أصول بلا أصول

محمد إسماعيل المقدم

تنبيه هذا الكتاب هو الباب الثالث من كتاب "المهدي" للمؤلف، الموسوم بـ "عدوان مُدَّعي، المهدية على مصادر التلقي". وقد أُضيف إليه هنا زيادات وتنقيحات، وقد آثرنا فصله في كتاب مستقل لتقليص حجم الأصل، وتيسيرًا على القارئ.

أُصُوْلٌ بلا أُصُوْلٍ

بسم الله الرحمن الرحيم حُقوق الطبع محفوظة الطبعه الأولى 1429 هـ - 2008 م رقم الإيداع 14285/ 2002 دار ابن الجوزي جمهورية مصر العربية - القاهرة 12 درب الأتراك - خلف الجامع الأزهر ت: 0020225061903 تليفاكس: 0020225061620 e_mail:dar_ebn [email protected]

المقدمة

المقدمة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد للَّه أحمده، والتوفيق للحمد من نعمه، وأشكره، والشكر كفيل بالمزيد من فضله وكرمه، وأستغفره، وأتوب إليه من الذنوب التي توجب زوالَ نعمه، وحلولَ نِقَمِه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخِيرتُه من خلقِه، افترض اللَّه على العباد طاعته ومحبته والقيامَ بحقوقه، وسدَّ الطرق كلَّها إليه وإلى جنته، فلم يَفتح لأحدٍ إلا من طريقه، فهو الميزان الراجح الذي على هديه توزن الأخلاق، والأقوال، والأعمال، والفرقان المبين الذي باتباعه يُمَيَّزُ أهلُ الهدى من أهل الضلال، فصلى اللَّه وملائكته وأنبياؤه ورسلُه والصالحون من عباده عليه وآلِهِ وأصحابِه، كما وحَّد اللَّه، وعَرَّف به، ودعا إليه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا. أمَّا بعدُ: فإنه -باستقراء أحوال مدَّعي المهدية في مختلف العصور- نجد أن الجانب التنظيري لدعواهم استند إلى أصول بَنَوْهَا على شفا جُرُفٍ هارٍ، وتحكَّموا بها في الشريعة بدل أن يتحاكموا إليها، وقفزوا فوق المعايير الشرعية والعقلية؛ فأثمرت دعواهم فِتَنًا، وجرَّت على أهل الإسلام مِحَنًا، ومِن هنا انبعثت الهمة إلى محاولة زيادة المناعة -لدى الشباب بعامة وطلاب العلم بخاصة- ضد ما نُسَمِّيهِ "ظاهرة العبث بمصادر التلقي". * وهذا العبث والعدوان تتعدد مظاهره وأشكاله: - فمنها ما يكون بالحذف والإبطال؛ كإنكار حُجِّيَّة السنة، أو غيرها من الأدلة الشرعية المرجعية.

- ومنها ما يكون بالزيادة؛ باعتماد مصادر لتلقي الأحكام مُغَايِرَة للأدلة الشرعية المعصومة؛ كالكتاب والسنة والإجماع، وإضفاء الحجية على هذه المصادر المزعومة، الأمر الذي يترتب عليه فتنة في الأرض، وفساد كبير. وبالرغم من تعدد مظاهر "العدوان على مصادر التلقي" على يد الصوفية بصفة عامة، إلا أننا نخص بالذكر هنا ما تورط فيه مُدَّعُو المهدية بصفة خاصة، وكان له أثر في تدعيم دعواهم؛ كاعتماد بعضهم على المنامات، أو التلبيس على الناس بخوارق العادات، أو ادِّعاء التلقي المباشر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ-، أو دعاوى الإلهام والتحديث والكشف، أو زعم لقيا الخَضِرِ -عليه السلام- والأولياء، والتلقي عنهم. إن تكرار ظاهرة "ادعاء المهدية" -المقترن بالاستجابة العاطفية الجارفة، والمندفعة من أتباع مُدَّعِيهَا- يعكس قصورًا أو تقصيرًا في هؤلاء الأتباع؛ حيث لم يُحْسنُوا ميزان النقد، والتمحيص والتفتيش الدقيق، قبل التورط في هذه الضلالات، "والعاقل ينظر قبل أن يمشيَ، والأحمق يمشِي قبل أن ينظُرَ"، كما أن هذا "التَّكْرَارَ" يعني أن فِئَاتٍ من الأمة لا تستنبط دروس وعبر التاريخ، وأنها تُلْدَغُ من نفس الجُحْرِ مرَّاتٍ ومرَّاتٍ؛ فأين هي من قول المعصوم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلًم-: "لا يُلْدَغُ المُؤْمِنُ مِنْ جُحر وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ" (¬1)؟! أسأل اللَّه -تعالى- أن ينفع بها أهل الحق والإيمان، وأن يقمع بها أهل البدع والبهتان، إنه كريمٌ منَّان، والحمد لله رب العالمين. محمد بن أحمد إسماعيل المقدَّم ثغر الإسكندرية في الجمعة 15 من جمادى الأولى 1429 هـ الموافق 15 من مايو 2008 م ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (10/ 439) في "الأدب"، ومسلم (2998) في"الزهد".

عُدوَانُ مُدَّعِي المَهدِيَّةِ عَلَى مَصَادِر التَّلَقِّي * الفَصْلُ الأَوَّلُ: سُلْطَانُ المَنَامَاتِ. * الفَصْلُ الثَّانِي: فِى دِلَالَاتُ خَوَارِقِ العَادَاتِ * الفَصْلُ الثَّالِثُ: دَعْوَى رُؤْيَةِ النّبِيِّ - صَلى اللَّهُ عَلَيهِ وآلِهِ وَسلَّمَ - بَعْدَ وَفَاتِهِ يَقَظَةً، وَالتَّلَقِّي عَنْهُ مُبَاشَرَةً. * الفَصْلُ الرَّابعُ: الإِلْهَامُ والتَّحْدِيثُ والكَشْفُ. * الفَصْلُ الخَامِسُ: ادِّعَاءُ لُقْيَا الخَضِرِ -عليه السلام- والتلَقِّي عَنْهُ.

الفصل الأول سلطان المنامات

الفصل الأول سُلطَانُ المَنَامَاتِ

تعريف الرؤيا

الفصل الأول سُلطَانُ المَنَامَاتِ كان "الحُلْم" -ولا يزال- من التجارب الإنسانية التي حَظِيَتْ باهتمامٍ بليغٍ في حياة البشر؛ إذ للحلم آثارُهُ وانطباعاتُهُ في نفس الحالم؛ فقد تلقى صديقًا أو قريبًا فتراه حزينًا كئيبًا، فتسبر غَوْر نفسه؛ لتعرف سرَّ كآبته وحزنه، فتعجب أشد العجب عندما تعلم أن سبب ذلك رؤيا مرعبة، أو منذرة بخطرٍ سيُدَاهِمُهُ، وقد تجده فرِحًا منشرح الصدر، بَاسِمَ الثغر، وما ذلك إلا لأنه رأى رؤيا مفرحة، أو مُبَشِّرَةً بحدث سارٍّ قادم. يقول الدكتور عمر سليمان الأشقر -حفظه اللَّه-: " كانت الرؤى -وما زالت- ذاتَ تأثير لا على الأفراد العاديين فحسب، بل على النابغين والأذكياء، وكم أقَضَّت الرُّؤَى مضاجِعَ الجبابرة والملوك، وكم شغلت شعبًا بأكمله يَوْمًا مَا، وما رؤيا ملك مصر في عهد يوسف ببعيدة عن ذاكرتنا، فقد رأى سبع بَقَرَاتٍ سمانٍ يأكلهن سبع عجاف، وسبعَ سنبلاتٍ خُضْرٍ وأُخَرَ يابساتٍ، وكانت رؤيا حق، نفعت الناس نفعًا عظيمًا، عندما وُجِدَ الشخصُ الذي يُحسن تفسيرها، وتأويلها" (¬1). تعريف الرؤيا: قال ابن منظور -رحمه اللَّه-: "والرؤيا والحُلْم (¬2) عبارة عما يراه النائم في نومه من الأشياء، ولكن غلبت الرؤيا على ما يراه من الخير والشيء الحسن، وغلب الحلم على ما يراه من الشر والقبيح" (¬3). ¬

_ (¬1) "جولة في رياض العلماء" ص (107). (¬2) وتُضم لام الحُلُم وتُسَكَّن. (¬3) "لسان العرب" (12/ 145)، وانظر: "النهاية في غريب الحديث" (1/ 434)، و "القاموس المحيط" (4/ 99، 331)، و"الصحاح" للجوهري (5/ 1903)، (6/ 2349)، و"المصباح المنير" (1/ 204، =

وقال الحافظ ابن حجر -رحمه اللَّه-: "وظاهر قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: (الرؤيا من اللَّه، والحلم من الشيطان) أن التي تضاف إلى اللَّه لا يُقال لها حُلم، والتي تضاف للشيطان لا يقال لها رؤيا، وهو تصرفٌ شرعي، وإلا فالكل يُسمى رؤيا" (¬1). اهـ. والغالب استعمال الرؤيا في خصوص البشرى من اللَّه، مع أنها تُطلَق على عموم ما يراه النائم، قال رسول اللَّه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ-: "الرؤيا ثلاث (¬2): فالرؤيا الصالحة: بشرى من الله، ورؤيا: تحزين من الشيطان، ورؤيا: مما يُحَدِّثُ المرءُ نفسَه" الحديث (¬3). وفي حديث عوف بن مالك -رضي اللَّه عنه- مرفوعًا: "إن الرؤيا ثلاث: منها أهاويلُ من الشيطان ليحزنُ بها ابن آدم، ومنها ما يَهُمُّ به الرجلُ في يَقَظته، فيراه في منامه، ومنها جزء من ستةٍ وأربعين جزءًا من النبوة" (¬4). ¬

_ = 337)، و"تفسير الكشاف" (2/ 302)، والأحلام تُدعَى عند العرب "بناتِ الكرى" أي النعاس، و"بنات الليل"، قال الشاعر في بخيل رأى في حلمه ضيفًا يطرق بابه، فقام إليه بالسيف ليطرده عنه: أَرَتْهُ بُنيَّاتُ الكَرى شخصَ طارقٍ ... فقام إليها مُصْلَتًا بحسامِ (¬1) "فتح الباري" (12/ 369). (¬2) وليس الحصر مرادًا من قوله: "ثلاث" لثبوت نوع رابع في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- وهو حديث النفس، وبقي نوع خامس وهو: تلاعب الشيطان، ففي صحيح مسلم: "إذا تلاعب الشيطان بأحدكم في منامه، فلا يخبر به الناس"، وفي رواية: "لا تخبر بتلاعب الشيطان بك في المنام" (4/ 1776، 1777)، ونوع سادس: وهو رؤية ما يعتاده الرائي في اليقظة، كمن كانت عادته أن يأكل في وقت، فنام فيه، فرأى أنه يأكل، أو بات طافحًا من أكل أو شرب -أي ملأ معدته حتى يكاد الطعام يفيض منها- فرأى أنه يتقيأ، وبينه وبين حديث النفس عموم وخصوص، وسابع: وهو الأضغاث - أفاده الحافظ بمعناه كما في "الفتح" (12/ 407، 408). (¬3) رواه البخاري (12/ 404، 405) (7017)، ومسلم -واللفظ له- (4/ 1773) (6)، وأبو داود (4/ 304)، (5019)، والنسائي (4/ 390)، (7654)، والترمذي (4/ 461) (2270)، وقال: "حسن صحيح"، وابن ماجه (2/ 1285) (3906)، والإمام أحمد (2/ 269، 395، 507). (¬4) أخرجه البخاري في "التاريخ" (4/ 2/ 348)، وابن ماجه رقم (3907)، وغيرهما، وصححه الألباني رقم (1870).

نقد موقف المدرسة النفسية المادية من المنامات

نقد موقف المدرسة النفسية المادية من المنامات مِن الناس مَن قد غلظ حجابهم، كالماديين الملاحدة، وكأتباع مدرسة التحليل النفسي، فهم ينكرون الرؤيا الصادقة، وليست الرؤى في زعمهم إلا انعكاسًا لما في النفس في حال اليقظة، أو لما يختبئ في سراديب العقل الباطن أو "اللاشعور" (¬1). فعند فرويد: تعتبر الأحلام نافذة يطل منها على "العقل الباطن" فيعرف الكثير عن هذه المنطقة المستترة والهامة والمؤثرة في حياة الشخص (¬2). - لقد استقر رأي فرويد على أن النوم يتميز بقلة تعرض الشخص للمؤثرات الخارجية، وابتعاده تمامًا عن الواقع، وفي هذا الجو الهادئ تنشط الصراعات الداخلية اللاشعورية، والرغبات غير المقبولة في الحياة العادية، حيث تجد هذه الأشياء مجالًا أكبر أثناء النوم لعملها، ولكن هذه الأشياء لا تظهر في الحلم بصورتها الفجة، حتى لا تزعج (الضمير) وتوقظه، وبالتالي تقطع نوم الشخص، وإنما تأخذ أشكالًا رمزية حتى تفرغ شِحْنَةَ اللاشعور دون إزْعاج للجهاز النفسي (¬3). وبعبارة أخرى: الأحلام -عند فرويد- هي الطريق الملكي الموصِّل للَّاشعور، فالحلم "رغبة"، وكل الأحلام قسم واحد ناتج عن الرغبات المكبوتة في النفس، والتي تختبئ أثناء النهار في العقل الباطن واللاوعي، حتى ¬

_ (¬1) "اللاشعور" تعبير غير دقيق من حيث اللغة ومن حيث التركيب؛ إذ لا يصح أن نعرف (بأل) نكرة منفية، أما التعبير المقبول فهو "مكنون النفس"، أو "العقل الباطن". (¬2) ولهذا قال بعضهم: "أخبرني بأحلامك، أشخصْ مشكلتك"، ويقول بعض المحللين النفسيين: إنه يمكن إجراء عملية "التحليل النفسي" الكامل لشخصٍ ما من خلال الاقتصار على معرفة أحلامه فقط. (¬3) "النوم والأحلام في الطب والقرآن" للدكتور محمد المهدي ص (103).

"فرويد" لم يعرف من الرؤى إلا أضغاث الأحلام

إذا نام الإنسان وخفت الرقابة، انطلقت هذه الرغبات من العقل الباطن واللاوعي لتظهر في تلك الأحلام. لقد قصر "فرويد" الأحلام على حديث النفس، مع بعض المؤثرات الخارجية على الشخص أثناء النوم، وألغى أي احتمال لاتصال النفس بعالَم الغيب تمشيًا مع إلحاده، وفسَّر ملاحظاته على مرضاه تفسيرًا لفظيًّا فلسفيًّا لا يدعمه دليل ولا برهان (¬1)، وهي مجرد آراء شخصية غير موضوعية وقابلة للنقاش. إن "فرويد" لم يملك أدلة موضوعية على إثبات ما أثبته، ولا على إنكار ما أنكره، لكنه أفلح في أن يُوهم من يقرأ له أنه أمام حقائق، لا مجرد فروض ونظريات. ومن هنا فإن "فرويد" و"الفرويديين" يقعون في مأزِق محرج أمام الرؤى الصادقة التي لا يفسرها حديث النفس، ولا رغبات الشعور (¬2). إن الماديين الملحدين يزعمون أن القول بأن هناك رؤى تأتي من الغيب أو من إله أو من شيطان إنما هو من الخرافات البالية التي ينبغي طرحُها باعتبارها موروثات شعبية كالخرافات والأساطير، وتنحصر حجة هؤلاء في أنهم يجحدون ما وراء الحِس، فيقبعون داخل قمقم المادية الكثيفة، وينكرون الغيب لمجرد أننا لا نراه ولا ندركه بحواسنا. "فرويد" لم يعرف من الرؤى إلا أضغاث الأحلام: يقول الأستاذ الدكتور "سعد الدين السيد صالح" في معرض نقده نظرية الأحلام الفرويدية: "زعم فرويد أن الحلم ما هو إلا تعبير عن رغبة جنسية مكبوتة، وبناءً على ذلك فسر كل ما يراه الرائي تفسيرًا جنسيًّا، ووضع نظريته في تفسير الأحلام، والتي ¬

_ (¬1) ولذلك يطلقون عليها: ( non- evidence based) . (¬2) " النوم والأحلام في الطب والقرآن" ص (108).

نراها مجرد تبرير لنظريته الجنسية الفاسدة، فقد أخطأ فرويد في نواحٍ كثيرة منها: 1 - أن الإنسان له رغبات كثيرة، ونزعات متعددة غير نزعة الجنس، وبالتالي فقد تأتي الأحلام مواكبة لهذه الرغبات: - فأحلام المؤمن الذي يشعر دائمًا بالخوف من اللَّه فيرى في منامه صورًا من عذاب النار أو نعيم الجنة، لا يمكن أن يكون سببها الجنس، وإنما الخوف، أو الطمع في عفو اللَّه. - وأحلام الخوف والرعب التي يراها الجندي وسط المعارك لا يمكن تفسيرها على أساس من الجنس، لأن لها دوافع أخرى. - وهناك أحلام تكون دوافعها الشعور بالعداء والكراهية أو الغضب أو السيطرة أو غير ذلك من المشاعر النفسية المتعددة، ولكن فرويد لا يضع اعتبارًا لكل هذه المشاعر في تفسير الأحلام التي يُرجِعها جميعًا إلى الشعور بالجنس فقط. 2 - ومن هنا يبدو لنا جهله في تفسير رموز الأحلام، حيث حلل كل الرموز تحليلًا جنسيَّا، مع أن مفسري الأحلام يقولون بأن هناك رموزًا ثابتة، وهناك رموزًا متغيرة من فرد إلى فرد، على حسب ظروف الشخص نفسه. فبعض الرموز التي فسرها فرويد تفسيرًا جنسيَّا، وضع لها العلماء تفسيراتٍ أخرى لا تمت إلى الجنس بصلة، فقد فسر فرويد صعود السلم والطيران بأنه رمز للعملية الجنسية، بينما فسره العلماء بأنه رمز للطموح أو الرفعة، فأي التفسيرين أوقع؟ 3 - وقد ركزت نظرية تفسير الأحلام عنده على نوع واحد من أنواع المنامات، وهي الأحلام، وهي في الإسلام لا تكون إلا من الشيطان، ولم يتحدث عن الرؤيا، وهي لا تكون إلا من اللَّه. كما أنه لم يتحدث عن "الأحلام التنبؤية". اهـ (¬1). ¬

_ (¬1) "نظرية التحليل النفسي عند فرويد في ميزان الإسلام" ص (87، 88)، وانظر: "العلاج بالتحليل النفسي" للدكتور عبد الرحمن العيسوي ص (81)، (83 - 85)، (99 - 104)، (116 - 124).

ويقول الدكتور عمر الأشقر -حفظه الله-

ولقد رصد "المازَري" المتوفى سنة (536 هـ)، أقوال من سبقوا "فرويد" إلى شبيه هذا الكلام من معاصريه، فقال -رحمه الله تعالى-: "كثُر كلام الناس في حقيقة الرؤيا، وقال فيها غير الإسلاميين أقاويل كثيرة منكرة، لأنهم حاولوا الوقوف على حقائق لا تُدْرَك بالعقل، ولا يقوم عليها برهان، وهم لا يصدقون بالسمع، فاضطربت أقوالهم" (¬1). اهـ. إن قطع النفس عن عالم الروح وعن الغيب؛ وعن الصلة بخالقها -عز وجل- يُضَيِّق الرؤية أمامنا في موضوع الرؤية، ويحرمنا فرصة الفهم العميق، والإدراك الصحيح الدقيق (¬2). ويقول الدكتور عمر الأشقر -حفظه اللَّه-: "وكثيرٌ من الناس اليوم يُبَادِرُونَ بالتكذيب بالرؤى والأحلام، ويزعمون أن الرؤى المنامية ليست إلا انعكاسات لما يَجُولُ في فكر الإنسان في حال يقظته، وما يُخْتَزَنُ في فكره الباطن، فإذا ما استسلم للرقاد، وطاف في أودية الكرى، فإن عقله الباطن يعمل، فيحقق المرء في نومه ما لم يَسْتَطِعْ تحقيقه في عالم اليقظة. ونحن لا نُنْكِرُ أن قِسْمًا كبيرًا من الرؤى ليس إلا انعكاسات لأحاديث النفس وخواطرها التي تمر بها في اليقظة، ولكننا نرفض رفضًا قاطعًا أن تكون جميع الرؤى كذلك، ونقول: إن هذا تَحكُّمٌ يَعْلَمُ كَذِبَهُ كلُّ من تفكر في رؤاه التي مرت به، أو التي سمع الناس يروونها، ويُحَدِّثُونَ بها عن أنفسهم، كيف بالله نُفَسِّرُ رؤيا امرأة رأت وليدها يسقط من سطح منزل، وفي الصباح يخرج فلا يعود؛ لأن سيارة داهمته، وأودت بحياته؟! وكيف نُفَسِّرُ رؤيا رجل يري نفسه وقد سافر إلى بلد، وسكن منزلًا معينًا رأي ¬

_ (¬1) نقله عنه الحافظ في "الفتح" (12/ 353). (¬2) انظر: "سورة يوسف: دراسة تحليلية" للدكتور أحمد نوفل ص (263).

في المنام معالمه، فلا تمضي شهور حتى يكون في ذلك المنزل الذي رآه في منامه؟ وكيف نُفَسِّرُ رؤيا رجل رأى أنه سافر، وتعطلت سيارته على صورة ما، وينسى الرؤيا، ولا يذكرها إلا حينما يرى المشهد الذي رآه في المنام حقيقة ماثلة؟! أذكر أن "محمد أسد"؛ وكان كاتبًا يهوديًّا، ثم اعتنق الإسلام، حَدَّثَ في كتابه "الطريق إلى مكة" عن رؤيا رآها قبل إسلامه، وقام من منامه، وسَجَّلَهَا، وقد تحققت فيما بَعْدُ، على الرغم من طولها، وكثرة أحداثها. إذن، ليس كل الرؤى انعكاسات لأحاديث النفس وخواطرها وهواجسها، بل الأمر أعمق من ذلك. والإنسان ليس بِمُطيقٍ بعقله وفكره أن يصل إلى أعماق نفسه؛ ففي النفس الإنسانية مَجَاهِيلُ يعجز الإنسان عن الإحاطة بها، علي الرغم من أنها أقرب الأمور إليه. والرؤى لها علاقة بالنفوس الإنسانية، وفيها جانب غيبي، لا يخضع للعلم المادي المبني على النظر والتأمل والبحث المادي" (¬1). * * * ¬

_ (¬1) "جولة في رياض العلماء" ص (107، 108).

القول الفصل، والمنهج الوسط في شأن الرؤى

القول الفصل، والمنهج الوسط في شأن الرؤى قال تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) (¬1)} [يونس: 62 - 64]. وعن عبادة بن الصامت -رضي اللَّه عنه- قال: سألت رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- عن قوله: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} قال: "هي الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو تُرى له" (¬2). وعن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- قال: كشف رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- السِّتْرَ ورأسه معصوب في مرضه الذي مات فيه، فقال: "اللهم هل بلغت؟ -ثلاث مرات- إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا يراها العبد الصالح أو تُرى له" (¬3). وعن أنس بن مالك -رضي اللَّه عنه- قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن الرسالة والنبوة قد انقطعت فلا رسول بعدي ولا نبيَّ"، قال: فَشَقَّ ذلك على الناس، فقال: "لكن المُبَشِّراتُ"، قالوا: "يا رسول اللَّه، وما المبشرات؟ " قال: "رؤيا المسلم، وهي جزء من أجزاء النبوة" (¬4). ¬

_ (¬1) قال الرازي في "التفسرِ الكبير": "ولي الله هو الذي يكون مستغرق القلب والروح بذكر الله، ومن كان كذلك فهو عند النوم لا يبقى في روحه إلا معرفة الله، ومن المعلوم أن معرفة الله ونور جلال الله لا يفيده إلا الحق والصدق، وأما من يكون متوزع الفكر على أحوال هذا العالم الكدر المظلم، فإنه إذا نام يبقى كذلك، فلا جرم لا اعتماد على رؤياه، فلهذا السبب قال تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} على سبيل الحصر والتخصيص" اهـ. من "التفسير الكبير" (16/ 403). (¬2) رواه الترمذي (2275)، وحسَّنه، وصححه الألباني. (¬3) أخرجه مسلم (479)، وغيره. (¬4) رواه الترمذي (2272)، وغيره، وصححه الألباني.

وعن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة" (¬1). وقد أَغْنَانَا الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- عن إتعاب النفس في هذا الموضوع، وقال لنا فيه الكلمة الحق؛ وهي الكلمة الفصل التي لا نحتاج معها إلي غيرها (¬2)؛ وذلك أنها تمثل الحقيقة، وتُفَسِّرُ الأمر تفسيرًا يدرك الإنسان صدقه عندما ينظر إلى رؤاه، ورؤى الناس في ضوء ما أخبر به المصطفى -صلى اللَّه عليه وسلم-. يقول الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- في الحديث الذي يرويه ابن ماجه: "إنَّ الرُّؤيَا ثَلَاثٌ: مِنْهَا أَهَاوِيلُ مِنَ الشَّيْطَانِ ليَحْزُنَ بِهَا ابْنَ آدَمَ، وَمِنْهَا مَا يَهمُّ بِهِ الرَّجُلُ في يَقَظَتِهِ فَيَرَاهُ في مَنَامِهِ، ومِنْهَا جُزْءٌ مِنْ ستَّةٍ وأَرْبَعينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ" (¬3). وفي الحديث الآخر عند الترمذي: "الرُّؤيَا ثَلَاث: الحْسَنَةُ بُشْرَى مِنَ اللَّهِ، والرُّؤيَا يُحَدِّثُ الرَّجُلُ بِهَا نَفْسَهُ، والرُّؤيَا تَحْزِين مِنَ الشَّيْطَانِ" (¬4). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6/ 2574) (6614)، ومسلم (15/ 25، 27) (2263)، قال القرطبي: قال ابن عبد البر: "اختلاف الآثار في هذا الباب في عدد أجزاء الرؤيا ليس ذلك عندي اختلاف تضاد وتدافع -والله أعلم-، لأنه يحتمل أن تكون الرؤيا الصالحة من بعض من يراها على حسب ما يكون من صدق الحديث، وأداء الأمانة، والدين المتين، وحسن اليقين، فعلى قدر اختلاف الناس فيما وصفنا تكون الرؤيا منهم على الأجزاء المختلفة العدد، فمن خلصت نيته في عبادة ربه ويقينه وصدق حديثه، كانت رؤياه أصدق، وإلى النبوة أقرب، كما أن الأنبياء يتفاضلون". اهـ. من "الجامع لأحكام القرآن" (9/ 123)، وانظر: "أحاديث العقيدة التي يوهم ظاهرها التعارض في الصحيحين" ص (644 - 653). (¬2) وقد فصَّلت سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر الرؤيا، حتى إن "كتاب التعبير" الذي عقده البخاري في "الجامع الصحيح" احتوى تسعة وتسعين حديثًا، وافقه مسلم على تخريجها كلها إلا قليلًا، كما أورد فيه عشرة آثار عن الصحابة والتابعين، وانظر: "فتح الباري" (12/ 446). (¬3) "صحيح ابن ماجه" (3154) (2/ 340). (¬4) "صحيح سنن الترمذي" (1867) (2/ 262)، فالرؤيا كالكشف: منها رحماني، ومنها نفساني، ومنها شيطاني، كما قال ابن القيم في "بدائع الفوائد" (1/ 154).

فالذي قَرَّرَهُ الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- في الرؤيا أنها ثلاثة: الأول: حَديث النفس؛ وهي التي أسماها العلماء المادِّيُّونَ بالانعكاسات النفسية؛ وهي خواطر النفس، وتطلعاتها التي تصبو إلى تحقيقها في واقع الحياة، فتراها في المنام، إذ تحلم بممارسة أمور لم تستطع تحقيقها في واقع الحياة. النَّوْعُ الثَّانِي: من الرؤى التي أخبر بها الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-: هي الرؤيا التي يسببها الشيطان؛ فإنه قد يُمَثِّل للإنسان في منامه رؤيا مفزعة، تبلبل خواطره، وتُرْهِق نفسه، وتَجْعَلُهُ يجول في عوالِمَ بعيدة، حَذِرًا متخوفًا، وفي الحديث: "الرُّؤيَا الصَّالحِةُ مِنَ اللَّهِ، والحُلْمُ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا رَأي أَحَدُكم ما يحبُّ، فلا يُحدِّثْ بهِ إلَّا مَن يُحِب، وإذا رأى مَا يَكْرَهُ فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِنْ شَرِّهَا، وشَرِّ الشَّيْطَانِ، وَلْيَتْفُلْ ثَلَاثًا، وَلَا يُحَدِّثْ بِهَا أَحَدًا، فَإِنَّهَا لَا تَضُرُّهُ" متفق عليه (¬1). وقد جاء رجل إلى الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: "رَأَيْتُ في المنَامِ كَأَنَّ رَأسِي قَدْ قُطِع، قَالَ: فَضَحِكَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقَالَ: "إِذَا لَعِبَ الشَّيْطَانُ بِأَحَدِكمْ في مَنَامِهِ فَلَا يُحَدِّثْ بِهِ النَّاسَ" رواه مسلم (¬2). والشيطان لديه القدرة على الوسوسة في صدور الناس {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5)} [الناس: 4 - 5]، وفي الحديث: "إنَّ الشَيْطَانَ يَجْرِي مِن ابْنِ آدمَ مَجْرَى الدَّمِ"، فلديه القدرة على أن يُمَثِّلَ للنفس في منامها أمورًا تفْزِغهَا وتَحْزُنُهَا. النَّوْعُ الثَّالِثُ: رؤيا لم يُفَكِّرْ بِهَا صاحبها يومًا، ولم تخطر على باله، وهي بَعِيدَةٌ كل البعد عن تفكيره، وقد يراها بصورة جلية، لا تحتاج إلي تفسير ولا إلى ¬

_ (¬1) رواه البخاري (12/ 373)، ومسلم (2261) (2) في أول كتاب الرؤيا. (¬2) رواه مسلم (2268) (16) في الرؤيا.

تأويل، وقد تكون أمثالًا مضروبة، وأحداثًا مسبوكة، تحتاج إلي علم وتقدير، وفهم ثاقب، ونظر بعيد، وما كل من رُزِقَ علمًا رُزِقَ فَهْمًا بتأويل الأحلام والرؤى. وهذا النوع من الرؤى هو البقية الباقية من حقيقة النبوة، فالوحي قد انقطع، والنبوة قد خُتِمَتْ، ولم يَبْقَ إلا هذه الرؤى، وهي المبشرات، يَقُولُ الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَمْ يَبْقَ مِنَ النُّبُوَّةِ إِلَّا المُبَشّرَاتُ"، قَالُوا: وَمَا المُبَشِّرَاتُ؟ قَالَ: "الرُّويَا الصَّالِحةُ" رواه البخاري (¬1). وزاد مالك برواية عطاء بن يسار: "يَرَاهَا الرَّجُلُ المُسْلِمُ، أوْ تُرَى لَهُ". وعن أنس بن مالك -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الرُّويَا الصَّالحِةُ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ" متفق عليه (¬2). وإذا كانت الرؤيا من الرسول والأنبياء فهي حق لا تُكذَّبُ، بل هي وحي إلهي، وقد بادر خليل الرحمن إبراهيم إلى ذبح ولده عندما رأي في المنام أنه يذبحه، وما ذلك إلا لأن رؤياه وحي. وغير الأنبياء تقع له الرؤيا الحق، وتكون دلائل الصدق عليها بينة، إلا أننا لا نستطيع أن نجزم بأنها رؤيا حق إلا إذا تحققت على النحو الذي رآه صاحبه في منامه. * * * ¬

_ (¬1) رواه البخاري (12/ 375) في التعبير: باب المبشرات، ومالك في "الموطا" (2/ 957). (¬2) رواه البخاري (12/ 373)، ومسلم (2264) في الرؤيا.

تنبيه: حول معنى كون الرؤيا جزءا من النبوة

تنبيه: حول معنى كون الرؤيا جزءًا من النبوة: معنى كون الرؤيا الصادقة أو الصالحة جزءًا من أجزاء النبوة: أنها شابهتها، أو شاركتها في الصلاح، والإخبار عن أمرٍ غيبي مستقبل (¬1). ولا يُفهم من هذا أن رؤيا الكافر إذا كانت صادقة -كرؤيا الملك التي فسرها له يوسف -عليه السلام-، وكذلك رؤيا صاحبيه في السجن- أنَّها تكون من أجزاء النبوة، فإن أكثر الروايات جاءت مقيدة بالمسلم أو المؤمن. ثم إنه ليس كل من صدق في حديث عن غيب كان ذلك من أجزاء النبوة، أو كان ذلك دليلًا على صلاحه واستقامته، وإلا لكان الكهان كذلك؟! قال أبو العباس القرطبي: والرؤيا لا تكون من أجزاء النبوة إلا إذا وقعت من مسلم صادق صالح، وهو الذي يُناسب حاله حال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فأُكرِم بنوع مما أُكرم به الأنبياء، وهو الاطِّلاع على شيء من علم الغيب، كما قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصادقة في النوم، يراها الرجل الصالح أو تُرى له" (¬2). فإن الكافر والكاذب والمخلِّط -وإن صدقت رؤياهم في بعض الأوقات- لا تكون من الوحي ولا من النبوة، إذ ليس كل من صدق في حديث عن غيب يكون خبره ذلك نبوة، وقد قدمنا أن الكاهن يُخبر بكلمة الحق وكذلك المنجم قد يحدِس فيصدق، لكن على الندور والقلِّة" (¬3). * * * ¬

_ (¬1) انظر: "المُعْلِم" (3/ 118)، و"عارضة الأحوذي" (9/ 191)، و"كشف المشكل" (2/ 76)، و"معالم السنن" (4/ 129)، و"فتح الباري" (12/ 363). (¬2) راجع تخريجه ص (18). (¬3) "المفهم" (6/ 13)، وانظر: "عارضة الأحوذي" (9/ 92)، و"طرح التثريب" (8/ 207، 208).

غلو المفرطين في شأن الرؤى

غلو المُفرِطين في شأن الرُّؤى بإزاء أهل "الجفاء والتفريط" الماديين في شأن الرؤى، وُجد على الطرف الآخر -وكلا طَرَفَيْ قصدِ الأمورِ ذميمُ- فريق الغلو والإفراط، وهؤلاء غَلَوْا في شأن الرؤى، وتمدد سلطانها، وتضخم تأثيرها على مسار حياتهم، كأنها وحي معصوم، فترى الواحد منهم ينتظر -في كل موقف- رؤيا تشير عليه بالطريق (¬1)، بل منهم من رأى أن الرؤية حجة شرعية يستمد منها الأحكام التكليفية تمامًا كما يستمدها علماء الشرع من القرآن والسنة. (تضايق ناسٌ من وجود حاكم من الحُكَّام، وأصبحوا يتحدثون عن أمراضه، وقرب وفاته، فإذا بكثير منهم يرى في المنام أنه سيموت في شهر كذا، أو قبل شهر كذا، ثم يؤولها لهم واحد ممن على شاكلتهم، فيجزمون أنه لا يصلي العيد مع المسلمين، ويؤكدون بأن هذه الرؤى تواطأت، وأنه لا يمكن تكذيبها أو جحدها، ولا يمكن التشكيك في حصولها، فما الذي حدث؟ لقد صلى العيد وأعيادًا أخرى بعده. وآخرون ثَقُلَ عليهم ما يُعَانيهِ المسلمون من اليهود فطاشت نفوسهم إلي أحلام رأوا فيها أن معارك واجتياحات يهودية لبلدان المسلمين؛ سوف تحصل في عام كذا وكذا، وبدءوا يضعون الخطط والاستراتيجيات، والتوقعات، لمواجهة هذا العدوان في هذا التاريخ) (¬2). ¬

_ (¬1) ومنهم من يصلي صلاة الاستخارة ثم ينام بعدها مترقبًا حصول رؤيا منامية تدله على ما ينبغي عمله، وهذا مما لا أصل له في الدين، كما سيأتي -إن شاء الله- ص (77). (¬2) "زغل الدعاة" للشيخ سعيد بن ناصر الغامدي، ص (66، 67)، ويشبه هذا السلوك الغوغائي الذي يُهرع إليه العوام بدون ثثبت ولا روية ما رواه الإمام الحافظ محمد بن وضاح القرطبي -رحمه الله- بسنده إلى حارثة بن مضرب قال: "إنَّ النَّاس نودي فيهم بعد نومة، أنَّه (من صلى في المسجد الأعظم -يعني أكبر جامع في البلد- دَخل الجنة)، فانطلق النساء والرجال، حتى امتلأ المسجد قيامًا يصلون -قال أبو إسحاق: إن أمي وجَدتي فيهم- فأُتيَ ابنُ مسعود فقيل له: أدرك النَّاس، =

(وفي بعض الجمعيات الإسلامية انشق فريق من أعضائها على قيادتهم، وناصبوها العِدْاء بناءً على رؤى رآها بعضهم، كأنما اعتبروها وحيًا. وحكى أحد الصحافيين أن أحد حكام المسلمين -بعد أن قرر إجراء الانتخابات في بلده في موعد معين- عاد فألغاها نتيجة رؤيا رآها، حذَّرته من عواقبها. هكذا امتد سلطان المنامات لتتحكم في الدين والسياسة وسائر شئون الحياة) (¬1). لقد كان من أسباب افتتان بعض الناس، ومتابعتهم لأولئك الذين احتلوا الحرم المكي، واعتصموا به، تلك الرؤى التي رآها بعض الكبار والصغار، والنساء والرجال، وهي في جملتها تشير إلى أن المدعو محمد عبد اللَّه القحطاني هو المهدي الذي بَشَّرَ به الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2)، وقد تبين للناس اليوم أن تلك الرؤى لم تكن صادقة؛ لأن ذلك الرجل ليس هو المهدي، وإلا لو كان هو لم يقتل، ولبقي حتى يملأ الأرض عدلا كما مُلِئَتْ جورًا وظُلْمًا؛ فذلك من علاماته الثابتة في الأحاديث، ولو كان فينا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لعرَّفَنا بالرؤيا الباطلة إذا اشتبهت الأمور، أما ونحن ¬

_ = فقال: ما لهم؟ قيل: نودي فيهم بعد نومةٍ: أنه من صلى في المسجد الأعظم دخل الجنة، فخرج ابن مسعود يشير بثوبه: (ويلكم اخرجوا لا تُعَذَّبوا إنما هي نفخةٌ من الشيطان، إنه لم يُنَزِّلْ كتابًا بعد نبيكم، ولا ينزل بعد نبيكم)، فخرجوا، وجلسنا إلى عبد الله فقال: (إن الشيطان إذا أراد أن يوقع الكذب انطلق، فتمثل رجلًا فيلقى آخر، فيقول له: أما بلغك الخبر، فيقول الرجلُ: وما ذاك؟ فيقول: كان من الأمر كذا وكذا، فانطلِق فحدِّث أصحابك، قال: فينطلق الآخر، فيقول: لقد لَقِينا رجلًا إني لأتوهمه أعرف وجهه، زعم أنَّه كان من الأمر كذا وكذا، وما هو إلا الشيطان). اهـ. من "البدع والنهي عنها" ص (33، 34)، وانظر: "مقدمة صحيح مسلم" (1/ 12)، و"عالم الجن والشياطين" للأشقر ص (39، 40). (¬1) "موقف الإسلام من الإلهام والكشف والرؤى" للدكتور يوسف القرضاوي ص (118). (¬2) انظر: البحث المتعلق بالمهدي القطحاني في كتاب "المهدي" للمؤلف ص (433 - 435)، طبعة دار ابن الجوزي - القاهرة.

لسنا بمعصومين، فإن الرؤى تبقى في مجال الظن، ولا ترقى إلى اليقين والجزم ما لم تتمثل في واقع مشهود، وعند ذلك يوافق الواقع الخبر. لقد أوَّل أبو بكر الصِّدِّيق -رضي اللَّه عنه- بين يدي الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- رؤيا، فبين له الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنه أصاب في تأويله وأخطأ (¬1)، فمن يضمنُ لنا ألا نقع في الخطأ، ومن يضمَنُ لنا أن نُصِيبَ كَبِدَ الحقيقة) (¬2). * * * ¬

_ (¬1) عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- قال: كان أبو هريرة -رضي اللَّه عنه- يحدث: أن رجلًا جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "إني رأيت الليلة ظُلَّةً يُنَظَّفُ منها السمن والعسل، ورأيت الناس يستقون بأيديهم، فالمستكثر والمستقل، ورأيت سببًا واصلًا من السماء إلى الأرض، فأراك يا رسول اللَّه أخذت به فعلوت، ثم أخذ به رجل بعدك فَعَلا، ثم أخذه رجلٌ بعده فَعَلا، ثم أخذ به رجل فقُطِع به، ثم وُصِلَ له فَعَلا به"، فقال أبو بكر: "أي رسول الله بأبي أنت وأمي، واللَّه لَتدعَنِّي أعبرها"، فقال: "اعْبُرْها"، فقال: "أما الظُلَّة فظلة الإسلام، وأما ما ينظف من السمن والعسل فهذا القرآن لينه وحلاوته، وأما المستكثر والمستقل، فهو المستكثر من القرآن والمستقل منه، وأما السبب الواصل من السماء إلى الأرض، فهو الحق الذي أنت عليه فأخذتَ به فيُعْلِيكَ الله، ثم يأخذ به بعدك رجل آخر فيعلو به، ثم يأخذ بعده رجل آخر فيعلو به، ثم يأخذ آخر فينقطع به، ثم يوصل فيعلو به، أي رسول الله لتحدثني أصبتُ أم أخطأت؟ "، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أصبتَ بعضًا، وأخطأتَ بعضًا"، قال: "أقسمت -بأبي أنت وأمي- يا رسول الله لتخبرني ما الذي أخطات؟ "، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا تقسم"، رواه البخاري (12/ 431 - فتح)، ومسلم (2269)، وأبو داود (4632)، والترمذي "صحيح الترمذي: 2409"، واللفظ له. (¬2) "جولة في رياض العلماء" ص (107 - 110) بتصرف.

نماذج واقعية من انحراف الناس في التعامل مع المنامات

نماذج واقِعِيَةٌ مِن انحِرَاف النَّاسِ في التَّعَامُلِ مَعَ المَنَامَاتِ * دِمَاءُ المُسْلِمِينَ لَا تُسْفَكُ بِالأَحْلامِ: حكى الحسن بن قحطبة قال: (اسْتُؤْذِن لشَرِيك بن عَبْدِ اللَّهِ القاضي على المهدي وأنا حاضر، فقال: "علي بالسيف"، فأُحْضِرَ. قال الحسن: فاستقبلني رِعْدَةٌ لم أملكها، ودخل شَرِيْكٌ فسلَّم، فانتضى المهدي السيفَ، وقال: "لا سَلَّمَ الله عليك يا فاسقُ". فقال شريك: "يا أمير المؤمنين، إن للفاسق علاماتٍ يُعرف بها: شرب الخمور، وسماع المعازف، وارتكاب المحظورات؟ فعلى أيِّ ذلك وجدتني؟ ". قال: "قتَلَنِي اللَّهُ إن لم أقتُلْكَ". قال: "ولمَ ذلك يا أمير المؤمنين، ودمي حرام عليك؟ ". قال: "لأني رأيت في المنام كأني مقبل عليك أكلمك، وأنت تكلمني من قفاك، فأرسلت إلى المعبِّر، فسألته عنها، فقال: هذا رجل يطأ بساطك، وهو يُسِرُّ خلافك". فقال شريك: "يا أمير المؤمنين، إن رؤياك ليست رؤيا يوسف بن يعقوب -عليهما السلام-، وإن دماء المسلمين لا تُسْفَك بالأحلام"، فَنكسَ المهدي رأسه، وأشار إليه بيده: أَنِ اخْرُجْ، فانصرف. قال الحسن: فقمت فلحقته، فقال: "أما رأيت صاحِبَكَ وما أراد أن يصنع؟ "، فقلت: "اسكت -لله أبوك- ما ظننت أني أعيش حتى أرى مثلك" (¬1). ¬

_ (¬1) ذكره في "معالم في طريق طلب العلم" (ص 266، 267) غير معزوِّ، وانظر: "الاعتصام" (1/ 261، 262).

* لا يطعن في الراوي بمجرد منام

* لا يُطعَنُ في الرَّاوِي بِمجرد منام: روى ابن عساكر في "تاريخ دمشق" بإسناده عن أحمد بن محمد بن رشدين أن بعضهم رأى الشافعي في المنام، فقال له: "كَذَبَ عليَّ يونس بن عبد الأعلى في حديث الجَنَدِي .. ما هذا من حديثي، ولا حدَّثتُ به" (¬1)، عَلَّقَ الحافظ ابن كثير -رحمه اللَّه- في "الفتن والملاحم" (¬2): "يونس بن عبد الأعلى من الثقات، لا يُطعَن فيه بمجرد منام". الرُّؤْيَا تَسُرُّ، وَلَا تَغرُّ: عن المَرُّوذي قال: أدخلتُ إبراهيم الحُصْري على أبي عبد اللَّه - وكان رجلًا صالحًا، فقال: "إن أمي رأت لك منامًا، هو كذا وكذا، وذكرتِ الجنة"، فقال: "يا أخي، إن سهلَ بن سلامة (¬3) كان الناس يُخبرونه بمثل هذا، وخرج إلى سفك الدماء"، وقال: "الرؤيا تَسُرُّ المؤمنَ، ولا تَغُرُّه" (¬4). وعن محمد بن يزيد قال: كانوا يرون لوهيب أنه من أهل الجنة، فإذا أُخْبِرَ بها اشتد بكاؤه، وقال: "قد خَشِيتُ أن يكون هذا من الشيطان" (¬5). وعن مخلد بن الحسين: أن رجلًا قال للعلاء بن زياد: "رأيت كأنك في الجنة"؟ فقال له: "ويحك، أما وجد الشيطان أحدًا يسخر به، غيري وغيرَك" (¬6). * * * ¬

_ (¬1) "تهذيب الكمال" (6/ 596). (¬2) "نهاية البداية والنهاية في الفتن والملاحم" (1/ 45). (¬3) انظر خبره في "الكامل في التاريخ" لابن الأثير الجزري (5/ 443، 444)، و"البداية والنهاية" لابن كثير (10/ 247، 248). (¬4) "سير أعلام النبلاء" (11/ 227). (¬5) "تلبيس إبليس" ص (535). (¬6) "حلية الأولياء" (2/ 245).

"الفراغ" من أسباب ظاهرة الاستغراق في المنامات

"الفراغ" من أسباب ظاهرة الاستغراق في المنامات (ما أجمل الحادثة التي يذكرها المترجمون عن الإمام "عبد القادر الجيلاني" -رحمه اللَّه- أنه كان نائمًا، فرأي نارًا عظيمة تتصاعد، ثم سمع منها صوتًا يقول له: يا عبد القادر .. أنا ربك .. وقد أحللتُ لك ما حرمت عليك". فقال الشيخ عبد القادر وهو في المنام: - "اخسأ يا عدو اللَّه! ". وعرف أن الشيطان عرض له ليصده عن دينه؛ لأن الحرام لا يكون حلالًا أبدًا، كما أن النجاسة لا تكون طهارة أبدًا، فلا يتحول المحرَّم بشريعة اللَّه إلى حلال؛ لأن رجلًا رأى في النوم من يُحِلّهُ له. وإذا كُنَّا لا نقبل ونحن في اليقظة بكامل عقولنا وقوانا، من يُحَلِّلُ لنا الحرام، أو يُحَرِّمُ عَلَيْنَا الحلال .. فكيف نقبل ذلك في النوم حين يغيب إدراك الإنسان، ولا يعي ما حوله؟ إن الاشتغال بهذه الرؤى العابثة هو شأن الفارغين، فإذا فقد الناس العلم الصحيح، والتوجيه السليم، اتجهوا لمثل هذه الخرافات، يروون بها ظمأهم، وحاجتهم إلى الدين، ولذلك فإن لهذه الرؤى دلالة واضحة على مستوى الوعي، والفهم في المجتمع، خاصَّة في مجال "المرأة". وليس الحل هو أن يَهُبَّ العلماء إذا سمعوا مثل هذه الأسطورة؛ ليبينوا كذبها، هذا -ولا شك- مطلوب، ولكن يَجِبُ أن نسبق الأحداث ونبذل جهودًا كافية لملء عقل المرأة والرجل بالعلم الصحيح، والعاطفة الحية .. فالوقاية خير من العلاج. لعل من الملاحظ أن بعض "القُصَّاص" والوُعَّاظ يسردون كثيرًا من الأحلام في أحاديثهم، في الترغيب والترهيب .. وربما كان هذا المنهج، منهج المبالغة

في ذكر الرؤى ناتجًا عن قلة العلم بالنصوص الشرعية .. وناتجًا عن فراغ فكري وعاطفي لدى هذا المتحدث أيضًا. وصف يومًا أحد الشعراء حاله وحال أصحابه في السجن، فقال: إلى اللَّهِ فِيمَا نَابَنَا نَرْفَعُ الشَّكْوَى ... فَفِي يَدِهِ كَشْفُ الضرُورَةِ والبَلْوَى خَرَجْنَا مِنَ الدُّنْيَا وإِنَّا لأَهْلُهَا ... فَلَسْنَا مِنَ الأَمْوَاتِ فِيَها وَلَا الأَحْيَا إذَا جَاءَنَا السَّجَّانُ يَوْمًا لحاجَةٍ ... فَرِحْنَا وقُلْنَا: جَاءَ هذَا مِنَ الدُّنْيَا ونَفْرَحُ بِالرُّؤيا فَجُلُّ حَدِيثِنَا ... إذَا نَحْنُ أَصْبَحْنَا الحَدِيثُ عَنِ الرُّؤْيَا فَإنْ حَسُنَتْ لَمْ تَأْتِ عَجْلَى وأَبْطَأَتْ ... وإن قَبُحَتْ لَمْ تُحْتبسْ وَأتتْ عَجْلَى يتحدَّثُون كثيرًا عن الرُّؤيَا، لماذا؟ أولًا: للفراغ، فليس لديهم أحاديث، عن الوقائع والمستجدات؛ لأنهم مَعْزُولُونَ لا يسمعونها، خاصة في الزمن الماضي، وليس لهم عمل يشغلهم، ويقضي على فراغهم، خاصة في الماضي - أيضًا. وثَانيًا: لأنهم في حال كرب، والرؤيا قد تكون مُبَشِّرَةً، تُشْعِرُ السجينَ بقرب خلاصه. وربما كان في قصة يوسف -عليه السلام- وصاحبيه ما يُشِيرُ إلي أن السجين تحدث له الرؤيا، ويتحدث عنها، أكثر من غيره، خاصة وهو يعلم أن الأبواب كلها قد أغْلِقَتْ، فيلجأ إلى اللَّه، ويَصْدُقُ معه، فيحدث له من صفاء القلب ما لا يحدث له فى غير سِجْنِهِ. إنه لجدير بالداعية أن يقتصد في ذكر الرؤى والأحلام، فلا يجعلها لُحمَةَ وعظه وسُدَاهُ، ولا يقيمها مقامَ الأدلة الشرعية. كان -صلى اللَّه عليه وسلم- كما في "الصحيح"، إذا صَلَّى الفجرَ، التفت إلى أصحابه، فقال: "هَلْ رَأَي أحَدٌ مِنْكُمْ رُؤيَا؟ " (¬1). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (7047)، وانظر: "الفتح" (12/ 439) وما بعدها.

لكنه -صلى اللَّه عليه وسلم- حَدَّدَ فائدة الرؤيا بـ "التبشير"، وما في معناه -والله أعلم- كالتحذير، أما التشريع فلا تشريع في يقظة ولا منام بعد موته -عليه الصلاة والسلام-. وليس كل ما يراه الإنسان في المنام رؤيا، بل هناك "الحُلْم" (¬1)، وهو من الشيطان، وقد نَهَى النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يُخْبِرَ الإنسان بتَلَاعُبِ الشيطان به في المنام (¬2). وهناك حديث النفس، فَإِذَا شغل أمر من الأمور بال الإنسان تراءى له في المنام. وقد يكون ما يراه بسبب اعتلال المزاج واختلاله، أو الشبع أو الجوع أو غيرهما. وكان أحد الروائيين المشهورين يأكل أكلة ثقيلة، ثم ينام، فإذا استيقظ دوَّن ما رأي على شكل "رواية" أو قصة يتداولها الناس، ويتعجبون من خيال هذا الكاتب! (¬3). ومرة أخرى يجب التأكيد أن الداعية أو الواعظ لا يجدر به أن يَتَسَاهَلَ في ¬

_ (¬1) عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا كان آخر الزمان، لم تكد رؤيا المؤمن تكذب، وأصدقهم رؤيا: أصدقهم حديثًا، والرؤيا ثلاثةٌ: رؤيا بشرى من الله -عز وجل-، ورؤيا مما يحدِّث الإنسان نفسه، ورؤيا من تحزين الشيطان، فإذا رأى أحدكم ما يكره، فلا يحدث به، وليقم وليصلِّ، والقيدُ في المنام: ثباتٌ في الدين، والغُلُّ أكرهُهُ". (البخاري: 12/ 356، 359)، ومسلم (2263)، وانظر"شرح السنة" اللبغوي: (12/ 208). (¬2) عن جابر -رضي الله عنه- قال: أتى النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- رجُلٌ وهو يخطب، فقال: يا رسول الله، رأيت فيما يرى النائم البارحة كأن عُنقي ضربت، فسقط رأسي، فأتبعتُه، فأخذتُهُ، ثم أعدتُهُ مكانه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا لعب الشيطان بأحدكم في منامه، فلا يحدِّثن به الناس" أخرجه مسلم (2268)، وانظر: "شرح السنة" للبغوي (12/ 212). (¬3) بل إن أقوى قصص الرعب في العالم: "فرانكشتاين"، و"دكتور جيكل ومستر هايد"، ثم "دراكيولا"، قد جاءت إثر أحلام رآها كاتبوها، كما يعترفون، كما في "الأحلام" لسمير عبده ص (13).

