - رضي الله عنه - قال: كان أبي - عليه السلام - يقول: وأي شيء أقر لعيني من التقية" (¬3) ، وفي رواية: "ما خلق الله شيئًا أقر لعين أبيك من التقية" (¬4) . هذه هي معالم التقية عند الشيعة الاثني عشرية، وقد ذكر صاحب الكافي أخبارها في "باب التقية" (¬5) ، و"باب الكتمان" (¬6) . و"باب الإذاعة" (¬7) . وذكر المجلسي في بحاره من رواياتهم فيها مائة وتسع روايات في باب عقده بعنوان "باب التقية والمداراة" (¬8) . أما سبب هذا الغلو في أمر التقية فيعود إلى عدة أمور منها: ¬
أولاً: أن الشيعة تعد إمامة الخلفاء الثلاثة باطلة، وهم ومن بايعهم في عداد الكفار، مع أن عليًا بايعهم، وصلى خلفهم، وجاهد معهم، وزوجهم وتسرى من جهادهم، ولما ولي الخلافة سار على نهجهم ولم يغير شيئًا مما فعله أبو بكر وعمر، كما تعترف بذلك كتب الشيعة نفسها (¬1) ، وهذا يبطل مذهب الشيعة من أساسه.. فحاولوا الخروج من هذا التناقض المحيط بهم بالقول بالتقية. ثانيًا: أنهم قالوا بعصمة الأئمة وأنهم لا يسهون ولا يخطئون ولا ينسون، وهذه الدعوى خلاف ما هو معلوم من حالهم.. حتى إن روايات الشيعة نفسها المنسوبة للأئمة مختلفة متناقضة حتى لا يوجد خبر منها إلا وبإزائه ما يناقضه، كما اعترف بذلك شيخهم الطوسي (¬2) . وهذا ينقض مبدأ العصمة من أصله. فقالوا بالتقية لتبرير هذا التناقض والاختلاف والتستر على كذبهم، روى صاحب الكافي عن منصور بن حازم قال: "قلت لأبي عبد الله - عليه السلام -: ما بالي أسألك عن المسألة فتجيبني فيها بالجواب، ثم يجيئك غيري فتجيبه فيها بجواب آخر؟ فقال: إنا نجيب الناس على الزيادة والنقصان.." (¬3) . قال شارح الكافي: "أي زيادة حكم عند التقية، ونقصانه عند عدمها.. ولم يكن ذلك مستندًا إلى النسيان والجهل بل لعلمهم بأن اختلاف كلمتهم أصلح لهم، وأنفع لبقائهم إذ لو اتفقوا لعرفوا بالتشيع وصار ذلك سببًا لقتلهم، وقتل الأئمة عليهم السلام" (¬4) . ولذلك رأى سليمان بن جرير الزيدي في مقالة التقية أنها مجرد تستر على ¬
الاختلاف والتناقض؛ إذ لما رأوا في أقوال الأئمة في المسألة الواحدة عدة أجوبة مختلفة متضادة، وفي مسائل مختلفة أجوبة متفقة، فلما وقفوا على ذلك منهم، قالت لهم أئمتهم (¬1) .: إنما أجبنا بهذا للتقية، ولنا أن نجيب بما أجبنا وكيف شئنا، لأن ذلك إلينا، ونحن نعلم بما يصلحكم، وما فيه بقاؤنا وبقاؤكم، وكف عدوكم عنا وعنكم، قال: فمتى يظهر من هؤلاء على كذب، ومتى يعرف لهم حق من باطل؟! (¬2) . ثالثًا: تسهيل مهمة الكذابين على الأئمة ومحاولة التعتيم على حقيقة مذهب أهل البيت بحيث يوهمون الأتباع أن ما ينقله (واضعو مبدأ التقية) عن الأئمة هو مذهبهم، وأن ما اشتهر وذاع عنهم، وما يقولونه، ويفعلونه أمام المسلمين لا يمثل مذهبهم وإنما يفعلونه تقية فيسهل عليهم بهذه الحيلة رد أقوالهم، والدس عليهم، وتكذيب ما يروى عنهم من حق، فتجدهم مثلاً يردون كلام الإمام محمد الباقر أو جعفر الصادق الذي قاله أمام ملأ من الناس، أو نقله العدول من المسلمين بحجة أنه حضره بعض أهل السنة فاتقى في كلامه، ويقبلون ما ينفرد بنقله الكذبة أمثال جابر الجعفي بحجة أنه لا يوجد أحد يتقيه في كلامه. وبحسبك أن تعرف أن الإمام زيد بن علي وهو من أهل البيت يروي عن علي - رضي الله عنه - كما تنقله كتب الاثني عشرية نفسها - أنه غسل رجليه في الوضوء، ولكن من يلقبونه ب"شيخ الطائفة" لا يأخذ بهذا الحديث ولا يجد حجة يحتج بها سوى دعوى التقية، فهو يورد الحديث في الاستبصار عن زيد بن علي عن جده علي بن أبي طالب قال: "جلست أتوضأ فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ابتدأت الوضوء - إلى أن قال - وغسلت قدمي، فقال لي: يا علي خلل بين الأصابع لا تخلل بالنار" (¬3) . فأنت ترى أن عليًا كان يغسل رجليه في وضوئه، وأن ¬
رسول الله صلى الله عليه وسلم أكد عليه بأن يخلل أصابعه، والشيعة تخالف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهدي علي في ذلك، ولا تلتفت لمثل هذه الروايات، وإن جاءت في كتبها بروايات أئمة أهل البيت، ولا يكلف شيوخ الشيعة أنفسهم بالتفكر في أمر هذه الروايات ودراستها، فلديهم هذه الحجة الجاهزة "التقية"، ولهذا قال الطوسي: "هذا خبر موافق للعامة (يعني أهل السنة) وقد ورد مورد التقية لأن المعلوم الذي لا يتخالج منه الشك من مذاهب أئمتنا - عليهم السلام - القول بالمسح على الرجلين، ثم قال: إن رواة هذا الخبر كلهم عامة، ورجال الزيدية، وما يختصون به لا يعمل به" (¬1) . ثم ساق رواية أخرى عن أبي عبد الله جعفر الصادق في النص على غسل الرجلين وحملها على التقية (¬2) . وفي الأذان حمل ما لم يتفق ومذهب شيوخه على التقية (¬3) . وفي قسمة المواريث يقررون أن المرأة لا ترث من العقار والدور والأرضين شيئًا (¬4) . ولما يأتي عندهم نص عن الأئمة يخالف ذلك وهو حديث أبي يعفور عن أبي عبد الله قال: "سألته عن الرجل هل يرث من دار امرأته أو أرضها من التربة شيئًا؟ أو يكون في ذلك منزلة المرأة فلا يرث من ذلك شيئًا؟ فقال: يرثها وترثه من كل شيء ترك وتركت" (¬5) . قال الطوسي: "نحمله على التقية، لأن جميع من خالفنا يخالف في هذه المسألة، وليس يوافقنا عليها أحد من العامة، وما يجري هذا المجرى يجوز التقية فيه" (¬6) . ¬
وفي النكاح: "جاءت عندهم روايات في تحريم المتعة، ففي كتبهم عن زيد بن علي عن آبائه عن علي - عليه السلام - قال: حرّم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر لحوم الحمر الأهلية ونكاح المتعة" (¬1) . قال شيخهم الحر العاملي: "أقول: حمله الشيخ (¬2) . وغيره على التقية يعني في الرواية، لأن إباحة المتعة من ضروريات مذهب الإمامية" (¬3) . رابعًا: وضع مبدأ التقية لعزل الشيعة عن المسلمين لذلك، جاءت أخبارهم فيها على هذا النمط، يقول إمامهم (أبو عبد الله) : "ما سمعتَ مني يشبه قول الناس فيه التقية، وما سمعت مني لا يشبه قول الناس فلا تقية فيه" (¬4) . وهذا مبدأ خطير، تطبيقه يخرج بالشيعة من الإسلام رأسًا وينظمهم في سلك الملاحدة والزنادقة، لأنهم جعلوا مخالفة المسلمين هي القاعدة، فتكون النتيجة أنهم يوافقون الكافرين ويخالفون المسلمين، فانظر إلى أي مدى لعب بهم زنادقة القرون البائدة. وكان من آثار عقيدة التقية ضياع مذهب الأئمة عند الشيعة، حتى إن شيوخهم لا يعلمون في الكثير من أقوالهم أيها تقية وأيها حقيقة (¬5) ، ووضعوا لهم ميزانًا، أخرج المذهب إلى دائرة الغلو، وهو أن ما خالف العامة فيه الرشاد (¬6) . وقد اعترف صاحب الحدائق بأنه لم يُعلم من أحكام دينهم إلا القليل بسبب ¬
أمثلة من التقية عندهم
التقية حيث قال: "فلم يعلم من أحكام الدين على اليقين إلا القليل لامتزاج أخباره بأخبار التقية، كما قد اعترف بذلك ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني في جامعه الكافي، حتى إنه تخطأ العمل بالترجيحات المروية عند تعارض الأخبار والتجأ إلى مجرد الرد والتسليم للأئمة الأبرار" (¬1) . أما تطبيق التقية عندهم فإنه خير كاشف بأن تقيتهم غير مرتبطة بحالة الضرورة. وقد اعترف - أيضًا - صاحب الحدائق بأن الأئمة "يخالفون بين الأحكام وإن لم يحضرهم أحد من أولئك الأنام، فتراهم يجيبون في المسألة الواحدة بأجوبة متعددة، وإن لم يكن بها قائل من المخالفين" (¬2) . والأمثلة في هذا الباب كثيرة جدًا. روى الكليني " ... عن موسى بن أشيم قال: كنت عند أبي عبد الله فسأله رجل عن آية من كتاب الله - عز وجل - فأخبره بها، ثم دخل عليه داخل فسأله عن تلك الآية فأخبره بخلاف ما أخبر به الأول، قال: فدخلني من ذلك ما شاء الله حتى كأن قلبي يشرح بالسكاكين فقلت في نفسي: تركت أبا قتادة بالشام لا يخطئ في الواو وشبهه، وجئت إلى هذا يخطئ هذا الخطأ كله. فبينا أنا كذلك إذ دخل عليه آخر فسأله عن تلك الآية فأخبره بخلاف ما أخبرني وأخبر صاحبي، فسكنت نفسي فعلمت أن ذلك منه تقية، قال: ثم التفت إليّ فقال لي: يا ابن أشيم إن الله فوض إلى نبيه فقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} فما فوض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد فوضه إلينا" (¬3) . فانظر كيف نسبوا إلى جعفر أنه يضل بتأويل القرآن على غير تأويله؛ ¬
بل وإشاعة التأويلات المختلفة المتناقضة بين الأمة، ثم يزعمون أنه قد فوض له أمر الدين، يفعل ما يشاء.. فهذه ليست تقية، هذا إلحاد في كتاب الله وصد عن دينه، ثم هل هناك حاجة للتقية في تفسير القرآن وفي القرون المفضلة ومن عالم أهل البيت في عصره؟! ويزعمون أن أئمتهم كانوا يفتون بتحريم الحلال وتحليل الحرام بموجب التقية بلا مبرر، ففي الكافي "عن أبان بن تغلب قال: سمعت أبا عبد الله يقول: كان أبي - عليه السلام - يفتي في زمن بني أمية أن ما قتل البازي والصقر فهو حلال، وكان يتقيهم، وأنا لا أتقيهم وهو حرام ما قتل" (¬1) . ومما يدل صراحة على أن التقية ليست إلا الكذب الصريح بلا مبرر ما رواه شيخهم الكليني عن محمد بن مسلم قال: دخلت على أبي عبد الله - عليه السلام - (جعفر الصادق) وعنده أبو حنيفة فقلت له: جعلت فداك رأيت رؤيا عجيبة، فقال لي: يا ابن مسلم هاتها إن العالم بها جالس، وأومأ بيده إلى أبي حنيفة (فعرض الراوي الرؤيا على أبي حنيفة فأجابه أبو حنيفة عليها - كما يزعمون) فقال أبو عبد الله - عليه السلام -: أصبت والله يا أبا حنيفة. قال (الراوي) : ثم خرج أبو حنيفة من عنده فقلت له: جعلت فداك إني كرهت تعبير هذا الناصب، فقال: يا ابن مسلم لا يسؤك الله فما يواطئ تعبيرهم تعبيرنا، ولا تعبيرنا تعبيرهم وليس التعبير كما عبره، قال: فقلت له: جعلت فداك: فقولك: أصبت وتحلف عليه وهو مخطئ؟ قال: نعم حلفت علي أنه أصاب الخطأ (¬2) . فهل استعمال التقية في هذا النص له مسوغ؟ هل أبو حنيفة ذو سلطة وقوة حتى يخشى منه ويتقى، وهل من ضرورة لمدحه والقسم على صواب إجابته ثم لما خرج يحكم عليه بالنصب ويخطئ في جوابه، هل لهذا تفسير غير أن الخداع ¬
والكذب بلا مسوغ ونحن نبرئ جعفر الصادق من هذا الافتراء ونقول: إن هذا سب وطعن في جعفر ممن يزعم التشيع له ومحبته. وكلما كان الرافضي أبرع في الكذب والخداع كلما عظم مقامه عندهم ونال أعلى شهادة، ولذلك أثنى محمد باقر الصدر على الحسين بن روح (¬1) ، وقال بأنه قام بمهمة "البابية" خير قيام لأنه "كان من مسلكه الالتزام بالتقية المضاعفة، بنحو ملفت للنظر بإظهار الاعتقاد بمذهب أهل السنة" (¬2) . وجاء في الغيبة للطوسي: ".. عن عبد الله بن غالب قال: ما رأيت من هو أعقل من الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح، ولعهدي به يومًا في دار ابن يسار، وكان له محل عند السيد والمقتدر عظيم، وكانت العامة - أيضًا - تعظمه.. وعهدي به وقد تناظر اثنان، فزعم واحد أن أبا بكر أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم ثم عمر ثم علي (¬3) ، وقال الآخر: بل علي أفضل من عمر، فزاد الكلام بينهما، فقال أبو القاسم - رضي الله عنه -: الذي اجتمعت الصحابة عليه هو تقديم الصديق ثم بعده الفاروق، ثم بعده عثمان ذو النورين ثم علي الوصي، وأصحاب الحديث على ذلك، وهو الصحيح عندنا. فبقي من حضر المجلس متعجبًا من هذا القول، وكاد العامة الحضور يرفعونه على رؤوسهم، وكثر الدعاء له، والطعن على من يرميه بالرفض، فوقع عليّ الضحك، فلم أزل أتصبر وأمنع نفسي، وأدس كمي في فمي، فخشيت أن أفتضح فوثبت عن المجلس، ونظر إليّ ففطن بي، فلما حصلت في منزلي فإذا الباب يطرق، فخرجت مبادرًا فإذا بأبي القاسم الحسين ابن روح راكبًا بغلته قد وافاني من المجلس قبل مضيه إلى داره فقال لي: يا أبا عبد الله - أيدك الله - لم ضحكت؟ فأردت أن تهتف بي كأن الذي قلته عندك ليس بحق، فقلت: كذلك هو عندي، فقال لي: اتق الله أيها الشيخ فإني ¬
استدلالهم على التقية
لا أجعلك في حل تستعظم هذا القول مني؟ فقلت: يا سيدي، رجل يرى بأنه صاحب الإمام ووكيله يقول ذلك القول يتعجب منه ويضحك من قوله هذا، فقال لي: وحياتك (¬1) . لئن عدت لأهجرنك وودعني وانصرف" (¬2) . نقلت هذه القصة رغم طولها؛ لأنها تصور كيف يخادعون أهل السنة، ويقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، ويتندرون فيما بينهم على تصديق بعض أهل السنة لنفاقهم وكذبهم، وعقلية شيعة هذا العصر لا تزال تؤمن بهذا النفاق وجدواه (¬3) ، وقد جاءت عندهم أخبار كثيرة على هذا النهج، لولا ضيق المجال لعرضت لها، وأعقبتها بالنقد والتحليل، وهي تستحق دراسة خاصة لما فيها من كشف لحيل الروافض وأساليبهم (¬4) . استدلالهم على التقية: يستدل الاثنا عشرية (¬5) . بآيتي آل عمران (¬6) ، والنحل (¬7) ، وغيرهما (¬8) ، على عقيدتهم في التقية، ولكن استدلالهم (بالآيتين) واقع في غير موقعه كما تبين أثناء ¬
توضيح معالم التقية عندهم، ولذلك قرر أهل العلم من خلال معرفتهم بواقع الشيعة أن تقيتهم إنما هي الكذب والنفاق ليس إلا. وقد تبينت لنا هذه الحقيقة من خلال "النص الشيعي" أيضًا. فأنت ترى أن التقية عندهم هي الكذب والنفاق، ومع هذا يعتبرون ذلك من الدين، بل هو الدين كله. وأن حالهم من جنس حال المنافقين لا من جنس حال المكره الذي أكره وقلبه مطمئن بالإيمان. قال شيخ الإسلام ابن تيمية موضحًا الفرق بين تقية النفاق، والتقية في الإسلام: التقية ... ليست بأن أكذب وأقول بلساني ما ليس في قلبي فإن هذا نفاق، ولكن أفعل ما أقدر عليه.. فالمؤمن إذا كان بين الكفار والفجار، لم يكن عليه أن يجاهدهم بيده مع عجزه، ولكن إن أمكنه بلسانه، وإلا فبقلبه مع أنه لا يكذب ويقول بلسانه ما ليس في قلبه، إما أن يظهر دينه وإما أن يكتمه، وهو مع هذا لا يوافقهم على دينهم كله، بل غايته أن يكون كمؤمن آل فرعون؛ حيث لم يكن موافقًا لهم على جميع دينهم، ولا كان يكذب، ولا يقول بلسانه ما ليس في قلبه، بل كان يكتم إيمانه، وكتمان الدين شيء، وإظهار الدين الباطل شيء آخر، فهذا لم يبحه الله قط إلا لمن أكره بحيث أبيح له النطق بكلمة الكفر (¬1) . فيعذره الله في ذلك، والمنافق والكذاب لا يعذر بحال. ثم إن المؤمن الذي يعيش بين الكفار مضطرًا ويكتم إيمانه يعاملهم - بمقتضى الإيمان الذي يحمله - بصدق وأمانة ونصح وإرادة للخير بهم، وإن لم يكن موافقًا لهم على دينهم، كما كان يوسف الصديق يسير في أهل مصر وكانوا كفارًا.. بخلاف الرافضي الذي لا يترك شرًا يقدر عليه إلا فعله بمن يخالفه (¬2) . ¬
الفصل الرابع: المهدية والغيبة
الفصل الرابع: المهدية والغيبة في هذا الفصل سأتناول - بحول الله - مسألة المهدية والغيبة عند الفرق الشيعية بوجه عام، ثم نشأة هذه الفكرة عند الاثني عشرية وتطورها، وبعد ذلك أبين الخطوط العريضة لهذه العقيدة عندهم، وما يستدلون به لإسناد هذا المعتقد ودفاعهم عن طول زمن الغيبة الذي مضى عليه الآن أكثر من أحد عشر قرنًا، ومناقشة ذلك. يلي ذلك بيان لما يتخيله الاثنا عشرية لدولة المهدي بعد عودته من غيبته، وهي خيالات صاغوها على شكل روايات عن أئمة أهل البيت لتأخذ صفة العصمة والقداسة عند أتباعهم، فأبين ما قالوه حول شريعته، وسيرته، وجنده. ثم أعرض بعد هذا للشيعة في فترة الغيبة، والمبادئ التي شرعوها، والشرائع التي عطلوها بسبب هذه العقيدة، ومحاولة شيوخهم لمواجهة فقد إمامهم باختراع عقيدة "النيابة عن المهدي". وأختم الموضوع بنقد لأصل هذه الفكرة ومناقشتها.
المهدية والغيبة عند فرق الشيعة
المهدية والغيبة عند فرق الشيعة: فكرة الإيمان بالإمام الخفي أو الغائب توجد لدى معظم فرق الشيعة، حيث تعتقد في إمامها بعد موته أنه لم يمت، وتقول بخلوده، واختفائه عن الناس، وعودته إلى الظهور في المستقبل مهديًا، ولا تختلف هذه الفرق إلا في تحديد الإمام الذي قدرت له العودة، كما تختلف في تحديد الأئمة وأعيانهم والتي يعتبر الإمام الغائب واحدًا منهم. وتعتبر السبئية - كما يقول القمي، والنوبختي، والشهرستاني وغيرهم - أول فرقة قالت بالوقف على علي (¬1) . وغيبته (¬2) ، حيث زعمت "أن عليًا لم يقتل ولم يمت، ولا يقتل ولا يموت حتى يسوق العرب بعصاه، ويملأ الأرض عدلاً وقسطًا كما ملئت ظلمًا وجورًا" (¬3) . ولما بلغ عبد الله بن سبأ نعي علي بالمدائن قال للذي نعاه: "كذبت، لو جئنا بدماغه في سبعين صرة، وأقمت على قتله سبعين عدلاً لعلمنا أنه لم يمت ولم يقتل، ولا يموت حتى يملك الأرض" (¬4) . وظلت تنتظر عودته من غيبته، ثم انتقلت هذه "الفكرة" من السبئية إلى بعض فرق الكيسانية كالكربية (¬5) . حيث قالت لما مات محمد بن الحنفية - وهو الذي تدعي أنه إمامها -: إنه حي لم يمت وهو في جبل رضوى بين مكة والمدينة عن يمينه أسد وعن يساره نمر ¬
موكلان به يحفظانه إلى أوان خروجه وقيامه (¬1) ، وقالوا: إنه المهدي المنتظر (¬2) . وزعموا أنه سيغيب عنهم سبعين عامًا في جبل رضوى ثم يظهر فيقيم لهم الملك، ويقتل لهم الجبابرة من بني أمية (¬3) . فلما مضت سبعون سنة ولم ينالوا من أمانيهم شيئًا حاول بعض شعرائهم توطين أصحابه على هذه العقيدة، وأن يرضوا بالانتظار ولو غاب مهديهم مدة عمر نوح عليه السلام (¬4) . ثم شاع التوقف على الإمام وانتظار عودته مهديًا بعد ذلك بين فرق الشيعة.. فبعد وفاة كل إمام من آل البيت تظهر فرقة من أتباعه تدعي فيه هذه الدعوى.. وتنتظر عودته، وتختلف فيما بينها اختلافًا شديدًا في تحديد الإمام الذي وقفت عليه وقدرت له العودة - في زعمهم - ولذلك قال السمعاني: "ثم إنهم في انتظارهم الإمام الذي انتظروه مختلفون اختلافًا يلوح عليه حمق بليغ" (¬5) . ¬
وحتى بعض فرق الزيدية وهي الجارودية تاهت في وهم هذا الانتظار للإمام الذي قد مات، مع اختلاف فروع هذه الطائفة في تحديد الإمام المنتظر، كما نقل ذلك الأشعري (¬1) . والبغدادي (¬2) . والشهرستاني (¬3) . وغيرهم (¬4) . ولذلك فإنه لا صحة لما قاله بعضهم من أن الزيدية كلها تنكر هذا الاتجاه كما قاله أحمد أمين (¬5) ، وأشار إليه جولد سيهر (¬6) . هذه عقيدة الغيبة عند فرق الشيعة، ارتبطت بأفراد من أهل البيت معروفين وجدوا في التاريخ فعلاً وعاشوا حياتهم كسائر الناس، فلما ماتوا ادعت فيهم هذه الفرق تلك الدعوى، حيث لم تصدق بموتهم، وزعمت أنهم غابوا، وسيعودون للظهور مرة أخرى. أما هذه الفكرة عند الاثني عشرية فتختلف من حيث إنها ارتبطت عندهم "بشخصية خيالية" لا وجود لها عند أكثر فرق الشيعة المعاصرة لظهور هذه "الدعوى" وهي عند أصحابها شخصية رمزية (¬7) ، لم يرها الناس، ولم يعرفوها، ولا يعلمون مكانها، غابت - كما يدعون - بعد ولادتها، ولم يظهر حملها، وأحيطت ولادتها بسياج من السرية والكتمان، بل إن عائلتها، ووكيلها وأقرب الناس إليها لم يعلموا بأمر هذا الحمل وذلك المولود، وكانوا له منكرين، بل لم يظهر للشيعة التي تدعيه إلا من خلال نواب يدعون الصلة به. هذه الشخصية هي شخصية المهدي المنتظر عندهم، ويشكّل الإيمان بها عند الاثني عشريّة الأصل الذي ينبني عليه مذهبهم، والقاعدة التي تقوم عليها بنية التّشيّع عندهم؛ إذ بعد انتهاء وجود أئمّة الشّيعة بوفاة الحسن العسكري أصبح ¬
الإيمان بغيبة ابنه المزعوم هو المحور الذي تدور عليه عقائدهم، والأساس الذي يمسك بنيان الشّيعة من الانهيار. ولكن كيف ومتى بدأت هذه الفكرة عند الاثني عشرية؟
نشأة فكرة الغيبة عند الشيعة الاثني عشرية وتطورها
نشأة فكرة الغيبة عند الشيعة الاثني عشرية وتطورها حال الشيعة بعد وفاة الحسن العسكري: لابد في الحديث عن النشأة أن نتناول حال الشيعة بعد وفاة الحسن لعلاقته الوثيقة بنشأة هذه الفكرة. إذ بعد وفاة الحسن - إمامهم الحادي عشر - سنة (260هـ) "لم ير له خلف، ولم يعرف له ولد ظاهر، فاقتسم ما ظهر من ميراثه أخوه جعفر وأمّه" (¬1) . كما تعترف بذلك كتب الشيعة نفسها. وبسبب ذلك اضطرب أمر الشّيعة، وتفرّق جمعهم، لأنّهم أصبحوا بلا إمام، ولا دين عندهم بدون إمام، لأنّه هو الحجّة على أهل الأرض (¬2) . وحتى كتاب الله سبحانه ليس حجة عندهم إلا به - كما سلف -، وبالإمام بقاء الكون، إذ "لو بقيت الأرض بغير إمام لساخت" (¬3) ، وهو أمان النّاس "ولو أنّ الإمام رفع من الأرض ساعة لَمَاجَتْ بأهلها كما يموج البحر بأهله" (¬4) . ولكن الإمام مات بلا عقب، وبقيت الأرض بلا إمام، ولم يحدث شيء من هذه الكوارث.. فتحيرت الشيعة واختلفت في أعظم أمر عندها وهو تعيين الإمام، فافترقت إلى أربع عشرة فرقة كما يقول النّوبختي (¬5) ، أو خمس عشرة فرقة كما ينقل القمّي (¬6) ، وهما من الاثني عشريّة. وممّن عاصر أحداث الاختلاف، إذ هما من القرن الثّالث، ¬
فمعلوماتهما مهمة في تصوير ما آل إليه أمر الشيعة بعد الحسن العسكري. ومن بعدهما زادت الفرقة واتّسع الاختلاف، حيث يذكر المسعودي الشّيعي (المتوفّى سنة 346هـ) ما بلغه اختلاف شيعة الحسن بعد وفاته، وأنّه وصل إلى عشرين فرقة (¬1) فما بالك بما بعده (¬2) . وقد ذهبت هذه الفرق مذاهب شتّى في أمر الإمامة، فمنهم من قال: "إنّ الحسن بن علي حيّ لم يمت، وإنّما غاب وهو القائم، ولا يجوز أن يموت ولا ولد له ظاهر، لأنّ الأرض لا تخلو من إمام" (¬3) . فوقفت هذه الفِرقة على الحسن العسكري وقالت بمهديته وانتظاره كما هي العادة عند الشّيعة بعد وفاة كلّ إمام تدّعي إمامته، وذهبت فرقة أخرى إلى الإقرار بموته، ولكنّها زعمت أنّه حيّ بعد موته، ولكنّه غائب وسيظهر (¬4) ، بينما فِرَق أخرى حاولت أن تمضي بالإمامة من الحسن إلى أخيه جعفر (¬5) ، وأخرى أبطلت إمامة الحسن بموته عقيمًا (¬6) . أما الاثنا عشريّة فقد ذهبت إلى الزّعم بأن للحسن العسكري ولدًا "كان قد أخفى (أي الحسن) مولده، وستر أمره لصعوبة الوقت وشدّة طلب السّلطان له.. فلم يظهر ولده في حياته، ولا عرفه الجمهور بعد وفاته" (¬7) . ويقابل ذلك اتجاه آخر يقول: "إن الحسن بن علي قد صحت وفاته كما صحت وفاة آبائه بتواطؤ الأخبار التي لا يجوز تكذيب مثلها، وكثرة المشاهدين ¬
لموته، وتواتر ذلك عن الولي له والعدو، وهذا ما لا يجب الارتياب فيه، وصح بمثل هذه الأسباب أنه لا ولد له، فلما صح عندنا الوجهان ثبت أنه لا إمام بعد الحسن بن علي، وأن الإمامة انقطعت.. كما جاز أن تنقطع النبوة بعد محمد، فكذلك جائز أن تنقطع الإمامة، لأن الرسالة والنبوة أعظم خطرًا وأجل، والخلق إليها أحوج، والحجة بها ألزم، والعذر بها أقطع، لأن معها البراهين الظاهرة والأعلام الباهرة، فقد انقطعت، فكذلك يجوز أن تنقطع الإمامة" (¬1) . وقطعت كذلك فرقة أخرى بموت الحسن بن علي وأنه لا خلف له، وقالت: إن الله سيبعث قائمًا من آل محمد ممن قد مضى، إن شاء بعث الحسن بن علي، وإن شاء بعث غيره، ونحن الآن في زمن فترة انقطعت فيه الإمامة (¬2) . وهكذا تضاربت أقوالهم، واختلفت اتجاهاتهم، وتفرقوا شيعًا وأحزابًا كل حزب بما لديهم فرحون.. وبلغت الحيرة في تلك الفترة أن اختار بعضهم التوقف وقال: "نحن لا ندري ما نقول في ذلك وقد اشتبه علينا الأمر.." (¬3) . هذه بعض ملامح الخلاف الذي دب بين الشيعة بعد وفاة الحسن. أسباب القول بالغيبة: ولعل القارئ يعجب من ذلك الإصرار الشديد على القول بإمامة أحد من آل البيت حتى ينكرون موت من مات، أو يدعون أنه حي بعد موته، أو يخترعون ولدًا لمن لا عقب له، وقليل منهم ثاب إلى رشده لما انكشف له الغطاء بموت الإمام عقيمًا فترك التحزب والتشيع وقال بانقطاع الإمامة، ورجع إلى شئون حياته. ولعل هذه الفئة هي التي تتشيع عن صدق، فلما تبين لها الأمر، وسقط القناع رجعت. ¬
إن أهم سبب لهذا الإصرار يتبين من خلال اختلاف هذه الفرق ونزاعها فيما بينها للدفاع عن رأيها والفوز بأكثر قدر من الأتباع، حيث إن كل طائفة تنادي بمهدي لها وتكذب الأخرى، ومن خلال تلك الخصومة تتسرب الحقيقة. لنستمع - مثلاً - إلى ما ترويه الاثنا عشرية - التي تقول بالغيبة والوقف على الابن المزعوم للحسن للعسكري - في كشف حقيقة دعوى الطائفة الأخرى التي تقول بالغيبة والوقف على موسى الكاظم تقول: "مات أبو إبراهيم (موسى الكاظم) وليس من قوامه (¬1) . أحد إلا وعنده المال الكثير، وكان ذلك سبب وقفهم وجحدهم موته طمعًا في الأموال، كان عند زياد بن مروان القندي سبعون ألف دينار، وعند علي بن أبي حمزة ثلاثون ألف دينار.." (¬2) . وجاء عندهم روايات أخر بهذا المعنى (¬3) . تكشف ما خفي.. وأن وراء دعوى غيبة الإمام وانتظار رجعته الرغبة في الاستئثار بالأموال، وأن هناك فئات منتفعة بدعوى التّشيّع تغرّر بالسّذّج، وتأخذ أموالهم باسم أنّهم نوّاب الإمام، فإذا ما توفّي الإمام أنكروا موته لتبقى الأموال في أيديهم، ويستمرّ دفع الأموال إليهم باسم خمس الإمام الغائب. وهكذا تدور عمليات النهب والسلب.. والضحية هم أولئك السذج المغفلون الذين يدفعون أموالهم إلى من زعموا أنهم نواب الإمام في بلدان العالم الإسلامي. والذين استمرأوا هذه الغنيمة الباردة فظلوا يذكون في النفوس محبة آل البيت، واستشعار ظلم آل البيت، والحديث عن محن آل البيت، والمطالبة بحق آل البيت.. ليفرقوا الأمة، ويتخذوا من تلك الأموال وسيلة لتغذية جمعياتهم السرية التي تعمل على تقويض كيان الدولة الإسلامية. ولعل من أسباب القول بالمهدية والغيبة أيضًا تطلع الشيعة إلى قيام كيان ¬
سياسي لهم مستقل عن دولة الإسلام، وهذا ما نلمسه في اهتمامهم بمسألة الإمامة، ولما خابت آمالهم، وغلبوا على أمرهم وانقلبوا صاغرين هربوا من الواقع إلى الآمال والأحلام كمهرب نفسي ينقذون به أنفسهم من الإحباط وشيعتهم من اليأس، وأخذوا يبثون الرجاء والأمل في نفوس أصحابهم، ويمنونهم بأن الأمر سيكون في النهاية لهم. ولذلك فإن القول بالمهدية والغيبة ينشط دعاته بعد وفاة كل إمام لمواجهة عوامل اليأس وفقدان الأمل، بالإضافة إلى تحقيق المكاسب المادية. كما أن التشيع كان مهوى قلوب أصحاب النحل والأهواء والمذاهب المتطرفة؛ لأنهم يجدون من خلاله الجو المناسب لتحقيق أهدافهم، والعودة إلى معتقداتهم. فانضم إلى ركب التشيع أصناف من أصحاب هذه الاتجاهات الغالية.. وكان هذا «الخليط» يشطح "بالشيعة" نحو معتقداته الموروثة، ولا سيما بعد أن عزلت الشيعة نفسها عن أصول الأمة، وإجماعها. ولهذا فإن مسألة المهدية والغيبة حسب الاعتقاد الشيعي لها جذورها في بعض الديانات والنحل، مما لا يستبعد معه أن لأتباع تلك الديانات دورًا في تأسيس هذه الفكرة في أذهان الشيعة. ويميل بعض المستشرقين أنها ذات أصل يهودي، لأن اليهود يعتقدون بأن إيليا رفع إلى السماء وسيعود في آخر الزمان، ولذلك فإن إيليا هو - حسب رأيهم - النموذج الأول لأئمة الشيعة المختفين الغائبين (¬1) . وفي نظري أن هذا لا يكفي لإظهار الأثر اليهودي، لأن في الإسلام أن عيسى رفع إلى السماء وسيعود في آخر الزمان، فليست هذه الفكرة التي عرضوها غريبة على الأصول الإسلامية، ولكن لأن المستشرقين ينكرون مسألة المهدية أصلاً قالوا هذا القول. إنما يبرز إيضاح الأثر اليهودي أكثر من أوجه أخرى هي أن نظرية الغيبة ترجع في أصولها إلى ابن سبأ وهو حبر من أحبار اليهود. ¬
كذلك ما صرح به بعض شعراء الشيعة من أن فكرة المهدية مستمدة من أخبار كعب الأحبار الذي كان على دين اليهودية قبل إسلامه، ويبدو ذلك بوضوح فيما قاله شاعر الكيسانية كثير عزة في ابن الحنفية: هو المهدي خبرناه كعب ... أخو الأحبار في الحقب الخوالي (¬1) . ويقول فان فلوتن: "وأما نحن معاشر الغربيين فقد استرعت عقيدة المهدي المنتظر بوجه خاص أنظار المستشرقين منا" (¬2) . ثم يربط هذه العقيدة بالإسرائيليات ويردها إلى أصول يهودية ونصرانية، لأنه يرى أنها تخل تحت نطاق التنبؤ ببعض الأشخاص والحوادث المعينة، وهو التنبؤ الذي أفاضت فيه كتب إسرائيلية لم تكن معروفة عند العرب في بادي الأمر، وإنما وصلت إليهم عن طريق اليهود والمسيحيين الذين اعتنقوا الإسلام (¬3) . ويبدو أن ربطه هذه العقيدة باليهودية والنصرانية لمجرد أنها تدخل في نطاق الإخبار بالمغيبات الذي لا يعرفه العرب كما يقول هو ربط ضعيف، ذلك أن من معجزات رسول الإسلام العربي الهاشمي الإخبار ببعض المغيبات، لكن هؤلاء يحللون هذه المسائل وفق عقليتهم الكافرة، واتجاههم المنكر لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم. وأرجح في هذه المسألة أن عقيدة الاثني عشرية في المهدية والغيبة ترجع إلى أصول مجوسية، فالشّيعة أكثرهم من الفرس، والفرس من أديانهم المجوسيّة، والمجوس تدّعي أنّ لهم منتظرًا حيًّا باقيًا مهديًّا من ولد بشتاسف بن بهراسف يُقال له: أبشاوثن، وأنّه في حصن عظيم من (¬4) . خراسان والصّين (¬5) . وهذا مطابق لجوهر المذهب الاثني عشري. ¬
واضع مبدأ الغيبة عند الاثني عشرية: إذا كان ابن سبأ هو الذي وضع عقيدة النص على علي بالإمامة - كما تذكره كتب الفرق عند الشيعة وغيرها - فإن هناك ابن سبأ آخر هو الذي وضع البديل "لفكرة الإمامة" بعد انتهائها حسيًا بانقطاع نسل الحسن، أو أنه واحد من مجموعة وضعت هذه الفكرة، لكنه هو الوجه البارز لهذه الدعوى. هذا الرجل يدعى عثمان بن سعيد العمري (¬1) ، وقد قام بدوره في منتهى السرية حيث "كان يتجر في السمن تغطية على الأمر"، وكان يتلقى الأموال التي تؤخذ من الأتباع باسم الزكاة والخمس وحق أهل البيت فيضعها "في جراب السمن وزقاقة.. تقية وخوفًا" (¬2) . وقد زعم - في دعواه - أن للحسن ولدًا قد اختفى وعمره أربع سنوات (¬3) ، وزعم أنه لا يلتقي به أحد سواه فهو السفير بينه وبين الشيعة يستلم أموالهم ويتلقى أسئلتهم ومشكلاتهم ليوصلهم للإمام الغائب. ومن الغريب أن الشيعة تزعم أنها لا تقبل إلا قول معصوم حتى ترفض الإجماع بدون المعصوم، وها هي تقبل في أهم عقائدها دعوى رجل واحد غير معصوم وقد ادعى مثل دعواه آخرون، كل يزعم أنه الباب للغائب وكان النزاع بينهما على أشده، وكل واحد منهم يخرج توقيعًا يزعم أنه صدر عن الغائب المنتظر يتضمن لعن الآخر وتكذيبه، وقد جاء على ذكر أسمائهم الطوسي في مبحث ¬
بعنوان: "ذكر المذمومين الذين ادعوا البابية لعنهم الله" (¬1) . ولعثمان بن سعيد - كما تنقل كتب الشيعة - وكلاء في معظم الديار الإسلامية يدعون لإمامة هذا المعدوم والقول ببابية عثمان بن سعيد. وقد جاء على ذكر هؤلاء الوكلاء ابن بابويه القمي، وهو أجمع نص لأسمائهم، كما يذكر محمد باقر الصدر (¬2) . وهناك وكلاء آخرون غير مرضيين من عثمان بن سعيد ومن يشايعه، وقد ذكر منهم الطوسي سبعة في مبحث بعنوان "ذكر المذمومين من وكلاء الأئمة" (¬3) . والفرق عندهم بين الباب والوكيل: أن الباب يلتقي بالإمام الغائب، والوكيل يلتقي بالباب ولا يرى الإمام، ويكون الواسطة بين الشيعة والباب (¬4) . ولما توفي عثمان بن سعيد الباب الأول المعتمد عند الاثني عشرية، عين من بعده ابنه محمدًا، ولكن خالفه في ذلك طائفة منهم، فلم ترتض بابية ابنه، ونشأ نزاع بينهم ولعن بعضهم بعضًا. فهذا أحد المخالفين ويدعى أحمد بن هلال الكرخي لما قيل له: "ألا تقبل أمر أبي جعفر محمد بن عثمان وترجع إليه، وقد نص عليه الإمام المفترض الطاعة (¬5) .؟ فقال لهم: لم أسمعه ينص عليه بالوكالة، ولست أنكر أباه - يعني عثمان بن سعيد - فأما أن أقطع أن أبا جعفر وكيل (¬6) . صاحب الزمان فلا أجسر عليه. فقالوا: قد سمعه غيرك، فقال: أنتم وما سمعتم.. فلعنوه وتبرؤوا منه" (¬7) . ¬
وتكشف بعض أوراقهم سبب هذا التنازع بينهم، يذكر الطوسي - مثلاً - عن رجل يدعى محمد بن علي بن بلال بأنه رفض بابية محمد بن عثمان العمري، وأنه جرى بينه وبين العمري قصة معرفة - كما يقول - حيث تمسك الأول "بالأموال التي كانت عنده للإمام، وامتنع من تسليمها وادعى أنه الوكيل حتى تبرأت منه الجماعة ولعنوه" (¬1) . فأت تلاحظ أنه شارك عثمان بن سعيد في الوكالة، فلما توفي استأثر بالمال. فهو تزاحم وتكالب على البابية والوكالة من أجل جمع الأموال.. وإلا لو كان هناك «إمام» غائب، يسير أم شيعته عن طريق الأبواب لما صارت الأموال إلى هذا الرجل المحتال، ولما كان محل ثقة الإمام صاحب الزمان، لأن الإمام عندهم يعلم ما كان وما يكون.. فلماذا لم يصدر أمره من البداية في التحذير من التعامل معه حتى لا يأخذ أموال الناس؟! لكن الحقيقة أنه لا إمام غائب؛ بل عصابات تأكل أموال الناس بالباطل باسم التشيع والتدين، وأن نزاعها كان لأجل ذلك. ثم توفي محمد بن عثمان بن سعيد (¬2) . (ت 304 أو 305 هـ) بعد أن تولى البابية "نحوًا من خمسين سنة (¬3) ، يحمل الناس إليه أموالهم، ويخرج إليهم التوقيعات بالخط الذي كان يخرج في حياة الحسن عليه السلام إليهم بالمهمات في أمر الدين والدنيا وفيما يسألونه من المسائل بالأجوبة العجية" (¬4) . وتولى بعده رجل يدعى أبا القاسم الحسين بن روح، وقد كان كما تذكر رواياتهم يقوم بمهمة البابية في آخر حياة محمد بن عثمان؛ حيث كان يحيل إليه استلام الأموال التي يأتي بها الأشياع، ولذلك قال رجل يدعى (محمد بن علي الأسود) : ¬
كنت أحمل الأموال التي تحصل في باب الوقف إلى أبي جعفر محمد بن عثمان العمري فيقبضها مني فحملت إليه شيئًا من الأموال في آخر أيامه قبل موته بسنتين أو ثلاث سنين، فأمر بتسليمه إلى أبي القاسم الروحي فكنت أطالبه بالقبوض، فشكا ذلك إلى أبي جعفر (محمد بن عثمان) فأمرني ألا أطالبه بالقبوض، وقال: كل ما وصل إلى أبي القاسم فقد وصل إليّ، فكنت أحمد بعد ذلك الأموال إليه ولا أطالبه بالقبوض (¬1) . ولما تردد أحدهم في تسليم أمواله إلى أبي القاسم بن روح غضب منه الباب محمد بن عثمان وقال له: لم لم تمتثل ما قلته لك؟ ولكن الرجل حاول أن يلاطفه ويهدئ من غضبه خشية أن يخرج له توقيعًا بلعنه والبراءة منه كعادة (¬2) . الأبواب فيمن يرفض دفع الأموال إليهم، فقال له متلطفًا: "لم أجسر على ما رسمته لي" إلا أن الباب أجابه وهو غاضب وقال له: "قم كما أقوال لك" يقول الرجل: "فلم يكن عندي غير المبادرة، فصرت إلى أبي القاسم بن روح وهو دار ضيقة فعرّفته ما جرى فسر به وشكر الله عز وجل، ودفعت إليه الدنانير، وما زلت أحمد إليه ما يحصل في يدي بعد ذلك من الدنانير" (¬3) . فأنت تلاحظ ما تحيط به الرموز الشيعية نفسها من صفة القداسة، وما تضفي به على قولها من العصمة ووجوب الطاعة المطلقة، وإلا فاللعن والطرد من رحمة الله. كما تلاحظ بأن لغة المال هي السائدة في التوقيعات المنسوبة للمنتظر وعلى ألسنة الأبواب والوكلاء. وكان اختيار أبي القاسم لأنه أحفظ لسر المكان الذي يقيم فيه الغائب، ¬
حيث إن اختيار الباب يتم من قبل الدوائر الشيعية حسب مواصفات خاصة لعل من أبرزها حفظ السر، وعدم الظهور والشهرة، يدل على ذلك ما جاء في الغيبة للطوس "أن سهلاً النوبختي سئل فقيل له: كيف صار هذا الأمر إلى الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح دونك؟ فقال: هم أعلم وما اختاروه (¬1) ، ولكن أنا رجل ألقى الخصوم وأناظرهم، ولو علمت بمكانه (¬2) . كما علم أبو القاسم وضغطتني الحجة على مكانه لعلي كنت أدل على مكانه، وأبو القاسم فلو كانت الحجة (¬3) . تحت ذيله وقرض بالمقاريض ما كشف الذيل عنه" (¬4) . ورغم ذلك فقد أثار تعيين أبي القاسم بن روح نزاعًا كبيرًا بين الخلايا السرية، فانفصل عدد من رؤسائهم وادعوا البابية لأنفسهم.. وكثر التلاعن بينهم. وقد اضطر بعضهم لأن يكشف حقيقة دعوى البابية تلك بسبب أنه لم ينجح في اقتناص مجموعة أكبر من الأتباع، ومن هؤلاء محمد بن علي الشلمغاني المقتول سنة (323هـ) (¬5) . وهو ممن ادعى النيابة عن مهدي الروافض، ونافس أبا القاسم الحسين بن روح عليها، وفضح أمرهم فقال: "ما دخلنا مع أبي القاسم الحسين بن روح إلا ونحن نعلم فيما دخلنا فيه، لقد كنا نتهارش على هذا الأمر كما تتهارش الكلاب على الجيف" (¬6) . ويعقب على ذلك أحمد الكروي الإيراني (الشيعي الأصل) : "لقد صدق ¬
فيما قال، فإن التخاصم لم يكن إلا لأجل الأموال، كان الرجل يجمع المال ويطمع فيه فيدعي البابية لكيلا يسلمه إلى آخر" (¬1) . ثم ما لبث ابن روح أن توفي سنة (326هـ) فانتقلت البابية بوصية منه إلى رجل رابع يدعى: أبا الحسن علي بن محمد السمري (¬2) . والذي تولى منصب البابية وكان قد انقضى على غيبة الإمام قرابة سبعين عامًا لم يتحقق فيها أمل الشيعة في رجعته رغم انتظارهم إياه وتلهفهم عليه. وقد تخلفت وعود الشيعة بالظهور للغائب المستور، وساد الشك الأوساط الشيعية، وبدأت تتكشف حقيقة الأمر بعد النزاع الحاد الذي وقع بين أدعياء البابية، ولذلك اختفى نشاط الباب تمامًا، فلا تجد له في كتب الشيعة مثل ما تجد لأسلافه من الرقاع والتوقيعات التي ينسبونها للغائب المنتظر. وقد اعترف بذلك بعض الشيعة وإن حاول أن يتستر على تلك الأسباب فيعزو الأمر إلى كثرة الضغوط على الشيعة (¬3) . وقد استمر السمري في منصبه (الشكلي) ثلاث سنوات (¬4) ، وربما أدركته "الخيبة وشعر بتفاهة منصبه كوكيل معتمد للإمام الغائب (¬5) ، فلما قيل له وهو على فراش الموت: من وصيك من بعدك؟ قال: لله أمر هو بالغه" (¬6) . وهكذا انتهت دعوى الصلة المباشرة بالغائب، لأن أوراقها انكشفت بسبب التنافس عليها. ووصلت دعوى الغيبة إلى طريق مسدود، إذ لم تنجح فكرة البابية الخاصة، ¬
ولكن أخرج شيوخ الشيعة توقيعًا منسوبًا للسمري عن المنتظر يعلن فيه انقطاع البابية المباشرة، واختراع مبدأ النيابة العامة التي يشترك فيها شيوخ الشيعة - كما سيأتي -. وبعد هذا التغيير خرجت قضية غيبة المهدي من طريقها المسدود، واختفت ظواهر النزاع على منصب البابية واقتسمت الغنيمة بين الجميع بالسوية، وقررت عقيدة النيابة والتي سنتحدث عنها بعد استعراضنا لقضية المهدي عند الشيعة. هؤلاء الأبواب الأربعة: عثمان بن سعيد، وابنه، وابن روح، والسمري، هم المؤسسون لقضية الغيبة والمهدية، أو هم الوجوه البارزة التي رسمت نظرية المهدي عند الاثني عشرية، وتسمى فترة عملهم بالبابية: "الغيبة الصغرى" والتي استمرت سبعين سنة أو تزيد (¬1) . وسنتناول نظرية المهدية والغيبة كما جاءت في كتب الاثني عشرية، ونتعرف على مضامينها، حيث أصبحت اليوم هي أساس المذهب الشيعي. ¬
الخطوط العامة لقصة المهدية عند الاثني عشرية
الخطوط العامة لقصة المهدية عند الاثني عشرية قصة المهدي في كتب الشيعة قصة غريبة، نسج الخيال خيوطها وبلغ مداه في صياغة أحداثها، وتحولت إلى أسطورة كبرى لا تجد إلى العقل منفذًا، ولا في الفطر السليمة قبولاً حتى أنكرتها أكثر الفرق الشيعية التي عاصرت ولادتها (¬1) . ولنعرض لخطوطها العامة بدءًا من اختيار الحسن لأم المهدي المزعوم، إلى ولادة المهدي، واختفائه، ثم عودته، وسيرته. أما اقتران الحسن بأم المهدي فقد صاغت كتب الشيعة أحداثه بما يشبه قصص ألف ليلة وليلة، فاختيار الحسن العسكري للجارية التي ينسبون لها الولد قد تم - كما تصوره كتب الشيعة - عن دراية بالغيب المستور، فهو يبعث خادمه لسوق بيع الجواري، ويعطيه أوصاف الجارية، ونوع لباسها، والكلام الذي ستنطق به أثناء بيعها، وما يحدث أثناء المساومة، ويرسل معه كتابًا لها بالرومية ما إن تنظر إليه حتى تبكي بكاءً شديدًا وتتمسح به، وحينما يعجب الخادم من كل ذلك تكشف له عن هويتها وأنها مليكة بنت يوشع بن قيصر ملك الروم. وتسرد له قصة حياتها، ووقوف الكوارث أمام زواجها من خطابها، وأنها رأت في منامها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء يخطبها من المسيح وقال له: "يا روح الله جئتك خاطبًا من وصيك شمعون فتاته مليكة لابني هذا، وأومأ بيده إلى أبي محمد" (الحسن العسكري) . ثم تتابع الرؤى عليها حتى تزورها في المنام أم الحسن العسكري، ومعها مريم بنت عمران، وألف وصيفة من وصائف الجنان فتقول لها مريم: هذه سيدة النساء (¬2) أم زوجك أبي محمد عليه السلام، فتتعلق بها أم المهدي وتبكي وتشكو إليها ¬
امتناع الحسن العسكري من زيارتها، لكن أم الحسن قالت لها: إن ابني محمد لا يزورك وأنت مشركة بالله (¬1) . ثم تمضي أحداث القصة حتى تسلم بتأثير هذه المنامات، فتبدأ زيارات الحسن العسكري لها في الأحلام. ثم تذكر قصة وقوعها في أسر المسلمين، واختيارها لاسم "نرجس" إخفاءً لحقيقتها، ثم طلبها من مالكها ألا يبعها إلا لمن ترضاه وهو الذي يحمل المواصفات التي أوحي إليه بها في المنام، ثم تلتقي بعد ذلك بالحسن ولا تجد غراب في لقائه لأنها تعرفه وتتصل به قبل ذلك من خلال الرؤى والأحلام، فيزف لها البشرى بولد يملك الدنيا شرقًا وغربًا ويملأ الأرض قسطًا وعدلاً (¬2) . أما حملها بالمهدي فأغرب وأعجب، إذ لم يظهر عليها أثر الحمل مع أن حكيمة بنت محمد (¬3) . - كما يقولون - حاولت التثبت من حملها فوثبت إليها - كما تزعم رواياتهم - فقلبتها ظهرًا لبطن فلم تر فيها أثرًا للحمل، وعادت إلى الحسن وأخبرته، لكنه أكد لها وجود الحمل وقال لها: "إذا كان وقت الفجر يظهر لك الحبل" (¬4) . والأغرب من ذلك أن أم الولد نفسها حتى ليلة ولادتها لم تعلم بأمر حملها حتى قالت لحكيمة: "يا مولاتي ما أرى بي شيئًا من هذا" (¬5) . ويبدو أن نفي ظهور أثر الحمل عليها هي حيلة أو محاولة للتخلص مما ثبت حتى لدى الشيعة من قيام جعفر (أخي الحسن العسكري) بحبس نساء الحسن وإمائه - بعد وفاة الحسن - لاستبرائهن حتى ثبت للقضاي والسلطان براءة أرحامهن من الحمل، وتم بعد ذلك قسمة ميراث الحسن (¬6) . ¬
وهذه الرواية التي تنفي تبين أمارات الحمل حتى لأم الوليد تثبت في آخرها ما ينقض هذا الزعم وهو أن المولود كان يتكلم وهو في بطن أمه حتى قالت حكيمة: "فأجابني الجنين من بطنها يقرأ مثل ما أقرأ وسلم علي" (¬1) ، وكذلك يروي الطوسي عن حكيمة نفسها أنها قالت حينما استدعاها الحسن إلى بيته للإشراف على ولادة المهدي من جاريته فقالت: "جعلت فداك يا سيدي الخلف ممن هو؟ قال: من سوسن - تقول - فأدرت نظري فيهن فلم أر جارية عليها أثر غير سوسن.." (¬2) . فهي في هذه الرواية تدرك حملها بمجرد النظر إليها، وفي رواية ابن بابويه تقلبها ظهرًا لبط فلا تجد أثرًا، وهي هنا تسميها سوسن، وهناك تسميها نرجس، كما تسمى في بعض رواياتهم بأسماء أخرى (¬3) . وكل يضع كما يشاء، وكتب الاثني عشرية تستوعب الجميع. وحينما ولد "سقط.. من بطن أمه جائيًا على ركبتيه، رافعًا سبابتيه إلى السماء ثم عطس فقال: الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله، زعمت الظلمة أن حجة الله داحضة، لو أذن لنا في الكلام لزال الشك" (¬4) . وفي رواية أخرى أنه سقط ساجدًا لله وهو يتشهد، ويدعو بقوله: "اللهم أنجز لي ما وعدتني.." (¬5) . ثم عرج بهذا المولود إلى السماء بواسطة طيور خضر، وحينما تبكي الأم نرجس خوفًا على ولدها يجيبها الحسن بقوله: "سيعاد إليك كما رد موسى إلى أمه" (¬6) . أما نموه فهو مخالف تمامًا لسنة الله في خلقه، وخارج عن النواميس الطبيعية التي يخضع لها الكائن الحي بأمر الله، يصور ذلك الخبر المروي على لسان حكيمة ¬
بنت محمد، حيث تقول: "لما كان بعد أربعين يومًا (¬1) . دخلت على أبي محمد عليه السلام فإذا مولانا الصاحب يمشي في الدار فلم أر وجهًا أحسن من وجهه، ولا لغة أفصح من لغته، فقال أبو محمد عليه السلام: هذا المولود الكريم على الله عز وجل، فقلت: سيدي أرى من أمره ما أرى وله أربعون يومًا، فتبسم وقال: يا عمتي أما علمت أنا معاشر الأئمة ننشأ في اليوم ما ينشأ غيرنا في السنة" (¬2) . وفي رواية القمي "إن الصبي منا إذا كان أتى عليه شهر كان كمن أتى عليه سنة، وإن الصبي منا يتكلم في بطن أمه ويقرأ القرآن، ويعبد ربه عز وجل عند الرضاع، تطيعه (¬3) . الملائكة وتنزل إليه صباحًا ومساءً" (¬4) . ولكن هذا المولود الذي يحمل كل هذه الظواهر الخارقة لا يعلم به أحد ولا يرى له أثر، فما فائدة إجراء هذه الخوارق إذن؟ ثم ما لبث أن غاب ولم يعلم بأمره ولا غيبته أحد إلا "حكيمة" والتي تقول - كما تنسب إليها الرواية -: إن الحسن أمرها ألا تفشي هذا الخبر في أمر هذا المولود حتى ترى اختلاف شيعته بعد وفاته، حيث قال - الحسن -: "فإذا غيب الله شخصي وتوفاني ورأيت شيعتي قد اختلفوا فأخبري الثقات منهم فإن ولي الله يغيبه الله عن خلقه ويحجبه عن عباده فلا يراه أحد حتى يقدم له جبرائيل عليه السلام فرسه ليقضي الله أمرًا كان مفعولاً" (¬5) . فمسألة المهدي وغيبته تسربت إلى الشيعة عن طريق حكيمة كما تقوله رواية شيخ الطائفة وما أدري كيف يقبل الشيعة قول امرأة واحدة غير معصومة في أصل المذهب، وهم الذين يردون إجماع الأمة بأسرها إذا لم يكن المعصوم فيهم ¬
ولو في مسألة فرعية؟! وتلاحظ أن إمامهم يأمر بحجب أمر المهدي وغيبته إلا عن الثقات من شيعته، مع أن من لم يعرف الإمام - عندهم - فإنما يعرف ويعبد غير الله (¬1) ، وإن مات على هذه الحالة مات ميتة كفر ونفاق (¬2) . أما وقت غيبة المهدي فإن روايات الشيعة تتضارب في تحديده. فيروي الطوسي أن حكيمة قالت: ".. فلما كان بعد ثلاث (من مولده) اشتقت إلى ولي الله فصرت إليهم فبدأت بالحجرة التي كانت سوسن فيها، فلم أر أثرًا ولا سمعت ذكرًا، فكرهت أن أسأل فدخلت على أبي محمد عليه السلام فاستحيت أن أبدأ بالسؤال فبدأني فقال: هو يا عمة في كنف الله وحرزه وستره وغيه حتى يأذن الله له" (¬3) . وفي رواية ثانية أن حكيمة فقدته بعد سبعة أيام (¬4) ، وفي رواية ثالثة: أنها رأته بعد أربعين يومًا يمشي في الدار ثم فقدته بعد ذلك (¬5) ، وفي رواية أخرى أن حكيمة كانت تختلف إلى دار العسكري، تزوره كل أربعين يومًا، وقبل وفاته بأيام قلائل - كان عمر المهدي آنذاك خمس سنوات على الأكثر (¬6) .- زارت دار العسكري كعادتها، تقول: ف"رأيته رجلاً فلم أعرفه، فقلت لابن أخي عليه السلام: من هذا الذي تأمرني أن أجلس بين يديه؟ فقال لي: هذا ابن نرجس، هذا خليفتي من بعدي وعن قليل تفقدوني فاسمعي له وأطيعي" (¬7) . وهكذا غاب المهدي ولم يعلم بأمره أحد سوى حكيمة التي أودعت خبره ثقات الشيعة - كما تقول رواياتهم -. ¬
أما مكان الغيبة فإنه كان موضع السرية والكتمان، ولما تناهى إلى شيعته خبر الغيبة المزعومة حاولوا التعرف على مكانه إلا أن الباب الذي يدعي الصلة به رفض البوح بشيء من ذلك وأخرج "توقيعًا" سريًا ينسبه للمهدي يقول فيه: ".. إن عرفوا المكان دلوا عليه" (¬1) . فهذا النص يشير إلى أنه في مكان معين، وفي مخبأ سري لا يعرفه إلا الباب، وأن سب كتمان مكان غيبته عن شيعته هو خوفه من إخبارهم للغير بمكانه. ولكن دلت بعض روايات الكافي على البلد الذي يختفي فيه، حيث قالت: "لابد لصاحب هذا الأمر من غيبة، ولابد له في غيبته من عزلة، ونعم المنزل طيبة" (¬2) . فهي تشير إلى أنه يختبئ بالمدينة المنورة، لأن طيبة من أسمائها (¬3) ، ولما قال أحدهم للحسن العسكري: إن حدث بك حدث فأين أسأل عنه؟ قال: بالمدينة (¬4) . بينما يروي الطوسي في الغيبة أنه مقيم بجبل يدعى رضوى، حيث يقول في روايته: ".. عن عبد الأعلى مولى آل سام قال: خرجت مع أبي عبد الله عليه السلام فلما نزلنا الروحاء (¬5) . نظر إلى جبلها مطلاً عليها، فقال لي: ترى هذا الجبل؟ هذا جبل يدعى رضوى (¬6) . من جبال فارس أحبنا فنقله الله إلينا، أما إن فيه كل شجرة مطعم، ونعم أمان للخائف مرتين، أما إن لصاحب هذا الأمر فيه غيبتين ¬
واحدة قصيرة والأخرى طويلة" (¬1) . وتذكر روايات أخرى أنه يختفي في بعض وديان مكة، فقد جاء في تفسير العياشي وغيره أن أبا جعفر قال: "يكون لصاحب هذا الأمر غيبة في بعض هذه الشعاب - ثم أومأ بيده إلى ناحية ذي طوى (¬2) .- ... " (¬3) . غير أن أحاديثهم في الأدعية والزيارة لمقامات الأئمة تلوح إلى أنه مقيم بسرداب سامراء (¬4) ، ولذلك جاء فيها "ثم ائت سرداب الغيبة وقف بين البابين، ماسكًا جانب الباب بيدك، ثم تنحنح كالمستأذن، وسم وانزل، وعليك السكينة والوقار، وصل ركعتين في عرضة السرداب وقل:.. اللهم طال الانتظار وشمت بنا الفجار، وصعب علينا الانتصار، اللهم أرنا وجه وليك الميمون، في حياتنا وبعد المنون، اللهم إني أدين لك بالرجعة، بين يدي صاحب هذه البقعة، الغوث الغوث الغوث يا صاحب الزمان، قطعت في وصلتك الخلاف، وهجرت لزيارتك الأوطان، وأخفيت أمري على أهل البلدان لتكون شفيعًا عند ربك وربي.. يا مولاي يا ابن الحسن بن علي جئتك زائرًا لك" (¬5) . وتشير بعض أخبارهم إلى أن معه في غيبته ثلاثين من أوليائه يؤنسونه في وحدته "وما بثلاثين من وحشة" (¬6) . ¬
وتخصيص السرداب بتلك الأدعية والمناجاة والاستئذان عند الدخول.. يدل على أن واضعي تلك الروايات يوهمون أتباعهم بوجوده في السرداب، ولهذا قال ابن خلكان: "والشيعة ينتظرون خروجه في آخر الزمان من السرداب بسر من رأى" (¬1) . وذكر ابن الأثير أنهم يعتقدون أن المنتظر بسرداب سامراء (¬2) . ورغم ذلك فإن بعض الشيعة المعاصرين ينفي ما هو واقع ويقول: "لم يرد خبر ولا وجد في كتاب من كتب الشيعة أن المهدي غاب في السرداب.. ولا أنه عند ظهوره يخرج منه، بل يكون خروجه بمكة ويبايع بين الركن والمقام" (¬3) . ولكن عمل الشيعة يخالف ذلك، ويتفق مع ما جاء في كتب الزيارة عندهم. فقد ظل الشيعة - كما يقول الشيعي أمير علي - إلى أواخر القرن الرابع عشر الميلادي الذي صنف فيه ابن خلدون تاريخه الكبير يجتمعون في كل ليلة بعد صلاة المغرب بباب سرداب سامراء فيهتفون باسمه ويدعونه للخروج حتى تشتبك النجوم ثم ينفضون إلى بيوتهم بعد طول الانتظار وهم يشعرون بخيبة الأمل والحزن (¬4) . وكان هذا الانتظار مثار سخرية الساخرين حتى قيل: ما آن للسرداب أن يلد الذي ... كلمتموه بجهلكم ما آنا فعلى عقولكم العفاء فإنكم ... ثلثتم العنقاء والغيلانا (¬5) . وقال ابن القيم: "ولقد أصبح هؤلاء عارًا على بني آدم، وضحكة يسخر منهم كل عاقل" (¬6) . ولهذا جاء في أدعيتهم ما يشعر بأنهم صاروا بهذا الاعتقاد ¬
موضع السخرية والشماتة فيدعو أحدهم ويقول - مناجيًا الغائب -: "طال الانتظار وشمت بنا الفجار.." (¬1) . وقد جاء في بعض أدعية الزيارات عندهم ما ينبئ عن حيرتهم في مكانه الذي يختفي فيه، فهم يهتفون به ويقولون: ".. ليت شعري أي استقر بك النوى، بل أي أرض تقلك أو ثرى، أبرضوى أم غيرها، أم ذي طوى.." (¬2) . هذا وتذكر روايات أخرى لهم أنه ليس له مكان ثابت بل هو يعيش بين الناس "يشهد الموسم فيراهم ولا يرونه" (¬3) . وهكذا تختلف أخبارهم في تحديد مكانه، وكل زمرة تذهب في هذا مذهبًا على اختلاف الفصائل الشيعية أو على اختلاف الأحوال والأزمنة، أو حتى تستمر لعبة التلبيس والتزوير. ومن الطبيعي أن تختلف مادام غائبهم لا وجود له. وإذا كان مكانه موضع السرية في بعض أخبارهم، فإن اسمه أيضًا قد حجب عن شيعته، فقد جاء في "توقيعات" المنتظر التي تصدر عن "بابه": "إن دللتم على الاسم أذاعوه.." (¬4) . فهذا النص يشير إلى أنه مجهول الاسم، كما هو مجهول المكان والولادة والنشأة.. ولكن ورد في كتب الشيعة أن اسمه محمد، غير أن روايات الشيعة كانت تحرم تسميته باسمه حيث جاء فيها: "ولا يحل لكم ذكره باسمه" (¬5) . بل اعتبرت من يسميه باسمه في عداد الكافرين، وقالت: "صاحب هذا الأمر لا يسميه باسمه إلا ¬
كافر" (¬1) ، ولذلك تلاحظ حين يرد ذكره في رواياتهم يكتب اسمه بالحروف المقطعة هكذا: م ح م د (¬2) . ولما قالوا: كيف نذكره؟ قال الحسن العسكري: "قولوا: الحجة من آل محمد صلوات الله عليه وسلامه" (¬3) . وكانت الدوائر الشيعية القديمة لا تذكره فيما بينها إلا بالرمز الذي لا يعرفه سواهم كالغريم. ولهذا قال المفيد عن إطلاق هذا اللقب عليه: "هذا رمز كانت الشيعة تعرفه قديمًا بينها، ويكون خطابها عليه السلام - كذا - للتقية" (¬4) . ورموزهم التي يطلقونها عليه كثيرة مثل: "القائم والخلف، والسيد، والناحية المقدسة، والصاحب، وصاحب الزمان، وصاحب العصر (¬5) ، وصاحب الأمر وغيرها" (¬6) . وعملية الكتمان تلك تنبئ عن تنظيم سري داخل الدولة الإسلامية، يتخذ أتباعه لغة الرمز والإشارة للتفاهم فيما بينهم، وهي من جانب آخر محاولة للتستر على الكذب، وإخفاء الحقيقة، ثم هي تنقض مايدعونه أن مهديهم قد ذكر باسمه، ووصفه من قبل (¬7) . أما مدة الغيبة: فإن مخترعي هذه الفكرة كانوا يمنون أتباعهم بقصر المدة، وسرعة العودة لغائبهم، حتى أكدوا في رواياتهم بأنها لا تعدو ست سنين في أقصى الأحوال، فقد جاء في الكافي عن علي بن أبي طالب - كما يفترون - أنه قال عن منتظرهم: "تكون له غيبة وحيرة يضل فيها أقوام ويهتدي فيها آخرون" (¬8) . ¬
ولما سئل كم تكون الحيرة والغيبة، قال: "ستة أيام أو ستة أشهر، أو ست سنين.." (¬1) . ويبدو أن هذا النص قد وضع في الأيام الأولى لنشوء فكرة الغيبة، لتسكين النفوس الثائرة وتهدئة القلوب الحائرة التي أفاقت على الحقيقة المرة حينما مات الإمام بلا عقب، وانجلت الخدعة وتبينت الحقيقة، فربطت حينئذ دعوى الغيبة بهذا الوعد القريب لتكون أقرب للتصديق وأسهل، وليضمنوا الكسب الحاضر للمال الجاهز الذي ينتظر ظهور الإمام ليدفع إليه باسم حق آل البيت، وفي البداء والتقية متسع للتأويل، والرجوع عن الكلام.. في المستقبل.. وهذا ما وقع بالنسبة لموقف شيوخهم المتأخرين من هذا النص، حيث قال بعضهم: يحتمل أن يكون المراد أن الغيبة والحيرة في ذلك القدر من الزمان أمر محتوم ويجري فيهما البداء بعد ذلك (¬2) ، ومنهم من حاول التخلص بغير هذا (¬3) ، ولكن لم يجرؤ أحد منهم على الطعن في مسألة الغيبة ذاتها. كما جاء عندهم توقيت ظهور هذا الأمر في السبعين من الغيبة، ثم غير إلى مائة وأربعين، ثم أخر إلى غير أمد معين (¬4) ، ونسبوا للأئمة استطلاع وقت خروج الغائب من الحروف المقطعة في أوائل السور (¬5) . ويظهر من رواياتهم أن الرموز التي تدير دفة التشيع كانت تمني أتباعها ¬
بقرب الفرج والظهور للغائب المستور، حتى كان من الشيعة من يتوقع خروج الغائب بين لحظة وأخرى، فقد جاء في أخبارهم أن منهم من ترك البيع والشراء والعمل بانتظار الغائب واشتكوا من هذه الحالة حتى قال بعضهم: "لقد تركنا أسواقنا انتظارًا لهذا الأمر حتى ليوشك الرجل منا أن يسأل في يده" (¬1) . ولكن الهدف من هذه الوعود هو ما أشرنا إليه من محاولتهم إمرار "لعبتهم" وإزالة شك الأتباع وحيرتهم، وهذا ديدنهم في تعليل الشيعة بالأماني، وتخديرهم بالوعود حتى اعترفوا في أخبارهم: "إن الشيعة تربى بالأماني منذ مائتي سنة" (¬2) . وسبب ذلك أنه لو قيل لهم: "إن هذا الأمر لا يكون إلا مائتي سنة أو ثلاثمائة سنة لقست القلوب، ولرجعت عامة الناس عن الإسلام (يعني مذهبهم) ، ولكن قالوا: ما أسرعه وما أقربه تألفًا لقلوب الناس وتقريبًا للفرج" (¬3) . واختلفت رواياتهم التي وضعت لمعالجة مشكلة تحديد فترة الغيبة في طريقة معالجتها، فهي تارة أمر بالتسليم وتقول: "إذا حدثناكم بحديث فجاء على خلاف ما حدثناكم به فقولوا: صدق الله، وإذا حدثناكم بحديث فجاء على خلاف ما حدثناكم به فقولوا: صدق الله، تؤجروا مرتين" (¬4) . وهي تارة تعزو سبب إخلاف الوعد للظهور الذي حددته الأئمة بإفشاء الشيعة لسره، ولذلك حينما قال بعضهم: "ما لهذا الأمر أمد ينتهي إليه ويريح أبداننا؟ قال (إمامهم) : بلى، ولكنكم أذعتم فأخره الله" (¬5) . وتقول رواياتهم: "إن الله تبارك وتعالى قد كان وقّت هذا الأمر.. إلى أربعين ومائة، فحدثناكم" فأذعتم الحديث، ¬
فكشفتم قناع الستر (¬1) . ولم يجعل الله له بعد ذلك وقتًا عندنا (¬2) . وهي تارة تعزو ذلك لقتل الحسين. يقول أبو عبد الله (¬3) .: "إن الله تبارك وتعالى قد كان وقت هذا الأمر في السبعين (¬4) . فلما أن قتل الحسين صلوات الله عليه اشتد غضب الله تعالى على أهل الأرض، فأخره.." (¬5) . وهم ينظمون ذلك كله في عقيدة البداء، ولذلك قال المازندراني: "توقيت ظهور هذا الأمر.. توقيت بدائي فلذلك جرى فيه البداء" (¬6) . وهي حينًا تنفض اليد من أخبار التوقيت كلها وتقول: "كذب الوقاتون، وهلك المستعجلون، ونجا المسلمون" (¬7) ، "كذب الوقاتون، إنا أهل بيت لا نوقت" (¬8) . "ما وقتنا فيما مضى ولا نوقت فيما يستقبل" (¬9) ، "من وقت لك من الناس شيئًا فلا تهابن أن تكذبه فلسنا نوقت لأحد وقتًا" (¬10) . "أبى الله إلا أن يخالف وقت الموقتين" (¬11) . ¬
وهكذا تتضارب أخبارهم وتتناقض، لأن الوضع يتم حسب الظروف والمناسبات. أما سبب غيبته: فقد جاء في الكافي عن زرارة قال: "سمعت أبا عبد الله يقول: إن للقائم عليه السلام غيبة قبل أن يقوم، قلت: ولم؟ قال: إنه يخاف - وأومأ بيده إلى بطنه - يعني القتل" (¬1) . وجاءت عندهم روايات عدة في هذا المعنى (¬2) . وأكد ذلك شيخ الطائفة الطوسي بقوله: "لا علة تمنع من ظهوره إلا خوفه على نفسه من القتل، لأنه لو كان غير ذلك لما ساغ له الاستتار وكان يتحمل المشاق والأذى، فإن منازل الأئمة وكذلك الأنبياء عليهم السلام إنما تعظم لتحملهم المشاق العظيمة في ذات الله تعالى" (¬3) . ولكن هذا التعليل للغيبة الذي يؤكده شيخ الطائفة لا يتصور في حق الأئمة - على ما يعتقد الشيعة - لأن الأئمة "يعلمون متى يموتون، ولا يموتون إلا باختيار منهم". كما أثبت ذلك الكليني في الكافي في روايات عديدة، وبوب لها بهذا اللفظ المذكور (¬4) . وأثبت ذلك المجلسي في بحار الأنوار وبوب له بلفظ: "أنهم عليهم السلام يعلمون متى يموتون وأنه لا يقع ذلك إلا باختيارهم" (¬5) . فكيف يخرجون من هذا التناقض؟! (¬6) . كما أن الأئمة - على حد ما يعتقد الشيعة - "يعلمون ما كان وما يكون ولا ¬
يخفى عليهم الشيء" (¬1) ، كما قرر ذلك الكليني في باب يحمل العنوان المذكور. فبوسعهم أن يحترزوا من الخطر بما لا يخطر على بال أحد. ثم لماذا لم يقتل واحد من أولئك النواب الأربعة الذين يدعون الصلة بالإمام مباشرة وهم ليسوا كالإمام لا يموتون إلا باختيار منهم؟! كذلك قد توفر الأمن التام للإمام في أثناء قيام بعض الدول الشيعية فلماذا لم يخرج إليهم، ويأنسوا بطلعته، ويستفيدوا من علمه، وسلاحه، وقوته.. وإذا مازالت الدولة رجع إلى مكمنه؟ ولذلك قال أحمد الكسروي - الشيعي الأصل -: "إذا كان منتظرهم قد اختفى لخوفه على نفسه فلم لم يظهر عندما استولى آل بويه الشيعيون على بغداد، وصيروا خلفاء بني العباس طوع أمرهم؟ فلم لم يظهر عندما قام الشاه إسماعيل الصفوي وأجرى من دماء السنيين أنهارًا؟ فلم لم يظهر عندما كان كريمخان الزندي وهو من أكبر سلاطين إيران يضرب على السكة اسم إمامكم (صاحب الزمان) ويعد نفسه وكيلاً عنه؟ وبعد، فلم لا يظهر اليوم وقد كمل عدد الشيعيين ستين مليونًا وأكثرهم من منتظريه؟ " (¬2) . وكذلك اليوم - من بعد الكسروي - قامت دولة الآيات فلم لا يخرج إليهم ولا سيما وهم يجأرون بالدعوات، والاستغاثة لخروجه منذ مئات السنين. كما وضعت روايات تعلل الغيبة بامتحان قلوب الشيعة واختبارهم، وقد يكون هذا التعليل الذي تحمله تلك الروايات محاولة منهم لمعالجة ظاهرة الشك الذي تسلل إلى قلوب الشيعة، حيث لم تجد هذه المسألة طريقها إلى عقول كثير منهم حتى اضطرهم ذلك إلى نبذ عقيدة التشيع ورفضها. ¬
كما مل الشيعة الانتظار للغائب الموعود حتى قال قائلهم: "قد طال هذا الأمر علينا حتى ضاقت قلوبنا ومتنا كمدًا.." (¬1) . وأطل عليهم شبخ الشك الرهيب وقد شهد بذلك ابن بابويه القمي حيث قال: "رجعت إلى نيسابور، وأقمت فيها فوجدت أكثر المختلفين عليّ من الشيعة قد حيرتهم الغيبة، ودخلت عليهم في أمر القائم عليه السلام الشبهة" (¬2) . وقد صورت رواياتهم - التي وضعت لمعاجلة هذا الأمر كما يظهر - حيرتهم في أمر الغائب، وطول غيبته وانقطاع أخباره، جاء في الكافي "عن زرارة قال: سمعت أبا عبد الله يقول: إن للغلام غيبة قبل أن يقوم.. وهو المنتظر وهو الذي يشك في ولادته، منهم من يقول: مات أبوه بلا خلف، ومنهم من يقول: حمل، ومنهم من يقول: إنه ولد قبل موت أبيه بسنتين وهو المنتظر، غير أن الله عز وجل يحب أن يمتحن الشيعة، فعند ذلك يرتاب المبطلون" (¬3) . فعللوا هذا الاختلاف بأنه امتحان للشيعة. وقد نقلت لنا كتب الفرق أن هذا ما حدث لهم بعد موت الحسن العسكري - كما سبق - فكأن هذه الرواية وأمثالها اخترعت لمواجهة نزعة الحيرة والشك التي داهمتهم بعد موت إمامهم عقيمًا. وقد أكثروا من الروايات التي تجري هذا المجرى، وتصور واقعهم أبلغ تصوير. فقد جاء في الكافي: "لا والله لا يكون ما تمدون إليه أعينكم حتى تغربلوا، لا والله لا يكون ما تمدون إليه أعينكم حتى تمحصوا، لا والله لا يكون ما تمدون إليه أعينكم حتى تميزوا، لا والله لا يكون ما تمدون إليه أعينكم إلا بعد إياس، ¬
لا والله لا يكون ما تمدون إليه أعينكم حتى يشقى من يشقى ويسعد من يسعد" (¬1) . فهم يدعون أن ما حل بهم بسبب دعوى الغيبة إنما هو من أجل التمحيص والابتلاء، وأنه إذا تم ذلك رجع القائم، ونسبوا إلى جعفر الصادق: أنه دخل عليه بعض أصحابه وهو يبكي كالثكلى، لأنه نظر - كما يقولون - في كتاب الجفر المشتمل على علم البلايا والمنايا، وعلم ما كان وما يكون إلى يوم القيامة فقال: "تأملت فيه مولد قائمنا عليه السلام، وغيبته وإبطاءه وطول عمى وبلوى المؤمنين من بعده في ذلك الزمان، وتولد الشكوك في قلوب الشيعة من طول غيبته وارتداد أكثرهم عن دينه.." (¬2) . فهذه الرواية المنسوبة إلى جعفر تتحدث عن درة كثير من الشيعة بسبب دعوى الغيبة التي طال أمدها، وهي قد وضعت - كغيره - بعدما حل بهم هذا الأمر لحضهم على البقاء في نطاق التشيع، وذلك بدعوى أن هذا أمر أخبرت به الأئمة وهو من أمارات رجعة الإمام المفقود. وقد شهد شيخهم النعماني وهو من شيوخ القرن الثالث، وممن عايش واقع الشيعة في الفترة المبكرة لدعوى الغيبة، فشهادته في ذلك في غاية الأهمية، شهد بشك جميع الشيعة في أمر الغيبة - إلا القليل - يقول: "فإنا رأينا طوائف من العصابة المنسوبة إلى التشيع، المنتمية إلى نبينا محمد وآله صلى الله عليهم ممن يقول بالإمامة.. قد تفرقت كلمتها، وتشعبت مذاهبها، واستهانت بفرائض الله عز وجل، وخفت إلى محارم الله تعالى فطال بعضهم غلوًا، وانخفض بعضهم تقصيرًا، وشكوا جميعًا إلى القليل في إمام زمانهم وولي أمرهم وحجة ربهم.. للمحنة الواقعة بهذه الغيبة" (¬3) . ¬
وقد أخذ بعضهم يلعن بعضًا، ويبرأ منه ويشهد عليه بالكفر، كما تصور ذلك رواية النعماني التي تقول: "لا يكون الأمر الذي ينتظر حتى يبرأ بعضكم من بعض ويتفل بعضكم في وجوه بعض، فيشهد بعضكم على بعض بالكفر ويلعن بعضكم بعضًا" (¬1) . وجعلت الرواية هذه الظاهرة الخطيرة خيرًا، لأنها مؤذنة بخروج القائم فقالت: "الخير كله في ذلك الزمان، يقوم قائمنا ويدفع ذلك كله" (¬2) . فيبدو من خلال هذه النصوص أن محدثي الشيعة عملوا على مواجهة هذه النكسة بوضع هذه الروايات على أهل البيت وجعلوها تشير إلى ما يلحق الشيعة من التمحيص والابتلاء والردة عند وقوع الغيبة وذلك من أجل إغرائهم بالبقاء داخل نطاق التشيع الإمامي. ورغم هذه الاعترافات والشهادات فإن فكرة الغيبة التي اضطرت الإمامية للقول بها قد أحدثت هزة عنيفة زلزلت كيان التشيع الإمامي وكادت أن تؤدي إلى سقوطه بذهاب أتباعه.. رغم ذلك فإنهم يقولون في رواياتهم: "لو علم الله أنهم يرتابون ما خيب حجته طرفة عين" (¬3) . فأي ريبة أشد من شك الجميع إلا القليل، ومن التفرق والتلاعن؟!. ويلاحظ كثرة التكذيب للغيبة من لدن الشيعة، ولا سيما في مراحل نشأتها، ولعل السبب يعود إلى وضوح كذبها لمن عاصرها وعايش ظروفها، ولذلك فقد نشط مؤسسو هذه الفكرة لسد الثغرات التي تهب عليهم منها رياح الشك، وتسديد الفجوات التي تتضح منها صورة الكذب، فعالجوا مشكلة التكذيب والتلاعن والتفرق بوضع روايات على أهل البيت تنبئ بحدوثها وتبشر بالخير عند وقوعها لأنها مؤذنة بعودة القائم (ولكنها وقعت ولم يخرج القائم) ، حاولوا معالجة ما ترامى إلى أسماع الشيعة من تكذيب أسرة الحسن لهذه الدعوات بوضع روايات ¬
