أصول علم العربية في المدينة

عبد الرزاق بن فراج الصاعدي

مقدمة

المقدّمة الحمد لله الذي خلق الإنسان، واختصه بنطق اللسان، وفضيلة البيان، وجعل له من العقل الصَّحيح والكلام الفصيح منبئًا عن نفسه، ومختبرًا عَمّا وراء شخصه، وصلى الله على خاتم أنبيائه وعلى آله وأصحابه أجمعين. وبعد؛ فقد صُنِّف في نشأة علوم العربيَّة الشَّيء الكثير، وأفردت الكتب لرجالاتِها، وجمعت أخبارهُم، وصُنِّفوا بحسب طبقاتهم، أو بيئاتهم، أو أسمائهم، فمنهم البصريون ومنهم الكوفيون ومنهم البغداديون. ولم يشر أصحاب التَّراجم والطّبقات إلى بيئة المدينة اللغوية أو النّحويَّة، أو إلى نشأة النّحو فيها، وانطلاقه منها إلى سائر الأمصار كالبصرة ثم الكوفة ثم بغداد. ولم يكتفوا بإهمالهم دور المدينة في هذا الشأن، بل نفى بعضهم عن المدينة أيَّ صلة بالنّحو أو اللّغة، ووصفها بالخلوّ من علماء ذلك العلم الَّذي يطلق عليه عند القدماء: العربيَّة. يقول صاحب "المراتب" بعد حديثه عن البصرة والكوفة: "ولا علم للعرب إلا في هاتين المدينتين، فأمَّا مدينة الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - فلا نعلم بها إماماً في العربية"1. ونقل عنه ذلك جماعة من علماء التَّراجم المشهورين، كياقوت2 والسُّيوطي3. ويقول ابن يعيش: "لا أدري لأهل المدينة مقالة في النَّحو"4.

_ 1 مراتب النّحويين 55. 2 ينظر: معجم الأدباء5/2150. 3 ينظر: المزهر 2/414. 4 إنباه الرُواة 2/172.

ويقول الجاحظ من قبلهم: إنَّ اللَّحن في أهل المدينة فاشٍ وفي عوامّهم غالب1. وُيروى عنِ الأصمعي أنَه كان ينفي عن أهل المدينة وعلمائها العلم بالشِّعر- أيضا- ويصف حالهم في زمانه في القرن الثاني ويقول: "أقمت بالمدينة زماناً ما رأيت بها قصيدة واحدة صحيحة إلا مصحّفة أو مصنوعة"2. ثم نجد من المعاصرين من أصحاب المناهج العلميَّة من يقول: "وفي غير العراق كان الاشتغال بالعربية حقا جدّ ضئيل، فبينما كانت في البصرة والكوفة مدرستان خاصتان بالنَّحو، وحذت حذوهما بعد ذلك بغداد بمدرستها الَّتي نزعت إلى الجمع والتّوفيق بين المدرستين لم تقم بالمدينة- مثلاً- علوم اللُّغة على أساس وطيد"3. ويقول: "ويجوز لنا بما تقدم أن نفترض أنّ اللغة العربية في المدينة لم تحظ بعناية خاصة"4. ويقول: "إنَّ النَّحو وعلم اللَّغة لم يجدا بالمدينة تربة خصيبة"5. ويقوله آخر: "فالبصرة أوّل مدينة عنيت بالنَّحو واللُّغة"6. وبعد هذه الأحكام التي تصفى أهل المدينة بالضعف في العربية والبعد عن الاشتغال بفنونها، كاللًّغة والنَّحو ورواية الشِّعر نجد من يخالف هذه الآراء من القدماء، وهو ابن برهان النَّحوي (456 هـ) إذ يقول: "النَّحويون جنس تحته ثلاثة أنواع: مدنيّون وكوفيّون وبصريّون"7.

_ 1 ينظر: البيان والتّبيين 1/146. 2 مراتب النّحويين 156. 3 العربية ليوهان فك75، 76. 4 نفسه 77. 5 نفسه 78. 6 ضحى الإسلام 2/284. 7 شرح اللمع 1/1، وينظر: إنباه الرواة 2/172.

ويقول أحد المعاصرين: "لو أنَّ منصفاً تتبع أصول النّحو الأولى لوجد أنّها نبتت في المدينة وظلت تنمو شيئا فشيئاً"1. فيتبيّن بعد هذا أنّ نشأة العربية لغة ونحواً لم تزل يكتنفها شيء من الغموض، وأنّ ثمة حاجة للكشف عن رجالات هذا العلم في المدينة. ومن هنا جاءت فكرة هذا البحث الَّذي رجوت أن أكشف من خلاله عن نشأة الدراسات اللُّغويَّة في المدينة، وأتعرف على أعلامه في هذه المدينة المباركة في القرنين الأول والثاني، وجعلته بعنوان "أصول علم العربية في المدينة" فجاء في أربعة فصول: الأول: عوامل نشأة الدَّرس اللًّغوي. والثاني: منشئ علم العربيَّة. والثالث: من أعلام الدَّرس اللغوي في المدينة في القرنين الأول والثاني. والرابع: من مظاهر الدّرس اللُّغوي في المدينة. ولم أشَأ التَّفريق بين النَّحو واللُّغة، أو بين النَّحويين واللُغويين، فذاك متعذّر، لأنّ علوم العربيَّة متداخلة في القرنين الأول والثاني، قبل أن تنفصل فيما بعد. وقد شغلني هذا البحث زمنا ليس بالقصير، وأنفقت فيه جهدا في البحث في المصادر، واستقصاء الأقوال، والتَّنقيب في تراجم الرِّجال من اللُّغويين والنّحاة والقرَّاء والمحدِّثين والأدباء، وكنت كمن يجمع اللآلئ من أعماق المحيط في صبر وأناة، حتَّى منَّ الله عليه بما تقرُّ به العين، ولذلك كانت سعادتي بإنجازه كبيرة، مع أني لا أدَّعي الإحاطة والاستيعاب.

_ 1مجلة المنهل، العدد 499 ص 126.

فأرجو من الله أن ينفع به وألا يحرمني ثوابه، وآمل من زملائي الباحثين والمحققين أن يرقعوا ثقوبه ويستروا عيوبه، بإصلاح ما طغى به القلم، وزاغ عنه البصر، وقصّر عنه الفهم، فالإِنسان محل النِّسيان، وعلى الله التكلان، ومنه العون والتَّوفيق. وكتب عبد الرَّزّاق بن فرّاج الصَّاعديّ المدينة النَّبويَّة في: 20/12/ 1416هـ

الفصل الأول

الفصل الأول عوامل نشأة الدرس اللغوي ... عوامل نشأة الدَّرس اللُّغويّ كانت العربية في العصر الجاهلي نقية صافية بفضل الطّبيعة الجغرافية لأرض العرب؛ فالبحر يحيط بجزيرتهم من ثلاث جهات فيحجزهم عن الأمم المجاورة، وتحدّ حياتهم القبليَّة وطبائعهم الاجتماعية من انسياحهم في الأرض باتِّجاه الشَّمال. لقد هيَّأهم الله - عزَّ وجل - بذلك لأمر عظيم، وهيَّأ لغتهم لأن تكون أداة لذلك الأمر، فكانت لغتهم نقية من الشَّوائب صافية حين نزل القرآن الكريم على نبي الرَّحمة والهدى محمد - صلى الله عليه وسلم -. كانت العربية في ذلك الوقت نقية تنساب على ألسنة أبنائها بيسر وسهولة في أصواتها وأبنيتها وتراكيبها دون حاجة إلى إعمال فكر أو تكلُّف، وهم يفهمون دلالتها بالفطرة الَّتي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم، ولم تكن ثمة حاجة لما يعضد السَّليقة وُيقوِّيها كاللُّجوء إلى ضوابط أو قواعد تأتي من خارج الفطرة، فقد كانت السَّليقة اللُّغويَّة هي المهيمنة، وهي الحامية من الخطأ. ثم جدَّت أمور، وتبدلت أحوال، فتكدَّر صفو اللُّغة، وضعفت السَّلائق واختلَّت، فنشأت الحاجة إلى ضوابط للغة من خارج السليقة يلجأ إليها المتكلِّم، وتساعد السَّامع على فهم اللُّغة على الوجه الأكمل. وكان ظهور ذلك على وجه التَّحديد في الصدر الأول للإسلام إبَّان الخلافة الرَّاشدة في المدينة، ثم تفاقم الأمر وازدادت الحاجة - فيما بعد - فتهيأت العوامل لنشأة الدَّرس اللّغوي ابتداءً في المدينة، كظهور اللحن، وتهديده لغة الدِّين الإِسلامي، وزحفه إلى النَّص القرآني الكريم.

ويمكن أن نوجز هذه العوامل الّتي أدَّت إلى نشأة الدَّرس اللُّغوي والنَّحوي على وجه الخصوص في ثلاثة عوامل، وهي: 1- ظهور اللحن وانتشاره. 2- حماية القرآن من اللحن. 3- فهم القرآن ودرسه. وفيما يلي تفصيل لهذه العوامل الثلاثة:

أولا: ظهور اللحن وانتشاره

أولاً: ظهور اللحن وانتشاره للحن معان، منها ما اصطلح عليه النُّحاة، وهو مخالفة العرب في سنن كلامهم، أو كما يقول ابن فارس: "إمالة الكلام عن جهته الصَّحيحة في العربية"1. وهو الذي يعنينا من معانيه في هذا البحث. ويميل كثير من الباحثين إلى أنَّ اللحن بهذا المعنى لم يكن معروفاً في العصر الجاهلي، وإنّما شاع في العصر الإسلامي في المدينة ابتداءً، بسبب اختلاط العرب بغيرهم، ودخول الأعاجم في دين الله أفواجاً، واتّصال العرب بالأمم المجاورة2. يقول أبو بكر الزُبيديّ: "ولم تزل العرب تنطق على سجيتها في صدر إسلامها وماضي جاهليتها، حتَّى أظهر الله الإسلام على سائر الأديان، فدخل النَّاس فيه أفواجاً، وأقبلوا إليه أرسالاً، واجتمعت فيه الألسنة المتفرقة، والُّلغات المختلفة، ففشا الفساد في اللُّغة العربيَّة، واستبان منه الإعراب الَّذي هو حليها، والموضح لمعانيها، فتفطّن لذلك من نافر بطباعه سوء أفهام النّاطقين من دخلاء الأمم بغير المتعارف من كلام العرب، فعظم الإشفاق من فشوّ ذلك

_ 1 مقاييس اللّغة (لحن) 5/239. 2 ينظر: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام 9/15، وتاريخ آداب العرب 1/234، وأثر القرآن في أصول مدرسة البصرة النحوية 124.

وغلبته حتَّى دعاهم الحذر من ذهاب لغتهم وفساد كلامهم إلى أن سبَّبوا الأسباب في تقييدها لمن ضاعت عليه، وتثقيفها لمن زاغت عنه"1. ومن المؤكّد أن البوادر الأولى للحنِ ظهرت في المدينة على مسمع من النَّبي- صلى الله عليه وسلم - فقد روت المصادر أنَّ رجلا لحن بحضرته فقال - عليه الصَّلاة والسلام -: "أرشدوا أخاكم فقد ظل" 2. أو "أرشدوا أخاكم فإنَّه قد ظلَّ" 3. وتكاد تنطق عبارة الحديث بأنّ هذا اللحن هو أوَّل لحن سمعه الرًّسول - صلى الله عليه وسلم - ومن ثم دعا إلى ضرورة التّصدِّي له4، ولو كان اللحن معروفا عند العرب قبل ذلك العهد لجاءت عبارة الحديث على غير هذا الوجه5. ويبدو أن اللحن أخذ في التفشِّي والانتشار فأصبح أمره معروفاً، فقال النّبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك بحين: "أنا من قريش، ونشأت في بني سعد فأنَّى لي اللحن؟ " 6. وروي عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أنّه كان يقول: "لأن أقرأ فأسقط أحبّ إليّ من أن أقرأ فألحن"7. وفي هذا النص - أيضاً - دلالة على أنَّ اللحن كان معروفاً زمن أبي بكر الصِّديق، متفشِّيا بين عامة النّاس، ومنه ما يقع في القرآن، وهو أشنع ما يكون من اللحن.

_ 1 طبقات النحويين واللغويين 11. 2 مراتب النحويين 23. 3 ينظر: الجامع الصغير 1/363، وكنز العمال 1/151، والخصائص 2/8. 4 ينظر: أثر القرآن في أصول مدرسة البصرة 135. 5 ينظر: تاريخ آداب العرب ا /237. 6 مراتب النحويين 23. 7 ينظر: مراتب النحويين 23، والإيضاح في علل النحو 96، والمزهر 2/397.

وازدادت المرويات من اللَّحن في عهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فمن ذلك أنّه مرَّ بقوم يرمون ويسيئون الرمي، فغضب منهم وقال لهم: "بئس ما رميتم، فقالوا: إنّا قوم متعلمين [أو نحن قوم رامين] فقال: والله لخطؤكم في كلامكم أشد من خطئكم في رميكم، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "رحم الله امرأ أصلح من لسانه" 1. وكتب كاتب لأبي موسى الأشعري إلى عمر: "من أبو موسى" فكتب عمر إلى عامله: "سلام عليك، أما بعد، فاضرب كاتبك سوطاً واحدا، وأخّر عطاءه سنة"2 أو "إذا أتاك كتابي هذا، فاجلده سوطاً واعزله عن عمله"3. وُيروى أنَّ أعرابيَّاً دخل السُّوق فوجدهم يلحنون فقال: "العجب، يلحنون ويربحون"4. وقد فشا اللَّحن زمن الأمويين، وانتشر بين العامة والخاصة، ولم يسلم منه الأمراء والوزراء وأهل الرِّياسة، فقد قيل: إنّ الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك كان لُحَنَةً5. رووا أنّه خطب النَّاس يوم عيد، فقرأ في خطبته: " ياليتُها كانت القاضية" بضم التَّاء، فقال عمر بن عبد العزيز: عليك وأراحنا منك6. وروى الجاحظ أنّ كُتُب الوليد كانت تخرج ملحونة، فسأل إسحاقُ بن قبيصة أحد موالي الوليد: "ما بال كتبكم تأتينا ملحونة، وأنتم أهل الخلافة؟ "7.

_ 1 الإيضاح في علل النحو 96، وينظر: معجم الأدباء1/16، 17 2 مراتب النحويين 23. 3 كنز العمال 5/224. 4 معجم الأدباء1/23. 5 ينظر: البيان والتبيين 2/205. 6 المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام 9/24. 7 البيان والتبيين 2/ 205.

وخطب الوليد في أهل المدينة، وقال: "يا أهلُ المدينة" بضم اللام. وأحصوا اللّحّانين من البلغاء، فعدّوا منهم خالد بن عبد الله القسري، وخالد بن صفوان، وعيسى بن المدور، وكان الحجَّاج بن يوسف يلحن أحياناً1. وهكذا انتشرت جرثومة اللحن مع مرور الأيام، فأعدت العامةُ الخاصةَ، وقد أثر عن إمام دار الهجرة أنّه كان يقول: "أي مطراً" بدل "أي مطرٌ" وكان شيخه ربيعة بن عبد الرَّحمن فقيه أهل المدينة المشهور بربيعة الرَّأي يلحن في الإِعراب - أيضاً - ويقول: بخيراً2. وبلغ من أمر اللحن - فيما بعد - أن تسرب إلى ألسنة أكثر العلماء، فتساهلوا في أمره، قال ابن فارس: "فأما الآن فقد تجوَّزوا، حتَّى إنَّ المحدث يحدث فيلحن، والفقيه يؤلف فيلحن، فإذا نُبِّها قالا: ما ندري ما الإعراب، وإنَّما نحن محدّثون وفقهاء"3. وصار من لا يلحن في زمن الأصمعي خارجاً عن المألوف، قالت الأصمعي: "أربعة لم يلحنوا في جد ولا هزل: الشعبي، وعبد الملك بن مروان، والحجاج بن يوسف، وابن القرية، والحجاج أفصحهم"4. وقد كان النَّاس في صدر الإِسلام يجتنبون اللحن فيما يقولونه أو يقرأونه أو يكتبونه اجتنابهم بعض الذنوب5، وكان دافعهم لاجتناب اللحن شعورهم بوراثتهم لغتهم معربة، وهي لغة القرآن والدين.

_ 1 ينظر: تاريخ آداب العرب1/240. 2 ينظر: اللغة والنحو 188. 3 الصاحبي 56. 4 المفصل في تاريخ العرب قبل الإِسلام 9/24. 5ينظر: الصاحبي 56.

وكان بعض السَّلف يقول: "ربما دعوت فلحنت فأخاف ألا يستجاب لي "1. وقد يحدث بعضهم بحديث فيلحن فيه، فيقول: "استغفر الله" يعني أنَّه عدَّ اللحن ذنباً، فيقال له فيه فيقول: "من أخطأ فيها فقد كذب على العرب، ومن كذب فقد عمل سوءاً"2. وروي عن عمر بن الخطاب أنَّه جعل اللحن من الافتراء.3 وكان عمر بن الخطاب يضرب أولاده على اللحن ولا يضربهم على الخطأ في غير اللغة4. وأثر مثل هذا عن ابنه عبد الله5 - رضي الله عنهما -. وبعد هذا الفيض من الرِّوايات فإنَّه لا سبيل إلى إنكار ظهور اللحن في المدينة منذ الصدر الأول، واستفحال أمره فيما بعد في سائر الأمصار، لاختلاط العرب بغيرهم. ومن الطبيعي أن يصحب ذلك إحساس بالحاجة إلى ضبط قواعد اللّغة الفصحى، ومن المؤكد أنَّ ذلك الإحساس نشأ منذ الصَّدر الأول في المدينة في عهد الخلفاء الراشدين، وربما كان ذلك منذ عهد النَّبي - صلى الله عليه وسلم. وتدلًّ الرِّوايات الَّتي أوردنا شيئاً منها على إلمام النّبي - صلى الله عليه وسلم -وصحابته في المدينة إلماما فطرياً بالتَّراكيب النَّحويَّة، والإعراب بخاصة، وقد كانوا على قدر من الإدراك بأصول الكلمات واشتقاق الألفاظ، هدتهم إليه سلائقهم اللُّغويَّة النَّقيَّة، وسماعُهم ما يخالفها من لحن.

_ 1 الإيضاح في علل النحو 96. 2معجم الأدباء1/17. 3 ينظر: الإيضاح في علل النحو 96. 4 ينظر: معجم الأدباء ا/23. 5 ينظر: الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 2/ 24، وجامع بيان العلم وفضله 465.

روى ابن جني ما حُكي عن النّبي - صلى الله عليه وسلم - وقد جاءه قومٌ من العرب،. فسألهم عليه السَّلام، فقال: من أنتم؟ فقالوا: بنو غيَّان، فقال: بل أنتم بنو رشدان، قال ابن جني معقّباً: "أولا تراه - صلى الله عليه وسلم - كيف تلقّى (غيان) بأنّه من الغيّ، فحكم بزيادة ألفه ونونه، وترك عليه السلام أن يتلقَّاه من باب (الغين) وهو إلباس الغيم من قوله: كَأنّي بَيْنَ خَافِيتَي عُقَابٍ ... تُرِيدُ حَمَامَةً فِي يَوْمِ غَيْنِ يدلُّك على أنَّه - صلى الله عليه وسلم - تلقَّاه بما ذكرنا أنّه قابله بضده، فقال: بل أنتم بنو رشدان، فقابل الغي بالرُّشد، فصار هذا عياراً على كل ما ورد في معناه1. وتدلُّ الرِّوايات على إلمام عمر بن الخطَّاب - رضي الله عنه - بأساليب اللًّغة ودقائقها التّعبيريَّة، وكان من أشد النَّاس حرصاً على نقائها، وسلامة أساليبها، وكان يحثُّ على تعلُّمها، فقد روي عنه قوله: "تعلموا العربية، فإنَّها تثبت العقل، وتزيد في المروءة"2. وروي عنه - أيضاً - أنّه كتب إلى أبي موسى الأشعري: "أن مُرْ من قِبَلَكَ بتعلم العربية، فإنَّها تدلُّ على صواب الكلام"3. والعربية هذه هي عربية المصطلح القديم الَّتي تقابل في مدلولها كلمة النَّحو، لأنَّها تدلُّ - كما يفهم من قول عمر - على صواب الكلام، أي يهتدي بها إلى صواب الكلام. ومهما يكن من أمر فإنَّ ثمة ما يشبه الإِجماع على أنَّ ظهور اللحن وتفشيه في الكلام وزحفه إلى القرآن والحديث هو الباعث الأول على تدوين اللُّغة.

_ 1 المبهج الأدباء1/22، وينظر: الإِيضاح في علل النحو، ونور القبس 2. 2 معجم الأدباء 1/22، وينظر: الإيضاح في علل النحو 96، ونور القبس 2. 3 إيضاح الوقف والابتداء1/30.

واستنباط النَّحو، لأنَّ علم العربيَّة ككل العلوم في نشأتها تتطلبه الحوادث وتقتضيه الحاجات1. ولهذا قال الدُّكتور محمد خير الحلواني: "والحقّ أنَّ نشأة النَّحو ترتبط بجذور الحياة الإسلاميَّة في ذلك الزَّمن"2. وقال الدُّكتور أحمد إبراهيم سيد أحمد: "لو أنَّ منصفاً تتبع أصول النّحو الأولى لوجد أنّها نبتت في المدينة وظلت تنمو شيئا فشيئاً"3. وتلك نتيجة حتمية؛لأنَّ ضوابط اللُّغة وقوانين الإعراب هي العاصمة من الزَّلل، والمُعَوِّضة عن السَّليقة بعد أن شاع اللحن واضطربت الألسن، وتأثر العرب بالعجم في المدينة أولا، ثم في باقي الأمصار الإسلاميَّة ثانياً.

ثانيا: حماية القرآن من اللحن

ثانياً: حماية القرآن من اللَّحن أخذ اللَّحن يتهدَّد النَّص القرآني ويزحف إليه منذ أن ذرَّ بقرنه في المدينة في عهد الخليفة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - الَّذي كان يختار أن يسقط في قراءته القرآن على أن يقع في اللحن كما تقدَّم. والخطأ في القرآن عند عمر بن الخطَّاب - رضي الله عنه - خير من اللَّحن، يقول: "لأنِّي إذا أخطأت رجعت، وإذا لحنت افتريت"4. وهذا دليل واضح على وقوع اللحن في القرآن من بعض المسلمين، وبخاصة العوامّ.

_ 1 ينظر: طبقات النحويين واللغويين 11، ونزهة الألباء21، وتاريخ آداب العرب 1/239، واللغة والنحو 209، ونشأة النحو 12، وفىِ أصول النحو 6، 7، والمفصل في تاريخ النحو العربي 11ء والدراسات اللغوية عند العرب 57، وأثر القرآن في أصول مدرسة البصرة 117. 2 المفصل في تاريخ النحو العربي 17. 3 مجلة المنهل، العدد 499، ص126. 4الإيضاح في علل النحو 96.

وتذكر بعض المصادر في حديثها عن أسباب وضع النَّحو لحنة مشهورة وقعت في القرآن أيام عمر بن الخطاب، فأمر عمر ألا يقرأ القرآن إلا عالم باللُّغة، فقد روى القرطبي عن ابن أبي مليكة ما نصه: "قدم أعرابي في زمان عمر بن الخطَّاب - رضي الله عنه - فقال: من يقرئني ممَّا أُنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: فأقرأه رجل (براءة) فقال: {إنَّ الله بَرِيءٌ منَ الْمُشْركِينَ وَرَسُولِهِ} وهو بالجرّ، فقال الأعرابي: أوقد برئ الله من رسوله؟ فإن يكن الله برئ من رسوله فأنا أبرأ منه، فبلغ عمر مقالة الأعرابي، فدعاه، فقال: يا أعرابي؛ أتبرأ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إنّي قدمت المدينة، ولا علم لي بالقرآن، فسألت من يقرئني، فأقرأني هذا سورة براءة، فقال: {إنَّ الله بَريءٌ منَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولِهِ} فقلت: أوقد برئ الله من رسوله، إن يكنَ الله برئ من رسوله فأنا أبرأ منه. فقال عمر: ليس هكذا يا أعرابي، قال: فكيف هي يا أمير المؤمنين؟ قال: {إنَّ الله بَريءٌ منَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} فقال الأعرابي: وأنا أبرأ ممن برئ الله ورسوله منه. فأمر عمر بن الخطّاب - رضي الله عنه - ألا يُقرئ النَّاس إلا عالم باللُّغة، وأمر أبا الأسود فوضع النّحو"1. ومثل هذه الرِّواية في "نزهة الألباء"2 لأبي البركات الأنباري، وفي غيره. وقيل: إنَّ هذه الحادثة كانت زمن الخليفة علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وإنَّه هو الَّذي أمر أبا الأسود بوضع النَّحو. وروي أنَّ أبا الأسود هو الَّذي سمع اللحن في تلك الآية، فقال: "ما ظننت أمر النَّاس آل إلى هذا3" أو قال: "لا أظن يسعني إلا أن أضع شيئاً أصلح به نحو هذا، أو كلاماً هذا معناه، فوضع النَّحو"4.

_ 1 الجامع لأحكام القرآن 1/ 24. 2 20،19. 3 إنباه الرواة 1/40. 4 مراتب النحويين 26.

وروي أنَّ عليَّا سمع أعرابيَّاً يقرأ: {لا يَأْكُلُهُ إلا الْخَاطِئِينَ} فوضع النَّحو1. وربما لحن في القرآن من هم في المقام الرَّفيع من اللُّغة، كالحجَّاج؛فقد روي أنّه قال ليحي بن يعمر: "أتسمعني ألحن على المنبر؟ قال: الأمير أفصح من ذلك. فألحَّ عليه، فقال: حرفاً، قال: أيّا؟ قال: في القرآن. قال الحجَّاج: ذلك أشنع له، فما هو؟ قال: تقول: {قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكْمْ} إلى قوله عزَّ وجلّ: {أَحَبَّ} فتقرؤها {أَحَبُّ} بالرَّفع، والوجه أن تقرأ بالنَّصب، قال: لا جرم، لا تسمع لي لحنا أبداً، فألحقه بخراسان "2. وبهذا يمكن القول: إنَّ الخطوة الأولى في وضع النَّحو العربي كانت بمثابة ردّ فعل مباشر لتسرُّب اللحن إلى العربيَّة بعامة وإلى القرآن بخاصة، وقد كان الوسط العام في المدينة مفعماً بمقاومة اللحن في القرآن، وكانت صدور خاصة مهيئة لظهور علم جديد يتصدى لزحف اللحن إلى النَّص القرآني، ولابدَّ أن يكون قد صاحب ذلك جهود تمثلت في تأمل اللّغة، والنّظر في مفرداتها وتراكيبها، فكانت تلك التأمُّلات وما نتج عنها من ملحوظات لغوية في الصَّدر الأول من الإسلام هي النواة الأولى للنَّحو العربي، وممَّا يؤكد ذلك أنُّ جُلَّ النُّحاة القدماء كانوا من القراء أو ممَّن اشتغل بالدِّراسات القرآنيَّة.