حكاية الروايات الواهية، والموضوعة، والمشكوك فيها .. أن فلانًا رأى، وفلانًا رأى .. ورأى رجل صالح فيما يرى النائم .. ورأت امرأة صالحة. وما يدرينا نحن عن صلاحها؟ وقد يكون الإنسان ظاهرُهُ الصلاح، لكن فيه "غفلة الصالحين"، فيحدِّث بكل ما يسمع. وفي "مقدمة صحيح مسلم" عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- مرفوعًا: "كَفَى بِالمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّث بِكُلِّ مَا سَمِعَ" (¬1). إن مما يؤخذ على بعض الدُّعَاة والمصلحين حَشْدَهِمْ لهذه الأقاصيص، وهذه الرؤى، والأحلام، وتوثيقهم لها، بدون تثبت، وعدم تقدير نوعية المخاطَبين، ومستوى عقولهم. وخلاصة الأمر: ألَّا يستكثر الواعظ من سرد الرؤى، بل يجعلها كالمِلح، إن زاد ضَرَّ، وإن نقص ضر، على أن يكون وفق الضوابط التالية: - لا يترتب عَلَيْهَا حَلَالٌ وَلَا حَرَامٌ وَلَا تَشْرِيعٌ. - لَا تَكُونُ مُشْتَمِلَةً علَى تَهْوِيلٍ أوْ مُبَالَغَةٍ يَأبَاهَا العَقْلُ السَّلِيمُ، فَإِنَّ العُلَمَاءَ عَدُّوا المُبَالَغَةَ في الحَدِيثِ مِنَ الأَدِلَّةِ عَلَى وَضْعِهِ .. فَمَا بَالُكَ بِالرُّؤيَا؟ - أَلَّا يُرْبَط إِيَمانُ النَّاسِ بِهَا، بَلْ يُوَجَّهُونَ إلى الكِتَابِ والسُّنَّةِ، ويُرَبَّوْنَ على تَعْظِيمِهِمَا، والرُّؤَيَا لَا تَعْدُو أنْ تكُونَ مُبَشِّرَةً أو مُحَذِّرَةً. - أَلَّا يَتَسَرَّعَ في التَّوْثيقِ في أُمُورٍ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهَا بِنَفْسِهِ، وَلَا يُبَالِغَ في حُسْنِ الظَّنِّ بِمُحَدِّثيهِ. ْعلى أن يُشْرَحَ للناس الموقف الشرعي الصحيح من الرؤيا، وأنواع ما يراه الإنسان في المنام، وآداب الرؤيا .. إلخ). اهـ (¬2) ¬

_ (¬1) "صحيح مسلم بشرح النووي" (1/ 72). (¬2) "قضايا في المنهج" للشيخ سلمان العودة (ص 19 - 23) بتصرف.

وعيد من كذب في منامه: عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- قال رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم-: "من تَحَلَّم بَحُلْمٍ لم يره، كُلِّف أن يعقد بين شَعيرتين، ولن يفعل" (¬1). وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "مِن أفرى الفِرى أن يُرِيَ عينَه ما لم تَرَ" (¬2). * * * ¬

(¬1) رواه البخاري في "التعبير" (7042) (12/ 427)، وتحلَّم: تكلَّف الحلم، بأن زعم أنه رأى رؤيا في حال كونه كاذبًا في دعواه، قوله: ولن يفعل: لأن فتل إحداهما بالأخرى غير ممكن عادة، فهو يُعذب حتى يفعل ذلك، ولا يمكنه فعله، فيدوم عذابه. قال المناوي -رحمه الله-: وإنما شُدِّد الوعيد على ذلك مع أن الكذب في اليقظة قد يكون أشد مفسدة منه؛ إذ قد يكون شهادة في قتل أو حَدٍّ؛ لأن الكذب في النوم كذب على الله -تعالى-، لأن الرؤيا جزء من النبوة، وما كان من أجزائها فهو منه تعالى، والكذب على الخالق أقبح منه على المخلوق". اهـ. من "فيض القدير" (6/ 99). (¬2) رواه البخاري (7043) (12/ 427)، وأفرى الفِرى: أعظم الكذبات. واقعة طريفة: جاء في هامش "البداية والنهاية" (13/ 120) أن أعرابيًا جاء إلى "قان"، وقال له: رأيت في النوم أباك جنكيز خان، فقال لي: "قل لابني قان يقتل المسلمين"، وكان "قان" يميل إلى المسلمين، مخالفًا لأهل بيته، فسأل الرجل: "هل تعرف اللغة المغولية؟ " فقال: لا، فقال الملك له: "أنت كاذب، لأن أبي ما كان يعرف من اللغات ودرس غير المغولية"، فأمر بضرب عنقه، وأراح المسلمين من كيده.

منامات في خدمة البدع والضلالات

مَنَامَات في خدمَةِ البِدَعِ والضَّلَالَاتِ - قال ابن عربي: "إني رأيت رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- في مُبَشِّرةٍ -رؤيا- أُرِيتُهَا في العشر الأواخر من المحرم سنة (627 هـ) بمحروسة دمشق، وبيده كتاب، فقال لي: هذا كتاب (فصوص الحِكَم)، خذه، واخرج به إلى الناس ينتفعون به، فقلت: السمع والطاعة لله ورسوله وأولي الأمر منا" (¬1). - وزعم ابْنُ الفَارِضِ: أنه رأى رسول الله -صلى اللَّه عليه وسلم- في المنام، فسأله -أي النبي- عن قصيدته التائية الكبرى، بِمَ سَمَّاهَا؟ فأجابه ابن الفارض بأنه سماها "لوائح الجَنان، وروائح الجِنان"، فقال له النبي: لا، بل سَمِّهَا "نظم السلوك" .. ومن هنا كان الاسم عنوانًا على هذه القصيدة، اشْتُهِرَتْ به (¬2). ¬

_ (¬1) "فصوص الحِكم" ص (47) - دار الكتاب العربي -بيروت- ولِيت شِعري كيف يُقر رسولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم- كتابَ "فصوص الحكم" المليء بالضلالات كعقيدة الوحدة والاتحاد، وهو يزعم في هذا الكتاب صحة إيمان فرعون، وصحة عبادة قوم نوح عليه السلام، ويقول: "إن الذين عبدوا العجل ما عبدوا غير الله"، إلى غير ذلك من طاماته المخالفة لأصل الدين، ولذلك قال فيه الإمام ولي الدين أبو زرعة العراقي -رحمه اللَّه-: "لا شك في اشتمال الفصوص المشهورة عنه على الكفر الصريح الذي لا شك فيه، وكذلك فتوحاته المكية، فإن صح صدور ذلك عنه، واستمر إلى وفاته، فهو كافر مخلد في النار بلا شك". اهـ. من "تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي" للعلامة برهان الدين البقاعي ص (135)، وقال فيه الذهبي: "إن كان لا كفر فيه، فما في الدنيا كفر". اهـ. من "سير أعلام النبلاء" (23/ 48)، وانظر نقد شيخ الإسلام ابن تيمية إياه في "مجموع الفتاوى" (2/ 121 - 133)، و"مجموعة الرسائل والمسائل" (1/ 61 - 120)، وانظر هنا: ص (112). (¬2) "ابن الفارض" للدكتور محمد مصطفى حلمي ص (196)، وابن الفارض قال فيه العلامة بدر الدين حسين بن الأهدل: "واعلم أن ابن الفارض من رءوس أهل الاتحاد". اهـ. من "تنبيه الغبي" ص (56)، وفي القصيدة المشار إليها يناجي ابن الفارض ربه مخاطبًا إياه -تعالى، وتقدس- بضمير المؤنث، كما في "ديوان ابن الفارض" المكتبة الثقافية. بيروت ص (32 - 38)، قال =

أما البوصيري صاحب "البردة" فيقول

أما البوصيري صاحب "البردة" فيقول: "كنت قد نظمت قصائد في مدح رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم اتفق بعد ذلك أن أصابني خِلْطُ فالِج (¬1) أبطل نصفي، ففكرت في عمل قصيدتي هذه البردة، فعملتها، واستشفعت بها إلى اللَّه في أن يعافيني، وكررت إنشادها، وبكيت ودعوت، وتوسلت ونمت، فرأيت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فمسح على وجهي بيده المباركة، وألقى عليَّ بردة، فانتبهت ووجدت فيَّ نهضة، فقمت، وخرجت من بيتي، ولم أكن أعلمت بذلك أحدًا، فلقيني بعض الفقراء، فقال لي: أتريد أن تعلمني القصيدة التي مدحتَ بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فقلت: أيها؟ فقال: التي أنشأتها في مرضك، وذكر أولها، وقال: والله لقد سمعتها البارحة وهي تُنشد بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فرأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يتمايل (¬2) وأعجبته، وألقى على من أنشدها بردة (¬3)، فأعطيته إياها، وذكر الفقير ذلك، وشاع المنام" (¬4). وكيف يقر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- هذه القصيدة وفيها طامَّات ¬

_ = البقاعي رحمه الله: "قد صارت نسبة العلماء له -أي ابن الفارض- إلى الكفر متواترة تواترًا معنويًّا" اهـ. من "تنبيه الغبي" ص (217). (¬1) الخِلْطُ: ما خالط الشيء؛ وأخلاط الإنسان (في الطب القديم): أمزجته الأربعة، وهي: الصفراء، والبلغم، والدم، والسوداء. والفالِج: شلل يصيب أحد شقي الجسم طولًا. (¬2) وهذا يذكرنا بحديث مكذوب فيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- تواجد عند سماع أبيات حتى سقطت البردة عن منكبيه، وقال: "ليس بكريم من لم يتواجد عند ذكر المحبوب"، قال ابن تيمية -رحمه الله-: إن هذا الحديث كذب بإجماع العارفين بسيرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسننه وأحواله". اهـ. من "مجموع الفتاوى" (11/ 598). (¬3) وهذا أيضًا محاكاة لما اشتهر أن كعب بن زهير -رضي الله عنه- لما أنشد قصيدته في مدح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعطاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بردته، يقول ابن كثير -رحمه الله تعالى-: "وهذا من الأمور المشهورة جدًا، ولكن لم أر ذلك في شيء من هذه الكُتب المشهورة بإسنادٍ أرتضيه، فالله أعلم". اهـ. من "البداية والنهاية" (4/ 373). (¬4) "فوات الوفيات" لمحمد بن شاكر الكتبي (2/ 258).

وغلوٌّ وابتداع وانحراف (¬1) عن هديه -صلى اللَّه عليه وسلم- مما يأباه رسول الله -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقد نهى -صلى الله عليه وسلم- أمته عن إطرائه بالغلو في مدحه -صلى الله عليه وسلم-. وقد غلا الناس في هذه القصيدة فزعموا أنها تُقرأ لتفريج الكربات، وتيسير العسير، وأن بعض أبياتها أمان من الفقر، وبعضها أمان من الطاعون (¬2). بل اشترطوا لقراءتها الوضوء، واستقبال القبلة، والدقة في تصحيح ألفاظها وإعرابها، والعلم بمعانيها، إلى غير ذلك (¬3). وتنافس أكثر من مائة شاعر في معارضتها، فضلًا عن المشطِّرين (¬4) والمخمِّسين والمربِّعين، وتجاوزت شروحها الخمسين شرحًا، فيها ما هو مُحلًّى بماء الذهب، وصار الناس يتدارسونها في البيوت والمساجد كالقرآن (¬5). - إن من عادة الصوفية اختلاقَ القصص "الإرهابية"؛ لترهيب الناس من مخالفتهم أو الإنكار عليهم: قال النبهاني: "قال المناوي: قال لي فقيه عصره شيخنا الرملي: إن بعض المنكرين رأى أن القيامة قد قامت، ونُصِبَتْ أوانٍ في غاية الكِبَر، وأُغْلِيَ فيها ماء يتطاير منه الشرر، وجيء بجماعةٍ ضَبَائِرَ ضَبَائِرَ، فصُلِقوا فيه حتى تَهَرَّى اللحم والعظم، فقال: ما هؤلاء؟ قال: "الذين ينكرون على ابن عربي وابن الفارض" (¬6). ¬

_ (¬1) انظر أمثلة ذلك في "نقد البردة" للشيخ عبد البديع صقر، و"حقوق النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- على أمته" للدكتور محمد خليفة التميمي ص (671 - 681)، و"قوادح عقدية" ضمن "حقوق النبي -صلى الله عليه وسلم- بين الإجلال والإخلال" - إصدار المنتدى الإسلامي ص (177 - 200)، و"الانحرافات العقدية والعلمية" للزهراني (1/ 359، 360). (¬2) "المدائح النبوية" لزكي مبارك ص (197). (¬3) "مقدمة ديوان البوصيري" ص (29، 30). (¬4) التشطير: هو أخذ الشاعر بيتًا لغيره، فيجعله لصدره عَجُزًا، ولعجزه صدرًا، مراعيًا تناسب اللفظ والمعنى بين الأصل والفرع، وخَمَّس الشِّعر: جعل كل قطعة منه خمسة شطور. (¬5) "قوادح عقدية في بردة البوصيري" ص (189). (¬6) "جامع كرامات الأولياء" للنبهاني (2/ 218) ط. دار صادر - بيروت.

- الأمير برهان نظام شاه

- الأمِيرُ بُرهَان نظَام شَاه: الذي تَشَيَّعَ وبالغ في ذلك، حتى إنه أمر الناس أن يسبوا الخلفاء الثلاثة -رضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- في المساجد، والأسواق، والشوارع، وجعل الأرزاق السَّنِيَّة للسابين من خزانته، وقتل، وأسر خلقًا كثيرًا من أهل السنة والجماعة، وسبب ذلك على ما ذكره محمد قاسم الشيعي البيجابوري في "تاريخه": "أن ولده عبد القادر ابْتُلِيَ بمرض عسير، عجز الأطباء عنه، واستيأس الناس من حياته، وكان برهان شاه يبذل النقود والجواهر والأموال الطائلة فيه، فبَشَّرَهُ الشيخ طاهر (¬1) ذات يوم بشفائه، وعهد إليه أن يخطب للأئمة (¬2) في الجُمَعِ، والأعياد، ويروج مذهبهم في بلاده، فعاهده برهان شاه. ورأى في تلك الليلة كأن رجلًا يقدم عليه، وستة رجال معه في جانبه الأيمن، وستة كذلك في جانبه الأيسر، وقيل له: (إن القادم هو سيدنا محمد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ومعه الأئمة من أهل البيت)، فَسَلَّمَ عليه برهان شاه، فقال له الرجل القادم: (إن اللَّه -سبحانه- قد شفى ولدك، فعليك أن تجتهد فيما أشار إليه ولدي طاهر)، ثم انتبه برهان شاه من نومه، فرأى أن ولده قد شفاه اللَّه -سبحانه- في تلك الليلة، فَتَلَقَّنَ من الطاهر مذهب الإمامية من الولاء والبراء، وتشيَّع، وتَشَيَّعَ أهل بيته، وخدمه نحو ثلاثة آلاف، وصار الطاهر مقضيَّ الأمر في ترويج مذهبه بأرض الدكن" (¬3). - عَصَا العَيدَرُوسِ: وفيما يلي قصة "منامٍ" لوَّح به الشيخ عبد القادر العيدروس في كتابه "تعريف ¬

_ (¬1) هو طاهر بن رضى الإسماعيلي القزويني الذي أمر بقتله إسماعيل بن الحيدر الصفوي سلطان الفرس، فخرج من بلاده، وقدم الهند، ثم استقدمه برهان شاه، وبنى له مدرسة يدرس بها، وكان يحضر دروسه العلماء كلهم، ويحضر برهان شاه أيضًا لميله إلى العلم، ويجلس عنده إلى آخر البحث، حتى إنه كان يحقن الماء في البطن، ولا يخرج من ذلك المجلس لقضاء الحاجة. (¬2) أي أئمة الرافضة الاثنى عشر. (¬3) "المختار المصون من أعلام القرون" (2/ 846)، وانظر: "فرق الهند" ص (579، 580).

الأحياء بفضائل الإحياء"، ورفعها كعصا يهدد بها كل من ينكر -على أبي حامد الغزالي، وعلى "إحيائه"؛ حيث قال: "وذكر اليافعي أن أبا الحسن بن حرزهم الفقيه المشهور المغربي -كان بالغَ في الإنكار على كتاب (إحياء علوم الدين) - وكان مُطَاعًا مسموع الكلمة، فأمر بجمع ما ظفر به من نسخ (الإحياء)، وهَمَّ بإحراقها في الجامع يوم الجمعة، فرأى ليلة تلك الجمعة كأنه دخل الجامع، فإذا هو بالنبي -صلى الله عليه وسلم- فيه، ومعه أبو بكر وعمر -رضي اللَّه عنهما- والإمام الغزالي قائم بين يدي النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فلما أقبل ابن حرزهم قال الغزالي: (هذا خصمي يا رسول اللَّه، فإن كان الأمر كما زعم تُبْتُ إلى اللَّه، وإن كان شيئًا حصل من بركتك، واتباع سنتك، فخذ لي من خصمي)، ثم ناول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كتاب "الإحياء"، فتصفحه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ورقة ورقة، من أوله إلى آخره، ثم قال: (واللَّه إن هذا لشيء حسن). ثم ناوله الصِّدِّيق -رضي الله عنه-، فنظر فيه، فاستجاده، ثم قال: (نعم، والذي بعثك بالحق إنه لشيء حسن)، ثم ناوله الفاروق عمر -رضي اللَّه عنه-، فنظر فيه، وأثنى عليه، كما قال الصِّدِّيق، فأمر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بتجريد الفقيه علي بن حرزهم عن القميص، وأن يُضْرَبَ ويُحَدَّ حدَّ المفتري، فجُرِّد وضُرِبَ، فلما ضُرِبَ خمسة أسواط تَشَفَّعَ فيه الصدِّيقُ -رضي اللَّه عنه-، وقال: (يا رسول اللَّه، لعله ظن فيه خلاف سنتك، فأخطأ في ظنه)، فَرَضِيَ الإمام الغزالي، وقبل شفاعة الصِّدِّيق، ثم استيقظ ابن حرزهم، وأثَرُ السياط في ظهره، وأعلم أصحابَهُ، وتاب إلى اللَّه عن إنكاره على الإمام الغزالي واستغفر، ولكنه بقي مدة طويلة متألمًا من أثر السياط" (¬1). وهذا الحُلْم مما يُقطع ببطلاْنه، وكذبه؛ وذلك لما تضمنه "الإحياء" من ¬

_ (¬1) "تعريف الأحياء بفضائل الإحياء" ملحق بآخر "الإحياء"، وانظر: "طبقات الشافعية" للسبكي (4/ 131، 132).

الضلالات والطامَّات (¬1)، وهو الذي يقول فيه الإمام أبو بكر الطُّرطوشي - رحمه الله-: "شحن أبو حامد (الإحياء) بالكذب على رسول الله -صلى اللَّه عليه وسلم-، فلا أعلم كتابًا على بَسِيطِ الأرض أكثرَ كذبًا منه" (¬2)، ولذلك أفتى علماء الدولة المرابطية بتحريقه. - ومن ذلك ما رواه ابن عساكر -رحمه اللَّه- بسنده إلى أبي الفتح الساوي: "أنه كان في المسجد الحرام، فغلبه النوم، فرأى عَرْصَة (¬3) واسعة فيها ناس كثيرون واقفين، وفي يد كل واحد منهم كتاب مجلد، قد تحلقوا كلهم على رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم-، يَعْرِضُونَ أن يقرءوا عليه من كتبهم، إلى أن قال: فلما رأيت أن القوم قد فرغوا، وما بقي أحد يقرأ عليه شيئًا، تقدمت قليلًا، وكان في يدي كتاب مُجَلَّدٌ، فناديت، وقلت: (يا رسول اللَّه، هذا الكتاب معتقدي، ومعتقد أهل السنة، لو أذنت لي حتى أقرأه عليك؟) فقال: (وأَيْشِ ذاك؟) قلت: (يا رسول اللَّه، هو "قواعد العقائد" الذي صَنَّفَهُ الغزالي)، فَأَذِنَ لي في القراءة، فقعدت وابتدأت، وقرأت عليه الكتاب) (¬4). وليت شِعري كيف يمثل "قواعد العقائد" عقيدة أهل السنة والجما عة، وهو كتاب مبني على المذهب الأشعري (¬5)، وقد شُحِن بأساليب علم الكلام الذي ذمَّه السلف، ونَفَّروا منه، وهو كتاب يحوم حول شرح صفات المعاني السبع: الحياة، والقدرة، والعلم، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام، كما أنه مُشْتَمِل على الجوهر، والعَرَض، ونحوهما من عبارات المتكلمين المبتدعة، فما كان هذا شأنه يستحيل أن يرضى عنه أويقبله رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. ¬

_ (¬1) راجع في بيانها مفصلة "أبو حامد الغزالي والتصوف" للشيخ عبد الرحمن دمشقية - ط. دارطيبة - الرياض. (¬2) "سير أعلام النبلاء" (19/ 328). (¬3) العَرْصَةُ: ساحةُ الدار، والبقعة الواسعة بين الدور لا بناء فيها. (¬4) انظر: "تبيين كذب المفتري" ص (297 - 299). (¬5) انظر: "الأشاعرة في ميزان أهل السنة" لفيصل الجاسم، المبرة الخيرية - الكويت، "موقف ابن تيمية من الأشاعرة" للدكتور عبد الرحمن المحمود -مكتبة الرشد- الرياض.

أضرحة المنامات .. والمزارات المزورات

أضرِحَةُ المنَامَاتِ .. والمَزَارَات المُزَوَّرَات تُوجَدُ في كثير من بلاد العالم الإسلامي مقابر وهميةٌ يُزْعَمُ أنها مقابرُ لأولياءَ صالحين، وَيرْجعُ الفضل في بنائها إلى "رُؤًى مناميةٍ"؛ إذ يكفي عند القوم أن يَدعِيَ مُدَّعٍ أنه رأى رؤيا تُكَلِّفُهُ ببناء قبر أو قبة فوق المكان الفلاني؛ ليصبح مزارًا لأحد الأولياء. ومن أشهر أضرحة الرؤيا: مشهد السيدة رقية بنت رسول الله -صلى اللَّه عليه وسلم- بالقاهرة، أقامته زوجة الخليفة العبيدي الآمر بأحكام الله (¬1)، وكذا ضريح السيدة سُكَيْنَة بنت الحسين بن علي -رَضِيَ الله عَنْهُمْ- (¬2). ومنها: القبر المنسوب إلى زينب بنت علي -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما- بالقاهرة، فإنه كذب لا أصل. له، ويقال: إن موضعه كان ساقية، فلما رأى صاحبها أنها لا تُغِلُّ له مع التعب إلا اليسير، زعم للناس: أنَّهُ رأى زينب في المنام، تأمره أن يقيمَ لها قبة في هذا المكان؛ فأقامها، وأعانه العوام، ثم كان سادنًا لها، فجاءته الأموال الكثيرة (¬3). ولم يكن قبر النبي شيث معروفًا قبل القرن الحادي عشر للهجرة، حيث رأى أحد ولاة الموصل في ذلك القرن منامًا يدل على موضع القبر، فبنى الضريح، ثم بُني عليه جامع كبير (¬4). وكان الناس يؤمون ضريحًا في شرق الجزائر، ويتبركون بأعتابه، ثم اكتشفوا أن هذا القبر كان لراهبٍ نصراني، ولم يصدق الناس ذلك حتى ¬

_ (¬1) "الآثار الإسلامية في مصر من الفتح العربي حتى نهاية العصر الأيوبي" لمصطفى عبد الله شيحة ص (143). (¬2) "مساجد مصر وأولياؤها الصالحون" (1/ 102). (¬3) "صراع بين الحق والباطل" ص (111). (¬4) "الانحرافات العقدية والعلمية" (1/ 284، 285).

عثروا على الصليب في القبر (¬1). وفي اللاذقية حضرة يُقال إنها مدفن الفرس التي كان يركبها الولي المغربي، لا تزال حتى اليوم تُزار وتُبَخَّر (¬2). وقال شيخ الاسلام ابن تيمية -رحمه اللَّه تَعَالَى-: "حدثني بعض أصحابنا أنه ظهر بشاطئ الفرات رجلان، وكان أحدهما قد اتخذ قبرًا تُجْبَى إليه أموال ممن يزوره، ويُنْذَرُ له من الضُّلَّال، فعمد الآخر إلى قبر، وزعم أنه رأى في المنام أنه قبر عبد الرحمن بن عوف، وجعل فيه من أنواع الطيب ما ظهرت له رائحة عظيمة" (¬3). وقال شيخ الإسلام: "وغالب ما يَسْتَنِدُ إليه الواحد من هؤلاء: أن يَدَّعِي أنه رأى منامًا، أو أنه وجد بذلك القبر علامة تدل على صلاح ساكنه: إما رائحة طيبة، وإما توهم خرق عادة ونحو ذلك، وإما حكاية عن بعض الناس: أنه كان يُعَظِّمُ ذلك القبر. فأما المنامات فكثير منها -بل أكثرها- كذب، وقد عرفنا في زماننا بمصر، والشام، والعراق من يَدَّعي أنه رأى منامات تتعلق ببعض البقاع أنه قبر نبي، أو أن فيه أثر نبي، ونحو ذلك، ويكون كاذبًا، وهذا الشيء مُنْتَشِرٌ، فرائي المنام غالبًا ما يكون كاذبًا، وبتقدير صِدْقِهِ: فقد يكون الذي أخبره بذلك شيطان، والرؤيا المحضة التي لا دليل يدل على صِحَّتِهَا لا يجوز أن يثبت بها شيء بالاتفاق؛ فإنه قد ثَبَتَ في "الصحيح" عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: (الرُّؤيَا ثَلَاثَةٌ: رُؤيَا مِنَ اللَّهِ، ورُؤيَا مِمَّا يُحَدِّثُ بِهِ المَرْءُ نَفْسَهُ، ورُؤيَا مِنَ الشَّيْطَانِ". فإذا كان جنس الرؤيا تحته أنواع ثلاثة، فلابد من تمييز كل نوع منها عن نوع" (¬4). ¬

_ (¬1) "نفسه" (1/ 290). (¬2) "مشكلات الجيل في ضوء الإسلام" ص (134). (¬3) "مجموع الفتاوى" (27/ 459). (¬4) "نفسه" (27/ 457، 458).

هذه الظاهرة .. إلى متى؟

هذه الظَّاهِرَةُ .. إلى متى؟ تقول الرواية: "مرضت فتاة مرضًا شديدًا أعيا الأطباء، وفي ذات ليلة بكت حتى جاءها النوم، وهي على تلك الحال، فرأت أم المؤمنين زينب، فوضعت في فمها شيئًا من القطران، وطلبت منها أن تكتب أذكارًا معينة ثلاث عشرة مرة، وتطلب من الناس أن يكتبوها، فلما استيقظت الفتاة وجدت نفسها قد شُفِيَتْ من المرض تمامًا، وقامت بكتابة الورقة ثلاث عشرةَ مرة، ووزعتها، فحدث التالي: - أول ورقة: وقعت في يد رجل فقير فكتبها ثلاث عشرة مرة، ووزعها، فجاءته أموال طائلة بعد ثلاثة عشر يومًا. - والورقة الثانية: وقعت في يد غني، فمزقها، فذهبت أمواله كلها بعد ثلاثة عشر يومًا. - والورقة الثالثة: وقعت في يد رجل على رأس عمل كبير، فسخر منها، ففُصِلَ من العمل بعد ثلاثة عشر يومًا. تقول الرواية: فعليك أخي المسلم، أختي المسلمة، أن تقوموا بكتابة هذه الورقة، وتوزيعها؛ لتنالوا من اللَّه كل ما تحبون في إرادته". - ويعلق الشيخ سلمان العودة على هذه "الخرافة" قائلًا: (إنه نوع من "الإرهاب الفكري" المدمِّر. لا تستخدم عقلك، ولا تناقش؛ لئلا يصيبك ما أصاب هؤلاء، واحذر أن تمزق تلك الورقة "الأسطورة"؛ لئلا تفقد عملك، أو تفقد مالك .. وربما تفقد دينك -هكذا يزعمون-. إن الوحي قد انتهى فلا يتنزل على أحد بعد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ومع ذلك؛ فإن من المسلمين من يشرِّعون تشريعات جديدة، لم ترد في الوحي،

ويُحَذِّرون من يخالفها بالعقاب والعذاب، ويُبَشِّرونَ من يفعلها بالتوفيق .. فكيف تنطلي هذه الألاعيب السخيفة على مسلم قرأ في التنزيل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. إننا نعلم يقينًا أن الإنسان قد يترك أعظم شعائر الدين العملية -وهي الصلاة، ومع ذلك يظل مرزوقًا معافى في دنياه؛ لأن الدنيا ليست دار جزاء ولا حساب، والأصل أن الجزاء والحساب في الآخرة، بل نجد قومًا كفارًا لا يؤمنون باللَّه، ولا باليوم الآخر، ومع ذلك: وَسَّعَ الله عليهم في الرزق، وأعطاهم من العلم المادي، والحضارة المادية، ما لم يُعْطِ غيرهم. فالدنيا دار بلاء، وليست دار جزاء. فكيف يأتي من يستخف بعقول بعضنا، ويزعم أن من لم يَفْعَلْ كذا أصابه بعد أيام معدودة ما يكره، ومن فعله لَقِي ما يحب؟! وهذا الفعل المطلوب ليس واجبًا، ولا مُسْتَحَبًّا، بل ولا مباحًا، إنما هو بدعة منكرة، وخرافة غليظة. ثم لنتساءل: هل هذه الكتابة "عبادة"، أم أنها "عمل دنيوي محض"؟ فإذا كانت عبادة، فهي مردودة؛ لأن الإنسان أراد بها الدنيا، وحفظ المال، والوظيفة، والصحة، ولم يُرِدْ بها وجهَ الله -تَعَالى-. وإذا كانت عَمَلًا دنيويًّا فهي -أيضًا- مرفوضة؟ لأنها ليست من الأسباب المادية، والذي يُرِيدُ المحافظة على الوظيفة عليه ألَّا يتأخر عن وقت الدوام، وأن يؤدي مسئولياته، وأن يُحْسِنَ استقبال المراجعين، ويبني علاقته مع رؤسائه على أساس صحيح. وهكذا حفظ المال والصحة وغيرهما له أسبابه المادية المعروفة، وليس هذا العمل منها بحال.

ثم لماذا رقم (13)؟

ثم لماذا رقم (13)؟ لقد جاء في الشرع الذكر مرة واحدة، وثلاث مرات، وسبع مرات، وعشر مرات، ومائة مرة، أما ثلاثَ عشرةَ مرة فليس لذلك نظير في الشرع مطلقًا؟ وأخيرًا: من الذي يَرْوِي هذه الأكذوبة الملفَّقَة المخترعة؟ فتاة مريضة؟ ومن هي؟ ومن يقول إنها صادقة؟ ومن يروي عن هذه الفتاة؟ إنها روَايَةٌ مسلسلة بالمجهولين، والكذَّابين، والأفَّاكين، وهؤلاء لا تُقْبَلُ شهادتهم على "بَصَلَة" فما دونها، فكيف تُقْبَلُ روايتهم في أمر كهذا؟! وحتى لو كان الرواة من أساطين الثقات، فإنهم إذا حدَّثوا بمثل هذا الكذب البواح سقطت عدالتهم، وذهبت الثقة بهم، وتُرِكُوا، ووجب ردعهم وتعزيرهم، ومنعهم من التغرير بعقول السُّذَّجِ والبُلْهِ، والله المستعان، وأنَّى لأساطين الثقات أن يحدثوا بمثل هذا؟!) (¬1). اهـ. ونظير هذه الرواية ما يشيع من وقت إلى آخر من أن فتاة رأت رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- في المنام، وقال لها: "إن الساعة ستكون قريبًا، وعلامة ذلك أن تفتحي مصحفًا قديمًا فتجدي فيه شعرة"، فترى الناس يُهْرَعُون إلى فحص مصاحفهم للتفتيش عن الشعرة المزعومة! * * * ¬

_ (¬1) "قضايا في المنهج" ص (15 - 18) بتصرف.

رؤية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المنام

رُؤيَة رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في المَنَامِ قد يظُنُّ بعض الناس أن هناك نوعًا من الرؤيا لا يحتاج إلى تبين، فهي عندهم صادقة أبدًا، وهي رؤية رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في المنام، ولا شَكَّ أن رؤيا الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- حقٌّ وصدقٌ؛ وذلك لما ثبت من قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَأَى الحَقَّ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَزَايَا بي" (¬1)، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "من رآني فإني أنا هو، فإنه ليس للشيطان أن يتمثل بي" (¬2) وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ رَآنِي في المنَامِ فَسَيَرَانِي في اليَقَظَةِ -وفي روايةٍ عند مسلم: "أو: لكأنما رآني في اليقظة"-، وَلَا يَتَمَثَّلُ الشَّيْطَانُ بِي" (¬3)، وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ رَآنِي في المَنَامِ فَقَدْ رَآني، إنَّهُ لَا يَنْبَغِي للشَّيْطَانِ أنْ يَتَمَثَّلَ في صُورتي" (¬4). ولكن ينبغي أن نَعْلَمَ أن رُؤيَا الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- تكون حقًّا إذا كانت الصورة المرئية له هي صورته الحقيقية التي كان عليها، والتي جاء وصفها في الأحاديث الصحيحة، فإنها هي الصورة التي لا يتمثل بها الشيطان، أما إذا رُؤِيَ بصورة غير صورته، وزعمت الصورة المرئية أنها الرسول، فالأمر ليس كذلك، فالممنوع أن يَتَمَثَّلَ الشيطان في الصورة الحقيقية للرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، أما أن يزعم الشيطان أنه الرسول، وقد تَمَثَّلَ في صورة غير صورة ¬

_ (¬1) رواه من حديث أبي قتادة -رضي الله عنه-: البخاري (6996) (12/ 383)، ومسلم (2267)، ومعنى: "لا يَتَزَايَا بي": لا يظهر في زيي، وفي رواية أبي سعيدٍ الخدري -رضي الله عنه-: "فإن الشيطان لا يتكونني" أي: لا يتكون في صورتي، كما قال الحافظ في "الفتح" (12/ 383). (¬2) رواه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: الترمذي (2280)، وهو في "صحيح سنن الترمذي" برقم (1859). (¬3) رواه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: البخاري (6993) (12/ 383)، ومسلم (2266) (11). (¬4) رواه من حديث جابر -رضي الله عنه-: الإمام أحمد (3/ 350)، ومسلم (2268) (12)، وابن ماجه (3902).

الرسول، فهذا أمر لم ينفِهِ الحديث. إذن هناك فرق كبير بين أن يقول: "من رآني"، وبين: "من رأى شخصًا يدعي أنه أنا"، أو"من رأى شخصًا، وظن أنه أنا"، فإن قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من رآني" يعني رؤيته -صلى الله عليه وسلم- بشكله، وصورته التي كان عليها. وهناك فرق -أيضًا- بين قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فإن الشيطان لا يتمثل بي"، وبين: "فإن الشيطان لا يدعي أنه أنا"؛ فالأولى تعني أن الشيطان لا يستطيع أن يتراءى بصورة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، وشكله الذي كان عليه في حياته؛ بحيث لو رآه أحد الصحابة -رضِيَ اللَّهُ عنهم- لعرفه -صلى اللَّه عليه وسلم-. إن الشيطان ممنوع من أن يتمثل بشخص النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولكن ليس ممنوعًا من أن يقول: "أنا رسول اللَّه"، ويكون في صورة غير صورته -صلى اللَّه عليه وسلم-. قال الحافظ ابن حجر -رحمه اللَّه-: (وقوله: "لا يستطيع أن يتمثل بي" يشير إلى أن اللَّه -تعالى- وإن أمكن الشيطان من التصور في أي صورة أراد؛ فإنه لم يُمَكِّنه من التصور في صورة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقد ذهب إلى هذا جماعة فقالوا في الحديث: إن محل ذلك إذا رآه الرائي على صورته التي كان عليها) (¬1). وقال العلَّامة ابن مفلح المقدسي -رحمه اللَّه-: (قال أهل العلم: إنما تصح رؤية النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لأحد رجلين: أحدِهما: صحابي رآه يعلم صفته؛ فإنه إذا رآه في المنام جزم بأنه رأى مَثَلَه المعصوم من الشيطان. ¬

_ (¬1) "فتح الباري" (12/ 386).

وثانيهما: رجل تكرر عليه سماع صفاته المنقولة في الكتب، حتى انطبعت في نفسه صفاته -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأما غير هذين فلا يحصل الجزم؛ بل يجوز أن يكون من تخييل الشيطان، ولا يُفيده قول المرئي: "أنا رسول الله"، ولا قولُ من يحضر: "هذا رسول اللَّه"، لأن الشيطان يكذب لنفسه، ويكذب لغيره، فلا يحصل الجزم) (¬1). وروى الترمذي في "الشمائل" عن عوف بن أبي جميلة، عن يزيد الفارسي -وكان يكتب المصاحف- قال: رأيت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في المنام زمن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-، فقلت لابن عباس: "إني رأيت رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- في النوم"، فقال ابن عباس: إن رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: "إن الشيطان لا يستطيع أن يتشبه بي، فمن رآني في النوم فقد رآني"، هل تستطيع أن تنعت هذا الرجل الذي رأيته في النوم؟ فقال: نعم، أَنْعَتُ لك رجلًا بين الرجلين، جسمه ولحمه أسمر إلى البياض، أكحل العينين، حسن الضحك، جميل دوائر الوجه، قد مَلَأَت لحيته ما بين هذه إلى هذه، قد ملأت نحره، قال عوف: ولا أدري ما كان هذا النعت. فقال ابن عباس: "لو رأيته في اليقظة ما استطعت أن تنعته فوق هذا" (¬2). وروى الحافظ في "الفتح" (من طريق إسماعيل بن إسحاق القاضي، عن سليمان بن حرب -وهو من شيوخ البخاري- عن حَمَّاد بن زيد، عن أيوب قال: "كان محمد -يعني ابن سيرين- إذا قَصَّ عليه رجل أنه رأى النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: "صِفْ لي الذي رأيته"، فإن وصف له صفة لا يعرفها، قال: "لم تَرَهُ"، وسنده صحيح). اهـ (¬3). ¬

_ (¬1) "مصائب الإنسان من مكائد الشيطان" ص (172). (¬2) "الشمائل" للترمذي رقم (412)، وحسنه الألباني -رحمه الله-. (¬3) "فتح الباري" (2/ 384).

وعن عاصم بن كُليب قال: حدثني أبي؛ أنه سمع أبا هريرة -رضي اللَّه عنه- يقول: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثلني"، قال أبي: فحدثت به ابن عباس، فقلت: قد رأيتُه -أي النبي- صلى اللَّه عليه وسلم -في المنام- فذكرتُ الحسنَ بنَ علي -رضي الله عنهما- فقلت: شبَّهْتُه به، فقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "إنه كان يُشبهه" (¬1). - فمِن ثم قال الحافظ -رحمه الله-: "قال علماء التعبير: إذا قال الجاهل: (رأيت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-)؛ فانه يُسأل عن صفته، فإن وافق الصفة المروية؛ وإلا فلا يُقبل منه". اهـ (¬2). (وقصة الشيخ عبد القادر مع الشيطان معروفة، وذلك حين قال له الشيطان: "أنا ربك، قد أبحتك من فرائضي"، فقال له الشيخ: "اخْسأ يا عدو الله"، فقال الشيطان: "غَلَبْتَنِي بفقهك يا عبد القادر"، فَسُئِلَ عن كيفية وقوفه على خُدْعَةِ الشيطان، فقال: إن الشيطان قال: "أنا ربك"، ولم يجرؤ على أن يقول: "أنا الله"، وزعم أنه قد أَحَلَّنِي من فرائض العبادات، والله -عَزَّ وجَلَّ- لم يُحِلَّ ذلك لنبيه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فكيف يحلها لي؟ فإذا كان يُمْكِنُ للشيطان أن يقول: أنا ربك؛ ألا يمكنه أن يقول "أنا النبي"، من غير أن يتمثَّل بالنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بالضرورة) (¬3). إن رؤياه -صلى اللَّه عليه وسلم- في المنام آمرًا بشيء، أو ناهيًا عن آخر، أو مظهرًا حبه لأمر أو شخص أو طائفة، أو مبديًا كراهته وسخطه على فرد أو جماعة، أو موقف أو عمل -كل ذلك لا يؤخذ به، ولا يثبت بمثله حكم شرعي ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في "الشمائل" رقم (411)، والحاكم (4/ 393). وصححه، ووافقه الذهبي، وجوَّد إسناده الحافظ في "الفتح" (12/ 384)، وصححه الألباني. (¬2) "فتح الباري" (12/ 387). (¬3) انظر: "شبهات أهل الفتنة وأجوبة أهل السنة" ص (394).

فائدة

من وجوب أو استحباب أو تحريم أو كراهة أوإباحة، أو ولاء أو براءة أو عداوة، وإنما يعرض ما يكون من ذلك على الشريعة الثابتة المعصومة، فإن وافقها فبها ونعمت، وتكون الحجة هي الشريعة، أما الرؤيا فللتأنيس فقط (¬1). فائدة: قال الشيخ الأمين بن محمد المحجوب الضرير في رسالته "هدى المستهدي إلى بيان المهدي والمتمهدي": "من رأى أحدًا من الأنبياء وهو يأمره بما يخالف الشريعة يكون ذلك نهيًا له وزجرًا وتهديدًا، وذلك لقوله صلى اللَّه عليه وسلم: "إذا لم تستح فاصنع ما شئت"، فإن ذلك ليس بأمر فعل، وإنما هو تهديد" (¬2). * * * ¬

_ (¬1) انظر: "المصادر العامة للتلقي عند الصوفية" لصادق سليم صادق ص (310 - 326). (¬2) نقله عنه في "الخصومة في مهدية السودان" ص (285).

نماذج من الاستغلال السيئ لما يزعم من رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- في المنام

نَمَاذِجُ مِن الاستِغلَالِ السَّيِّئ لِمَا يزُعَمُ مِن رُؤيَةِ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في المَنَامِ وإن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قول الشعراني في "مختصره لتذكرة القرطبي": فقد حكى اختلافَ الناس في موضع رأس الحسين -رضي اللَّه عنه- وحكى قول القرطبي: إن أصح ما قِيلَ فيه: إنَّهُ دُفِنَ بالبقيع عند قبر أمه، فاطمة -رَضِيَ اللَّهُ عنهما- ثم قال: "وبه قال الزبير بن بَكَّار الذي هو أعلم بالأنساب، قال القرطبي -رحمه اللَّه-تعالي-: وما ذُكر أنه في عسقلان في مشهد هناك، أو بالقاهرة، فشيء باطل لا يصح، ولا يثبت" (¬1). ثم قال الشعراني: (ومما وقع لي أنني قلت لسيدي الشيخ شهاب الدين بن شلبي الحنفي مفتي المسلمين -رضي اللَّه عنه-: "أترى أن تزور معنا رأس الحسين في المشهد بخان الخليلي؟ فقال: إنه لم يثبت كون الرأس هناك" (¬2)، قلت له: "نزوره بالنية على تقدير صحة ذلك"، فقال: "نعم"، فلما دخلنا مقصورته بالمشهد، قلت للشيخ: "اجلس مراقبًا بقلبك للرأس"، فجلس متخيلًا لها في ذهنه، فحصل له ثِقَلُ رأسٍ، فنام، فرأى نقيبًا مشدود الوسط، قد خرج من القبر، فما زال بصره يتبعه حتى دخل مقصورة ¬

_ (¬1) "التذكرة" ص (667، 668). (¬2) وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "بل المشهد المنسوب إلى الحسين بن علي -رضي الله عنهما- الذي بالقاهرة كذب مختلق، بلا نزاع بين العلماء المعروفين عند أهل العلم، الذين يرجع إليهم المسلمون في مثل ذلك لعلمهم وصدقهم". اهـ. من "مجموع الفتاوى" (27/ 451)، وقال أيضًا: "فأصل هذا المشهد القاهري: هو ذلك المشهد العسقلاني، وذلك العقسلاني مُحدث بعد مقتل الحسين بأكثر من أربعمائة وثلاثين سنة، وهذا القاهري محدث بعد مقتله بقريب من خمسمائة سنة، وهذا مما لم يتنازع فيه اثنان ممن تكلم في هذا الباب من أهل العلم، وهذا بينهم مشهور متواتر". اهـ. "نفسه" (27/ 456).

رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقال له: "يا رسول الله إن الشيخ شهاب الدين بن الشلبي، وعبد الوهاب الشعراني - يزوران رأس ولدك الحسين"، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "تَقَبَّل اللَّه منهما". انتهي، فاستيقظ الشيخ شهاب الدين، وتواجد حتى وقعت عمامته من فوق رأسه، وقال: "آمنت وصدقت بأن الرأس هنا"، وحكى الواقعة، ولم يزل يزوره حتى مات، فزر يا أخي هذا المشهد بالنية الصالحة إن لم يكن عندك كشف (¬1). فقول الإمام القرطبي -رحمه اللَّه-: "إن دفن الرأس في مصر باطل" صحيح في أيام القرطبي؛ فإن الرأس إنما نقلها طلائع بن رُزِّيك بعد موت القرطبي (¬2)، فافهم، والله -تعالى- أعلم (¬3). اهـ. وقال خادم شيخ الاسلام ابن تيمية إبراهيمُ بن أحمد الغياني (¬4) -رحمه اللَّه-: "ورأيت رجلًا من أهل القاهرة جاء إلى الشيخ بالقاهرة بعد مجيئه من إسكندرية، فقال له: "إن أبي حدثني عن أبيه أن هذا المشهد بناه بنو عبيد، وأن رأس الحسين ما جاء إلى ديار مصر، لكن جرت لي واقعة: أني وأنا صغير كنت أجري فوق سطح هذا المشهد، وما له عندي حُرْمة بما حدثني أبي عنه، فبينما أنا نائم ليلة وأنا أرى عجوزًا زرقاء العينين شمطاء الرأس ومعها قيد، فحطته في رجلي، وقالت: تتوب ولا تعود تجري فوق سطح المشهد؟ فقلت: التوبة، ¬

_ (¬1) فتأمل -رحمك الله- هذه المغالطة، وهذا القفز فوق كل المعايير العلمية {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} [النجم: 23]، بل إنه لا يمتنع عند هؤلاء القبورين أن يكون للنبي أو الولي أكثر من ضريح ومشهد في أكثر من بلد، وأحيانًا يخرجون من هذا المأزق بزعمهم أن لا تعارض: "لأن الأرض لأجسام الأنبياء والأولياء كالماء للسمك، فيظهرون بأماكن متعددة، ويُزار كل مكان قيل عنه: إن فيه نبيًّا كريمًا أو وليًّا صالحًا"، وانظر: "الانحرافات العقدية والعلمية" (1/ 287). (¬2) وليت شِعري، كيف يتسنى ذلك وقد توفي طلائع بن رزيك سنة (556 هـ)، كما في "البداية والنهاية" (12/ 243، 244)، وتوفي القرطبي -رحمه اللَّه- بعده بحوالي (115 سنة) إذ توفي القرطبي سنة (671 هـ)؟! (¬3) "مختصر التذكرة للقرطبي" ص (182، 183)، وانظر: "وفيات الأعيان" (2/ 530). (¬4) ألف إبراهيم بن أحمد الغياني، وكان خادمًا لشيخ الإسلام ابن تيمية، ألف كتابًا عن شيخ الإسلام طبع تحت اسم: "ناحية من حياة شيخ الإسلام ابن تيمية" ثم لمَّا أُلف "الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية" -وهو قد جمع كل ما كُتب عن ابن تيمية- أدخلت هذه الرسالة فيه.

التوبة، ما بقيت أعود. فقعدت وأنا مرعوب". فقال الشيخ: "وهذا أيضًا حجة لي على صحة ما أقوله، فإن هذه شيطانةُ هذا الموضع، وهي التي تزينه للناس. وكذلك لما بعث النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- خالد بن الوليد -رضي اللَّه عنه- بقطع (العُزَّى) فقال له: لما قطعتَ العزى أيّ شيءٍ رأيتَ خرج؟ فقال: خَرَجَتْ منها عجوز شمطاء هاربة نحو اليمن، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "تلك شيطانة العُزَّى". وسمعت الشيخَ غير مرَّة يحكيها للناس" (¬1). وقال الغياني أيضًا: "قد بلغ الشيخَ أن في المسجد الذي خلف (قبة اللحم) في (العلافين) وُيعْرف باسم (مسجد الكف) بلاطة سوداء، وقد شاع بين الناس أن إنسانًا من قديم الزمان رأى في منامه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وحدثه بأمور فقال: يا رسول الله، إن حدَّثتُ الناس بالذي حدثتني لا يصدِّقونني، فقال له: هذا كفِّي اليمينُ في هذه البلاطة دليلًا على صدقك. وحط كفه فيها، فغاص، فبقي فيها موضع كف وخمس أصابع، وانعكف الناسُ عليه -كما ذكر- بالنذر له، والتبرك به، والاستسقاء. فبلغ ذلك الشيخ، فطلع إليها ومعه جماعته وأخوه الشيخ شرف الدين فسمعته غير مرة يحدِّث يقول: لما نظرت إليها قلت: هذا الكف منحوت، مصنوع، مكذوب. فإن النَّحَّات جاء يعمله كف يمين فعمله كف شمال. فبقي معكوسًا يجيء الخِنْصر موضع الإبهام، والإبهام موضع الخنصر، فكسرها، وما بقي لها ذكر ولا أثر، وللَّه الحمد" (¬2). ¬

_ (¬1) "الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية خلال سبعة قرون" ص (141، 142)، والقصة المشار إليها رواها النسائي في "الكبرى" (11547)، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد": "رواه الطبراني، وفيه يحيى بن المنذر، وهو ضعيف". اهـ. (6/ 176)، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" إلى ابن مردويه (14/ 30). (¬2) "نفس المصدر" ص (135).