تقول: "إن للقائم غيبة ويجحده أهله" وحينما سأل زرارة - الموضوع عليه الخبر (¬1) . - عن سبب ذلك قال أبو جعفر - فيما تزعم الرواية -: "يخاف، وأومأ بيده إلى بطنه" (¬2) . ومن الفجوات كذلك أنه لا أحد من أسرة الحسن ولا غيرهم، يعلم بولادته ولا بمنشئه فوضعوا روايات تقول: "يبعث الله لهذا الأمر غلامًا منا، خفي الولادة والمنشأ" (¬3) . ومن تتبع رواياتهم بهذه الطريقة وجد العجب. كما قاموا من جهة أخرى بوضع روايات تجعل من انتظار الفرج بخروج القائم من أفضل الأعمال وأعظمها وذلك - فيما يظهر - لطرد الملل من طول الانتظار، وإزالة الأسى الناتج عن شدة الترقب، والشعور بالحرمان من صحبة القائم الإمام. جاء في الكافي: "أقرب ما يكون العباد من الله جل ذكره وأرضى ما يكون عنهم إذا افتقدوا حجة الله جل وعز ولم يظهر لهم ولم يعلموا مكانه وهم في ذلك يعلمون أنه لم تبطل حجة الله جل ذكره ولا ميثاقه، فعندها فتوقعوا الفرج صباحًا ومساءً" (¬4) . فجعلوا الغيبة أمارة على ظهور الفرج مع أنه قد مضى اليوم على الغيبة أكثر من ألف ومائة سنة، ولم يقع شيء من هذه الوعود، فما تأثير ذلك على من يقرأ أمثال هذه الأماني من الشيعة؟! ألا يزداد الشك ويضعف اليقين، وقد يبحث عن مذهب آخر سوى الإسلام، لأنه قيل له - زورًا وبهتانًا - إن هذا المهدي الموعود متفق عليه بين السنة والشيعة. ولهم روايات كثيرة في عقيدة الانتظار، وقد ذكر المجلسي منها (77) رواية ¬
في باب عقده بعنوان "باب فضل انتظار الفرج، ومدح الشيعة في زمن الغيبة وما ينبغي فعله في ذلك الزمان" (¬1) . حتى نسبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أفضل أعمال أمتي انتظار فرج الله عز وجل" (¬2) . يعنون به خروج منتظرهم. وجعلوا الانتظار أحب الأعمال إلى الله (¬3) . و"المنتظرون لظهوره أفضل أهل كل زمان" (¬4) ، وزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عنهم لأصحابه: "سيأتي قوم من بعدكم الرجل الواحد منهم له أجر خمسين منكم، قالوا: يا رسول الله نحن كنا معك ببدر وأحد وحنين ونزل فينا القرآن. فقال: إنكم لو تحملوا ما حملوا لم تصبروا صبرهم" (¬5) . وغاب عن واضع الرواية من زلة الصحابة عند الرافضة. وجاءت عندهم روايات تطفئ ذلك التطلع لخروجه وتقول "من عرف هذا الأمر ثم مات قبل أن يقوم القائم عليه السلام كان له مثل أجر من قتل معه" (¬6) . وبجانب هذا الترغيب فهناك التهديد والوعيد بالكفر والخلود في النار لمن أنكر غيبة القائم حتى جعلوا إنكارها كالكفر برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، بل عدّوا ذلك مثل كفر إبليس. روى صدوقهم بسنده المزعوم "عن ابن أبي يعفور قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: من أقر بالأئمة من آبائي وولدي، وجحد المهدي من ولدي كان كمن أقر بجميع الأنبياء وجحد محمدًا صلى الله عليه وسلم. فقلت: يا سيدي ومن المهدي من ولدك؟ قال: الخامس من ولد السابع، يغيب عنهم شخصه ولا يحل لهم تسميته" (¬7) ، وافتروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أنكر القائم ¬
من ولدي فقد أنكرني" (¬1) . وقال صدوقهم: "مثل من أنكر القائم عليه السلام في غيبته مثل إبليس في امتناعه في السجود لآدم" (¬2) . ومسألة الغيبة صارت بفعل شيوخ الشيعة مصدر حقد، ضد الصحابة ومن تبعهم بإحسان، حتى قال شيخهم الجزائري: "إني كلما أشكلت عليّ مسألة أوجبت على نفسي لعنهم، لأنهم سبب في استتار الحجة" (¬3) . فتلاحظ أنهم يحاولون توجيه السخط والحقد الكامن في نفوس الشيع من مرارة الانتظار، ولوعة الاعتقاد بأن "الإمام الغائب مقموع مقهور مزاحم في حقه قد غلب قهرًا" (¬4) . وأنه بسبب غيبته - كما يزعمون - "جرى على شيعته من أعداء الله ما جرى من سفك الدماء ونهب الأموال.." (¬5) . فيوجهون هذا الحقد الناتج من هذا الشعور إلى سب ولعن لخير جيل عرفته البشرية.. ومن اقتفى أثرهم. ¬
الاستدلال على وقوع الغيبة
الاستدلال على وقوع الغيبة عني الإمامية عناية شديدة بالبرهنة على صحة عقيدتهم في غيبة المهدي.. وقد اتجهوا إلى كتاب الله سبحانه يبحثون فيه عن سند لعقيدتهم، فلما لم يجدوا فيه ما يريدون استنجدوا كعادتهم بالتأويل الباطني المتسم بالتكلف الشديد والشطط البالغ وأولوا عدة آيات من كتاب الله بهذا المنهج. جاء في أصل أصول التفسير عندهم (تفسير القمي) في قوله سبحانه: {وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} (¬1) . قال: النهار هو القائم عليه السلام منا أهل البيت (¬2) . وجاء في أصح كتبهم الأربعة في قوله سبحانه: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ} (¬3) ، قال: إذا غاب عنكم إمامكم فمن يأتيكم بإمام جديد (¬4) . وفي تفسير العياشي في قوله سبحانه: {وَأَذَانٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ} (¬5) . قال: "خروج القائم وأذان دعوته إلى نفسه" (¬6) . والأمثلة في مثل هذا اللون من التأويل كثيرة حتى ألفوا في هذا كتبًا مستقلة مثل "ما نزل من القرآن في صاحب الزمان" (¬7) ، و"المحجة فيما نزل في القائم الحجة" (¬8) ، وقد نشر الأخير في طبعة حديثة (¬9) . قام على تحقيقها بعض الروافض ¬
المعاصرين (¬1) ، وقد أول فيه مؤلفه أكثر من (120) آية من كتاب الله بمهديهم المنتظر في تأويلات هي من فضائحهم التي لا تستر، ولكن المحقق لم يقتنع بهذا العدد فأضاف إليه تأويل اثنتي عشرة آية أخرى من كتاب الله ووضعها في آخر الكتاب تحت عنوان "مستدرك المحجة". والنظر الموضوعي المنصف يرى في هذه التأويلات الباطنية التي يراد الاحتجاج بها لمسألة غيبة مهديهم غلوًا شديدًا وأنها تحريف لكتاب الله لا استدلال به، وهي تدل دلالة ظاهرة على فساد الفكرة التي يحاول تقريرها من أصلها. ويلتمس الإمامية من الغيبة التي وقعت لبعض الأنبياء دليلاً على صحة وقوع غيبة مهديهم؛ فيحتجون - مثلاً - بغيبة "موسى بن عمران عليه السلام من وطنه وهربه من فرعون ورهطه كما نطق به القرآن"، وغيبة يوسف عليه السلام، واستتار خبره عن أبيه - كما جاءت به سورة في القرآن - إلى أن كشف الله أمره وظهر خبره وجمع بينه وبين أبيه وإخوته، وقصة يونس بن متى نبي الله عليه السلام مع قومه وفراره منهم حين تطاول خلافهم له، واستخفافهم بحقوقه، وغيبته عنهم وعن كل أحد حتى لم يعلم أحد من الخلق مستقره، وستره الله تعالى وأمسك عليه رمقه بضرب من المصلحة، إلى أن انقضت تلك المدة ورده الله تعالى إلى قومه، وجمع بينهم وبينه (¬2) . وكذلك استتار نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في الغار، وقد احتج بها الطوسي على من قال: "إذا كان (إمامكم) مكلفًا للقيام بالأمر وتحمل أعباء الإمامة كيف يغاب؟ " (¬3) . فيجيبه الطوسي بقوله: "أليس النبي صلى الله عليه وسلم قد اختفى في الشعب ثلاث سنين لم يصل إليه أحد واختفى في الغار ثلاثة أيام" (¬4) . ¬
والواقع أن هذه المقارنات التي يقوم بها الإمامية لإقناع أتباعهم والمتشككين في أمر الغيبة لا تجدي في نزع فتيل الشك المشتعل في أفئدة القوم كلما تأملوا أمر الغيبة بعين عقولهم، رغم أنهم يعولون على هذه المقارنات كثيرًا، حتى إن ابن بابويه ألف في شأنه كتابًا لإقناع كبير شيوخهم الذي داخله الشك في أمر الغيبة ولإقناع الحافين به من الشيعة الذين داهمهم الريب والحيرة في شأنها كما أشار إلى ذلك في كتابه (¬1) . أقول: إن هذه المقارنات غير مجدية في إثبات فكرة غيبة إمامهم لأسباب كثيرة، منها أن غيبة موسى ويوسف ويونس ومحمد (¬2) . عليهم السلام قد أخبر الله سبحانه بها في كتابه بنص واضح صريح لا لبس فيه ولا غموض، أما غيبة مهديهم فتنتهي رواياته إلى حكيمة إن صحت النسبة إليها، ثم أخبار الأبواب الأربعة المطعون في شهادتهم، لأنهم يجرون المصلحة إليهم، حيث المال المتدفق. ولهذا ادعى كثيرون هذه البابية، كذلك غيبة الأنبياء معروفة لدى قومهم لأنهم عاشوا بينهم، وعرفوا، أما غائبهم فلم يعرفه أحد ولم ير له أثر، وكان أهله أنفسهم ينكرون وجوده. كما شهد ثقات المؤرخين أن الحسن العسكري لم يعقب - كما سيأتي -. ثم إن غيبة هؤلاء الأنبياء محدودة الزمان والمكان، ما لبثوا أن عادوا إلى قومهم وأهلهم. أما منتظرهم فقد مضت القرون ولم يعرف له أثر ولم يعلم له مكان. كذلك رسل الله الذين غابوا قد أقاموا الحجة على قومهم، وبلغوا رسالات الله في جيلهم، أما غائبهم فقد مرت الأجيال ولم نسمع منه شيئًا. يضاف إلى ذلك أن الغيبة للأنبياء كانت طبيعية في جملتها، فغيبة يوسف ¬
هي مفارقة لأبيه وظهوره عند قوم آخرين، كما يسافر المرء من بلد إلى بلد. وهي موقوته بزمن محدود، وهي حوادث استثنائية حتى بالنسبة للأنبياء عليهم السلام، فإنهم جم غفير، ولم ينقل أن هذا حدث لغير المذكورين. أما احتجاج الاثني عشرية باختفاء النبي صلى الله عليه وسلم في الغار "فإن هذا الاستدلال واقع في غير موقعه، لأن استتار النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن لإخفاء دعوى النبوة، بل كانت من جنس التورية في الحرب، حتى لا يسد الكفار عليه الطريق، ثم هذا الاختفاء كان ثلاث أيام، فقياس ذلك على غيبة مهديهم في غاية الحماقة، فرق واضح بين الاختفاء الذي كان مقدمة عاجلة لظهور الدين وبين الاختفاء المتطاول الذي لازمه الخذلان وترك الدعوة وانتشار الطغيان" (¬1) . ¬
دفاعهم عن طول أمد الغيبة
دفاعهم عن طول أمد الغيبة: إن مما يعرف به كذب دعوى الشيعة وجود إمامها، هو استبعاد بقائه حيًا طول هذه المدة التي تجاوزت الآن ألف ومائة سنة. فإن تعمير واحد من المسلمين هذه المدة هو - كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - أمر يعرف كذبه بالعادة المطردة في أمة محمد، فلا يعرف أحد ولد في زمن الإسلام عاش مائة وعشرين سنة فضلاً عن هذا العمر، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في آخر عمره "أريأتكم ليلتكم هذه، فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى على وجه الأرض ممن هو اليوم عليها أحد" (¬1) . فمن كان في ذاك الوقت له سنة ونحوها لم يعش أكثر من مائة سنة قطعًا، وإذا كانت الأعمار في ذلك العصر لا تتجاوز هذا الحد فما بعده من الأعصار أولى بذلك في العادة الغالبة العامة ... ثم أعمار هذه الأمة ما بين الستين إلى السبعين، وقليل ممن يجوز ذلك (¬2) . كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح (¬3) . ¬
هذا الاعتراض يأخذ بخناق الإمامية، ويجتث جذور اعتقادهم من أساسه.. وقد حاول شيوخ الشيعة دفعه بإجراء مقارنات بين مهديهم وبعض الأنبياء عليهم السلام الذي زادت أعمارهم عن المعدل الطبيعي المألوف للبشر، فالمهدي عندهم شبيه بنوح عليه السلام الذي لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا (¬1) . وأسندوا هذه المقارنة إلى بعض آل البيت لتحظى بالقبول عند أتباعهم، فروى ابن بابويه - بسنده - أن علي بن الحسين قال: "في القائم سنة من نوح عليه السلام وهو طول العمر" (¬2) . وكذلك يقولون إن بقاء مهديهم هو كبقاء عيسى بن مريم عليه السلام (¬3) . والخضر وإلياس، ويعقدون المقارنة حتى بإبليس (¬4) . ويسندون جملة من هذه المقارنات إلى بعض آل البيت لتكسب صفة القطع عن أتباعهم؛ لأنها من قول المعصوم (¬5) ، وكذلك يحتجون بأخبار المعمرين من البشر (¬6) ، وفاتهم أن يعقدوا المقارنة مع جبرائيل وملك الموت، والملائكة عمومًا وبالسماوات والأرض. وهذا الدفاع قد أبطله الشيعة أنفسهم؛ لأنهم يقولون بأن مهديهم هو الحاكم الشرعي للأمة منذ أحد عشر قرنًا أو يزيد، وهو القيم على القرآن ولا يحتج بالقرآن إلا به، ولا هداة للبشر إلا بواسطته.. وهو الذي معه القرآن الكامل ومصحف فاطمة والجفر والجامعة، وما يحتاجه الناس في دينهم ودنياهم، فمهديهم مسؤول عن الأمة، ومعه وسائل هدايتهم وسعادتها في الدنيا والآخرة. أما غيره ممن يعقدون المقارنة به فيختلفون عنه اختلافًا كثيرًا، فإن نوحًا عليه السلام قد ¬
لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا يدعوهم إلى الله سبحانه حتى أوحى الله إليه {أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ} (¬1) . ولم يكن غائبًا في سردابه أو في مخبئه لا يعلم مستقره ومكانه، يرى الناس في ضلالهم وكفرهم ويتوارى عن الأنظار فلا يرونه مع تعاقب الأجيال وكر القرون. على أن عمر المهدي - الآن - قد زاد عن هذه المدة. وكذلك عيسى عليه السلام قد بلغ رسالة ربه، وأقام الحجة وأدى الأمانة قبل رفعه إلى السماء فلم يكن يضير أتباعه أن يغيب عنهم بخلاف منتظرهم الذي غاب منذ طفولته وترك شيعته يختلفون في وجوده وبابيته، وتعميهم التقية عن معرفة حقيقة مذهبه، ويختلفون ويتنازعون حتى يكفر بعضهم بعضًا ويلعن بعضهم بعضًا. أما الخضر وإلياس فإن الذي عليه المحققون من أهل العلم أنهما قد ماتا (¬2) ، وعلى تقدير حياتها فلا تسلم لهما المقارنة، لأنهما ليسا بمكلفين في هداية هذه الأمة وقيادتها بخلاف إمامهم الذي هو مسؤول - في اعتقادهم - عن المسلمين جميعًا ¬
في كل أمورهم. أما إبليس فالخبر في بقائه ورد به القرآن بخلاف مهديهم الذي أنكره حتى أهله وطوائف من شيعته، ثم إن إبليس يمارس مهمته في إضلال الخلق عن سبيل الله، ولا شك أن ضلال الشيعة باتباع هذا "المعدوم" من أعماله، أما منتظرهم فليس له أثر ولا خبر. كما أن إبليس ليس من جنس الناس.. فلا تسلم لهم المقارنة في كل الأحوال. أما بقية المعمرين من البشر فإنهم مهما بلغوا من العمر فلا يصلوا إلى بعض ما يدعونه في غائبهم، وكل الأمثلة التي ضربها شيوخهم في القرن الرابع ليس لها قيمة اليوم لتجاوز عمر منتظرهم أضعافها، كما أن هؤلاء ليس لهم مهمة غائبهم ومسؤولياته. ويحاول بعض المعاصرين من شيوخهم أن يستنجد بلغة العلم الحديث في التدليل على إمكانية بقاء منتظرهم، فيقول المظفر: "وطول الحياة أكثر من العمل الطبيعي أو الذي يتخيل أنه العمر الطبيعي لا يمنع منها الطب ولا يحيلها، غير أن الطب بعد لم يتوصل إلى ما يمكنه من تعميرة حياة الإنسان وإذا عجز عنه الطب فإن الله قادر على كل شيء" (¬1) . ويقول محمد حسين آل كاشف الغطا: "بأن أكابر فلاسفة الغرب قالوا بإمكان الخلود في الدنيا للإنسان" (¬2) . ثم قال: "قال بعض كبار علماء أوروبا: لولا سيف ابن ملجم (¬3) . لكان علي بن أبي طالب من الخالدين، لأنه قد جمع جميع ¬
صفات الكمال والاعتدال" (¬1) . هذا ما تقوله - نظريات بعض الكفار - إن صدق هؤلاء في نقلهم - ولكن الله سبحانه يقول لنبيه: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} (¬2) ، ويقول: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ} (¬3) ، ويقول سبحانه: {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} (¬4) . وهو سبحانه أعلم بمن خلق، وأصدق القائلين، فلا عبرة بعد ذلك بقول كافر يحاول أن يتشبث بالبقاء في هذه الحياة ولو بالأوهام. ولعلي الرضا - كما تنقل كتب الشيعة - كلمة صادقة قالها في الرد على الفرق الشيعية الكثيرة التي تقول بحياة بعض آل البيت ولا تصدق بموتهم وتدعي أنها غيبة وسيرجعون، وهي من أقوى الردود على الاثني عشرية من كلامهم أنفسهم، فقد جاء في رجال الكشي أن عليًا الرضا قيل له: إن قومًا وقفوا على أبيك ويزعمون أنه لم يمت، قال: "كذبوا وهم كفار بما أنزل الله عز وجل على محمد صلى الله عليه وسلم، ولو كان الله يمد في أجل أحد لمدّ الله في أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم" (¬5) . ولكنهم يخالفون قول إمامهم ويزعمون أن الله مدّ في عمره لحاجة البشر إليه؛ بل لحاجة الكون وكل شيء في الحياة إليه؛ إذ لولاه - كما يفترون - لساخت الأرض، وماجت بأهلها (¬6) . ¬
المهدي بعد عودته المزعومة
المهدي بعد عودته المزعومة أ- شريعة مهديهم المنتظر: يشير ابن بابويه في الاعتقادات التي تسمى دين الإمامية إلى أن المهدي إذا رجع من غيبته ينسخ شريعة الإسلام فيما يتعلق بأحكام الميراث، فيذكر عن الصادق أنه يقول: "إن الله آخى بين الأرواح في الأظلة قبل أن يخلق الأبدان بألفي عام، فلو قد قام قائمنا أهل البيت أورث الأخ الذي آخى بينهما في الأظلة ولم يرث الأخ من الولادة" (¬1) . لعل هذه الرواية تكشف عما يختلج في نفوس أرباب تلك العصابة من رغبة في إحلال العلاقة الحزبية والتنظيمية بين أفرادها محل القرابة والولادة في الميراث، ونهب أموال الناس باسم هذه العلاقة والأخوة! وما تحلم به عند قيام دولتها الموعودة من تطبيق هذه التطلعات والتي أرادت إعطائها صيغة مقبولة بنسبها لآل البيت. كما تفصح هذه الرواية عن موقف واضعي هذه الروايات من تطبيق الشريعة الإسلامية ورغبتهم في تعطيلها.. ثم هي تعكس مضمونًا إلحاديًا يسعى لهدم الشريعة، والخروج على عقيدة ختم النبوة. وهذه الدعوى فضلاً عن أنها خروج عن شريعة الإسلام فهي مخالفة لمنطق العقل، فالتوارث منوط بالعلاقة الظاهرة من الولادة والقرابة، أما المؤاخاة الأزلية المزعومة فلا يدركها البشر، فكيف تكون أساسًا لقسمة الميراث؟. وكذلك يغير منتظرهم شريعة الإسلام فيما يتعلق بأخذ الجزيرة من أهل ¬
الكتاب، وتنص رواياتهم أن منتظرهم بهذا المنهج يخالف هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقول: "ولا يقبل صاحب هذا الأمر الجزية كما قبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم" (¬1) . ويكفي هذا الاعتراف في تأكيد خروجه عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبديله لها عمدًا.. فهل أراد واضع هذه الروايات أن يهون من شأن التشريع الإسلامي في نفوس الأتباع ويغري بالخروج عليه؟! بل إن الحكم والقضاء في دولة المنتظر يقام على غير شريعة المصطفى صلى الله عليه وسلم. جاء في الكافي وغيره، قال أبو عبد الله: "إذا قام قائم آل محمد حكم بحكم داود وسليمان ولا يسأل بينة" (¬2) ، وفي لفظ آخر: "إذا قام قائم آل محمد حكم بين الناس بحكم داود عليه السلام ولا يحتاج إلى بينة" (¬3) . وقد تبنى ثقة إسلامهم الكليني هذه العقيدة وبوب لها بابًا خاصًا بعنوان: "باب في الأئمة عليهم السلام أنهم إذا ظهر أمرهم حكموا بحكم داود وآل داود ولا يسألون البينة" (¬4) . ولا يخفى ما في هذا الاتجاه من عنصر يهودي. ولهذا علق بعضهم على هذا العنوان بقوله: "أي ينسخون الدين المحمدي ويرجعون إلى دين اليهود" (¬5) . وانظر كيف يحلم واضعو هذه الروايات - الذين لبسوا ثوب التشيع زورًا وبهتانًا - بدولة تحكم بغير شريعة الإسلام. وتشير بعض رواياتهم إلى أنه أيضًا يحكم بحكم آدم مرة، ومرة بحكم داود، ومرة بقضاء إبراهيم. ولكن يعارضه في هذا الاتجاه للحكم بغير شريعة الإسلام ¬
بعض أتباعه، إلا أنه يواجه هذه المعارضة بشدة حيث يأمر بهم فتضرب أعناقهم (¬1) . وتقدم رواياتهم بعض أحكامه وأقضيته فتقول: إنه يحكم بثلاث لم يحكم بها أحد قبله؛ يقتل الشيخ الزاني، ويقتل مانع الزكاة، ويورث الأخ أخاه في الأظلة (¬2) ، وأنه يقتل من بلغ العشرين ولم يتفقه في الدين (¬3) . إلخ. وتقوم دولة المنتظر على الحكم لأهل كل دين بكتابهم، مع أن الإسلام لم يجز لأحد أن يحكم بغير شريعة القرآن باتفاق المسلمين (¬4) . جاء في أخبارهم "إذا قام القائم قسم بالسوية، وعدل في الرعية، واستخرج التوراة وسائر كتب الله تعالى من غار بأنطاكية، حتى يحكم بين أهل التوراة بالتوراة، وبين أهل الإنجيل بالإنجيل، وبين أهل الزبور بالزبور، وبين أهل القرآن بالقرآن" (¬5) . وهذا القانون الذي يطمح إلى تطبيقه واضعو هذه الروايات ويعدون بتنفيذه على يد المنتظر هو شبيه - إلى حد كبير - بفكرة الديانة العالمية التي ترفع شعارها الماسونية.. وهي فكرة إلحادية تقوم أساسًا على إنكار الأديان السماوية تحت دعوى حرية الفكر والعقيدة. وفي حومة هذه الأفكار التي تسعى لنسخ شريعة القرآن وابتداع أحكام جديدة لم يأذن بها الله، والرجوع إلى حكم داود لا شريعة محمد صلى الله عليه وسلم.. وتطبيق شرائع الأديان لا حكم القرآن - نلتقي بعد ذلك بفكرة مسمومة تعد نتيجة لهذه المقدمات والتغييرات التي سبقتها، وفحوى هذه الفكرة هو إلغاء المهدي الحكم ¬
بالقرآن وإحلال كتاب آخر محله، وهذا ما تشير إليه رواية النعماني عن أبي بصير قال: قال أبو جعفر رضي الله عنه: "يقوم القائم بأمر جديد، وكتاب جديد، وقضاء جديد" (¬1) ، "لكأني أنظر إليه بين الركن والمقام يبايع الناس على كتاب جديد" (¬2) . وتصف روايات أخرى عندهم ما يقوم به منتظرهم من محاولة لصرف الناس عن القرآن بدعوى أنه محرف وإخراج كتاب آخر مخالف له، وسعيه لتضليل الناس بدعوى أن كتابه هو الكتاب الكامل الذي أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيام "العجم" بالسعي لنشره بين الناس، وتعليمهم إياه، ومواجهتهم صعوبة بالغة لتغيير ما في أفئدة الناس وأذهانهم من كتاب الله (¬3) . هذه هي الروايات التي كانت موضع التداول السري (¬4) . في إبان قوة الدولة الإسلامية عن حكومة المهدي بعد رجعته، وقد يقول من لم يسلم بأمر منتظرهم إنه خيالات لا حقيقة لها، لأن القائم المنتظر لا وجود له، فلا تحقق لهذه الدولة الموعودة.. فالحديث عنها قد يكون حديثًا خياليًا. وهذا حق؛ لكن القيمة الواقعية لهذه الروايات أنها تفصح عن مكنون نفوس واضعيها، وأهدافها ضد شريعة الإسلام، فهي "إسقاطات" نفسية تنطوي على مدلولات خطيرة تحدد رغبات واضعي تلك الأخبار وتطلعاتهم إلى نوعية الحكم الذي ينشدونه، وهي أحلام قد تكشف عن خطط تلك العناصر التي اندست في صفوف الدولة الإسلامية مكتسبة مسوح التشيع لتغيير شريعة القرآن، وإن منازعتهم لحكم ولاة المسلمين تحت ستار (لا حكم إلا للأئمة) يرمي إلى إزالة الحكومة الإسلامية لإقامة دولة أخرى في مكانها تحكم بحكم القائم الموعود. ¬
ب- سيرة القائم المنتظر
ب- سيرة القائم المنتظر: أما سيرته فتحمل سمات من شريعته الجديدة، حيث يتولى مضايقة المسلمين في مقدساتهم ومساجدهم، فيقوم بعملية هدم وتخريب في الحرمين الشريفين، حيث تنص أخبارهم "أن القائم يهدم المسجد الحرام حتى يرده إلى أساسه، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أساسه، ويرد البيت إلى موضعه وإقامته على أساسه" (¬1) . كذلك يتجه إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه ويبدأ - كما تقول أخبارهم - "بكسر الحائط الذي على القبر.. ثم يخرجهما (يعني صاحبي رسول الله) غضين رطبين فيلعنهما ويتبرأ منهما ويصلبهما ثم ينزلهما ويحرّقهما ثم يذريهما في الريح" (¬2) . وفي رواية أخرى "أول ما يبدأ به القائم.. يخرج هذين رطبين غضين فيحرّقهما ويذريهما في الريح، ويكسر المسجد" (¬3) . ونسبوا إلى الله - سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون - أنه قال لنبيه - حينما أسرى به -: "وهذا القائم ... هو الذي يشفي قلوب شيعتك من الظالمين والجاحدين والكافرين، فيخرج اللات والعزى (يعنون خليفتي رسول الله) طريين فيحرقهما" (¬4) . وتشير بعض رواياتهم إلى أن هذا العمل يثير المسلمين، حيث تقول: ".. ثم يحدث حدثًا فإذا فعل ذلك قالت قريش: اخرجوا بنا إلى هذا الطاغية، فوالله لو كان محمديًا ما فعل، ولو كان علويًا ما فعل، ولو كان فاطميًا ما فعل.." (¬5) . ¬
قال شيخهم وفخرهم (¬1) . المجلسي: "لعل المراد بإحداث الحدث إحراق الشيخين الملعونين فلذا يسمونه عليه السلام بالطاغية" (¬2) . ولا يخفى أن هذه "الوعود" بصنائع المنتظر التي تطفح بها رواياتهم إنما تنم عن دخائل نفوسهم وما تكنه صدورهم من مناوأة لدين الإسلام وسعي في الكيد له حتى يتمنوا أن تتاح لهم فرصة لهدم الحرمين، ونبش القبرين الطاهرين، وحينما يحسون بعجزهم عن تحقيق ذلك لقوة الدولة الإسلامية آنذاك يعزون أنفسهم ويعللونها، ويشفون غيظ قلوبهم على الإسلام ورواده الذين فتحوا ديارهم، وأزالوا ملكهم، ونشروا الإسلام بينهم.. بهذه الأحلام والآمال.. فهي تكشف في الحقيقة ماذا يتمنون تحقيقه لو واتتهم فرصة الحكم والتسلط. ولذلك فإن المعاصرين منهم يتمنون فتح مكة والمدينة، كما جاء على ألسنة آياتهم، ليحققوا أحلامهم التي أفصحت عنها أخبارهم - كما سيأتي (¬3) .- ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين. ولم يكتف منتظرهم بهذا؛ بل إنه يقوم بقتل عام شامل للجنس العربي واستئصال وجوده، ولذلك فإن أخبارهم تعد العرب بملحمة على يد غائبهم - إذا رجع - لا تبقي ولا تذر على رجل أو امرأة ولا صغير ولا كبير بل تأخذهم جميعًا فلا تغادر منهم أحدًا. فيروي النعماني: ".. عن الحارث بن المغيرة وذريح المحاربي قالا: قال أبو عبد الله عليه السلام: ما بقي بيننا وبين العرب إلا الذبح" (¬4) . وكأن روايتهم هذه لا تفرق بين من يتشيع وغيره: لكن تؤكد أخبارهم أنه لن يتشيع أحد من العرب للقائم، ولهذا تحذر منهم فتقول: "اتق العرب فإن ¬
لهم خبر سوء أما إنه لم يخرج مع القائم منهم واحد" (¬1) . ولكن في الشيعة من العرب كثير غير أن أخبارهم تقول بأنهم سيمحصون فلا يبقى منهم إلا النزر اليسير (¬2) . وتقول رواياتهم بأن القائم "يبهرج سبعين قبيلة من قبائل العرب" (¬3) . ويخصون قبيلة رسول الله صلى الله عليه وسلم: قريش التي منها صفوة أصحابه بالذكر التفصيلي لعمليات القتل التي يجريها عليها القائم، ففي الإرشاد للمفيد "عن عبد الله بن المغيرة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إذا قام القائم من آل محمد عليه السلام أقام خمسمائة من قريش فضرب أعناقهم، ثم أقام خمسمائة فضرب أعناقهم، ثم خمسمائة أخرى حتى يفعل ذلك ست مرات. قلت: ويبلغ عدد هؤلاء هذا؟ قال: نعم منهم ومن مواليهم" (¬4) . ولا يخفى أن تخصيص العرب بالقتل يدل على تغلغل الاتجاه الشعوبي لدى واضعي هذه الروايات.. وهي تبين مدى العداوة للجنس العربي لدى مؤسسي "الرفض" والرغبة في التشفي منهم بقتلهم، وذلك - في حقيقة الأمر - لا يعود لجنسيتهم بل للدين الذي يحملونه. ولا تنسى رواياتهم أن تخص البيت النبوي الطاهر ببائقة من بوائق منتظرهم حيث يزعمون أن أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم تبعث من قبرها قبل يوم القيامة (¬5) ، وذلك لأنها ارتكبت - كما يفترون - حدًا في ¬
عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن رسول الله لم يقم عليها الحد - كما يزعمون -. وهو الذي يقول: "وأيم الله لو أن فاطمة ابنة محمد سرقت لقطعت يدها" (¬1) ، وقد أخذته الرحمة بها، مع أن الله سبحانه يقول: {وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (¬2) . فلم يقم عليها الحد ولكن قائمهم يتولى تنفيذ ما عجز أفضل الخليقة عن تنفيذه وذلك في عصر الرجعة المزعوم (¬3) . - كما يفترون -. وهذا يعني أن القائم أكمل من خاتم النبيين، وأقدر على تحقيق دين الله ممن أرسل قدوة للعالمين. ¬
وهو ما صرحت به أخبارهم حيث روى شيخهم ابن بابويه: ".. عن أبي بصير قال: قال أبو عبد الله عليه السلام في قوله عز وجل: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (¬1) . فقال: والله ما نزل تأويلها بعد ولا ينزل تأويلها حتى يخرج القائم عليه السلام.." (¬2) . أي أن القائم سيحقق ما عجز عنه الأنبياء. وهذا ما صرح به بعض شيوخهم الكبار عندهم (¬3) . - في هذا العصر - واستنكره العالم الإسلامي - كما سيأتي - (¬4) . ذلك أنهم يزعمون أن ما عند القائم أضعاف ما عند الأنبياء من العلم، حتى جاء في بحار الأنوار وغيره "عن أبان عن أبي عبد الله قال: العلم سبعة وعشرون حرفًا فجميع ما جاءت به الرسل حرفان، فلم يعرف الناس حتى اليوم غير الحرفين، فإذا قام قائمنا أخرج الخمسة والعشرين حرفًا فبثها في الناس، وضم إليها الحرفين حتى يبثها سبعة وعشرين حرفًا" (¬5) . وعملية الاجتياح الدموي الرهيب التي تحلم بها الشيعة الاثنا عشرية على يد مهديهم تكاد تتناول كل الفئات والأجناس البشرية باستثناء طائفتهم، حيث يخرج قائمهم "موتورًا غضبان أسفًا.. يجرد السيف على عاتقه" (¬6) . ويبدأ القتل، فيحصد أهل السنة الذين تلقبهم أخبار الشيعة - أحيانًا - بالمرجئة (¬7) . حتى قال ¬
إمامهم: "ويح هذه المرجئة، إلى من يلجؤون غدًا إذا قام قائمنا" (¬1) . ولم يستثن من ذلك إلا من تاب، أي دخل بمذهبهم فقال: "من تاب تاب الله عليه، ومن أسر نفاقًا فلا يبعد الله غيره، ومن أظهر شيئًا أحرق الله دمه. ثم قال: يذبحهم والذي نفسي بيده كما يذبح القصاب شاته - وأومأ بيده إلى حلقه -" (¬2) . وتسميهم أحيانًا بالنواصب وتقول: "فإذا قام القائم عرضوا كل ناصب عليه فإن أقر بالإسلام وهي الولاية وإلا ضربت عنقه أو أقر بالجزية فأداها كما يؤدي أهل الذمة" (¬3) . لكن بعض رواياتهم تقول بأن الجزية لا تقبل منهم كما تقبل من أهل الذمة، فقد سئل إمامهم عن وضع أهل الذمة في دولة القائم فقال: "يسالمهم كما سالمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويؤدون الجزية عن يد وهم صاغرون" (¬4) . أما غيرهم من المخالفين للرافضة فقال فيه: "ما لمن خالفنا في دولتنا من نصيب، إن الله قد أحل لنا دماءهم عند قيام قائمنا" (¬5) . حتى إن قائمنا يتتبع الشيعة الزيدية غير الغلاة، فيقتلهم. تقول أخبارهم: "إذا قام القائم عليه السلام سار إلى الكوفة فيخرج منها بضعة عشر آلاف أنفس - كذا - يدعون البترية (¬6) . عليهم السلاح فيقولون له: ارجع من حيث جئت فلا حاجة لنا في بني فاطمة فيضع ¬
فيهم السيف حتى يأتي على آخرهم" (¬1) . بل إنه يقتل من لا ذنب له. تقول رواياتهم: "إذا خرج القائم قتل ذراري قتلة الحسين بفعل آبائها" (¬2) . وهكذا فإن قائمهم "ليس شأنه إلا القتل لا يستبقي أحدًا" (¬3) . "ولا يستتيب أحدًا" (¬4) . وتصور بعض رواياتهم مبلغ ما يصل إليه من سفك دماء الناس (من غير طائفته) حتى تقول: "لو يعلم الناس ما يصنع القائم إذا خرج لأحب أكثرهم ألا يروه مما يقتل من الناس.. حتى يقول كثير من الناس: ليس هذا من آل محمد، لو كان من آل محمد لرحم" (¬5) . وهذا قول يدين القائم بالخروج عن سنن الرحمة والعدل التي عرف بها أهل البيت. بل إنه خرج عن سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهذا ما يصرحون به؛ فقد سئل الباقر - على حد زعمهم - أيسير القائم بسيرة محمد؟ فقال: "هيهات! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سار في أمته باللين وكان يتألف الناس، والقائم أمر أن يسير بالقتل وألا يستتيب أحدًا، فويل لمن ناوأه" (¬6) . فالشيعة تزعم أنه أمر بسيرة تخالف سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أجمع المسلمون أن كل ما خالف سيرته صلى الله عليه وسلم؟ فهو ليس من الإسلام، فهل بعث برسالة غير رسالة الإسلام؟! وكيف يؤمر بخلاف سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فهل هو نبي أوحي إليه من جديد؟ ولا نبي بعد خاتم الأنبياء، ولا وحي بعد وفاته، وكل من ادعى خلاف ¬
ذلك فهو مفتر دجال؛ لمعارضته للنصوص القطعية وإجماع الأمة على ختم الوحي والنبوة بوفاة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم. ولكن هذه الروايات تصور ما في قلوب واضعيها من حقد على الناس ولاسيما أمة الإسلام التي تخالفهم في نهجهم، وأنهم يتمنون يومًا قريبًا آتيًا يحققون فيه هذه "الأحلام" التي تكشف حقيقتها هذه الروايات ويترجمها واقع الشيعة في العهد الصفوي وفي دولة الآيات القائمة، وفي منظماتهم في لبنان - كما سيأتي - (¬1) . ومعلوم أن أمير المؤمنين عليًا الذي يزعمون التشيع له لم يكفر مخالفيه، ولم يقاتل إلا من بغى عليه، فقائمهم الذي يفعل هذه الأفاعيل ومن تبعه في نهجه، ليس من شيعة علي، وقد اعترفوا في رواياتهم أن قائمهم لا يأخذ بسيرة علي، فقد سئل الصادق - كما يزعمون - "أيسير القائم بخلاف سيرة علي؟ فقال: نعم، وذاك أن عليًا سار بالمن والكف لعلمه أن شيعته سيظهر عليهم من بعده، أما القائم فيسير بالسيف والسبي، لأنه يعلم أن شيعته لن يظهر عليهم من بعده أبدًا" (¬2) . وقال صادقهم يخاطب بعض الشيعة: "كيف أنت إذا رأيت أصحاب القائم قد ضربوا فساطيطهم في مسجد الكوفة، ثم أخرج المثال الجديد، على العرب شديد. قال (الراوي) : قلت: جعلت فداك ما هو؟ قال: الذّبح، قال: قلت بأي شيء يسير فيهم؛ بما سار علي بن أبي طالب في أهل السواد؟ قال: لا، إن عليًا سار بما في الجفر الأبيض، وهو الكف، وهو يعلم أنه سيظهر على شيعته من بعده، وأن القائم يسير بما في الجفر الأحمر وهو الذبح، وهو يعلم أنه لا يظهر على شيعته" (¬3) . وهكذا "يقوم المزعوم بأمر جديد، وكتاب جديد، وسنة جديدة، وقضاء ¬
جديد" (¬1) . وهذا كاف في إيضاح أن ما تحلم به الشيعة ليس له أصل في كتاب الله وسنة نبيه، بل هي بدعة جديدة يخرج بها قائمهم. وبينما الناس في عصر القائم يعيشون بين الدماء والأشلاء، وفي خوف ورعب من قائم الشيعة الذي كان بعثه نقمة عليهم، كما أن بعث محمد صلى الله عليه وسلم رحمة (¬2) ، فإن عسكر القائم وأصحابه يعيشون في حياة أخرى حافلة بألوان النعيم وأنواع المسرات، فهو يأمرهم في ميسرهم ألا يحملوا "طعامًا ولا شرابًا ولا علفًا، فيقول أصحابه: إنه يريد أن يقتلنا يقتل دوابنا من الجوع والعطش (¬3) . فيسير ويسيرون معه؛ فأول منزل ينزله يضرب الحجر فينبع منه طعام وشراب وعلف فيأكلون ويشربون ودوابهم حتى ينزلوا النجف من ظهر الكوفة" (¬4) ، وهكذا "لا ينزل منزلاً إلا انبعث منه عيون، فمن كان جائعًا شبع ومن كان ظمآن روي" (¬5) ، وإنه إذا قام اجتمعت إليه أموال الدنيا من بطن الأرض وظهرها، فيعطي أصحابه ما لم يعطه أحد كان قبله، ويتضاعف الرزق على يديه فيرزق في الشهر رزقين ويعطي في السنة عطاءين (¬6) ، حتى إن أحدًا من الشيعة لا يجد لديناره ودرهمه موضعًا يصرفه فيه (¬7) . وهذه روايات تصور التطلعات والأماني التي كانت تفيض بها قلوب الشيعة ¬
انتظارًا لهذا الغد المأمول، ويصور النزعة المادية التي يشتركون فيها مع اليهود! وهو حلم النظام الشيوعي في العالم حسب رأي ماركس. أما عن جند القائم وأصحابه الذين يشاركونه في مجازره، ويرفلون في نعيمه ويتبوءون جنته فهذا ما سيتبين في الفقرة التالية.
ج- جند القائم
ج- جند القائم: تشير بعض رواياتهم إلى أن جند القائم من الموالي والعجم ويبلغ عددهم اثني عشر ألفًا، وأنه يمنحهم القائم سلاحًا من عنده عبارة عن سيف وبيضة ذات وجهين، ثم يقول لهم: "من لم يكن عليه مثل ما عليكم فاقتلوه" (¬1) . وتذكر رواية للنعماني أن "أصحاب القائم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً أولاد العجم" (¬2) . بينما تقول رواية في البحارك "إذا قام قائم آل محمد استخرج من ظهر الكعبة سبعة وعشرين رجلاً، خمسة وعشرين من قوم موسى الذين يقضون بالحق وبه يعدلون، وسبعة من أصحاب الكف، ويوشع وصي موسى، ومؤمن آل فرعون، وسلمان الفارسي، وأبا دجانة الأنصاري ومالك الأشتر" (¬3) . وواضح في هذا النص تغلغل العنصر اليهودي في المجموعة التي وضعت دين التشيع. كما يظهر أن التشيع استوعب مجموعة من العنصر المختلفة، كل يصنع ما يشاء له هواه، وما تملي عليه عنصريته.. فالعجم يضعون روايات في صالحهم، واليهود كذلك.. وهكذا، وموسوعات الاثني عشرية استوعبت الجميع بلا تمييز. وجاء في بعض أخبارهم البيان التفصيلي لأسماء جنده واحدًا واحدًا وموطن ¬
كل جندي أو قبيلته أو حرفته في رواية طويلة. منها قوله: "ومن أهل الشام رجلين يقال لهما إبراهيم بن الصباح، ويوسف بن جريا" (صريا) (¬1) . فيوسف عطار من أهل دمشق، وإبراهيم قصاب من قرية صويقان "ومضى في ذكرهم على هذا النسق حتى ذكر (313) رجلاً ليبلغ بهم عدة أهل بدر" (¬2) . كما يقول: "ونسي موقفهم المخزي من أهل بدر وسائر الصحابة". ولا تملك نفسك وأنت تقرأ تلك الأسماء من ابتسامة تغالبك، وأنت تلمح بوضوح التكلف في الكذب، والمحاولات الغبية لستره، ولا ينقضي العجب من تلك الجرأة على الكذب، وخفة العقل، والأغرب كيف لا يستحي شيعة هذا العصر من إخراج هذا "العار" للناس، وطبعه وتحقيقه؟!، أو أن الله سبحانه أراد أن يكشف أمرهم ويفضح زيفهم. ¬
الشيعة وغيبة مهديهم
الشيعة وغيبة مهديهم: في ظل الغيبة التي دانت بها الشيعة، وعاشت في حكمها منذ أكثر من ألف ومائة سنة أوقف شيوخ الشيعة - بحكم نيابتهم عن المنتظر - العمل بجملة من أحكام الدين، كما استحدثوا عقائد وأحكامًا لم يأذن بها الله سبحانه. لقد أوقف الشيعة بسبب الغيبة للمنتظر إقامة صلاة الجمعة، كما منعوا إقامة إمام للمسلمين وقالوا: "الجمعة والحكومة لإمام المسلمين" (¬1) . والإمام هو هذا المنتظر. ولهذا فإن معظم الشيعة إلى اليوم لا يصلون الجمعة (¬2) ، حتى قال بعض المتأخرين: "إن الشيعة من زمان الأئمة كانوا تاركين للجمعة" (¬3) . كما أن الشيعة لا ترى بيعة شرعية إلا للقائم المنتظر، ولذلك فإنهم يجددون البيعة له كل يوم، ففي دعاء لهم يسمونه "دعاء العهد" وفيه: "اللهم إني أجدد له في صبيحة يومي هذا، وما عشت من أيامي عهدًا أو عقدًا أو بيعة له في عنقي لا أحول عنها ولا أزول أبدًا" (¬4) . ¬
وفي دعاء يومي آخر للغائب المنتظر يتضمن الإقرار له بالبيعة فيقول: "اللهم هذه بيعة له في عنقي إلى يوم القيامة" (¬1) . قال المجلسي: ".. ويصفق بيده اليمنى على اليسرى كتصفيق البيعة" (¬2) . كذلك منع الشيعة الجهاد مع ولي أمر المسلمين، لأنه لا جهاد إلا مع الإمام، فقد جاء في الكافي وغيره عن أبي عبد الله قال: "القتال مع غير الإمام المفترض طاعته حرام مثل الميتة والدم ولحم الخنزير" (¬3) . والإمام المفترض الطاعة على المسلمين منذ سنة 260هـإلى اليوم هو منتظرهم الغائب في السرداب. وما قبل سنة 260هـهم بقية الأئمة الاثني عشر، فالجهاد مع أبي بكر وعمر وعثمان وبقية خلفاء المسلمين إلى اليوم هو حرام كحرمة الميتة والدم. وجنود الإسلام الذين يرابطون على الثغور، ويجاهدون في سبيل الله، ولا يريدون علوًا في الأرض ولا فسادًا والذين فتحوا بلاد الفرس وغيرها! ما هم في اعتقاد الشيعة إلا قتلة، الويل لهم، يتعجلون مصيرهم. روى شيخهم الطوسي في التهذيب: ".. عن عبد الله بن سنان قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: جعلت فداك ما تقول في هؤلاء الذين يقتلون في هذه الثغور؟ قال: فقال: الويل يتعجلون قتلة في الدنيا، وقتلة في الآخرة، والله ما الشهيد إلا شيعتنا ولو ماتوا على فرشهم" (¬4) . فأنت ترى أن الشيعة ترى أن جهاد المسلمين على مرور التاريخ جهاد باطل لا أجر فيه ولا ثواب، حتى يصفون المجاهدين المسلمين "بالقتلة" ويجردونهم من ¬
الأسماء التي شرفهم الله بها "كالمجاهد" و"الشهيد". فهل يشك عاقل متجرد من الهوى والتعصب أن واضع هذا المبدأ عدو موتور، وزنديق حاقد.. يتربص بالأمة الدوائر ويبغي فيها الفشل، ولا يريد لها أن تبقى مجاهدة في سبيل الله، رافعة راية الله، ليحتفظ بدينه ودياره، وقد بلغ به التآمر لإشاعة هذا المبدأ أن نسبه لجعفر الصادق وغيره من أهل البيت حتى يجد الرواج بين الأتباع الجهلة من جانب، وحتى يسيء لأهل بيت رسول الله من جانب آخر. كذلك صرح الشيعة أيضًا بمنع إقامة حدود الله سبحانه في دولة الإسلام بسبب غيبة إمامهم، لأن أمر الحدود موكول - كما يقولون - إلى الإمام المنصوص عليه، ولم ينص الله سبحانه - بزعمهم - إلا على اثني عشر إمامًا آخرهم قد غاب منذ منتصف القرن الثالث تقريبًا ولابد من انتظار عودته، حتى يقيم الحدود، إلا أنه بحكم التفويض الذي أجراه لشيوخ الشيعة بعد قرابة سبعين سنة من غيبته يحق للشيخ الشيعي فقط من دون سائر قضاة المسلمين أن يتولى إقامة الحدود، وإذا لم يوجد في قطر من أقطار الإسلام أحد من شيوخهم فلا يجوز إقامة الحدود، لأنه لا يتولاها إلا المنتظر أو نائبه من مراجع الشيعة وآياتهم. روى شيخهم ابن بابويه وغيره: ".. عن حفص بن غياث قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام: من يقيم الحدود: السلطان أو القاضي؟ فقال: إقامة الحدود من إليه الحكم" (¬1) . - كذا -. وقال المفيد: "فأما إقامة الحدود فهو إلى سلطان الإسلام المنصوب من قبل الله، وهم أئمة الهدى من آل محمد عليهم السلام، ومن نصبوه لذلك من الأمراء والحكام، وقد فوضوا النظر فيه إلى فقهاء شيعتهم مع الإمكان" (¬2) . وتحذر ¬
روايات الشيعة من الرجوع إلى محاكم المسلمين وقضاتهم حتى تقول: "من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى طاغوت، وما يحكم له فإنما يأخذ سحتًا، وإن كان حقه ثابتًا، لأنه أخذه بحكم الطاغوت" (¬1) . هذه جملة من شرائع الإسلام حرمتها الشيعة بسبب غيبة مهديهم، وأوقفت العمل بها حتى خروجه من غيبته. كما أنهم شرعوا لأنفسهم أحكامًا في فترة اختفاء هذا المنتظر لم يأذن بها الله سبحانه، ومن ذلك: مسألة التقية والتي هي في الإسلام رخصة عارضة عند الضرورة جعلوها فرضًا لازمًا ودائمًا في فترة الغيبة لا يجوز الخروج عنها حتى يعود المنتظر الذي لن يعود أبدًا، لأنه لم يولد كما يؤكد ذلك المؤرخون، وأهل العلم بالأنساب، وفرق كثيرة من الشيعة نفسها، ومن ترك التقية قبل عودة المنتظر كان كمن ترك الصلاة (¬2) . كذلك جعلوا الاستشهاد في سبيل الله يحصل بمجرد اعتناق التشيع، وانتظار عودة الغائب، لا في الجهاد في سبيل الله، فالشيعي شهيد ولو مات على فراشه. قال إمامهم: "إذا مات منكم ميت قبل أن يخرج قائمنا كان شهيدًا، ومن أدرك قائمنا فقتل معه، كان له أجر شهيدين.." (¬3) . وعقد شيخهم البحراني في المعالم الزلفى بابًا بعنوان: "الباب 59 في أن شيعة آل محمد شهداء وإن ماتوا على فرشهم" (¬4) . وأورد فيه جملة من أخبارهم. ¬
ثم زادت مبالغاتهم - كالعادة - إلى أكثر من هذا القدر حتى روى ابن بابويه بسنده إلى علي بن الحسين قال: "من ثبت على موالاتنا في غيبة قائمنا أعطاه الله عز وجل أجر ألف شهيد من شهداء بدر وأحد" (¬1) . ومن أحكامهم فرضية البيعة للغائب المنتظر، حتى شرع عندهم تجديد البيعة مرات وكرات عبر الأدعية في الزيارات لمشاهد الأئمة - كما مر -، لأن "من أصبح من هذه الأمة لا إمام له من الله جل وعز ظاهرًا (¬2) . عادلاً أصبح ضالاً تائهًا، وإن مات على هذه الحال مات ميتة كفر ونفاق" (¬3) . أما المبدأ الأكبر الذي اخترعوه في ظل الغيبة فهو مبدأ نيابة الفقيه الشيعي عن الغائب المنتظر. وقد استحل الفقيه الشيعي باسم النيابة أمورًا كثيرة. واختلف شيوخ الشيعة في حدود النيابة بين مقل ومستكثر، حتى بلغت النيابة الحد الأقصى لوظائف الإمام الغائب وهو رئاسة الدولة، والاستفتاء على تشكيل الحكومة في دولة "الآيات" الحاضرة، وهم الذين لا يؤمنون إلا بالإمام المنصوص عليه.. ولخطورة عقيدة النيابة، ولأنها - في اعتقادي - تمثل الخروج المقنع للمهدي، على يد مجموعة كبيرة من شيوخهم كل يزعم أحقيته في النيابة سنخصها بالحديث التالي. ¬
النيابة عن المنتظر
النيابة عن المنتظر: أرسيت دعائم فكرة الغيبة لولد للحسن العسكري - كما سلف - وكان لابد من وجود وكيل مفوض يتولى شئون الأتباع في أثناء فترة الاحتجاب، ويكون الواسطة والباب للغائب في السرداب، أو في جبال رضوى، أو وديان مكة. فكان أول زعيم تولى شئون الشيعة - كما كشفت ذلك أوراق الاثني عشرية - هي امرأة.. وما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (¬1) ، إذ بعد وفاة الحسن العسكري، وإشاعة وجود الولد المختفي، وبقاء الشيعة بدون إمام ظاهر، بدأ الشيعة يتساءلون إلى من يرجعون؟ ففي سنة (262هـ) أي بعد وفاة الحسن العسكري بسنتين،، توجه بعض الشيعة (¬2) . إلى بيت الحسن العسكري وسأل - كما تقول الرواية - خديجة بنت محمد بن علي الرضا عن ولد الحسن العسكري المزعوم، فسمته له (¬3) ، يقول راوي الخبر: "قلت لها: فأين الولد؟ قالت: مستور، فقلت: إلى من تفزع الشيعة؟ قالت: إلى الجدة أم أبي محمد عليه السلام" (¬4) . ويبدو أن رجال الشيعة أرادوا أن تبقى النيابة عن الغائب في بيت الحسن العسكري، فأشاعوا بين أتباعهم في بداية الأمر أن أم الحسن العسكري هي الوكيلة عن المنتظر، فهي الرئيسة العامة للمسلمين (بالنيابة) . ويظهر أن هذا "التعيين" كان القصد منه إيجاد الجو المناسب لنمو هذه الفكرة بين الأتباع لأن أم الحسن هي الوصية للحسن بعد وفاته كما تذكر أخبار الشيعة، فكان من الطبيعي أن تتولى ¬
عن ابنه، إلا أن محاربة بيت الحسن العسكري لفكرة الولد - كما سيأتي - قد وجه رجال الشيعة إلى اختيار رجل من خارج أهل البيت، ولهذا جاء في الغيبة للطوسي "ولد الخلف المهدي صلوات الله عليه سنة ست وخمسين ومائتين، ووكيله عثمان بن سعيد، فلما مات عثمان بن سعيد، أوصى إلى أبي جعفر محمد بن عثمان، وأوصى أبو جعفر إلى أبي القاسم الحسين بن روح، وأوصى أبو القاسم إلى أبي الحسن علي بن محمد السمري.." (¬1) . فهؤلاء النواب الأربعة، ويزاحمهم على مسألة النيابة آخرون، هم من خارج بيت الحسن، وتمثل نيابتهم صلة شخصية مباشرة بالمهدي المنتظر. ولذلك تسمى فترة نيابتهم في عرف الشيعة بالغيبة الصغرى. وهؤلاء النواب الأربعة لهم ما للإمام من حق الطاعة، وثقة الرواية، جاء في الغيبة للطوسي أن الحسن العسكري قال: "هذا إمامكم من بعدي (وأشار إلى ابنه) وخليفتي عليكم، أطيعوه، ولا تتفرقوا من بعدي فتهلكوا في أديانكم، ألا وإنكم لا ترونه من بعد يومكم هذا حتى يتم له عمر فاقبلوا من عثمان (الباب الأول) ما يقوله، وانتهوا إلى أمره فهو خليفة إمامكم والأمر إليه (¬2) ، فما قاله لكم فعنّي يقوله، ما أدى إليكم فعني يؤديه" (¬3) . وهكذا أصبح للباب حق النيابة عن الإمام والأمر إليه، لقوله صفة القداسة والعصمة، لأنه ينطق عن الإمام، ويؤدي عنه، ولذلك فإن من خالف هؤلاء الأبواب حلت به اللعنة، واستحق النار. كما جاء في التواقيع التي خرجت من المتنظر في حق من خالف هؤلاء الأبواب (¬4) . ¬
إذن مسألة النيابة لهؤلاء الأربعة تخولهم التشريع، لأنهم ينطقون عن المعصوم، وللمعصوم حق تخصيص، أو تقييد، أو نسخ نصوص الشريعة - كما مر - ولذلك كان للتوقيعات الصادرة منهم نفس المنزلة التي لكلام الإمام أو أقوى كما سلف (¬1) . وكذلك تخولهم إصدار صكوك الغفران أو الحرمان، وأخذ أموال الوقف والزكاة والخمس باسم الإمام. ولكن هذه النيابة انتهت إذ "لما حضرت السمري الوفاة سئل أن يوصي فقال: لله أمر هو بالغه. فالغيبة التامة هي التي وقعت بعد السمري" (¬2) . وقد يكون من أهداف موافقة القواعد الشيعية لإغلاق السمري للبابية وإشاعة ذلك بين الأتباع هو المحافظة على فكرة غيبة المهدي من افتضاح حقيقتها وانكشاف أمرها؛ حيث كثر الراغبون فيها من شيوخ الشيعة ولا سيما في عهد سلفه أبي القاسم بن روح، وعظم النزاع بينهم ووصل الأمر إلى التلاعن والتكفير والتبري، كما يلحظ ذلك في التوقيعات التي خرجت على يد الأبواب منسوبة للمنتظر (¬3) . فأغلق السمري حكاية البابية. وهنا حصل تطور آخر في مسألة النيابة، وفي المذهب الشيعي عمومًا، حيث جعلت النيابة حقًا مطلقًا للشيوخ، فقد أصدرت الدوائر الاثنا عشرية "توقيعًا" منسوبًا للمنتظر الموهوم. وخرج بعد إعلان انتهاء البابية على يد السمري. يقول التوقيع: "أما الوقائع الحادثة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله" (¬4) . فأعلن انقطاع الصلة المباشرة بالمهدي وفوض أمر النيابة عن ¬
المنتظر إلى رواة حديثهم وواضعي أخبارهم. ولقد حقق هذا الإعلان مجموعة من الأهداف، فقد أصبحت دعوى البابية غير مقصورة على واحد، والذي قد تكشف حقيقة أمره بسهولة، وبمجرد مراقبة مجموعة له، ولذلك يلاحظ كثرة الشك والتكذيب في فترات الغيبة الأولى. كما أن ذلك خفف التنافس على البابية التي كان لها آثارها، فبقيت مشاعة بين شيوخ الشيعة، وأطلق على انقطاع البابية الخاصة وتحولها إلى نيابة عامة «الغيبة الكبرى» فصار للإمام غيبتان صغرى وكبرى رغم أن لهم روايات لا تتحدث إلا عن غيبة واحدة (¬1) التكوير: آية: 16،17 (¬2) . ولكن وضعت روايات تناسب هذا الوضع وتتحدث عن غيبتين، يقول بعضها: "قال أبو عبد الله عليه السلام: للقائم غيبتان أحدهما قصيرة والأخرى طويلة، الأولى لا يعلم بمكانه إلا خاصة شيعته، والأخرى لا يعلم إلا خاصة مواليه في دينه" (¬3) . فأنت ترى أن هذه الرواية أثبتت له غيبتين الأولى يتصل به خاصة شيعته، ¬
وهذا قد يكون إشارة إلى السفراء الذين تناوبوا على دعوى البابية، والأخرى يتصل به خاصة مواليه، وقد أشارت رواية في الكافي إلى أن عددهم ثلاثون (¬1) ، فلم تنف رواياتهم الصلة المباشرة بالمنتظر في الحالتين، رغم أن السمري حينما حل وظيفة البابية أصدر توقيعًا على لسان المنتظر يقول فيه: "من ادعى المشاهدة للمنتظر فهو كاذب" (¬2) . وإن شيوخهم يقولون بأنه وقعت في الغيبة الكبرى المحرومية العظمى من الإمام. يقول شيخهم النعماني بعد ذكره لأخبارهم في الغيبتين: "هذه الأحاديث التي يذكر فيها أن للقائم غيبتين أحاديث قد صحت عندنا.. فأما الغيبة الأولى فهي الغيبة التي كانت السفراء فيها بين الإمام عليه السلام وبين الخلق منصوبين ظاهرين موجودي الأشخاص والأعيان يخرج على أيديهم الشفاء من العلم وعويص الحكمة والأجوبة (¬3) . عن كل ما كان يسأل عنه من المعضلات والمشكلات وهي الغيبة القصيرة التي انقضت أيامها وتصرمت مدتها. والغيبة الثانية هي التي ارتفع فيها أشخاص السفراء والوسائط" (¬4) . ولكن شيوخ الشيعة يدعون في فترة الغيبة الثانية النيابة عن الإمام المنتظر ويستندون في ذلك على التوقيع الذي أظهره السمري عن منتظرهم، والذي يحيلهم إلى رواة حديثهم في كل الحوادث الواقعة الجديدة. فيلحظ أنه لم يحلهم على الكتاب والسنة، وإنما أرجعهم إلى الشيوخ. وقد تبوأ شيوخ الشيعة بذلك منصب البابية عن الغائب واستمدوا القداسة ¬
بين الأتباع بفضل هذه النيابة عن الإمام الذي أضفوا عليه تلك الصفات الخارقة، والفضائل الكاملة.. ولذلك يطلقون على شيوخهم الذين وصلوا إلى منصب "النيابة عن الإمام" اسم "المراجع وآيات الله" فهم مظاهر للإمام المعصوم، ولذلك يقرر أحد شيوخهم المعاصرين بأن الراد على النائب كالراد على الله تعالى وهو على حد الشرك بالله وذلك بمقتضى عقيدة النيابة. يقول شيخهم المظفر: "عقيدتنا في المجتهد الجامع للشرائط، أنه نائب للإمام عليه السلام في حال غيبته، وهو الحاكم والرئيس الملطق، له ما للإمام في الفصل في القضايا والحكومة بين الناس، والراد عليه راد على الإمام، والراد على الإمام راد على الله تعالى، وهو على حد الشرك بالله كما جاء في الحديث عن صادق آل البيت - عليهم السلام -. فليس المجتهد الجامع للشرائط مرجعًا في الفتيا فقط، بل له الولاية العامة، فيرجع إليه في الحكم والفصل والقضايا، وذلك من مختصاته لا يجوز لأحد أن يتولاها دونه إلا بإذنه، كما لا تجوز إقامة الحدود والتعزيرات إلا بأمره وحكمه. ويرجع إليه في الأموال التي هي من حقوق الإمام ومختصاته. وهذه المنزلة أو الرئاسة أعطاها الإمام عليه السلام للمجتهد الجامع للشرائط ليكون نائبًا عنه في حال الغيبة ولذلك يسمى (نائب الإمام) " (¬1) . فأنت ترى أن شيوخ الشيعة تخلوا عن آل البيت رأسًا، وتعلقوا بهذا المعدوم، ووضعوا أنفسهم مكان الإمام من أهل البيت باسم هذا المعدوم، وهذه غنيمة كبيرة، لذلك ما إن اتفقوا عليها بعد إخفاق فكرة البابية المباشرة، حتى اختفت الخلافات على منصب البابية، ورجعت فرق شيعية كثيرة، ودانت بهذه الفكرة، لأنها تجعل من كل واحد من تلك الرموز الشيعية "إمامًا" "ومهديًا" "وحاكمًا مطلقًا مطاعًا" "وجابيًا للأموال" ولا يقاسمهم في ذلك أحد من أهل البيت، ولا يفضحهم ويكشف أوراقهم رجل من أهل البيت. ¬
ويبدو من التوقيع المنسوب للمنتظر أنه يجعل لشيوخ الشيعة حق النيابة في الفتوى حول المسائل الجديدة، إذ هو يقول: فأما المسائل الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا - كما سلف - ولا يخلوهم النيابة العامة، ولكن الشيوخ توسعوا في مفهوم النيابة حتى وصلت إلى قمة غلوها في هذا العصر على يد الخميني (¬1) . كما نلحظ شيئًا من هذا في تقرير شيخهم المظفر لعقيدتهم في هذا الشأن، وكما تراه في دولتهم الحاضرة. وقد كان لهؤلاء الشيوخ دعاوى عريضة حول الصلة بالمهدي بعد غيبته الكبرى - كما سلف - (¬2) . ¬
نقد عقيدة الغيبة والمهدية عند الاثني عشرية
نقد عقيدة الغيبة والمهدية عند الاثني عشرية: إن فرق المسلمين تخالف الاثني عشرية في خلق المهدي ووجوده فكيف ببلوغه، فكيف برشده، فكيف بإمامته، فكيف بعصمته، فكيف بمهديته؟! والشيعة لا يقدرون ببرهان واضح على إثبات واحدة من هذه الأمور (¬1) . - كما سلف أثناء استعراضنا لعقيدتهم وأدلتهم -. فأهل السنة يقررون بمقتضى النصوص الشرعية، والحقائق التاريخية.. والدلائل العقلية أن مسألة غيبة المهدي عند الاثني عشرية لا تعدو أن تكون وهمًا من الأوهام، إذ "ليس له عين ولا أثر، ولا يعرف له حس ولا خبر، لم ينتفع به أحد لا في الدنيا ولا في الدين، بل حصل باعتقاد وجوده من الشر والفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد" (¬2) . وقد ذكر أهل العلم بالأنساب والتواريخ أن الحسن بن علي العسكري لم يكن له نسل ولا عقب (¬3) . ثم إنهم يقولون: إن المهدي دخل السرداب بعد موت أبيه، وعمره سنتان أو ثلاث أو خمس على اختلاف رواياتهم، وأصبح من ذلك الوقت هو الإمام على المسلمين رغم طفولته واختفائه، مع أن الواجب في حكم الله الثابت بنص القرآن والسنة والإجماع أن يكون هذا اليتيم - على فرض وجوده - عند من يستحق حضانته من قرابته، وأن يكون ماله عند من يحفظه حتى يؤنس منه الرشد، فكيف يكون من يستحق الحجر عليه في بدنه وماله إمامًا لجميع المسلمين معصومًا ¬
لا يكون أحد مؤمنًا إلا بالإيمان به؟! (¬1) . "فكيف إذا كان معدومًا أو مفقودًا مع طول هذه الغيبة؟! والمرأة إذا غاب وليها، زوجها الحاكم أو الولي الحاضر لئلا تضيع مصلحة المرأة بغيبة الولي الموجود، فكيف تضيع مصلحة الأمة مع هذا الإمام المفقود على طول الدهور" (¬2) . وبغض النظر عن موقف أهل السنة من مهدي الاثني عشرية وغيبته.. فإن المتأمل لنصوص المهدية والغيبة في كتب الاثني عشرية المعتمدة، يلاحظ ملاحظة جديرة بالاهتمام وهي أن هذه الدعوى لم تلق قبولاً لدى الشيعة أنفسهم إلا في العصور المتأخرة نسبيًا، وذلك حين جدت الدعاية الشيعية في ترويج هذه العقدية، وألغت فكرة البابية التي انكشف بواسطتها أمر الغيبة، ولذلك فإن شيخهم النعماني وهو من معاصري الغيبة الصغرى يقرر أن جميع الشيعة في شك من أمر الغيبة إلا قليلاً منهم. ذلك أن أمارات الشك واضحة بيّنة لهم، حيث إن الحسن العسكري - كما يعترفون - توفي ولم ير له أثر، ولم يعرف له ولد ظاهر فاقتسم أخوه جعفر وأمه ما ظهر من ميراثه (¬3) . وقد ورد في الكافي - أصح كتب الحديث عندهم - وغيره عن أحمد بن عبد الله بن خاقان (¬4) . قال: (¬5) فلما فرغوا من ذلك بعث السلطان إلى أبي عيسى بن المتوكل للصلاة عليه، فلما دنا أبو عيسى منه ¬
كشف عن وجهه فعرضه على بني هاشم من العلوية والعباسية والقواد والكتاب ... ثم قال: هذا الحسن بن علي بن محمد الرضا، مات حتف أنفه على فراشه، حضره من حضره من خدم أمير المؤمنين وثقاته.. ثم صلى عليه.. وبعد دفنه أخذ السلطان والناس في طلب ولده وكثر التفتيش في المنازل والدور، وتوقفوا عن قسمة ميراثه، ولم يزل الذين وكلوا بحفظ الجارية التي وهم عليها الحمل ملازمين لها حتى تبين بطلان الحمل، فلما بطل الحمل عنهن قسم ميراثه بين أمه وأخيه جعفر (¬1) . فأنت تلاحظ أن الاثني عشرية ساقوا هذه الرواية للدلالة عن بطلان قول من قال من الشيعة بالوقف على الحسن العسكري في إنكار وفاته، ولكن تبين من خلالها بطلان دعوى الولد، لأن أسرة الحسن، ونقابة أهل البيت، والسلطان حققوا علنيًا في حقيقة الأمر وذلك لإبطال ما يزعمه الشيعة في هذا المجال، ولهذا قرر القمي والنوبختي وغيرهما بأن الشيعة افترقوا - بعد وفاة الحسن العسكري - إلى فرق عديدة أنكر أكثرها وجود الولد أصلاً (¬2) . حتى قال بعضهم: إنا قد طلبنا الولد بكل وجه فلم نجده، ولو جاز لنا دعوى أن للحسن ولدًا خفيًا لجاز مثل هذه الدعوى في كل ميت من غير خلف، ولجاز أن يقال في النبي صلى الله عليه وسلم أنه خلف ابنًا نبيًا رسولاً، لأن مجيء الخبر بوفاة الحسن بلا عقب كمجيء الخبر بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخلف ولدًا من صلبه، فالولد قد بطل لا محالة (¬3) . وهذا الواقع - في نظري - هو الذي حدًا بشيوخ الشيعة إلى وضع روايات تجعل من لوزام منتظرهم اختفاء حمله، وولادته، والشك فيه.. كمحاولة من شيوخهم لتجاوز هذه المرحلة التي كاد أن ينكشف فيها أمر التشيع. وعلاوة على إنكار جل الشيعة لذلك، فإن لأهل البيت موقفًا صريحًا ¬
حاسمًا في هذا الأمر. وهو من البراهين الواضحة على بطلان هذه الدعوى، حيث جاء في تاريخ الطبري في حوادث سنة 302هـأن رجلاً ادعى - في زمن الخليفة المقتدر - أنه محمد بن الحسن بن علي بن موسى بن جعفر، فأمر الخليفة بإحضار مشايخ آل أبي طالب وعلى رأسهم نقيب الطالبيين أحمد بن عبد الصمد المعروف بان طومار. فقال له ابن طومار: لم يعقب الحسن. وقد ضج بنو هاشم من دعوى هذا المدعي وقالوا: يجب أن يشهر هذا بين الناس، ويعاقب أشد عقوبة. فحمل على جمل وشهر يوم التروية ويوم عرفة، ثم حبس في حبس المصريين بالجانب الغربي (¬1) . وهذه الشهادة من بني هاشم، وعلى رأسهم نقيب الطالبيين مهمة لأنها من نقيب العلويين الذي كان عظيم العناية بتسجيل أسماء مواليد هذه الأسرة في سجل رسمي (¬2) ، ولقدم فترتها الزمنية حيث إنها واقع في زمن الغيبة الصغرى التي كثر فيها ادعاء هذا الولد وادعاء بابيته من العديد من الرموز الشيعية. وعلاوة على شهادة نقيب الطالبيين وبني هاشم، فإن أقرب الناس إلى الحسن العسكري وهو أخوه جعفر يؤكد أن أخاه مات ولا نسل له ولا عقب (¬3) . والشيعة يعترفون بذلك، بل ينقلون أنه حبس جواري أخيه وحلائله حتى ثبت له براءتهن من الحمل (¬4) ، وأنه شنع على من ادعى ذلك وأبلغ دولة الخلافة الإسلامية (¬5) . بتآمره، ولكن الطوسي يقول: إن هذا الإنكار من جعفر "ليس بشبهة ¬
يعتمد على مثلها أحد من المحصلين لاتفاق الكل على أن جعفرًا لم يكن له عصمة كعصمة الأنبياء فيمتنع عليه لذلك إنكار حق ودعوى باطل، والغلط غير ممتنع منه" (¬1) . فالطوسي لا يقبل الإنكار من جعفر، لأنه غير معصوم، ولكن الطوسي ومعه طائفة الاثني عشرية يقبلون دعوى عثمان بن سعيد في إثبات الولد ودعوى بابيته وهو غير معصوم، أليس هذا تناقضًا؟!. كيف يكذب جعفر وهو أخو الحسن العسكري ومن سلالة أهل البيت، وعميد الأسرة بعد وفاة الحسن، ويصدق رجل أجنبي عن أهل البيت، وهو متهم في دعواه، لأنه يجر المصلحة لنفسه من المال والجاه باسم البابية، ومن هذا شأنه ألا يشك في قوله وترد شهادته؟! ولموقف جعفر المتميز ضد محاولات الرموز الشيعية اختراع ولد لأخيه، ضاق الشيعة ذرعًا بأمره، حتى لقبوه "بجعفر الكذاب" (¬2) . ووضعوا روايات نسبوها لأوائل أهل البيت تتنبأ بالغيب فتتحدث بما سيقع من جعفر، وتندد به. فنسبوا للسجاد أنه قال: "كأني بجعفر الكذاب قد حمل طاغية زمانه، على تفتيش أمر ولي الله المغيب في حفظ الله جهلاً منه بولادته، وحرصًا على قتله إن ظفر به طمعًا في ميراث أبيه حتى يأخذه بغير حقه" (¬3) . نلاحظ في هذه الرواية أنهم اتهموا جعفرًا بأنه أنكر ولادته طمعًا في ¬
الميراث، على حد المثل القائل: رمتني بدائها وانسلت، ذلك أن صانعي هذه الروايات هم الذين ادعوا الولد وقالوا ببابيته حرصًا على الأموال - كما سلف - كذلك فإن الرواية تتناقض حينما تقول بأن جعفرًا يجهل ولادته، ثم تقول بأنه يحرص على قتله، فإذا كان يجهل أنه ولد له ولد فكيف يحرص على قتل مجهول وجوده؟! ثم انظر كيف يدافعون عن عثمان بن سعيد، ويتهمون جعفرًا وهم يدعون التشيع للآل. وليس جعفر هو وحده من أسرة الرضا الذي ينكر هذه الدعوى. بل يظهر من روايات الشيعة أن الإنكار كان من بيت الولد المزعوم ومن بني عمه، يدل على ذلك ما جاء في كتب الشيعة "عن إسحاق بن يعقوب (¬1) . قال: سألت محمد بن عثمان العمري (¬2) . أن يوصل لي كتابًا قد سألت فيه مسائل أشكلت علي، فورد التوقيع بخط مولانا صاحب الزمان (¬3) . صلى الله عليه: أما ما سألت عنه أرشدك الله من أمر المنكرين لي من أهل بيتنا وبني عمنا. فاعلم أنه ليس بين الله عز وجل وبين أحد قرابة، ومن أنكرني فليس مني وسبيله سبيل ابن نوح، وأما سبيل عمي جعفر وولده فسبيل أخوة يوسف.." (¬4) . فيدل هذا على أن إنكار وجود الولد صدر من أهل بيته وعمومته، والدعوى جاءت من الخارج.. فأيهما أقرب للتصديق؛ أيكذب أشراف أهل البيت، ويصدق سمان لا يعرف له شأن في دين ولا علم ولا نسب ولا مقام ولا أصل؟!. وقد يقال بأن أهل بيته وعمومته يتسترون عليه صيانة له، لكن التوقيع ¬
الصادر عن المنتظر المزعوم يدل على أن الإنكار حقيقي لأنه يحكم عليهم بأنهم كابن نوح في الكفر، إذ ليس بين الله وبين أحد قرابة، مع أن مذهبهم قائم على أن قرابة أئمتهم من الرسول صلى الله عليه وسلم هي التي خولتهم تلك المكانة.. كذلك حملتهم على جعفر ووصفه "بالكذاب" ورميه بكل عيب ونقيصة (¬1) . يدل على أن الإنكار من أسرة الحسن حقيقي، ولذلك صنع أصحاب هذه الدعوة تلك الروايات التي تهاجم جعفرًا، وأهل بيت المنتظر وبني عمه وتندد بإنكارهم وتفيض بالحقد عليهم. وقد كان لموقفهم أثره في ذلك الوقت، حيث شك جميع الشيعة في هذه الدعوى إلا القليل، كما شهد بذلك شيخهم النعماني وغيره. وعلاوة على ذلك كله فإن الحسن العسكري نفسه المنسوب له هذا الولد قد نفى ذلك وأنكره حيث أسند وصيته في مرضه الذي توفي فيه إلى والدته، وأوكل لها النظر في أوقافه وصدقاته وأشهد على ذلك وجوه الدولة وشهود القضاء، كما يروي ذلك الكليني في الكافي (¬2) ، وابن بابويه في إكمال الدين (¬3) . وغيرهما (¬4) ، ولو كان له ولد هو إمام المسلمين، يحمل تلك الأوصاف الكاملة والخارقة لما وسعه إلا توكيله، فمن هو وكيل ورئيس على الأمة، ومن هو أمان للكون والناس لا يعجزه مع غيبته أن يقوم بأعباء النظر على أوقاف أبيه وصدقاته.. فلمّا لم يفعل دل على أنه لا ولد له أصلاً. وليس ينال من هذه الشهادة العملية للحسن العسكري قول الطوسي: إن الحسن فعل ذلك قصدًا إلى إخفاء ولادة ابنه وسترًا له عن سلطان الوقت (¬5) ، ¬
لأن هذا القول دعوى بلا برهان. وبهذا يثبت بطلان وجوده، وبطلان ما ترتب على ذلك. فهذه شهادة أهل السنة، وأكثر فرق الشيعة، ونقابة آل أبي طالب، وأسرة آل أبي طالب وأخيه جعفر، والحسن العسكري، وكل هذه الشهادات والبينات تنفي دعوى الولد، وهي ترد دعوى الأجانب البعداء في نواياهم مم ادعى البابية والمشاهدة. فكيف إذا أضيف إلى ذلك استبعاد بقائه - على فرض وجوده - مئات السنين ولو مدّ الله في عمر أحد من خلقه لحاجة الناس إليه لمد في عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال أبو الحسن الرضا، وهو مع طول هذه المدة لا يعرف أحد مكانه، ولا يعلم مستقره ومقامه، ولا يأتي بخبره من يوثق بقوله. وكل من اتفق له الاستتار عن ظالم لخوف منه على نفسه أو لغير ذلك من الأغراض يكون مدة استتاره قريبة، ولا يخفى على الكل. وكيف يغيب المسؤول الأول عن الأمة هذه الغيبة الطويلة؟ أليس هذا كله دليلاً واضحًا جليًا على أن حكاية الغيبة أسطورة من الأساطير التي صنعها المرتزقة والزنادقة والحاقدون؟!. ويبدو أن هذه المقالة كان الدافع وراءها ماديًا وسياسيًا، فالرغبة في الاستئثار بالأموال، ومحاولة الإطاحة بدولة الخلافة كانا هدفين أساسيين في اختراع هذه الفكرة، والدليل على ذلك أن لغة المال تسود توجيهات الفرق الشيعية، وهي مصدر نزاعهم واختلافهم، كما حفظت نصوص ذلك كتب الاثني عشرية - كما مر -. كذلك فإن قضية "الإمامة والخلافة" هي حديث هذه الخلايا الشيعية وهم في فلكها يسيرون.. وابتداع فكرة الإمام الخفي يخلصهم من أهل البيت، ويجعل الزعامة في أيديهم.
ولم يتكلفوا شيئًا من عناء التفكير والبحث والتأمل للوصول إلى هذه الغاية، إذ إنهم وجدوا هذه الفكرة في الديانة المجوسية، ذلك أن "المجوس" تدعي أن لهم منتظرًا حيًا باقيًا مهديًا.. - كما مر -.