ثالثا: فهم القرآن ودرسه

ثالثاً: فْهم القرآن ودرسه استأثر القرآن الكريم منذ نزوله بانتباه المسلمين وعنايتهم، فنشأ إلى جانب الرغبة في تلاوته، وفهم نصوصه الحرص على إدراك أسراره، والوقوف على أغراضه ومراميه، وفجّر بذلك الطَّاقات الكامنة في عقولهم، وأزال عنها

_ 1 ينظر: نزهة الألباء 19. 2 طبقات النحويين واللغويين 28.

الكثير من الغبش؛ الذي كان يحجبها عن الرؤية الصَّحيحة للكون والحياة والُّلغة - أيضا. وقد شيَّد المسلمون بنيانهم العلمي الأصيل على القرآن، فنشأت في كنفه علوم شتَّى1، كالتَّفسير والقراءات والرِّواية والفقه، وظهر العلماء في هذه العلوم، وبرز كثير منهم في المدينة، فاختص علي بن أبي طالب بالقضاء والتّفسير، وزيد بالفرائض ومعاذ بالفقه وأُبيّ بالقراءة2. ومن العلوم الَّتي نشأت في كنف القرآن العربيَّةُ ومن فروعها الأصوات والنَّحو والدّلالة والمعجم، وكان النَّحو العربي في نشأته من أشد العلوم التصاقا بالقرآن. وقد أدرك الباحثون المعاصرون الارتباط الوثيق بين القرآن الكريم والعلوم في نشأتها بعامة، والنّحو بخاصة، وفي هذا يقول الدكتور مهدي المخزومي: "وراحت كل طائفة منهم تتَّجه اتِّجاهاً خاصاً في دراسته، فنشأت: طائفة اتَجه نشاطُها إلى تصحيح متن القرآن عن طريق الرِّواية، وهي طائفة القُرَّاء. وطائفة راحت تدرس القرآن لتفهم الأحكام الّتي تتضمنها، ممَّا هو لازم لبناء المجتمع، وهي طائفة الفقهاء. وطائفة اتَّجهت اتّجاهاً لغويًّا، فأخذت تعني بإعراب نصوص القرآن مستعينة برواية اللُّغة، ثم توسَّعت في ذلك، فتناولت بالدِّراسة علل التأليف، أو علل الإعراب، وهي طائفة النُّحاة. فالنَحو - إذن - وليد التَّفكير في قراءة القرآن"3.

_ 1ينظر: البرهان في علوم القرآن 1/8، والإتقان 1/3. 2ينظر: البرهان في علوم القرآن 1/8. 3مدرسة الكوفة 20.

ويقول الدُّكتور محمد خير الحلواني: "والحق أنَّ نشأة النّحو ترتبط بجذور الحياة الإسلاميَّة في ذلك الزَّمن، وترتدّ إلى ما ترتدّ إليه نشأة العلوم الأخرى من لغوية ودينية وفلسفية، وكان القرآن الكريم محور هذه الجذور، وهو الركيزة الأساسية فيها. إذن فإن نشأة العربية - بمعناها الاصطلاحي - انطلقت من قراءة القرآن؛ لأنّ القراءة القرآنية هي التي دعت إلى ظهور علم الأصوات الذي نضج عند العرب، فالمقرئ كان مضطراً إلى إخراج الحروف مخرجاً فصيحا وكان مضطراً - أيضاً - إلى معرفة المدّ وقوانينه؛وإلى أحكام الهمز ومعرفة لهجات العرب فيه، كما كان عليه أن يعرف ضوابط الإدغام والإظهار والإقلاب والغنّة. وإلى جانب هذا كلّه كان القرآن الكريم سبب ظهور علم الغريب، وما جرّ إليه من جمع الشعر والنوادر والرحلات العلمية إلى البوادي ... لأن في كلمات القرآن ما في كلمات الشعر من غرابة أحياناً، تحتاج إلى شرح وتوضيح باعتماد العرف اللغوي السائد يومئذٍ"1. ثم يقول: "ومن الطبيعي أن يكون القرآن - أيضاً - سبب ظهور علم النحو، لأن النحو دراسة للتركيب اللغوي، ورصد للظواهر الإعرابية الناجمة عن القرائن اللفظية، التي سميت فيما بعد بالعوامل النحوية، وقراءة القرآن تعتمد اعتمادا بارزاً على تغير أواخر الكلمات؛ أي: الإعراب"2. وإلى مثل هذا يذهب كثير من الباحثين المعاصرين3. نعم؛ لقد بدأت العلاقة بين العربية بمفهومها العام والقرآن مبكرة في المدينة على يد الرسول - صلى الله عليه وسلم - في تفسيره بعض الآيات المشكلة، والألفاظ

_ 1المفصل في تاريخ النحو العربي 17. 2نفسه 18. 3ينظر: اللغة والنحو 201، وفي أصول النحو 101، وأثر القرآن في أصول مدرسة البصرة 43، ونحو القراء الكوفيين 67،66، وفي التفكير النحوي عند العرب 13.

الغريبة، وفي حثه على تدبر ألفاظ القرآن ومعانيه والتماس غرائبه. روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أعربوا القرآن والتمسوا غرائبه " 1. والمراد بالإعراب - هنا - معرفة معاني ألفاظه، وليس المراد به الإِعراب المصطلح عليه عند النحاة، وهو ما يقابل اللحن2. وقد تزايدت الحاجة إلى تفسير غريبي القرآن والحديث مع مرور الأيام، وأكثر الصَّحابة ثم التَّابعون من الاحتجاج لغريب القرآن ومشكله بالشِّعر كابن عباس3، الَّذي يُعد صنيعه نواة للمعجم العربي، كما سيأتي بيانه. واقتضى ذلك من الصَّحابة التَّزوُّد باللّغة، وتأمل دقائقها، والإلمام بلغات القبائل، ليتمكَّنوا من تفسير غريب القرآن، وكان بعضهم يتحرَّج من الخوض في تفسير غرائب القرآن وَرَعاً، أو لعدم التَمكُّن في اللُّغة، وكان عمر بن الخطَّاب - رضي الله عنه - يأمر بألا يقرئ القرآن إلا عالم باللُّغة - كما تقدم. وإذا كان أمر القراءة يقتضي العلم باللُّغة فإنَّ أمر تفسير الغريب وكشف المشكل أدعى إلى ذلك، ولهذا أثر عن مجاهد قوله: "لا يحلّ لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتكلَّم في كتاب الله إذا لم يكن عالماً بلغات العرب"4. وهكذا أصبحت العربية من الدِّين، وغدا تعلمها لفهم مقاصد الكتاب والسنة قربة من أجلّ القربات إلى الله، ونظر بعض العلماء إلى تعلمها على أنَّه فرض واجب5.

_ 1 إيضاح الوقف والابتداء1/15، والإتقان 1/149. 2 ينظر: الإتقان 1/149. 3 ينظر: الإتقان 1/149. 4 البرهان في علوم القرآن 1/292. 5 اقتضاء الصراط المستقيم 207.

وفي هذه البيئة العلمية نمت المعارف في المدينة واهتدى القراء إلى ملحوظات متناثرة في الأصوات والغريب والنَّحو، وكانت ملحوظاتهم في النَّحو نواة العمل النَّحوي فيما بعد. وعلى هذا يمكن القول: إنَّ النَّحو العربي الَّذي اكتمل بنيانه في البصرة والكوفة فيما بعد هو ثمرة من ثمار الدِّراسة القرآنية الَّتي نبتت وترعرعت في المدينة. وثمة أسباب ودوافع أخرى أسرعت بعلم النَّحو إلى الظُّهور، ثم النَّضج؛ذكرها بعض الباحثين المعاصرين1، وهي لا تكاد تخرج عمَّا ذكرناه في هذا البحث، فيطيب لبعضهم أن يذكروا إلى جانب الدَّافع الديني دوافع بعضها قوميّ عربي، وبعضها الآخر اجتماعي. فأمَّا الدَّافع القومي2 فيرجع إلى اعتزاز العرب بلغتهم وخشيتهم عليها من الفساد أو الفناء أو الذوبان في اللّغات الأعجمية. ويتمثل الدَّافع الاجتماعي3 في بعد العرب عن البادية، مهد لغتهم الأوَّل، وفساد سلائقهم، بعد اختلاطهم بالأعاجم، في الأمصار، والبيوت، والأسواق، والجيوش، وسائر المرافق العامة والخاصة، إضافة إلى انتشار التَّسرِّي بالأعجميات أو التَّزوُّج بهنَّ، فنتج عن ذلك أمور منها نشوء أجيال من العرب من أمهات غير عربيات، وتأثرهم بهنَّ ففشا اللحن على ألسنتهم وانتشر نتيجة لذلك. وهذا الَّذي ذكروه يعود في جملته إلى ما ذكرناه - فيما تقدَّم - كاللحن في اللُّغة، وزحفه إلى القرآن، والرَّغبة في درس نصه المقدس، والكشف عن أسراره.

_ 1 ينظر: المفصل في تاريخ النحو العربي 18 وما بعدها، وتجديد النحو العربي 59-69، وفي التفكير النحوي عند العرب 37. 2ينظر: تجديد النحو 58، والمدارس النحوية 12. 3ينطر: المفصل في تاريخ النحو العربي 27، وتجديد النحو 59.

الفصل الثاني

الفصل الثاني منشيء علم العربية ... مُنشئ علم العربيّة تبيَّن ممَّا سبق أنَّ العقليَّة العربيَّة في المدينة في القرن الأول الهجري كانت مهيَّأة تماماً لظهور علم العربية بعامة والنَّحو على وجه الخصوص، وأنَّ هذا العلم ككل قانون تتطلبه الحوادث وتقتضيه الحاجات1، ولم يكن قبل الإسلام ما يحمل العقول على التَّفكير فيه. فمن أنشأ هذا العلم؟ لقد اختلف علماء العربيَّة قديماً وحديثاً في أمر واضع النَّحو العربي، وتضاربت آراؤهم، وتباينت توجيهاتهم، وردّ بعضهم على بعض، فبعضهم يقول: إنّه عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - ويقول بعضهم: إنَّه أبو الأسود الدؤلي، ويراه بعضهم الآخر نصر بن عاصم، في حين يرى فريق منهم أنّه عبد الرَّحمن بن هرمز المدني. وأنكر بعض الباحثين المعاصرين ذلك كلّه، وذهب إلى أنَّ معرفة واضع النَّحو في العربية يكاد يكون معضلة2، وأنَّه غامض في منشئه كل الغموض3؛فلا سبيل إلى تحقيقه البتة4. وفي هذا الشَّأن يقول بروكلمان: "يبدو أنَّ أوائل علم اللغة العربية ستبقى

_ 1 ينظر: نشأة النحو 12. 2 ينظر: اللغة والنحو 54ا. 3 ينظر: ضحى الإسلام 2/285. 4 ينظر: اللُغة والنحو 154، وهمزة (البتة) همزة وصل، وبعضهم يجعلها همزة قطع، وكلاهما صحيح.

دائما محوطة بالغموض والظلام"1. ويقول: "أمَّا تعيين أوّل من وجه العرب إلى الاشتغال بالبحوث اللُغوية فهذا أمر لا يزال غامضا بعد2. وسبب الغموض عند بعض هؤلاء أنَّه ليس ثمة ما يقطع بالحقيقة في هذا الشأن، لضياع كثير ممَّا أُلّف في المراحل الأولى لنشأة هذا العلم، أو لاضطراب بعض المصادر التَّاريخيَّة الَّتي تعرَّضت لنشأة النَحو العربي، إضافة إلى هيمنة روح التَّشكيك عند بعض المستشرقين في قدرة العرب على ابتداع علم لم يكن لهم سابقة فيه، فانساق أكثر هؤلاء وراء عواطفهم، وزعموا أنّ علوم العربيَّة في نحوها ومعجمها ما هي إلا تقليد ومحاكاة أو ترجمة أجنبية يونانيَّة أو سريانيَّة أو هنديَّة أو فارسيَّة. والحق أن نشأة علوم العربيَّة وعلى رأسها النّحو ليست بهذه الدَّرجة من الغموض، ومن الممكن أن يصل الباحث إلى نقطة البداية، أو ما يقرب منها مستعيناً بالقرائن العلميّة والرِّوايات التَّاريخيَّة الكثيرة بعد تخليصها من بعض الشوائب. ومن خلال ذلك يمكن التّعرُّف على الشَّخصيَّة أو الشٌخصيَّات الّتي كان لها دور بارز في المراحل الأولى لنشأة العربية، والنّحو خاصة. على أنّي أرى أنَّ الخطأ الّذي وقع فيه المؤرخون لهذا العلم من القدامى والمعاصرين هو سعيهم الحثيث وانشغالهم بالبحث عن ذلك الشَّخص الفريد الَّذي أنشأ هذا العلم العظيم، وأخرجه من العدم إلى الوجود، وهذا - في زعمي - جهد ضائع؛ لأنه ليس لتلك الشخصيَّة الوهمية وجودا أصلا! ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍. فالعربيَّة بعامة والنَّحو بخاصة ثمرة لحشد من التَّراكمات والأنظار والإشارات والملحوظات اللُّغوَّية الَّتي أثارها عدد من النَّابهين من أصحاب

_ 1 تاريخ الأدب العربي 2/123. 2 نفسه 1/128.

الذّائقة اللُّغويَّة الرَّفيعة من الصَّحابة والتَّابعين وغيرهم، الذين اشتركوا بدرجات متفاوتة في العناية باللغة، وأسهموا في إرساء الأسس النَّحويَّة الأولى، وتطوير العديد من المفاهيم اللُّغويَّة، ونقلها إلى مرحلة علمية جديدة. وبرز من هؤلاء جماعة كان لهم النَّصيب الأوفر في نشأة علم النَّحو قياساً بمعاصريهم، وعلى تفاوت بينهم، وهم: عليّ بن أبي طالب وأبو الأسود الدُّؤلي في النصف الأول من القرن الأول، ونصر ابن عاصم وعبد الرَّحمن بن هرمز في النَّصف الثاني من القرن الأول. ولبروز هؤلاء في هذا العلم وتفوقهم على غيرهم من معاصريهم نسب ابتداع علم النّحو في العربيَّة إليهم، واثنان من هؤلاء الأربعة كانوا في المدينة وهما: علي رضي الله عنه وعبد الرَّحمن بن هرمز الأعرج. ويلحق بهؤلاء الأربعة عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - الّذي برع في اللُّغة وتفسير الغريب، وأسهم في ظهور علم الدِّلالة والمعجم، وقيل: إنّه أمر بوضع النحو كما سيأتي. ولا بأس في أن أذكر فيما يلي شيئاً ممَّا أثر عن هؤلاء من غير بسط ولا استقصاء لشهرته وكثرة ما كتب فيه؛ولأن بعضه يحقق ما ذهبتُ إليه، وهو أنَّ نشأة الدَّرس اللُّغوي، بعامة والنَّحوي بخاصّة كانت في المدينة.

أولا: علي بن أبي طالب

أولا: عليّ بن أبي طالب (ت 40هـ) تذكر كثير من الرِّوايات القديمة أنَّ أوَّل من وضع علم العربيَّة وأسَّس قواعده، وحدَّ حدوده أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - وأخذ عنه أبو الأسود الدُّؤلي1، وأخذ عن أبي الأسود نصر بن عاصم وعبد الرَّحمن بن هرمز، فقد ذكر أبو بكر الأنباريّ أنَّ أبا الأسود أخذ النَّحو عن عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - "2.

_ 1 الفهرست 45، ونزهة الألباء17. 2 إيضاح الوقف والابتداء1/43.

وقال أبو عبيدة معمر بن المثنّى وغيره: "أخذ أبو الأسود الدُّؤلي النَّحو عن علي بن أبي طالب "1. وروى أبو الطَّيب اللُغوي بسنده أنَّ "أول من رسم النَّحو أبو الأسود الدؤلي ... وكان أبو الأسود أخذ ذلك عن أمير المؤمنين عليّ - عليه السَّلام - لأنَّه سمع لحناً، فقال لأبي الأسود: اجعل للنَّاس حروفاً - وأشار إلى الرَّفع والنصب والجرّ - فكان أبو الأسود ضنيناً بما أخذه من ذلك عن أمير المؤمنين عليه السلام"2. وروى أبو بكر الزُّبيدي عن المبرّد قوله: "سُئل أبو الأسود عمَّن فتح له الطريق إلى الوضع في النَّحو، وأرشده إليه، فقال: تلقيته من علي بن أبي طالب"3. وقال في رواية أخرى عن المبرد: "ألقى إليّ عليّ أصولا احتذيت عليها"4. وذكر أبو حيان التوحيدي أنَّ "علىّ بن أبي طالب - رضوان الله عليه - سمع قارئاً يقرأ على غير وجه الصواب فساءه ذلك، فتقدَّم إلى أبي الأسود الدّؤلي حتّى وضع للنَّاس أصلا ومثالا وباباً وقياساً، بعد أن فتق له حاشيته، ومهّد له مهاده، وضرب له قواعده"5. ومن الرِّوايات الّتي تعزو نشأة النَّحو إلى الإِمام عليّ بن أبي طالب ما نقله القفطي في قوله: "وروي – أيضاً - عن أبي الأسود قال: دخلت على أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب - عليه السَّلام - فأخرج لي رقعة فيها: الكلام كله اسم وفعل وحرف جاء لمعنى"6.

_ 1 نزهة الألباء20. 2 مراتب النحويين 24. 3 طبقات النحويين واللغويين 21. 4 نفسه 21. 5 البصائر والذخائر 1/83. 6 إنباه الرواة 1/40.

ثم يقول القفطي: "وأهل مصر قاطبة يرون بعد النَّقل والتَّصحيح أنَّ أوَّل من وضع النَّحو عليّ بن أبى طالب - كرَّم الله وجهه - وأخذ عنه أبو الأسود الدُؤلي"1. وساق الأنباري جملة من الرِّوايات، وفيها ما يعزو النَّحو إلى أبي الأسود أو عبد الرًّحمنِ بن هرمز أو نصر بن عاصم، ثم ختمها برأيه الخاص، فقال: "والصَّحيح أنَ أوّل من وضع النَّحو عليّ بن أبى طالب - رضي الله عنه - لأنَّ الرِّوايات كلها2 تسند إلى أبي الأسود، وأبو الأسود يسنده إلى عليّ"3. وتفصّل بعض الروايات في طبيعة النحو الذي وضعه الإمام عليّ، وتذكر الأبواب التي وضعها، ولا يخفى ما في ذلك من أثر التزيد والمبالغات، وإن كان له دلالته - أيضا - وهو شبه الإجماع على أن لعليّ - رضي الله عنه - نصيباً في ظهور النَّحو. يقول السيوطي فيما رواه عن أبي الأسود أنّه قال: "دخلت على أمير المؤمنين علىّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - رأيته مطرقاً متفكراً، فقلت: فبم تفكّر يا أمير المؤمنين؟ قال: إنّي سمعت ببلدكم هذا لحناً، فأردت أن أصنع كتاباً في أصول العربيَّة. فقلت: إن فعلت هذا أحييتنا وبقَّيت فينا هذه الُّلغة، ثم أتيته بعد ثلاث، فألقى إليّ صحيفة فيها: بسم الله الرحمن الرحيم. الكلام كله: اسم وفعل وحرف. فالاسم: ما أنبأ عن المسمَّى، والفعل: ما أنبأ عن حركة المسمَّى، والحرف: ما أنبأ عن معنىً ليس باسم ولا فعل، ثم قال لي: تتبعه، وزد فيه ما وقع لك، واعلم يا أبا الأسود أن الأسماء ثلاثة: ظاهر، ومضمر، وشيء ليس بظاهر ولا مضمر، وإنما تتفاضل العلماء في معرفة ما ليس بظاهر ولا مضمر.

_ 1 إنباه الرواة 1/41. 2 يريد الروايات التي يُطمأن إليها. 3 نزهة الألباء22،21.

قال أبو الأسود: "فجمعت منه أشياء، وعرضتها عليه فكان من ذلك حروف النَّصب فذكرت منها: إنَّ، وأنَّ، وليت، ولعلّ، وكأنَّ، ولم أذكر لكنَّ، فقال لي: لِمَ تركتها؟ فقلت: لم أحسبها منها. فقال: بل هي منها، فزدها فيها"1. ولا يخفى ما في هذه الرِّواية من آثار التَّزيُّد والمبالغات، ممّا يجعل النَّفس ترتاب منها لورود مثل تلك المصطلحات والتَّفصيلات التي يبعد أن تكون عرفت في زمن عليّ - رضي الله عنه -. وعلى الرَّغم من كثرة الرِّوايات الّتي تسند هذا العلم إلى الإمام عليّ، وتلميذه أبي الأسود من بعده، وتسليم أكثر القدماء بمضمونها ردّها بعض المعاصرين، وجعلوها من الأساطير2، أو الخرافات3، أو عبث الرّواة الوضَّاعين4. وأنكر بِعضهم أن يكون للخليفة عليّ بن أبي طالب أي دور في نشأة علم النَّحو، لأنَّ "وضع النَّحو أمر خطير يتقاضى من القائم به عناية مبذولة إليه خاصة، وصدوفاً عن مشاغل الحياة عامة، ووقتاً طويلا، يُستنزف في التَّقصي للكلام العربي، وإعمال الفكر واستخراج القواعد في حياة كلها هدوء واستقرار، يرفرف عليها جناح الأمن والسَّلام، وحياة الإِمام عليّ - كرم الله وجهه - تقضَّت في النّضال العنيف والشجار المستحرّ، ملأتها الحوادث المروعة، واكتنفتها أمواج الاضطرابات الشاملة، فبعيد أنَّ الإمام عليّ يواتيه الوقت الكافي للنهوض بأعباء هذا العمل الجلل"5.

_ 1 الأخبار المروية 35،34. 2 ينظر: تاريخ الأدب العربي لبروكلمان 2/123. 3 ينظر: ضحى الإسلام 2/285. 4 ينظر: المدارس النحوية 14. 5 نشأة النحو 19، وينظر: المدارس النحوية 14.

ونحن نقول لهؤلاء المنكرين: إنَّنا لا نتصوَّر أن يتواطأ جمع من علمائنا القدامى على الكذب، ولا نستكثر على الإِمام عليّ - رضي الله عنه - أن يكون له دور بارز في نشأة هذا العلم، كإرشاد أبي الأسود وتلقينه بعض المبادئ الُّلغوية. وأية غرابة في أنَّ تدور بين عليّ وصديقه أبي الأسود أحاديث تتّصل باللغة، وهما بها عالمان، وعلى سلامتها حريصان، في زمن استشرت فيه العجمة، وشاع فيه اللحن، وأخذ يتهدد القرآن؟. وليس ما صنعاه نحواً بالمعنى الَّذي نعرفه اليوم، إنما هي إشارات، وتنبيهات، وملحوظات؛ كانت تدور تحت سماء المدينة وغيرها، منذ عهد الخليفة عمر بن الخطَّاب، فأضاف علي وصاحبه إضافات مهمة، جعلت النَّاس ينسون ما كان قبلهما، ويعزون هذا العلم لهما، أو لأحدهما. ولو أخذنا بحجَّة انشغال الخليفة علي بتصريف أمور الدَّولة، لأنكرنا كثيراً ممَّا أثر عنه من فنون القول والحكمة، ممّا فاضت به كتب التَّراجم والطَّبقات، وجُمع بعضه في كتاب نهج البلاغة، وذلك أو أكثره يحتاج في صياغته إلى التَّأمُّل والوقت. وكيف نستكثر على عليّ أن يضيع شيئاً من مبادئ النَّحو أو يرشد إليها، وهو من أكثر الصَّحابة علماً وأشدّهم ذكاء، فقد روي عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قوله: "أنا مدينة العلم وعليّ بابها، فمن أراد العلم فليأته من بابه "1. فعليّ رجل القضاء والفقه والرِّواية والخطابة، وما روي عن ريادته في النَّحو ليس تأليفا مكتملا يستغرق الوقت، ولكنَّه لفتة من بداهة السليقة2.

_ 1 الاستيعاب 2/11. 2 ينظر: ملاعبة الصيد 157.

ثانيا: أبو الأسود الدؤلي (ت69هـ)

ثانياً: أبو الأسود الدُّؤليّ (ت 69هـ) ذهب بعض الرُّواة إلى أنَّ أبا الأسود هو أوَّل من استنبط النَّحو، وأخرجه من العدم إلى الوجود. قال ابن سلام: "وكان أول من أسَّس العربيَّة، وفتح بابها، وأنهج سبيلها، ووضع قياسها: أبو الأسود الدُّؤلي ... فوضع باب الفاعل والمفعول به، والمضاف، وحروف الرَّفع والنَّصب والجرّ والجزم"1. وقال ابن قتيبة: "إنَّ أبا الأسود هو: "أول من عمل في النَّحو كتاباً"2. وُيقوي ما ذهب إليه ابن قتيبة في أنَّ لأبي الأسود كتاباً في النَّحو ما حكاه ابن النَّديم في قصَّة الأوراق العتيقة الَّتي وقف عليها، فهي تدلّ على أنَّ واضع النَّحو هو أبو الأسود الدؤلي، قال ابن النَّديم: "كان بمدينة الحديثة رجل يقال له محمد بن الحسين، ويعرف بابن أبي بَعْرَة، جمَّاعة للكتب، له خزانة لم أر لأحد مثلها كثرة، تحتوي على قطعة من الكتب الغريبة في النَّحو واللغة والأدب والكتب القديمة، فلقيت هذا الرجل دفعات فأنس بي، وكان نفوراً ضنيناً بما عنده وخائفاً من بني حمدان، فأخرج إليّ قِمطراً فيه ثلاث مئة رطل جلود فلجان، وصِكاك، وقرطاس مصر، وورق صيني، وورق تهامي، جلود آدم، وورق خرساني، فيها تعليقات لغة عن العرب، وقصائد مفردات من أشعارهم، وشيء من النَّحو والحكايات والأخبار والأسمار والأنساب، وغير ذلك من علوم العرب، وغيرهم. وذكَر أنَّ رجلاً من أهل الكوفة - ذهب عني اسمه - كان مستهتَراً بجمع الخطوط القديمة، وأنّه لما حضرته الوفاة خصَّه بذلك لصداقة كانت بينهما، وأفضال من محمد بن الحسين عليه، ومجانسة بالمذهب، فإنَّه كان شيعيَّاً، فرأيتها وقلَّبتها فرأيت عجباً، إلا أنَّ الزَّمان قد أخلقها، وعمل فيها

_ 1 طبقات فحول الشعراء 1/12. 2 الشعر والشعراء 2/729.