الوصية الخرافية المزمنة

الوَصِيَّةُ الخُرَافيَّةُ المُزمِنَةُ ولعل أشهرَ ما زَوَّرَهُ الكذَّابُونَ، وروَّجه الأفاكونَ -الوصيةُ المنحولة المنسوبة إلى الشيخ أحمد، حامل مفاتيح حرم رسول الله -صلى اللَّه عليه وسلم-، وفيها يزعم أنه رأى رسول الله- صلى اللَّه عليه وسلم- في رؤيا، وأخبره بوصية يُبَلِّغُهَا أمته، وتحتوي هذه الوصية على سلسلةٍ من الوعود بالخير والبركة على من يكتب منها ثلاثين نسخة، وُيوَزِّعُهَا على معارفه، والتهديد بنزول النكبات والمصائب على من يهملها ولا يكتبها. ومن العجيب أن هذه الخرافة "مزمنة"، لا تكاد تخبو منذ أن ظهرت قبل عشرات السنين، فهي تعود إلى الانتشار من حين لآخر، متجاوزة حُدود التاريخ والجغرافيا، فمِن ثمَّ تعاقب العلماء على تناولها بالنقض والإبطال، ومنهم الشيخ محمد رشيد رضا -رحمه اللَّه- تعالى (ت 1365 هـ)؛ حيث قال -رحمه اللَّه- في شأنها: "إننا نتذكر أننا رأينا مثل هذه الوصية منذ كنا نتعلم الخط والتهجي إلى الآن مرارًا كثيرة، وكلها معزوة كهذه إلى رجل اسمه الشيخ أحمد خادم الحجرة النبوية، والوصية مكذوبة قطعًا، لا يختلف في ذلك أحد شَمَّ رائحة العلم والدين، وإنما يصدقها البلداء من العوامِّ الأميين، ولا شك أن الواضع لها من العوامِّ الذين لم يتعلموا اللغة العربية؛ ولذلك وضعها بعبارة عامِّيَّة سخيفة، لا حاجة إلى بيان أغلاطها بالتفصيل؛ فهذا الأحمق المفتري ينسب هذا الكلام السخيف إلى أفصح الفصحاء، وأبلغ البلغاء -صلى اللَّه عليه وسلم-، ويزعم أنه وجده بجانب الحجرة النبوية مكتوبًا بخط أخضر، يريد أن النبي الأمي هو الذي كتبه، ثم يتجرأ بعد هذا على تكفير من أنكره؛ فهذه المعصية هي أعظم من جميع المعاصي التي يقول: إنها فشت في الأمة، وهي الكذِبُ على الرسول -عليه الصلاة والسلام-، وتكفير علماء أمته، والعارفين بدينه، فإن كل واحد منهم يكذِّب واضع هذه الوصية بها، وقد قال المحدِّثون: إن قوله -صلى الله

* وممن تناولها بالرد والإبطال مجلة "نور الاسلام"؛ إذ جاء فيها

عليه وسلم-: "مَنْ كَذَبَ عليَّ مُتَعَمِّدًا؛ فَلْيَتَبَوَّأ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ"، قد نُقِلَ بالتواتر، ولا شك أن واضع هذه الوصية مُتَعَمِّدٌ لكذبها، ولا ندري أهناك رجل يُسَمَّى الشيخ أحمد أم لا؟ أما تَهَاوُنُ المسلمين في دينهم، وتركهم الفرائض والسنن، وانهماكهم في المعاصي؛ فهو مُشَاهَدٌ، وآثار ذلك فيهم مشاهدة، فقد صاروا وراء جميع الأمم، بعد أن كانوا بدينهم فوق جميع الأمم، ولا حاجة لمن يريد نصيحتهم بالكذب على الرسول، ووضع الرؤى التي لا يجب على من رآها أن يعتمد عليها شرعًا، بل لا يجوز له ذلك إلا إذا كان ما رآه موافقًا للشرع؛ فالكتاب والسنة الثابتة بين أيدينا، وهما مملوءَانِ بالعِظَاتِ والعبر، والآيات والنذر" (¬1). * وممن تناولها بالرد والإبطال مجلة "نور الاسلام" (¬2)؛ إذ جاء فيها: بُلِيَ الإسلام بأشخاص يتخذون من الافتراء عليه طرقًا للتنفير منه، أو حبائل لاصطياد شيء من المال، ومن هذا القبيل صحيفة تشتمل على حكاية رؤيا منسوبة لشخص يُسَمِّي نفسه الشيخ أحمد خادم الحجرة النبوية، وقد اخْتُرِعَتْ هذه الأكذوبة من مدة تزيد على أربعين سنة، ولا يزال مخترعها يتعهد بها الناس في الشرق والغرب من سنة إلى أخرى، وكثيرًا ما كتب أهل العلم في تزييفها وبيان ضلالاتها، ورجاؤنا اليوم في الخطباء والوُعَّاظِ أن يُنبِّهُوا الأمة لفِريتها، وسخافة عقل من يتقبلها، وقد ورد إدارةَ المجلة مقالٌ مُحَرَّر بقلم فضيلة الأستاذ صاحب التوقيع، يكشف عن جهل كاتبها، وسوء قصده، وعظم وِزْرِهِ، وإليك ما كتب الأستاذ محمود ياسين: لا نزال بين آونة وأخرى نسمع خبر هذه الرؤيا، ويسوؤنا أن يتهافت الناس على طبعها، ونشرها، وقراءتها، وتعليقها على الجدران؛ رغبة في الوعد الذي ¬

_ (¬1) "فتاوى رشيد رضا" (1/ 240 - 242) بتصرف، بواسطة: "كتب حذر منها العلماء" (2/ 335، 336). (¬2) "المجلد الثالث" -الجزء الرابع- عدد ربيع الثاني 1351 هـ (ص 289) وما بعدها، بواسطة "كتب حذر منها العلماء" (2/ 339 - 347) بتصرف.

وقع فيها، وهو فوله: "ومن يُصَدِّقْ بها، يَنْجُ من عذاب النار"، وقوله: "ومن قرأها ونقلها من بلد إلى بلد؛ كان رفيق النبي -صلى الله عليه وسلم- في الجنة، وكانت له شفاعته يوم القيامة"، ورهبة من الوعيد الذي تضمنته، وهو قوله: "ومن كذَّب بها كفر"، وقوله: "ومن قرأها ولم ينقلها كان خَصْمَ النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم القيامة". كُنَّا في سنة (1321) هجرية نَشَرْنَا في الجزء السادس من المجلد الثالث من مجلة "الحقائق"؛ ردًّا مُمْتِعًا على هذه الفِرية، وحَذَّرْنَا الناسَ من الوثوق بها، والاغترار بوعودها، ووَقَعَ إذ ذاك في خَلَدِنَا أنَّ صاحب هذه النشرة سيرتدع عن إعادة نشرها، وأنَ الناس سيُعْرِضُونَ عنها، ولا يلتفتون بعد هذا إليها، ولكن خاب ما ظَنَنَّا، ولم نبلغ ما أملنا؛ فالكاذب لا يزال الفينةَ بعد الفينةِ ينشر فِريته، ويذيع كذبته بين الناس، وهم لا يزالون يُقْبِلُونَ عليها، ويتقبلون ما فيها من تُرَّهَاتٍ وتغريرٍ بالقبول الحسن، والعناية اللازمة. ثم إن ناشرها -جريًا مع الأيام- قد عاد عليها بالتشذيب والتهذيب؛ فَنَقَّحَ وصَحَّحَ، وحذف منها كثيرًا من المفتريات التي كنا نبهنا عليها مثل قوله: "كنت ليلة الجمعة في اليوم الثاني والعشرين من شهر صفر الخير سنة كذا -مضطجعًا على وضوء كامل" إلخ، وقوله: "استحيت (كذا) من الله -عزَّ وَجَلَّ- وهو يقول لي: يا محمد، لأبدلن وجوههم، وأعذبهم عذابًا شديدًا. فقلت: يا رب، أمهلهم حتى أنذرهم وأبلغهم" إلخ، وقوله: "يا أحمد، إنهم قد سُلِبَ إيمانهم من كثرة الزنى" ... إلخ، وقوله: "يا أحمد، إن تارك الصلاة لا تمشوا بجنازته"، وقوله: "ومن اطلع عليها ولم يخبر بها الناسَ كان وجهُه مُسْوَدُّا يوم القيا مة " إلخ، وقوله: "ومن كذَّب ولم يُصَدِّقْ بها -يعني الوصية- فهو ملعون، ثم ملعون، ثم ملعون" ... إلخ، وقوله: "من بعد ألف وثلاث ومائة وأربعين سنة يخرجن (كذا) النساء من بيوتهن إلى الأسواق، من غير إذن أزواجهن" إلخ، وقوله: "وبعد ألف وثلاث مائة وخمسين ينزل من السماء مطر كبيض الدجاج،

* من افتراءات صاحب الوصية المزعومة

وبعد سنة (1370) تغيب الشمس ثلاثة أيام"، وقوله: "وبعد ألف وأربع مائة يظهر المسيح الدجَّال". وقوله: "فما كان، والله، والله، والله، وآيات اللَّه، وأمانه، أنها مكتوبة بقلم القدرة"، وقوله: "ومن كان عنده ثلاثة دراهم واستأجر بهن (كذا)، وكتب هذه الوصية، وكان مُذْنِبًا، وعليه فرض صيام؛ غُفِرَتْ ذنوبه ببركة هذه الوصية". كل هذه التُّرَّهَاتِ والأكذوبات قد حذفها هذا المفتري الكَذَّاب جَريًا مع الأيام كما قلنا، وجاء إلينا الآن برؤيا، أو وصية ملخَّصة مشذبة، ومع ذلك، لم تَخْلُ مما يجب إنكاره، وفضيحة صاحبه، واشهاره بين الناس بأنه كاذب أفَّاك متلاعب، مجترئ على اللَّه -تعالى-، وعلى رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-، القائل في الحديث الصحيح المتواتر الذي رواه الجم الكثير من الصحابة عنه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ كَذَبَ عليَّ مُتَعَمِّدًا؛ فَلْيَتَبَوَّأ مَقْعَدَهُ من النار"؛ أي: فليتخذ منزله منها. "لو أن هذا الرجل الذي سَمَّي نفسه بالشيخ أحمد خادم الحجرة النبوية كان ممن يخشون اللَّه -تعالى-، ويُعِدُّونَ العدة للقائه -سبحانه-، لما حَمَّل نفسه أقبح أنواع الكذب، وأشدها للَّه -تعالى- سخطًا؛ حيث اعتاد أن يبني وصيته على رُؤيَا منامية يحكيها للناس، وهو في ذلك من الأفاكين الكذَّابين الدَّجَّالين؛ فقد صح عنه -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ أنه قال: "إنَّ مِنْ أعْظَمِ الفِرَى أن يُدْعَى الرَّجُلُ إلى غيرِ أبِيهِ، أويُرِيَ عيْنَهُ في المَنَام مَا لَمْ تَرَ، أويَقُولَ عليَّ مَا لَمْ أقُلْ"، وقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مِن أَفْرَى الفِرَى أنْ يُرِيَ عَيْنَهُ مَا لَمْ تَرَ". * من افتِرَاءَاتِ صَاحِبِ الوصيةِ المَزعُومَةِ: قوله: قال الشيخ أحمد خادم الحجرة النبوية الشريفة: قال -عليه الصلاة والسلام-: "من قَرَأَهَا ونقلها من بلد إلى بلد؛ كان رفيقي في الجنة، وشفاعتي له يوم القيامة، ومن قرأها ولم ينقلها؛ كان خصمي يوم القيامة"؛ لأن فيها إسنادَ حديث إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- كَذِبٍ موضوعٍ عليه، لا أصل له في

الدين، ولا يحل نقله عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- لأحد من المسلمين؛ فالعجب ممن يدعي أنه خادم الحجرة النبوية الشريفة؛ كيف يجرؤ هذه الجرأة، ويتقول على النبي- صلى اللَّه عليه وسلم- مالم يَقُلْهُ، وما لا يجتمع مع أحكام دينه، وقواعد شريعته؟ وهذا وأمثاله يحملنا على أن نظن بهذا الرجل أنه ليس من المسلمين، بل عدو لهم متستر باسم خادم الحجرة النبوية الشريفة، يستهزئ بدينهم، وبأحكام شرعهم؛ فيجعل جزاء نقل وصية من بلد إلى بلد مرافقة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في الجنة، واستحقاق شفاعته. ومنها قوله: "ومن يصدق بها ينجو (كذا) من عذاب النار، ومن كذَّب بها كفر"؛ لأنَّ هذا الوعيد لا يصح أن يكون إلا لكتاب اللَّه -تعالى-، وما عُلم من الدين الإسلاميِّ بالضرورة؛ كأركان الإيمان والإسلام، أما غير ذلك مما لا يجب الإيمان به شرعًا، فالتكذيب به ليس كفرًا، كما أن التصديق به لا يُنَجِّي من نار، ولا يمنع من عذاب، ومن هنا يعلم القارئ سَخَافَةَ عقل هذا الرجل الذي يسمي نفسه بالشيخ أحمد خادم الحجرة النبوية الشريفة، وجهلَه، وقلةَ دينِه، وجرأته على اللَّه -تعالى- وعلى شريعته، وأنه على ما نُرَجِّحُ متلاعب مستتر بهذا الاسم، لا يريد إلا الكيد للمسلمين وإيذاءهم. (إن هذه الوصية تحمل في طَيَّاتِهَا دليل كذبها، ودليل تزويرها؛ فصاحبها يهدِّد الناس ويخوِّفهم إذا لم ينشروها أن تصيبهم المصائب، وتحلَّ بهم الكوارث، وأن يموت أبناؤهم، وأن تُفْقَدَ أموالهم، وهذا ما لم يقل به إنسان، حتى في كتاب اللَّه، وفي سنة رسول الله -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ لم يُؤْمَرِ الناس أن كلَّ مَنْ قرأ القرآن كتبه ونشره، وأن مَنْ قرأ "صحيح البخاري" كتبه ونشره، وإلا حلت به المصائب؛ فكيف بمثل هذه الوصايا التخريفيَّة؟! هذا شيء لا يمكن أن يصدِّقَهُ عقل مسلم، يفهم الإسلام فَهْمًا صحيحًا. وتقول الوصية الزَّائفة: إنَّ فلانًا في البلد الفلاني نشر هذه الوصية؛ فَرُزِقَ بعشرات الآلاف من "الروبيات"، هذا كله تخريف وتضليل للمسلمين عن

الطريق الصحيح، وعن اتباع السنن والأسباب التي وضع اللَّه عليها نظام هذا الكون؛ فالرزق له أسبابه، وله طرائقه، وله سننه) (¬1). - وقد أصدرت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء فتوى تُبْطِلُ هذه الوصية المزعومة، وهاك نَصَّها: الحمد للَّه وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد: "من الممكن عقلًا الجائز شرعًا أن يرى المسلم في منامه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- على هيئته وصورته التي خلقه اللَّه عليها؛ فتكون رؤيا حقِّ، فإن الشيطان لا يتمثل به؛ لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ رَآنِي في المنَامِ فَقَدْ رَآنِي، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ بِى". رواه الإمام أحمد والبخاري من طريق أنس، ولكن قد يكذب الإنسان فيدعي زورًا أنه رأى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- على صورته التي خَلَقَهُ اللَّه عليها، والتي نُقِلَتْ إلينا نقلًا صحيحًا، وقد يرى في منامه شَخْصًا على غير الصفة الخِلْقية للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ويُخَيِّلُ إليه الشيطان أنه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وليس به؛ فتكون الرؤيا كاذبة. والرؤيا المنسوبة إلى الشيخ أحمد خادم الحجرة النبوية إن لم تَصِحَّ نسبتها إليه؛ كانت مصطنعة مفتراة، وهذا هو الظاهر؛ فإنه لا يزال مُدَّعٍ مجهول يسمي نفسه الشيخ أحمد، ويدعي أنه رأى هذه الرؤيا، وقد تُوُفِّي الشيخ أحمد خادم الحجرة من زمن طويل، كما أخبر بذلك أهله، وأقرب الناس إليه، حينما سئلوا عن ذلك، وأنكروا نسبة هذه الرؤيا إليه، وهم ألصق الناس به، وأعرفهم بحاله، وإن صَحَّتْ نسبتها إليه، فهي إما كذب منه وافتراء على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وإما أضغاث أحلام وخيال كاذب، وتلبيس من الشيطان على الرائي، وليست رؤيا صادقة، والذي يدل على أنها كذب، وبهتان، أو خيال، وزور: ما اشتملت عليه مما يتنافى مع الواقع، وشريعة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. ¬

_ (¬1) "فتاوى معاصرة" (1/ 187).

أما منافاتها للواقع، فإنها لا تزال تُطْبَع وتنشر مرات بعد وفاته، وقد أنكر أهله وألصَقُ الناس به نسبتها إليه حينما سُئِلُوا عن ذلك. وأما منافاتها للشريعة الإسلامية، فلِما اشتملت عليه من الأمور التالية: أولًا: الإخبار فيها عن تحديد عدد من مات من هذه الأمة على غير الإسلام من الجمعة إلى الجمعة، وهذا من أمور الغيب، التي لا يعلمها البشر، إنما يعلمها الله، ومن يظهره عليها من رسله في حياتهم، وقد انقطعت الرسالة من البشر بوفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال الله -تعالى-: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65]، وقال: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} [الجن: 26 - 27]، وقال: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40] ثانيًا: إخباره عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال له: "أنا خجلان من أفعال الناس القبيحة، ولم أقدر أن أقابل ربي والملائكة"؛ فإنه من الزور والأخبار المنكرة؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يعلم أحوال أمته بعد وفاته، بل لا يعلم منها أيام حياته في الدنيا إلا ما رآه بنفسه، أو أخبره به من اطلع عليه من الناس، أو أظهره اللَّه عليه؛ فعن ابن عباس -رضيَ اللَّهُ عنهما- قال: خطب النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "إنكم مَحْشُورُونَ إلى اللَّهِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا، ثُمَّ قَرَأَ: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 104] ". إلى أن قال: "ألا إنه يجاء برجال من أمَّتى فيؤخذ بهم ذات الشمال؛ فَأقُولُ: يا رَبِّ، أصْحَابِي (¬1). فيقالُ: لَا تَدْرِي مَا أحْدَثُوا بَعْدَك. فأقولُ كمَا قال العَبْدُ الصالِحُ: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ¬

_ (¬1) أطلق عليهم وصف (الأصحاب) باعتبار ماكان قبل الردة، ولا شك أن الردة سلبتهم هذا الوصف الشريف.

وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة: 117]. فيقالُ: إنَّ هؤلاءِ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ (¬1) ¬

_ (¬1) [وهم أهل الردة الذين أسلموا في حياته -صلى الله عليه وسلم- ولم يخالط الإيمانُ قلوبهم، فارتدوا بعد وفاته -صلى الله عليه وسلم-، وقاتلهم أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- أو المراد بهم المنافقون، ونقل النووي عن ابن عبد البر قوله: "كل من أحدث في الدين فهو من المطرودين عن الحوض، من الخوارج والروافض، وسائر أصحاب الأهواء، وكذلك الظلمة المسرفون في الجور وطمس الحق، المعلنون بالكبائر، قال: وكل هؤلاء يخاف عليهم أن يكونوا ممن عُنُوا بهذا الخبر، والله أعلم". اهـ. من "شرح النووي" (3/ 137)، والظاهر أن هؤلاء لا يُجزم بأنهم يذادون عن الحوض لأنهم تحت المشيئة وحكمهم حكم أصحاب الكبائر الذين ماتوا على التوحيد. ويتضح مما سبق أن المذادين عن الحوض هم القبائل المرتدة بعد وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أو المنافقون -كما مر- وليسوا صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما زعمت الشيعة الاثنا عشرية. فأحاديث الحوض رواها الصحابة أنفسهم؛ أكثر من خمسين صحابيًّا، فكيف يُعقل أن يرووا من الأحاديث ما يدل على كُفْرِهم وردتهم مع اعتقاد الاثنى عشرية- إلا من شذ منهم- أن الصحابة حذفوا الآيات التي تحدثت عن مثالبهم، فَلِمَ لم يكتموا هذا الحديث، مع عظم ضرره إن كان يعنيهم؟ فدلَّ على أنه ليس المراد بهم أصحاب الرسول -صلى الله عليه وسلم-. قال الخطابي فيما نقله عنه ابن حجر: "ولم يرتد من الصحابة أحد، وإنما ارتد قوم من جفاة الأعراب ممن لا نصرة لهم الدين. [وعند الكرماني: "ممن لا بصيرة له في الدين". "الكواكب الدراري" (17/ 106)]، وذلك لا يوجب قدحًا في الصحابة المشهورين"، ثم قال: "ويدل قوله: (أصيحابي) [كما في حديث أنس المتفق عليه]-بالتصغير- على قلة عددهم". اهـ. "فتح الباري" (11/ 324). وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "أصيحابي" -بالتصغير- مذكور في العديد من مصنفات الشيعة كما في "مجمع البيان" (1/ 485)، وهي تدل على قلة عدد من ارتد، لا كما تقول الشيعة عن الصحابة: "إنهم ارتدوا جميعًا إلا نفرا يسيرًا". وقد رد ابن قتيبة استدلالهم بهذه الأحاديث فقال: "إنهم لو تدبروا الحديث وفهموا ألفاظه لاستدلوا على أنه لم يُرِد بذلك إلا القليل، يدلك على ذلك قوله: (ليردن عليَّ الحوض أقوام)، ولو كان أرادهم جميعًا إلا من ذُكروا لقال: لَتَرِدُنَّ عليَّ الحوض، ثم لتختلجُنَّ دوني، ألا ترى أن القائل إذا قال: أتاني اليوم أقوام من بني تميم وأقوام من أهل الكوفة، فإنما يريد قليلًا من كثير، ولو أراد أنهم أتوه إلا نفرًا يسيرًا، قال: أتاني بنو تميم، وأتاني أهل الكوفة، ولم يجز أن يقول: "قوم"، لأن القوم هم الذين تخلفوا، وكذلك أيضا قوله: (يا رب أصيحابي) -بالتصغير- وإنما يريد بذلك تقليل العدد" ... إلى أن يقول: "وقد ارتد بعده أقوام منهم عيينة بن حصن، ارتد، ولحق بطليحة بن خويلد حين تنبأ" ... إلى أن قال: "ولعيينة بن حصين أشباه ارتدوا حين ارتدت العرب، فمنهم من رجع وحسن إسلامه، ومنهم من ثبت على النفاق". اهـ. من "تاويل مختلف الحديث" ص (158، 159). =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقال في موضع آخر: "حدثني زيد بن أخزم الطائي قال: أنا أبو داود، قال: نا قرة بن خالد عن قتادة قال: قلت لسعيد بن المسيب: كم كانوا في بيعة الرضوان؟ قال: خمس عشرة مئة، قال: قلت: فإن جابر بن عبد الله قال: كانوا أربع عشرة مئة. قال: أوهم رحمه الله، هو الذي حدثني أنهم كانوا خمس عشرة مئة، فكيف يجوز أن يرضى الله -عز وجل- عن أقوام، ويحمدهم، ويضرب لهم مثلًا في التوراة والإنجيل، وهو يعلم أنهم يرتدون على أعقابهم بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا أن يقولوا: إنه لم يعلم، وهذا هو شر الكافرين". اهـ. من "تأويل مختلف الحديث" ص (158، 159). قال الله مخبرًا عن رضاه عن الذين بايعوا يعة الرضوان: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18]. وقال -صلى الله عليه وسلم-: "لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد، الذين بايعوا تحتها". رواه مسلم (4/ 1942). قال ابن تيمية -رحمه الله-: "وقد علم بالاضطرار أنه كان في هؤلاء السابقين الأولين: أبو بكر، وعمر، وعلي، وطلحة، والزبير، وبايع النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده عن عثمان لأنه كان غائبًا قد أرسله إلى أهل مكة ليبلغهم رسالته، وبسببه بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - الناس لما بلغه أنهم قتلوه". اهـ. من "منهاج السنة" (2/ 27). وروى الشيعة عن أبي جعفر الباقر أن عدد الصحابة الذين بايعوا تحت الشجرة كان ألفًا ومائتين -وفي رواية- ألفًا وثلاثمائة. ولكن رغم تسليم الاثنى عشرية لهذه النصوص، فإنهم يرون أن الرضا الذي وقع في بيعة الرضوان، والمغفرة العامة لأهل بدر كلها مشروطة بسلامة العاقبة وعدم النكث. وترد عليهم المناظرة التي جرت بين إمامهم الخامس أبي جعفر الباقر وأحد الخوارج، فإن الباقر احتج على الخارجي بأحاديث في فضائل علي، والخارجي ردها بقوله: "أحدث الكفر بعدها"، فقال له أبو جعفر: "ثكلتك أمك، أخبرني عن الله أحب عليَّ بنَ أبي طالب يوم أحبه وهو يعلم أنه يقتل أهل النهروان أم لم يعلم؟ قال: لئن قلت: "لا" كفرت. قال: فقال: "قد علم"، قال: "فأحبه الله على أن يعمل بطاعته أو على أن يعمل بمعصيته؟ " فقال: "على أن يعمل بطاعته"، فقال له أبو جعفر: "فقم مخصومًا". اهـ. من "الروضة من الكافي" للكيلي ص (421). وكذلك الصحابة -رضي الله عنهم- قد أخبر الله بأنه رضي عنهم، وأمر بالاستغفار لهم، والرضا من الله صفة أزلية لا أول لها، وهو سبحانه لا يرضى إلا عن عبد علم أنه يوافيه على موجبات الرضى، ومن رضي اللهُ عنه لا يسخط عليه أبدًا، وخبر الله لا يُنسخ ولا يُبدل، ولا يجوز أن يتناقض أبدًا، ومن دفع خبر الله برأيه ونظره كان ملحدًا، انظر: "درء تعارض العقل والنقل" (5/ 208)]. اهـ. بتصرف من "موسوعة الدفاع عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم" للدكتور عبد القادر ابن محمد عطا صوفي ص (191 - 200).

على أعقابِهِمْ منذ فَارَقْتَهُمْ"، رواه البخاري (¬1). وعلى تقدير أنه يعلم أحوال أمته بعد وفاته، فلا يلحقه بذلك حرج، ولا يصيبه من وراء كثرة ذنوبهم ومعاصيهم إثم ولا خجل، وقد ثبت في حديث الشفاعة العظمى أن أهل الموقف كُفَّارًا ومسلمين يستشفعون بالأنبياء واحدًا بعد آخر حينما يشتد بهم هول الموقف، فيعتذر كل منهم عن الشفاعة لهم عند اللَّه، ثم ينتهي أهل الموقف إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فيسألونه أن يشفع لهم عند اللَّه، فيستجيب لهم، ولا يمنعه من الشفاعة لهم كثرة معاصيهم، أو كفر الكافرين منهم، ولا يخجل من ذلك، بل يذهب فيسجد تحت العرش، ويحمد ربه، ويثني عليه بمحامد يُعَلِّمُه إياها، حتى يأمره أن يرفع رأسه، وأن يشفع لهم، وبعد ذلك ينصرفون للحساب والجزاء، ولم يمنعه شيء من ذلك في لقاء ربه، ومقابلة الملائكة، ولم يَلْحَقْهُ منه عار. ثالثًا: إخباره بالجزاء العظيم الذي يترتب على كتابة هذه الوصية، ونقلها من محل إلى محل، أو من بلد إلى بلد، وتعيين جزاء الأعمال وتحديده من الأمور الغيبية التي لا يعلمها إلا اللَّه، وقد انقطع الوحي إلى البشر بوفاة خاتَم الأنبياء -عليه الصلاة والسلام-؛ فادعاء العلم بذلك باطل، وقد ادعاه الشيخ أحمد المزعوم؛ حيث قال في الوصية المكذوبة: "ومن يكتبها ويرسلها من بلد إلى بلد، ومن محل إلى محل، بني له قصر في الجنة"، وقال: "ومن يكتبها وكان فقيرًا أغناه اللَّه، أو كان مَدينًا قضى اللَّه دَيْنَه، أو كان عليه ذنب غفر اللَّه له ولوالديه"؛ فهو كاذب في ذلك. وكذا إخباره عن الوعيد الشديد الذي يصيب من لم يكتبها، ويرسلها، وتعيينه إياه بأنه يُحْرَمُ شفاعةَ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَيسْوَدُّ وجهه في الدنيا والآخرة؛ حيث قالَ فيها: "ومن لم يكتبها ويرسلها، حُرِّمَتْ عليه ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4/ 277)، ومسلم (4/ 2194، 2195) رقم (2860).

شفاعتي يوم القيامة"، وقال: "ومن لم يكتبها من عباد الله، اسْوَدَّ وجهه في الدنيا والآخرة"؛ فهذا -أيضًا- من الغيب الذي لا يعلم بتحديده إلا الله، فَإخْبَارُهُ به وقد انقطع الوحي إلى البشر؛ رجم بالغيب، وكذِبٌ وزور، وكذا قوله فيها: "ومن يُصَدِّق بها (ينجو) من عذاب النار، ومن يكذب بها كفر"؛ فهذا -أيضًا- زورٌ وبهتانٌ، فإن التكذيب بالرؤيا الصادرة من غير الأنبياء لا يعد كفْرًا بإجماع المسلمين. رابعًا: إن كل ما أخْبرَ به من الوعد والوعيد على سبيل التعيين والتحديد يتضمن تشريعًا بالحث على كتابة الوصية، وإبلاغها ونشرها بين الناس للعمل بها، واعتقاد ما فيها رَجَاءَ المثوبة التي حدَّدَهَا، ويتضمن تشريع تحريم كتمانها، والتفريط في إبلاغها ونشرها، والتحذير من ذلك خشية أن يَحِيقَ بمن كتمها أو فَرَّطَ في نَشْرِهَا ما أخبر به من الوعيد الشديد بحرمانه من الشفاعة، واسوداد وجهه. خامِسًا: عَدَمُ التناسب بين ما أخبر به من الجزاء والأعمال، وهو دليل الوضع والكذب في الأخبار، إلى غير هذه الأمور من الأكاذيب؛ فيجب أن يحذر المسلم هذه الوصية المزعومة، ويعمل على القضاء عليها. وباللَّه التوفيق، وصلى اللَّه على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم (¬1). * * * ¬

_ (¬1) "فتاوى اللجنة الدائمة" (4/ 74 - 77) فتوى (999).

الرؤيا ليست حجة شرعية

الرؤيا ليست حجة شرعية ذهب بعض الناس إلى الاعتماد على الرؤى والمنامات واعتبارها حجة (¬1). والصحيح أن الرؤيا لا تعتبر حجة ولا مصدرًا من مصادر التشريع، ولا يجوز أن يبني عليها الإنسان حكمًا شرعيًا حلًّا أو حرمة، كراهة أو استحبابًا، أو غير ذلك من مثل تعيين مراد الله ورسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- بتفسير الكتاب والسنة. وقد بيَّن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- أن الحق الذي لا باطل فيه هو "ما جاءت به الرسل عن الله تعالى، وُيعرف بالكتاب والسنة والإجماع، فإن هذا حق لا باطل فيه، واجب الاتباع لا يجوز تركه بحال، عامُّ الوجوب لا يجوز ترك شيء مما دلت عليه هذه الأصول، وليس لأحدٍ الخروج عن شيء مما دلت عليه"، وقال -رحمه الله-: "الكتاب والسنة والإجماع، وبإزائه لقومٍ آخرين: المنامات، والإسرائيليات، والحكايات". اهـ (¬2). الأدلة على أن الرؤيا ليست، مصدرًا للتشريع: 1 - أن الله تعالى أوجب علينا اتباع كتابه المجيد وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- لا غير، وذلك كثير في القرآن الكريم، كقوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأعراف: 3]. 2 - قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. فلا مجال لتشريعِ بعد انتقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الرفيق الأعلى. قال الشوكاني -رحمه الله-: "ولا يخفاك أن الشرع الذي شرعه الله لنا على ¬

_ (¬1) انظر: "إرشاد الفحول" (2/ 291). (¬2) "مجموع الفتاوى" (19/ 5).

لسان نبينا -صلى اللَّه عليه وسلم- قد كمله اللَّه عز وجل، ولم يبق بعد ذلك حاجة للأمة في أمر دينها، وقد انقطعت البعثة بالموت" (¬1). 3 - أن الأدلة الشرعية التي هي أصول الأحكام ومصادرها، محصورة في الكتاب والسنة باتفاق الأئمة، ثم الإجماع والقياس باتفاق جمهورهم، ثم العرف، والاستصحاب، والاستحسان، والمصالح المرسلة، وشرع من قبلنا، وقول الصحابي، وسد الذرائع، على خلاف بين جمهور الأئمة في حجيتها، ولم يذكر أحد من أئمة العلم الرؤى المنامية ضمن هذه الأدلة. قال الشوكاني -رحمه اللَّه-: " ولم يأتنا دليل يدلُّ على أن رؤيته في النوم بعد موته -صلى الله عليه وسلم- إذا قال فيها بقول أو فعل فيها، يكون دليلًا وحجة، بل قد قبضه اللَّه إليه بعد أن كمل لهذه الأمة ما شرعه لها على لسانه" (¬2) اهـ. 4 - أن الرؤى ثلاثة أقسام من حيث منابعها: رحماني، ونفساني، وشيطاني، ولا سبيل إلى التمييز بينها حتى نقبل الرحماني، ونرد ما عداه. قال الامام المحقق ابن قيم الجوزية -رحمه اللَّه تعالى-: "والرؤيا كالكشف: منها رحماني، ومنها شيطاني، ورؤيا الأنبياء وحي فإنها معصومة من الشيطان، وهذا باتفاق الأمة، ولهذا أقدم الخليل على ذبح ابنه إسماعيل عليهما السلام بالرؤيا. وأما رؤيا غيرهم فتُعرض على الوحي الصريح: فإن وافقته، وإلا لم يُعمل بها" (¬3). وقال الشيخ عبد الرحمن المُعَلِّميُّ -رحمه اللَّه-: "الرؤيا قصاراها التبشير والتحذير، وفي الصحيح: أن الرؤيا قد تكون حقًّا وهي المعدودة من النبوة، وقد تكون من الشيطان، وقد تكون من حديث النفس، والتمييز مشكل" (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "إرشاد الفحول" (2/ 291، 292). (¬2) "إرشاد الفحول" (2/ 291، 292). (¬3) "مدارج السالكين" (1/ 51). (¬4) "التنكيل" (2/ 242).

5 - أن الرؤيا تقع حال النوم، وليست هي حالة ضبط وتحقيق، ولا هي حالة تكليف، ولذلك رُفع القلم عن النائم حتى يستيقظ، فلا تقبل رواية النائم لاختلال ضبطه. 6 - أن الغالب في الرؤيا "الترميز" والإشارة، ولا يفقه تعبيرها إلا قلةٌ من الناس، فتكون محتملة لتفسيرات متعددة، وما كان هذا شأنه لا يستقيم الاستدلال به. قال الشيخ عبد الرحمن المعلمي -رحمه الله-: "الغالب أن تكون على خلاف الظاهر حتى في رؤيا الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- كما قصَّ من ذلك في القرآن، وثبت في الأحاديث الصحيحة، ولهذه الأمور اتفق أهل العلم على أن الرؤيا لا تصلح للحجة، وإنما هي تبشير وتنبيه، وتصلح للاستئناس بها إذا وافقت حجة شرعية صحيحة كما ثبت عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- أنه كان يقول بمتعة الحج لثبوتها عنده بالكتاب والسنة، فرأى بعض أصحابه رؤيا توافق ذلك، فاستبشر ابن عباس". اهـ (¬1). وكما قال ابن القيم- رحمه الله -: قال شيخنا -يعني ابن تيمية-: "كان يُشْكِل عليَّ أحيانًا حالُ من أصلي عليه الجنائز؛ هل هو مؤمن أو منافق؟ فرأيت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في المنام، فسألته عن مسائل عديدة، منها هذه المسألة، فقال: "يا أحمد! الشرطَ الشرطَ". أو قال: "عَلِّق الدعاء بالشرط" (¬2)، فهذه الرؤيا يستأنس بها فحسب. ¬

_ (¬1) "التنكيل " (2/ 259). (¬2) "إعلام الموقعين عن رب العالمين" (3/ 399).

قول الإمام أبي إسحاق الشاطبي

قول الإمام أبي إسحاق الشاطبي 1 - قال الإمام أبو إسحاق الشاطبي -رحمه اللَّه - تعالى-: "وأضعف هؤلاء احتجاجًا، قوم استندوا في أخذ الأعمال إلى المنامات، وأقبلوا وأعرضوا بسببها، فيقولون: رأينا فلانًا الرجل الصالح، فقال لنا: اتركوا كذا، واعملوا كذا، ويتفق مثل هذا كثيرًا للمترسِّمين برسم التصوف، وربما قال بعضهم: رأيت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في النوم فقال لي: كذا، وأمرني بكذا، فيعمل بها، ويترك بها، مُعْرِضًا عن الحدود الموضوعة في الشريعة، وهو خطأ؛ لأن الرؤيا من غير الأنبياء لا يحكم بها شرعًا على حال، إلا أن تعرض على ما في أيدينا من الأحكام الشرعية، فإن سَوَّغَتْها عُمِلَ بمقتضاها، وإلا وجب تركُها، والإعراضُ عنها، وإنما فَائِدَتُهَا البِشارة أو النذارة خاصة، وأما استفادة الأحكام فلا، ... فلو رأى في النوم قائلًا يقول: إن فلانًا سرق فاقطعه، أو عالم فاسأله، أو اعمل بما يقولون لك، أو فلان زنى فحدَّه، وما أشبه ذلك؛ لم يصح له العمل حتى يقوم له الشاهد في اليقظة، وإلا كان عاملًا بغير شريعة؛ إذ ليس بعد رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- وحي". ولا يُقَالُ: إن الرؤيا من أجزاء النبوة، فلا ينبغي أن تُهْمَلَ، وأيضًا إن المخبر في المنام قد يكون النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو قد قال: "مَنْ رَآنِي في النَّوْمِ فَقَدْ رَآنِي حَقَّا، فَإنَ الشَيْطَانَ لَا يَتَمَثلُ بِي"، وإذا كان؛ فإخباره في النوم كإخباره في اليقظة. لأنا نقول: إن كانت الرؤيا من أجزاء النبوة فليست إلينا من كمال الوحي، بل جزء من أجزائه، والجزء لا يقوم مقام الكل في جميع الوجوه، بل إنما يقوم مقامه في بعض الوجوه، وقد صُرِفَتْ إلى جهة البشارة والنذارة. وأيضًا، فإن الرؤيا التي هي جزء من أجزاء النبوة من شرطها أن تكون صالحة

من الرجل الصالح، وحصول الشروط مما ينظر فيه، قد تتوفر، وقد لا تتوفر. وأيضًا فهي منقسمة إلى الحُلْم وهو من الشيطان، وإلى حديث النفس، وقد تكون بسبب هيجان بعض أخلاط، فمتى تتعين الصالحة حتى يُحْكَمَ بها وتُتركَ غيرُ الصالحة؟ ويلزم أيضًا على ذلك أن يكون تجديدَ وحيٍ بحكمٍ بعدَ النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو منهي عنه بالإجماع. يُحكى أن شريك بن عبد اللَّه القاضي دخل على المهديِّ، فلما رآه قال: "عليَّ بالسيف والنِّطْع" (¬1)، قال: "ولم يا أمير المؤمنين؟ "، قال: "رأيت في منامي كأنك تطأ بساطي وأنت معرض عني، فقصصتُ رؤياي على مَن عبَّرها، فقال لي: يُظهر لك طاعة، ويضمر معصية"، فقال له شريك: "والله ما رؤياك برؤيا إبراهيم الخليل -عليه السلام- ولا أن معبرك بيوسف الصديق -عليه السلام-، فبالأحلام الكاذبة تضرب أعناق المؤمنين؟ "، فاستحيى المهدي، وقال: "اخرج عني"، ثم صرفه، وأبعده. وأما الرؤيا التي يخبر فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الرائي بحكم، فلابد من النظر فيها أيضًا، لأنه إذا أخبر بحكم موافق لشريعته، فالحكم بما استقر، وإن أخبر بمخالف، فمحال، لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- لا ينسخ بعد موته شريعته المستقرة في حياته، لأن الدين لا يتوقف استقراره بعد موته على حصول المرائي النومية، لأن ذلك باطل بالأجماع، فمن رأى شيئًا من ذلك فلا عمل عليه، وعند ذلك نقول: إن رؤياه غير صحيحة، إذ لو رآه حقًّا لم يخبره بما يخالف الشرع. لكن يبقى النظر في معنى قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من رآني في النوم فقد رآني"، وفيه تأويلان: أحدهما: ما ذكره ابن رشد، إذ سئل عن حاكم شهد ¬

_ (¬1) النِّطْع: بساط من الجلد، كثيرًا ما كان يُقْتَل فوقه المحكومُ عليه بالقتل.

عنده عدلان مشهوران بالعدالة في قضية، فلما نام الحاكم ذكر أنه رأى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال له: "لا تحكم بهذه الشهادة، فإنها باطلة"، فأجاب بأنه: لا يحل له أن يترك العمل بتلك الشهادة، لأن ذلك إبطال لأحكام الشريعة بالرؤيا، وذلك باطل لا يصح أن يُعتقد، إذ لا يَعلم الغيبَ من ناحيتها إلا الأنبياءُ الذين رؤياهم وحي، ومَن سواهم إنما رؤياهم جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة. ثم قال: وليس معنى قوله: "من رآني فقد رآني حقًّا" أن كل من رأى في منامه أنه رآه فقد رآه حقيقة، بدليل أن الرائي قد يراه مرات على صور مختلفة، ويراه الرائي على صفة، وغيره على صفة أخرى، ولا يجوز أن تختلف صور النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ولا صفاته، وإنما معنى الحديث: من رآني على صورتي التي خُلِقتُ عليها فقد رآني، إذ لا يتمثل الشيطان بي ... "، إلى أن قال الشاطبي -رحمه اللَّه-: "فهذا ما نقل عن ابن رشد، وحاصله يرجع إلى أن المرئي قد يكون غير النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وإن اعتقد الرائي أنه هو"، ثم قال: "نعم لا يَحكم بمجرد الرؤيا حتى يعرضَها على العلم، لإمكان اختلاط أحد القسمين بالآخر، وعلى الجملة فلا يَستدل بالرؤيا في الأحكام إلا ضعيف المُنَّة (¬1)، نعم يأتي المرئي تأنيسًا وبشارة ونذارة خاصة، بحيث لا يقطعون بمقتضاها حكمًا، ولا يبنون عليها أصلًا، وهو الاعتدال في أخذها، حسبما فُهم من الشرع فيها، واللَّه أعلم" اهـ (¬2). - وقال الإمام الشاطبي -رحمه اللَّه - تَعَالَى- في سياق الرد على من يحتج بالإلهام والكشف والرؤى المنامية: (هذه الأمور لا يصح أن تُراعى وتُعتبر؛ إلا بشرط ألَّا تخرم حكمًا شرعيًّا، ¬

_ (¬1) المُنَّة: القوة، يقال: ليس لقلبه مُنَّة. (¬2) "الاعتصام" (1/ 260 - 264) بتصرف.

ولا قاعدة دينية، فإن ما يخرم قاعدة شرعية أو حكمًا شرعيًّا ليس بحق في نفسه، بل هو إما خيال أو وهم، وإما من إلقاء الشيطان، وقد يخالطه ما هو حق وقد لا يخالطه، وجميع ذلك لا يصح اعتباره من جهة معارضته لما هو ثابت مشروع، وذلك أن التشريع الذي أتى به رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عام لا خاص، وأصله لا ينخرم، ولا ينكسر له اطراد، ولا يحاشَى من الدخول تحت حكمه مكلف، وإذا كان كذلك، فكل ما جاء من هذا القبيل الذي نحن بصدده مضادًّا لما تمهد في الشريعة؛ فهو فاسد باطل. ومن أمثلة ذلك: مسألة سئل عنها ابن رشد في حاكم شهد عنده عدلان مشهوران بالعدالة في أمر، فرأى الحاكم في منامه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: "لا تحكم بهذه الشهادة؛ فإنها باطل"، فمثل هذه الرؤيا لا معتبرَ بها في أمر ولا نهي، ولا بشارة ولا نذارة، لأنها تخرم قاعدة من قواعد الشريعة، وكذلك سائر ما يأتي من هذا النوع، وما روي "أن أبا بكر -رضي اللَّه عنه- أنفذ وصية رجل بعد موته برؤيا رؤيت (¬1)؛ فهي قضية عين لا تقدح في ¬

_ (¬1) قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في الإصابة (1/ 395، 396): "وفي البخاري مختصرًا والطبراني مطولًا عن أنس -رضي الله عنه- قال: "لما انكشف الناس يوم اليمامة قُلتُ لثابت بن قيس: ألا ترى يا عم؟ ووجدته يتحنط، فقال: ما هكذا كنا نقاتل مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، بئس ما عودتم أقرانكم، اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء، ومما صنع هؤلاء، ثم قاتل حتى قُتل، وكان عليه درع نفيسة، فمر به رجل مسلم فأخذها، فبينما رجل من المسلمين نائم أتاه ثابت في منامه، فقال: إني أوصيك بوصية فإياك أن تقول هذا حُلم فتضيعه؛ إني لما قُتلت أخَذَ درعي فلان، ومنزله في أقصى الناس، وعند خبائه فرس تستن -أي تعدو مرحًا ونشاطًا-، وقد كفى على الدرع بُرمة، وفوقها رَحْل، فأتِ خالدًا فمره فليأخذها، وليقل لأبي بكر: إن عليَّ من الدين كذا وكذا، وفلان عتيق. فاستيقظ الرجل فأتى خالدًا، فأخبره، فبعث إلى الدرع فأتى بها، وحدث أبا بكر برؤياه، فأجاز وصيته. ورواه البغوي من وجه آخر عن عطاء الخراساني عن بنت ثابت بن قيس مطولًا. اهـ، وانظر ص (142). وقال ابن تيمية -رحمه الله- في "الاختيارات الفقهية" (189): "وتصح الوصية بالرؤيا الصادقة =

القواعد الكلية لاحتمالها، فلعل الورثة رضوا بذلك، فلا يلزم منها خَرْم أصلًا". وعلى هذا فلو حصلت المكاشفة بأن هذا الماء المعين مغصوب أو نجس، أو أن هذا الشاهد كاذب، أو أن المال لزيد وقد تحصَّل بالحجة لعمرو، أو ما أشبه ذلك؛ فلا يصح له العمل على وفق ذلك ما لم يتعين سبب ظاهر؛ فلا يجوز له الانتقال إلى التيمم، ولا ترك قبول الشاهد، ولا الشهادة بالمال لزيد على حال، فإن الظاهر قد تعيَّن فيها بحكم الشريعة أمر آخر، فلا يتركها اعتمادًا على مجرد المكاشفة، أو الفراسة، كما لا يعتمد فيها على الرؤيا النومية، ولو جاز ذلك؛ لجاز نقض الأحكام بها؛ وإن ترتبت في الظاهر موجباتها، وهذا غير صحيح بحال، فكذا ما نحن فيه. وقد جاء في "الصحيح": "إنكم تختصمون إليَّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأحكمَ له على نحو ما أسمع منه" الحديث؛ فقيد الحكم بمقتضى ما يسمع، وترك ما وراء ذلك، فلم يحكم إلا على وفق ما سمع، لا على وفق ما علم، وهو أصل في منع الحاكم أن يحكم بعلمه) (¬1) اهـ. * * * ¬

_ = المقترنة بما يدل على صدقها من إقرار كاتب أو إنشاء؛ لقصة ثابت بن قيس التي نفذها الصديق رضي الله عنه". اهـ. (¬1) "الموافقات" (2/ 457 - 459).

نصوص أخر لبعض أهل العلم في المسألة

نصوص أُخَر لبعض أهل العلم في المسألة ذكر جماعة من أهل العلم منهم أبو إسحاق الإسفراييني أن من رأى النبي صلى الله عليه وأله وسلم في المنام وأمره بأمر يلزمه العمل به، ويكون قوله حجة (¬1). وقد أبى جمهور العلماء هذه الطريقة، واتفقوا على أن أي شيء مما ينتج عن الرؤيا إذا خالف الشريعة مردود، وإن وافقها فهو أمارة يؤتنس بها، وإن لم يوافقها ولم يخالفها جاز العمل بها، وهاك بعضَ نصوصِهم: - قال شيخ الاسلام ابن تيمية -رحمه اللَّه-: "الرؤيا المحضة التي لا دليل على صحتها؛ لا يجوز أن يثبت بها شيء بالاتفاق" (¬2). ونقل ابن مفلح عن شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- قال: "الإسرائيليات والمنامات لا يجوز أن يثبت بها حكم شرعي لا استحباب ولا غيره، ولكن يجوز ذكره في الترغيب والترهيب فيما لو عُلِم حُسْنُه أو قُبْحه بأدلة الشرع؛ فإنه ينفع ولا يضر، واعتقاد موجبه قدر ثواب وعقاب يتوقف على الدليل الشرعي" (¬3). اهـ. - واعترض الإمام أبو محمد علي بن حزم -رحمه الله- على من استدل على تحريم القُبلة على الصائم بما رواه بإسناده عن (عمر بن حمزة (¬4) أخبرني سالم بن عبد الله عن أبيه قال: قال عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-: رأيت رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- في المنام، فرأيته لا ينظرني، فقلت: يا رسول اللَّه، ما ¬

_ (¬1) انظر: "المدخل" لابن بدران ص (139). (¬2) "مجموع الفتاوى" (27/ 457، 458). (¬3) "مصائب الإنسان من مكائد الشيطان" ص (173). (¬4) وهو ضعيف كما في "التقريب" ص (411) رقم (4884)، وضعفه أحمد، وابن معين، والنسائي.

شأني؟! فقال: ألست الذي تُقَبِّل وأنت صائم؟! قلت: فوالذي بعثك بالحق، لا أُقَبِّل بعدها وأنا صائم. قال أبو محمد: الشرائع لا تؤخذ بالمنامات، لا سيما وقد أفتى رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- عمر في اليقظة حيًّا بإباحة القبلة للصائم (¬1)، فمن الباطل أن ينسخ ذلك في المنام ميتًا! نعوذ باللَّه من هذا. ويكفي من هذا كله أن عمر بن حمزة لا شيء). اهـ (¬2). - وقال الإمام النووي -رحمه اللَّه-: "إن الرائي وإن كانت رؤياه حقًّا، ولكن لا يجوز إثبات حكم شرعي بما جاء فيها، لأن حالة النوم ليست حالة ضبط وتحقيق لما يسمعه الرائي، وقد اتفقوا على أن من شروط مَن تُقبل روايته وشهادته: أن يكون متيقظًا لا مغفلًا ولا كثير الخطأ، ولا مختلَّ الضبط، والنائم ليس بهذه الصفة" (¬3). اهـ. - وقال ابن الحاج -رحمه اللَّه-: (إن الله لم يكلف عباده بشيء مما يقع لهم في منامهم لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "رفع القلم عن ثلاثة ... " عَدَّ منهم: "النائم حتى يستيقظ"، لأنه إذا كان نائمًا فليس من أهل التكليف، فلا يعمل بشيء يراه في نومه) (¬4) اهـ. - وقال الامام القرافي -رحمه اللَّه-: "فلو رآه عليه السلام، فقال له: إن امرأتك طالق ثلاثًا، وهو يجزم بأنه لم يطلقها؛ فهل تحرم عليه لأن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لا يقول إلا حقًّا؟ وقع فيه البحث مع الفقهاء، واضطربت ¬

_ (¬1) يشير إلى ما رواه جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: هَشِشْتُ فقبلتُ وأنا صائم، فقلت: يا رسول الله، صنعت اليوم أمرًا عظيمًا، قبلت وأنا صائم، قال: "أرأيت لو مضمضتَ من الماء وأنت صائم؟ "، قُلْتُ: لا بأس به، قال: "فمَهْ؟! " أخرجه أبو داود (2385)، وغيره، وصححه الألباني -رحمه الله-. (¬2) "المحلى" (6/ 208، 209). (¬3) نقله عنه د. محمد الأشقر في "أفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم -" (2/ 162). (¬4) "نفسه".

آراؤهم في ذلك بالتحريم وعدمه، لتعارض خبره عليه السلام عن تحريمها في النوم، وإخباره في اليقظة في شريعته المعظمة أنها مباحة له، والذي يظهر لي أن إخباره عليه السلام في اليقظة مقدم على الخبر في النوم لتطرق الاحتمال للرائي بالغلط في ضبط المثال" (¬1). اهـ. وسُئل العز بن عبد السلام -رحمه الله- عن ثواب القراءة المُهْدى للميت: هل يصل أو لا؟ فأجاب بما ملخصه: "ثواب القراءة مقصور على القارئ، لا يصل إلى غيره"، إلى أن قال: "والعجب أن من الناس من يثبت ذلك بالمنامات، وليست المنامات من الحُجَج الشرعية التي تثبت بها الأحكام" (¬2). وقال العلامة عليُّ بن سلطان محمد القاري -رحمه اللَّه-: "لا اعتماد على رؤية المنام في غير حق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، مع أن الرؤى قد تحتاج إلى تعبير يناسب الرائي أو غيره في هذا المقام، فلو فرض أن أحدًا رأى النبي عليه الصلاة والسلام، وأمره بفعل شيء أو تركه على خلاف قواعد الإسلام؛ فليس له القيام بذلك الأمر بإجماع علماء الأنام" (¬3).اهـ. وقال العلامة الشوكاني- رحمه اللَّه-: "إن الشرع الذي شرعه اللَّه لنا قد كمَّله اللَّه -عَزَّ وجَلَّ-، وقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] .. ولم يبق بعد ذلك حاجة للأمة في أمر دينها، وقد انقطعت البعثة لتبليغ الشرائع وتبيينها بالموت، وبهذا تعلم أنا لو قدَّرنا ضبط النائم لم يكن ما رآه من قوله -صلى اللَّه عليه وسلم- أو فِعْلِهِ حجةً عليه ولا على غيره من الأمة" (¬4) اهـ. ¬

_ (¬1) "الفروق" (4/ 245، 246). (¬2) "فتاوى سلطان العلماء العز بن عبد السلام" ص (43، 44). (¬3) "المقدمة السالمة في خوف الخاتمة" ص (22). (¬4) "إرشاد الفحول" ص (249).