الفصل الخامس: الرجعة
الفصل الخامس: الرجعة الرجعة من أصول المذهب الشيعي، فمن رواياتهم "ليس منا من لم يؤمن بكرتنا" (¬1) . وقال ابن بابويه في الاعتقادات: "واعتقادنا في الرجعة أنها حق" (¬2) . وقال المفيد: "واتفقت الإمامية على وجوب رجعة كثير من الأموات" (¬3) . وقال الطبرسي والحر العاملي وغيرهما من شيوخ الشيعة: بأنها موضوع "إجماع الشيعة الإمامية (¬4) ، وأنها من ضروريات مذهبهم" (¬5) ، وأنهم "مأمورون بالإقرار بالرجعة واعتقادها وتجديد الاعتراف بها في الأدعية والزيارات ويوم الجمعة وكل وقت كالإقرار بالتوحيد والنبوة والإمامة والقيامة" (¬6) . ومعنى الرجعة: الرجوع إلى الدنيا بعد الموت (¬7) . ويشير ابن الأثير: أن هذا مذهب قوم من العرب في الجاهلية معروف عندهم (¬8) . وقد ذهبت فرق شيعية كثيرة إلى القول برجوع أئمتهم إلى هذه الحياة، ومنهم من يقر بموتهم ثم رجعتهم، ومنهم من ينكر موتهم ويقول بأنهم غابوا ¬
وسيرجعون - كما مر في مبحث الغيبة - وكان أول من قال بالرجعة ابن سبأ، إلا أنه قال بأنه غاب وسيرجع ولم يصدق بموته. وكانت عقيدة الرجعة خاصة برجعة الإمام عند السبئية، والكيسانية وغيرها، ولكنها صارت عند الاثني عشرية عامة للإمام وكثير من الناس. ويشير الألوسي إلى أن تحول مفهوم الرجعة عند الشيعة من رجعة الإمام فقط إلى ذلك المعنى العام كان في القرن الثالث (¬1) . وقد اشتهرت بعض الفرق الشيعية باسم "الرجعية" لقولهم بالرجعة (¬2) . واهتمامهم بها. أما المفهوم العام لمبدأ الرجعة عن الاثني عشرية فهو يشمل ثلاثة أصناف: الأول: الأئمة الاثني عشر، حيث يخرج المهدي من مخبئه، ويرجع من غيبته، وباقي الأئمة يحيون بعد موتهم ويرجعون لهذه الدنيا. الثاني: ولاة المسلمين الذين اغتصبوا الخلافة - في نظرهم - من أصحابها الشرعيين (الأئمة الاثني عشر) فيبعث خلفاء المسلمين وفي مقدمتهم أبو بكر وعمر وعثمان.. من قبورهم ويرجعون لهذه الدنيا - كما يحلم الشيعة - للاقتصاص منهم بأخذهم الخلافة من أهلها فتجري عليهم عمليات التعذيب والقتل والصلب. الثالث: عامة الناس، ويخص منهم: من محض الإيمان محضًا، وهم الشيعة عمومًا، لأن الإيمان خاص بالشيعة، كما تتفق على ذلك رواياتهم وأقوال شيوخهم - ¬
زمنها
كما سلف (¬1) . - ومن محض الكفر محضًا، وهم كل الناس ما عدا المستضعفين (¬2) . ولهذا قالوا في تعريف الجرعة: إنها "رجعة كثير من الأموات إلى الدنيا قبل يوم القيامة (¬3) . وعودتهم إلى الحياة بعد الموت" (¬4) . في صورهم التي كانوا عليها (¬5) . والراجعون إلى الدنيا هم: "النبي الخاتم، وسائر الأنبياء، والأئمة المعصومون، ومن محض في الإسلام، ومن محض في الكفر، دون الطبقة الجاهلية المعبر عنها بالمستضعفين" (¬6) . أو بعبارة شيخهم المفيد: "من علت درجته في الإيمان، ومن بلغ الغاية في الفساد، كلهم يرجعون بعد موتهم" (¬7) . وكذا من كان له قصاص وإن لم يكن ماحضًا فيرجع ويقتص من قاتله (¬8) . وزمن الرجعة العامة هو كما يذكر شيخهم المفيد وغيره "عند قيام مهدي آل محمد عليهم السلام" (¬9) . ورجوعه من غيبته، ولكن بعض شيوخهم يقول: إن الرجعة العامة غير مرتبطة بأمر ظهور المهدي. ذلك أن الرجعة - كما يقول - "غير الظهور، لأن الإمام عليه السلام حي غائب وسيظهر إن شاء الله ولم يسلب الملك ¬
الغرض منها
فيرجع إليه، فمبدأ الرجعة من رجوع الحسين إلى الدنيا" (¬1) . وهذا قد يتفق مع رواياتهم التي تقول "أول من تنشق الأرض عنه ويرجع إلى الدنيا، الحسين بن علي عليه السلام" (¬2) . وقد ذكرت بعض رواياتهم أن الرجعة تبدأ بعد هدم الحجرة النبوية وإخراج الجسدين الطاهرين للخليفتين الراشدين - كما يحلم القوم - حيث جاء في أخبارهم أن منتظرهم يقول: "وأجيء إلى يثرب، فأهدم الحجرة، وأخرج من بها وهما طريّان، فآمر بهما تجاه البقيع وآمر بخشبتين يصلبان عليهما فتورقان من تحتهما، فيفتتن الناس بهما أشدّ من الأولى، فينادي منادي الفتنة من السماء: يا سماء انبذي، ويا أرض خذي فيومئذ لا يبقى على وجه الأرض إلا مؤمن (أي إلا شيعي) ثم يكون بعد ذلك الكرة والرجعة" (¬3) . والغرض من الرجعة هو انتقام الأئمة والشيعة من أعدائهم (¬4) . وهم سائر المسلمين من غير الشيعة ما عدا المستضعفين، ولذلك فإن سيوف الشيعة تقطر دمًا من كثرة القتل للمسلمين حتى قال أبو عبد الله: "كأني بحمران بن أعين وميسر بن عبد العزيز يخبطان الناس بأسيافهما بين الصفا والمروة" (¬5) . ولا شك بأن تحديد موضع القتل العام بالمسجد الحرام يدل دلالة أكيدة أن المقصود بالقتل هم المسلمون، وأن هذا ما تحلم به الإمامية.. وهذا الخبر وأمثاله يعطينا - بغض النظر عن العنصر الخرافي فيه - صورة لتفكير تلك الزمر الشيعية التي وضعت تلك الروايات، وأهدافها ومخططاتها، فهي "إسقاطات" لرغبات مكبوتة، ونوازع مقهورة لفرقة تتربص بالأمة الدوائر. ¬
كما أن هذه الأخبار السرية (¬1) . قد توضح لنا بعض ما جرى في التاريخ من قيام القرامطة بقتل حجاج بيت الله داخل الحرم (¬2) ، وأنها كانت تتخذ من مثل هذه الأخبار المنسوبة لآل البيت سندًا لها لدفع تلك العناصر التخريبية للقيام بدورها الدموي. كما أنها تكشف لنا فحوى الأماني التي يعلنها شيعة هذا العصر ويصرحون فيها بتحرقهم وتلهفهم لفتح مكة والمدينة وكأنها بأيدي كفار (¬3) . كذلك يتحقق في الرجعة حساب الناس على يد الحسين: يقول أبو عبد الله: "إن الذي يلي حساب الناس قبل يوم القيامة الحسين بن علي عليه السلام، فأما يوم القيامة فإنما هو بعث إلى الجنة وبعث إلى النار" (¬4) . وفي الرجعة يتحول صفوة الخلق وهم أنبياء الله ورسله إلى جند لعلي كما يقول هؤلاء الأفاكون حيث قالوا: "لم يبعث الله نبيًا ولا رسولاً إلا رد جميعهم إلى الدنيا حتى يقاتلوا بين يدي علي بن أبي طالب أمير المؤمنين" (¬5) . كما يحلم الشيعة بأن حياتهم في الرجعة ستكون في نعيم لا يخطر على البال حتى "يكون أكلهم وشربهم من الجنة (¬6) ، ولا يسألون الله حاجة من حوائج الدنيا والآخرة إلى وتقضى لهم" (¬7) . ويخير الشيعي وهو في قبره بين الرجعة أو الإقامة في القبر. ويقال له: «يا ¬
هذا إنه قد ظهر صاحبك فإن تشأ أن تلحق به فالحق، وإن تشأ أن تقيم في كرامة ربك فأقم» (¬1) . وتنتهي الرجعة بالنسبة للشيعة بالقتل لمن مات من قبل، وبالموت لمن قتل، وهذه النهاية إحدى أغراض الرجعة فهم يقولون في أخبارهم: "ليس أحد من المؤمنين قتل إلا سيرجع حتى يموت، ولا أحد من المؤمنين مات إلا سيرجع حتى يقتل" (¬2) . هذا وكانت عقيدة الرجعة سرًا من أسرار المذهب الشيعي، ولذلك قال أبو الحسين الخياط - أحد شيوخ المعتزلة (¬3) . -: "بأنهم قد تواصلوا بكتمانها وألا يذكروها في مجالسهم ولا في كتبهم إلا فيما قد أسروه من الكتب ولم يظهروه" (¬4) . وقد وجدت في كتب الاثني عشرية ما أشار إليه الخياط من التواصي بكتمان أمر الرجعة، حيث روت بعض كتب الشيعة عن أبي جعفر قال: "لا تقولوا الجبت والطاغوت (¬5) ، ولا تقولوا الرجعة، فإن قالوا لكم فإنكم قد كنتم تقولون ذلك فقولوا: أما اليوم فلا نقول" (¬6) . وفي رواية أخرى ينسبونها للصادق: "لا تقولوا الجبت والطاغوت وتقولوا الرجعة، فإن قالوا: قد كنتم تقولون؟ قولوا: الآن لا نقول، وهذا من باب التقية ¬
استدلالهم على الرجعة
التي تعبد الله بها عباده في زمن الأوصياء" (¬1) . هذه تعميمات سرية، تتبادلها الخلايا الشيعية، وحتى تعطيها صفة القطع والقوة، أسندتها لبعض علماء آل البيت، للتعزيز بالأحداث والأعاجم وسائر الأتباع من الجهال. استدلالهم على الرجعة: اتجه شيوخ الشيعة إلى كتاب الله سبحانه ليأخذوا منه الدليل على ثبوت الرجعة التي ينفردون بالقول بها عن سائر المسلمين.. ولما لم يجدوا بغيتهم تعلقوا كعادتهم بالتأويل الباطني، وركبوا متن الشطط، وتعسفوا أيما تعسف في هذا السبيل، حتى أصبح استدلالهم حجة عليهم، ودليلاً على زيف معتقدهم، وبرهانًا على بطلان مذهبهم. وحتى تتبين هذه الحقيقة نستعرض أقوى أدلتهم وأشهرها - حسب نظرهم -. يرى شيخ المفسرين عندهم أن من أعظم الأدلة على الرجعة قوله سبحانه: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} (¬2) .؛ حيث يقول ما نصه: "هذه الآية من أعظم الأدلة على الرجعة؛ لأن أحدًا من أهل الإسلام لا ينكر أن الناس كلهم يرجعون يوم القيامة من هلك ومن لم يهلك" (¬3) . مع أن الآية حجة عليهم، فهي تدل على نفي الرجعة إلى الدنيا؛ إذ معناها كما صرح به ابن عباس وأبو جعفر الباقر وقتادة وغير واحد: حرام على أهل كل قرية أهلكوا بذنوبهم أنهم يرجعون إلى الدنيا قبل يوم القيامة (¬4) ، وهذا كقوله ¬
سبحانه: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنْ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ} (¬1) ، وقوله: {فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} (¬2) ، وزيادة "لا" هنا لتأكيد معنى النفي من "حرام"، وهذا من أساليب التنزيل البديعة البالغة النهاية في الدقة. وسر الإخبار بعدم الرجوع مع وضوحه، هو الصدع بما يزعجهم ويؤسفهم ويلوعهم من الهلاك المؤبد، وفوات أمنيتهم الكبرى وهي حياتهم الدنيا (¬3) . وإذا كان المقصود إثبات الرجعة فهي رجعة للناس ليوم القيامة بلا ريب (¬4) ، أي ممتنع البتة عدم رجوعهم إلينا للجزاء (¬5) . وتخصيص امتناع رجوعهم بالذكر مع شمول الامتناع لعدم رجوع الكل حسبما نطق به قوله تعالى: {كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} ؛ لأنهم المنكرون للبعث والرجوع دون غيرهم (¬6) . ومن أشهر الآيات التي يستدل بها الإمامية على الرجعة - كما يقول الألوسي (¬7) . - قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا} (¬8) . والآية كما يقول المفسرون في يوم الجزاء والحساب، يوم يقوم الناس لرب ¬
العالمين (¬1) ، إلا أن هؤلاء يجعلونها في عقيدتهم في الرجعة، ولذا قال شيخهم شبر بأنها فسرت في أخبارهم في الرجعة (¬2) . وقال الطبرسي: "استدل بهذه الآية على صحة الرجعة من ذهب إلى ذلك من الإمامية بأن قال: إن دخول "من" في الكلام يوجب التبعيض فدل بذلك على أنه يحشر قوم دون قوم وليس ذلك صفة يوم القيامة الذي يقول فيه سبحانه: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} (¬3) ." (¬4) . أما كون "من (الأولى) للتبعيض فهذا شائع" (¬5) .؛ لأن كل أمة منقسمة إلى مصدق ومكذب، أي ويوم يجمع من كل أمة من أمم الأنبياء، أو من أهل كل قرن من القرون جماعة كثيرة مكذبة بآياتنا (¬6) . وهذا لا يدل على مسألة الرجعة إلى الدنيا بعد الموت بحال من الأحوال، ولكن الشيعة تتعلق بكل آيات اليوم الآخر المتضمنة لرجوع الناس لربهم لتجعلها في عقيدتهم في الرجعة كما هو دأبها. وتخصيص المكذبين بهذا الحشر لا يدل على ما يزعمون؛ لأن هذا حشر للمكذبين للتوبيخ والعذاب، بعد الحشر الكلي الشامل لكافة الخلق (¬7) ، أما «من» الثانية فهي بيانية جيء بها لبيان "فوجًا" (¬8) ، ولهذا فإن بعض مفسري الشيعة ¬
المعاصرين أدرك ضلال قومه في هذا التأويل فقال في تفسير الآية: «من» هنا بيانية وليست للتبعيض تمامًا كخاتم من حديد، والمعنى: أن في الأمم مصدقين ومكذبين بآيات الله وبيناته، وهو يحشر للحساب والجزاء جميع المكذبين بلا استثناء، وخصهم بالحشر مع أنه يعم الجميع؛ لأنه تعالى قصد التهديد والوعيد (¬1) . ومن الآيات التي يتأولونها في الرجعة قوله تعالى: {قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} (¬2) . الآيات؛ حيث جاء في تفسير القمي {قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} قال: هو أمير المؤمنين، قال: ما أكفره أي ماذا فعل وأذنب حتى قتلوه.." {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ، ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ} (¬3) . قال: في الرجعة {كَلا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} (¬4) ، أي لم يقض أمير المؤمنين ما قد أمره، وسيرجع حتى يقضي ما أمره" (¬5) . فيلاحظ هنا عدة أمور: 1 ـ أوّل شيخهم القمي "الإنسان" في قوله سبحانه: {قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} بعلي بن أبي طالب - مع أن الآية تدل بنصها وسياقها على أن المراد "بالإنسان" هنا الكافر، ولهذا قال السلف في تفسيرها: "لعن الإنسان الكافر ما أكفره" (¬6) . فهل وضع مثل هذا التأويل للإساءة لأمير المؤمنين من طرف خفي، أو أنه أثر من آثار طائفة الكاملية (¬7) . من الشيعة التي تذهب إلى تكفير أمير المؤمنين ¬
وبقية الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وتلقفته الاثنا عشرية وغيرت فيه أو أن مخترع هذا النص أعجمي جاهل بلغة القرآن وإنما كتب ما أملاه عليه تعصبه وزندقته؟! على أية حال فهذا التأويل يدل على مدى إفلاس أصحاب هذا الاعتقاد في العثور على ما يدل على مبدئهم. 2 ـ أوّل قول سبحانه: {ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ} وهي نص صريح في البعث والنشور أوله بالرجعة، وهذا فضلاً عن أنه تحريف لمعاني القرآن، فإنه يصرف من يصدق بهذه الروايات عن الإيمان باليوم الآخر إلى هذه العقيدة المبتدعة، ولهذا يلاحظ أن طوائف من غلاة الشيعة أنكرت الإيمان باليوم الآخر وقالت بالتناسخ (¬1) . ويلاحظ أن الاثني عشرية قد عمدت إلى كل نص في اليوم الآخر فجعلته في الرجعة، وقد مر بنا أن هذا قد أصبح قاعدة عامة عندهم (¬2) . 3 ـ جعلت هذه الروايات الغرض من الرجعة أن عليًا لم يقض ما أمره الله به. وهذا بهتان كبير في حق أمير المؤمنين وأنه قد تخلى عن أوامر الله سبحانه، ليقضيها في الرجعة، فهل أرادوا بهذا تشبيهه بالمشركين الذين ابتعدوا عن شرع الله سبحانه فغذا عاينوا العذاب تمنوا الرجعة.. فكم أساء هؤلاء إلى أهل البيت. ومن الآيات التي جعلوها في الرجعة قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ} (¬3) .؛ حيث قالا في تأويلها: "لم يذق الموت من قتل، ولابد أن يرجع حتى ¬
يذوق الموت" (¬1) . فهذه الرواية تجعل الرجعة لجميع الناس حتى يتحقق لكل أحد منهم موت وقتل - كما يعتقدون - بينما هم قالوا بأن الرجعة خاصة بمن محض الإيمان، ومحض الكفر - كما سلف - كما أن هذا التأويل يحمل جهلاً بلغة العرب التي نزل بها القرآن؛ حيث عدّ القتل ونحوه ليس من قبيل الموت الذي تنص عليه الآية وهذا مبلغ علمهم. ويتعلق الشيعة بآيات كثيرة يؤولونها بمثل هذا التأويل الباطني، وتسابق شيوخهم كعادتهم في الإكثار من هذه التأويلات، والتي أسندوها للآل حتى تكتسب الرواج عند الأتباع.. فقد بلغ - مثلاً - عدد الآيات التي أولوها بالرجعة حسب ما جمعه شيخهم الحر العاملي (72) آية (¬2) ، وصل فيها التأويل الباطني المتعسف الغاية القصوى (¬3) ، مع أن العاملي لم يذكر كل ما عندهم، وقد اعتذر عن ذلك - في نهاية استدلاله بالآيات التي ذكرها - بعدم حضور الكتب عنده (¬4) . ¬
كما يستدل الشيعة ببعض ما أخبر الله به سبحانه من معجزات الأنبياء كإحياء الموتى لعيسى عليه السلام، أو بما أخبر الله به سبحانه في كتابه من إحياء الموتى كقوله سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} (¬1) . (¬2) . وكأنهم بهذا النهج يستدلون على قدرة الله سبحانه التي ليست هي موضع الخلاف؛ ذلك أنه لا أحد ينكر ما وقع مما ورد به الخبر الثابت القطعي المتواتر، ولكن الذي ينكر هو دعوى الرجعة إلى الدنيا بعد الموت للحساب والجزاء قبل يوم الحساب والجزاء، هذا هو المنكر الأعظم الذي ليس عليه دليل، والذي أريد به إضعاف جانب اليوم الآخر في النفوس، وإلا فمعجزات الأنبياء وآيات الله في خلقه ليست محل خلاف. ويأخذ الشذوذ في الاستدلال على صحة الرجعة مداه الأكبر حينما يقررون أن أوضح دليل على صحتها، وأظهر برهان على ثبوتها هو أنه لا قائل بها من غير الشيعة الإمامية (¬3) .؛ حيث "لم يقل بصحتها أحد من العامة (وهم ما سوى الشيعة الإمامية) وكل ما كان كذلك فهو حق" (¬4) .؛ لأن الأئمة قالوا في حق العامة: "والله ما هم على شيء مما أنتم عليه، ولا أنتم على شيء مما هم عليه فخالفوهم فما هم من الحنيفية على شيء" (¬5) .!!! ولهذا أشار الطبرسي وغيره بأن المعول في ثبوتها إجماع الإمامية عليها (¬6) . ¬
ويلاحظ على هذا الاستدلال ما يلي: أن الإجماع غير حجة عند الشيعة - كما سلف - فكيف يجعلونه عمدة ثبوت عقيدة الرجعة؟! لكن لعلهم يعدّون عدم وجود مخالف من الشيعة في أمر الجرعة دليلاً على دخول المعصوم مع المجمعين فيكون الإجماع حجة بهذا الاعتبار، لأن حجة الإجماع عندهم إنما هو بكشفه عن قول المعصوم. لكن الشيعة الزيدية ينقلون روايات عن أئمة أهل البيت تبين براءتهم من عقيدة الرجعة وتعارض روايات الإمامية، ولذلك فإن الزيدية الحقة ينكرون هذه الدعوى إنكارًا شديدًا، وقد ردوها في كتبهم على وجه مستوفى (¬1) ، فكيف يجزم الإمامية بنسبة الرجعة إلى الأئمة والنقل عنهم مختلف بين فرق الشيعة نفسها؟! بل إن من الإمامية من أنكر الرجعة وأول أخبارهم برجوع دولة الشيعة كما نقل ذلك شيوخ الشيعة (¬2) ، فأين بعد هذا إجماع الشيعة، وأين صدق النقل عن الأئمة؟! ثم إن الصحابة بما فيهم أمير المؤمنين علي لم يؤثر عنهم شيء في خرافة الرجعة، كما اتفقت على ذلك مصادر أهل السنة والشيعة الزيدية، ولو وجد شيء من ذلك لعرف واشتهر. وإنما نسبت خرافة الرجعة في ذلك العصر إلى ابن سبأ، كما تقر بذلك كتب الشيعة، وابن سبأ أحد الكذابين الملعونين على ألسنة الأئمة، كما تروي كتب الاثني عشرية وغيرها. أما من بعد عصر الصابة فقد تحمل وزر روايتها جابر الجعفي وهو متهم في كتب الشيعة فضلاً عن كتب أهل السنة - كما سلف (¬3) . -. ¬
نقد مقالة الرجعة
نقد مقالة الرجعة: فكرة الرجعة إلى الدنيا بعد الموت مخالفة صريحة لنص القرآن، وباطلة بدلالة آيات عديدة من كتاب الله سبحانه، قال تعالى: {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (¬1) . فقوله سبحانه: {وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} صريح في نفي الرجعة مطلقًا (¬2) . وقال سبحانه: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنْ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ} (¬3) . وقال سبحانه: {وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ} (¬4) . وقال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} (¬5) . وقال تعالى: {وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} (¬6) . ¬
فهؤلاء جميعًا يسألون الرجوع عند الموت، وعند العرض على الجبار جل علاه، وعند رؤية النار فلا يجابون، لما سبق في قضائه أنهم إليها لا يرجعون ولذلك عدّ أهل العلم القول بالرجعة إلى الدنيا بعد الموت من أشد مراحل الغلو في بدعة التشيع. قال ابن حجر: التشيع محبة علي وتقديمه على الصحابة، فمن قدمه على أبي بكر وعمر فهو غال في تشيعه ويطلع عليه رافضي، وإلا فشيعي، فإن انضاف إلى ذلك السب أو التصريح بالبغض فغال في الرفض، وإن اعتقد الرجعة إلى الدنيا فأشد في الغلو (¬1) . وقد جاء في مسند أحمد أن عاصم بن ضمرة (وكان من أصحاب علي رضي الله عنه) قال للحسن بن علي: إن الشيعة يزعمون أن عليًا يرجع. قال الحسن: كذب أولئك الكذابون، لو علمنا ذاك ما تزوج نساؤه، ولا قسمنا ميراثه (¬2) . والقول بالرجعة بعد الموت إلى الدنيا لمجازاة المسيئين وإثابة المحسنين ينافي طبيعة هذه الدنيا وأنها ليست دار جزاء {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} (¬3) . كما أنه يضعف جانب الإيمان بيوم البعث والجزاء، ويبدوا أن هذا من أهداف واضع هذا المبدأ (¬4) . وقد تمثل هذا عمليًا في تأويلات الاثني عشرية لآيات اليوم الآخر بالرجعة، وفي تأثير هذه التأويلات، وهذا المذهب على بعض الفرق المنتسبة للتشيع، وإنكارها ¬
لليوم الآخر، واعتقادها بالتناسخ الذي ربما تكون عقيدة الرجعة هي البوابة إليه، كما أن تأويلاتهم تدعو له. ويرى بعض الباحثين أن عقيدة الرجعة تسربت عن طريق المؤثرات اليهودية والمسيحية (¬1) ، ودخلت التشيع بتأثير اتباع تلك الديانات. وقد استنتج شيخهم الصادقي (من شيوخهم المعاصرين) أن مبدأ الرجعة عند قومه يرجع في أصله إلى ما ورد في كتب اليهود (¬2) . واعتبر ذلك بشارة للشيعة (¬3) . وقد كان لابن سبأ اليهودي - كما تنقل ذلك كتب الشيعة، والسنة على السواء - دور التأسيس لمبدأ الرجعة، إلا أنها رجعة خاصة بعلي، كما أنه ينفي وقوع الموت عليه أصلاً كحال الاثني عشرية مع مهديهم الذي يزعمون وجوده. لكن يبدو أن الذي تحمل كبر نشره، وتعميم مفهومه وتأويل آيات من القرآن فيه هو جابر الجعفي حتى امتدحته روايات الشيعة بفقهه في أمر الرجعة؛ حيث جاء في تفسير القمي أن أبا جعفر قال: "رحم الله جابرًا بلغ فقهه أنه كان يعرف تأويل هذه الآية {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} (¬4) . يعني الرجعة" (¬5) . ¬
وعقيدة الرجعة عند الإمامية هي - كما قال السويدي رحمه الله - خلاف ما علم من الدين بالضرورة من أنه لا حشر قبل يوم القيامة، وأن الله تعالى كلما توعد كافرًا أو ظالمًا إنما توعده بيوم القيامة (¬1) ، كما أنها خلاف الآيات والأحاديث المتواترة المصرحة بأنه لا رجوع إلى الدنيا قبل يوم القيامة (¬2) . ولكن شيوخ الإمامية يصرون على القول بها، ويعتبرون شذوذهم عن الأمة فيها دليل صحتها.. {الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ} . ¬
الفصل السادس: الظهور
الفصل السادس: الظهور أي ظهور الأئمة بعد موتهم لبعض الناس ثم عودتهم لقبورهم، وهذه العقيدة غير رجعة الأئمة، وقد بوب لها المجلسي بعنوان "باب أنهم يظهرون بعد موتهم، ويظهر منهم الغرائب" (¬1) . فالأئمة يظهرون بعد موتهم، ويراهم بعض الناس، وهذا الظهور غير مرتبط بوقت معين كالرجعة بل هو خاضع لإرادة الأئمة، حتى نسبوا لأمير المؤمنين أنه قال: "يموت من مات منا وليس بميت". وتذكر أساطيرهم أن أبا الحسن الرضا كان يقابل أباه بعد موته، ويتلقى وصاياه وأقواله (¬2) . ويزعم بعض الشيعة أنه دخل على أبي عبد الله فقال له (أي أبو عبد الله) : تشتهي أن ترى أبا جعفر (بعد موته) ؟ قال: "قلت: نعم، قال: قم فادخل البيت، فدخلت فإذا هو أبو جعفر" (¬3) ، ويزعم آخر بأنه دخل على أبي الحسن فقال له: أتحب أن ترى أبا عبد الله؟ يقول: فقلت: وددت والله، فقال: قم وادخل ذلك البيت، فدخلت البيت فإذا أبو عبد الله عليه السلام قاعد (¬4) . "وقال أبو عبد الله - كما يفترون -: أتى قوم من الشيعة الحسن بن علي عليه السلام بعد قتل أمير المؤمنين عليه السلام فسألوه فقال: تعرفون أمير المؤمنين إذا رأيتموه؟ قالوا: نعم، قال: فارفعوا الستر، فعرفوه (¬5) . فإذا هم بأمير المؤمنين عليه ¬
السلام لا ينكرونه" (¬1) . بل وتمتد عقيدتهم هذه لتدعي أيضًا أن الأموات من الأولين يظهرون لهم، جاء في بصائر الدرجات ".. عن عثمان بن عيسى عمّن أخبره!! عن عباية الأسدي قال: دخلت على أمير المؤمنين عليه السلام وعنده رجل رث الهيئة، وأمير المؤمنين عليه السلام مقبل عليه يكلمه، فلما قام الرجل قلت: أي أمير المؤمنين، من هذا الذي أشغلك عنا؟ قال: هذا وصي موسى عليه السلام" (¬2) . وتزعم رواياتهم أن عليًا كان يذهب إلى مقبرة اليهود وأنه خاطب أهل القبور "فأجابوه من جوف القبور: لبيك لبيك مطاع، فقال: كيف ترون العذاب؟ فقالوا: بعصياننا لك كهارون، فنحن ومن عصاك في العذاب.." (¬3) . كما تدعي رواياتهم بأن رسول الله ظهر بعد موته ليأمر أبا بكر بطاعة علي (¬4) . وأن أبا بكر وعمر يظهران للأئمة في كل موسم حتى يرمونهما بالحجارة أثناء رم الجمار (¬5) ، ولهذا قام محمد الباقر - كما يفترون عليه - برمي خمسة أحجار في غير موضع الجمار ولما قيل له في ذلك قال: "إذا كان كل موسم أخرجا الفاسقين الغاصبين (¬6) ، ثم يفرق بينهما ههنا لا يراهما إلا إمام عدل، فرميت الأول اثنتين والآخر ثلاثة، لأن الآخر أخبث من الأول" (¬7) . هذه بعض أخبارهم في هذه "المقالة". وقد ذكر المجلسي بأنه "أورد أكثر أخبار هذا الباب في باب البرزخ، وباب كفر الثلاثة، وباب كفر معاوية، وأبواب معجزات أمير المؤمنين وسائل الأئمة عليهم السلام" (¬8) . فأخبارهم في شأن هذه ¬
الخرافة متكاثرة، وقد ذكر المجلسي أن هذا الظهور قد يكون في أجسادهم الأصلية، ثم قال: "والإيمام الإجمالي في تلك الأمور كاف للمتدين المسلم لما ورد عنهم، ورد علم تفاصيلها إليهم صلوات الله عليهم" (¬1) . نقد هذه المقالة: هذه المقالة لم أر من تعرض لها من ضمن معتقدات الشيعة.. مع أنها من مقالاتهم التي استفاضت أخبارها عندهم، وهي مقالة يكفي عرضها لبيان فسادها، فهي لا تتفق بأي حال مع النقل الصحيح ولا مع العقل الصريح ولا الفطر السليمة، وهي تقدح في المذهب الشيعي، وتلحقه في المذاهب الخرافية التي تعشعش في أذهان جملة من البشر. وهي مقالة من ضمن مقالات عديدة في هذا المذهب، تعتبر من البراهين على بطلانه، مثلها في ذلك مثل عقيدة الغيبة والرجعة والبداء.. إلخ. وكثرة أخبارهم عندهم دليل واقعي حاسم على استفاضة الكذب عندهم، وأنه لا عبرة ولا صحة لرواياتهم ولو كثرت ما دامت تكثر في تأييد المقالات الخرافية التي يكذبها الواقع، والتي لو حدث شيء منها لاستفاض نقله بين المسلمين، ولم تنفرد بنقله شرذمة من الروافض. ورجعة الأموات قبل يوم القيامة باطلة بالنقل وإجماع المسلمين - كما سلف - وهذه الخرافات تعتبر من فضائحهم وعوراتهم التي هي قائمة في مذهبهم، ولعلها من حكمة الباري سبحانه؛ إذ ما من قوم أرادوا أن ينسبوا لله دينًا ما أنزله إلا وفضحهم على رؤوس الشهاد، كما أثبتت ذلك الوقائع والأيام. ¬
الفصل السابع: البداء
الفصل السابع: البداء من أصول الاثني عشرية القول البداء على الله سبحانه وتعالى حتى بالغوا في أمره، فقالوا: "ما عبد الله بشيء مثل البداء" (¬1) . و"ما عظم الله عز وجل بمثل البداء" (¬2) ، "ولو علم الناس ما في القول بالبداء من الأجر ما افتروا من الكلام فيه" (¬3) ، «وما بعث الله نبيًا قط إلا بتحريم الخمر وأن يقر لله بالبداء" (¬4) . ويبدو أن الذي أرسى أسس هذا المعتقد عند الاثني عشريّة هو الملقّب عندهم بثقة الإسلام وهو شيخهم الكليني (ت328 أو 329هـ) حيث وضع هذا المعتقد في قسم الأصول من الكافي، وجعله ضمن كتاب التوحيد، وخصّص له بابًا بعنوان "باب البداء" وذكر فيه ستّة عشر حديثًا من الأحاديث المنسوبة للأئمة. وجاء من بعده ابن بابويه (ت381هـ) ، وسجل ذلك ضمن عقائد طائفته، وعقد له بابًا خاصًا بعنوان "باب البداء" وذلك في كتاب "الاعتقادات" الذي يسمى دين الإمامية (¬5) . ومثل ذلك فعل في كتابه "التوحيد" (¬6) . وقد اهتمّ شيخهم المجلسي (ت1111هـ) بأمر البداء وبوّب له في بحاره ¬
معنى البداء وبيان أنه من أصولهم
بعنوان "باب النّسخ والبداء"، وذكر (70) حديثًا من أحاديثهم عن الأئمة (¬1) . وكذلك جاءت هذه المقالة ضمن كتب العقيدة عند المعاصرين (¬2) . وألف شيوخهم في شأنها مؤلفات مستقلة بلغت (25) مصنفًا كما في الذريعة (¬3) . ولعل القارئ المسلم يعجب من أمر هذه العقيدة، التي لا يعرفها المسلمون، وليس له ذكر في كتاب الله سبحانه، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم مع أنها من أعظم ما عبد الله به، ومن أصول رسالات الرسل، وفيها من الأجر ما لو علم به المسلم لأصبحت تجري على لسانه دائمًا كشهادة التوحيد (كما يزعمون) . إذا رجعت إلى اللغة العربية لتعرف معنى البداء تجد أن القاموس يقول: بدا بدوًا وبدوًا وبداءة: ظهر. وبدا له في الأمر بدوًا وبداء وبداة: نشأ له فيه رأي (¬4) . فالبداء في اللغة - كما ترى - له معنيان: الأول: الظهور بعد الخفاء. تقول: بدا سور المدينة أي: ظهر. والثاني: نشأة الراي الجديد. قال الفراء: بدا لي بداء أي: ظهر لي رأي آخر، وقال الجوهري: بدا له في الأمر بداء أي: نشأ له فيه رأي (¬5) . وكلا المعنيين وردا في القرآن، فمن الأول قوله تعالى: {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللهُ} (¬6) . ومن الثاني قوله: {ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} (¬7) . ¬
وواضح أن البداء بمعنييه يستلزم سبق الجهل وحدوث العلم وكلاهما محال على الله سبحانه. ونسبته إلى الله سبحانه من أعظم الكفر، فكيف تجعل الشيعة الاثنا عشرية هذا من أعظم العبادات، وتدعي أنه ما عظم الله عز وجل بمثل البداء؟! سبحانك هذا بهتان عظيم. وهذا المعنى المنكر يوجد في كتب اليهود، فقد جاء في التوراة التي حرفها اليهود وفق ما شاءت أهواؤهم نصوص صريحة تتضمن نسبة معنى البداء إلى الله سبحانه (¬1) . ويبدو أن ابن سبأ اليهودي قد حاول إشاعة هذه المقالة، التي ارتضعها من «توراته» في المجتمع الإسلامي الذي حاول التأثير فيه باسم التشيع وتحت مظلة الدعوة إلى ولاية علي، ذلك أن فرق السبيئة "كلهم يقولون بالبداء وأن الله تبدو له البداوات" (¬2) . ثم انتقل هذه المقالة إلى فرقة "الكيسانية" أو "المختارية" أتباع المختار بن أبي عبيد الثقفي وهي الفرقة التي اشتهرت بالقول "بالبداء" والاهتمام به، والتزامه عقيدة. ¬
ويذكر أصحاب المقالات أن السبب الذي جوزت لأجله الكيسانية البداء على الله تعالى هو: أن مصعب بن الزبير أرسل جيشًا قويًا لقتال المختار وأتباعه فبعث المختار إلى قتالهم أحمد بن شميط مع ثلاثة آلاف من المقاتلة وقال لهم: أوحي إلي أن الظفر يكون لكم، فهزم ابن شميط (¬1) . فيمن كان معه فعادوا إليه فقالوا: أين الظفر الذي قد وعدتنا؟ فقال المختار: هكذا كان قد وعدني ثم بدا فإنه سبحانه وتعالى قد قال: {يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} (¬2) . (¬3) . فالسبب كما ترى أن المختار كان يدعي علم الغيب وما يحدث بالمستقبل، فكان إذا وقع خلاف ما أخبر به قال: قد بدا لربكم. وتجد هذا المعنى في أخبار الاثني عشرية، فإنهم قد أشاعوا بين أتباعهم أن أئمتهم "يعلمون ما كان وما يكون ولا يخفى عليهم الشيء" (¬4) . فإذا نسبوا إلى الأئمة أخبارًا لم تقع قالوا: هذا من باب البداء. جاء في البحار في باب البداء "عن أبي حمزة الثمالي قال: قال أبو جعفر وأبو عبد الله عليهما السلام: يا أبا حمزة إن حدثناك بأمر أنه يجيء من هاهنا فجاء من هاهنا، فإن الله يصنع ما يشاء، وإن حدثناك اليوم بحديث وحدثناك غدًا بخلافه فإن الله يمحو ما يشاء ويثبت" (¬5) . وكان شيوخ الشّيعة يمنون أتباعهم بأنّ الأمر سيعود إليهم، والدّولة ستكون لهم، حتى إنّهم حدّدوا ذلك بسبعين سنة في رواية نسبوها لأبي جعفر، فلمّا مضت السّبعون ولم يتحقّق شيء من تلك الوعود اشتكى الأتباع من ذلك، فحاول ¬
مؤسّسو المذهب الخروج من هذا المأزق بالقول بأنّه قد بدا لله سبحانه ما اقتضى تغيير هذا الوعد (¬1) . وكانت روايات الشّيعة في حياة جعفر الصّادق تتحدّث بأخبار تنسبها لجعفر أنّ الإمامة ستكون بعد موته لابنه إسماعيل، ولكن وقع ما لم يكن بالحسبان، إذ مات إسماعيل قبل موت أبيه فكانت قاصمة الظّهر لهم، وحدث أكبر انشقاق باق إلى اليوم في المذهب الشّيعي، وهو خروج طائفة كبيرة منهم ثبتت على القول بإمامة إسماعيل وهم الإسماعيليّة، رغم أنّهم فزعوا إلى عقيدة البداء لمعالجة هذه المعضلة فنسبوا روايات لجعفر تقول: "ما بدا لله بداء كما بدا له في إسماعيل ابني.. إذ اخترمه قبلي ليعلم بذلك أنّه ليس بإمام بعدي" (¬2) . واستجاب لهذا التّأويل طائفة الاثني عشريّة الذين قالوا بإمامة موسى دون إسماعيل. ومؤسسو التشيع يدعون في الأئمة أنهم يعلمون الحوادث الماضية والمستقبلة والآجال والأرزاق.. إلخ. ولكن الأتباع وسائر الناس لا يرون فيهم شيئًا من هذه الدعاوى، والأئمة لا يخبرون الناس بشيء من ذلك، لأنهم لا يملكون ذلك أصلاً ولا يدعونه في أنفسهم فلم يجد مؤسسو التشيع تعليلاً يبررون به هذا العجز إلا عقيدة البداء فنقلوا عنهم أنهم لا يخبرون عن الغيب مخافة أن يبدو له تعالى فيغيره (¬3) . وزعموا أن الأئمة يعطون علم "الآجال والأرزاق والبلايا والأعراض ¬
سبب قول الشيعة بالبداء
والأمراض ويشترط (لهم) فيه البداء" (¬1) . وهذه حيلة أخرى منهم ليستروا بها كذبهم إذا أخبروا خلاف الواقع. وقد أمر الشيعة بمقتضى هذه العقيدة بالتسليم بالتناقض والاختلاف والكذب، ففي رواية طويلة في تفسير القمي تخبر عن نهاية دولة بني العباس، قال فيها إمامهم: "إذا حدثناكم بشيء فكان كما نقول فقولوا: صدق الله ورسوله، وإن كان بخلاف ذلك فقولوا: صدق الله ورسوله تؤجروا مرتين.." (¬2) . وقد كان لعقيدة البداء في إبان نشأتها أثرها في ظهور بوادر الشك لدى العقلاء من أتباع المذهب، وقد اكتشف بعضهم حقيقة اللعبة، فتخلى عن المذهب الإمامي أصلاً، وقد حفظت لنا بعض كتب الفرق قصة أحد هؤلاء وهو سليمان بن جرير الذي تنسب إليه فرقة السليمانية من الزيدية، فقال - كما تنقل ذلك كتب الفرق عند الشيعة نفسها -: "إن أئمة الرافضة وضعوا لشيعتهم مقالتين، لا يظهرون معهما من أئمتهم على كذب أبدًا وهما القول بالبداء وإجازة التقية" (¬3) . ثم كشف - من خلال حياته في المجتمع الشيعي، ومخالطته لهم - كيف يتخذون من عقيدة البداء وسيلة للتستر على كذبهم في دعوى علم الأئمة للغيب فقال: "إنّ أئمّتهم لمّا أحلّوا أنفسهم من شيعتهم محلّ الأنبياء من رعيّتها في العلم فيما كان ويكون، والإخبار بما يكون في غد، وقالوا لشيعتهم إنّه سيكون غدًا وفي غابر الأيّام كذا وكذا، فإن جاء ذلك الشّيء على ما قالوه، قالوا لهم: ألم نعلّمكم أنّ هذا يكون فنحن نعلم من قبل الله عزّ وجلّ ما علمته الأنبياء، وبيننا وبين الله عزّ وجلّ مثل تلك الأسباب التي علمت بها الأنبياء عن الله ما علمت، وإن لم يكن ذلك الشّيء الذي قالوا إنّه يكون على ما قالوه، قالوا لشيعتهم: بدا لله في ذلك ¬
فلم يكوِّنه" (¬1) . ثم شرح أيضًا كيف يخدعون أتباعهم بمقتضى عقيدة التقية، فتأثر بقوله طائفة من الشيعة واتبعوه (¬2) . فأنت ترى بعد هذا العرض أنه لو سقطت عقدية البداء لانتقض دين الاثني عشرية من أصله، لأن أخبارهم ووعودهم التي لم يتحقق منها شيء تنفي عنهم صفة الإمامة. وهذا سر مغالاة شيوخهم بأمر البداء، ودفاعهم عنه، وجعله من أعظم العبادات. لكن مقالة البداء ارتدت عليهم بأوخم العواقب وهي إضافة سبب جديد لكفرهم وردتهم (¬3) . لأنهم بهذا المعتقد نزهوا المخلوق وهو الإمام عن الخلف في الوعد، والاختلاف في القول، والتغير في الرأي، ونشأة رأي جديد، ونسبوا ذلك إلى عالم الغيب والشهادة. تعالى الله عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا (¬4) . فنزهوا المخلوق دون الخالق، لأن غلوهم في الإمام - فيما يظهر - لم يجعل للحق جل شأنه في قلوبهم وقارًا، فتاهوا في بيداء هذا الضلال والكفر والإلحاد. ولقد حاول شيوخ الشيعة أن يجدوا مخلصًا من وصمة هذا العار، ومهربًا من التكفير. فالنصير الطوسي الذي يلقبه المجلسي بالمحقق (المتوفى سنة 672هـ) أنكر وجود البداء كعقيدة للاثني عشرية وقال عن طائفته: "إنهم لا يقولون بالبداء، ¬
وإنما القول بالبداء ما كان إلا في رواية رووها عن جعفر الصادق أنه جعل إسماعيل القائم مقامه، فظهر من إسماعيل ما لم يرتضه منه، فجعل القائم موسى فسئل عن ذلك فقال: بدا لله في أمر إسماعيل، وهذه رواية، وعندهم أن خبر الواحد لا يوجب علمًا ولا عملاً" (¬1) . ولكن هذا - كما ترى - مخالف للواقع؛ إذ إن البداء من عقائدهم المقررة، ورواياتهم وأخبارهم فيه كثيرة، ولذلك قال المجلسي بأن هذا الجواب عجيب من الطوسي، وعزا ذلك «لعدم إحاطته بالأخبار" (¬2) . وصنف من الشيعة يقر بالبداء كعقيدة ويحاول أن يجد له تأويلاً مقبولاً. فابن بابويه القمي يوجه "أحاديثهم" في البداء توجيهًا «تبدو» عليه ملامح الاضطراب، فهو في البداية يقول: "ليس البداء كما يظنه جهال الناس بأنه بداء ندامة تعالى الله عن ذلك، ولكن يجب علينا أن نقر لله عز وجل بأن له البداء معناه أن له أن يبدأ بشيء من خلقه فيخلقه قبل شيء ثم يعدم ذلك الشيء ويبدأ بخلق غيره" (¬3) . فأنت ترى أن حديثه هنا خارج الموضوع تمامًا لأنه تكلم عن البدء لا البداء ولا يخالف مسلم في هذا الأمر الذي يقوله، ولو كان هذا مقصودهم بالبداء لما أنكره عليهم أحد، ولما وجدوا فيه مخرجًا لتناقض رواياتهم، وتخلف وعودهم. فالله سبحانه: {وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِن طِينٍ} (¬4) . وهو {يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} (¬5) ، {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ} (¬6) . وليس هذا من البداء. ¬
ولكنه رجع وفسر البداء بالنسخ، فقال بعد الكلام السابق مباشرة: "أو يأمر بأمر ثم ينهى عن مثله، أو ينهى عن شيء ثم يأمر بمثل ما نهى عنه، وذلك مثل نسخ الشرايع، وتحويل القبلة، وعدة المتوفى عنها زوجها" (¬1) . وهذا جهل أو تجاهل؛ إذ لا بداء في النسخ، والحكم كان مؤقتًا في علم الله، وأجل الحكم، وانتهاء الحكم عند حلول الأجل معلوم لله قبل الحكم. نعم بدا لنا ذلك من الله بعد نزول الناسخ، والبداء لنا في علمنا لا لله (¬2) . "من أجل ذلك تنزه الله سبحانه عن أن يوصف بالبداء؛ لأن البداء ينافي إحاطة علم الله بكل شيء، ولم يتنزه عن النسخ؛ لأن النسخ لا يعدو أن يكون بيانًا لمدة الحكم الأول على نحو ما سبق في علم الله تعالى، وإن كان رفعه لهذا الحكم بداء بالنسبة لنا" (¬3) . "فإن الله سبحانه قدر في علمه الأزلي لكل حكم ميقاتًا وزمانًا معلومًا فإذا انتهى زمانه حل محله حكم آخر بأمره ونهيه سبحانه، فليس فيه تغيير في علمه الأزلي" (¬4) . قال تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (¬5) . وقد شنع عبد القاهر البغدادي على الشيعة؛ حيث "جعلت النسخ من قبيل البداء فزعمت أنه إذا أمر سبحانه بشيء ثم نسخه فإنما نسخه لأنه بدا له منه" (¬6) . وقد تمادت الشيعة في هذا الغي، وساق صاحب البحار بعض الروايات المنسوخة واعتبرها من قبيل البداء (¬7) ، مع أنه لا صلة للنسخ بالبداء (¬8) . ¬
ثم إن ابن بابويه عاد في نهاية توجيهه لعقيدة البداء إلى القول بأن البداء "إنما هو ظهور أمر، يقول العرب: بدا لي شخص في طريقي أي: ظهر. قال الله عز وجل: {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} (¬1) . أي: ظهر لهم، ومتى ظهر لله تعالى ذكره من عبد صلة لرحمه زاد في عمره. ومتى ظهر له منه قطيعة لرحمه نقص من عمره" (¬2) . فهذا عودة منه لتقرير ذلك المنكر في معتقدهم في البداء، بعد تلون وتقلب. وزيادة عمر من وصل رحمه ليست من باب البداء، وظهور ما لم يكن في علم الله، بل صلة الرحم سبب لطول العمر، والله قدر الأجل وسببه فهو سبحانه "قدر أن هذا يصل رحمه فيعيش بهذا السبب إلى هذه الغاية، ولولا ذلك السبب لم يصل إلى هذه الغاية، ولكن قدر هذا السبب وقضاه، وكذلك قدر أن هذا يقطع رحمه فيعيش إلى كذا" (¬3) . ولكن شيخ الطائفة الطوسي يسلك في تأويل البداء طريقًا أسلم من طريق ابن بابويه، حيث يقول: "قوله: بدا لله فيه معناه بدا من الله فيه، وهكذا القول في جميع ما يروي من أنه بدا لله في إسماعيل معناه أنه بدا من الله، فإن الناس كانوا يظنون في إسماعيل بن جعفر أنه الإمام بعد أبيه، فلما مات علموا بطلان ذلك" (¬4) . ¬
محاولات شيوخ الشيعة الدفاع عن هذه العقيدة
هذا اعتذار الطوسي، ولا شك بأن البداء إذا كان للخلق بأن يقع لهم ما لم يحتسبوا، فليس فيه ما يمس العقيدة الإسلامية. وقد تابع الطوسي في الاعتذار نفسه أحد مراجع الشيعة في هذا العصر وهو محمد حسين آل كاشف الغطا فقال: "البداء وإن كان في جوهر معناه هو ظهور الشيء بعد خفائه، ولكن ليس المراد به هنا ظهور الشيء لله جل شأنه وأي ذي حريجة ومسكة يقول بهذه المضلة، بل المراد ظهور الشيء من الله لمن يشاء من خلقه بعد إخفائه عنهم، وقولنا: (بدا لله) أي بدا حكم الله أو شأن الله" (¬1) . ولكن المطلع على رواياتهم لا يرى أنها تتفق مع هذا التأويل، إذ تدل على نسبة البداء إلى الله لا إلى الخلق، ولذلك اعتذر أئمتهم عن الإخبار بالمغيبات خشية البداء.. ونسبوا إلى نبي الله لوط أنه كان يستحث الملائكة لإنزال العقوبة بقومه خشية أن يبدو لله، ويقول: "تأخذونهم الساعة فإني أخاف أن يبدو لربي فيهم. فقالوا: يا لوط إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب" (¬2) . فهل مثل هذا "الإلحاد" يقبل التأويل؟!. وجاء في الكافي ".. عن أبي هاشم الجعفري قال: كنت عند أبي الحسن عليه السلام بعد مضي ابنه أبو جعفر وإني لأفكر في نفسي أريد أن أقول كأنهما أعني: أبا جعفر وأبا محمد في هذا الوقت كابي الحسن موسى وإسماعيل ابني جعفر بن محمد عليهم السلام، وإن قصتهما كقصتهما، إذ كان أبو محمد المرجي بعد أبي جعفر عليه السلام، فأقبل علي أبو الحسن قبل أن أنطق فقال: نعم يا أبا هاسم بدا لله في أبي محمد بعد أبي جعفر عليه السلام ما لم يكن يعرف له، كما بدا له في موسى بعد مضي إسماعيل ما كشف به عن حاله وهو كما حدثتك نفسك ¬
وإن كره المبطلون" (¬1) . فانظر إلى قوله "بدا لله.. ما يكن يعرف له.." تجد أنهم ينسبون "البداء" إلى الله صراحة، فهؤلاء القوم لا يرجون لله وقارًا، وقد اتخذوا من عقيدة البداء وسيلة لإبقاء فرصة الاختيار في أهل البيت، والرجوع عن الاختيار بدون تثريب عليهم من أتباعهم.. ولم يراعوا في هذه الحيلة حق الله جل شأنه، لأن واضعي هذه النصوص قد فرغت نفوسهم من خوف الله ورجائه. ثم إن التأويل للبداء بظهور الأمر للناس من الله لا يسوغ كل هذه المغالاة في البداء وجعله من أعظم الطاعات وأصول الاعتقادات، كما أن لفظ البداء يحمل معنى باطلاً في لغة العرب التي نزل بها القرآن، فكيف يعد أصل في الدين وهو بهذه المثابة، ويلتمس له تأويل ومخرجٌ؟! ¬
استدلالهم على البداء
استدلالهم على البداء: وبعد أن استقرت مسألة البداء عندهم كعقيدة بمقتضى روايات الكليني وأضرابه، حاول شيخ الشيعة - كعادتهم - البحث في كتاب الله عن سند لدعواهم. وكأنه لم يكفهم أن نسبوا هذه الفرية إلى الله، حتى زعموا أن كتاب الله أثبت فريتهم، فتعلقوا بقوله سبحانه: {يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} (¬1) . ويلحظ أن أول من استدل بهذه الآية على فرية البداء هو المختار بن أبي عبيد (¬2) . وتابعه شيوخ الشيعة، ووضعوا روايات في ذلك أسندوها لبعض علماء آل البيت لتحظى بالقبول (¬3) . واستدلالهم بهذه الآية على أن المحو والإثبات بداء شطط في الاستدلال، وتعسف بالغ، ذلك أن المحو والإثبات بعلمه وقدرته وإرادته، من غير أن يكون له بداء في شيء، وكيف يتوهم له البداء وعنده أم الكتاب، وله في الأزل العلم المحيط {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} (¬4) ، {..وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} (¬5) . ¬
وأمثالها من الآيات، وتوهم البداء لله تكذيب لكل هذه الآيات (¬1) . وقد بين الله تعالى في آخر الآية أن كل ما يكون منه من محو وإثبات وتغيير، واقع بمشيئته ومسطور عنده في أم الكتاب (¬2) . ¬
روايات في كتب الاثني عشرية تنقض عقيدة البداء
روايات في كتب الاثني عشرية تنقض عقيدة البداء: إن نقض الخصم كلامه بنفسه، من أبلغ النقض، لأنه يقضي على نفسه بسلاحه، وإن ظهور تناقضه من أوضح أمارات بطلان معتقده، وأنت تجد في كتب الاثني عشرية روايات عن الأئمة ترمي من قال بالبداء بالخزي، وتناقض ما سلف من روايات. وهذه الروايات قد تكون روايات وثيقة الصلة بعلماء آل البيت لأنها تعبر عن المعنى الحق وهو ما يليق بأولئك الصفوة، وقد تكون من آثار الشيعة المعتدلة بقيت آثارها في كتب الاثني عشرية، ولا يبعد أن تكون هذه الروايات ستارًا وضعه أولئك الزنادقة على عقيدتهم في البداء. وعلى أية حال فإن إثبات مثل هذه الروايات تبين مدى تناقض هذه الطائفة في رواياتها، وأن دينها قائم على الأخذ بالجانب الشاذ، والمخالف للجماعة من أخبارهم، لأن ما خالف الجماعة ففيه الرشاد كما هو قانون أولئك الزنادقة، الذي يخرج من أخذ به عن الدين رأسًا. جاء في كتاب التّوحيد لابن بابويه: ".. عن منصور بن حازم قال: سألت أبا عبد الله - عليه السّلام - هل يكون اليوم شيء لم يكن في علم الله تعالى بالأمس؟ قال: لا، من قال هذا فأخزاه الله، قلت: أرأيت ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة أليس في علم الله؟ قال: بلى، قبل أن يخلق الخلق" (¬1) . ولا شك بأن عقيدة البداء بمقتضى معناها اللّغوي، وبموجب روايات الاثني عشريّة، وحسب تأويل بعض شيوخهم تقتضي أن يكون في علم الله اليوم ما ¬
لم يكن في الأمس. وحسب الاثني عشرية عارًا وفضيحة أن تنسب إلى الحق جل شأنه هذه العقيدة، على حين تبرئ أئمتها منها، فإذا وقع الخلف في قول الإمام نسبت ذلك إلى الله لا إلى الإمام. وإذا رجعت إلى معتقدهم في توحيد الألوهية والربوبية، والأسماء والصفات، وجدت أن الإمام قد حل محل الرب سبحانه في قلوبهم وعقولهم، بتأثير ذلك الركام المظلم من الأخبار.. فعقيدة البداء أثر لغلوهم في الإمام.
الفصل الثامن: الطينة
الفصل الثامن: الطينة هذه العقيدة من مقالاتهم السرية، وعقائدهم التي يتواصون بكتمانها حتى من عامتهم، لأنه لو اطلع العامي الشيعي على هذه العقيدة "تعمد أفعال الكبار لحصول اللذة الدنيوية، ولعلمه بأن وبالها الأخروي إنما هو على غيره" (¬1) . وكانت هذه المقالة موضع إنكار من بعض عقلاء الشّيعة المتقدّمين كالمرتضى وابن إدريس، لأنّها في نظرهم وإن تسللت أخبارها في كتب الشيعة إلا "أنّها أخبار آحاد مخالفة للكتاب والسّنّة والإجماع فوجب ردّها" (¬2) . لكن هذه الأخبار تكاثرت على مر الزمن حتى قال شيخهم نعمة الله الجزائري (ت1112هـ) : "إنّ أصحابنا قد رووا هذه الأخبار بالأسانيد المتكثّرة في الأصول وغيرها، فلم يبق مجال في إنكارها، والحكم عليها بأنّها أخبار آحاد، بل صارت أخبارًا مستفيضة، بل متواترة" (¬3) ، قال هذا في الرد على من أنكرها من شيوخهم السابقين. والذي تولى كبر إرساء هذه العقيدة - فيما يظهر - هو شيخهم الكليني الذي بوّب لها بعنوان "باب طينة المؤمن والكافر"، وضمّن ذلك سبعة أحاديث في أمر الطّينة (¬4) . ثمّ ما زالت تكثر هذه الأخبار من بعد الكليني حتى سجّل منها شيخهم ¬
المجلسي سبعة وستّين حديثًا في باب عقده بعنوان "باب الطّينة والميثاق" (¬1) . وكأن القارئ يتطلع إلى معرفة تفاصيل هذه المقالة التي تجعل الشيعي يعتقد بأن كل بائقة يرتكبها فذنبها على أهل السنة، وكل عمر صالح يعمله أهل السنة فثوابه للشيعة، ولذلك فإن شيوخ الشيعة يكتمون ذلك عن عوامهم حتى لا يفسدوا عليهم البلاد والعباد. هذه العقيدة أوسع تفصيل لها هو رواية ابن بابويه في علل الشّرائع حيث استغرقت عنده خمس صفحات وختم بها كتابه (¬2) ، ورأى بعض شيوخهم المعاصرين أنّ هذا كمسك الختام فقال: "إنّه ختم بهذا الحديث الشّريف كتاب علل الشّرائع" (¬3) . وملخص ذلك يقول بأنّ الشّيعي خلق من طينة خاصّة والسّنّي خلق من طينة أخرى، وجرى المزج بين الطينتين بوجه معين، فما في الشّيعي من معاصٍ وجرائم هو من تأثّره بطينة السّنّيّ، وما في السّنّيّ من صلاح وأمانة هو بسبب تأثّره بطينة الشّيعي، فإذا كان يوم القيامة فإنّ سيّئات وموبقات الشّيعة تُوضع على أهل السّنّة، وحسنات أهل السّنّة تُعطى للشّيعة. وعلى هذا المعنى تدور أكثر من ستّين رواية من رواياتهم. ويمكن أن يستنبط سبب القول بهذه العقيدة من الأسئلة التي وجهت للأئمة، والشكاوى التي رفعت إليهم، فالشيعة يشكون من انغماس قومهم بالموبقات والكبائر، ومن سوء معاملة بعضهم لبعض، ومن الهم والقلق الذي يجدونه ولا يعرفون سببه. ¬
ولكن يعزو إمامهم ذلك كله لتأثر طينة الشيعي بطينة السني في الخلقة الأولى. ولنستمع إلى بعض هذه الأسئلة المثيرة التي تكشف واقع المجتمع الشيعي المغلق: روى ابن بابويه بسنده: "عن أبي إسحاق اللّيثي قال: قلت لأبي جعفر محمد بن علي الباقر - عليه السّلام -: يا بن رسول الله، أخبرني عن المؤمن المستبصر (¬1) . إذا بلغ في المعرفة وكمل هل يزني؟ قال: اللهمّ لا، قلت: فيشرب الخمر؟ قال: لا، قلت: فيأتي بكبيرة من هذه الكبائر أو فاحشة من هذه الفواحش؟ قال: لا، قلت: يا ابن رسول الله، إنّي أجد من شيعتكم من يشرب الخمر، ويقطع الطّريق، ويخيف السّبيل، ويزني، ويلوط، ويأكل الرّبا، ويرتكب الفواحش ويتهاون بالصّلاة والصّيام، والزّكاة، ويقطع الرّحم، ويأتي الكبائر، فكيف هذا ولِمَ ذاك؟ فقال: يا إبراهيم، هل يختلج في صدرك شيء غير هذا؟ قلت: نعم يا ابن رسول الله أخرى أعظم من ذلك، فقال: وما هو يا أبا إسحاق؟ قال: فقلت: يا ابن رسول الله، وأجد من أعدائكم ومناصبيكم (¬2) . من يكثر من الصلاة والصيام ويخرج الزكاة ويتابع بين الحج والعمرة، ويحرص على الجهاد، ويأثر - كذا - على البر، وعلى صلة الأرحام، ويقضي حقوق إخوانه، ويواسيهم من ماله، ويتجنب شرب الخمر والزنا، واللواط وسائر الفواحش، فما ذاك؟ ولِمَ ذاك؟ فسّره لي يا ابن رسول الله وبرهنه وبينه، فقد والله كثر فكري وأسهر ليلي، وضاق ذرعي" (¬3) . هذا واحد من الأسئلة والشكاوى التي تكشف انزعاج الشيعة من واقعهم المليء بالمعاصي والموبقات بالمقارنة بواقع سلف هذه الأمة، وأئمة أهل السنة ومعظم عامتهم من تقى وأمانة وصلاح، وقد أجيب السائل بمقتضى عقدية الطينة وهي ¬
أن المعاصي الموجودة عند الشيعة هي بسبب طينة أهل السنة، والأعمال الصالحة التي تسود المجتمع السني بسبب طينة الشيعي. ويأتي سائل آخر يدعى إسحاق القمي فيقول لأبي جعفر الباقر: "جعلت فداك أرى المؤمن الموحد الذي يقول بقولي، ويدين الله بولايتكم، وليس بيني وبينه خلاف، يشرب السكر، ويزني، ويلوط، وآتيه في حاجة واحدة فأصيبه معبس الوجه، كالح اللون، ثقيلاً في حاجتي، بطيئًا فيها، وقد أرى الناصب المخالف لما أنا عليه، ويعرفني بذلك (¬1) ، فآتيه في حاجة، فأصيبه طلق الوجه، حسن البشر، متسرعًا في حاجتي، فرحًا بها، يحب قضاءها، كثير الصلاة، كثير الصوم، كثير الصدقة، يؤدي الزكاة، ويُستودَع فيؤدي الأمانة" (¬2) . فهذا السائل يزيد عن سابقه بشكواه من سوء معاملة أصحابه، وجَفاء طبعهم، وقلة وفائهم، على حين يجد أهل السنة وهم خصومه أحسن له من أصحابه وأقضى للحاجة، وأفضل في الخلق والمعاملة والعبادة. وقريب من ذلك ما شكاه بعض الشيعة إلى أبي عبد الله فقال: "أرى الرجل من أصحابنا ممن يقول بقولنا خبيث اللسان، خبيث الخلطة، قليل الوفاء بالميعاد فيغمني غمًا شديدًا، وأرى الرجل من المخالفين علينا حسن السمت، حسن الهدي (¬3) ، وفيًا بالميعاد فأغتم غمًا" (¬4) . ويأتي سائل رابع يشكو ما يجده من قلق وهم لا يعرف له تفسيرًا. تقول روايتهم: "عن أبي بصير قال: دخلت على أبي عبد الله، ومعي رجل من أصحابنا فقلت له: جعلت فداك يا ابن رسول الله، إني لأغتم وأحزن من غير أن أعرف ¬
لذلك سببًا.." (¬1) . ويبدو أن مصدر القلق تلك العقيدة غير الواضحة والمستقرة التي تأخذ بها الروافض، ولكن "إمامه" يفسر هذا القلق بمقتضى عقيدة الطينة. هذه الأسئلة والشكاوى وغيرها كثير (¬2) . توضح طبيعة التركيبة الشيعية في نفسيتها، وعلاقاتها، وخلقها، ومعاملاتها ودينها.. وقد احتال شيوخ الشيعة لمواجهة هذا الإحساس الذي ينتاب بعض الصادقين من الشيعة، إزاء هذه الظواهر المقلقة والمخيفة فكانت محاولة الخروج من إلحاح هذه التساؤلات والشكاوى بقولهم بهذه العقيدة. ولنستمع إلى بعض الأجوبة على تلك الشكاوى (¬3) . يقول (إمامهم) : "يا إسحاق (راوي الخبر) ليس تدرون من أين أوتيتم؟ قلت: لا والله، جعلت فداك إلا أن تخبرني، فقال: يا إسحاق، إن الله - عز وجل - لما كان متفردًا بالوحدانية ابتدأ الأشياء لا من شيء، فأجرى الماء العذب على أرض طيبة طاهرة سبعة أيام مع لياليها، ثم نضب (¬4) . الماء عنها فقبض قبضة من صفاوة ذلك الطين وهي طينتنا أهل البيت، فلو أن طينة شيعتنا تركت كما تركت طينتنا لما زنى أحد منهم، وسرق، ولا لاط، ولا شرب المسكر ولا اكتسب شيئًا مما ذكرت، ولكن الله - عز وجل - أجرى الماء المالح على أرض ملعونة سبعة أيام ولياليها ثم نضب الماء عنها، ثم قبض ¬
قبضته وهي طينة ملعونة من حمأ مسنون (¬1) ، وهي طينة خبال (¬2) ، وهي طينة أعدائنا، فلو أن الله - عز وجل - ترك طينتهم كما أخذها لم تروها في خلق الآدميين، ولم يقرّوا بالشهادتين، ولم يصوموا ولم يصلوا، ولم يزكوا، ولم يحجوا البيت، ولم تروا أحدًا منهم بحسن خلق، ولكن الله - تبارك وتعالى - جمع الطينتين - طينتكم وطينتهم - فخلطهما وعركهما عرك الأديم، ومزجهما بالماءين فما رأيت من أخيك من شر لفظ، أو زنا، أو شيء مما ذكرت من شرب مسكر أو غيره، ليس من جوهريته وليس من إيمانه، إنما هو بمسحة الناصب اجترح هذه السيئات التي ذكرت، وما رأيت من الناصب من حسن وجه وحسن خلق، أو صوم، أو صلاة، أو حج بيت، أو صدقة، أو معروف فليس من جوهريته، إنما تلك الأفاعيل من مسحة الإيمان اكتسبها وهو اكتساب مسحة الإيمان. قلت: جعلت فداك فإذا كان يوم القيامة فَمَهْ؟ قال لي: يا إسحاق أيجمع الله الخير والشر في موضع واحد؟ إذا كان يوم القيامة نزع الله - عزّ وجلّ - مسحة الإيمان منهم فردّها إلى شيعتنا، ونزع مسحة النّاصب بجميع ما اكتسبوا من السّيّئات فردّها على أعدائنا، وعاد كلّ شيء إلى عنصره الأوّل. قلت: جعلت فداك تُؤخذ حسناتهم فتردّ إلينا، وتُؤخذ سيّئاتنا فتردّ إليهم؟ قال: إي والله الذي لا إله إلا هو (¬3) . هذه عقيدة الطينة عندهم، وقد جاء في سياق رواية القمّي في أوّلها قوله: "خذ إليك بيانًا شافيًا فيما سألت، وعلمًا مكنونًا من خزائن الله وسرّه" (¬4) . ¬
وجاء في خاتمتها: "خذها إليك يا أبا إسحاق، فوالله إنّه لَمِن غرر أحاديثنا، وباطن سرايرنا، ومكنون خزائننا، وانصرف ولا تطلع على سرّنا أحدًا إلا مؤمنًا مستبصرًا، فإنّك إن أذعت سرّنا بليت في نفسك ومالك وأهلك وولدك" (¬1) . فهي - كما ترى - عقيدة سرية في إبّان قوة الدولة الإسلامية، يؤكَّد على سريتها في بدايتها ونهايتها، فهل خطر ببال مخترع هذه العقيدة أنها ستقع في أيدي أهل السنة، ويعلنونها أمام الملأ كإحدى الفضائح..؟ نقد هذه العقيدة: أولاً: إن هذه الرّوايات ناقضت نفسها بنفسها، فالشّيعي كما ترى في عرض الشّكاوى والأسئلة هو أغرق في الجريمة، وأكثر إيغالاً في المعاصي والموبقات، وأسوأ معاملة، وأردأ خلقًا ودينًا، فكيف يكون مَنْ هذه حاله أفضل طينة، وأطهر خلقة؟ ثانيًا: قد خلق الله سبحانه النّاس جميعًا على فطرة الإسلام، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} (¬2) . والتّفريق بينهما ممّا شذّت به أساطير الشّيعة. ثالثًا: ناقضت الشّيعة في أخبار الطّينة مذهبها في أفعال العباد؛ لأنّ مقتضى هذه الأخبار أن يكون العبد مجبورًا على فعله وليس له اختيار له؛ إذ أفعاله بمقتضى الطّينة. مع أنّ مذهبهم أنّ العبد يخلق فعله كمذهب المعتزلة (¬3) . رابعًا: تقرر أخبار طينتهم «أن موبقات الشيعة وأوزارها يتحملها أهل ¬
السنة، وحسنات المسلمين جميعًا تعطى للشيعة، وهذا مخالف للعدل الرّباني ولا يتفق مع العقل الصريح ولا الفطرة السليمة، فضلاً عن نصوص الشرع وأصول الإسلام، قال تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (¬1) ، وقال - عز وجل -: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} (¬2) . وقال - عز وجل -: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} (¬3) ، وقال - تعالى -: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (¬4) ، وقوله - سبحانه -: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ} (¬5) . وغيرها كثير. وهذه المقالة ظاهرة البطلان، يكفي مجرد تصورها لمعرفة فسادها، وهي من فضائح المذهب الاثني عشري وعوراته. ولا يستحي الشيعة إلى اليوم من التجاهر بهذه العقيدة وإعلانها، فتجد أخبار هذه «الفرية» في بحار الأنوار (¬6) ، والأنوار النّعمانيّة (¬7) ، يعلق عليها المحقق الشيعي بما يؤكد رضاه عن هذه الأساطير واعتقادها. وإذا لم تستح فاصنع ما شئت. ¬
الجزء 3
الباب الرابع: الشيعة المعاصرون وصلتهم بأسلافهم ويشتمل علي أربعة فصول: الفصل الأول: الصلة في مصادر التلقي. الفص الثاني: صلتهم بالفرق القديمة. الفصل الثالث: الصلة العقدية بين القدامى والمعاصرين. الفصل الرابع: دولة الآيات.
تمهيد
الباب الرابع: الشعية المعاصرون وصلتهم بأسلافهم تمهيد: سأتناول بمشيئة الله في هذا الباب بيان مذهب المعاصرين من الاثني عشرية، ولذلك لا تجد فيه إلا كلام هؤلاء المعاصرين، اللهم إلا ما جاء عرضاً في مناقشة بعض الأقوال، وأعني بالمعاصرين، من عاش في المائة سنة الأخيرة من زمننا. وسأوضح مدى موافقتهم ورضاهم عن مصادرهم القديمة التي ورد فيها تلك الطامات التي مرَّ ذكر جملة منها. ونوع علاقتهم بالفرق الشيعية القديمة، وهل هي علاقة رضى وقبول أو رفض وإنكار؟ ثم أوضح جملة من آرائهم العقدية؛ ليتبين من خلالها هل حدث تغير في المذهب الاثني عشري في هذا العصر. ثم يكون الحديث بعد هذا عن "دولة الآيات" وحقيقة التشيع من خلالها.
الفصل الأول: الصلة في مصادر التلقي
الفصل الأول: الصلة في مصادر التلقي إن وحدة مصادر التلقي هي العامل الأول والأخير في اتفاق الاعتقاد والوجهة عند أية طائفة من الطوائف.. وهي التي تصل اللاحقين بالسابقين. والشعية المعاصرون قد اعتمدوا في التلقي على أصولهم القديمة المجموعة في الكتب الأربعة الأولى، وهي: الكافي، والتهذيب، والاستبصار، ومن لا يحضره الفقيه. كما قرر ذلك طائفة من شيوخهم كآغا بزرك الطهراني في الذريعة (¬1) ، ومحسن الأمين في أعيان الشيعة (¬2) ، وغيرهما (¬3) . قال شيخهم وآيتهم في هذا العصر عبد الحسين الموسوي عن كتبهم الأربعة: "وهي: الكافي والتهذيب والاستبصار ومن لا يحضره الفقيه، وهي متواترة، ومضامينها مقطوع بصحتها، والكافي أقدمها وأحسنها وأتقنها" (¬4) . فبعد هذا هل يختلف المعاصرون عن طبقة الكليني وأمثالها من الغابرين وهم يرجعون إلى مَعِين واحد ومصدر واحد؟ بالطبيعي لن يختلفوا، ولا سيما في الأصول الأساسية، لكن الأمر لم يقتصر على هذا الحد. بل عدّ شيوخهم المعاصرون ما جمعه متأخروهم في القرن الثاني عشر ¬
والثالث عشر والتي كان آخرها ما جمعه شيخهم النوري المتوفى سنة (1320هـ) في مستدرك الوسائل - عدوها مصادر للتلقي سموها "الكتب الأربعة المتأخرة"، وبغض النظر عن اعتمادهم لروايات سجلت في القرن الرابع عشر عن الأئمة في العصر الأول. وما يقال في ذلك، فإن تلك الكتب - ما عدا مستدرك الوسائل - قد ألفت وجمعت إبان الحكم الصفوي، لذلك حوت من الغلو والبلاء ما لم يخطر ببال الشيعة السابقين كما ترى في البحار للمجلسي، وأصبحت - مع ذلك - عمدة عند شيعة هذا العصر، وهذا يعني بطبيعة الحال تطوراً خطيراً عند المعاصرين ينقلهم إلي دركات من الضلال والتطرف. وليس ذلك فحسب، بل إن المعاصرين اعتمدوا عشرات المصادر التي وصلتهم منسوبة لسابقيهم واعتبروها في المنزلة والاحتجاج كالكتب الأربعة الأولى. كما تجد ذلك في مقدمات تلك المصادر، وهذا منهم متابعة لشيخ الدولة الصفوية المجلسي الذي عدها في "بحاره" بهذه المنزلة. وليس هذا فقط، بل إن بعض المصادر الإسماعيلية قد أصبحت عمدة عند المعاصرين من الاثني عشرية مثل كتاب "دعائم الإسلام" للقاضي النعمان بن محمد بن منصور، المتوفى سنة (363هـ) وهو إسماعيلي كما تؤكد ذلك بعض مصادر الاثني عشرية نفسها (¬1) . ومع ذلك فإن كبار شيوخهم المعاصرين يرجعون إليه (¬2) . ¬
ويشير بعض علماء الاثني عشرية المعاصرون إلى وحدة الأصل في التلقي بين الإسماعيلية والاثني عشرية فيقول: "وإذا لم يكن الفاطميون على المذهب الاثني عشري فإن هذا المذهب قد اشتد أزره ووجد منطلقاً في عهدهم فقد عظم نفوذه ونشط دعاته ... ذلك أن الاثني عشرية والإسماعيلية وإن اختلفوا من جهات، فإنهم يلتقون في هذه الشعائر بخاصة في تدريس علوم آل البيت والتفقة بها وحمل الناس عليها (¬1) . وقد جاء في دائرة المعارف عن انفتاح الاثني عشرية على الغلاة هذا القول: "على أن الحدود لم تقفل تماماً أمام الغلاة، يدل على ذلك التقدير الذي دام طويلاً للكتاب الأكبر للإسماعيلية وهو كتاب "دعائم الإسلام" " (¬2) . ومن يطالع بعض الكتب الإسماعيلية يرى وفاقاً في جملة من الروايات بين الطائفين (¬3) . وهذا كله يعني أن هذه الطائفة في العصر الحاضر قد وضعت نفسها في بحر مظلم عميق تتقلب بها أمواجه، حينما ارتضت أن تضع معظم ما وصلها من كتب السابقين مصادر معتمدة لها. وقد قامت في هذا العصر حركة نشطة لبعث التراث العشبي القديم وتعريف الناس به وترويجه بينهم. وهذا التراث مليء بالطعن في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومليء باللعن والتفكير والتخليد بالنار لرجال الصدر الأول للإسلام، وفي مقدمتهم الخلفاء الثلاثة، وبعض أمهات المؤمنين ومن معهم المهاجرين والأنصار ممن رضي الله عنهم ورضوا عنه بنص القرآن. ¬
وحركة النشر هذه قام بها علماء من أشهر مجتهدي الشيعة في هذا العصر وعلى كثير من هذه الكتب تصحيحاتهم، وتعليقاتهم وتقريضاتهم، ومع هذا لم نر اعتراضاً ولا انتقاداً من أحد منهم لما في هذه الكتب من كفر وإلحاد، أليس في ذلك إقراراً من هؤلاء لما فيها؟ وقد توجه د. علي السالوس إلي أحد علماء الشيعة المعاصرين وسأله عن رأيهم فيما اشتمل عليه أصول الكافي من روايات طافحة بالغلو فأجابه - كتابة بخطه -: "أما الروايات التي ذكرها شيخنا الكليني في كتابة الكافي فهي موثوقة الصدور عندنا.. وما ورد في الكافي أن الأئمة يعلمون جميع العلوم التي خرجت إلى الملائكة والأنبياء والرسل، وأنهم إذا شاء أن يعلموا علموا، ويعلمون متى يموتون ولا يموتون إلا باختيار منهم، ويعلمون علم ما كان وما يكون ولا يخفى عليهم الشيء، لاشك أنهم أولياء الله وعباده الذين أخلصوا في الطاعة، ثم ذكر قولاً عن أئمتهم وهو: "قولوا فينا ما شئتم ونزهونا عن الربوبية" (¬1) . وهذا لا يحتاج إلى تعليق إذ أقر وصف أئمته بما لا ينبغي إلا للخالق جل شأنه، وليس هذا هو رأي الكفائي وحده في مضامين أصول الكافي المتضمنة للغلو في الأئمة، بل للخنيزي الذي ألف كتاباً يدعو فيه إلى وحدة أهل السنة والإمامية جواب عن هذه المسائل لا يخالف جواب الكفائي في حقيقته (¬2) ، مع أنه يقرر ذلك في كتاب قد وضع بأسلوب التقية؛ لأنه منشور للدعوة للوحدة المزعومة بينهم وبين أهل السنة، والتي هي في حقيقتها تبشير بالرفض في صفوف أهل السنة. وكذلك أجاب شيخهم الآخر لطف الله الصافي على محب الدين الخطيب الذي عرض في خطوطه العريضة بعض عناوين أبواب أبواب الكافي الطافحة بالغلو (¬3) ، ¬
فقال الصافي: بأن الأبواب المعنونة في الكافي ليست إلا عناوين لبعض ما ورثوا عن جدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬1) . بل إن تلك المصنفات التي حوت ذلك الغلو هي موضع الفخر والتباهي عند المعاصرين. استمع لأحد آياتهم يتحدث عما تركه أئمته من آثار تدل بزعمه على إمامتهم يقول: "إن لهم آثاراً تدل على تلك الإمامة المقصودة، ولا أريد أن أدلك على مجاميع عديدة رويت عنهم وألفت في عصورهم أو ما قاربها.. أمثال تحف العقول، وبصائر الدرجات، والخرائج والجرائح، واحتجاج الطبرسي، والخصال والتوحيد للصدوق.. إلى ما يكثر تعداده. بل إنما أريد أن أدلك على أثر واحد جامع، وفيه القدح المعلى لكل إمام، ألا وهو أصول الكافي لثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني، وقد ألّف هذا الكتاب النفيس في عشرين عاماً وأثبت فيه لكل إمام في كتبه وأبوابه من الأحاديث ما ينبيك على أن ذلك الفرات السائغ يمتد من ينبوع الفيض الإلهي، وإن الناس فارغة الحقائب عن مثل تلك النفائس" (¬2) . ثم مضى يعظم من أمر أصول الكافي حتى طلب من القارىء أن يراجع أبوابه ليعرف الحقيقة (¬3) . وقد ثبتت الحقيقة - فيما مر من فصول - أن هذا الكافي قد جمع من الغلو والكفر ما لا يخطر بالبال، ويكفي النظر في أبوابه فضلاً عن مراجعة أخباره. ¬
الفصل الثاني: صلتهم بالفرق القديمة
الفصل الثاني: صلتهم بالفرق القديمة ما صلة هؤلاء بالفرق الشيعية القديمة التي يرد ذكرها في كتب الفرق والمقالات؟ لقد لاحظت أن شيوخ الشيعة المعاصرين و"آياتها" إذا تحدثوا عن طائفتهم ورجالها ودولها نسبوا لها كل الفرق والدول والرجال المنتمين للتشيع، وإن كانوا من الإسماعيلية والباطنية، أو من الزنادقة الدهرية، أو من المجسمة الغلاة. فهم إذا تحدثوا - مثلاً - عن دول الشيعة ذكروا الدولة الفاطمية في صدر دولهم مع أنها غير اثني عشرية (¬1) . وإذا جاء ذكر رجالهم رأيت منهم كثيراً من رؤوس الضلال والزندقة ممن تنسب إليهم فرق خاصة ليست من الاثني عشرية، بل تحمل النسبة لأسمائهم بأعيانها. لهذا ترى - على سبيل المثال - شيخ الشيعة محسن الأمين يقول عن الهشامية أتباع هشام بن الحكم، واليونسية أتباع يونس بن عبد الرحمن القمي، والشيطانية أتباع محمد بن النعمان شيطان الطاق وغيرهم: "أنهم عند الشيعة الإمامية كلهم ثقات صحيحو العقيدة فكلهم إمامية واثنا عشرية" (¬2) . بل الأخطر من ذلك أننا نجد الاثني عشرية تحاول أن تحتضن كل فرقة ¬
تنتسب إلى التشيع، وإن كانت من فرق الكفر باعتراف كتب الشيعة القديمة نفسها. فتلحظ - مثلاً - أنهم يضفون صفة الشرعية على بعض الغلاة الكفرة باتفاق المسلمين كالنصيرية. وقد كتب أحد علماء الاثني عشرية المعاصرين وهو المدعو حسن الشيرازي رسالة سماها (العلويون شيعة أهل البيت) - والعلويون لقب للنصيرة - وذكر في رسالته هذه أنه التقى بالنصيريين في سوريا ولبنان، وذلك بأمر من مرجعهم الديني محمد الشيرازي وقال: بأنه وجدهم كما يظن من شيعة أهل البيت الذين يتمتعون بصفاء الإخلاص وبراءة الالتزام بالحق، وينتمون إلى علي بن أبي طالب بالولاية، وبعضهم ينتمي إليه بالولاية والنسب ... وقال بأن العلويين والشيعة كلمتان مترادفتان مثل كلمتي الإمامية والجعفرية (¬1) . هذا ولم ينكر على هذا الشيرازي أحد من شيوخ الاثني عشرية، مع أنه قد عرف واشتهر عن النصيرية الكفر والزندقه (¬2) ، بل إن كتب الشيعة القديمة تكفر النصيرية وتعتبرها فرقة خارجة عن الإسلام (¬3) . والمعاصرون يرونها من الجعفرية وإن تسمت بغير هذا الاسم. وذهب بعض كبار مراجع الشيعة في هذا العصر إلى أنه لا يوجد اليوم على ظهر الأرض فرقة من الفرق الغالية مع وجود النصيرية والدروز والأغاخانية وغيرها، فكأنه يحكم علية بعدم الغلو. يقول محمد حسين آل كاشف الغطا: "إن جميع الفرق الغالية قد بادت ولا يوجد منها اليوم نافخ ضرمة" (¬4) . ¬
وقد علق د. سليمان دنيا -رحمة الله -على ذلك بقوله: "فيما يكون الأغاخانية، أليسوا قائلين بالحلول؟! أم ليسوا مع قولهم بالحلول ملاحدة؟! أم ليسوا منتسبين إلى الشيعة، ثم أليسوا على رقعة الأرض اليوم (¬1) . والواقع أن أسماء الكثير من الفرق الشيعية قد اختفى وبقيت آراؤها وعقائدها في كتب الاثني عشرية. والمعاصرون اليوم حينما يقررون أن الكتب الثمانية وما في منزلتها هي مصادرهم في التلقي، إنما هم بهذا يرتضون كل آراء وعقائد الفرق الشيعية التي وجدت علي مدار التاريخ.. ذلك أن هذه المدونات هي النهر الذي انسكبت فيه كل الجداول والروافد الشيعية الأخرى، وهذه حقيقة واقعة شواهدها كثيرة؛ حيث نلاحظ أنه ما من عقيدة من عقائد تلك الفرق إلا ولها شاهد ودليل في كتب الاثني عشرية. فأنت تلاحظ أن عقيدة البداء اعتبرها أصحاب الفرق من عقائد الغلاة (¬2) . ونسبوها للمختارية (¬3) ، ومع ذلك - كما مر - قد ورد في صحيحهم الكافي ستة عشر حديثاً في البدء، وفي البحار في باب البدء والنسخ أكثر من سبعين حديثاً، وصار البداء من عقائد الاثني عشرية، وإن حاول شيوخهم أن يلتمسوا مخلصاً لينجو من تكفير المسلمين لهم لقولهم بهذه العقيدة الضالة. ومثل ذلك عقيدة الرجعة اعتبروها من عقائد الغلاة. وقد ذكرت كتب السنة، واعترفت الكتب الاثني عشرية أن الرجعة من أصول عقيدة ابن سبأ، ومع ذلك هي من أصول عقائد الاثني عشرية (¬4) . ¬
وعقيدة "تأليه الأئمة" هي من عقائد الفرق الغالية كالسبئية وغيرها، وتجد عند الاثني عشرية في الكافي والبحار، وفي كتب التفسير بالمأثور كتفسير القمي والعياشي، وكتب الرجل كرجال الكشي نصوصاً كثيرة تؤله الأئمة - كما مر نقل بعضه -. ومسألة تفضيل الأئمة على الأنباء كان مذهباً لغلاة الروافض، كما قرر ذلك الإمام عبد القاهر البغدادي (ت429هـ) ، والقاضي عياض (544هـ) ، وشيخ الإسلام ابن تيمية (ت728هـ) ، فورثت هذه العقيدة طائفة الاثني عشرية (¬1) . وبسط هذا الموضوع يحتاج لبحث مستقل، وإن دراسة آراء الفرق الشيعية القديمة ومقارنتها بما جاء في كتب الأثني عشرية ومدوناتهم لهي دراسة جديدة تكشف الصلات بين هذه الطائفة والفرق القديمة. لقد تسللت آراء الفرق الشيعية الغالية إلى كتب الاثني عشرية على شكل روايات منسوبة للأئمة وارتضى ذلك المعاصرون. وكان السبب وراء حدوث هذا "التسرب" هو شيوخ الشيعة أنفسهم الذين حملهم التعصب على قبول رواية الشيعي أيًا كان مذهبه والإعراض عن رواية ما يسمونهم بالعامة وهم "أهل السنة". وقد اعترف شيخهم الطوسي بأن معظم رجالهم في الحديث من أصحاب المذهب الفاسدة، ومع ذلك قال بأن كتبهم معتمدة. ومن يراجع تراجم رجالهم يلحظ ذلك.. حيث فيهم الواقفي، والفطحي (¬2) . وغيرهما. وقد أقر بعض مفكري الشيعة في العصر الحاضر بأن الفكر الاثني عشري قد استوعب آراء وعقائد الفرق الشيعة القديمة، حيث قال: "ولكن يجب أن نشير قبل أن نضع القلم بأن ما مر بنا من أفكار الشيعة مما كان خاصاً بفرقة بعينها ¬
لم يلبث أن دخل كله في التشيع الاثني عشري ودعم بالحجج العقلية وبالنصوص. والتشيع الحالي إنما هو زبدة الحركات الشيعية كلها من عمار إلى حجر بن عدي إلى المختار وكيسان إلى محمد بن الحنفية وأبي هاشم إلى بيان ابن سمعان، والغلاة الكوفيين إلى الغلاة من أنصار عبد الله بن الحارث إلى الزيديين والإسماعيليين، ثم الإمامية التي صادرت اثنا عشرية، وقام بعملية المزج متكلمو الشيعة ومصنوفها" (¬1) . إذن التشيع الحالي قد استوعب خلاصة الاتجاهات الشيعية بكل ما فيها من غلو وتطرف. حتي رأينا النزعة السبئية بكل غلوها في علي تطل علينا من خلال رويات الاثني عشرية، يدرك هذا من راجع مجرد عناوين أبواب الكافي والبحار. كما أن الاتجاه الباطني واضح في كتب الاثني عشرية من خلال تأويلهم لآيات القرآن وأركان الإسلام وما قالوه في التقية والكتمان.. فأصبحت الاثنا عشرية هي المصب الأخير لكل الروافد الشيعية بكل ما فيها من شطحات، ويجد كل صاحب غلو وتطرف بغيته وما يؤيد مذهبه في كتب هذه الطائفة. ولقد صدر إقرار خطير، وبيان مثير من أكبر شيخ من شيوخهم المعاصرين في علم الرجال يتضمن الاعتراف بتغير المذهب وتطوره، وأن ما عليه المذهب الاثنا عشري في العصر الحاضر يعتبر غلوًا وتطرفًا عند قدماء الشيعة، وأن شيعة العصر الحاضر يعتقدون عقائد يرونها من ضرورات المذهب وأركانه، وهي عند قدماء السيعة من الغلو والكفر. يقول هذا الشيخ وهو عبد الله الممقاني (¬2) . في معرض دفاعه عن ¬
المفضل بن عمرو الجعفي فيما رمي به من قبل بعض علماء الشيعة القدماء، يقول: "إنا قد بينا غير مرة أن رمي القدماء الرجل بالغلو لا يعتمد عليه ولا يركن إليه لوضوح كون القول بأدنكى مراتب فضائلهم (يعني الأئمة) غلواً عند القدماء، وكون ما نعده اليوم من ضروريات مذهب التشيع غلواً عند هؤلاء، وكفاك في ذلك عدّ الصدوق نفي السهو عنهم غلوًا، مع أنه اليوم من ضروريات المذهب، وكذلك إثبات قدرتهم على العلم بما يأتي (أي علم الغيب) بتوسط جبرائيل والنبي غلواً عندهم ومن ضروريات المذهب اليوم" (¬1) . من هذا النص يتبين أن شيعة العصر الحاضر لم يكتفوا بمتابعة سابقيهم حتى زادوا عليهم في الغلو والتطرف حتى أن شيوخ الشيعة في القرن الرابع كالصدوق وغيره يرون أن من يعتقد أن الأئمة لا يسهون، أو أن الأئمة يعلمون ما يأتي أو حسب عبارة الكليني: يعلمون ما كان وما يكون، ولا يخفى عليهم الشيء. من يعتقد هذه العقائد وأمثالها هو في نظر كبار شيوخ الشيعة في ذلك العصر من الغلاة الذين لا تقابل رواياتهم عن الأئمة، ولكن المذهب تغير وأصبح ذلك اليوم من ضرورات مذهب التشيع، كما يعترف الممقاني، ومعنى هذا أن الشيعة المتقدمين يعتبرون - بناء على ذلك - المعاصرين من الغلاة ولا يثقون بأقوالهم. ولاحظ أن الحكم بغلو أصحاب هذه العقائد صدر من قبل شيوخ الشيعة لا من قبل علماء السنة، ثم إن هذا رأيهم في القرن الرابع بعدما تغير التشيع وتطور، فكيف يكون موقف الشيعة الأول الذين كان تشيعهم هو في تقديم علي على عثمان فقط؟! ولعل هذه الظواهر هي التي دعت الشيخ محب الدين الخطيب يحكم بأن مدلول الدين عند الشيعة يتطور، وأشار في هذا إلى كلام الممقاني السالف الذكر، ثم قال: "هذا تقرير علمي في أكبر وأحدث كتاب لهم في الجرح والتعديل يعترفون ¬
فيه بأن مذهبهم الآن غير مذهبهم قديماً، فما كانوا يعدونه قديماً من الغلو وينبذونه وينبذون أهله بسبب ذلك صار الآن - أي الغلو - من ضروريات المذهب، فمذهبهم اليوم غير مذهبهم قبل الصفويين، ومذهبهم قبل الصفويين غير مذهبهم قبل ابن المطهر. ومذهبهم قبل ابن المطهر غير مذهبهم قبل آل بويه، ومذهبهم قبل آل بويه غير مذهبهم قبل الشيطان الطاق، ومذهبهم قبل شيطان الطاق غير مذهبهم في حياة الحسن والحسي وعلي بن الحسين" (¬1) . ¬
الفصل الثالث: الصلة العقدية بين القدامى والمعاصرين
الفصل الثالث: الصلة العقدية بين القدامى والمعاصرين وما دامت وحدة المصدر في التلقي موجودة، فهل نحتاج للحديث عن الصلة العقدية بين القدامى والمعاصرين، ولا سيما أن تلك المصدر قد استوعبت - كما بينا - معظم ما تناقلته كتب الفرق والمقالات من آراء غلاة الشيعة، وما لم تنقله؟ ! فهل هناك من داع لدراسة هذه الصلة العقدية؟ الواقع أن هناك حاجة.. ذلك أن المعاصرين قد أكثروا من طبع الكتيبات والرسائل، وبعث الدعاة للعالم الإسلامي.. لبيان أن مذهب الشيعة لا يختلف عن مذهب أهل السنة.. وأن هذه الطائفة مظلومة مفترى عليها من قبل الخصوم والأعداء، فنسب إليها عقائد وأقول هي بريئة منها.. ونشط دعاة منهم للدعوة للتقريب بين أهل السنة والشيعة، ورفعت شعارات الواحدة الإسلامية.. وأقيمت مراكز وألفت كتب، وتخصص دعاة لهذا الغرض.. وقيل بأن المعاصرين قد تخلوا عن ذلك التطرف والغلو المعهود عند سابقيهم. وأنه قد آن الأوان لأن تلتقي السنة والشيعة على كلمة سواء فكيد الأعداء كبير ووضع العالم الإسلامي خطير. ثم ما أكثر ما يقول بعض شيعة العصر الحاضر حينما تقول لهم بأن عندكم حديث يقول بكذا، أو أن شيخكم فلان يقول بكذا.. فيقولون: ليس كل ما ورد في كتبنا نرتضيه. أو ما يقول به الشيخ فلان هو المسؤول عن قوله ولا حجة إلا في كلام المعصوم.
أو يقولون بأن أهل السنة يقولون مثل ذلك، وكثيراً ما يفترون ويتجاوزون ويتحايلون في هذا بشكل عجيب، ولهذا دعت الحاجة لبيان رأي المعاصرين في القضايا الأساسية والخطيرة التي تفصل بينهم وبين الجماعة، أو تحول بينهم وبين الإسلام. وهناك أقلام شيعية كثيرة قد وظفت للكتابة للعالم الإسلامي، والرد على ما يثار حول الشيعة، وأعطتهم عقيدة التقية حرية القول وإطلاق الأحكام بلا تأثم بينما هناك كتب خاصة لا تنشر في العالم الإسلامي (¬1) . أو بعبارة أخرى أن هناك وجهاً ظاهراً للاثني عشرية تقدمه وسائل الإعلام الشيعية المختلفة للترويج للمذهب ونشره في العالم الإسلامي، ووجه باطن لا يظهر إلا في الحوزات العلمية وفي المجتمعات الشيعية، وفي أمهات مصادرهم كالكافي وتفسير القمي. وقد صدّق من صدّق ذلك الأسلوب "الدعائي" أو الوجه المعلن.. وتأثر بذلك من تأثر.. ووجد التشيع طريقه إلى قلوب أعداد غير قليلة من شباب العالم الإسلامي، والمنتسبين للحركات الإسلامية، الذين أرق عيونهم الواقع المفجع للعالم الإسلامي، فطفقوا يبحثون عن طريق ومخلص.. وكانت صورة العدو الظاهر أمامهم بكل غطرسته وكيده قد حجبت عنهم العدو الكامن بينهم، والمتستر بإسلامهم فصدقوا ما يقال.. وتعجلوا الخطى.. وظنوا أن كل ما يقال من خلاف بين السنة والشيعة هي ضجة مفتعلة، لا رصيد لها من الواقع (¬2) . ولذلك لابد من استماع لما يقوله شيوخ الشيعة المعاصرون في عقائدهم الخطرة التي تفصل بينهم وبين المسلمين، وسأختار من هذه الآراء ما فيه دعوى ¬
جديدة أو تغيير، أو زيادة تطور وغلو عما مضى ذكره عن سابقيهم لتتضح مدى صلة السابقين باللاحقين وذلك من خلال المباحث التالية:
المبحث الأول: عقيدة المعاصرين في كتاب الله
المبحث الأول: عقيدة المعاصرين في كتاب الله ونتحدث عن ذلك في مجالين: المجال الأول: ما امتلأت به كتب الشيعة من أساطير تقول بأن في كتاب الله نقصاً وتحريفاً. وما تفوه به بعض زنادقتهم من القول بهذا مما عرضنا له فيما سبق.. فماذا يقول شيعة العصر الحاضر عن هذه القضية التي تحول بينهم وبين الإسلام.. وهم يسطون في الدعوة للتقارب مع أهل السنة.. ويرفعون شعار الوحدة الإسلامية؟! المجال الثاني: ماذا يقول شيعة العصر الحاضر عن ذلك التأويل الباطني لكتب الله والذي هو تحريف لمعناه وإلحاد في آياته.. والذي يجعل من كتاب الله كتاباً آخر غير ما في أيدي المسلمين مما عرضنا صورة له فيما سلف. المجال الأول: نستطلع فيما يلي آراء المعاصرين في "فرية التحريف" التي شاع الحديث عنها في كتب لشيعة. فمإذا نجد؟ نجد وجوهاً أربعة مختلفة: الوجه الأول: إنكار وجودها في كتبهم أصلاً. الوجه الثاني: الاعتراف بوجودها ومحاولة تبريره.
الوجه الثالث: المجاهرة، والاحتجاج علي هذا الافتراء. الوجه الرابع: التظاهر بإنكار هذه الفرية، ومحاولة إثباتها بطرق ماكرة خفية.