عملاً أدرسها وأحرفها، وكان على كل جزء أو ورقة أو مدرج توقيع بخطوط العلماء واحداً إثر واحد، يذكر فيه خط من هو، وتحت كلِّ توقيع آخر وخمسة أو ستة من شهادات العلماء على خطوط بعضِ لبعض، ورأيت في جملتها مصحفاً بخط خالد بن أبي الهياج صاحب عليّ عليه السَّلام، ثم وصل هذا المصحف إلى أبي عبد الله بن حاني - رحمه الله - ورأيت فيها بخطوط الأئمَّة من الحسن وإلى الحسين عليهم السَّلام، ورأيت عدَّة أمانات وعهود بخط أمير المؤمنين عليّ عليه السلام، وبخط غيره من كتاب النّبي عليه السلام، ومن خطوط العلماء في النَّحو والّلغة، مثل أبي عمرو بن العلاء، وأبي عمرو الشَّيبانيّ، والأصمعيِّ، وابن الأعرابيّ، وسيبويه، والفراء، والكسائي، ومن خطوط أصحاب الحديث مثل سفيان بن عُيينة، وسفيان الثوريّ، والأوزاعيّ وغيرهم، ورأيت ما يدلُّ على أنَّ النَّحو عن أبي الأسود ما هذه حكَايته، وهي أَربع أوراق أحسبها من ورق الصيني، ترجمتها: هذه فيها كلام في الفاعل والمفعول من أبي الأسود - رحمة الله عليه - بخط يحي بن يعمر. وتحت هذا الخط بخط عتيق: هذا خط علاّن النَّحويّ، وتحته: هذا خط النَّضر بن شميل"1. وتؤكد رواية ابن النَّديم هذه اشتغال أبي الأسود بالنَّحو، ووضعه شيئاً من حدوده، مع أنَّها لا تنفي أن يكون قد تلقى ذلك أو بعضه عن عليّ بن أبي طالب. ومن الصَّعب الشك في صحَّة هذه الرِّواية لأنَّ ما أورده ابن النَّديم من مقوّيات الخبر يؤكد صدقه؛ ولأنَّ الرجل ثقة عرف بدقته في النَّقل والرِّواية، فهو إذا رأى بنفسه قال: رأيت، وإذا سمع قال سمعت، وإذا لم يطمئنّ إلى شيء، قال: لم أر، أو ذكر ما يدل على شكّه. على أنَّ اختفاء هذه الأوراق ثلاثة قرون

_ 1 الفهرست 46.

وظهورها في القرن الرابع على يد ابن النَّديم المتوفى سنة 380هـ وسكوت العلماء عنها قد يثير الشَّكّ والارتياب في أمرها، وإن كان ذلك لا يكفي لردها؛ لأنَّ كثيرا من مؤلفات القدامى من القرن الثاني والثالث قد ضاعت، ثم وجد بعضها بعد عدة قرون. والذي عليه أكثر العلماء1 أنَّ النَحو أخذ عن أبي الأسود وأنَّ أبا الأسود أخذ ذلك عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب2 - كما تقدَّم -، وأنَّه كان مدفوعاً برغبته الجامحة لصدّ ما سمعه من الَّلحن، قال المبرد: إنّ "ابنة أبي الأسود قالت: ما أشدُّ الحرِّ، فقال لها: الحصباء بالرمضاء، قالت: إنَّما تعجّبت من شدّته، قال: أو قد لحن النّاس؟ فأخبر بذلك علياً - رحمة الله عليه - فأعطاه أصولا بنى منها، وعمل بعده عليها3. أو أنَّه سمع لحناً في القرآن فقال: "لا أظن يسعني إلا أن أضع شيئاً أصلح به نحو هذا، أو كلام هذا معناه، فوضع النَّحو"4. قال أبو الطيب الُّلغويّ: "وكان أول من رسمه، فوضع منه شيئاً جليلاً، حتَّى تعمق النَّظر بعد ذلك، وطوَّلوا الأبواب"5. وقيل بل كان وضعه ليتعلمه بنو زياد؛ لأنَّهم كانوا يلحنون، فكلَّمه زياد في ذلك، وكان أعلم الناس بكلام العرب6. وذهب بعض الرواة إلى أنَّ أبا الأسود وضع النَّحو بأمر من عمر بن الخطَّاب - رضي الله عنه -.

_ 1 ينظر: الفهرست 45،ونزهة الألباء1/17، وإنباه الرواة 1/39، والأخبار المروية 31. 2 ينظر: مراتب النحويين 24. 3 الفاضل 95. 4 مراتب النحويين 26. 5 نفسه 26. 6 نفسه 27.

ذكر أبو البركات الأنباري أنَّ عمر بن الخطَّاب سمع لحناً في القرآن الكريم فأمر "أن لا يقرئ القرآن إلا عالم باللّغة، وأمر أبا الأسود الدًّؤليّ أن يضع النّحو"1. وأخرجه الحافظ بن عساكر2 والسُّيوطيّ3. وحدَّث أبو الحسن المدائنيّ عن عبّاد بن مسلم عن الشَّعبي، قال: "كتب عمر بن الخطَّاب - رضي الله عنه - إلى أبي موسى: أما بعد، فتفقَّهوا في الدِّين؛ وتعلَّموا السُّنّة، وتفهَّموا العربيَّة، وتعلَّموا طعن الدَّرية4، وأحسنوا عبارة الرُّؤيا، وليعلّم أبو الأسود أهل البصرة الإِعراب"5. وأنكر بعض الباحثين المعاصرين أن يكون عمر بن الخطَّاب هو الَّذي أمر أبا الأسود بوضع النَّحو، لتقدم عصر عمر وانشغاله بأمر الدَّولة وبعده عن أبي الأسود الذي كان يسكن البصرة6، ولتعارض ذلك مع ما روي، وهو أنَّ الآمر بذلك هو عليّ بن أبي طالب. ويمكن الجمع بين الرِّوايات الَّتي عزت ذلك إلى عمر بن الخطَّاب، والَّتي عزته إلى عليّ، بأنّ عمر أشار إلى شيء من ذلك، ولكنَّ أبا الأسود تأخَّر في الاستجابة، وتردّد، ثم جدّد الخليفة عليّ الطَّلب، فأمر أبا الأسود فاستجاب بعد أن رأى شيوع اللحن في زمن عليّ. ومن الثَّابت اهتمام عمر بن الخطاب بسلامة اللغة، ودعوته إلى مرعاة الصَّواب في النُّطق بالمفردات والتَّراكيب.

_ 1 نزهة الألباء1/20. 2 ينظر: مختصر تاريخ دمشق 7/113. 3 ينظر: الأخبار المروية 30، 31. 4 الدّريّة: ما يُتعلم عليه الطعن. ينظر: القاموس (درى) 1655. 5 إنباه الرواة 1/51. 6 ينظر: تجديد النحو العربي 101.

وتذكر بعض الرِّوايات أنَّ أبا الأسود تلقى الأمر بوضع النَّحو من زياد بن أبيه، لحوادث من الَّلحن ذكروها1. ومن الثَّابت أن أبا الأسود صنع النَّقط الإعرابيّ في المصحف ضمّاً ورفعاً وكسراً وغُنَّة؛ لرعاية النَّصّ القرآني من اللَّحن، وقد روت المصادر أنَّ زياداً بعث إلى أبي الأسود، فقال له: "يا أبا الأسود؛ إنَّ هذه الحمراء قد كثرت، وأفسدت من ألسن العرب، فلو وضعت شيئاً يَصْلُحُ به النَّاس، ويعْرب به كتاب الله ... فقال: يا هذا قد أجبتك إلى ما سألت، ورأيت أن أبدأ بإعراب القرآن، فابعث إليَّ ثلاثين رجلا. فأحضره زياد، فاختار منهم أبو الأسود عشرة، ثم مازال يختارهم، حتَّى اختار منهم رجلاً من عبد القيس، فقال له: خذ المصحف وصبغاً يخالف لون المداد، فإذا فتحت شفتي فانقط واحدة فوق الحرف، وإذا ضممتها فاجعل النقطة إلى جانب الحرف، وإذا كسرتها فاجعل النُّقطة في أسفله، فإن اتبعت شيئاً من الحركات غنَّة فانقط نقطتين. فابتدأ بالمصحف حتَّى أتى على آخره، ثم وضع المختصر المنسوب إليه بعد ذلك"2. ويُعدُّ النَّقط الإعرابي الَّذي وضعه أبو الأسود، ثم طُوِّر فيما بعد واستقرَّ على صورة الحركات الَّتي نعرفها اليوم من أعظم الخطوات في علم العربية بعامة والنَّحو بخاصة. ولا جدال في أنَّ ما قام به أبو الأسود في هذا الشَّأن يُعدُّ عملاً منطقيَّاً، تتطلبه الحوادث، وتقتضيه الحاجات في ظروف ومناسبات خاصة، ولا يقدم

_ 1 ينظر: إنباه الرواة 1/50، 51. 2 نزهة الألباء20، وينظر: الفهرست 45، ومجالس ثعلب 1/66، وأمالي القالي 1/5، وإيضاح الوقف والابتداء 1/41.

عليه أحد من دون موافقة ولاة الأمر في عصره، ورعايتهم1؛ لأنَّ الأعمال الفردية في أمر عظيم يتصل برسم المصحف لا يقدم عليها فردٌ بغير إجماع من علماء المسلمين، وتعضيد من وليّ الأمر. ويبدو أنَّ فكرة ضبط القرآن ضبطاً إعرابياً قد راودت الخلفاء الرَّاشدين منذ عهد الخليفة عثمان بن عفان، بعد أن جمع المصحف، ولا نستبعد أن تكون أصولها في زمن الخليفة عمر بن الخطاب الّذي كان حريصا على لغة العرب، ولاشكَّ في أنَّ حرصه على النَّص القرآني أكبر، ولكن حداثة الإِسلام، وانشغال الأئمَّة بالفتوحات في زمنه، وانشغالهم بجمع القرآن في زمن عثمان أدَّى إلى تأخير هذا الصنيع الَّذي قام به أبو الأسود فيما بعد، حين تهيَّأت له الأسباب.

ثالثا: ابن عباس (ت 68 هـ)

ثالثاً: ابن عبّاس (ت 68 هـ) كان ابن عبّاس - رضي الله عنهما - يسمّى البحر، لسعة علمه2، وكان أعلم النّاس في زمانه بعلم العربية والشعر وتفاسير القرآن3. وحسبك في علم ابن عباس في مجال العربية قول ابن جني: "ينبغي أن يحسن الظن بابن عباس، فيقال: إنه أعلم بلغة القوم من كثير من علمائهم4" أي: علمائهم الذين تخصصوا في علم العربية بعد أن نضجت. ونستطيع القول: إن لابن عباس الحظ الوافر في تأسيس علوم العربية لغة ونحوا: ودفع عجلتها بقوة، لما أثر عنه من نشاط مشهور في هذا الشأن.

_ 1 ينظر: أثر القرآن في أصول مدرسة البصرة 39. 2 ينظر: أسد الغابة 3/187، وتحفة الأحوذي 10/327. 3 ينظر: أسد الغابة 3/187، 188. 4 المحتسب 2/342.

وصلة ابن عباس برجالات الُّلغة والمعنيين بأمرها ثابتة، ومن هؤلاء عمر ابن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وأبو الأسود الدؤلي. وصلة ابن عباس بأبي الأسود بخاصة، وعلمه بالعربية تجعلاننا نقبل بعض الروايات المأثورة عن تعاون الرجلين في مجال اللغة؛ فقد روي فيما يتصل بالنحو أن ابن عباس كان يعرف شيئاً منه، وكان يأمر أبا الأسود بالمضيّ في إظهاره. قال القفطي: "أتى أبو الأسود عبد الله بن عباس، فقال: إني أرى ألسنة العرب قد فسدت، فأردت أن أضع شيئاً لهم يقومون به ألسنتهم قال: لعلك تريد النحو، أما إنه حق، واستعن بسورة يوسف"1. ولا ندري مراد ابن عباس بحضّه أبا الأسود على الاستعانة بسورة يوسف، ولعله أراد أن يتخذ أبو الأسود من بعض آياتها الكريمة رائداً له2، مثل: {وَلِنُعلِّمهُ مِن تَأوِيل الأحَاديث} 3 أو {وَلا نُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ} 4 أو {وَعَليْهِ فَلْيَتَوَكَّل المُتَوَكِّلُون} 5 أو {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} 6 أو أنه أراد أنّ في هذه السورة وحدها ما يكفيه لوضع الأسس للنحو. ولابن عباس معرفة مؤكدة بالنحو، فقد كان ينبه الناس على اللحن، فمن ذلك أنه لقي ابن أخي عبيد بن عمير فقال: إنّ ابن عمّك لعربي، فماله يلحن في قوله: {إذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصدُّوْن} إنما هي يَصِدون7 "

_ 1 إنباه الرواة 1/51. 2 ينظر: تجديد النحو العربي 100. 3 سورة يوسف: الآية 21. 4 سورة يوسف: الآية 56. 5 سورة يوسف: الآية 67. 6 سورة يوسف: الآية 76. 7 معاني القرآن للفراء 3/36،37.

وهذا خلل في حركة عين الفعل المضارع، وهو خلل صرفي، وقد عدّه لحنا، ولاشك في أن الخلل النحوي في حركات الإعراب عنده أوضح وأكبر1. وروى ابن جرير الطبري أن ابن عباس قرأ الآية: {يَأيُّها الَّذينءَامَنُوا إِذَا قُمْتُم إِلَى الصَّلوةِ فَاغسِلُوا وُجوهَكُم وأيدِيَكُم إِلَى الَمرَافِقِ وامْسَحوا بِرُءُوسِكُم وَأرْجُلَكُم} 2 بنصب أرجلكم، فقال: "عاد الأمر إلى الغسل3". وفي هذا دلالة قوية على معرفة ابن عباس بالإعراب؛ لأنه ربط بين معنى الآية وحركات الإعراب، إذ عطف (أرجلكم) على (وجوهَكم) وهي في موضع نصب، ولم يعطفها على (برؤسكم) رغم قربها؛ لأنها مجرورة بالحرف. ومهما يكن من أمر، فقد برع ابن عباس في اللغة، وتفسير الغريب في المفردات، وشرح بعض الأساليب العربية في التراكيب، وشق الطريق أمام اللغويين في مقام الاستفادة من الشعر في بناء مناهج العربية فيما عرف عنه في إجاباته عن سؤالات نافع بن الأزرق، وملحوظاته في التفسير، فكان ذلك نواة علم الدلالة والصنعة المعجمية عند العرب.

رابعا: نصر بن عاصم الليثي (ت89هـ)

رابعاً: نصر بن عاصم الليثيّ (ت 89 هـ) كان نصر بن عاصم فقيها فصيحاً عالماً بالعربية، من تلامذة أبي الأسود. قال عمر بن دينار: "اجتمعت أنا والزهري ونصر بن عاصم، فتكلم نصر، فقال الزهري: إنه ليفلّق بالعربية تفليقاً"4.

_ 1 ينظر: المفصل في تاريخ النحو العربي 78. 2 سورة المائدة: الآية 6. 3 جامع البيان للطبري 4/ 468. 4 نزهة الألباء، 23.

ويعدّ نصر بن عاصم من علماء النحو المبرزين في زمانه، وقال بعض الرواة: إن نصر ابن عاصم "أول من وضع النحو وسببه"1. وقال السيرافيّ: إنه "أوّل من وضع العربية"2. وقال ابن النديم: "وقال آخرون: رسم النحو نصر بن عاصم"3. وقال أبو البركات الأنباري: "وزعم قوم أن أول من وضع النحو نصر بن عاصم"4. والحق أنه ليس أول من وضع النحو، كما زعم بعض الرواة، فقد برز قبله جماعة - كما تقدم - منهم عليّ بن أبي طالب وأبو الأسود، والصواب أنه من أول من أخذ النحو عن أبي الأسود، وفتق فيه القياس، وكان أنبل الجماعة الذين أخذوه عن أبي الأسود فنسب إليه - كما يقول القفطي5. ولعل من نسب إليه أوليّة النحو قصد نقط المصاحف الإِعجاميّ، وهو إكمال لصنيع شيخه أبي الأسود، أو أنه وضع شيئاً من النحو في كتاب، فقد روى ياقوت أنّ له كتاباً في النحو6. ولنصر بن عاصم تلامذة مشهورون في النحو كعبد الله بن أبي إسحاق الحضرميّ وأبي عمرو بن العلاء. وقد يكون لتلمذة هؤلاء الأعلام عليه وأخذهم النحو عنه دور مباشر أو غير مباشر في نسبة وضع النحو إليه، فالمعتاد أن يعلي التلميذ من قدر شيخه.

_ 1 إنباه الرواة 3/343. 2 أخبار النحويين البصريين 38، والأخبار المروية 55. 3 الفهرست 45. 4 نزهة الألباء21. 5 ينظر: إنباه الرواة 3/ 343. 6 ينظر: معجم الأدباء6/2749.

خامسا: عبد الرحمن بن هرمز (ت117هـ)

خامساً: عبد الرّحمن بن هرمز (ت 117 هـ) يعد عبد الرحمن بن هرمز الملقّب بالأعرج من أشهر علماء الُّلغة والنحو في زمانه، وكان رأساً في هذا العلم، أخذ النحو عن أبي الأسود، واتصل بأكثر الصحابة علماً بالقرآن والحديث. وإليه نسبت بعض الروايات وضع النحو في المدينة، قال أبو سعيد السيرافيّ: "اختلف الناس في أول من رسم النحو، فقال قائلون: أبو الأسود الدؤلي، وقال آخرون: نصر بن عاصم الدؤليّ ... وقال آخرون: عبد الرّحمن بن هرمز"1. وروى السيرافيّ 2 وأبو بكر الزبيديّ عن ابن لهيعة عن أبي النضر أنه قال: "كان عبد الرحمن بن هرمز أول من وضع العربية 3". ورواه ابن النديم من طريق آخر، قال: "قرأت بخط عبد الله بن مقلة عن ثعلب أنه قال: روى ابن لهيعة عن أبي النضر قال: كان عبد الرحمن بن هرمز من أول من وضع العربية، وكان أعلم الناس بأنساب قريش وأخبارها"4. وقال القفطي في أثناء ترجمته لابن هرمز: "قال أهل العلم: إنه أول من وضع علم العربية"5. والحقّ أن ابن هرمز مسبوق في هذا الشأن كنصر بن عاصم، ولهذا قال أبو البركات الأنباري: "فأما زعم من زعم أن أول من وضع النحو عبد الرحمن

_ 1 أخبار النحويين البصريين 33. 2 نفسه 40. 3 طبقات النحويين واللغويين 26. 4 الفهرست 45. 5 إنباه الرواة 2/172.

ابن هرمز الأعرج ونصر بن عاصم فليس بصحيح؛لأن عبد الرحمن أخذ عن أبي الأسود، وكذلك – أيضاً - نصر بن عاصم"1. وسيأتي الحديث موسعاً عن ابن هرمز في الفصل الثالث. ويتبين لنا في ختام هذا الفصل أن أولية وضع النحو محصورة - على رأي علمائنا - بين أربعة، وهم: عليّ بن أبي طالب، وأبو الأسود الدؤليّ، ونصر بن عاصم، وعبد الرحمن بن هرمز. وأما ابن عباس فله الفضل في وضع حجر الأساس لبعض العلوم في العربية كعلم الدلالة. والذي أراه أن النحو لا يعزي في وضعه لعالم بعينه، إنما هو جملة من الأنظار والملحوظات والإشارات اللغوية التي أثارها طائفة من النابهين وأصحاب الذائقة اللغوية الرفيعة من الصحابة والتابعين، ومن جاء بعدهم، فأسهموا جميعاً - بدرجات متفاوتة - في إرساء الأسس النحوية الأولى في المدينة، ثم انتشرت هذه الملحوظات والأنظار، وتداولها المهتمون بالعربية، في الأمصار، كالبصرة في بادئ الأمر، ثم الكوفة، فكانت النواة للنحو العربي، الذي نضج في أواخر القرن الثاني، وكانت النواة لعلم العربية بعامة. وكان لهؤلاء الأربعة قدم راسخة في إرساء الأسس لهذا البنيان الشامخ، وكان اشتهارهم في هذا الفن مع تقدم زمانهم مدعاة لأن يرفع الرواة والمؤرخون من شأنهم، وينسبوا إليهم وضع النحو.

_ 1 نزهة الألباء21.

الفصل الثالث

الفصل الثالث من أعلام الدرس اللغوي في المدينة ... من أعلام الدّرس الّلغويّ في المدينة (في القرنين الأوّل والثاني) قسّم علماء الطبقات والتراجم البيئات التي نشأ فيها النحو واشتهرت فيها مقالته إلى ثلاثٍ، وهي: البصرة والكوفة وبغداد، فقالوا تبعاً لذلك: إن النحويين ثلاث فئات: بصريون، وكوفيون، وبغداديون؛وهم من خلطوا المذهبين البصريّ والكوفيّ. ولم يشيروا إلى بيئة المدينة النحوية، أو نشأة النحو فيها، وانطلاقه منها إلى سائر الأمصار كالبصرة ثم الكوفة ثم بغداد. ولم يكتفوا بإهمالهم دور المدينة في هذا الشأن فنفى بعضهم عن المدينة أي صلة بالنحو، أو وصفوها بالخلو من علماء ذلك العلم. يقول أبو الطيب اللغوي بعد حديثه عن البصرة والكوفة: "ولا علم للعرب إلا في هاتين المدينتين، فأما مدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فلا نعلم بها إماماً في العربية"1. ونقل ذلك عنه جماعة من العلماء، كياقوت الحمويّ2 والسيوطي3ّ. ويقول ابن يعيش: "لا أدري لأهل المدينة مقالة في النحو"4.

_ 1 مراتب النحويين 55. 2 ينظر: معجم الأدباء5/2150. 3 ينظر: المزهر 2/414. 4 إنباه الرواة 2/172.

ونفى الأصمعيّ عن أهل المدينة وعلمائها العلم بالشعر - أيضا، وهو يصف حالهم في زمانه في القرن الثاني بقوله: "أقمت بالمدينة زماناً ما رأيت بها قصيدة واحدة صحيحة إلا مصحّفة أو مصنوعة"1. ويذكر الجاحظ أن اللحن في أهل المدينة فاشٍ، وفي عوامهم غالب2. وتدلّ هذه التهم والأحكام - إن صحّت - على ضعف أهل المدينة في العربية، وبعدهم عن الاشتغال بفنونها كالنحو والإعراب والغريب رواية الشعر. وظاهرٌ ما في هذه النصوص من مبالغات، وهي لا تخلو من الظلم والحيف لهذه المدينة المباركة، وفيها غمط لما قدمه أبناؤها لعلوم العربية نحوا ومعجماً ورواية، وقد تبيّن لنا من خلال هذا البحث أنّ نواة العربية بذرت في المدينة منذ زمن الخلفاء الراشدين، وأن النحو العربي، كان ثمرة لجهود طائفة من المعنيين باللغة في تلك المدينة تمثلت في تأملهم اللُّغة والنظر في مفرداتها وفي تراكيبها ودقائقها، فلعلي بن أبي طالب ومن قبله عمر بن الخطاب إسهامات لا تنكر في تنقية اللغة ودفع آفة اللحن عنها وتوجيه عناية النابهين لضبطها، واستخلاص مسائلها، ووضع اللبنات الأولى لتقعيدها، ولابن عباس الفضل في وضع الأساس المتين لعلم الدلالة والمعجم العربيّ، وما يتصل بذلك من العناية بالغريب في القرآن بخاصة. ويأتي من بعد هؤلاء الأعلام طائفة من اللغويين والنحاة المتميزين من أهل المدينة في القرنين، الأول والثاني، كعبد الرحمن بن هرمز الذي عزت إليه بعض الروايات نشأة النحو العربيّ، ومحمد بن كعب القرظيّ، ومسلم بن جندب الهذليّ، وأبان بن تغلب الجُريريّ، وعبد العزيز القارئ الملقب

_ 1 مراتب النحويين 156. 2 ينظر: البيان والتبيين 1/146.

ببَشْكُسْت، وعلى الجمل، وعيسى بن يزيد بن دأب اللّيثيّ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم العدويّ، ومروان بن سعيد المهلبيّ، وغيرهم. ويبدو أن ابن برهان النحوي (456 هـ) بلغه خبر لغوي المدينة ونحوييها، أو خبر بعضهم، وعرف قدرهم، فكان أكثر إنصافاً؛إذ قال: "النحويون جنس تحته ثلاثة أنواع: مدنيون، كوفيون، بصريون "1. فانظر كيف بدأ بالمدنيين لسبقهم الزمنيّ. ونقل القفطيّ كلام ابن برهان وعلق عليه ووجهه بقوله: "أراد أن أصل النحو نتج من أول علماء هذه المدن"2. وقد يطلق على نحاة المدينة ومكة معاً في بعض المصادر مسمّى: نحويوا الحجاز، لاشتراكهم في بعض الآراء أو المصطلحات النحوية، ومن الثابت أن لهم نظرات خاصة تفردوا بها بعد طول تأمل، ومن ذلك ما أورده الفراء بعد أن عرض مسألة نحوية: "وهذا مما كان يقوله نحويوا أهل الحجاز، ولم نجد مثله في العربية3". وتبرز - هنا - عدة أسئلة، وهي: لماذا أهمل أمر النحاة واللغويين في المدينة؟ هل كانت بضاعتهم مزجاة، لا تستحق الذكر؟ أو كان نحوهم يختلف عما بين أيدينا من النحو، فسقط؟ أو أن هناك أسباباَّ أخرى نجهلها؟ يبدو أن السبب المباشر للإهمال أو التجاهل - إن صح التعبير - يكمن في انشغال المسلمين في صدر الإسلام بأخبار الحرب وأنباء الفتوح، التي كانت

_ 1 شرح اللمع لابن برهان 1/1، ينظر: إنباه الرواة 2/172. 2 إنباه الرواة 2/172. 3 معاني القرآن 1/358.