وأخيرا إليك هذه الوقائع

وقال العلامة عبد العزيز بن باز -رحمه اللَّه-: "أما اعتماد المنامات في إثبات كون فلان هو المهدي؛ فهو مخالف للأدلة الشرعية ولإجماع أهل العلم والإيمان، لأن المرائي مهما كثرت لا يجوز الاعتماد عليها في خلاف ما ثبت به الشرع المطهر، لأن الله سبحانه أكمل لنبينا محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- ولأمته الدين، وأتم عليهم النعمة قبل وفاته -عليه الصلاة والسلام-، فلا يجوز لأحد أن يعتمد شيئًا من الأحلام في مخالفة شرعه -عليه الصلاة والسلام-" (¬1). وأخيرًا إليك هذه الوقائع: الأولى: حكى العثماني قاضي صفد أنه توجه لزيارة الشيخ الزاهد الفقيه الشافعي فرج بن عبد اللَّه المغْرِبي الصفدي صحبة الشيخ تاج الدين المقدسي، فجرت مسألة النظر إلى الأمرد، وأن الرافعي يُحَرِّمُ بشرط الشهوة، والنووي يقول: "يحرم مطلقًا"، فقال الشيخ فرج: رأيت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في المنام، فقال لي: "الحق في هذه المسألة مع النووي"، فصاح الشيخ تاج الدين، وقال: "صار الفقه بالمنامات؟! "، فخضع الشيخ فرج، وقال: "أستغفر الله، أنا حكيت ما رأيت، والبحث له طريق"، فسكت الشيخ تاج الدين، وقال: "نحن في بيتك" (¬2). الثانية: في إحدى السنوات تراءى الناس الهلال -هلال رمضان- فلم يروه، فجاء رجل إلى قاضي البلد يقول له: "لقد رأيت الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- البارحة في المنام، وأخبرني ¬

_ (¬1) "جريدة عكاظ" (18/ 1/ 1400 هـ). (¬2) "الدرر الكامنة" (3/ 311، 312).

الثالثة

أن الليلة من رمضان، وأمرني والمسلمين بالصيام". فقال له القاضي: "إن الذي تزعم أنك رأيته في المنام، قد رآه الناس في اليقظة جَهَارًا نَهارًا، وقال لهم: (صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته)؛ فلا حاجة بنا إلى رؤياك" (¬1). الثالثة: رُوِيَ أن رجلًا رأى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في النوم، فقال له: "اذهب إلى موضع كذا فاحفره، فإن فيه رِكَازًا (¬2)، فخذه لك، ولا خُمسَ عليك فيه"، فلما أصبح ذهب إلى ذلك الموضع، فحفره فوجد الرِّكَازَ فيه، فاستفتى علماء عصره، فأفتوه: بأن لا خُمسَ عليه لصحة الرؤيا، وأفتى العز بن عبد السلام بأن عليه الخمسَ، وقال: أكثر ما يُنَزَّلُ منامُه منزلةَ حديثٍ صحيح، وقد عارضه ما هو أصحُّ منه، وهو حديث "في الرِّكَازِ الخْمُسُ" (¬3). وحكى الغزالي عن بعض الأئمة: أنه أفتى بوجوب قتل رجل يقول بخلق القرآن، فروجع فيه، فاستدل بأن رجلًا رأى في منامه إبليس قد اجتاز بباب المدينة، ولم يدخلها، فقيل: "هل دخلتها؟ " فقال: "أغناني عن دخولها رجل يقول بخلق القرآن -وذكر اسمه-"، فقام ذلك الرجل، فقال: "لو أفتى إبليس بوجوب قتلي في اليقظة هل تقلدونه في فتواه؟ " فقالوا: "لا"، فقال: "قوله في المنام لا يزيد عن قوله في اليقظة! " (¬4). يقول الدكتور عمر الأشقر -حفظه اللَّه-: "الرؤيا لا تُعَدُّ تشريعًا، وبعض الأفراد والجماعات تجعل من الرؤى، والتجليات، والأفكار، وأحاديث ¬

_ (¬1) "قضايا في المنهج" ص (15). (¬2) الركاز: المراد به هنا الأجزاء المستقرة في الأرض من المعادن والجواهر كالذهب والفضة والنحاس، وانظر: "الرؤى والأحلام في السنة النبوية" تأليف عبد الله العمري ص (53). (¬3) "شرح الزرقاني على الموطأ" (2/ 101)، والحديث في البخاري (1499)، ومسلم (1710). (¬4) "الاعتصام" للشاطبي (1/ 262).

القلوب مصدرًا تشريعيًّا ينافس القرآن والسنَّة، وقد يُقَدَّمُ عليهما. الرُّؤيَا الصادقة ما هي إلا مبشِّرٌ بأمر سارٍّ، وقد تكون دعوةً إلى الاستقامة، وقد تكون تثبيتًا على الحق، وقد تُنَفِّرُ من الباطل، ولكنها لا تُشَرِّعُ شيئًا جديدًا، وقد جادلني رجل كان يَسِيرُ على بدعة لم يُشَرِّعْهَا اللَّه؛ إذ كان يَقُومُ على القبور بعد أن يُدْفَنَ أصحابها؛ لِيُلَقِّنَ الميتَ حُجَّتَهُ، ويعرفَه بما يجيب به رسلَ ربه، جادلني هذا الرجل بأن هذا مشروع، بدليل أنه رأى في منامه كيف يُفْعَلُ بالميت منذ نزع الروح إلى الدفن، وكان هذا التلقين مما رآه يُفعل، فقلت له: إن ديننا تامٌّ كامل، لا ينتظر شخصًا يكمله بالرؤيا والمنام، وكيف يكون جوابك عندما يأتيك آخَرُ يزعم أنه رأى خلاف ما رأيت؟! ومن الذي نتبعه: أنت أم هو؟ كلا، لا نتبع إلا خير الهدي؛ هديَ محمدٍ -صلى اللَّه عليه وسلم-" (¬1). * * * ¬

_ (¬1) "جولة في رياض العلماء وأحداث الحياة" ص (114).

الرؤيا والاستخارة

الرؤيا والاستخارة يظن كثير من الناس أن المستخير لا بد له أن يرى في منامه -بعد الاستخارة- رؤيا ترشده إلى الخير في الأمر الذي يستخير فيه، لذلك يحرصون على أداء الاستخارة ليلًا والنوم بعدها، وذلك ظن غير صحيح، لأنه لا يستطيع الجزم هل ما يراه رؤيا أم حديث نفس أم حُلْم شيطاني. قال ابن الحاج المالكي -رحمه الله-: "وبعضهم يستخير الاستخارة الشرعية، ويتوقف بعدها حتى يرى منامًا يفهم منه فِعْلَ ما استخار فيه أو تَرْكه، أو يراه غيرُه له، وهذا ليس بشيء؛ لأن صاحب العصمة -صلى اللَّه عليه وسلم- قد أمر بالاستخارة والاستشارة لا بما يُرى في المنام" (¬1). وقال العلَّامة بكر بن عبد الله أبو زيد -رحمه الله-: "النوم بعد الاستخارة لعله -أي: المستخير- يرى رؤيا تدله على أحد الأمرين: عمل لا أصل له". اهـ (¬2). ومن البدع المتعلقة بالاستخارة أن يشترط المستخير أن يُريه الله في منامه خُضرةً أو بياضًا إذا كان ما يقصده خيرًا، ويرى حُمْرةً أو سوادًا إذا كان ما يقصده لا خير فيه (¬3). وعلى العبد إذا استخار ربه -عز وجل- أن يمضي بعد الاستخارة في الأمر الذي هَمَّ به؛ لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ثم يعزم" أي: يقدم على فعل ما استخار فيه. عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "لما تُوفِّيَ رسول الله -صلى اللَّه ¬

_ (¬1) "المدخل" (4/ 37). (¬2) "تصحيح الدعاء" ص (488). (¬3) "القول المبين في أخطاء المصلين" للشيخ مشهور حسن ص (409).

عليه وسلم- كان بالمدينة رجل يُلْحِد، وآخر يُضَرِّح (¬1)، فقالوا: نستخير ربنا ونبعث إليهما، فايهما سبق تركناه، فأرسل إليهما، فسبق صاحب اللحد، فلحدوا للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم-" (¬2). وفيه: أن أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لما استخاروا مضوا في الأمر دون اعتبار لرؤيا أو انشراح الصدر (¬3)، بل انتظروا ما يسره الله، واختاره، فعملوا به. * * * ¬

_ (¬1) اللاحد والضارح: الذي يعمل اللَّحْد، والضَّريح، واللحد: الشق الذي يُعمل في جانب القبر لموضع الميت، لأنه قد أُميل عن وسَط القبر إلى جانبه، والضريح هو القبر، فعيل بمعنى مفعول، من الضَّرْح: الشق في الأرض. (¬2) أخرجه ابن ماجه (1557)، وسنده حسن كما قال الحافظ في "التلخيص" (2/ 125) رقم (53)، وانظر: "أحكام الجنائز" للعلامة الألباني ص (183). (¬3) إذ لا دليل أيضًا على انشراح الصدر، وقد ينشرح الصدر لهوًى في النفس داخَلَها قبل الاستخارة، قال العز بن عبد السلام -رحمه الله-: "يفعل ما اتفق"، نقله عنه الحافظ في "الفتح" (14/ 422)، طبعة دار طيبة - الرياض. وقال ابن الزملكاني -رحمه الله-: "إذا صلى الإنسان ركعتي الاستخارة لأمر، فليفعل بعدها ما بدا له سواء انشرحت نفسه أم لا، فإن فيه الخير، وإن لم تنشرح له نفسه، قال: وليس في الحديث اشتراط انشراح النفس". اهـ. من "طبقات الشافعية الكبرى" (9/ 206). وقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: "والمعتمد أنه لا يفعل ما ينشرح به صدره مما له فيه هوًى قوي قبل الاستشخارة". اهـ. من "فتح الباري" (14/ 422)، طبعة دار طيبة - الرياض، فالذي ينوي فعل أمرٍ ما، عليه التحري حوله جيدًا، والسؤال عنه، والاستشارة فيه، فإن هَمَّ بفعله استخار فيه متجردًا من كل ميل وهوًى، ثم أقدم عليه، وباشَرَ فِعْلَ ما يريد: فإن كان خيرًا يسره الله، وإن كان شرًّا صرفه الله.

دلالة رؤى الأنبياء على الأحكام

دلالة رؤى الأنبياء على الأحكام رؤى الأنبياء عليهم السلام: لا خلاف في ترتب الأحكام الشرعية على رؤى الأنبياء -عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام- لأنها وحي من الله -عز وجل-، فالرؤى وسيلة من وسائل تلقي التكاليف الشرعية، والنواميس الإلهية التي بها تنتظم أمور العباد مما يتعلق بالمعاش والمعاد، وهذا مختص بالأنبياء -عليهم أفضل الصلاة والسلام- (¬1)، "فأول ما بُدئَ به رسول الله -صلى اللَّه عليه وسلم- من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح" (¬2). وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أُريتُ ليلة القدر، ثم أيقظني بعض أهلي، فنسيتُها، فالتمسوها في العشر الغوابر" (¬3). - وإذا رأى بعض الصحابة -رضي الله عنهم- رؤيا في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم أقرَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عليها، فإن الأحكام الشرعية تترتب عليها لا لذاتها، ولكن لتقرير النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إياها، كما وقع من عبد الله بن زيد -رضي الله عنه- عندما رأى من علَّمه ألفاظ الأذان، وقال له النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنها لرؤيا حق إن شاء الله، فقم مع بلال فألقِ عليه ما رأيت فليؤذن به، فإنه أندى صوتا منك" الحديث (¬4). ¬

_ (¬1) وقد شرع خليل الرحمن إبراهيم -عليه السلام- في ذبح ابنه إسماعيل -عليه السلام- لما رأى الرؤيا، كما قصَّه الله -تعالى- في سورة الصافات (الآيات 99 - 112)، فهذا النوع من الوحي يدخل تحت قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا} [الشورى: 51]، فالوحي هنا يشمل الرؤيا والإلهام. (¬2) أخرجه البخاري (1/ 22)، ومسلم رقم (252) (1/ 139 - 142)، وغيرهما. (¬3) انظر: "فتح الباري" (4/ 259)، والحديث رواه مسلم (2/ 823) (207). (¬4) أخرجه أبو داود (1/ 135، 136) (499)، والترمذي (1/ 358 - 362) (189)، وقال: "حسن =

وأمر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أصحابه بالسجود في سورة "ص" اعتمادًا على رؤيا أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- لما رأى أنه يكتب سورة "ص"، فلما بلغ السجدة، سجدت الدواة والقلم وكل شيء بحضرته، فقصها على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فلم يزل يسجد بها (¬1). فالعمل بهذه الرؤى ليس من العمل برؤيا غير الأنبياء، بل هو من العمل بقول رسول الله -صلى اللَّه عليه وسلم- فيمكن أنه علم بحقيقة الرؤى بوحي أو إلهام، أو بأي وجهٍ كان -والله تعالى أعلم-. * * * ¬

_ = صحيح"، وابن ماجه (1/ 222، 223)، (706)، والإمام أحمد (4/ 42، 43)، وغيرهم، وصححه البخاري، وابن خزيمة، والنووي، ومن المعاصرين الألباني، وشعيب الأرناؤوط. (¬1) أخرجه الإمام أحمد (3/ 78، 84)، والحاكم (2/ 432)، وسكت عليه، وصححه الذهبي على شرط مسلم، والبيهقي (2/ 320)، وقال المنذري: "رواه أحمد، ورواته رواة الصحيح"، كما في "الترغيب" (2/ 356) (35)، وقال الهيثمي: "رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح"، كما في "المجمع" (2/ 284).

من فوائد الرؤى

من فوائد الرؤى لا تُستفاد الأحكام الشرعية من رؤى غير الأنبياء -عليهم السلام-، لكن يُستفاد منها: أولًا: البشارة والنذارة وقد سمى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الرؤيا الصادقة "المبشرة"، وفي معناها: "المنذرة" (¬1)، وفائدة المبشرات أنها ترغِّب في المزيد من الطاعات، وفائدة "المنذرات" الردع عن المخالفات. عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: إنَّ رجالًا، من أصحاب رسول الله -صلى اللَّه عليه وسلم- كانوا يرون الرؤيا على عهد رسول الله -صلى اللَّه عليه وسلم-، فيقصونها على رسول الله -صلى اللَّه عليه وسلم-، فيقول فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما شاء الله، وأنا غلام حديث السن، وبيتي المسجدُ قبل أن أنكح، فقلت في نفسي: لو كان فيك خيرٌ لرأيتَ مثل ما يرى هؤلاء، فلما اضطجعت ليلة قلت: اللهمَّ إن كنتَ تعلم فيَّ خيرًا فأرني رؤيا، فبينما أنا كذلك إذْ جاءني مَلَكان في يد كل واحد منهما مقمعة من حديد، يقبلان بي إلى جهنم، وأنا بينهما أدعو الله: اللهمَّ أعوذ بك من جهنم، ئم أُراني لقيني مَلَك في يده مقمعة من حديد، فقال: "لن تُراعَ (¬2)، نعم الرجل أنت لو تكثر من الصلاة"، فانطلقوا بي حتى وقفوا بي على شفير (¬3) جهنم، فإذا هي مطوية كطي ¬

_ (¬1) (والمنذرة قد ترجع إلى معنى المبشرة؛ لأن من أُنذر بما سيقع له -ولو كان لا يسره- أحسنُ حالًا ممن هجم عليه ذلك، فإنه ينزعج ما لا ينزعج مَن كان يعلم بوقوعه، فيكون ذلك تخفيفًا عنه ورفقًا به). اهـ. من "فتح الباري" (12/ 372). (¬2) أي: لا فزع، ولا خوف، كما في "النهاية" (2/ 277). (¬3) أي: على جانبها وحرفها، كما في "النهاية" (2/ 485).

البئر، له قرون كقرون البئر، بين كل قرنين مَلَك بيده مقمعة من حديد، وأرى فيها رجالًا معلقين بالسلاسل، رؤوسهم أسفلهم، عرفت فيها رجالًا من قريش، فانصرفوا بي عن ذات اليمين، فقصصتُها على حفصة، فقصتها حفصة على رسول الله -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال رسول الله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّ عبد الله رجل صالح"، فقال نافع: "لم يزل بعد ذلك يكثر من الصلاة بالليل" (¬1). * * * ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3/ 6) (1121)، ومسلم (14/ 1927) (140)، وغيرهما.

ثانيا: الرؤيا قد تصحح مسار حياة الإنسان

ثانيًا: الرؤيا قد تصحح مسار حياة الإنسان عن جعفر الصائغ قال: كان في جيران أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رجل ممَّن يمارس المعاصي والقاذورات، فجاء يومًا إلى مجلس أحمد يسلم عليه، فكأن أحمد لم يردَّ عليه ردًّا تامًّا، وانقبض منه، فقال له: يا أبا عبد الله، لِمَ تنقبض مني؟! فإني قد انتقلتُ عما كنت تعهدني برؤيا رأيتُها، قال: وأي شيءٍ رأيتَ؟ قال: رأيتُ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في النوم كأنَّه على علوٍّ من الأرض، وناسٌ كثير أسفل جلوسٌ، قال: فيقوم رجل منهم إليه، فيقول: "ادعُ لي"، فيدعو له، حتى لم يبق من القوم غيري، قال: فأردتُ أن أقوم، فاستحييتُ من قبيح ما كنتُ عليه، قال لي: "يا فلان، لِمَ لا تقومُ إليَّ فتسألني أن أدعو لك؟ " قال: قُلْتُ: يا رسول الله، يقطعني الحياءُ لقبيح ما أنا عليه، فقال: "إن كان يقطعك الحياء؛ فقم فسلني أدعُ لك؛ فإنك لا تسب أحدًا من أصحابي"، قال: "فقمتُ، فدعا لي، فانتبهتُ وقد بَغَّضَ اللَّهُ إليَّ ما كنتُ عليه"، قال: فقال لنا أبو عبد الله: "يا جعفر، يا فلان، حدِّثوا بهذا، واحفظوه؛ فإنه ينفع" (¬1). وحكى أحمد بن كامل الشَّجَري -القاضي- تلميذ الإمام أبي جعفر محمد بن جرير الطبري - قال: قال لي أبو جعفر: رأى لي أبي في النوم أنني بين يدي رسول الله- صلى اللَّه عليه وسلم-، وكان معي مِخلاة مملوءة حجارة، وأنا أرمي بين يديه، فقال المُعَبّر: "إنه إن كبُر نصح في دينه، وذَبَّ عن شريعته"، فحرِص أبي على معونتي على طلب العلم، وأنا حينئذ صغير (¬2). ¬

_ (¬1) "كتاب التوابين" ص (264، 265). (¬2) "رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام" لمحمد شومان الرملي ص (89).

- وكان من أسباب توجه الإمام العجلوني إلى طلب العلم أنه لما كان في بلاده، وكان صغيرًا يقرأ في "المكتب" رأى في عالم الرؤيا أن رجلًا ألبسه جوخة خضراء مركبة على فرو أبيض في غاية الجودة والبياض، وقد غمرته لكونها سابغة على يديه ورجليه، فأخبر والده بالمنام، فحصل له بذلك السرور التام، وقال له: "إن شاء الله يُجعل لك يا ولدي من العلم الحظ الوافر"، ودعا له بذلك (¬1). * * * ¬

_ (¬1) "أغرب وأظرف الرؤى والأحلام" للدكتور محمد غنيم ص (87).

ثالثا: الرؤى دليل على بقاء الأرواح بعد فناء الأبدان

ثالثًا: الرؤى دليل على بقاء الأرواح بعد فناء الأبدان - فإن كثيرًا من الناس يرى أباه أو ابنه في المنام، ويقول له: اذهب إلى الموضع الفلاني فإن فيه ذهبًا دفنته لك، وقد يراه فيوصيه بقضاء دين عنه، ثم عند اليقظة إذا فتش عنه كان كما رآه في النوم من غير تفاوت، ولولا أنَّ روح الإنسان باقية بعد الموت لما وقع ذلك. "عن أنس -رضي اللَّه عنه-: أن ثابت بن قيس جاء يوم اليمامة وقد تحنط ولبس أكفانه، وقد انهزم أصحابه، وقال: اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء، وأعتذر إليك مما صنع هؤلاء، فبئس ما عوّدتم أقرانكم، خلوا بيننا وبين أقراننا ساعة، ثم حمل فقاتل ساعة فقُتل، وكانت درعه قد سُرِقت، فرآه رجل فيما يرى النائم، فقال: إن درعي في قِدْر تحت إكاف بمكان كذا وكذا، وأوصى بوصايا، فطُلب الدرعُ فوُجِد حيث قال، فأنفذوا وصيته" (¬1). * * * ¬

_ (¬1) تقدم ص (69) هامش (1)، وانظر ص (142).

رابعا: الرؤى وسيلة تواصل مع الأموات

رابعًا: الرؤى وسيلة تواصل مع الأموات فقد يطلع الأحياء من خلال الرؤى على أحوال الأموات، وقد يفيد هذا في معرفة ما هم فيه من الكرامة والنعيم، أو المرارة والعذاب الأليم، وربما تعين الرؤية على استدراك ما فاتهم من الطاعات، وجبران ما عليهم من التبعات، وقد يخبرون عن سبب ما هم فيه من الآلام. عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر: 42]، قال: "تلتقي أرواح الأحياء والأموات في المنام، فيتساءلون بينهم، فيمسك الله أرواح الموتى، ويرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها" (¬1). وعن جابر -رضي الله عنه- "أنَّ الطفيل بن عمرو الدَّوْسِيَّ أتى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، هل لك في حصن حصين ومَنَعَةٍ؟ (قال: حصن كان لِدَوْسٍ في الجاهلية) فأبى ذلك النبيُّ للذي ذخر الله للأنصار، فلما هاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، هاجر إليه الطفيل بن عمرو، وهاجر معه رجل من قومه، فاجتووا (¬2) المدينة، فمرض، فجزع، فأخذ مَشَاقِصَ (¬3) له، فقطع بها براجِمه (¬4)، فشخبت (¬5) يداه حتى مات، فرآه الطفيل بن عمرو في منامه، فرآه وهيئته حسنة، ورآه مغطيًا يديه، فقال له: ما صنع بك ربك؟ قال: غفر لي بهجرتي إلى نبيه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال: ما لي أراك مغطيًا يديك؟ قال: قيل لي: لن نصلح منك ما أفسدتَ، فقصها الطفيل ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني في "الأوسط" (1/ 116، 117) (122)، وقال الهيثمي: "ورجاله رجال الصحيح". اهـ. من "مجمع الزوائد" (7/ 100). (¬2) اجتويت البلد: إذا كرهت المقام فيه، وإن كنت في نعمة. "النهاية" (1/ 318). (¬3) المشقص: نَصْل السهم إذا كان طويلًا غير عريض. "النهاية" (2/ 490). (¬4) البراجم: هي العقد التي في ظهور الأصابع. "النهاية" (1/ 113). (¬5) الشَّخْب: السيلان.

على رسول الله -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: اللهم وليديه فاغفر" (¬1). كما أنها طريق إلى الاطلاع على أحوال الأقارب والأحباب الأحياء في مكان ما من العالم، فقد يتعرف النائم على أخبار حبيبه الذي غاب عنه من خلال الرؤيا في المنام. عن عمارة بن خزيمة بن ثابت أنَّ أباه قال: "رأيت في المنام كأني أسجد على جبهة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأخبره بذلك، فقال: إنَّ الروح ليلقى الروح، وأقنع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رأسَه هكذا، قال عفان برأسه إلى خلفه، فوضع جبهته، على جبهة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-" (¬2). وإليك هذه القصة الواقعية التي أوردها الشيخ محمد بن عبد العزيز، قال: هذه القصة ذكرها الواعظ المشهور "صالح المالك" في موعظة له في المسجد، نقلًا عن رجل كان من الحاضرين أشار إليه في بداية روايته لهذه القصة: (شيخ كبير في السن كان سببًا في هداية أسرة كاملة، كانت غافلة لاهية تقضي معظم وقتها أمام شاشة التلفاز لمشاهدة الصور المحرمة ومسلسلات الحب والغرام والهيام، فما هي تفاصيل القصة؟ .. لنترك المجال لهذا الشيخ الكبير ليحدثنا عن التفاصيل، يقول: في يوم من أيام شهر رمضان المبارك كنت نائمًا في المسجد بعد صلاة الظهر، فرأيت فيما يرى النائم رجلًا أعرفه من أقاربي قد مات -ولم أكن أعلم أن في بيته تلفازًا- جاءني، فضربني بقدمه ضربة كدت أُصرع من ضربته، وقال لي: ¬

_ (¬1) رواه البخاري في "الأدب المفرد" ص (125)، ومسلم -واللفظ له- (1/ 108، 109) رقم (184)، وغيرهما. (¬2) أخرجه النسائي في "الكبرى" (4/ 384) (7631)، والإمام أحمد (5/ 214 - 216)، وابن حبان (9/ 140) (7105)، والحاكم (3/ 396)، وسكت عليه هو والذهبي، وقال الهيثمي: "رواه أحمد والطبراني، ورجالهما ثقاث". اهـ. من "المجمع" (7/ 182)، وصححه شعيب الأرناؤوط في "تحقيق شرح السنة" (12/ 225).

"يا فلان، اذهب إلى أهلي، وقل لهم: يخرجون التلفاز من بيتي". قال الشيخ: وكنت أرى هذا التلفاز في بيته، وكأنه كلب أسود، والعياذ بالله .. قال: فاستيقظت من نومي مذعورًا، واستعذت بالله من الشيطان الرجيم، وعدت إلى نومي .. فجاءني في المنام مرة ثانية، وضربني ضربة أقوى من الأولى، وقال لي: "قم، واذهب إلى أهلي، وقل لهم: يخرجون التلفاز من بيتي، لا يعذبونني به". قال: فاستيقظت مرة ثانية، وهممت أن أقوم، ولكني تثاقلت، وعدت إلى نومي، فجاءني في المرة الثالثة، وضربني في هذه المرة ضربة أعظم من الضربتين الأوليين، وقال لي: "يا فلان قُمْ! .. اذهب إلى أهلي، وقل لهم يُخَلِّصونني مما أنا فيه خلَّصك الله". قال: فاستيقظت من نومي، وعلمت أن الأمر حقيقة، فلما صليت التراويح من ذلك اليوم؛ ذهبت إلى بيت صاحبي -وهو قريب لي- فلما دخلت إذا بأهله وأولاده قد اجتمعوا عليه ينظرون إليه، وكأن على رؤوسهم الطير، فجلست، فلما رأوني، قالوا مستغربين: "ما الذي جاء بك يا فلان في هذا الوقت فليس هذا من عادتك؟ " قال: فقلت لهم: "جئت لأسألكم سؤالًا فأجيبوني عليه .. لو جاءكم مخبر، وأخبركم أن أباكم في نار جهنم، أو يُعذب في قبره هل ترضون بذلك؟ قالوا: "لا .. ندفع كل ما نملك مقابل نجاة أبينا من العذاب". قال: فأخبرتهم بما رأيته في المنام من حال أبيهم، فانفجروا جميعًا بالبكاء، وقام كبيرهم إلى ذلك الجهاز "التلفاز"، وكسَّره تكسيرًا أمام الجميع معلنًا التوبة ... ولكن القصة لم تنته بعد .. قال الشيخ: فرأيته بعد ذلك في النوم؛ فقال لي: "خَلَّصك الله كما خلصتني" (¬1). ¬

_ (¬1) "العائدون إلى الله" ص (81 - 83).

خامسا: وقد تفيد الرؤية تزكية بعض الصالحين، وذم من سواهم

خامسًا: وقد تفيد الرؤية تزكية بعض الصالحين، وذم من سواهم قال محمد بن يوسف الفِرَبْرِيُّ: سمعت محمدًا البخاري بخوارزم يقول: "رأيت أبا عبد الله محمد بن إسماعيل (أي البخاري) -يعني في المنام- خلف النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يمشي، فكلما رفع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قدمه، وضع أبو عبد الله محمد بن إسماعيل قدمه في ذلك الموضع". اهـ (¬1). وقال كذلك: "رأيت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في النوم، فقال لي: أين تريد؟ فقلت: أريد محمد بن إسماعيل البخاري. فقال: أقرئه مني السلام". اهـ (¬2). وقال الحافظ أبو موسى المديني: حدثنا مَعْمَر بن الفاخر، حدثنا عمي، سمعت أبا نصر بن أبي الحسن يقول: قيل للصاحب إسماعيل بن عباد: "أنت رجل معتزلي وابن المقرئ (¬3) محدِّث، وأنت تحبه! "، قال: "لأنه كان صديق والدي، وقد قيل: مودة الآباء قرابة الأبناء، ولأني كنت نائمًا فرأيت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول لي: أنت نائم، وولي من أولياء الله على بابك؟! فانتبهت، ودعوت، وقلت: مَن بالباب؟ فقال: أبو بكر بن المقرئ" (¬4). وحكى أبو بشر القطان قال: رأى جار لابن خزيمة -إمام الأئمة- من أهل ¬

_ (¬1) "تاريخ بغداد" (2/ 9، 10). (¬2) "نفسه" (2/ 10). (¬3) هو الشيخ الحافظ الجوال الصدوق، مسند الوقت، أبو بكر بن محمد بن إبراهيم بن علي بن عاصم بن زاذان الأصبهاني ابن المقرئ، صاحب "المعجم"، والرحلة الواسعة، (ت 381). (¬4) "سير أعلام النبلاء" (16/ 401).

العلم كأن لوحًا عليه صورة نبينا -صلى اللَّه عليه وسلم-، وابن خُزيمة يصقُلُه، فقال المعبِّر: "هذا رجلٌ يُحيي سنة رسول الله -صلى اللَّه عليه وسلم-" (¬1). وروى الإمام ابن عساكر بإسناده عن إسماعيل بن عبد الغافر الفارسي قال: سمعت الإمام أبا المعالي الجويني قال: كنت بمكة أتردد في المذاهب، فرأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- في المنام، فقال: "عليك باعتقاد ابن الصابوني" (¬2). * * * ¬

_ (¬1) "سير أعلام النبلاء" (14/ 372 - 373). (¬2) "تاريخ دمشق" (9/ 12)، وابن الصابوني هو الإمام العلامة القدوة المفسر المحدث شيخ الإسلام أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن النيسابوري الصابوني، كان من أئمة الأثر، له مصنف في السنة واعتقاد السلف، ما رآه منصف إلا واعترف له، (ت 449)، راجع "سير أعلام النبلاء" (18/ 40).

سادسا: وقد تكون الرؤية وسيلة لاكتشاف ما ينفع البشر

سادسًا: وقد تكون الرؤية وسيلة لاكتشاف ما ينفع البشر - فقد حاول الكيميائي الألماني "فريدريك أوجست كيكولي" مرارًا أن يصل إلى التركيب الكيميائي للبنزين، لكنه كان يفشل على الدوام، وذات ليلة رأى في منامه ستة ثعابين كان كل واحد منها يعض ذيل الآخر، لتتكون من ذلك حلقة كبيرة دوارة، فلما أفاق من نومه واستيقظ وجد لديه حل مشكلته، وهو أن تكوين البنزين يشبه حلقة الثعابين الستة، ويتكون من حلقة مغلقة من ست ذرات كربون (¬1). وهذا "فريدريك نانتنج" مكتشف الإنسيولين يقوم بتجارب مضنية لاستخلاص تلك المادة الحيوية، وبعد أن أعياه البحث رأى في منامه رؤيا تدله على طريقة استخلاص الإنسيولين من بنكرياس الكلب، وحين يستيقظ يقوم بالتجربة، وينجح في استخلاص تلك المادة الحيوية التي أنقذت، ومازالت، الملايين من مرضى "البول السكري" (¬2). في عام 1967 م أُنشئ في بريطانيا "مكتب التوقعات البريطاني" لمحاولة تتبع الأحلام التي تدل أو تشير إلى كوارث عامة أو قضايا تخص المجتمع كله، وذلك لمحاولة تلافي حدوثها، أو تقليل آثارها إن حدثت. وقد أُنشئ هذا المكتب بعد وقوع كارثة في قرية بريطانية تدعى "إيبرفاين" سنة 1966 م حيث انهار جبل من الفحم على تلك القرية مما أدى إلى وفاة عدد ¬

_ (¬1) "نوادر الحكايات في الرؤى والمنامات" ص (21). (¬2) "الأحلام بين العلم والعقيدة" للدكتور علي الوردي ص (182)، و"النوم والرؤى والأحلام" للدكتور السيد سلامة السقا ص (65).

كبير من الأفراد معظمهم من الأطفال، وبتتبع أخبار الكارثة وُجد أن عددًا كبيرًا من أهل القرية وأطفالها كانوا قد رأوا الكارثة أو ما يشير إلى حدوثها في منامهم" (¬1). أما العالم الفارماكولوجي "أتولوي" الذي حاز على جائزة نوبل في الفسيولوجي والطب في عام (1936 م)، فقد كان يقوم باختبارات على الضفادع في محاولة للتوصل إلى طبيعة النقل العصبي (نقل الإثارات العصبية)، غير أنه لم يستطع التقدم في أبحاثه إلى نقطة الحل ... وذات ليلة أفاق من حلمه وقد انجلت له في آن واحد نظرية "النقل العصبي" والتجربة المختبرية اللازمة لاختبارها، وراح يخط بعض الكلمات في ورقة ثم رجع إلى نومه، وفي الصباح وجد بأن ما خطه على قصاصة الورق لا يستطيع فهمه، كما أنه لم يتمكن من استعادة ذكرى حلمه في الليل، وحاول جاهدًا أثناء النهار استعادة ذلك الحلم، ولكن دون جدوى، وفي الليلة التالية عاد له الحلم ثانية، وفي هذه المرة استفاق ولم يعد إلى النوم، وإنما ارتدى ملابسه، وذهب مباشرة إلى مختبره، وقام بإجراء التجارب التي تبينت له في حلمه، والتي أثبتت بأن الفعل العصبي يحدث بواسطة مواد كيمياوية، وهو الاكتشاف الذي منح عليه جائزة نوبل لاكتشافه له" (¬2). * * * ¬

_ (¬1) "أغرب وأظرف الرؤى والأحلام" ص (26)، و"النوم والرؤى والأحلام" للدكتور السقا ص (66). (¬2) "باب النوم وباب الأحلام" د/ علي كمال (716 - 717).

الفصل الثاني دلالات خوارق العادات

الفصل الثاني دَلَالَات خوارِقِ العَادَاتِ

وخرق العادة أنواع

الفصلُ الثَّانِي دِلَالَاتُ خَوَارِقِ العَادَاتِ ظهرت بعض خَوَارِقِ العادات على يد بعض من ادَّعَوا المهدية، الذين وظَّفوها للترويج لدعواهم، وبالتالي انساق وراءهم كثير من العوام، وبعض الخواص، فنشأ عن ذلك كثير من الفتن، من أخطرها ادِّعَاءُ أو نسبة أولئك إلى العصمة، الأمر الذي يترتب عليه طاعة عمياء في كل ما يأمرونهم به، مما يُعَدُّ تعديًا صريحًا على مصادر التلقي، والمرجعية الشرعية. وخَرقُ العَادَةِ أَنوَاعٌ (¬1): 1 - إذا جرى على يد نبيٍّ، فهو المعجزة (¬2) التي يُقصد بها إظهارُ صِدْقِ مَن ¬

_ (¬1) انظر: "الموسوعة الفقهية" (34/ 216 - 221). (¬2) عبَّر القرآن الكريم عما أيَّد الله -تعالى- به الأنبياء من أجل إيمان الناس بهم بالآيات، وسماها علماء الإسلام "دلائل النبوة" و"أعلام النبوة" -انظر: "الجواب الصحيح" لابن تيمية (5/ 412) - بينما اصطلح المتكلمون على تسميتها معجزات، والمعجزة لغةً: ما يُعجزُ الخصمَ عند التحدي. واعلم -وفقك الله- أن جعل خرق العادة "حدًّا" لمعجزات الأنبياء غير صحيح، فالذين سموا الآيات خوارق للعادات وعجائب ومعجزات -إذا جعلوا ذلك شرطًا فيها، وصفة لازمة لها؛ بحيث لا تكون الآيات إلا كذلك- فهذا صحيح، وأما إذا جعلوا ذلك حَدًّا لها وضابطًا، فلا بد أن يقيدوا كلامهم، مثل أن يقولوا: "خوارق العادات التي تختص بالأنبياء"، ويقولوا: "خوارق عادات الناس كلهم غير الأنبياء"، فإن آياتهم لا بد أن تخرق عادة كل أمة من الأمم، ولهذا لم يكن في كلام الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- وسلف الأئمة وأئمتها وصف آيات الأنبياء بمجرد كونها خارقة للعادة، ولا يجوز أن يُجعل مجرد خرق العادة هو الدليل، فإن هذا لا ضابط له، وهو مشترك بين الأنبياء وغيرهم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "فإذا أتى مدعي النبوة بالأمر الخارق للعادة الذي لا يكون إلا لنبي لا يصلح مثله لساحر ولا لكاهن ولا لغيرهما، كان دليلًا على نبوته". اهـ. من "ثبوت النبوات" ص (167). وقال -رحمه اللَّه- أيضًا: "فلا بد في آيات الأنبياء من أن تكون مع كونها خارقًا للعادة أمرًا غير معتاد لغير الأنبياء، بحيث لا يقدر عليه إلا الله الذي أرسل الأنبياء، ليس مما يقدر عليه غير الأنيياء =

ادَّعى النبوة، مع عجز المنكرين عن الإتيان بمثله (¬1). 2 - الإرهاص: ما يظهر من الخوارق قبل ظهور النبي (¬2). 3 - الاستدراج: ما يظهر من خارق للعادة على يد كافرٍ أو فاسق (¬3). 4 - الكرامة: ظهور أمر خارق للعادة على يد شخص ظاهر الصلاح (¬4)، غير مقارن لدعوى النبوة والرسالة. إن التمييز بين هذه الأنواع من الخوارق من الأهمية بمكان، وبخاصة التفريق بين ضِدَّين هما الاستدراج والكرامة، وذلك لأن العوام ومن لا يحسنون ¬

_ = لا بحيلة ولا عزيمة ولا استعانة بشياطين ولا غير ذلك". اهـ. من "ثبوت النبوات" ص (169). وقد أبدع شيخ الإسلام -رحمه الله- في هذه القضية أيما إبداع، وجلَّى حقائقها في كتابه الرائع "ثبوت النبوات عقلًا ونقلًا والمعجزات والكرامات"، فتدارسْه فإنه نفيس في بابه. (¬1) ومن خصائص معجزات الأنبياء أنه لا يمكن معارضتها، فإذا عجز النوع البشري غير الأنبياء عن معارضتها، كان ذلك أعظم دليل على اختصاصها بالأنبياء. قال شيخ الإسلام: "الآية الدالة على النبوة لا تظهر إلا على يد نبي". اهـ. من "ثبوت النبوات" ص (608). (¬2) الإرهاص: قسم من الخوارق، وهو الخارق الذي يظهر من النبي -أو غيره- قبل البعثة للتبشير بها، وسُمِّىَ به لأن الإرهاص في اللغة: بناء البيت، فكأنه بناءُ بيتِ إثباتِ النبوة. انظر: "التعريفات" للجرجاني ص (38)، و"تاج العروس" للزبيدي (1/ 325). (¬3) قال العلامة صنع الله بن صُنع اللَّه الحنفي (ت: 1120 هـ) في كتابه: "سيف الله على من كذب على أولياء الله" ص (103): "يقع الاستدراج لبعض الظلمة والفُسَّاق والجُهَّال، بل والكفرة أحيانًا استدراجًا لهم، وزيادةٌ في غَيِّهم، وفي التنزيل: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} [الأنعام: 44] وفي الحديث: "إذا رأيت الله يُعطي العبدَ ما يُحِبُّ، وهو مُقيم على معصيته، فإنما ذلك استدراج"، ثم قرأ: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ} [الأنعام: 44]. وفي آخَر: "إن الله ليُملي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفْلِتْه"، قال: ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102] ". اهـ. (¬4) وقد يحدث خرقُ العادة على جهة (المعونة) كما يقع لبعض العوام، وجُهَّال المؤمنين عند إضرارهم، تخليصًا لهم من ضِيق وبلاء لطفًا بهم، وتثبيتًا لهم؛ وإكرامًا لنبيهم، وانظر: "سيف الله" لصنع الله الحنفي ص (104).

العلم يربطون بين خرق العادة بمجرده وبين وَلاية اللَّه -تَعَالَى-، فعندهم كل من خُرِقَتْ له العادة فهو ولي، ويترتب على ذلك خطأ ثانٍ، وهو الافتتان بذلك "الولي" والغلو فيه الذي يَصِلُ أحيانًا إلى ادِّعَاء عصمته. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه اللَّه تعالى-: "المراتب ثلاثة: آيات الأنبياء، ثم كرامات الصالحين، ثم خوارق الكفار والفجار كالسحرة والكهان، وما يحصُل لبعض أهل الكتاب والضُلَّال من المسلمين" (¬1). * * * ¬

_ (¬1) "ثبوت النبوات" ص (130).

بين المعجزة والكرامة

بَينَ المعُجِزَةِ والكرامَةِ مما يتعلق بتمييز الكرامة عن غيرها من خوارق العادات؛ التمييز بين الولي الذي يجوز أن تحدث له الكرامة، وبين من هو أعلى منه منزلة؛ وهو النبي، أو من يَدَعِي مثل منزلته كذبًا وبهتانًا، وهو الْمُشَعْوِذُ والساحر وغيرهما. فأما الفرق بين النبي والولي من جهة الخارق الذي يجري على يد كل منهما، فقد علمنا أن النبي تجري على يده المعجزات، وهي نوعان، سَمَّاهَا "ابن تيمية" معجزات كبرى، وهي دليل صدقه، ونوع من التوابع والنوافل سَمَّاها معجزات صغرى. والولي تحدث على يده الكرامات، وقد تشتبه بالمعجزات الصغرى، أو تماثلها، ولكن النبي يختص بالعصمة دون الولي، فالمعجزة للنبي دليل على عصمته من الخطأ فيما أُرِسل من أجله، وهو التشريع. أما الولي فكرامته إنما تدل على صدق النبي الذي آمن به هذا الولي، واتبعه في شريعته، ولا تدل بحال على عصمته هو مِن أن يخطئ في بعض أعماله، أو عباداته أو توجيهاته؛ لأنه لم يُرْسَلْ ويُصْطَفَ من اللَّه -عزَّ وَجَلَّ- لهذا الغرض كالنبي، وإنما هو مجتهد فيه، أما النبي فقد اصطفاه الله من عباده لهذا الغرض. الكرَامَةُ تَدُلُّ عَلَى الوَلَايَةِ، لَكِنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى العِصمَةِ ومن هنا وجبت طاعة النبي مطلقًا، بينما لا تجب طاعة الولي مطلقًا، إلا فيما دل عليه دليل شرعي واضح، وفارق آخر بين المعجزة والكرامة؛ هو أن الكرامة تحدث بحسب حاجة الولي، فإذا احتاج إليها لتقوية إيمانه؛ جاءه منها ما يكفيه لتقوية إيمانه، أو احتاج إليها لفك ضيق عليه، أو على من يدعو له؛ جاءه من ذلك ما يُفَرِّجُ كربته، ويجيب دعاءه، بخلاف المعجزات؛ فإنها لا تكون إلا لحاجة الخلق وهدايتهم (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" ص (77).

من ضوابط الحكم على خرق العادة النظر في سيرة واستقامة من خرقت له

ويقول شيخ الإسلام "ابن تيمية" ما نصه: "وكرامات الصالحين تدل على صحة الدين الذي جاء به الرسول، ولا تدل على أن الولي معصوم، ولا على أنه يجب طاعته في كل ما يقوله. ومن هنا، ضل كثير من الناس من النصارى وغيرهم، فإن الحواريين -مثلًا- كانت لهم كرامات، كما تكون الكرامات لصالحي هذه الأمة، فظنوا أن ذلك يستلزم عصمتهم، كما يستلزم عصمة الأنبياء، فصاروا يوجبون موافقتهم في كل ما يقولون، وهذا غلط" (¬1). والحقيقة أن كثيرًا من المسلمين -أيضًا- قد وقع فيما وقع فيه النصارى من الخطأ الذي ذكره شيخُ الاسلام ابن تيمية، فبمجرد أن يُشتَهر شخص بشيء من الكرامات ترتفع درجة الثقة في أقواله، وتوجيهاته، وأوامره، ونواهيه، إلى حد أن أكثر الناس لا يقبل فيها جدلًا البتة. من ضَوَابِطِ الحُكمِ عَلَى خَرقِ العَادَةِ النَّظَرُ فيِ سِيَرةِ واستِقَامَةِ مَن خُرِقَتْ لَهُ "وأما تمييز الولي الصادق الذي قد تجري على يديه الكرامات من الدَّعِيِّ الكاذب الذي يُمَوِّهُ على الناس ويخدعهم، فإنما يكون ذلك بحسب صلاحه وتقواه، من قيامه بالفرائض والنوافل، واتقائه الكبائر، والصغائر، واتصافه بالصفات الكريمة، واستدامته عليها، فإن اتصف شخص بكل هذه الصفات الطيبة، وعُرِفَتْ عنه، ثم حَدَثَ على يديه شيء من الخوارق فيما لا يخالف الشرع، فيجوز أن يطلق على ذلك الخارق اسم "كرامة". أما إن كان الرجل على خلاف ذلك، مُشْتَهَرًا بالفسق والفساد والضلال، وغير ذلك، فإن كل ما يجري على يديه لا يُعْتَدُّ به بالغًا ما بلغ، والله أعلم" (¬2). ¬

_ (¬1) "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" ص (29). (¬2) انظر: "موقف ابن تيمية من التصوف والصوفية" ص (236، 237)، و"شبهات التصوف" ص (138).

من شروط الكرامة

مِن شُرُوطِ الكرَامَةِ قال الإمام الشاطبي -رحمه اللَّه-: " ومن الفوائد في هذا الأصل أن يُنْظَرَ إلى كل خارقة صدرت على يدي أحد، فإن كان لها أصل في كرامات الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- ومعجزاته؛ فهي صحيحة، وإن لم يكن لها أصل؛ فغير صحيحة، وإن ظهر ببادئ الرأي أنها كرامة؛ إذ ليس كل ما يظهر على يدي الإنسان من الخوارق بكرامة، بل منها ما يكون كذلك، ومنها ما لا يكون كذلك. وبيان ذلك بالمثال: أن أرباب التصريف بالهمم، والتقربات بالصناعة الفلكية، والأحكام النجومية، قد تصدر عنهم أفاعيل خارقة، وهي كلها ظلمات بعضها فوق بعض، ليس لها في الصحة مدخل، ولا يُوجَدُ لها في كرامات النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- منبع؛ لأنه إن كان ذلك بدعاء مخصوص، فدعاء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يكن على تلك النسبة، ولا تجري فيه تلك الهيئة، ولا اعتمد على قِرانِ في الكواكب، ولا التمس سُعودَها أو نحوسَها، بل تَحَرَّى مجردَ الاعتمادِ على مَن إليه يُرْجَعُ الأمرُ كلَّه، والتجأ إليه، مُعْرِضًا عن الكواكب، وناهيًا عن الاستناد إليها، إذ قال: (أصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُومِن بِي وَكَافِرٌ) الحديث (¬1)، وإن تَحَرَّى وقتًا، أو دعا إلى تَحَرِّيهِ، فلسبب بريءٍ من هذا كله؛ كحديث التنزل (¬2)، وحديث اجتماع الملائكة طرفي النهار (¬3)، وأشباه ذلك" إلى أن قال -رحمه الله-: "وهذا الموضع مَزَلَّة قدم للعوامِّ، ولكثير من الخواص، فَلْتَنَبَّهْ له" (¬4). ¬

_ (¬1) وتتمته: "فأما من قال: (مُطِرنا بفضل الله ورحمته) فذلك مؤمن بي وكافر بالكوكب، وأما من قال: (بنوء كذا وكذا)، فذلك كافر بي ومؤمن بالكوكب" أخرجه البخاري (2/ 333) (846)، ومسلم (1/ 83، 84) (71). (¬2) أخرجه البخاري (3/ 29) (1145)، ومسلم (1/ 521) (758). (¬3) أخرجه البخاري (2/ 33) (55)، ومسلم (1/ 439) (632). (¬4) "الموافقات" (2/ 444 - 446).

خرق العادة بمجرده لا يدل على الولاية

خَرقُ العَادَةِ بمُجَرَّدِهِ لا يَدُلُّ عَلَى الوَلَايَةِ قال شيخ الاسلام ابن تيمية -رحمه اللَّه تَعَالى-: "وكل من خالف شيئًا مما جاء به الرسول، مقلدًا في ذلك لمن يظن أنه وَليٌ للَّه، فإنه بنى أمره على أنه ولي للَّه، وأن ولي اللَّه لا يُخَالَفُ في شيء، ولو كان هذا الرجل من أكبر أولياء اللَّه؛ كأكابر الصحابة، والتابعين لهم بإحسان، لم يُقْبَلْ منه ما خالف الكتاب والسنة، فكيف إذا لم يكن كذلك؟! وتجد كثيرًا من هؤلاء عمدتهم في اعتقادِ كَوْنهِ وليًّا للَّه أنه قد صدر عنه مُكَاشَفَةٌ في بعض الأمور، أو بعض التصرفات الخارقة للعادة؛ مثل أن يُشِيرَ إلى شخص فيموت، أو يطير في الهواء إلى مكة أو غيرها، أو يمشي على الماء أحيانًا، أو يملأ إبريقًا من الهواء (¬1)، أو ينفق بعض الأوقات من الغيب، أو يختفي أحيانًا عن أعين الناس، أو أن بعض الناس استغاث به وهو غائب أو ميت فرآه قد جاءه، فقضى حاجته، أو يُخْبِرَ الناس بما سُرِقَ لهم، أو بحالِ غائِبٍ لهم أو مريض، أو نحو ذلك من الأمور، وليس في شيء من هذه الأمور ما يدل على أن صاحبها ولي اللَّه، بل قد اتفق أولياء اللَّه على أن الرجل لو طار في الهواء، أو مشى على الماء، لم يُغْتَرَّ به حتى يُنْظَرَ متابعته لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وموافقته لأمره ونهيه (¬2). وكرامات أولياء اللَّه -تَعَالَى- أعظم من هذه الأمور الخارقة للعادة -وإن كان قد يكون صاحبها وليًّا للَّه- فقد يكون عَدُوًّا لله، فإن هذه الخوارق تكون لكثير من الكفَّار، والمشركين، وأهل الكتاب، والمنافقين، وتكون لأهل ¬

_ (¬1) أي: يملأ إبريقًا ماءً من الهواء. (¬2) قال موسى بن عيسى: قال أبي: قال أبو يزيد: "لو نظرتم إلى رجل أُعطي من الكرامات حتى يُرفَعَ في الهواء؛ فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدوه عند الأمر والنهي وحفظ الحدود وأداء الشريعة". أخرجه البيهقي في "الشعب" (2/ 301).

البدع، وتكون من الشياطين، فلا يجوز أن يُظَنَّ أن كل من كان له شيء من هذه الأمور أنه ولي لله، بل يُعْتبَرُ أولياء الله بصفاتهم، وأفعالهم، وأحوالهم التي دلَّ عليها الكتاب والسنة، وُيعْرَفُونَ بنور الإيمان والقرآن، وبحقائق الإيمان الباطنة، وشرائع الإسلام الظاهرة. مِثَال ذلك: أن الأمور المذكورة وأمثالها، قد توجد في أشخاص، ويكون أحدهم لا يتوضأ، ولا يصلي الصلوات المكتوبة، بل يكون مُلَابِسًا للنجاسات، معاشرًا للكلاب، يأوي إلى الحمامات، والقمامين، والمقابر، والمزابل، رائحته خبيثة، لا يتطهر الطهارة الشرعية، ولا يتنظف ... "، إلى أن قال -رحمه الله-: "فهذه علامات أولياء الشيطان، لا علامات أولياء الرحمن" (¬1). اهـ. وقال الإمام الشاطبي -رحمه اللَّه-: (ومن هنا يُعْلَمُ أن كل خارقة حدثت أو تحدث إلى يوم القيامة، فلا يصح رَدُّها ولا قبولها إلا بعد عرضها على أحكام الشريعة، فإن ساغت هناك؛ فهي صحيحة مقبولة في موضعها، وإلا لم تُقْبَلْ إلا الخوارق الصادرة على أيدي الأنبياء -عليهم السلام-؛ فإنه لا نظر فيها لأحد؛ لأنها واقعة على الصحة قطعًا؛ فلا يمكن فيها غير ذلك، ولأجل هذا حَكَمَ إبراهيم -عليه السلام- فى ذبح ولده بمقتضي رؤياه، وقال له ابنه: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات: 102]، وإنما النظر فيما انخرق من العادات على يد غير المعصوم. وبيان عرضها أن تُفرض الخارقة واردة من مجاري العادات، فإن ساغ العمل بها عادة وكسبًا، ساغت في نفسها، وإلا فلا؛ كالرجل يكاشف بامرأة أو عورة، بحيث اطَّلع منها على مالا يجوز له أن يَطَّلِعَ عليه، وإن لم يكن مقصودًا ¬

_ (¬1) "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" ص (61، 62)، وانظر: "وَلاية الله والطريق إليها" ص (252 - 254).