الوجه الأول: إنكار وجودها في كتبهم أصلا
الوجه الأول: إنكار وجودها في كتبهم أصلاً لقد اتجه صنف من شيوخهم إلى إنكار وجودها أصلاً، ومن هؤلاء عبد الحسين الأميني النجفي في كتابه الغدير، وذلك حينما رد على ابن حزم ما نسبه إلى الشيعة من القول بهذه المقالة، فقال هذا النجفي: "ليت هذا المجترئ أشار إلى مصدر فريته من كتاب للشيعة موثقة به، أو حكاية عن عالم من علمائهم تقيم له الجامعة وزناً، بل نتنازل معه إلى قول جاهل من جهالهم، أو قروي من بسطائهم أو ثرثار، كمثل هذا الرجل يرمي القول على عواهنه، وهذه فرق الشيعة في مقدمتهم الإمامية مجمعة على أن ما بين الدفتين هو ذلك الكتاب لا ريب فيه" (¬1) . ويقول عبد الحسين شرف الدين الموسوي: "نسب إلى الشيعة القول بالتحريف بإسقاط كلمات وآيات فأقول: نعوذ بالله من هذا القول ونبرأ إلى الله من هذا الجهل. وكل من نسب هذا الرأي إلينا جاهل بمذهبنا أو مفتر علينا، فإن القرآن الحكيم متواتر من طرقنا بجميع آياته وكلماته (¬2) . كما نفى لطف الله الصافي أن يكون كتاب فصل الخطاب قد ألف لإثبات هذه الفرية، وقال بأن القصد من تأليفه محاربتها (¬3) ، كما نهض بعضهم للدفاع عن الكليني الذي هو أحد أعمدة هذا الكفر (¬4) . ¬
النقد: إن إنكار ما هو واقع لا يجدي شيئاً في الدفاع، وسيؤول من جانب الشيعة ومن جانب المطلعين على كتبهم من أهل السنة بأنه تقية.. فالمسألة اليوم لم تعد تقبل مثل هذا الأسلوب في الرد، فقد فضحتهم مطلبع النجف وطهران، وقد كشف المستور، وأبان المخفي شيخهم الطبرسي فيما جمعه في كتابه "فصل الخطاب" فلا ينفع مثل هذا الموقف. وهذا المسلك في الإنكار يسلكونه في كل مسألة ينفردون بها عن المسلمين، كما نبه على ذلك شيخهم الطوسي في الاستبصار في أكثر من موضع بأن ما كان موضع إجماع من أهل السنة تجري فيه التقية (¬1) ، وبهذا المبدأ هدموا كل الروايات التي تتفق مع المسلمين وتعبر عن مذهب البيت وعاشوا مع المسلمين بالخداع ¬
والتزوير، يوافقونهم في الظاهر ويخالفونهم في الباطن. ولكن هذه التقية سرعان ما تنكشف في الوقت الحاضر، إذ إن كتبهم أصبحت بمتناول الكثيرين. فالنجفي الذي طلب - في رده على ابن حزم - أن يثبت دعواه بكلام أي فرد من أفراد الشيعة هل يجهل ما جاء في الكافي والبحار، وما صرح به شيوخهم في هذا الضلال مما مضى ذكره.. وهل يتصور أن هذا القول ينخدع به أحد في حوزته كتاب من كتبهم التي سارت على هذا الكفر؟. ومن العجيب أنه وهو ينكر وجود تلك المقالة في كتبهم في الجزء الثالث من كتابه نراه في الجزء التاسع من الكتاب نفسه يصرح هو بهذا الكفر، حيث قال وهو - يتحدث عن بيعة المهاجرين والأنصار لصديق هذه الأمة تلك البيعة العظيمة التي جمعت الأمة - وأحبطت مؤامرات أعدائها - قال: ".. بيعة عمت شؤمها الإسلام وزرعت في قلوب أهلها الآثام.. وحرفت القرآن وبدلت الأحكام" (¬1) . بل أورد آية مفتراة في نفس الكتاب (¬2) . وهكذا يثبت الرجل ما نفاه. وهذا الأسلوب: الإثبات مرة والإنكار مرة أخرى، والظهور أمام الناس بأقوال مختلفة ونصوص متناقضة مسلك لهم مطرد في أحديثهم وفي كلام شيوخهم، وقد ورد في أخبارهم بيان للسبب في هذا "النهج" وهو عدم وقوف العامة (أهل السنة) ¬
على حقيقة مذهبم فلا يتعرضون له بشيء (¬1) . أما أسلوب عبد الحسين في نفيه لهذا الأسطورة ففيه شيء من المكر والمراوغة قد لا ينتبه له إلا من اعتاد على أساليبهم وحيلهم.. تأمل قوله: "فإن القرآن الحكيم متواتر من طرقنا بجميع آياته وكلماته" ماذا يعني بالقرآن المتواتر من طرقهم؟ هل هو القرآن الذي بين أيدنا أو القرآن الغائب مع المنتظر كما يدعون؟! إن تخصيصه بأنه متواتر من طريقهم يلمس منه الإشارة للمعنى الأخير؛ ذلك أن القرآن العظيم كان من أسباب حفظه تلك العناية التي بذلها عظيما الإسلام أبو بكر وعمر، وأتمها أخوهما ذو النورين عثمان بن عفان في جمعه وتوحيد رسمه.. تحقيقًا لوعده عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (¬2) . ومعتقد الشيعة في الخلفاء الثلاثة معروفة، فهذا القرآن إذًا غير متواتر من طرقهم. أما المحاولة الغبية من لطف الله الصافي وأغا بزرك الطهراني في التستر على فضيحة الشيعة الاثني عشرية الكبرى، والعار الذي لا يستر: وهو "كتاب فصل الخطاب" فهي محاولة يائسة، لا سيما وأن هذا الكتاب قد خرج من الدوائر الشيعية ووصل إلى أيدي السنة، بل قد وصل إلى أعداء المسلمين ليستفيدوا منه في الكيد لهذا الأمة ودينها (¬3) . وقد نص في مقدمته على غرضه، وأقام الحجج المزعومة على مراده - كما سيأتي -. فهل يمكن التستر عليه وقد جمع كل أساطيرهم، وأقوال شيوخهم بعد أن كانت متفرقة؟. ¬
الوجه الثاني: الاعتراف بوجودها ومحاولة تبريره
الوجه الثاني: الاعتراف بوجودها ومحاولة تبريره وقد أتخذ هذا الاعتراف صوراً متعددة، فصنف منهم يعترف بأن عندهم بعض الروايات في تحريف القرآن ولكنه يقول: إنها "ضعيفة شاذة وأخبار آحاد لا تفيد علماً ولا عملاً، فإما أن تؤول بنحو من الاعتبار أو يضرب بها الجدار" (¬1) . وصنف يقول بأنها ثابتة، ولكن "المراد في كثير من رويات التحريف من قولهم عليه السلام: كذا نزل هو التفسير بحسب التنزيل في مقابل البطن والتأويل" (¬2) . وصنف ثالث يقول بأن القرآن الذي بين أيدينا ليس فيه تحريف، ولكنه ناقص قد سقط منه ما يختص بولاية علي "وكان الأولى أن يعنون المبحث تنقيص - كذا - الوحي أو يصرح بنزول وحي آخر وعدمه حتي لا يتمكن الكفار من التمويه على ضعفاء العقول بأن في كتاب الإسلام تحريفاً باعتراف طائفة من المسلمين" (¬3) .!!!. وصنف رابع يقول: نحن معاشر الشيعة نعتقد بأن هذا القرآن الذي بين أيدينا الجامع بين الدفتين (كذا يعني المجموع) هو الذي أنزله الله تعالى على قلب خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم من غير أن يدخله شيء بالنقص أو بالزيادة، كيف وقد كفل - كذا - الشارع بنفسه تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (¬4) . على أننا معاشر الشيعة (الاثني عشرية) نعترف بأن هناك قرآن كتبه الإمام علي ¬
رضي الله عنه بيده الشريفة، بعد أن فرغ من كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتنفيذ وصاياه، فجاء به إلي المسجد فنبذه الفارق عمر بن الخطاب قائلاً للمسلمين: حسبنا كتاب الله وعندكم القرآن، فرده الإمام إلى بيته ولم يزل كل إمام يحتفظ عليه كوديعة إلهية إلى أن ظل محفوظًا عند الإمام المهدي القائم عجل الله تعالى فرجنا بظهوره (¬1) . واتجاه خامس يقول: "وقع بعض علمائنا المتقدمين بالاشتباه فقالوا بالتحريف ولهم عذرهم، كما لهم اجتهادهم، وإن أخطأوا بالرأي، غير أنا حينما فحصنا ذلك ثبت لنا عدم التحريف فقلنا به وأجمعنا علية" (¬2) . وفريق سادس يقول بأن هذه الفرية، إنما ذهب إليها من لا تمييز عنده بين صحيح الأخبار وسقيمها من الشيعة وهم الإخباريون، أما الأصوليون فهم ينكرون هذا الباطل (¬3) . النقد: نبدأ في مناقشة الآراء السابقة علي حسب ترتيب عرضها: أولاً: إن القول بأن تلك "الأساطير" هي في مقياس الشيعة روايات ضعيفة شاذة يرد عليه ما ردده طائفة من شيوخهم من القول باستفاضتها وتواترها كالمفيد والكاشاني، ونعمة الله الجزائري وغيرهم، بل إن المجلسي جعل أخبارها كأخبار الإمامة في الكثرة والاستفاضة - كما سلف -، كما أن هذه المقالة قد أصبحت مذهباً لطائفة من كبار شيوخهم. ومع ذلك فإن هذا الحكم من كبير علماء الشيعة على تلك الروايات بالشذوذ مع كثرتها التي اعترف بها شيوخهم تدل على شيوع الكذب في هذا المذهب بشكل كبير، وهذا الحكم المعلن - إن كان بصدق - ينبغي أن يكون دافعاً ¬
للحكم على عقائد الشيعة الأخرى التي شذّت بها عن المسلمين، كما ينبغي أن يكون منطلقاً لنقد رواياتهم وجرح رجالهم، فمن روى تلك الروايات وجعلها مذهبه لا ينبغي أن يوثق به كالكليني وإبراهيم القمي الذين كان لهما النصيب الأكبر في تأسيس هذا الكفر في مذهب الشيعة وإشاعته بينهم (¬1) . ثانياً: أما القول بأن المقصود بروأيات الشيعة في هذا هو تحريف بعض النصوص التي نزلت لتفسير آيات القرآن فهذا تأكيد للأسطورة وليس دفاعاً عنها؛ ذلك أن من حرّف وردّ وأسقط النصوص النازلة من عند الله والتي تفسر القرآن وتبينة، هو لرد وتحريف الآيات أقرب، ومن لم يكن بأمين على المعنى كيف يؤتمن على اللفظ؟ ثم إذا فقدت المعاني ما قيمة الألفاظ؟ ثم كيف يكون تفسير الصحابة هو تحريف نظر هذه الفئة، و"تحريفات" القمي والكليني والمجلسي لمعاني القرآن هي التفسير، والتي لا يشك من له أدنى صلة بلغة العرب أنها إلحاد في آيات الله وتحريف لها، وإذا فقدت معاني القرآن وغابت مع المنتظر فكيف تهتدي الأمة بآياته أم تبقى الأمة ضائعة تائهة؟! ثم إنك ترى أن "النموذج" الذي أخرجوه لنا على أنه من معاني القرآن الوارد عن الأمة يكفي مجرد تأمله لمعرفة كذبة فكيف يجعل هو "التفسير الإلهي" الذي رده الصحابة كما يفترون؟! ¬
على أن هذا "التأول لنصوص الأسطورة" لا يتلاءم مع كثير من تلك الروايات؛ إذ إن في رواياتهم "المفتراة" التصريح بأن النص القرآني قد شابه - بزعمهم - تغيير في ألفاظه وكلماته (¬1) فهذا التأويل ليس بمخرج سليم من هذا العار والكفر.. والموقف الحق هو ردها ورد مرويات من اعتقدها لأنه ليس من أهل القبلة. ثالثاً: أما القول بأن القرآن ناقص وليس بمحرف فهذا كسابقه ليس بدفاع ولكنه تأكيد لأساطيرهم وطعن في كتاب الله بما يشبه الدفاع فكيف تهتدي الأمة بقرآن ناقص، ومن قدر واستطاع على إسقاط قسم منه هو قادر على تحريف ما بقي.. ولكن الشيء من معدنه لا يستغرب فصاحب هذا القول هو أغا بزرك الطهراني وهو تلميذ النوري صاحب "فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب". ولذلك ترى هذا الطهراني يحاول خداع المسلمين بزعمه أن مؤلف فصل الخطاب شافهه أنه أراد الدفاع عن القرآن وإنما أخطأ في العنوان (¬2) . فهو يحاول أن يتستر على معتقده الباطل بأساليب من المكر والمراوغة، وهاهو ينكشف بهذا الدفاع فهو يصرح بأن للقرآن بقية، وأن للوحي الإلهي تكملة، وأن الأولى أن ¬
يُعَنون بدل التحريف بعنوان "نقص القرآن أو نزول وحي إلهي آخر"، ويزعم أن في هذا دفاعاً عن القرآن أمام الأعداء؟ وهذا هو مبلغ دفاعه عن القرآن والإسلام - سبحانك هذا بهتان عظيم ـ. رابعاً: أما ما قاله المصنف الرابع بوجود قرآن عند منتظرهم.. فهذا يعني أن الدين لم يكمل، والله يقول {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (¬1) ثم ما فائدة العبادة من كتاب غائب مع منتظر مضى عل احتجابه - المزعوم - قرون، فإن كان لابد منه فما حكم الشيعة على ما مضى من القرون بما فيهم أسلافهم من الشيعة هل هم على ضلال.. وإن كانت الأمة تهتدي بدونه فما قيمة كل هذه الدعاوى؟! الحقيقة أن كل هذه "الترهات" لإقناع أتباعهم بما عليه الرافضة من شذوذ لا شاهد لها من كتاب الله، فحالوا التلبيس على الأتباع والتغرير بهم بأن دليلها يوجد في القرآن الآخر، أو الكامل، أو المفسر الغائب مع المنتظر. ثم إن مسألة وجود قرآن آخر، ومسألة الطعن في كتاب الله سبحانه هما في كتب الشيعة الأساسية مسألة واحدة لا تنفصل إحداهما عن الأخرى، فهم يزعمون أن علياً جمع القرآن بتمامه وجاء به إلى الصحابة فردوه وألفوا قرآناً حذفوا منه ما يتصل بولاية علي.. وبقي القرآن المزعوم يتوارثه الأمة حتى وصل إلى المنتظر؟ فهذا الرافضي ومن على منهجه أراد الخداع والتلبيس، فتراه يتدرج بالقارئ المسلم لإقناعه بهذه الفرية بإطلاعه علي أحد وجوهها. خامساً: أما الفئة الخامسة الذين يقولون بأن القول بالتحريف رأي خاطئ، وضلال سابق كنا نذهب إليه ثم تبين لنا الحق فعدلنا عنه. فإنه ليسر المسلم أن يرجعوا عن هذا الملف الفاسد.. ولكن هذا القول قد يكون للتقية ¬
أثر فيه.. ذلك أن أصحاب هذه المقالة والكتب التي حوت هذا الكفر، هي محل تقدير عند هؤلاء، وصدق الموقف في هذه المسألة يقتضي البراءة من معتقديها وكتبهم كالكليني وكتابة الكافي، والقمي وتفسيره وغيرهما ممن ذهب إلى هذا الكفر، فكيف يكونون إلى اليوم موضع القدوة، ومحل الثقة، تعتمد كتابهم كمصادر في تلقي العقيدة والشريعة، ويوثق بأقوالهم ويقتدى بأفعالهم؟! ثم إن القول بأن الاثني عشرية أجمعهم رجعوا عن هذا منقوض بصنيع عالمهم المعاصر حسين النوري الطبرسي في كتابه "فصل الخطاب"، والذي ألفه لإثبات هذه الفرية - كما سلف -. وهو منقوض أيضاً بكتاب تحريف القرآن لسيدهم علي تقي بن السيد أبي الحسن النقوي اللكنهوي - المعاصر -المولود سنة (1323هـ) وهو بالأردية (¬1) . وغيرهما من مؤلفاتهم في هذا الضلال، وهو معارض أيضاً بما قدمناه عن أغا بزرك الطهراني والأميني النجفي وغيرهما. فلا تزال فئة منهم يتيهون في هذا الضلال ويضربون فيه بسهم.. ثم لِمَ يقال في أمر أجمع عليه المسلمون وهو سلامة كتاب الله سبحانه وحفظ الله له لِمَ يقال إن من خالف فيه له عذره واجتهاده، وهل هي مسألة اجتهادية، وهل فيها عذر وتأويل سائغ..؟ سادساً: أما ما ذهبت إليه الطائفة الأخيرة من أن هذه المقالة لم يقال بة كل الاثني عشرية وإنما هي مقالة لفرقة منهم وهم الأخباريون الذين لا يميزون بين صحيح الحديث وسقيمه.. فهذا قول قاله أيضاً بعض شيوخ الشيعة القدامى وهو الشريف المرتضى، حيث قال: "من خالف في ذلك من الإمامية لا يعتد بخلافهم، فإن الخلاف في ذلك مضاف إلى قوم من أصحاب الحديث (من الشيعة) نقلوا أخباراً ضعيفة وظنوا صحتها لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع على صحته" (¬2) . ¬
كما أن القول بأن هذه الفرية خاصة بالأخباريين قالها وأكدها مرجع الشيعة الأكبر في عصره جعفر النجفي المتوفى سنة (1227هـ) . ولكنه وهو من الأصوليين يذهب في روايات التحريف الواردة في كتب الشيعة مذهباً لا يقل خطورة عن رأي إخوانه الأخباريين، حيث قال بعد أن ذكر أن تلك الفرية هي رأي للأخباريين وهو باطل بدلاله العقل والنقل وما علم من الدين بالضرورة، قال: "فلا بد من تنزيل تلك الأخبار، إما على النقص من الكلمات المخلوقة (¬1) . قبل النزول إلى سماء الدنيا، أو بعد النزول إليها قبل النزول إلى الأرض، أو على أن نقص المعنى في تفسيره، والذي يقوى في نظر القاصر التنزيل على أن النقص بعد النزول إلى الأرض، فيكون القرآن قسمين: قسم قرأه النبي صلى الله عليه وسلم على الناس وكتبوه وظهر بينهم وقام به الإعجاز، وقسم أخفاه ولم يظهر عليه أحد سوى أمير المؤمنين رضي الله عنه، ثم منه إلى باقي الأئمة الطاهرين، وهو الآن محفوظ عند صاحب الزمان جعلت فداه" (¬2) . لم يجرؤ صاحب كشف الغطاء - كما ترى - أن يكذب تلك الأساطير كما فعل المرتضى، بل تاه في بيداء من التكلفات والتمحلات حتى وقع في شر مما فر منه، أو كاد. لقد زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم كتم قسماً من القرآن أنزله الله عليه، ولم يبلغ به أحداً من أمته سوى علي، وأن علياً أخفاه عند أبنائه وهو اليوم عند المنتظر فماذا بعد هذا الافتراء؟! ¬
الوجه الثالث: المجاهرة بهذا الكفر والاستدلال به
الوجه الثالث: المجاهرة بهذا الكفر والاستدلال به والذي تولى كبر هذا البلاء المدعو حسين النوري الطبرسي المتوفى سنة (1320هـ) ، الذي ألف كتابه "فصل الخطاب" لإثبات هذه الأسطورة. ولربما الأول مرة في التاريخ يحدث هذا الجمع "لأساطير" الشيعة المتفرقة وأقوال شيوخها، والآيات المفتراة التي يزعمونها في كتاب واحد يطبع وينشر.. ليصبح فضيحة لهم أبد الدهر.. ولو كان للمسلمين قوة وسلطان لعقدت المحاكم لهذا الكتاب وصاحبه وحكم في ضوئه على دخول الاثني عشرية في الإسلام أو خروجها منه، وارتاح المسلمين من شر أولئك المرتزقة الذين ينتشرون في العالم الإسلامي لنشر التشيع.. وأفاق من غرّر به شيوخ الشيعة من أولئك الأتباع الجهلة.. الذين لا يدركون من التشيع إلا أنه حب آل البيت الذي سيدخلهم الجنة بغير حساب! ولقد قام الأستاذ إحسان إلهي ظهير بنشر قسم كبير من الكتاب في كتابه الشيعة والقرآن.. مع ذكر أدلة هذا المفتري وشبهه، ومع أن ذلك يعد كشافاً لحقيقة الاثني عشرية في هذا العصر، إلا أن الأستاذ إحسان قد اكتفى بنقل النصوص دون تعليق أو نقد.. وهذا من الخطورة بمكان، ولا سيما أن المؤلف قد ذكر اثنتي عشرة شبهة لإثبات فريته، وهي وإن كانت أشبه بخيوط العنكبوت إلا أن فيها ما قد يخفى على بعض من لا علاقة له بالعلم الشرعي، فكان من الواجب أن تكشف ترهاته وأن تدك شبهاته. ويؤتى عليها من القواعد. وفيما يلي عرض موجز لمحتويات هذا الكتاب باعتبار أن مؤلفه من المعاصرين (¬1) . مع نقده وكشف شبهاته وأغاليطه - ¬
بحول الله -. بناء على أن كتاب إحسان قد سار بها في كل مكان في العالم الإسلامي ولم تحظ منه بنقد ولا رد على أساس أن الأمر أوضح من أن يبين، ومجرد عرض هذه الفرية كاف في بيان بطلانها.. وأقول: إن هذا حق باعتبار أصل الفرية ومنطلقها، ولكن الشبه التي أثارها لابد من أبطالها وكشف ضلالها. لقد قام المؤلف بكشف الغطاء عن عقيدة الشيعة الاثني عشرية في تحريف القرآن وجمع ما تفرق من أخبارهم فيها، ونقل تصريحات شيخهم بتواترها، وأنها تزيد على ألفي حديث، واتهم صحابة رسول الله بتحريفه والتواطؤ على ذلك ولم يستثن من ذلك سوى أمير المؤمنين علي، وهذا الاستثناء صوري، إذ إن لازم قوله تواطؤ الجميع، لأن القرآن الذي عند علي والسالم من التحريف بزعمهم لم يظهره علي ولا إبان خلافته.. ثم قدّم - من كتبهم - (1062) رواية معظمها تقول في آيات من كتاب الله أنها خطأ ويذكر تصويبها من كتبهم الأسطورية، فيرد ما أجمعت عليه الأمة ويرتضي ما قاله حثالة من الأفاكين. كما لم يجبن عن ذكر بعض "سور" بكاملها تتناقلها الدوائر الشيعية وليس لها ذكر في المصحف، وعلامة الكذب والافتراء واضحة بيّنة في نصها ومعناها لا يخفى إلا على أعجمي جاهل ولا يروّجها إلا زنديق مغرّض. كما رد على من أنكر التحريف من طائفته وبيّن أن إنكار القدامى كان تقية وأن من أنكر أخبار التحريف يلزمه رد أخبار الإمامة لما بينهما من تلازم. وهذا الكتاب الذي حوى هذا الكفر قد طبع في إيران سنة (1298هـ) وما إن خرج حتى انزعج كثير من الشيعة لظهوره، وقد وصف أحد شيوخهم ذلك فقال: "فلا تدخل مجلساً في الحوزة العلمية إلا وتسمع الضجة والعجة ضد
ذلك الكتاب ومؤلفه وناشره يسلقونه بألسنة حداد" (¬1) . ويرى الأستاذ محب الدين الخطيب أن سبب الضجة أنهم يريدون أن يبقى التشكيك في صحة القرآن محصوراً بين خاصتهم ومتفرقاً في مئات الكتب المعتبرة عندهم، وأن لا يجمع ذلك كله في كتاب واحد تطبع منه ألوف من النسخ ويطلع عليه خصومهم فيكون حجة عليهم ماثلة أمام أنظار الجميع، ويقول: ولما أبدى عقلاؤهم هذه الملاحظات خالفهم فيها مؤلفه، وألّف كتاباً آخر سماه (رد بعض الشبهات عن فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب) (¬2) . وإذا كان غلاة الشيعة يحاولون التستر علي هذه الفضيحة في معظم الأحيان بحكم عقيدة التقية التي أصبحت لهم حصناً وملاذاً، وأن تلك الضجة التي حدثت قد شارك فيها من يذهب إلى هذا الكفر ويرى وجوب التستر عليه صيانة لسمعة قومه، ووقاية لدينهم من فضيحة تزلزل كيانهم، وتمنع انتشار عقيدتهم، فإنني لا أجزم كالأستاذ محب الدين في تعميم هذا الحكم على كل الشيعة، بل إن هناك فئة من الشيعة لا تزال تنكر هذا الكفر وتتبرأ منه، وقد كتبوا ردوداً على كتاب فصل الخطاب من هذا المنطلق - فيما يظهر - مثل ما كتبه شيخهم وآيتهم محمد حسين المرعشي في كتابه الموسوم ب"رسالة حفظ الكتاب الشريف من شبهة القول بالتحريف" وهو رد على كتاب فصل الخطاب (¬3) . كما أنني ألاحظ من خلال كتاب فصل الخطاب أنه يرد على المنكرين لهذا الفرية من قومه، ويجادلهم في هذا الأمر، ومن يقرأ الكتاب يرى أنه ألف لإقناع من خالف هذا الكفر من الشيعة (¬4) . ثم أن ما كتبه صاحب فصل الخطاب بعنوان "رد بعض الشبهات عن فصل ¬
الخطاب.." كما يقول محب - رحمه الله - ليس - فيما يبدو - للرد على من قال: إن هذه القضية ينبغي أن تكون سرية بينهم؛ ذلك أن ما يشير إليه محب صورته الظاهرة كالآتي: لما ظهر كتاب "فصل الخطاب" قام بالرد عليه شيخهم محمود بن أبي القاسم الشهير بالمعرب الطهراني بكتاب سماه "كشف الارتياب في عدم تحريف الكتاب" وقد نقل لنا صاحب الذريعة أول رد لصاحب كشف الارتياب، وهو يفيد إنكار التحريف لا الدعوة إلى التستر عليها. قال صاحب الذريعة: "وأول شبهات" (¬1) . "كشف الارتياب" هو أنه إذا ثبت تحريف القرآن فلليهود أن يقولوا: إذاً لا فرق بين كتابنا وكتابكم في عدم الاعتبار" (¬2) . فكتب الطبرسي رداً عليه - وهو ما يشير إليه محب فيما يبدو - في كتاب سماه "الرد على كشف الارتياب" (¬3) . قال صاحب الذريعة: "وكان يوصي كل من عنده فصل الخطاب أن يضم إليه هذه الرسالة التي هي في دفع الشبهات التي أوردها الشيخ محمود عليه وهي فارسية لم تطبع بعد". وكان جواب الطبرسي في رده على دليل صاحب كشف الارتياب محاولة منه للتراجع، وبرهاناً على التناقض، حيث قال: "هذه مغالطة لفظية حيث إن المراد بالتحريف ... غير ما حملت عليه ظاهراً للفظ، أعني التغيير والتبديل والزيادة والتنقيص وغيرها المحقق والثابت جميعها في كتب اليهود وغيرهم، بل المراد من التحريف خصوص التنقيص فقط في غير آيات الأحكام جزماً، وأما الزيادة ¬
فالإجماع المحقق الثابت من جميع فرق المسلمين والاتفاق العام من كل منتحل للإسلام على عدم زيادة كلام واحد في القرآن المجموع فيما بين هاتين الدفتين ولو بمقدار أقصر آية يصدق عليه كلام فصيح، بل الإجماع والاتفاق من جميع أهل القبلة على عدم زيادة كلمة واحدة في جميع القرآن، بحيث لا نعرف مكانها، فأين التنقيص الإجمالي المراد لنا عما حملت ظاهر اللفظ وهل هذا إلا مغالطة لفظية؟ " (¬1) . هذا جزء مما دار في الرسالتين، نقله لنا صاحب الذريعة وهو يكشف أن الحوار كان في مسألة وقوع التحريف من عدمه، لا في وجوب التستر على هذه الفرية، وهو لا ينفي أن يوجد اتجاهٌ عند الشيعة يرى ضرورة التستر صيانة لحرمة المذهب.. ولكنه ينفي تعميم الحكم بهذا على الجميع. هذا وفي كلام صاحب الذريعة الذي لخصه، من الرسالة الفارسية لصاحب فصل الخطاب ونقلناه مع صياغته التي يبدو علها أثر العجمة تخليط وتناقض وتقية وضح دليلها في أثناء كلامه كما هي عادة هؤلاء الروافض في الغالب (¬2) . وهذا الكتاب رتبه مؤلفه - عليه من الله ما يستحق - على ثلاث مقدمات وبابين. ¬
ففي المقدمة الأولى نقل مجموعة من أخبارهم التي تتحدث عن جمع القرآن - حسب تصور هؤلاء الزنادقة - كرواية ثقة دينهم التي تقول: "ما ادعى أحد من الناس أنه جمع القرآن كله، كما أنزل إلا كذاب، وما جمعه وحفظه كما أنزل الله إلا علي بن أبي طالب والأئمة من بعده". وهذا مبني على مذهب الشيعة في القول بعصمة رجل واحد وهو علي، وضلال الأمة بأجمعها، وهو من آثار البيئة الفارسية التي تحيط ملوكها بهالة من التقديس. وما أسخف عقلاً يرد ما أجمع عليه الصحابة كلهم، ويدعي أن لا ثقة إلا بقل واحد منهم، مع أن هذه الدعوى لا وجود لها غلا في خيالات هؤلاء الزنادقة، فلم يعرف علي والأمة إلا هذا القرآن. ثم يواصل نقله عن "قرآن علي" الذي لم يُنقص منه حرف كما يزعمون.. فينقل مجموعة من رواياتهم ينتهي القارئ لها إلى أن العقل الشيعي.. من أسرع العقول إلى تصديق الخرافة، فهو يؤمن بكتاب لا وجود له إلا في أساطيرهم ويكفر بقرآن أجمعت علية الأمة.. بما فيهم الأئمة. تتحدث هذه الأساطير عن جمع عليّ للقرآن وعرضه على الصحابة ورد الصحابة له.. فيورد من هذه الروايات خبر الشيعي الذي التقى بمنتظرهم - والذي لم يولد أصلاً - وفيه يقول له المنتظر: "لما انتقل سيد البشر محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وآله من دار الفناء وفعلا صنماً (¬1) . قريش ما فعلا من نصب الخلافة جمع أمير المؤمنين رضي الله عنه القرآن كله ووضعه في إزار وأتى به إليهم وهم في المسجد، فقال لهم: هذا كتاب الله سبحانه أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أعرضه عليكم لقيام ¬
الحجة عليكم يوم العرض بين يدي الله تعالى، فقال له فرعون هذه الأمة ونمرودها (¬1) : لسنا محتاجين إلى قرآنك، فقال له: أخبرني حبيبي محمد صلى الله عليه وآله بقولك هذا وإنما أردت بذلك إلقاء الحجة عليكم، فرجع أمير المؤمنين إلى منزله.. فنادى ابن أبي قحافة بالمسلمين وقال لهم: كل من عنده قرآن من آية أو سورة فليأت بها، فجاءه أبو عبيدة بن الجراح، وعثمان، وسعيد بن أبي وقاص، ومعاوية بن أبي سفيان، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله، وأبو سعيد الخدري، وحسان بن ثابت، وجماعات المسلمين وجمعوا هذا القرآن وأسقطوا ما كان فيه من المثالب التي صدرت عنهم بعد وفاة سيد المرسلين صلى الله عليه وآله، فلذا ترى الآيات غير مرتبطة، والقرآن الذي جمعه أمير المؤمنين بخطه محفوظ عند صاحب الأمر عجل الله فرجه وفيه كل شيء حتى أرش الخدش. وأما هذا القرآن فلا شك ولا شبهة في صحته، وأنه من كلام الله سبحانه، هكذا صدر عن صاحب الأمر" (¬2) . وهذا النص نقلناه رغم طوله، لأن معظم حكاياتهم تدور على ما جاء فيه. فالمسألة أصلاً نابعة من حقد هذه "الفئة" على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبغضها للدين الذي يحملونه. فأنت ترى أن الحديث عن مثالب الصحابة وأن من جمع القرآن - بزعمهم - قد أسقطها فأباح هؤلاء بالسر المكنون وكشفوا المستور، وما تخفي قلوبهم أعظم. ثم إذا رفض الصحابة القرآن - كما يزعمون - فلم يحجب عن الأجيال والقرون التي بعدهم؟ وإذا قامت الحجة على الصحابة فإنها لم تقم على من بعدهم.. وكيف لم يُقم عليٌّ الحجة وهو في قوة سلطانه إبان خلافته؟ ¬
إن أساطيرهم تنقض نفسها بنفسها. وإذا امتنع الصحابة عن قبوله - كما يزعمون - أليس في الأمة من يقبله عبر مراحل القرون كلها، وفيهم من صحب الأئمة، والتقي بالمنتظر.. وقامت للشيعة دول وسلطان؟ فلماذا يحجب عنهم ويظل مع الغائب في سرادبه؟ ألا يؤكد هذا لكل عاقل خرافة هذه الدعوى بغض النظر عن جميع الأدلة الأخرى، بل إن صاحب فصل الخطاب ينقل في هذه المقدمة أخباراً تقول إن علياً امتنع عن تسليم القرآن الذي جمعه للصحابة حينما طلبوا منه ذلك، واحتج بأنه لا يمسه إلا المطهرون، وأن المطهرين هم الأئمة الاثني عشر (¬1) . وهذه قاصمة الظهر.. فعليٌّ كما يفترون - هو الذي رفض إبلاغ القرآن، وادعى أنه خاص به وبولده.. وهذا لا يقول به أحد من المسلمين فضلاً عن أمير المؤمنين، فهو كلام المقصود به الإساءة إلى أهل البيت والطعن فيهم، ولذلك ذهبت بعض فرق الشيعة كالكاملية إلى تفكير أمير المؤمنين عليّ. وهذه الآثار التي جمعتها كتب الاثني عشرية تؤدي إلى هذا المذهب، فهؤلاء يشايعون الشيطان ولا يشايعون أمير المؤمنين، ومن ينزه أمير المؤمنين من هذه الأباطيل وأمثالها هم شيعته وأنصاره على الحقيقة. أما المقدمة الثانية عنده فتتضمن صور التحريف التي يزعم وقوعها في كتاب الله سبحانه أو امتناعها، فعرض مجموعة من الصور التي أوحاها له شيطانه: في السورة، والآية، والكلمة، والحرف. وقرر "أن زيادة السورة وتبديلها بأخرى أمر ممتنع (¬2) .؛ لأن الله يقول: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ} (¬3) فهو يقول بأن القرآن الذي بين أيدي المسلمين لا زيادة فيه أصلاً؛ لأن البشر عاجزون عن الإتيان ¬
بسورة من مثله.. ولكنه ينقض هذا حينما يزعم أن "نقصان السورة جائز كسورة الولاية" (¬1) . فهو بهذا يزعم أن في كتاب الله نقصاً، ويمثل لذلك بسورة الولاية، ولا شك أن هذه الدعوى تتضمن زيادة سورة على كتاب الله، وهو قد قرر امتناعها.. ثم إن هذه السورة المفتراة يشهد نصها على كذبها.. وقد كشف ذلك بعض شيوخ الشيعة أنفسهم (¬2) . وهي عبارة عن نص ملفق، وتركيب متهافت، ومعنى ساقط يتضح من خلاله أن واضعه أعجمي جاهل - كما سيأتي -. ويقول: إن زيادة آية على القرآن، أو تبديل آية بأخرى هو أيضاً منتف بالإجماع، ثم يناقض ذلك بزعمه أن نقصان الآية غير ممتنع (¬3) . أما زيادة كلمة في القرآن فيرى على ضوء أساطيرهم أنها ممكنة، ويمثل لذلك بقوله: كزيادة "عن" في قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ} (¬4) . فهو يفتري أن القرآن زيادة كلمة "عن"، وغرض الرافضة في هذا الزعم أن الأنفال كانت خاصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم هي للأئمة الاثني عشر المعصومين من بعده، والصحابة إنما كانوا يسألون الرسول أن يعطيهم منها على سبيل الصدقة ولم يكن سؤالها عن حكمها، وهذا لا يتأتى للرافضة إلا بحذف كلمة "عن". ثم يقول: نقصانها - أي الكلمة - وهو كثير ك"في عليّ" في مواضع، أي أن اسم علي ورد بزعمهم في القرآن، وحذفه الصحابة، وهذه دعوى لإسكات أتباعهم الذين داهمهم الشك في مذهبهم الذي لا شاهد له من كتاب الله، وهذا أحد الأساليب القريبة التي دفعت الرافضة للقول بهذه الفرية.. وأما الأسباب ¬
البعيدة وجذور هذه المقالة فهي هدم التشيع أصلاً وإبعاد الشيعة عن الإسلام كلياً. ثم بعد ذلك يذكر من الصور للتغير المزعوم في كتاب الله تبديل الكلمات ويقرر علي هدي من خرافاتهم وقوعه فيقول: " كتبديل آل محمد بعد قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ} (¬1) . بآل عمران" وواضح غرض الشيعة من ذلك فهي تبحث بأي وسيلة عما يثبت ذكر أئمتهم في كتاب الله؛ إذ كيف يذكر آل عمران ولا يذكر أئمتهم..؟ ثم يتحدث عن الحرف فيرى بمقتضى أساطيرهم أن زيادته ونقصانه أمر ممكن وواقع، فيقول: "نقصان الحرف كنقصان "همزة" من قوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} (¬2) ، و"يا" في قوله تعالى: {يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} (¬3) ". والهدف من خلال هذا الافتراء مكشوف، فأمة محمد في قاموس هؤلاء القوم الذين أكل الحقد قلوبهم عليها؛ لأنها فتحت ديارهم وأسقطت عروشهم، ونشرت الإسلام بينهم، هذه الأمة في اعتقادهم ملعونة ضالة ظالمة.. ويؤلمهم أن يثني الله سبحانه عليها، فحاولوا أن يجعلوا الثناء خاصاً بالاثني عشر الذين لم يولد آخرهم أصلاً.. فقالوا: إنها ليست الأمة، بل الأئمة. وكذلك أرادوا من افترائهم بزيادة الياء في قوله "تراباً" أرادوا ترابياً والهدف النسبة إلى علي الذي كان يلقب بأبي تراب، وأن الكافر يقول: يا ليتني كنت ترابياً أي: من شيعة علي، وما أدري لِمَ لا يتمنى أن يكون من شيعة محمد، وهل عليٌّ أفضل من محمد؟! إلى آخر هذيانه.. الذي عاد على الشيعة بأسوأ العواقب.. وأورثها العار ¬
إلى الأبد. المقدمة الثالثة: وعقدها لذكر أقول شيوخ طائفته في تغيير القرآن وعدمه فقال: "اعلم أن لهم في ذلك أقوالاً مشهورها اثنان: الأول: وقوع التغيير والنقصان فيه" ثم ذكر من قال به من شيوخهم كالقمي في تفسيره، والكليني في الكافي وهما كما قال ممن غلا وأكثرا من الرواية في هذا المذهب، ومثل المجلسي في مرآة العقول، والصفار في بصائر الدرجات، والنعماني في الغيبة، والعياشي وفرات الكوفي في تفسيرهما، ومفيدهم في المسائل السروية، ومحدثهم البحراني في الدرر النجفية. وأخذ على هذا المنوال يعدد من مشاهير علماء مذهبه ممن قال بهذه الأسطورة مع تفخيمهم بالألقاب، أو نعت بعضهم بأنه "ممن لم يعثر له على زلة"، مع أنه يكفيه مقالته هذه إغراقاً في الضلال وزلةً إلى الكفر.. فذكر أسماء شيوخهم وكتبهم في هذا الكفر واستشهد ببعض كلماتهم التي كشفت حقيقة التشيع في عصوره المتأخرة؛ كنقله لقول شيخهم أبي الحسن الشريف صاحب مرآة الأنوار، والذي ذكر فيه أن هذه المقالة من ضروريات مذهب التشيع (¬1) . ثم قال: "الثاني: عدم وقع التغيير والنقصان فيه، وأن جميع ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وآله هو الموجود بأيدي الناس فيما بين الدفتين، وإليه ذهب الصدوق في عقائده، والسيد المرتضى، وشيخ الطائفة في التبيان ولم يعرف من القدماء موافق لهم إلا ما حكاه المفيد عن جماعة من أهل الإمامة والظاهر أنه أراد منها الصدوق وأتباعه" (¬2) . وأنت تلاحظ - كما أسلفنا - أنه يريد أن يجعل هذه المقالة هي الأصل في التشيع.. وإلا فإن قدماء شيوخ الذهب كانوا بعيدين عن هذا الكفر.. وقد مضى ¬
الحديث عن الأصل في الافتراء وبدايته. ثم ذكر بعض كلمات المنكرين وناقش إنكارهم لبعض ما جاء في كتبهم من القول بهذه الفرية ليصل إلى أن الإنكار ليس على حقيقته، بل هو من باب الخداع لأهل السنة (¬1) . وفي الباب الأول: عرض ما يسميه ب"الأدلة التي استدلوا بها، ويمكن الاستدلال بها على وقوع التغيير والنقصان في القرآن". فذكر اثنتي عشرة شبهة بعدد أئمته.. الشبهة الأولى: قال الملحد: "الدليل الأول: أن اليهود والنصارى غيروا وحرفوا كتاب نبيهم بعده، فهذه الأمة أيضاً لابد وأن يغيروا القرآن بعد نبينا صلى الله عليه وآله؛ لأن كل ما وقع في بني إسرائيل لابد وأن يقع في هذه الأمة على ما أخبر به الصادق المصدوق صلوات الله عليه" (¬2) . والجواب عن هذه الشبهة من وجوه: الوجه الأول: سلمنا أن كل ما وقع في بني إسرائيل سيقع في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، لكننا نقول: يخرج من هذا العموم ما دل الليل على خروجه، وتحريف القرآن مستثنى من هذا العموم بنص القرآن: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (¬3) . وهل هناك أقوى من أن يخص عموم حديث بنص من القرآن.. فأين عقول هؤلاء القوم؟ ولهذا قال الباقلاني: "أول جهلكم أنكم قطعتم بخبر واحد على أن القرآن غُيّر وبُدّل ¬
مع ردكم لما هو أقوى منه" (¬1) . ثم إن الله سبحانه قد استحفظ أهل الكتاب التوراة واستودعهم إياها فخانوا الأمانة، ولم يحفظوها، بل ضيعوها عمداً. والقرآن الكريم لم يكل الله حفظه إلى أحد حتى يمكنه تضييعه، بل تولى حفظه جل وعلا بنفسه الكريمة المقدسة كما أوضحة بقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ، وقوله: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} (¬2) إلى غير ذلك من الآيات (¬3) . وذلك لأن القرآن العظيم هو آخر الكتب، فلا كتاب بعده، والرسول صلى الله عليه وسلم هو آخر الرسل فلا نبي بعده، وبموته انقطع الوحي.. فمن رحمة الله بعباده أن حفظ كتابه ليبقي هداية للأمة ونوراً إلى يوم القيامة. الوجه الثاني: أن زعمه أن كل ما وقع في بني إسرائيل لابد أن يقع في هذه الأمة، هذه المقدمة غير مسلّمة له على الإطلاق، فالنتيجة التي اعتمدها بناءً على هذه المقدمة، نتيجة كاذبة؛ لأنها مبنية على مقدمة ليست مسلمة له على إطلاقها بدليل أن بني إسرائيل قتلوا أنبياءهم ولم يتحقق ذلك في هذه الأمة، وإن حاول فئة من المنافقين ذلك، وبنو إسرائيل عبدوا العجل ولم يحصل من الأمة نظيره، فتلك المقدمة ليست على إطلاقها، وتحريف القرآن أولى مما ذكرنا لاستثنائه من هذا العموم بالنص كما بينا، وإن حاول فئات من المنافقين الذين تستروا بالتشيع ذلك. كذلك أمتنا تختلف عن بني إسرائيل؛ حيث لا تزال طائفة ظاهرة علي الحق ¬
لا يضرهم من خالفهم، ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة، ولهذا لا يسلط الله عليهم عدواً من غيرهم فيجتاحهم، كما ثبت هذا وهذا في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، حيث أخبر أنه لا تزال طائفة من أمته ظاهرة على الحق لا يضرهم من خالفهم إلى يوم القيامة (¬1) ، وأخبر أنه سأل ربه أن لا يسلط عليهم عدواً من غيرهم فأعطاه ذلك، وسأله أن لا يهلكهم بسنة عامة فأعطاه ذلك وسأله أن لا يجعل بأسهم بينهم شديداً فمنعه ذلك (¬2) . ومن قبلنا كان الخُلْف فيهم حتى لا تقوم بالحق منهم طائفة ظاهرة منصورة ولهذا كان العدو يسلط عليهم فيجتاحهم كما سلط على بني إسرائيل وخرب بيت المقدس مرتين ولم يبق لهم ملك (¬3) . * الوجه الثالث: لو سلمنا جدلاً أن القرآن لم يخرج من ذلك العموم بالنص المذكور، فإن التحريف هو ما تقوم به الشيعة من تحريف للمعنى، ومحاولة لتحريف اللفظ، وما قدمناه عنهم هو الدليل، لكنهم لم يحققوا أهدافهم؛ لأن الله هو الذي تكفل بحفظه بنص الآية السابقة (¬4) . ¬
الشبهة الثانية: قال الملحد: "الدليل الثاني أن كيفية جمع القرآن وتأليفه مستلزمة عادة لوقوع التغيير والتحريف فيه، وقد أشار إلى ذلك العلامة المجلسي في مرآة العقول، حيث قال: والعقل يحكم بأنه إذا كان القرآن متفرقاً منتشراً عند الناس وتصدى غير المعصوم لجمعه يمتنع أن يكون جمعه كاملاً موافقاً للواقع" (¬1) . والجواب: إن هذه الشبهة مبنية على العقلية الإمامية التي تحتم على جميع الأمة إذا أجمعت الخطأ، وتجعل رأي واحد منها (ليس بنبي) هو الصواب، كما يلحظ ذلك في قوله: "وتصدى غير المعصوم لجمعه". وهو رأي منقوض وباطل كما أسلفنا في الحديث عن العصمة، وما بني على باطل فهو باطل. وصياغته لهذه الشبهة تدل على أن كثيراً من شيوخ الإمامية قوم بُهْتٌ يكذبون بالحقائق الواضحات ويصدقون بالأكاذيب والخرافات. فجمع القرآن جاء على أدق الطرق وأوثقها ضبطًا وإتقاناً، فكتبة الوحي يكتبون، والحفظة يحفظون، والأمة بأكملها تردد آيات القرآن في صلواتها وحلقاتها، كلما نزل شيء من القرآن هبوا لحفظه وكتابته وتعلمه والعمل به، فالممتنع هو أن يزاد في القرآن حرف أو ينقص منه حرف آخر، ولذا أجمعت الأمة على ذلك والإجماع معصوم. فلنحكّم عقولنا؛ ما جاءت هذه الدعوى إلا من طائفة الاثني عشرية من بين فرق الشيعة كلها، وهي تتحدث عن قرآن جمعه عليّ هو الكامل في نظرها وترفض ما أجمع عليه المسلمون.. فأيهما نصدق أبالقرآن أم بكتاب غائب لم ير ولم يعرف، معلق خروجه على منتظر موهوم.. تولى جمعه - باعترافهم - فرد واحد..؟ أخرج لنا الشيعة منه آيات يستحيل أن تكون من كلام رب العزة جل علاه لسقوطها عن أداء الإنسان العادي، فكيف بكلام رب العالمين المعجز؟ ¬
ورأينا من تنسب الشيعة إليه هذا الكتاب المزعوم يتعبد ويقرأ بالقرآن الذي بأيدي المسلمين، والشيعة تفتري عليه بأن ذلك منه تقية. فهل تجوز التقية في مثل هذا الذي يترتب عليه ضياع الدين وضلال الأجيال؟ ! إنها مقالة تنطق الشواهد بكذبها، وهي من تقدير الله سبحانه لينكشف أمر هذه الطائفة للمسلمين جميعاً، بعدما عاشت بينهم بالتقية قروناً متطاولة. ثم إن من العلوم أن جمع الأمة للقرآن في زمن الصديق وأمير المؤمنين عثمان قد تم بإجماع الصحابة، وكان أمير المؤمنين عليٌّ على رأس الكتبة وأغلب القراءات المتداولة ترجع بالسند المتواتر إليه باعتراف الشيعة نفسها كما سلف نقل ذلك عنهم (¬1) ، وليس في الطرق إلى علي ّما يخالف قرآن الأمة، وقد أثنى أمير المؤمنين على الصديق، وعلى ذي النورين فيما قاما به من أمر المصحف (¬2) . فهل تنكر ضوء الشمس ليس دونها سحاب وتصدق أساطير نقلها شرذمة من أعداء الأمة والدين؟! ومن أضل ممن يدعو أتباعه للإعراض عن كتاب الله وانتظار كتاب موهوم مفترى عند إمام مخترع أو هارب في سردابه منذ أكثر من ألف عام.. وكيف تقوم الحجة على العباد بمثل هذا الكتاب الموهوم.. والشيعة لا علم لها بهذا المصحف ولا صلة لها به، إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون. الشبهة الثالثة: قال الملحد: "إن أكثر العامة وجماعة من الخاصة ذكروا في أقسام الآيات المنسوخة ما نسخت تلاوتها دون حكمها، وما نسخت تلاوتها وحكمها معاً وذكروا للقسمين أمثلة ورووا أخبارًا ظاهرة بل صريحة في وجود بعض الآيات والكلمات التي ليس لها في القرآن المتداول أثر ولا عين وأنه كان منه في عصر النبي صلى الله عليه وآله يتلونه الأصحاب وحملوها على أحد القسمين من ¬
غير أن تكون فيها دلالة وإشارة على ذلك، وحيث إن نسخ التلاوة غير واقع عندنا، فهذه الآيات والكلمات لابد وأن تكون مما سقط أو سقطوها من الكتاب جهلاً أو عمداً، لا بإذن من الله ورسوله وهو المطلوب" (¬1) . هذه الشبهة تتكرر على ألسنة المعاصرين من الشيعة كثيًرا، ويحاولون أن ينفذوا من خلالها إلى فكر القارئ للتأثير عليه بإيهامه أن الآيات المنسوخة تلاوة الواردة من طرق السنة هي كأخبار التحريف عند الشيعة، فلا تكاد تقرأ كتاباً من كتب هذه الطائفة، ويأتي الحديث عن هذه الفرية إلا وتجدهم يبررون ما شاع من أساطير في كتبهم بالأخبار المنسوخة عند أهل السنة (¬2) . ولا شك أن حجتهم داحضة؛ ذلك أن النسخ من الله سبحانه، قال تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (¬3) . أما التحريف فمن فعل البشر، وشتان بين هذا وذاك، ولذلك وجد من شيوخ الشيعة الكثير ممن يذهب إلى هذا المذهب الباطل بمقتضى دلالة أساطيرهم، ولم يوجد أحد من علماء السنة يقول بهذه الفرية، فالنسخ شيء آخر غيرها. بل إن هذه الأسطورة لا مكان لها أصلاً عند المسلمين، ولذلك نجد الحديث عن الانحراف فيما يتصل بالقرآن عند أهل السنة في مسألة خلق القرآن وما شابه ذلك من الأقوال الباطلة التي وجدت في محيط السنة العام، أما تلك القضية فغير واردة أصلاً عندهم، فكيف يجعل النسخ كالقول بالتحريف؟ إن ذلك إلا ضلال مبين وكيد متعمد.. لأن غاية ما تدل عليه تلك الآثار أن ذلك كان قرآناً ثم رفع في حياة الرسول والوحي ينزل، ولهذا وضعت في باب النسخ من مباحث علوم ¬
القرآن عند أهل السنة، ولم يكن يخطر ببال أحد منهم أن ذلك يدل على تحريف المنزّل، بخلاف أخبار هذه الأسطورة عند الاثني عشرية التي تنسب التحريف إلى صحابة رسول الله الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه لأنها تصدق خبر شرذمة من الأفاكين وتكذب بالضرورات والأخبار المتواترات وشهادة الله ورسوله لهم. والصحابة عند أهل السنة هم أتقى وأخشى لله من يفعلوا شيئًا من ذلك، ولو فرضنا جدلاً أنهم حاولوا فعل هذا لم يمكنهم الله سبحانه وتعالى وإلا لزم الخلف في قوله وهو محال. بل يستحيل أن يقع منه شيء من ذلك ولو على سبيل السهو؛ لأن الله هو الذي وعد بحفظه. ونسخ التلاوة يقر به الروافض أنفسهم، وإن أنكره هذا النوري الطبرسي لتأييد مذهبه الباطل ونسب الإنكار للشيعة كلها، فإن صدق في هذه النسبة فهو ينصرف إلى بعض المعاصرين من طائفته، وهذا يعني أنهم أكثر غلواً من السابقين في ذلك، فقد قرر شيخهم الطبرسي (ت 548هـ) في هذه المسألة ثبوت نسخ التلاوة، حيث قال في مجمع البيان: "ومنها ما يرتفع اللفظ ويثبت الحكم كآية الرجم" (¬1) . والطبرسي قد أنكر التحريف، ويستشهد شيوخ الشيعة بإنكاره على براءة مذهبهم من هذا العار، ولم يقل أحد بأن إثباته لنسخ التلاوة قول بالتحريف. ومن قبله شيخهم الطوسي (ت460هـ) في تفسيره التبيان، حيث قال: "لا يخلو النسخ في القرآن الكريم من أقسام ثلاثة: أحدهم نسخ حكمه دون لفظه ... والثاني ما نسخ لفظه دون حكمه كآية الرجم، فإن وجوب الرجم على المحصنة لا خلاف فيه، والآية التي كانت متضمنة له منسوخة بلا خلاف وهي قوله: "والشيخ والشيخة إذا زنيا" (¬2) . وقال في موضع آخر: "وقد أنكر قوم جواز نسخ القرآن، وفيما ذكرناه ¬
دليل على بطلان قولهم، وجاءت أخبار متضافرة بأنه كانت أشياء في القرآن نسخت تلاوتها" (¬1) . ومن قبلهما شيخ الشيعة "المرتضى" (ت436هـ) وهو ممن ينكرون هذه الفرية وهو الذي استثناه ابن حزم من جمهور الإمامية القائلين بهذه الأسطورة. والشيعة المعاصرون يستدلون بإنكاره على براءة مذهب الشيعة من هذا الكفر، وهو يقر بنسخ التلاوة، ففي كتابه الذريعة قال: "فصل في جواز نسخ الحكم دون التلاوة، ونسخ التلاوة دونه" ثم تكلم عن ذلك (¬2) . إذن الإقرار بنسخ التلاوة أمر مشترك بين الفريقين وهو شيء أخر غير التحريف. ومن المكر والكيد الذي لا يكاد يخلو منه كتاب شيعي معاصر ناقش هذه القضية التظاهر بإنكار الشيعة لهذه الفرية والاستدلال بإنكار المرتضى والطبرسي وغيرهما، ثم يحاولون نسبة هذه الفرية إلى أهل السنة، لأنهم قالوا بنسخ التلاوة.. مع أن الطبرسي والمرتضى يقولان بذلك، ولكن ذلك مكر مقصود لتحقيق هدف لا يجرؤون على إظهاره وهو اعتقادهم هذا الكفر. الشبهة الرابعة: قال الملحد: "الدليل الرابع أنه كان لأمير المؤمنين قرآناً مخصوصاً - كذا - مخالف الموجود في الترتيب، وفيه زيادة ليست من الأحاديث القدسية، ولا من التفسير والتأويل". وأقول: لو كان لأمير المؤمنين مصحف لأخرجه للمسلمين، ولم يسعه كتمانه، وإذا لم يستطع ذلك في خلافة من سبقه - على حد تفكيركم - فإنه يستطيع ¬
إخراجه إبان خلافته.. وكتمان ذلك كفر وضلال.. فمن ألصق ذلك بأمير المؤمنين فهو ليس من شيعته، بل من عدوه؛ لأنه يدعي أنه كتم إظهار الحق وبيانه خوفاً وجبناً، وهو أسد الله وأسد رسوله.. وكتمان أصل الدين وأساسه خروج عن الإسلام. ولو لم يستطيع عليّ إخراجه لأخرجه الحسن إبان خلافته، ولكن الذي يشهد به الجميع حتى الروافض أن علياً لم يقرأ في صلاته، ويحكم في خلافته إلا بهذا القرآن، وكذلك سائر علماء أهل البيت - كما مر (¬1) .- وهذا يبطل كل دعاوى الروافض الذين أقض مضاجعهم وأرق عيونهم وفض جمعهم وشتت أمرهم خلو كتاب الإسلام العظيم مما يثبت شذوذهم فادعوا قرآناً غائباً لما لم يجدوا في كتاب المسلمين ضالتهم، كما ادعوا إماماً غائباً لما مات إمامهم من غير عقب. وإذا كان لأمير المؤمنين مصحف فهو أمر طبيعي لا يدل على ما يذهب إليه هذا المجوسي، فهو كبعض الصحابة الذين اتخذوا لأنفسهم مصاحف خاصة كتبوها لهم ولكنها لا تصل إلى مستوى المصحف الإمام الذي يكتبه كتبة الوحي بإشراف رسول الهدى صلى الله عليه وسلم. وإذا كان لعليًّ كما يدعون مصحف يخالف المصحف الإمام، فما يخالف المصحف الذي أجمع عليه المسلمين لا اعتداد به، لأن الإجماع معصوم والعبرة بما أجمع عليه أهل الإسلام، مع أن أمير المؤمنين كان على رأس المجمعين والجامعين وثناؤه على أبي بكر وعثمان في ذلك مشهور - كما قدمنا -. قال الباقلاني: "فإن قالوا: فإنما لم يغير ذلك ولم ينكره لأجل التقية قيل لهم: ومن كان أقوى منه جانباً وهو في بني هاشم مع عظم قدره وشجاعته وامتناع جانبه. هذا غاية الامتناع والباطل" (¬2) . ¬
ثم أشار إلى تناقض الروافض، حيث إن مقالتهم هذه في عليّ تنقض ما يزعمونه من شجاعته وصدعه بالحق، وعدم سكوته عن باطل. وذكر بأن واقع أمير المؤمنين في خلافته ينفي مجرد تصور التقية في هذا الباب "فأي تقية بعد أن شهر سيفه وقاتل بصفين ونصب الحرب بينة وبين مخالفيه فيما هو دون تغيير القرآن وتحريفه، هذا مما يعلم بطلانه ويقطع على استحالته" (¬1) . الشبهة الخامسة: قال الملحد: الخامس أنه كان لعبد الله بن مسعود مصحف معتبر فيه ما ليس في القرآن الموجود". ثم ذكر نماذج مما جاء في مصحف ابن مسعود - كما تزعم رواياتهم - ومما ذكره "وكفى الله المؤمنين القتال بعلي بن أبي طالب ورفعنا لك ذكرك بعلي صهرك" (¬2) . أقول: لا خلاف أن بعض الصحابة كانت لهم مصاحف خاصة بهم يكتبون فيها ما يسمعون من النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن.. وهذا لا يطعن في المصحف الإمام، ولا يدل على ما يذهب إلية هؤلاء الطغام؛ لأن العمدة والأصل هو ما أجمع عليه المسلمون ولا عبرة بما انفرد به أحدهم. وأنت تلاحظ أنه جعل مصحف ابن مسعود هو المعتبر والهدف واضح؛ لأنه ورد فيه - كما يزعم - ذكر علي.. ولكن ما استشهد به من نماذج يدل على أن ما ينسبونه لابن مسعود أو لمصحفه هو من افتراءاتهم، فقوله: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} هذه الآية من سورة "الانشراح" وهي مكية بكل آياتها كما هو معلوم، والزيادة التي زادوها وهي قولهم: (وجعلنا علياً صهرك) كشفت كذبهم؛ ذلك أن صهره الوحيد في مكة هو العاص بن الربيع الأموي، فهم وضعوا ولم يحسنوا ¬
الوضع لجهلهم بالتاريخ.. فهل يكتب ابن مسعود ما يخالف الواقع وما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم؟!. وكذلك الشاهد الآخر "وكفى الله المؤمنين القتال بعلي" فهو مخالف لنص القرآن وللواقع، فالله سبحانه أخبر بمن كفى عباده المؤمنين، وذلك في قوله سبحانه: {إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا} (¬1) . ولذلك قال السلف في تأويل قوله سبحانه: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} (¬2) أي: بجنود من الملائكة، والرياح التي بعثها عليها (¬3) . أما مخالفة الواقع فإن علياً لم يكن كافياً من دون المؤمنين، ولو لم يكن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا علي لما أقام دينه، وهذا علي لم يغن عن نفسه ومعه أكثر جيوش الأرض.. في حربه مع معاوية (¬4) . ولذا قال الباقلاني: "فأما ادعاؤهم أن ابن مسعود قرأ: "وكفى الله المؤمنين القتال بعلي" وما أشبه ذلك من الأحاديث فإنه إفك وزور ولا يصح.." (¬5) . وقال ابن حزم: "وأما قولهم (¬6) : إن مصحف عبد الله بن مسعود رضي الله عنه خلاف مصحفنا فباطل وكذب وإفك، مصحف عبد الله بن مسعود إنما فيه قراءته بلا شك، وقراءته هي قراءة عاصم المشهورة عند جميع أهل الإسلام، في شرق الأرض وغربها" (¬7) . ¬
الشبهة السادسة: قال الملحد: "الدليل السادس أن الموجود غير مشتمل لتمام ما في مصحف أبيّ المعتبر عندنا". انظر مبلغ تعنت وتعصب هذا الملحد، فمصحف أبيّ معتبر عندهم دون مصحف الأمة!! وما الدليل على اعتبار وصحة ما في مصحف أبيّ دون مصحف الأمة؟! لا دليل لديهم إلا رغبة هؤلاء المجوس في الطعن في كتاب الله وأنّى لهم ذلك.. فلا مصحف إلا هذا القرآن وكلماتهم عادت عليهم بأسوأ العواقب.. وإذا كان لابن مسعود وأبيّ بن كعب وعائشة وسالم مولى حذيفة مصاحف كما جاءت به الأخبار في كتب السنة والشيعة.. فهذه المصاحف الخاصة هي عمل فردي من بعض الصحابة ولم يكن هدفهم كتابة مصحف تلتزم به الأمة، لهذا كانت هذه المصاحف الخاصة غير حجة على الأمة، فما عدا مصحف عثمان لا يقطع عليه، وإنما يجري مجرى الآحاد (¬1) . وإذا نقل منه ما يخالف المصحف الإمام فهذا طبيعي، لأن الواحد منهم كان يكتب لنفسه، ولذلك قد يكتبون تفسيراً لبعض الآيات في نفس المصحف وهم آمنون من اللبس، لأنهم إنما يكتبون لأنفسهم. قال ابن الجزري: "ربما كانوا يدخلون التفسير في القراءات إيضاحاً وبياناً، لأنهم محققون لما تلقوه عن النبي صلى الله عليه وسلم قرآنا فهم آمنوا من الالتباس، وربما كان بعضهم يكتبه معه" (¬2) . وربما كتبوا ما نسخت تلاوته "ولذلك نص كثير من العلماء على أن الحروف ¬
التي وردت عن أبيّ وابن مسعود وغيرهما مما يخالف هذه المصاحف منسوخة ... ولا شك أن القرآن نسخ منه وغُيّر فيه في العرضة الأخيرة" (¬1) . ذلك أنهم يكتبون لأنفسهم لا للأمة، كما لا ننسى ما يضعه الروافض في هذا الباب، وينسبونه لهذا المصاحف (¬2) . أما القرآن فقد قام به الحفظة من الصحابة، وجمعوا ما في الصحف التي كتبها كتاب الوحي بإشراف النبي صلى الله عليه وسلم على حسب ما استقر في العرضة الأخيرة من جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم على ما هو عليه الآن من غير زيادة ولا نقصان "ولذلك لم يختلف عليهم اثنان حتى إن علي بن أبي طالب لم ينكر حرفاً ولا غيره" (¬3) . الشبهة السابعة: قال الملحد: "السابع أن عثمان لما جمع القرآن ثانياً أسقط بعض الكلمات والآيات.." (¬4) . ثم يحاول أن يقيم الدليل على هذه الدعوى بأن "العلم بمطابقة ما جمعه لتمام المنزل.. متوقف على.. عدالة الناسخين أو الكاتبين أو صدقهم أو العرض علي الصحيح التمام.." (¬5) . وهذا في نظره لا يثبت. فأنت تلاحظ أنه بنى دعواه على عقيدة الرافضة في الصحابة المخالفة للكتاب والسنة وإجماع الأمة وما تواترت به الأحداث والوقائع (¬6) . ¬
كما اعتبر الوهم الذي تدعيه الشيعة من وجود مصحف جمعه علي وتوارثه الأئمة هو الأصل في تصديق المصحف الإمام.. وكل ذلك غير مسلّم له، كما لا يسلّم له احتجاجه بذلك "الغثيان" من الأقوال والروايات التي نقلها من كتبهم لإثبات هذه المقالة. ومن المعلوم أن "القرآن كله كتب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يأمر أبو بكر إلا بكتابة ما كان مكتوباً، ولذلك توقف عن كتابة الآية من آخر سورة براءة حتى وجدها مكتوبة، مع أنه كان يستحضرها هو ومن ذكر معه" (¬1) .؛ لأنهم كانوا يعتمدون في جمع القرآن على الحفظ والكتابة معاً؛ ولم يعتمدوا على الحفظ وحده؛ حيث إن "قصدهم أن ينقلوا من عين المكتوب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم.. لا من مجرد حفظهم" (¬2) . وقد أعلم الله تعالى في القرآن بأنه مجموع في الصحف في قوله: {يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً} (¬3) . الآية، فكان القرآن مكتوباً في الصحف لكن كانت مفرقة فجمعها أبو بكر في مكان واحد، ثم كانت بعده محفوظة إلى أن أمر عثمان بالنسخ منها عدة مصاحف وأرسل بها إلى الأمصار (¬4) . قال شيخ الإسلام ابن تيمية يلخص عملية جمع القرآن: "لما كان العام الذي قبض فيه النبي صلى الله عليه وسلم عارضه جبريل بالقرآن مرتين، والعرضة الأخيرة هي قراءة زيد بن ثابت وغيره، وهي التي أمر الخلفاء الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي بكتابتها في المصاحف، وكتبها أبو بكر وعمر في خلافة أبي بكر في صحف أمر زيد بن ثابت بكتابتها، ثم أمر عثمان في خلافته بكتابتها في المصاحف، وإرسالها إلى ¬
الأمصار، وجمع الناس عليها باتفاق من الصحابة عليّ وغيره" (¬1) . فالذي يُخَطّئ أبا بكر وعثمان قد خطأ علًيا، وجميع الصحابة؛ لأن الحقيقة التي يتفق عليها المسلمون أن أمير المؤمنين عثمان جمع القرآن بموافقة الصحابة جميعاً (¬2) . ولو حدث هذا الذي تقوله الشيعة لما جاز لأحد السكوت على تغيير أصل الإسلام وأساسه، ولضل الجميع بسبب ذلك بما فيهم علي رضي الله عنه، والبراهين المتفق عليها والتي لا يختلف فيها اثنان أن الصحابة رضوان الله عليهم لم يسكتوا على ما هو أقل من ذلك. لقد قاتلوا من منع الزكاة، وقاتل علي - رضي الله عنه - معاوية على أقل من هذا الأمر العظيم والشأن الخطير، ولو حصل الذي تقوله الرافضة لتناقله أعداد الإسلام الذين يتربصون بأمة الإسلام الدوائر، ولم تنفرد بنقله طائفة الروافض. وهذه الطائفة التي نقلت هذا الكفر قد نقلت ما يثبت خلافه، روى ابن طاوس وهو من كبار شيوخ الشيعة أن "عثمان جمع المصحف برأي مولانا علي ابن أبي طالب" (¬3) . وهذا ينقض ما افتراه الشيعة عبر القرون؛ لأنه يتفق مع إجماع الأمة، وهو اعتراف منهم وإقرار.. واعتراف المخالف أشد وقعاً في النفس من اعتراف الموافق. ولم يملك صاحب فصل الخطاب - وهو الحريص على إثبات هذه الفرية - حيال هذا النص إلا أن يقول: "إنه من الغرابة بمكان" (¬4) . وليس بغريب إلا عند ¬
هذا الملحد ومن يشايعه. وقد أخرجه ابن أبي داود بسند صحيح - كما قال ابن حجر - عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه قال: "لا تقولوا في عثمان إلا خيراً فوا لله ما فعل ما فعل في المصاحف إلا عن ملأ منا" (¬1) . وبعد هذا كله فإن "النموذج" الذي يخرجه لنا هؤلاء "الكذبة" ويزعمون أن عثمان أسقطه، هو أكبر شاهد على حقيقة قولهم.. فقد جاء صاحب فصل الخطاب بأربع روايات عن أربعة من كتبهم تقول إن علي بن موسى الرضا قال: "لا والله لا يرى في النار منكم اثنان أبداً، لا والله ولا واحداً. قال: قلت: أصلحك الله، أين هذا من كتاب الله تعالى؟ قال: هو في الرحمن وهو في قوله تبارك وتعالى: لا يسئل عن ذنبه منكم إنس ولا جان، قال: قلت: ليس فيها منكم؟ قال: بلى، والله إنه لمثبت فيها وإن أول من غيّر ذلك لابن أروى" (¬2) . والروايات الثلاث الأخر لا تخرج عن هذا المعنى، ويعنون بابن أروى عثمان. فهذا "المثال" الذي تقدمه كتب الروافض كشاهد لما أسقطه عثمان يكشف الحقيقة المخبأة.. فوقت تنزل القرآن لا يوجد شيعة، ولا مرجئة ولا غيرهما من الفرق. والآية كما لا يدعون تثبيت أن الشيعي لا يسأل عن ذنبه.. وهذه دعوى خطيرة لا يسندها دليل، بل هي مناقضة لنصوص التنزيل، وما علم من الإسلام بالضرورة.. ولها آثارها الخطيرة من التحلل من التكاليف الشرعية.. والجرأة على اقتراف المعاصي والموبقات. وإمامهم يقسم على شيعته أنه لن يدخل النار منهم واحد.. أطلع الغيب، ¬
أم اتخذ عند الله عهداً؟! وهم بهذه الدعوى أكثر غلواً من يهود، الذين قالوا: {لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً} ، ورد الله عليهم بقوله سبحانه: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ، بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (¬1) . وهي تكشف كذب هذه الدعاوى كلها.. وأن الغرض من دعوى التحريف تحقيق شذوذ لا سند له من كتاب أو سنة صحيحة. ثم هي تكشف أن واضع هذه الرواية زنديق جاهل بمعاني كتاب الله، فالآية في المجرمين وهو ظنّ أنها في الصالحين فأولها في شيعته.. وحاول أن يؤكد ذلك بزيادة قوله: "منكم" وعلل ذلك بأنة لو لم يضع هذه الزيادة لسقط العقاب عن الخلق، وهو لا يسقط إلا عن شيعته - كما يفتري - مع أن الآية هي كقوله سبحانه: {وَلا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} (¬2) . فهي في أهل الجرائم والذنوب. ولهذا قال ابن عباس في تفسيرها: لا يسألهم هل عملتم كذا وكذا؟؛ لأنه أعلم بذلك منهم. وقال مجاهد: لا يسأل الملائكة عن المجرم، يعرفون بسيماهم (¬3) . ونختم القول بما قاله الجاحظ في دحض شبهتهم حول جمع أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه. قال الجاحظ: "والذي يخطئ عثمان في ذلك فقد خطأ علياً وعبد الرحمن وسعداً، والزبير وطلحة وعلية الصحابة. ولو لم يكن ذلك رأي علي لغيّره، ولو لم يمكنه التغيير لقال فيه، ولو لم ¬
يمكنه في زمن عثمان لأمكنه في زمن نفسه، وكان لا أقل من إظهار الحجة إن لم يملك تحويل الأمة، وكان لا أقل من التجربة إن لم يكن من النّجاح على ثقة، بل لم يكن لعثمان في ذلك ما لم يكن لجميع الصحابة، وأهل القدم والقدوة، ومع أن الوجه فيما صنعوا واضح، بل لا نجد لما صنعوا وجهاً غير الإصابة والاحتياط، والإشفاق والنظر للعواقب، وحسم طعن الطاعن. ولو لم يكن ما صنعوا لله تعالى فيه رضاً لما اجتمع عليه أول الأمة وآخرها، وإن أمراً اجتمعت عليه المعتزلة والشيعة، والخوارج والمرجئة، لظاهر الصواب، واضح البرهان، على اختلاف أهوائهم. فإن قال قائل: هذه الروافض بأسرها تأبى ذلك وتنكره، وطعن فيه، وترى تغييره. قلنا: إن الروافض ليست منا بسبيل، لأن من كان أذانه غير أذاننا، وصلاته غير صلاتنا، وطلاقه غير طلاقنا، وعتقه غير عتقنا، وحجته غير حجتنا، وفقهاؤه غير فقهائنا، وإمامه غير إمامنا، وقراءته غير قراءتنا، وحلاله غير حلالنا، وحرامه غير حرامنا، فلا نحن منه ولا هو منا (¬1) . الشبهة الثامنة: قال الملحد: "الثامن في أخبار كثيرة دالة صريحاً على وقوع النقصان زيادة على ما مر رواها المخالفون" (¬2) . ثم ذكر ما جاء عن طريق أهل السنة من أخبار نسخ التلاوة. ولا مستمسك له في ذلك كما أسلفنا؛ لأن النسخ من الله سبحانه والتحريف من البشر.. ولذلك جاء الحديث عنها في كتب أهل السنة في باب النسخ.. ولا ¬
نعيد هنا ما قلناه سابقاً.. وهو يعيد الأدلة ويكررها بصور مختلفة ليصل بالأدلة إلى عدد أئمته الاثني عشر. وقد أورد في هذا الموضع سورة مفتراة قال بأنه وجدها في كتاب دبستان مذاهب (¬1) . ولم يجدها في غيره من كتب الشيعة، وقال: لعلها سورة "الولاية" التي أشار إليها بعض شيوخ الشيعة، ثم أورد نصها بتمامه (¬2) . وهي عبارات ركيكة، وألفاظ ساقطة، ومعان متهافتة، وسياق مفكك، وجمل ينبو بعضها عن بعض. فهي عبارة عن كلمات ملفقة تلفيقاً رديئاً من بعض ألفاظ القرآن، وموضوعها هو الأمر الذي أقلق الشيعة وهو خلو كتاب الله من شذوذهم، ولذلك فهي تذكر مسألة الوصية لعلي بالإمامة، وتكفير الصحابة لعصيانهم الوصي. تقول كلماتها" "يا أيها الذين آمنوا بالنورين أنزلناهما يتلوان عليكم آياتي. إن الذين يوفون ورسوله في آيات لهم جنات نعيم. والذين كفروا من بعد ما آمنوا بنقضهم ميثاقهم وما عاهدهم الرسول عليه يقذفون في الجحيم. ظلموا أنفسهم وعصوا الوصي الرسول يسقون من حميم. إن الله الذي نور السموات والأرض بما شاء واصطفى من الملائكة وجعل من المؤمنين أولئك في خلقه يفعل الله ما يشاء ... إن علياً من المتقين وإنا لنوفيه حقه يوم الدين.. فإنه وذريته الصابرون، وإن عدوهم إمام المجرمين ... يا أيها الرسول قد جعلنا لك في أعناق الذين آمنوا عهداً فخذه وكن من الشاكرين بأن علياً قانتاً بالليل. يحذر الآخرة ويرجو ثواب ربه قل هل يستوي الذين ظلموا وهم بعذابي يعلمون. سيجعل الأغلال في أعناقهم وهم على أعمالهم ¬
يندمون" (¬1) . إلخ. هذه بعض كلماتها وهي لا تحتاج إلى نقد. فهي من هذر الكلام وسقط المتاع، تلفيق مهلهل مضطرب المعاني والألفاظ، وإن أقل الأدباء ليأبى نسبتها إليه فضلاً عن أن تكون من كتاب الله الذي أعجز أرباب البيان وفرسان الفصاحة. وقد نقد هذه "السورة المخترعة" الشيخ يوسف الدجوي في كتابه: "الجواب المنيف في الرد على مدعي التحريف في القرآن الشريف" (¬2) . وقد ردها - أيضاً - وبيّن زيفها أحد شيوخ الشيعة وهو البلاغي في تفسيره آلاء الرحمن (¬3) . وبطلانها أوضح من أن يبيّن، فلا حاجة إلى نقل ما قالاه، فأنت تلحظ أن الأمر ظاهر من مجرد النظر في ألفاظها، انظر إلى قوله - مثلاً -: "واصطفى من الملائكة، وجعل من المؤمنين أولئك في خلقه" تجد أنها من وضع أعجمي لا يستطيع أن ينبئ عما يريد. فماذا اصطفى من الملائكة؟ لم يكمل المعنى. ولعله يريد اصطفي من الملائكة رسلاً إلى الأوصياء، فلم يستطيع إكمال الجملة. وماذا جعل من المؤمنين؟ وما معنى أولئك في خلقه؟ وأنت ترى أنه ما رام أحد محاكاة القرآن إلا وابتلاه الله بالعي، وفضحه ¬
على رؤوس الأشهاد. الشبهة التاسعة: قال الملحد: "إنه تعالى ذكر أسامي أوصيائه وشمائلهم في كتبه المباركة السالفة، فلا بد أن يذكرها في كتاب المهيمن عليها" (¬1) . وكونها لم توجد فهذا دليل تحريفه بزعمه، ثم ساق مجموعة من رواياتهم تذكر بأن أئمتهم الاثني عشر قد جاء ذكرهم في الكتب السماوية السابقة (¬2) . وأقول: إن هذه الدعوى مبنية على أن أسماء الأئمة الاثني عشر قد ذكرت في كتب الأنبياء السابقة.. فهي دعوى باطلة بنيت على باطل، وخرافة عُلِّق ثبوتها على خرافة أخرى، فمن يسلّم بذكرهم في الكتب السماوية حتى يسلم بذكرهم في القرآن! "وهذه كتب الأنبياء التي أخرج الناس ما فيها من ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ليس في شيء منها ذكر عليٍّ - فضلاً عن سائر أئمتهم - وهؤلاء الذين أسلموا من أهل الكتاب لم يذكر أحد منهم أنه ذكر عليٌّ عندهم" (¬3) . لقد جاءت البشارة في الكتب السابقة بخاتم المرسلين. قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ} (¬4) . وجاء ذكر الصحابة والثناء عليهم في التوراة والإنجيل، قال تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} (¬5) . ¬
وقد عز على هذه الزمرة أن يذكر رسول الهدى صلى الله عليه وسلم وصحابته ولا يذكر أئمتهم، والصحابة عندهم أهل ردة، وأئمتهم أفضل من الأنبياء والرسل.. فكيف يقولون لأتباعهم؟ لقد اخترعوا روايات تقول بأن الأئمة قد ذكروا في الكتب السماوية ولكن لِمَ لم يذكروا في كتاب الله؟ هذا ما لم يجدوا له جوابًا إلا القول بالتحريف الذي ارتد عليهم بأسوأ العواقب. الدليل العاشر: قال فيه: "لا إشكال ولا اختلاف بين أهل الإسلام في تطرق اختلافات كثيرة وتغيرات غير محصورة في كلمات القرآن وحروفه بالزيادة والنقصان واستقرار آراء المخالفين على اختيار سبعة من القراء منهم أو عشرة على ما بينهم من الاختلاف.. واعتنائهم بتوجيه قراءاتهم وإرجاعها إلى الرسول، كما زعموا فيكون القرآن في نفسه وعند نزوله مبنياً على الاختلاف وموضوعاً على المغايرة، وحيث إن القرآن لا تغير فيه ولا اختلاف فتكون هذه القراءات هي قراءة بغير ما أنزل الله". وأورد جملة من أخبارهم تقول: بأن "القرآن واحد نزل من عند واحد وإنما الاختلاف من الرواة". وطعن على الرواة السبعة وقال بعدم الاحتجاج بقراءتهم.. لأن "أول طبقات القراء هم الذين استبدوا الآراء ولم يبايعوا إمام زمانهم أمير المؤمنين" (¬1) . يحاول هذا الملحد أن يتمسك بما ورد من القراءات لإثبات فرية طائفته وأسطورتهم، ولا مستمسك له به، ذلك أن اختلاف القراءات لا يؤدي إلى شيء من ذلك كما افترى، لأن ذلك كان يمكن لو أن كل واحد من القراء المختلفين في قراءة بعض الآيات كان يقرأ من عند نفسه ما يراه، لكن الأحاديث صريحة الدلالة في أن كل واحد منهم قد أخذ قراءته من الرسول صلى الله عليه وسلم وهي مخالفة لقراءة ¬
صاحبه، وأن النبي أقر كلاً منهم وأخبر بأنها هكذا أنزلت (¬1) . فبان أن الجميع نازل من عند الله، والفرق بين ذلك وأسطورة الشيعة فرق واضح جلي. وقد اختلط على هذا الأفاك الأمر في مسألة القراءات والقرآن فظن التلازم بينهما، وهو جهل واضح؛ فالقرآن متواتر بإجماع المسلمين يتناقله الأجيال عن الأجيال حتى يبلغوا به النبي صلى الله عليه وسلم بينما القراءات فيها المتواتر والآحاد والشاذ، ومنها المدرج (¬2) . والموضوع. ولم يقل أحد أن القرآن أخذ عن السبعة أو العشرة؛ إذ إن القراءات "مذهب من مذاهب النطق في القرآن يذهب به إمام من الأمة القراء مذهباً يخالف غيره". قال الزركشي: "واعلم أن القرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان، فالقرآن هو الوحي المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم للبيان والإعجاز، والقراءات اختلاف الوحي المذكور في كتابه الحروف أو كيفيتها من تخفيف وتثقيل وغيرهما" (¬3) . والقراءات غير الأحرف السبعة (¬4) . التي أنكرها هذا الرافضي - وخلط بينها وبين القراءات السبع - مع أن الحديث في الأحرف السبعة ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم (¬5) . ¬
وقد جاءت الرواية بنزول القرآن على سبعة أحرف في كتب الشيعة نفسها في جملة أحاديث حتى بوّب القمي لها في كتابه الخصال (¬1) . والمتأمل لأسانيد تلك القراءات يرى أن جملة منها متصلة بمن ترى الشيعة إمامتهم كأمير المؤمنين عليّ، وجعفر وغيرهما. وقد مر بنا نقل اعتراف الشيعة بذلك (¬2) . الشبهة الحادية عشرة: قال الملحد: "الدليل الحادي عشر: في ذكر الأخبار المعتبرة الصريحة في وقوع السقط ودخول النقصان في الموجود من القرآن، وأنه أقل مما نزل إعجازاً على قلب سيد الإنس والجان، وهي متفرقة في الكتب المعتبرة التي عليها المعول عند الأصحاب"، وذكر أخباراً كثيرة من كتب طائفته في ذلك. وهذه الروايات الكثيرة التي استشهد بها لا تدل على تحريف القرآن الذي أجمعت عليه الأمة، وتكفل الله بحفظه وقامت القرائن والبراهين القطعية على سلامته؛ إنما تشهد على كذب هذه الروايات وسقوط تلك الأحاديث، التي ينسبونها للأئمة وأنه لا ثقة برواياتها بعد هذا، وأن كتبهم هي المحرفة المفتراة.. وقد انكشف أمرها بهذه الفرية.. وبانت حقيقتها بهذه الأسطورة. ودلالة أخباره على مطلوبه إنما يلزم بها أهل ملته، أما أمة الإسلام فلا. وقد شهد شاهد من أهلها بأن أخبارهم في هذا الباب إنما رواها الغلاة والكذابون والمطعون في دينهم ممن لا تحل الرواية عنهم، والذي شهد بذلك شيخهم البلاغي في آلاء الرحمن، حيث قال: "هذا وإن المحدث المعاصر جهد في كتاب فصل الخطاب في جميع (¬3) . الروايات التي استدل بها على النقيصة". ¬
وفي جملة ما أورده من الروايات ما لا يتيسر احتمال صدقها، ومنها ما هو مختلف باختلاف يؤول به إلى التنافي والتعارض.. هذا مع أن القسم الوافر من الروايات ترجع أسانيده إلى بضعة أنفار، وقد وصف علماء الرجال كلاً منهم إما بأنه ضعيف الحديث فاسد المذهب مجفو الرواية، وإما بأنه مضطرب الحديث والمذهب يعرف حديثه وينكر ويروي عن الضعفاء، وإما بأنه كذب متهم لا أستحل أن أروي من تفسيره حديثاً واحداً، وأنه معروف بالوقف وأشد الناس عداوة للرضا عليه السلام، وإما بأنه كان غالباً كذاباً، وإما بأنه ضعيف لا يلتفت إليه ولا يعول عليه ومن الكذابين، وإما بأنه فاسد الرواية يرمى بالغلو. ومن الواضح أن أمثال هؤلاء لا تجدي كثرتهم شيئاً (¬1) . كذلك يذكر مرجع الشيعة في زمنه ميرزا مهدي الشيرازي بأن أخبارهم في ذلك شاذة ضعيفة في إسنادها، متناقضة في متونها؛ حيث قال: "وأما ما ورد في الأخبار التي ظاهرها وقوع التحريف في بعض الآي فلا يثبت بها ذلك (حيث) إنها شاذة ضعيفة الأسانيد، فإن كثيراً منها عن السياري (¬2) . الذي ضعفه علماء الرجل كما في الفهرست لشيخ الطائفة، والخلاصة للعلامة، والرجل للنجاشي أنه "ضعيف الحديث فاسد المذهب مجفو الرواية" (¬3) . ثم بيّن تناقض متنها بقوله: "معارضة بعضها مع البعض من وجهين أحدهما: تعارضها في تعيين الساقط.. وثانيهما: ما ورد في روايات من سقوط اسم علي في مواضع كثيرة، مع أن بعض الروايات تدل على أن الله تعالى لم يسم علياً في ¬
القرآن" (¬1) . هذا قول البلاغي والشيرازي في رجالهم وأسانيدهم. ولسنا بحاجة إلى حكم الروافض، ولكن نذكرها لبيان تناقض أقوالهم، وشعورهم بتفاهة قولهم وسقوطه، ومحاولتهم التستر على مذهبهم، أو نفي هذا الكفر والعار الذي ألحقه بالطائفة شيوخهم الأوائل، بوضعهم هذا الإلحاد والكفر في أصولهم أمثال الكليني وإبراهيم القمي، والمجلسي وأضربهم. ونأخذ أقوالهم في الحكم على أسانيدهم لهذا السبب. الشبهة الثانية عشر: قال الملحد: "الدليل الثاني عشر الأخبار الواردة في الموارد المخصوصة من القرآن الدالة على تغيير بعض الكلمات والآيات والسور بإحدى الصور المتقدمة وهي كثيرة جداً (يعني حسب أساطيرهم) ، حتى قال السيد نعمة الله الجزائري في بعض مؤلفاته كما حكي عنه: أن الأخبار الدالة علي ذلك تزيد على ألفي حديث وادعى استفاضتها جماعة كالمفيد والمحقق الداماد والعلامة المجلسي وغيرهم، بل الشيخ أيضاً صرح في التبيان بكثرتها، بل ادعى تواترها جماعة ونحن نذكر ما يصدق دعواهم" (¬2) . ثم أخذ في ذكر ما جاء في أخبارهم مما يزعمون أنه هو القرآن السالم من التحريف، فذكر (1062) مثالاً على ترتيب سور القرآن، وعلى مدى مائة صفحة، وسأذكر شيئًا منها لتتبين حقيقة الأهداف المتوخاة من هذه الافتراءات. وقبل ذلك أقول: إن كثيرة أخبارهم في هذا الباب إنما يلزم بها أهل دينه، أما أمة الإسلام فلا.. وهذه الكثرة التي يحكيها تدل على أن دين الشيعة سداه ولحمته الكذب، والكيد للإسلام بمحاربة ركنه العظيم، وأصله الذي يقوم عليه هو القرآن. ¬
وهذا الملحد يحكي كثرة هذا الباطل عندهم واستفاضته، وآخرون يدعون ندرته وشذوذه، والكل من شيوخهم المعتبرين عندهم.. أليس هذا عنوان تاقض هذا المذهب وأصحابه؟! وهذه الدعوى يعدها دليلاً على إثبات مراده، وهي عنوان كفره، ووصمة عار يلطخ بها قومه إلى الأبد، وإذا لم تستح فاصنع ما شئت، وليس بعد الكفر ذنب. وهو بهذه الدعوى يريد أن يصرف قومه عن كتاب الله، لأن كتابهم المزعوم لا زال مع غائبهم الموهوم رهين العزلة الدائمة، والغيبة الأبدية، لأنه لم يولد أصلاً. أما الأمثلة التي ساقها فهي محاولة يائسة لوضع سند لعقائدهم في كتاب الله، وإقناع أتباعهم والحائرين من بني قومهم الذين حيرهم وزلزل بنيانهم خلو أصل الإسلام العظيم من أمر ولاية الاثني عشر، وهي عندهم الدين كله، فمما قال هذا الملحد: 1ـ سورة البقرة: " ... عن جابر الجعفي عن أبي عبد الله في قول الله عز وجل: (وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله (في علي) قالوا نؤمن بما أنزل علينا) (¬1) . فأنت ترى أنهم أقحموا "في علي" على الآية الكريمة، ولم يفطن هؤلاء الزنادقة أن الآية في بني إسرائيل، وأن ما زادوه يكاد يلفظه السياق، وأن لفظ الآية يكذبهم؛ فقولهم: "بما أنزل علينا" نص صريح في أنها ليست في هذه الأمة. ولكن هؤلاء إما أنهم زنادقة أعاجم لا يفقهون معنى الآيات، وإما أن هذا أمر مقصود لإضلال الشيعة والخروج بهم إلى طريق الكفر والإلحاد.. 2 ـ سورة الأنعام: روى الكليني عن أبي عبد الله: "إن الذين فارقوا أمير ¬
المؤمنين وصاروا أحزاباً" (¬1) . يحاولون بذلك تغيير قوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (¬2) . ولم يعرف هؤلاء الملحدون كيف يضعون؛ إذ إن الآية مكية، ولم يكن ثمة أمير للمؤمنين في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، والجميع أتباع لرسول الله لا أتباع لعلي حتى يفارقوه. 3 ـ سورة براءة: قال الملحد: "روى الكليني والعياشي عن أبي الحسن الرضا أن الحسين بن الجهم قال له: إنهم يحتجون علينا بقول الله: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} قال: وما لهم في ذلك، لقد قال الله: (فأنزل الله سكينته على رسوله) .. وما ذكر فيها بخير قال: قلت له: وهكذا قراءتها؟ قال: هكذا قراءتها، وعن أبي جعفر مثله، ألا ترى أن السكينة إنما نزلت على رسوله وجعل كلمة الذين كفروا السفلى، وهو الكلام الذي تكلم به عتيق (يعني أبا بكر) ". قال الملحد: "والآية تدل على عدم إيمان الصاحب" (¬3) . فترى هؤلاء الزنادقة حاولوا تحريف قوله سبحانه: {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} (¬4) . بحذفهم "عليه" وزيادتهم (على رسوله) ، وهدف الرافضة تكفير أبي بكر بتحريف النص الذي هو أعظم مناقب الصديق رضي الله عنه، وغاب عن هؤلاء الأعاجم أن هذا التغيير لا يؤدي الغرض الذي يذهبون إليه (¬5) . ¬
فأنت ترى أن "تحريفاتهم" وأساطيرهم، تسير في فلك الولاية وتكفير الصحابة. وعلى هذا المنوال تجري غالب أساطير هذا الملحد التي ذكرها. وبعد أن عرض هذا الملحد شبهاته الاثني عشر (¬1) ، حاول أن يرد على الجناح الآخر من الشيعة الذي أبى أن يوافق على هذه الأسطورة، لوضوح فسادها، وعقد الباب الآخر لكتابه في هذا الشأن، حيث عرض أدلتهم وحاول الإجابة عليها. وسأذكر فيما يلي حجج المنكرين لهذه الفرية من الشيعة، وأشير إلى إجابات هذا الملحد عليها، وأناقشه فيما يقول. والحقيقة أن هذا الباب الذي عقده أبطل به افتراءاته؛ لأنه لم يستطيع أن يجيب على أدلة قومه المنكرين لكفره - كما سترى -: قال الملحد: "الباب الثاني في ذكر أدلة القائلين بعدم تطرق التغيير مطلقاً في كتاب الله تعالى، وأن الموجود هو تمام ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وهي أمور عديدة: الأول: قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (¬2) : قال الملحد: "واعترض بأن المراد الحفظ من تطرق شبه المعاندين؛ حيث ¬
لا يوجد فيه بحمد الله مدخل إلى القدح فيه" (¬1) . فانظر إلى هذا الاعتراض الأبله من هذا الملحد؛ حيث عدّ قولهم "بالتحريف" ليس من شبه المعاندين فلا يدخل في عموم الحفظ!. إن الحفظ أقرب معانيه: الحفظ من التغيير والتبديل، والآية ظاهرة في العموم وإن كره الكافرون. وقال: "واعترض أيضاً: بأن الضمير في قوله: "له" راجع النبي صلى الله عليه وسلم لا إلى القرآن فلا شاهد عليه" (¬2) . ومن الواضح الجلي أن الضمير يعود إلى الذكر، والضمير في لغة العرب يعود إلى أقرب مذكور، "فهو واضح من السياق" (¬3) . ثم هل يحفظ الله رسوله ويضيع كتابه؟!، فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً. وقال الملحد: "لو سلم شموله للحفظ من التغيير (¬4) . أيضاً فإنما هو القرآن في الجملة، لا لكل فرد، فإن ذلك واقع، ربما مزق كما صنع الوليد وغيره" (¬5) . وهذا اعتراض جاهل زعم أن احتراق نسخة من القرآن هو تغيير له، ولهذا رد على هذا بعض شيوخهم المنكرين لهذا الكفر، فقال: "هذا كلام لم يصدر عن روية، فإن المراد من حيث هو؛ أعني ما أرسل به محمد صلى الله عليه وسلم، لا ما رسم فيه من النسخ، فإن جميعها يؤول إلى التلف وهو في الصدور، والصحف محفوظة، حتى لو فرض - ونعوذ بالله - تلف كل نسخة على وجه الأرض.. لكان أيضاً محفوظاً" (¬6) . ¬
الثاني: قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ، لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (¬1) . وقد تلجلج الملحد واضطرب في الإجابة عن الآية، فهو تارة يقول: "إن الحذف والتغيير وإن كان باطلاً لكن ليس المراد من الآية" (¬2) . أما لماذا لا يكون مراداً مع أن التغيير فيه هو من أبطل الباطل، فإن شهوة التعصب عند هذا الملحد تقول: "ظاهرها (يعني الآية) أن لا يجوز أن يحصل فيه ما يستلزم بطلانه من تناقض أحكامه أو كذب في إخباراته وقصصه" (¬3) . فانظر إلى هذا التأويل الذي يدل على عقلية سقيمة، أو زندقة مقنعة، أو كلاهم معاً، فإن القرآن لو وقع فيه - معاذ الله - ما يراه الملحد من التغيير لوقع فيه التناقض في أحكامه والكذب في أخباره. ثم قال: "وأما ثانياً (¬4) . فلأنه منقوض بمنسوج التلاوة والحكم أو التلاوة فقط" (¬5) . وهذه عودة على حجته التي نقضناها.. وكأنه بهذا يكذب رب العالمين لأنه يزعم أن النسخ من الباطل وقد وقع في كتاب الله، فانظر ما أعظم جرمه؟! والنسخ حق لأنه جاء من عند الحق، وقد أقر به حتى شيوخ هذا الملحد المتقدمين كالمرتضى والطبرسي (¬6) ، فكأن هذا ومن يشايعه من المعاصرين قد ركبوا طورًا من الغلو لم يخطر ببال أسلافهم. ¬
ثم قال الملحد: "فيكفي في انتفاء الباطل عنه انتفائه من ذلك الفرد المحفوظ عند أهل البيت" (¬1) . فتعجب من نظرة هؤلاء الروافض، كيف يؤولون آيات حفظ الله لكتابه، بكتابهم الموهوم، مع غائبهم المزعوم، والذي لم تعرف الأمة عنهما شيئاً، ولم تر لهما أثرًا. ثم ماذا يجدي حفظه عند منتظرهم، وهل يغني ذلك شيئاً للناس؟ وإلا لأغنى عدم تغيره عند الله.. ولا شك أن الله سبحانه حفظ القرآن بعد نزوله ليبقى للأمة دستوراً ومنهج حياة إلى أن تقوم الساعة، ولا معنى ولا حكمة من الحفظ إلا هذا. الثالث: الأخبار الكثيرة الواردة - عندهم - في بيان ثواب سور القرآن (¬2) . قال الصدوق: "وما روي من ثواب قراءة كل سورة من القرآن، وثواب من ختم القرآن كله، وجواز قراءة سورتين في ركعة نافلة، والنهي عن قراءة سورتين في ركعة فريضة (هذا حسب رواياتهم) تصديق لما قلناه في أمر القرآن، وأن مبلغه ما في أيدي الناس، وكل ما روي من النهي عن قراءة القرآن كله في ليلة واحدة، وأنه لا يجوز أن يختم القرآن في أقل من ثلاثة أيام تصديق لما قلناه" (¬3) . ¬
الرابع: الأخبار المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم والأئمة بعرض أخبارهم عليه والعرض على المحرف لا وجه له، وعلى المنزل المحفوظ لا يستطاع (¬1) . الخامس: من الأدلة التي استدل بها الجناح المناهض لخرافة التحريف عند أصحابهم - بأنه قد ورد عندهم.. متواتراً - الأمر بالتمسك بالكتاب والعترة، وهذا يدل على أنه موجود في كل عصر، لأنه لا يجوز أن تؤمر الأمة بالتمسك بما لا تقدر على التمسك به (¬2) . ¬
السادس: أنه لو سقط منه شيء لم تبق ثقة في الرجوع إليه (¬1) . السابع: أن سقوط شيء منه مع شدة هذا الضبط والاهتمام خارج عن مجاري العادات. قال السيد شارح الوافية (¬2) . فيه: أن طول المدة أدعى لضبط ما تمد إليه الأعناق، ولا يرو إلا لداع، وأنى يخفى مثله وهو صلى عليه وآله إذا تغشاه الوحي ثقل حتى إذا كان راكباً ارتدت قوائم الدابة، فإذا تسرى عنه تلا عليهم ما نزل عليه فليكن كخطيب مصقع أو كشاعر مغلق ينشد البيت بعد البيت، ويلقي الكلام بعد الكلام في مظان الحكمة، ومحل الحاجة خصوصاً إذا كان لوروده شاهد معلوم وعلامة بينة وهو صلى الله عليه وآله إنما يأتيهم بالوعد والوعيد، والترغيب والتهديد، والتكاليف الحادثة، وأقاصيص الأمم السافلة، والأقاويل الغريبة، وهناك أمم من الناس يتطلعون لما برز منه رغبة أو رهبة، وقد كلفهم بتلقيه وتلاوته، وحفظه والنظر في معانيه، ووعدهم على ذلك الجنات.. ¬
وجعل تلاوته من أعظم أنواع العبادات.. ولهذا كان منهم من يقطع الليل بتلاوته. على أنه لم يقنع بهذا كله حتى وكل لكتابته وحفظه وحراسته أربعة عشر (¬1) . يعرضون عليه، ويدرسونه لديه، لأنه معجز النبوة ومأخذ الأحكام ومأخذ الأحكام الشرعية، ومرجع الأمة، وشاهد الأئمة، حتى إن جماعة منهم كعبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب ختموه عليه عدة ختمات. وما زال يفشو أمره وينتشر ضياؤه، ويعلو سناؤه يوماً فيوماً وعاماً فعاماً وقرناً فقرناً حتى صار من أعظم المتواترات ظهوراً، ومن هنا تعرف سرّ ما قال سيدنا المرتضى فيما حكى عنه شيخنا أبو علي في المجمع أن: العلم بصحة نقل القرآن كالعلم بالبلدان، والحوادث الكبار، والوقايع العظام ... (ثم نقل ما سبق أن نقلنا عن الشريف المرتضى) (¬2) . وقال: إن القرآن المجيد ليس بذلك الكثير الذي لا يمكن جمعه ولا بالمبثوث الذي لا يضم نشره؛ وإنما هو بمنزلة ديوان شعر لعظيم من الشعراء قد اشتمل على نفائس الشعر وطرف الحكمة وشوارد الأمثال، وله حملة وحفاظ، وناس يتناشدونه في مجامعهم، ويكتبونه في دفاترهم بحيث إذا ذهب عليهم بيت منه فضلاً عن قصيدة أو مقطوعة افتقدوه ... ونادى منادي السلطان في حملته وحفاظه والذين يتناشدونه ويكتبونه أن ائتونا بما عندكم.. أتراه يشذ عليه بعد هذا شيء؟ والكتاب العزيز أجلّ مما ضربنا، وحملته وكتابه وحفظته أكثر مما قلناه، وتوجه الرغبات إليه أشد، وله قراء كثيرون وحفاظ. وجمعيه في أيام النبي صلى الله عليه وسلم ¬
وآله - فضلاً عما بعده - جماعة حتى قال القرطبي: قد قتل يوم اليمامة سبعون من القراء، وقتل في عهد النبي صلى الله عليه وآله في بئر معونة مثل ذلك، وروى البخاري عن قتادة قال: سألت أنس بن مالك: من جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله؟ فقال: أربعة من الأنصار: أبيّ بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد، قلت: من أبو زيد؟ قال: أحد عمومتي. هذا كله مضافاً إلى شدة اعتناء الله جل ذكره بشأنه وصدق وعد الله بحفظه وإظهار هذا الدين الذي هو من أعظم أركانه، حتى جعل أشد الناس إباء لظهوره، وأقلهم احتفالاً بمكانه من السعادة في حفظه وصيانته كما حفظ بيضة الإسلام مع تهالكهم في استئصال ذريته (¬1) . وتوفر الدواعي على نشره للمسلمين والكفار والمنافقين للتحدي والإعجاز واشتماله على أمهات الأحكام، والقراءة في المصحف والعلم بما فيه والتعلم والتعليم لأنفسهم ولأولادهم، وللختم في شهر رمضان، وفي كل شهر مرة، وفي كل سبعة أيام أو ثلاث أو ليلة كله، أو قراءة شيء منه في كل ليلة، والحفظ وشرف الحمل والنظر فيه والتفكر في معانيه، وأمثاله، ووعده ووعيده.. إلى غير ذلك مما لا تحصى (يعني من دواعي حفظه) مع كثرة المسلمين وغلبتهم حتى في غزوة تبوك كان عسكر الإسلام ثلاثين ألفاً، وفي حجة الوداع اجتمع سبعون ألفاً (¬2) . وقد ضاق ذرعاً صاحب فصل الخطاب وهو ينقل هذه الكلمات عن شيوخه المنكرين لهذه الفرية وعقب عليها بقوله: "انتهى ما أوردنا نقله من الكلمات التي تشبه بكلام من لا عهد له بمباحث الإمامة، وحال أصحاب النبي صلى الله عليه وآله في الضلالة والغواية في حياته وبعد وفاته" (¬3) . ¬
ولجملة من شيوخهم كلمات من هذا القبيل في دحض هذه الفرية لظهور فسادها، ولذلك قال الألوسي بعدما ذكر إنكار الطبرسي لهذا الكفر: "وهو كلام دعاه إليه ظهور فساد مذهب أصحابه حتى للأطفال، والحمد لله على أن ظهر الحق وكفى الله المؤمنين القتال" (¬1) . وبعد، فهذا الكتاب الذي كتبه صاحبه وصوبه سهماً إلى كتاب الله سبحانه، لم يضر كتاب الله شيئاً، بل ارتد إلى طائفته وعاد عليها بأسوأ العواقب، فقد أصبح فضيحة الشيعة الكبرى، وكان من أعظم الأدلة والبراهين على سقوط أخبارهم وتهافت رواياتها، وأنه لا عبرة بتواترها واستفاضتها، ولهذا قال أحد شيوخ الشيعة المعاصرين: "ما أجاد في تأليفه، ولا وافق الصواب في جمعه، وليته لم يؤلفه، وإن ألفه لم ينشره، وقد صار ضرره أكثر من نفعه، بل لا نفع يتصور من نشره، فإنه جهز السلاح للعدو وهيأه..". ثم قال: "ويقال: إن بعض أعداد الدين وخصماء المذهب حرضه على تأليف ذلك الكتاب وهو - رحمه الله - لم يشعر بذلك الغرض الفاسد، وليس هذا الحدس أو النقل ببعيد" (¬2) . هكذا يتمنون أن تكون هذه المسألة مستورة لا مفضوحة، وأن تبقى رواياتها متفرقة لا مجموعة، لأنه قد صار ضرره عليهم أكثر من نفعه، بل لا نفع من نشره، وليبق سري التداول بينهم. فهل هذا يدلنا على أن لديهم كتباً لا تحظى بالنشر، لأن معلوماتها مثيرة للعالم الإسلامي، وآثارها خطيرة فبقيت رهينة التداول بينهم؟ إن هذا ليس ببعيد (¬3) . ¬
الوجه الرابع: التظاهر بإنكار هذه الفرية مع محاولة إثباتها بطرق ماكرة خفية