تتوالى على المدينة صباح مساء، ثمّ أدّى انتقال مركز الخلافة إلى دمشق أيام الأمويين، ثم إلى بغداد أيام العباسيين إلى صرف الأنظار عن المدينة وتركزها على مراكز الخلافة الجديدة، فأهمل المؤرخون وأصحاب الطبقات كثيراً من نواحي الحياة في المدينة، ومنها أخبار العلم والعلماء. ولم تزل المدينة تبتعد شيئاً فشيئاً عن دوائر الضوء وتنزوي بين جبال الحجاز ورمال الصحراء في جزيرة العرب، حتى خرجت ومعها جزيرة العرب بكاملها من اهتمامات المؤرخين والكتّاب وأصحاب الطبقات، فليس ثمة ما يغري المؤرخين أو يجبرهم على الخوض في شؤون تلك البقاع سوى ما يتصل بالحج، وأخبار بعض الخوارج والقرامطة. وأصبحت أخبار تلك البلاد في القرنين الثالث والرابع مما يعزّ وجوده في كتب التُّراث العربيّ، يدلّ على ذلك أننا لا نكاد نعلم شيئا عن بعض العلماء المشهورين؛ كأبي عليّ الهجَريّ، وهو من علماء الأدب واللغة والتاريخ في المدينة في القرنين الثالث والرابع، فلم تصلنا أخباره إلا عن طريق علماء الأندلس الذين نقلوا كثيراً من أخباره في أثناء رحلاتهم للحج. وفي هذا الشأن يقول الشيخ حمد الجاسر: "أليس من الغريب حقا أن يقال: إننا لولا الأندلس لجهلنا كثيرا من أحوال البلاد التي نعيش فيها، وخاصة ما يتعلق بجزيرة العرب، هذه الجزيرة التي [كانت] صلتها بعواصم الخلافة الإسلامية في دمشق والقاهرة وبغداد أقوى وأوثق، وهي إليها أقرب، وبشؤونها لم تكن يوماً مرتبطة إلا بهذه العواصم، ولم يكن للأندلس ولا للدولة الإسلامية فيه ... أية نفوذ على هذه الجزيرة، ولكن العلم وحده والرابطة الروحية الإسلامية هي أقوى من كل الصلات وأوثق من جميع الروابط. لقد كان علماء الأندلس يغدون إلى مكة المكرمة لا للحج وحده

ولكن لينشروا علماً وليستزيدوا منه، وليكونوا صلة بين شرق البلاد وغربها بالعلم والثقافة"1. ويضيف الشيخ الجاسر قائلا: "ونشير إلى ما هو أغرب من هذا، وهو أن علامة العرب الهمداني صاحب (الإكليل) و (صفة جزيرة العرب) وغيرهما من المؤلفات القيمة، والذي كان يعيش في أقصى جنوب جزيرة العرب دخلت كتبه الأندلس واستفاد منها علماؤه قبل أن يعرف علماء الشرق عنها شيئاً، بل إن هذا العالم وصلت إلينا كثير من أخباره عن طريق علماء الأندلس مثل صاعد الأندلسي في كتابه (طبقات الأمم) وغيره، ولم يعرف علماء المشارقة عن كتب الهمدانيّ إلا اليسير بعد الأندلسيين بمئات السنين. أما الهَجَريّ فإن أمره بقي مجهولا بين علماء الشرق إلى هذا العهد إلا ما عرفوه بواسطة الأندلسيين، وهو قليل بل أقل من القليل، بينما انتشرت كتبه في الأندلس واستفاد منها علماؤنا في وقت مبكر جداً يرقى إلى عصر الهجريّ نفسه. ولما رأى المشارقة الاستفادة من تلك الكتب لم يجدوا أمامهم سوى ما في مؤلفات علماء الأندلس منها2. ويمكن القول إن الكلمات اللغوية المعزوة لأبي عليّ الهجريّ في معجم "لسان العرب" لابن منظور وصلت إليه عن طريق "المحكم" لابن سيدة الأندلسيّ (458 هـ) . وعرف المشارقة باقي تراث الهجريّ اللغويّ مما يتصل بغريب الحديث3 عن طريق كتاب "الدلائل في شرح غريب الحديث" لثابت بن حزم السرقسطيّ (313 هـ) .

_ 1 أبو علي الهجري 11. 2 نفسه 12. 3 ينظر: التعليقات والنوادر 1/181.

وعرفوا تراثه في المواضع والبلدان عن طريق "معجم ما استعجم" لأبي عبيد البكريّ (487 هـ) . نعم؛ وإن كنا نعرف جماعة كبيرة من الأعراب1ممن أُخذتْ عنهم اللًّغة في البصرة والكوفة، فإننا نجهل نظراءهم من الأعراب المجاورين للمدينة ممن أسهموا في رواية اللغة، وأخذ عنهم بعض النوادر واللهجات في القرنين الأول والثاني. ولولا أبو عليّ الهجريّ لجهلنا أمثال هؤلاء في القرنين الثالث والرابع ممن روى عنهم الهجري اللُّغة وبعض النوادر واللغات في كتابه القيم "التعليقات والنوادر". فمن منا يعرف أبا الغَطَمَّش المَعْرضيّ من بني عُقيل، ومُكْرَمة بنت الكُحيل الفراسية من قُشَير، وابن علكم المأربيّ، وأبا بُرَيهٍ العُذَمِيّ الأسديّ، والجبهيّ، وأبا عَنْدَل الأوسيّ، وجَميل بن دغيم المِنقَريّ، وحِرْمزة التميميّ، وأبا البَسَّام الثُماليّ، والرُّدَينيّ الحارثيّ، والمُسلَّم بن أحمد بن يزيد الحربيّ، وأبا المعضاد الحرشي؟ 2. ويضاف إلى كل ما تقدم ذكره أن التاريخ لنشأة علوم العربية وبخاصة النحو لم يتم إلا بعد أن نضج هذا العلم، وتكوّنت أطره العامة، واستوت مصطلحاته الفنية على سوقها، تلك المصطلحات التي لم يكن النحاة في القرن الأول ومنتصف الثاني على شيء من الدراية بمدلولات أكثرها، فانشغل علماء الطبقات بمرحلة النضج والكمال قي القرنين الثالث والرابع، وما خلفه علماؤها من نتاج علمي.

_ 1 ينظر: إنباه الرواة 4/120- 123. 2 ينظر: التعليقات والنوادر 1/58- 71.

وهكذا نستطيع القول: إن اللُّغة والنحو وأربابها في المدينة مما طوي عنا أمره أو أكثره فلا نعرف اليوم من أعلام هذا الفن أو عنهم إلا القليل، مما يمكن أن يجمع في قبضة يد واحدة من تراث لغويّ مفقود. وقد وقفت - بعد طول بحث في المظان المختلفة - على جملة من أولئك الأعلام في المدينة، وتعرفت على شيء من تراثهم اللغوي الضائع، ولسان حالي يقول: ما لا يدرك كله لا يترك جله. فمن أعلام اللُّغة والنحو في مدينة الرسول -صلى الله عليه وسلم - في القرنين الأول والثاني، أو ممن كان لهم أثر محمود في وضع بذرة النحو بتوجيهاتهم وملحوظاتهم: 1- عمر بن الخطّاب (23 هـ) لم يكن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من اللغويين أو النحاة بمفهوم المصطلح العلمي، وإنما هو ممن لهم أثر محمود في وضع بذرة النحو وعلوم اللُّغة في المدينة فاستحق بذلك أن نفتتح به؛ فقد كان حريصاً على نقاء اللغة، يأمر ألا يقرأ القرآن إلا عالم بها1. وقد أثر عنه فيما يتصل بالعربية والنحو الشيء الكثير، وتدل بعض الروايات على إلمامه بأساليب اللّغة ودقائقها التعبيرية، وحرصه على سلامتها وحثه على تعلّمها، فقد روي عنه قوله: "تعلموا العربية: فإنها تَثبت العقل، وتزيد في المروءة"2. وقال: "تفقهوا في العربية"3.

_ 1 ينظر: نزهة الألباء20، وإنباه الرواة 1/51، والجامع لأحكام القرآن 1/24. 2 معجم الأدباء1/22، وينظر: الإيضاح في علل النحو 96، ونور القبس 2. 3 كنز العمال 5/228.

وقال في كتاب له موجه لبعض الولاة: "أما بعد؛ فإني آمركم بما أمركم به القرآن، وأنهاكم عما نهاكم عنه محمد، وآمركم باتباع الفقه والسنة والتفهّم في العربية"1. وروى عنه قوله: "تعلموا إعراب القرآن كما تعلّمون حفظه"2. وقوله:" تعلموا النحو كما تعلّمون السنن والفرائض"3. وروي عنه - أيضاً - أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري: "أن مُرْ من قِبَلَكَ بتعلم العربية، فإنها تدل على صواب الكلام4". والعربية في هذا النص هي عربية المصطلح العلمي القديم التي تقابل في مدلولها كلمة النحو، لأنها تدلّ - كما يفهم من قول عمر - على صواب الكلاَم، أي يهتدي بها إلى صواب الكلام. وقد وردت بعض المصادر - كما تقدم - أن عمر هو الذي أمر أبا الأسود بأن يضع النحو إذ قال: "وليُعَلِّم أبو الأسود أهل البصرة الإعراب"5. ولم يكن ذلك - فيما نرى - عن بصر حقيقي بالنحو ودقائقه، وإنما هو إحساس فطري متميّز باللغة والإعراب، ربما دفعه إلى تدبّر اللُّغة وتراكيبها، فلم يجد من الوقت ما يكفي للغوص في لجتها، فاكتفى بالتوجيه والإرشاد ودفع اللحن عن لغة القرآن. وليس ذلك بمستغرب من شخصية فذّة كعمر بن الخطاب، فأثره جليّ في كثير من مستجدات الأمور عند المسلمين، كالعلوم والإدارة والسياسة، فقد

_ 1 ينظر: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام 9/9. 2 إيضاح الوقف والابتداء1/19، 20. 3 البيان والتبيين 2/219. 4 إيضاح الوقف والابتداء1/30. 5 المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام 9/18.

وضع - رضي الله عنه - تقويماً ثابتاً، وهو التاريخ الهجري، فأصبح عنصراً حيويا في نشأة الفكرة التاريخية، ومنذ ذلك الوقت أصبح توقيت الحوادث أو تاريخها العمود الفقري للدراسات التاريخية1. وقام - رضي الله عنه - بتأسيس الديوان أو سجل المحاربين وأهليهم حسب قبائلهم، فأعطى هذا الأنساب أهمية جديدة، وكان حافزاً إضافيا للاهتمام بدراسة الأنساب. وعلى نحو ذلك كان شأن عمر مع العربية، فلا أظننا نبالغ إن جعلناه أحد الشخصيات المؤثرة تأثيراً طيباً في ظهور علم النحو العربي فيما بعد، لإسهامه في وضع بذرة النحو في المدينة، فمن الثابت اهتمامه بسلامة اللغة، ودعوته إلى مراعاة الصواب في النطق بالمفردات والتراكيب والإعراب. 2- علي بن أبي طالب (40 هـ) تقدم في الفصل الثاني أن عليًّا - رضي الله عنه - كان أحد الشخصيات الرئيسة التي عزي إليها وضع النحو، وأنه يكوّن مع أبي الأسود قطب الرحى في جملة تراثنا المروي في مسألة نشأة النحو العربي، وأن أكثر الروايات وأوثقها وأقدمها تصبّ فيهما، وقد كانت صلته بأبي الأسود صلة الأستاذ بالتلميذ النجيب. ومن الثابت أن علياً أسهم إسهاماً فاعلا مع غيره في وضع شيءٍ من أسس النحو بتوجيهاته وملحوظاته وأفكاره النيّرة، وهو ممن حاول تأصيل النحو وتقعيد مسائله في المدينة والكوفة فيما بعد. وقد ذكرت بعض الروايات أن عليا أرشد أبا الأسود بعد طول تأمل في كلام العرب إلى أصول النحو وحدوده، وأمره بأن يحذو حذوها، ومن ذلك أنه دفع

_ 1 ينظر: نشأة علم التاريخ عند العرب 19.

إليه بصحيفة جاء فيها: "الكلام كله اسم وفعل وحرف، فالاسم ما أنبأ عن المسمّى والفعل ما أنبئ به، والحرف ما أفاد معنى"1. ثم قال لأبي الأسود: "انح هذا النحو، وأضف إليه ما وقع إليك، واعلم يا أبا الأسود أن الأسماء ثلاثة: ظاهر ومضمر واسم لا ظاهر ولا مضمر"2 ومن تلك الروايات إشارة الإمام علي إلى الرفع والنصب والجر3. وأن أبا الأسود كان كلما وضع بابا من أبواب النحو عرضه عليه إلى أن حصل ما فيه الكفاية، فقال له علي: ما أحسن هذا النحو الذي قد نحوت، فلذلك سمّي النحو4. وعلى الرغم من أن الشك يحوم حول هذه الروايات إلا أن دلالتها مع غيرها قوية، فهي تدل على أن لعلي مشاركة طيبة في نشأة النحو، ونصيباً نقدره بميزان الظن والتخمين؛ لأن ما وصل إلينا من أخبار نشأة العربية ومنها النحو لا يكفي الرسم الصورة الحقيقية لذلك العلم. 3- ابن عباس (68 هـ) قضى ابن عباس جزءاً مهما من حياته في المدينة قبل أن يستقر في آخر أيامه في الطائف، وهو من علماء اللُّغة المرموقين، يعد عند بعض المحققين القدامى أعلم بلغة العرب من كثير من علمائهم5. وقد أشارت بعض المصادر إلى صلته بأبي الأسود، وأنه كان يحثه على وضع علم النحو6.

_ 1 نزهة الألباء 18، وينظر: الأخبار المروية 34. 2 نزهة الألباء 18. 3 ينظر: مراتب النحويين 24. 4 نزهة الألباء 19. 5 ينظر: المحتسب 2/342. 6 ينظر: إنباه الرواة 1/51.

ولا غرابة في ذلك فقد أحيط ابن عباس منذ حداثته بجو علمي غني مؤثر، إذ لازم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وروى عنه الأحاديث الصحيحة، وقرأ القرآن على زيد ابن ثابت، وأبيّ بن كعب، وعلي بن أبي طالب1، وأكبّ على لغة العرب شعرا ونثراً حتى غدا بحرا في العلوم2. ومن الثابت أنّ لابن عباس اليد الطولى في تأسيس علم الدلالة والمعجم العربي، وكان - رضي الله عنه - حجة في اللغة، يؤمه طلبة العلم في المدينة ثم في مكة والطائف بعد انتقاله إليهما في أواخر حياته، وتعد جهوده في شرح الغريب من القرآن أو الحديث أساساً قوياً لبعض علوم العربية. وقد شقّ ابن عباس الطريق أمام اللغويين في مقام الاستفادة من الشعر في بناء مناهج العربية بصورة عامة وفي مجال الشرح المعجمي بصورة خاصة - كما يقول الدكتور عبد الكريم بكّار3. على أن جهود ابن عباس الُّلغوية توفرت على التفسير "ويغلب على الظنّ أنّ علم العربية بفروعه المختلفة كان يعرض في مجال تفسير غريب القرآن، كما يغلب على الظن أن ما ألفه أبو عمرو ويونس والكسائي وأمثالهم من كتب في معاني القرآن إنما هو تطوير لمجالس ابن عباس وحلقاته، مع الاستفادة مما استنبط من قوانين اللغة، وما فسر به الحالات الإِعرابية في قراءته"4. وبهذا يمكن أن يقال: إن علوم الدلالة والشعر واكبت النحو في نشأتها في المدينة. وسنعرض - في الفصل الرابع - لشيء من تراث ابن عباس في العربية.

_ 1 ينظر: غاية النهاية 1/426. 2 ينظر: النهاية في غريب الحديث 1/99. 3 ينظر: ابن عباس مؤسس علوم العربية 127. 4 المفصل في تاريخ النحو العربي 78.

4- مسلم بن جندب الهذليّ (106 هـ) وهو قارئ مُجيد وقاص مشهور من أهل المدينة. قال الجزيريّ: "وكان من فصحاء أهل زمانه، وقال عمر بن عبد العزيز: من سرّه أن يقرأ القرآن غضاً فليقرأه على قراءة مسلم بن جندب"1. ولمسلم عناية باللغة والنحو جعلت بعض علماء الطبقات يصفه بأنه نحويّ، ومن هؤلاء القفطيّ الذي ذكر أن مسلم بن جندب يعدّ من النحويين2. وكان علماء المدينة يرجعون إليه في مشكلات اللُّغة وتفسير الغريب، ولاسيما القرآن، قال الجزيريّ: "وقال ابن وهب: حدثني نافع، قال: سألت مسلم بن جندب عن قوله تعالى: {كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} 3 قال: إلى غاية، فسألته عن {رِدْءاً يُصَدِّقُنِي} 4 فقال: الردء: "الزيادة"5. وكان لمسلم بن جندب أثر بالغ في قراء المدينة بعامة، فهو قدوتهم في اللغة، فقد روى الإمام الذهبي ما نصه: "قال الحلواني عن قالون، قال: كان أهل المدينة لا يهمزون، حتى همز ابن جندب فهمزوا {مُسْتَهْزِءون} 6 و {يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} 7. وهذا يدل على ما بلغه ابن جندب من مكانة رفيعة في اللُّغة والقراءة.

_ 1 غاية النهاية 2/297. 2 ينظر: إنباه الرواة 3/261. 3 سورة المعارج: الآية 43. 4 سورة القصص: الآية 34. 5 غاية النهاية 2/297، وينظر: معرفة القراء الكبار 66. 6 سورة البقرة: الآية 14. 7 معرفة القراء الكبار 66، والآية في سورة البقرة: الآية 15.

5- عبد الرحمن بن هرمز الأعرج (117هـ) يعدّ ابن هرمز من قراء المدينة المشهورين، أخذ القراءة عن ابن عباس وأبي هريرة - رضي الله عنهم - وأخذ عنه نافع بن أبي نعيم القراءة في جماعة من أهل المدينة. وهو من علماء اللُّغة المتقدمين، وقد عزت بعض الروايات وضع النحو إليه كما تقدم. قال القفطي في أثناء كلامه عنه: "قال أهل العلم: إنه أول من وضع علم العربية، والسبب في هذا القول أنه أخذ عن أبي الأسود الدؤلي، وأظهر هذا العلم بالمدينة، وهو أول من أظهره وتكلم فيه بالمدينة، وكان من أعلم الناس بالنحو، وأنساب قريش، وما أخذ أهل المدينة النحو إلا منه، ولا نقلوه إلا عنه"1. ويبدو أن ابن هرمز كان متعمقاً في مسائل النحو وأصوله، فقد اجتمع حوله نفر من طلبة العلم في المدينة، وأخذوا يدرسون عليه النحو، ومن أشهر تلامذته مالك بن أنس، ونافع بن أبي نعيم. قال القفطي: "إن مالك بن أنس إمام دار الهجرة - رضي الله عنه - اختلف إلى عبد الرحمن ابن هرمز عدة سنين في علم لم يبثه في الناس، فمنهم من قال: تردد إليه لطلب النحو واللغة قبل إظهارهما، وقيل: كان ذلك من علم أصول الدين، وما يرد به مقالة أهل الزيغ والضلالة"2. ومما يدل على علم ابن هرمز بالعربية وإلمامه بالنحو أن الإِمام ابن مجاهد شيخ القراء كان يستدل بقوله في مجال النحو والعربية، كما نص ابن جني في

_ 1 إنباه الرواة 1/39. 2 إنباه الرواة 2 /172، وينظر: طبقات النحويين واللغويين 26.

قوله: "ومن ذلك قراءة يحي وإبراهيم السُّلميَّ: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} 1 بالياء ورفع الميم؛ قال مجاهد: وهو خطأ قال: وقال الأعرج: لا أعرف في العربية: أفحكم، وقرأ {أَفَحُكْمَ} نصباً"2. ويظهر من قول ابن هرمز أنه كان ذا استقراء واسع في مثل هذه المسألة مكنه من القول: إنه لا يعرف في العربية كذا3. وعلى ضوء هذا يمكن أن يقال: إن لابن هرمز نصيباً وافراً من الملحوظات النحوية الأولى في العربية التي كانت تلقى مشافهة، وأنه على قدر من العلم بالمفردات والتراكيب والقرائن اللفظية وما يصاحبها من ظواهر الإِعراب التي سميت فيما بعد بالعوامل، ولهذا نسبت إليه بعض الروايات وضع النحو العربي. 6- عبد الله بن ذكوان (130هـ) وهو عبد الله بن ذكوان القرشي المدني المعروف بأبي الزناد، تابعي مدني ثقة، قال ابن المديني، لم يكن بعد كبار التابعين أعلم منه4. نعتوه بالنحوي، وذكروا أنه كان فصيحاً بصيراً بالعربية يرجع إليه الناس في فهم الشعر وبعض العلوم. قال الحافظ المزّي: "قال الليث بن سعد: رأيت أبا الزناد دخل مسجد النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ومعه من الأتباع مثل ما مع السلطان، فمن سائل عن فريضة، ومن

_ 1 سورة المائدة: الآية 50. 2 المحتسب 1/210، 211. 3 ينظر: المفصل في تاريخ النحو العربي 125. 4 ينظر: تهذيب التهذيب 5/204.

سائل عن الحساب، ومن سائل عن الشعر، ومن سائل عن الحديث، ومن سائل عن معضلة"1. وروى يحيى بن بكير عن الليث بن سعد قوله: "رأيت أبا الزناد وخلفه ثلاثمائة تابع من طالب فقه وعلم وشعر وصنوف"2. ويبدو أنه كان ذا شهرة في علوم العربية يرجع إليه طلبة العلم في مسائلها، فقد روى أبو بكر الأنباري أن ابن أبي إسحاق قال: "لقيت أبا الزناد، فسألته عن الهمز، فكأنما يقرؤه من كتاب"3. ويدل هذا الخبر على بصر أبي الزناد في علوم العربية ولهجاتها "ذلك أن ابن أبي إسحاق كان متفوقاً في الهمز، حتى ذكروا أن ما جمع عنه فيه يؤلف كتاباً، كما ذكروا أنه غلب أبا عمرو بن العلاء فيه، ومع هذا كله نراه معجباً بإحاطة أبي الزناد به، حتى كأنه كان يقرأ من كتاب، فإذا كان على هذه الغزارة في علم الهمز أفلا يرجح أن يكون أوفر علماً في ظواهر العربية الأخرى، كالإعراب وأبنية الكلام؟ "4. ومن هذا - أيضاً - أنّ الكسائي إمام اللُّغة في زمانه كان يسأل ابن ذكوان عن مسائل لغوية وحروف في قراءات أهل المدينة ويستحسن ما يسمعه من إجاباته ويعجب بها، كما روى السمين الحلبي5. 7- عبد العزيز القارىء الملقب ببَشْكُسْت (130هـ) يعد بَشْكُسْت من علماء المدينة، ومن نحاتها الشعراء، وكان ذا مكانة

_ 1 تهذيب الكمال 14/480. 2 نفسه 14/480. 3 إيضاح الوقف والابتداء1/49-50. 4 المفصل في تاريخ النحو العربي 86. 5 ينظر: الدر المصون 5/ 168.

مرموقة في النحو جعلت أهل المدينة - حينئذ - يقبلون عليه لتلقي هذا العلم على يديه. ترجم له القفطي وجعله من نحاة المدينة، وقال: "أخذ عنه أهل المدينة النحو"1. وقال ابن عساكر: "وكان نحوياً أخذ عنه أهل المدينة، وكان يذهب مذهب الشراة2، ويكتم ذلك، فلما ظهر أبو حمزة الشاري بالمدينة سنة 130 هـ خرج معه، فقتل فيمن قتل بخلافة مروان بن محمد"3. فقيل في مقتله: لَقَدْ كَانَ بَشْكُسْتُ عبد العَزيز ... مِنَ أهل4 القِرَاءَةِ والمَسْجِدِ فَبُعْداً لبَشْكُسْت عبد ِالعزيز ... وأمّا القران5 فلايَبْعد6 وكان بَشْكُسْت نحويا بارعاً يكره اللحن في الكلام ويأنف منه، وقد عرف عنه ذلك، وله فيه حكايات منها ما رواه ابن عساكر في قوله: "وفد بشكست النحوي على هشام بن عبد الملك، فلما حضر الغداء دعاه هشام، وقال لفتيان بني أمية: تلاحنوا عليه، فجعل بعضهم يقول يا أمير المؤمنين: رأيت أبي فلان، ويقول آخر: مربي أبي فلان، ونحو هذا، فلما ضجّوا أدخل [بَشْكْست] يده في صحفة فغمسها ثم طلى لحيته، وقال لنفسه: ذوقي، هذا جزاؤك في مجالسة الأنذال"7. ولا نعلم من تراث هذا النحوي شيئاً، فقد ذهب نحوه فيما ذهب من تراث المدنيين.

_ 1 إنباه الرواة 2/183. 2 الشراة هم الخوارج، سمو بذلك لقولهم: شرينا أنفسنا في طاعة الله. 3 تاريخ دمشق 10/ 142. 4 وصل الهمزة ضرورة. 5 خفف الهمزة ضرورة. 6 ينظر: الأغاني 23/146. 7 تاريخ دمشق ج5 الورقة 454/1.

8- زيد بن أسلم العدويّ المدنيّ (136 هـ) من علماء المدينة في زمانه، وكان عالماً بتفسير القرآن1، ولم تمدّنا كتب التراجم عنه بشيء ذي بال في شأن علوم اللغة، ولكن من يتأمل النقول الكثيرة عنه في مطولات التفسير، كـ"جامع البيان" للطبري، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي، و"البحر المحيط" لأبي حيان الأندلسي، و"الدر المصون" للسمين الحلبي يدرك أن ابن أسلم هذا كان ذا عناية باللغة وإلمام بغريبها، لا سيما ما يتصل بالقرآن الكريم. ومن تفسيراته اللغوية: قوله: العالمون: هم المرتزقون2 وقوله: الشقاق: المنازعة 3 وقوله: لغو اليمين: دعاء الرجل على نفسه4. وقوله: العافِين عن الناس: عن ظلمهم وإساءتهم5. 9- عليّ الجمل (؟) من علماء المدينة، وهو شخصية يكتنفها الغموض، إذ لا نعرف عن حياته شيئاً غير ما ذكره أبو حاتم السجستانيّ في كتابه في القراءات، ونقله عنه أبو الطيب اللغويّ والزبيديّ والقفطيّ. قال أبو الطيب اللغويّ: "وممن كان بالمدينة - أيضاً - على الملقّب بالجمل، وكان وضع في النحو كتاباً لم يكن شيئا6.

_ 1 ينظر:التهذيب التهذيب 3/396. 2 ينظر: الجامع لأحكام القرآن 1/138. 3 نفسه 2/143. 4 نفسه 3/100. 5 نفسه 4/207. 6 مراتب النحويين 158.