له، أو رأى أنه يدخل على فلان بيته وهو يُجَامِعُ زوجته ويراه عليها، أو يكاشَف بمولود في بطن امرأة أجنبية؛ بحيث يقع بصره على بَشَرتها، أو شيء من أعضائها التي لا يسوغ النظر إليها في الحس، أو يرى صورة مكيفة مقدرة تقول له: "أنا ربك"، أو يرى ويسمع من يقول له: "قد أحللتُ لك المحرماتِ" (¬1)، وما أشبه ذلك من الأمور التي لا يقبلها الحكم الشرعي على حال، ويُقَاسُ على ذلك ما سواه، وباللَّه التوفيق) (¬2). اهـ. وقال الحافظ ابن حجر -ورحمه الله-: "خرق العادة قد يقع للزنديق بطريق الإملاء والإغواء، كما يقع للصِّدِّيق بطريق الكرامة والإكرام، وإنما تحصل التفرقة بينهما باتباع الكتاب والسنة" (¬3). وقال العلامة الشوكاني -رحمه اللَّه-: "ولا يجوز للولي أن يعتقد في كل ما يقع له من الواقعات والمكاشفات أن ذلك كرامة من اللَّه -سبحانه-، فقد يكون من تلبيس الشيطان ومكره، بل الواجب عليه أن يعرض أقواله وأفعاله على الكتاب والسنة: فإن كانت موافقة لها؛ فهي حق، وصدق، وكرامة من اللَّه -سبحانه-، فإن كانت مخالفة لشيء من ذلك؛ فليعلم أنه مخدوع ممكور به، قد طمع منه الشيطان؛ فلبَّس عليه" (¬4). اهـ. وقال الدكتور تقي الدين الهلالي داعية التوحيد والسنة في بلاد المغرب - بل في كثير من بلاد العالم الإسلامي -رحمه اللَّه- تَعَالَى: " ... ومن هذا تَعْلَمُ أن ظهور الخوارق، وما في عالم الغيب، ليس دليلًا على صلاح من ظهرت له تلك الخوارق، ولا على وَلايته لله البتة؛ فإن كل مرتاضٍ رياضة روحية تظهر له ¬

_ (¬1) انظر: ص (47). (¬2) "الموافقات" (2/ 481، 482) بتصرف، وانظر: "مدارج السالكين" (1/ 48، 49). (¬3) "فتح الباري" (12/ 385). (¬4) "ولاية الله والطريق إليها" ص (249)، وطمع فيه، وبه: اشتهاه ورغب فيه، أو: حَرَصَ عليه.

من القادر على التمييز بين "الأحوال الرحمانية" و "الأحوال الشيطانية"؟

الخوارق على أي دين كان، وقد سمعنا وقرأنا أن العُبَّاد الوثنيين من أهل الهند تقع لهم خوارق عظام" (¬1). اهـ. "إذن، فيجب على كل مسلم التحقق من ذلك، ولا يجوز القطع بوَلاية كل من فعل خارقًا من خوارق العادات؛ لأن الغاية من خرق العادة عند المُشَعْوذِينَ: التلبيس على المسلمين في دينهم، كما كانت الشياطين تخدع المشركين، فَتَدْخُلُ في أجواف الأصنام، وتُصْدِر أصواتًا، يظنون أن أصنامهم تتحدث إليهم، أو تحركها الشياطين من مكانها، فيظنوا أنها تتحرك من تلقاء نفسها. ولقد ذكر الشعراني أن الشيطان كان يدخل في أجواف الأصنام، والغربان، والعصافير، ويتكلم على ألسنتها بما شاء، حتى عُبدت من دون اللَّه" (¬2). مَنِ القادِرُ عَلَى التَّمييزِ بَينَ "الأَحوَالِ الرَّحمانِيَّةِ" وَ "الأَحوَالِ الشَّيطَانِيَّةِ"؟ يتمكن إبليس من الإنسان على قدر حظه من العلم، فكلما قَلَّ علمه، اشتد تَمَكُّنُ إبليسَ منه، وكلما كثر العلم، قل تَمكُّنُهُ منه؛ ولذلك لا تشتبه "الكرامة الرحمانية" بالحال "الشيطانية" إلا عند الجُهَّال، وأهل الأهواء، بخلاف أهل العلم والبصيرة. قال شيخ الاسلام ابن تيمية -رحمه اللَّه تَعَالَى-: "فإذا كان العبد من هؤلاء فَرَّقَ بين حال أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، كما يُفَرِّقُ الصيرفي بين الدرهم الجيد والدرهم الزيف، وكما يُفَرِّقُ من يعرف الخيل بين الفرس الجيد والفرس الرديء، وكما يُفَرِّقُ من يعرف الفروسية بين الشجاع والجبان، وكما أنه يجب الفرق بين النبي الصادق وبين المتنبي الكذَّاب، فَيُفَرَّقُ بين محمدٍ الصادق الأمين ¬

_ (¬1) نقله عنه في "الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة" ص (466). (¬2) "الرفاعية" (ص 94، 95).

رسولِ ربِّ العالمين، وموسى، والمسيح، وغيرهم، وبين مسيلمة الكذَّاب، والأسود العنسي، وطلحة الأسدي، والحارث الدمشقي، وباباه الرومي، وغيرهم من الكذَّابين، وكذلك يُفَرِّقُ بين أولياء اللَّه المتقين، وأولياء الشيطان الضالين" (¬1). اهـ. وقال ابن الجوزي -رحمه اللَّه-: "ومن العُبَّاد من يرى ضوءًا أو نورًا في السماء، فإن كان في رمضان، قال: (رأيت ليلة القدر)، وإن كان في غيره قال: (فُتِحَتْ لي أبوابُ السماء)، وقد يتفق له الشيء الذي يطلبه، فيظن ذلك كرامة، وربما كان اختبارًا، وربما كان من خِدَع إبليس، والعاقل لا يُسَاكنُ شيئًا من هذا، ولو كان كرامة" (¬2). اهـ. كان أبو ميسرة فقيه المغرب يختم كل ليلة في مسجده، فرأى ليلة نورًا قد خرج من الحائط، وقال: "تَمَلَّ مِن وجهي، فأنا ربك"، فبصق في وجهه، وقال: "اذهب يا ملعون" (¬3) فَطَفِئَ النور (¬4). وقال ابن الجوزي -رحمه اللَّه- أيضًا: (وكم اغتر قوم بما يشبه الكرامات، فقد روينا بإسنادٍ: عن حسن عن أبي عمران قال: قال لي فرقد: "يا أبا عمران، قد أصبحتُ اليوم وأنا مهتم بضريبتي، وهي ستة دراهم، وقد أهلَّ الهلال وليست عندي، فدعوت، فبينما أنا أمشي على شط الفرات إذا أنا بستة دراهم، فأخذتها فوزنتها، فإذا هي ستة لا تزيد ولا تنقص"، فقال: "تَصَدَّقْ بِهَا، فإنها ليست لك"، قلت: -أبو عمران هو إبراهيم النخعي فقيه أهل الكوفة فانظروا إلى كلام الفقهاء، وبُعد الاغترار ¬

_ (¬1) "الفرقان" ص (66). (¬2) "تلبيس إبليس" ص (529). (¬3) لأن الله تعالى لا يُرى في الدنيا، ونور الله -تعالى- لا يقوم له شيء، ولما ظهر للجبل منه أدنى شيء ساخ الجبل، وتدكدك، انظر: "مدارج السالكين" (3/ 229). (¬4) "سير أعلام النبلاء" (15/ 396).

عنهم، وكيف أخبره أنها لُقَطَة، ولم يلتفت إلى ما يُشْبِهُ الكرامة، وإنما لم يأمره بتعريفها لأن مذهب الكوفيين أنه لا يجب التعريف لما دون الدينار، وكأنه إنما أمره بالتصدُّق بها لئلا يَظُنَّ أنه قد أُكرم بأخذها وإنفاقها. وبإسناد: عن إبراهيم الخراساني أنه قال: "احتجت يومًا إلى الوضوء، فإذا أنا بكوز من جوهر، وسواك من فضة، رأسه ألين من الخَزِّ -وهو أحسن الحرير الخالص- فاستكت بالسواك، وتوضأت بالماء، وتركتهما، وانصرفت". قلت: في هذه الحكاية من لا يُوثَقُ بروايته، فإن صَحَّتْ دلت على قِلَّةِ علم هذا الرجل؛ إذ لو كان يفهم الفقه علم أن استعمال السواك الفضة لا يجوز، ولكن قلَّ علمه فاستعمله، وإن ظن أنه كرامة، واللَّه -تَعَالَى- لا يكرم بما يمنع استعماله شرعًا، إلا إن أُظْهِرَ له ذلك على سبيل الامتحان) (¬1). قال القشيري: (قال إبراهيم الخوَّاص: طَلَبْتُ الْحلال في كل شيء، حتى طلبته في صيد السمك، فأخذت قصبة، وجعلت فيها شَعْرًا، وجلست على الماء، فألقيت الشِّصَّ، فخرجت سمكة، فطرحتها على الأرض، وألقيت ثانية، فخرجت لي سمكة، إذ مِن ورائي لطمة لا أدري مِن يَدِ مَنِ هي، ولا رأيت أحدًا، وسمعت قائلًا يقول: "أنت لم تُصِبْ رزقًا في شيء إلا أن تَعْمَدَ إلى مَنْ يذكرنا فتقتله؟ "، قال إبراهيم: "فقطعت الشعر، وكسرت القصبةَ، وانصرفت" (¬2). ولو أن هذا الصوفي تَدَبَّرَ قوله -تَعَالَى-: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة: 96]، لجزم قاطعًا بأن اللاطم لم يكن سوى إبليس؛ إذ اللَّه لا يعاقِب على صيد ما أباحه، ولا يحرم صيد الأسماك؛ لأنها تذكر اللَّه -عَز وَجَلَّ- فإنه ما من شيء إلا يُسَبِّحُ بحمده ويذكره، ولو تركنا ذبح الأنعام -وهى تذكر اللَّه -تعالى- أيضًا-، لم يكن لنا ما يقيم قُوى الأبدان. ¬

_ (¬1) "تلبيس إبليس" ص (533). (¬2) "الرسالة القشيرية" ص (84).

وذكر محمد بن أبي الفضل الهمداني المؤرخ قال: حدثني أبي قال: كان السرمقاني المقرئ يقرأ على ابن العلاف، وكان يأوي إلى المسجد بدرب الزعفراني، واتفق أن ابن العلاف رآه ذات يوم في وقت مجاعة، وقد نزل إلى دجلة، وأخذ منه أوراق الخس مما يرمي به أصحابُه، وجعل يأكله، فشق ذلك عليه، وأتى إلى رئيس الرؤساء، فأخبره بحاله، فتقدم إلى غلام بالقرب إلى المسجد الذي يأوي إليه السرمقاني أن يعمل لِبابه مفتاحًا من غير أن يُعْلمه، ففعل وتقدم إليه أن يحمل كل يوم ثلاثة أرطال خبزًا سميدًا (¬1)، ومعها دجاجة، وحلوى سكرًا، ففعل الغلام ذلك، وكان يحمله على الدوام، فأتى السرمقاني في أول يوم فرأى ذلك مطروحًا في القبلة، ورأى الباب مغلقًا فتعجب، وقال في نفسه: هذا من الجنة، ويجب كتمانه، وألَّا أتحدث به، فإن من شروط الكرامة كتمانَها (¬2)، وأنشدني: مَنْ أَطْلَعُوه عَلَى سِرٍّ فَبَاحَ بِهِ ... لَمْ يَأْمَنُوهُ عَلَى الْأَسْرَارِ مَا عَاشَا فلما استوى حاله، وأخصب جسمُه، سأله ابن العلاف عن سبب ذلك، وهو عارف به، وقصد المُزاحَ معه، فأخذ يُوري ولا يصرح، ويَكْني ولا يُفْصِح، ولم يزل ابن العلاف يستخبره حتى أخبره أن الذي يجده فى المسجد كرامة؛ إذ لا طريق لمخلوق عليه، فقال له ابن العلاف: "يجب أن تدعو لابن المسلمة، فإنه هو الذي فعل ذلك"، فنغص عيشه بإخباره، وبانت عليه شواهد الانكسار (¬3). اهـ. ¬

_ (¬1) السَّميد: لغة في السميذ، معرب، وهو لُباب الدقيق. (¬2) وقد قالوا: "الشأن في الكرامة إخفاؤها، وفي المعجزة إظهارها". (¬3) "تلبيس إبليس" ص (533، 534)، ويشبه هذا: أن شخصًا صلى الفجر بالمسجد النبوي الشريف بعد التوسعة الأخيرة، وجلس يذكر الله، وإذا به يفاجأ بانفتاح جزء من سقف المسجد فرأى السماء، وحسبها كرامة، ونوى أن يكتم ذلك، ولا يحدث به الناس، ثم اكتشف بعد أنه يُفتح آليَّا لإدخال ضوء النهار.

أمثلة من الأحوال الشيطانية

أَمثِلَةٌ مِنَ الأَحوَالِ الشَّيطَانِيَّةِ قال شيخ الاسلام ابن تيمية -رحمه اللَّه- في شأن أصحاب الأحوال الشيطانية: "وهؤلاء تقترن بهم الشياطين، وتنزل عليهم، فيكاشفون الناس ببعض الأمور، ولهم تصرفات خارقة من جنس السحر، وهم من جنس الْكُهَّان والسحرة الذين تنزل عليهم الشياطين، قال تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223)} [الشعراء: 221 - 223]، وهؤلاء جميعًا ينتسبون إلى المكاشفات، وخوارق العادات، إذا لم يكونوا متبعين للرسل، فلا بد أن يكذبوا، وتكذبهم شياطينهم، ولابد أن يكون في أعمالهم ما هو إثم وفجور؛ مثل نوع من الشرك، أو الظلم، أو الفواحش، أو الغلو، أو البدع فى العبادة، ولهذا تنزلت عليهم الشياطين، واقترنت بهم، فصاروا من أولياء الشيطان، لا من أولياء الرحمن؛ قال اللَّه -تَعَالَى-: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36)} " (¬1) [الزخرف: 36]. ومن الأحوال الشيطانية حال "عبد اللَّه بن صياد"، الذي ظهر في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكان قد -ظن بعض الصحابة أنه الدجَّال، وتوقف النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في أمره حتى تبين له فيما بعد أنه ليس هو الدجَّال، لكنه كان من جنس الكُهَّان، وقال له النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "قَدْ خَبَأتُ لَكَ خَبْئًا" قال: "الدُّخُّ الدُّخُّ"، وقد كان خَبأ له سورة "الدخان"، فقال له النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اخْسأ فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ" (¬2)، يعني إنما أنت من إخوان الْكُهَّان، والْكُهَّان كان يكون لأحدهم القرين من الشياطين يخبره بكثير من المُغُيباتِ بما يَسْترِقُهُ من السمع، وكانوا يخلطون الصدق بالكذب، كما في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره أن النبي -صلى اللَّه عليه ¬

_ (¬1) "الفرقان" ص (18، 19). (¬2) رواه مسلم (4/ 2244) (2930).

وسلم- قال: "إِنَّ المْلَائِكَةَ تَنْزِلُ فيِ الْعَنَانِ -وَهُوَ السَّحَابُ- فَتَذْكُرُ الأمْرَ قُضِيَ في السَّمَاءِ، فَتَسْتَرِقُ الشَّيَاطِينُ السَّمْعَ، فَتُوحِيه إِلَى الْكُهَّانِ، فَيَكْذِبُونَ مَعَهَا مِئَةَ كَذْبَةٍ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ" (¬1). وهذا المسيح الدجَّال الذي هو أعظم فتنة تمر على البشرية في تاريخها، حتى حَذَّر جميع الأنبياء منه أُمَمَهُمْ، وحتى قال فيه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: فيما رواه أبو داود عن عمران بن حصين -رضي اللَّه عنهما-: "مَنْ سَمِعَ بِالدَّجَّالِ فَلْيَنأَ عَنْهُ، فَوَاللهِ إِنَّ الرَّجُلَ لَيَأتِيه وَهُوَ يَحْسَبُ أَنَّهُ مُؤْمِن، فَيتَّبِعُهُ؛ مِمَّا يُبْعَثُ بِهِ مِنَ الشُّبُهَاتِ" (¬2)، وسوف يأتي بأعظم الخوارق: فمنها: ما رواه حُذَيْفَةُ -رضي اللَّه عنه-: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَعَهُ جَنَّةٌ وَنَارٌ، فَنَارُهُ جَنَّةٌ، وَجَنَّتُهُ نَارٌ" (¬3). - ومنها: أنه يستعين بالشياطين؛ فقد رُوِي عن أبي أُمَامَةَ -رضي الله عنه- قال: "وَإنَّ مِنْ فِتنتهِ أَنْ يَقُولَ لِأَعْرَابِيٍّ: أَرَأَيْتَ إِنْ بَعَثْتُ لَكَ أَبَاكَ وأُمَّكَ، أَتَشْهَدُ أَنِّي رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيتَمَثَّلُ لَهُ شَيْطانانِ في صُورَةِ أَبيهِ وَأمّهِ، فَيَقُولَان: يَا بُنَيَّ اتَّبِعْهُ؛ فَإنَّهُ رَبُّكَ" (¬4). - ومن فتنته: أنه -يأمر السماء فتُمْطِرُ، والأرضَ فتُنْبِتُ، ويدعو البهائم فتتبعه، ويأمر الخرائب أن تُخرِجَ كنوزها المدفونة فتستجيب (¬5). - ومن فتنته: أنه يقتل ذلك الشابَّ المؤمنَ فيما يظهر للناس، ثم يَدَّعي أنه أحياه، فيقول ذلك الشابُّ: "واللَّه ماكنتُ فيكَ أشدَّ بصيرة مني اليوم" (¬6). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (221) (6/ 304 - فتح). (¬2) "صحيح سنن أبي داود" (3/ 814) (3629). (¬3) رواه مسلم (4/ 2248) (2934). (¬4) "ضعيف ابن ماجه" (884)، ص (330). (¬5) انظر الحديث في "صحيح مسلم" (4/ 2252) (2937). (¬6) انظر الحديث في "صحيح البخاري" (13/ 101 - فتح)، ومسلم (4/ 2256) (2938).

يقول شيخ الإسلام في شأن أصحاب الأحوال الشيطانية: (وهؤلاء تأتيهم أرواح تخاطبهم، وتتمثل لهم، وهي جن وشياطين، فيظنونها ملائكة؛ كالأرواح التي تخاطب من يعبد الكواكب والأصنام. وكان من أول ما ظهر من هؤلاء في الإسلام: المختار بن أبي عبيد الذي أَخبر به النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في "صحيحه" عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "سَيَكُونُ فِي ثَقِيفٍ كَذَّابٌ وَمُبيرٌ" (¬1)، وكان الكذَّاب: المختار بن أَبي عبيد (¬2)، والمبير: الحجاج بن يوسف، فقيل لابن عمر وابن عباس: إن المختار يزعم أَنه يُنَزَّلُ إِليه، فَقَالَا: صدق، قال اللَّه تعالى-: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222)} [الشعراء: 221 - 222]. وقال الآخر: وقيل له: إن المختار يزعم أَنه يُوحَى إلِيه، فقال: قال اللَّه -تَعَالَى-: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} [الأنعام: 121]) (¬3). (والأسود العنسي الذي ادَّعى النبوة كان له من الشياطين من يخبره ببعض الأُمور المغيَّبة، فلما قاتله المسلمون كانوا يخافون مِن الشياطين أَن يخبروه بما يقولون فيه، حتى أعانتهم عليه امرأته، لما تبيَّن لها كفره، فقتلوه. وكذلك مسيلمة الكذَّاب، كان معه من الشياطين من يُخْبِرُهُ بالمغيَّبات، ويعينه على بعض الأمور. وأمثال هؤلاء كثيرون؛ مثل الحارث الدمشقي الذي خرج بالشام زمن ¬

_ (¬1) رواه مسلم (16/ 100 - نووي)، والمبير: المهلِك. (¬2) ومن طرائف الأخبار: أن سراقة البارقي -وكان من ظرفاء المدينة- أسره رجل من أصحاب المختار هذا، فأتى به المختار، وقال: "أسرتُ هذا"، فقال: "كذبتَ، ما أسرني إلا رجل عليه ثياب بيض على فَرَس أبلق"، فقال المختار: "أما إن الرجل قد عاين الملائكة، خلوا سبيله"، فأفلت منهم بدهائه وحسن تخلصه. (¬3) "الفرقان" ص (86).

عبد الملِك بن مروان وادعى النبوة، وكانت الشياطين تُخرج رجليه من القيد، وتمنع السلاح أن يَنْفُذَ فيه، وتُسَبِّحُ الرُّخامة إذا مسحها بيده، وكان يُرِي الناسَ رجالًا وركبانًا على خيل في الهواء، ويقول: هي الملائكة، وإنما كانوا جِنًّا، ولما أَمسكه المسلمون ليقتلوه طعنه الطاعن بالرمح فلم يَنْفُذْ فيه، فقال له عبد الملك: "إنك لم تُسَمِّ اللَّه"، فسَمَّى اللَّه، فطعنه، فقتله (¬1). وهكذا أهل الأحوال الشيطانية تنصرف عنهم شياطينهم إذا ذُكِرَ عندهم ما يَطْرُدُهَا؛ مثل آية الكرسي، فإنه قد ثبت في "الصحيح" عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في حديث أَبي هريرة -رضي الله عنه-، لما وَكَّلَهُ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بحفظ زكاة الفطر، فسرق منه الشيطان ليلة بعد ليلة، وهو يمسكه، فيتوب، فيطلقه، فيقول له النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ الْبَارِحَةَ؟ "، فيقول: زعم أَنه لا يعود، فيقول: "كَذَبَكَ، وَإِنَّهُ سَيَعُودُ"، فلما كان في المرة الثالثة، قال: دعني حتى أُعلِّمك ما ينفعك: إذا أويتَ إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسي: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255] ... إلى آخرها، فإنه لن يزال عليك من اللَّه حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تُصْبحَ، فلما أخبر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "صَدَقَكَ، وَهُوَ كَذُوبٌ"، وأخبره أَنه شيطان. ولهذا إِذا قرأَها الإِنسان عند الأَحوال الشيطانية بِصِدْقٍ أَبطلتها؛ مثل من يدخل النار بحال شيطاني، أَو يحضر سماع المكاءِ والتصدية، فتنزل عليه الشياطين، وتتكلم على لسانه كلامًا لا يُعْلَمُ، وربما لا يُفْقَهُ، وربما كاشف بعض الحاضرين بما في قلبه، وربما تكلم بألسنة مختلفة؛ كما يتكلم الجني على لسان المصروع، والإنسان الذي حَصَلَ له الحال لا يدري بذلك، بمنزلة المصروع الذي يتخبطه الشيطان من المس، ولبسه، وتكلَّم على لسانه، فإذا أَفاق لم يشعر بشيء مما قال) (¬2). اهـ. ¬

_ (¬1) انظر تفصيل خبره في "تلبيس إبليس" ص (529 - 533). (¬2) "الفرقان" ص (134، 135).

التفريق بين كرامات الأولياء والأحوال الشيطانية

(وهذه الأرواح الشيطانية هي الروح الذي يزعم صاحب "الفتوحات" أَنه أَلقى إِليه ذلك الكتاب، ولهذا يذكر أَنواعًا من الخلوات بطعام معين، وشيء معين، وهذه مما تفتح لصاحبها اتصالًا بالجن والشياطين، فيظنون ذلك من كرامات الأَولياء، وإنما هو من الأَحوال الشيطانية، وأَعرف من هؤلاءِ عَدَدًا، ومنهم من كان يُحْمَلُ في الهواء إلى مكان بعيد ويعود، ومنهم من كان يُؤْتَى بمال مسروق، تسرقه له الشياطين وتأتيه به، ومنهم من كانت تدله على السرقات بِجُعْلٍ يحصل له من الناس، أَو لعطاء يعطونه إذا دَلَّهُمْ على سرقاتهم، ونحو ذلك. ولما كانت أحوال هؤلاء شيطانية، كانوا مناقضين للرسل -صلوات اللَّه- تعالَى -وسلامه عليهم-، كما يُوجَدُ في كلام صاحب "الفتوحات المكية"، و"الفصوص"، وأشباه ذلك؛ يَمْدَحُ الكفارَ؛ مثل قوم نوح، وهود، وفرعون، وغيرهم، وينتقصُ الأَنبياءَ؛ كنوح، وإبراهيم، وموسى، وهارون، ويَذُمُّ شيوخ المسلمين المحمودين عند المسلمين؛ كالْجُنَيْدِ بن محمد، وسهل بن عبد اللَّه التستري، وأَمثالهما، ويَمْدَحُ المذمومين عند المسلمين؛ كالحلاج ونحوه؛ كما ذكره فى تجلياته الخيالية الشيطانية) (¬1). اهـ. التَّفْرِيقُ بَيْنَ كَرَامَاتِ الْأَوْليَاءِ وَالأحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ: (وبين كرامات الأَولياء، وبين ما يشبهها من الأَحوال الشيطانية فروق متعددة: منها: أَن كرامات الأَولياء سببها الإيمان والتقوى، والأَحوال الشيطانية، سببها ما نهى اللَّه عنه ورسوله. وقد قال -تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33]، ¬

_ (¬1) "الفرقان" ص (87).

فالقول على اللَّه بغير علم، والشرك، والظلم، والفواحش؛ قد حرَّمها اللَّه -تَعَالَى- ورسوله، فلا تكون سببًا لكرامة اللَّه -تَعَالَى- بالكرامات عليها، فإذا كانت لا تحصل بالصلاة، والذكر، وقراءَة القرآن، بل تحصل بما يُحِبُّهُ الشيطان، وبالأُمور التي فيها شرك؛ كالاستغاثة بالمخلوقات، أَو كانت مما يُسْتَعَانُ بها على ظلم الخلق، وفعل الفواحش، فهي من الأَحوال الشيطانية (¬1)، لا من الكرامات الرحمانية. ومن هؤلاء من إذا حضر سماع المكاءِ والتصدية يتنزَّل عليه شيطانه حتى يَحْمِلَهُ في الهواءِ، ويخرجه من تلك الدار، فإذا حضر رجل من أَولياء اللَّه - تَعَالَى، طرد شيطانه فيسقط، كما جرى هذا لغير واحد. ¬

_ (¬1) ولا تحصل هذه الخوارق عند تلاوة القرآن الكريم، وإنما تحصل عند استعمال الآلات الموسيقية كالطبل والدف والمزامير وغيرها، وهذا دليل على أن هذه أحوال شيطانية لا إيمانية، ولذلك كان يشترط بعضهم على من يحضرهم ألا يقرءوا قرآنًا، ولا يتكلموا بشيء البتة، وقد طلب بعض الرفاعية من أحد الشباب الانصراف عنهم حين كان ذلك الشاب يتمتم بالذكر وقراءة القرآن، مما أدى إلى جرحهم لدى إدخالهم الشيش، حتى قالوا: "إن بين الحاضرين رجلًا روحه شريرة، فلينصرف عنا". وقال الشيخ محمد رشيد رضا -رحمه الله- في أثناء كلامه على طائفة محمد بن عيسى "أكلة الثعابين والنار": "وقد أحرجتُ واحدًا منهم، وأردته على أن يمكنني من وضع النار حيث أريد من بدنه، فلم يقبل، ثم استتبته، فأظهر التوبة عن مخادعة الناس بذلك ". اهـ. من "المنار" المجلد العاشر ص (290). وقال أيضًا -رحمه اللَّه-: "إن ما يفعله الرفاعية من اقتحام النار وضرب الشيش وإدخال الحديد المحميِّ في ألسنتهم، وأكل الحيات والحشرات، إنما هو من الشعوذة التي لا ينفردون بها عن غيرهم، بل إنها منتشرة بين كثيرين من المنتمين إلى أديان ومذاهب ونحل مختلفة وفي أفكار عديدة". اهـ. كما حكاه عنه الشيخ عبد الرحمن دمشقية -حفظه الله-، ثم قال: "وقد زعم أمامي واحد من أهل الطريقة الرفاعية أن إكرام الله لهم حاصل في كونهم يأكلون الزجاج أمام الكفار، وأنهم عاينوا الزجاج في بطنه، وتأكدوا من صحة ذلك، وأدّى ببعضهم إلى الإسلام، فقلت: هذا من جهل أولئك بحقيقة الأمر، فإنهم لو علموا أن هذا يحدث للوثنيين والبوذيين لربما ارتدوا على أعقابهم، بل يحدث مثل ذلك أيضًا على مسارح السيرك، حيث يدخِل الساحر الشيش في الأجساد، بل يَقْسِم الفتاة بالسيف نصفين". اهـ. بتصرف من "الرفاعية" ص (104، 105).

ومن هؤلاء من يستغيث بمخلوق، إِمَا حي أو ميت، سواءٌ كان ذلك المخلوق مسلمًا، أَو نصرانيًّا، أَو مشركًا، فيتصور الشيطان بصورة ذلك المستغاث به، ويقضي بعض حاجة ذلك المستغيث؛ فيظن أنه ذلك الشخص، أَو هو مَلَكٌ تصوَّر على صورته، وانما هو شيطان أَضلَّه لَما أَشرك باللَّه، كما كانت الشياطين تدخل في الأَصنام، وتكلِّم المشركين، ومن هؤلاء من يتصوَّر له الشيطان، ويقول له: أَنا الْخَضِرُ، وربما أَخبره ببعض الأُمور، وأَعانه على بعض مطالبه، كما قد جرى ذلك لغير واحد من المسلمين، واليهود، والنصارى، وكثيرٌ من الكُفَّار بأَرض المشرق والمغرب، يموت لهم الميت، فيأتي الشيطان بعد موته على صورته، وهم يعتقدون أَنه ذلك الميت، ويقضي الديون، ويرد الودائع، ويفعل أَشياءَ تتعلق بالميت، ويدخل إلى زوجته ويذهب، وربما يكونون قد أَحرقوا ميتهم بالنار، كما تصنع كُفَّار الهند، فيظنون أَنه عاش بعد موته، ومن هؤلاء شيخ كان بمصر أَوصى خادمه فقال: "إذا أنا مت فلا تدع أحدًا يغسلني، فأنا أجيء وأغسل نفسي"، فلما مات رأى خادمه شخصًا في صورته، فاعتقد أَنه هو، دخل وغسل نفسه، فلما قضى ذلك الداخل غسله؛ أَي غسل الميت، غاب، وكان ذلك شَيْطَانًا، وكان قد أَضلَّ الميت، وقال: "إنك بعد الموت تجيءُ فَتُغَسِّلُ نفسك"، فلما مات جاءَ -أيضًا- في صورته ليغوي الأحياءَ، كما أَغوى الميت قبل ذلك. ومنهم من يرى عرشًا في الهواء، وفوقه نور، ويسمع من يخاطبه، ويقول: أَنا ربك. فإن كان من أَهل المعرفة، عَلِمَ أَنه شيطان، فزجره، واستعاذ باللَّه منه، فيزول. ومنهم من يرى أَشخاصًا في اليقظة يدَّعى أَحدهم أَنه نبي أَو صِدِّيقٌ، أَو شيخٌ من الصالحين، وقد جرى هذا لغير واحد، وهؤلاء منهم من يرى ذلك عند قبر الذي يزوره، فيرى القبر قد انشق وخرج إليه صورة، فيعتقدها الميت، وإنما هو

جني تصوَّر بتلك الصورة، ومنهم من يرى فارسًا قد خرج من قبره، أو دخل في قبره، ويكون ذلك شيطانًا، وكل من قال: إنه رأَى نَبِيًّا بعين رأسه فما رأَى إلا خيالًا. ومنهم من يرى في منامه أَن بعض الأكابر؛ إِما الصدِّيق -رضي اللَّه عنه-، أَو غيره قد قص شعره، أَو حلقه، أَو أَلبسه طاقيته، أَو ثوبه، فيصبح وعلى رأسه طاقية، وشعره محلوق، أَو مُقَصَّرٌ، وإنما الجن قد حَلَقُوا شعره، أَو قَصَّرُوهُ، وهذه الأَحوال الشيطانية تحصل لمن خرج عن الكتاب والسنة، وهم درجات، والجن الذين يقترنون بهم من جنسهم وعلى مذهبهم، والجن فيهم الكافر، والفاسق، والمخطئُ، فإن كان الإنسي كافرًا، أَو فاسقًا، أو جاهلًا، دخلوا معه في الكفر، والفسوق، والضلال، وقد يعاونونه إذا وافقهم على ما يختارونه من الكفر؛ مثل الإقسام عليهم بأسماءِ من يُعَظِّمونه من الجن وغيرهم، ومثل أن يكتب أَسماءَ اللَّه، أو بعض كلامه بالنجاسة، أَو يقلب "فاتحة الكتاب"، أو سورة "الإخلاص"، أو آية الكرسي، أو غيرهنَّ، ويكتبهنَّ بنجاسة، فيغوِّرون له الماءَ، وينقلونه، بسبب ما يرضيهم به من الكفر، وقد يأتونه بمن يهواه من امرأَة أَو صبي؛ إما في الهواء، وإما مدفوعًا مُلْجَأً إليه، إلى أَمثال هذه الأُمور التي يطول وصفها، والإيمانُ بها إيمان بالجبت والطاغوت، والجبت: السحر، والطاغوت: الشياطين والأصنام، وإن كان الرجل مُطِيعًا للَّه ورسوله باطنًا وظاهرًا؛ لم يمكنهم الدخول معه في ذلك، أَو مسالمته. ولهذا لما كانت عبادة المسلمين المشروعة في المساجد التي هي بيوت اللَّه، كان عُمَّار المساجد أَبعد عن الأحوال الشيطانية، وكان أَهل الشرك والبدع، الذين يُعَظِّمُونَ القبور، ومشاهد الموتى، فيدعون الميت، أَو يدعون به، أَو يعتقدون أَن الدعاءَ عنده مستجاب -أَقْرَبَ إلى الأَحوال الشيطانية؛ فإنه ثبت في "الصحيحين" عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؛ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ".

وثبت في "صحيح مسلم" عنه أَنه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال قبل أَن يموت بخمس ليال: "إِنَ أَمَنَّ النَاسِ عَلَيَّ في صُحْبَتِهِ وَذَاتِ يَدهِ أَبُو بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، وَلكِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ اللَّهِ، لَا يَبْقَيَنَّ فيِ الْمَسْجِدِ خَوْخَةٌ إِلَّا سُدَّتْ، إِلَّا خَوْخَة أَبِي بَكْرِ، ألا إِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلُكمْ كانوا يَتَّخِذُونَ قبورَ أنبيائهم مَسَاجِدَ، ألَا فَلَا تتَخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، فَإنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ". وفي "الصحيحين" عنه أَنه ذُكِرَ له في مرضه كنيسة بأرض الحبشة، وذكروا من حُسْنِها، وتَصاوِيرَ فيها، فقال: "أُولَئِكَ إذا كان فِيهمُ الرَّجلُ الصَّالِحُ بَنوا عَلَى قبرهِ مَسْجِدًا، ثم صَوَّروا تلك الصور، أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ") (¬1).اهـ. وقال شيخ الإسلام -أيضًا-: (وإنما غاية الكرامة لزوم الاستقامة (¬2)، فلم يُكْرِمِ اللَّه عبدًا بمثل أن يُعِينَهُ ¬

_ (¬1) "الفرقان" ص (136 - 140). (¬2) والمريد الصادق قد تكثر له الكرامات في ابتدائه تثبيتًا له وتأنيسًا ومعونة، فإذا كمل خفت عنه أو انعدمت لعدم احتياجه إليها، ومِن ثَمَّ قال الجنيد -رحمه الله-: "مشى قوم على الماء، ومات بالعطش من هو أفضل منهم". انظر: "زاد المسلم" (3/ 179)، وقال الشاطبي -رحمه الله-: "وعَدُّوا مَن رَكَنَ إلى الكرامات مستدرَجًا، من حيث كانت ابتلاءً، لا من جهة كونها آية أو نعمة". اهـ. من "الموافقات" (1/ 549). قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: "ومما ينبغي أن يُعرفَ: أن الكراماتِ قد تكون بحسب حاجة الرجل، فإذا احتاج إليها الضعيف الإيمان أو المحتاج؛ أتاه منها ما يقوي إيمانه ويَسُدُّ حاجته، ويكون مَن هو أكمل وَلايةً لله منه مستغنيًا عن ذلك، فلا يأتيه مثلُ ذلك لعلو درجته وغناه عنها، لا لنقص وَلايته، ولهذا كانت هذه الأمور في التابعين أكثر منها في الصحابة، بخلاف من تجري على يديه الخوارق لهداية الخلق أو لحاجتهم، فهؤلاء أعظم درجة". اهـ. من "الفرقان". ولا يلزم من كون الرجل وليًا لله أن تقع له كرامات، فقد لا تقع الكرامات لمن هو من أعظم أولياء الله تعالى لاستغنائه عن ذلك لا لنقص في ولايته، ومن المُبَشرين بالجنة من الصحابة -رضي الله عنهم- مَن لم تقع له كرامات، فإن أعظم الكرامة: لزومُ الاستقامة، وانظر ص (196).

على ما يُحِبُّهُ ويرضاه، ويزيده مما يقربه إليه، ويرفع به درجته. - وجميع ما يؤتيه اللَّه لعبده من هذه الأمور، إن استعان به على ما يحبه اللَّه ويرضاه، ويُقَرِّبُهُ إليه، ويرفع درجته، ويأمره اللَّه به ورسوله، ازداد بذلك رِفْعَةً، وقربًا إلى اللَّه ورسوله، وعَلَتْ درجته، وإن استعان به على ما نهى اللَّه عنه ورسوله؛ كالشرك، والظلم، والفواحش؛ استحق بذلك الذَّمَّ والعقاب، فإن لم يتداركه اللَّه -تَعَالَى- بتوبة، أو حسنات مَاحِيَةٍ، وإلا كان كأمثاله من المُذنبين؛ ولهذا كثيرًا ما يُعَاقَبُ أصحاب الخوارق، تارة بسلبها، كما يُعْزَلُ الملك عن ملكه، ويُسلَب العَالِمُ علمه، وتارة بسلب التطوعات، فينقل من الوَلاية الخاصة إلى العامة، وتارة ينزل إلى درجة الفسَّاق، وتارة يرتدُّ عن الإسلام، وهذا يكون فيمن له خوارق شيطانية، فإن كثيرًا من هؤلاء يرتد عن الإسلام، وكثيرًا منهم لا يعرف أَن هذه شيطانية، بل يَظُنُّها من كرامات أَولياء اللَّه، ويظن من يَظُنُّ منهم أن اللَّه -عَزَّ وَجَلَّ- إذا أَعطى عبدًا خَرْقَ عادةٍ لم يحاسبه على ذلك، كمن يظن أن اللَّه إذا أعطى عبدًا مُلكًا، ومالًا، وتصرفًا، لم يحاسبه عليه، ومنهم من يستعين بالخوارق على أُمور مباحة، لا مأمور بها، ولا منهي عنها، فهذا يكون من عموم الأَولياء، وهم الأَبرار المقتصدون، وأَما السابقون المقربون فأَعلى من هؤلاءِ، كما أَن العبد الرسول أَعلى من النبي الملِك. ولما كانت الخوارق كثيرًا ما ينقص بها درجةُ الرجل، كان كثير من الصالحين يتوب من مثل ذلك، ويستغفر اللَّه -تَعَالَى-، كما يتوب من الذنوب؛ كالزنا، والسرقة، وتُعْرَضُ على بعضهم فيسأَل اللَّه زوالها، وكلهم يأمر المرِيدَ السالك ألا يقف عندها، ولا يجعلها همته، ولا يتبجح بها (¬1)، مع ظنهم أَنها ¬

_ (¬1) قال ابن الجوزي رحمه الله -تعالى-: "ولما علم العقلاء شدة تلبيس إبليس حذروا من أشياء ظاهرها الكرامة، وخافوا أن تكون من تلبيسه .. ، وعن رابعة أنها أصبحت يوما صائمة في يوم بارد، قالت: (فنازعتني نفسي إلى شيء من الطعام السخن أفطر عليه، وكان عندي شحم، فقلت: =

كرامات، فكيف إذا كانت بالحقيقة من الشياطين تغويهم بها؟! فإني أَعرف من تخاطبه النباتات بما فيها من المنافع، وإنما يُخاطِبُهُ الشيطان الذي دخل فيها، وأَعْرِفُ من يخاطبهم الحجرُ والشجر، وتقول: "هَنيئًا لك يا ولي اللَّه"، فيقرأ آية الكرسي، فيذهب ذلك. وأعرف من يقصد صيد الطير، فتخاطبه العصافير وغيرها، وتقول: "خذني حتى يأكلني الفقراء"، ويكون الشيطان قد دخل فيها، كما يدخل في الإنس، ويخاطبه بذلك، ومنهم من يكون في البيت وهو مغلق، فيرى نفسه خارجه وهو لم يفتح، وبالعكس، وكذلك في أبواب المدينة، وتكون الجن قد أَدخلته وأَخرجته بسرعة، أَو ترِيهِ أَنوارًا، وتُحْضِر عنده من يطلبه، ويكون ذلك من الشياطين، يتصورون بصورة صاحبه، فإذا قرأ آية الكرسي مرة بعد مرة، ذهب ذلك كله. وأَعرف من يخاطبه مخاطبٌ، ويقول له: "أَنا مِن أَمْرِ اللَّه"، ويعده بأنه المهدي الذي بَشَّر به النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ويُظْهِرُ له الخوارق؛ مثل أَن يخطر بقلبه تصرف في الطير والجراد في الهواء، فإذا خطر بقلبه ذهاب الطير أَو الجراد يمينا وشمالًا، ذهب حيث أَراد، وإِذا خطر بقلبه قيام بعض المواشي، أَو نومُه، أَو ذَهَابُه؛ حصل له ما أَراد من غير حركة منه في الظاهر، وتحمله إلى مكة، وتأتي به، وتأتيه بأَشخاص في صورة جميلة، وتقول له: "هذه الملائكة الكروبيون أَرادوا زيارتك"، فيقول في نفسه: "كيف تصوروا بصورة المُرْدان؟ "، فيرفع رأسه فيجدهم بلِحَى، ويقول له: "علامة أَنك المهدي: ¬

_ = لو كان عندي بصل أو كرات عالجته، فإذا عصفور قد جاء فسقط على المثقب في منقاره بصلة، فلما رأيته أضربت عما أردت، وخفت أن يكون من الشيطان). وبالأسناد عن محمد بن يزيد قال: كانوا يرون لوهيب أنه من أهل الجنة، فإذا أُخبر بها اشتد بكاؤه، وقال: قد خشيت أن يكون هذا من الشيطان". اهـ. من "تلبيس إبليس" ص (535، 536).

أَنك تنبت في جسدك شامة" (¬1)، فَتَنْبُتُ ويراها، وغير ذلك، وكله من مكر الشيطان. وهذا باب واسع، لو ذَكَرْتُ ما أَعرف منه؛ لاحتاج إلى مجلد كبير، وقد قال -تَعَالَى-: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} [الفجر: 15 - 16]، قال اللَّه -تبارك وتعالى-: {كَلَّا}، ولفظة (كلا) فيها زجر وتنبيه؛ زجرٌ عن مثل هذا القول، وتنبيه على ما يخبر به، ويأمر به بعده؛ وذلك أَنه ليس كل مَنْ حصل له نِعَمٌ دنيوية تُعَدُّ كرامة، يكون الله -عَزَّ وجَلَّ- مُكْرِمًا له بها، ولا كل من قَدَّر -أي: ضَيَّق- عليه ذلك يكون مُهِينًا له بذلك، بل هو -سبحانه- يَبْتَلِي عبده بالسَّرَّاءِ والضَّرَّاءِ، فقد يعطي النعم الدنيوية لمن لا يحبه، ولا هو كريم عنده؛ ليستدرجه بذلك، وقد يحمي منها من يُحِبُّهُ وُيوَاليهِ، لئلا ينقص بذلك مرتبته عنده، أَو يقع بسببها فيما يكرهه منه. وأَيضًا كرامات الأَولياءِ لابد أَن يكون سببها الإيمان والتقوى (¬2)، فما كان سببه الكفر والفسوق والعصيان، فهو من خوارق أَعداء الله، لا من كرامات أَولياءِ اللَّه، فمن كانت خوارقه لا تحصل بالصلاة، والقراءَة، والذكر، وقيام الليل، والدعاء، وإِنما تحصل عند الشرك؛ مثل دعاءِ الميت، والغائب، أَو بالفسق، والعصيان، وأَكل المحرَّمات؛ كالحيات، والزنابير، والخنافس، والدم، وغيره من النجاسات، ومثل الغناءِ، والرقص، لاسيما مع النِّسوة الأجانب، والمردان، وحالة خوارقه تنقص عند سماع القرآن، وتقوى عند سماع مزامير الشيطان، فيرقص ليلًا طويلًا، فإذا جاءَت الصلاة صلَّى قاعدًا، أو ينقر الصلاة نقر الديك، وهو يُبغض سماع القرآن، وينفر عنه، ويتكلفه، ليس له ¬

_ (¬1) وأمر هذه "الشامة" لا يُعرف له أصل في الأحاديث الصحيحة الواردة في حق المهدي، ومن الغريب أن "المهدي السوداني" عُني بأمر شامة كانت فيه، وكان يُعَوِّل عليها أحيانًا في إثبات مهديته. (¬2) وقد قيل: "الكرامة تَنتجُ عن استقامةٍ، أو تُنْتج استقامةً".

حيل لا خوارق

فيه محبة، ولا ذوق، ولا لذة عند وجده، ويحب سماع المكاءِ والتصدية (¬1)، ويجد عنده مواجيد، فهذه أحوال شيطانية، وهو ممن يتناوله قوله -تَعَالَى-: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36]. فالقرآن هو ذكر الرحمن، قال -تَعَالَى-: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا} [طه: 124 - 126]، يعني: تركتَ العملَ بها. {وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى}. قال ابن عباس -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: "تكفَّل الله لمن قرأ كتابه، وعمل بما فيه، ألَّا يَضِلَّ في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة"، ثم قرأ هذه الآية) (¬2) اهـ. حِيَلٌ لَا خَوَارِقُ من الخوارق ما لا يكون بتسبب شيطاني مباشر، وإنما يكون بطريق التعلم والحيلة، كما يفعله النصارى كثيرًا، وكما كان يفعل ابن تومرت (¬3)، وكما رُوِيَ عن الحلَّاج، من أنه (كان يدفن شيئًا من الخبز، والشواء، والحلوى في موضع من البَرِّيَّة، ويُطْلِعُ بعض أصحابه على ذلك، فإذا أصبح قال لأصحابه: "إن رأيتم أن نخرج على وجه السياحة"، فيقوم، ويمشي الناس معه، فإذا جاءوا إلى ذلك المكان، قال له صاحبه الذي أطلعه على ذلك: "نشتهي الآن كذا وكذا"، فيتركهم الحلاج، وينزوي عنهم إلى ذلك المكان، فيصلي ركعتين، ويأتيهم بذلك، وكان يمد يده إلى الهواء، ويَطْرَحُ الذهب في أيدي الناس، ويُمَخْرِقُ، ¬

_ (¬1) المكاء: الصفير، والتصدية: التصفيق. (¬2) "الفرقان" ص (147 - 151). (¬3) انظر حيل ودجل ابن تومرت في "المهدي" للمؤلف ص (226) وما بعدها.

وقد قال له بعض الحاضرين يَوْمًا: "هذه الدراهم معروفة، ولكن أؤمن بك إذا أعطيتني درهمًا عليه اسمك واسم أبيك"، وما زال يُمَخْرِقُ إلى وقت صَلْبِهِ) (¬1). ومن ذلك ما ذكره بعض أصحاب ابن الشَّبَّاس قال: (حضرنا يومًا عنده، فأخرج جَدْيًا مشويًّا، فأمرنا بأكله، وأن نكسر عظمه ولا نهشمها، فلما فرغنا، أمر بردها إلى التنور، وترك على التنور طبقًا، ثم رفعه بعد ساعة، فوجدنا جديًا حيًّا يرعى حشيشًا، ولم نَرَ للنار أثرًا، ولا للرمَّادِ ولا للعظام خبرًا، قال: فتلطفتُ حتى عرفتُ ذلك، وذلك أن التنور يفضي إلى سرداب، وبينهما طبق نحاس بلولب، فإذا أراد إزالة النار عنه: فركه، فينزل عليه، فيسده، وينفتح السرداب، فإذا أراد أن يظهر النار: أعاد الطبق إلى فم السرداب، فتراءى للناس. قال ابن الجوزي -رحمه اللَّه- تَعَالَى: (وقد رأينا في زماننا من يشير إلى الملائكة، ويقول: "هؤلاء ضيف مُكْرَمون"، يوهم أن الملائكة قد حضرت، ويقول لهم: "تقدموا إليَّ". وأخذ رجل في زماننا إبريقًا جديدًا فترك فيه عَسَلًا، فتشرب في الخزف طعم العسل، واستصحب الإبريق في سفره، فكان إذا غرف به الماء من النهر، وسقى أصحابه، وجدوا طعم العسل، وما في هؤلاء من يعرف اللَّه، ولا يخاف في اللَّه لومة لائم، نعوذ باللَّه من الخِذلان) (¬2). * * * ¬

_ (¬1) "تلبيس إبليس" ص (539). (¬2) "نفسه" ص (541، 542)، وانظر: "مجموع الفتاوى" (11/ 445، 610)، و"البداية والنهاية" (14/ 36).

الإمام شهاب الدين القرافي وحيل النصارى

الإمام شهاب الدين القرافي وحِيل النصارى قال -رحمه الله تعالى-: "ولما علم حُذَّاقهم أن دينهم ليس له قاعدة تُبنى عليه، ولا أصل يُرجع إليه، جمعوا عقول العامة، بتخييلات موهمة، وأباطيل مزخرفة، وضعوها في الكنائس والمزارات (¬1). فمن ذلك أنهم وضعوا صورًا من الحجارة، إذا قُرئ أمامها الإنجيل تبكي، وتجري دموعها، يشاهدها الخاص والعام، فيعتقدون أن ذلك لما علمته من أمر الإنجيل، ويكون لها مجاري رقاق في أجوافها من ورائها متصلة بزق ممتلئة من الماء، يعصره بعض الشمامسة، فيفر الماء في المجاري، ويتصل بعيون الأصنام، وكذلك يصنعون أصنامًا يخرج اللبن من ثديها عند قراءة الإنجيل، وذلك بصقلية وغيرها. ومن ذلك الأصنام من حديد وقناديل وصلبان عظام معلقة بين السماء والأرض، فلا يمسك شيء منها، ولا يمسها شيء، ويقولون: "إن ذلك سبب بركة ذلك المكان، وإنه برهان على عظمة الدين، فإن ذلك لم يوجد لغيرهم من الملل"، ويكون سبب ذلك حجارة من مغناطيس عُمِلت في ست جهات فوق الصنم، وتحته، ويمينه، ويساره، وخلفه، وأمامه، فيجذبه كل حَجَرٍ إلى جهته، وليس البعض أولى من البعض، فيقع التمانع، فيقف الحديد في الوسط، ولذلك لما دخل إليه بعضُ رسل المسلمين أمر بهدم ما حوله من البنيان فسقط، وذلك بقسطنطينية، كرسي مملكتهم، ومجتمع عظمائهم، وعقلائهم، وهذا حالهم. ¬

_ (¬1) سمحت الكنيسة القبطية بوضع الأيقونات والصور في الكنائس، ولم تسمح بعمل أيقونات بارزة أو منحوتة على شكل تماثيل، أما الكنيسة الكاثوليكية فتتخذ التماثيل فضلًا عن الصور. "تاريخ الأقباط" (1/ 271).

ومن ذلك: أن لهم كنيسة كانوا يزعمون أن يد الله -تعالى عما يقولون علوًّا كبيرًا- تظهر من الهيكل بها يومًا معلومًا من السنة يصافحه الناس، فدخل إليها بعض ملوكهم، فصافح اليد، ومسكها مسكًا شديدًا، وقال: "والله، لا تركت هذه اليد حتى أرى وجه صاحبها"، فقال له الأساقفة: "أما تخشى الرب؟! أخَرَجتَ من دين النصرانية؟ " فأبى أن يتركها بكثرة تهويلهم حتى يرى وجه صاحب اليد، فلما أعياهم أمرُه أخبروه أنها يدُ راهبٍ منهم، فقتله، ومنعهم من العود لذلك، فلم يعودوا. وبالجملة؛ الإسهاب في هذا الباب يضيع الزمان لكثرته، وإنما أردت التنبيه على أنهم ما هم عليه من الضلال بنوع من الشعبذة (¬1) ". اهـ (¬2). * * * ¬

_ (¬1) الشعبذة والشعوذة: الأمور الخارقة للعادة التي تظهر على يد أهل الفساد. (¬2) "الأجوبة الفاخرة على الأسئلة الفاجرة" ص (61 - 65).