الوجه الرابع: التظاهر بإنكار هذه الفرية مع محاولة إثباتها بطرق ماكرة خفية درج بعض شيوخهم المعاصرين على التظاهر بإنكار هذه الفرية، والدفاع عن كتاب الله سبحانه.. لكنك تلاحظ المنكر في فلتات لسانه، وترى الباطل يحاول دسه في الخفاء هنا وهناك.. ومن أخبث من سلك هذا الطريق شيخهم الخوئي (¬1) . في تفسيره "البيان"؛ فهو يقرر: "أن المشهور بين علماء الشيعة ومحققيهم، بل المتسالم عليه بينهم هو القول بعدم التحريف" (¬2) . ولكنه يقطع بصحة جملة من روايات التحريف فيقول: "إن كثرة الروايات تورث القطع بصدور بعضها عن المعصومين، ولا أقل من الاطمئنان بذلك، وفيها ما روي بطريق معتبر" (¬3) . وبتتبع رواياتهم وأساطيرهم بهذا الخصوص ويعتبر رواياتهم التي تتحدث عن مصحف لعلي فيه زيادات ليست في كتاب الله القرآن وقد ذكرت فيها أسماء الأئمة، وأساطيرهم التي تقول بنقص القرآن، كل ذلك يعتبره ثابتاً عندهم، ولكنه يرى أنه من قبيل التفسير الذي نزل من عند الله وأن تلك الزيادات كانت تفسيراً بعنوان التأويل وما يؤول إليه الكلام، أو بعنوان التنزيل من الله شرحاً للمراد (¬4) . أما أساطيرهم التي دلت على التحريف بعنوانه (على حسب تعبيره) وبلغت عندهم باعترافه عشرين رواية وهو يعني بذلك أساطيرهم التي تقول بأن الصحابة حرفوا القرآن وبدلوه، حيث استشهد لذلك بقوله: ما عن الكافي والصدوق ¬
بإسنادهما عن علي بن سويد قال: كتبت إلى أبي الحسن كتاباً - إلى أن ذكر جوابه بتمامه وفيه قوله عليه السلام -: اؤتمنوا على كتاب الله فحرفوه وبدلوه. وكان موقفه من هذه الأساطير هو قبولها، ولكنه يقول بأنها لا تدل على تحريف ألفاظ القرآن "فهي ظاهرة الدلالة على أن المراد بالتحريف حمل الآيات على غير معانيها.. ولولا هذا التحريف لم تزل حقوق العترة محفوظة وحرمة النبي منهم مرعية، ولما انتهى الأمر إلى ما انتهى إليه من اهتضام حقوقهم وإيذاء النبي صلى الله عليه وسلم فيهم (¬1) . فهو يزعم بأن الأمة وفي طليعتهم الصحابة حملوا آيات القرآن على غير معانيها الحقيقية، أما تحريفات الكليني والقمي والعياشي لآيات القرآن فهي التفسير الحقيقي عنده لكتاب الله، فإذا كان هذا مبلغ علم أكبر مراجع الشيعة اليوم، وغاية دفاعه عن كتاب الله، فإن أمر الشيعة اليوم في غاية الخطورة. وهو لا ينسى وهو يضع هذه "السموم" هنا وهناك أن يحاول إطفاء غضب القارئ ولاسيما حينما يجد أن تأويله عند من عرف نصوصهم وخبر أخبارهم بعيد التصديق فيقول: "وإذا لم يتم هذا الحمل فلا بد من طرح هذه الروايات" (¬2) . ويقول عن أساطير نقص القرآن عندهم: أكثر هذه الروايات بل كثيرها ضعيفة السند.. ثم نقل عن بعض علمائهم قوله: "إن نقصان الكتاب مما لا أصل له وإلا لاشتهر وتواتر نظرًا إلى العادة في الحوادث العظيمة وهذا منها بل أعظمها" (¬3) . ثم يقول عن أساطيرهم التي دلت - كما يقول - علي وقوع التحريف في القرآن بالزيادة النقصان: وإن الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم غيرت بعض الكلمات وجعلت ¬
مكانها كلمات أخرى، وذكر لذلك أمثلة، ومما أورده "ما عن العياشي عن هشام بن سالم قال: سألت أبا عبد الله رضي الله عنه قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ} قال: هو آل إبراهيم وآل محمد على العالمين فوضعوا اسمًا مكان اسم، أي أنهم غيروا فجعلوا مكان آل محمد آل عمران". وكان جوابه عن ذلك أنها مخالفة للكتاب والسنة وإجماع المسلمين على عدم الزيادة في القرآن ولا حرفاً واحداً حتى من القائلين بالتحريف (¬1) . لاحظ مبلغ الخداع؛ فهو بهذا التعقيب على الزمرة الأخيرة من أساطيرهم يوهم القارئ أن ما سبق عرضه من أنواع أساطيرهم ليس بطلانها موضوع اتفاق بين المسلمين.. وهو يجعل من يرمي كتاب الله سبحانه بهذه الفرية ممن يعد قوله ضمن إجماع المسلمين. إن هذه المحاولة من شيخ الشيعة هي مجرد غطاء جميل خادع لتحقيق هدف خبيث، فهي مؤامرة الهدف منها المساس بكتاب الله بطرق خفية ماكرة، ولذلك لم يثر كتابه فصل الخطاب، بل اعتبر البعض منهم ذلك من قبيل الدفاع عن القرآن، ولقد لاحظت أنه يحاول أن يثبت "أسطورته" من طرق أهل السنة بأسلوب غريب ماكر، حيث قال - وهو يتظاهر بالدفاع عن كتاب الله -: إن القول بنسخ التلاوة هو بعينه القول بالتحريف، وعليه فاشتهار القول بوقوع النسخ في التلاوة عند علماء أهل السنة يستلزم - في زعمه - اشتهار القول بالتحريف (¬2) . وقال: "إن الالتزام بصحة هذه الروايات (يعني: روايات نسخ التلاوة) التزام بوقوع التحريف في القرآن" (¬3) . وقال: "فيمكن أن يدعي أن ¬
القول بالتحريف هو مذهب أكثر علماء أهل السنة لأنهم يقولون بجواز نسخ التلاوة" (¬1) . وهذا الكيد الذي سطره شيخ الشيعة في العصر الحاضر ليس جديداً، فقد ردده بعض الملاحدة من قبل، ورد عليهم أهل السنة (¬2) . والأمر واضح بيِّن، والفرق جليّ بين النسخ والتحريف لا يخفى إلا على مغرض صاحب هوى - كما أسلفنا - ذلك أن التحريف من صنع البشر، وقد ذم الله فاعله، قال تعالى: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ..} (¬3) . والنسخ من الله سبحانه. قال عز وجل: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (¬4) . وهو لا يستلزم مس كتاب الله سبحانه بأي حال، وعلماء الشيعة القدامى الذين ينكرون هذه الفرية يقرون به كالطبرسي في مجمع البيان والمرتضى في الذريعة وغيرهما - كما سلف -. وترى أنه يخادع في القول حينما يقرر: "أن القول بعدم التحريف هو المشهور بل المتسالم عليه بين علماء الشيعة ومحققيهم" (¬5) . ويستدل على ذلك بما قاله الطبرسي في مجمع البيان في إنكار هذه الفرية (¬6) ، مع أن الطبرسي قرر بعد هذا بصفحات نسخ التلاوة واستدل له، في حين أن الخوئي يرى أن نسخ التلاوة قول بالتحريف، أليس هذا تناقضاً؟! بل تراه يقول بأن القول بعدم التحريف هو قول علماء الشيعة ومحققيهم، في حين أن مذهب جملة من أساطين شيوخهم المجاهرة بهذا الكفر كالكليني، ¬
والقمي، والطبرسي صاحب الاحتجاج وغيرهم من رؤوس هذا الكفر (¬1) . وهم يعدون عندهم من كبار شيوخهم ومحققيهم، أليس هذا خداعاً؟! بل الأمر أشد من هذا، ذلك أن شيخهم إبراهيم القمي قد أكثر من أخبار هذه الأسطورة في تفسيره، وكان هذا معتقده مع آخرين من شيوخهم. قال الكاشاني: "وأما اعتقاد مشايخنا في ذلك فالظاهر من ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني أنه كان يعتقد التحريف والنقصان في القرآن.. وكذلك أستاذه علي بن إبراهيم القمي، فإن تفسيره مملو منه وله غلو فيه". ثم ذكر بقية من سار في الإلحاد من شيوخهم (¬2) . فأنت ترى أنه يعترف بأن تفسير القمي مملو من هذا الكفر. ومع ذلك فإن هذا الخوئي الذي يتظاهر بالإنكار يذهب إلى صحة تفسير هذا القمي، ويقرر أن روايات تفسيره كلها ثابتة وصادرة من المعصومين، لأنها انتهت إليه بواسطة المشايخ الثقات - كما يزعم - من ¬
اتجاه المعاصرين في تأويل كتاب الله
الشيعة (¬1) . فتبين من خلال ذلك أن الخوئي صاحب البيان هو في غايته كصاحب فصل الخطاب، إلا أن الأخير استخدم الطريقة المكشوفة، والأول سلك مسلك المكر والاحتيال. المجال الثاني: (اتجاه المعاصرين في تأويل كتاب الله) : هل تخلص شيعة العصر الحاضر من لوثة ذلك الاتجاه المغرق في التأويل الباطني الذي درج عليه شيوخهم القدامى في تأويل كتاب الله كالقمي والكليني والعياشي والكاشاني والبحراني وأضرابهم.. أو هم على آثارهم يهرعون؟ إن المتتبع لما يكتبه شيعة العصر الحاضر في تفسير كتاب الله يجد أن العقلية الشيعية المعاصرة لا تزال في الغالب تعيش أسيرة لتلك التأويلات التي وضعها علماؤهم السابقون والتي عرضنا لها فيما مضى.. وآية ذلك أن تلك التفاسير الباطنية تأخذ المكانة الأولى عندهم في الوثاقة والاعتماد، ولا أدل على هذا من توثيق أكبر مراجع الشيعة في العصر الحاضر وهو الخوئي لأسانيد وروايات القمي في تفسيره (¬2) . وتفسير القمي قد بلغ الغاية في التأويل الباطني وأربى على النهاية. وكذلك الطبطبائي وهو من كبار شيوخهم المعاصرين يقرر أن تفسير العياشي محل ثقة الشيعة واعتمادهم.. إلى عصرنا هذا (¬3) ، وتفسير العياشي على خطى القمي في المنهج الباطني الغالي الذي يكفر الصحابة، ويفسر كل آيات القرآن بالأئمة وأعدائهم، ويدس أساطير التحريف في تفسيره. وهكذا سائر التفاسير ذات الاتجاه الغالي تحظى بتوثيق الشيعة واعتمادهم.. كتفسير البرهان، وتفسير الصافي، ومرآة الأنوار وغيرها (¬4) . فماذا بقي بعد هذا؟ أما اتجاه المعاصرين في تأويل كتاب الله، فقد أخذ وجهين مختلفين: وجه غال متطرف، ووجه معتدل متوسط، إذا ما قسناه بالاتجاه الغالي: فقد ظهرت ملامح التطرف والغلو في تأويل كثير من آيات القرآن بعقائدهم التي شذوا بها عن أمة الإسلام، فهذا أحد علمائهم المعاصرين ويدعا "علي محمد دخيل" يتحدث عن غيبة مهديهم المنتظر - وهو كما يقول بعض كتاب الشيعة من أشهر الكتاب الإمامية الذين عالجوا الغيبة (¬5) .- فيعقد فصلاً بعنوان: "المهدي في القرآن الكريم" ويورد في هذا الفصل خمسين آية من القرآن كلها يزعم تأويلها بالمهدي ويتوصل ¬
بذلك إلى أن موضوع المهدي لا يختلف عن ضروريات الإسلام الأخرى، وإنكاره إنكار لضرورة من ضروريات الدين (¬1) . بل بلغت تأويلات شيوخهم المتأخرين لآيات القرآن بالمهدي إلى (120) آية (¬2) . ولم يقنع بعض المعاصرين بذلك فوضع مستدركًا لهم ليبلغ بها إلى (132) آية (¬3) . ونجد شيخهم المعاصر - محمد رضا الطبيسي النجفي (ت1365هـ) - يفسر (76) آية من كتاب الله بعقيدة الرجعة عندهم (¬4) ، وهذا شطط لم يبلغ مداه شيوخهم القدامى. حيث بدأ التأويل بمسألة الرجعة في آية واحدة عند ابن سبأ (¬5) . ثم لم يزل الأمر يزيد، ففسر شيوخهم القدامى بالرجعة عشرين آية ونيفاً (¬6) . وفي القرن الثاني عشر تطور الأمر إلى تأويل (64) آية بتلك العقيدة الباطلة على يد شيخهم الحر العالمي (¬7) ، ثم كانت نهاية الشطط على يد هذا الطبيسي وغيره من شيوخهم المعاصرين. وقد يستمر طريق التأويل إلي أرقام أخرى. وفي تفسير الميزان للإمام الأعظم عندهم محمد حسين الطبطبائي كثير من التفسيرات الباطنية التي يختارها من كتب التفسير القديمة عندهم. يذكرها تحت عنوان "بحث روائي".. ومن الأمثلة التي ¬
نقلها مقرًا لها ما ذكره عن تفسيرهم البرهان في قوله سبحانه: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ} (¬1) . قال: "الآية مثل ضربه الله لعائشة وحفصة أن تظاهرتا على رسول الله وأفشتا سره" (¬2) . فانظر كيف يحرف معاني القرآن، ويكفر أمهات المؤمنين بذلك. وعند قوله سبحانه: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} (¬3) نقل ما يروونه عن (الصادق) أنه قال: "نحن وجه الله" (¬4) . وهكذا يلتقي التأويل الباطني الغابر بالحاضر.. صورة واحدة ووجه واحد. والأمثلة كثيرة. ولكن هناك وجه معاصر معتدل، ومظاهر اعتداله تكمن في ثلاث ظواهر، الأولى: اختفاء ذلك الغلو بتفسير كثير من آيات القرآن بالإمامة وما يدور في فلكها.. والثانية: تطهره من ملامح أسطورة التحريف وأخبارها وآثارها في تفسيره، والثالثة: التنزه عن ذلك التكفير الصريح الواضح لخير جيل عرفته البشرية.. جيل الصحابة رضوان الله عليهم. ومن أمثلة هذا الاتجاه تفسير الكاشف لمحمد جواد مغنية، والتفسير المبين له أيضًا. فأنت تلحظ ثناءه على الصحابة في تفسير قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} (¬5) الآية. حيث قال: "لا لشيء إلا لوقوفهم مع الحق، وإعلاء كلمة الإسلام ¬
وتضحيتهم في سبيله {يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} إيمانًا وقولاً وعملاً، وبهؤلاء المهاجرين وأمثالهم من الأنصار استقام الإسلام وانتشر في شرق الأرض وغربها، ولا بدع فإن قائدهم محمد صلى الله عليه وسلم، ولن تكون الأمة فاسدة وقائدها صالحاً {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ} ، المراد بالذين: الأنصار، وتبوءوا: سكنوا، والدار: دار الهجرة وهي المدينة، والإيمان مفعول لفعل محذوف أي: وأخلصوا الإيمان، وقد أثنى الله على الأنصار بأنهم: {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ} جاء في التفاسير: أن المراد بالذين جاءوا من بعد الصحابة التابعون لهم بإحسان أخذا بقرينة السياق، ومع هذا فإن الثناء يعم ويشمل كل من سار بسيرة الصحابة إلى يوم القيامة" (¬1) . فإذا قرأت هذا الكلام لا تعرف أن قائله من الروافض الذي يكفرون صحابة رسول الله ويشتمونهم ... وقد مر بنا أن له كلاماً في الطعن في بعض صحابة رسول الله.. ولكنه لم يصرح بالتكفير كغيره من شيعته. وعند قوله سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} . قال: "المراد بالذكر هنا القرآن الكريم، وضمير "له" يعود إليه، والمعنى أن القرآن موجود فعلاً بين الدفتين، المألوف لدى كل الناس، وهو بالذات الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم بلا تقليم وتطعيم، على العكس من الكتاب المعروف بالتوراة، فإنه غير الذي جاء به موسى عليه السلام، وكذلك الكتاب المعروف بالإنجيل فهو غير ¬
الذي جاء به عيسى عليه السلام" (¬1) . في حين أن الرجل لم يدع التأويل لبعض الآيات بمقتضى أصول عقيدته، لكنه لم يجاهر بالغلو في التأويل كالآخرين من طائفته، فنجده مثلاً في تفسيره الكاشف يوؤل قوله سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (¬2) بقوله: "معنى الآية أن الله سبحانه أكمل الدين مع هذا اليوم بالنص على علي بالخلافة". هذا الاتجاه المعتدل إنما هو ثمرة اعتماده على جمع الجوامع لشيخهم الطبرسي، كما ألملح إلى ذلك في المقدمة.. والطبرسي قد اعتمد في الغالب على مرويات أهل السنة وتفاسيرهم، كما أشار شيخ الإسلام ابن تيمية (¬3) . فإذن هناك وجهان للاتجاه الشيعي في تأويل القرآن: اتجاه غال، واتجاه معتدل. كما كان لهم في القرون الماضية كتب تفسير باطنية غالبة كتفسير القمي والعياشي والكاشاني والبحراني وغيرهم، وكتب تفسير معتدلة مثل تفسير التبيان للطوسي، ومجمع البيان، وجمع الجوامع للطبرسي.. وقد جاء في أخبارهم بالأمر لهم بظهورهم بوجهين مختلفين حتى لا يعرف الناس حقيقة مذهبهم. وقال إمامهم: "إن هذا خير لنا ولكم، ولو اجتمعتم على أمر واحد لصدقكم الناس علينا (أي لعرف الناس المذهب) ولكان أقل لبقائنا وبقائكم" (¬4) . وأنت إذا قارنت بين المنهجين وجدت الاتجاه الغالي المتطرف يستقي مادته من روايات الشيعة وأخبارهم، أما الاتجاه المعتدل فتلاحظ أنه قد فتح قلبه وعقله لروايات أهل السنة وآثارهم في التفسير، فتخلص من لوثة الغلو والتطرف، إما ¬
تقية أو اقتناعاً، لكنك لا تجد تفسيراً شيعياً اعتمد على رواياتهم فقط يخلو من الطريقة الباطنية في التفسير. فأي الطريقين هو الذي يمثل مذهب الشيعة؟! لقد ذكرت فيما سلف محاولة بعض شيوخ الشيعة قطع الطريق على هذا الاتجاه المعتدل بحمله على التقية (¬1) . وقد صرح شيخهم المجلسي بأن اعتمادهم على مرويات أهل السنة إنما هو للاحتجاج عليهم، وعقد لذلك باباً بعنوان " الباب الثامن والعشرون ما ترويه العامة (يعني أهل السنة) من أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم وأن الصحيح من ذلك عندهم (يعني شيعته) والنهي عن الرجوع إلى أخبار المخالفين" (¬2) . ثم استثنى من ذلك مقام الاحتجاج عليهم لنشر التشيع. بل إن مرجع الشيعة في العراق "الخوئي" يعتبر ما جاء عن الصحابة في تفسير القرآن هو معنى التحريف الذي جاء به رواياتهم (¬3) . وحين أشار محب الدين الخطيب إلى أن القرآن الذي ينبغي أن يكون الجامع لنا ولهم على التقارب نحو الوحدة، قد قامت أصول الدين عندهم على تأويل آياته وصرف معانيها إلى غير ما فهمه منها الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم وإلى غير ما فهمه منها أئمة الإسلام عن الجيل الذي نزل عليه القرآن (¬4) . ردّ عليه أحد شيوخ الشيعة بقوله: "إن الشيعة ترى من الكيد للإسلام أن يأخذوا.. تفسيرهم للقرآن عمن تقصدهم وتعنيهم بالذات أمثال أبي هريرة ¬
وسمرة بن جندب.. وأنس بن مالك ممن أتقنوا صناعة التلفيق والدس والكذب والافتراء" (¬1) . فهذا الجواب ينسبه المؤلف للشيعة.. فإذا كانت الشيعة تعتقد أن تلقي الدين عن طريق الصحابة هو من الكيد للإسلام فلهم دينهم ولنا ديننا.. إذ إن قولهم هذا يؤدي إلى رفض الإسلام كلية. أليس هذا يعني أن ذلك الطريق المعتدل والوجه الآخر هو من باب التقية..؟! إن بعض أصحاب ذلك الاتجاه المعتدل وهو شيخهم محمد جواد مغنية لا يقر بوجود اتجاه باطني في التفسير عندهم. ويقول بأن الاثني عشرية أبعد الناس من هذه البدع والضلالات، وأن كتبهم تشهد بذلك وهي في متناول كل يد (¬2) ، وكذلك شيخهم الآخر محسن الأمين يقر بوجودها، ولكنه يقول بأنها روايات شاذة (¬3) . ومثل ذلك يقول الخنيزي، مع إنكاره لبعض ما هو واقع في كتبهم من روايات (¬4) . وهذا الإنكار لما هو واقع وموجود أمارة التقية، والأمر ليس مجرد روايات شاذة - كما يزعمون - بل تفاسير كاملة تخصصت في التأويل الباطني يأتي في طليعتها تفسير القمي الموثق من كبار شيوخهم، وأبواب كاملة في الكافي أصح كتاب عندهم في الحديث، وفي البحار وغيرهما، أبواب تضم عشرات الأحاديث كلها تفسير الآيات تفسيراً باطنياً، فلم هذه "الجرأة" في إنكار الحقائق الواضحات، وهل يظنون أنهم يخدمون دينهم بهذه الوسيلة؟! ¬
كما أن هذا الإنكار منقوض بصنيع من شيوخهم المعاصرين الذين لا يزالون يهذون في هذا الضلال. بل إن شيوخهم وآيتهم عبد الحسين شرف الدين الموسوي يرى أن تلك التأويلات الباطنية للآيات والواردة في حق الأئمة هي مسلمة عندهم بحكم الضرورة (¬1) . إذن الصورة في مجال التأويل متشابهة بين الأوائل والأواخر، والجديد عند المعاصرين أنهم ارتضوا ما كتبه أسلافهم، حتى المتأخرون منهم فقد اعتبروا ما كتبه ¬
المجلسي وغيره من المتأخرين مراجع معتمدة في الرواية فاتسع بذلك نطاق التأويل عندهم وازداد بفضل جهود شيوخ الدولة الصفوية الذي أربوا على النهاية في هذا. لكن بعض المعاصرين كتب بعض التفاسير المعتدلة كما فعل بعض شيوخهم الأقدمين.. وأنكر وجود التأويلات المتطرفة عندهم.. وإذا كان الإنكار في القديم قد يصدق، فإنه اليوم بعد ظهور حركة الطبع لا يجدي ولا يفيد، ويحمل على التقية لا محالة. أما ظهورهم بوجهين مختلفين فهذا أمر قد قرر في مذهبهم حتى لا يقف الناس على حقيقتهم (¬1) . ¬
السنة عند المعاصرين
السنة عند المعاصرين: إن الشيعة المعاصرين لم يتغير شيء من مواقفهم حول المسائل التي تحدثنا عنها في مبحث السنة، فلا يزالون يعتبرون أقوال أئمتهم الاثني عشر كأقوال الله ورسوله. يقول شيخهم الخميني: "إن تعاليم الأئمة كتعاليم القرآن يجب تنفيذها واتباعها" (¬1) . ويقول محمد جواد مغنية: "قول المعصوم وأمره تماماً كالتنزيل من الله العزيز العليم: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} (¬2) " (¬3) . فكأنهم بهذا قد اعتبروا هؤلاء الأئمة بما فيهم الغائب الذي لم يوجد أصلاً، والحسن العسكري الذي عده ابن الجوزي من الضعفاء في الموضوعات.. اعتبروا هؤلاء كأنبياء الله ورسله.. وهذا مبني على دعوى عصمتهم التي تبين لنا زيفها وبطلانها فيما مضى. أما دعواهم أن الرسول كتم جزءاً من الشيعة وأودعها علياً فهذا لا يكفون عن التصريح به في كتبهم "الدعائية" كما سجل ذلك شيخهم محمد حسين آل كاشف الغطا في كتابه "أصل الشيعة وأصولها" (¬4) . أما تلك الكتب الوهمية كالجفر والجامعة والتي تتحدث عنها كتب الرواية عندهم.. فلما نعى الشيخ موسى جار الله على الشيعة المعاصرين تصديقهم بمثل هذه الأوهام. أجابه أحد مراجع الشيعة المعاصرين وهو محسن الأمين - بلا حياء - ¬
بقوله: "إن ضاعت صحيفة الفرائض والجفر والجامعة وما ذكر معها عنده وعند أمثاله (يعني موسى جار الله) فلم تضع عند أهلها" (¬1) . بل إن من شيوخهم الكبار عندهم في هذا العصر من يتباهى بذكر تلك الكنوز الوهمية، والأسماء التي لا مسمى لها ويذهب يعدد هذه "الكتب" بكل خفة عقل. ويفتخر بكثرة هذه الأوهام التي لا حقيقة لها.. وإذا سئل أين هذه "الكتب المزعومة" أجاب بأنها المنتظر.. ولولا خشية الإطالة لنقلنا كلامهم في ذلك (¬2) . ومنتظر الشيعة الذي تزعم غيبته وحياته منذ مئات السنين حتى أصبحت هذه الدعوى عار عليها وفضيحة لها تزداد على مر السنين. هذا المنتظر الذي لم يولد أصلاً نسب له بعض الأفاكين "رقاعاً" صدرت عنه مضى الحديث عنها (¬3) . وكان يظن بشيعة العصر الحاضر، ولا سيما وهم يرفعون شعار التقريب، ودعوة الوحدة مع أهل السنة أنهم قد ارتفعوا بمذهبهم قومهم عن ترهات الماضي لكن لم يحصل شيء من ذلك واعتبروا هذه الرقاع من "السنة التي لا يأتيها الباطل" (¬4) . وأدهى من ذلك أن هذا المنتظر يزعمون أنه على صلة مباشرة ببعض شيوخهم حتى الآن، وهذا يعني استمرار حكاية التوقيعات، وخروج الفتاوى ¬
المعصومة والنصوص التي هي كالوحي الإلهي - كما يزعمون -. قال شيخهم محمد تقي المدرسي: "لا نستبعد - بل هو كائن فعلاً - وجود علاقات سرية بين الإمام (¬1) . (ع) وبين مراجع الشيعة، وهذا هو السر العظيم" (¬2) . ومع اعتماد على هذه الأوهام، وقبولهم لمرويات الكذابين، فإنهم لا يزالون في غيهم يعمهون في إعراضهم، عن سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم التي نقلها أصحابه - رضي الله عنهم - بلا حجة وبرهان إلا دعوى أنهم ردوا إمامة علي المنصوصة بزعمهم حتى قال أحد مراجعهم وآياتهم في هذا العصر: "إن ما يرونه مثل أبي هريرة وسمرة بن جندب وعمر بن العاص ونظائرهم ليس لهم عند الإمامية مقدار بعوضة" (¬3) . بل صرح بعض معاصريهم أن الشيعة ترى أن قبول رواية صحابة رسول الله من الكيد للإسلام (¬4) . ولذا قال بعض معاصريهم: "إن الشيعة لا تعول على تلك الأسانيد (أي أسانيد أهل السنة) ، بل لا تعتبرها ولا تعرج في مقام الاستدلال عليها فلا تبالي بها وافقت مذهبها أو خالفته" (¬5) . وقال: "إن لدى الشيعة أحاديث أخرجوها من طرقهم المعتبرة عندهم ودونوها في كتب لهم مخصوصة وهي كافية وافيه لفروع الدين وأصوله، عليها مدار علمهم وعملهم، وهي لا سواها الحجة عندهم" (¬6) . ¬
الإجماع عند المعاصرين
ولأن هذا هو حقيقة موقفهم من السنة النبوية.. فإن لهم نشاطاً واسعاً لمحاربة السنة والتشكيك فيها.. ولكبار شيوخهم حملات مسعورة ضد المكثرين من الرواية من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صنع آيتهم العظمى عبد الحسين الموسوي في كتابه (أبو هريرة) وغيره، ولهم سب وتجريح لكبار محدثي الأمة، ولأمهات كتب المسلمين ما لا يوجد مثله في كتب طائفة من طوائف الكفر، كما تجد ذلك في كتاب الغدير لشيخهم الأميني.. والمجال لا يتسع لنقل شواهد من هذا الغثاء. الإجماع عند المعاصرين: لا جديد في حديثهم في ذلك حتى نثبته، اللهم إلا محاولة صياغة مذهبهم في "الإجماع" بأسلوب خادع قد يغتر به من لا علم له بحقيقة مقالتهم.. يقول - مثلاً -: محمد جواد مغنية: إجماع الصحابة بأن تتفق كلمة الأصحاب جميعاً على حكم شرعي، وقد أوجب السنة والشيعة الأخذ بهذا الإجماع واعتباره أصلاً من أصول الشريعة، ثم يذكر أن الشيعة قالوا بحجته لوجود الإمام مع الصحابة (¬1) . انظر إلى هذا التحايل رغم أن مؤدى قوله أن الشيعة ترى أن الحجة في قول المعصوم لا في الإجماع نفسه، لكنه استعمل هذا الأسلوب الملتوي للخداع والتغرير (¬2) ، وقد انخدع بذلك البعض (¬3) . ¬
اعتقادهم في أصول الدين
اعتقادهم في أصول الدين: ففي مقام توحيد الربوبية وإفراد الله جل شأنه بأفعاله فإن للمعاصرين كلمات في إعطاء الأئمة ما للرب جل شأنه بأفعاله مما لم يؤثر عن أسلافهم من الاثني عشرية. فهذا أحد شيوخهم ويدعى عبد الحسين العاملي قالوا: إنه كان آية من آياتهم التي ينسبونها - زوراً - إلى الله سبحانه. يقول هذا العاملي في مدح أمير المؤمنين علي - برأه الله مما يفترون -: أبا حسن أنت عين الإله ... وعنوان قدرته السامية وأنت المحيط يعلم الغيوب ... فهل عندك تعزب من خافية وأنت مدير رحى الكائنات ... وعلة إيجادها الباقية لك الأمر إن شئت تنجي غداً ... وإن شئت تفسح بالناصية (¬1) . انظر كيف جعل مخلوقًا من مخلوقات الله هو الإله بعينه، والمتصف بما للرب من تدبير وإحياء وإماتة.. فهو مدبر أمر الكائنات وعلة إيجادها ومظهر القدرة الإلهية.. وهو المحيط بعلم الغيب، بل هو مالك يوم الدين، إذ له الأمر في ذلك اليوم، ونجاة العباد، وهلاكهم بمشيئته (¬2) . وهذا ثمرة مرة (طبيعية) لروايات الكليني والقمي والمجلسي.. التي سلف عرض أمثلة من موادها التي تتجه إلى هذا الاتجاه. ¬
واثنا عشرية اليوم تمثل في رواياتها، وبلسان طائفة من شيوخها السبئية وغيرها من الفرق التي تؤله علياً، والتي كنا نظن أنها بادت وانقرضت، فإذا بها تعيش في أحضان الاثني عشرية حتى يقال بأن السبئية هي الاسم الأقدام والاثنا عشرية هي الاسم الأحدث لحقيقة واحدة.. وتلك الكلمات لم تصدر عن عامي من عوامهم، أو كاتب صغير من كتابهم، بل صدرت من آية من آياتهم يرجع لقوله الآلاف. وتجد أن محمد حسيين آل كاشف الغطا أحد كبار مراجع الشيعة وآياتهم، ومن ينادي بالتقريب بين أهل السنة والشيعة يقول في مدح أئمته: يا كعبة الله إن حجت لها الـ أملاك فعرشه ميقاتها أنتم مشيئته التي خلقت بها الـ أشياء بل ذرئت بها ذراتها أنا في الورى قال لكم إن لم أقل ما لم تقله في المسيح غلاتها (¬1) . لقد جعل أئمته هم الكعبة التي تحج إليها الملائكة، وجعل عرش الرحمن هو ميقاتها، وجعلهم هم مشيئة الله وقدرته التي خلقت بها الأشياء. وقطع على نفسه عهداً أن يقول في أئمته ما لم تقله غلاة النصرانية في المسيح، ولعله بهذه الأوصاف قد وصل إلى ما أراد. هذا ما يقوله كبير مراجع الشيعة في هذا العصر، ومن يمثلهم في مؤتمرات ومن يعتبر عند بعض أهل السنة الذين لم يطلعوا على حقيقته من معتدلي الشيعة ولهذا قدموه إماماً لهم في مؤتمر القدس الأول (¬2) ، لأن له وجهين وقولين والتقية لا تنتهي أسرارها وأساليبها عندهم. ¬
ولو ذهبت أسجل ما وجدته لهم في هذا الاتجاه لطال بنا المقام (¬1) . وأقول: إن المادة الشعرية الكبيرة التي تركها شعراء الشيعة وأدباؤها فيها من هذا "الغلو" ما لا يخطر على البال.. ويبدو أن لهيب العاطفة وجذوة الحماس يغطي سلطان التقية فتظهر الحقيقة عارية بلا خداع أو تزوير.. ولهذا فإن هذا الموضوع يستحق دراسة خاصة. وفي مقام توحيد الألوهية فإن مزارات الشيعة ومشاهدها اليوم قد أصبحت من أكبر مظاهر الشرك بالله تعالى، ولا أمل في تغيير هذا المنكر عندهم، لأنه مؤيد بتلك الروايات المنسوبة زوراً لأهل البيت، عكس الأمر عند أهل السنة والذي هو انحرف في واقعهم تنكره أصولهم، وقد رأى هذا الشرك كل من زار تلك المشاهد. يقول الشيخ موسى جار الله بعد زيارة له لإيران والعراق استمرت عدة أشهر بأنه رأى المشاهد والقبور عندهم معبودة (¬2) . ويقول الشيخ أبو الحسن الندوي بعد زيارة له إلى إيران عن مشهد علي الرضا: "فإذا دخل غريب في مشهد سيدنا علي الرضا لم يشعر إلا وأنه داخل الحرم فهو غاص بالحجيج مدوي بالبكاء والضجيج، عامر بالرجل والنساء، مزخوف بأفخر الزخارف والزينات، قد تدفقت إليه ثروة الأثرياء، وتبرعات الفقراء" (¬3) . وقد ذكر صاحب التحفة الاثني عشرية بأنهم لا يزالون يغلون في قبور ¬
الأئمة ويطوفون حولها، بل ويصلون إليها مستدبرين القبلة، إلى غير ذلك من الأمور التي يستقل لديها فعل المشركين مع أصنامهم (¬1) . ثم قال: إن حصل لك ريب من ذلك فاذهب إلى بعض مشاهدهم لترى الحقيقة بعينك (¬2) . وتجد شيخهم المعاصر محمد المظفر في كتابه الذي ألفه لبيان عقائد طائفته وسماه "عقائد الإمامية" والذي ارتضاه شيعته فلم نر أحدًا أنكر عليه شيئًا مما جاء فيه، وقد صاغه بأسلوب يغلب عليه طابع الدعاية للتشيع، ومع ذلك تجده لم يحجم عن التأكد على عقيدة الرافضة في قبور الأئمة فذكر أن مما امتازت به طائفته واختصت به في أضرحة أئمتهم "تشيدها وإقامة العمارات الضخمة عليها، ولأجلها يضحون بكل غال ورخيص عن إيمان وطيب نفس" (¬3) . ثم صرح بأن سبب ذلك ما زعمه من "وصايا" الأئمة وحثهم شيعتهم على الزيارة، وترغيبهم فيما لها من الثواب الجزيل عند الله تعالى.. وباعتبار أن هاتيك القبور - كما يزعم - من خير المواقع لاستجابة الدعاء (¬4) ، والانقطاع إلى الله تعالى (¬5) . ثم ذكر آداب ومناسك الزيارة عندهم بلا حياء ولا خوف من إعلان هذه المظاهر الوثنية (¬6) . ¬
وما فتئ ثلة شيوخهم المعاصرين يجاهرون - بلا وجل أو خجل - بأن كربلاء أفضل من الكعبة المشرفة، فهذا كبير مراجع الشيعة ومن يتزعم الدعوة للتقريب بين السنة والشيعة يدعي أن كربلاء أفضل من الكعبة البيت الحرم الذي جعله الله قياماً للناس ومثابة وأمنًا وبارك فيه بنص التنزيل الإلهي. فيترنم مرجع الشيعة محمد حسين آل كاشف الغطاء مخالفاً لنص القرآن وإجماع المسلمين يترنم بهذا البيت الوثني وهو قوله: ومن حديث كربلاء والكعبة ... لكربلاء بان علو الرتبة وهو يرى أن هذا من ضرورات مذهبهم فيقول بأن كربلاء "أشرف بقاع الأرض بالضرورة" (¬1) . لأنه قد شهدت بذلك آثارهم وأخبارهم - كما يقرر -. وهذه الشهادة التي يعتمدها يجب أن تنجعل برهان ودليلاً على كذب هذه الأخبار، ومروق من وضعها عن الدين، وخروج من صدق بها عن إجماع المسلمين.. وأين كربلاء من قول الله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ، فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (¬2) . فهل بعد هذا يبقى قول لقائل: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (¬3) . هذا وأقوال شيوخهم المعاصرين في هذا المعنى كثيرة (¬4) . ¬
وإذا كانت كتب الشيعة القديمة تقرر بأن الله قد تاب على الأنبياء بتوسلهم بالأئمة (¬1) ، فإن هذا المعنى المتناهي في الغلو والذي يتضمن تفضيل الأئمة على الأنبياء (¬2) . والمتناهي في السذاجة والغفلة؛ إذ يفترض وجود هؤلاء الأئمة في حياة الأنبياء السابقين، والموغل في الدعوة إلى الشرك بالله سبحانه وعبادة غيره جل شأنه.. فإن هذا المعنى الذي يحمل هذه "البلايا" وغيرها يقرره بعض كبار شيوخهم ويوصي ابنه بالعمل بمقتضاه فيقول آيتهم وحجتهم عبد الله الممقاني: "وعليك بني بالتوسل بالنبي وآله صلى الله عليهم أجمعين، فإني قد استقصيت الأخبار فوجدت أنه ما تاب الله على نبي من أنبيائه من الزلة (¬3) إلا بالتوسل بهم (¬4) . واذا كانت مصادرهم القديمة تجعل زيارة قبر الحسين أفضل من الحج إلى بيت الله سبحانه، فإن هذا المعنى الخطير يتكرر على ألسنة شيوخهم المعاصرين، ويدعون إلى هذا، لأن فيه - كما يخدعون أتباعهم - " الثواب الجزيل عند الله باعتبار ¬
أنها من أفضل الطاعات والقربات.." (¬1) . ولهذا يوصي آيتهم عبد الله الممقاني ابنه بزيارة الحسين في كل يوم يقول: "وعليك بني بزيارته (يعني قبر الحسين) في كل يوم من البعد مرة، والمضي إليه في كل شهر مرة، وإن كنت في بلدة بعيدة ففي السنة مرة" (¬2) . لاحظ أن هذا الشيخ لم يوص ابنه بالصلاة.. بل أوصاه بالاتجاه إلى القبر حيث ترفع للشرك رايات، لأن ذلك عندهم من أفضل القربات.. وهذه شرعة المشركين. وقد علق الابن (¬3) . على هذه الوصية بقوله: "قد ورد أن من زاره - عارفاً بحقه - كتب الله له ثواب ألف حجة وألف عمرة". إلي أن قال: "وكأنما زار الله (!!) . وحق على الله ألا يعذبه بالنار، ألا وإن الإجابة تحت قبته والشفاء في تربيه.." (¬4) . ومن زار قبر الحسين عليه السلام ليله النصف من شعبان وليلة الفطر، وليله عرفة في سنة واحدة كتب الله له ألف حجة مبرورة، وألف عمرة متقبلة، وقضيت له ألف حاجة من حوائج الدنيا والآخرة (¬5) . "ومن أتاه يوم عرفة عارفاً بحقه كتب الله له ألف حجة، وألف عمرة متقبلات، وألف غزوة مع نبي مرسل أو إمام عادل" (¬6) . وهكذا تتفق كتب الشيعة قديمها وجديدها على هذا الاعتقاد الوثني وينسبون هذا لأئمة أهل البيت بل وللإسلام، ولا يعلم المسلمون كلهم بهذا الأمر، ¬
بل ينفرد بنقله الرافضة دون غيرهم.. ولا شك أنهم بشذوذهم هذا يعلنون كذبهم، ويفضحون مذهبهم.. ولقد كان لهذه "النصوص" أثرها الخطير في دنيا الشيعة، حيث أحيت عقيدة المشركين في مزارات الشيعة ومشاهدها فأصبحت المشاهد معمورة والمساجد مهجورة، وعلماؤهم يؤيدون هذا المنكر ويسعون لتثبيته واستمراره. بل قد جاءت روايات لهم صريحة في التحذير من هذا المنكر الذي يفعلونه. ولكن مراجعهم تتستر على مثل هذه النصوص ولا تود أن تظهر لأولئك الأتباع الأغرار، بل إنها تنكر وجودها عندهم إمعاناً في حجب هذا "النور" عن شيعتهم وأتباعهم. يقول مجتهد الشيعة الأكبر - كما يصفونه - محسن الأمين في كتابه "الحصون المنيعة" وهو يدافع عن اتخاذ الشيعة للقبور مساجد.. يقول في رده للنصوص الواردة في أمهات كتب المسلمين في النهي عن اتخاذ القبور مساجد والبناء عليها بأن ذلك مما انفرد أهل السنة بنقلة وهو معارض بما زعمه متواتراً من طرق أهل البيت (¬1) . أقول: إن هذا النهي قد جاء أيضاً من طرق الشيعة بروايات كثيرة أخرجها الحر العالمي في وسائل الشيعة وغيره - كما مر (¬2) . - فإما أن كان هذا المدعو بالأمين غير أمين وأراد التكتم على حقيقة موجودة في كتبهم، أو هو جاهل بما في مدوناتهم.. مع أنه آية من آياتهم المنسوبة زواراً إلى الله سبحانه. وفي باب الأسماء والصفات: يقرر شيوخهم المعاصرين مذهب المتأخرين عند الشيعة وهو التعطيل، ويقتفون أثر المعتزلة في ذلك حذو القذة بالقذة ¬
فيقولون - مثلا - بخلق القرآن (¬1) ، وينكرون رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة (¬2) ، وينكرون صفاته سبحانه (¬3) . الثابتة له بالكتاب والسنة، ويصفون الله سبحانه بالسلوب بقول شيخهم المظفر في كتابه عقائد الإمامية تحت عنوان عقيدتنا في الله: ".. ليس هو بجسم ولا صورة، وليس جوهراً ولا عرضاً، وليس له ثقل أو خفة، ولا حركة أو سكون، ولا مكان ولا زمان، ولا يشار إليه" (¬4) . وأنت ترى أنهم في وصفهم له سبحانه بهذه الصفات السلبية المحضة قد نفوا الوجود الحق له تعالى، ولا جديد عندهم في ذلك، فهذه كلمات رددها الجهمية من قبلهم وهم على آثارهم يهرعون، ومن هنا يخطئ من يظن أن الجهمية المعطلة قد توارت عن الوجود واندثرت. وهم يكفرون من يخالفهم في تعطيلهم. يقول المظفر: "ومن قال.. إنه ينزل إلى السماء الدنيا، أو إنه يظهر إلى أهل الجنة كالقمر، أو نحو ذلك فإنه بمنزلة الكافر به.. وكذلك يلحق بالكافر من قال: إنه يتراءى لخلقه يوم القيامة" (¬5) . ويزعمون أن العقل دلهم على هذا التعطيل (¬6) . وهل كان العقل مصدراً للتلقي في أمر غيبي، وهل يوافق العقل السوي على وصف الله سبحانه بهذه الصفات السلبية التي ليس عليها دليل، ويرد ما نزل به الوحي؟ ثم ما حصيلة الأفكار والفلسفات التي تحدثت عن هذه المسألة بمعزل عن ¬
الوحي الإلهي؟ إنها لم تخلف سووي ركام من التناقضات، وعبث كعبث الأطفال، وعادت على أصحابها بالحيرة والقلق. وما نهاية من جعل العقل دليله وقائده من المتكلمين في التاريخ الإسلامي؟ أليست هي الحيرة والضياع. وقد وجد من جرب الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية أنها لا تروي غليلاً ولا تشفي عليلاً، وأن أقرب الطرق طريقة القرآن، ولكنهم حين أعراضوا عنها كان سعيهم في ضلال (¬1) ، وأضاعوا الجهد والوقت، وأشغلوا الأمة، وصرفوها عن وظائفها الواجبة. ومنهج أهل السنة في الأسماء والصفات منهج عظيم لالتزامه بالكتاب والسنة، وحفظه لوقت المسلم وجهده وطاقته وعقله من أن يبددها في البحث عما لم يكلف به، ولا سبيل للوصول إلى معرفة كيفيته. بقي أن نضيف اتجاهاً آخر لمعاصريهم في عقيدتهم في التوحيد وهو اقتفاء أثر الصوفية الذين يذهبون إلى القول بأن التوحيد مراتب أدناها مرتبة عندهم هو مدلول كلمة الإسلام العظيمة: "لا إله إلا الله" فشرعوا من الدين ما لم يأذن به الله، ووصلوا عن طريق هذه المراتب إلى الكفر البواح، والقول بالاتحاد، وأن المخلوق عين الخالق؛ فخرجوا بذلك عن العقل والنقل، والدين، وفاقوا النصارى في شركهم الذين قالوا بحلول الإله في عيسى؛ لأن النصارى قالوا بحلول خاص وهؤلاء قالوا بالحلول العام. ولكن شيوخ الشيعة الذين ينقلون لهذه الطائفة على مر العصور وكر الدهور حثالة المذاهب المبتدعة، وزبالة الأفكار البشرية الساقطة، وغثاء النفوس المعقدة.. أخذوا بهذا الاتجاه الصوفي المريب، ونقلوه إلى قومهم، بل عدوه هو عقيدتهم المعتمدة. ¬
يقول شيخهم وآيتهم إبراهيم الزنجاني (¬1) . في كتاب عقائد الإمامية الاثني عشرية (¬2) . تحت عنوان "عقيدة الشيعة في التوحيد": "إن مراتب التوحيد أربع.. توحيد العوام وتوحيد الخواص، وتوحيد خاص الخاص، وتوحيد أخص الخواص، والأول مدلول كلمة لا إله إلا الله" (¬3) . ويذكر بأن شيعته تمتاز عن المسلمين جميعاً بعقيدة توحيد خاص الخاص، وتوحيد أخص الخواص (¬4) . ويقول بأن المقام لا يتسع لشرح وتفاصيل هذه المراتب، لكنه يقول بأنهم أخذوها عن أمير المؤمنين علي في قوله: "أول الدين معرفته وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده.. نفي الصفات عنه.. فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثناه، ومن ثناه فقد جزأه، ومن جزأه فقد جهله، ومن جهله فقد أشار إليه، ومن أشار إليه فقد حده، ومن حده فقد عده.." (¬5) . وهذا النص الذي ينسبه - زواراً وافتراءً - إلى أمير المؤمنين علي يتضمن تعطيل الله سبحانه من صفاته الثابتة بالكتاب والسنة. والاعتقاد بأن نفي الصفات هو كمال التوحيد، هو اعتقاد الجهمية الذين جعلوا من أصولهم "التوحيد" وضمنوه نفي الصفات، وكان مؤدى قولهم ونهاية أمرهم، تعطيل الذات؛ لأن نفي الصفات يؤدي إلى نفي الذات، لأن ذات مجردة عن الصفات، لا يتصور لها وجود في الخارج. ¬
ولأن مذهب الجهمية في تعطيل الصفات مؤد لمذهب الحلول والاتحاد (¬1) . صار - فيما يظهر - هو عمدته، في ما ذهب إليه من القول بالتوحيد الخاص وخاص الخاص. وحسبك أن تعرف مبلغ ضلالهم في اعتبارهم التوحيد الذي جاءت به الرسل ونزلت به الكتب، وأمر الله به الأولين والآخرين هو في المرتبة الدنيا من مراتب توحيدهم، وهم عندهم مقام يليق بالعوام ويناسب حالهم، وهل عندهم بذلك من علم فيخرجوه لنا؟ (¬2) . وهذا كلام الله المنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا كلام خير القرون بعد الرسول صلى الله عليه وسلم. هل جاء هذا التقسيم عن أحد منهم؟ إن يتبعون في ذلك إلا أقوال شيوخهم وزنادقتهم، وما لهم بذلك من علم إلا اتباع الظن وما تهوى الأنفس وما تمليه عليهم شياطين الإنس والجن. وحسبك أيضاً أن تدرك أن مبلغ أمرهم في سلوك هذه المقامات والتي باعترافهم ليست من مدلول معنى لا إله إلا الله هو الوصول بالسالك إلى مقام الإلحاد وهو ما يسمى بالحلول أو الاتحاد (¬3) . ¬
الإمامة
الإمامة: الإمامة بإقرار المعاصرين كالنبوة (¬1) ، واستمرار للنبوة (¬2) ، أو "تنصيب من الله كالنبوة" (¬3) . وهي من أركان الإسلام عندهم. قال كاشف الغطا: "إن الشيعة زادوا في أركان الإسلام ركناً آخر وهو الإمامة" (¬4) .. إلخ. ولا أجد عندهم تغييراً لشيء من غلوهم الذي جاء الحديث عنه فيما سبق، لكن ثمة دعوى جديدة في كتبهم التي تكتب للعالم الإسلامي حول ثلاث مسائل: الأولى تفكيرهم لمنكر الإمامة، والثانية حكمهم على حكومات المسلمين بأنها حكومات كافرة، والثالثة تكفيرهم للصحابة. المسألة الأولى: موقف المعاصرين من تكفير أصولهم للمسلمين: تجد في هذه المسألة موقفين للمعاصرين قد يظن من ليس على دراية بأصولهم أنهما مختلفان: الموقف الأول: يقول بأن منكر الإمامة لا يخرج عن الإسلام، وينكر على من يقول بأن الشيعة يكفرون غيرهم. والموقف الثاني: يجاهر بالتكفير بدون تقية ولا مواربة. ¬
أما بالنسبة للموقف الأول فيقول محسن الأمين - في الرد على موسى جار الله الذي قال: "إن كتب الشيعة صرحت أن كل الفرق كافرة وأهلها نواصب" (¬1) . - قال محسن الأمين: سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم، لا يعتقد أحد من الشيعة بذلك، بل هي متفقة على أن الإسلام هو ما عليه جميع فرق المسلمين من الإقرار بالشهادتين إلا من أنكر ضروريًا من ضروريات الدين كوجوب الصلاة وحرمة الخمر وغير ذلك، وعمدة الخلاف بين المسلمين هو في أمر الخلافة، وهي ليست من ضروريات الدين بالبديهة؛ لأن ضروري الدين ما يكون ضروريًا عند جميع المسلمين وهي ليست كذلك (¬2) . ويقول محمد حسين آل كاشف الغطا: "ومن لم يؤمن بالإمامة فهو مسلم، ومؤمن بالمعنى الأعم، تترتب عليه جميع أحكام الإسلام من حرمة دمه وماله وعرضه، ووجوب حفظه، وحرمة غيبته (¬3) وغير ذلك، لا أنه بعدم الاعتقاد بالإمامة يخرج من كونه مسلماً - معاذ الله - نعم يظهر أثر التدين بالإمامة في منازل القرب، والكرامة يوم القيامة (¬4) . وبمثل هذا الرأي قال آخرون من شيعة هذا العصر (¬5) . أما فيما يتعلق بالموقف الثاني، فإنه لا يزال "طغام" من شيوخهم وآياتهم يهذون في هذا الضلال، ويصرحون بتكفير المسلمين مثل: شيخهم علي اليزدي ¬
الحائري (¬1) ، وشيخهم عبد الحسين المرشتي (¬2) ، وشيخهم عبد الهادي الفضلي (¬3) . وقد يسلك بعض هؤلاء الشيوخ المسلكين جميعاً، أي يخرج تارة بوجه التكفير، وحيناً بالوجه الآخر حسب المناسبات والأحوال، وفي التقية متسع، وهو هؤلاء محمد رضا المظفر الذي يشير في كتابه "عقائد الإمامية" إلى أن المسلم عندهم هو من يشهد الشهادتين أياً كان مذهبه (¬4) . ولكنه في كتابه "السقيفة" يحكم بردة المسلمين بأجمعهم بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "مات النبي صلى الله عليه وسلم ولابد أن يكون المسلمون كلهم - لا أدري الآن - قد انقبلوا على أعقابهم" (¬5) . فانظر كيف يحكم على الصحابة والقرابة والأمة جميعاً بالردة، ويشك في إيمان واحد منهم.. ولم يلغ غلو أحد من الشيعة السابقين ذلك إلا ما ينسب إلى طائفة "الكاملية" الذين يكفرون علياً لتخليه عن المطالبة بحقه، ويكفون الصحابة ¬
لعدم مبايعتهم لعلي، لكن هذه الطائفة لا وجود لها اليوم بهذا الاسم، وكان يظن أنه لا قائل بمذهبها في هذا الزمن. ثم ما لبث هذا الظن أن توارى، فها هي تعيش في أحضان الاثني عشرية في هذا العصر، ويجاهر بمذهبها بعض الشيوخ الكبار عندهم. والمذهب الاثنا عشري مؤهل لإخراج كثير من فرق الغلو، بمدوناته التي جمعت من الشذوذ فأوعت. وهذا الموقف من شيخهم المظفر له أمثاله عند شيوخهم المعاصرين (¬1) . هذان موقفان في الظاهر مختلفان، وهما في الحقيقة متفقان، فالذين يحكمون بإسلام الأمة لا يختلفون عمن يحكم بكفرها، أما كيف ذلك فإليك البيان: إنهم يقولون: إننا نحكم بإسلام الناس في ظاهر الأمر فقط، أما في الباطن فهم كافرون وهم مخلدون في النار بإجماع الطائفة. وقد صرح بهذه "الحقيقة" شيوخهم القدامى، والمعاصرون، وتجد إذا تأملت في كلام القائلين بأنهم لا يكفرون المسلمين إشارات إلى هذا المهذب يدركها من عرف عقيدتهم في هذا الأمر، وطريقتهم في التقية. وممن صرح بذلك من شيوخهم السابقين زين الدين بن علي العاملي المقلب عندهم بالشهيد الثاني (المتوفى سنة 966هـ) حيث يقول: "إن القائلين بإسلام أهل الخلاف (يعني أهل السنة وسائر المسلمين من غير طائفتهم) يريدون.. صحة ¬
جريان أكثر أحكام المسلمين عليهم في الظاهر، لا أنهم مسلمون في نفس الأمر، ولذا نقلوا الإجماع على دخولهم النار" (¬1) . ويقول: "كأن الحكمة في ذلك (¬2) . هو التخفيف عن المؤمن (¬3) . لمسيس الحاجة إلى مخالطتهم في أكثر الأزمنة والأمكنة" (¬4) . ويقول شيخهم المجلسي: "ويظهر من بعض الأخبار بل كثير منها أنهم في الدنيا أيضاً في حكم الكفار، لكن لما علم الله أن أئمة الجور وأتباعهم يستولون على الشيعة وهم يبتلون بمعاشرتهم.. أجرى الله عليهم حكم الإسلام توسعة، فإذا ظهر القائم يجري عليهم حكم سائر الكفار في جميع الأمور، وفي الآخرة يدخلون النار ماكثين فيها أبداً مع الكفار، وبه يجمع بين الأخبار كما أشار إليه المفيد والشهيد الثاني" (¬5) . أما أقوال المعاصرين فيقول آيتهم العظمى شهاب الدين الحسيني المرعشي النجفي: "أصول دين الإسلام على قسمين: قسم يترتب عليه جريان حكم المسلم وهو الشهادة بالوحدانية والشهادة بالرسالة. وقسم: يتوقف عليه النجاة في الآخرة، والتخلص من عذاب الله، والفوز برضوانه، والدخول في الجنة، فيحرم دخولها على من لم يعترف به ويساق إلى النار في زمرة الكافرين ويسمى هذا القسم بأصول الإيمان". ثم ذكر أن من هذا القسم "الاعتقاد بالإمامة، والاعتراف بالإمام"، وقال: "إن الدليل على ذلك هو ارتداد جماعة من الصحابة بعد ارتحال النبي صلى الله عليه وسلم ¬
إلى الكفر، ومن المعلوم أنه لم يصدر بعد ارتحال النبي من الصحابة ما يصلح أن يكون موجباً للارتداد إلى الكفر، ولم يعدلوا عن الشهادة بالوحدانية والنبوة غير أنهم أنكروا الإمامة" (¬1) . وبعد هذا البيان تتجلى سحابة التقية، ويتضح أن حكم بعض شيوخهم المعاصرين على مخالفيهم بالإسلام إنما يعنون به "الإسلام الظاهر" كما اصطلحوا عليه، وأنت إذا تأملت كلامهم أدركت مغزاهم؛ فانظر إلى قول آل كاشف الغطاء تجده أشار إلى هذا المذهب بقوله: "نعم يظهر أثر التدين بالإمامة في منازل القرب والكرامة يوم القيامة"، ومع ذلك فقد اعتد بكلامه بعض المنتسبين لأهل السنة" (¬2) . أما محسن الأمين فإنه رمز له المذهب الباطل في عدة جمل من كلامه كقوله: "الإسلام هو ما عليه جماعة الناس من الفرق كلها"، فلا شك بأن من الفرق ما هو خارج عن الإسلام بالاتفاق، ولكن يريد هنا مصطلح الإسلام عندهم. وكقوله: "إلا من أنكر ضرورياً من ضروريات الدين كوجوب الصلاة وحرمة الخمر". فالإمامة عندهم أعظم من وجوب الصلاة وحرمة الخمر - كما تقدم - بلا خلاف بينهم، فنبه بالأدنى على الأعلى تقية. أما قوله: "وعمدة الخلاف بين المسلمين هو في أمر الخلافة وهي ليست من ضروريات الدين.." فهذا فيه "تقية" قد لا يتنبه لها من لم يتعامل مع "أساليبهم" ولهذا فات هذا على البعض (¬3) . فهو هنا يعني الخلافة عند المسلمين لا مسألة الإمامة عندهم، ولذا عبر بالخلافة. ¬
المسألة الثانية: موقفهم من الحكومات الإسلامية
وعندهم أنهما متغايران تماماً، قال أحد شيوخهم المعاصرين: "الإمامة تعني رئاسة دين، والخلافة رئاسة دولة، كما فهم من النصوص الواردة" (¬1) . ولذلك قالوا: إن إمامة علي بدأت بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم (¬2) ، وأن الصحابة في خلافتهم "فصلوا الدين عن الدولة" (¬3) . المسألة الثانية: موقفهم من الحكومات الإسلامية لما قال الشيخ موسى جار الله: "إن الشيعة تعتبر الحكومات الإسلامية وقضاتها طواغيت" (¬4) . أجابه أحد آيات الشيعة بقوله: "الطواغيت من الحكومات وقضاتها عند الشيعة إنما هم الظالمون الغاشمون المستحلون من آل محمد ما حرم الله ورسوله.. أما غيرهم من حكومات الإسلام فإن من مذهب الشيعة وجوب مؤازرتهم في أمر يتوقف عليه عز الإسلام ومنعته، وحماية ثغوره وحفظ بيضته، ولا يجوز عندهم شق عصا المسلمين وتفريق جماعتهم بمخالفته، بل يجب أن تعامل سلطانها القائم بأمورها والحامي لثغورها معاملة الخلفاء بالحق" (¬5) . وبمثل هذا "الأسلوب" قال آخرون من شيوخهم (¬6) . فهل هذا القول يعتبر خروجاً من شيعة هذا العصر عن أصل مذهبهم الذي مضى الحديث عنه في هذه المسألة؟ أو أن في الأمر تقية ومداراة، لأن الخطاب ¬
مع سنيّ وموجه لأهل السنة وما يكون كذلك تجري فيه التقية؟ وللجواب على ذلك أقول: لا يزال جمع من شيوخهم المعاصرين يصرح بأن مذهبهم لا يعترف إلا بحكومة الاثني عشر، ولا يذكرون في ذلك خلافاً بينهم. يقول شيخهم محمد جواد مغنية: إن شروط الإمامة "لم تتوافر في واحد ممن تولى الخلافة غير الإمام علي وولده الحسن بخاصة من جاء بعدهما - كذا - فمن الطبيعي إذن - كما يقول - أن لا يعترفوا بإمامة أي حاكم غير علي وأبنائه، وأن ينظروا إليه نظرهم إلى من غضب أهل البيت حقهم الإلهي ودفعهم عن مقامهم ومراتبهم التي رتبهم الله فيها، وكان الحاكم يرى في الشيعة العدو الللدود والحزب المعارض لحكمه. ثم قال: "فمبدأ التشيع لا ينفصل بحال عن معارضة الحاكم إذا لم تتوفر فيه الشروط وهي: النص: والحكمة، والأفضلية.. ومن هنا كانوا يمثلون الحزب المعارض ديناً وإيماناً" (¬1) . فأنت ترى أنه ينسب إلى عموم الشيعة رفض أي حكومة غير حكومة الأئمة المنصوص عليهم بزعمهم، ولذلك يحكمون بهذا الحكم حتى على الخلافة الراشدة وخلافة النبوة. يقول شيخهم الصادقي (¬2) : "الخلفاء الثلاثة شركاء في التآمر على الإسلام" (¬3) . ويقول شيخهم الآخر: "تلاعبت الأيادي الأثيمة بالإسلام والمسلمين من الحكام والحاكمين منذ وفاة النبي الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلم" (¬4) . ¬
كما أنهم يرون أن حكم الأمة الإسلامية بيد الغائب المنتظر، وكل من تولى الحكم سواه فهو غاصب، ويستثنى بعضهم ولاية الفقيه الشيعي، لأن له حق النيابة، يقول شيخهم عبد الهادي الفضلي: "إن دولة المنتظر هي دولة الإسلام" (¬1) . ولا يوجد دولة للإسلام غيرها، لذلك يقول: "إن علينا أن نعيش في فترة الغيبة مترقبين لليوم الموعود الذي يبدؤه الإمام المنتظر عليه السلام بالقضاء على الكفر" (¬2) . ولكن لا يعني انتظارهم لعودة مهديهم موادعة الحكومات الإسلامية. فهو يقول: "إن الذي يفاد من الروايات في هذا المجال هو أن المراد من الانتظار هو: وجوب التمهيد والتوطئة بظهور الإمام المنتظر" (¬3) . ثم يشرح معنى التوطئة بقوله: "إن التوطئة لظهور الإمام المنتظر تكون بالعمل السياسي عن طريق إثارة الوعي السياسي، والقيام بالثورة المسلحة" (¬4) . فأنت ترى من خلال هذه "الأقوال" رفضهم لأي حكومة إسلامية إلا حكومة شيعية، والأمر بتهيئة الناس لقبول ثوراتهم عن طريق نشر معتقداتهم بمختلف الوسائل وهو ما يسميه الفضلي "بالوعي السياسي". وغير خفي أن هذا المنهج الذي صار إليه شيوخ الاثني عشرية غير متفق مع خط الاثني عشرية التي كانت عليه أولاً، ولذلك جاء في الغيبة للنعماني: "عن أبي الجاورد، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: قلت له عليه السلام: أوصني، فقال: أوصيك بتقوى الله، وأن تلزم بيتك، وإياك والخوارج منا، فإنهم ليسوى على شيء ولا إلى شيء.." (¬5) . ¬
قال المجلسي: "والخوارج منا أي مثل زيد وبني الحسن" (¬1) . فروايتهم تمنع الخروج ولو كان عن طريق أهل البيت، فكيف ممن عداهم من شيوخ الشيعة؟ وأمرهم أبو عبد الله - حسب رواياتهم - بعد غيبة مهديهم بالكف عن إثارة الفتن فقالوا: "كونوا أحلاس بيوتكم فإن الفتنة على من أثارها" (¬2) . وقال الباقر: "اسكنوا ما سكنت السموات والأرض، أي ولا تخرجوا على أحد" (¬3) . وعقد شيخهم النعماني باباً في هذا الشأن بعنوان "باب ما روي فيما أمر به الشيعة من الصبر والكف والانتظار في حال الغيبة وترك الاستعجال بأمر الله وتدبيره" (¬4) . ثم ساق مجموعة من رواياتهم في ذلك، وعقب عليها بقوله: "انظروا رحمكم الله إلى هذا التأديب من الأئمة عليهم السلام إلى أمرهم ورسمهم في الصبر والكف، والانتظار للفرج، وذكرهم هلاك المستعجلين.." (¬5) . هذا ما يقرر شيوخ الاثني عشرية في القرن الثالث.. فإما أن المعاصرين لا يعرفون مذهبهم، وإما أنهم لا يهتمون بأمر "الانتظار" لعلمهم أن ذلك المنتظر لن يخرج، لأنه لم يوجد، ولذلك دعوا إلى الثورة وتأسيس الدولة. هذا ما يقوله ويجاهر به الشيوخ المعاصرين، فزادوا على حكمهم بكفر الحكومات الإسلامية، إلى الدعوة إلى الخروج عليها، قبل خروج منتظرهم. بل إن شيخهم الخميني يقرر بأنه لا يجوز البدء في الجهاد حتى يخرج المنتظر (¬6) . ¬
ولكنه يخالف ذلك بتصدير ثورته بالقوة - كما سيأتي (¬1) .- لأن مذهبهم يتغير حسب الأحوال والظروف فهو تابع لأهواء الشيوخ، والتأويلات عندهم باب واسع.. بل لا حدود لها ولا قيود.. ومن منطلق هذا الاعتقاد يرون أن حكم الكفار للديار الإسلامية أولى من حكم المسلمين، وقد نقل الشيخ رشيد رضا أن الرافضي (أبو بكر العطاس) قال: "إنه يفضل أن يكون الإنكليز حكاماً في الأراضي المقدسة على ابن سعود" (¬2) . وقد كشف لنا آيتهم حسين الخراساني أن كل شيعي يتمنى فتح مكة والمدنية، وإزالة الحكم الوهابي - كما يسميه - عنها. وقال: "إن طوائف الشيعة يترقبون من حين وآخر أن يوماً قريباً آت يفتح الله لهم تلك الأراضي المقدسة لمرة أخرى - كذا - ليدخلوها آمنين مطمئنين فيطوفوا ببيت ربهم، ويؤدوا مناسكهم، ويزوروا قبور سادتهم ومشايخهم.. ولا يكون هناك سلطان جائر يتجاوز عليهم بهتك أعراضهم، وذهاب حرمة إسلامهم، وسفك دمائهم المحقونة، ونهب أموالهم المحترمة ظلماً وعدوناً، حقق الله تعالى آمالنا" (¬3) . هكذا يتمنى هذا الرافضي فتح الديار المقدسة، وكأنها بيد كفار، ويعلل هذا التمني بأنه يريد الحج والزيارة، وكأنه وطائفته قد منعوا من ذلك، والواقع أنه يريد إقامة الشرك وهدم التوحيد في الحرمين الطاهرين. فإذا كان هذا ايجاهر به شيوخهم، وذاك ما استقرت عليه أصولهم فما حقيقة قول عبد الحسين وأضرابه؟ الواقع أن قوله لا يختلف عن قول من استشهدنا بكلامه من شيوخهم، إلا أنه صاغ كلامه بأسلوب التورية، وبطريقة تخدع من لا يعرف أساليبهم في التقية؛ ¬
المسألة الثالثة: موقف المعاصرين من الصحابة رضوان الله عليهم
فهو يقول: "إن الطواغيت من الحكومات وقضاتها عند الشيعة إنما هم الظالمون لآل محمد". وهو في هذا لم يخرج عن مذهبه، فهم يعدون كل من تولى الحكم من المسلمين غير أمير المؤمنين على والحسن هو ظالم لآل محمد، لأن منصب الإمامة مختص بهم، وحق من حقوقهم لا يشركون فيه أحد. ومن يتولاه من غيرهم فهم ظالم لهم، ولذلك قال ابن بابويه: "فمن ادعى الإمامة وهو غير إمام فهو الظالم الملعون" (¬1) . ولهذا يعدون أبا بكر - رضي الله عنه - أول ظالم لهم. وفي قوله: "وإن الشيعة ترى وجوب مؤازرتهم - أي الحكام - في أمر يتوقف عليه عز الإسلام". فهو في هذا أيضاً لم يخرج عن طريقة الروافض، ومراده بـ"عز الإسلام" انتصار مذهب طائفته، أي أن الدخول في حكومات المسلمين للإطاحة بها، أو التمكين للشيعة من القيام بمذهبهم، أو استغلال مواردها لتمويل نشاطهم واجب.. ولهذا ترى شيخهم الخميني يؤيد ما صنعه النصير الطوسي من دخوله في العمل وزيراً لهولاكو بقصد هدم دول الخلافة الإسلامية، وإظهار مذهب الشيعة فيقول: "إن من باب التقية الجائزة دخول الشيعي في ركب السلاطين، إذا كان في دخوله الشكلي نصر للإسلام والمسلمين مثل دخول نصير الدين الطوسي" (¬2) . فمذهب القوم - كما ترى - لم يزدد إلا غلواً وتطرفاً. المسألة الثالثة: موقف المعاصرين من الصحابة رضوان الله عليهم هل تغير شيء في مذهب هذه الطائفة في أمر الصحابة عما عرضناه من قبل في ضوء أصولهم - ولاسيما - بعد قيام دعوات التقارب والوحدة.. وتكالب العدو الكافر على الأمة من كل حدب وصوب.. ومضي القرون المتطاولة ولم ¬
تعرف الأمة أشرف ولا أعظم ولا أفضل من ذلك الجيل القرآني الفريد جيل الصحابة رضوان الله عليهم؟ فهل تفتحت عقول الشيعة وقلوبهم على الحقيقة، وعرفت خطورة تلك الأسطورة التي تتناقلها كتبهم القديمة من حكاية ردة الصحابة، ومن افتعال ذلك الصراع المكذوب بين الآل والأصحاب؟! أما آن لها أن تؤمن بالتنزيل الإلهي، والسنة المطهرة، وإجماع الأمة، وما علم من الدين والتاريخ بالضرورة وتوازن بالعقل بين الأخذ بذلك، أو الاغترار بنقل حثالة من الكذابين استفاض ذمهم وتكذيبهم.. فهل يقبل عقل سليم تصديق شرذمة من الكذابين، وتكذيب الصحابة أجمعين الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه؟! إن تلك الصفحات السوداء التي تتضمن الطعن واللعن والتكفير لأولئك الصحب العظام وهم الذين تلقوا هذا الدين، ونقلوه لنا، هي في الحقيقة طعن في دين الإسلام ورسول الإسلام.. وإن على الصادقين المخلصين من الشيعة وهم يريدون التقارب مع المسلمين أن يعلنوا براءتهم من تلك الأقوال الشاذة الملحدة التي تتناول خيار صحابة رسول الله باللعن والتكفير ويبينوا لأقوامهم أولاً وللمسلمين عامة أن تلك الروايات والأقوال هي آراء لبعض الطوائف المنحرفة الضالة القديمة يبوؤن بإثمها وإثم من اتبعهم فيها إلى يوم القيامة حتى يزيلوا تلك النفرة التي سكنت في قلوب أهل السنة منذ أقدم العصور إلى الآن. وإن أجدى طريق لإزالتها هو بيان أنهم لا يعتقدون صحة تلك الآراء التي يستوحش منها المؤمنون في كل بقاع الأرض، فأي مؤمن صادق الإيمان يعلم أن فرقة من الفرق تدين بلعن صدّيق هذه الأمة الذي لو وزن إيمانه بإيمان الأمة لرجح بهم، أو فاروقها الذي لم يَفْرِ في الإسلام فريه أحد، ثم بعد ذلك يقبل على دراسة مذهبها، إلا إذا أوتي قدرة فكرية خاصة. وأي مؤمن يثق بآراء هذه الطائفة إذا كان يعلم أنها تدين بهذا اللعن! إن إزالة هذه الأدران والبلايا هي من أركان التقارب وأسسه،
وإن عليهم أن يعلنوا هذه الإزالة والتغيير (¬1) ، إذا كانوا صادقين في رغبتهم في التآلف مع المسلمين، وليس الأمر مؤامرة لنشر معتقداهم في ديار السنة. فماذا يقول شيعة العصر الحاضر في هذه المسألة؟ لقد خرج من شيعة العصر الحاضر رجل يدعى "أحمد الكسروي" قال عنه الأستاذ محمود الملاح بأنه: "لم يظهر في عالم الشيعة (¬2) . أحد في عياره منذ ظهور اسم شيعي على وجه الأرض" (¬3) . وقد عمل أستاذاً في جامعة طهران، كما تولى عدة مناصب قضائية (¬4) . وقد اكتشف الكسروي بطلان مذهب الشيعة حول الصحابة، وتخلص من تلك الأساطير التي وضعتها تلك الزمرة الحاقدة حول الصحابة وارتدادهم لمخالفتهم النص على إمامة علي - كما يزعمون - وبين ضلال طائفته في هذا المذهب فقال: "وأما ما قالوا عن ارتداد المسلمين بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثة أو أربعة منهم فاجتراء منهم على الكذب والبهتان، فلقائل أن يقول: كيف ارتدوا وهو كانوا أصحاب النبي، آمنوا به حين كذبه الآخرون ودافعون عنه، واحتملوا الأذى في سبيله ثم ناصروه في حروبه ولم يرغبوا عنه بأنفسهم. ثم أي نفع لهم في خلافة أبي بكر ليرتدوا عن دينهم لأجله فأي الأمرين أسهل احتمالاً: أكذب رجل أو رجلين من ذوي الأغراض الفاسدة، أو ارتداد بضع مئات من خلص المسلمين؟ فأجيبونا إن كان لكم جواب" (¬5) . وقد كان لهذا الاتجاه عند الكسروي أثره في التفاف بعض المثقفين حوله ¬
وإقبال الشباب عليه فأحاط به الآلاف منهم، وقاموا بنصرته وبث آرائه ونشر كتبه. إلا أن خصومه من الروافض عاجلوه بالقتل قبل انتشار دعوته وظهورها (¬1) . وقد ظهرت كتابات لبعض المعاصرين من الشيعة ممن يتظاهر بالدعوة للتقارب وهي موضوعة للدفاع عن معتقد التشيع والدعاية للشيعة، وموجهة لبلاد السنة. وقد تضمنت القول بأن الشيعة لا تسب فضلاً عن أن تكفر الخلفاء الثلاثة وأنها تقدر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالخنيزي في كتابه الدعوة الإسلامية إلى وحدة أهل السنة والإمامية يقول: "بأن الإمامية - في هذا العصر - لا تمس كرامة الخلفاء البتة فهذه كتاباتهم، وهذه كتبهم تنفي علناً السب عن الخلفاء وتثني عليهم" (¬2) . وقال الخنيزي: وممن صرح بنفي السب محمد باقر أحد مشاهير المجتهدين في كربلاء في منظموته المطبوعة في بمبي قال: فلا نَسُبّ عمراً كلا ولا ... عثمان والذي تولى أولاً ومن تولى سبهم ففاسق ... حكم به قضى الإمام الصادق ثم قال: ¬
وعندنا فلا يحل السبُّ ... ونحن أيم الله لا نسب (¬1) . ولذلك فإن الخنيزي يقلب عمر بن الخطاب أمير المؤمنين ويترضى عنه (¬2) . ويطلق على عائشة وحفصة أمهات المؤمنين.. وكذا يلقب أبا بكر بأمير المؤمنين (¬3) . ويقول: "إن جعفر الصادق يقول مفتخراً: ولدني أبو بكر مرتين، لأن أمه أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر وأمها بنت عبد الرحمن بن أبي بكر، فهي بكرية أماً وأباً". ويقول: إن من قضاء جعفر الصادق "فسق من سب الخلفاء الثلاثة" (¬4) . ويرى الشيعي أحمد مغنية أن الشيعة تثني على عمر بن الخطاب وتترضى عنه، وأن القول بأن الشيعة تنال من عمر هو من أحط أنواع الدس، ثم يكشف السبب في وجود مثل هذه الإشاعة عنهم فيقول: "إن المفرقين وجدوا في اتفاق الاسمين: عمر بن الخطاب الخليفة العظيم، عمر بن سعد قاتل الحسين ميداناً واسعاً يتسابق فيه في تشويه الحقيقة والدس على الشيعة بأحط أنواع الدس.. وكان طبيعياً أن يكون لعنة اللعنات عمر بن سعد، لأنه بطل الجريمة وقائد المجرمين الجبناء، ومَنْ من المسلمين لا يلعن عمر بن سعد قاتل ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! إن أولئك الآثمين المفرقين استغلوا كلمة (عمر) وقالوا: إن الشيعة تنال من خليفة النبي عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وإني في الوقت الذي أثور فيه على الدساسين التجار أصحاب الغابات والمصالح الرخيصة لا أنكر وجود أفراد بالأمس من سواد الشيعة وبسطائها لا يفرقون بين هذين الاسمين، بل لا يعرفون أن في دنيا التاريخ الإسلامي عمرين تقياً وشقياً" (¬5) . ¬
فهو يرى أن وجود هذا التشابه في الأسماء، واستغلال المفرقين من الأعداء لذلك، ووجود بعض عوام الشيعة في الماضي الذين لا يفرقون بين العمرين.. كل ذلك ساعد على نسبة سب عمر إلى الشيعة.. أما كتب الشيعة، وشيوخها فهي بريئة من هذه التهمة.. لأنها ترى فيه الخليفة النقي العظيم خليفة رسول الله. وهذا أحد روافض العراق قد لجأ إلى مصر لنشر التشيع وأنشأ جمعية لهذا الغرض سمها "جمعية أهل البيت" وسمى نفسه ب"إمام التشيع في جمهورية مصر العربية" (¬1) . على الرغم بأنه لا يوجد في مصر شيعة بعد جهود العظيم صلاح الدين الأيوبي.. وقد أصدر في مصر كتاباً بعنوان "تقدير الإمامية للصحابة" وفي هذه الكتيب نفى أن تكون الشيعة ترمي الشيخين ومن بايعيهما بلعن أو تفكير" (¬2) . وقال: بأن الشيعة لو كفرتهما لكفرت علياً، لأنه بابيعهما، ولكفّرت سلمان وعماراً لأنهما بايعوهما؛ بل إن سلمان تولى على المدائن لعمر فكيف يتصور منه أن يلي لعمر لو كان يرى كفره (¬3) .؟! ثم قال: بأن الشيعة تؤمن بالقرآن وقد جاء فيه الثناء على الأصحاب واستدل بالآية المائة من سورة التوبة، والآية التاسعة والعشرين من سورة الفتح، ثم أردف ذلك ببعض ما جاء في نهج البلاغة والصحيفة السجادية من الثناء عليهم (¬4) . ونقل بعد هذا أقوال بعض شيوخهم المعاصرين في مدح الصحابة، واستدل بقول باقر الصدر: "إن الصحابة بوصفهم الطليعة المؤمنة والمستنيرة كانوا أفضل وأصلح بذرة لنشوء أمة رسالية، حتى إن تاريخ الإنسان لم يشهد جيلاً عقائدياً أروع وأنبل وأطهر من الجيل الذي أنشأ الرسول القائد" (¬5) . ¬
ثم ختم حديثه عن هذه المسألة بقوله: "إن من ينسب إليهم ذلك (أي الصحابة) فهو إما أن يكون خصماً سيء النية، وإما لم يطلع على مذهب الشيعة إلا من خلال كتب خصومها، ولم يتمكن من الاطلاع على كتب أصحاب المذهب نفسه" (¬1) . وفي تفسير الكاشف لرئيس المحكمة الجعفرية في بيروت محمد جواد مغنية يقول: إن الشيعة لا ينالون من الصحابة، ويستدل بقوة زين العابدين علي بن الحسين في الصحيفة السجادية من دعاء له في الصلاة على أتباع الرسل وهو: "اللهم وأصحاب محمد خاصة الذين أحسنوا الصحبة والذين أبلو البلاء الحسن في نصره.. وفارقوا الأزواج والأولاد في إظهار كلمته وقاتلوا الآباء والأبناء في تثبيت نبوته.." (¬2) . ثم قال جواد: هذه المناجاة جاءت في الصحيفة السجادية التي تعظمها الشيعة وتقدس كل حرف منها (¬3) . وهي رد مفحم لمن قال: إن الشيعة ينالون من مقام الصحابة (¬4) . وبمثل هذه الأقوال قال آخرون من شيعة العصر الحاضر (¬5) . ¬
النقد: هل تغير موقف الشيعة المعاصرين نحو الصحابة؟ هل حقيقة ما يقول هؤلاء أو تقية ومصانعة؟ إننا نقول للخنيزي وأحمد مغنية، والرفاعي، ومحمد جواد مغنية وغيرهم ممن يقول إننا نقدر الصحابة، ولا ننقصهم ونترضى عنهم: تلك كلمات طيبة تنزل على قلوبنا برداً وسلاماً، ومرحباً بهذه الروح الكريمة الجامعة الموحدة بين المسلمين. وإننا لنفتح صدورنا لكل كلمة توفق ولا تفرق.. ونستبشر بكل محاولة صادقة لرفع تلك الأدران والصفحات السوداء التي تمس صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكن ألا يعلم الخنيزي وغيره أن المكتبة الشيعية المعاصرة قد أخرجت كتباً مليئة بالسب والطعن والتكفير لخيار صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم القول بأن شيعة العصر الحاضر لا يسبون، وأن سب الشيخين عندهم فسق؟ فهذا أحد آيات الشيعة ويدعى "حسين الخراساني" يقول في كتابه "الإسلام على ضوء التشيع" والذي أهداه إلى مكتبة دار التقريب بالقاهرة، وجاء على غلافه بأنه قد نشر باللغات الثلاثة العربية والفارسية والإنجليزية، وحاز على رضى وزارة المعارف الإيرانية، يقول في هذا الكتاب: تجويز الشيعة لعن الشيخين أبي بكر وعمر وأتباعهما، فإنما فعلوا ذلك أسوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم واقتفاء الأثره" (¬1) ، ¬
"فإنهم ولا شك - كما يفتري - قد أصبحوا مطرودين من حضرة النبوي - كذا- وملعونين من الله تعالى بواسطة سفيره صلى الله عليه وسلم" (¬1) . فانظر كيف يعلن أحد آياتهم لا واحد من عوامهم، أن اتجاه الشيعة هو اللعن والتكفير لعظيمي هذه الأمة وأفضل الخلق بعد النبيين، ومن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أمته بالاقتداء بهما، وأنهم يرون لعنهما شريعة وديناً، فكيف ينكر أولئك وجود السب، مع اللعن والتكفير الصريح والذي يجاهر به، ويطبع باللغات المختلفة؟ وقد وقع بيدي كتاب من كتب الأدعية عندهم باللغة الأردية موثق من ستة من شيوخ الشيعة، وصف كل منهم بأنه "آية عظمى" منهم الخوئي والخميني وشريعتمداري.. وفي هذا الكتاب الموثق من هؤلاء الآيات دعاء بالعربية بحدود صفحتين يتضمن لعن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وابنتيهما أمهات المؤمنين وحفصة رضي الله عنهما، ومما جاء في هذا الدعاء: "اللهم العن صنمي قريش وجبتيها، وطاغوتيها، وإفكيها، وابنتيهما الذين خالفا أمرك وأنكرا وحيك وجحدا إنعامك وعصيا رسولك، وقلبا دينك، وحرفاً كتابك، وأحبا أعدائك، وجحدا آلائك - كذا - وعطلا أحكامك، وألحدا في آياتك.." (¬2) . هكذا يوجه هؤلاء الآيات كل شيعي على وجه الأرض، لأن يدعو بهذا الدعاء ويتعبد الله بهذا اللعن ليزرعوا الحقد والكراهية في نفوس أتباعهم ضد خير القرون ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.. وليضعوا العقبات والعراقيل في وجه كل تآلف وتقارب.. وحتى يضمنوا أن باطلهم لا ينكشف، يخدعون ويخادعون ¬
بقولهم: إننا لا نسب.. وهيا إلى التقارب والتعاون. إذن الشيعة لم تترك السب واللعن، ولا يزال طائفة من شيوخهم يهذون بهذا الضلال، وعوامهم على أثرهم يهرعون يشتمون ويكفرون. وقد كشف لنا الشيخ موسى جار الله حينما زار ديار الشيعة في إيران والعراق وحضر مجالسها، ومحافلها وحلقات درسها في البيوت والمساجد والمدارس فاطلع على ما يدور في واقع الشيعة من تكفير لمن رضي الله عنهم ورضوا عنه حتى قال: "كان أول شيء سمعته وأنكرته هو لعن الصديق والفاروق، وأمهات المؤمنين: السيدة عائشة والسيدة حفصة، ولعن العصر الأول كافة، وكنت أسمع هذا في كل خطبة وفي كل حفلة ومجلس في البداية والنهاية، وأقراه في ديابيج الكتب والرسائل وفي أدعية الزيارات كلها، حتى في الأسقية ما كان يسقي ساق إلا ويعلن، وما كان يشرب شارب إلا ويعلن. وأول كل حركة وكل عمل هو الصلاة على محمد وآل محمد، واللعن على الصديق والفاروق عثمان الذين غصبوا حق علي - بزعمهم - وظلموه، حتى أصبح السب واللعن عندهم أعرف معروف يلتذ به الخطيب، ويفرح عنده السامع، وترتاح إليه الجماعة" (¬1) . وهذا الواقع المظلم الذي تجري ألسنة أهله باللعن والتكفير والسب ليس بغريب على من يرتضع منذ طفولته كره أصحابه رسول الله صلى الله عليه وسلم ويلقن من صغره أن ما يقع له من مصائب هو بسببهم، وتجرى أمامه في كل عام "التمثيليات" التي تصور ما جرى على أهل البيت من ظلم - كما يزعمون - من قبل الصحابة أو بسببهم، وقد أشار صاحب الوشيعة إلى ما شاهده من أعمالهم في ذلك. وقال بأن كل هذه التمثيليات والألعاب فيها إغراء وعداوة وبغضاء (¬2) ، بل هي مدرسة لزرع الحقد والكراهية ضد خير القرون وأتباعهم. ¬
وهذا ليس من أفعال عوامهم، بل شيوخهم وآياتهم يغرونهم بذلك ويدفعونهم إليه بمختلف الوسائل، فقد قدم إلى آيتهم ومرجعهم محمد آل كاشف الغطاء السؤال التالي: "ما يقول مولانا حجة الإسلام.. في المواكب المشجية التي اعتاد الجعفريون اتخاذها في العشر من المحرم تمثيلاً لفاجعة ألطف وإعلاماً لما انتهك فيها من حرمة الرسول صلى الله عليه وسلم في عترته المجاهدين بالتمثيل للشهداء وجهادهم، وماجرى عليهم، وما جرى على الأطفال من القتل والقسوة، وبإعلانهم الحزن لذلك بأنواعه من ندب، ونداء وعويل، وبكاء، وضرب بالأكف على الصدور، وبالسلاسل على الظهور، فهل هذه الأعمال مباحة في الشرع أم لا أفتونا مأجورين"؟ فأجاب آيتهم على ذلك بقوله: "بسم الله الرحمن الرحيم، قال سبحانه وتعالى: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ، لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} (¬1) ، ولا ريب أن تلك المواكب المحزنة، وتمثيل هاتيك الفاجعة المشجية من أعظم شعائر الفرقة الجعفرية.." (¬2) . فهو يعد هذه "البدعة الخطيرة في دينهم" والتي هي من أعظم الباطل، من شعائر الله، فإذا كان هذا رأي مرجعهم فما بالك بمن دونه مع أنه يجري فيها تعذيب للنفس وقتلها وتكفير للمسلمين من الصحابة والتابعين، والنياحة ولطم الخدود، والشرك بدعاء المخلوق.. إلخ مما يعلم بطلانه من الإسلام بالضرورة، ومع ذلك يتفاخر شيخهم محسن الأمين أنه أقام مجلساً للعزاء في دمشق - كما يزعم - حضره عدد كبير، "وختم باللطم المهيج المؤثر" (¬3) . ¬
وهذه الأعمال التي تجري منهم في المحرم من كل عام لا موضوع لها إلا سب الصحابة، وإعلان الشرك بالله؛ حيث تسمع أصواتهم تردد "يا حسين يا حسين" وتصب اللعنات على العصر الأول، ولاسيما الخلفاء الثلاثة رضوان الله عليهم، فتزرع في نفوسهم أحقاداً لا حدود لها، ولذلك ترى المعاصرين منهم يكتبون عن الصراع المزعوم بين الآل والأصحاب وكأنه واقع الساعة، كأنه خطر محيط بالأمة يهدد وجودها. هذا ولا تزال مظاهر الطعن والتكفير للصحابة موجودة ومستمرة عبر روافد أخرى، وشيوخهم يمدونهم بهذا الغي ويدفعونهم إليه، ولا يقصرون، فمن هذه المظاهر الموجودة، والروافد الجارية التي لا تنبت إلا أشجار الحنظل، ولا تزرع إلا الفرقة والحقد والبغضاء والتي لم تتوقف حتى هذه الساعة ما يلي: أولاً: لا تزال تقوم حركة نشطة لبعث التراث الرافضي القديم ونشره بين الناس وترويجه بينهم، وهذا التراث مليء باللعن والتكفير والتخليد بالنار للمهاجرين والأنصار الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، وفي مقدمته الخلفاء الثلاثة وبقية العشرة المبشرين بالجنة ما عدا أمير المؤمنين علياً (¬1) . فكيف يقال أن شيعة هذا العصر لا يسبون وهم قد ألبسوا تلك الصفحات السوداء المظلمة ثياباً جديدة ونشروها بين أتباعهم بلا نقد ولا اعتراض؟ ثانياً: ولا يزال أيضاً هناك مجموعة كبيرة من شيوخهم المعاصرين قد تفرغوا لهذا "الباطل" فلا همّ لهم فيما يكتبون وينشرون إلا سب رجال الصدر الأول وتجريحهم وكأنه لا همّ للشيعة في هذا العصر إلا هذا. وقد تخصصت كتب عندهم لهذا تفوق ماجاء في كتبهم القديمة في البذاءة وسوء المقال، مثل كتاب الغدير - لشيخهم المعاصر عبد الحسين الأميني النجفي- المليء بالدس والكذب ¬
والطعن فيمن رضي الله عنهم ورضوا عنه.. وعليه تفريظات عدد من آياتهم. وكانت حملته ضد صحابة رسول الله ولا سيما الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه محل رضى أعداء الأمة، كما تجد ذلك - مثلاً - في كلمات بولس سلامة الشاعر النصراني الذي استكتبه هذا الرافضي في مقدمة الجزء السابع من الكتاب، فكتب كلمات يظهر فيها رضاه وغبطته بما قام به هذا "الأفاك" ضد الأمة ودينها، وإشادته بحملته المسعورة ضد فاروق هذه الأمة وعظيمها الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه والتي كانت فتوحاته وجهاده ونشره للإسلام شجى وغصة في حلوق الأعداء إلى اليوم (¬1) . ومثل كتاب (أبو هريرة) لشيخهم عبد الحسين شرف الدين الموسوي الذي اتهم فيه أبا هريرة - رضي الله عنه - رواية الإسلام بالكذب والنفاق في حين تجده يدافع عن الكذابين الوضاعين أمثال جابر الجعفي (¬2) . وغيره (¬3) . ومثل كتاب السقيفة لشيخهم محمد رضا المظفر الذي صور فيه الصحابة عصابة لا هدف لها إلا التآمر على الإسلام حتى قال: ممات النبي صلى الله عليه وسلم، ولابد أن يكون المسلمون كلهم (لا أدري الآن) قد انقلبوا على أعقابهم (¬4) . ¬
وغيرها كثير (¬1) . ثالثاً: تلك الأدعية التي يرددها الشيعة كل يوم وهي لا تكاد تخلو من لعن خيار هذه الأمة وروادها وأحباء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصهاره وبعض زوجاته أمهات المؤمنين.. ولا تختلف كتب الأدعية المؤلفة حديثاً عما تراه في كتبهم القديمة، كما نجد في كتاب "مفاتيح الجنان" لشيخهم المعاصر عباس القمي، و"ضياء الصالحين" لشيخهم محمد الجوهري وغيرهما. وبعد هذا كله فهل يبقى لإنكار هؤلاء المنكرين تفسير إلا التقية والكذب؟ فالخنيزي الذي يقول إن الشيعة لا تسب، هل يتجاهل ما سطره شيوخهم القدامى والمعاصرون في ذلك؟! بل إن الخنيزي نفسه ارتكب جريمة السب فهو يطعن في الصديق رضي الله عنه (¬2) ، ويزعم بأن ما ورد عندهم في الكافي من سب للصحابة وتكفيرهم يوجد مثله في صحيح البخاري (¬3) . وهي دعوى لا حقيقة ¬
لها.. إلا البحث عن مسوغ لمذهبهم في الصحابة، ولو كان في صحيح البخاري مثل مما يوجد في الكافي لكان في السنة من هو كالشيعة يطعن ويكفر، ولكن الرجل يريد إثبات معتقده الباطل بأي وسيلة. أما الأستاذ أحمد مغنية الذي يرى أن الشيعة إنما تلعن عمر بن سعد لا عمر بن الخطاب وإنما وقع الوهم في التشابه في الأسماء فهل خفي عليه أن عمر بن الخطاب قد تعرض للعن والتكفير في كتب الشيعة المعتمدة وعلى رأسها الكافي والبحار، وتفسير القمي والعياشي وغيرهما؟ كما سلف نقل ذلك (¬1) . فلا حاجة لإعادته. وهل غاب عنه أن شيعة العصر الحاضر أيضاً لا يزالون على هذا النهج يتخبطون كما رأينا من صاحب "الغدير" و"السقيفة" و"الإسلام على ضوء التشيع".. وغيرهم. بل إن من يلهج بالدعوة للوحدة الإسلامية منهم لا يزال في هذا الضلال يهذي ويفتري؛ فهذا آيتهم محمد الخالصي من كبار مراجع الروافض في العراق وممن يتزعم الدعوة إلى الوحدة الإسلامية بين السنة والشيعة يشكك في إيمان أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فيقول: "وإن قالوا: إن أبا بكر وعمر من أهل بيعة الرضوان الذين نص على الرضى عنهم القرآن في قوله: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} (¬2) . قلنا: لو أنه قال: لقد رضي عن الذين يبايعونك تحت الشجرة لكان في الآية دلالة على الرضى عن كل من بايع ولكن لما قال: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ} فلا دلالة فيها إلا على الرضى عمن محض الإيمان" (¬3) . ¬
ومعنى هذا أن أبا بكر وعمر لم يمحضا الإيمان فلم يشملهما رضى الله في زعم هذا الرافضي، وهل هناك فهم أسقم من هذا الفهم الذي يجعل وصفهم بالإيمان دليلاً على خروج خيارهم من الإيمان؟ ولهذا الخالصي أمثاله من روافض العصر الحاضر (¬1) . فهل خفي ذلك على أحمد مغنية أو أراد خداع أهل السنة؟! الله أعلم بالحقيقة.. والتقية بلية الشيعة ومصيبتها. أما الرفاعي الذي يقول بأن الشيعة تقدر الصحابة.. وأن من نسب إلى الشيعة خلاف ذلك فهو خصم سيء النية.. فهل يخفى عليه أن الذي نسب إلى الشيعة هذا المذهب هو كتبهم.. والذي سجل عليهم هذا العار هو مشايخهم أمثال الكليني والقمي والعياشي والمجلسي، وليس خصماً سيء النية أو جاهلاً بما في كتبهم؟! والرفاعي نفسه قد رجع في كتيبه الذي سماه "تقدير الإمامية للصحابة" إلى البحار (¬2) . للمجلسي، والذي حوى من السب واللعن والتكفير ما تقشعر منه جلود المؤمنين؛ حتى إنه عقد باباً بعنوان باب كفر الثلاثة (¬3) . (أي الخلفاء قبل علي) فكيف يقول بأن الشيعة تقدر الصحابة؟ وإذا كان يؤمن بمبدأ تقدير الصحابة فعليه أن ينشر ذلك في الوسط الشيعي لا في القاهرة، وأن يجاهد من أجل إقناع إخوانه الإمامية حتى يغيروا هذا البلاء الذي عم وطم في كتبهم أو يعرضوا عنها ويعلنوا فسادها، أما نفي ما هو واقع فلا يجدي في الدفاع لأنه سيؤول من قبل الشيعة والمطلعين على كتبهم من غير الشيعة بأنه تقية. ¬
وهذا الرفاعي الذي يكتب في القاهرة بين أهل السنة "تقدير الإمامية للصحابة" ويتجاهل ما جاء في كتبهم قديمها وحديثها، وما يجري في واقعهم من عوامهم وشيوخهم.. هو نفسه يسب خيار صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهو من الذين يقولون ما لا يفعلون، كما هو من الذين ينكرون ما يعرفون.. فيتهم فاروق هذه الأمة بالتآمر وأنه أول من قال بالرجعة من المسلمين (¬1) . كما يسب أبا بكر وعمر وأبا عبيدة رضوان الله عليهم (¬2) . والغريب أنه يستدل بما جاء في رسالة محمد باقر الصدر والتي سماها "التشيع ظاهرة طبيعية في إطار الدعوة الإسلامية" مع أن هذه الرسالة محاولة يائسة وعاجزة لإثبات أصالة مذهب الرافضة.. وأن الصحابة رضوان الله عليهم ليسوا بأهل لحمل الرسالة وتبليغ الشريعة - كما يفتري - وأن الجدير بحملها والمبلغ لها هو علي.. وهذا مع ما فيه من النيل من صحابة رسول الله فهي دعوى جاهلية غبية، أو حاقدة مغرضة تحاول النيل من السنة المطهرة، وتواتر هذا الدين. فهي تزعم أن نقل الواحد أوثق من نقل المجموع.. وهذا "إفراز" لعقيدة عصمة الأئمة، وتكفير الصاحبة.. والثناء المزعوم على الصحابة الذي نقله من رسالة الصدر قد قاله الصدر من باب تخدير القارئ حتى يتقبل ما يفتريه على استدلاله ويبطله، فالصدر يقول: "وبالرغم من أن الصحابة بوصفهم الطليعة المؤمنة كانوا أفضل وأصلح بذرة لنشوء أمة رسالية.. بالرغم من ذلك نجد من الضروري التسليم بوجود اتجاه واسع منذ كان النبي حياً يميل إلى تقديم الاجتهاد في تقدير المصلحة واستنتاجها من الظروف على التعبد بحرفية النص الديني، وقد تحمل الرسول صلى الله عليه وسلم المرارة في كثير من الحالات بسبب هذا الاتجاه.." (¬3) . ¬
فهل ترى في هذا النص مدحاً؟ إنه يزعم أن الصحابة رضوان الله عليهم يجتهدون مع وجود النص؛ بل يرفضون أوامر رسول الله، ويتبعون مصالحهم.. فهل هذا تقدير للصحابة؟! إن من المعروف إنه لا اجتهاد مع النص، وأن مخالفة أمر رسول الله جرم عظيم: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬1) . وكل هذه الدعاوى من هذا الرافضي لتأييد فريته وهي دعوى النص على علي وأن الصحابة أعرضوا عن العمل بها لمصلحة راعوها، فأي مصلحة لهم في بيعة أبي بكر؟! ولا يستدل الرفاعي من رسالة الصدر فحسب؛ بل ينشر باطلها، ويتحفه بتقريظه وتأييده، ويقول في كتيب آخر: إن الإمامية يقدرون الصحابة، فأي تقدير هذا؟! إلا إن كان يريد أن تقدير الإمامية للصحابة هو السب واللعن والتكفير. فما أجرأ هؤلاء على الكذب!! وأما محمد جواد مغنية الذي يقول بأن الشيعة لا تنال من مقام الصحابة ويستدل بقول علي بن الحسين. فأقول: إنكم لم تقتفوا أثر الإمام علي بن الحسين..؛ لأن ما جاء في كتبكم قديمها وحديثها، وما يحدث في واقعكم دليل على مفارقتكم لنهجه..؛ لأنه كان باعترافكم، وبنقلكم عنه، كان يترضى عن الصحابة.. رضي الله عن الجميع، فأنتم ليس بإمامكم اقتدتم، ولا بقولكم صدقتم والتزمتم.. ومغنية الذي يكتب هذا الكلام.. هو الذي يقول في كتابه "في ظلال نهج البلاغة" عن الخليفة الراشد ذي النورين صاحب الجود والحياء، وصهر النبي صلى الله عليه وسلم في ابنتيه، ومجهز جيش العسرة، وصاحب الهجرتين والمبشر بالجنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقول هذا الرافضي فيه:" إن عثمان انحرف عن سنة الرسول وخالف شريعة الإسلام، واستأثر ¬
هو وذووه بأموال المسلمين فامتلكوا القصور والمزارع والرياش والخيول والعبيد والإماء، ومن حولهم ملايين الجياع والمعدمين" (¬1) . ويقول: "وكان الزبير وطلحة وعائشة وراء ما حدث لعثمان وعليهم تقع التبعة في دمه.." (¬2) . ويتهم عمر رضي الله عنه وأهل الشورى الذين فوض لهم عمر اختيار خليفة من بعده يتهم الجميع بالخيانة والتآمر (¬3) . فأي احترام لمقام الصحابة وهذا الكلام الحاقد يوجه لخيارهم!! وأي إيذاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم أشد من هذا الإيذاء الذي يوجه له بسب بعض زوجاته، وأصهاره، وخيار أصحابه. وبعد كهذا كله.. فكيف نفسر هذا التناقض من هؤلاء الراوفض؟ هل هذا تقية؟ والتقية عندهم تسعة أعشار الدين ولا دين لمن لا تقية له، أو هي مؤامرة للدعاية للشيعة والتشيع؟ وقبل أن أرفع القلم في هذا الموضوع أحاول أن أكشف بعض الحقائق المهمة والأسرار الخفية في حقيقة ثنائهم على الصحابة والتي قد لا يهتدي إليها من لم يدمن المطالعة في كتبهم ويتأمل في أساليبهم ومصطلحاتهم. حقيقة ثناء الروافض على الصحابة: إن هؤلاء الروافض - كما يزعمون - أنهم يوالون أهل البيت ويعنون بهم أئمتهم الاثني عشر ويتناولون البقية ولا سيما من خرج منهم لطلب الإمامة بالسب والتجريح بل التكفير والتخليد بالنار. فكذلك يزعمون - أحياناً - أنهم يوالون الصحابة ويريدون بهم الثلاثة أو الأربعة أو السبعة الذين لم يرتدوا كما تصور ذلك أساطيرهم. ¬
والذي لا يعرف هذه الحقيقة قد ينخدع بكلامهم في هذا الباب ولا يتصور أن للصحابة عندهم تفسيراً معيناً. وهناك تفسير آخر لهم في الصحابة جاء بيانه في بعض رواياتهم، تقول رواياتهم بعد ثناء على الصحابة وأمر بالرجوع لأقوالهم وإجماعهم: فقيل: يا رسول الله، ومن أصحابك؟ قال: أهل بيتي (¬1) . فهم يفسرون الصحابة بأهل البيت. ثم هناك مسلك ثالث يسلكونه في الثناء على الصحابة وهو حمله على التقية، وقد أشار إليه شيخهم الطوسي، حيث قال بعد أن سب عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: "فإن قيل: أليس قد روي عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر أن سائلاً سأله عن عائشة وعن مسيرها في تلك الحرب، فاستغفر لها وقال له (الراوي) : تستغفر لها وتتولاها؟ فقال: نعم، أما علمت ما كانت تقول: يا ليتني كنت شجرة، ليتني كنت مدرة" قال الطوسي: "لا حجة في ذلك على مذاهبنا لأنا نجيز عليه صلوات الله عليه التورية، ويجوز أن يكون السائل من أهل العداوة واتقاه بهذا القول وروى فيه تورية يخرجه من أن يكون كذباً، وبعد، فإنه علق توبتها بتمنيها أن تكون شجرة ومدرة وقد بينا أن ذلك لا يكون توبة وهو عليه السلام بهذا أعلم" (¬2) . إن على الذين يقولون بتقدير الشيعة للصحابة أن يعلنوا خطأ هذه المسالك وعدم صحتها، وأن يعترفوا ببطلان تلك الروايات السوداء، وأن يصدقوا ولا يتناقضوا، حتى يقبل منهم موقفهم، ثم لِمَ يذهبون للرد على أهل السنة إذا قالوا: إن مذهب الشيعة الطعن في الصحابة وتكفيرهم ولا يردون على أنفسهم وعلى كتبهم وعلى مشايخهم المعاصرين الذين لا يزالون يهذون في هذا الضلال؟ وأي فائدة اليوم في اللعن والسب والتكفير الذي ملأوا به كتبهم، ¬
وأسواقهم، ومزاراتهم، وقد انقضى العصر الأول بكل ما فيه؟! لا هدف في الحقيقة إلا الطعن في القرآن والسنة والدين بعامة، وإلا إثارة الفتنة وتفرقة الأمة. وماذا يبقى من أمجادنا وتاريخنا إذا كان أولئك السادة القادة الأتقياء الأصفياء الأوفياء الرواد الذين نشروا الإسلام وأقاموا دولته، وفتحوا البلاد وأرشدوا العباد، وبنوا حضارة لم تعرف لها الدنيا مثيلاً، إذا كان هؤلاء الرواد الأوائل لكل معالم الخير والعدل والفضائل يستحقون اللعن من أحفادهم، وتشويه تاريخهم، وهم الذين أثنى الله عليهم ورسوله، وسجل التاريخ الصادق مفاخرهم بمداد من نور. فمن الذي يستحق الثناء والمديح وأين أمجادنا وتاريخنا إذا كان أولئك كذلك؟!