ونقله الزبيديّ وزاد بعد عبارة "لم يكن شيئا": "فذهب"1. أما القفطي فيخالف أبا الطيب في حكمه على هذا الكتاب الذي يعد من أوائل الكتب المصنفة في النحو، إذ يصفه بالشمول في قوله: "وكان وضع كتابا في النحو لم يخلّ شيئاً"2. والفرق شاسع بين عبارتي "لم يكن شيئاً" في نص أبي الطيب والزبيديّ، و"لم يخلّ شيئاً" في نص القفطيّ، ويبدو أن مصدر النصين واحد، وغير بعيد أن يكون أحدهما محرفاً. وقد امتدّ أثر هذا الكتاب المتقدم إلى علم من أعلام النحو في البصرة، وهو الأخفش (215 هـ) يقوك تلميذه أبو حاتم السجستانيّ (255 هـ) في كتابه في القراءات حيث ذكر القراء والعلماء: "وأظن الأخفش سعيد بن مسعدة وضع كتابه في النحو من كتاب الجمل، ولذلك قال: الزيت رطلان بدرهم. والزيت لا يذكر عندنا؛ لأنه ليس بإدام لأهل البصرة"3. وما قاله السجستانيّ يدل على أن الكتاب كان ذا مكانة رفيعة، وأنه أثار انتباه العلماء وأن أثره امتدّ إلى خارج المدينة؛ لما كان يحويه من أصول النحو ومسائله، وإحسانه الظن به شهادة عالية القيمة من عالم مشهور لعالم مغمور، لعلمه بخاصة ولعلماء المدينة بعامة. 10- الأصبغ بن عبد العزيز الليثيّ (160 هـ تقريبًا) وهو الإصبغ بن عبد العزيز بن مروان بن إياس بن مالك، ترجم له الجزيري في طبقات القراء4، ونعته بأنه "نحويّ" وقال: "معدود في شيوخ نافع، لا أعرف على من قرأ، ذكر ذلك سبط الخياط"5.

_ 1 طبقات النحويين واللغويين 73. 2 إنباه الرواة 2/38. 3 طبقات النحويين واللغويين 73، ومراتب النحويين 158، وإنباه الرواة2/38، 172. 4 ينظر: غاية النهابة 1/171. 5 نفسه 1/171.

وأورد له ابن حجر في "لسان الميزان"1 ترجمة مقتضبة ذكر فيها أن الإِصبغ هذا مجهول، أخذ عن أبيه عبد العزيز بن مروان. ولما كان من شيوخ نافع فإننا نقدر أنه من أهل المدينة، وأن وفاته كانت في حدود 160هـ. 11- نافع المدنيّ (169 هـ) وهو قارئ المدينة المشهور نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم الليثيّ، أخذ القراءة والعربية عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، وأبي جعفر القارىء، ومسلم بن جندب، والإِصبغ بن عبد العزيز النحويّ وغيرهم2. وقد أقرأ الناس سبعين سنة ونيفاً، وانتهت إليه رئاسة القراءة في المدينة، وتمسك أهلها بقراءته، وهي أحب القراءات إلى الإمام أحمد بن حنبل3. وكان نافع عالماً بوجوه القراءات والعربية، وكان الأصمعي يسأله عن همز الذيب والبير4. ولصلته الوثيقة بعلم النحو أورده أبو المحاسن التنوخيّ في كتابه "تاريخ العلماء النحويين"5. 13- عيسى بن يزيد بن دأب الليثيّ (171 هـ) من أدباء المدينة، ويعد من رواة الشعر واللغة والأخبار. قال ياقوت: "كان من رواة الأخبار والأشعار والحفاظ، وكان معلماً من علماء الحجاز"6.

_ 1 1/460. 2 ينظر: غاية النهاية 2/330. 3 نفسه 2/332. 4 ينظر: معرفة القراء الكبار 91. 5 ص: 230. 6 معجم الأدباء3/2144.

وروى السخاويّ عن الخطيب البغداديّْ أن ابن دأب "كان راوية عن العرب وافر الأدب عالماً بالنسب، عارفاً بأيام الناس، حافظاً للسير"1. وروى السخاويِّ - أيضاً - عن إبراهيم بن عرفة أنه "كان أكثر أهل الحجاز أدباً، وأعذبهم ألفاظاً2. لقي الأصمعيّ في أثناء رحلته إلى المدينة ابن دأب، فحمل عليه وعلى أهلها بعامة، يقول أبو الطيب اللغويّ: "قال الأصمعيّ: أقمت بالمدينة زمانا ما رأيت بها قصيدة واحدة صحيحة إلا مصحفة أو مصنوعة"3. ويضيف أبو الطيب: "وكان ابن دأب يضع الشعر وأحاديث السمر، وكلاماً ينسبه إلى العرب، فسقط وذهب علمه وخفيت روايته ... قال الأصمعيّ: العجب من ابن دأب حين يزعم أن أعشى همدان قال: مَن دَعَا لي غزيِّلي ... أَربحَ اللهْ تجَارَتُهْ وخِضابٌ بِكَفّهِ ... أَسْود الّلونِ قارتُهْ ثم قال الأصمعيّ: يا سبحان الله، يحذف الألف التي قبل الهاء في (الله) ويسكن الهاء ويرفع (تجارته) وهو منصوب، وُيجَوَّز هذا عنه، ويروي الناس عن مثله"4. وأنا أخشى أن يكون الأصمعيّ قد بالغ فيما رواه، لأن ابن دأب من منافسيه في رواية الشعر واللغة والأخبار، وهو من أقرانه تقريباً، وطعن الأقران لا يعتد به كما هو معلوم، ولأن ابن دأب من ناحية أخرى كان يحظى عند الخليفة الهادي بالمكانة الرفيعة لما اتصل به، وكان الخليفة يدعو له بتكاء، ولم يكن أحد من الخلق يطمع في هذا في مجلسه، وكان الهادي لا يستطيل

_ 1 التحفة اللطيفة 3/390. 2 نفسه 3/390. 3 مراتب النحويين 156. 4 نفسه 156، 157، وينظر: الأغاني 6/56.

به يوما ولا ليلة، لكثرة نوادره وجيد شعره وحسن: الانتزاع له1، ولا يخفى بعد هذا أن داعي الحسد بينه وبين أقرانه وارد. ويحسب لابن دأب إثراؤه المجالس العلمية في المدينة برواياته من الشعر واللغة، ونقدر تقديرًا استفادة معاصريه من علماء العربية من تلك الروايات وما يدور فيها من نقد أو توجيه أو اقتناص شاهد. 13- مالك بن أنس (179 هـ) إمام أهل المدينة في الفقه، وأحد الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المشهورة. لم يقتصر علمه على الفقه الذي ذاع صيته فيه وعرف به، بل امتدّ إلى علم العربية لغة ونحواً؛ فترجم له أبو المحاسن التنوخيّ المعري في كتابه "تاريخ العلماء النحويين من البصريين والكوفيين وغيرهم" واقتصر على ذكر سنة وفاته2. وذكره القفطيّ في "إنباه الرواة" في ترجمة ابن هرمز، وقال: "يروى أن مالك بن أنس إمام دار الهجرة - رضي الله عنه - اختلف إلى عبد الرحمن بن هرمز عدة سنين في علم لم يبثه في الناس، فمنهم من قال: تردّد إليه لطلب النحو واللغة قبل إظهارهما، وقيل كان ذلك من علم أصول الدين وما يُرَد به مقالة أهل الزيغ والضلالة"3. والراجح عندي أنه تردد عليه لطلب اللُّغة والنحو كما قيل، لأسباب منها: أولا: أن شهرة ابن هرمز كانت في العربية. ثانياً: أنّ حذق العربية لغة ونحواً يحتاج إلى سنوات، كما ورد في الخبر.

_ 1 ينظر: معجم الأدباء 5/2146. 2 ينظر: تاريخ العلماء النحويين 230. 3 إنباه الرواة 2/172، 173.

ثالثاً: أن إماماً في الفقه كمالك يحتاج إلى إجادة العربية لغة ونحواً؛ لأن العربية هي مفتاح نصوص التشريع من قرآن وسنة، ولذلك اشترطوا في المجتهد في الفقه أن يكون عالماً باللغة والنحو. رابعاً: أنه لو كان علماً جديداً غير العربية تُرد به مقالة أهل الزيغ والضلالة – كما قيل - لظهر وعرفناه، لحاجة المسلمين إليه. خامساً: أننا لا نقدّر أن يكتم أحد علمائنا علماً نافعاً كهذا الذي يرد به على أهل الضلال. ولهذا اختار التنوخيّ القول الأول، أي أنه اختلف إلى ابن هرمز لطلب العربية، وأهمل غيره، قال: "يقال: إن مالك بن أنس كان يختلف إليه يتعلّم منه العربية"1. ويبدو أنَّ مالكاً قد أجاد اللًّغة وبرع فيها حتّى تفرد عن غيره بأشياء منها ما رواه السيوطيّ عن ابن خالويه، قال: "لم يسمع جمع الدَّجال من واحد إلا من مالك بن أنس فقيه المدينة، فإنَّه قال: هؤلاء الدجاجلة"2. وهذا يذكرنا بالإمام الشافعي وما انفرد به من ألفاظ وتراكيب لغوية رويت عنه أو ذكرها في كتابيه "الأم " و" الرسالة". 14- عبد الرحمن بن زيد بن أسلم العدويّ (182 هـ) . من علماء المدينة ولغوييها، تتلمذ على جماعة، وأخذ اللغة عن والده3. له كتاب في التفسير، ذكره الداوديّ في "الطبقات المفسرين"4 وذكر أن له - أيضاً - كتابا آخر، وهو "الناسخ والمنسوخ".

_ 1 تاريخ العلماء النحويين 163. 2 المزهر 1/303. 3 ينظر: تهذيب التهذيب 6/ 177. 4 1/271.

ويعد كتابه في التفسير من مصادر الطبري الرئيسة في تفسيره؛ إذ نقل عنه بكثرة. ويبدو من النقول التي وصلتنا عن طريق الطبري أن معظم تفسير ابن زيد يشتمل على شرح الغريب، وحل التراكيب المشكلة أو غير المألوفة، وهو ينحو فيه منحى ابن عباس وابن مجاهد في تفسيرهما. ويمكن القول إن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم كان واحداً من أعلام اللُّغة في المدينة، وأنه خلّف تفسيراً يشبه إلى حدٍّ ما تفسير ابن عباس وتفسير ابن مجاهد غير أن عنايته بالشعر كانت ضعيفة. ويقول عنه باحث معاصر وهو فؤاد سزكين: "أما تفسيره فأكثره شروح لغوية، ويبدو أن هذا التفسير كان أحد المصادر الهامة لتفسير الطبريّ"1. وذكر سزكين أن الطبري أفاد من تفسيرِ ابن أسلم هذا في نحو ثمانمائة وألف موضع، وذكر أن الثعلبي أفاد منه - أيضا - في تفسيره "الكشف والبيان". ومن نماذج تفسير ابن أسلم اللغوية: قوله: طغيانهم: كفرهم وضلالهم2. والأنداد: الآلهة التي جعلوها معه3. والمطهّرة: التي لا تحيض4. ومن نماذج تفسيره اللغويّ في الأساليب: قوله في قول الله عز وجل: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} : أوفوا بأمري أوفِ بالذي وعدتكم5.

_ 1 تاريخ التراث العربي ا/88. 2 ينظر: جامع البيان 1/169. 3 نفسيه 1/199. 4 نفسه 1/212. 5 نفسه 1/289.

وفي {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} : قلبي في غلاف فلا يخلص إليه مما تقول شيء1 وفي {إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} : إلا من أخطأ حظه2. 15- مروان بن سعيد المهلبيّ (195 هـ تقريبا) من أحفاد المهلب بن أبي صفرة، واسمه: مروان بن سعيد بن عباد بن حبيب بن المهلب بن أبي صفرة المهلبيّ، أخذ عن الخليل بن أحمد، وكانت له صلات وثيقة بالبصرة والكوفة في العراق. وفي "طبقات النحويين"3 للزبيديّ، و"إنباه الرواة"4 للقفطيّ ما يفيد أن المهلبيّ من أهل المدينة، أو أقام بها زمنا، وتصدَّر للتدريس. وذكر ياقوت أن المهلبيّ هذا من "المتقدمين في النحو المبرزين فيه"5. وذكر القفطيّ حكاية في أثناء ترجمة الوليد بن محمد التميميّ المصريّ المعروف بـ "ولاّد" تدل على أن مروان بن سعيد المهلبي كان من رجال النحو في المدينة، غير أنه لم يكن من حذاقه، قال القفطيّ في كلامه عن ولاّد: "وقيل: إنه خرج في أول أمره إلى مكة، فحجّ، وجاء إلى المدينة، فزار قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورأى بالمدينة نحوياً متصدراً لإفادة النحو، وهو المهلبي تلميذ الخليل، وهو الذي كان يهاجي عبد الله بن أبي عُيينة، ولم يكن من الحذاق بالعربية، فأخذ عنه ولاّد ما عنده، وكان يسمعه يذكر الخليل شيخه، فراح ولاد إلى البصرة، وأدرك الخليل بن أحمد، ولقيه وأخذ عنه وأكثر بالبصرة، وسمع منه الكثير، ولازمه، ثم انصرف إلى الحجاز، ودخل مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولقيه معلمه المهلبي فناظره، فلما رأى منه المدني تدقيق ولاد للمعاني

_ 1 نفسه 1/452. 2 نفسه 1/609. 3 ص 213. 4 3/354. 5 معجم الأدباء6/2698، وينظر: بغية الوعاة 2/284.

وتعليله في النحو، قال: لقد ثقبت يا هذا بعدنا الخردل"1. وأورد الزبيديّ القصة ملخّصة، وعقّب عليها بقوله: "وقد بلغني أن صاحب هذه القصة هو المهلبيّ تلميذ الخليل، وهو الذي كان يهاجي عبد الله بن أبي عيينة"2. وأورد المرزبانيّ طرفاً من أشعاره في هجاء صاحبه هذا3. وتدل هذه الرواية على إقبال طلبة العلم - حينئذ - على تلقي النحو، وأخذه عن أساتذته الذين يتصدّرون لإفادة الناس، كما يتصدر غيرهم لإِفادة باقي العلوم كالتفسير والحديث والفقه، وهذا دليل على عراقة علوم العربية في المدينة. وللمهلبيّ مناظرات عديدة في النحو مع بعض معاصريه كالكسائيّ والأخفش، سيأتي ذكرها، في الحديث عن نحو أهل المدينة، وهي تدل دلالة قوية على مكانته المرموقة في النحو، وبراعته فيه، مما دفع بعض العلماء إلى إظهار إعجابهم به، وعلى رأسهم الحريري الذي وصفه في إحدى مناظراته مع الأخفش بالبراعة والإبداع4. ومن هنا يتبين لنا أن من قال في حقّ هذا الرجل إنه لم يكن من حذاق النحو5 فقد ظلمه، ويظهر لنا في مقابل ذلك إنصاف ياقوت ودقّته في أحكامه على العلماء حين وصف المهلبي هذا بأنه من المبرزين في النحو6، ووافقه على ذلك السيوطيّ7.

_ 1 إنباه الرواة 3/354. 2 طبقات النحويين واللغويين 213. 3 ينظر: معجم الشعراء398. 4 ينظر: درة الغواص 37. 5 ينظر: طبقات النحويين واللغويين 213، وإنباه الرواة 3/354. 6 ينظر: معجم الأدباء 6/2698. 7 ينظر: بغية الوعاة 2/284.

16- محمد بن مروان المدنيّ (195هـ تقريبًا) ابن مروان من علماء القراءات والعربية في المدينة، ذكره الجزريّ في طبقات القراء، فقال في ترجمته: "محمد بن مروان المدنيّ القاريء، ذكره الداني، وقال: وردت عنه الروايات في حروف القرآن، وذكر عن أبي حاتم السجستانيّ أنه قال: ابن مروان قارئ أهل المدينة ... وقد روى الداني عن الأصمعيّ أنه قال: قلت لأبي عمرو بن العلاء: إن عيسى بن عمر حدثنا قال: قرأ ابن مروان {هُنَّ أَطْهَرَ لَكُمْ} 1قال: احتبى في لحنه "2. ورويت هذه القراءة في بعض المصادر معزوة لمحمد بن مروان السِّديّ الكوفيّ3. ولم يبق من تراث محمد بن مروان المدنيّ في اللُّغة سوى مسائل قليلة، عرفنا منها اثنتين، إحداهما نحوية ورد ذكرها في "الكتاب" لسيبويه في قوله: "أما أهل المدينة فينزلون هو هاهنا بمنزلته بين المعرفتين، ويجعلونها فصلاً في هذا الموضع، فزعم يونس أن أبا عمرو رآه لحناً وقال: احتبى ابن مروان في ذِه4 في اللحن؛ يقول: لحن، وهو رجل من أهل المدينة، كما تقول: اشتمل بالخطأ، وذلك أنه قرأ: {هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرَ لَكُمْ} فنصب"5 أي نصب (أطهر) . والمسألة الأخرى لغوية في دلالة كلمةْ "السامد" ذكرها أبو الطيب اللغوي

_ 1 سورة هود: الآية 78. 2 غاية النهاية 2/261، وفيه: قال: "احسى من الجنة" وهو تصحيف وتحريف وكلمة "احسى" هكذا غير منقوطة: والتصويب من الكتاب 2/396، 397، والفريد في إعراب القرآن 2/654. 3 ينظر: البحر المحيط 5/247، والدر المصون 6/362. 4 أي: هذه. 5 الكتاب 2/396،397.

في كتابه "الأضداد" واستهلها بقوله: "ويحكي عن ابن مروان نحويّ أهل المدينة من خزاعة الغبشان أنه قال ... "1. وفي هذا النص إشارة صريحة وهي أنه ينحدر من قبيلة خزاعة وهي قبيلة قحطانية نزلت مكة وحالفت قريشاً، وكانت مواطنها بين مكة والمدينة، ومنهم بطن يقال له: الغَبشان2. 17- عيسى بن مينا بن وردان (205 أو 220 هـ) ويلقب بـ "قالون" وهو قارئ المدينة ونحويُّها، كما يقول الجزري3، يقال إنه ربيب نافع، وقد اختص به كثيراً، وهو الذي سماه "قالون" لجودة قراءته. قال الجزريّ: "قال ابن أبي حاتم: كان أصم يقرئ القرآن، ويفهم خطأهم ولحنهم بالشفة، وقال: وسمعت علي بن الحسن يقول: كان عيسى بن مينا قالون أصم شديد الصمم، وكان يُقرأ عليه القرآن، وكان ينظر إلى شفتي القارئ ويرد عليه اللحن والخطأ"4. ولما برع قالون في العربية تصدر لتعليمها، يقول ابن الباذش الأنصاريّ: إنه "كان يعلِّم العربية"5 وقال الذهبيّ: "تبتل لإقراء القرآن والعربية"6. وهكذا يمكن القول: إن عيسى بن مينا لم يُعلّم طلابه قراءات القرآن فحسب "بل كان يعلمهم النحو - أيضاً -، وهم يجدون في دراستهم إشباعاً

_ 1 الأضداد 1/371. 2 ينظر: جمهرة أنساب العرب 1/242. 3 ينظر: غاية النهاية 1/615. 4 نفسه 1/616. 5 الإقناع 1/ 59. 6 معرفة القراء الكبار 129.

لميولهم واستجابة لما تعجّ به نفوسهم من حبٍّ للقرآن وقراءاته، وحرصٍ على بقاء اللُّغة بعيدة عن اللحن"1. هؤلاء من توصلت إلى معرفتهم من أعلام العربية في المدينة في ذلك العصر المتقدم، ممن نص علماؤنا على اشتغالهم بالعربية أو فرع من فروعها، أو وُجد ما يدل على ذلك. وقد برز بعضهم في النحو دون سواه مثل عليّ الجمل ومروان بن سعيد المهلبيّ. وبرز بعضهم في القراءات والنحو مثل ابن هرمز ونافع وعيسى بن مينا. وبرز بعضهم في التفسير واللغة مثل ابن عباس وعبد الرحمن بن أسلم. وبرز بعضهم في الأدب ورواية اللُّغة مثل ابن دأب الليثيّ. ويمكن أن يضاف إلى هؤلاء جماعة أخرى من قراء المدينة المشهورين كأبي جعفر يزيد بن القعقاع المخزوميّ المدنيّ (130 هـ) وابن جماز المدنيّ (170 هـ) وإسماعيل بن جعفر الأنصاريّ المدنيّ (180 هـ) . ولا شك في أن هناك كثيراً من علماء العربية في المدينة لم يصلنا خبرهم، واندثر علمهم مع ما اندثر من التراث العربيّ، للأسباب التي صدّرت بها هذا الفصل. وأختتم هذا الفصل برواية غريبة رواها السيوطيّ عن شيخه الكافيجيّ تفيد أن أول من وضع علم التصريف العربي أو بذرته الصحابيّ الجليل معاذ بن جبل الأنصاريّ (18 هـ) . قال السيوطيّ: "وأما التصريف فقد ذكر شيخنا العلامة محي [الدين]

_ 1 مجلة المنهل، العدد 499 المجلد 54، الربيعان 1413 هـ ص: 125.

الكافيجيّ1 - رحمه الله - في أول كتابه شرح القواعد أنّ أوّل من وضعه معاذ ابن جبل - رضي الله عنه -"2. وليس لهذه الرواية ما يعضدها فيما جاء في كتب التراث، ولم يؤثر عن معاذ بن جبل شيء في العربية، ليحمل على هذا أو يحمل هذا عليه، ولم يكن علم التصريف قد نشأ في ذلك الزمن المبكر، وإنما هو سهو محض من الكافيجيّ، ولعله أراد معاذ بن مسلم الهراء فذهل عنه، ولهذا قال السِيوطيّ في حديثه: "ولم تطمئن النفس إلى ذلك، وسألته عنه لما قرأته عليه، وما مستنده في ذلك، فلم يجبني بشيءٍ ولم أقف على سند لشيخنا في ذلك"3. ثم رجّح السيوطيّ أن معاذاً هو معاذ بن مسلم الهراء (187هـ) وأشار إلى ما يفيد أن شيخه الكافيجيّ خلط بين المعاذين، وهو الراجح عندي.

_ 1 هو محمد بن سليمان بن سعد بن مسعود الرومي الحنفي، محي الدين، أبو عبد الله الكافيجي، لكثرة اشتغاله بالكافية في النحو، توفي سنة (879 هـ) من مصادر ترجمته، الضوء اللامع 7/259 والشقائق النعمانية 0 4، 41، وشذرات الذهب 7/326. 2 الأخبار المروية 58، 59. 3 نفسه 59.

الفصل الرابع

الفصل الرابع من مظاهر الدرس اللغوي في المدينة ... من مظاهر الدّرس اللّغويّ في المدينة وضعت البذرة الأولى للدرس اللغويّ بعامة والنحويّ بخاصة في المدينة - كما تقدم - أيام الصحابة - رضوان الله عليهم - وظهرت بوادر هذا الدرس في الإشارات والتنبيهات والأنظار اللغوية المتفرقة المعزوة لبعض المهتمين بأمر اللغة، فأصبحت المدينة فيما بعد أحد المراكز اللغوية المهمة، فشارك لغويوها ونحاتها في القرنين الأول والثاني في تحديد مفاهيم النحو ووضع أسسه. وقد وقفنا في الفصل الثالث على جملة من أعلام الدرس اللغويّ في المدينة، ونحاول في هذا الفصل أن نقف على ما يتاح لنا من مظاهر ذلك الدرس في تلك البيئة. ومع إيماننا بأنه يتعذر الوقوف على حقيقة الحركة اللغوية في المدينة لضياع كثير مما أثر عن علمائها بالإضافة إلى ضياع كل ما ألفوه في تلك الحقبة المتقدمة، للأسباب السالف ذكرها، ولأن النحاة المشهورين الذين عرفناهم في القرنين الثاني والثالث "لا يحفلون بنسبة الآراء النحوية إلى أصحابها في كل موضع، وهذا يجعلك تجزم بأن كثيراً من الآراء النحوية التي يمكن أن تظنها للفراء وسيبويه والكسائي ليست لهم بل نقلوها عن غيرهم، ولكنها في كتبهم مغفلة أو معزوة إلى شيوخهم الأدنين، ولعل في هذا شيئا غير قليل من تراث تلامذة أبي الأسود نقله إليهم الحضرميّ وعيسى وأبو عمرو"1 ومن تراث نحاة المدينة، وهم أصحاب فضل لا ينكر في وضع نواة النحو، وتأسيس بعض قواعده، والمشاركة في بعض مسائله.

_ 1 المفصل في تاريخ النحو العربي 124.

وعلى الرغم من ذلك فإنه من الممكن جمع بعض الشذرات اللغوية المتفرقة مما تجود به بعض المصادر، أو مما يستنبط من قراءات بعضهم وتوجيهاتها. وقد تبين لنا بعد البحث والتنقيب أن لنحاة المدينة مؤلفات في اللغة والنحو، وأن لهم آراءهم النحوية الخاصة، ومصطلحاتهم التي كانت تدور في بيئتهم، وأن لهم مجالسهم اللغوية الخاصة.

من مؤلفات المدنيين في علوم اللغة

من مؤلفات المدنيين في علوم اللغة كانت الملحوظات النحوية والإِرشادات والتنبيهات والأنظار تصدر مدّة من الزمن عن جماعة من المهتمين بالعربية في المدينة مشافهة، وتنتقل عن طريق الرواية والسماع، ولم تكن فكرة تأليف الكتب قد تبلورت في أذهانهم. ولما تطورت العلوم في نهاية القرن الأوّل وبداية القرن الثاني، وأخذت تتكوّن معالمها كالتفسير والحديث والعربية بدأت فكرة تدوين ملحوظاتهم أو معارفهم في أوراق لحفظها، ولم تلبث أن تحولت هذه الفكرة إلى نوع من التأليف عند بعض العلماء. وكان نحاة المدينة ولغويوها من السابقين إلى تأليف الكتب النحوية، وهي إن ضاعت من يد الزمن فليس ذلك لها وحدها، بل ضاعت كتب عيسى بن عمر ويونس بن حبيب والرؤاسيّ وغيرهم. ولا نكاد نعرف عن مؤلفاتهم في اللغة والنحو إلا الشيء القليل، ومن هذا القليل ما وصل إلينا، ومنه ما فُقِد ولا نكاد نعرف عنه شيء، ومما وصل إلينا رسالة صغيرة في لغات القرآن، برواية ابن حسنون بإسناده إلى ابن عباس، وقد نشرها الدكتور صلاح الدين المنجد.