ابن تيمية يكشف حيل الرهبان

ابن تيمية يكشف حِيَلَ الرهبان قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: "وقد صنَّف بعض الناس مصنفًا في حيل الرهبان، مثل الحيلة المحكية عن أحدهم في جعل الماء زيتًا بأن يكون الزيت في جوف منارة، فإذا نقص صب فيها ماء، فيطوف الزيت على الماء، فيظن الحاضرون أن نفس الماء انقلب زيتًا. ومثل الحيلة المحكية عنهم في ارتفاع النخلة، وهو أن بعضهم مر بدير راهب وأسفل منه نخلة، فأراه النخلة صعدت شيئًا شيئًا حتى حاذت الدير، فأخذ من رُطَبها ثم نزلت حتى عادت كما كانت، فكشف الرجل الحيلة، فوجد النخلة في سفينة في مكان منخفض إذا أرسل عليه الماء امتلأ حتى تصعد السفينة، وإذا صرف الماء إلى موضع آخر هبطت السفينة. ومثل الحيلة المحكية عنهم في التكحل بدموع السيدة، يضعون كحلًا في ماء متحرك حركة لطيفة، فيسيل حتى ينزل من تلك الصورة فيخرج من عينها فيظن أنه دموع. ومثل الحيلة التي صنعوها بالصورة التي يسمونها القونة (¬1) بصيدنايا، وهي أعظم مزاراتهم بعد القمامة وبيت لحم، فإن هذه صورة السيدة مريم، وأصلها خشبة نخلة سُقِيت بالأدهان حتى تنعمت وصار الدهن يخرج منها دهنًا مصنوعًا يُظن أنه من بركة الصورة. ¬

_ (¬1) لعل المراد بها "الأيقونة"، وهي كلمة يونانية أو قبطية الأصل، يُعبر بها عن صور المسيح ومريم عليهما السلام، والحواريين والرسل والقديسين، ونحوهم، وهم يعظمون الأيقونات، ويوجبون وضعها في الكنيسة والبيوت والطرقات بزعم أن تأمل الأيقونة يحثهم على تكريم من ترمز إليه، وهو في الحقيقة عبادة للصور، وإن زعموا أنهم لا يقصدون عبادتها.

ومن حيلهم الكثيرة النار التي يظن عوامهم أنها تنزل من السماء في عيدهم في قمامة، وهي حيلة قد شهدها غير واحد من المسلمين والنصارى، ورأوها بعيونهم أنها نار مصنوعة يضلون بها عوامهم، يظنون أنها نزلت من السماء، ويتبركون بها، وإنما هي صنعة صاحب مُحَالٍ وتلبيس. ومثل ذلك كثير من حيل النصارى، فجميع ما عند النصارى المبدلين لدين المسيح من الخوارق: إما حال شيطاني، وإما محال بهتاني ليس فيه شيء من كرامات الصالحين" (¬1). اهـ. * * * ¬

_ (¬1) "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح" (2/ 339، 340).

الفصل الثالث دعوى رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- يقظة بعد وفاته والتلقي عنه مباشرة

الفَصل الثَّالِث دَعوَى رُؤيَةِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقَظَةً بَعدَ وَفَاتِه وَالتَّلَقِّي عَنهُ مُبَاشَرَةً

دَعوَى رُؤيَةِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- يَقَظَةً بَعدَ وَفَاتِهِ، وَالتَّلَقِّي عَنهُ مُبَاشَرَةً "وكُلُّ مَن قَالَ إِنَّهُ رَأَى نَبِيًّا بِعَيْنِ رَأسِهِ، فَمَا رَأَى إِلا خَيَالًا" (¬1). شيخ الإسلام ابن تيمية من عبث الصوفية بمصادر التلقي، وعدوانهم على المرجعية الشرعية العليا، أنهم ادَّعَوْا أنه يمكن للخواصِّ أن يلقوا رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حال اليقظة، وأن يَتَلَقَّوْا عنه أحكامًا شرعيَّةً ملزمة؛ مما فتح البابَ على مصراعيه للكذِبِ الفاحش على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وادِّعَاءِ إقراره وموافقته على كثير من الضلالات والبدع التي تَلَطَّخَ بها القوم. لقد استدرج الشيطان الصوفية إلى الغلو المذموم في رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وذلك عبر خطوات يُسلم بعضها إلى بعض، ومن هذه الخطوات: 1 - ما زعموه من خروج يده الشريفة -صلى اللَّه عليه وسلم- من قبره ليقبلها الشيخ أحمد الرفاعي (ت 570 هـ). فقد ادَّعى أبو الهدى الصيادي الرفاعي (¬2) أن الشيخ أحمد الرفاعي لما حج، وقف تجاه الحجرة الشريفة، وأنشد: في حالةِ البُعدِ روحي كنتُ أرسلُها ... تقبلُ الأرضَ عني وَهْيَ نائبتي وهذه دولةُ الأشباحِ قد حَضَرَتْ ... فامدُدْ يمينَك كي تحظى بها شَفَتي قال: "فخرجت إليه يده الشريفة من القبر، حتى قبَّلها، والناس ينظرون" (¬3). ¬

_ (¬1) "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" ص (138). (¬2) في كتابه: "قلادة الجواهر في ذكر الغوث الرفاعي وأتباعه الأكابر" ص (67، 68). (¬3) ومن أدلة بطلان هذه الأكذوبة أن أصحاب كتب وتراجم الصوفية كالسبكي والشعراني وابن الملقن وابن خلكان والمناوي" لم يذكروا هذه الحادثة مع أنهم أقرب إلى عصر الرفاعي من الصيادي =

ويشبه ذلك: ما ادعاه الصيادي في قوله: ولما حج الرفاعي عام وفاته، وزار قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- ... ، أنشد قَائلًا: إن قيل: زرتم بما رجعتم ... يا أشرفَ الرُّسْلِ ما نقول فخرج صوت من القبر سمعه كل من حضر، وهو يقول: قولوا رجعنا بكل خيرٍ ... واجتمع الفرعُ والأصول (¬1) 2 - ثم تمادى الصوفية في التخبط، وساروا على نفس الدرب، ونسجوا على نفس المنوال، فأخذوا يختلقون القصص المشابهة: فذكروا أن إبراهيم الأعزب أنشد شعرًا عند قبر النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال له النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "بارك اللَّه بك، أنت منظور بعين الرضا" (¬2). وأن الشيخ عليًّا أبا الحسن الشاذلي استأذن في الدخول على رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- فسمع النداء من داخل الروضة الشريفة يقول: "يا علي! ادخل" (¬3). وأن عبد القادر الجزائري وقف تجاه القبر، وقال: "يا رسول الله! عبدك ¬

_ = المتأخر، وقد ذكر تاج الدين السبكي في فضائله: "رأفته على الهرة والبعوضة والجرادة والكلب" كما في "طبقات الشافعية الكبرى" له (6/ 23)، ولم يتعرض لذكر الحادثة المزعومة، وترجم ابن خلكان للرفاعي -وهو قريب العهد به- ولم يذكر حادثة تقبيل اليد، وكذا فعل الحافظ ابن كثير والحافظ الذهبي، أضف إلى ذلك أنه لم يكن من هديه -صلى الله عليه وسلم- في حياته أن يمد يده كي بقبلها من يسلم عليه. أما رسالة "الشرف المحتم فيما مَنَّ الله به على الرفاعي من تقبيل يد النبي صلى الله عليه وسلم" المنسوبة إلى السيوطي، فلا تصح نسبتها إليه، بل هي مقتبسة من كلام الصيادي في كتابيه "قلادة الجواهر"، و "ضوء الشمس"، وانظر بيان ذلك في "الرفاعية" للشيخ عبد الرحمن دمشقية ص (49، 50). (¬1) "قلادة الجواهر" ص (104)، و"ضوء الشمس في قول النبي: بُني الإسلام على خمس" (1/ 176)، والعجيب أنه هنا يخاطب النبي -صلى الله عليه وسلم- بالشعر، ويجيبه -صلى الله عليه وسلم-في زعمه- بالشعر، مع قوله الله تعالى في حقه -صلى الله عليه وسلم-: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69]. (¬2) "ترياق المحيين" لتقي الدين الواسطي ص (69). (¬3) "أبو الحسن الشاذلي" للدكتور عبد الحليم محمود ص (79).

ببابك، كلبك بأعتابك، نظرة منك تغنيني يا رسول اللَّه، عطفة منك تكفيني"، فقال له الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أنت ولدي، ومقبول عندي بهذه السجعة المباركة" (¬1). 3 - ثم ترقوا إلى أبعد من ذلك، بادعاء أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يخرج من قبره، ويلتقي مشايخهم، وأنهم يرونه يقظة لا منامًا في الدنيا، ويتلقون عنه. قال الشعراني (¬2): قال أبو المواهب الشاذلي: "رأيت رسول الله -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال لي عن نفسه: لست بميت، وإنما موتي تستري عمن لا يفقه عن الله، فها أنا أراه ويراني" (¬3). وقال: كان أبو المواهب كثير الرؤيا لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكان يقول: قلت لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: إن الناس يكذِّبونني في صحة رؤيتي لك، فقال رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم-: "وعزة الله وعظمته من لم يؤمن بها أو كذبك فيها لا يموت إلا يهوديًّا، أو نصرانيًّا، أو مجوسيًّا". وهذا منقول من خط الشيخ أبي المواهب (¬4). وقال أيضًا: رأيت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فسألته عن الحديث ¬

_ (¬1) "جامع كرامات الأولياء" ليوسف بن إسماعيل النبهاني (2/ 100)، ويا عجبًا! كيف يثني النبي -صلى الله عليه وسلم- على هذه "السجعة المباركة"، وقد وصَّى ابنُ عباس -رضي الله عنهما- مولاه عكرمة، فقال: "فانظر السجع من الدعاء، فاجتنبه، فإني عهدتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه لا يفعلون إلا ذلك الاجتناب". رواه البخاري (11/ 138)، وترجم له: "باب ما يُكره من السجع في الدعاء". وكان عروة بن الزبير إذا عُرِض عليه دعاءٌ فيه سجع منسوبًا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، قال: "كذبوا، لم يكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا أصحابه سجَّاعين"، كما في "الحوادث والبدع" للطرطوشي ص (157). (¬2) عبد الوهاب بن أحمد الشعراني صاحب "الطبقات الكبرى" و"الصغرى" في تراجم الصوفية، و"الجواهر في عقائد الأكابر"، توفي سنة (973 هـ). (¬3) "الطبقات الكبرى" للشعراني (2/ 69). (¬4) "نفسه" (2/ 67).

المشهور: "اذكروا الله حتى يقولوا: مجنون"، وفي صحيح ابن حبان: "أكثروا من ذكر الله حتى يقولوا: مجنون" (¬1)، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "صدق ابن حبان في روايته، وصدق راوي اذكروا اللَّه، فإني قلتهما معًا، مرة قلت هذا، ومرة قلت هذا" (¬2). وزعم بعض تلامذة خوجلي بن عبد الرحمن: "أن شيخهم يرى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كل يوم أربعًا وعشرين مرة، والرؤيا يقظة" (¬3). وقال العلَّامة محمود شكري الألوسي -رحمه الله تعالى- في سياق إنكار غلو الصوفية في حق النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: (ومن ذلك دعواهم لرؤياه -صلى اللَّه عليه وسلم- بعد وفاته، فقد ادعاها غير واحد منهم، وادعوا أيضًا الأخذ منه يقظة، قال الشيخ سراج الدين ابن الملقن في "طبقات الأولياء" في ترجمة الشيخ خليفة بن موسى النهرملكي: كان كثير الرؤية لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقظة ومنامًا، فكان يقال: إن أكثر أفعاله يتلقاه منه -صلى الله عليه وسلم- يقظة ومنامًا، ورآه في ليلة واحدة سبع عشرة مرة، قال له في إحداهن: يا خليفة! لا تضجر مني، فكثير من الأولياء مات بحسرة رؤيتي .. ) (¬4). * * * ولما كانت الفرقة التِّجانية ممن روَّج لهذه الفكرة، ودَافَعَ عنها، انبرى بعض الغيورين من أهل العلم والسنة لدحض افترائهم، ورد عدوانهم، ومنهم الشيخ ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد (3/ 68)، وابن حبان (3/ 99 - إحسان) رقم (817)، واسناده ضعيف لضعف دراج في روايته عن أبي الهيثم، وصححه الحاكم (1/ 499)، وقال الذهبي في غير موضع عن دراج: "إنه كثير المناكير"، وانظر: "مجمع الزوائد" (10/ 75، 76). (¬2) "الطبقات الكبرى" للشعراني (2/ 70). (¬3) "الطبقات في خصوص الأولياء الصالحين والعلماء والشعراء في السودان" لمحمد النور بن ضيف الله. (¬4) "غاية الأماني في الرد على النبهاني" ص (50، 51).

أ- ذكر جملة من نصوص التجانية تصرح بإيمانهم برؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- يقظة بعد موته، في الدنيا

علي بن محمد الدخيل الله في بحثه القيم: "التجانية"، الذي نلخص منه الفصل التالي (¬1). أ- ذِكْرُ جُمْلَةٍ مِنْ نُصُوص التِّجَانية تُصَرِّحُ بِإِيمَانِهِمْ بِرؤْيَةِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقَظَةً بَعْدَ مَوْتِهِ، فِي الدُّنيَا: 1 - قال في "جواهر المعاني": "قال -رضي اللَّه عنه- أي شيخه أحمد التجاني مؤسس الطريقة المتوفى سنة (1230هـ - 1815 م): أخبرني سيد الوجود (¬2) يَقَظَةً لا منامًا، قال لي: أنت من الآمنين، ومن رآك من الآمنين إن مات على الإيمان ... " إلخ (¬3). 2 - وقال في "رِمَاح حزب الرحيم": "ولا يكمل العبد في مقام العرفان حتى يصير يجتمع برسول الله -صلى الله عليه وسلم- يَقَظَةً ومشافهة ... " إلخ (¬4). 3 - وقال في "بغية المستفيد": " ... منهم من يرى روحه في اليقظة متشكلة بصورته الشريفة، ومنهم من يرى حقيقة ذاته الشريفة وكأنه معه في حياته -صلى الله عليه وسلم-، وهؤلاء هم أهل المقام الأعلى في رؤيته -صلى اللَّه عليه وسلم-" (¬5). 4 - وقال في "الدرة الخريدة": "وأما الذي هو أفضل وأعز من دخول الجنة، فهو رؤية سيد الوجود -صلى اللَّه عليه وسلم- في اليقظة، فيراه الولي اليوم كما يراه الصحابة -رضي الله عنهم-، فهي أفضل من الجنة" (¬6). ¬

_ (¬1) باختصار أحيانًا، وبزيادات من مصادر أُخَر. (¬2) انظر "المهدي" للمؤلف ص (334). (¬3) "جواهر المعاني" لعلي حرازم (1/ 129)، وانظره (1/ 30، 31)، (2/ 228). (¬4) "رماح حزب الرحيم على نحور حزب الرجيم" لعمر بن سعيد الفوتي (1/ 199). (¬5) "بغية المستفيد شرح منية المريد" لمحمد العربي التجاني ص (79، 80). (¬6) "الدرة الخريدة شرح الياقوتة الفريدة" لمحمد فتحا بن عبد الواحد السوسي (1/ 47).

ب- ذكر أدلتهم ومناقشتها

ب- ذِكرُ أَدلَّتِهِمْ وَمُنَاقَشَتُهَا: الدَّلِيلُ الأَوَّلُ: يستدل التجانيون على إمكان رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- يَقَظَةً بعد موته في الدنيا بما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "مَنْ رآني فِي الْمَنَامِ فَسَيَرَاني فِي اليَقَظَةِ، وَلَا يَتَمَثَّلُ الشَّيْطَانُ بِي" (¬1)، قالوا: فالحديث صريح في رؤية النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقَظَةً بعد موته في الدنيا، قال ابن أبي جمرة: "ودعوى الخصوص بغير مخصِّص منه -عليه السلام- تَعَسُّفٌ" (¬2). ومناقشة هذا الاستدلال من وجوه: الأول: من حيث لفظ الرواية: (1) جاء الحديث من عدة طرق عن أبي هريرة إحداهن باللفظ المذكور آنفًا: "من رآني في المنام فسيراني في اليقظة، ولا يتمثل الشيطان بي"، وأما سائر الطرق: ففي إحداهن: "ومَن رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل صورتي" (¬3). وفي الثانية: "من رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل بي" (¬4). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (12/ 383 - فتح)، رقم (6993)، واللفظ له، ومسلم (15/ 26 - شرح النووي)، وأبو داود (13/ 366 - عون). (¬2) "رماح حزب الرحيم" (1/ 205). (¬3) رواه من طريق أبي صالح ذكوان السمان عن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا: البخاري رقم (6197)، والإمام أحمد (1/ 400)، (2/ 463). (¬4) رواه من طريق محمد بن سيرين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا: مسلم في "صحيحه" (15/ 24 - نووي)، والإمام أحمد (2/ 411، 472).

والثالثة (¬1) الرابعة (¬2) مثل الثانية. وفي الخامسة: "من رآني في المنام فقد رأى الحق، فإن الشيطان لا يتشبه بي" (¬3). وفي رواية بالشك: "من رآني في المنام فسيراني في اليقظة، أو: فكأنما رآني في اليقظة، لا يتمثل الشيطان بي" (¬4). (ب) وقد جاء الحديث عن جمع من الصحابة -رضي اللَّه عنهم- غير أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- وألفاظها جميعًا متقاربة لكنها تخالف الرواية المشكِلة بلفظ: "فسيراني في اليقظة، وهاك بيانها: اللفظ الأول: رواه أنس بن مالك، وجابر بن عبد اللَّه، وأبو سعيد الخدري، وابن عباس، وابن مسعود، وأبو جحيفة -رضي اللَّه عنهم- مرفوعًا: "من رآني في المنام فقد رآني" (¬5). اللفظ الثاني: رواه أبو قتادة، وأبو سعيد الخدري -رضي اللَّه عنهما- مرفوعًا: "من رآني فقد رأى الحق" (¬6). ¬

_ (¬1) رواه من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا: ابن ماجه رقم (3901). (¬2) رواه من طريق عاصم بن كليب عن أبيه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا: الإمام أحمد (2/ 232، 342). (¬3) رواه من طريق محمد بن عمرو بن علقمة الليثي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا: الإمام أحمد (2/ 261). (¬4) رواه من طريق محمد بن شهاب الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا: الإمام أحمد (5/ 306)، وقد اختُلف على الزهري في لفظ الحديث. (¬5) انظر: "صحيح البخاري" رقم (6994)، و"سنن ابن ماجه" رقم (3902)، (3903)، (3905)، و "سنن الترمذي" (3/ 238)، (3904). (¬6) انظر: "صحيح البخاري" رقم (6996)، (6997)، و"صحيح مسلم" (15/ 26 - نووي).

اللفظ الثالث: رواه جابر -رضي اللَّه عنه- مرفوعًا: "من رآني في النوم فقد رآني". فظهر من هذين الوجهين أن الرواية التي استدل بها القوم جاءت مخالفة لجميع ألفاظ مَن روى هذا الحديث مِن أصحاب أبي هريرة عنه -رضي اللَّه عنه-، بل جاءت مخالفة لجميع ألفاظ مَن روى هذا الحديث مِن أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. الوجه الثاني: ونتيجة لهذا الاختلاف حكم العلماء بأن لفظ: "فسيراني في اليقظة" مشكل، ومِن ثَمَّ أخذوا يتأولونه، ويذكرون له أجوبة كي يتوافق مع روايات الجمهور، وأولوه على عدة تأويلات على النحو التالي: 1 - قال ابن التين: "المراد به من آمن به في حياته ولم يره؛ لكونه حينئذ غائبًا عنه (¬1)، فيكون بهذا مُبَشِّرًا لكل من آمن به، ولم يره، أنه لا بد أن يراه في اليقظة قبل موته (¬2)، والمعنى: أن اللَّه سيوفقه للهجرة إليه، والتشرف بلقائه في حياته، ويكون اللَّه -تَعَالَى- جعل رؤيته في المنام علامة على رؤياه في اليقظة. ب- وقال ابن بَطَّالٍ: معناه: سيرى تأويل تلك الرؤيا في اليقظة وصحتها، وخروجها على الوجه الحق (¬3). جـ- وقيل: إنه على التشبيه والتمثيل، ويدل على ذلك قوله في الرواية الثانية: "فَكَأَنَّمَا رَآنِي فِي الْيَقَظَةِ" (¬4). د- وقيل المعني أنه يراه يَقَظَة في الآخرة، وفي هذا بِشَارَةٌ لرائيه بأن يموت ¬

_ (¬1) أي لأنه لم يكن هاجر في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-. (¬2) "فتح الباري" (12/ 385). (¬3) "نفس المرجع" (12/ 385)، "شرح المواهب اللدنية" للزرقاني (5/ 293). (¬4) "نفسه" (12/ 385).

مسلمًا؛ لأنه لا يراه تلك الرؤية الخاصة باعتبار القرب إلا من تَحَقَّقَ موته على الإسلام. هـ- أنه يراه في المرآة التي كانت له إن أمكنه ذلك، وهو قول ابن أبي جمرة، قال في "الفتح": "وهذا من أبعد المحامل" (¬1). و- أنه يراه حقيقة في الدنيا، ويخاطبه (¬2). وهذا الاحتمال الأخير باطل، كما بينه: الوجهُ الثالثُ: ذِكر الأدلة النقلية على استحالة وقوع ذلك شرعًا: إن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قد مات؛ فادعاء حياته بعد موته -صلى الله عليه وسلم- قبل يوم القيامة مستحيلٌ شرعًا؛ لأنه يلزم منه مخالفته لقوله -تَعالَى-: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30]. وقال الألوسي -رحمه اللَّه تعالى-: "ويكفي في إبطال هذا القول قولُه تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر: 42]، فإذا أمسك التي قضى عليها فمن أين لها التمكن من التصرف؟ ومن أين لأحدٍ أن يراها؟ " (¬3). وقال الصنعاني -رحمه الله - تعالى-: "والآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، والمعلوم من الضرورة الدينية، أنَّ من وَارَاهُ القبر لا يخرج منه إلا في المحشر، قال اللَّه -تَعَالَى-: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه: 55]، ولم يقل: تَارَاتٍ أُخَرَ، وقال -تَعَالَى-: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22)} [عبس: 21، 22]، وقال الله -تَعَالَى-: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ} [يس: 31]. وأما الأحاديث النبوية فإنها متواترة: أن من أُدْخِلَ قبره لا يخرج منه إلا عند ¬

_ (¬1) "نفسه" (12/ 385). (¬2) "نفسه" (12/ 385). (¬3) "غاية الأماني في الرد على النبهاني" (1/ 52).

النفخة الثانية في الصور ... وبالجملة، فالقول بخروج الميت من قبره، وبروزه بشخصه لقضاء أغراض الأحياء - قوله مخالف للعقل والنقل" (¬1). ولا يَرِدُ على ذلك أن الأنبياء أحياء في قبورهم، وكذلك الشهداء، ولا ما ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من أنه تُرَدُّ عليه روحه حتى يَرُدَّ السلام على من سَلَّمَ عليه (¬2)، فإن تلك حياة برزخية تختلف عن هذه الحياة؛ ولذا يُقْتَصَرُ في شأنها على ما ورد في النصوص، ثم إنه يلزم من ذلك: أن يُطَالَبُوا بالتكاليف، وأن يخرجوا ليجاهدوا أعداء الله، واللازم باطل، وإذا بطل اللازم بطل الملزوم. إذن لم يثبت بدليل شرعي حصولُ رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- يقظة بعد موته -صلى اللَّه عليه وسلم-، بل الأدلة تدل على استحالة ذلك شرعًا، وغاية ما دلت عليه النصوص إمكانية الرؤيا المنامية، ورواية الجمهور للحديث المذكور في صدر الكلام تؤكد ترجيح ألفاظها على اللفظ المشكل الذي فيه: "من رآني في المنام فسيراني في اليقظة" (¬3)، فهذه الرواية فيها تعليق الجواب على الشرط، وذلك يستلزم أن من رآه -صلى اللَّه عليه وسلم- في المنام يراه في اليقظة، وهذا مخالف للحس والواقع، فقد رآه -صَلَّى الله عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ- جمعٌ كثير من سلف الأمة وخَلفها في المنام، ولم يذكر أحد منهم أنه رآه -صلى الله عليه وسلم- في اليقظة بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى، ومعلوم أن خبر الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم- لا يتخلف أبدًا (¬4)، فدل هذا على مرجوحية اللفظ المشكِل ووجوب تأويله. ¬

_ (¬1) "الإنصاف في حقيقة الأولياء وما لهم من الكرامات والألطاف" للصنعاني ص (51). (¬2) رواه أبو داود، وسكت عنه "سنن أبي داود" (6/ 26 - عون)، والإمام أحمد في "مسنده" (2/ 527)، وصحح ابن القيم إسناده، كما في "عون المعبود" (6/ 30). (¬3) انظر: تخريجه ص (134) هامش (1). (¬4) انظر: "فتح الباري" (12/ 385).

الوَجْهُ الرابع: الدليل العقلي على استحالة وقوع ذلك: قال القرطبي -رحمه الله-: "اختُلِف في معنى الحديث، فقال قوم: هو على ظاهره، فمن رآه في النوم رأى حقيقته كمن رآه في اليقظة سواء، وهذا قولٌ يُدرَك فسادُه بأوائل العقول، ويلزم عليه: أن لا يراه أحد إلا على صورته التي مات عليها. - وأن لا يراه رائيان في آنٍ واحدٍ في مكانين. - وأن يحيا الآن، ويخرج من قبره، ويمشي في الأسواق، ويخاطب الناس، ويخاطبوه، ويلزم من ذلك أن يخلو قبره من جسده، فلا يبقى في قبره منه شيء، فَيُزَارُ مجردُ القبر، ويُسلَّمُ على غائب؛ لأنه جائز أن يُرَى في الليل والنهار، مع اتصال الأوقات على حقيقته في غير قبره، وهذه جهالات لا يلتزم بها من له أدنى مُسْكَةٍ من عقل" (¬1). واعتُرِض على هذا بأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يمكن أن يراه شخصان في مكانين مختلفين في وقت واحد، كما تُرى الشمس أو القمر في أماكنَ متعددةٍ في آنٍ واحدٍ من جماعة كثيرين، وأنشد بعضهم: كالشمس في كبد السماء وضوءها ... يغشى البلادَ مشارِقًا ومغاربا (¬2) وأجيب عن هذا الاعتراض بأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بَشَرٌ كان يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق، ولم يكن له حجم الشمس وارتفاعها، حتى يمكن أن يراه جمع كثير في وقت واحد، ثم إن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا كان في بيته لا يراه إلا من كان معه في البيت، دون من كان خارجه، وكذلك الشمس؛ فإنها لو رُؤِيَتْ فرضًا داخل بيتٍ في جرْمِها، لاستحال رؤية جرمها في بيت آخر (¬3). ¬

_ (¬1) "شرح الزرقاني على المواهب اللدنية" (5/ 293). (¬2) "غاية الأماني" (1/ 52). (¬3) "شرح الزرقاني" (5/ 295).

3 - أنه على فرض صحة هذا الاحتمال لا يليق بعالم بَلْهَ غيره أن يصرف هذا الدليل إلى هذا الاحتمال: لأن من القواعد الأصولية أن الدَّليلِ إذَا تَطَرَّقَ إِلَيهِ الاحْتِمَالُ بَطَلَ بِهِ الاسْتِدْلَالُ، فكيف إذا كان هذا الاحتمال ينقضه نفسُ الحديث، ويرده الشرع والعقل؟! 4 - ما نقلوه عن ابن أبي جمرة من قوله: "ومن يدعي الخصوص فيه بغير مخصص منه -عليه السلام- فمتعسف". مردود بأن الحديث ليس نصًّا صريحًا في رؤية النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقظة بعد موته في الدنيا، ولا في الآخرة، فتخصيصه بالدنيا بغير مخصص تعسف -أيضًا- لكن لما كان تأويله برؤية النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقظة بعد موته في الدنيا مخالفًا للشرع والعقل؛ حمله جمهور العلماء على رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- يقظة في الآخرة، واللَّه أعلم. الوجه الخامس: اضطراب مقالات القوم في كيفية الرؤية: (فلما اشتد الإنكارعلى هؤلاء القائلين برؤيته -صلى اللَّه عليه وسلم- في الدنيا بعد وفاته يقظة لا منامًا، اضطربت مقالاتهم في كيفية تلك الرؤيا، فمنهم من أخذته العزة بالإثم فنفى الموت عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بالكلية، وزعم أن موته -صلى الله عليه وسلم- هو تستره عمن لا يفقه عن اللَّه (¬1). - ومنهم من زعم أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- يحضر كل مجلس أو مكان أراد بجسده وروحه ويسير حيث شاء في أقطار الأرض في الملكوت، وهو بهيئته التي كان عليها قبل وفاته (¬2). - ومنهم من زعم أن له -صلى اللَّه عليه وسلم- مقدرة على التشكل والظهور ¬

_ (¬1) كما حكاه الشعراني عن أبي المواهب الشاذلي، وقد تقدم نقله ص (131). (¬2) "رماح حزب الرحيم" (1/ 210).

الدليل الثاني للتجانية

في صور مشايخ الصوفية (¬1). وفريق لان بعض الشيء: - فمنهم من زعم أن المراد برؤيته كذلك يقظة القلب لا يقظة الحواس الجمسانية (¬2). - ومنهم من قال إن الاجتماع بالنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يكون في حالة بين النائم واليقظان (¬3). - ومنهم من قال إن الذي يُرى هي روحه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬4). وعليه؛ فبعد أن ظهر تفرد تلك الرواية التي استدل بها القوم عن روايات الجمهور، وتلك الاحتمالات التي تأولها أهل العلم في المراد بمعناها، وتلك الإشكالات والإنكارات التي وردت على المعنى الذي قصده القوم، واضطراب مقالاتهم في كيفية نلك الرؤيا، بكل ذلك يسقط استدلالهم بها، والقاعدة المشهورة في ذلك: إذا ورد على الدليل الاحتمال بطل به الاستدلال) (¬5). الدليل الثَّاني للتِّجانية: - قال في "رماح حزب الرحيم": "إن رؤية النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- داخلة تحت قدرة اللَّه -تَعَالَى- فالمنكِر لها منكِرٌ لقدرة اللَّه على ذلك، ومن أنكر قدرة اللَّه؛ فقد كفر، واللَّه -سبحانه وتعالى- الذي أحيا الميت ببعض البقرة: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} [البقرة: 73]، والذي جعل دعاء إبراهيم سببًا ¬

_ (¬1) "الإنسان الكامل" لعبد الكريم الجيلي (2/ 74، 75)، وانظر: "الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة" ص (149 - 171). (¬2) نقله الشعراني في "الطبقات الكبرى" عن محمد المغربي الشاذلي. (¬3) ذكره الشعراني في "الطبقات الصغرى" ص (89). (¬4) "الذخائر المحمدية" لمحمد علوي المالكي ص (259). (¬5) بنصه من: "خصائص المصطفى -صلى الله عليه وسلم- بين الغلو والجفاء" للدكتور الصادق بن محمد بن إبراهيم ص (191، 192).

لإحياء الطيور: {ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا} [البقرة: 260]، وجعل تعجب العُزَيْرِ سببًا لموته وموت حماره، ثم لإحيائهما بعد مئة سنة، قادر على أن يجعل رؤيته -صلى اللَّه عليه وسلم- في النوم سببًا لرؤيته في اليقظة" (¬1). اهـ ملخصًا. وقال محمد الحافظ التجاني (¬2): "وأصل الاجتماع الروحي اجتماع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ليلة الإسراء بالأنبياء -عليهم السلام- وهم في الدار الآخرة، وكان الكليم سيدنا موسى -عليه السلام- سببًا في تخفيف الصلوات عن هذه الأمة، وهو في الدار الآخرة، وصح أن سيدنا أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- أنفذ وصية ثابت بن قيس بن شماس، وقد أوصى بها بعد استشهاده" (¬3). فقد أخرج الحاكم في "المستدرك" عن ثابت عن أنس: "أن ثابت بن قيس جاء يوم اليمامة، وقد تحنط، ولبس أكفانه، وقد انهزم أصحابه، وقال: (اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء، وأعتذر إليك مما صنع هؤلاء، فبئس ما عودتم أقرانكم، خلوا بيننا وبين أقراننا ساعة)، ثم حَمَلَ فقاتل ساعة، فقُتل، وكانت درعه قد سُرقت، فرآه رجل فيما يرى النائم، فقال: إن درعي في قِدْرٍ تحت إكافٍ (¬4) بمكان كذا وكذا، وأوصى بوصايا، فطُلِب الدرع، فوُجِدَ حيث قال، فأنفذوا وصيته" (¬5). ¬

_ (¬1) "رماح حزب الرحيم" (1/ 205). (¬2) محمد بن عبد اللطيف بن سالم الشريف الحسني التِّجاني المصري (ت 1398 هـ) من أشهر دعاة التجانية، ترك مؤلفات كثيرة، وكان مهتمًّا بعلوم الحديث الشريف، وقد أسس مجلة "طريق الحق" الناطقة بلسان التجانيين سنة (1370 هـ - 1950 م). (¬3) انظر الجواب عنه في "الموافقات" (2/ 457) وما بعدها، وراجع هنا ص (69)، (85). (¬4) الإكاف: البَرْذَعة. (¬5) رواه الحاكم في "المستدرك" (3/ 235)، وقال: "صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في "المجمع": "ورواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح" (9/ 322)، وانظر ص (69).

- المناقشة

وعن مسلم أبي سعيد مولي عثمان بن عفان أن عثمان -رضي اللَّه عنه- أعتق عشرين عبدًا مملوكًا، ودعا بسراويل، فشدها عليه -ولم يلبسها في جاهلية ولا إسلام- وقال: "إني رأيت رسول الله -صلى اللَّه عليه وسلم- البارحة في المنام، وأبا بكر، وعمر، فقالوا لي: اصبر! فإنك تفطر عندنا القابلة"، ثم دعا بمصحف فنشره بين يديه فَقُتِلَ، وهو بين يديه (¬1). وقال محمد الحافظ: "وهذا يثبت أن روح الحي تجتمع بأرواح الأموات في النوم، والذي يجمعهم في النوم يجمعهم في اليقظة، والجميع في العلم تحت سلطانه". - المناقشة: ليس كلُّ مُمكنٍ يقعُ في الوجود 1 - إن هذا الرد يلزمنا لو كنا نستدل على عدم إمكان الرؤية يقظة باستبعاد القدرة على ذلك، معاذ اللَّه! والذين ينكرون رؤية النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقظة بعد موته في الدنيا هم مِن أعلم الناس بقدرة الله -تَعَالَى-: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} [فاطر: 44]، فالله -تَعَالَى- قادر على أن يجعل عباده كلَّهم مؤمنين: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99]، كما أنه قادر على أن يجعل المبتدع سنيًّا ملتزمًا، ولكن هكذا شاء اللَّه -عزَّ وجلَّ-: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13]. فمن اعتقد أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لا يُرى يقظة بعد موته في ¬

_ (¬1) قال الهيثمي: "رواه عبد الله، وأبو يعلى في (الكبير)، ورجالهما ثقات". اهـ. من "مجمع الزوائد" (7/ 232).

الدنيا، فقد بنى ذلك على أن هذه المسألة من المسائل الاعتقادية -لا أنه منكر لقدرة الله- والأصل في الأمور الاعتقادية الحظر، حتى يرد دليل يرفع هذا الحظر، وليس هناك دليل شرعي معتبر يرفع هذا الحظر، بل دلَّ الشرع والعقل على خلاف ذلك. 2 - إن قدرة اللَّه -تَعَالَى- متعلقة بكل شيء؛ إذ هو القادر على كل شيء -سبحانه- فلا تلازمَ إذن بين قدرة اللَّه -تَعَالَى- وبين رؤية النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقظة بعد موته في الدنيا؛ إذ لو قلنا بذلك، للزم من هذا القولِ إباحةُ جميع المحرمات، وتحريمُ جميع المباحات، وإلغاء جميع الشرائع، وإفساد العباد والبلاد؛ لأنَّ اللَّه قادر على ذلك جميعًا، فمن الممكن أن نبيح الفاحشة؛ لأن إباحتها داخلة تحت قدرة اللَّه، ومن الممكن أن نحرم الصلاة؛ لأن تحريمها داخل تحت قدرة اللَّه، فإذا بطل اللازم بطل الملزوم، واللَّه أعلم. 3 - إن رؤية النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقظة بعد موته في الدنيا قد أنكرها جمع غفير من العلماء والأئمة؛ كابن حجر العسقلاني، وأبي بكر بن العربي، وابن تيمية، والألوسي، وغيرهم، فهل معنى هذا أنهم يجهلون قدرة اللَّه -عزَّ وجلَّ-؟! {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16]. 4 - إن ما استدل به "محمد الحافظ" من إمكان رؤية النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقظة بعد موته في الدنيا، قياسًا على رؤية النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- للأنبياء ليلة الإسراء يقظة في الدنيا؛ لا يصح، وبيان ذلك: 1 - أن الإسراء والمعراج كانا معجزة للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- خاصة لا يقاس عليها غيرها. ب- أن رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- يقظة بعد موته في الدنيا أمر من أمور الاعتقاد لا يجوز فيها القياس؛ لأنها توقيفية. 5 - أن كل ما ذكره من الآثار فغاية ما فيها رؤى منامية، وهذه ثابتة للنبي

الدليل الثالث من أدلتهم

-صلى الله عليه وسلم- ولسائر أُمته في الأحاديث الصحيحة (¬1)، والنزاع في اليقظة لا في المنام. 6 - قوله: " ... وهذا يثبت أن روح الحي تجتمع بأرواح الأموات في النوم، والذي يجمعهم في النوم يجمعهم في اليقظة، والجميع في العالَم تحت سلطانه". يُجاب عنه من وجهين: ا- أن هذا القياس لا يصح؛ لأن الرؤية في النوم قد جاءت بذكرها الأحاديث الصحيحة بخلاف رؤية اليقظة؛ فقد دل الشرع والعقل على خلافها، فلا يصح قياس ما دلَّ الدليل علي منعه على ما دل الدليل على إثباته. ب- أن قوله: " ... والذي يجمعهم في النوم يجمعهم في اليقظة، والجميع في العالم تحت سلطانه" غاية ما فيه الاستدلال بعموم قدرة اللَّه -تَعَالَى-، وقد سبق الجواب عنه. الدَّلِيلُ الثَّالِثُ مِن أَدِلَّتِهِم: أن رؤية النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقظة بعد موته في الدنيا كرامة يمنحها الله من يشاء من عباده، فالمنكِر لها منكرٌ لكرامات الأولياء الثابتة بالكتاب والسُّنَّة والآثار المسندة؛ ففي الكتاب قصة أصحاب الكهف، وقصة الخضر مع موسى، وقصة آصف بن برخيا مع سليمان ... وغيرها. وفي السُّنَّة: قصة الثلاثة الذين انطبق عليهم الغار، وحديث جريج، وكلام الطفل ببراءته ... وغيرها كثير. ومن الآثار: قصة عمر -رضي اللَّه عنه- مع سارية (¬2). ومن العقل والنظر: وقوعها المتكرر تكرارًا ينتهي إلى حد القطع بشهادة الكتاب والسُّنَّة والإجماع. ¬

_ (¬1) انظرها ص (21). (¬2) انظرها ص (187).

* المناقشة

* المناقشة: 1 - إن هذا الدليل لا يرد على محل النزاع؛ إذ لا تلازم بين إنكار رؤية النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقظة بعد موته في الدنيا وبين إنكار الكرامة، فقد أنكر رؤيةَ النبي -صلى الله عليه وسلم- يقظة بعد موته جمعٌ من العلماء المثبتين لكرامات الأولياء؛ كابن تيمية، وابن حجر العسقلاني، والقرطبي، وابن العربي، والأهدل، وغيرهم. 2 - إن رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- يقظة بعد موته في الدنيا ليست من باب الكرامة، وبيان ذلك: ا- أن الكرامة هبة من الله -تَعَالَى- لمن يشاء من عباده الصالحين لا تُطْلبُ ابتداءً (¬1)، وهم يقولون بطلبها ابتداء. ب- أن الكرامة لا تُدْرَك بالتعلم، وهم يقولون بأنها تدرك بالتعلم والكسب عن طريق كثرة الذكر والرياضة (¬2). قال الشيخ صنع اللَّه الحلبي الحنفي: "أما اعتقادهم أن هذه التصرفات لهم من الكرامات فهو من المغالطة؛ لأن الكرامة شيء من عند اللَّه يكرم بها أولياءه، لا قصد لهم فيها، ولا تحديَ، ولا قدرة، ولا علم؛ كما في قصة مريم بنت عمران، وأسيد ين حضير، وأبي مسلم الخولاني" (¬3). اهـ. ج- أن الكرامة أمر خارق للعادة، لا يخالف النصوص الشرعية الثابتة بالكتاب والسنَّة، ورؤية النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقظة بعد موته في الدنيا معارضة لنص شرعي (¬4)، كما أنها مستحيلة عقلًا (¬5). ¬

_ (¬1) "مجموع الفتاوى" (11/ 360). (¬2) "بغية المستفيد" ص (79، 80). (¬3) انظر: "تيسير العزيز الحميد" ص (198). (¬4) هو قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30]، وانظر ص (137، 138). (¬5) انظر ص (139).

دليلهم الرابع

د- أن الكرامة غالبًا لا تحدث إلا مرة واحدة في العمر، وربما مرة واحدة على امتداد الزمان، بينما يرى -التجانيون أن رؤية النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقظة بعد موته في الدنيا تقع لآلاف البشر في الوقت الواحد، وكل ذلك يبطل القول بأنها من باب الكرامة، واللَّه أعلم. دَلِيلُهُم الرَّابعُ: "أن رؤية النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقظة بعد موته في الدنيا قد وقعت لجمع غفير من سلف هذه الأمة؛ منهم: الشيخ أبو مدين المغربي شيخ الجماعة، والشيخ عبد الرحمن القناوي، والشيخ أبو العباس المرسي، والشيخ أبو السعود بن أبي العشائر، وإبراهيم المتبولي، والشيخ جلال الدين السيوطي، وغيرهم" (¬1). * المناقشة: 1 - إذا ظهر في كلام الأولياء والصالحين ما يخالف الشرع والعقل فينبغي أن يُحمَلَ على أحسن المحامل، ويُصارَ إلى تأويله؛ إذ قد يُنْقَلُ عنهم الكلام، ويُفْهَمُ على غير ما أرادوا؛ لتفاوت المدارك واختلاف العقول، فمن ذلك مثلًا ما قاله أبو العباس المُرْسِي: "لي أربعون سنة ما حُجِبتُ عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولو حُجِبْتُ طرفةَ عين، ما أعددتُ نفسي من جملة المسلمين". قال الشيخ الأهدل: "فهذا كلام فيه تجوُّز يقع مثله في كلام الشيوخ والصالحين، والمراد به أنه لم يُحْجَبْ حجابَ غفلةٍ ونسيان عن دوام المراقبة واستحضارها في الأعمال والأقوال، ولم يُرِدْ أنه لم يحجب عن الروح الشخصية؛ فذلك مستحيل" (¬2). أما من لم يبلغ درجة أولئك في الصلاح والتقوى فلا عبرة بما يقوله، إنما هو ¬

_ (¬1) "رماح حزب الرحيم" (1/ 199). (¬2) "شرح المواهب اللدنية" للزرقاني (5/ 300، 301).

شيطان تمثل له، وأخبر قرينه بخبر كاذب، بل قد يتمثل الشيطان لعباد اللَّه الصالحين؛ كما حدث لعبد القادر الجيلاني، فقد رأى الشيطان في النوم، فقال له: "أنا ربك قد أبحت لك المحرمات"، فقال: "اخسأ يا لعين"، فقيل له: "بم عرفت أنه شيطان؟ " قال: "بقوله: أبحت لك المحرمات، وبقوله: أنا ربك، ولم يقل: أنا اللَّه" (¬1). وقد روى سليمان بن حرب عن حماد بن زيد عن أيوب قال: "كان محمد -يعني ابن سيرين- إذا قصَّ عليه رجل أنه رأى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: (صِف لي الذي رأيتَه)، فإن وصف له صفة لا يعرفها، قال: لم تره" (¬2). قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والضُّلَّال من أهل القبلة يرون من يعظمونه، إما النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وإما غيره من الأنبياء يقظة، ويخاطبهم ويخاطبونه، وقد يستفتونه ويسألونه عن أحاديث، فيجيبهم"، ثم قال: "لكن كثيرًا من الناس يكذِّب بهذا، وكثيرًا منهم إذا صدَّق به يظن أنه من الآيات الإلهية، وأن الذي رأي ذلك رآه لصلاحه ودينه، ولم يعلم أنه من الشيطان، وأنه بحسب قلة علم الرجل يضله الشيطان، ومن كان أقل علمًا قال له ما يعلم أنه مخالف للشريعة. وهو -وإن ظن أنه قد استفاد شيئًا- فالذي خسره من دينه أكثر" (¬3). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه اللَّه- أيضًا: "والشياطين كثيرًا ما يتصورون بصورة الإنس في اليقظة والمنام، وقد تأتي لمن لا يعرف، فتقول: أنا الشيخ فلان أو العالِم فلان، وربما قالت: أنا أبو بكر وعمر، وربما أتى في اليقظة دون المنام وقال: أنا المسيح، أنا موسى، أنا ¬

_ (¬1) "نفسه" (5/ 298). (¬2) قال الحافظ: "إسناده صحيح".اهـ. من "فتح الباري" (12/ 383، 384). (¬3) "مجموع الفتاوى" (27/ 391، 392)، و "الجواب الباهر" ص (54، 55).

محمد، وقد جرى مثل ذلك أنواع أعرفها، وثَمَّ من يصدق بأن الأنبياء يأتون في اليقظة في صورهم، وثَمَّ شيوخ لهم زهد وعلم وورع يصدقون بمثل هذا. ومن هؤلاء من يظن أنه حين يأتي إلى قبر نبي أن النبي يخرج من قبره في صورته فيكلمه ... ، وبعضهم كان يحكي أن ابن منده كان إذا أشكل عليه حديث جاء إلى الحجرة النبوية، ودخل، فسأل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عن ذلك فأجابه، وآخر من أهل المغرب حصل له مثل ذلك، وجعل ذلك من كراماته، حتى قال ابن عبد البر لمن ظن ذلك: "ويحك! أترى هذا أفضل من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار؟ فهل من هؤلاء من سأل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأجابه؟ وقد تنازع الصحابة في أشياء فهلا سألوا النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فأجابهم، وهذه بنته فاطمة تنازع في ميراثه، فهلا سألته فأجابها؟ " (¬1). 2 - إن ما وقع لهؤلاء الشيوخ هل ثبت عنهم أنه كان يقظة أو منامًا؟ وإذا ثبت أنه كان يقظة، فهل ثبت عنهم بسند صحيح يوثق به؟ وإذا ثبت أنه كان يقظة بسند صحيح يوثق به، فهل هم معصومون من تلبيس الشيطان عليهم؟ كل هذه الأسئلة لا نجد الجواب عليها!! 3 - إن رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- يقظة بعد موته لم تُنقل عن أحد من أهل القرون الثلاثة المشهود لهم بالخير من المصطفى -صلى الله عليه وسلم-. إذ كيف يظهر -صلى اللَّه عليه وسلم- للمفضول ولا يظهر للفاضل؟ وقد حدثت حوادث كانت الحاجة فيها إلى ظهوره شديدة جدًّا (¬2) لو كان ذلك ممكنًا؛ منها: 1 - اختلاف المهاجرين والأنصار -رضي اللَّه عنهم- على الخلافة، وقد بقي النزاع بينهم مستمرًّا ثلاثة أيام، حتى شغلهم ذلك عن دفن النبي -صلى اللَّه ¬

_ (¬1) "مجموع الفتاوى" (10/ 407). (¬2) انظر: "الفكر الصوفي" ص (474) وما بعدها.

دليلهم الخامس

عليه وسلم-، فلو ظهر لهم وأخبرهم بأن الخليفة أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- لانقطع النزاع، فكيف لا يظهر في اليقظة لأفضل الناس بعده في أمر مهم؟ 2 - اختلاف أبي بكر -رضي اللَّه عنه- مع فاطمة الزهراء -رضي اللَّه عنها- على الميراث، واشتداد حزنها على أبيها -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ- بعد وفاته. 3 - جمع أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي اللَّه عنه- المصحف الشريف، يقول فيه الألوسي -رحمه اللَّه تعالى-: "وليت شعري! لِمَ كان عثمان يطلب شاهدين من كل من أتاه بآية يشهدان على أنها من القرآن، وهلا رأى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقظة وسأله عن تلك الآية، وهو وسائر الصحابة أحق ممن ذكر بهذه الفضيلة" (¬1). 4 - ما وقع بين طلحة والزبير وعائشة من جهة، وعلي بن أبي طالب من جهة أخرى، حتى وقعت حرب الجمل، فقُتل فيها خلق كثير من الصحابة. 5 - خلاف على -رضي اللَّه عنه- مع الخوارج، وما وقع بين علي ومعاوية -رضي اللَّه عنهما- من النزاع (¬2). ففي كل هذه الحوادث لم يُرْوَ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ظهر لأصحابه يقظة؛ ليفصل بينهم مع أنهم أصحابه، فكيف يظهر لمن دونهم منزلة وتقوى؟ واللَّه أعلم. دَليلُهُمُ الخَامِسُ: أن رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- يقظة قد قال بها علماء كثيرون قبل التجاني؛ كالإمام السيوطي (¬3)، وابن أبي جمرة، والشيخ يوسف بن إسماعيل ¬

_ (¬1) "غاية الأماني" (1/ 225، 226). (¬2) "شرح المواهب اللدنية" (5/ 295)، و"غاية الأماني في الرد على النبهاني" (1/ 226). (¬3) ألف السيوطي كثيرًا من الكتب المستقلة، بلغ عدد منها شهرة واسعة، ولكن بعض أعماله كراسات =

النبهاني، وابن حجر المكي الهيتمي، والغزالي، وابن الحاج، والسبكي، والعفيف اليافعي. قال السيوطي -بعد أن ذكر حديث البخاري: "مَن رَآنِي في المَنَامِ فَسَيَرانِي في اليقَظَةِ، وَلَا يَتَمَثَّلُ الشيْطَانُ بِي"، وبعضَ النقول عن بعض العلماء- قال: "فحصل من مجموع هذه النقول والأحاديث أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حي بجسده وروحه، وأنه يتصرف ويسير حيث شاء في أقطار الأرض والملكوت، وهو بهيئته التي كان عليها قبل وفاته، لم يتبدل منه شيء، وأنه مغيب عن الأبصار كما غُيِّبت الملائكة مع كونهم أحياء بأجسادهم، فإذا أراد اللَّه -تعالى- رفع الحجاب عمن أراد إكرامه برؤيته رآه على هيئته التي هو عليها، لا مانع من ذلك، ولا داعي للتخصيص برؤية المثال" (¬1). وقال الغزالي -بعد أن مدح الصوفية، ووصفهم بأنهم خير خلق الله-: "حتى إنهم في يقظتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء، ويسمعون منهم أصواتهم، ويقتبسون منهم فوائد، ثم يترقى الحال من مشاهدة الصورة والأمثال ¬

_ = صغيرة، وبعضها ضعيف المحتوى، وقيل في محصوله:، إنه لا يقدم جديدًا، وإنما يتوفر على نقل ما وصله"، وقال مؤيدوه: "إنه عوض بذلك المسلمين عن الكتب التي ضاعت في الحروب والاضطرابات"، وقد جمع -رحمه الله- ما لا يتفق جمعه بسهولة، وانظر: "الخصومة في مهدية السودان" ص (43). "لقد ذهب السيوطي إلى القول برؤية النبي والمَلَك في اليقظة والمنام، وإلى أنه رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- أكثر من سبعين مرة، وصحح عليه الأحاديث، وهذا أيضًا ألَّب العلماء عليه، ويقال إنه رجع في النهاية عن معتقده الصوفي وهاجمه، ولكن الذي انتشر عنه هو ما كان في محيط التصوف ودعاوى أهله". اهـ. من "الخصومة" ص (42). وقد ألف السيوطي كتابه "تنوير الحلك بإمكان رؤية النبي والملَك" رَدَّ به على منكري رؤيته -صلى الله عليه وسلم- بعد وفاته في اليقظة، وقال فيه الألوسي: "وكل ما أتى به لا دليل فيه"، إلى أن قال: "والسيوطي -رحمه الله- كان فيما ألفه من الكتب حاطب ليل، في كل كتاب له مذهب ومشرب، وما أتى به في كتابه هذا لا يُعول عليه". اهـ. من "غاية الأماني" (1/ 51). (¬1) "الحاوي للفتاوى" (2/ 435).