العصمة
العصمة: الجديد في هذه المسألة عند المعاصرين هو أخذهم برأي المتأخرين من الشيعة في دعوى العصمة المطلقة للأئمة، والذي يمثل نهاية الغلو والشطط حيث إن هؤلاء يزعمون أن الأئمة لا يسهون ولا ينسون. وهذا المذهب كان في نظر الشيعة في القرن الرابع بمثل الاتجاه الغالي المتطرف حتى اعتبر شيخهم ابن بابويه القمي - صاحب من لا يحضره الفقيه أحد أصولهم الأربعة المعتمدة - اعتبر علامة الغلو في التشيع هو نفي السهو عن الأئمة. وقال: "إن الغلاة والمفوضة لعنهم الله ينكرون سهو النبي صلى الله عليه وسلم.." (¬1) . ومن ينكر سهو الأئمة أغرق في الغلو والتطرف. وأقر شيخهم المجلسي "بدلالة كثير من الأخبار والآيات على صدور السهو منهم" (¬2) . ولكن متأخريهم لم يبالوا بذلك وأطبقوا على مخالفته باعتقاد أن الأئمة لا يسهون، ولهذا رأى المجلسي أن هذه "المسألة في غاية الإشكال" (¬3) ، لأن أصحابه أطبقوا على مخالفة أخبارهم الكثيرة (¬4) . وقد سار المعاصرون على خطى المتأخرين مخالفين لأخبار الشيعة نفسها، وما قاله كبار شيوخهم، فهذا شيخ الشيعة المعاصر ومن يلقب عندهم بـ"الآية العظمى" (عبد الله الممقاني) يؤكد أن نفي السهو عن الأئمة أصبح من ضرورات المذهب الشيعي" (¬5) . وهو لا ينكر أن من شيوخهم السابقين من يعتبر ذلك غلواً، ¬
لكنه يقول: "إن ما يعتبر غلواً في الماضي أصبح اليوم من ضرورات المذهب" (¬1) . وهذه المقالة: أن الأئمة لا يسهون - يتكرر التأكيد عليها في أقوال شيوخهم المعاصرين؛ فالمظفر يعتبرها من عقائد الإمامية الثابتة، ولا يذكر أدنى خلاف بينهم في ذلك (¬2) ، والخنيزي وهو يكتب كتابه في "الدعوة الإسلامية إلى وحدة أهل السنة والإمامية" يؤكد على هذه المقالة ولا يتقي في ذلك (¬3) ، والخميني في كتابه "الحكومة الإسلامية" ينفي مجرد تصور السهو في أئمته (¬4) . وإذا كانت دعوى عصمة الأئمة تعني الارتفاع بالأئمة إلى مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في القول والفعل: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} (¬5) . فإن دعوى أن الأئمة لا يسهون أولا يتصور فيهم السهو هو تأليه لهم. ولهذا قال شيخهم ابن بابويه: إن الله سبحانه أسهى نبيه "ليعلم أنه بشر مخلوق فلا يتخذ رباً معبوداً دونه" (¬6) . وكان ابن بابويه وغيره من شيعة القرن الرابع يعتبرون الرد لهذه الروايات (روايات سهو النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته) يفضي إلى إبطال الدين والشريعة. يقول ابن بوبايه: "ولو جاز أن ترد الأخبار الواردة في هذا المعنى لجاز أن ترد جميع الأخبار، وفي ردها إبطال الدين والشريعة، وأنا احتسب الأجر في تصنيف كتاب منفرد في إثبات سهو النبي صلى الله عليه وآله والرد على منكريه إن شاء الله تعالى" (¬7) . ¬
ولكن الزمرة المتأخرة والمعاصرة لم تبال بما قاله ابن بابويه، كما لم تبال في قوله برد أسطورتهم في التحريف، ولم تراع أي قول يخالف ما تواضع عليه شيوخ الدولة الصفوية. لقد عد الشيعة المعاصرون على لسان شيخهم "الممقاني" نفس السهو عن الأئمة من ضرورات المذهب الشيعي - كما مر -. وقد قرر شيخهم محسن الأمين أن منكر ما هو ضروري في التشيع كافر عندهم (¬1) . ومعنى هذا أن متأخريهم يكفرون متقدميهم لإنكارهم ما هو من ضروريات مذهب التشيع، ومتقدموهم يلعنون متأخريهم لأخذهم بمذهب الغلاة المفوضة الملعونين على لسان الأئمة. وليس ذلك فحسب؛ بل إننا نجد في الكتابات الموجهة لديار السنة (¬2) . القول بأن الاعتقاد بأن الأئمة يسهون هو مذهب جميع الشيعة (¬3) ، ونرى في كتابات شيعية معاصرة أخرى نقل إجماع الشيعة على نفي السهو عنهم (¬4) . وأن ذلك من ضرورات مذهب التشيع (¬5) . فمن نصدق، ومن هو الذي يعبر عن مذهب الشيعة؟ وهكذا يكفر بعضهم بعضاً وينقض بعضهم بعضاً، وكل يزعم أن ما يقوله هو مذهب الطائفة. ¬
الرجعة
الرجعة: الجديد في مذهب المعاصرين في هذه المسألة ظهور فئة من شيوخهم، ولا سيما ممن يتظاهر منهم بالدعوة للوحدة والتقريب بينهم وبين السنة يرى أن الرجعة خرافة لا حقيقة لها. ويقول: "فالحق الذي عليه المحققون هو أن لا رجعة سوى ظهور الإمام الثاني عشر" (¬1) . يعني مهديهم المنتظر. وصنف آخر لا ينكرها ولكن يرى أن مسألة الرجعة وإن وردت في بعض أخبارهم إلا أنها ليست من أصول مذهبهم ولا من الضرورات عندهم، ولا من معتقداتهم، بل وليست بذات بال عندهم. يقول هاشم الحسيني: "إن الرجعة ليست من معتقدات الإمامية ولا من الضرورات عندهم" (¬2) . ويقول محمد حسين آل كاشف الغطاء: "وليس التدين بالرجعة في مذهب التشيع بلازم ولا إنكارها بضار، وإن كانت ضرورية عندهم" (¬3) . وقال: "وليس لها (يعني الرجعة) عندي من الاهتمام قدر صغير أو كبير" (¬4) . ولعل القارئ يدرك التناقض في هذا الكلام، ولعله تناقض مقصود كأمارة على التقية كعادتهم في التلاعب بالكلام، إذ كيف تكون ضرورية عندهم مع أن اعتقادها ليس بلازم، وإنكارها ليس بضار وليس لها اهتمام عنده مع أن منكر الضروري كافر كما يقرره شيوخهم (¬5) . ¬
وقريب من ذلك صنع شيخهم محمد رضا المظفر حينما قال: "إن الرجعة ليست من الأصول التي يجب الاعتقاد بها والنظر فيها.." (¬1) . مع أنه يقول: "إن الرجعة من الأمور الضرورية فيما جاء عن آل البيت من الأخبار المتواترة" (¬2) . هذا ما يقوله طائفة المعاصرين في أمر الرجعة، صنف ينكرها، وأخر يهون من شأنها، وثالث يتردد أو يتناقض في بيان مذهبهم فيها، وكل يزعم بأن ما يقوله هو مذهب الشيعة فمن نأخذ بقوله؟ وكلهم من كبار شيوخ الشيعة الاثني عشرية، وفي عصر واحد ومع هذا ترى الاختلاف والتباين في أقوالهم هل هذا من آثار التقية عندهم لأن أمر الرجعة اعتبرها بعض علماء السنة علامة على الغلو في الرفض؟ ولهذا قال شيخهم المظفر: "إن الاعتقاد بالرجعة من أكبر ما تنبز به الشيعة الإمامية ويشنع به عليهم" (¬3) . وما هكذا شأنه تجري فيه التقية عندهم. والكتابات التي نقلت منها تلك الأقوال المتناقضة هي كتب شيعية موجهة لأهل السنة كما يبدو من مقدماتها ومنهجها وأسلوبها في الحديث عن العقائد الشيعية بينما نجد كتباً أخرى معاصرة لشيوخ آخرين لا تزال تغالي في أمر الرجعة وتعتبر منكرها خارجاً عن رتبة المؤمنين. قالوا: "تضافرت الأخبار (يعني أخبارهم) ليس منا من لم يؤمن برجعتنا" (¬4) . وقالوا: "إن ثبوت الرجعة مما اجتمعت عليه الشيعة الحقة والفرقة المحقة، بل هي من ضروريات مذهبهم" (¬5) . "ومنكرها خارج من رتبة المؤمنين، فإنها من ¬
ضرورات مذهب الأئمة الطاهرين" (¬1) . وقال الزنجاني في كتابه عقائد الاثني عشرية: "إن اعتقادي.. واعتقاد علماء الاثني عشرية قدس الله أسرارهم من أن الله تعالى يعيد عند ظهور الإمام الثاني جماعة من الشيعة إلى الدنيا ليفوزوا بثواب نصرته ومشاهدة دولته، ويعيد جماعة من الظلمة والغاصبين والظالمين لحق آل محمد عليهم السلام لينتقم منهم" (¬2) . " ... وظني أن من يشك في أمثالها فهو شاك في أئمة الدين" (¬3) . وبعد، فكيف نفسر هذا التناقض؟ هل هم قد اختلفت آراؤهم في هذه المسألة على حقيقة، أم وهم استحلوا بعقدية التقية كل شيء..؟. وإذا أخذنا كل شي على ظاهره نقول: إن هناك فئة قد تحررت من ربقة التقليد، وخرجت على أساطيرهم رغم دعوى التواتر والاستفاضة ولكن هذه الفئة يخنق صوتها ويمحى أثرها باسم العقيدة الخطيرة وهي التقية ولن يؤثر في هذه الطائفة مصلح ما دامت هذه العقيدة من أصولها.. وسيكون مذهبهم مذهب الغلاة لا المعتدلين وقول الشيوخ، لا روايات الأئمة. هذا ولا تزال الصور الأسطورية التي تحكيها أخبارهم عما يجري في تلك الرجعة تتردد في كلماتهم.. وهي بغض النظر عن الجانب الخرافي فيها، إلا أنها تمثل مشاعر مكبوتة ورغبات خفية وأحقاداً مبيتة ضد هذه الأمة. إن ذلك الشيعي ليستمتع بتلك الصور الخيالية للمجازر المرتقبة والتي ينتظر حصولها في الرجعة المزعومة غاية الاستمتاع، ولذلك يهتم في أدعيته اليومية بالتوجه بالدعاء، لأن ¬
يشارك في هذه العودة التي يجرى فيها الانتقام الموعود (¬1) . فلم يتغير شعور المعاصرين في هذه القضية على الرغم من تغير الزمان، وكر القرون.. واستمع إلى أحد آياتهم يجيب عما يجري - بزعمهم - لخليفتي رسول الله وحبيبيه وصهريه - أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما في رجعتهم المزعومة. يقول: "وأما مسألة نبش قبر صاحبي رسول الله وإخراجهما حيين وهما طريان وصلبهما على خشبة وإحراقهما، لأن جميع ما ارتكبه البشر من المظالم والجنايات والآثام من آدم إلى يوم القيامة منهما فأوزارهما عليهما، فمسألة عويصة جداً، وليس عندي شيء يرفع هذا الإشكال، وقد صح عن أئمتنا أن حديثنا صعب مستصعب" (¬2) . هل يخطر بالبال أن هذه الخرافة تجد طريقها إلى رجل علم عندهم بلغ في مقاييسهم مرحلة "الآية العظمى" ولا يتجرأ على تكذيب هذه الأسطورة، ويعتبرها من الأمور العويصة المشكلة، ولا يجد ملجأ يلجأ إليه إلا خرافة أخرى وهي أن دينهم صعب مستصعب؟! لا شك أن هذا الدين الصعب المستصعب ليس هو الإسلام.. لأنه خلاف الفطرة، لا تقبله العقول لشذوذه ومخالفته للأصول. فننتهي من هذا إلى أن خرافة الرجعة وما يجري فيها لا تزال تتغلغل في عقول هذه الطائفة. ¬
التقية
التقية: هل يوجد تغير في مذهب المعاصرين يختلف عن السابقين فنسجله هنا أو لم يتغير مذهب المعاصرين، عما ذكرناه عن سلفهم، وعما جاء في كتبهم المعتمدة في أمر التقية؟ لقد قال بعض شيوخهم المعاصرين: إن الأمر قد تغير.. وأنه لا تقية اليوم عند الشيعة.. لأن الشيعة إنما التزمت بالتقية بسبب الظلم الواقع عليها في العصور البائدة، أما وقد ارتفع الظلم اليوم فلا تقية ولا كذب ولا نفاق، بل صدق وصراحة ووضوح. يقول شيخهم محمد جواد مغنية: "إن التقية كانت عند الشيعة حيث كان العهد البائد عهد الضغط والطغيان، أما اليوم حيث لا تعرض للظلم في الجهر بالتشيع فقد أصبحت التقية في خبر كان" (¬1) . ويقول: "قال لي بعض أستاذة الفلسفة في مصر: أنتم الشيعة تقولون بالتقية.. فقلت له: لعن الله من أحوجنا إليها، اذهب الآن أنى شئت من بلاد الشيعة فلا تجد للتقية عيناً ولا أثراً، ولو كانت ديناً ومذهباً في كل حال لحافظوا عليها محافظتهم على تعاليم الدين ومبادئ الشريعة" (¬2) . وكذلك يقول مجموعة من أعلامهم المعاصرين ممن يوصفون عندهم "بالمراجع والآيات" بأن التقية عند الشيعة لا تستعمل إلا في حال الضرورة، وذلك عند الخوف على النفس، أوالمال، أو العرض، ولا تختص الشيعة بهذا.. وإنما تميز ¬
الشيعة بهذا الاعتقاد لكثرة وقوع الظلم عليهم (¬1) . فهل ما يقوله هؤلاء حقيقة، أو أن الأمر تقية على التقية، وتستر على هذا المعتقد مادام أمرهم قد افتضح، ومذهبهم قد انكشف أمام المسلمين؟ فلنتعرف على حقيقة الأمر، وجلية الخبر.. إننا لو قلنا معهم بأن التقية عندهم قد ارتفعت كلياً، ولم يعد للشيعة سر تكتمه، ولا معتقد تتقيه بل تجاهر بكل ما عندها أمام المسلمين بكل الصراحة والوضوح.. فإن أثر التقية لم ينته، وإعمال شيوخهم للتقية في نصوصهم لم يتوقف، وهذا هو الخطر الأكبر والداء الأعظم والذي قد لا يعرفه من ليس على صلة بكتبهم الأساسية. إن الخطورة تتمثل في أن مبدأ التقية عندهم قد عطل تعطيلاً تاماً إمكانية استفادة الشيعة مما في كتبهم المعتمدة من نصوص توافق ما عند المسلمين، وتخالف ما شذوا به من عقائد وآراء.. ذلك أنه ما من رأي - في الغالب - شذوا به عن المسلمين إلا وتجد عندهم بعض الروايات التي تنقضه من أصله، ولكن الشيخ الشيعي يتعامل مع تلك الروايات التي تنقض شذوذهم وتوافق ما عند المسلمين وتخالف ما درج عليه قومه بأنها إنما خرجت من الإمام مخرج التقية.. ولا يختلف في تطبيق هذا المنهج شيوخهم المعاصرون عن شيوخهم القدامى.. ولذلك تجد أن من قواعدهم الأصولية - والتي كما قررتها كتبهم القديمة (¬2) . قررتا ¬
كتبهم الحديثة (¬1) . أيضاً- الأمر بالأخذ بما خالف العامة - أي أهل السنة- وذلك عند اختلاف الأحاديث في كتبهم بحجة أن الأحاديث التي توافق ما عند أهل السنة محمولة على التقية. وإذا لوحظ أن أحاديثهم متناقضة ومتضادة ويوجد فيها في مختلف أبواب العقائد والأحكام ما يوافق ما عند المسلمين أدركنا خطورة معتقد التقية عندهم وآثاره السيئة في إبقاء الخلاف بين المسلمين.. وتناقض أحاديثهم ليست دعوى ندعيها، بل حقيقة يقررها شيوخهم حتى اعترف الطوسي بأنه لا يكاد يوجد عندهم حديث إلا وفي مقابله ما يضاده (¬2) . وهذا ما يعترف به الطوسي صاحب كتابين من أصولهم الأربعة المعتمدة في الحديث، وصاحب كتابين من كتبهم الأربعة المعتمدة في الرجال. ولم يجد الطوسي ما ينقذه وشيعته من التناقض في رواياتهم إلا القول في كل ما يوافق جمهور المسلمين ويخالف شذوذهم، بأن ذلك ورد على سبيل التقية، ويتمثل هذا في عشرات الأمثلة في كتابي التهذيب، والاستبصار (¬3) . فكانت عقيدة التقية حيلة لرد السنن الثابتة، ومنفذاً للغلو، ووسيلة لإبقاء الفرقة والخلاف، فكيف يقال: إن التقية ارتفعت اليوم وشيوخ الشيعة كلهم يعلمون بموجبها في رد النصوص (¬4) .؟! ¬
وكما كان معتقد التقية سداً منيعاً حال دون استفادة الشيعة من الروايات التي رووها في كتبهم عن الأئمة والتي توافق ما عند الأمة.. كذلك فإن مبدأ التقية منع تأثير كل صوت عاقل معتدل ينشأ بينهم، وحرمهم من الانتفاع به. ولعل من وضع هذه العقيدة أراد لهذه الطائفة أن تبقى هكذا لتستعصي على الإصلاح وتمتنع عن الهداية.. وهذا ليس مجرد كلام نظري لا يسنده الواقع.. بل إن واقع الشيعة يشهد بذلك.. فمثلاً من أعظم مصائب الشيعة وبلاياها: أساطير نقص القرآن وتحريفه والتي سرت في مذهبهم وفشت في كبتهم.. وحينما تصدى لذلك شيخهم المرتضى وابن بابويه القمي، والطبرسي.. ونفوا عن مذهب الشيعة هذه المقالة.. حمل ذلك طائفة من متأخري شيوخهم كنعمة الله الجزائري، والنوري الطبرسي- حملوا ذلك على التقية (¬1) . فكيف يقال: إن التقية انتهت في مذهب الشيعة.. وهي تستخدم في كل آن لإزهاق الحق وإبطاله؟! ولما قام شيخهم الطوسي بتفسير كتاب الله.. وحاول التخلص من تلك النزعة الباطنية المغرقة في التأويل.. والمألوفة عندهم ورغب الاستفادة من آثار السلف في تفسير القرآن.. حمل شيوخهم صنيعه هذا على التقية (¬2) . فأنت تلاحظ أن هذه العقيدة قد أصبحت معولاً هداماً يستخدمه غلاة الشيعة لإبقاء هذه الطائفة في دائرة الغلو والبعد بها عن جماعة المسلمين أو الإسلام كله.. فكيف يقال إن عهد التقية قد انتهى وآثارها السامة تسري في كيان المذهب، وتعمل فيه هدماً وتخريباً؟! وإذا كان اليوم حيث ساد الكفر والضعف أمر المسلمين قد ارتفعت التقية عند الشيعة فيه كما كان يقول شيعة هذا الزمن.. فما هو العصر الذي لزمته فيه الشيعة مبدأ التقية؟ ¬
إنهم يعتبرون عهد الخلفاء الثلاثة وعصر الإسلام الذهبي هو عهد تقية وكأنهم يقولون بأن وضع المسلمين في وقتنا هذا أفضل من وضعهم في عهد الخلافة الراشدة ولهذا قرر المفيد بأن علياً كان يعيش في عهد الخلفاء الثلاثة مستعملاً للتقية والمداراة، ويشبِّه حاله بحال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعيش بين ظهراني المشركين قبل الهجرة (¬1) . فيعتبر الصحابة رضوان الله عليهم في عهد الخلافة الراشدة كالمشركين الذين عاصرهم الرسول صلوات الله وسلامه عليه وعلاقة علي معهم كعلاقة رسول الله مع المشركين!! فالوقت الذي يضعف فيه أمر المسلمين هو وقت عز الشيعة وتخلصها من التقية.. لأن لهم ديناً غير دين الصحابة.. الذي تلقوه عن نبيهم. والقرن الذي شهد له الرسول بالخيرية، والجيل الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه هو عهد تقية، وجيل كفر في قواميس هذه الزمرة الحاقدة.. التي أضلت قومها سواء السبيل.. ولما احتارت هذه "الزمر" المتواطئة على الضلال في عهد الخلافة الفعلي لأمير المؤمنين علي رضي الله عنه، لأن له أقوالاً وأعمالاً تخالف ما قالوه لأتباعهم، اعتبروا عهد علي - أيضاً - عهد تقية لأنه لا مخرج لهم إلا ذلك.. يقول شيخهم نعمة الله الجزائري الموصوف عندهم بـ"السيد السند والركن المعتمد": ولما جلس أمير المؤمنين (¬2) . رضي الله عنه لم يتمكن من إظهار ذلك القرآن (¬3) . وإخفاء هذا لما فيه من إظهار الشيعة على من سبقه كما لم يقدر على النهي عن صلاة الضحى، وكما لم يقدر على إجراء متعة النساء، كما لم يقدر على عزل شريح عن القضاء ومعاوية عن الإمارة (¬4) . ¬
هكذا يصرفون "الوقائع" التي تثبت مذهب علي الحقيقي عن مدلولها بدعوى التقية.. فأي ضرورة لاستعمال التقية حينئذ، ولاسيما أن الأمر يتعلق بأصل هذا الدين وهو القرآن.. وأي حاجة للتقية في عهد عز الإسلام والمسلمين.. فكيف يقال بعد هذا إن عهد التقية انقضى ودين الشيعة قائم عليها وشيوخ الشيعة يوجهون سفينة التشيع إلى بحر الهلاك تحت علم "التقية"؟ ثم إن المتأمل لنصوصهم لا يجد أن التقية يلجأ إليها عند الضرورة، بل إنها قد استغلت للكذب والخداع وتحليل الحرام وتحريم الحلال، حتى إن رواياتهم تقول بأن الأئمة كانت تستعملها في مجلس لا يوجد به من يتقونه، وليس هناك أدنى مسوغ لها، كم سلف ذكر شواهد ذلك (¬1) . وإذا كانت التقية لا تزال تعمل عملها في المذهب الشيعي، وإنها استعملت كما تقرر رواياتهم- في غير ضرورة، بل تمارس عن حب ورغبة لا عن خوف ورهبة، وتستعمل في جو شيعي خالص.. ويفسر القرآن على غير وجهه باسم التقية حتى إن إمامهم فسر آية من كتاب الله في مجلس واحد بثلاثة تفسيرات مختلفة متباينة.. واعتبر ذلك من قبيل التقية كما سلف (¬2) . مع أنه لا يتصور عاقل أن يتقي في تفسير القرآن في عهد عز الإسلام والمسلمين! فإذن التقية لم تستعمل في مجال الضرورة.. ولم ينته أثرها في مذهبهم. وقد أكد شيخهم المعاصر محمد صادق روحاني والملقب عندهم ب"الآية العظمى" بأن للتقية في دين الشيعة مجالات غير مجال الضرورة، وذلك حينما قسم التقية عندهم إلى أربعة أقسام: التقية الخوفية، والتقية الإكراهية، والتقية الكتمانية، والتقية المداراتية (¬3) . ¬
فهؤلاء الذين يقولون إن الشيعة لا تعمل بالتقية إلا عند الضرورة إنما ينطبق كلامهم على تقية الخوف والإكراه، لا تقية الكتمان والمداراة.. وهذا يدل على أن التقية لا تزال تستخدم عند الشيعة، لأن مجالها أوسع من مجال الضرورة والخوف.. فاستحلوا باسم تقية الكتمان والمداراة الكذب والخداع والتزوير.. كما سيأتي شواهد من ذلك في أعمال المعاصرين. ومع ذلك كله فإن في كتب الشيعة المعتمدة نصوصاً ثابتة عندهم تؤكد أن التقية لا يجوز رفعها بحال من الأحوال حتى يرجع مهديهم المنتظر من غيبته وتاركها في زمن الغيبة كتارك الصلاة؛ بل من تركها عندهم فقد فارق دين الإمامية!! فكيف يقول مغنية: إن زمن التقية قد انتهى، فهل يجهل حقيقة مذهبه أو ماذا؟ وقد تناقلت كتبهم المعتمدة روايتهم التي تقول: "فمن ترك التقية قبل خروج قائمنا فليس منا" (¬1) . وقرر شيخهم وآيتهم في هذا العصر محمد باقر الصدر أن أخبارهم في هذا الشأن هي "من الكثرة إلى حد الاستفاضة بل التواتر" (¬2) . وعلل الأمر بالتقية إلى خروج القائم بقوله: لأن تركها يؤدي "إلى بطء وجود العدد الكافي من المخلصين الممحصين، الذين يشكل وجودهم أحد الشرائط الأساسية للظهور" (¬3) . للمهدي عندهم. ورواياتهم تجعل التقية تسعة أعشار الدين عندهم، وتنفي الإيمان عمن لا ¬
تقية له (¬1) . ولا تستثني وقتاً دون وقت. إذن هل يجهل مغنية وغيره من شيوخ الشيعة هذه الحقائق في مذهبهم حتى يقولوا: انتهى عهد التقية، وإن التقية ليست بدين لهم؟! أعتقد أن القارئ لنصوصهم والتي عرضنا شيئاً منها ينتهي إلى الحكم الذي انتهى إليه الأستاذ محمود الملاح (¬2) . حينما قال: إن قول مغنية: انتهى عهد التقية اليوم عند الشيعة إنما هو تقية على التقية (¬3) . وفي كتاب الوافي الجامع لكتبهم الأربعة المعتمدة في الحديث ما يشير إلى أن ما يقوله مغنية وغيره من المدافعين عن التشيع حول ارتفاع التقية إنما هو جزء من أعمال التقية وتكاليفها وهو أمر مطلوب من كل رافضي حتى يمكن أن يستفيدوا من عقيدة التقية. يقول الوافي: عن حسان بن أبي علي قال: سمعت أبا عبد الله يقول: لا تذكروا سرنا بخلاف علانيتنا، ولا علانيتنا بخلاف سرنا، حسبكم أن تقولوا ما نقول وتصمتوا عما نصمت.. إلخ. قال صاحب الوافي في شرح هذا النص: "يعني لا تظهروا للناس ما نكتمه عنهم، ولا تقولوا لهم إن سرنا غير موافق لعلانيتنا، وإنا نكتم عنهم غير ما نظهر لهم، ونظهر غير ما نكتم، فإن ذلك مفوت لمصلحة التقية التي بها بقاؤنا وبقاء أمرنا؛ بل كونوا على ما نحن عليه، قائلين ما نقول، صامتين عما نصمت، موافقين لنا غير مخالفين عن أمرنا" (¬4) . فكأنه يقول بأسلوب مغنية: لا تقولوا للناس إن عهد التقية باق، وإن ¬
ظاهرنا يخالف باطننا، فإن ذلك يلغي فائدة التقية. وهل ينتظر من مغنية وهو يتحدث - كما يقول - لأساتذة الفلسفة في مصر - هل ينتظر منه أن يقول: إن التقية باقية.. وإننا نتعامل معكم بموجبها.. إن ما قاله ينسجم مع مذهبه الذي يوجب التكتم على التقية ذاتها. ومن يقرأ في المكتبة الشيعية المعاصرة ويتأمل ويقارن يرى أن العمل بالتقية لم يتوقف. وقد رأينا فيما سلف كيف أنهم ينفون عن مذهبهم ما هو من أصوله كمسألة الرجعة، وينكرون وجود نصوص توجد في العشرات من كتبهم.. كما أنكر عبد الحسين النجفي وجود قول أو نص لهم في نقص القرآن أو تحريفه - كما سلف - بل إن الشيخ الواحد يتناقض في أقواله، لأنه يتحدث بموجب التقية حسب المقام، وحسب من يتحدث إليه.. فهذا مغنية - نفسه - والذي يقول بارتفاع التقية يقول: إن الشيعة لا ينالون من مقام الصحابة وذلك في تفسيره الكاشف، ثم في كتابه "في ظلال نهج البلاغة" يتناول كبار الصحابة بالنقد والتجريح.. كما مضى (¬1) . ويقول: إن الإمامة ليست أصلاً من أصول دين الإسلام، وإنما هي أصل لمذهب التشيع فمنكرها مسلم إذا اعتقد بالتوحيد والنبوة والمعاد ولكنه ليس شيعياً.. يقول هذا في كتابه "مع الشيعة الإمامية" (¬2) . ولكنه يقول في كتابه الآخر "الشيعة والتشيع" في عيد لهم يسمونه "عيد الغدير" (¬3) . يقول: "إن احتفالنا بهذا اليوم هو احتفال بالقرآن الكريم، وسنة النبي العظيم ¬
بالذات، احتفال بالإسلام ويوم الإسلام.. إن النهي عن يوم الغدير تعبير ثان عن النهي بالأخذ بالكتاب والسنة وتعاليم الإسلام ومبادئه" (¬1) . ثم استشهد بما قاله شيخهم المعاصر عبد الله العلايلي وهو: "أن عيد الغدير جزء من الإسلام، فمن أنكره فقد أنكر الإسلام بالذات" (¬2) . وبالمقارنة بين النصين تتضح الحقيقة؛ فهو في النص الأول يقول: إن من أنكر الإمامة فهو مسلم، وفي النص الآخر يحكم على منكر عيد الغدير والذي هو بدعة من بدع الشيعة ما أنزل الله به من سلطان، يحكم على أن منكره منكر للإسلام بالذات.. فهل من وجه لتأويل هذا التناقض الواضح إلا التقية التي تغلغلت في أعماقهم. ولكن أي القولين هو الحقيقة والذي يمثل مذهب الشيعة.. إن النص الأخير بلا شك هو الذي يتفق مع ما جاء في مصادرهم القديمة.. ولعل ما قاله فيه هو حقيقة مذهبه، وقد انكشف في ظل الحماس وفورة العاطفة التي صاحبت الاحتفال بالعيد المزعوم. ولقد أخرجت المكتبة الشيعية "المعاصرة" كتباً للدعوة للتشيع ونشره بين أهل السنة.. ولعل المطلع على هذه الكتب يدرك أن واضعها أحد رجلين، إما زنديق ملحد هدفه إضلال عباد الله بالكذب والخداع، أو رافضي جاهل استحل باسم التقية كل شيء. لكن العقد العام الذي ينتظمها، والأصل الذي تنتمي له هو التقية، ولذلك لم نر انتقاداً لها في الوسط الشيعي كله على الرغم من ظهور عنصر "الكذب فيها". ومن أبرز الأمثلة على ذلك كتاب يسمى "المراجعات" وضعه آيتهم العظمى ¬
عبد الحسين شرف الدين الموسوي. ولقد اهتم دعاة "الرفض" بهذا الكتاب، وجعلوه وسيلة من أهم وسائلهم التي يخدعون بها الناس، أو بعبارة أدق يخدعون به أتباعهم وشيعتهم، لأن أهل السنة ولا سيما أهل العلم فيهم لا يعلمون شيئاً عن هذا الكتاب ولا غيره من عشرات الكتب التي تخرجها مطابع الروافض.. اللهم إلا من له عناية واهتمام خاص بمذهب الشيعة. ولقد زاد كلفهم بهذا الكتاب وعنايتهم بترويجه ونشره حتى طبع هذا الكتاب أكثر من مائة مرة كما زعم ذلك بعض الروافض (¬1) . وقد تكون فتنة هذا الكتاب بين الأتباع الأغرار مثل فتنة كتاب ابن المطهر الحلي الذي كشف باطله شيخ الإسلام في منهاج السنة.. ولعل الله يهيء الأسباب لتعقب هذه "الأكذوبة" وفضحها في دراسة مستقلة.. وسأشير هنا بإيجاز إلى بعض ما فيه: الكتاب عبارة عن مراسلات بين شيخ الأزهر سليم البشري وهو - بزعم الرافضي - يمثل أهل السنة ويستدل لمذهبها.. وبين عبد الحسين وهو يمثل الشيعة ويستدل لمذهبها.. وانتهت هذه المراسلات بإقرار شيخ الأزهر بصحة مذهب الروافض وبطلان مذهب أهل السنة.. والكتاب بلا شك مكيدة رافضية، ومؤامرة مصنوعة لترويج مذهب الرفض. والذي يعرف مذهب الرافضة عن كثب ويتعامل مع كتبها لا يستنكر هذا الأسلوب، إذ لا جديد فيها.. فهو أسلوب قديم درج عليه الروافض.. فقد كان من دأبهم وضع بعض المؤلفات المشتملة على مطاعن في الصحابة، وبطلان مذهب أهل السنة، وغيرها مما يؤيد مذهبهم.. ونسبة ذلك لبعض مشاهير أهل السنة. وقد عقد الشوكاني في كتابه "الفوائد المجموعة" مبحثاً بعنوان "النسخ الموضوعة" وبعد عرضه لها ذكر أن أكثرها من وضع الرافضة وهي موجودة عند ¬
أتباعهم (¬1) . كما أشار اصحب التحفة الاثني عشرية لهذا الأسلوب ومثل له بكتاب سر العالمين، وقال إنهم نسبوه إلى الإمام أبو حامد الغزالي وشحنوه بالهذيان، وذكروا في خطبته عن لسان الإمام وصيته بكتمان هذا السر وحفظ هذه الأمانة. "وما ذكر في هذا الكتاب فيه عقيدتي؛ وما ذكر في غيره فهو للمداهنة" (¬2) . وقد رأيتهم في بعض مؤلفاتهم المعاصرة يرجعون لهذا الكتاب ويحتجون ببعض ما فيه على أهل السنة (¬3) . وقد طبع هذا الكتاب عدة طبعات (¬4) . وقد ذكر د. عبد الرحمن بدوي: أن ثلاثة من المستشرقين ذهبوا إلى القول بأن الكتاب منحول (جولد تسيهر، بويج، ومكدونلد) (¬5) ، ويذهب عبد الرحمن بدوي إلى هذا الرأي ويقطع به ويحتج لذلك فيقول: "والأمر الذي يقطع بأن الكتاب ليس للغزالي هو ما ورد في ص82 من قوله: "أنشدني المعري لنفسه وأنا شاب في صحبته يوسف بن علي شيخ الإسلام" فإن المعري توفي سنة (448هـ) بينما ولد الغزالي سنة (450هـ) ، فكيف ينشده لنفسه" (¬6) .!؟ ¬
والغرض من فتح صفحة الماضي هنا هو الإشارة إلى أن كتاب المراجعات هو حلقة من حلقات، ومؤامرة من سلسلة مؤامرات ضاربة جذورها في أعماق الزمن مرد على فعلها الروافض.. حتى لا يفقدوا أتباعهم، ولينشروا "الفتنة" والرفض بين المسلمين. وأرجح القول إلى كتاب "المراجعات" للإشارة على سبيل الإيجاز إلى بعض الأمارات التي تؤكد وضعه: أولاً: مما يقطع بوضعه أن أسلوب الرسائل المسجلة في كتاب المراجعات والتي تمثل شخصيتين مختلفتين فكراً وثقافة وعلماً ووضعاً اجتماعياً هو أسلوب واحد لا تغاير فيه ولا تمايز مما يقطع بأن واضعها هو شخص واحد وهو عبد الحسين. ثانياً: أن شيخ الأزهر وهو في ذلك الوقت شيخ الأزهر بالعلم والمكانة لا في المنصب والوظيفة ظهر في هذه الرسائل بصورة تلميذ صغير، أو طالب مبتدئ، وظيفته التسليم لكل ما يقوله هذا الرافضي؛ بل والثناء والتعظيم لكل حرف يسطره، حتى ولو كان جواب الشيعي هو تفسير باطني لا تربطه بآيات القرآن أدنى رابطة (¬1) ، يدرك ضلاله صغار أهل العلم عند أهل السنة؛ بل قد ينكره عوامهم، أو توثيق لحديث موضوع، أو تأكيد على خرافة من الخرافات. لقد نقل هذا الرافضي إقرار شيخ الأزهر بصحة وتواتر أحاديث هي عند أهل الحديث ضعيفة؛ بل موضوعة، ولا يجهل ضعفها، أو وضعها صغار المتعلمين، فضلاً عن شيخ الأزهر وفي ذلك الوقت بالذات الذي لا يصل إلى منصب المشيخة إلا من ارتوى من معين العلم وتضلع في علوم الإسلام (¬2) . ¬
وليس ذلك فحسب؛ بل إن هذا الرافضي صور شيخ الأزهر بصورة العاجز عن معرفة مواضع أحاديث في كتب أهل السنة لا في كتب الشيعة، فنجده يطلب من هذا الرافضي أن يذكرها له (¬1) . فهل يجهل شيخ الأزهر مثل ذلك، وهل يعجز عن البحث ولديه المكتبات، وهل يضطر إلى تكليف هذا الرافضي ولديه علماء الأزهر وطلابه، ومتى صار الرافضي أميناً في نقل الحديث عند محدثي السنة؟!! ثالثاً: ولقد جاء نشر الرافضي للكتاب خالياً من أي توثيق، فلم يرد فيه ما يثبت صحة تلك الرسائل بأي وسيلة من وسائل التوثيق كأن يثبت صوراً لبعض الرسائل المتبادلة والتي بلغت - حسب مدعاه - 112 رسالة نصيب شيخ الأزهر منها 56 رسالة. وهذه الرسائل كانت خطية فلِمَ لم يثبت ولو رسالة واحدة تشهد لقوله.. ولاسيما في رسائل حملت أمراً في غاية الخطورة وهو تحول شيخ الأزهر من مذهب أهل السنة إلى مذهب الرافضة.. وانتقاله من الحق إلى الباطل، وعجز الرافضي عن إقامة هذا الدليل برهان بطلان دعواه، وكذب نسبه تلك الرسائل إلى الشيخ سليم.. بل انتفاء الموضوع من أساسه. ولقد جاءت هذه الدعوى، من هذا الرافضي فقط، ولم يصدر من الشيخ سليم أي شيء يدل على ذلك، ولم يوجد لما يدعيه هذا الرافضي من نسبته إلى الرفض أي أثر في حياته. بل إن هذا الرافضي لم يتجرأ على إخراج هذا "الكتاب" إلا بعد عشرين سنة من وفاة البشري (¬2) ، وأمام عجزه عن إقامة الدليل على دعواه.. اضطر الرافضي أن يفضح نفسه في مقدمته لأنه لا سبيل له لأن يصنع رسائل تحاكي أسلوب البشري، ولا أن ينشر صورة لرسالة من تلك الرسائل بخط البشري ¬
فاعترف بوضع هذه الرسائل فقال: "وأنا لا أدعي أن هذه الصحف تقتصر على النصوص التي تألفت يومئذ بيننا، ولا أن شيئاً من ألفاظ هذه المراجعات خطه غير قلمي" (¬1) . فإذا كان لم يخط هذه المراجعات غير قلمه فلم يبهت شيخ الأزهر بهذا "المنكر"؟ ثم إنه أضاف إلى ذلك فضيحة أخرى بقوله: "إنه زاد في هذه الرسائل ما يقتضيه المقام والنصح والإرشاد" (¬2) ، وهذا اعتراف آخر بأنه نسب إلى شيخ الأزهر ما لم يقله، ولكن سوغ هذا الكذب بأنه مما يقتضيه "النصح" وهذا عند أصحاب التقية مشروع. ومادام القوم كذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته وأهل بيته فهل يستكثر منهم بعد ذلك أن يكذبوا على الآخرين..؟! هذه صورة من صور التقية، ومثال بارز من أمثلتها في هذا العصر. والأمثلة في هذا الباب كثيرة.. وصنوف الكذب باسم التقية متنوعة ومختلفة تحتاج لبحث مستقل (¬3) . ¬
وهذا الأسلوب في الوضع له خطورته.. وقد امتهنه الروافض، وأصبح من أعمال التقية عندهم، ولهذا ذكر السويدي أنه على هذه الطريقة نسبت كتب كثيرة ولا يعرفها إلا من كان عارفاً بمذاق كلام أهل السنة (¬1) . وقد أجرى الله سبحانه الله على لسان بعض الروافض فأنطقهم بكشف هذه الحقيقة فاعترف أحد أساطينهم المعاصرين عند الحديث عن كتاب سليم بن قيس بأن هذا الكتاب وجملة أخرى من كتبهم موضوعة (أي مكذوبة على من نسبت إليه) لغرض صحيح (¬2) . فأنهم يستجيزون لأنفسهم هذا "الوضع" مادام الغرض صحيحاً عندهم. ولا نسترسل في دراسة ذلك (¬3) . لضيق المجال، ولأن هذا الباب خاص بالمعاصرين. شيوخ الشيعة يعملون بالتقية مع أتباعهم: والشيعة التي تزعم على لسان بعض علمائها ارتفاع التقية لا تزال تمارس التقية، لا مع أهل السنة فحسب كما بينا، بل ما أتباعها.. فإن من شيوخ المعاصرين من يعمل بالتقية (بإظهاره خلاف ما يبطن) مع أتباعه من الشيعة. وهذه ليست دعوى ندعيها، بل حقيقة ثابتة باعترافهم.. لقد أحجم ثلاثة من كبار علماء الشيعة عن إعلان مسألة فرعية فقهية في دينهم خوفاً من العوام.. وكانوا يفتون بخطئها، ويقولون بخلافها سراً ولخواصهم فقط (¬4) . ¬
ومن الطريف أن الذي كشف هذه الحقيقة هو من يقول بارتفاع التقية وهو شيخهم محمد جواد مغنية، حيث قال: "أحدث القول بنجاسة أهل الكتاب مشكلة اجتماعية للشيعة، وأوقعهم في ضيق وشدة وبخاصة إذا سافروا إلى بلد مسيحي كالغرب، أو كان فيه مسيحيون كلبنان.. وقد عاصرت ثلاثة مراجع كبار من أهل الفتيا والتقليد: الأول: كان في النجف الأشرف وهو الشيخ محمد رضا آل يس، والثاني: في قم وهو السيد صدر الدين الصدر. والثالث: في لبنان وهو السيد محسن الأمين، وقد أفتوا جميعاً بالطهارة، وأسروا بذلك إلى من يثقون به، ولم يعلنوا خوفاً من المهوشين، على أن يس كان أجرأ الجميع، وأنا على يقين بأن كثيراً من فقهاء اليوم والأمس يقولون بالطهارة، ولكنهم يخشون أهل الجهل، والله أحق أن يخشوه" (¬1) . ويذكر مغنية في تفسيره "الكاشف" إن إمامهم الأكبر السيد الخوئي أسرّ برأيه لمن يثق به (¬2) . وكذلك يقول الرافضي "كاظم الكفائي" بأن إمامهم "الغطا" أفتى بالطهارة لخاصته، لأن عقول العامة لا تحتمله (¬3) . وقد علق على ذلك د. علي السالوس فقال: وهكذا يضيع العلم، ويفترى على الإسلام، لأن أناساً ائتمنوا على العلم فضيّعوه وزيّفوه، لأنهم يخشون الناس ولا يخشون الله (¬4) . وأقول: إن من أسباب مراعاة (أو تقية) علماء الشيعة لجهال الشيعة وعوامهم هو أن هؤلاء هم مصدر رزقهم الذي يسلبونه منهم باسم الخمس. ¬
وإذا كان هذا موقف خمسة من كبار مراجع الشيعة في العصر الحاضر إزاء مسألة فرعية يجزمون بخطئها، فكيف يرجى أن يستجيبوا لتعديل أصولهم؟! ومن هذه الحقائق يتبين أن الشيعة لا يتركون تقيتهم.. ولا يتخلون عنها حتى يقوم القائم كما تؤكده نصوصهم وأفعالهم. وإن كان استعمال "التقية" عندهم يخف ويشتد بحسب الظروف والأحوال.. أعني أنه كلما كانت للشيعة دولة وقوة كان التزامها بالتقية أضعف، ونجد هذا واضحاً في مقارنة بين ما كتبه شيوخ الدولة الصفوية، مثل: كتابات المجلسي في بحار الأنوار، ونعمة الله الجزائري في الأنوار النعمانية، والكاشاني في تفسير الصافي، والبحراني في تفسير البرهان وغيرهم، بحيث تجد منهم الجرأة على إعلان كثير من الأفكار التي كانت موضع السرية عند الشيعة.. بالمقارنة إلى سابقيهم إبان قوة الدولة الإسلامية، حيث نجد في الغالب في نهاية كل نص من نصوصهم الأمر بحفظ السر وكتمان المبدأ (¬1) . حتى إن مسألة الولاية كانت موضع السرية عندهم في بادئ الأمر (¬2) . وبعد، هذه جملة من آراء المعاصرين وعقائدهم تبين نهجهم العقدي في هذا العصر.. وما لم يكن فيه جديد أو دعوى جديدة عما مضى لم أتعرض له، لأن الصلة مادامت قائمة ووثيقة في أصول التلقي فلا أمل في تغيير إلى الأفضل. وبهذا يتبين أن المعاصرين هم أخطر من سابقين؛ لأنهم ورثوا كل ما صنعته القرون من الدس والتزوير، واعتبروا تلك مصادر معتمدة.. ووفرت لهم "الطباعة الحديثة" انتشار الكتب عنهم.. وكان ضعف المسلمين سبباً في زيادة نشاطهم، وكان فشو الجهل وضعف السنة عاملاً من عوامل التأثر بهم، وتأثير ضلالهم. ¬
الفصل الرابع: دولة الآيات
الفصل الرابع: دولة الآيات وبعد أن تبين صلة الشيعة المعاصرين بقدمائهم، وأن الارتباط قائم ووثيق بينم، بل إن ما كان يعد غلواً عند الماضين أصبح ضرورياً عند المعاصرين، فهل ثمة حاجة بعد ذلك للوقوف عند دولتهم؟ أليس الأمر قد اتضح لكل ذي عينين؟ إن سبب تخصيص دولتهم الحاضرة بالدارسة والتقويم، يعود إلى أمرين أساسيين: الأول: أنها طرحت بلسان زعيمها، ونص دستورها فكرة جديدة في محيط التشيع الاثني عشري، أثارت جدلاً بين شيوخ الشيعة بين مؤيد ومعارض، تلك هي فكرة نقل وظائف المهدي وصلاحياته بعد طول غيبته، وتأخر خروجه إلى الفقيه الشيعي بالكامل كما سيأتي تفصيله والحديث عن آثاره، حيث إن الخميني استولى تماماً على وظائف مهديهم المنتظر بعد قيام دولته. السبب الثاني: بأنه قيل إن هذه الدولة هي التي تمثل الإسلام في هذا العصر، وشيوخها هم المراجع للمسلمين، ومؤسسها من المجددين، وراجع هذا على بعض المسلمين، وقيل بعد قيام دولتهم بأنه قد عاد "المذهب الشيعي إلى نقائه الأصيل ولاء لله ورسوله صلى الله عليه وسلم وحباً لآل بيته حباً صادقاً لوجه الله لا يفقد صاحبه احترام غيرهم من المسلمين وخصوصاً صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم" (¬1) . وزعمت بعض الصحف "أن ردود الفعل التي أحدثتها (حركة الخميني) ¬
كان مبعثها أن حركة الخميني حركة إسلامية مائة في المائة" (¬1) . ورشحت مجلة المعرفة التونسية الخميني لنيل جائزة الملك فيصل لخدمة الإسلام (¬2) . ومضت على هذا النهج مجلات أخرى كالرائد (¬3) ، والدعوة (¬4) ، والرسالة (¬5) ، والأمان (¬6) . وغيرها. وهذه المجلات كلها منتسبة لأهل السنة. وقد كتب بعض المنتمين لأهل السنة كتابات عن الخميني وثورته، يشيد بها ويعدها المثال الصادق للحكومة الإسلامية (¬7) . وأصدرت بعض الحركات الإسلامية بيانات تثني وتؤيد المنهج الخميني حتى جاء في بيان التنظيم الدولي للإخوان المسلمين وصف حكم الخميني بأنه "الحكم الإسلامي الوحيد في العالم" (¬8) . فكانت فتنة مدلهمة لا تزال آثارها باقية، وإن أفاق البعض، وتبينت له الحقيقة، إلا أن منهم من لا يزال يعد ما يثار عن شيعة الخميني إنما هي "ضجة مفتعلة" (¬9) . وقد استغل الشيعة هذا الجو بالدعاية لمذهبهم ونشره، وساهمت هذه الحملة ¬
الإعلامية الدعائية في الصحف الإسلامية على إخفاء الحقيقة أمام شباب المسلمين، لأنها هي لا تعرف شيئاً من الخلاف بين الشيعة والسنة إلا أنه خلاف حول من يستحق الولاية: عليّ أم أبو بكر، وتلك أمة خلت، وليس هذا الخلاف بأمر ذي بال اليوم. فكان هذا الوضع مجالاً خصباً لنشر الفتنة والرفض.. ومن هنا فإنه لابد من بيان الحقيقة ونشرها بين الناس. ولابد من نقد دعوى الجديد والتجديد، وحكاية التغيير وتقويمها، ولعل دراسة فكر مؤسسها، ومواد دستورها، هي التي يمكن على ضوئها إصدار حكم موضوعي محايد في أمرها (¬1) . ¬
فكر مؤسسها
فكر مؤسسها من خلال الرجوع إلى ما كتبه الخميني في كشف الأسرار (¬1) ، وتحرير الوسيلة، والحكومة الإسلامية، ومصباح الإمامة والولاية، ورسائل التعدد والترجيح والتقية، ودروس في الجهاد والرفض، وسر الصلاة.. وغيرها. يتبين أن له مجموعة من الاتجاهات، لعل أهمها ما يلي: أولاً: الاتجاه الوثني. ثانياً: الاتجاه الصوفي الغالي. ثالثاً: دعوى النبوة. رابعاً: الغلو في الرفض. خامساً: عموم ولاية الفقيه (أو النيابة الكاملة عن المنتظر) . أولاً: الاتجاه الوثني (¬2) : في كتابه كشف الأسرار ظهر الخميني داعياً للشرك ومدافعاً عن ملة المشركين حيث يقول تحت عنوان: "أليس من الشرك طلب الحاجة من الموتى": "يمكن أن يقال إن التوسل إلى الموتى وطلب الحاجة منهم شرك؛ لأن النبي والإمام ليس إلا جمادين فلا يتوقع منهما النفع والضرر. والجواب: إن الشرك هو طلب الحاجة من غير الله، مع الاعتقاد بأن هذا ¬
الغير هو إله ورب، وأما إذا طلب الحاجة من الغير من غير هذا الاعتقاد فذلك ليس بشرك، ولا فرق في هذا المعنى بين الحي والميت، ولهذا لو طلب أحد حاجته من الحجر والمدر لا يكون شركاً، مع أنه قد فعل باطلاً. ومن ناحية أخرى نحن نستمد من أرواح الأنبياء المقدسة والأئمة الذين أعطاهم الله قدرة. لقد ثبت بالبراهين القطعية والأدلة العقلية المحكمة حياة الروح بعد الموت، والإحاطة الكاملة للأرواح على هذا العالم" (¬1) . ثم ذكر أقوالاً للفلاسفة في إثبات ادعائه. فقد اشتمل هذا النص على ما يلي: أ- اعتقاده أن دعاء الأحجار والأصنام والأضرحة من دون الله لا يكون شركاً، إلا إذا اعتقد الداعي أنها هي الإله والرب. وهذا باطل من القول وزور؛ لأن هذه هو الشرك الأكبر بعينه، والذي أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب لإبطاله، وهو شرك المشركين الذين جاهدهم الرسول صلى الله عليه وسلم، ذلك أنه غير خاف أن المشركين ما كانوا يعتقدون في "أصنامهم" أنها الرب بل كانوا يقولون كما قال الله عنهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (¬2) . وقال سبحانه: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (¬3) . وقال سبحانه: {قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ، قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، سَيَقُولُونَ ¬
لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ، قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} (¬1) . فثبت بهذا أن مشركي العرب كانوا مقرين بأن الله وحده خالق كل شيء، وكانوا مع هذا مشركين، وكان شركهم من هذا الشرك الذي يدعو إليه خميني. ب- اعتقاده أن الأمة الأموات لهم قدرة على النفع والضر. ويقول بأنهم يستمدون منهم ذلك. وهذا من الشرك الأكبر بلا ريب، فالأموات لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً.. وهل يوجد فرق بين هذا وشرك مشركي قريش.. وغيرهم من مشكري الأمم الذي كان غالب شركهم من هذه الباب (¬2) . إن الفرق أن هؤلاء يسمون شركهم إسلاماً ويرون أنه من دين محمد صلى الله عليه وسلم كما ترى في دفاع هذا الرجل وغيره. جـ- دعواه الإحاطة الكاملة للأرواح على هذا العالم، ثم خاص في ركام الفلسفة لإثبات مدعاه. الإحاطة بهذا العالم لله وحده {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطًا} (¬3) ، والروح مخلوقة مدبّرة، وهي بعد مفارقتها للجسد في نعيم أو عذاب، وليس لها من أمر الإحاطة بالعالم نصيب، ولكن الشيء من معدنه لا يستغرب، فمن يجمع بين إلحاد الفلاسفة وغلو الرافضة لا يخرج منه إلا هذا وأشنع. اعتقاده تأثير الكواكب والأيام على حركة الإنسان: لا يزال فكر الخميني أسير أوهام الشرك والمشركين، فهو يزعم أن هناك أياماً منحوسة من كل شهر يجب أن يتوقف الشيعي فيها عن كل عمل، وأن لانتقال ¬
القمر إلى بعض الأبراج تأثيراً سلبياً على عمل الإنسان، فليتوقف الشيعي عن القيام بمشروع معين حتى يتجاوز القمر ذلك البرج المعين. ولاشك بأن من يعتقد في الأيام والكواكب تأثيراً في جلب سعادة، أو إحداث ضرر أو منعه فهو مشرك كافر، وهو اعتقاد الصابئة في الكواكب. ومما يشهد لاتجاه خميني هذا ما جاء في تحرير الوسيلة؛ حيث يقول: "يكره إيقاعه (يعني الزواج) والقمر في برج العقرب، وفي محاق الشهر، وفي أحد الأيام المنحوسة في كل شهر وهي سبعة: يوم 3، ويوم 5، ويوم 13، ويوم16، ويوم 21، ويوم 24، ويوم 25 (وذلك من كل شهر) " (¬1) . هذا معتقد الخميني، فيصدق فيه ومن تبعه قول صاحب التحفة الاثني عشرية: "إن الصابئين كانوا يحترزون عن أيام يكون القمر بها في العقرب، أو الطرف، أو المحاق، وكذلك الرافضة.. وكانت الصابئة يعتقدون أن جميع الكواكب فاعلة مختارة، وأنها هي المدبر للعالم السفلي، وكذلك الرافضة" (¬2) . حقيقة الشرك عند الخميني: وإذا كانت وثنية المشركين ليست عنده بشرك.. فما هو الأمر الذي يكون شركاً في نظره؟ يقول: "توجد نصوص كثيرة تصف كل نظام غير إسلامي بأنه شرك، والحاكم أو السلطة فيه طاغوت، ونحن مسؤولون عن إزالة آثار الشرك من مجتمعنا المسلم، ونبعدها تماماً عن حياتنا" (¬3) . ¬
فأنت ترى أن مفهوم الشرك عنده هو أن يتولى على بلاد المسلمين أحد من أهل السنة فحاكمها حينئذ مشرك، وأهلها مشركون، فدين هؤلاء "الولاية" لا التوحيد، ولذلك فإن الشرك قد ضرب بجرانه في أقطارهم.