والرسالة طريقة في بابها مرتبة على سور القرآن، يورد فيها مؤلفها ما في كل سورة من لغات عربية أو ألفاظ معربة لأمم مجاورة كالفرس والروم والأنباط السريان والعبرانيين. وهو من هذه الناحية - كما يقول المحقق - يبين لنا مصادر القرآن اللغوية، ويلقي الضوء على لغات القبائل قبيل الإسلام، ويحدد نسبة ما أخذ القرآن من ألفاظ كل قبيلة من تلك القبائل، ثم من كل أمة إن صح أن بعض الألفاظ فيه أعجمية1. وقد شك بعض الباحثين في نسبة هذا الكتاب إلى ابن عباس، وبسط القول فيه2. ولابن عباس صحيفة في تفسير القرآن الكريم رواها عنه علي بن أبي طلحة، فيها من اللغة الشيء الكثير يتمثل في تفسير الغريب. وقد كانت هذه الصحيفة موضع تقدير العلماء وعنايتهم، إذ قال عنها أحمد ابن حنبل: "بمصر صحيفة في التفسير رواها علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، لو رحل رجل فيها إلى مصر قاصداً ما كان كثيراً"3. وذكر السيوطي أن هذه الصحيفة ثابتة عن ابن عباس من طريق ابن أبي طلحة، وقد اعتمد عليها البخاري في صحيحه مرتباً على السور4. ومن الواضح أنّ ابن عباس لم يكتب هذه الصحيفة في كتاب، وإنما نقلت عنه مشافهة، ثم دُوّنت فيما بعد، ومنها نسخة كانت بحوزة أبي طلحة كاتب الليث رواها عن معاوية بن أبي طلحة، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن

_ 1 ينظر: اللغات في القرآن 5، 6 (مقدمة المحقق) . 2 ينظر: ابن عباس مؤسس علوم العربية 90- 92. 3 الإتقان 2/223. 4 نفسه 1/150.

عباس، وهي عند الإمام البخاري عن أبي صالح، وقد اعتمد عليها كثيراً في صحيحه كما أسلفت، وهي عند الطبري وابن أبى حاتم وابن المنذر بوسائط بينهم وبين أبي صالح1. واهتم بأمر هذه الصحيفة بعض المعاصرين كالدكتور محمد حسين هيكل، والشيخ محمد فؤاد عبد الباقي، فكتب عنها الأول كلمة ضافية2، وأخرجها الثاني في كتاب سماه: "معجم غريب القرآن مستخرجاً من صحيح البخاريّ" وأكثر ما فيه من هذه الصحيفة. ويلحق بذلك ما روي عن ابن عباس مما دوّن بعده في مسائل عرفت بمسائل نافع بن الأزرقّ، وهي مسائل في تفسيرِ غريب القرآن بشواهد من شعر العرب، وهي أسئلة مشهورة أخرج الأئمة أفرادا منها بأسانيد مختلفة إلى ابن عباس، وأخرج أبو بكر الأنباري قطعة منها في كتابه "إيضاح الوقف والابتداء". وأخرج الطبراني في معجمه الكبير جزءاً منها من طريق جويبر عن الضحّاك بن مزاحم، ورواها السيوطي كاملة في كتابه "الإتقان". أما ما فقد من تلك المؤلفات فلا نكاد نعرف عنه شيئاً، إلا ما ورد في إشارتين أحدهما في النحو لعليّ الجمل، الذي ذكره أبو الطيب اللغوي ووصفه بأنه "لم يكن شيئاً"3 ووصفه القفطي بأنه "لم يخلّ شيئا"4وقد ذكرت فيما مضى أن التحريف في هذين النصين وارد. ومهما يكن من أمر هذا الكتاب فقد امتد أثره إلى الأخفش وهو من أعلام النحو في البصرة، إذ قال تلميذه أبو حاتم السجستاني في كتابه القراءات حيث

_ 1 ينظر: فتح الباري 8/332. 2 ينظر: معجم غريب القرآن مستخرجاً من صحيح البخاري (المقدمة) . 3 مراتب النحويين 158. 4 إنباه الرواة 2/38.

ذكر القراء والعلماء: "وأظن الأخفش سعيد بن مسعدة وضع كتابه في النحو من كتاب الجمل"1. وما قاله السجستاني يدل على أن الكتاب له مكانة رفيعة، وأنه أثار انتباه العلماء، وأن أثره امتدّ إلى خارج المدينة، لما كان يحويه من أصول النحو ومسائله، وإحسان أبي حاتم الظن بهذا الكتاب شهادة عالية القيمة من عالم مشهور لعالم مغمور. والكتاب الآخر في اللغة، أشار إليه أبو الطّيّب اللغويِّ - أيضاً - في ترجمته لأبي عبيد القاسم بن سلام (224 هـ) قال: "وأما كتَابه المترجم بالغريب المصنف فإنه اعتمد فيه على كتاب عمله رجل من بني هاشم جمعه بنفسه"2. والراجح أن هذا الرجل كان من أهل المدينة أو مكة مقر سكنى بني هاشم كما يقول الدكتور هادي عطية3. وإن ثبت هذا فإنه يدل على اهتمام أهل الحجاز بالتأليف في غريب اللغة، ذلك العلم الذي فتح بابه لهم ابن عباس.

من المسائل النحوية

من المسائل النِّحويّة ضاع الكثير من نحو المدنيين، ولم يصل إلينا منه إلا الشيء اليسير جداً، ومنه ما أشارت إليه بعض المصادر النحوية ك "الكتاب" لسيبويه، و"معاني القرآن" للفراء، و"الارتشاف" لأبي حيان، فمما يسّر الله جمعه: 1- تابع المنادى: يُعطى تابع المنادي ما يستحق من الإعراب إذا كان منادى مستقلا، أي

_ 1 طبقات النحويين واللغويين 73، ومراتب النحويين 58 ا، وإنباه الرواة 2/38، 172. 2 مراتب النحويين 148. 3 نشأة الدراسات النحوية واللغوية في اليمن 26.

البناء أو النصب، وذلك في التوكيد والبدل وعطف البيان وعطف النسق المجرد من أل، لأن البدل في نية تكرار العامل، والعطف كالنائب عن العامل، تقول في التوكيد: يا بكر نفسَه، ويا تميمُ كلَّهم، ويا خالدُ أبا الوليد، بنصب التابع؛ لأنه مضاف. وتقول: يا زيد بشرُ، بالضم للبناء، ويا صالحُ وعليُّ بالضم أيضا1. وإذا وصف المضاف المنادى بمضاف مثله أو بمفرد فالوجه النصب، قال ابن السراج: "اعلم أن المضاف إذا وصفته بمفرد ومضاف مثله لم يكن نعته إلا نصباً؛ لأنك إن حملته على اللفظ فهو نصب والموضع موضع نصب، فلا يزال ما كان على أصله إلى غيره، وذلك نحو قولك: يا عبدَ الله العاقلَ، ويا غلامنا الطويلَ، والبدل يقوم مقام المبدل منه، تقول: يا أخانا زيد أقبل، فإن لم ترد البدل وأردت البيان، قلت: يا أخانا زيداً أقبل، لأن البيان يجري مجرى النعت"2. والرفع في قولك: يا أخانا زيدٌ هو قول أهل المدينة فيما حكاه سيبويه عن الخليل في قوله: "قلتَ: أرأيت قول العرب: يا أخانا زيدا أقبل، قال: عطفوه على هذا المنصوب فصار نصباً مثله، وهو الأصل؛ لأنه منصوب في موضع نصب، وقال قوم: يا أخانا زيدٌ. وقد زعم يونس أن أبا عمرو كان يقوله، وهو قول أهل المدينة، قال: هذا بمنزلة قولنا يا زيد، كما كان قوله يا زيد أخانا بمنزلة يا أخانا، فيحمل وصف المضاف إذا كان مفرداً بمنزلته إذا كان منادى"3. وما عزاه سيبويه للمدنيين مثال نحوي، وليس قراءة قرآنية حتى يظن أن سيبويه كان يشير إلى قراءةٍ لنافع أو غيره من قراء المدينة.

_ 1 ينظر: الكتاب 3/184، 185، 205، والأصول 1/ 342، 343. 2 الأصول 1/343. 3 الكتاب 2/ 185.

2- الفصل بين المضاف والمضاف إليه: لا يجوز الفصل بين المتضايفين عند كثير من النحويين إلا في الشعر، وأجاز بعضهم الفصل بينهما في مواضع منها أن يكون المضاف مصدراً والمضاف إليه فاعله والفاصل مفعول به أو ظرف. فالأول كقراءة ابن عامر: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} 1. والثاني كقولك: تَرْكُ يوماً نفسِك وهواها، سعي لها في رداها. وللمدنيين رأي في هذه المسألة أورده شيخ نحاة الكوفة الفراء في قوله: "وليس قول من قال {مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} 2 ولا {زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} بشيءٍ، وقد فُسّر ذلك. ونحويوا أهل المدينة ينشدون قوله: فَزَجَجْتُهَا مُتَمَكِّنا ... زَجَّ القَلُوصَ أَبي مَزادَة3 قال الفراء: باطل، والصواب: زَجَّ القَلُوصِ أَبُو مَزادَة "4 وقال الفراء في موضع آخر في توجيه قراءة ابن عامر: "وليس قول من قال: إنما أرادوا مثل قول الشاعر: فَزَجَجْتُهَا مُتَمَكِّنا ... زَجَّ القَلُوصَ أَبي مَزادَة بشيء، وهذا مما كان يقوله نحويوا أهل الحجاز، ولم نجد مثله في العربية"5.

_ 1 سورة الأنعام: الآية 137. 2 سورة إبراهيم: الآية 47. 3 معاني القرآن 2/81. 4 البيت من مجزوء الكامل، وهو بلا نسبة في مجالس ثعلب 125، والخصائص 2/406، والإنصاف 2/427، وشرح المفصل لابن يعيش 3/189، والمقرب 1/54، والخزانة 4/415. 5 معاني القرآن 1/358.

وتدل عبارة الفرّاء "وهذا مما كان يقوله نحويوا أهل الحجاز" على أمور، منها: قِدَم هؤلاء النحاة، وأنهم جماعة، وأنهم يتفقون في المذهب النحويّ. وذكر ابن يعيش1 أن الأخفش أنشد هذا الشاهد، وقيل: إنه زاده في حواشي الكتاب لسيبويه فأدخله الناسخ في بعض النسخ حتى شرحه الأعلم2، فهل أخذه الأخفش من كتاب أحد هؤلاء المدنيين، وهو عليّ الجمل، كما أخذ عنه: الزيت رطلان بدرهم؟ إن صح ذلك. وذكر ابن يعيش - أيضاً - أن "ابن كيسان قد نقل عن بعض النحويين أنه يجوز أن نفرق بين المضاف والمضاف إليه إذا جاز أن يسكت عن الأول منهما"3 فمن هؤلاء النحاة، هل هم المدنيون أم الكوفيون؟ ليس في المصادر التي بين أيدينا ما يعين على الإِجابة عن هذا السؤال. وقد احتج بعض الكوفيين - فيما بعد - بهذا البيت وجعلوه من شواهدهم في جواز الفصل بين المضاف والمضاف إليه، فيما أورده أبو البركات الأنباريّ في مسائل الخلاف4 على الرغم من اعتراض الفراء على هذا الشاهد. ويبدو أن البغدادي أراد أن ينتصر للبصريين بالطعن في قائل هذا البيت فعزاه "لبعض المدنيين المولدين، فلا يكون فيه حجة"5. وبالعودة إلى عبارتي الفراء التي قال فيها: "ونحويوا أهل المدينة ينشدون ... "، و"وهذا مما كان يقوله نحويوا أهل الحجاز" يتبين - كما أسلفنا - قدم هؤلاء النحاة، وإجماعهم على هذا الشاهد، وشهرته عندهم، ويمكن أن يستنبط من عبارة الفراء "وهذا مما كان يقوله.." التي قالها في أواخر القرن

_ 1 ينظر: شرح المفصل 3/22. 2 ينظر: تحصيل عين الذهب 145، والخزانة 4/416. 3 شرح المفصل 3/23. 4 ينظر: الإِنصاف 2/427. 5 الخزانة 4/415.

الثاني - كما نعلم - أن هؤلاء النحاة كانوا يقولون ذلك منذ زمن مضى نقدره بنحو خمسين سنة أو يزيد، وهو ما يوافق زمن الفصاحة الذي حدد بمنتصف القرن الثاني في الحواضر ونهاية القرن الرابع في البوادي، فهل يجوز للبغدادي أن يطعن في حُجِّيّة البيت؟. ويقوي مذهب المدنيين قراءة ابن عامر في آية المائدة المتقدمة، وهي قراءة سبعية متواترة، لا يجوز الطعن فيها، وقد قرأ بعض السلف {مُخْلِفَ وَعْدَه رُسُلِه} 1، بالإِضافة إلى جملة من الشواهد الشعرية2. ولورود ذلك في القرآن اقترح الدكتور مكي الأنصاريّ أن تعدل القاعدة التي ذكرها البصريون، فقال: يجوز الفصل بين المتضايفين في النثر بالمفعول به3. وهذا دليل على سلامة ما ذهب إليه نحاة المدينة في هذه المسألة. 3- ضمير الفصل: قد يقع الضمير المنفصل المرفوع بين المبتدأ والخبر أو ما في حكمهما من النواسخ إذا كانا معرفتين أو مقاربين للمعرفة4، وذلك في نحو {إنْ كَانَ هَذا هُوَ الحَقَّ} 5 و {كُنّا نَحْنُ الوَارِثِين} 6. ويسمى هذا الضمير عند البصريين ضمير الفصل، ويسميه الكوفيون عمادا.

_ 1 سورة إبراهيم: الآية 47، وينظر: الكشاف 2/384، والمحرر الوجيز 8/266، والبحر المحيط 5/244، والدر المصون 7/129. 2 ينظر: الإنصاف 2/ 427- 431. 3 ينظر: نظرية النحو القرآني 78. 4 ينظر: شرح جمل الزجاجي لابن عصفور 2/65. 5 سورة الأنفال: الآية 32. 6 سورة المائدة: الآية 120.

وللمدنيين مذهب فيه وفي تسميته، قال أبو حيان: "والفصل هو صيغة ضمير منفصل، ويسميه الفراء وأكثر الكوفيين عماداً، وبعض الكوفيين يسميه دعامة، ويسميه المدنيون صفة. وأكثر النحاة يذهب إلى أنه حرف، وصححه ابن عصفور. وذهب الخليل إلى أنه ضمير باق على اسميته، ومحل هذا الفصل المبتدأ والخبر ونواسخه، واختلفوا في وقوعه بين الحال وصاحبها، فمنعه الجمهور، وحكى الأخفش في الأوسط مجيء ذلك عن العرب، ومن قرأ {هَؤلاءِ بَنَاتي هُن أَطْهَرَ لَكُمْ} 1 بنصب أطهر لاحِنٌ عند أبي عمرو. وقال الخليل: والله إنه لعظيم جعل أهل المدينة هذا فصلاً، وشرط الفصل أن يتقدمه معرفة2. وبهذا ندرك انفراد نحاة المدينة في هذه المسألة بأمرين: أحدهما: تسميتهم هذا الضمير: صفة. والآخر: أنهم أجازوا وقوعه بين الحال وصاحبها كما في القراءة السابقة، وندرك - أيضاً - أن الأخفش أجاز ذلك، فهل هو متأثر بما وقع له من مصنفات أهل المدينة في النحو، ككتاب عليّ الجمل؟. لا يستبعد ذلك. وأجاز المدنيون وقوع ضمير الفصل بين النكرة والمعرفة، قال سيبويه في باب "هذا باب لا تكون هو وأخواتها فيه فصلا" بعد أن مثل له بقوله: ما أظن أحداً هو خير منك، قال: "وأما أهل المدينة فينزلون هو هاهنا بمنزلته بين المعرفة، ويجعلونها فصلاً في هذا الموضع"3.

_ 1سورة هود: الآية 78. 2 الارتشاف 1/489. 3 الكتاب 2/395، 396.

وأضاف سيبويه قائلا: "فزعم يونس أن أبا عمرو رآه لحنا وقال احتبى ابن مروان1 في ذِه في اللحن. يقول: لحن، وهو رجل من أهل المدينة، كما تقول اشتمل بالخطأ، وذلك أنه قرأ: {هَؤلاءِ بَنَاتي هُنَّ أَطْهَرَ لَكُمْ} فنصب. وكان الخليل يقول: "والله إنه لعظيم جعلهم [أي المدنيين] هو فصلا في المعرفة وتصيرهم إياها بمنزلة (ما) إذا كانت ما لغوا؛ لأن هو بمنزلة أبُوهُ، ولكنهم جعلوها في ذلك الموضع لغواً كما جعلوا ما في بعض المواضع بمنزلة ليس، وإنما قياسها أن تكون بمنزلة كأنما وإنما"2. واعترض السيرافيّ على سيبويه في بعض ما جاء في هذه المسألة، ووجه مذهب المدنيين، فقال: "لم يجز الفصل إذا كان الاسم قبله نكرة، لأن الفصل يجري مجرى صفة المضمر، وهو، وأخواتها معارف، فلا يجوز أن يكون فصلا للنكرة، كما لا يجوز أن تكون المعارف صفات للنكرة، فإن هذا الكلام إذا حمل على ظاهره فهو غلط وسهو؛ لأن أهل المدينة لم يحك عنهم إنزال هو في النكرة منزلتها في المعرفة، والذي يحكى عنهم: هؤلاء بناتي هنّ أطهر لكم، لأنه من باب هو خيراً منكم، والذي أنكره سيبويه أن يجعل ما أظن أحدا هو خيراً منك بمنزلة ما أظن زيداً هو خيراً منك، فليس هذا مما حُكِيَ عن أهلِ المدينة في شيء، وقد شهد بما ذكرته ما ذكره يونس أن أبا عمرو رآه لحنا"3. وفي كتاب سيبويه إشارات أخرى متفرقة إلى نحويين يفهم من سياق كلامه أنهم قدماء4، فهل هم أو بعضهم من نحاة المدينة؟.

_ 1 هو محمد بن مروان المدني المقرئ، كما تقدم في ترجمته في الفصل الثالث. 2 الكتاب 2/396، 397. 3 شرح كتاب سيبويه للسيرافي، الجزء الثاني، اللوحة 166 ب (عارف حكمت) . 4 ينظر: الكتاب 1/334، 2/185.

4- إعراب حتّى وما بعدها: ثمة شاهد نحويّ مشهور يتناقله النحاة منذ عهد سيبويه، ويروونه عن بعض نحاة المدينة، وهو مروان بن سعيد المهلبيّ، وهو قوله: أَلْقَى الصَّحِيفَةَ كَي يُخَفِّفَ رَحْلَهُ ... والزَّاد َحَتَّى نَعْلَهُ أَلْقَاهَا1 وفيه روايات، وهي "حتى نعلِه" و"حتى نعلَه" و"حتى نعلُه"2 ولا ندري كيف أنشده مروان بن سعيد المهلبيّ، ولا نعرف رأيه في توجيهه، كما لا نعرف رأي معاصريه من نحاة المدينة في توجيه هذا البيت، الذي نقدّر أنه استأثر بعنايتهم، فهو من شواهدهم، كما استأثر بعناية النحاة في البصرة والكوفة وغيرها من الأمصار. والشاهد فيه "حتى نعله" إذ يجوز في حتى وما بعدها ثلاثة أوجه، وقد أنشده سيبويه3 على أن حتى فيه حرف جر بمعنى إلى، وأن مجرورها غاية لما قبلها، كأنه قال ألقى الصحيفة والزاد وما معه من المتاع حتى انتهى الإِلقاء إلى النعل، ويكون "ألقاها" توكيد4، وهي بمنزلة قوله عز وجل {سَلامٌ هِي حَتى مَطْلَع الفَجْر} 5. أما النصب فمن وجهين: أحدهما: نصبه بإضمار فعل يفسره (ألقاها) كأنه قال: حتى ألقى نعله ألقاها، كما يقال في الواو وغيرها من حروف العطف. ثانيها: أن يكون نصبه بالعطف على الصحيفة، وحتى بمعنى الواو، كأنه

_ 1 ينظر: الكتاب 1/97، وأسرار العربية 269، وشرح المفصل لابن يعيش 8/19، ورصف المباني 258، وشرح الأشموني 2/214، والهمع 2/24، والخزانة 3/21. 2 ينظر: أسرار العربية 269. 3 ينظر: الكتاب 1/97. 4 ينظر: التصريح 2/141. 5 سورة القدر: الآية 5.

قال: ألقى الصحيفة حتى نعله، يريد: ونعله، كما تقول: أكلت السمكة حتى رأسَها، بنصب رأسها، فعلى هذا الهاءُ عائدة على النعل أو الصحيفة، وألقاها تكرير وتوكيد"1وقد جاز عطف نعله مع أنه ليس واحداً مما ذكر؛ لأن الصحيفة والزاد في معنى ألقى ما يثقله؛ فالنعل بعض ما يُثقل. وأما الرفع "فعلى الابتداء، وجملة ألقاها هي الخبر؛ فحتى - على هذا وعلى الوجه الأول من وجهي النصب - حرف ابتداء، والجملة بعدها مستأنفه"2. هذا ما وقفت عليه مما عزي للمدنيين من آراء في النحو وهو من القلة بحيث لا يمكّن الباحث من استخلاص خصائص معينة، وإن كنت أرى - من خلال ما سمحت به المصادر - أن نحوهم يأخذ طابع النحو الكوفيّ الذي يعتدّ بالسماع ولا يحفل كثيراً بالقياس.

النحو في قراءتهم وتعليقاتهم التفسيرية

النحو في قراءتهم وتعليقاتهم التفسيرية ... النّحو في قراءاتهم وتعليقاتهم التفسيرية أسهمت قراءات المدنيين وتعليقاتهم التفسيرية في خصوبة النحو العربيّ على مدى القرون، ويمكن لنا أن نستعرض بعض الملاحظات والآراء أو الأصول النحوية المستنبطة من قراءات بعضهم أو تعليقاتهم، كابن عباس وابن هرمز، من غير استقراء، فإن ما أثر عنهما في هذا الشأن شيء غير قليل، يحتاج إلى مؤلف خاص يلم شتاته، ويكفي في هذا البحوث ذكر بعض الأمثلة مما يمثل بدايات النحو عند المدنيين. أولا: ابن عباس أثر عن ابن عباس كثير من الملاحظات اللغوية التي كان يفسر بها القرآن، تدل على حسه اللغويّ العام السليم، وإلمامه بالنحو.

_ 1 الخزانة 3/21. 2 نفسه 3/22.

1- قدر ابن عباس التقديم والتأخير في قوله عزّ وجلّ: {أم لَهُمءَالِهَةٌ تَمْنَعُهُم مِن دونِنا لا يَسْتطيعُونَ نَصْرَ أنفسهم ولاهُم مِنّا يُصْحَبون} 1. قال أبو حيان: " قال ابن عباس: في الكلام تقديم وتأخير تقديره: أم لهم آلهة من دوننا تمنعهم2". 2- وروي عن ابن عباس في قوله عزّوجل: {وَجَعَلنَا مِنْهُم أئِمَّةً يَهْدُون بأمْرنا لَمَّا صَبَرُوا} 3 أنه يرى أن الباء في {بأمرنا} بمعنى (إلى) أي يهدون الخَلق إلى أمرنا4. وقد ذكر النحاة - فيما بعد - أن الباء تأتي بمعنى الغاية، ومنه قوله تعالى: {وَقَدْ أحْسَنَ بِي} 5 أي: إلي6. 3- وروي عنه في قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَان للرحمن وَلَدٌ فَأنَا أوَّلُ العَبدِين} 7 أنه يرى أن (إنْ) هنا نافية بمعنى ما، وكان يقول: لم يكن للرحمن ولد8. 4- وروي عنه في قوله تعالى: {هَلْ أتَى عَلَى الإنْسَان حِينٌ مِنَ الدَّهْر لم يَكُن شَيْئاً مَذكُورا} 9 أنه ذهب إلى أن (هل) هنا بمعنى (قد) 10.

_ 1 سورة الأنبياء: الآية 43. 2 البحر المحيط 6/314. 3 سورة السجدة: الآية 24. 4 ينظر: تنوير المقياس 258. 5 سورة يوسف: الآية 100. 6 ينظر: الجنى الداني 45، ومغني اللبيب 143. 7 سورة الزخرف: الآية 81. 8 ينظر: إعراب القرآن للنحاس 4/122. 9 سورة الإنسان: الآية1. 10.ينظر: البحر المحيط 8/393.

5- واختلف المفسرون في تفسير قوله عزّ وجلّ: {إلَيهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ والعَمَلُ الصالحُ يَرْفعُهُ} 1. قال أبو حيان: "وعن ابن عباس: "والعمل الصالح يرفعه، عامله ويشرّفه، فجعله على حذف مضاف"2 أي: العمل الصالح يرفع الكلم الطّيب. 6- واختلفوا في تفسير قوله تعالى: {إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ} 3. وروي عن ابن عباس - في هذه الآية - أنه قدر حذف الحال، إذ قال: "في الكلام محذوف تقديره: فأصابتكم مصيبة الموت وقد استشهدتموهما على الإيصاء"4 والحال هي جملة: "وقد استشهدتموهما" التي قدرها ابن عباس محذوفة. 7- وروي عن ابن عباس في تفسيره في قول الله عزّ وجلّ: {وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الّتي كُنْتَ عَلَيها إلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنْقَلِبُ عَلَى عَقْبَيْهِ} 5 أنه قال: "القبلة في الآية الكعبة، وكنت أنت، كقوله تعالى {كُنْتُم خَيْرَ أمةٍ} بمعنى: أنتم"6. قال أبو حيان: "وهذا من ابن عباس - إن صح - تفسير معنى لا تفسير إعراب، لأنه يؤول إلى زيادة كان الرافعة للاسم والناصبة للخبر، وهذا لم يذهب إليه أحد، وإنما تفسير الإِعراب على هذا التقدير ما نقله النحويون أنّ كان تكون بمعنى صار"7.

_ 1 سورة الفاطر: الآية 10. 2 ينظر: البحر المحيط 7/304. 3 سورة المائدة: الآية 106. 4 البحر المحيط 4/43. 5 سورة البقرة: الآية 143. 6 البحر المحيط 1/423، 424. 7 نفسه 1/423، 424.