* المناقشة

إلي درجات يضيق عنها نطاقُ النطق" (¬1). اهـ. * المناقشة: هذا الدليل مردود من وجهين: 1 - أن اللَّه -سبحانه وتعالى- حينما بعث نبيه -صلى الله عليه وسلم- أنزل عليه القرآن، وآتاه الحكمة؛ فحدَّ الحدود، وبيَّن الشرائع والأحكام، فما دلت الشريعة المطهرة على إثباته أثبتناه، وما دلت على نفيه نفيناه، وما اختُلِفَ فيه رُدَّ إلى كتاب اللَّه وسنَّة رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- إذ هما المرجع في هذا الباب؛ قال اللَّه -سبحانه وتعالى-: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} الآية [النساء: 59]، ولم يمت النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إلا وقد أكمل اللَّه به الدين، وأتم به على عباده النعمة؛ كما قال عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. ولم يرد في القرآن شيء يدل على رؤية النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقظة بعد موته في الدنيا، وكذلك لم يرو شيء في السنَّة المطهرة، وأما الحديث السابق فقد بيَّنَّا آنفًا بطلان الاستدلال به على رؤيته -صلى اللَّه عليه وسلم- يقظة بعد موته، ووجه الحق فيه، واللَّه أعلم. 2 - إن اللَّه -تَعَالَى- قد حفظ كتابه، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، وقد عصم اللَّه نبيه -صلى اللَّه عليه وسلم- فلا يُبَلِّغ عن ربه إلا الحق: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4]. وكلام العلماء يُؤْخَذُ منه وُيرَدُّ، مهما بلغت منزلتهم علمًا وتقوى وورعًا، فهم مقيدون بالكتاب والسنَّة؛ إذ هما المِحَكُّ؛ فما وافقهما قُبِلَ، وما خالفهما رُدَّ، وعبارات العلماء في هذا المعنى كثيرة. ¬

_ (¬1) "المنقذ من الضلال" ص (31)، وانظر: "أبو حامد الغزالي والتصوف" للشيخ عبد الرحمن دمشقية (159 - 178).

وهناك كثير من العلماء الأجلاء الذين لهم باع طويل في خدمة كتاب اللَّه وسنَّةِ رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- ومع ذلك لم يسلموا من الزلل، والأمثلة على ذلك كثيرة في باب العقائد، وفي باب الفروع. ج- المذهب الراجح في رؤية النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقظة بعد موته في الدنيا: قد تبيَّن لك أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- لا يرى يقظة، ومن رأى ما يوهم ذلك فإنه من تلبيس الشيطان -لعنه اللَّه- ولا يرد عليه حديث: "فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ بِي". فإن الشيطان كما أخبر -صلى اللَّه عليه وسلم- لا يتمثل به، لكن الشيطان يخبر قرينه بخبر كاذب؛ كما فعل ذلك مع الجيلاني (¬1). وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه اللَّه-: (وقد ثبت في الصحيح عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "مَنْ رَآنِي في المَنَامِ فَقَدْ رَآنِي حَقًّا؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّل في صُورَتِي" (¬2). فهذا في رؤية المنام؛ لأن رؤية المنام تكون حقًّا، وتكون من الشيطان، فمنعه اللَّه أن يتمثل به في المنام، أما في اليقظة فلا يراه أحد بعينه في الدنيا) (¬3). اهـ. وقال شيخ الإسلام -أيضًا-: "وأما في اليقظة فمن ظن أن أحدًا من الموتى يجيء بنفسه للناس عِيانًا قبل يوم القيامة؛ فمِن جهله أُتي" (¬4). وقال -رحمه اللَّه-: "وكل من قال: إنه رأى نبيًّا بعين رأسه، فما رأى إلا خيالًا" (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "شرح المواهب اللدنية" للزرقاني (5/ 298)، وقد تقدم ذكر خبر الجيلاني ص (47)، (148). (¬2) رواه البخاري (12/ 383 - فتح)، ومسلم (15/ 26 - شرح النووي)، وراجع التعليق عليه ص (244). (¬3) "قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة" ص (29، 30). (¬4) "مجموع الفتاوى" (13/ 94). (¬5) "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" ص (138).

وقال ابن الجوزي -رحمه اللَّه تعالى-: "من ظن أن جسد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المودعَ في المدينة خرج من القبر، وحضر في المكان الذي رآه فيه، فهذا جهل لا جهلَ يُشبهه. فقد يراه في وقتٍ واحدٍ ألفُ شخص، في ألف مكان، على صور مختلفة، فكيف يتصور هذا في شخص واحد" (¬1). وقد سبق أن ذكرنا قول القرطبي (¬2) في استحالة رؤيته -صلى الله عليه وسلم- يقظةً بعد موته. وقال القاضي أبو بكر بن العربي: "وشذ بعض الصالحين؛ فزعم أنها تقع بعين الرأس حقيقة" (¬3). والأدلة على عدم إمكان رؤية النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بعد موته في اليقظة كثيرة، أشرنا إلى كثير منها في المناقشة، ونلخصها فيما يلي: 1 - أن رؤية النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقظة من باب العقائد، والعقائد مبنية على التوقيف، فلا يجزم بنفي شيء أو إثباته إلا بدليل يصح الاعتماد عليه، ولم يرد في الكتاب ولا في السنة ما يدل علي إثباتها، ولم يدَّعِهَا أحد -فيما نعلم- من الصحابة -رضي الله عنهم-، ولا من التابعين ولا من أتباعهم، وهذا من أدلة الاستدلال عند أهل الأصول، وهو ما يعرف عندهم: "بانتفاء المَدْرَك". أما حديث: "فَسَيَرَاني فِي اليَقَظَةِ"، فقد بينا كلام العلماء على هذه الرواية، ووجه الحق فيها. 2 - أن رؤية النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقظة بعد موته في الدنيا مستحيلة شرعًا وعقلًا، وقد سبق بيان ذلك. ¬

_ (¬1) "صيد الخاطر" ص (534). (¬2) تقدم ص (139)، وانظر: "زاد المسلم" (3/ 187). (¬3) "شرح المواهب اللدنية" للزرقاني (5/ 299)، و "فتح الباري" (12/ 384).

3 - أنه قد حدثت حوادث خطيرة في صدر الإسلام كانت الحاجة فيها إلى ظهوره -صلى اللَّه عليه وسلم- شديدة جدًّا، ومع ذلك لم يذكر أحد أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- رؤي يقظة، فكيف يظهر للمفضول، ولا يظهر للفاضل؟! فمن قال: إن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يرى يقظة بعد موته في الدنيا، فقد أتى بقول يُدْرَكُ فساده بأوائل العقول، قال القسطلاني في "المواهب اللدنية": "وبالجملة، فالقول برؤيته -صلى اللَّه عليه وسلم- بعد موته بعين الرأس في اليقظة يُدْرَكُ فساده بأوائل العقول، لاستلزامه خروجه من قبره، ومشيه في الأسواق، ومخاطبته للناس، ومخاطبة الناس له ... " إلخ (¬1). * * * ¬

_ (¬1) "نفس المرجع".

فصل فيما يدعي التجانية تلقيه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد موته يقظة

فَصلٌ فِيمَا يَدَّعِي التِّجَانِيَّةُ تَلَقِّيَهُ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- بَعدَ مَوتِهِ يَقَظَةً كما يزعم التجانيون أنهم يرون النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقظة، فإنهم يزعمون أنهم يستفتونه ويسألونه عن أمور دينهم ودنياهم، ويتلقون منه الأوراد، ويصحح لهم الأحاديث، فيعملون بذلك (¬1)، وفيما يلي بعض النصوص الدالة على ذلك، وهذه النصوص منها ما يدل على اعتقادهم ذلك، ومنها ما يدل على تطبيقهم لهذا الاعتقاد. فمما يدل على اعتقادهم ذلك: ما جاء في "بغية المستفيد" " ... عن الشيخ أحمد الزواوي كان يقول: طريقنا أن نكثر من الصلاة عليه -صلى اللَّه عليه وسلم- حتى نصير من جلسائه، ونصحبه يقظة مثل أصحابه، ونسأله عن أمور ديننا، وعن الأحاديث التي ضعفها الحفاظ عندنا، ونعمل بقوله فيها" (¬2). اهـ. وأما ما يدل على تطبيقهم ذلك؛ فمنه: 1 - قول مؤلف "جواهر المعاني" عن الصلاة المسماة "بياقوتة الحقائق": "هي من إملاء رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- من لفظه الشريف على شيخنا يقظة لا منامًا" (¬3). ¬

_ (¬1) ولا شك أنه يترتب على هذه الدعاوى آثار خطيرة لأنها تفتح باب تحريف الدين والابتداع فيه على مصراعيه، وكأن القوم لم يسمعوا قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الآية [المائدة: 3]، بل تفتح باب الفتن وإراقة الدماء كما تراه واضحًا في سيرة المهدي السوداني وغيره ممن حاولوا إضفاء الشرعية على بدعهم وتسويغ أفعالهم بأنها تأتي استجابة لتكليف مباشر من الرسول -صلى الله عليه وسلم-. (¬2) "بغية المستفيد" ص (79). (¬3) "جواهر المعاني" (2/ 228).

2 - ومن تلك الأوراد التي أملاها الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأحمد التجاني -كما زعموا- صلاة "جوهرة الكمال"، التي جاء في فضلها ما يلي: قال محمد سعد الرُّباطابيُّ: "وأما جوهرة الكمال فهي من إملاء رسول الله -صلى اللَّه عليه وسلم- لسيدنا الشيخ -رضي الله عنه- يقظة لا منامًا، فمن فضلها: أن المرة الواحدة منها تعدل تسبيح العالم ثلاث مرات بشرط الطهارة المائية، وأن من لازمها كل يوم سبع مرات يحبه النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- والخلفاء الأربعة يحضرون مع الذاكر عند السابعة منها، ولا يفارقونه حتى يفرغ من ذكرها" (¬1). 3 - ويقول التجاني عن فضل صلاة "الفاتح لما أُغلِق": "لما أمرني -صلى الله عليه وسلم- بالرجوع إليها سألته عن فضلها؟ فأخبرني أن المرة الواحدة منها تعدل من القرآن ست مرات، ثم أخبرني ثانيًا أن المرة الواحدة منها تعدل من كل تسبيح وقع في الكون، ومن كل ذكر، ومن كل دعاء كبير أو صغير، ومن القرآن ستة آلاف مرة" (¬2). 4 - وقال أيضًا مؤلف "جواهر المعاني": " ... سأل سيدَ الوجود، وعَلَمَ الشهود -صلى الله عليه وسلم- في كل نفس مشهود، عن نسبه، وهل هو من الأبناء والأولاد، أو من الآل والأحفاد؟ فأجابه -صلى الله عليه وسلم- بقوله: (أنت ولدي حقًّا)، كررها ثلاثًا -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقال: (نسبك إلى الحسن بن علي صحيح)، وهذا السؤال من سيدنا -رضي اللَّه عنه- لسيد الوجود يقظة لا منامًا، وبشره -صلى اللَّه عليه وسلم- بأمور عظام جسام صلى اللَّه عليه، وسلَّم، وشرف، وكرَّم، ومجَّد، وعظَّم" (¬3). وقال -أيضًا- فيما يرويه عن شيخه التجاني: قال: رأيته مرة -صلى اللَّه ¬

_ (¬1) "شروط وأحكام أوراد الطريقة التجانية" ص (25). (¬2) "جواهر المعاني" (1/ 136). (¬3) "نفسه" (1/ 30، 31).

عليه وسلم-، وسألته عن الحديث الوارد في سيدنا عيسى -عليه السلام- قلت له: ورد عنك روايتان صحيحتان، واحدة قلت فيها: "يَمْكُثُ بَعْدَ نُزُولهِ أَرْبَعِينَ، وقلت في الأخرى: سَبْعًا، ما الصحيحة منها؟ " قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "رواية السبع" (¬1). ومثل هذا ما قاله ابن حجر الهيتمي: "وقد حكي عن بعض الأولياء أنه حضر مجلس فقيه، فروى ذلك الفقيه حديثًًا، فقال له الولي: هذا الحديث باطل، قال: ومن أين لك هذا؟ قال: هذا النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- واقف على رأسك، يقول: إني لم أقل هذا الحديث، وكُشِف للفقيه فرآه" (¬2). ومثله ما حكاه الشعراني: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- زار جلال الدين السيوطي في بيته يقظة لا منامًا، وأنه جعل يقرأ الأحاديث بين يديه -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو يسمع. قال الشعراني: "أخبرني الشيخ سليمان الخضيري قال: بينا أنا جالس في الخضيرية على باب الإمام الشافعي -رضي اللَّه عنه- إِذْ رأيت جماعة عليهم بياض، وعلى رؤوسهم غمامة من نور، يقصدونني من ناحية الجبل، فلما قربوا مني فإذا هو النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، فقبَّلت يده، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "امض معنا إلى الروضة"، فذهبت مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى بيت الشيخ جلال الدين، فخرج إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقبَّل يده، وسلَّم على أصحابه، ثم أدخله الدار، وجلس بين يديه، فصار الشيخ جلال الدين يسأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن بعض الأحاديث، وهو -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: هاتِ يا شيخَ السُّنة" (¬3). ¬

_ (¬1) "نفسه" (1/ 55). (¬2) "الفتاوى الحديثية" ص (217). (¬3) "الطبقات الصغرى" للشعراني ص (28، 29).

المناقشة

المناقشة: 1 - لو سلمنا جدلًا -وهو محال- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يُرى يقظة، فالحق أنه لا عمل إلا بالكتاب والسنة، والسنة هي ما أضيف إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- من قول، أو فعل، أو تقرير، أو وصف، وما ادعاه التجانيون من الإخبار عن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقظة بعد موته، فليس داخلًا في تعريف السنة، فلا يمكن إن يسمى حديثًا مرفوعًا، ولا موقوفًا، ولا مرسلًا، ولا مضطربًا، ولا شاذًّا. قال محمد الخضر الشنقيطي: "فإن كانت مرفوعة متصلة الإسناد، كما يقول صاحب المنية: وَكُلُّ مَا يُرْوَى فَعَنْ خَيْرِ الْوَرَى ... مُتَرْجَم لَفَظُهُ بِالأَمْرِ (¬1). فعلى هذا يكون ما قالوه وحيًا مرويًّا عن النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لقوله -تَعَالَى-: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4]، ويكون هو صحابيًّا، والناقلون عنه تابعين، أو تكون غير مرفوعة متصلة الإسناد؛ لاستحالة وجود الصحابة في القرن الثاني عشر، فتكون مروية عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مباشرة، وهذا غير معقول، اللهم، إلا أن يقولوا: إن شريعتهم لما كانت مخترعة غير داخلة تحت قانون شرعي، وجب أن يُخترعَ لها اصطلاح غير داخل في اصطلاح المُحَدِّثين" (¬2). 2 - إنه يشترط فيما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في حياته صحة السند، وعدالة الرواة، فكيف برؤى لا نشك في بطلانها؛ لمخالفتها للأدلة النقلية والعقلية. ¬

_ (¬1) "منية المريد" ص (7). (¬2) "مشتهي الخارف الجاني في رد زلقات التجاني الجاني" ص (44، 45).

3 - إن اتصال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بالناس قد انقطع بوفاته؛ كما دل على ذلك الكتاب والسنَّة، فمن ذلك حديث ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إِنَّكُمْ مَحْشُورُون حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا"، ثم قرأ: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 104]، وأول من يكسى يوم القيامة إبراهيم، وإن أناسًا من أصحابي يؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: أصحابي أصحابي، فيُقال: إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم، فأقول كما قال العبد الصالح: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ} - إلى قوله {الْحَكِيمُ} " (¬1) [المائدة: 117، 118]. قال الألوسي: "ومعني الجملتين: أني مادمت فيهم كنت مشاهدًا لأحوالهم؛ فيمكن لي بيانها، فلما توفيتني كنت أنت المشاهد لها لا غيرك، فلا أعلم حالهم، ولا يمكنني بيانها" (¬2). ففي الحديث -كما ترى- تصريح بانقطاع الاتصال بين الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- وبين الناس بعد مماته. وقال ابن القيم: "فالعلم اللدني نوعان: لدني رحماني، ولدني شيطاني، والمِحَكُّ هو الوحي، ولا وحي بعد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-" (¬3). 4 - وقد اختلف الأصوليون: هل يجوز للرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- تأخير البيان إلى وقت الحاجة، أو لا يجوز له ذلك؟ أما تأخير البيان إلى ما بعد وفاته -صلى اللَّه عليه وسلم- فلم يقل به عاقل فضلًا عن عالم مُنْصِفٍ يطلب الحق، ويتحرى الحقيقة. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6/ 368، 387 - فتح)؛ ومسلم (17/ 194 - نووي)، وراجع التعليق عليه ص (58 - 60). (¬2) "روح المعاني" (7/ 69). (¬3) "مدارج السالكين" (2/ 261).

5 - وسُئل الشيخ التجاني: "أيُكذَبُ عليك؟ قال: نعم، إذا سمعتم عني شيئًا فزنوه بميزان الشرع، فما وافق فاعملوا به، وما خالف فاتركوه" (¬1). قُلْتُ: وقد عرضنا ذلك على الكتاب والسنة، فبان بطلانه وبعده عن الحق؛ فوجب عليهم رده أخذًا بوصية شيخهم، كيف لا، وقد بان لهم الدليل؟ (¬2). * * * ¬

_ (¬1) "الانتصاف" (1/ الحلقة الثالثة) لمحمد الحافظ التجاني. (¬2) انتهى بتصرف من "التجانية: دراسة لأهم عقائد التجانية على ضوء الكتاب والسنة" ص (125 - 149)، للشيخ علي بن محمد الدخيل الله -طبعة دار طيبة- الرياض.

تنبيهات

تَنبِيهَاتٌ: الأوَّلُ: ذكر العلامة محمد حبيب الله الشنقيطي -رحمه الله- اختلاف العلماء في هذه المسألة، ومال إلى خلاف قول الجمهور، إلا أنه قال: "إذا علمت ما قررناه من إمكان رؤيته -صلى الله عليه وسلم- في اليقظة كرامة لبعض خواص أكابر الأولياء ... ، فاعلم أن فائدة ذلك إنما تعود غالبًا على الرائي فقط، ولا يجوز أن يثبت بها حكم شرعي كائنًا ما كان ندبًا أو غيره من سائر الأحكام الشرعية، كما تعطيه قواعد الشرع المعلومة، وكما صرح به الأئمة؛ كالحافظ ابن حجر وغيره، فقد قال في "فتح الباري" بعد بحث طويل عند قوله -عليه الصلاة والسلام-: "وَلَا يَتَمَثَّلُ الشيْطَانُ بِي" ما نص المراد منه: ومع ذلك فقد صرح الأئمة بأن الأحكام الشرعية لا تثبت بذلك" (¬1). وهذا كلام العلماء فيما يدعي النائم أنه أخذه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من أحكام النوم، مع ثبوت رؤيته -صلى اللَّه عليه وسلم- في النوم بالأحاديث الصحيحة، فكيف بما يزعمون أنهم أخذوه عنه -صلى الله عليه وسلم- بعد موته في اليقظة مع أنها مردودة شرعًا وعقلًا كما تم بيانه. الثَّاني: بحسب قلة علم الرجل يُضِلُّه الشيطان: قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "والمقصود أن الصحابة -رضوان الله عليهم- لم يطمع الشيطان أن يضلهم كما أضل غيرهم من أهل البدع الذين تأولوا القرآن على غير تأويله، أو جهلوا السنة، أو رأوا وسمعوا أمورًا من الخوارق فِظنوها من جنس آيات الأنبياء والصالحين، وكانت من أفعال الشياطين ... فأهل الهند يرون من يعظمونه من شيوخهم الكفار وغيرهم. والنصارى يرون من يعظمونه من الأنبياء والحواريين وغيرهم. ¬

_ (¬1) "زاد المسلم" (3/ 187).

والضُّلَّال من أهل القِبلة يرون من يعظمونه، إما النبي -صلى الله عليه وسلم- وإما غيره من الأنبياء يقظة، ويخاطبهم ويخاطبونه، وقد يستفتونه ويسألونه عن أحاديث فيجيبهم، ومنهم من يخيل إليه أن الحجرة قد انشقت، وخرج منها النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وعانقه هو وصاحباه ... وأعرف ممن وقع له هذا وأشباهه عددًا كثيرًا، وقد حدثني بما وقع له في ذلك، وبما أخبر به غيره من الصادقين من يطول هذا الموضع بذكرهم ... لكنْ كثير من الناس يكذِّب بهذا، وكثير منهم إذا صدَّق به يظن أنه من الآيات الإلهية، وأن الذي رأى ذلك رآه لصلاحه ودينه، ولم يعلم أنه من الشيطان، وأنه بحسب قلة علم الرجل يضله الشيطان" (¬1). التنبيه الثَّالثُ: "لو فرضنا جدلًا أن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- يمكن أن يعود بجسده الشريف أو روحه الطاهر- صلى اللَّه عليه وسلم- ليلقى بعض المسلمين، فإننا نجزم أن لقاءه هذا سيكون لتعزيز شريعته التي بثها في حياته لا لهدمها، فنتصور مثلًا في مثل التجاني أن يقول: (لا تكن أنت وأتباعك عبيدًا للاستعمار الفَرَنْسِيِّ ولا خدمًا للكفار، وقوموا بنصرة الدين، وجاهدوا في سبيل اللَّه). وأما أن يأتي النبي -صلى الله عليه وسلم- ليقول للتجاني: (أقطعتُكَ الجنة وأتباعك -ولو كانوا مجرمين فاسقين- وكل من رآك دخل الجنة، ولو كان كافرًا، وأمُرْ أتباعك أن يَدْعوك من دون اللَّه، ويشركوا بالله في كل شىء ... ) إلخ كلامه" (¬2). الرَّابعُ: يدعي التجانية أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يؤمر بتبليغ كل ما علمه، وأن ما لم يُبَلِّغْهُ في حياته يبلغه بعد وفاته لمن يلقاه من الخواص، قال ¬

_ (¬1) "مجموع الفتاوى" (27/ 390 - 392) بتصرف. (¬2) "الفكر الصوفي" ص (360).

مؤلف "جوهر المعاني": "وسألته -رضي اللَّه عنه-: هل خَبَرُ سيدِ الوجود بعد موته كحياته سواء؟ فأجاب -رضي اللَّه عنه- بما نصه: الأمر العام الذي كان يأتيه عامًّا للأمة طوي بساط ذلك بموته -صلى اللَّه عليه وسلم-، وبقي الأمر الخاص الذي كان يلقيه للخاص، فإن ذلك في حياته، وبعد مماته دائمًا لا ينقطع" (¬1). وقال مؤلف "الجيش الكفيل": "فإذا تقرر هذا علمتَ ضرورة أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يؤمر بتبليغ كل ما علمه، كيف وعنده علم الأولين والآخرين" (¬2). اهـ. وقال -أيضًا-: "وسئل: هل كان -صلى اللَّه عليه وسلم- عالمًا بفضل صلاة الفاتح لما أغلق؟ فقال: نعم، كان عالمًا به، قالوا: ولِمَ لَم يذكره لأصحابه؟ قال: لعلمه -صلى اللَّه عليه وسلم- بتأخير وقته، وعدم وجود من يظهره اللَّه على يديه في ذلك الوقت" (¬3). اهـ. فأين هؤلاء الظالمون المتعدون حدودَ اللَّه من قوله -تَعَالَى-: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الآية [المائدة: 3]؟ وأين هم من قوله -تَعَالَى-: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} الآية [المائدة: 67]؟ وأين هم من تبري عليٍّ -رضي الله عنه- من أن يكون -صلى اللَّه عليه وسلم- خصهم بشيء من العلم دون الناس، كما في حديث أبي جحيفه؟ (¬4). وإذا كان يلزم من كلام أولئك الضالين عدم انقطاع خبر السماء بوفاة رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- فلماذا قالت أم أيمن للشيخين -رضي اللَّه عنهما-: "ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء"، فهيَّجَتْهما على ¬

_ (¬1) "جوهر المعاني" (1/ 140). (¬2) "الجيش الكفيل بأخذ الثأر" ص (110، 111). (¬3) "نفسه" ص (110). (¬4) رواه البخاري، أرقام: (111)، (1870)، (3172)، وغيرها.

البكاء، فجعلا يبكيان معها (¬1)؟ وقد صح أن عمر -رضي اللَّه عنه- قال في بعض الأمور: "ليتني سألتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- عنه". وأين هؤلاء من قول أم المؤمنين عائشة -رضي اللَّه عنها- لمسروق -رحمه اللَّه-: "من حدثك أن محمدًا -صلى اللَّه عليه وسلم- كتم شيئًا مما أنزل عليه، فقد كذب، واللَّه يقول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} ... الآية" (¬2). وقال الإمام أبو محمد بن حزم -رحمه اللَّه-: " ... واعلموا أن رسول الله -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يكتم من الشريعة كلمة فما فوقها، ولا أطلع أخص الناس به من زوجة أو ابنة عم أو ابن عم أو صاحبٍ على شيء من الشريعة كَتَمَهُ عن الأحمر والأسود ورعاة الغنم، ولا كان عنده -عليه السلام- سر ولا رمز ولا باطن غير ما دعا الناس كلَّهم إليه، ولو كتمهم شيئًا لما بلَّغ كما أُمِر، ومن قال هذا: فهو كافر، فإياكم وكلَّ قول لم يبين سبيله، ولا وضح دليله، ولا تعوجوا عما مضى عليه نبيكم -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه -رضي الله عنهم-" (¬3). اهـ. * * * ¬

_ (¬1) رواه مسلم (16/ 9، 10 - شرح النووي). (¬2) رواه البخاري (8/ 275 - فتح)، ومسلم (3/ 8، 9 - شرح النووي). (¬3) "الفَصْل" (2/ 116).

الفصل الرابع الإلهام والكشف والتحديث

الفَصلُ الرَّابِع الإِلهَامُ والكَشفُ والتَّحدِيث

تعريف الإلهام لغة

الفَصلُ الرَّابِعُ الإلهَامُ والكشفُ والتَّحدِيثُ تعريف الإلهام لغة: 1 - يأتي بمعنى: إلقاء الشيء في الروع، ويختص ذلك بما كان من جهة اللَّه -تعالى- وجهة الملأ الأعلى، قال تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} (¬1) [الشمس: 8] (¬2). وأصله من: التهام الشيء، وهو: ابتلاعه، يُقال: التهم الفصيلُ ما في الضَّرْع، وفرسٌ لَهِم، كأنه يلتهم الأرض لشدة عدوه (¬3). وقال ابن الأثير: "الإلهام: أن يلقي الله في النفس أمرًا يبعثه على الفعل أو الترك، وهو نوع من الوحي يخص الله به من يشاء من عباده" (¬4). ¬

_ (¬1) "تاج العروس" ص (55)، و"مختار الصحاح" ص (253). (¬2) وهذا هو الموضع الوحيد في القرآن الكريم الذي جاء فيه لفظ "الإلهام" صريحًا، لكنه ورد بالمعنى في قوله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل: 68]، وهذا إلهام لغير مكلف، أما إلهام المكلفين ففي فوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} الآية [القصص: 7]، وقوله عز وجل: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي} الآية [المائدة: 111]، وانظر: "لسان العرب" (2/ 555). وأما السنة الشريفة فقد عبَّر عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "إن روح القُدُس نفثُ في روعي أن نفسًا لن تموت، حتى تستكمل رزقها، ألا فاتقوا الله، وأجملوا في الطلب". رواه البغوي في "شرح السنة" (4112)، وله شواهد كثيرة ترتقي به إلى الصحة، انظرها في "حاشية الموافقات" (4/ 465، 466). وجاء معنى الإلهام أيضًا في قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "قد كان يكون في الأمم قبلكم مُحَدَّثون، فإن يكن في أمتي منهم أحد؛ فإن عمر بن الخطاب منهم". رواه مسلم (4/ 1864)، والمحدَّثون هم المُلْهَمون، كما سيأتي ص (211). (¬3) "المفردات في غريب القرآن" ص (455) ط. دار المعرفة. (¬4) "النهاية في غريب الحديث والأثر" (4/ 284).

تعريف الإلهام اصطلاحا

2 - ويأتي بمعنى: الإيقاع في القلب، ويشمل ما كان من جهة الله -تعالى- أو بواسطة الشيطان (¬1). قال السمرقندي في "الميزان": "تفسيره لغةً: إيقاع شيء في قلب العاقل يُفضي إلى العمل به، ويحمله عليه، ويميل قلبه إليه، حقًّا كان أو باطلًا، قال تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَها وَتَقْوَاهَا}، وذلك قد يكون بواسطة الشيطان وهوى النفس فيُسمى وسوسة" (¬2). وفي "تاج العروس": "يُقال الإلهام: إيقاع شيء في القلب يطمئن له الصدر، يخص به الله من يشاء من عباده" (¬3). أما تفسيره عرفًا: فيستعمل فيما يقع في القلب بطريق الحق دون الباطل، ويدعو إلى مباشرة الخيرات دون الشهوات والأماني (¬4). 3 - ويأتي بمعنى: التلقين: قال الفيروزآبادي: "ألهمه الله خيرًا، لقَّنه إياه" (¬5). تعريف الإلهام اصطلاحًا: تدور تعريفات الأصوليين حول معنى أن الإلهام: عبارة عن إلقاء معنى، أو فكرة، أو خبر، أو حقيقة في النفس، أو القلب، أو الروع، بطريق الفيض، ¬

_ (¬1) وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن للشيطان لَمَّة بابن آدم، وللمَلَك لمة، فأما لمة الشيطان؛ فإيعاد بالشر، وتكذيب بالحق، وأما لمة المَلَك؛ فإيعاد بالخير، وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك، فليعلم أنه من الله، فليحمد الله، ومن وجد الأخرى، فليتعوذ بالله من الشيطان، ثم قرأ: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا}، أخرجه الإمام أحمد (1/ 235)، والترمذي رقم (2988)، والنسائي (11051)، وابن حبان (997) (3/ 278 - إحسان)، ورواه الحاكم (1/ 265)، وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وأخرجه الطبراني في "الكبير" (10426)، وقال الهيثمي في "المجمع": "وإسناده جيد". اهـ. (10/ 679). (¬2) "الميزان" ص (678). (¬3) "تاج العروس" ص (255). (¬4) "الميزان" ص (668). (¬5) "القاموس المحيط" (2/ 255).

بمعنى: أن يخلق الله -تعالى- فيه علمًا ضرورًّيا (¬1)، لا يملك المكلَّفُ دفعه بحالٍ من الأحوال. وتحصيله لا يتأتى بطريق التعليم والاكتساب المعهود، بل يُفاض على النفس فيضًا بغير اختيارها ولا إرادتها، فهو لا يُطلب وإنما يُوهب. ومن ثَمَّ فإن أدق تعريف للإلهام ما عَرَّفه به القاضي الدبوسي -رحمه اللَّه- إذ قال: "ما حَرَّك القلبَ بعلمٍ يدعوك إلى العمل به من غير استدلالٍ بآية، ولا نظرٍ في حجة" (¬2). * * * ¬

_ (¬1) وثمرة العلم الضروري أنه إذا ألقي في القلب يحرك العمل، ويبعث على الفعل أو الترك. (¬2) "تقويم الأدلة" ص (392)، وعلَّق عليه السمرقندي فقال: "وهو حدٌّ صحيح، فإن الإلهام في عرف الناس ما يكون من الله -تعالى- بطريق الحق". اهـ. من "ميزان الأصول في نتائج العقول" ص (679).

إلهام الأنبياء وحي

إلهام الأنبياء وحي بَيَّن اللَّهُ -تعالى- مقامات وحيه إلى أنبيائه فقال: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشورى: 51]. فالمقامات ثلاثة: الأول: الإلقاء في روع الموحَى إليه، بحيث لا يمتري النبي في أن هذا الذي ألقي في قلبه من الله -تعالى-، كما في حديث: "إن روح القدس نفث في روعي" الحديث (¬1)، وهذا هو الإلهام، قال الزركشي: "من جملة طرق الوحي: الإلهام" (¬2). ومنه: رؤيا الأنبياء بلا شك، ولذلك بادر إبراهيم -عليه السلام- إلى ذبح ولده، قال تعالى في شأن إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما الصلاة والسلام: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات: 102 - 105]. وفي الحديث المتفق عليه قالت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: "أول ما بدئ به رسول الله -صلى اللَّه عليه وسلم- من الوحي الرؤيا الصالحة ي النوم، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح" (¬3). المقام الثاني: تكليم الله لرسله من وراء حجاب: كما وقع لموسى -عليه السلام-، قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه آنفًا. (¬2) "البحر المحيط" (6/ 105). (¬3) رواه الإمام أحمد (6/ 232، 233)، والبخاري (4956)، (6982)، ومسلم (160) (253)، غيرهم.

المقام الثالث: الوحي إلى الرسول بواسطة ملك الوحي جبريل عليه السلام،

وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف: 143]. وكما وقع لآدم عليه السلام، قال عز وجل: {قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} [البقرة: 33]. وكلم الله عبده ورسوله محمدًا -صلى اللَّه عليه وسلم- عندما عُرج به إلى السماء. المقام الثالث: الوحي إلى الرسول بواسطة مَلَك الوحي جبريل عليه السلام، ونادرًا ما يوحي إليه بواسطة غيره من الملائكة (¬1). * * * حكم مُنكِر إلهامِ الأنبياء يتفق الأصوليون على أن الإلهام من الله -تعالى- لأنبيائه حقٌّ، وهو بالنسبة للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حُجَّةٌ في حَقِّهِ، كذلك هو في حق أُمته، ويكفر منكر حقيقته، ويفسق تارك العمل به كالقرآن الكريم (¬2)، وهاك طرفًا من نصوصهم: قال صاحب "المنار": "الإلهام حجة على المُلْهَم وعلى غيره، إن كان الملهَمُ نبيًّا، وعلم أنه من الله تعالى" (¬3). وقال صاحب "مُسَلَّم الثبوت": "ثم إلهامه -صلى اللَّه عليه وسلم- حجة قطعية عليه، وعلى غيره"، وقال شارحه: "يُكِفَّر منكِر حَقِّيَّتِه، ويُفَسَّق تارك العمل به كالقرآن" (¬4). * * * ¬

_ (¬1) انظر: "عالم الملائكة الأبرار" للدكتور عمر سليمان الأشقر ص (46 - 50). (¬2) "الموسوعة الفقهية" (6/ 188)، وانظر: "جمع الجوامع" (2/ 356). (¬3) "كشف الأسرار بشرح المنار" (2/ 520). (¬4) "مسلم الثبوت وشرحه فواتح الرحموت" (2/ 421، 422).

إلهام غير الأنبياء

إلهام غير الأنبياء اختلف الأصوليون في حجية إلهام غير الأنبياء من المسلمين: 1 - ففرقة أثبتت حجيته مطلقًا: وهم بعض الحبية (¬1)، وبعض الجبرية (¬2)، وبعض الصوفية (¬3)، وبعض الرافضة الجعفرية (¬4)، ومعهم بعض الحنفية (¬5). 2 - وفرقة نفت حجيته مطلقًا: ¬

_ (¬1) حكى أبو زيد الدبوسي في "تقويم الأدلة" ص (399) عن بعضهم قولهم في الإلهام: "إنه حجة بمنزلة الوحي المسموع من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكذا حكاه عنهم ابن السمعاني في "قواطع الأدلة" (5/ 120). والحبية: قوم زعموا أنهم أحباء الله عجبًا بأنفسهم، وأن الله يتجلى لقلوبهم ويحدثهم، فمِن أجل ذلك رأوا حديث أنفسهم حجة، انظر: "تقويم الأدلة" ص (399). (¬2) نسبه إليهم ابن السبكي في "جمع الجوامع" (2/ 356)، والزركشي في "تشنيف المسامع مع شرح جمع الجوامع" (2/ 159)، والولي العراقي في "الغيث الهامع شرح جمع الجوامع" (3/ 819). (¬3) نسبه إليهم السمرقندي في "ميزان الأصول في نتائج العقول" ص (679)، والزركشي في "البحر المحيط" (6/ 103). وعليه بنى محمد أحمد المتمهدي السوداني دعوته قائلًا: "إن أمرنا ناشئ عن إلهام صائب مع المشورة المسنونة" اهـ. نقله عنه في "ندوة اتجاهات الفكر الإسلامي المعاصر" ص (393)، ومِن قَبله ادعى ابن عربي أن ترتيب الفتوحات المكية "لم يكن لي من اختيار، ولا عن نظر فكري، وإنما الحق يملى لنا على لسان مَلَكَ الإلهام جميع ما نسطره" اهـ. من "الفتوحات المكية" (1/ 287)، وهذا عين ما ادعاه الجيلي في كتابه "الإنسان الكامل"، حيث ادعى أنه أسسه على الكشف الصريح، وأن الله أمره بإبرازه، مع ما تضمنه من الإلحاد، والكفر، والتخليط، وانظر: "الفكر الصوفي" ص (149) وما بعدها، وانظر أيضًا: "كتب حذر منها العلماء" (1/ 45). (¬4) نسبه إليهم صاحب "الميزان" ص (679)، وانظر: "فواتح الرحموت" (2/ 422)، و"البحر المحيط" (6/ 103). (¬5) كصاحب "مسلم الثبوت" وشارحه صاحب "فواتح الرحموت".

منهم القفال الشاشي (¬1)، وابن السبكي (¬2)، والنسفي (¬3)، وابن الهُمام (¬4)، والشعراني (¬5)، والكاكي (¬6)، والألوسي، والسرهندي (¬7). 3 - وفرقة توسطت، فلم ينكروا أصله، وذهبوا إلى جواز العمل بالإلهام في غير العقائد، وقيدوا هذا الجواز بشروط ثلاثة: الأول: ألا يوجد دليل شرعي في المسألة، لا من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس، ولا غيرها من الأدلة المختلف فيها. الثاني: أن يكون ذلك في باب المباح، دون أبواب الإيجاب والندب والتحريم والكراهة، فإنها لا بد فيها من دليل شرعي. الثالث: أن يكون ذلك في حق الملهَم (¬8) خاصة، ولا يدعو غيره إلى العمل بما أُلهم به. وهؤلاء منهم أبو زيد الدبوسي، وابن السمعاني، والسجستاني، والسمرقندي، والرازي، وابن الصلاح، وابن النجار، وغيرهم. قال أبو زيد: "قال جمهور العلماء: إنه خيال لا يجوز العمل به إلا عند فقد الحجج كلها في باب ما أبيح عمله بغير علم" (¬9). اهـ. ¬

_ (¬1) نسبه إليه الزركشي في "البحر المحيط" (6/ 103). (¬2) "جمع الجوامع" (2/ 356). (¬3) "العقائد النسفية وحواشيها" ص (41). (¬4) حيث قال في "تيسير التحرير": "الإلهام ليس بحجة مطلقًا، لإنعدام ما يوجب نسبته إلى الله تعالى" اهـ. (4/ 185). (¬5) وله مصنف أسماه: "حد الحسام في عنق من أطلق إيجاب العمل بالإلهام"، كما حكاه عنه الألوسي في "روح المعاني" (16/ 17). (¬6) هو محمد بن محمد الخجندي البخاري قوام الدين الكاكي، الحنفي (ت 749 هـ)، قال في "جامع الأسرار": "وإن كان الملهم وليًّا، فليس بحجة أصلًا" اهـ. (5/ 1431). (¬7) "روح المعاني" (16/ 18). (¬8) أي الملهَم أو المحدَّث الذي يكون مستقيمًا معتصمًا بالكتاب والسنة حالًا ومآلًا. (¬9) "تقويم الأدلة" ص (392).

أثر التقوى في تنوير البصيرة

وقال ابن السمعاني: "واعلم أن إنكار أصل الإلهام لا يجوز، ويجوز أن يفعل الله -تعالى- بعبدٍ بلطفه كرامة له، ونقول في التمييز بين الحق والباطل من ذلك: إن كل ما استقام على شرع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ولم يكن في الكتاب والسنة ما يرده، فهو مقبول، وكل ما لا يستقيم على شرع النبي -صلى الله عليه وسلم- فهو مردود، ويكون ذلك من تسويلات النفس، ووساوس الشيطان، ويجب رده، وعلى أننا لا ننكر زيادة نور من الله كرامة للعبد، وزيادة نظر له" إلى أن قال: "فأما على القول الذي يقولونه -وهو أن يرجع إلى قلبه في جميع الأمور- فلا نعرفه" (¬1). وقال ابن النجار: "إنه خيال لا يجوز العمل به إلا عند فقد الحجج كلها، لأنه ليس المراد الإيقاع في القلب بلا دليل، بل الهداية بالحق إلى الدليل" (¬2). اهـ. وذلك كما قال أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه-: "إلا أن يؤتى الله عبدًا فهمًا في كتابه" (¬3). * * * أثر التقوى في تنوير البصيرة قال الله تبارك وتعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} الآية [البقرة: 282]، وقال عز وجل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} الآية [الطلاق: 2]، وقال سبحانه: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29]، وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69]، وقال عز وجل: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر: 75]، وقال تعالى: {قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [البقرة: 118] وقال رسول الله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الصلاة نور، ¬

_ (¬1) "قواطع الأدلة" (5/ 132)، وانظر "فتح الباري" (12/ 388، 389). (¬2) "شرح الكوكب المنير" (1/ 331، 332). (¬3) كما في حديث أبي جحيفة -رضي الله عنه- المتقدم تخريجه ص (164) هامش رقم (4).

والصدقة برهان، والصبر ضياء" (¬1). وفي حديث الوَلاية: "ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنتُ سمعَه الذي يسمع به، وبصره الذي يُبصِر به، ويدَه التي يبطش بها، ورجلَه الذي يمشي بها" (¬2). وقد رُوي عن أمير المؤمنين عمر -رضي الله عنه- أنه قال: "اقربوا من أفواه المطيعين، واسمعوا منهم ما يقولون، فإنهم تتجلى لهم أمور صادقة"، ورُوي عن حذيفة -رضي الله عنه- أنه قال: "إن في قلب المؤمن سِراجًا يُزْهِر". وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن الدجال مكتوب بين عينيه: كافر، يقرؤه كل مؤمن قارئ وغير قارئ" (¬3). وكلما قوي الإيمان في القلب، قوي انكشاف الأمور له، وعرف حقائقها من باطلها، وكلما ضعف الإيمان ضعف الكشف، وذلك مثل السراج القوي، والسراج الضعيف في البيت المظلم؛ ولهذا قال بعض السلف في قوله -تعالى-: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور: 35]: هو المؤمن ينطق بالحكمة المطابقة للحق، وإن لم يسمع فيها بالأثر؛ فإذا سمع فيها بالأثر، كان نورًا على نور. وقد لاحظ العلماء على مر الأزمان معنى أن للتقوى والمجاهدة أثرًا في تنوير العقل، وهداية القلب، والتوفيق إلى إصابة الحق في الأقوال، والسَّداد في الأعمال، فسموا مصنفاتهم بأسماء تعبر عن هذا مثل: "فتح الباري"، و"فتح القدير"، و"فتح العزيز"، و"فتح الملك العلام"، و"فيض القدير"، و"فيض الباري"، ونحو ذلك، وصدق الشاعر إذ يقول: إنارةُ العقلِ مكسوفٌ بطوعِ الهوى ... وعقلُ عاصي الهوى يزدادُ تنويرا ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1/ 102). (¬2) رواه البخاري (7/ 190)، وانظر: "فتح الباري" (11/ 295). (¬3) رواه البخاري (16/ 574 - فتح) طبعة طيبة- الرياض، ومسلم (4/ 2245).

موقف ابن تيمية من الكشف

موقف ابن تيمية من الكشف - قال شيخ الإسلام ابن تيمية في تعريف الكشف: "هو ما يُلقى في النفس عند تجريدها من العوارض الشهوانية، وإقبالها بالقلوب على المطلوب" (¬1). لا يعتبر شيخ الإسلام الكشف دليلًا مستقلًّا، بل هو عنده من الأدلة التبعية، أي التابعة لدليل النقل الصحيح، وعليه فلا يمكن الاعتماد عليه إذا انفرد؛ لأنه لا يعلم ما أُلقي في القلب: هل هو وسوسة شيطان، أو لَمة مَلَك؟ (¬2). ويُعرف خطأ الكشف عند ابن تيمية بأحد أمور (¬3): أولًا: بمخالفة الكتاب والسنة، "والأنبياء -صلوات الله عليهم وسلامه- معصومون، لا يقولون على اللَّه إلا الحق، ولا يتكلمون عنه إلا الصدق، ومن سوى الأنبياء ليس معصومًا، فقد يغلط ويحصل له في كشفه، وحسه، وذوقه، وشهوده أمور يظن فيها ظنونًا كاذبة". ثانيًا: مناقضته للعقل (¬4)، يقول ابن تيمية: "وإذا أخبر مثلُ هذا بشيء -عُلِمَ بطلانُه بصريح العقل- عُلِمَ أنه غالط". ثالثًا: مخالفة الحس الظاهر (¬5). وبين شيخ الإسلام أن المعرضين عن الأدلة الشرعية لم يبق معهم إلا طريقان: "إما طريق النُّظَّار: وهي الأدلة القياسية العقلية، وإما طريق الصوفية: ¬

_ (¬1) انظر: "بيان تلبيس الجهمية" (1/ 263). (¬2) انظر: "شرح العقيدة الأصفهانية" ص (12). (¬3) انظر: "منهج شيخ الإسلام ابن تيمية في تقرير عقيدة التوحيد" ص (292)، حيث عزاه إلى: "الجواب الصحيح" (3/ 134 - 136). (¬4) وسنبين لاحقًا -إن شاء الله- الدليل العقلي على أن الإلهام لا يُحتج به استقلالًا، فانظره ص (179). (¬5) قال النسفي في عقائده: "إن أسباب العلم للخلق ثلاثة: الحواس السليمة، والعقل، والخبر الصادق، ومنه خبر الرسول المؤيَّد بالمعجزة. والإلهام ليس من أسباب المعرفة بصحة الشيء عند أهل الحق. اهـ. من "العقائد النسفية" ص (41).

الإلهام منقوض بالمعارضة بالمثل

وهي الطريقة العبادية الكشفية، وكل من جَرَّب هاتين الطريقتين علم أن ما لا يوافق الكتاب والسنة منهما فيه من التناقض والفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد، ولهذا كان من سلك إحداهما إنما يؤول به الأمر إلى الحيرة والشك، إن كان له نوع عقل وتمييز، وإن كان جاهلًا دخل في الشطح والطامات التي لا يصدق بها إلا أجهل الخلق (¬1)، فغاية هؤلاء الشك، وهو عدم التصديق بالحق، وغاية هؤلاء الشطح، وهو التصديق بالباطل". اهـ (¬2). * * * الإلهام منقوض بالمعارضة بالمثل وبيان ذلك: أن يحتج زيد بإلهامه، فيعارضه عمرو بإلهامٍ مثلِه، ولا مزية لأحدهما على الآخر، لأن الإلهام قد يكون من الله -تعالى-، وقد يكون من الشيطان أو النفس: - فإن كان من الله -تعالى- فهو حق. - وإن كان من الشيطان أو النفس فلا يكون حقًّا، بل يكون باطلًا، وما دام أن هناك (احتمالَ) أن لا يكون حقًّا، فلا يكون حقًّا. يدل عليه: أن كل إنسان في دعوى الإلهام مثل صاحبه، فإن قال واحد: ¬

_ (¬1) "ومن دلائل الخطأ والتلبيس والتخيلات في الكشف الذي يسمونه (النوراني) تعارض أهله وتناقضهم فيه، وما يذكرونه فيه من معلوماتهم المختلفة باختلاف معلوماتهم الفنية والخرافية والشرعية. فترى بعضهم يذكر في كشفه "جبل قاف" المحيط بالأرض"! و"الحية المحيط به"! كما تراه في ترجمة الشعراني للشيخ أبي مدين، وهو من الخرافات التي لا حقيقة لها. ومنهم من يذكر في كشفه الأفلاك وكواكبها على الطريقة اليونانية الباطلة أيضًا، وأكثرهم يذكرون في كشفهم الأحاديث الموضوعة، فإن اعترض عليهم -أو على المفتونين بكشفهم- علماء الحديث، قالوا: إن الحديث قد صح في كشفنا، وإن لم يصح في رواياتكم، وكشفنا أصح، لأنه من علم اليقين، وعلمكم ظني! ". اهـ. من "موقف الإسلام من الإلهام والكشف" للدكتور يوسف القرضاوي ص (65، 66). (¬2) "درء تعارض العقل والنقل" (5/ 346).

"أُلهمت أن ما أقوله حق وصواب"، فيقول الآخر: "ألهمت أن ما تقوله خطأ وباطل"، ثم نأتي ونقول لهم: "إنا أُلهمنا أن ما تقولونه خطأ وباطل"، فإن قالوا: "هذا دعوى منكم"، قلنا: "ما تقولونه أنتم أيضا دعوى". فإن قالوا: "إنكم لستم من أهل الإلهام"، قلنا لهم: "ولستم أيضًا من أهل الإلهام، وبأي دليل صرتم من أهل الإلهام دوننا؟ " (¬1). وقال الإمام ابن حزم -رحمه الله-: (ويُقَالُ لمن قال بالإلهام: ما الفرق بينك وبين من ادَّعى أنه أُلْهِمَ بطلانَ قولك، فَلَا سبيل له إلى الانفصال عنه، والفرق بين هذه الدعوى، ودعوى من ادعَى أنه يُدْرِكُ بعقله خلاف ما يدركه ببديهة العقل، وبين ما يدركه بأوائل العقل أن كل من في المشرق والمغرب إذا سُئِلَ عَمَّا ذكرنا أننا عرفناه بأوائل العقل أخبر بمثل ما نخبر به سواء بسواء، وأن المدعين للإلهام ولإدراك ما لا يدركه غيرهم بأول عقله، لا يتفق اثنان منهم على ما يدعيه كل واحد منهم إلهامًا، أو إدراكًا، فصَحَّ بلا شك أنهم كَذَبَةٌ، وأن الذي بهم: وَسْوَاسٌ (¬2)؛ وأيضًا، فإن الإلهام دعوى مجردة من الدليل، ولو أُعْطِيَ كل امرئ بدعواه المُعَرَّاة، لما ثَبَتَ حَقٌّ، ولا بطل باطل، ولا استقر ملك أحد على مال، ولا انتُصِفَ من ظالم، ولا صحَّتْ ديانة أحد أبدًا؛ لأنه لا يعجز أحد عن أن يقول: أُلْهِمْتُ أنَّ دَمَ فلانٍ حلال، وأن مَالَهُ مباحٌ لي أخذه، وأن زوجه مُبَاحٌ لي وطؤها، وهذا لا ينفك منه، وقد يقع في النفس وَسَاوسُ كثيرةٌ، لا يجوز أن تكون حقًّا، وأشياء متضادة يُكذِّبُ بعضها بعضًا، فلابد من حاكم يميز الحق منها من الباطل، وليس ذلك إلا العقل الذي لا تتعارض دلائله) (¬3) اهـ. ¬

_ (¬1) انظر: "فصول البدائع في أصول الشرائع" للفناري (2/ 391)، و"قواطع الأدلة" (5/ 127)، و"تقويم الأدلة" ص (395). (¬2) الوسوسة: إلقاء معنى في النفس بمباشرة سبب نشأ من الشيطان له. (¬3) "الإحكام في أصول الأحكام" (1/ 17، 18).

قال: وهو -أي الإلهام- على ثلاث درجات

وقال الإمام المحقق ابن قيم الجوزية -رحمه اللَّه-: (قال: وهو -أي الإلهام- على ثلاث درجات: الدَّرَجَةُ الأُولَى: نَبَأ يقع وحيًا قاطعًا مقرونًا بسماع؛ إذ مطلق النبأ الخبر الذي له شأن، فليس كل خبر نبأ، وهو نبأ خبر عن غيب معظم. ويريد بالوحي والإلهام: الإعلام الذي يقطع من وَصَلَ إليه بموجبه، إما بواسطة سمع، أو هو الإعلام بلا واسطة. قلت: أما حصوله بواسطة سمع، فليس ذلك إلهامًا، بل هو من قبيل الخِطاب، وهذا يستحيل حصوله لغير الأنبياء، وهو الذي خُصَّ به موسى؛ إذ كان المخاطِبُ هو الحق -عز وجل-. وأما ما يقع لكثير من أرباب الرياضات من سماع؛ فهو من أحد وجوه ثلاثة، لا رابع لها؛ أعلاها: أن يخاطبه الملَكُ خطابًا جزئيًّا، فإن هذا يقع لغير الأنبياء؛ فقد كانت الملائكة تخاطب عمران بن حصين بالسلام، فلما اكتوى تركت خطابه، فلما ترك الكي عاد إليه خطاب ملكي؛ وهو نوعان: أحَدُهُمَا: خطابٌ يسمعه بأذنه، وهو نادر بالنسبة إلى عموم المؤمنين. وَالثَّانِي: خطاب يُلْقَى في قلبه يُخَاطِبُ به الملك روحه، كما في الحديث المشهور: "إنَّ لِلْمَلَكِ لمَّة بقَلْبِ ابْنِ آدَمَ، وللشَّيْطَانِ لَمَّةًْ، فلَمَّةُ الْمَلكِ: إيعَادٌ بالخَيْرِ، وتَصْدِيقٌ بالْوَعْدِ، ولَمَّةُ الشَّيْطَانِ: إيعَادٌ بالشَّرِّ، وتكذيبٌ بالْوَعْدِ" (¬1)، ثم قرأ: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا} [البقرة: 268]، وقال -تَعَالَى-: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال: 12]، قيل في تفسيرها: قَوُّوا قلوبهم، وبشِّرُوهُمْ بالنصر. وقيل: احضُروا معهم القتال، والقولان حق؛ فإنهم حضروا معهم القتال، وثبَّتُوا قلوبهم. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه ص (170) هامش رقم (1).