ثانيا: الغلو في التصوف
ثانياً: الغلو في التصوف (أو القول بالحلول والاتحاد) : وتتمثل "صورة التصوف عنده" في أوضح مظاهرها في كتابه "مصباح الهداية إلى الخلافة والولاية" ثم كتابه الآخر "سر الصلاة".. وفيما يلي بيان لبعض اتجاهاته الصوفية الغالية: أ- قوله بالحلول الخاص: يقول عن أمير المؤمنين علي: "خليفته (يعني خليفة الرسول صلى الله عليه وسلم) القائم مقامه في الملك والملكوت، المتحد بحقيقته في حضرت الجبروت واللاهوت، أصل شجرة طوبى، وحقيقة سدرة المنتهى، الرفيق الأعلى في مقام أو أدنى، معلم الروحانيين، ومؤيد الأنبياء والمرسلين علي أمير المؤمنين" (¬1) . فانظر إلى قوله: "المتحد.. باللاهوت" تجده كقول النصارى باتحاد اللاهوت بالناسوت، ومن قبل زعمت غلاة الشيعة أن الله حلّ في علي (¬2) . ولا تزال مثل هذه الأفكار الغالية والإلحادية تعشعش في أذهان هؤلاء الشيوخ كما ترى. ومن منطلق دعوى حلول الرب بعلي - كما يفتري - ينسب الخميني لأمير المؤمنين علي أنه يقول: "كنت من الأنبياء باطنياً ومع رسول الله ظاهراً" (¬3) . ويعلق عليه فيقول: "فإنه عليه السلام صاحب الولاية المطلقة الكلية والولاية باطن الخلافة.. فهو عليه السلام بمقام ولايته الكلية قائم على كل نفس بما كسبت، ومع كل الأشياء معيّة قيّومية ظليّة إلهية ظل المعية القيومية الحقة الإلهية، ¬
إلا أن الولاية لما كانت في الأنبياء أكثر خصهم بالذكر" (¬1) . فأنت ترى أن الخميني يعلق على تلك الكلمة الموغلة في الغلو والمنوسبة زوراً لأمير المؤمنين، بما هو أشد منها غلواً وتطرفاً؛ فهو عنده ليس قائماً على الأنبياء فحسب، بل على كل نفس ويختار الآية المختصة بالله سبحانه ليصف بها المخلوق. قال تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} (¬2) . أي أنه سبحانه: "حفيظ عليم رقيب على كل نفس منفوسة" قال تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} (¬3) . (¬4) . وقد تبينت الحقيقة لكل ذي عينين، فماذا بعد القول بأن علياً هو القائم على كل نفس غلواً، إذ هو تأليه صريح؟! وقال في قوله عز وجل: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} (¬5) قال: "أي ربكم الذي هو الإمام" (¬6) . ب- قوله بالحلول والإتحاد الكلي: وتجاوز الخميني مرحلة القول بالحلول الجزئي، أو الحلول الخاص بعليّ إلى القول بالحلول العام.. فهو يقول - بعد أن تحدث عن التوحيد ومقاماته حسب تصوره -: "النتيجة لكل المقامات والتوحيدات عدم رؤية فعل وصفة حتى من الله تعالى، ونفى الكثرة بالكلية، وشهود الوحدة الصرفة.." (¬7) . ¬
ويبدو أن قوله: "عدم رؤية فعل وصفة حتى من الله تعالى" للتأكيد على مذهب الاتحادية، لأن رؤية فعل متميز، وإثبات صفة معنية لله يعني إثبات الغيرية والتثنية وهذا شرك عندهم. ثم ينقل عن أحد أئمته أنه قال: "لنا مع الله حالات هو هو ونحن نحن، وهو نحن، ونحن هو" (¬1) . ثم يعلق على ذلك بقوله: "وكلمات أهل المعرفة خصوصاً الشيخ الكبير محي الدين مشحونة بأمثال ذلك مثل قوله: الحق خلق، والخلق حق، والحق حق، والخلق خلق". وقال في نصوصه: "إن الحق المنزه هو الحق المشبه" (¬2) . ثم نقل جملة من كلمات ابن عربي (¬3) . وقال: "لا ظهور ولا وجود إلا له تبارك وتعالى والعالم خيال في خيال عند الأحرار" (¬4) . وقال: "وإذا نظف دار التحقق من غبار الكثرة، وطوى الحجب النورانية والظلمانية ونال مقام التوحيد الذاتي، والفناء الكلي تحصل له الاستعاذة الحقيقية..". ثم قال: وقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} رجوع العبد إلى الحق بالفناء الكلي المطلق" (¬5) . ثم تراه كثيراً ما يستدل على مذهبه في وحدة الوجوع بقول ابن عربي والذي يصفه بالشيخ الكبير (¬6) ، والقونوي، ويصفه بـ"خليفة الشيخ الكبير محيي الدين" (¬7) . وهكذا تبين أن الخميني قد أخذ منهج أهل الحلول والاتحاد. ¬
ثالثا: دعوى النبوة
ثالثاً: دعوى النبوة أفرزت لوثات التصوف، وخيالات الفلسفة عنده دعوى غريبة، وكفراً صريحاً، حيث رسم للسالك أسفاراً أربعة: ينتهي السفر الأول إلى مقام الفناء "وفيه السر الخفيّ والأخفى.. ويصدر عنه الشطح، فيحكم بكفره، فإن تداركته العناية الإلهية.. فيقر بالعبودية بعد الظهور بالربوبية" (¬1) . كما يقول. وينتهي السفر الثاني عنده إلى أن "تصير ولايته تامة، وتفنى ذاته وصفاته وأفعاله في ذات الحق وصفاته وأفعاله، وفيه يحصل الفناء عن الفنائية أيضاً الذي هو مقام الأخفى، وتتم دائرة الولاية" (¬2) . أما في السفر الثالث فإنه "يحصل له الصحو التام ويبقى بإبقاء الله، ويسافر في عوالم الجبروت والملكوت والناسوت، ويحصل له حظ من النبوة، وليست له نبوة التشريع، وحينئذ ينتهي السفر الثالث ويأخذ في السفر الرابع" (¬3) . وبالسفر الرابع "يكون نبياً بنبوة التشريع" (¬4) . فمراحل السفر عنده: الفناء، والولاية وفيها الفناء عن الفناء، والنبوة بلا تشريع، ثم النبوة الكاملة، وهي تتضمن أن النبوة مكتسبة عن طريق "رياضات" ومجاهدات أهل التصوف. وهي دعوى ترتد إلى أصول فلسفية صوفية قديمة، ولذا قال القاضي عياض: "ونكفر ... من ادعى النبوة لنفسه، أو جوز اكتسابها والبلوغ ¬
بصفاء القلب إلى مرتبتها كالفلاسفة وغلاة الصوفية" (¬1) . فهذه المقالة كفر صريح، وإلحاد مكشوف، كفر بالنبوة وبالأنبياء، وخروج عن دين الإسلام، ويبدو أنه يدعي لنفسه سلوك هذه "المقامات".. وقد ذكر في كتابه الحكومة الإسلامية "أن الفقيه الرافضي بمنزلة موسى وعيسى" (¬2) . وينبغي أن لا يغيب عن البال أن مقام الإمامة عندهم أعلى من مقام النبوة - كما سبق ذكره (¬3) .- وسيأتي ذكر ذلك أيضاً من كلام الخميني نفسه، ومع ذلك فإن الخميني لا يدعى في إيران إلا "بالإمام" أي بالوصف الذي فوق وصف النبوة عندهم (¬4) . ولهذا قال مرتضى كتبي (¬5) ، وجان ليون (¬6) : "بالنسبة للغالبية العظمى من الشعب الإيراني لم يعد روح الله الخميني آية الله، إنما الإمام، وهو لقب نادرًا ما أعطي في تاريخ الشيعة" (¬7) . وقد أكد هذا المعنى أحد المسئولين الإيرانيين ويدعى فخر الدين الحجازي حين قال: "إن الخميني أعظم من النبي موسى وهارون" فنال بهذا القول رضى الخميني فعينه نائباً عن طهران، ورئيساً لمؤسسة المستضعفين أعظم مؤسسة مالية في البلاد" (¬8) . ¬
ونجد محمد جواد مغنية يلمح إلى شيء من تفضيل الخميني على نبي الله موسى عليه السلام حين قال: "وقال السيد المعلم (يعني الخميني) ص (111) من الحكومة الإسلامية: "لماذا الخوف؟ فليكن حبساً أو نفياً أو قتلاً فإن أولياء الله يشرون أنفسهم ابتغاء مرضاة الله". ثم علق على ذلك مغنية بقوله:" وليست هذه الكلمات مجرد سورة من سورات الغضب كما فعل موسى (ع) حين ألقى الألواح - التوراة - وأخذ برأس أخيه يجره، بل تنبني أيضاً على العلم والمنطق الصارم دون أن تلفحه نار العاطفة" (¬1) . هذا نص مغنية بحروفه، وهو يفيد - كما يظهر - أن الخميني أكمل من نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام، وأن فعل الخميني مبني على العلم والمنطق، وموسى على الغضب والعاطفة. وموسى عليه السلام أكرم وأعظم من أن يقارن بصفوة الصالحين، فكيف يفضل عليه الخميني، أو يذكر معه في مقارنة؟! ولكنه منطق الغلاة الذين فرغت قلوبهم من توقير أنبياء الله ورسله، لأن غلوهم في أئمتهم ونواب الأئمة قد استفرغ من نفوسهم عظمة الرسالة والرسل. ويقال: إن الخميني أدخل اسمه في أذان الصلاة وقدمه على الشهادتين. يقول د. موسى الموسوي (¬2) . "أدخل الخميني اسمه في أذان الصلوات، وقدم اسمه على اسم النبي الكريم، فأذان الصلوات في إيران بعد استلام الخميني للحكم، وفي كل جوامعها كما يلي: "الله أكبر، الله أكبر (خميني رهبر) أي أن الخميني هو القائد، ثم أشهد أن محمداً رسول الله" (¬3) . (بل لم تذكر ¬
شهادة أن لا إله إلا الله أصلاً وقد كون هذا سهواً من المؤلف) . وإذا كان شيخهم ابن بابويه في القرن الرابع يرى أن قول الشيعة في الأذان: "أشهد أن علياً ولي الله.. هو من وضع المفوضة" (¬1) . لعنهم الله تعالى (¬2) . عرفت انفصال المعاصرين عن الغابرين، وأن المعاصرين قد امحت الفوارق بينهم وبين الغلاة، ولم يعد لديهم حدود يتوقفون عندها في السير بمذهبهم قدماً نحو الغلو والزندقة. ¬
رابعا: الغلو في الرفض
رابعاً: الغلو في الرفض بالنسبة لاتجاه الخميني في التشيع فإنه يأخذ بالمذهب الغالي والمتطرف وهو مذهب غلاة الروافض (¬1) . ومما يدل على ذلك أنه يعتمد مقالة غلاتهم في تفضيل الأئمة على أنبياء الله ورسله؛ فيقول: "إن من ضرورات مذهبنا أن لأئمتنا مقاماً لا يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل.. وقد ورد عنهم (ع) أن لنا مع الله حالات لا يسعها ملك مقرب ولا نبي مرسل" (¬2) . وهذا هو مذهب غلاة الرافضة كما يقرر ذلك عبد القاهر البغدادي (¬3) ، والقاضي عياض (¬4) . وشيخ الإسلام ابن تيمية (¬5) . وترى الخميني ينسب هذا المذهب لكل المعاصرين، وأن هذا من الضرورات عندهم؛ فالمعاصرون هم - بناء على ذلك - من غلاة الروافض في حكم أئمة الإسلام. وليس ذلك فحسب، بل عقيدة الخميني في أئمته هي عقيدة الغلاة في حكم كبار شيوخ الشيعة في القرن الرابع؛ يدل على ذلك أنه يذهب إلى القول بأن أئمته "لا يتصور فيهم السهو والغفلة" (¬6) . ¬
وهذا في نظر شيخهم ابن بابويه الملقب برئيس المحدثين هو مذهب الغلاة والمفوضة في الأئمة، والذين هم في نظر ابن بابويه وغيره يستحقون اللعن حيث قال: "إن الغلاة والمفوضة - لعنهم الله ينكرون سهو النبي صلى الله عليه وسلم.." (¬1) . ونقل عن شيخه محمد بن الحسن بن الوليد أنه كان يعد نفي السهو عن النبي والإمام من الغلو (¬2) . وفي كتابه الاعتقادات حكم على هؤلاء الغلاة والمفوضة بقوله: "اعتقادنا في الغلاة والمفوضة أنهم كفار بالله جل اسمه، وأنهم شر من اليهود والنصارى والمجوس" (¬3) . هذا والخميني في بقية عقائده لا يختلف عن عقائد الاثني عشرية التي تحدثت عنها صفحات هذا البحث. وذلك في تكفيره لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬4) . ولأهل السنة عموماً، حتى ينعتهم بالنواصب - ما عدا من يسمونهم بالمستضعفين (¬5) .- بل هو يأخذ بالرأي المتطرف من آراء قومه في ذلك، وهو معاملتهم كالحربي حيث قال: "والأقوى إلحاق الناصب بأهل الحرب في إباحة ما اغتنم منهم وتعلق الخمس به، بل الظاهر جواز أخذ ماله أينما وجد، وبأي نحو كان، ووجوب إخراج خمسه" (¬6) . وهو يريد بالناصب أهل السنة وما يحلق بهم - في نظرهم - من الشيعة ¬
الزيدية ما عدا الجارودية - كما مر - لا الخوارج فقط والذين هم يسمون بالنواصب عند أهل السنة لإجماعهم على تكفير أمير المؤمنين علي، ولذلك يذكر الخوارج كقسم آخر مع النواصب فيقول مثلاً: "وأما النواصب والخوارج لعنهم الله تعالى فهما نجسان.." (¬1) . وفي عقيدتهم في القرآن يلمح الخميني إلى تصديقه بخرافة وجود قرآن لعلي عرضه على الصحابة فرفضوه، وأنه متضمن لزيادات ليست في القرآن فيقول: "ولعل القرآن الذي جمعه (يعني علياً) وأراد تبليغه على الناس بعد رسول الله (¬2) . هو القرآن الكريم مع جميع الخصوصيات الدخيلة في فهمه المضبوطة عنده بتعليم رسول الله" (¬3) . وهو يترحم على المجوسي الملحد صاحب فصل الخطاب، ويتلقى عن كتابه: مستدرك الوسائل ويحتج به (¬4) ، كما يتلقى من أصولهم التي حوت هذا الكفر، كالكافي للكليني (¬5) . والاحتجاج للطبرسي (¬6) . وغيرهما. هذا وقد ذكر الندوي في ترجمته لبعض نصوص كشف الأسرار ما يتضمن مجاهرة الخميني بهذا الكفر (¬7) . وفي النص المترجم الذي بين يدي من كشف الأسرار يجيب الخميني على من يقول: لماذا لم يذكر الأئمة في القرآن بقوله: "إن الذين لم يكن ارتباطهم بالإسلام والقرآن إلا لأجل الرئاسة والدنيا، وكانوا يجعلون القرآن وسيلة لمقاصدهم الفاسدة، كان من الممكن أن يحرفوا هذا ¬
الكتاب السماوي في حالة ذكر اسم الإمام في القرآن وأن يمسحوا هذه الآيات منه وأن يلصقوا وصمة العار هذه على حياة المسلمين" (¬1) . فهو هنا لم يصرح بوقوع التحريف إلا بالتمليح، ولكنه يزعم صراحة أنه بإمكان أحد من الناس تحريف كتاب الله، وفي هذا تكذيب لقوله سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (¬2) . وانظر إلى هذه العقلية المتعصبة والمغلقة، والتي تزعم أن الله سبحانه لم يذكر في كتابه ما هو - حسب اعتقادهم - أصل الدين وأساسه المتين خشية تحريف الصحابة له. وكذلك يقول الخميني بخرافة الغيبة ويزعم رجعته، بل يقول: لقد جاء الأنبياء جميعاً من أجل إرساء قواعد العدالة في العالم لكنهم لم ينجحوا حتى النبي محمد خاتم الأنبياء الذي جاء لإصلاح البشرية.. لم ينجح في ذلك، وإن الشخص الذي سينجح في ذلك هو المهدي المنتظر" (¬3) . وقد استنكر المسلمون ذلك وأصدرت رابطة العالم الإسلامي بيانًا تنكر هذه المقالة وتوضح أنها تحوي مناقضة صريح للإسلام وما جاء به القرآن والسنة النبوية المطهرة، وما أجمعت عليه الأمة (¬4) . كما جرى الإنكار من جهات عديدة (¬5) . ¬
وقد نشرت مجلة الجماعة الإسلامية بباكستان خطاب الخميني، وعلقت عليه بقولها: "هذا نفي للإسلام، وتاريخ الإسلام، وأمر لا يحتمله حتى الأصدقاء" (¬1) . وهو في تصريحه هذا لم يخرج عن طبيعة مذهبه المفرطة في الغلو، فهو يرى أن الأئمة (والمهدي منهم) أفضل من الأنبياء، ويرى أن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدوا بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بسبب بيعة أبي بكر دون علي، وجوهر الرسالة عندهم هو إمامة علي، ولهذا قال: "يعتبر الرسول لولا تعيينه الخليفة من بعده غير مبلغ للرسالة" فمن هنا قال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينجح لأنه لم يتول علي الخلافة بعده مباشرة! وقد أصدر الخميني بياناً يجيب فيه على المنكرين، وليس في جوابه إلا التأكيد على هذا المنكر، حيث قال: "ونقول بأن الأنبياء لم يوفقوا في تنفيذ مقاصدهم، وأن الله سيبعث في آخر الزمان شخصاً يقوم بتنفيذ مسائل الأنبياء"، ثم ينكر على المنكرين بأنهم يسعون لتفريق المسلمين" (¬2) . ويقول خميني إن "تعاليم الأئمة كتعاليم القرآن" (¬3) ، بل هو يعمل حتى بحكايات الرقاع ويعطيها نفس القدسية التي توليها الأمة لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم (¬4) . إلى آخر قائمة العقائد التي تقول بها الاثنا عشرية، ويتابعهم فيها خميني، وقد يأخذ بأشدها تطرفاً مما لا حاجة إلى تفصيله واستقصائه. إذ الغرض بيان أنه لم يكن كما يتوهم أصحاب تلك النظرة السطحية الساذجة.. لكن رأيت بعضهم يقول: بأن الخميني قد تخلى عن بعض عقيدته في التقية (¬5) ، وأنه قد أمر أتباعه ¬
بالصلاة مع أهل السنة مما يعد اعتدالاً في صورته الظاهرة. والجواب عن ذلك يوجد في رسالته في التعادل والترجيح، وفي رسالته في التقية، وحسبك أن تعلم من هذا إيمانه بأن أصل دينهم يقوم على مخالفة أهل السنة، وأن هذا الأصل هو من المرجحات عنده في حالة اختلاف الروايات.. فهو يقول: "إن أخبارهم الآمرة بالأخذ بخلاف العامة.. كقوله: "ما خالف العامة ففيه الرشاد".. وقوله: "دعوا ما وافق القوم فإن الرشد في خلافهم" هي من أصول الترجيح، وليس الترجيح بها بمحض التعبد، بل "لكون المخالفة لهم طريقاً إلى الواقع، والرشد في مخالفتهم" (¬1) . ثم عقد مبحثاً بعنوان "في الأخبار الواردة بمخالفة العامة" (¬2) . وذكر أن أخبارهم في هذا الباب نوعان: الأول يأمر بالأخذ بما خالف العامة في حالة تعارض الروايات عن الأئمة، والنوع الثاني يأمر بالمخالفة مطلقاً. فذكر من النوع الأول خمس روايات: قال: "عن الحسن بن الجهم قال: قلت للعبد الصالح (¬3) . يروى عن أبي عبد الله عليه السلام شيء ويروى عنه خلافه فبأيهما نأخذ؟ فقال: خذ بما خالف القوم وما وافق القوم فاجتبنه" (¬4) . والروايات الباقية لا تخرج عن هذا المعنى، وفي بعضهما الأمر بالعرض على كتب الحديث عند أهل السنة فيقول: "فاعرضوهما على أخبار العامة فما وافق أخبارهم فذروه وما خالف أخبارهم فخذوه" (¬5) . ¬
وعقب الخميني على هذا النوع من الأخبار بقوله: "ولا يخفى وضوح دلالة هذه الأخبار على أن مخالفة العامة مرجحة في الخبرين المتعارضين مع اعتبار سند بعضهما، بل صحة بضعها على الظاهر واشتهار مضمونها بين الأصحاب، بل هذا المرجع هو المتداول العام الشايع في جميع أبواب الفقه وألسنة الفقهاء" (¬1) . فأنت ترى خميني يؤكد على رفض أي خبر عندهم يوافق أهل السنة وكأنهم من اليهود والنصارى المنهي عنه التشبه بهم، ولكن في كتبهم ما يصرح أنهم أكفر من اليهود والنصارى (¬2) . أما النوع الثاني: وهو أخبارهم التي تأمرهم بمخالفة أهل السنة مطلقاً وذلك بالبحث عن أعمال أهل السنة وأقوالهم وعقائدهم لمخالفتها، فذكر من هذا النوع خمس روايات. الرواية الأولى: وهي التي تأمر الشيعي بسؤال مفتي البلد للعمل بخلاف فتواه، حيث يقول: "ائت فقيه البلد فاستفته من أمرك فإذا أفتاك بشيء فخذ بخلافه، فإن الحق فيه" (¬3) . وهذه الرواية وما أشببها من هذا النوع أثارات إشكالاً عند الشيعة وهو أن في أخبار أهل السنة - ولا سيما في الفقه - ما هو موافق لأخبار الشيعة فإذا عمل بهذه الروايات بإطلاق، فقد يترتب على ذلك الخروج من المذهبين رأساً، ولذلك عقب الخميني على كل رواية من هذه الروايات بما يحاول به أن يتخلص به من هذا الإشكال، فعقب على الرواية السابقة بقوله: "موردها صورة الاضطرار وعدم طريق إلى الواقع فأرشده إلى طريق يرجع إليه لدى سد الطرق، ولا يستفاد منها جواز رد الخبر من طريقنا إذا كان موافقاً ¬
لهم" (¬1) . ثم قال: "وقوله.. ما أنتم والله على شيء مما هم فيه، ولا هم على شيء مما أنتم فيه فخالفوهم فما هم من الحنيفية على شيء. فالظاهر منها المخالفة في عقائدهم وفي أمر الإمامة وما يرتبط بها، ولا تدلان على رد الخبر الموافق لهم" (¬2) . (يعني الموافق للأمة) . فترى الخميني يعد مخالفة أهل السنة من أصول الترجيح عندهم، فأين الذين يمدون أيديهم للتقارب معه؟ وأين الذين يزعمون أنه تخلى عن تقيته مع أهل السنة؟! أما أمره لطائفته بالصلاة مع أهل السنة فهو جزء من عمله بالتقية، وهو ما فصل القول فيه في رسالته في التقية، ولكن جملة من أهل السنة الذين يأخذون الأمور بظواهرها ولا معرفة لهم بخفايا المذهب الشيعي يشيدون بهذه الخطورة، ويعدونها من مناقب الخميني، ومساعيه في جمع المسلمين" (¬3) . مع أنه عقد في رسالته في التقية مبحثاً خاصاً في ذلك بعنوان "في الروايات الدالة على صحة الصلاة مع العامة".. وقال فيه: "إنه قد وردت روايات خاصة تدل على صحة الصلاة مع الناس والترغيب في الحضور في مساجدهم والاقتداء بهم والاعتداد بها كصحيحة حماد بن عثمان عن أبي عبد الله أنه قال: "من صلى معهم في الصف الأول كان كمن صلى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصف الأول". وعقب عليه الخميني بقوله: "ولا ريب أن الصلاة معه - يعني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم- صحيحة ذات فضيلة جمة فذلك الصلاة معهم حال التقية" (¬4) . ¬
ثم قال: "وموثقة سماعه قال: سألته عن مناكحتهم والصلاة خلفهم؟ فقال: هذا أمر شديد لن تستطيعوا ذلك، قد أنكح رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى علي وراءهم" (¬1) . ثم أشار إلى أن هذا النوع من التقية ليس مرتبطاً بالضرورة، وهو خاص بمعاملة أهل السنة، لأنه يرى أن التقية تكون اضطرارية في حال الخوف، وتكون للمداراة وهي حينئذ من أفضل الأعمال عندهم.. والحالة الأولى الأمر فيها واضح، لكن الحالة الثانية يبينها بقوله: "وأما التقية المداراتية المرغوب فيها - كذا - مما تكون العبادة معها أحب العبادات وأفضلها، فالظاهر اختصاصها بالتقية عن العامة، كما هو مصب الرويات على كثرتها" (¬2) . فالتقية مع أهل السنة من أفضل الأعمال، وهي مشروعة بإطلاق عندهم.. ثم يشير بعد ذلك إلى نوع ثالث من أنواع التقية عندهم وهو الكتمان المقابل للإذاعة كما يقول: "فتكون على حد تعبيره بمعنى التحفظ عن إفشاء المذهب وعن إفشاء سر أهل البيت" (¬3) . فهل بعد هذا يقال: بأن الخميني قد تخلى عن التقية والمخادعة؟ لكن من قال ذلك خفي عليه أن التقية عندهم أنواع، وأن التقية مع أهل السنة من أفضل الأعمال عندهم، وليست مشروطة بالضرورة. وأخيراً حسبك أن تعرف أنه يعد عصر الخلفاء الراشدين عصر تقية فيقول: "إن من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زمان خلافة أمير المؤمنين ومن بعده إلى زمن الغيبة كان الأئمة وشيعتهم مبتلين بالتقية أكثر من مائتي سنة" (¬4) . فتبين أن خميني من غلاة الروافض؛ بل هو يأخذ من آرائهم ما هو أكثر شذوذاً، ويتعمد مخالفة أهل السنة، وإن خرج عن ذلك فهو تقية. ¬
خامسا: قوله بعموم ولاية الفقيه
خامساً: قوله بعموم ولاية الفقيه تعتقد الاثنا عشرية أن الولاية العامة على المسلمين منوطة بأشخاص معينين بأسمائهم وعددهم، قد اختارهم الله كما يختار أنبياءه (¬1) . وهؤلاء الأئمة أمرهم كأمر الله، وعصمتهم كعصمة رسل الله، وفضلهم فوق فضل أنبياء الله. ولكن آخر هؤلاء الأئمة - حسب اعتقادهم - غائب منذ سنة (260هـ) ولذا فإن الاثني عشرية تحرم أن يلي أحد منصبه في الخلافة حتى يخرج من مخبئه، حتى تقول: "كل راية ترفع قبل أن يقوم القائم فصاحبها طاغوت وإن كان يدعو إلى الحق" (¬2) . وعلى هذا مضى شيعة القرون الماضية.. وقد استطاعوا أن يأخذوا "مرسوماً إمامياً" وتوقيعاً من الغائب - على حد زعمهم - يسمح لشيوخهم أن يتولوا بعض الصلاحيات الخاصة به، لا كل الصلاحيات وهذا التوقيع يقول: "أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا.." (¬3) . وواضح من خلال هذا "النص" أنه يأمرهم بالرجوع في معرفة أحكام الحوادث الواقعة والجديدة إلى شيوخهم. ولذلك استقر الرأي عند الشيعة على أن ولاية فقهائهم خاصة بمسائل الإفتاء وأمثالها، كما ينص عليه "توقيع المنتظر". أما الولاية العامة التي تشمل السياسة وإقامة الدولة، فهي من خصائص الغائب وهي موقوفة حتى يرجع من غيبته، ولذلك عاش أتباع هذا المذهب وهم ينظرون إلى خلفاء المسلمين على أنهم غاصبون مستبدون، ويتحسرون لأنهم قد استولوا على سلطان إمامهم، ويدعون الله في كل ¬
لحظة على أن يعجل بفرجه حتى يقيم دولتهم، ويتعاملون مع الحكومات القائمة بمقتضى عقيدة التقية، لكن غيبة الحجة طالت، وتوالت قرون قاربت الاثني عشر دون أن يظهر، والشيعة محرمون من دولة شرعية حسب اعتقادهم، فبدأت فكرة القول بنقل وظائف المهدي للفقيه تداعب أفكار المتأخرين منهم. وقد أشار الخميني إلى أن شيوخهم النراقي (¬1) . (ت1245هـ) والنائيني (¬2) . (ت1355هـ) قد ذهبا إلى أن للفقيه جميع ما للإمام من الوظائف والأعمال في مجال الحكم والإدارة والسياسة (¬3) . ولم يذكر الخميني أحداً من شيوخهم نادى بهذه الفكرة قبل هؤلاء، ولو وجد لذكره، لأنه يبحث عما يبرر مذهبه. فإذن عقيدة عموم ولاية الفقيه لم توجد عند الاثني عشرية قبل القرن الثالث عشر. وقد التقط الخميني هذا الخيط الذي وضعه من قبله، وراح ينادي بهذه الفكرة، وضرورة إقامة دولة برئاسة نائب الإمام لتطبيق المذهب الشيعي، فهو يقول: "واليوم - في عهد الغيبة - لا يوجد نص على شخص معين يدير شؤون الدولة، فما هو الرأي؟ هل تترك أحكام الإسلام معطلة؟ أم نرغب بأنفسنا عن الإسلام؟ أم نقول: إن الإسلام جاء ليحكم الناي قرنين من الزمان فحسب ليهملهم بعد ذلك؟ أو نقول: إن الإسلام قد أهمل أمور تنظيم الدولة؟ ونحن نعلم أن عدم وجود الحكومة يعني ضياع ثغور الإسلام وانتهاكها، ويعني تخاذلنا عن أرضنا، هل يسمح بذلك في ديننا؟ أليست الحكومة ضرورة من ضرورات ¬
الحياة؟ " (¬1) . ويقول في موضع آخر: "قد مر على الغيبة الكبرى لإمامنا المهدي أكثر من ألف عام، وقد تمر ألوف السنين قبل أن تقتضي المصلحة قدوم الإمام المنتظر في طول هذه المدة المديدة، هل تبقى أحكام الإسلام معطلة؟ يعمل الناي من خلالها ما يشاؤون؟ ألا يلزم من ذلك الهرج والمرج؛ القوانين التي صدع بها نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم وجهد في نشرها، وبيانها وتنفيذها طيلة ثلاثة وعشرين عاماً، هل كان كل ذلك لمدة محدودة؟ هل حدد الله عمر الشريعة بمائتي عام مثلاً؟ الذهاب إلى هذا الرأي أسوأ في نظري من الاعتقاد بأن الإسلام منسوخ" (¬2) . ثم يقول: "إذن فإن كل من يتظاهر بالرأي القائل بعدم ضرورة تشكيل الحكمة الإسلامية فهو ينكر ضرورة تنفيذ أحكام الإسلام، ويدعو إلى تعطيلها وتجميدها، وهو ينكر بالتالي شمول وخلود الدين الإسلامي الحنيف" (¬3) . فخميني يرى لهذه المبرارات التي ذكرها خروج الفقيه الشيعي وأتباعه للاستيلاء على الحكم في بلاد الإسلام نيابة عن المهدي، وهو يخرج بهذا عن مقررات دينهم ويخالف وصايا أئمته الكثيرة في ضرورة انتظار الغائب وعدم التعجيل بالخروج (¬4) . حتى قال أحد آياتهم ومراجعهم في هذا العصر: "وقد توافرت عنهم (ع) حرمة الخروج على أعدائهم وسلاطين عصرهم" (¬5) ، ذلك أن منصب الإمامة لا يصلح عندهم إلا للمنصوص عليه من عند الله ولا يعني رضاهم بهذه الحكومات. ¬
وهذه المبررات التي ساقها الخميني لبيان ضرورة إقامة الدولة الشيعية، ونيابة الفقيه عن المهدي في رئاستها كان ينبغي أن توجه جهة أخرى لو كان لشيوخ الشيعة صدق في القول ونصح لأتباعهم، هذه الوجهة هي نقد المذهب من أصله الذي قام على خرافة الغيبة وانتظار الغائب، والذي انتهى بهم إلى هذه النهاية. وعلى كل فهذه شهادة مهمة وخطيرة من هذه الحجة والآية على فساد مذهب الرافضة من أصله، وأن إجماع طائفته كل القرون الماضية كان على ضلالة، وأن رأيهم في النص على إمام معين، والذي نازعوا من أجله أهل السنة طويلاً وكفروهم أمر فاسد أثبت التاريخ والواقع فساده بوضوح تام، وهاهم يضطرون للخروج عليه بقوله: "بعموم ولاية الفقيه" بعد أن تطاول عليهم الدهر، ويئسوا من خروج من يسمونه "صاحب الزمان"، فاستولوا حينئذ على صلاحياته كلها، وأفرغ الخميني كل مهامه ووظائفه لنفسه، ولبعض الفقهاء من بني جنسه ودينه، لأنه يرى ضرورة تولي مهام منصب الغائب في رئاسة الدولة. ومن أجل إقناع طائفته بهذا المبدأ ألف كتابه "الحكومة الإسلامية" أو "ولاية الفقيه". وهو لا يوافق على ولاية كل أجد أمور الدولة؛ بل يخصص ذلك بفقهاء الشيعة، ويحصر الحكم والسلطان بهم، حيث يقول:" وبالرغم من عدم وجود نص على شخص من ينوب عن الإمام (ع) حال غيبته، إلا أن خصائص الحاكم الشرعي.. موجودة في معظم فقهائنا في هذا العصر، فإذا أجمعوا أمرهم كان في ميسورهم إيجاد وتكوين حكومة عادلة منقطعة النظير" (¬1) . وأقول: إذا كانت حكومة الآيات والفقهاء لا مثيل لها في العدل - كما يقول - فيما حاجتهم بخروج المنتظر إذاً؟ وهو يرى أن ولاية الفقيه الشيعي كولاية رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: "فالله ¬
جعل الرسول ولياً للمؤمنين جميعاً.. ومن بعده كان الإمام (ع) ولياً، ومعنى ولايتهما أن أوامرهما الشرعية نافذة في الجميع" (¬1) . ثم يقول: "نفس هذه الولاية والحاكمية موجودة لدى الفقيه، بفارق واحد هو أن ولاية الفقيه على الفقهاء الآخرين لا تكون حيث يستطيع عزلهم أو نصبهم، لأن الفقهاء في الولاية متساوون من ناحية الأهلية" (¬2) . فنظرية الخميني - كما ترى - ترتكز على أصلين: الأول: القول بالولاية العامة للفقيه. والثاني: أنه لا يلي رئاسة الدولة إلا الفقيه الشيعي. وهذا خروج عن دعوى تعيين الأئمة، وحصرهم باثني عشر، لأن الفقهاء لا يحصرون بعدد معين، وغير منصوص على أعيانهم فيعني هذا أنهم عادوا لمفهوم الإمامة حسب مذهب أهل السنة - إلى حد ما (¬3) .- وأقروا بضلال أسلافهم وفساد مذهبهم بمقتضى هذا القول. لكنهم يعدون هذا المبدأ (ولاية الفقيه) نيابة عن المهدي حتى يرجع، فهم لم يتخلوا عن أصل مذهبهم، ولهذا أصبح هذا الاتجاه - في نظري - لا يختلف عن مذهب البابية، لأنه يزعم أن الفقيه الشيعي هو الذي يمثل المهدي، كما أن الباب يزعم ذلك، ولعل الفارق أن الخميني يعد كل فقهائهم أبواباً. وإن شئت قل: إن الخميني أخرج "المهدي المنتظر" عند الروافض، لأن صلاحياته ووظائفه أناطها بالفقيه؛ بل إنه بهذا المبدأ لم يخرج "مهدياً" واحداً بل أخرج العشرات، لأن كثيراً من شيوخهم وآياتهم لهم الأحقية بهذا المنصب فهو ¬
يقول: "إن معظم فقهائنا في هذا العصر تتوفر فيهم الخصائص التي تؤهلهم للنيابة عن الإمام المعصوم" (¬1) . وبمقتضى هذه النيابة يكون أمرهم كأمر الرسول حيث يقول: "هم الحجة على الناس كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم حجة الله عليهم، وكل من يتخلف عن طاعتهم، فإن الله يؤاخذه ويحاسبه على ذلك" (¬2) . ويقول: "وعلى كل فقد فوض إليهم (يعني إلى شيوخ الروافض) الأنبياء جميع ما فوض إليهم، وائتمنوهم على ما اؤتمنوا عليه" (¬3) . بل أشار إلى أن دولة الفقيه الشيعي كدولة مهديهم الموعودة، وقال: "كل ما يفقدنا (¬4) . هو عصا موسى، وسيف علي بن أبي طالب" (¬5) . (ع) وعزيمتهما الجبارة، وإذا عزمنا على إقامة حكم إسلامي سنحصل على عصا موسى، وسيف علي بن أبي طالب" (¬6) . والجمع بين عصا موسى، وسيف علي بن أبي طالب كناية - فيما يبدو لي - عن تعاون اليهود مع الشيعة في دولة الآيات، وهذا ما وقع بعضه في دولة الخميني، كما في فضائح صفقات الأسلحة، والتعاون السري بينهما الذي تناقلته وكالات الأنبياء واشتهر أمره. والخميني يقرر أن تشكيل الحكومة الشيعية لم يقع من شيعته الماضيين حيث يقول: "في السابق لم نعمل ولم ننهض سوية لتشكيل حكومة تحطم الخائنين ¬
المفسدين" (¬1) . ويقول: "ولم تسنح الفرصة لأئمتنا للأخذ بزمام الأمور، وكانوا بانتظارها حتى آخر لحظة من الحياة، فعلى الفقهاء العدول أن يتحينوا هم الفرص وينتهزوها من أجل تنظيم وتشكيل حكومة ... " (¬2) . وقد قامت حكومات شيعية، ولكنها ليست محكومة من قبل "الآيات" و"نواب المعصوم"، ولذا عدوا حكومتهم أول دولة إسلامية (يعني شيعية) . قال بعض الروافض: "إن الخميني أسس الجمهورية الإسلامية العظمى في إيران.. لأول مرة في تاريخ الإسلام وحقق حلم الأنبياء والرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم والأئمة المعصومين عليهم السلام" (¬3) . ويرى آيتهم "الطالقاني" أن حكومة الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه لا تصل إلى مقام دولتهم، وأنها تمهيد لقيامها، حيث يقول: "إننا نعتقد أن الجمهورية الإسلامية هي المؤهلة للحياة في هذا الزمان، ولم تكن مؤهلة للحياة في فجر الإسلام.. إن التحولات الاجتماعية والسياسية التي شهدها العالم منذ الرسول والخلفاء الراشدين وحتى اليوم هي التي توفر الأساس الموضوعي لقيام الجمهورية الإسلامية" (¬4) . فأنت ترى أن طبيعة النظرة الشيعية دائماً تجنح إلى الغلو، وتقديس الأشخاص، والتطرف في الاعتقادات.. كما ترى في نظرة طالقاني إلى جمهورية خميني، بل ادعى بعضهم أن خميني قد بشر به أئمتهم من قبل (¬5) . ¬
هذا وقد مضى ما ترويه الشيعة عن سيرة مهديهم بعد عودته من غيبته - حسب اعتقادهم - وأنه لا همّ له ولا عمل إلا القتل والانتقام، حتى يقولون: إنه بعث "بالجفر الأحمر" وبالذبح، وإنه يخص العرب بمجازره.. إلخ (¬1) . ونجد اليوم هذه السيرة المزعومة قد بدت ملاحمها في دولة الآيات، حيث بدأ الخميني وأعوانه مشروع دولة المهدي بمجازرهم الرهيبة في داخل إيران وخارجها. والحقيقة أن واضعي روايات القتل العام الموعود بعد خروج الغائب المفقود يدركون أن مسألة الغيبة والمهدية لا تعدو أن تكون وهماً من الأوهام، ولكنهم يعبرون عما تكنه صدورهم، وتجيش به نفوسهم من أحقاد، وكذلك معظم شيوخ الشيعة غالبهم زنادقة يعرفون أن المهدي خرافة، ولذلك فهم إذا واتتهم فرصة لتحقيق أمانيهم في قتل المسلمين اهتبلوها، ولم ينتظروا فيها خروج مهديهم، لأنهم يعرفون أنه لن يخرج أبداً؛ لأنه لم يوجد أصلاً! ولا أدل على ذلك من أن الخميني نفسه يقرر في كتابه تحرير الوسيلة أنه لا يجوز بسبب غيبة مهديهم البدء في الجهاد فيقول: "في عصر غيبة ولي الأمر وسلطان العصر عجل الله فرجه الشريف يقوم نوابه وهم الفقهاء الجامعون لشرائط الفتوى والقضاء مقامه في إجراء السياسات وسائر ما للإمام عليه السلام إلا البدأة بالجهاد" (¬2) . ولكنه حينما أقام دولته قرر في دستورها: "أن جيش الجمهورية الإسلامية.. لا يحتملان فقط مسؤولية حفظ وحراسة الحدود، وإنما يتكفلان أيضاً بحمل رسالة عقائدية أي الجهاد في سبيل الله، والنضال من أجل توسيع حاكمية قانون الله في كافة أرجاء العالم" (¬3) . ¬
فأنت ترى التناقض واضحاً، فهو في تحرير الوسيلة يجعل الجهاد من وظائف المهدي، وفي دستور دولتهم بعد قيامها يجعل الجهاد منوطاً بجيشها، ومن وظائف الفقيه، وذلك بمقتضى مذهبه الجديد في ولاية الفقيه، والتي نقلت فيها صلاحيات المهدي كلها للشيخ الشيعي. وقد نص أيضاً على ذلك دستورهم فقال: "وفي زمن غيبة الإمام عجل الله تعالى فرجه تعتبر ولاية الأمر وإمامة الأمة في جمهورية إيران الإسلامية بيد الفقيه.." (¬1) . ولذلك بعد قيام دولتهم أول ما بدأوا به قتال الشعوب الإسلامية بجنودهم، وبالمنظمات التابعة لهم في الولاء في بعض أقطار المسلمين. ومع ذلك يزعم الخميني أحياناً أن هذا يدخل في نطاق الدفاع، والتأويل ليس له حدود فيقول: "إننا لا نريد أن نرفع السلاح ونهاجم أحداً، فالعراق يهاجمنا منذ مدة، بينما نحن لا نهاجمه، وإنما ندافع فقط، فالدفاع أمر واجب" (¬2) . ولكنه يقرر أنه يريد أن يصدر ثورته حيث يقول: "إننا نريد أن نصدر ثورتنا الإسلامية إلى كافة البلاد الإسلامية" (¬3) . وهو لا يريد التصدير السلمي فحسب؛ بل يريد فرض مذهبه على المسلمين بالقوة، وقد أشار إلى ذلك قبل قيام دولته، وقرر أن سبيل ذلك هو إقامة دولة شيعية تتولى هذا الأمر فيقول: "ونحن لا نملك الوسيلة إلى توحيد الأمة الإسلامية (¬4) ، وتحرير أراضيها من يد المستعمرين وإسقاط الحكومات العميلة لهم، إلا أن نسعى إلى إقامة حكومتنا الإسلامية، وهذه بدورها سوف تتكلل أعمالها بالنجاح يوم تتمكن من تحطيم رؤوس الخيانة، وتدمر الأوثان والأصنام البشرية التي تنشر الظلم والفساد في الأرض" (¬5) . ¬
وهؤلاء الروافض لا ينتقدون الحكومات لهذه الأسباب التي يذكرها، إذ لو كانت الحكومة أفضل حكومة على وجه الأرض لما نالت إلا سخطهم ومقتهم، إلا أن تكون على مذهب الرفض، وحسبك في هذا نظرتهم إلى خلافة الخلفاء الثلاثة الراشدين - رضوان الله عليهم -. ولا تزال مهمة المهدي الموعودة في قتل المسلمين، تظهر على ألسنة حجتهم وآياتهم، وأنه سيبدأها خميني لأنه ينوب عن مهديهم في كل وظائفه. وقد كشف بعض شيوخهم عن ذلك؛ لأنهم كما يقول إمامهم: "مبتلون بالنزق وقلة الكتمان" (¬1) . ففي احتفال رسمي وجماهيري أقيم في عبادان في 17/3/1979م تأييداً لإقامة الجمهورية الإسلامية، ألقى د. محمد مهدي صادقي خطبة في هذا الاحتفال سجلت باللغتين العربية والفارسية، ووصفتها الإذاعة بأنها مهمة ومما جاء في هذه الخطبة: "أصرح يا إخواني المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أن مكة المكرمة حرم الله الآمن يحتلها شرذمة أشد من اليهود.." وذكر قبل ذلك بأنه حين تثبت ثورته سينتقلون "إلى القدس وإلى مكة المكرمة، وإلى أفغانستان، وإلى مختلف البلاد" (¬2) . فتراهم يعتبرون الوضع في مكة، كوضع القدس الذي يحتله اليهود، ووضع أفغانستان التي يحتلها الشيوعيون.. على حين تجدهم يتعاطفون مع الحكم النصيري الكافر في سوريا ولا يمسونهم بنقد. وقد نشرت مجلة الشهيد - لسان علماء الشيعة في قم - في العدد (46) الصادر بتاريخ 16 شوال 1400هـ صورة تمثل الكعبة المشرفة، وإلى جانبها صور ¬
تمثل المسجد الأقصى المبارك وبينهما (يد قابضة على البندقية) وتحتها تعليق نصه: "سنحرر القبلتين" (¬1) . ¬
معارضة بعض شيوخ الشيعة لمذهب الخميني في ولاية الفقيه
معارضة بعض شيوخ الشيعة لمذهب الخميني في ولاية الفقيه: أثار مذهب الخميني - في نقله لوظائف مهديهم بالكامل للفقيه، وحصر الولاية به - ثائرة جملة من شيوخ الشيعة، ونشب صراع حاد بين الخميني وأحد مراجعهم الكبار عندهم وهو "شريعتمداري" (¬1) . كما أعلن طائفة من شيوخهم معارضتهم لهذا المذهب (¬2) . وقد تعجب شيخهم محمد جواد مغنية أن يذهب الخميني هذا المذهب، ويساوي في الصلاحيات بين المعصوم والفقهاء فقال: "قول المعصوم (¬3) . وأمره تماماً كالتنزيل من الله العزيز العليم {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} (¬4) . ومعنى هذا أن للمعصوم حق الطاعة والولاية على الراشد والقاصر والعالم والجاهل، وأن السلطة الروحية والزمنية - مع وجوده - تنحصر به وحده لا شريك له، وإلا كانت الولاية عليه وليست له، علماً بأنه لا أحد فوق المعصوم عن الخطأ والخطيئة إلا من له الخلق والأمر جل وعز.. أبعد هذا يقال: إذا غاب المعصوم انتقلت ولايته بالكامل إلى الفقيه؟ " (¬5) . فهذا في نظره غاية الغلو، إذ كيف يجعل حكم الفقيه كحكم المعصوم؟ ثم يوضح ذلك بقوله: "حكم المعصوم منزه عن الشك والشهبات؛ لأنه دليل لا مدلول، وواقعي لا ظاهري.. أما الفقيه فحكمه مدلول يعتمد على الظاهر، وليس ¬
هذا فقط، بل هو عرضة للنسيان وغلبة الزهو والغرور، والعواطف الشخصية، والتأثير المحيط والبيئة، وتعيير الظروف الاقتصادية والمكانة الاجتماعية، وقد عاينت وعانيت الكثير من الأحكام الجائرة، ولا يتسع المجال للشواهد والأمثال سوى أني عرفت فقيهاً بالزهد والتقوى قبل الرياسة، وبعدها تحدث الناس عن ميله مع الأولاد والأصهار" (¬1) . وهذه شهادة منه على قومه من فئة الشيوخ، وأنه ما إن تتاح لهم فرصة رئاسة حتى تزول الصورة التي يتظاهرن بها من الزهد والتعبد، وهؤلاء الشيوخ الذين هذا وصفهم، يرى الخميني أنهم هم الولاة على الأمة. وأصحاب هذا الاتجاه المعارض لخط الخميني يرون: "أن ولاية الفقيه أضعف وأضيق من ولاية المعصوم" (¬2) ، فهي لا تتعدى ما ثبت في أخبارهم - كما يقولون - من "ولاية الفتوى والقضاء وعلى الأوقاف العامة، وأموال الغائب وإرث من لا وراث له" (¬3) . وقد استدل مغنية على هذا المذهب بجملة من أقوال شيوخهم الكبار عندهم، ونقض ما ساقه الخميني من أدلة لإثبات مذهبه، وبين أنها لا تدل على ما يريد من القول بعموم الولاية. ولا مجال لاستعراض ذلك، ولا فائدة منه، لكن الفائدة هنا أن الخميني يحكم على مذهب طائفته بمقتضى قولهم بقصور ولاية الفقيه عن الحكم والولاية، بأن هذا يعطل أحكام الإسلام، وأنه بمثابة القول بنسخ الدين، لكن الخميني لا ترتقي أدلته في تأييد مذهبه إلى ما يريد فتبقى أحكامه على مذهب طائفته صادقة، وأنه مبني على ما يخالف أصول الشرع، ومنطق العقل وطبيعة الأشياء. والاتجاه المخالف للخميني يرجع أمر الولاية إلى عموم الناس، ولا يخصها بشيوخ الشيعة، بل يبقى هؤلاء الشيوخ في وضعهم الذي وضعوا فيه وولايتهم ¬
الخاصة حتى يخرج الغائب فيتولى أمور الدين والدينا. وهذه بلغة هذا العصر فصل الدين عن الدولة، فصار المذهب دائراً بين غلو في الفقيه، أو دعوة إلى فصل الدين عن الدولة، وهكذا كل مذهب باطل لابد أن يخرج أمثال هذه التناقضات. وكلا الرأيين استقرا على بطلان المذهب في دعوى النص والتعيين؛ لأن كليهما لم يحدد الرئيس بشخص معين، إلا التعيين الشكلي للغائب المفقود والذي لن يعود؛ لأنه لا حقيقة له في الوجود.
دستور دولة الآيات
دستور دولة الآيات: أعلنت الجمهورية الإسلامية في إيران دستورها، في كتاب أصدرته وزارة الإرشاد الإسلامي ونشر في طبعته الأولى عام 1406هـ، وكانت مواد هذا الدستور قد نشرت من قبل في مجلة الشهيد الإيرانية في إصدار خاص (¬1) . وهذا عرض لبعض مواد الدستور ليتبين هل هو يمثل الدستور لدولة إسلامية - كما يزعمون - أو لا؟ يقرر الدستور في "الأصل الثاني عشر": أن المذهب الجعفري دين للدولة يقول: "الدين الرسمي لإيران هو الإسلام، والمذهب الجعفري الاثني عشري، وهذا الأصل يبقى إلى الأبد غير قابل للتغيير" (¬2) ، وكذلك ينص الدستور على فكرة الاثني عشرية في الإمامة، بحيث يربط مذهب خميني في ولاية الفقيه بقضية الإمامة فيقول: "إن ولاية الفقيه اعتماداً (يعني معتمدة) على استمرار ولاية الأمر والإمامة" (¬3) . فتراهم يعلنونها طائفية متعصبة في دستورهم وهم يسمون أنفسهم "بالجمهورية الإسلامية"، ولعل قولهم هذا يوحي أن مذهبهم لا يدخل في اسم الإسلام، بل لابد من النص عليه مع الإسلام كدين آخر مشارك له، مع أنك تراهم كثيراً ما يدعون بأن مذهبهم لا يختلف عن المذاهب الإسلامية إلا في الفروع، وإذا كان الأمر في تصورهم كذلك فلماذا ينص على المذهب الجعفري بذاته في دستورهم؟ ¬
ثم لماذا تكون هذه المادة غير قابلة للتغيير إلى الأبد؟ أطلعوا الغيب أم اتخذوا عند الرحمن عهداً، ولماذا لا يفتحون عقولهم وقلوبهم لرؤية الحق الذي عند أهل السنة، ويتخلصون من داء التعصب المقيت، فيجب أن تسمى هذه الدولة بموجب هذه المادة "الجمهورية الجعفرية" ذلك أن الدولة الإسلامية تقوم على أساس الإسلام لا المذهب، وحين يتبنى الخليفة شيئاً من هذا المذهب أو ذاك، فإنما يتبناه بناء على قوة الدليل، وليس بناء على الوراثة أو التعصب، ولكنهم برهنوا بهذه المادة على متابعتهم لما قاله بعض شيوخهم وهو أن الاثني عشرية دين لا مذهب (¬1) . وجاء في بعض مواد الأصل الثاني من الدستور ما يضع أخبارهم عن الأئمة موضع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير حيث يقول: "يقوم نظام الجمهورية الإسلامية على أساس الاجتهاد المستمر من قبل الفقهاء جامعي الشرائط على أساس الكتاب وسنة المعصومين سلام الله عليهم أجمعين" (¬2) . فليس في هذه المادة اعتراف بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، لأنهم لا يؤمنون بها، بل يأخذون بسنة المعصومين الذين يعدونهم أفضل من الأنبياء والمرسلين. فهل يبقى للدستور صفته الإسلامية وهو يلغي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من حسابه؟ وهم سيأخذون بمقتضى هذه المادة بما جاء في أصول الكافي، والبحار للمجلسي وغيرهما بكل ما فيها من كفر وضلال، لأن هذه هي المصادر التي نقلت لهم سنة المعصومين. وترى في بعض مواد الدستور النعرة الفارسية، واللوثة القومية، يقول الأصل الخامس عشر من الدستور: "اللغة والكتابة الرسمية والعامة هي الفارسية لشعب إيران، فيجب أن تكون ¬
الوثائق والمراسلات والمتون الرسمية والكتب الدراسية بهذه اللغة". فترى أن هذه المادة موضوعة على أساس القومية الإيرانية، لأن للإسلام لغة واحدة هي العربية لا باعتبارها لغة العرب، بل باعتبارها لغة القرآن والسنة ولغة دولة الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين. ويقرر الأصل السادس من الدستور: بأن مرجعهم رأي الأمة (لا الكتاب والسنة) فيقول: "يجب أن تدار شئون البلاد في جمهور إيران الإسلامية على رأي الأمة.." (¬1) . ولاشك أن دولة الخلافة في الإسلام تدار شئونها بهدي من الكتاب والسنة، وليس الرأي العام هو أساس الحكم في الإسلام، إنما هو أساس في الأنظمة الوضعية. ويوضح هذا المبدأ أكثر ما جاء في الأصل التاسع والخمسين عندهم والذي يقول: "ممارسة السلطة التشريعية قد تتم أحياناً عن طريق الاستفتاء الشعبي العام وذلك في القضايا الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، والثقافية الهامة، ويجري هذا الاستفتاء العام بناء على طلب أكثر من ثلثي مجموع أعضاء المجلس" (¬2) . ولا غرابة أن يلجأوا إلى استفتاء الناس في شئونهم بعد أن حرموا أنفسهم من المصدر الثاني في التشريع وهو "السنة المطهرة". ولقد اقترح عليهم شيخهم يوسف البحراني صاحب الحدائق أن يبحثوا لهم عن مذهب غير هذا المذهب لعدم وفائه بما يريدون (¬3) . هذا بعض ما جاء في دستورهم حسب الطبعة الأخيرة منه عام 1406هـ (¬4) . ¬
وقد تبين أنه لا يمثل دستور دولة إسلامية، وإنما يمثل دولة فارسية، عنصرية، ورافضية جعفرية، ولا يأخذ أحكامه من الكتاب والسنة، وإنما يرتبط بروايات الكليني وأضرابه والتي يسمونها سنة المعصومين.
الباب الخامس: أثرهم في العالم الإسلامي والحكم عليهم
الباب الخامس: أثرهم في العالم الإسلامي والحكم عليهم ويشمل على: الفصل الأول: أثرهم في العالم الإسلامي. الفصل الثاني: الحكم عليهم.
الفصل الأول: أثرهم في العام الإسلامي
الفصل الأول: أثرهم في العام الإسلامي أثر الشيعة في العالم الإسلامي في مراحل التاريخ المختلفة وحقبه المتطاولة.. موضوع واسع كبير، بل موضوعات متعددة، وجوانب مختلفة تقتضي رسائل عديدة، وتستدعي جهوداً كبيرة.. وإن مراجعة الأحداث التاريخية - مثلاً - التي جرت في العراق في القرن الرابع والخامس وما بعدها والتي كان للشيعة فيها دور وأثر لموضوع واسع، فيكف بدراسة ذلك في العالم الإسلامي، وإن رصد حركات الشيعة المتزايدة في الواقع المعاصر في مختلف أصقاع العالم الإسلامي وما تحدثه من آثار ليحتاج إلى دراسات ميدانية وصلات واسعة، ورحلات متعددة. وشيء من ذلك لا يمكن تحقيقه في رسالة بل في فصل من رسالة، هي معنية بالأساس، بدراسة أصولهم ونقدها. لهذه الأسباب سنكتفي في هذا الفصل بالإشارة الدالة، واللمحة المعبرة، والكلمة الموجزة، ونكتفي بالجزء عن الكل، وبالمثال الواحد مثلاً في بلد واحد وزمن واحد عن الاستقصاء وبالتفصيل. ولعلي أحاول أن أبرز بعض آثارهم وفق مجالات محددة حتى لا يتشعب بنا الحديث وهي المجالات التالية: 1-المجال العقدي والفكري. 2- السياسي. 3- الاجتماعي. 4- الاقتصادي.
وهذا مجرد تقسيم لتوضيح هذه الآثار، وإلا فإنها مترابطة ومتصلة الحلقات. ذلك أن شؤم البدعة خطير على الأمة، يؤثر في جميع جوانب حياتها، ومن يدرس تاريخ هذه الأمة، والاتجاهات البدعية التي ظهرت يجد أثرها السلبي على الدولة الإسلامية كلها. استمع - مثلاً - لما يقوله شيخ الإسلام ابن تيمية عن أسباب سقوط الدولة الأموية يقول - رحمه الله -: "إن دولة بني أمية كان انقراضها بسبب هذا الجعد المعطل" (¬1) . وغيره من الأسباب (¬2) . وقال: "وهذا الجعد إليه ينسب مروان بن محمد الجعدي آخر خلفاء بني أمية، وكان شؤمه عاد عليه حتى زالت الدولة، فإنه إذا ظهرت البدع التي تخالف دين الرسول صلى الله عليه وسلم انتقم الله ممن خالف الرسل، وانتصر لهم" (¬3) . وهذا التفسير الإسلامي لأحداث التاريخ يخالف ما درج عليه جملة من المؤرخين الذين لا يفسرون أحداث التاريخ إلا بأسبابه مادية بحتة، وهو من العمل الذي لا يفقهه إلا أهل الإيمان. ¬
المجال العقدي والفكري
المجال العقدي والفكري وهو موضوع واسع كبير، نشير فيما يلي إلى بعض معالمه: إحداث الشرك في أمة محمد صلى الله عليه وسلم: لقد كان لعقيدتهم في الإمامة والإمام الأثر الواضح في إحداث "الشرك" و"الشركيات في العالم الإسلامي"، بل قرر طائفة من أهل العلم أن الشيعة هم أول من أحدث الشرك وعبادة القبور في الأمة المحمدية. فقد تحول غلو الشيعة في أئمتها إلى غلو في قبورها، ووضعوا روايات لمساندة مسيرتهم الوثنية. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأول من وضع هذه الأحاديث في السفر لزيارة المشاهد التي على القبور أهل البدع من الروافض ونحوهم الذين يعطلون المساجد ويعظمون المشاهد التي يشرك فيها ويكذب فيها ويبتدع فيها دين لم ينزل الله به سلطاناً، فإن الكتاب والسنة إنما فيهما ذكر المساجد دون المشاهد" (¬1) . واليوم أصبحت مشاهد الشيعة ومزاراتها موطناً للشرك، وعبادة غير الله سبحانه.. وتحدث الكثير ممن زار ديار الشيعة عن هذه المظاهر الشوكية (¬2) ، وقد سرى هذا "البلاء" إلى بعض ديار السنة. والرافضة هم الأصل فيه، وكتبهم تشهد له وتؤيده. ولا حاجة بنا إلى استعراض أسماء المشاهد وأماكنها، وصور ما يجري فيها لشهرة ذلك وذيوعه. ¬
الصد عن دين الله
الصد عن دين الله: كان الاتجاه الرافضي - بكل شذوذه وضلالاته التي مرَّ ذكرها - ولا يزال مصحوباً بدعاية كبيرة من شيوخ الروافض الذين يبحثون عن تكثير سوادهم بأي وسيلة. وكانت هذه الدعاية مرتكزة على "أكذوبة كبرى" أتقن الشيعة "اللعب فيها" وخداع أتباعهم، والجهلة من أتباع المسلمين بها.. هذه الأكذوبة تقول بأن شذوذ الشيعة هذا مؤيد بروايات عند أهل السنة.. ولذلك يكثر قولهم: لا خلاف بين السنة والشيعة من هذا المنطلق. وما أكثر ما نقرأ في كتبهم مثل هذا الاتجاه في الاستدلال والاحتجاج من طريق من يسمونهم بالعامة (¬1) . وهذه "الأكذوبة" قد انخدع بها من أزاغ الله قلبه فظن أن دين الإسلام ليس إلا ما يقوله أولئك المبتدعون ورأوا ذلك فاسداً في العقل فخرجوا من الإسلام إلى مهاوي الإلحاد والزندقة. ولهذا كان غلاتهم طاعنين في دين الإسلام بالكلية باليد واللسان كالخرمية (¬2) . أتباع بابك الخرمي، ¬
وقرامطة (¬1) . البحرين أتباع أبي سعيد الجنابي وغيرهم (¬2) . ولاشك في أن إظهار بدعة الرفض على أنها الإسلام هو من أعظم أسباب الصد عن سبيل الله، إذ كيف يقبل عاقل خرافة الغيبة والرجعة والطعن في الصحابة والتأويلات الباطنية؟! ولا يبعد اليوم أن إقامة دولة الآيات في إيران وسيلة لهذا الغرض لمواجهة تطلعات المسلمين لعودة الخلافة ووحدة الأمة، وللحد من انتشار مظاهر الصحوة الإسلامية في العالم.. فإن إقامة دولة تشوه الإسلام، وتعطي صورة مخالفة لتطلعات المسلمين وآمالهم من شأنه أن يحبط الآمال ويطفئ وقدة التطلعات وشعلة الحماس في شباب المسلمين. والمستعمر الكافر معنيّ بمعرفة هذه الاتجاهات البدعية.. على يد ثلة ممن يسمون "بالمستشرقين" والذين يعمل معظمهم كمستشارين في وزارات الخارجية، وبالتالي فإن سياسات الدول الكبرى تتخذ منهجها من تقارير المستشرقين المبنية على دراسة تاريخية وطائفية لأمة الإسلام.. والمستعمر الكافر لم ¬
ظهور فرق الزندقة والإلحاد
ينس تاريخه معنا، كما شهدت بذلك مواقفة وأقوال بعض قادته، وكما كشف ذلك بعض الأوربيين الذين دخلوا في الإسلام كالأستاذ محمد أسد في كتابه "الإسلام على مفترق الطرق" (¬1) . وسواء كان قيام دولة الآيات، أو تصاعد المد الشيعي في العالم الإسلامي مقصوداً للعدو الكافر أو غير مقصود فإنه بلا شك له آثاره في الصد عن سبيل الله، وظهور الزندقة المقنعة التي ينخدع بها المسلمون، وهذا هو الداء الأكبر، وهذا ما يتضح بالمسألة التالية: ظهور فرق الزندقة والإلحاد: يذكر شيخ الإسلام - رحمه الله - أن مبدأ ضلال الإسماعيلية والنصيرية وغيرهم من الزنادقة الملاحدة المنافقين تصديق الرافضة في أكاذيبهم التي يذكرونها في تفسير القرآن والحديث (¬2) . ¬
وكان أئمة العبيديين إنما يقيمون مبدأ دعواهم بالأكاذيب التي اختلقتها الرافضة ليستجيب لهم بذلك الشيعة الضلال، ثم ينقلون الرجل من القدح في الصحابة إلى القدح في علي ثم في الإلهية كما رتبه لهم صاحب البلاغ الأكبر والناموس الأعظم، ولهذا كان الرفض أعظم باب ودهليز إلى الكفر والإلحاد (¬1) . "فالرافضة هم الباب لهؤلاء الملحدين منهم يدخلون إلى سائر أصناف الإلحاد في أسماء الله، وآيات كتابه المبين، كما قرر ذلك روؤس الملاحدة من القرامطة والباطنية وغيرهم من المنافقين" (¬2) . وقد تبين - فيما مضى - كيف أن روايات الاثني عشرية وأحاديثها التي يزعمون تلقيها عن آل البيت هي المناخ الملائم، والتربة الصالحة لظهور الأفكار الغالية وخروج الفرق الملحدة، لأنها جمعت "حثالة" آراء وأقوال الفرق الشيعية الشاذة بمختلف اتجاهاتها، والتي فرقت الأمة وأفسدت عليها أمرها، والتي وصلتنا أقوالها بواسطة كتب الفرق والمقالات، ثم وجدنا روايات الاثني عشرية تشهد لهذه الاتجاهات وتؤيدها (¬3) . ومن هنا انبثق من الاثني عشرية فرق كثيرة اشتهر غلوها وكفرها كالشيخية والكشفية والبابية وغيرها. وقد قال صاحب المنتقى بأن "الرفض مأوى شر الطوائف.." (¬4) . ثم ذكر جملة من فرق الزندقة والإلحاد الذين يعيشون تحت مظلة الرفض، ولذا قال الغزالي: "إن مذهب الباطنية ظاهره الرفض، وباطنه الكفر المحض" (¬5) . فهم كفرة يتظاهرون بالتشيع.. ويبدو أن هؤلاء يشكلون السواد الأعظم منهم حتى ¬
محاولة إضلال المسلمين في سنة نبيهم
ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن "كثيراً من أئمة الرافضة وعامتهم زنادقة وملاحدة ليس لهم غرض في العلم ولا في الدين" (¬1) . فجو التشيع مناخ خصب لمختلف النحل والأهواء، وقد سجل محب الدين الخطيب أن التشيع كان عاملاً من عوامل انتشار الشيوعية والبهائية في إيران (¬2) . محاولة إضلال المسلمين في سنة نبيهم: ومن آثارهم الفكرية أن طائفة منهم اندسوا في رجال الحديث وحاولوا إدخال بعض الروايات التي تخدم التشيع.. حتى وُجدت مادة من هذه اللون في معاجم أهل السنة ودواوين الحديث عندهم، لكن تنبه لذلك رجال الحديث فبينوا الحق وكشفوا الكيد الرافضي، وقد بين الشيخ السويدي هذا الأثر الذي تركه هؤلاء الروافض حينما قال: "إن بعض علمائهم اشتغلوا بعلم الحديث، وسمعوا الأحاديث من ثقات المحدثين وحفظوا أسانيد أهل السنة الصحيحة، وتحلوا في الظاهر بحلي التقوى والورع بحيث كانوا يعدون من محدثي أهل السنة، فكانوا يروون الأحاديث صحاحاً وحساناً، ثم أدرجوا في تلك الأحاديث موضوعات مطابقة لمذهبهم، وقد ضل بذلك كثير من خواص أهل السنة، فضلاً عن العوام ولكن قيض الله - بفضله - أئمة الحديث فأدركوا الموضوعات فنصوا على وضعها فتبين حالها حينئذ والحمد لله على ذلك. وقد أقرت طائفة منهم بالوضع بعدما انكشف حالهم، ثم قال السويدي: "وتلك الأحاديث الموضوعة إلى الآن موجودة في المعاجم والمصنفات وقد تمسك بها أكثر التفضيلية (¬3) . والمتشيعة" (¬4) . ¬
دخولهم في مذهب أهل السنة - في الظاهر - للإضلال
ويقول الألوسي بأن ممن يستخدم هذه الوسيلة جابر الجعفي (¬1) ، وذكر ابن القيم أن الحافظ أبا يعلى قال في كتابه الإرشاد: وضعت الرافضة من فضائل علي رضي الله عنه وأهل البيت نحو ثلاثمائة ألف حديث، وعقب على ذلك ابن القيم بقوله: ولا نستبعد هذا؛ فإنك لو تتبعت ما عندهم من ذلك لوجدت الأمر كما قال (¬2) . دخولهم في مذهب أهل السنة - في الظاهر - للإضلال: ومن الآثار الفكرية التي تركها الكيد الرافضي هو ما وقع بسبب قيام طائفة من شيوخهم بالدخول في مذهب أهل السنة في الظاهر وتلقبوا بالحنفي والشافعي زيادة في الإضلال، وألفوا مصنفات تؤيد المذهب الرافضي (¬3) . كما قام بعض شيوخهم المتسترين بالانتساب للسنة بابتداع بعض الأفكار المشابهة للفكر الشيعي وطرحها في الوسط الإسلامي.. ويرى الشيخ محمد أبو زهرة بأن الطوفي نجم الدين (المتوفى سنة 716هـ) قد تعمد الترويج للمذهب الشيعي بهذه الوسيلة في بحثه عن المصلحة الذي قرر فيه بأن المصلحة تقدم على ¬
النص؛ لأن هذا مسلك شيعي حيث عند الشيعة أن للإمام أن يخصص أو ينسخ النص بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم. فالطوفي قد أتى بالفكرة كلها، وإن لم يذكر كلمة الإمام وأبدلها بالمصلحة ليروج القول وينشر الفكرة، ثم يقرر أبو زهرة بأن الطوفي في تهوينه في شأن النص ونشر فكرة نسخه أو تخصيصه بالمصالح المرسلة قد أراد تهوين القدسية التي تعطيها الجماعة الإسلامية لنصوص الشارع (¬1) . بل إن الروافض استغلوا التشابه في أسماء بعض أعلامهم مع أعلام أهل السنة وقاموا بدس فكري رخيص يضلل الباحثين عن الحق.. حيث ينظرون في أسماء المعتبرين عند أهل السنة فمن وجدوه موافقاً لأحد منهم في الاسم واللقب لأسندوا حديث رواية ذلك الشيعي أو قوله إليه. ومن ذلك محمد بن جرير الطبري الإمام السني المشهور صاحب التفسير والتاريخ، فإنه يوافقه في هذا الاسم محمد بن جرير بن رستم الطبري من شيوخهم (¬2) ، وكلاهما في بغداد، وفي عصر واحد، بل كانت وفاتهما في سنة واحدة، وهي سنة (310هـ) . وقد استغل الروافض هذا التشابه فنسبوا للإمام ابن جرير بعض ما يؤيد مذهبهم مثل: كتاب المسترشد في الإمامة (¬3) . مع أنه لهذا الرافضي (¬4) ، وهم إلى اليوم يسندون بعض الأخبار التي تؤيد مذهبهم إلى ابن ¬
جرير الطبري الإمام (¬1) . ولقد ألحق صنيع الروافض هذا - أيضاً - الأذى بالإمام الطبري في حياته وقد أشار ابن كثير إلى أن بعض العوام اتهمه بالرفض، ومن الجهلة من رماه بالإلحاد (¬2) . وقد نسب إليه كتاب عن حديث غدير خم يقع في مجلدين، ونسب إليه القول بجواز المسح على القدمين في الوضوء (¬3) . ويبدو أن هذه المحاولة من الروافض قد انكشف أمرها لبعض علماء السنة من قديم، فقد قال ابن كثير: ومن العلماء من يزعم أن ابن جرير اثنان أحدهما شيعي وإليه ينسب ذلك، وينزهون أبا جعفر من هذه الصفات (¬4) . وهذا القول الذي نسبه ابن كثير لبعض أهل العلم هو عين الحقيقة كما تبين ذلك من خلال كتب التراجم، ومن خلال آثارهما، وأين الثرى من الثريا..؟ فالفرق بين آثار الرجلين لا يقاس (¬5) ، وعقيدة الإمام ابن جرير لا تلتقي مع الرفض بوجه (¬6) ، فهو أحد أئمة الإسلام علماً وعملاً بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وهناك رافضي آخر يدعى بأبي جعفر الطبري (¬7) ، وهو غير الأول، وإن كان الأستاذ فؤاد سزكين قد خلط بينهما (¬8) . رغم أنه يفصلهما عن بعض أكثر من قرنين. وقد نشرت - لهذا الرافضي الأخير - جريدة المدينة المنورة حكاية ¬
نشر الرفض في العالم الإسلامي
موضوعة بعنوان: "عقد الزهراء" وما كانت لتأخذ طريقها للنشر لولا استغلال الروافض للتشابه في الأسماء (¬1) . ومثل ابن جرير آخرون (¬2) ، والمقام لا يحتمل البسط، فإن هذا الأمر يستحق دراسة خاصة. نشر الرفض في العالم الإسلامي: مما يبين مدى الأثر الرافضي في نشر عقائدهم في أوساط المسلمين ما سجل في نصوصهم القديمة من أنه لم يقبل فكرتهم إلا أهل مدينة واحدة هي الكوفة. قال أبو عبد الله: "إن الله عرض ولايتنا على أهل الأمصار فلم يقبلها إلا ¬
أهل الكوفة" (¬1) . فالتشيع لم يجد موطناً في بلاد الإسلام إلا في الكوفة لبعدها عن العلم وأهله (¬2) . وهذا من آثار ابن سبأ، فقد كان له نشاط مبكر في الكوفة، وما غادرها حتى ترك فيها خلية تعمل على نهجه (¬3) . وقد لاحظ شيخ الكوفة وعالمها أبو إسحاق السبيعي (ت127هـ) التغير الذي طرأ على هذه البلدة، فقد غادر الكوفة وهم على السنة، لا يشك أحد منهم في فضل أبي بكر وعمر وتقديمهما، ولكنه حينما عاد إليها وجد فيها ما ينكر من القول "بالرفض" (¬4) . ثم ما لبث أن سرى داء الرفض إلى العالم الإسلامي حتى يذكر بعض الباحثين بأن الشيعة يشكلون عشرة في المائة من مجموع المسلمين اليوم (¬5) . ودعاة التشيع في العصر يشكون خلايا سرية نشطة تسرح في العالم الإسلامي لنشر الرفض بموجب خطة مدروسة، وتموين مالي من الحوزات العلمية التي تستمد رصيدها المالي من عرق وجهد أولئك الأتباع الأغرار الذين خدرت أفكارهم، وشحنت عواطفهم بتلك الدعوى الجميلة الخادعة "حب آل البيت" والتي ليس لشيوخ الشيعة نصيب منها إلا الاسم والدعوى، فاستولوا على الأموال الكبيرة باسم خمس الإمام، وهذه الخلايا السرية تتخذ شعارات أشبه ما تكون بشعارات الماسونية فهي تارة ترفع شعار "التقريب بين المذاهب الإسلامية" (¬6) . وأخرى باسم "جمعية أهل البيت" (¬7) . ¬
وبعد قيام دولة الآيات في إيران تحولت السفارات للحكومة الإيرانية إلى مراكز للدعوة إلى الرفض، واستغلوا المراكز الإسلامية، والمساجد ولا سيما في أيام الجمع للدعوة للاتجاه الرافضي. وقد نشرت مجلة المجتمع تحقيقاً عما يجري من نشاط رافضي في أوربا قالت فيه: "تحولت السفارات والقنصليات الإيرانية في أوربا إلى مراكز لنشر عقيدتهم في أوساط المسلمين (لا الكفار) المقيمين في أوربا، وتؤكد ذلك عشرات بل مئات وآلاف الكتيبات والمنشورات الخاصة بالفكر الشيعي، وتوزيع هذه الكتيبات على المسلمين الأوربيين في أماكن تجمعهم وخاصة عند أبواب المساجد، أو في البريد، أو من خلال وسائل أخرى.. وحتى المراكز الثقافية والمكتبات تبدو وكأنها أقيمت من أجل نشر دعوة التشيع دعوة التشيع الإيراني بين الأقلية المسلمة في أوربا، فبالإضافة إلى ما تحتويه هذه المكتبات من كتب ونشرات حول الثورة الإيرانية ومنهجها العقائدي.. نجد أن القائمين على هذه المكتبات ينظمون دروساً وندوات تتعلق في معظمها بالقضية العقدية. ثم أشارت المجلة إلى أسماء بعض المكتبات في أوربا والتي تقوم بتنظيم محاضرات عقدية في فكر الثورة الإيرانية أيام الخميس والسبت من كل أسبوع، وتوزع خلال ذلك المجلات والكتيبات والتسجيلات الصوتية.. ويدعا إلى حضور هذه المحاضرات المسلمون كوسيلة من وسائل نشر المنهج الشيعي على الطريقة الإيرانية. كما بدأت المراكز الإيرانية بدفع بعض الشباب الذين غررت بهم وجعلتهم عملاء للمنهجية الإيرانية إلى بعض مساجد المسلمين للاتصال بالمصلين وخاصة أيام الجمع، حيث يتواجد عدد كبير من المسلمين في صلاة الجمعة.. وأشارت المجلة إلى أن هذه الاتصالات غالباً من تؤدي إلى وقوع بعض المصادمات والفتن داخل المسجد، وقدمت لذلك بعض الأمثلة، كما أشارت إلى أن هذه النشاطات
الإيرانية بما تحدثه من فتن سيكون لها آثارها السلبية على المسلمين (¬1) . ونشاط "الروافض" متعدد الوجوه، متنوع الوسائل لا يراعى فيه مبدأ كحال أهل السنة، لأن الروافض يرون في "التقية" تسعة أعشار الدين. وقد اعترف بعض علمائهم المعاصرين من حيث لا يدري أن التقية عندهم هي - كما يقول بالحرف الواحد - "الغاية تبرر الواسطة" (¬2) . يعني في سبيل الغاية التي تنشدها استخدم أي وسيلة، أي هي "الميكافيلية" (¬3) . التي اعتمدها الذين لا دين لهم في تحقيق أهدافهم.. أما في الإسلام فإن الغاية لا تبرر ولا تبيح الوسيلة المحرمة. ولذلك فإن وسائل الروافض لنشر مذهبهم قد اكتست بألوان من الخداع والتغرير راح ضحيتها جملة من القبائل المسلمة والأفراد المسلمين.. فقد دفعوا مجموعة من شيوخ القبائل إلى اعتناق الرفض عن طريق إغرائهم بالمتعة (¬4) . وقد قدّم الحيدري في "عنوان المجد" بياناً خطيراً بالقبائل السنية التي ترفضت بجهود الروافض وخداعهم فقال: "وأما العشائر العظام في العراق الذين ترفضوا ¬
من قريب فكثيرون، منهم ربيعة.. ترفضوا منذ سبعين سنة، وتميم وهي عشيرة عظيمة ترفضوا في نواحي العراق منذ ستين سنة بسبب تردد شياطين الرافضة إليهم. والخزاعل ترفضوا منذ أكثر من مائة وخمسين سنة وهي عشيرة عظيمة من بني خزاعة فحرفت وسميت خزاعل.. وعشيرة زبيد وهي كثيرة القبائل وقد ترفضت منذ ستين سنة بتردد الرافضة إليهم وعدم العلماء عندهم. ومن العشائر المترفضة بنو عمير وهم بطن من تميم، والخزرج وهم بطن من بني مزيقيا من الأزد، وشمرطوكه وهي كثيرة، والدوار، والدفافعة. ومن المترفضة عشائر العمارة آل محمد وهي لكثرتها لا تحصى وترفضوا من قريب، وعشيرة بني لام وهي كثيرة العدد، وعشائر الديوانية، وهم خمس عشائر: آل أقرع، آل بدير، وعفج، والجبور، وجليحة، والأقرع ست عشرة قبيلة، وكل قبيلة كثيرة العدد، وآل بدير ثلاث عشرة قبيلة وهي أيضًا كثيرة العدد، وعفج ثماني قبائل كثيرة العدد، وجليحة أربع قبائل كثيرة الأعداد، والجبور كذلك. ومن عشائر العراق العظيمة المترفضة منذ مائة سنة فأقل عشيرة كعب وهي عشيرة عظمية ذات بطون كثيرة.." (¬1) . وهكذا مضى الحيدري على هذا المنوال يذكر قبائل أهل السنة التي اعتنقت الرفض في غفلة من أهل السنة، ولأنهم انخدعوا بأقاويل الروافض: دعونا نلتق ونتعاون، وهيا إلى الوحدة والتقارب، والمذهب الشيعي لا يعدو الخلاف بينه وبين أهل السنة الخلاف بين المذاهب السنية نفسها، فهيأ أهل السنة بسكوتهم الأرضية لشيوخ الرافضة لنشر مذهبهم، وإلا لو أعلن الحق وبُيّن لما انخدع بالرفض أحد. وهم لا يزالون إلى اليوم ينشرون معتقدهم على كل المستويات. ولهم اهتمامات بالاتصال ببعض رؤساء الدول الذين يتوسمون فيهم الاستجابة ¬
لمذهبهم، كما فعل قديماً ابن المطهر الحلي مع خدا (¬1) . بنده، وقد كان لذلك آثاره المعروفة تاريخياً، وكما فعلوا حديثاً مع الزعيم الليبي، حيث بدت من الأخير بوادر الاتجاه الرافضي في الرأي والولاء. كما قاموا بشراء بعض أصحاب الأقلام والعقول الخاوية من الإيمان واستكتبوها للدعاية للتشيع والتقديم لكتب الشيعة (¬2) . ويقومون بانتقاء الأذكياء من الطلاب والطالبات في العالم الإسلامي ويعطونهم منحاً دراسية في قم ليغسلوا أدمغتهم ويربوهم على الرفض حتى يعودا لبلدانهم ناشرين للرفض داعين له. يقول شيخ الأزهر: "الأنباء التي تصلني من كافة أنحاء العالم الإسلامي تدل ¬
على أن هذه الحركة الإيرانية الخومينية الآن تنشر العنف، وتحاول أن تستقطب الشباب بوجه خاص في كثير من البلدان الإسلامية بالإغراءات المتعددة المالية والدراسية في إيران وغير ذلك من السبل بقصد إحداث الفرقة باستقطاب هؤلاء الشباب، ودفعهم إلى إثارة الخلافات في بلادهم وبين شعوبهم.. وأعتقد أنه على الشعوب الإسلامية أن تكون حذرة فيما تساق إليه بواسطة الخمينية أو غيرها، فهي حركة من الحركات الموفدة لتفتيت الأمة الإسلامية وبث الصراع والخلاف فيما بينها" (¬1) . ¬
ظهور اتجاه رافضي عند بعض الكتاب المنتسبين للسنة
ظهور اتجاه رافضي عند بعض الكتاب المنتسبين للسنة: وظهر في كتابات بعض المفكرين من المنتسبين لأهل السنة "لوثات" من الفكر الرافضي، وبرزت كتابات لهؤلاء متأثرة بالشبهات التي يثيرها "الروافض" في أمر الإمامة والصحابة، والمطالع لما يكتبه ثلة من المفكرين والأدباء حول تاريخ صد الإسلام، أو "نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام" أو "مسائل الإمامة والخلافة" يدرك مدى تأثير الكيد الرافضي في تحوير الحقائق أمام هؤلاء. وأنا لا أشك أن هناك من هذا الصنف "زمرة" مرتزقة قد أغراها بريق المال ودفعها "متاع الغرور" لتقول ما قالت، ولتكتب ما سطرت، والروافض يدفعون المال "للرموز المشهورة" حتى يكتبوا للناس ما يتفق والمذهب الرافضي ومن قديم قال بعض السلف: لو أردت أن يملؤوا داري ورقاً وأكذب على علي لفعلوا والله لا كذبت عليه أبداً (¬1) . فكيف اليوم وقد كثر المال في أيديهم، وقلت الأمانة في نفوس الكثيرين وغرتهم الدنيا وغرهم بالله الغرور (¬2) . وإذا أردت مثالاً على هذا التأثر الفكري بالمنهج الرافضي فإليك ذلك: هذا د. علي سامي النشار صاحب كتاب "شهداء الإسلام في عصر النبوة" ¬
يكتب كتاباً باسم "نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام" ويضع فيه ما تقر به عيون الروافض فيكفر فيه بعض صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول مثلاً عن معاوية رضي الله عنه: "ومهما قيل في معاوية، ومهما حاول علماء المذهب السلفي المتأخر، وبعض أهل السنة من وضعه في نسق صحابة رسول الله، فإن الرجل لم يؤمن أبداً بالإسلام، ولقد كان يطلق نفثاته على الإسلام كثيراً ولكنه لم يستطع أكثر من هذا" (¬1) . فانظر إلى عظيم افترائه.. وهل يعهد مثل هذا القول إلا من الروافض وأشباههم.. وكيف يتفوه مسلم بهذه المقالة في صحابي جاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث شهد معه غزوة حنين (¬2) ، وكان أميناً عنده يكتب له الوحي، وكان متولياً على المسلمين أربعين سنة نائباً ومستقلاً يقيم معهم شعائر الإسلام (¬3) .؟. ثم هو يفتري على أهل السنة حين يزعم أن القول بصحبة معاوية هو قول للبعض من أهل السنة، وكأن الأكثرية على مذهبه، وهذا كذب واختلاق كمسلك الروافض في الكذب، فإن إيمان معاوية رضي الله عنه ثابت بالنقل المتواتر وإجماع أهل العلم على ذلك (¬4) . وقال أيضاً عن أبيه (أبو سفيان بن حرب) : "ولقد كان أبو سفيان زنديقاً أي ممن يؤمنون بالمجوسية الفارسية" (¬5) ، مع أن أبا سفيان قد استعمله النبي صلى الله عليه وسلم نائباً له، وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم وأبو سفيان عامله في نجران، فكيف يكون زنديقاً والنبي صلى الله عليه وسلم يأتمنه على أحوال المسلمين في العلم والعمل؟! (¬6) . ¬
ويوافق أهل الرفض في قولهم بأن قلة من الصحابة كانوا يرون الحق لعلي، وأن الأمر قد نزع منه.. يقول: "وقد أحسَّ قلة من خلص الصحابة أن الأمر نزع من علي للمرة الثالثة، وأنه إذا كان الأمر قد سلب منه أولاً لكي يعطى للصاحب الأول، ثم يأخذ منه ثانياً لكي يعطى للصاحب الثاني فقد أخذ منه ثالثاً لكي يعطى لشيخ متهاوٍ متهالك لا يحسن الأمر ولا يقيم العدل يترك الأمر لبقايا قريش الضالة" (¬1) . وهو يقصد بهذا الخليفة الراشد ذي النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه، الذي اتفق الصحابة على خلافته.. فكأنه يزري بهم جميعاً بهذه الفرية. ويقول عن الرافضة التي تتسمى بالاثني عشرية والتي قالت كل ما مضى من كفر وشنيعة، واستفاض ذمهم ومقتهم في كلام أئمة الإسلام. يقول: "إن الأفكار الفلسفية للشيعة الاثني عشرية هي في مجموعها إسلامية بحتة" (¬2) . فانظر إلى هذه المفارقات الغريبة وتعجب (¬3) . ويقول - وكأنه المتحدث أحد الروافض - بأن شيعة علي الذين أحبوه عن يقين وإيمان، وساروا في ركب الإمام وهم على إيمان مطلق بأنه الأثر الباقي لحقيقة الإسلام الكبرى، وبجانب هذا "العثمانية" و"الأموية" الذين كرهوا الإسلام أشد الكراهية، وامتلأت صدورهم بالحقد الدفين نحو رسول الله وآله وأصحابه (¬4) . وبعد، فهذا مثال واحد أكتفي به، لأن هذه المسألة تستحق دراسة نقدية مستقلة. ¬
تشويه تاريخ المسلمين
تشويه تاريخ المسلمين: للرافضة كتابات في التاريخ تعمدوا الإساءة فيها لتاريخ الأمة الإسلامية كما في روايات وأخبار الكلبي (¬1) ، وأبي مخنف (¬2) ، ونصر بن مزاحم المنقري (¬3) ، والتي توجد حتى عند الطبري في تاريخه، لكن الطبري يذكرها مسندة لهؤلاء فيعرف أهل العلم حالها (¬4) . وكما في كتابات المسعودي في مروج الذهب، واليعقوبي في تاريخه.. وقد ¬
أشار الأستاذ محب الدين الخطيب في حاشية العواصم إلى أن التدوين التاريخي إنما بدأ بعد الدولة الأموية، وكان للأصابع الباطنية والشعوبية المتلفعة برداء التشيع دور في طمس معالم الخير فيه وتسويد صفحاته الناصعة (¬1) . ويظهر هذا الكيد لمن تدبر كتاب العواصم من القواصم لابن العربي مع الحاشية الممتازة التي وضعها عليه العلامة محب الدين الخطيب. لقد سوّد شيوخ الروافض آلاف الصفحات بسب أفضل قرن عرفته البشرية، وصرفوا أوقاتهم وجهودهم لتشويه تاريخ المسلمين. وكانت هذه المادة "الرافضية" الكبيرة والتي تجدها في كتب التاريخ التي وضعها الروافض، أو شاركوا في بعض أخبارها، وتراها في كتب الحديث عندهم كالكافي، والبحار، وفي ما كتب شيوخهم في القديم كإحقاق الحق، وفي الحديث ككتاب الغدير. هذه المادة السوداء المظلمة الكريهة الشائهة هي المرجع لما كتبه أعداء المسلمين من المستشرقين وغيرهم. وجاء ذلك الجيل المهزوم روحياً، والذي يرى في الغرب قدوته وامثولته من المستغربين فتلقف ما كتبته الأقلام الاستشراقية وجعلها مصدره ومنهله.. وتبنى أفكارهم ونشر شبهاتهم في ديار المسلمين. وكان لذلك أثره الخطير في أفكار المسلمين وثقافاتهم، وكان الرفض هو الأصل في هذا الشر كله. وإن دراسة آراء المستشرقين وصلتها بالشيعة لهي موضوع هام يستحق الدراسة والتتبع.. ولا يمكن بحال أن نخوض غماره في هذا البحث لضيق المجال، وحسبنا أن نشير إليه وننبه عليه. ¬
أثرهم في الأدب العربي
لقد بدأت استفادة العدو الكافر من شبهات الروافض وأكاذيبهم ومفترياتهم على الإسلام والمسلمين منذ وقت ليس بالقريب. ففي عصر الإمام ابن حزم (ت456هـ) كان النصارى يتخذون من فرية الروافض حول كتاب الله سبحانه حجة لهم في مجادلة أهل الإسلام، وقد أجاب ابن حزم عن ذلك بكل حزم فأبان أنه لا عبرة بأقوال هذه الفئة، لأن الروافض ليسوا من المسلمين (¬1) . أثرهم في الأدب العربي: لم يسلم الأدب ودولة الشعر والنثر من تأثير أهل التشيع فيه، وقد ترك التشيع بصماته "السوداء" على الأدب العربي.. وقد استغل "شعراء" الشيعة وخطباؤها ما يسمى بمحن آل البيت في إثارة عواطف الناس واستجاشة مشاعرهم وإلهاب العواطف والنفوس، وتحريكها ضد الأمة ودينها. وتلمس في بعض ما وصلنا من "أدب" بعض الاتجاهات العقدية عند الشيعة، وتلمح المبالغة في تصوير ما جرى على أهل البيت من محن، واستغلال ذلك في نشر التشيع، والطعن في الصحابة رضوان الله عليه. وقد أجهد رواد التشيع أنفسهم في نشر الخرافات والأساطير عن أئمتهم في ثوب قصصي مثير، أو في خطبة أو في شعر مبالغ في الغلو في مدح الأئمة. ولقد تأثرت عقائد العامة وتصوراتهم، حتى أثر ذلك على عقيدة التوحيد عندهم فاتخذوا من الأئمة أرباباً من دون الله. يقول الأستاذ محمد سيد كيلاني: "فترى أن التشيع قد أخرج لوناً من الأدب كان سبباً في الهبوط بالمسلمين إلى هوة سحيقة من التأخر والانحطاط، وقد أفلح الوهابيون في القضاء على كثير ¬
من هذه الخرافات في داخل بلادهم، أما في الأقطار الإسلامية الأخرى فالحال باقية كما هي عليه حتى بين طبقة المتعلمين" (¬1) . ويكفي هذا مطالعة القصيدة المشهورة والمعتمدة عندهم وهي "القصيدة الأزرية" (¬2) . كما اتخذوا من حرفة الأدب وسيلة للنيل من الأمة بالإساءة لسمعة خلفائها، وتشويه صورة المجتمع المسلم، حيث نجد تضخيم الجانب الهزلي والمنحرف والضال في المجتمع، بل تصوير المجتمع وخليفته بصورة هابطة كما فعلوا مع الخليفة هارون الرشيد وأخباره مع أبي نواس، وهو الخليفة الذي يغزو عاماً ويحج عاماً، كما وجدوا في الأدب متنفساً لهم، حيث ترتفع التقية في جو العاطفة والخيال.. فيصبوا أحقادهم وكرههم للخليفة والأمة في قصة أو شعر أو مثل أو خطبة.. ويكفي كمثال على ذلك كله الاطلاع على كتاب الأغاني للرافضي أبي الفرج الأصفهاني. ¬
المجال السياسي
المجال السياسي الشيعة - كما تؤكد أصولهم - لا يؤمنون بشرعية أي دولة في العالم الإسلامي، ويرون أن الخليفة على العالم الإسلامي طاغوت، ودولته غير شرعية، ولا يستثنون من ذلك إلا خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وخلافة الحسن (وقد مضى أنهم يقولون في رواياتهم: كل راية ترفع قبل قيام القائم فصاحبها طاغوت) (¬1) . ولهذا وجد العدو المتربص بالأمة المسلمة ضالته المنشودة في الشيعة، وحقق الكثير من أغراضه بواسطتها، لوجود هذه العقيدة التي من ثمارها فقدان الولاء والطاعة، وإضمار العداء والكراهية للأمير والمأمورين من المسلمين. ولذا كانت الزمر الرافضية أداة مطيعة بيد العدو، ومركباً ذلولاً سخره للوصول إلى مآربه. وكانت عقيدة التقية تيسر للعناصر الشيعية إحكام الخطط، وترتيب المؤامرات، فهم أشبه ما يكونون بخلية سرية ماسونية تلبس للأمة المسلمة رداء الإسلام، وترتدي ثوب المودة والطاعة لإمام المسلمين في الظاهر، وتعمل على الكيد له وللأمة في الباطن، فقد قالوا: "خالطوهم بالبرانية وظاهروهم بالجوانية إذا كانت الإمرة صبيانية" (¬2) . ولقد كان الشيعة في مختلف فترات التاريخ موضع استغلال من الملحدين يسخرونهم في خدمة أغراضهم وتنفيذ مخططاتهم، وقد انضم رؤوس الزنادقة إلى ¬
ركب التشيع حتى يمكنهم الاستفادة من أولئك الرعاع، ولذا ذكر شيخ الإسلام "أن أكثر معتنقي التشيع لا يعتقدون دين الإسلام، إنما يتظاهرون بالتشيع لقلة عقل الشيعة وجهلهم ليتوسلوا بهم إلى أغراضهم" (¬1) . وقد شهدت الوقائع والأحداث أن التشيع كان مأوى لكل من يريد الكيد للإسلام وأهله. لقد وجدت طوائف من الفرس الذين قضى المسلمون على دولتهم في سبع نسين في التشيع ضالتهم المنشودة، كذلك وجد يهود الفرصة سانحة لتحقيق أهدافهم عن طريق التشيع. وإلى اليوم يتستر بالتشيع أعداء الإسلام والمتآمرين على أهله.. وقد برزت أثناء الخلاف بين الفصائل الشيعية المنبثقة من الاثني عشرية "اعترافات" من القوم أنفسهم تصدق هذا القول.. فقد نقل أحد الباحثين الشيعة بأن السفير الروسي في إيران - كنياز دكوركي كان يحضر دروس شيخهم الرشتي (¬2) . صاحب الكشفية إحدى فرق الاثني عشرية - كما مر (¬3) .- والتي يلقيها في كربلاء باسم مستعار هو "الشيخ عيسى اللنكراني" وقد كشفت ذلك مجلة الشرق التي أصدرتها وزارة الخارجية الروسية (السوفياتية) لسنة 1924-1925م (¬4) . كم كان الجنرال الانكليزي المتقاعد جعيفر عليخان (ويبدو أنه اتخذ هذا الاسم للتمويه) كان يتزيا بالزي الشيعي ويحضر هو الآخر دروس كاظم الرشتي (¬5) . ¬
ويعلل الباحث الشيعي هذه الظاهرة بأن الأعداء "كانوا على علم مسبق بأن سكان هذين القطرين - العراق وإيران - من المحبين لأهل البيت فجاءوهم من الناحية العقائدية (¬1) . فأشاعوا بينهم - كما يقول - من خلال المذهب الكشفي الغلو في الأئمة وجعلهم شركاء لله في خلقه ورزقه.. ونفي العقاب عن كل مرتكتب معصية صغيرة كانت أو كبيرة (¬2) . ثم يقول: "وهكذا وجد الاستعمار في هذه الديار العربية المسلمة أرضاً خصبة لغرس شجرة العقيدة الحنظلية" (¬3) . وأقول: ومن قبل كان للاتجاه الصفوي دوره الخطير في بذر أصول الغلو على يد ثلة من شيوخ السوء أمثال المجلسي والجزائري والكاشاني وغيرهم. وهذا العدو الذي لبس ثوب التشيع زرواً، واندس في صفوف الشيعة قد يجد المكانة الرفيعة بينهم، كيف وعقيدتهم في الإجماع تجعل لقول الفئة المجهولة، ورأي الشخص المجهول الأحقية على غيره على احتمال أن يكون هذا المجهول هو المهدي (¬4) . ¬
هذا ومن يتتبع أحداث التاريخ وملاحمه يرى أن معول مدعي التشيع كان من أخطر المعاول التي أتت على الدولة الإسلامية من أطرافها، ذلك أنهم مع المسلمين في الظاهر، وهم من أعظم الأعداء لهم في الباطن، حتى قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن أصل كل فتنة وبلية هم الشيعة، ومن انضوى إليهم، وكثير من السيوف التي سلت في الإسلام إنما كان من جهتهم، وبهم تسترت الزنادقة" (¬1) . ولأنهم يرون أن المسلمين أكفر من اليهود والنصارى (¬2) ، فهم يوالون أعداء الدين الذين يعرف كل أحد معاداتهم من اليهود والنصارى والمشركين، ويعادون أولياء الله الذين هم خيار أهل الدين وسادات المتقين (¬3) . وقال شيخ الإسلام: "فقد رأينا ورأى المسلمون أنه إذا ابتلي المسلمون بعدو كافر كانوا معه على المسلمين" (¬4) . فقد شهد الناس أنه لما دخل هولاكوا ملك الكفار الترك الشام سنة 658هـ كانت الرافضة الذين كانوا بالشام من أعظم الناس أنصاراً وأعواناً على إقامة ملكه وتنفيذ أمره في زوال ملك المسلمين، وهكذا يعرف الناس عامة وخاصة ما كان بالعراق لما قدم هولاكو إلى العراق وسفك فيها من الدماء ما لا يحصيه إلا الله، فكان وزير الخليفة ابن العلقمي والرافضة هم بطانته الذين عاونوه على ذلك بأنواع كثيرة باطنة وظاهرة يطول وصفها (¬5) . وقبل ذلك كانت إعانتهم لجد هولاكو هو جنكيز خان، فإن الرافضة أعانته على المسلمين. وقد رآهم المسلمون بسواحل الشام وغيرها إذا اقتتل المسلمون والنصارى ¬
هواهم مع النصارى يناصرونهم بحسب الإمكان، ويكرهون فتح مدائنهم كما كرهوا فتح عكا وغيرها، ويختارون إدالتهم على المسلمين حتى إنهم لما انكسر المسلمون سنة غازان (¬1) . سنة تسع وتسعين وخمسمائة، وخلت الشم من جيش المسلمين عاثوا في البلاد، وسعوا في أنواع من الفساد من القتل وأخذ الأموال، وحمل راية الصليب، وتفضيل النصارى على المسلمين وحمل السبي والأموال والسلاح من المسلمين إلى النصارى بقبرص وغيرها، فهذا وأمثاله قد عاينه الناس، وتواتر عند من لم يعاينه (¬2) . وقال: "وكذلك كانوا من أعظم الأسباب في استيلاء النصارى قديماً على بيت المقدس حتى استنقذه المسلمون منهم" (¬3) . والحديث في هذا الباب ممتد، وقد حفلت كتب التاريخ بتصوير أحداثه المريرة. وإذا كان هذا تأثير الشيعة الذين يعيشون داخل الدولة الإسلامية، فإن تأثير دول الشيعة التي قامت أشد، ولهذا قال شيخ الإسلام عن دولة بني بويه (¬4) . بأن هذه الدولة قد انتظمت أصناف المذاهب المذمومة: قوم منهم زنادقة، وفيهم قرامطة كثيرة ومتفلسفة، ومعتزلة، ورافضة. وقد حصل لأهل الإسلام والسنة في أيامهم من الوهن ما لم يعرف، حتى استولى النصارى على ثغور الإسلام، وانتشرت القرامطة في أرض مصر والمغرب ¬
والمشرق وغير ذلك، وجرت حوادث كثيرة (¬1) . وقال عن دولة خدا بنده (¬2) : "وانظر ما حصل لهم في دولة السلطان خدا بنده الذي صنف له هذا الكتاب (¬3) . كيف ظهر فيهم من الشر الذي لو دام وقوي أبطلوا به عامة شرائع الإسلام لكن يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون" (¬4) ، وكذلك كان الأمر أشد في الدولة الصفوية من بعد شيخ الإسلام. وإلى اليوم يجري الأثر الرافضي في أرض المسلمين فساداً من دولة الآيات في إيران، ومن منظماتهم في لبنان (¬5) ، وفي خلاياهم في دول الخليج وغيرها. ويذكر إحسان إلهي ظهير أن انفصال باكستان الشرقية كان وراءه الكيد الرافضي، حيث قال: "وها هي باكستان الشرقية ذهبت ضحية بخيانة أحد أبناء "قزلباش" الشيعة يحيى خان في أيدي الهندوس" (¬6) . وقد عارض شيوخ الشيعة في باكستان تطبيق الشريعة الإسلامية (¬7) .؛ لأنها تحد من شهواتهم التي يمارسونها باسم المتعة، وتعاقبهم على جرائمهم التي يستسهلون ارتكابها بحجة أن حب علي لا تضر معه سيئة. وبعد.. هذه إشارات لقضايا كبيرة، شرحها ودراستها يحتاج لمؤلفات. ¬