ومقتضى تفسير ابن عباس أنّ كان هنا زائدة "والذي صار بأبي حيان إلى هذا هو البناء النحوي العام القائم على العامل والمعمول، وهذا ما لم يكن يعرفه ابن عباس، ولا أهل زمانه"1. ونلاحظ في هذه الأمثلة التي أوردناها بروز الحس اللغوي والنحوي عند ابن عباس في تعليقاته وتفسيره على نحو فطريّ بعيد عن تصنع النحاة وتعليقاتهم، وهو ما يناسب تلك المرحلة التي نشأ فيها النحو في المدينة والحجاز. ثانيا: ابن هرمز رأينا في الفصل الثالث أن بعض المؤرخين ذكر أنّ ابن هرمز أول من وضع علم النحو وأظهره في المدينة، وأنه كان أعلم الناس بالنحو وأن أهل المدينة أخذوا النحو عنه2. وجعله بعضهم أحد مؤسسي النحو الذين وضعوا "للنحو أبوابا، وأصلوا له أصولا، فذكروا عوامل الرفع والنصب والخفض والجزم، ووضعوا باب الفاعل والمفعول والتعجب والمضاف"3. فأين هذه الأصول والأبواب؟ لقد ضاعت فيما ضاع من تراث العربية المتقدم، ولم يبق لنا من نحو ابن هرمز سوى قراءاته واختياراته الكثيرة التي أسهمت في خصوبة النحو العربي، ودلّت على إلمامه به، ومشاركته فيه، وإدراكه لبعض أصوله، فمن قراءاته واختياراته تلك: 1- قرأ يحيى بن يعمر: {أفَحكمُ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} 4 برفع (أفحكم) على الابتداء، وبإضمار مفعول في الفعل يبغون، والجملة خبر المبتدأ.

_ 1 ابن عباس مؤسس علم العربية 56. 2 ينظر: إنباه الرواة 1/39. 3 طبقات النحويين واللغويين 11، 12. 4 سورة المائدة: الآية 50.

وقرأ ابن هرمز الآية بنصب (أفحكمَ) وهي قراءة الجمهور1، وقال: "لا أعرف في العربية: أفحكمُ"2 فدل هذا على سعة إطلاعه، وعلمه بتراكيب اللغة وقرائنها اللفظية، وما يصاحبها من ظواهر الإعراب3. 2- قرأ ابن كثير وغيره: {فَتَلَقّى آدَمَ مِن رَبِّه كَلِمَاتٌ} 4 بنصب (آدم) ورفع (كلمات) . وقرأها ابن هرمز الأعرج وغيره برفع آدم ونصب (كلمات) وعللها مكيّ بقوله: "وعلة من قرأ برفع (آدم) ونصب (كلمات) أنه جعل (آدم) هو الذي تلقى الكلمات؛ لأنه هو الذي قَبِلها ودعا بها، وعمل بها فتاب الله عليه. فهو الفاعل لقبوله الكلمات فالمعنى عَلى ذلك، وهو الخطاب، وفي تقديم (آدم) على الكلمات تقويه أنه الفاعل. وقد قال أبو عبيد في معنى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} معناه قَبلها، فإذا كان آدم قابلا فالكلام مقبول، فهو المفعول وآدم الفاعل5". وقرأ الأعرج وآخرون: {وَيَتُوبَ الله عَلَى مَن يَّشَاءُ} 6وقرأ الجماعة {وَيَتُوبُ الله} بالرفع، وعلى قراءة الأعرج فإنّ التوبة داخلة في جواب الشرط معنى، وعلى قراءة الرفع تكون استئنافاً، وذلك أن قوله: {قَاتِلُوهُم يُعَذّبْهُمُ الله بأَيْدِيكُم ويُخْزِهِم ويَنصُركُمْ عَلَيهِم ويَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِين ويُذْهِبْ غَيْظ قُلُوبِهِم وَيَتُوبُ الله عَلَى من يشَاءُ} 7 فهو كقولك: إن تزرني أحسن إليك

_ 1 البحر المحيط 3/505. 2 المحتسب 1/211. 3 ينظر: المفصل في تاريخ النحو 125. 4 سورة البقرة: الآية 37. 5 الكشف 1/237. 6 سورة التوبة: الآية 15. 7 سورة التوبة: الآية 14،15.

وأعطي زيداً درهما، فتنصبه على إضمار (أنْ) أي: إن تزرني أجمع بين الإحسان إليك والإعطاء لزيد1. وإن كان ابن هرمز في كثير من قراءاته يتوخى بحسه النحويّ ما وافق العربية وفق الأقيسة النحوية المشهورة، إلا أنه قد يغرب في بعض قراءاته وينحط في بعض اختياراته، فيوافق أوجه ضعيفة في اللغة أو شاذة لا يقبلها أكثر النحاة، فمن ذلك: 1- قرأ ابن هرمز وغيره: {ولا تَتبعُوا خُطُؤات الشَّيْطَانِ} 2 بضمتين وهمزة، وهي شاذة، أنكرها بعض العلمَاء، قال ابن جني: "وهي مرفوضة وغلط3". وتحتمل هذه القراءة تأويلين في العربية: أحدهما: أن خُطُؤات جمع خُطأة، بمعنى الخطأ4، فالهمزة أصلية، وهي لام الكلمة. والآخر: أنه قلب الواو في خُطُوات همزة؛ لمجاورتها الضمة قبلها، فكأنها عليها؛ لأن حركة الحرف بين يديه على الأرجح لا عليه5. 2- قرأ ابن هرمز6: {وإِذ أَخَذَ الله مِيْثَاقَ النَّبيّينَ لَمَّا آتَيْنَاكم مِن كِتَاب وحِكْمَة} 7 بفتح اللام وتشديد الميم في (لمّا) وقَد أنكرها بعض العلماء، وهي تحتمل أوجه:

_ 1 ينظر: المحتسب 1/285. 2 سورة البقرة: الآية 68ا. 3 المحتسب 1/117. 4 نفسه 1/233. 5 ينظر: الدر المصون 2/224. 6 ينظر: المحتسب 1/164. 7 سورة آل عمران: الآية 81.

قال أبو الفتح: "في هذه القراءة إعراب، وليست (لما) هاهنا بمعروفة في اللغة، وذلك أنها على أوجه: تكون حرفاً جازما وتكون ظرفاً وتكون بمعنى إلا وأقرب ما فيه أن يكون أراد: وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لَمِن ما آتيناكم، وهو يريد القراءة العامة: لما آتيناكم1 فزاد من ... فصارت (لَمِما) فلما التقت ثلاث ميمات فثقلت حذفت الأولى منهن، فبقي لَمَّا مشدداً كما ترى، ولو فكت لصارت: لنما، غير أن النون أدغمت في الميم كما يجب في ذلك، فصارت: لَمّا"2. 3- وقرأ ابن هرمز وغيره3 {قلْ هَلْ أنبئُكُم بِشَرٍّ مِن ذَلِكَ مَثْوبَةٍ عِند اللهِ} 4 بسكون الثّاء في (مَثْوبة) وفتح الواو على زنة مفعلة، هذا مما خرج عن أصله، وهو شاذ في بابه، وحال نظائره كما يقول ابن جني5، وقياسها (مثوبة) كما قرأها الجمهور.

_ 1 أي في لَمَا خاصة كما لا يخفى. 2 المحتسب 1/164. 3 ينظر: مختصر في شواذ القرآن من كتاب البديع 33 4 سورة المائدة: الآية 60. 5 ينظر: المحتسب 1/213.

المصطلح النحوي

المصطلح النّحويّ مرت مصطلحات اللغة والنحو بمراحل زمنية متباينة واشترك في تطويرها مجموعة من النحاة على مختلف العصور. وقد ظهرت بعض المصطلحات النحوية في ظهور النشأة لهذا العلم في المدينة، ثم أشاد البصريون بناء المصطلح اللغوي بعامة والنحويّ بخاصّة، وجاء بعدهم الكوفيون، وتبعهم البغداديون والأندلسيون والمصريون، فدرس من مصطلحات المدنيين ما درس، وبقي منها ما بقي وهو قليل، ولا نعلم مقدار ما ضاع منها. ونقدر أن بعضاً من مصطلحات المدنيين النحوية شاع على ألسنة الدارسين وتبنته المدارس النحوية المشهورة، فنسب إليها، ونسي مورده الأصلي. ومن مصطلحات المدنيين النحوية التي أنشؤوها أو كان لهم إسهام مع غيرهم في نشأتها ورسوخها: العربية، والإعراب، والنحو، واللحن، والرفع، والنصب، والجر، والاسم، والفعل، والحرف، والنداء، والترخيم، والتقديم، والتأخير، والصفة، وهي على النحو التالي: 1- العربية: لعل "العربية" من أقدم مصطلحات العلم اللغوي والنحوي عند العرب، وهو عام المدلول، لا يحمل - في أول أمره - سمة المصطلح العلمي الدقيق، وكان ظهوره - فيما نعلم - في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد جرى على لسانه كثيراً، واستخدمه بعض الصحابة، وكان معناه في بادئ

الأمر:لغة العرب النقية من الشوائب، لاسيما لغة البوادي، قال عمر: "تعلموا العربية، فإنها تشبب العقل وتزيد في المروءة"1. وكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري: "أنْ مُرْ من قِبَلَك بتعلم العربية، فإنها تدل على صواب الكلام"2. ثم ارتقى مصطلح العربية قليلاً وأصبح يعني اللغة وأسرارها، فقد روي عن كعب الأحبار أنه حكم بين ابن عباس ومعاوية رضي الله عنهم حين اختلفا في قوله تعالى {عَيْنٍ حَمِئةٍ} فقال: "أما العربية فأنتم أَعلم بها، وأما أنا فأجد الشمس في التوراة تغرب في ماء وطين"3. ولم يزل هذا المصطلح يرتقي حتى أصبح يطلق على دراسة اللغة وما تحويه من ظواهر صوتية، كالهمز والإِمالة والإِبدال والإدغام، أو ظواهر إعرابية كالرفع والنصب والجر، وازداد رسوخاً وانتشاراً في القرن الأول4، فظهر أول مصطلح لهذا العلم اللغوي. وقد ورد هذا المصطلح في استخدامات بعض القدماء، كابن سلام، في قوله: "وكان أبو الأسود أول من استنّ العربية، وفتح بابها، وأنهج سبيلها ووضع القياس"5. والسيرافي في كلامه عن نصر بن عاصم، إذ قال: إنه "أول من وضع العربية"6. والزهري في قوله: "إن نصر بن عاصم ليفلق بالعربية تفليقا"7.

_ 1 طبقات النحويين واللغويين 13،وينظر:1/22. 2 إيضاح الوقف والابتداء 1/30. 3 غاية النهاية 2/303. 4 ابن عباس مؤسس علم العربية 44. 5 طبقات فحول الشعراء1/12. 6 أخبار النحويين البصريين 38. 7 نزهة الألباء23.

والحسن البصري الذي قال له البتّي: ما تقول في رجل رُعِفَ في الصلاة؟ فقال: إنّ هذا يعرّب الناس "أي يعلم العربية" وهو يقول رُعِف، إنما هو رَعُفَ1. 2- الإعراب: وهو - أيضاً - من المصطلحات العربية القديمة، تمتد جذوره إلى عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد روي أبو هريرة عن النبي عليه السلام أنه قال: "أعربوا القرآن والتمسوا غرائبه"2. وروي عن أبي بكر وعمر- رضي الله عنهما-: "تعلم إعراب القرآن أحبّ إلينا من تعلم حروفه3" ولم يكن مصطلح "الإعراب" في بداية نشأته كما يتضح من هذين النصين يتجاوز معنى الإبانة في الكلام والتجويد في القرآن ونحو ذلك، فمدلوله أقرب إلى معناه اللغوي المجرد. ثم تطور مصطلح "الإعراب" وأصبح يدل على الصواب في الكلام، قال ابن شُبرمة (144هـ) : "إن الرجل ليلحن وعليه الخز الأدكن فكأن عليه أخلاقاً، ويعرب وعليه أخلاق فكأن عليه الخز الأدكن"4. ثم لم يلبث هذا المصطلح أن أخذ مفهوماً مقارباً لما نعرفه اليوم، وهو تحريك أواخر الكلم بما يقتضيه التركيب، وقد روي عن مالك بن أنس إمام دار الهجرة قوله: "الإعراب حلي اللسان؛ فلا تمنعوا ألسنتكم حليها"5.

_ 1 ينظر: اللسان (عرب) 1/589. 2 إيضاح الوقف والابتداء1/30. 3 الإيضاح في علل النحو 96. 4 طبقات النحويين واللغويين 13. 5 نفسه 13.

3-النحو: ليس من اليسير الاهتداء إلى الزمن الذي ظهر فيه هذا المصطلح، الذي عرف ناضجاً في أواخر القرن الثاني، إلا أن الروايات المنقولة تشير إلى مرحلة مبكرة ترجع إلى زمن علي بن أبي طالب إذ رُويَ أنه - رضي الله عنه - ألقى إلى أبي الأسود رقعة فيها كلام في أصول النحو فقال له: "انح هذا النحو، وأضف إليه ما وقع لك"1 ثم عرض عليه أبو الأسود ما وقع له فاستحسنه علي وقال: "ما أحسن هذا النحو الذي نحوته"2 قال ياقوت معلقاً على قول علي: "فلذلك سمي نحوا"3. وقال الخليل بن أحمد: "وبلغنا أن أبا الأسود وضع وجوه العربية، فقال للناس انحوا نحو هذا فسمّى نحوا"4. وروى القفطي أن أبا الأسود أتى عبد الله بن عباس فقال: "إني أرى ألسنة العرب قد فسدت، فأردت أن أضع شيئا لهم يقوِّمون به ألسنتهم قال: لعلك تريد النحو، أما إنه حق"5. فإن صحّ ما ورد في هذه الروايات فإنّ مصطلح النحو قديم تعود جذوره الأولى إلى علماء المدينة، تم تطور مع الأيام، ولكن ثمة من يشك فيما جاء في هذه الروايات، ويرى أن ذلك من تفسير الرواة وتزيدهم "لأن المصطلح اللغوي لا يسلك سبيله إلى الأذهان بهذه الطريقة، بل يكون له أساس من الاستخدام، ثم يتطور معناه ويطلق على شيء ما"6.

_ 1 معجم الأدباء 4/1467. 2 نفسه 4/1467. 3 نفسه 4/1467. 4 العين 3/302. 5 إنباه الرواة 1/51. 6 المفصل في تاريخ النحو العربي 15.

4- اللحن: للحن معان عدة في اللغة ذكرها أصحاب المعاجم، وهو من المصطلحات التي أطلقت قديماً على علم النحو، ولكنه لم يشع في الاستعمال، فمن ذلك ما روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في حديث له في النافع من العلوم، قال: "تعلموا الفرائض والسنة واللحن، كما تتعلمون القرآن"1. وحدّث يزيد بن هارون بهذا الأثر فقيل له: ما اللحن؟ فقال: النحو2. ثم شاع على ألسنة الناس في الصدر الأول من الإسلام في المدينة وغيرها استخدام اللحن بمعنى الخطأ، وهو من معانيه اللغوية، "وأغلب الظن أنه استعمل لأول مرة بهذا المعنى عندما تنبه العرب بعد اختلاطهم بالأعاجم إلى فرق ما بين التعبير الصحيح والتعبير الملحون"3. ومن أقدم النصوص التي ورد فيها اللحن بمعنى الخطأ في الكلام ما نسب إلى عبد الملك بن مروان (86 هـ) وهو قوله: "الإعراب جمال للوضيع، واللحن هجنة على الشريف"4. وقيل له يوماً: "أسرع إليك الشيب قال: شيبني صعود المنابر والخوف من اللحن"5. وقد ورد هذا المعنى في بيت للحكم بن عبدل الأسدى يهجو به حاجب عبد الملك بن بشير بن مروان والي البصرة (103 هـ) ليحمل الأمير على إقالته:

_ 1 طبقات النحويين واللغويين13، والإيضاح الوقف والابتداء ا/15، 16. 2 الأضداد للأنباري 240. 3 العربية 254. 4 العقد الفريد 2/479. 5 الفخري في الآداب السلطانية 5/112.

لَيْتَ الأميرَ أَطَاعَنِي فَشَفَيْتُهُ ... مِن كُلِّ من يُكْفِي القَصِيد ويَلْحَن1 وكان بعض السلف يقول: "ربما دعوت فلحنت فأخاف ألا يستجاب لي"2 وهكذا استقرّ اللّحن في اصطلاح اللّغويين والنّحاة على هذا المعنَى. 5- الرفع والنصب والجر: جاء في بعض الروايات أن علياً - رضي الله عنه - قال لأبي الأسود: "اجعل للناس حروفا - وأشار له إلى الرفع والنصب والجر - فكان أبو الأسود ضنينا بما أخذه"3. تم انشر هذا المصطلح عند النحويين واللغويين في القرن الثاني، ولا يبعد أن يكون المدنيون قد عرفوه منذ القرن الأول، وأن يكون لهم دور بارز في نشأته. 6-الاسم والفعل والحرف: روى عن أبي الأسود أنه قال: "دخلت على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - عليه السلام- فأخرج لي رقعة فيها: الكلام كله اسم وفعل وحرف جاء لمعنى"4. وروى الزجاجي أن أبا الأسود كان أول من سطر في كتاب: "الكلام: اسم وفعل وحرف جاء لمعنى، فسئل عن ذلك فقال: أخذته من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب"5.

_ 1 الحيوان1/249. 2 الإيضاح في علل النحو 96. 3 مراتب النحويين 24. 4 إنباه الرواة 1/40. 5 الإِيضاح في علل النحو 89.

7- النداء والترخيم: روي أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - لما قرأ: {ونَادَوا يا مَالِ لِيَقْض عَلَيْنا رَبُّكَ} 1 أنكر عليه ابن عباس - رضي الله عنهما - فقال علي: "هذا من الترخيم في النداء. فقال ابن عباس: ما أشغل أهل النار في النار عن الترخيم في النداء فقال علي: صدقت"2. قال ياقوت في تعليقه على هذه الرواية: "فهذا يدل على تحقّق الصحابة بالنحو وعلمهم به"3. ومع أن الشك يتطرق لهذا الرواية لورود مصطلح "الترخيم في النداء" فيها، إذ يظن أنه مصطلح متأخر نوعاً ما، إلا إننا لا نستطيع إنكارها لورودها عن ياقوت، ومعروف عنه تحريه فيما يرويه من الأخبار، ولأن الواقع اللغوي الجديد في عصر علي بن أبي طالب كان مهيئاً لنشأة مثل تلك المصطلحات، ويقوي ذلك مكَانة الرجلين علي وابن عباس في اللغة، وما أثر عنهما في هذا الشأن، وهو شيء كثير. 8- التقديم والتأخير: فسر ابن عباس قوله عز وجل {أَم لَهُمءَالِهَةٌ تَمْنَعُهُم مِن دونِنَا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِم وَلاهُم مِنّا يُصحَبُون} 4 فقال: "في الكلام تقديم وتأخير"5.

_ 1 سورة الزخرف: الآية77. 2 معجم الأدباء1/17. 3 نفسه 1/17. 4 سورة الأنبياء: الآية 43. 5 البحر المحيط 6/ 314.

9 -الصفة: تقدم في كلامنا عن الضمير الذي يقع بين المبتدأ والخبر وما في حكمها أنه يسمى عند البصريين ضمير الفصل. ويسمى عند الكوفيين: العماد. ويسميه نحاة المدينة - كما ذكر أبو حيان - صفة، وقد انفردوا بهذه التسمية فيما نعلم.

المجالس اللغوية

المجالس اللغوية من مظاهر النشاط اللغوي في المدينة أن العلماء كانوا يعقدون المجالس اللغوية كما عقدوها للتفسير والحديث والفقه، ومن المجالس التي كانت تعقد للغة مجالس ابن عباس، وأبي الزناد، وابن هرمز، ومروان بن سعيد المهلبي وغيرهم. وكانت العلوم الشرعية واللغوية تتداخل في تلك المجالس، قال عمرو بن دينار: "ما رأيت مجلساً قط أجمع لكل خير من مجلس ابن عباس للحلال، والحرام، وتفسير القرآن، والعربية، والشعر، والطعام"1. ونقدر أن علم العربية بفروعه المختلفة كغريب اللغة ولهجاتها ومسائل النحو كان يعرض في تلك المجالس. ولما ارتقت علوم اللغة وقاربت النضج وبخاصة النحو ظهرت بعض المناظرات اللغوية والنحوية في تلك المجالس، أو في مجالس علية القوم كالخلفاء والأمراء2والوزراء وغيرهم، كان ذلك في حواضر الدولة الإِسلامية الفتية كالمدينة والبصرة والكوفة وبغداد.

_ 1 غاية النهاية 1/426. 2 من مجالس الأمراء في المدينة ما كان يقع في القرن الرابع في مجلس أميرها أبي أحمد العلوي العقيقي، ومن ذلك مسألة لغوية دار الحوار فيها في مجلسه سنة 364 هـ وهي مسألة مدّ المقصور في كلمة "الغني" فقال بعضهم يجوز المدّ فيها فيقال. "الغناء" واستدل بقول الشاعر: سيغنيني الّذي أغناك عني ... فلا فقر يدوم ولا غناء فرد أبو الليل العلوي هذا الشاهد بأن روايته خلاف هذا، وأن الصّواب هو: سيغنيني الّذي أغناك عنّي ... فلا فقري يدوم ولا غناك تجنبت الذنوب لتصرميني دعى ... العلات واتّبعي هواك ينظر: شذرات الذهب للغزّاوي 143.

وقد ضاع كثير من تلك المناظرات، ولم يبلغنا من أمرها إلا القليل، وأكثر ما بلغنا مما كان يدور في مجالس الخلفاء والأمراء والوزراء في حواضر العراق، وقد جاءت لنا بعض المصادر بنتف يسيرة جدا من مناظرات نحوية وقعت في بعض مجالس العلم كان أحد علماء المدينة طرفا فيها، وهو مروان بن سعيد المهلبي، وكان الطرف الآخر سعيد بن مسعدة الأخفش. وفيما يلي مجالس المهلبي مما ذكره أبو القاسم الزجاجي وغيره، وهي ثلاثة مجالس، نوردها كما رواها الرواة، تم نقفوها بشيء ٍمن التعليق: 1- فإن كانتا اثنتين: قال أبو القاسم الزجاجي. "قال أبو يعلى زكريا بن يحي بن خلاد: حدثني أبو عثمان قال: سأل مروان الأخفش عن قول الله جلّ وعزّ: {فَإِنْ كاَنَتَا اثنَْتَيْن} 1 أليس خبر كان يفيد معنى ليس في اسمها؟ قال نعم. قال: فأخبرني عن {كاَنَتَا اثنَْتَيْن} أليس قد أفاد بقوله (كانتا) معنى ما أراد فلم يحتج إلى الخبر؟ فقال: إنما أراد: فإن كان من ترك اثنتين، ثم أضمر (من) على معناها. قال: فبإضماره (من) على معناها أفاد معنى ما أراد"2. وأراد مروان بن سعيد المهلبي بسؤاله أن الألف في (كانتا) تفيد التثنية فلأي معنى فسر ضمير المثنى بالاثنتين ونحن نعلم أنه لا يجوز أن يقال: فإن كانتا ثلاثا، ولا أن يقال فإن كانتا خمساً، فأراد الأخفش أن الخبر أفاد العدد المجرد من الصفة، أي: قد كان يجوز أن يقال: فإن كانتا صغيرتين أو

_ 1 سورة النساء: الآية 176. 2 مجالس العلماء61.

صالحتين فلهما كذا، وإن كانتا كبيرتين فلهما كذا، فلما قال: فإن كانتا اثنتين على أية صفة كانتا عليها من كبر أو صغر أو صلاح أو طلاح أو غنى أو فْقر، فقد تحصل من الخبر فائدة لم تحصل من ضمير المثنى1. وبهذا ظهر ذكاء السائل وبراعة المسؤول. 2- أزيد عندك أم عمرو؟ قال الزجاجي: "سأل مروان [بن سعيد المهلبي] مرة الأخفش، فقال: إذا قلت: أزيد عندك أم عمرو، أفليس قد علمت أن ثمَّ كونا ثابتا، ولكن لا تدري من أيهما هو؟ قال: بلى. قال: فإذا قلت: قد علمت أزيد عندك أم عمرو، أفليس قد علمت ما جهلت؟ قال: بلى. قال: فلم جئت بالاستفهام؟ قال: جئت به لألبس على المخبر مَن علمت. فقال له مروان: إذا قلت علمتُ من أنت، أردت أن تلبس عليه لأنه لا يعلم نفسه؟ قال: فسكت. قال أبو عثمان: عندي أنه إذا قلت قد علمت من أنت فهو لا يريد أن يُلبس عليه؛ لأنه لا يعرف نفسه، ولكنه أراد قد علمت من أنت أخير أمرك أم شر، كما تقول: قد علمت أمرك، وكقولك: ما أعرفني بك، أي قد علمت ما تذكر به، أو ما تثلب به"2. 3- أزيد ضربته أم عمرًا: قال الزجاجي: "أخبر أبو جعفر أحمد بن محمد الطبري، قال: سأل مروان سعيد بن مسعدة الأخفش: أزيداً ضربته أم عمرا؟ فقال:3 أي شيء تختاره فيه؟ فقال: أختار النصب لمجيء ألف الاستفهام. فقال: ألست إنما تختار في الاسم النصب إذا كان المستفهم عنه الفعل كقولك: أزيداً ضربته،

_ 1 ينظر: نزهة الألباء109، ودرة الغواص 37. 2 مجالس العلماء67. 3 القائل هو: مروان.

أعبد الله مررت به؟ فقال: بلى. فقال له: فأنت إذا قلت: أزيدا ضربته أم عمراً، فالفعل قد استقرّ عندك أنه قد كان، وإنما تستفهم عن غيره، وهو من وقع به الفعل، فالاختيار الرفع؛ لأن المسؤول عنه اسم وليس بفعل. فقال له الأخفش: هذا هو القياس. قال أبو عثمان: وهو أيضا ًالقياس عندي، ولكنّ النحويين اجتمعوا على اختيار النصب في هذا لما كان معه حرف الاستفهام الذي هو في الأصل للفعل"1. نعم؛ ويمكن أن نخرج من هذه المناظرات الثلاث بما يلي: أولا: دقة المهلبي فيما أثاره من قضايا نحوية، وظهوره ندًّا قوياً لعَلَمٍ مشهور من أعلام النحو العربي، وهو الأخفش. ثانياً: اقتصار المهلبي في مناظراته على الأخفش. ثالثاً: جهلنا بمكان تلك المناظرات، فقد تكون وقعت في العراق، وقد تكون في المدينة، وشهرة المجالس اللغوية في العراق ترجح أن تكون هذه المناظرات الثلاث مما كان يدور هناك في حواضر العراق، وصلة الأخفش ببعض علماء المدينة كعلي الجمل على النحو الذي وضحناه فيما سبق تجعلنا نميل إلى أنها كانت في المدينة، والذي يرجح هذا الاحتمال أنها لو كانت في العراق لما اقتصر مروان بن سعيد المهلبي على مناظرة الأخفش دون غيره من علماء العراق، وهم كثر. ومن هنا يمكن القول: إن صلة الأخفش بالمدنيين قد تكون مما يفسر به خروج الأخفش عن منهج جماعته البصريين في كثير من مسائل النحو.

_ 1 مجالس العلماء248، وينظر: الأشباه والنظائر 3/ 92، 93.

من مسائل اللغة

من مسائل اللغة أشرنا فيما مضى إلى أن علوم العربية نشأت مختلطة في القرنين الأول والثاني بين فروعها قبل أن يعرف المتأخرون من علومها النحو والصرف والدلالة والمعجم وفقه اللغة. إن علم اللغة في جوانب الدلالة والمعجم نشأ مبكراً في المدينة في ظلال علوم القرآن كالتفسير على يد ابن عباس الذي يعد صنيعه بحق نواة المعجم العربي وطليعته، فقد برع في شرح غريب القرآن الكريم في مفرداته وتراكيبه، كما ظهر ذلك فيما روي عنه في كتب التفسير وفيما جاء في سؤالات نافع بن الأزرق، وكذلك في صحيفة علي بن أبي طلحة، وبرع - أيضاً - في تمييز ما وقع في القرآن من لغات القبائل ولغات الأمم المجاورة، وهو ما يسمى بالمعرب. وقد ورد عن ابن عباس في مجالات شرح المفردات، وتمييز لغات القبائل، والإحاطة بالمعرب الشيء الكثير. أولاً: شرح المفردات: يتناول ابن عباس - في الغالب - كلمة غريبة من آية فيشرحها بما لا يزيد على كلمة أو كلمتين، ولو جمع ما أثر عن ابن عباس في هذا الشأن لكوّن معجماً صالحاً؛ وفيما يلي نماذج من الشرح اللغوي للمفردات عنده: 1- الرَّغَد: قال ابن عباس في تفسير قوله عز وجل: {وَكُلا منْهَا رَغَدَاً} 1 الرغد: الهنيء2.

_ 1 سورة البقرة: الآية 35. 2 ينظر. جامع البيان 1/268.

2- الإِصر: قال في تفسير قوله تعالى: {رَبَّنَا و َلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً} 1: إصراً: عهداً2 لا نفي به، ونقلها عنه أصحاب المعاجم3. 3- الدِّهاق: قال ابن عباس في تفسير قوله عز وجل: {كأسا دِهَاقاً} 4 دهاقاً: ملأى5. وروى عنه الطبري أنه قال لغلامه: اسقني دهاقاً، فجاء بها الغلام ملأى، فقال ابن عباس: هذا الدهاق6. ويبدو أن ابن عباس أراد أن يؤكد هذا المعنى للرّدّ على من كان يخالفه، إذ ذهب بعضهم إلى أن الدهاق في الآية ليس من الامتلاء، وإنما من التتابع7، من الدّهق الذي هو متابعة الشدّ، والمعنى الأولى أعرف كما قال ابن منظور8. وأكثر اللغويين على ما ذهب إليه ابن عباس9. 4- الحُزْن والغَضَب: سئل ابن عباس عن الحزن والغضب فقال: غرضهما واحد واللفظ

_ 1 سورة البقرة: الآية 286. 2 ينظر: جامع البيان 3/157. 3 ينظر: اللسان (أصر) 4/22. 4 سورة النبأ: الآية 34. 5 جامع البيان 12/411. 6 نفسه 12/411. 7 ينظر: عمدة الحفاظ (دهق) 180. 8 ينظر: اللسان (دهق) 10/106. 9 ينظر: مجاز القرآن 2/283، ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج 5/275.

مختلف فمن نازعَ من يقوى عليه أظهره غيظاً وغضباً، ومن نازع من لا يقوى عليه أظهره حُزْناً وجزعا1. 5- المثبور: روي عن ابن عباس في تفسير كلمة "مثبور" في قوله تعالى: {إِنّي لأظُنًّكَ يا فِرعَون مَثْبُوراً} 2 ثلاثة أقوال: أحدها: أن مثبوراً بمعنى ملعون3. والثاني: أنه بمعنى مغلوب4. والثالث: أنه بمعنى ناقص العقل، ونقصان العقل أعظم هُلْكٍ5. 6- المترف: روي عن ابن عباس أنه فسر "المترفين " في قوله عز وجل: {إِنهُم كَانوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} 6 بأن المراد منه هو التوسع في نعيم الدنيا. وذهب أبو عبيدة وجماعة إلى أنه بمعنى: متكبرين7. ووافق أكثرُ العلماء8 ابن عباس. ولما كان الشعر ديوان العرب، ومنتهى حكمهم، به يأخذون، وإليه يصيرون؛ فقد جعل ابن عباس الشعر دليلا على كثير من شروحه اللغوية، وكان يحثّ على الاستفادة من الشعر في مقام شرح الغريب، فقد روي عنه

_ 1 ينظر المفردات (أسف) 75، وعمدة الحفاظ (أسف) 16. 2 سورة الإسراء: الآية 102. 3 ينظر: جامع البيان 8/159. 4 نفسه8/159. 5 المفردات (ثبر) 172. 6 سورة الواقعة: الآية 45. 7 ينظر: مجاز القرآن 2/251، والجامع لأحكام القرآن 17/213. 8 ينظر: معاني القرآن للفراء3/127، وإعراب القرآن للنحاس 3/331، واللسان (ترف) 9/17.

قوله: "الشعر ديوان العرب، فإذا خفي علينا الحرفْ من القرآن الذي أنزله الله بلغة العرب رجعنا إلى ديواننا فالتمسنا معرفة ذلك منه"1 وروي عنه قوله- أيضاً: "إذا سألتموني عن غريب القرآن فالتمسوه في الشعر، فإن الشعر ديوان العرب"2. وقد ظهرت عناية ابن عباس بالشعر واستفادته منه في سؤالات نافع بن الأزرق التي أوردها السيوطي كاملة في كتابه (الإتقان) 3.

لغات القبائل

ثانيًا: لغات القبائل: روي عن ابن عباس فيما يتصل بلغات القبائل شيء غير قليل، وأقواله منثورة في كتب التراث وعلى رأسها كتب التفسير والمعاجم. وثمة رسالة برواية ابن حسنون ينتهي سندها إلى ابن عباس وصلت إلينا بعنوان "اللغات في القرآن " تشتمل على بعض لغات القبائل وشيء من المعرب. وقد شك بعض العلماء في نسبتها إليه - كما تقدم في الحديث عن مؤلفات "العربية" عند علماء المدينة، إلا أن الراجح عند كثير من العلماء أنها له، لورود كثير مما فيها من نصوص في كتب التراث، ولنقل السيوطي جل ما فيها معزواً في كتابيه: "المهذب" و"الإتقان". فمما روي عن ابن عباس في لغات القبائل: 1- قال ابن عباس في قوله عز وجل: {واضْممْ إِليكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهبِ} 4 الجناح اليد، والرهب الكم بلغة بني حنيفة5. قال مقاتل: "خرجت ألتمس تفسير الرهب، فلقيت أعرابية وأنا آكل،

_ 1 الإتقان 1/157. 2 نفسه ا/157. 3 1/158-175. 4 سورة القصص: الآية 32. 5 اللغات في القرآن 38.

فقالت: يا عبد الله؛ تصدق عليّ، فملأت كفي لأدفعَ إليها، فقالت: ههنا في رهبي، أي: كمّي"1. ورُوي عن الأصمعي أنه سمع أعرابياً يقول لآخر: أعطني رهبك، فسأله عن الرهب فقال: الكمّ2 فهذان النصان يؤيدان ما ذهب إليه ابن عباس. وذهب أكثر العلماء3 في تفسير "الرهب" في هذه الآية إلى أنه بمعنى الرهبة. 2- روى السيوطي عن أبي بكر الأنباري أن ابن عباس كان يذهب إلى أن الوَزَر: ولد الولد بلغة هذيل4. ولم أجد لهذا المعنى أي أثر فيما اطلعت عليه من المعاجم وكتب التراث. والمشهور عن ابن عباس أنه فسر "الوراء" بولد الولد في قوله عز وجل: {فَبَشَّرناها بإسْحَاقَ ومن وَرَاءِ إسْحَقَ يَعْقُوب} 5 وأنه استفاد ذلك من رجل من هذيل سمعه يقول: مات فلان وترك أربعة من الولد وثلاثة من الوراء6. 3- روى الفراء عن ابن عباس أنه قال في قول الله تعالى: {وكُنْتُم قوماً بُوراً} 7 البور في لغة أزد عمان: الفاسد8. والذي في كتاب "اللغات في القرآن" المنسوب لابن عباس هو أنّ "قوماً بوراً يعني هلكى بلغة عمان "9 والمعنيان متقاربان، لأن الفساد قد يؤدي إلى الهلاك في بعض الأمور.

_ 1 المفردات (رهب) 366. 2 ينظر: الجامع لأحكام القرآن 13/285. 3 ينظر: جامع البيان 10/70، وتهذيب اللُّغة (رهب) 6/292، وعمدة الحفاظ (رهب) 211. 4 ينظر: الإتقان 1/175، ولغة هذيل 423. 5 سورة هود. الآية 71. 6 ينظر: إيضاح الوقف والابتداء1/73، وفتح القدير 2/512. 7 سورة الفتح الآية 12. 8 ينظر: معاني القرآن للفراء 2/200. 9 اللغات في القرآن 37.

4- سئل ابن عباس عن معنى "يفتنكَم" في قوله عزّ وجلّ: {وإذَا ضَرَبْتُم في الأرْض فَلَيس عَلَيْكُم جُنَاحٌ أن تَقْصرُوا مِن الصَّلوة إن خفتمْ أًن يَفْتِنَكُم الَّذينَ كَفَرُوا} 1 فقال: يضلكم بالعذاب والجهد بلغة هوازن، أما سمعت قول الشاعر: كل امرِئ مِن عِباد الله مُضْطهَدٍ ... ببَطْن مَكَّة مقهورٌ ومفتون2 والذي في "اللغات في القرآن " أن معنى {فتنُوا الْمؤْمِنينَ والمُؤْمِنَات} 3 أخرجوهم بلغة القريش4. ثالثا: المعرب: يعد ابن عباس من أقدم القائلين بوقوع المعرب في القرآن الكريم5 ونقل عنه أئمة اللغة والتفسير الشيء الكثير في ذلك6 وفي رسالة "اللغات في القرآن" المنسوبة إليه قدر صالح من المعرب يشير إِليه بـ "التوافْق" كقوله: وافقت لغة العرب لغة الفرس أو الحبشة ونحو ذلك. وفيما يلي نماذج مختصرة مما أثر عن ابن عباس في المعرب: 1- روى ابن جرير بسنده عن ابن عباس أنه سئل عن قوله تعالى: {فرَّت مِن قسْوَرَة} 7 فقال: هو بالعربية الأسد، وبالفارسية شار، وبالنبطية أريا، وبالحبشية قسورة8.

_ 1 سورة النساء: الآية 10. 2 ينظرْ الإتقان 1/169. 3 سورة البروج: الآية 10. 4 ينظر: اللغات في القرآن 53 5 ينظر: المهذب 192. 6 ينظر: جامع البيان 1/31. 7 سورة المدثر: الآية 51. 8 ينظر: جامع البيان 1/31، وقصد السبيل 1/105.

2- قال في: {يَكنْ لَهُ كِفْلٌ مِنها} 1 الكفل: النصيب، وهي بلغة وافقت النبطية، مثل قوله عز وجل: {يُؤْتِكُم كِفْلَينِ مِن رَحْمَتِهِ} 2 يعني نصيبين بلغة وافقت النبطية3. 3 - روي عنه أنه قال: إن {هَيْتَ لَكَ} 4 بمعنى هلمّ لك بالقبطية5. 4- أخرج ابن جرير الطبري عن ابن عباس في قوله تعالى: {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} 6 أنه قال: هي بالنبطية: فشققهن7.وأخرج ابن جرير - أيضاً - عن الضحاك أن "صرهن" بالنبطية "صرّى" وهو التشقيق8. وقيل هي عربية من "الصور"9 وهو الميل. 5- قال إن "الإِستبرق " هو الديباج الغليظ، بلغة توافق لغة الفرس10 وقد ذكر كثير من العلماء أنه معرب "إستفره" أو "إستبره "11 أو "إستروه "12.

مسائل لغوية متقرقة

مسائل لغوية متقرقة ... مسائل لغوية متفرقة ثمة مسال متفرقة في اللُّغة كنشأة اللغة، والاشتقاق، والأضداد، والسكت؛ معزوة لبعض علماء المدينة كابن عباس ومروان بن سعيد المهلبي، وغيرهما، فمن ذلك:

_ 1 سورة النساء: الآية 85. 2 سورة الحديد: الآية 28. 3 ينظر: اللغات في القرآن 22. 4 سورة يوسف: الآية 23. 5 ينظر: الإتقان 1/183. 6 سورة البقرة: الآية:260. 7 ينظر جامع البيان 3/55. 8 نفسه 3/56. 9 نفسه 3/57. 10 ينظر: اللغات في القرآن 33. 11 ينظر: المعرب 10، والمهذب 199، والمعجم الذهبي 66. 12 ينظر: قصد السبيل 1/177.

1- نشأة اللغة الإنسانية: للعلماء أربع نظريات مشهورة في نشأة اللُّغة ومنها نظرية التوقيف أو الإلهام، وهي تتلخص في أن الله سبحانه وتعالى، لما خلق الأشياء، ألهم آدم عليه السلام، أن يضع لها أسماء فوضعها. ويستدل أصحاب هذا المذهب من علماء العرب بقوله تعالى: {وعَلَّم آدمَ الأسْمَاءَ كُلَّها، ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِْ} 1 فكان ابن عباس يقول فيما رواه عنه ابن جرير الطبري: "علم الله آدم الأسماء كلها، وهي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس: إنسان ودابة وأرض وسهل وبحر وجبل وحمار، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها"2. وقد اختار جماعة من علماء العربية هذا المذهب، واستدلوا بما استدلّ به ابن عباس، ومن هؤلاء أبو عليّ الفارسي3 وابن فارس4. 2- الاشتقاق: يعد الاشتقاق في العربية من أبرز سماتها، وقد مكنها من التوليد والتوسع في الألفاظ حتى غدت العربية من أغنى اللغات في الألفاظ. ولابن عباس رأي في اشتقاق بعض الكلمات، لقد أورد السيوطي عن ابن عباس: "أنه دخل على معاوية، وعنده عمرو بن العاص، فقال عمرو: إن قريشاً تزعم أنك أعلمها؛ فلم سميت قريش قريشا؟ قال: [ابن عباس] : بأمر بيّن، فسره لنا. ففسره، قال: هل قال أحد فيه شعراً؟ قال: نعم سمّيت قريش بدابة في البحر. وقد قال المشمرج بن عمرو الحميري:

_ 1 سورة البقرة: الآية 31. 2 جامع البيان 1/252. 3 ينظر الخصائص 1/40. 4 ينظر: الصاجي 6.

وقريش هي التي تسكن البحر ... بها سميت قريش قريشا تأكل الغثّ والسمين ولا ... تترك فيه لذي الجناحين ريشا هكذا في البلاد حي قريش ... يأكلون البلاد أكلا كميشا ولهم آخر الزمان نبيّ ... يكثر القتل فيهم والخموشا تملأ الأرضَ خيلهُ ورجالٌ ... يحشرون المَطيّ حشراً كشيشا وأخرج ابن عساكر في تاريخه من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن أبي ريحانة العامري قال: قال معاوية لابن عباس: لم سميت قريش قريشاً؟ قال: بدابة تكون في البحر من أعظم دوابه، يقال لها القرِش، لا تمر بشيء من الغث والسمين إلا أكلته، قال: فأنشدني في ذلك شيئاَ، فأنشده شعر الحميري، فذكر الأبيات"1. وقيل: سميت بذلك لتقرّشها، أي: تجمّعها إلى مكة من حواليها بعد تفرقها في البلاد حين غلب عليها قصيّ بن كلاب، وقيل سميت بذلك لتَجْرها وتكسبها وضربها في البلاد ابتغاء الرزق2. واختلف العلماء في اشتقاق كلمة "الناس" أو "الإنسان" فذهب بعضهم إلى أنها من "الإنس" وأصله "أناس" فحذفت فاؤه تخفيفاً، وجعلت ألف (فُعال) عوضاً عن الهمزة3. فمادته (أن س) . وذهب بعضهم إلى أنه من "النَّوس" وهي الحركة، وأن المحذوف العين، وأصله، "نَوَس" فقلبت الواو ألفاً، لتحركها وانفتاح ما قبله 4 فمادته (ن وس) . وقال قوم: أصل الإنسان إنسيان على (إفعلان) ، فحذفت الياء استخفافاً،

_ 1 المزهر 1/344- 345. 2 ينظر: اللسان (قرش) 6/335. 3 ينظر: الكتاب 2/196، 3/457، والتاج (أنس) 4/99. 4 ينظر: أمالي ابن الشجري 2/12، والدر المصون 1/119.

لكثرة ما يجري على ألسنتهم، فإذا صغروه ردّوا الياء؛ لأن التصغير يرد الأشياء إلى أصولها. قال الجوهري: "واستدلوا عليه بقول ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال: إنما سمّي إنساناً لأنه عهد إليه فنسي"1. وعلى قول ابن عباس فإن الناس - أيضاً - من نسي، ثم حدث فيه قلب بتقديم اللام إلى موضع العين، وتأخير العين إلى موضع اللام؛ فصار "نيساً" فقلبت الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها. 3- الأضداد: يقصد بالأضداد في اصطلاح اللغويين الكلمات التي تؤدي إلى معنيين متضادين بلفظ واحد، ككلمة "الجون" تطلق على الأبيض والأسود. ومن الأضداد كلمة "السامد" فهي تدل على اللاهي، الحزين، ولأحد نحاة المدينة رأي فيها، وهو محمد بن مروان المدني (195 هـ تقريباً) . قال أبو حاتم السجستاني: "وحكوا عن ابن مروان، قال: السامد الحزين في كلام طيء واللاهي في كلام اليمن، وأما الذي في القرآن2 فلا علم لي به"3. وقال أبو الطيب اللغوي: "ويحكي عن ابن مروان نحويّ أهل المدينة من خزاعة الغبشان أنه قال: السامد: الحزين من كَلام طيىء، واللاهي من كلام سائر أهل اليمن "4. 4- هاء السكت: من خصائص الوقف في العربية اجتلاب هاء السكت، ولها ثلاثة مواضع

_ 1 الصحاح (أنس) 3/905. 2 إشارة إلى قوله عز وجل {وَأَنْتُم سَمِدُون} سورة النجم: الآية 61. 3 الأضداد 144 (ضمن ثلاثة كتب في الأضداد) . 4 الأضداد 1/371.

معروفة، منها كلًّ مبني على حركة بناء دائماً، ولم يُشبه المعرب كياء المتكلم، نحو"كتابي" ومنه في القرآن: {مَالِيَه} 1 و {سُلْطَانِيَه} 2. وقد احتج بعض علماء المدينة المغمورين بما ورد من هذا في القرآن الكريم حين خطأه أبو عمرو بن العلاء. قال الزجاجي: "حدثنا أبو هِفّان قال: قال مصعب الزبيري: أنشد رجل من أهل المدينة أبا عمرو بن العلاء قول ابن قيس: إنّ الحَوَادثَ بالمَدِينَةِ قَدْ ... أَوْجَعْنَنِي وقَرَعْنَ مَرْوَتِيَهْ3 فانتهره أبو عمرو، وقال: مالنا ولهذا الشعر الرّخو، إنّ هذه الهاء لم تدخل في شيء من الكلام إلا أرخته. فقال المدني: قاتلك الله، ما أجهلك بكلام العرب، قال الله جل وعز في كتابه: {مَا أغنَى عَنّي مَالِيَه هَلَكَ عَنّي سُلْطَانِيَه} و {يَا لَيْتَنِي لَم أوْتَ كِتَابِيَه ولم أدرِ مَا حِسَابِيَه} ، وتعيبه؟ فانكسر أبو عمرو انكساراً شديدا"4. ويدل ردّ هذا المدني المغمور على أبي عمرو بن العلاء، واحتجاجه بما جاء في القرآن في تلك المسألة اللغوية، وقوله بثقة لأبي عمرو: "ما أجهلك بكلام العرب" يدل ذلك كلّه على أن ذلك الرجل كان على قدر من العلم باللغة في المدينة إن لم يكن من علماء اللُّغة فيها، وإن كنا لا نعرف اسمه، وقد تبين لنا من خلال هذا البحث أن ما نجهله من أمر علماء اللُّغة والنحو في المدينة هو أكثر مما نعرفه عنهم.

_ 1 سورة الحاقة: الآية 28. 2 سورة الحاقة: الآية 29. 3 ديوان عبيد الله بن قيس الرقيات 98. 4 مجالس العلماء 144.

الخاتمة

الخاتمة تبيّن من خلال هذا البحث أن بذرة الدراسات اللغوية العربية لغة ونحواً كانت في المدينة، منذ وقت مبكر في عهد الخلفاء الراشدين ومن جاء بعدهم من أمراء بني أمية، لعوامل ساعدت على نشأة هذه العلوم، ومن أبرزها: 1- ظهور اللحن وانتشاره. 2- حماية القرآن من اللحن. 3- محاولة فهم القرآن ودرسه. وأرى أن الدرس اللغوي والنحوي بخاصة لا يعزى في وضعه لعالم بعينه، إنما هو جملة من الأنظار والملحوظات والإرشادات اللغوية التي أثارها جماعة من التابعين وأصحاب الذائقة اللغوية الرفيعة من الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم، فأسهموا جميعاً - بدرجات متفاوتة - في إرساء الأسس النحوية الأولى في المدينة، تم انتشرت هذه الملحوظات والأنظار، وتداولها المهتمون بالعربية في الأمصار، كالبصرة في بادئ الأمر ثم الكوفة، فكانت هذه الملحوظات النواة للنحو العربي الذي نضج في أواخر القرن الثاني. وكان لبعض الشخصيات قدم راسخة في إرساء الأساس لبنيان العربية الشامخ، كعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وأبي الأسود الدؤلي، وابن عباس - رضي الله عنهما - ونصر بن عاصم الليثي وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج المدني، وكان اشتهارهم في هذا الفن مع تقدم زمانهم مدعاة لأن يرفع الرواة والمؤرخون من شأنهم وينسبوا إليهم وضع العربية والنحو بخاصة. وقد أهمل أمر اللغويين والنحاة في المدينة، وضاع كثير من نتاجهم وآرائهم وملحوظاتهم لأسباب بَيّنتها، تتلخص في انشغال المسلمين في صدر

الإسلام بأخبار الحرب وأنباء الفتوح التي كانت تتوالى على المدينة صباح مساء، ثم أدّى انتقال مركز الخلافة إلى دمشق أيام الأمويين، ثم بغداد أيام العباسيين - إلى صرف الأنظار عن المدينة وتركّزِها على مراكز الخلافة الجديدة، فأهمل المؤرخون وأصحاب الطبقات كثيرا من نواحي الحياة في المدينة ومنها أخبار العلم والعلماء. ولم تزل المدينة تبتعد شيئاً فشيئاً عن دوائر الضوء وتنزوي بين جبال الحجاز ورمال الصحراء في جزيرة العرب، حتى خرجت ومعها جزيرة العرب بكاملها من اهتمامات المؤرخين وأصحاب الطبقات، فليس ثمة ما يغري المؤرخين، أو يجبرهم على الخوض في شؤون تلك البقاع سوى ما يتصل بالحج، وأخبار بعض الخوارج والقرامطة. وهكذا يمكن القول: إن اللغة والنحو وأربابهما في المدينة مما طُويَ عنا أمره، فلا نعرف اليوم من أعلام العربية أو عنهم إلا القليل؛ مما يمكن أن يجمع في قبضة يد واحدة من تراث لغوي مفقود. وقد وفقت - بعد طول بحث في المظان المختلفة - على جملة من أولئك الأعلام في المدينة، وتعرفت على شيء يسير من تراثهم اللغوي الضائع، ومن هؤلاء: علي بن أبي طالب، وابن عباس، ومسلم بن جندب الهزلي، وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج، وعبد الله بن ذكوان المعروف بأبي الزناد، وعبد العزيز القارئ الملقب بـ"بشكُسْت" وزيد بن أسلم العدوي، وعلي الجمل، والأصبغ بن عبد العزيز الليثي، ونافع بن أبي نعيم، وعيسى بن يزيد بن دأب، ومالك بن أنس، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم العدوي، ومروان بن سعيد المهلبي، ومحمد بن مروان المدني، وعيسى بن مينا بن وردان. ويبدو أنّ لنحاة المدينة ولغوييها مؤلفات مفقودة في اللغة والنحو وأنّ لهم آراءهم النحوية الخاصة، ومصطلحاتهم التي كانت تدور في بيئتهم، وأنّ لهم مجالسهم اللغوية الخاصّة.

وأمكن لهذا البحث أن يقف على بعض الشذرات النحوية المتفرقة، كتابع المنادى، والفصل بين المضاف والمضاف إليه، وضمير الفصل، وإعراب حتى وما بعدها، والنداء والترخيم، والتقديم والتأخير، والصفة. أما علم اللغة في جوانب الدلالة والمعجم فيمكن القول إنه نشأ مبكراً في المدينة في ظلال علوم القرآن، كالتفسير على يد ابن عباس، الذي يعد صنيعه فيه نواة المعجم العربي وطليعته، فقد برع في شرح غريب القرآن، مع العناية الواضحة بلغات القبائل، ومحاولة الإِحاطة بما في القرآن من المعرب. وكان للمدنيين نشاطهم اللغوي من خلال المجالس العلمية التي كانت تعقد لشتّى العلوم كالتفسير والحديث والفقه واللغة. وكانت العلوم الشرعية واللغوية تتداخل في تلك المجالس، ونقدّر أن علم العربية بفروعه المختلفة كغريب اللغة ولهجاتها، وأوّليات النحو كالفاعل والمفعول والمبتدأ والخبر - مما كان يعرض في تلك المجالس. وكان للغة مجالسها الخاصة كمجالس ابن عباس وأبي الزناد وابن هرمز ومروان بن سعيد المهلبي، وغيرهم. وأرجو - في الختام - أن يكون لهذا البحث نصيب من الإِسهام في الكشف عن بدايات مجهولة لعلم العربية في عاصمة الإسلام الأولى، المدينة النبوية الشريفة.

§1/1