مؤامرة ابن العلقمي الرافضي
وحسبي أن أختار مثالين منها للوقوف عندها قليلاً لأخذ العبرة: الأول: يتصل بتأثير الشيعة داخل الدولة الإسلامية، وسأتوقف عند حادثة ابن العلقمي وتآمره لإسقاط الدولة الإسلامية. والثاني: في تأثير دول الشيعة على المسلمين، وسأتوقف عند الدولة الصفوية. مؤامرة ابن العلقمي الرافضي: وملخص الحادثة أن ابن العلقمي كان وزيراً للخليفة العباسي المستعصم، وكان الخليفة على مذهب أهل السنة، كما كان أبوه وجده، ولكن كان فيه لين وعدم تيقظ، فكان هذا الوزير الرافضي يخطط للقضاء على دولة الخلافة، وإبادة أهل السنة، وإقامة دولة على مذهب الرافضة، فاستغل منصبه، وغفلة الخليفة لتنفيذ مؤامراته ضد دولة الخلافة، وكانت خيوط مؤامراته تتمثل في ثلاث مراحل: المرحلة الأولى: إضعاف الجيش، ومضايقة الناس.. حيث سعى في قطع أرزاق عسكر المسلمين، وضعفتهم: قال ابن كثير: "وكان الوزير ابن العلقمي يجتهد في صرف الجيوش، وإسقاط اسمهم من الديوان، فكانت العساكر في أخر أيام المستنصر قريباً من مائة ألف مقاتل.. فلم يزل يجتهد في تقليلهم، إلى أن لم يبق سوى عشرة آلاف" (¬1) . المرحلة الثانية: مكاتبة التتار: يقول ابن كثير: "ثم كاتب التتار، وأطمعهم في أخذ البلاد، وسهل عليهم ذلك، وحكى لهم حقيقة الحال وكشف لهم ضعف الرجال" (¬2) . المرحلة الثالثة: النهي عن قتال التتار وتثبيط الخليفة والناس: فقد نهى العامة عن قتالهم (¬3) . وأوهم الخليفة وحاشيته أن ملك التتار يريد ¬
مصالحتهم، وأشار على الخليفة بالخروج إليه والمثول بين يديه لتقع المصالحة على أن يكون نصف خراج العراق لهم، ونصفه للخليفة، فخرج الخليفة إليه في سبعمائة راكب من القضاة والفقهاء والأمراء والأعيان.. فتم بهذه الحيلة قتل الخليفة ومعن معه من قواد الأمة وطلائعها بدون أي جهد من التتر. وقد أشار أولئك الملأ من الرافضة وغيرهم على المنافقين على هولاكو أن لا يصالح الخليفة، وقال الوزير ابن العلقمي: متى وقع الصلح على المناصفة لا يستمر هذا إلا عاماً أو عامين، ثم يعود الأمر إلى ما كان عليه قبل ذلك، وحسنوا له قتل الخليفة، ويقال إن الذي أشار بقتله الوزير ابن العلقمي، ونصير الدين الطوسي (¬1) . ثم مالوا على البلد فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشبان، ولم ينج منهم أحد سوى أهل الذمة من اليهود والنصارى، ومن التجأ إليهم، وإلى دار الوزير ابن العلقمي الرافضي (¬2) . وقد قتلوا من المسلمين ما يقال إنه بضعة عشر ألف ألف إنسان أو أكثر أو أقل، ولم ير في الإسلام ملحمة مثل ملحمة الترك الكفار المسمين بالتتر، وقتلوا الهاشميين، وسبوا نساءهم من العباسيين وغير العباسيين، فهل يكون موالياً لآل رسول الله صلى الله عليه وسلم من يسلط الكفار على قتلهم وسبيهم وعلى سائر المسلمين (¬3) .؟ وقتل الخطباء والأئمة، وحملة القرآن، وتعطلت المساجد والجماعات والجمعات مدة شهور ببغداد (¬4) . وكان هدف ابن العلقمي "أن يزيل السنة بالكلية وأن يظهر البدعة الرافضة، وأن يعطل المساجد والمدارس، وأن يبني للرافضة مدرسة هائلة ينشرون بهذا مذهبهم ¬
فلم يقدره الله على ذلك، بل أزال نعمته عنه وقصف عمره بعد شعور يسيرة من هذه الحادثة، وأتبعه بولده" (¬1) . فتأمل هذه الحادثة الكبرى والخيانة العظمى، واعتبر بطيبة بعض أهل السنة إلى حد الغفلة بتقريب أعدى أعدائهم، وعظيم حقد هؤلاء الروافض وغلهم على أهل السنة، فهذا الرافضي كان وزيراً للمستعصم أربع عشرة سنة، وقد حصل له من التعظيم والوجاهة ما لم يحصل لغيره من الوزراء، فلم يجد هذا التسامح والتقدير في إزالة الحقد والغل الذي يحمله لأهل السنة، وقد كشف متأخروا الرافضة القناع عن قلوبهم، وباحوا بالسر المكنون فعدوا جريمة ابن العلقمي والنصير الطوسي في قتل المسلمين من عظيم مناقبهما عندهم. فقال الخميني في الإشادة بما حققه نصير الطوسي: ".. ويشعر الناس (يعني شيعته) بالخسارة.. بفقدان الخواجة نصير الدين الطوسي وأضرابه ممن قدم خدمات جليلة للإسلام" (¬2) . والخدمات التي يعني هنا هي ما كشفها الخوانساري من قبله في قوله في ترجمة النصير الطوسي: "ومن جملة أمره المشهور المعروف المنقول حكاية استيزاره للسلطان المحتشم.. هولاكو خان.. ومجيئه في موكب السلطان المؤيد مع كمال الاستعداد إلى دار السلام بغداد لإرشاد العباد وإصلاح البلاد.. بإبادة ملك بني العباس، وإيقاع القتل العام من أتباع أولئك الطغام، إلى أن أسال من دمائهم الأقذار كأمثال الأنهار، فانهار بها في ماء دجلة، ومنها إلى نار جهنم دار البوار" (¬3) . ¬
فهم يعدون تدبيره لإيقاع القتل العام بالمسلمين، من أعظم مناقبه، وهذا القتل هو الطريق عندهم لإرشاد العباد وإصلاح البلاد، ويرون مصير المسلمين الذي استشهدوا في هذه "الكارثة" إلى النار، ومعنى هذا أن هولاكو الوثني وهو الذي يصفه بالمؤيد، وجنده هم عندهم من أصحاب الجنة؛ لأنهم شفوا غيظ هؤلاء الروافض من المسلمين، فانظر إلى عظيم هذا الحقد!! حتى صار قتل المسلمين من أغلى أمانيهم.. وصار الكفار عندهم أقرب إليهم من أمة الإسلام. هذه قصة ابن العلقمي أوردتها معظم كتب التاريخ (¬1) ، وأقرتها كتب الرافضة، وأشادت بها.. ومع ذلك فقد حاول الراوفض المعاصرين توهين القصة والطعن في ثبوتها، وحجته أن الذين ذكروا الحادثة غير معاصرين للواقعة، وحينما جاء على من ذكر الحادثة من معاصريها مثل: أبي شامة شهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل (ت665هـ) كان جوابه عن ذلك بأنه وإن عاصر الحادثة معاصرة زمانية، لكنه من دمشق فلم تتوفر فيه المعاصرة المكانية (¬2) . وهي محاولة لرد ما استفاض أمره عند المؤرخين، كمحاولتهم في إنكار وجود ابن سبأ، وقد بحثت في كتب التاريخ فوجدت شهادة هامة لأحد كبار المؤرخين تتوفر فيه ثلاث صفات: الأولى: أن الشيعة يعدونه من رجالهم، والثانية: أنه من بغداد، والثالثة: أنه متوفى سنة 674هـ. فهو شيعي بغدادي معاصر للحادثة؛ ذلك هو الإمام الفقيه علي بن أنجب المعروف بابن الساعي الذي شهد بجريمة ابن العلقمي فقال: " ... وفي أيامه (يعني المستعصم) استولت التتار على بغداد، وقتلوا الخليفة، وبه انقضت الدولة العباسية من أرض العراق، وسببه أن وزير الخليفة مؤيد الدين ابن العلقمي كان رافضياً.. ¬
ثم ساق القصة (¬1) . وابن الساعي هذا ذكره محسن الأمين من رجال الشيعة فقال: "علي بن أنجب البغدادي المعروف بابن الساعي له أخبار الخلفاء ت674هـ" (¬2) . ويكفي دلالة على صلة الروافض بنكبة المسلمين وتمني حصول أمثالها هذا التشفي الذي صدر على ألسنة شيوخهم المتأخرين والمعاصرين كالخوانساري، والخميني وأمثالهما. ¬
الدولة الصفوية
الدولة الصفوية (¬1) : في الدولة الصفوية، والتي أسسها الشاه إسماعيل الصفوي فرض التشيع الاثني عشري على الإيرانيين قسراً، وجعل المذهب الرسمي لإيران.. وكان إسماعيل قاسياً متعطشاً للدماء إلى حد لا يكاد يصدق (¬2) ، ويشيع عن نفسه أنه معصوم وليس بينه وبين المهدي فاصل، وأنه لا يتحرك إلا بمقتضى أوامر الأئمة الاثني عشر (¬3) . ولقد تقلد سيفه وأعمله في أهل السنة، وكان يتخذ سب الخلفاء الثلاثة وسيلة لامتحان الإيرانيين، فمن يسمع السب منهم يجب عليه أن يهتف قائلاً: "بيش باد كم باد".. هذه العبارة تعني في اللغة الأذربيجانية أن السامع يوافق على السب ويطلب المزيد منه، أما إذا امتنع السامع عن النطق بهذه العبارة قطعت رقبته حالاً، وقد أمر الشاه أن يعلن السب في الشوارع، والأسواق وعلى المنابر منذراً المعاندين بقطع رقابهم (¬4) ، وكان إذا فتح مدينة أرغم أهلها على اعتناق الرفض فوراً بقوة السلاح. ويروى عنه أنه عندما فتح تبريز في بداية أمره وأراد فرض التشيع على أهلها بالقوة، أشار عليه بعض شيوخهم أن يتريث، لأن ثلثي سكان المدنية من أهل السنة، وأنهم لا يصبرون على سب الخلفاء الثلاثة على المنابر، ولكنه أجابهم: ¬
"إذا وجدت من الناس كلمة اعتراض شهرت سيفي بعون الله فلا أبقي منهم أحداً حياً" (¬1) . ومن ناحية أخرى اتخذ مسألة قتل الحسين وسيلة للتأثير النفسي، بالإضافة إلى أسلوب التهديد والإرهاب فأمر بتنظيم الاحتفال بذكر مقتل الحسين على النحو الذي يتبع الآن عندهم (¬2) . وأضاف إليه فيما يقال مجالس التعزية. وهي التي يسمونها الآن "الشبيه" ويجرى فيها تمثيل مقتل الحسين.. فكان لهذا أثره على أولئك الأعاجم حتى رأى بعضهم أنه من أهل العوامل في نشر التشيع في إيران، لأن ما فيه من مظاهر الحزن والبكاء وما يصاحبه من كثرة الأعلام ودق الطبول وغيرهما يؤدي إلى تغلغل في العقيدة في أعماق النفس والضرب على أوتارها الكامنة" (¬3) . ولقد آزر شيوخ الروافض سلاطين الصفويين في الأخذ بالتشيع إلى مراحل من الغلو وفرض ذلك على مسلمي إيران بقوة الحديد والنار. وكان من أبرز هؤلاء الشيوخ شيخهم علي الكركي (¬4) ، الذي يلقبه الشيعة بالمحقق الثاني الذي قربه الشاه طهماسب، ابن الشاه إسماعيل وجعله الآمر المطاع في الدولة، فاستحدث هذا الكركي بدعاً جديدة في التشيع، فكان منها: "التربة التي يسجد عليها الشيعة الآن في صلواتهم. وقد ألف فيها رسالة سنة (933هـ) (¬5) ، كما ألف رسالة في تجويز السجود للعبد (¬6) ، وذلك مسايرة للسلطان إسماعيل ¬
الصفوي الذي كان يغلو فيه أصحابه حتى إنهم يعبدونه ويسجدون له (¬1) . وكانت بدعه الكثيرة في المذهب الشيعي داعية للمصنفين من غير الشيعة إلى تلقيبه بمخترع الشيعة (¬2) . وقد ألف رسالة في لعن الشيخين - رضي الله عنهما - سماها "نفحات اللاهوت في لعن الجبت والطاغوت" (¬3) . ويقال: إنه هو الذي شرع السب في المساجد أيام الجمع (¬4) . كذلك كان من شيوخ الدولة الصفوية المجلسي، والذي شارك السلطة في التأثير على المسلمين في إيران حتى يقال بأن كتابه "حق اليقين" كان سبباً في تشيع سبعين ألف سني من الإيرانيين" (¬5) . والأقرب أن هذا من مبالغات الشيعة، فإن الرفض في إيران لم يجد مكانه إلا بالقوة والإرهاب، لا بالفكر والإقناع. ثم نشأ الجيل اللاحق في جو المآتم الحسينية السنوية التي طورها الصفويون ليمتلئ الناشئ بتأثيرها حقداً وغيظاً حتى لا يكاد يستمع بسبب ذلك إلى حجة أو برهان. وكان لكتاب المجلسي "بحار الأنوار" أثره في إشاعة الغلو بين الشيعة، حيث "جاء قراء التعزية، وخطباء المنابر فصاروا يأخذون منه ما يروق لهم وبذا ملؤوا أذهان العامة بالغلو والخرافة". وقد كان هذا الكتاب من أوائل المؤلفات التي طبعت على نطاق واسع ¬
في العهد القاجاري، وقد وردت منه إلى العراق نسخ كثيرة مما أدى إلى انتشار معلوماته الغثة في أوساط الشعب العراقي على منوال ما حدث في إيران (¬1) . كذلك لا ينسى الجانب الآخر من آثر الدولة الصفوية، وذلك في حروبها لدولة الخلافة الإسلامية، وتعاونها مع الأعداء من البرتغال ثم الإنجليز ضد المسلمين، وتشجيعها لبناء الكنائس ودخول المبشرين والقسس، مع محاربتهم للسنة وأهلها (¬2) . هذه بعض أثار دولهم وأفرادهم في هذا المجال.. ومن كلمات شيخ الإسلام ابن تيمية (الخالدة) والمهمة في هذا الموضوع، والتي إذا طبقتها على الواقع، وإذا استقرأت من خلالها وقائع التاريخ رأيت صدقها كالشمس قوله - رحمه الله -: "فلينظر كل عاقل فيما يحدث في زمانه، وما يقرب من زمانه من الفتن والشرور والفساد في الإسلام، فإنه يجد معظم ذلك من قبل الرافضة، وتجدهم من أعظم الناس فتناً وشراً، وأنهم لا يقعدون عما يمكنهم من الفتن والشرور وإيقاع الفساد بين الأمة" (¬3) . ونحن قد علمنا بالمعاينة والتواتر أن الفتن والشرور العظيمة التي لا تشابهها فتن، إنما تخرج عنهم (¬4) . ¬
المجال الاجتماعي
المجال الاجتماعي وهو باب واسع سأشير لبعض معالمه. أولاً: علاقتهم مع المسلمين: الشيعة يعيشون مع المسلمين، ويحملون الهوية الإسلامية، ولا يوجد تمييز لهم عن غيرهم، والأصل في علاقة المسلمين الحب والمودة والتكافل والإيثار. والإسلام أرسى دعائم الود بين المسلم وأخيه، وقدم جيل الصحابة رضوان الله عليهم أعظم صور المحبة والوفاء امتثالاً لهدي القرآن والسنة، ولا شك في أن صورة التلاحم تلك كانت هدفاً من أهداف العدو المتربص بالأمة. وكانت مؤامراته في تقويض البناء المتماسك كثيرة.. ولقد اندس هؤلاء في التشيع وأعملوا من خلاله الهدم والتخريب لهذا الأساس المتين في المجتمع الإسلامي. ولهذا كان من الشائع والمستفيض أن علاقة الشيعي مع غيره مبنية على حب الإيذاء بأي وسيلة، واتخاذ ذلك قربة عند الله. وإن إضمار العداء والكره من صفاتهم. وإن عدم الوفاء ومراعاة الحقوق من طبيعتهم. وإن الغدر والخيانة والمكر والخديعة من أعمالهم المعروفة عنهم، والتي تصل إلى حد القتل. قال شيخ الإسلام: "وأما الرافضي فلا يعاشر أحداً إلا استعمل معه النفاق؛ فإن دينه الذي في قلبه دين فاسد يحمله على الكذب والخيانة، وغش الناس، وإرادة
السوء بهم، فهو لا يألوهم خبالاً ولا يترك شراً يقدر عليه إلا فعله بهم، وهو ممقوت عند من لا يعرفه، وإن لم يعرف أنه رافضي تظهر على وجهه سيما النفاق وفي لحن القول، ولهذا تجده ينافق ضعفاء الناس ومن لا حاجة به إليه لما في قلبه من النفاق الذي يضعف قلبه.." (¬1) . وقد قدّم العلامة الشوكاني مشاهدات شخصية من خلال معايشته للرافضة في اليمن، وكشف من خلال ذلك أموراً عجيبة وأكد أنه "لا أمانة لرافضي قط على من يخالفه في مذهبه ويدين بغير الرفض، بل يستحل ماله ودمه عند أدنى فرصة تلوح له، لأنه عنده مباح الدم والمال، وكل ما يظهره من المودة فهو تقية يذهب أثره بمجرد إمكان الفرصة" (¬2) . وبيّن حقيقة ذلك بالتجربة العملية مع هذه الطائفة فقال: "وقد جربنا هذا تجريباً كثيراً فلم نجد رافضياً يخلص المودة لغير رافضي، وإن آثره بجميع ما يملكه، وكان له بمنزلة الخول، وتودد إليه بكل ممكن، ولم نجد في مذهب من المذاهب المبتدعة ولا غيرها ما نجده عند هؤلاء من العداوة لمن خالفهم، ثم لم نجد عند أحد ما نجد عندهم من التجري على شتم الأعراض المحترمة، فإنه يلعن أقبح اللعن، ويسب أفظع السب كل من تجري بينه وبينه أدنى خصومة وأحقر جدال، وأقل اختلاف، ولعل سبب هذا والله أعلم أنهم لما تجرّؤا على سب السلف الصالح هان عليهم سب من عداهم، ولا جرم، فكل شديد ذنب يهون ما دونه" (¬3) . وقد أشار الشوكاني - رحمه الله - إلى أنهم لا يتورعون من اقتراف أي جريمة في المجتمع الإسلامي، ولا يتنزهون عن فعل أي محرم، فقال: وقد جربنا وجرب من قبلنا فلم يجدوا رجلاً رافضياً يتنزه عن محرمات الدين كائناً من كان ولا تغتر بالظواهر؛ فإن الرجل قد يترك المعصية في الملأ ويكون أعف الناس عنها في الظاهر، ¬
وهو إذا أمكنته فرصة انتهزها انتهاز من لا يخاف ناراً ولا يرجو جنة. ثم استشهد على ذلك ببعض مشاهداته الشخصية فقال: "وقد رأيت منهم من كان مؤذناً ملازماً للجماعات فانكشف سارقاً، وآخر كان يؤم الناس في بعض مساجد صنعاء، وله سمت حسن وهدي عجيب وملازمة للطاعة، وكنت أكثر التعجب منه كيف يكون مثله رافضياً ثم سمعت بعد ذلك عنه بأمور تقشعر لها الجلود وترجف منها القلوب"، ثم ذكر رجلاً ثالثاً كان به رفض يسير ثم تطور به الرفض حتى ألف في مثالب جماعة من الصحابة. قال الشوكاني: "وكنت أعرف عنه في مبادئ أمره صلابة وعفة، فقلت: إذا كان ولابد من رافضي عفيف فهذا، ثم سمعت عنه بفواقر، نسأل الله الستر والسلامة" (¬1) . ثم قال - رحمه الله -: "وأما وثوب هذه الطائفة على أموال اليتامى والمستضعفين ومن يقدرون على ظلمه كائناً من كان فلا يحتاج إلى برهان، بل يكفى مدعيه إحالة منكره على الاستقرار والتتبع فإنه سيظفر عند ذلك بصحة ما ذكرناه" (¬2) . هذه "مشاهدات" مهمة سجلها الشوكاني، وبيّن كيف يفعل "الرفض" بصاحبه وأثر ذلك في علاقته مع المسلمين، لأنه يقيم مع هذه "الفئة" من الرافضة في اليمن والتي خرجت من نطاق الزيدية إلى الرفض كما هو معروف عن الجارودية" (¬3) . هذه "الشهادة" من الشوكاني قد يقول قائل: إنها من خصم للرافضة، فلا ¬
تؤخذ عليهم.. والحقيقة أن أهل السنة أعدل وأنصف وأتقى من الوقوع في ظلم هذه الطوائف والكذب عليها، كما أثبتت ذلك الوقائع "بل هم للرافضة خير وأعدل من بعض الرافضة لبعض، وهذا ما يعترفون هم به ويقولون: أنتم تتصفوننا ما لا ينصف بعضنا بعضاً" (¬1) . وقد وقفت على نص مهم في الكافي للكليني يشهد لكلام الشوكاني ويعترف بصدق ما قاله، والاعتراف سيد الأدلة.. ويبيّن طبيعة الرافضي في علاقاته مع الناس. جاء في الكافي أن أحد الشيعة ويسمى عبد الله بن كيسان قال لإمامهم: "إني.. نشأت في أرض فارس، وإنني أخالط الناس في التجارات وغير ذلك، فأخالط الرجل فأرى له حسن السمت (¬2) ، وحسن الخلق، وكثرة أمانة، ثم أفتشه فأتبينه من عدواتكم (يعني من أهل السنة) وأخالط الرجل فأرى منه سوء الخلق وقلة أمانة وزعارة (¬3) . ثم أفتشه فأتبينه عن ولايتكم" (¬4) . فهذه الرواية تعترف لأهل السنة بحسن الخلق، وكثرة الأمانة وحسن السمت، بينما تصف الرافضة بضد هذه الأوصاف. وفي خبر أخر في الكافي أن رجلاً شكا لإمامه ما يجده في أصحابه من الرافضة من "النزق والحدّة والطيش" وأنه يغتم لذلك غماً شديداً، بينما يرى من خالفهم من أهل السنة حسن السمت، قال إمامهم: لا تقل حسن السمت، فإن السمت سمت الطريق (¬5) ، ولكن قل: حسن السيما؛ فإن الله عز وجل يقول: ¬
{سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ} (¬1) قال: قلت: فأراه حسن السيما وله وقار فأغتم ذلك (¬2) . وهذا شيعي ثالث يقال له عبد الله بن أبي يعفور لا ينقضي عجبه من ذلك البون الواسع بين أخلاق أهل السنة وبين خلق شيعته.. ويرفع ذلك لإمامه فيقول: "إني أخالط الناس فيكثر عجبي من أقوام لا يتولونكم ويتولون فلاناً وفلاناً (¬3) . لهم أمانة وصدق ووفاء، وأقوام يتولونكم (يعني الرافضة) ليس لهم تلك الأمانة ولا الوفاء والصدق، قال: فاستوى أبو عبد الله جالساً فأقبل عليّ كالغضبان، ثم قال: لا دين لمن دان الله بولاية إمام جائر ليس من الله، ولا عتب على من دان بولاية إمام عادل من الله. قلت: لا دين لأولئك ولا عتب على هؤلاء. قال: نعم" (¬4) . وهذا الجواب الذي ينفي العتب والذم عنهم، وان اقترفوا الموبقات هو الذي أدى بهم إلى هذا الدرك الهابط من التعامل والتساهل في ارتكاب المنكرات، لأن الدين عندهم "ولاية الإمام" وحب علي حسنة لا يضر معها سيئة، وما لم يصلح هذا الأساس فستبقى هذه "الخصيصة فيهم". ومن الملاحظ أن كتبهم تقرر مبدأ الغيلة، وتصفية الخصوم بهذا الأسلوب وتشترط أن يأمن الشيعي الضرر عليه. تقول كتب الشيعة: عن داود بن فرقد قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ما تقول في قتل الناصب؟ فقال: "حلال الدم، ولكن أتقي عليك فإن قدرت أن ¬
تقلب عليه حائطاً، أو تغرقه في ماء لكيلا يشهد به عليك فافعل" (¬1) . وفي رجال الكشي يحكي أحد الشيعة لإمامه كيف استطاع أن يقتل مجموعة من مخالفيه فيقول: "منهم من كنت أصعد سطحه بسلّم حتى أقتله، ومنهم من دعوته بالليل على بابه فإذا خرج عليّ قتلته، ومنهم من كنت أصحبه في الطريق فإذا خلا لي قتلته" (¬2) . وذكر أنه قتل بهذه الطريقة ثلاثة عشر مسلماً، لأنه يزعم أنهم يتبرأون من علي (¬3) . ويقول شيخهم نعمة الله الجزائري أنه في إخبارهم "أن عليّ بن يقطين (¬4) . وهو وزير الرشيد قد اجتمع في حبسه جماعة من المخالفين، فأمر غلمانه وهدموا أسقف المحبس على المحبوسين فماتوا كلهم وكانوا خمسمائة رجل تقريباً، فأراد الخلاص من تبعات دمائهم، فأرسل إلى الإمام مولانا الكاظم (ع) فكتب إليه جواب كتابه بأنك لو كنت تقدمت إليّ قبل قتلهم لما كان عليك شيء من دمائهم. وحيث إنك لم تتقدم إليّ فكفر عن كل رجل قتلت منهم بتيس، والتيس (¬5) . خير منه" (¬6) . فانظر كيف يعيشون وسط المسلمين وهم يتحينون أدنى فرصة للقتل. وهذه اعترافاتهم تشهد بآثارهم السوداء.. وإمامه هنا يقره على قتل خمسمائة مسلم لمجرد أنهم ليسوا بروافض، ويأمره بالتكفير بتيس، لأنه لم يستأذنه قبل ذلك.. فالشيعي إذا استأذن إمامه أو نائبه وهو الفقيه فليفعل كما يريد، وإن لم يستأذن فالأمر ¬
ثانيا: الفتن الداخلية
لا يعدو ذبح تيس. وقد علق شيخهم الجزائري على دية التيس بقوله: "فانظر إلى هذه الدية الجزيلة التي لا تعادل دية أخيهم الأصغر وهو كلب الصيد، فإن ديته عشرون درهماً، ولا دية أخيهم الأكبر وهو اليهودي أو المجوسي، فإنهما ثمانمأة - كذا - درهم، وحالهم في الآخرة أخس وأنجس" (¬1) . وهذا قول من الشناعة بمكان، ولا يحتاج إلى تعليق فهو ينطق بنفسه على حقدهم على أهل السنة، وأنهم أكفر عندهم من المجوس. ثانياً: الفتن الداخلية: وهي فتنتهم التي يثيرونها بسبب سبهم للصحابة عبر مآتمهم السنوية، فمنذ أن اخترع البوبهيون إقامة المآتم بذكرى مقتل الحسين وذلك في بغداد في القرن الرابع الهجري، والشيعة تثير في هذه الذكرى السنوية فتناً لا حدود لها.. وينشب صراع عنيف بين السنة والشيعة بسبب تجرؤ الروافض على شتم الصحابة رضوان الله عليهم، وقد بدأت فتنة في سنة 338هـ، وذلك لأول في تاريخ بغداد (¬2) ، ثم توالت الفتن بينهما بعد ذلك (¬3) ، وقتل فيها خلق كثير من المسلمين، ولا تزال لهذه البدعة آثارها في العالم الإسلامي الذي يوجد فيه شيعة. فكم أزهقت من أرواح، وكم زرعت من أحقاد، وكم أحدثت من فرقة وفتن ومحن ومع ذلك كله فإنه شيخ الشيعة اليوم الخميني يذكي أوار هذه الفتنة ويقول: "في تلفزيون إيران بالحرف الواحد": "إن شعار الفرقة الناجية وعلامتهم الخاصة من أول الإسلام إلى يومنا هذا إقامة المآتم" (¬4) . ¬
ثالثا: الإباحية
ويقول: "إن البكاء على سيد الشهداء (ع) وإقامة المجالس الحسينية هي التي حفظت الإسلام عن أربعة عشر قرناً" (¬1) . وقد مضى قول بعض شيوخهم: إن إقامة المآتم من تعظيم شعائر الله (¬2) . والحسين رضي الله عنه أكرمه الله تعالى بالشهادة في ذلك اليوم.. وله أسوة حسنة بمن سبقه من الشهداء.. وقتله مصيبة عظيمة، والله سبحانه قد شرع الاسترجاع عند المصيبة (¬3) . وليس ما تفعله الرافضة من الإسلام في شيء، إنما غرض المخترعين لهذه البدعة، والمشجعين عليها، هو إشغال أمة الإسلام في نفسها حتى لا تتفرغ لنشر دين الله في الأرض. ثالثاً: الإباحية: ومن آثارهم في المجال الاجتماعي، تلك الإباحية التي يدعون إليها، ويسهلون أسبابها ويمارسونها وسط المجتمع الإسلامي باسم عارية الفرج (¬4) ، أو التي يسمونها بالمتعة والتي يقارفون باسمها الزنا، لأن متعتهم تعني الاتفاق السري (¬5) . على فعل الفاحشة مع أي امرأة تتفق لهم ولو كانت من المومسات (¬6) ، أو من ذوات ¬
الأزواج (¬1) ، ولذلك قالوا: ممكن أن يتفق معها على يوم أو مرة أو مرتين (¬2) ، وقد صرح بعضهم للشيخ محمد نصيف بأنه يجري عندهم استعمال المتعة الدورية بحيلة وضعها شيوخهم (¬3) . ولذا قال الألوسي: "من نظر إلى أحوال الرافضة في المتعة في هذا الزمان لا يحتاج في حكمه عليهم بالزنا إلى برهان، فإن المرأة الواحدة تزني بعشرين رجلاً في يوم وليلة، وتقول إنها متمتعة، وقد هيئت عندهم أسواق عديدة للمتعة توقف فيها النساء ولهن قوادون يأتون بالرجال إلى النساء وبالنساء إلى الرجال فيختارون ¬
ما يرضون ويعينون أجرة الزنا ويأخذون بأيديهن إلى لعنة الله تعالى وغضبه.." (¬1) . ثم ذكر رحمه الله بعض تفاصيل وحكايات ما يجري هنالك (¬2) . وهذه الفاحشة يدفعون إليها النساء والرجال دفعاً بالتهديد والترغيب فهم يعدونها من أفضل أعمالهم (¬3) . والذي يتنزه عنها فالويل له يوم القيامة (¬4) . كذلك يبيح شيوخهم اللواط بالنساء حتى قال شيخهم الخميني "والأقوى والأظهر جواز وطئ الزوجة مع الدبر" (¬5) . فأين هذا الهبوط من قول ابن نجيم: "استحلال اللواطة بزوجته كفر عند الجمهور" (¬6) . ¬
فهذه الصور بمجموعها لا تبعد عن إباحية الخرمية من أتباع مزدك وبابك، وقد لا تقل عن "إباحية أوربا". وقد استغلوا هذه الفوضى الأخلاقية في إغراء طلاب المتعة الرخيصة في اعتناق مذهبهم كما سلف (¬1) . بل جاء في أخبارهم ما يبيح الزنا الصريح إذا كان بأجرة "عن عبد الرحمن ابن كثير عن أبي عبد الله قال: جاءت امرأة إلى عمر فقالت: إني زنيت فطهرني فأمر بها أن ترجم فأخبر بذلك أمير المؤمنين (ع) فقال: كيف زنيت؟ قالت: مررت بالبادية فأصابني عطش شديد فاستقيت أعرابياً فأبى أن يسقيني إلا أن أمكنه من نفسي، فلما أجهدني العطش وخفت على نفسي سقاني فأمكنته من نفسي فقال أمير المؤمنين: "تزويج وربّ الكعبة" (¬2) . وهم لا يخصون إباحيتهم ببني قومهم، بل يوصي إمامهم بأن يعرض التمتع على نساء أهل السنة (¬3) ، ونساء اليهود والنصارى (¬4) . فإباحيتهم شاملة لا تذر مجتمعاً أتت عليه إلا أفسدته.. فهم "زناة" يعيشون بين المسلمين، ويحملون اسم الإسلام، ويسعون في الأرض فساداً وأقوالهم تشهد على آثارهم. ¬
المجال الاقتصادي
المجال الاقتصادي لقد كان للتشيع أثره في المجال الاقتصادي في حياة المسلمين في صور عديدة، ومن ذلك: قامت الرموز الشيعية في قديم الزمان بأخذ أموال المسلمين بدعوى خادعة ما أنزل الله بها من سلطان وهو حق آل البيت.. حيث توظف هذه الأموال في تحقيق رغباتها وتستغلها للتآمر ضد الأمة والكيد لها. استمع لهذا الإقرار الخطير: قالت كتب الشيعة: "مات أبو الحسن (ع) وليس من قوامه أحد إلا وعنده المال الكثير، فكان ذلك سبب وقوفهم وجحودهم موته، وكان عند زياد القندي سبعون ألف دينار، وعند علي بن أبي حمزة ثلاثون ألف دينار، وكان أحد القوام عثمان بن عيسى وكان يكون بمصر وكان عنده مال كثير وست جواري. قال: فبعث إليه أبو الحسن الرضا عليه السلام فيهن وفي المال. فكتب إليه: أن أباك لم يمت، فكتب إليه: إن أبي قد مات وقد اقتسمنا ميراثه وقد صحت الأخبار بموته. فكتب إليه: إن لم يكن أبوك مات فليس لك من ذلك شيء، وإن كان مات فلم يأمرني بدفع شيء إليك، وقد أعتقت الجواري وتزوجتهن" (¬1) . هذا النص مأخوذ من كتب الاثني عشرية، وندع الجانب الذي وضعوا من أجله النص وهو الاستدلال على بطلان الوقف بما قاله إمامهم الرضا ونأخذ منه ما يكشف لنا عما يدور في الخفاء من التكالب وراء جمع المال، وأن أولئك الذين راحوا يجوبون الأمصار كل يدعو لإمام من الأئمة إنما كان غرضهم الاستئثار بأكبر قدر من المال. ¬
فكانوا يحققون من وراء تلك الدعوات المزعومة للأئمة المال الوفير الذي تتداوله تلك العناصر السرية فيما بينها. والمتأمل للحركات الشيعية الكثيرة التي ظهرت في تاريخ الأمة المسلمة وكانت من أقوى العوامل التي شغلت الأمة عن أعدائها، وصرفت جهودها عن بناء الدولة الإسلامية الكبرى، المتأمل لهذه الحركات وكثرتها وقوتها لا ينبغي أن يفوته أن المادة الممولة لهذه الحركات هي ما أخذ من أولئك الأتباع الأغرار باسم آل البيت وحقهم من الخمس. بل إن الحركات الشيعية في العالم الإسلامي إلى اليوم إنما تمول من هذا المورد، وآيات الشيعة يعتبرون من كبار الرأسماليين في العالم، ومنصب الآية والمرجع منصب تهفو إليه القلوب وتتطلع له الأنظار، لأنه مصب القناطير المقنطرة من الذهب والفضة. وهذا الجانب التمويلي هو الذي غذى ويغذي دور النشر التي تقذف سنوياً بمئات النشرات والكتب والمراجع المليئة بما هو ضد الأمة ودينها. وهذا المال المتدفق على الآيات والمراجع من أولئك الأتباع المخدوعين هو الذي جعل أمر الشيعة يكبر وخطرهم يعظم، وأصبح هؤلاء الآيات أو المراجع يوجهون فتاواهم على رغبات رجل الشارع، بل ويكتمون الحقيقة مجاراة لهم (¬1) . وقد اهتم "شيوخ" التشيع بالقضية المالية التي يسلبونها باسم الخمس وأولوها عناية غير عادية، واعتبروا من يستحل منعهم درهماً منها في عداد الكافرين (¬2) . ¬
والمطالع لكتب الفقه الإسلامي لا يجد فيها كتاباً مستقلاً بعنوان "الخمس" وإنما يلاحظ الحديث عن خمس الغنائم في كتاب الجهاد، وفي كتاب الزكاة يوجد حديث عن خمس الركاز والمعدن. ولكن الأمر مختلف عند هؤلاء، فالخمس له كتاب مستقل، حيث أوجبوا على أتباعهم "فيما يفضل عن مؤنة السنل من أرباح التجارات، ومن سائر التكسبات من الصناعات، والزراعات، والإيجارات، حتى الخياطة، والكتابة، والنجارة، والصيد، وحيازة المباحات، وأجرة العبادات الاستيجارية من الحج والصوم والصلاة - كذا - والزيارات وتعليم الأطفال وغير ذلك من الأعمال التي لها أجرة (¬1) ، وقالوا: بل الأحوط ثبوته في مطلق الفائدة، وإن لم تحصل بالاكتساب كالهبة والهدية، والجائزة، والمال الموصى به ونحوها (¬2) . كما جعلوا الأحوط إخراج خمس رأس المال وكذا في الآلات المحتاج إليها في كسبه مثل: آلات النجارة للنجار، وآلات النساجة للنساج، وآلات الزراعة للزراع، وهكذا فالأحوط خمسها أيضاً أولاً (¬3) . حتى قالوا: "لو زاد ما اشتراه وادخره للمؤنة من مثل الحنطة والشعير ونحوها مما يصرف عينه فيها يجب إخراج خمسه عند تمام الحول.. ولو استغنى عن الفرش والأواني والألبسة والعبد والفرس والكتب وما كان مبناه على بقاء عينه فالأحوط إخراج الخمس.." (¬4) . وهذا المال المتدفق يصرف لمن؟ ¬
قالوا بأنه في زمن الغيبة يدفع للفقيه الشيعي (¬1) . فمخرجو الخمس الآن يعطونه فقهاءهم، فقد قرر شيخوهم أن الخمس يقسم "ستة أسهم: سهم لله، وسهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وسهم للإمام، وهذه الثلاثة الآن لصاحب الزمان" (¬2) . (مهديهم المنتظر) وهو غائب ولن يرجع من غيبته لأنه لم يولد أصلاً. فاستحق نصيبه حينئذ الفقيه الشيعي، حيث قالوا بأن "النصف من الخمس الذي للإمام (ع) أمره في زمان الغيبة راجع إلى نائبه وهو المجتهد الجامع للشرائط" (¬3) . والثلاثة الأسهم الأخرى "للأيتام والمساكين وأبناء السبيل" (¬4) . قالوا: بشرط الإيمان (¬5) . في هؤلاء، أي: بشرط أن يكونوا روافض لأن اسم الإيمان مختص بهم كما يفترون. وهذا النصف الآخر الذي قرروا صرفه لهؤلاء الأصناف الثلاثة قالوا فيه: "الأحوط فيه أيضاً الدفع إلى المجتهد" (¬6) . فأصبحت النتيجة أنه يصرف لشيوخهم الروافض لينفقوا منه على أنفسهم، وعلى الأصناف الثلاثة المذكورة، جاء في كتاب النور الساطع: "أن الفقيه يأخذ نصف الخمس لنفسه، ويقسم النصف الآخر منه على قدر الكفاية، فإن فضل كان له، وإن أعوز أتمه من نصيبه" (¬7) . قال الدكتور علي السالوس: "ومن واقع الجعفرية في هذا الأيام نجد أن من أراد أن يحج يقوم كل ممتلكاته جميعاً ثم يدفع خمس قيمتها إلى الفقهاء الذين أفتوا بوجوب هذا الخمس وعدم قبول حج من لم يدفع، واستحل هؤلاء الفقهاء ¬
أموال الناس بالباطل" (¬1) . قلت: ولعل هذا هو أحد العوامل في حرص حكومة الآيات على زيادة حصتهم من عدد الحجاج في كل عام. هذا الاعتقاد في الخمس هو أثر من آثار عقيدة الإمام عندهم، وأن المال كله للإمام والذي وضعه زنادقة العصور القديمة واستمر العمل به إلى اليوم.. مع أن مسألة الخمس بدعة ابتدعها هؤلاء لم تكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا خلفائه الراشدين حتى أمير المؤمنين علي الذي يدعون التشيع له. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما ما تقوله الرافضة من أن خمس مكاسب المسلمين يؤخذ منهم، ويصرف إلى من يرونه هو نائب الإمام المعصوم أو إلى غيره، فهذا قول لم يقله أحد من الصحابة لا علي ولا غيره، ولا أحد من التابعين لهم بإحسان، ولا أحد من القرابة لا بني هاشم ولا غيرهم. وكل من نقل هذا عن علي أو علماء أهل بيته كالحسن والحسين وعلي بن الحسين وأبي جعفر الباقر وجعفر بن محمد فقد كذب عليهم، فإن هذا خلاف المتواتر من سيرة علي رضي الله عنه، فإنه قد تولى الخلافة أربع سنين وبعض أخرى، ولم يأخذ من المسلمين من أموالهم شيئاً، بل لم يكن في ولايته قط خمس مقسوم. وأما المسلمون فما خمس لا هو ولا غيره أموالهم، وأما الكفار فمتى غنمت منهم أموال خمست بالكتاب والسنة، ولكن في عهده لم يتفرغ المسلمون لقتال الكفار بسبب ما وقع بينهم من الفتنة والاختلاف. وكذلك من المعلوم بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخمس أموال المسلمين، ولا طلب أحداً قط من المسلمين بخمس ماله.." (¬2) . ¬
وهذه الأموال التي يأخذها شيوخ الشيعة باسم فريضة إسلامية وحق من حقوق آل البيت، وهي تتدفق اليوم عليهم كالسيل من كل قطر، هي من أكبر العوامل على بقاء خرافة الاثني عشرية إلى اليوم، وإليها يعزى هذا النشاط في حماس شيوخهم في الدفاع عن مذهبهم، لأنهم يرون فيمن يمس مذهبهم، أنه يحاول قطع هذه الأموال التي تجري عليهم. ولهذا قال د. علي السالوس: "وأعتقد أنه لولا هذه الأموال لما ظل الخلاف قائماً بين الجعفرية وسائر الأمة الإسلامية إلى هذا الحد، فكثير من فقهائهم يحرصون على إذكاء هذا الخلاف حرصهم على هذه الأموال" (¬1) . ومن آثارهم الظاهرة أيضاً: أنهم في البلدان التي يتواجدون فيها يحاولون السيطرة على معظم الأعمال التجارية والشركات ومواد التموين، حتى يتحكموا بأقوات الناس وضرورياتهم، والواقع أكبر شاهد (¬2) . هذا ومن الصور الأخرى الظاهرة في تأثير الشيعة على اقتصاد الأمة أن تلك الزمر الشيعية كانت تشكل خلايا مخربة لاقتصاد الدولة الإسلامية وشعوبها، ذلك أن مال المسلمين عندهم لا حرمة له، يجوز أخذه ولا شبهة في ذلك. بل إن أحاديثهم تأمرهم بذلك كما جاء في أخبارهم "خذ مال الناصب حيثما وجدته وادفع إلينا الخمس" (¬3) . وقال أبو عبد الله - كما يفترون -: "مال الناصب وكل شيء يملكه حلال" (¬4) . ¬
وشيوخهم توسعوا في معنى "الناصبي" ليشمل ما عدا الجعفرية (¬1) . وجاء في كتب الفقه عندهم "إذا أغار المسلمون على الكفار فأخذوا أموالهم فالأحوط بل الأقوى إخراج خمسها من حيث كونها غنيمة ولو في زمن الغيبة وكذا إذا أخذوا بالسرقة والغيلة" (¬2) ، و"لو أخذوا منهم بالربا أو بالدعوى بالباطلة فالأقوى إلحاقه بالفوائد المكتسبة فيعتبر فيه الزيادة من مؤنة السنة وإن كان الأحوط إخراج خمسه مطلقاً" (¬3) . وقد مر بنا مفهوم الكافر عند الاثني عشرية وأنه يشمل معظم المسلمين، بل جميعهم ما عدا طائفتهم (¬4) ، وهذا يعني أنهم يبيحون الاستيلاء على أموال المسلمين بالإغارة، والسرقة، والغيلة، ويستحلون أخذ أموالهم عن طريق الربا والدعاوى الباطلة، وهذا تترجمه الأحداث التاريخية التي جرت منهم.. كما يصدقه واقع دولة الآيات اليوم في "اللصوصية" التي يمارسونها في الخليج وتهديدهم لحرية الملاحة فيه، واستيلائهم على بعض البواخر المارة بمياه الخليج.. واعتبارها غنائم وهي ملك للمسلمين. هذه آثارهم وسلبياتهم فهل لهم شيء من الإيجابيات في تاريخ هذه الأمة؟ إن الإجابة العليمة الدقيقة تقتضي تقصي أحوالهم، ودراسة سيرهم، ومعرفة تفاصيل تاريخهم.. وقد كفانا علماء الإسلام مؤنة ذلك، فشهدوا بأنه "لا يوجد في أئمة الفقه الذين يرجع إليهم رافضي، ولا في الملوك الذين نصروا الإسلام ¬
وأقاموه وجاهدوا عدوه من هو رافضي، ولا في الوزراء الذين لهم سيرة محمودة من هو رافضي، وأكثر ما نجد الرافضي إما في الزنادقة المنافقين الملحدين، وإما في جهال ليس لهم علم بالمنقولات ولا بالمعقولات، قد نشأوا بالبوادي والجبال، وتحيزوا عن المسلمين فلم يجالسوا أهل العمل والدين، وإما في ذوي الأهواء ممن قد حصل له بذلك رياسة ومال، أو له نسب يتعصب له كفعل أهل الجاهلية، وأما من هو عند المسلمين من أهل العلم والدين فليس في هؤلاء رافضي" (¬1) . ولكن لهم مصنفات في التفسير والحديث والفقه، إلا يعتبر ذلك منهم إضافة أثر حميد للفكر الإسلامي؟ وأقول: إن المتأمل لهذه المدونات يرى أن الصالح في هذه المصنفات هو مما أخذوه عن أهل السنة "فمن صنف منهم في تفسير القرآن فمن تفاسير أهل السنة يأخذ" (¬2) . وإذا نقل من قومه أتى بظلمات بعضها فوق بعض كما في تفسير القمي والبرهان وغيرهما. "وأما في الحديث فهم من أبعد الناس عن معرفته لا إسناده ولا متنه.. وأي كتاب وجدوا فيه ما يوافق هواهم نقلوه من غير معرفة بالحديث" (¬3) . وأما في الفقه فهم من أبعد الناس عن الفقه، وما في كتبهم من "إفادة" فهي ليس من شيوخهم؛ إذ هم عيال على أهل السنة في هذا الجانب، وقد كشف شيخ الإسلام - رحمه الله - كيف يسرقون "المادة العلمية" من فقهاء المسلمين فقال: "وإذا صنف واحد منهم كتاباً في الخلاف وأصول الفقه كالموسوي وغيره؛ فإذا كانت المسألة فيها نزاع بين العلماء أخذوا حجة من يوافقهم، واحتجوا مما احتج به أولئك، وأجابوا عما يعارضهم بما يجيب به أولئك، فيظن الجاهل أن هذا قد صنف كتاباً عظيماً في الخلاف والفقه والأصول، ولا يدري الجاهل أن عامته استعارة من كلام علماء أهل السنة الذين يكفرونهم ويعادونهم، وما انفردوا به فلا يساوي مداده، فإن المداد ينفع ولا يضر، وهذا يضر ولا ينفع" (¬4) . ¬
الفصل الثاني: الحكم عليهم
الفصل الثاني: الحكم عليهم ويشتمل على: المبحث الأول: حكم بعض أهل العلم عليهم بأنهم مبتدعة لا كفار. المبحث الثاني: القول بتكفيرهم.
المبحث الأول: الحكم عليهم بأنهم مبتدعة وليسوا بكفرة
المبحث الأول: الحكم عليهم بأنهم مبتدعة وليسوا بكفرة قال الإمام النووي (¬1) : "إن المذهب الصحيح المختار الذي قاله الأكثرون والمحققون أن الخوارج لا يكفرون كسائر أهل البدع" (¬2) . وقد فهم الشيخ ملا علي القاري (¬3) . من هذا النص أن النووي لا يرى تكفير الروافض لدخولهم في "أهل البدع" ولكنه أشار إلى أن الرافضة يتطور مذهبها ويتغير، وأن متأخري الرافضة ليسوا كسابقيهم، وأن رافضة زمانه غير الرافضة الذين تحدث عنهم النووي وغيره من أهل العلم. فعقب على كلام النووي هذا وقال: "قلت: وهذا في غير حق الرافضة الخارجة في زماننا فإنهم يعتقدون كفر أكثر الصحابة فضلاً عن سائر أهل السنة والجماعة، فهم كفرة بالإجماع بلا نزاع" (¬4) . وأقول: إن الدليل على أن الإمامية في عصر النووي لا يكفرون الصحابة، أو أن الإمام - رحمه الله - لم يعرف ذلك عنهم وهذا الأقرب لوجود روايات تكفر الصحابة في أصول الرافضة الموضوعة من قِبَل النووي، الدليل على ذلك أن النووي يذكر في شرح مسلم أن الإمامية لا يكفرون الصحابة، ويرى أن التكفير إنما هو عند غلاة الشيعة (¬5) . ¬
المبحث الثاني: القول بكفرهم
المبحث الثاني: القول بكفرهم وقد ذهب إلى هذا كبار أئمة الإسلام كالإمام مالك، وأحمد، والبخاري، وغيرهم. وفيما يلي نصوص فتاوى أئمة الإسلام وعلمائه في الروافض المسمون بالاثني عشرية والجعفرية (¬1) . وفي مقالاتهم التي اشتهروا بها، وثبتت في مدوناتهم الأساسية. وأبدأ بذكر فتوى الإمام مالك، ثم الإمام أحمد، ثم الإمام البخاري، ثم أذكر بعد ذلك فتاوى الأئمة الباقين حسب تاريخ وفياتهم.. وقد اخترت فتاوى الأئمة الكبار، أو من عاش مع الروافض في بلد واحد، أو كتب عنهم ودرس مذهبهم من علماء المسلمين. الإمام مالك: روى الخلال عن أبي بكر المروذي قال: سمعت أبا عبد الله يقول: قال الإمام مالك: الذي يشتم (¬2) . أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ليس لهم اسم - أو قال -: نصيب في الإسلام (¬3) . وقال ابن كثير - عند قوله سبحانه -: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ¬
سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ..} (¬1) قال: "ومن هذه الآية انتزع الإمام مالك رحمة الله عليه وفي رواية عنه بتكفير الروافض الذي يبغضون الصحابة رضي الله عنهم، قال: لأنهم يغيظونهم ومن غاظ الصحابة رضي الله عنهم فهو كافر لهذه الآية، ووافقه طائفة من العلماء رضي الله عنهم على ذلك" (¬2) . قال القرطبي: "لقد أحسن مالك في مقالته وأصاب في تأويله، فمنت نقص واحداً منهم، أو طعن عليه في روايته (¬3) . فقد ردّ على الله رب العالمين، وأبطل شرائع المسلمين" (¬4) . الإمام أحمد: رويت عنه روايات عديدة في تكفيرهم.. روى الخلال عن أبي بكر المروذي قال: سألت أبا عبد الله عمن يشتم أبا بكر وعمر وعائشة؟ قال: ما أراه على الإسلام (¬5) . وقال الخلال: أخبرني عبد الملك بن عبد الحميد قال: سمعت أبا عبد الله قال: من شتم أخاف عليه الكفر مثل الروافض، ثم قال: من شتم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نأمن أن يكون قد مرق عن الدين (¬6) . ¬
وقال: أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: سألت أبي عن رجل شتم رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما أراه على الإسلام (¬1) . وجاء في كتاب السنة للإمام أحمد قوله عن الرافضة: "هم الذين يتبرؤون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ويسبونهم، ويتنقصون ويكفرون الأئمة إلا أربعة: علي، وعمار، والمقداد، وسلمان، وليست الرافضة من الإسلام في شيء" (¬2) . والاثنا عشرية تكفر الصحابة إلا قليلاً لا يتجاوز عدد أصابع اليد وتلعنهم في دعواتها وزياراتها، ومشاهدها، وأمهات كتبها.. وتكفر أتباعهم إلى يوم الدين (¬3) . قال ابن عبد القوي: "وكان الإمام أحمد يكفر من تبرأ منهم (أي الصحابة) ومن سب عائشة أم المؤمنين ورماها مما برّأها الله منه وكان يقرأ: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (¬4) . ولكن ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى أن في تكفير الروافض نزاعاً عن أحمد وغيره (¬5) . وما مضى من نصوص عن الإمام أحمد صريحة في قوله بتكفيرهم، وقد نبه شيخ الإسلام ابن تيمية إلى وجه من لم يكفر الروافض في سبهم للصحابة، وبه يزول التعارض المتوهم في نصوص أحمد.. فقال: "وأما من سبهم سباً لا يقدح في عدالتهم ولا في دينهم مثل وصف بعضهم ¬
بالبخل أو الجبن، أو قلة العلم، أو عدم الزهد ونحو ذلك فهذا هو الذي يستحق التأديب والتعزير، ولا نحكم بكفره بمجرد ذلك، وعلى هذا يحمل كلام من لم يكفرهم من أهل العلم" (¬1) . يعني: فمن سبهم سباً يقدح في عدالتهم ودينهم فيحكم بكفره عند أهل العلم. فكيف الحال إذن بمن يحكم بردتهم؟ البخاري (ت256هـ) : قال - رحمه الله -: ما أبالي صليت خلف الجهمي والرافض، أم صليت خلف اليهود والنصارى، ولا يسلم عليهم ولا يعادون ولا يناكحون ولا يشهدون ولا تؤكل ذبائحهم (¬2) . عبد الله بن إدريس (¬3) : قال: "ليس لرافضي شفعة إلا لمسلم" (¬4) . ¬
عبد الرحمن بن مهدي (¬1) : قال البخاري: قال عبد الرحمن بن مهدي: هما ملتان: الجهمية والرافضية (¬2) . الفريابي (¬3) : روى الخلال، قال: أخبرني حرب بن إسماعيل الكرماني، قال: حدثنا موسى بن هارون بن زياد قال: سمعت الفرياني ورجل يسأله عمن شتم أبا بكر: قال: كافر، قال: فيصلي عليه؟ قال: لا، وسألته كيف يصنع به وهو يقول: لا إله إلا الله؟ قال: لا تمسوه بأيديكم ارفعوه بالخشب حتى تواروه في حفرته (¬4) . أحمد بن يونس (¬5) . قال: لو أن يهودياً ذبح شاة، وذبح رافضي لأكلت ذبيحة اليهودي، ولم ¬
آكل ذبيحة الرافضي؛ لأنه مرتد عن الإسلام (¬1) . أبو زرعة الرازي (¬2) : قال: إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق، لأن مؤدى قوله إلى إبطال القرآن والسنة (¬3) . ابن قتيبة (¬4) : قال: بأن غلو الرافضة في حب علي المتمثل في تقديمه على من قدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته عليه، وادعائهم له شركة النبي صلى الله عليه وسلم في نبوته، وعلم الغيب للأئمة من ولده وتلك الأقاويل والأمور السرية قد جمعت إلى الكذب والكفر إفراط الجهل والغباوة (¬5) . عبد القادر البغدادي (¬6) : يقول: "وأما أهل الأهواء الجارودية الهاشمية والجهمية، والإمامية الذين ¬
أكفروا خيار الصحابة.. فإنا نكفرهم، ولا تجوز الصلاة عليهم عندنا ولا الصلاة خلفهم" (¬1) . وقال: "وتكفير هؤلاء واجب في إجازتهم على الله البداء، وقولهم بأنه قد يريد شيئاً ثم يبدو له، وقد زعموا أنه إذا أمر بشيء ثم نسخه، فإنما نسخه لأنه بدا له فيه.. وما رأينا ولا سمعنا بنوع من الكفر إلا وجدنا شعبة منه في مذهب الراوافض.." (¬2) . القاضي أبو يعلى (¬3) : قال: وأما الرافضة فالحكم فيهم.. إنْ كفر الصحابة، أو فسهم بمعنى يستوجب به النار فهو كافر (¬4) . والروافض كما تبين بعد انتشار أصولهم يكفرون أكثر الصحابة. ابن حزم: قال: وأما قولهم (يعني النصارى) في دعوى الروافض تبديل القرآن فإن الروافض ليسوا من المسلمين (¬5) ، إنما هي فرقة حدث أولها بعد موت رسول الله ¬
صلى الله عليه وسلم بخمس وعشرين سنة. وهي طائفة تجري مجرى اليهود والنصارى في الكذب والكفر (¬1) . وقال: "ومن قول الإمامية قديماً وحديثاً أن القرآن مبدل.." (¬2) . ثم قال: القول بأن بين اللوحين تبديلاً كفر صريح وتكذيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم" (¬3) . وقال: "ولا خلاف بين أحد من الفرق المنتمية إلى المسلمين من أهل السنة، والمعتزلة والخوارج، والمرجئة والزيدية في وجوب الأخذ بما في القرآن وأنه المتلو عندنا.. وإنما خالف في ذلك قوم من غلاة الروافض وهم كفار بذلك مشركون عند جميع أهل الإسلام وليس كلامنا مع هؤلاء، وإنما كلامنا مع أهل ملتنا" (¬4) . وقال: "واعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكتم من الشريعة كلمة فما فوقها، ولا أطلع أخص الناس به من ابنة أو ابن عم أو زوجة أو صاحب على شيء من الشريعة كتمه عن الأحمر والأسود ورعاة الغنم، ولا كان عنده عليه السلام سر ولا رمز ولا باطن غير ما دعا الناس كلهم إليه، فلو كتمهم شيئاً لما بلغ كما أمر، ومن قال هذا فهو كافر.." (¬5) . الإسفراييني (¬6) : نقل جملة من عقائدهم كتكفير الصحابة، وقولهم: إن القرآن قد غيّر عما ¬
كان، ووقع فيها الزيادة والنقصان، وانتظارهم لمهدي يخرج إليهم ويعلمهم الشريعة.. وقال: بأن جميع الفرق الإمامية التي ذكرناها متفقون على هذا، ثم حكم عليهم بقوله: "وليسوا في الحال على شيء من الدين، ولا مزيد على هذا النوع من الكفر إذ لا بقاء فيه على شيء من الدين" (¬1) . أبو حامد الغزالي (¬2) : قال: "ولأجل قصور فهم الروافض (¬3) . عنه ارتكبوا البداء، ونقلوا عن علي رضي الله عنه أنه كان لا يخبر عن الغيب مخافة أن يبدو له تعالى فيه فيغيره (¬4) ، وحكوا عن جعفر بن محمد أنه قال: ما بدا لله في شيء كما بدا له في إسماعيل ¬
أي في أمره بذبحه (¬1) . وهذا هو الكفر الصريح، ونسبة الإله تعالى إلى الجهل والتغير، ويدل على استحالته ما دل على أنه محيط بكل شيء علماً" (¬2) . ويقول الغزالي: فلو صرح مصرح بكفر أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - فقد خالف الإجماع وخرقه، ورد ما جاء في حقهم من الوعد بالجنة والثناء عليهم والحكم بصحة دينهم وثبات يقينهم وتقدمهم على سائر الخلق في أخبار كثيرة.. ثم قال: "فقائل ذلك إن بلغته الأخبار واعتقد مع ذلك كفرهم فهو كافر.. بتكذيبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن كذبه بكلمة من أقاويله فهو كافر بالإجماع" (¬3) . القاضي عياض (¬4) : قال رحمه الله: "نقطع بتكفير غلاة الرافضة في قولهم إن الأئمة أفضل من الأنبياء" (¬5) . ¬
وكذلك يحكم بكفر من قال: بمشاركة علي في الرسالة للنبي صلى الله عليه وسلم وبعده، وأن كل إمام يقول مقام النبي صلى الله عليه وسلم في النبوة والحجة، وأشار بأن هذا مذهب أكثر الرافضة (¬1) . وكذلك من ادعى منهم أنه يوحى إليه وإن لم يدع النبوة (¬2) . وقال: وكذلك نكفر "من أنكر القرآن أو حرفاً منه، أو غير شيئاً منه، أو زاد فيه كفعل الباطنية أو الإسماعيلية" (¬3) . السمعاني (¬4) . (ت562هـ) : قال رحمه الله: "واجتمعت الأمة على تكفير الإمامية، لأنهم يعتقدون تضليل الصحابة، وينكرون إجماعهم وينسبون إلى ما يليق بهم" (¬5) . (¬6) . ¬
الرازي (¬1) : يذكر الرازي أن أصحابه من الأشاعرة يكفرون الروافض من ثلاثة وجوه: أولها: أنهم كفروا سادات المسلمين، وكل من كفر مسلماً فهو كافر لقوله عليه السلام: "من قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما" (¬2) . فإذن يجب تكفيرهم. وثانيها: أنهم كفروا قوماً نص الرسول عليه السلام بالثناء عليهم وتعظيم شأنهم، فيكون تكفيرهم تكذيباً للرسول عليه السلام. وثالثها: إجماع الأمة على تكفير من كفر سادات الصحابة (¬3) . ابن تيمية: قال رحمه الله: من زعم أن القرآن نقص منه آيات وكتمت، أو زعم أن له تأويلات باطنة تسقط الأعمال المشروعة، فلا خلاف في كفرهم. ومن زعم أن الصحابة ارتدوا بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام إلا نفراً قليلاً لا يبلغون بضعة عشر نفساً، أو إنهم فسقوا عامتهم، فهذا لا ريب أيضاً في كفره؛ لأنه مكذب لما نصه القرآن في غير موضع من الرضى عنهم والثناء عليهم. بل من يشكك في كفر مثل هذا؟ فإن كفره متعين، فإن مضمون هذه المقالة أن نقلة الكتاب والسنة كفار أو فساق، وأن هذه الآية التي هي: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (¬4) وخيرها هو القرن الأول، كان عامتهم كفاراً، أو ¬
فساقاً، ومضمونها أن هذه الأمة شر الأمم، وأن سابقي هذه الأمة هم شرارها وكفر هذه مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام (¬1) . وقال شيخ الإسلام: "إنهم شر من عامة أهل الأهواء، وأحق بالقتال من الخوارج" (¬2) . وأنهم كفروا بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم بما لا يحصيه إلا الله، فتارة يكذبون بالنصوص الثابتة عنه، وتارة يكذبون بمعاني التنزيل. فإن الله قد ذكر في كتابه من الثناء على الصحابة، والرضوان عليهم والاستغفار لهم ما هم كافرون بحقيقته، وذكر في كتابه من الأمر بالجمعة والأمر بالجهاد وبطاعة أولي الأمر ما هم خارجون عنه. وذكر في كتابه من موالاة المؤمنين وموادتهم والإصلاح بينهم ما هم عنه خارجون. وذكر في كتابه من النهي عن موالاة الكفار وموادتهم ما هو خارجون عنه. وذكر في كتابه من تحريم دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم وتحريم الغيبة والهمز واللمز ما هو أعظم الناس استحلالاً له. وذكر في كتابه من الأمر بالجماعة والائتلاف، والنهي عن الفرقة والاختلاف ما هم أبعد الناس عنه. وذكر في كتابه من طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحبته واتباع حكمه ما هم خارجون عنه وذكر في كتابه من حقوق أزواجه ما هم براء منه. ¬
وذكر في كتابه من توحيده وإخلاص الملك له وعبادته وحده لا شريك له ما هم خارجون عنه، فإنهم مشركون لأنهم أشد الناس تعظيماً للمقابر التي اتخذت أوثاناً من دون الله. وقد ذكر في كتابه من أسمائه وصفاته ما هم كافرون به. وذكر في كتابه أنه على كل شيء قدير وأنه خالق كل شيء وأنه ما شاء الله لا قوة إلا بالله ما هم كافرون به. ثم قال شيخ الإسلام: ومن اعتقد من المنتسبين إلى العلم أو غيره أن قتال هؤلاء بمنزلة قتال البغاة الخارجين عن الإمام بتأويل سائغ.. فهو غالط جاهل بحقيقة شريعة الإسلام.. لأن هؤلاء خارجون عن نفس شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته شراً من خروج الحرورية، وليس لهم تأويل سائغ (¬1) ، فإن التأويل السائغ هو الجائز الذي يقر صاحبه عليه إذا لم يكن فيه جواب كتأويل العلماء المتنازعين في موارد الاجتهاد. وهؤلاء ليس لهم ذلك بالكتاب والسنة والإجماع، ولكن لهم تأويل من جنس تأويل اليهود والنصارى، وتأويلهم شر تأويلات أهل الأهواء (¬2) . ولكن شيخ الإسلام وهو يكفر أصحاب هذه المقالات، إلا أن تكفيره للمعين مشروط عنده بقيام الحجة وبلوغ الرسالة، ولذلك أفتى في الرافضة الذين تم القبض عليهم بالفتوى التالية: ¬
فتوى شيخ الإسلام في الرافضة بعد الاستيلاء عليهم
فتوى شيخ الإسلام في الرافضة بعد الاستيلاء عليهم: يقول - رحمه الله -: "وقد علم أنه كان بساحل الشام جبل كبير فيه ألوف من الرافضة يسفكون دماء الناس ويأخذون أموالهم، وقتلوا خلقاً عظيماً، وأخذوا أموالهم، ولما انكسر المسلمون سنة غازان (¬1) . أخذوا الخيل والسلاح والأسارى وباعوهم للكفار والنصارى بقبرص، وأخذوا من مر بهم من الجند وكانوا أضرّ على المسلمين من جميع الأعداء، وحمل بعضهم أمرائهم راية النصارى، وقالوا له: أيما خير المسلمون أو النصارى؟ فقال: بل النصارى، فقالوا له: مع من تحشر يوم القيامة؟ فقال: مع النصارى، وسلموا إليهم بعض بلاد المسلمين. ومع هذا فلما استشار أهل ولاة الأمر في غزوهم وكتبت جواباً مبسوطاً في غزوهم (¬2) . وذهبنا إلى ناحيتهم، وحضر عندي جماعة منهم وجري بيني وبينهم مناظرات ومفاوضات يطول وصفها، فلما فتح المسلمون بلدهم، وتمكن المسلمون منهم نهيتهم عن قلتهم، وعن سبيهم، وأنزلناهم في بلاد المسلمين متفرقين لئلا يجتمعوا" (¬3) . وهذه الفتوى من إمام أهل السنة في وقته تبين أن أهل السنة يتبعون الحق من ربهم الذي جاء به الرسول، ولا يكفرون كل من خالفهم فيه؛ بل هم أعلم بالحق وأرحم بالخلق بخلاف أهل الأهواء الذين يبتدعون رأياً ويكفرون من خالفهم فيه (¬4) . ¬
ابن كثير (¬1) : ساق ابن كثير بعض الأحاديث الثابتة في السنة، والمتضمنة نفي دعوى النص والوصية التي تدعيها الرافضة لعلي، ثم عقب عليها بقوله: "ولو كان الأمر كما زعموا لما رد ذلك أحد من الصحابة فإنهم كانوا أطوع لله ولرسوله في حياته وبعد وفاته، من أن يفتاتوا عليه فيقدموا غير من قدمه، ويؤخروا من قدمه بنصه، حاشا وكلا، ومن ظن بالصحابة رضوان الله عليهم ذلك فقد نسبهم بأجمعهم إلى الفجور، والتواطؤ على معاندة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومضادتهم في حكمه ونصه، ومن وصل من الناس إلى هذا المقام فقد خلع ربقة الإسلام، وكفر بإجماع الأئمة الأعلام، وكان إراقة دمه أحل من إراقة المدام" (¬2) . ومن الثابت عن الرافضة - كما مر - أنها تدعي أن الرسول صلى الله عليه وسلم نص على علي، وأن الصحابة ردوا النص، وارتدوا بسبب ذلك، وهذا ما يقوله المعاصرون وأسلافهم من الروافض (¬3) . أبو حامد محمد المقدسي (¬4) : قال - بعد حديثه عن فرق الشيعة وعقائدهم -: "لا يخفى على كل ذي بصيرة وفهم من المسلمين أن أكثر ما قدمناه في الباب قبله من عقائد هذه الطائفة الرافضة على اختلاف أصنافها كفر صريح، وعناد، مع جهل قبيح لا يتوقف الواقف ¬
عليه من تكفيرهم والحكم عليهم بالمروق من دين الإسلام" (¬1) . أبو المحاسن يوسف الواسطي (¬2) : وقد ذكر جملة من مكفراتهم، فمنها قوله: "إنهم يكفرون بتكفيرهم لصحابة سول الله صلى الله عليه وسلم الثابت تعديلهم وتزكيتهم في القرآن بقوله تعالى: {لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} (¬3) وبشهادة الله تعالى لهم أنهم لا يكفرون بقوله تعالى: {فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ} (¬4) . ويكفرون باستغنائهم عن حج بيت الله الحرام بزيارة قبر الحسين لزعمهم أنها تغفر الذنوب وتسميتهم لها بالحج الأكبر، ومن ذلك أنهم يكفرون بترك جهاد الكفار والغزو لهم الذي يزعمون أنه لا يجوز إلا مع الإمام المعصوم وهو غائب" (¬5) . "وأنهم يكفرون بإعابتهم السنن المتواتر فعلها عن النبي صلى الله عليه وسلم من الجماعة والضحى والوتر والرواتب قبل المكتوبات من الصلوات الخمس وبعدها، وغير ذلك من السنن المؤكدات" (¬6) . علي بن سلطان بن محمد القاري (¬7) : قال: "وأما من سب أحداً من الصحابة فهو فاسق ومبتدع بالإجماع إلا إذا ¬
اعتقد أنه مباح كما عليه بعض الشيعة وأصحابهم، أو يترتب عليه ثواب كما هو دأب كلامهم أو اعتقد كفر الصحابة وأهل السنة فإنه كافر بالإجماع" (¬1) . ثم ساق مجموعة من الأدلة من الكتاب والسنة تتضمن الثناء على الصحابة رضوان الله عليهم، واستنبط منها كفر الرافضة في مذهبها في الصحابة" (¬2) . ثم ذكر بأن من مكفرات الرافضة ما يدعونه في كتاب الله من نقص وتغيير، وعرض بعض أقوالهم في ذلك (¬3) . محمد بن عبد الوهاب (¬4) : حكم الإمام محمد بن عبد الوهاب على جملة من عقائد الاثني عشرية بأنها كفر، ومن ذلك قال - رحمه الله - بعد أن عرض عقيدة الاثني عشرية في سب الصحابة ولعنهم، وما قاله الله ورسوله في الثناء عليهم - قال: "فإذا عرفت أن آيات القرآن تكاثرت في فضلهم، والأحاديث المتواترة ¬
بمجموعها ناصة على كمالهم؛ فمن اعتقد فسقهم أو فسق مجموعهم، وارتدادهم وارتداد معظمهم عن الدين، أو اعتقد حقية سبهم وإباحته، أو سبهم مع اعتقاد حقية سبهم، أو حليته فقد كفر بالله تعالى ورسوله ... والجهل بالتواتر القاطع ليس بعذر، وتأويله وصرفه من غير دليل معتبر غير مفيد، كمن أنكر فرضية الصلوات الخمس جهلاً لفرضيتها، فإنه بهذا الجهل يصير كافراً، وكذا لو أولها على غير المعنى الذي نعرفه فقد كفر، لأن العلم الحاصل من نصوص القرآن والأحاديث الدالة على فضلهم قطعي. ومن خص بعضهم بالسب فإن كان ممن تواتر النقل في فضله وكماله كالخلفاء فإن اعتقد حقية سبه أو إباحته فقد كفر لتكذيبه ما ثبت قطعياً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومكذبه كافر، وإن سبه من غير اعتقاد حقية سبه أو إباحته فقد تفسق؛ لأن سباب المسلم فسوق، وقد حكم بعض فيمن سب الشيخين بالكفر مطلقاً. وإن كان ممن لم يتواتر النقل في فضله وكماله، فالظاهر أن سابه فاسق إلا أن يسبه من حيث صحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك كفر. وغالب هؤلاء الرافضة الذين يسبون الصحابة يعتقدون حقية سبهم أو إباحته بل وجوبه، لأنهم يتقربون بذلك إلى الله تعالى ويرون ذلك من أجل أمور دينهم" (¬1) . (¬2) . ثم قال - رحمه الله -: "وما صح عن العلماء من أنه لا يكفر أهل القبلة فمحمول على من لم يكن بدعته مكفرة.. ولا شك أن تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم ¬
فيما ثبت عنه قطعاً كفر، والجهل في مثل ذلك ليس بعذر" (¬1) . وقال - رحمه الله - بعد عرض ما جاء في كتبهم من دعواهم نقص القرآن وتغييره: "يلزم من هذا تكفير الصحابة حتى علي، حيث رضوا بذلك ... وتكذيب قوله تعالى: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (¬2) وقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (¬3) . ومن اعتقد عدم صحة حفظه من الإسقاط، واعتقد ما ليس منه أنه فقد كفر" (¬4) . وقال الشيخ - رحمه الله - فيمن اتخذ بينه وبين الله وسائط ... كحال الرافضة في أئمتها: "ومن جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم الشفاعة، ويتوكل عليهم كفر إجماعاً" (¬5) . وكذلك قال بأن من فضل الأئمة على الأنبياء كفر بالإجماع كما نقله غير واحد من أهل العلم (¬6) . شاه عبد العزيز الدهلوي (¬7) : قال - بعد دراسة مستفيضة لمذهب الاثني عشرية من خلال مصادرهم المعتمدة قال: "ومن استكشف عقائدهم الخبيثة وما انطووا عليه؛ علم أن ليس ¬
لهم في الإسلام نصيب وتحقق كفرهم لديه" (¬1) . محمد بن علي الشوكاني (¬2) : قال: إن أصل دعوة الروافض كياد الدين، ومخالفة شريعة المسلمين. والعجب كل العجب من علماء الإسلام، وسلاطين الدين، كيف تركوهم على هذا المنكر البالغ في القبح إلى غايته ونهايته، فإن هؤلاء المخذولين لما أرادوا رد هذه الشريعة المطهرة ومخالفتها طعنوا في أعراض الحاملين لها، الذين لا طريق لنا إليها إلا من طريقهم، واستزلوا أهل العقول الضعيفة بهذه الذريعة الملعونة، والوسيلة الشيطانية، فهم يظهرون السب واللعن لخير الخليقة، ويضمرون العناد للشريعة، ورفع أحكامها عن العباد. وليس في الكبائر أشنع من هذه الوسيلة إلا ما توسلوا بها إليه، فإنه أقبح منها، لأنه عناد لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولشريعته. فكان حاصل ما هم فيه من ذلك أربع كبائر كل واحدة منها كفر بواح: الأولى: العناد لله عز وجل. والثانية: العناد لرسول صلى الله عليه وسلم. والثالثة: العناد لشريعتهم المطهرة ومحاولة إبطالها. والرابعة: تكفير الصحابة رضي الله عنهم، الموصوفين في كتاب الله سبحانه بأنهم أشداء على الكفار، وأن الله تعالى يغيظ بهم الكفار، وأنه قد رضي عنهم، مع أنه قد ثبت في هذه الشريعة المطهرة أن من كفر مسلماً كفر كما في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قال الرجل لأخيه: ¬
يا كافر، فقد باء بهما أحدهما، فإن كان كما قال وإلا رجعت عليه" (¬1) . وبهذا يتبين أن كل رافضي خبيث يصير كافراً بتكفيره لصحابي واحد، فكيف بمن كفر كل الصحابة، واستثنى أفراداً يسيرة تغطية لما هو فيه من الضلال على الطغام الذين لا يعلقون الحجج؟! (¬2) . شيوخ وعلماء الدولة العثمانية: نقل زين العابدين بن يوسف الأسكوبي في رسالة كتبها أيام السلطان العثماني محمد خان بن السلطان إبراهيم خان أن علماء الدولة المتأخرين جميعاً أفتوا بكفرهم (¬3) . علماء ما وراء النهر (¬4) : قال الألوسي - صاحب التفسير -: "ذهب معظم علماء ما وراء النهر إلى كفر الاثني عشرية وحكموا بإباحة دمائهم وأموالهم وفروج نسائهم، حيث إنهم يسبون الصحابة رضي الله عنهم لا سيما الشيخين وهما السمع والبصر منه عليه الصلاة والسلام، وينكرون خلافة الصديق، ويقذفون عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها مما برأها الله تعالى منه، ويفضلون بأسرهم علياً كرم الله وجه.. على غير ¬
أولي العزم من المرسلين، ومنهم من يفضله عليه أيضاً.. ويجحدون سلامة القرآن العظيم من الزيادة والنقص" (¬1) . هذه بعض فتاوى أئمة المسلمين وعلمائهم في هذه المسألة. وأكتفي بهذا القدر، وفي الكتب الفقهية أقوال كثيرة في تكفيرهم، يمكن الرجوع إليها بيسر ولذا لا داعي لذكرها (¬2) . ويلاحظ هنا عدة أمور: أولاً: إن هذا حكمهم - رحمة الله عليهم - قبل انتشار كتب الروافض، ومجاهرتهم بعقائدهم بمثل ما هو واقع اليوم.. ولهذا تضمنت صفحات هذا البحث عقائد للاثني عشرية كان ينسبها علماء الإسلام للقرامطة الباطنية كمسألة نقص القرآن وتحريفه، والذي استفاض أمرها في كتبهم، وكذلك جملة مما جاء في اعتقادهم في أصول الدين، وهناك عقائد لم تكن معروفة كعقيدة الطينة ونحوها.. ومعنى هذا أن حكمهم اليوم عليهم أشد. ¬
ثانياً: أن الرافضة المتأخرين والمعاصرين جمعوا أخس المذاهب وأخطرها.. جمعوا مقالة القدرية في نفي القدر، والجهمية في نفي الصفات، وقولهم إن القرآن مخلوق، والصوفية - عند جملة من رؤساء مذهبهم - في ضلالة الوحدة والاتحاد، والسبيئة في تأليه علي، والخوارج والوعيدية في تكفير المسلمين، والمرجئة في قولهم: إن حب علي حسنة لا يضر معها سيئة.. بل ساروا في سبيل أهل الشرك في تعظيم القبور، والطواف حولها، بل ويصلون إليها مستدبرين القبلة، إلى غير ذلك مما هو عين مذهب المشركين (¬1) . فهل يبقى بعد ذلك شك في أن هذه الطائفة ارتضت لنفسها مذهباً غير مذهب المسلمين؟! فهم إن شهدوا الشهادتين إلا أنهم نقضوا بنواقض كثيرة كما ترى. لكن مما يجب مراعاته حسب منهج أهل السنة في التكفير "أن هذه الأقوال التي يقولونها والتي يعلم أنها مخالفة لما جاء الرسول صلى الله عليه وسلم هي كفر، وكذلك أفعالهم التي هي من جنس أفعال الكفار بالمسلمين هي أيضاً كفر.. لكن تكفير الواحد المعين من أهل القبلة والحكم بتخليده في النار موقوف على ثبوت شروط التكفير، وانتفاء موانعه؛ فإنا نطلق القول بنصوص الوعد والوعيد والتكفير والتفسيق ولا يحكم للمعين بدخوله في ذلك العام حتى يقوم فيه المقتضي الذي لا معارض له، ولهذا لا يكفر العلماء من استحل شيئاً من المحرمات لقرب عهده بالإسلام أو لنشأته ببادية بعيدة، فإن حكم الكفر لا يكون إلا بعد بلوغ الرسالة، ومن هؤلاء من لا يكون بلغته النصوص المخالفة لما يراه، ولا يعلم أن الرسول بعث بذلك، فيطلق أن هذا القول كفر، ويكفر من قامت عليه الحجة التي يكفر تاركها دون غيره" (¬2) . ¬
الخاتمة
الخاتمة الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على من ختم الله به النبوات، وعلى آله وصحبه الذين كان ولاؤهم وتشيعهم لمحمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وللحق الذي جاء به، وكانوا بنعمة الله إخواناً في جميع الأوقات. لقد أمضيت أكثر من أربع سنوات أقلب النظر في مسائل هذا البحث، وأجمع مادته العلمية من مصادر الشيعة المعتمدة وغيرها وأرتبها وأصوغها وأدرسها وأنقذها، وكم هي معاناة أن تقرأ وتستمع لقوم أشقاهم الله فأضلهم وأعمى أبصارهم فصاروا يتبعون إماماً معدوماً، ويقولون بكتاب موهوم، وجعفر مزعوم، وأساطير أخرى، وتقدح أخبارهم في كتاب أنزله الله وحفظه، وأجمع عليه المسلمون عبر القرون، وفي سنة عن المصطفى صلى الله عليه وسلم جمعتها الأمة، وبذلت الجهود في حفظها، وينبذون إجماع السلف، ويأخذون بقول طائفة مجهولة تحسباً أن يكون المهدي خرج من مخبئه متنكراً وأدلى بصوته معهم. ويكفرون صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، وجاهدوا في سبيله، ونشروا كلمة الله في الأرض تصديقاً لمفتريات نسبها بعض الزنادقة لأهل البيت. فحمداً لله سبحانه على نعمة العقل، والإيمان واليقين. وفي نهاية هذا البحث لابد من وقفة نستجمع فيها بعض حصاده ونعرض في تركيز جوانب من معالمه في النقاط التالية: 1- أن المعنى اللغوي للتشيع هو النصرة والمتابعة، وهذا المعنى لا يتوفر في مدعي التشيع اليوم، ومن قبل اليوم في الغالب، فهم الرافضة كم سماهم السلف،
أو المنتسبون للتشيع، وليسوا شيعة على الحقيقة. 2- لفظ التشيع لم يرد في القرآن غالباً إلا على سبيل الذم. ولم يأت في السنة ذكر لهذه الفرقة على وجه التخصيص إلا في روايات ضعيفة جاء فيها ذكر الرافضة على سبيل الذم أيضاً. 3- إن الشيعة أطوار، وفرق، ودرجات ما بين إغراق في الغلو واقتصاد فيه، ولذا كان للغلو في التشيع مفهوم عند السلف يختلف عمن بعدهم، بل تبين أن جملة من عقائد شيعة هذا العصر هي من الغلو في التشيع عند أسلافهم من شيعة القرن الرابع، فكيف بالشيعة الأولى. وتعريف الشيعة إذن مرتبط بأطوار نشأتهم، ومراحل التطور العقدي عندهم، ولذا كان الشيعي فيما مضى هو من يقدّم علياً على عثمان.. ولكن بعد اعتماد شيوخ الشيعة كتب الكليني والقمي والمجلسي وأضرابهم مصادر في التلقي شاع الغلو في الشيعة، واستقر مركبها على التطرف والشطط حتى رأينا أكبر مراجعهم في هذا العصر "الخوئي" يوثق روايات إبراهيم القمي في تفسيره مع ما فيه من كفر. ويكفي أن يطلع كل متشكك في أمر الشيعة - اليوم - على هذا الكتاب الموثق عندهم ليرى أن شيعة اليوم ارتضت لنفسها ديناً غير الإسلام. 4- إن المنتسبين للتشيع قد أخذوا من مذاهب الفرس والروم واليونان والنصارى واليهود وغيرهم أموراً مزجوها بالتشيع مصداقاً لما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من اتباع بعض هذه الأمة سنن من كان قبلهم. وقد بدأت محاولة إدخال بعض هذه الأصول إلى المجتمعات الإسلامية على يد (ابن سبأ) وأتباعه، فلم يجد لها مكاناً في أمصار المسلمين، إلا عند فئة قليلة بالكوفة.. إلا أن ما جرى من أحداث على بعض أهل البيت كمقتل علي والحسين سهل لهم مهمة إشاعتها في العالم الإسلامي تحت ستار التشيع.
5- افترقت الشيعة إلى فرق كثيرة حتى ذكر بعضهم أنها بلغت ثلاثمائة فرقة، وقد انحصرت اليوم في ثلاثة اتجاهات: الإسماعيلية، والزيدية، والاثني عشرية وهي أكبرها وأكثرها عدداً. ولقد لحظت مسألة جديرة بالاهتمام والتتبع في بحث مستقل وهي أنه ما من رأي وجد لفرقة شيعية ظهرت في التاريخ في مختلف مراحله إلا وتجد ما يشهد له في الغالب في مصادر الاثني عشرية اليوم حتى آراء ابن سبأ والمختار ابن أبي عبيد، وبيان بن سمعان، والمغيرة بن سعيد وغيرهم من رؤوس الغلاة. 6- الاثنا عشرية تلقب بالرافضة، والجعفرية، والإمامية، وكانوا يسمون بالقطعية والموسوية، وذهب جمع إلى أن مصطلح الشيعة إذا أطلق اليوم لا ينصرف إلا إليهم. وانبثق من الإثني عشرية فرق كثيرة: كالشيخية، والكشفية، والبابية، وغيرها. 7- سار الشيعة للاستدلال على شذوذهم في كل اتجاه. فمرة يزعمون أن ما يدل على مذهبهم من آيات في القرآن قد حذفها الصحابة. وتارة يلجؤون إلى تأويلات باطنية ما أنزل الله بها من سلطان. وحيناً يزعمون نزل كتب إلهية على الأئمة للدلالة على مذهبهم. وأحياناً يتعلقون بروايات من طرق أهل السنة وهي إما كذب، أو لا تدل على ما يزعمون، ولهم وسائل ماكرة في هذا الاتجاه لا تدري اليهود بعشرها. وهذا كله إنما يدل على عجز هذه الطائفة عن إثبات مذهبها بأصول شرعية.
8- الشيعة منذ سنة (260هـ) وهي لا تتبع إلا معدوماً لا وجود له، فهم شيعة مشايخهم لا شيعة أهل البيت، أو هم أتباع الشياطين الذين يتشكلون لهم بصورة الإمام الغائب، كما استفاضت أحاديثهم بلقاء هذا المعدوم. ولقد اجتمع شمل فرق الشيعة بالقول بهذا المعدوم لأنه يخلصهم من آل البيت الذين كان منهم علماء وأتقياء بررة فضحوا أمر هؤلاء المرتزقة الذين يأكلون أموال الناس بالباطل باسم آل البيت، ويبتدعون في دين الله ما لم ينزل به سلطاناً.. وينسبونه للآل.. وبالتشيع لهذا المعدوم صارت السلطة والمال والوجاهة للشيوخ لا للآل. 9- قالت الشيعة: إن القرآن ليس بحجة إلا بقيم وهو أحد الأئمة الاثني عشر حتى إنها قالت: إن الإمام هو القرآن الناطق، وكتاب الله هو القرآن الصامت، وزعمت أن علم القرآن كله عند هذا القيم لا يشركه فيه أحد، فهو تفسيره بل هو القرآن نفسه، ولذا له حق تخصيص عام القرآن وتقييد مطلقه وبيان مجمله ونسخ ما شاء منه.. بل قد فوض الإمام في أمر الدين كله. وزعمت أن لكل آية معنى باطنياً، ثم قالت: لكل آية سبعة بطون، ثم طاشت تقديراتهم فقالت: إن لكل آية سبعين بطناً. وادعت أن كتاب الله الذي أنزله الله ليهدي هذه الأمة إلى التي هي أقوم، في كل جوانب حياتها إنما نزل في الأئمة الاثني عشر، وفي أعدائهم، وأعداؤهم - في زعمهم - الصحابة رضوان الله عليهم. ولذا فسرت آيات التوحيد والإسلام وأركان الإيمان، والحلال والحرام بالأئمة الاثني عشر. وفسرت الشرك والكفر، والفحشاء والمنكر، والبغي بالصحابة، ومن اتبعهم من المؤمنين.
وتبين أن أصل هذه التأويلات يرجع للمغيرة بن سعيد وجابر الجعفي، ثم سار على نهجهما غلاة الروافض بعدهما فزادوا وبالغوا في هذه حتى وصلوا إلى مرحلة لم تخطر ببال السابقين، وشيوخ هذا العصر يعدون هذه المدونات التي حوت هذا "الغثاء" من أوثق مصادرهم. 10- فرية "التحريف" ابتدأ القول بها الروافض في القرن الثاني، ونسبت إلى هشام بن الحكم، وشيطان الطاق، وكان من أسبابها أنهم لم يجدوا ما يقنعون به أتباعهم على ما يدعون، وذلك لخلو كتاب الله من النص على أئمتهم وعقائدهم. ولكن ما إن جاء القرن الرابع حتى رمتهم الأمة عن قوس واحدة وكفروهم لسقوطهم في هذه الهاوية الشنيعة، فأعلن كبيرهم (ابن بابويه) براءة الشيعة من هذه العقيدة، وأن من نسب إليهم ذلك فهو كاذب، وتبعه ابن المرتضى، والطوسي ثم الطبرسي. ولذا فإن بعض أهل العلم ينسب هذه العقيدة إلى الباطنية في حين أن الباطنية لم تخص بهذه المقالة، والذي تولى كبرها وأكثر من الوضع فيها هم الاثنا عشرية. وقد سجلت هذه المقالة في أول كتاب ظهر لهم وهو الذي يسمونه أبجد الشيعة، وهو كتاب سليم بن قيس، والذي كشف بعض شيوخهم عن أمره، وأنه موضوع، ومؤلفه مجهول. 11- وفي السنة المطهرة كانت لهم أصول منكرة كقولهم: إن الإمام يوحى إليه، بل يأتيه خلق أعظم من جبريل الذي يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن سمع حديثاً من أحد من الأئمة له أن يقول فيه: قال الله، لأن قولهم كقول الله، وطاعتهم طاعة الله.
وفيهم روح القدس التي بها "عرفوا ما تحت العرش إلى ما تحت الثرى"، وبها يرون ما غاب عنهم في أقطار الأرض، وما في عنان السماء، ويذهبون إلى عرش الرحمن كل جمعة ليأخذوا من العلم ما شاؤوا. وقالوا: إن الله سبحانه يناجي علياً والأئمة. وهذا كله يسمى عندهم "العلم الحادث"، أما العلم المزبور والذي ورثوه عن الرسول فهي كتب وهمية كثيرة كالجامعة، والجعفر، وكتاب علي، والعبيطة، و"ديوان الشيعة" وغيرها. وقالوا بأن علياً استمر يتلقى هذه العلوم والأسرار والكتب في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، بل وبعد موته، من دون الصحابة أجمعين، فهو الباب الوحيد لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ادعى سماعاً من غيره فقد أشرك. واستمر الوحي الإلهي عندهم عن طريق الأئمة لم ينقطع حتى سنة (260هـ) وبعد ذلك استمر أيضاً قرابة أربع وسبعين سنة عن طريق نواب المهدي، ثم بعد ذلك عن طريق الشيوخ الذين لهم صلة سرية بمهديهم، ولذلك فإن شيوخهم يضعون بدعاً جديدة حتى إن شيخ الدولة الصفوية علي الكركي وضع مبدأ جواز السجود للمخلوق، ووضع لهم أيضاً مبدأ السجود على التربة. وشيخهم الخميني نقل عملياً وظائف المهدي كلها إليه وإلى دولته. ولهم كتب جمعت هذا "الغثاء" واستقلوا بها عن المسلمين وهي مصادر أربعة: الكافي، والتهذيب، والاستبصار، ومن لا يحضره الفقيه. ألحق بها المتأخرون أربعة أخرى هي: الوافي، والبحار، والوسائل، ومستدرك الوسائل، ثم أضافوا إليها عدداً من كتب شيوخهم جعلوها في الاعتبار كالمصادر الأربعة. وكانوا يقبلون كل ما جاء في كتب أخبارهم. حتى جاء شيخ الإسلام
ابن تيمية ورد على ابن المطهر الحلي ونعى على الشيعة جهلهم بالرواية، فوضع ابن المطهر طريقة تقسيم أحاديثهم إلى صحيح وحسن وموثق وضعيف، وكان الدافع لذلك هو اتقاء تعيير العامة لهم كما تبين ذلك أثناء النزاع الذي وقع بين الشيعة بسبب اختلافهم في هذه المسألة حتى انقسموا إلى أصوليين وأخباريين. وهذه نتيجة مهمة توصل إليها هذا البحث. وقد اعترف أحد شيوخهم بأنهم إذا طبقوا علم الجرح والتعديل كأهل السنة لم يبق من أحاديثهم شيء فليبحثوا عن مذهب آخر. ورجال أحاديثهم فيهم أسماء لا مسمى لها، وأكثرهم ينتحل المذاهب الفاسدة في نظر الاثني عشرية نفسها، فهم في عداد الكفرة ولكنهم يقبلون أخبارهم لأنهم شيعة، أما أهل السنة والزيدية، وأهل البيت ما عدا الاثني عشر فهم يردون رواياتهم حتى رفضوا روايات زيد بن علي. لكن الإمامي الذي على مذهبهم يقبل قوله مهما كان حتى قال بعض شيوخهم: "بأن القدح في دين الرجل لا يؤثر في صحة حديثه". والرافضة تقيم كل عقائدها ومبادئها على روايات من وضع هؤلاء الأفاكين، نسبوها للأئمة، والأئمة منها براء، إذ منهم من هو خليفة راشد يجب طاعته كالخلفاء قبله وهو علي، ومنهم من هو من أئمة العلم والدين كعلي بن الحسين وأبي جعفر الباقر، وجعفر الصادق، ويجب لهم ما يجب لأمثالهم من أئمة العلم والدين، ومنهم دون ذلك، ومنهم من ضعفه بعض أهل العلم وهو الحسن العسكري، ومنهم معدوم ولا وجود له وهو إمامهم المزعوم منذ سنة (260هـ) وكل ما ينسبونه لهم من غلو هو من اختراع زنادقة القرون البائدة. 12- ولا حجة عندهم بالإجماع، ولو نسب لإمامهم المعدوم بواسطة أحد أبوابه قول، وخالفته الأمة كلها لكانت الحجة في قوله لا في قول الأمة، بل مخالفة الأمة أصل مقرر في مذهبهم، حتى قالوا: إن ما خالف الأمة فيه الرشاد، بل لو
أطبقت الشيعة على قول، وخالفه فئة مجهولة منتسبة للتشيع لكانت الحجة في قول الطائفة المجهولة تحسباً منهم أن يكون مهديهم المنتظر قد خرج متنكراً وشارك في الرأي مع تلك الطائفة، فكأن هذا يعني أن مذهبهم يتسع على مدى الزمان، لأن يضع فيه شياطين الإنس والجن ما يشاؤون ما دامت هذه الطائفة وضعت لنفسها هذا المبدأ. 13- وفي اعتقادهم في أصول الدين ظهر أنهم جهمية في نفي الصفات، وقدرية في نفي القدر، ومرجئة في قولهم بأن الإيمان معرفة الإمام وحبه، ووعيديه بالنسبة لغيرهم، حيث يكفرون ما عدا طائفتهم. كما تبين أنهم يشركون بالله سبحانه في ربوبيته وألوهيته في مسائل عديدة. وفي اعتقادهم بالكتب والرسل كان من أقوالهم فيها أن الأئمة نزلت عليهم كتب إلهية، وعندهم كتب الأنبياء يقرؤونها ويحكمون بها، ولهم معجزات كالرسل، بل هم أفضل من الرسل وبهم تقوم الحجة على العباد. وفي الإيمان باليوم الآخر قالوا: إن الآخرة للإمام، وأن الجنة مهر فاطمة، وأن الأئمة يأكلون من الجنة في الدنيا، وأن حساب الخلق إلى الأئمة يوم القيامة. وأن هناك جنة ونار يصير إليها الأموات غير الجنة والنار التي يؤمن بها المسلمون، وأن لقم باباً إلى الجنة وأهل قم لا يحشرون كسائر الناس. 14- ولهم عقائد أخرى تفردوا بها أيضاً عن المسلمين وهي إمامة الاثني عشر وعصمتهم، والتقية، والمهدية، والغيبة، والرجعة، والظهور، والطينة والبداء. فإمامة المسلمين خاصة بالاثني عشر عندهم، وكل من يتولى على المسلمين من غيرهم فهو طاغوت لا ينظر الله إليه ولا يكلمه يوم القيامة وله عذاب أليم ومن بايعه أو رضي ببيعته فهو كذلك.
وهؤلاء الاثنا عشر لا يسهون ولا ينسون ولا يخطئون منذ ولادتهم وطيلة عمرهم. ولما كانت أقوال الأئمة وأفعالهم تخالف القول بعصمتهم اخترعوا للتستر على مزاعمهم تلك عقيدة البداء والتقية، فأعمال الأئمة الموافقة للمسلمين يحملونها على التقية، وأخبارهم المخالفة للواقع يحملونها على البداء. ولما حددت الشيعة الأئمة بأشخاص معينين صدمت بانقطاع سلسلة الأئمة المزعومين بموت الحسن العسكري عقيماً، ولذلك اخترعوا بعد طول تخبط أن له ولداً اختفى وهو طفل، فهو الإمام على المسلمين إلى اليوم وسيظهر إليهم. ثم ما لبث شيوخهم أن استولوا على صلاحياته بواسطة النواب والوكلاء، ثم جعلوها - تدريجياً - مشاعة بين شيوخهم، فأصبحوا هم الحاكمين بأمرهم في شان الرعاع من الشيعة الذين يخدعونهم بقولهم: أنتم أتباع أهل البيت وهو في الحقيقة أتباع المعدوم، أو أتباع الشيطان. وفي عقيدة الرجعة يحلمون بالعودة للدنيا بعد الموت هم وأعداؤهم - الذين هم أهل السنة من الصحابة، ومن اتبعهم بإحسان - فيجري انتقام الشيعة منهم. وفي عقيدة الظهور يخرج الأئمة من قبورهم لبعض الناس أحياناً قبل يوم القيامة، وفي غير الرجعة المزعومة، وهذه عقيدة جديدة سجلها المجلسي في بحاره في باب مستقل. وأما عقيدة الطينة فهي عقدية سرية عندهم، تقول بأن حسنات أهل السنة هي للشيعة، وموبقات الشيعة هي على أهل السنة، ويفسرون على ضوئها ما يضج به مجتمعهم منذ القديم من ظلم ومعاص ومنكرات.
15- إن الشيعة المعاصرين يلتقون مع الغابرين في مصادر التلقي، بل ويأخذون بما افتراه شيوخ الدولة الصفوية ووضعوه من مدونات مليئة بالكفر والإلحاد، وقد سهلت المطابع إشاعة هذه الظلمات بينهم فركبوا من الغلو مركباً صعباً. ولكنهم يخدعون أهل السنة فيزعم بعضهم أنهم لا يسبون الصحابة ولا يقولون بالرجعة، وقد بينت صفحات هذه الرسالة حقيقة هذه الدعاوى. وقد زعموا أن التقية انتهى العمل بها مع أن نصوصهم تأمرهم بالعمل بها إلى أن يخرج مهديهم، وأقوالهم وأفعالهم تبين استمرار العمل بها، فقولهم هذا إنما هو "تقية على التقية". ولعله لا يوجد طائفة على وجه الأرض جعلت الكذب ديناً، بل هو تسعة أعشار الدين كهذه الطائفة. 16- وفي أثرهم في العالم الإسلامي تبين أن لهم آثارهم الفكرية الخطيرة في إحداث الشرك في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والصد عن دين الله، وظهور فرق الزندقة والإلحاد، ومحاولة إضلال المسلمين في سنة نبيهم، والتأثير السلبي في الأدب والتاريخ، وعلى بعض المفكرين المنتسبين للسنة، ولهم وسائل في الإضلال ظاهرة وخفية. كما أن لهم أثراً في المجال الاجتماعي في إثارة الفتن الداخلية بين المسلمين، وفي الاعتداء والاغتيالات للقيادات الإسلامية، ولعموم المسلمين، إذا حانت لهم فرصة في ذلك، وفي إشاعة الفاحشة ونشر الإباحية عن طريق ما يسمونه بالمتعة الدورية وغيرها. وفي المجال الاقتصادي كان أثرهم واضحاً في أخذ أموال المسلمين بالقوة أو الخديعة، وفي تدمير اقتصاد الأمة بأي وسيلة، وكان ما يأخذونه من أموال باسم
آل البيت من أهم أسباب رغبة شيوخ الشيعة في بقاء شذوذهم وخلافهم مع المسلمين. وقد تبين أنهم كفرة ليسوا من الإسلام في شيء بسبب شركهم وتكفيرهم للصحابة، وطعنهم في كتاب الله وغيرها من عقائد الكفر عندهم. ولا أغرب وأعجب من بقاء طائفة تعد بالملايين أسيرة لهذه الخرافات، ولا يفسر ذلك إلا أن شيوخ الشيعة يحجبون الحقيقة عن أتباعهم بوسائل كثيرة من الخداع، لعل من أبرزها دعواهم أن ما عندهم مؤيد بما جاء عن طريق أهل السنة، وأن دينهم يقوم على أساس محبة آل البيت وأتباعهم. وفي ظل هذه الدعوى يؤججون مشاعر العامة وعواطفهم بذكر اضطهاد آل البيت، وتصوير الظلم الذين لحقهم من الصحابة - بزعمهم ويربون صغارهم على ذلك. ومن ذلك تمثيلهم لمأساة كربلاء وهو المعروف الآن باسم "الشبيه" وإقامتهم لمجالس التعزية، بكل ما فيها من مظاهر الحزن والبكاء، وما يصاحبها من كثرة الأعلام ودق الطبول وسرد الحكايات والأقاصيص عن الظلم المزعوم، وهذا يؤدي إلى شلل العقل والتقبل الأعمى للمعتقد ولا سيما عند الأعاجم والعوام. وإن أعظم وسيلة لمعالجة وضع الشيعة هو بيان السنة للمسلمين في كل مكان وبمختلف الوسائل، وبيان حقيقة الشيعة ومخالفتها لأصول الإسلامي بدون تقليل أو تهويل. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.