فصل

ومن هذا الخطاب: واعظ اللَّه -عز وجل- في قلوب عباده المؤمنين؛ كما في "جامع الترمذي"، و"مسند أحمد" من حديث النَّواس بن سمعان، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إنَ اللَّهَ -تَعَالَى- ضَرَبَ مَثَلًا صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا، وَعَلَى كَنَفَتَي الصِّرَاطِ سُورَانِ، لَهُمَا أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ، وَعَلَى الأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ، وَدَاعٍ يَدْعُو على رَأسِ الصِّرَاطِ، وَدَاع يَدْعُو فَوْقَ الصِّرَاطِ، فالصِّرَاطُ المُسْتَقِيمُ الإسْلَامُ، والسُّورَانِ: حُدُودُ اللهِ، والأَبْوَابُ المُفَتَّحَةُ مَحَارِمُ اللَّهِ، فَلَا يَقَعُ أحَدٌ في حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ حتَّى يَكْشِفَ السِّتْرَ، والدَّاعِي عَلَى رأسِ الصِّراطِ: كِتَابُ اللَّهِ، والدَّاعِي فَوْقَ الصِّرَاطِ: وَاعِظُ اللهِ في قَلْبِ كُلِّ مُؤْمِنٍ"، فهذا الواعظ في قلوب المؤمنين هو الإلهامُ الإلهي بواسطة الملائكة. وأما وقوعه بغير واسطة: فمما لم يتبيَّنْ بعد، والجزم فيه بنفي أو إثبات موقوف على الدليل، واللَّه أعلم. فَصلٌ النَّوْعُ الثَّانِي من الخِطَابِ المَسْمُوع: خطاب الهواتف من الجانِّ، وقد يكون المخاطِبُ جنيًّا مؤمنًا صالحًا، وقد يكون شيطانًا، وهذا -أيضًا- نوعان: أحدُهُمَا: أن يخاطبه خطابًا يسمعه بأذنه. والثَّاني: أن يُلْقِيَ في قلبه عندما يُلِمُّ به، ومنه وعده، وتمنيته حين يَعِدُ الإنسي ويُمَنِّيه، ويأمره، وينهاه، كما قال -تَعَالى-: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [النساء: 120]، وقال: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة: 268]، وللقلب من هذا الخطاب نصيب، وللأذن -أيضًا- منه نصيب، والعصمة منتفية إلا عن الرسل، ومجموع الأمة. فمِن أين للمخاطَب أن هذا الخطاب رحماني، أو مَلَكِيٌّ؟ بأي برهان؟ أو بأي دليل؟ والشيطان يقذف في النفس وَحْيَهُ، ويُلقي في السمع خِطَابَهُ، فيقول المغرور المخدوع: "قيل لي، وخوطبت"، صدقت، لكن الشأن في القائل

فصل

لك، والمخاطِب، وقد قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لغيلان بن سلمة- وهو من الصحابة، لَمَّا طَلَّقَ نساءه، وقَسَم ماله بين بَنيه: "إني لأظن الشيطان -فيما يسترق من السمع- سمع بموتك، فقذفه في نفسك" (¬1)، فمن يأمن القراءَ بعدك يا شهرُ؟ (¬2). فَصلٌ النَّوْعُ الثَّالِثُ: خِطَابٌ حَالِيٌّ، تكون بدايته من النفس، وعَوْدُهُ إليها، فيتوهمه مِن خارجٍ، وإنما هو من نفسِه، منها بدأ، وإليها يعود. وهذا كثيرًا ما يَعْرِضُ للسالك، فيغلط فيه، ويعتقد أنه خطاب من اللَّه، كَلَّمَهُ به منه إليه، وسبب غلطه: أن اللطيفة المدرِكة من الإنسان إذا صَفَتْ بالرياضة، وانقطعت عَلَقُها عن الشواغل الكثيفة، صار الحكم لها بحكم استيلاء الروح والقلب على البدن، ومصير الحكم لهما، فتنصرف عناية النفس والقلب إلى تجريد المعاني التي هي متصلة بهما، وتشتد عناية الروح بها، وتصير في محل تلك العلائق، والشواغل، فتملأ القلب، فتصرف تلك المعاني إلى المنطق، والخطاب القلبي الروحي بحكم العادة، ويتفق تجرد الروح، فتتشكل تلك المعاني للقوة السامعة بشكل الأصوات المسموعة، وللقوة الباصرة بشكل الأشخاص المرئية، فيرى صورها، ويسمع الخطاب، وكله في نفسه ليس في الخارج منه شيء، ويحلف أنه رأى وسمع، وصَدَقَ، لكن رأى وسمع في الخارج، أو في نفسه، ويتفق ضعف التمييز، وقلة العلم، واستيلاء تلك المعاني على الروح، وتجردها عن الشواغل. فهذه الوجوه الثلاثة هي وجوه الخطاب، ومن سَمَّع نفسه غيرها، فإنما هو غرور، وخدع، وتلبيس، وهذا الموضع مقطع القول، وهو من أجَلِّ ¬

_ (¬1) انظره في: "الإصابة" (5/ 334). (¬2) انظر: "سير أعلام النبلاء" (4/ 375).

فصل

المواضع لمن حَقَّقَهُ وفَهِمَهُ، واللَّه المُوَفِّقُ للصواب" اهـ (¬1). فَصلٌ ثم قال -رحمه اللَّه-: (قال: "الدرجة الثانية: إِلْهَامٌ يقع عيانًا، وعلامة صحته: أنه لا يخرق سِتْرًا، ولا يجاوز حَدًّا، ولا يخطئ أبدًا". الفرق بين هذا وبين الإلهام في الدرجة الأولى: أن ذلك عِلْمٌ شَبِيهٌ بالضروري الذي لا يمكن دفعه عن القلب، وهذا مُعَايَنَةٌ ومُكَاشفَةٌ، فهو فوقه في الدرجة، وأتمُّ منه ظهورًا، ونسبته إلى القلب نسبة المرئي إلى العين، وذكر له ثَلاثَ عَلَامَاتٍ: إِحْدَاهَا: "أنه لا يخرق سِتْرًا"؛ أي صاحبه إذا كُوشِفَ بحال غير المستور عنه لا يخرق ستره، ويَكْشِفُهُ؛ خيرًا كان أو شرًّا، أو أنه لا يخرق ما ستره الله من نفسه عن الناس، بل يستر نفسه، ويستر من كُوشِفَ بحاله. الثَّانِيَةُ: "أنه لا يُجَاوِزُ حَدًّا" يَحْتَمِلُ وجهين: أَحْدهُمَا: أنه لا يتجاوز به إلى ارتكاب المعاصي، وتجاوز حدود اللَّه؛ مثل الكُهَّان، وأصحاب الكشف الشيطاني. الثَّانِي: أنه لا يقع على خلاف الحدود الشرعية؛ مثل أن يتجسس به على العورات التي نهَى الله عن التجسس عليها وتتبعها، فإذا تتبعها وقع عليها بهذا الكشف، فهو شيطاني لا رحماني. الثَّالِثَةُ: أنه لا يخطىء أبدًا، بخلاف الشيطاني؛ فإن خطأه كثير؛ كما قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لابن صائد: "مَا تَرَى؟ قَالَ: أَرَى صادِقًا وكَاذِبًا، فَقَالَ: ْلُبِّسَ عَلَيْكَ". فالكشف الشيطاني لابد أن يَكْذِبَ، ولا يستمر صدقه البتة) (¬2) اهـ. ¬

_ (¬1) "مدارج السالكين" (1/ 45 - 48). (¬2) "السابق" (1/ 48، 49).

وقال الإمام أبو إسحاق الشاطبي -رحمه اللَّه- تَعَالَى: "اعلم أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مُؤَيَّدٌ بالعصمة، معضود بالمعجزة الدالة على صدق ما قال، وصحة ما بيَّن، وأنت ترى الاجتهاد الصادر منه معصومًا بلا خلافٍ، إما بأنه لا يخطئ البتة، وإما بأنه لا يُقَرُّ على خطأ إن فُرِضَ؛ فما ظنك بغير ذلك؟ فكل ما حَكم به؛ أو أخبر عنه من جهة رؤيا نوم، أو رؤية كشف؛ مثلُ ما حكم به مما ألقى إليه الملَكُ عن اللَّه -عز وجل-. وأمَّا أمَّتُهُ، فكل واحدٍ منهم غير معصوم، بل يجوز عليه الغلط، والخطأ، والنسيان، ويجوز أن تكون رؤياه حُلمًا (¬1)، وكشفه غير حقيقي، وإن تبين في الوجود صدقه (¬2)، واعْتيدَ ذلك فيه واطَّرَدَ؛ فإمكان الخطأ والوهم باقٍ، وما كان هذا شأنه لم يَصِحَّ أن يُقطَعَ به حكم. وأيضًا؛ فإن كان مثل هذا مَعْدُودًا في الاطّلاع الغيبي؛ فالآيات والأحاديث تدل على أن الغيب لا يعلمه إلا اللَّه؛ كما في الحديث من قوله -عليه السلام-: "في خَمْسٍ لا يَعْلَمُهُنَّ إلَّا اللَّهُ، ثُمَّ تَلَا: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} [لقمان: 34] ... إلى آخر سورة لقمان) (¬3). وقال في الآية الأخرى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 59]. واستثنى المُرْسَلينَ في الآية الأخرى بقوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى ¬

_ (¬1) أي: والحُلم من الشيطان، كما جاء في الحديث. (¬2) أي في غير هذه الجزئية التي يفرض الكلام فيها؛ فإمكان الخطأ والوهم باقٍ في هذه الجزئية حتى ينكشف الأمر؛ إما بتحققها، أو عدمه، وبعد تحققها وحصولها، فالمرجع الوجود، لا الكشف ولا الرؤيا. (¬3) قطعة من حديث أخرجه البخاري في "صحيحه" (50) (1/ 114)، (4777)، (8/ 513)، ومسلم (9) (1/ 39).

غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 26، 27]. فبقي من عداهم على الحكم الأول؛ وهو امتناع علمه. وقال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} [آل عمران: 179]، وقال: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65]. وفي حديث عائشة: "وَمَنْ زَعَمَ أنَّ مُحَمَّدًا يَعْلَمُ مَا في غَدٍ، فَقَدْ أَعْظَمَ الفِرْيَةَ عَلَى اللهِ" (¬1). وقد تعاضدت الآيات والأخبار، وتكررت في أنه لا يعلم الغيب إلا الله، وهو يفيد صحة العموم من تلك الظواهر، فإذا كان كذلك، خرَجَ مَن سوى الأنبياء من أن يشتركوا مع الأنبياء -صلوات الله عليهم- في العلم بالمغيبات، وما ذُكِرَ قبلُ عن الصحابة، أو ما يُذْكَرُ عنهم بسندٍ صحيحٍ، فَمِمَّا لا ينبني عليه حكم؛ إذ لم يشهد (¬2) له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ووقوعه على حسب ما أخبروه، هو مما يُظَنُّ بهم، ولكنهم لا يُعَامِلُونَ أنفسهم إلا بأمر مشتركٍ لجميع الأمة، وهو جواز الخطأ؛ لذلك قال أبو بكر: "أُرَاهَا جارية" (¬3)، فأتى ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (177) (1/ 159) عن عائشة -رضي الله عنها-، ولفظه: "من زعم أنه يخبر بما يكون في غدٍ؛ فقد أعظم على اللَّه الفرية"، واللفظ الذي ذكره الشاطبي هو لفظ رواية الترمذي (3068) (5/ 262، 263). (¬2) كشهادته لرؤيا عبد الله بن زيد في الأذان. (¬3) يشير إلى ما رواه مالك في "الموطأ" (2/ 752) رواية يحيى الليثي، عن عائشة -رضي اللَّه عنها- قالت: إن أبا بكر الصديق نَحَلَها جَادَّ عشرين وَسْقًا من ماله بالغابة، فلما حضرته الوفاة، قال: "واللَّه يا ابنتي ما من الناس أَحَدٌ أحبُّ إليَّ غِنًى بعدي منك، ولا أعَزُّ علي فقرًا بعدي منك، وإني كنت نحلتُك جادَّ عشرين وَسْقًا، فلو كنت جددتيه، واحتزتيه كان لك، وإنما هو اليومَ مالُ وارث، وإنما هما أخواكِ، وأختاكِ، فاقتسموه على كتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ-". قالت عائشة: فقلت: "يا أبت! واللَّه لو كان كذا وكذا لتركته، إنما هي أسماء، فمن الأخرى؟ " قال أبو بكر: "ذو بطن بنتِ خارجة، أُراها جارية". جادَّ عشرين وَسقًا: أي ما يُجَدُّ منه هذا القدر، والجاد هنا بمعنى المجدود، أي المقطوع. جددتيه: قطعتيه، احتزتيه: حُزْتيه. ذو بطن بنت خارجة: أي صاحب بطنها، يريد الحمل الذي فيه. =

بعبارة الظن التي لا تفيد حكمًا، وعبارة "يا ساريةُ الجبلَ" (¬1) - مع أنها إن صحت لا تفيد حكمًا شرعيًّا (¬2)، هي -أيضًا- لا تفيد أن كل ما سواها مثلها، وإن سُلِّمَ فلخاصية أن الشيطان كان يَفِرُّ منه (¬3)، فلا يَطُورُ (¬4) حول حمى أحواله التي أكرمه الله بها، بخلاف غيره؛ فإذا لاح لأحدٍ من أولياء الله شيءٌ من أحوال الغيب، فلا يكون على علم منها مُحقَّقٍ لا شَكَّ فِيهِ، بل على الحال التي يُقَالُ فيها "أُرَى"، و "أَظُنُّ"، فإذا وقع مطابقًا في الوجود، وفُرِضَ تحققه بجهة المطابقة أولًا، والاطراد ثانيًا؛ فلا يبقى للإخبار به بعد ذلك حكمٌ؛ لأنه قد صار من باب الحكم على الواقع (¬5)؛ فاستوت الخارقة وغيرها، نَعَمْ (¬6) تفيد الكرامات ¬

_ = أراها جارية: يعني أظنها أنثى، فكان كما ظن -رضي الله عنه-، سُميت أم كلثوم، قيل: لرؤيا رآها أبو بكر -رضي الله عنه-. (¬1) عن نافع أن عمر بعث سرية، فاستعمل عليهم رجلًا يقال له: سارية، فبينما عمر يخطب يوم الجمعة فقال: "يا ساريةُ الجبلَ، يا ساريةُ الجبلَ"، فوجدوا سارية قد أغار إلى الجبل في تلك الساعة يوم الجمعة، وبينهما مسيرة شهر. وفي رواية: (فجعل ينادي: "يا سارية الجبل، يا سارية الجبل" ثلاثًا، ثم قدم رسول الجيش، فسأله عمر، فقال: يا أمير المؤمنين، هُزمنا، فبينما نحن كذلك إذ سمعنا مناديًا: "يا سارية الجبل" ثلاثًا، فأسندنا ظهورنا بالجبل، فهزمهم الله، فقيل لعمر: إنك كنت تصيح بذلك). عزاه الألباني في "الصحيحة" (1110) إلى أبي بكر بن خلاد في "الفوائد"، والسلمي في "الأربعين الصوفية"، والبيهقي في "الدلائل"، وصححه، وانظر: "الموافقات" (4/ 469)، وقال ابن كثير في "البداية" (7/ 131): "وهذا إسناد جيد حسن". (¬2) بل نصيحةً ومشورة. (¬3) كما روى الشيخان عن سعد -رضي الله عنه- مرفوعًا: (والذي نفسي بيده؛ ما لقيك الشيطان سالكًا فَجًّا قط إلا سلك فَجًّا غير فجك". (¬4) يطور: يقرب، وفلان يطور بفلان: أي كأنه يحوم حوله، ويدنو منه. (¬5) أي: لأنه يبقى على عدم العلم، بل على مجرد ظن أو شك حتى يقع، فبعد وقوعه مطابقًا لا يبقى للإخبار به فائدة في بناء حكم عليه، ويكون الحكم -إن كان هناك حكم- مبنيًا على الواقع نفسه. (¬6) استدراك على ما قبله الموهم أنه حينئذٍ لا فائدة في الخوارق والكرامات لأنه لا ينبني عليها حكم أصلًا، يقول: بل لها فائدة أهم من هذا، وهي زيادة اليقين، وشرح الصدر، بتضاعف نور الإيمان، واتساع البصيرة والعلم بالرب واهبِها.

والخوارق لأصحابها يقينًا، وعلمًا بالله -تَعَالى-، وقوة فيما هم عليه، وهو غير ما نحن فيه" (¬1). اهـ. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه اللَّه -تَعَالى-: "وكذلك من اتبع ما يرد عليه من الخطاب، أو ما يراه من الأنوار والأشخاص الغيبية، ولا يعتبر ذلك بالكتاب والسنة، فإنما يتبع ظنًّا لا يغني من الحق شيئًا، فليس في المُحَدَّثين المُلْهَمِينَ أفضلُ من عمر؛ كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "إنهُ قَدْ كَانَ في الأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدَّثُونَ، فَإنْ يَكُنْ في أُمَّتِي مِنْهُمْ أحَدٌ، فعُمَرُ مِنْهُمْ"، وقد وافق عمر ربَّه في عدة أشياء، ومع هذا فكان عليه أن يعتصم بما جاء به الرسول، ولا يقبل ما يرد عليه حتى يعرضه على الرسول، ولا يتقدم بين يدي اللَّه ورسوله. فكل من كان من أهل الإلهام والخِطاب، والمكاشفة، لم يكن أفضلَ من عمر، فعليه أن يسلك سبيله في الاعتصام بالكتاب والسنة تبعًا لما جاء به الرسول، لا يجعل ما جاء به الرسول تبعًا لما ورد عليه، وهؤلاء الذين أخطئوا وضلُّوا، وتركوا ذلك، واستغنوا بما ورد عليهم، وظنوا أن ذلك يغنيهم عن اتباع العلم المنقول. وصار أحدهم يقول: "أخذوا علمهم ميتًا عن ميت، وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت"، فيُقَالُ لَهُ: أما ما نقله الثقات عن المعصوم فهو حق، ولولا النقل المعصوم، لكنت أنت وأمثالك إما من المشركين، وإما من اليهود والنصارى، وأما ما ورد عليك؛ فمِن أين لك أنه وحيٌ من اللَّه؟ ومن أين لك أنه ليس من وحي الشيطان؟ و"الوحي" وحيان: وحيٌ من الرحمن، ووحي من الشيطان، قال -تَعَالى-: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} [الأنعام: 121]، وقال -تَعَالى-: ¬

_ (¬1) "الموافقات" (4/ 470 - 473).

{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: 112]، وقال -تَعَالَى-: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} [الشعراء: 221] (¬1) اهـ. * * * ¬

_ (¬1) "مجموع الفتاوى" (13/ 73 - 75).

نقد موقف أبي حامد الغزالي من الكشف والإلهام

نقد موقف أبي حامد الغزالي من الكشف والإلهام 1 - لقد غلا أبو حامد الغزالي في إثبات حجية "الكشف" و"الإلهام" حتى قال في "مشكاة الأنوار" -وبئس ما قال-: "فى الأولياء من يكاد يشرق نوره حتى يكاد يستغني عن مدد الأنبياء" (¬1). بل بلغ اغترار بعض الصوفية بالكشف إلى حد قول بعضهم: "خُضْنا بحرًا، وقف الأنبياء بساحله". ومما يستنكر على الغزالي -سامحه الله- قوله: "الأنبياء والأولياء انكشف لهم الأمر، وفاض على صدورهم النور، لا بالتعلُّم والدراسة، والكتابة للكتب، بل بالزهد في الدنيا، والتبري من علائقها، وتفريغ القلب من شواغلها، والإقبال بكنه الهمة على الله -تعالى-. ثم قال: فمن كان حاله كذلك، فإنه يخلو بنفسه في زاوية مع الاقتصار على الفرائض والرواتب". اهـ (¬2). ولا شك أن جمعه -في مثل هذا السياق- بين الأنبياء والأولياء (¬3) أمر مرفوض بالكلية، إذ لا يُقاس الأولياء على الأنبياء للافتراق بينهما في علة إرسال الرسل، وفي تلقيهم الوحي المعصوم، وفي غير ذلك، أضف إلى ذلك أن إرشاده مَن وصل إلى تلك الحال إلى أن يخلو بنفسه في زاوية مع الاقتصار على ¬

_ (¬1) "مشكاة الأنوار" ص (45)، ضمن مجموعة "القصور العوالي"، ونقول تعقيبًا على هذا الضلال المبين: "لماذا إذن بكى الصحابة -رضي اللهُ عنهم- لانقطاع الوحي بوفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-؟! "، وانظر ص (164، 165). (¬2) "الإحياء" (1/ 18 - 20)، وانظر: "كيمياء السعادة" ص (88). (¬3) وله في الجمع بين الأنبياء والأولياء كلام شنيع يلزم منه انتقاص مرتبة النبوة، كما في "فيصل التفرقة" ص (130)، و"ميزان العمل" ص (75)، وغيرهما.

الفرائض والرواتب فيه انحراف عن هَدْي مَن هديُه خير الهدي -صلى الله عليه وسلم-، وهذه السلبية فيها هدم لأركان الدين، من الدعوة إلى الله، والجهاد في سبيله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولو فعل الصحابة -رضي الله عنهم- ذلك لما فتحوا الفتوح، ولا نشروا الإسلام، ولا تعلموا الوحيين، ولا علَّموا الناس. 2 - وادعى الغزالي أن "فكر المريد يتفرق بقراءة القرآن، وبالتأمُّل في كتب التفسير والحديث وغيرهما" (¬1). وهذا الكلام النحس، والمذهب الشؤم، والرأي المظلم أوقعه فيه بُعده عن منهج أهل السنة والحديث، وهو الذي دفع الإمام ابن الجوزي إلى أن يعلق عليه قائلًا: "عزيز عليَّ أن يصدر هذا الكلام من فقيه، فإنه لا يخفى قبحه، فإنه على الحقيقة طيٌّ لبساط الشريعة التي حثت على تلاوة القرآن وطلب العلم" (¬2).اهـ. 3 - ويرشد الغزالي المريد الذي يريد أن يجمع قلبه إلى أن يجتهد حتى لا يخطر بباله شيء سوى الله -تعالى-، وتكون غايته -في حَلِّه وتَرْحَاله- تحصيلَ مرتبة الكشف والإلهام، كما فتحها على الأنبياء والأولياء. والجواب: أن هذا التعبد بقصد الاطلاع على العوالم المغيبة، وحصول الكشف والإلهام وما أشبه ذلك (¬3) مما ينافي الإخلاص، ويُكَدِّر صفاءه، لأن العابد هنا جعل العبادة وسيلة إلى ما لم تقره الشريعة، بجانب أن التعبد بهذا القصد يضعف الإخلاص في حالة عدم حصول مراده، وربما أعرض عن العبادة. وحين كان رسول الله -صلى اللَّه عليه وسلم- يتعبد لله في غار حراء، لم يكن يطلب كشفًا ولا إلهامًا، ولا شيئًا ينزل عليه من السماء، ولم يخطر له ذلك ¬

_ (¬1) انظر: "الإحياء" (3/ 19، 20)، (2/ 66). (¬2) وله في الجمع بين الأنبياء والأولياء كلام شنيع يلزم منه انتقاص مرتبة النبوة، كما في "فيصل التفرقة" ص (130)، و"ميزان العمل" ص (75)، وغيرهما. (¬3) كالاطلاع على عالم الأرواح، ورؤية الملائكة، وحصول خوارق للعادات.

على بال، قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [القصص: 86]، بل حين جاءه الوحي كان مفاجأة هائلة له، ورجع إلى خديجة -رضي الله عنها- يرجف فؤاده، ويقول: "زمِّلوني، زمِّلوني"، ويقول: "لقد خشيت على نفسي". وقد رُوي أن بعض الناس سَمِعَ بالقول المأثور: "مَن أخلص للَّه أربعين صباحًا، ظهرت ينابيع الحكمة مِن قلبه على لسانه"، فتعرض لذلك لينال الحكمة فلم يُفتح له بابها، فبلغت القصة أحد الفضلاء، فقال: "هذا أخلص للحكمة، ولم يخلص لله". - والشرع الشريف لم يأمرنا بتطلب الكشف والإلهام، لأنه وهبي وليس كسبيًّا، وإنما أُمِرنا بطلب العلم. - أن هذا النوع من القصد -إن أُريد به تثبيت القلوب وزيادة طمأنينة النفوس- ففي عالم الشهادة من الآيات القريبة السهلة المأخذ ما يدهش الألباب، وقد أمرنا الله بالنظر والتفكر في الآيات الكونية التي يدركها الحس كما قال -عز وجل-: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا} الآيات [ق: 6، 7]، وقال -تعالى-: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} [عبس: 24]، وقال سبحانه: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} الآيات [الغاشية: 17 - 20]. ولم يأمرنا قط بالنظر فيما حُجِب عنا، ولا سبيل إلى الاطلاع عليه في العادة، كالملائكة والعوالم الغيبية. - ومِن جهة أخرى فهذا المسلك مسلك فلسفي منقول عن الحكماء المتقدمين والفلاسفة المتعمقين والهندوس الوثنيين، والرهبان الضالين، مشروط برياضات معينة، لم تأت بها شريعتنا الإسلامية، فهو مسلك أجنبي دخيل على الإسلام، و"خير الهدي هدي محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-". ومن أراد أن يكون لله وليًّا فليطلب ذلك بالإيمان والعمل الصالح، قال

تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 62، 63]، وبالفرائض والنوافل كما في حديث الوَلاية (¬1). - وكما لم يكلفنا الله بالتطلع إلى المحسوسات البعيدة عنا في أقطار الأرض وأعماقها، كذلك لا يكلفنا هذا بالنسبة للأمور الغيبية. - وأخيرًا: "فإن هذه الطريقة لو كانت حقًّا، فإنما تكون في حق مَن لم يأته رسول، فأما مَن أتاه رسول وأُمِر بسلوك طريق، فمَن خالفه ضلَّ، وخاتم الرسل -صلى الله عليه وسلم- قد أمر أُمَّته بعبادات شرعية مِن صلاة وذكر ودعاء وقراءة، لم يأمرهم قط بتفريغ القلب مِن كل خاطر وانتظار ما ينزل! فهذه الطريقة لو قُدِّر أنها طريق لبعض الأنبياء لكانت منسوخة بشرع محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، فكيف وهي طريقة جاهلية لا توجب الوصول إلى المطلوب إلا بطريق الاتفاق، بأن يقذف الله -تعالى- في قلب العبد إلهامًا ينفعه؟ وهذا قد يحصل لكل أحد، ليس هو من لوازم هذه الطريق. ولكن التفريغ والتخلية التي جاء بها الرسول أن يفرغ قلبه مما لا يحبه الله، ويملأه بما يحبه الله، فيفرغه من عبادة غير الله، ويملؤه بعبادة الله، وكذلك يفرغه من محبة غير الله، ويملؤه بمحبة الله، وكذلك يخرج عنه خوف غير الله، ويدخل فيه خوف الله تعالى، وينفي عنه التوكل على غير الله، ويثبت فيه التوكل على الله. وهذا هو الإسلام المتضمن للإيمان الذي يمده القرآن ويقويه، ولا يناقضه وينافيه، كما قال جندب وابن عمر: "تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن، فازددنا إيمانًا". وأما الاقتصار على الذِكْر المجرَّد الشرعي مثل قول: "لا إله إلا الله " -فهذا قد ينتفع به الإنسان أحيانًا، ولكن ليس هذا الذِكْر وحده هو الطريق إلى الله ¬

_ (¬1) انظر: "الموافقات" (2/ 298 - 302)، و"مقاصد المكلفين" للدكتور عمر الأشقر ص (475 - 480).

-تعالى- دون ما عداه، بل أفضل العبادات البدنية الصلاة ثم القراءة ثم الذِكْر ثم الدعاء" (¬1). ومما قاله الغزالي -أيضًا-: " فَأمَّا من يأخذ معرفة هذه الأمور (¬2) من السمع المجرد، فلا يستقر له فيها قدم، ولا يتَعَيَّنُ له موقف" (¬3) اهـ. علَّق شيخ الإسلام ابن تيمية قائلًا: "قلت: هذا الكلام مضمونه أنه لا يُسْتَفَادُ من خبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- شيء من الأمور العلمية، بل إنما يُدْرِكُ ذلك كل إنسان بما حصَلَ له من المشاهدة والنور والمكاشفة". وقال -أيضًا-: "وهذان أصلان للإلحاد؛ فإن كل ذي مكاشفة إن لم يَزِنْهَا بالكتاب والسنة، وإلا دخل في الضلالات" (¬4). وقال -رحمه الله-: "وما جاء به الرسول معصوم لا يستقر فيه الخطأ، وأما ما يقع لأهل القلوب من جنس المخاطبة والمشاهدة: ففيه صواب وخطأ، وإنما يُفَرَّقُ بين صوابه، وخطئه بنور النبوة. قال بعض الشيوخ ما معناه: قد ضُمِنَتْ لنا اْلعصمة فيما جاء به الكتاب والسنة، ولم تُضْمَنْ لنا العصمة في الكشوف"، ثم قال شيخ الإسلام: "من المعلوم أن هذا -أي الكشف- لو كان ممكنًا؛ لكان السابقون الأوَّلُونَ أَحَق الناس بهذا، ومع هذا فما منهم من ادَّعى أنه أدرك بنفسه ما ¬

_ (¬1) "مجموع الفتاوى" (10/ 399). (¬2) يقصد بهذه الأمور: معرفة ما يُتأول من الصفات الألهية وغيرها مما لا يُتأول، وقد حكى مذهب الأشعرية، ثم المعتزلة ثم الفلاسفة، ثم قال: "وحد الاقتصاد يين هذا الانحلال كله وبين جمود الحنابلة دقيق غامض، لا يطلع عليه إلا الموفقون الذين يدركون الأمور بنور إلهي لا بالسماع (يعني الأدلة السمعية من الكتاب والسنة)، فما وافق ما شاهدوه بنور اليقين قرروه، وما خالف أولوه" اهـ. من "الأحياء" (1/ 104). (¬3) "نفس المصدر". (¬4) وانظر شيئًا من هذه الضلالات مفصلة في "الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة" ص (143 - 199)، و"أبو حامد الغزالي والتصوف" ص (179 - 201).

أخبر به الرسول -صلى الله عليه وسلم-" (¬1). وقال الإمام المحقق ابن قيِّمِ الجوزية في ضمن شرحه لعبارة صاحب المنازل: "وأمَّا الدرجة الثالثة: فمكاشفة عين، لا مكاشفة علم" ... إلخ. "وليس مراد الشيخ في هذا الباب: الكشف الجزئي المشترك بين المؤمنين والكفَّار، والأبرار والفجَّار؛ كالكشف عمَّا في دار إنسان، أو عمَّا في يده، أو تحت ثيابه، أو ما حَمَلَتْ به امرأته، بعد انعقاده ذكرًا أو أنثى، وما غاب عن العيان من أحوال البعد الشاسع ونحو ذلك، فإن ذلك يكون من الشيطان تارةً، ومن النفس تارةً؛ ولذلك يقع من الكفَّار؛ كالنصارى، وعابدي النيران، والصلبان؛ فقد كاشف ابن صياد النبي -صلى الله عليه وسلم- بما أضمره له، وخبَّأه، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّمَا أَنْتَ مِنْ إخوَانِ الكُهَّانِ"، فأخبر أن ذلك الكشف من جنس كشف الكهان، وأن ذلك قَدْرُهُ، وكذلك مُسَيْلمَةُ الكذَّاب، مع فرط كفره، كان يُكَاشِفُ أصحابه بما فعله أحدهم في بيته، وما قاله لأهله، يخبره به شيطانه، ليُغويَ الناس، وكذلك الأسود العنسي، والحارث المتنبي الدمشقي الذي خرج في دولة عبد الملك بن مروان، وأمثال هؤلاء ممن لا يحصيهم إلا الله، وقد رأينا نحن وغيرنا منهم جماعة، وشاهد الناس مِن كَشْفِ الرُّهْبَان عُبَّاد الصليب ما هو معروف. والكشف الرحماني من هذا النوع: هو مثل كشف أبي بكر لما قال لعائشة -رضي اللَّه عنهما-: إن امرأته حامل بأنثى، وكشف عمر -رضي الله عنه- لمَّا قال: "يا ساريةُ الجبلَ"، وأضعاف هذا من كشف أولياء الرحمن. والمقصود: أن مراد القوم بالكشف في هذا الباب أمر وراء ذلك، وأفضله وأجله: أن يكشف للسالك عن طريق سلوكه؛ ليستقيم عليها، وعن عيوب نفسه ليصلحها، وعن ذنوبه ليتوب منها. ¬

_ (¬1) "درء تعارض العقل والنقل" (5/ 348 - 354)، وانظر: "مجموع الفتاوى" (2/ 91).

فائدة

فما أكرم اللَّه الصادقين بكرامة أعظم من هذا الكشف، وجعلهم منقادين له، عاملين بمقتضاه، فإذا انضم هذا الكشف إلى كشف تلك الحجب المتقدمة عن قلوبهم: سارت القلوب إلى ربها سير الغيث إذا استدبرته الريح" (¬1). وقال -رحمه الله- أيضًا: "فالكشف الصحيح: أن يَعْرِفَ الحق الذي بعَثَ اللَّه به رُسُلَهُ، وأنزل به كُتُبهُ، معاينة لقلبه، ويجرد إرادة القلب له، فيدور معه وُجُودًا وعَدَمًا، هذا هو التحقيق الصحيح، وما خالفه فغرور قبيح" (¬2) اهـ. فائدة: قال الشيخ العلَّامة محمد حبيب الله الشنقيطي -رحمه الله تعالى-: (وإنما لم تظهر كرامات الصحابة كثيرًا مثل ما وقع لأكابر هذه الأمة بعدهم، لكون كرامتهم كانت بالاستقامة، والإعراض عن درجات الدنيا زهدًا فيها، تأسيًا بالنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لتزداد درجاتهم في الآخرة، لأنهم كانوا على مشربه -صلى اللَّه عليه وسلم- في الإعراض عن الدنيا، وظهور الكرامات فيها من جملة ما يَستلِذُّ به من وقعت له، فلربما يشغله ذلك عن الدار الآخرة، وقد أشار صاحب نظم "عمود النسب" لكون كرامات الصحابة كانت بالاستقامة غالبًا بقوله: لا يتشوَّفون للكرامَهْ ... بالكشف بل لنيل الاستقامَهْ وَقَلَّ مَن بالكشفِ منهم اشتَهَرْ ... وبعدهم على الخلائق ابْذَعَر وقد أشار بقوله: "وبعدهم على الخلائق ابذعر" إلى أن الكشف انتشر وكثر بعد الصحابة -رضي الله عنهم- وكذا سائر الكرامات غيره) (¬3) اهـ. ¬

_ (¬1) "مدارج السالكين" (3/ 227، 228). (¬2) "نفسه" (3/ 226). (¬3) "فتح المنعم مع زاد المسلم" (2/ 42).

لا علم إلا بدليل أو شاهد

لَا عِلمَ إلَّا بدَلِيلٍ أو شَاهِدٍ * قال الإمام المحقِّقُ ابن قيم الجوزية -رحمه الله - تعالى-: "علوم الشواهد" هي ما حصَلَتْ من الاستدلال بالأثر على المؤثر، وبالمصنوع على الصانع، فالمصنوعات شواهد، وأدلة، وآثار، وعلوم الشواهد: هي المستندة إلى الشواهد الحاصلة عنها. و"العلم اللدني" هو العلم الذي يقذفه اللَّه في القلب إلهامًا بلا سبب من العبد، ولا استدلال؛ ولهذا سُمِّيَ لدُنِّيًّا، قال اللَّه -تَعَالَى-: {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف: 65]، واللَّه -تَعَالى- هو الذي علَّم العباد ما لا يعلمون؛ كما قال -تَعَالى-: {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 5]، ولكن هذا العلم أخص من غيره؛ ولذلك أضافه إليه -سبحانه-؛ كبيته، وناقته، وبلده، وعبده، ونحو ذلك، فتضمحل العلوم المستندة إلى الأدلة والشواهد في العلم اللدنِّي، الحاصل بلا سبب ولا استدلال، هذا مضمون كلامه. ْونحن قول: إن العلم الحاصل بالشواهد والأدلة هو العلم الحقيقي، وأما ما يَدَّعي حُصُولَهُ بغَيْرِ شاهدٍ، ولا دليل، فلا وُثُوقَ به، وليس بعلْم، نَعَم قد يقوى العلم الحاصل بالشواهد، ويتزايد؛ بحيث يصير المعلوم كالمشهود، والغائب كالمُعَايَن، وعلم اليقين كعين اليقين، فيكون الأمر شعورًا أولًا، ثم تجويزًا، ثم ظنًّا، ثم علمًا، ثم معرفةً، ثم علمَ يقينٍ، ثم حقَّ يقينٍ، ثم عينَ يقينٍ، ثم تضمحل كل مرتبة في التي فوقها؛ بحيث يصير الحكم لها دونها، فهذا حقٌّ. وأما دعوى وقوع نوع من العلم بغير سبب من الاستدلال، فليس بصحيح؛ فإن اللَّه -سبحانه- ربَطَ التعريفات بأسبابها، كما ربط الكائنات بأسبابها، ولا يحصل لبشر علم إلا بدليل يدله عليه. وقَدْ أيَّدَ اللَّه -سبحانه- رسله بأنواع الأدلة والبراهين التي دلتهم على أن ما جاءهم هو من عند اللَّه، ودَلَّتْ أممهم على

ذلك، وكان معهم أعظم الأدلة والبراهين على أن ما جاءهم هو من عند اللَّه، وكانت براهينهم أدلةً، وشواهد لهم، وللأمم؛ فالأدلة والشواهد التي كانت لهم ومعهم، أعظم الشواهد والأدلة، واللَّه -تَعَالَى- شهد بتصديقهم بما أقام عليه من الشواهد، فكل علمٍ لا يستند إلى دليل فدعوى لا دليل عليها، وحكم لا برهان عند قائله، وما كان كذلك لم يكن علمًا، فضلًا عن أن يكون لدُنَّيًّا. فالعلم اللدني ما قام الدليل الصحيح عليه: أنه جاء من عند اللَّه على لسان رسله، وما عداه فلدني من لدن نفس الإنسان، منه بدأ وإليه يعود، وقد انبثق (¬1) سَدُّ العلم اللدني ورخص سعره حتى ادعت كل طائفة أن علمهم لدني، وصار من تكلم في حقائق الإيمان والسلوك، وباب الأسماء والصفات بما يسنح له، ويلقيه شيطانه في قلبه، يزعم أن علمه لدني، فمَلاحِدَةُ الاتحادية، وزنادقة المنتسبين إلى السلوك يقولون: "إن علمهم لدني، وقد صنَّفَ في العلم اللدني متهوكو المتكلمين، وزنادقة المتصوفين، وجهلَةُ المتفلسفين، وكلٌّ يزعم أن علمه لدني، وصدقوا، وكذبوا فإن "اللدني" منسوب إلى "لدن" بمعنى "عند"، فكأنهم قالوا: العلم العندي، ولكنَّ الشأن فيمن هذا العلم مِن عنده، ومن لدنه، وقد ذمَّ اللَّه -تَعَالَى- بأبلغ الذم من ينسب إليه ما ليس من عنده؛ كما قال -تَعَالى-: {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 78]، وقال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [البقرة: 79]، وقال -تعالى-: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} [الأنعام: 93]. فكلُّ من قال: هذا العلم من عند اللَّه، وهو كاذب في هذه النسبة، فله نَصِيبٌ وافر من هذا الذَّم، وهذا في القرآن كثير، يذم اللَّه -سبحانه- من أضاف إليه ما لا علم له به، ومن قال عليه ما لا يعلم؛ ولهذا رتب -سبحانه- المحرماتِ أربعَ ¬

_ (¬1) انبثق: انثقب، وانشق.

مراتبَ، وجعل أشدَّها القولَ عليه بلا علم، فجعله آخر مراتب المحرمات التي لا تبُاحُ بحال، بل هي محرمة في كل مِلةٍ، وعلى لسان كل رسول؛ فالقائل: "إن هذا علم لدني"، لما لا يعلم أنه من عند الله، ولا قام عليه برهان من اللَّه أنه من عنده: كاذبٌ مُفْترٍ على الله، وهو من أظلم الظالمين، وأكذب الكاذبين" (¬1). * * * ¬

_ (¬1) "نفسه" (3/ 431، 433).

الصوفية والإلهام

الصُّوفِيَّةُ والإلهَامُ لقد كانت قصة موسى والخَضِر -عليهما السلام- مَرْتعًا خَصِبًا لخيال الصوفية؛ حتى زعموا أن الخَضِرَ حيٌّ أبدَ الدهر، وأنه يلتقي بالأولياء، ويعلمهم علم الحقيقة، والأوراد، وأنه صاحب شريعة، وعلم باطني يختلف عن الشريعة الظاهرية، وأن علمه لدني موهوب من اللَّه بغير وحي الأنبياء، وكل ذلك بناءً على أنه وليٌّ، وليس نبيًّا. قال إمامهم ابن عربي في "الفتوحات المكية": "اعلم أيها الولي الحميم -أيدك اللَّه- أن هذا الوتد هو خَضِر صاحب موسى -عليه السلام- أطال اللَّه عمره إلى الآن، وقد رأينا من رآه، واتفق لنا في شأنه أمر عجيب" (¬1). ذِكْرُ الأَدِلَّةِ علَى أنَّ الخَضِرَ نَبِيٌّ وَلَيْسَ وَليًّا فحَسْبُ: قال الفخر الرازي في معرض حديثه عن الخَضِر -عليه السلام- وهل هو نبيٌّ أو ولي: والأكثرون على أن ذلك العبد كان نبيًّا، واحتجوا عليه بوجوه: الحجة الأولى: أنه -تعالى- قال: {آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} [الكهف: 65]، والرحمة هي النبوة بدليل قوله تَعَالَى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} [الزخرف: 32]. وقوله: {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [القصص: 86]. والمراد من هذه الرحمة النبوة. الحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: قوله -تَعَالَى-: {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف: 65]، وهذا يقتضي أنه -تعَالَى- علَّمَهُ بلا واسطةِ تعليمِ مُعَلِّم، ولا إرشاد مرشد، وكل من عَلَّمَهُ اللَّه لا ¬

_ (¬1) "الفتوحات المكية" (3/ 180).

بواسطة البشر، وجب أن يكون نبيًّا يعلم الأمور بالوحي من اللَّه. الحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أن موسى -عليه السلام- قال: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا}، والنبي لا يتبع إلا النبي في التعليم. الحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أن ذلك العبد أظهر الترفع على موسى؛ حيث قال: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} [الكهف: 68]. وأما موسى فإنه أظهر التواضع؛ حيث قال: {وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} [الكهف: 69]. وكل ذلك يدل على أن ذلك العالم كان فوق موسى، ومن لا يكون نبيًّا لا يكون فوق النبي. الحُجَّةُ الخَامِسَةُ: احتج الأصمُّ على نبوَّته بقوله في أثناء القصة: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف: 82]. ومعناه فعلته بوحي اللَّه، وهو يدل على النبوة" (¬1) اهـ. ومما يَدُلُّ على أن الخضر -عليه السلام- نبيٌ من أنبياء الله، وليس وليًّا فحسب، قوله لموسى -عليه السلام-: "يَا مُوسَى إنِّي عَلَى عِلْم مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنيهِ اللَّهُ لا تَعْلَمُهُ، وأَنْتَ عَلَى عِلْم مِنْ عِلْم اللَّهِ علَّمَكَهُ اللَّه لا أعْلَمُهُ". وقال لموسى -أيضًا-: "مَا نَقصَ علْمِي وعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إلَّا مِثْلَ ما نقَصَ هذَا العُصُفُورُ بمِنْقَارِهِ مِنَ البَحْرِ" (¬2). "ولا شك أن ما فعله الخَضِرُ فعله عن وَحْي حقيقي من اللَّه، وليس عن مجرد خيال، أو إلهام؛ لأن قتل النفس لا يجوز بمجرد الظن؛ ولذلك قال الخضر: ¬

_ (¬1) "التفسير الكبير" (22/ 148). (¬2) رواه البخاري (6/ 432 - فتح).

{وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي}، فلم يفعل عن أمر الله الصادق، ووحيه القطعي، ومثل هذا الأمر، والوحي القطعي قد انقطع بوفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلا وحي بعده، ومن ادَّعى شيئًا من ذلك، فقد كفر؛ لأنه بذلك خالف القرآن الذي يقول اللَّه فيه: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب: 40] (¬1) ". وقد أيَّد القولَ بنبوة الخَضِر العلامة القرآني محمد الأمين الشنقيطي -رحمه اللَّه-، ثم ناقش حجية الإلهام، وضوابط التعامل معه؛ حيث قال -رحمه اللَّه - تَعالَى-: [قوله -تَعَالى-: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف: 65]. اعلم أولًا أن الرحمة تكَرَّرَ إطلاقها على النبوة في القرآن، وكذلك العلم المؤتى من الله تكرَّرَ إطلاقه فيه على علم الوحي، فمن إطلاق الرحمة على النبوة قوله -تَعَالَى- في "الزخرف": {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} ... الآية [الزخرف: 31، 32]؛ أي نبوته حتى يتحكموا في إنزال القرآن على رجل عظيم من القريتين، وقوله -تَعَالَى- في سورة "الدخان": {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} ... الآية [الدخان: 4، 6]، وقوله -تَعَالَى- في آخر "القصص": {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} الآية [القصص: 86] ... ومن إطلاق إيتاء العلم على النبوة قوله -تَعَالَى-: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113]، وقوله: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} الآية [يوسف: 68] ... إلى غير ذلك من الآيات. ¬

_ (¬1) انظر: "الفكر الصوفي" ص (132).

ومعلوم أن الرحمة وإيتاء العلم اللدني أعم من كون ذلك عن طريق النبوة وغيرها، والاستدلال بالأعم على الأخص فيه أن وجود الأعم لا يستلزم وجود الأخص كما هو معروف، ومن أظهر الأدلة في أن الرحمة والعلم اللدني اللَّذَين امتنَّ اللَّه بهما على عبده الخضر عن طريق النبوة والوحي قوله -تَعَالَى- عنه: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف: 82]؛ أي وإنما فعلته عن أمر اللَّه -جل وعلا-، وأمر اللَّه إنما يتحقق عن طريق الوحي؛ إذ لا طريق تُعْرَفُ بها أوامر اللَّه ونواهيه إلا الوحي من الله -جلا وعلا-، ولا سيما قتل الأنفس البريئة في ظاهر الأمر، وتعييب سُفُن الناس يخرقها؛ لأن العدوان على أنفس الناس، وأموالهم لا يصح إلا عن طريق الوحي من الله -تعَالَى-، وقد حَصَرَ -تَعَالَى- طُرُقَ الإنذار في الوحي في قوله -تَعَالَى-: {قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} [الأنبياء: 45]، و"إنما" صيغة حصر، فإن قيل: قد يكون ذلك عن طريق الإلهام. فالجواب: أن المقرر في الأصول: أن الإلهام من الأولياء لا يجوز الاستدلال به على شيء؛ لعَدَمِ العصمة، وعدمِ الدليل على الاستدلال به. بل ولوجود الدليل على عدم جواز الاستدلال به، وما يزعمه بعض المُتصَوِّفَةِ من جوَازِ العمل بالإلهام في حق الملهم دون غيره، وما يزعمه بعض الجبرية أيضًا من الاحتجاج بالإلهام في حق الملهم وغيره، جاعلين الإلهام كالوحي المسموع، مُسْتدِلِّينَ بظاهر قوله -تَعَالَى- {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} [الأنعام: 125] (¬1)، وبخبر: "اتَّقُوا فِرَاسَةَ المُؤْمِنِ؛ فإنَّهُ يَنْظُرُ بنُورِ اللَّهِ" (¬2)، كله باطل لا يُعَوَّلُ عليه؛ لعدم اعتضاده بدليل، وغير ¬

_ (¬1) والجواب عن استدلالهم بالآية هنا: أن شرح الصدر لا يراد به الإلهام كما زعموا، ولكن المراد به شرح الصدر بنور التوفيق حتى ينظر في الحجج والأدلة، فيستنبط منها بفضل الله -تعالى-. (¬2) رُوي من حديث أبي سعيد الخدري، وأبي أمامة الباهلي، وأبي هريرة، وعبد الله بن عمر، وثوبان -رضي الله عنهم-، وأورده ابن الجوزي في "الموضوعات" (3/ 146)، وضعفه الألباني في "السلسلة الضعيفة" (1821)، وكذا ضعفه محقق "مسند الشهاب" (1/ 387)، وانظر: "المقاصد الحسنة" (59)، و"فيض القدير" للمناوي (1/ 142).

المعصوم لا ثقة بخواطره؛ لأنه لا يأمن دسيسة الشيطان، وقد ضُمِنَتِ الهداية في اتباع الشرع، ولم تُضْمَنْ في اتباع الخواطر والإلهامات. والإلهام في الاصطلاح: إيقاع شيء في القلب يَثْلَجُ له الصدر من غير استدلال بوحي، ولا نَظَرٍ في حجة عقلية، يخْتَصُّ اللَّه به من يشاء من خلقه، أما ما يُلْهَمُه الأنبياءُ مما يلقيه اللَّه في قلوبهم فليس كإلهام غيرهم؛ لأنهم معصومون بخلاف غيرهم، قال في "مراقي السعود" في كتاب الاستدلال: وَيُنْبَذ الإلْهَامُ في العَرَاءِ ... أَعْنِي بِهِ إلْهَامَ الأولِيَاءِ وَقَدْ رَآهُ بَعْضُ مَنْ تصَوَّفَا ... وَعِصْمَةُ النَّبِيِّ تُوجِبُ اقْتِفَا (¬1) وبالجملة، فلا يخفى على من له إلمام بمعرفة دين الإسلام أنه لا طريق تُعْرَفُ بها أوامر اللَّه ونواهيه، وما يُتقرب إليه به من فعل وترك، إلا عن طريق الوحي؛ فَمَنِ ادَّعَى أنه غَنِيٌّ في الوصول إلى ما يُرْضِى ربه عن الرسل، وما جاءوا به -ولو في مسألة واحدة-؛ فلا شك في زندقته، والآيات والأحاديث الدالة على هذا لا تُحْصَى، قال -تَعَالَى-: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، ولم يَقُلْ: حتى نُلْقِيَ في القلوب إلهامًا، وقال -تَعَالَى-: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ} الآية [طه: 134]. والآيات والأحاديث بمثل هذا كثيرة جدًّا، وقد بَيَّنَّا طرَفًا من ذلك في سورة "بني إسرائيل" في الكلام على قوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (¬2) [الإسراء: 15]، وبذلك تعلم أن ما يَدَّعِيهِ كثير من الجهلة المدعين التصوف -من أن لهم ولأشياخهم طريقًا باطنة توافق الحق عند اللَّه، ولو كانت مخالفة لظاهر ¬

_ (¬1) "نشر البنود على مراقي السعود" ص (261، 262). (¬2) "أضواء البيان" (3/ 429)، وما بعدها.

الشرع؛ كمخالفة ما فعله الخَضِرُ لظاهر العلم الذي عند موسى - زندقة، وذريعة إلى الانحلال بالكلية من دين الإسلام، بدعوى أن الحق في أمور باطنة تخالف ظاهره. وقال القرطبي -رحمه الله- في "تفسيره" (¬1) ما نصه: "قال شيخنا الإمام أبو العباس: ذهب قوم من زنادقة الباطنية إلى سلوك طريق لا تلزم منه هذه الأحكام الشرعية، فقالوا: هذه الأحكام الشرعية العامة إنما يُحْكَمُ بِهَا على الأنبياء والعامة، وأما الأولياء، وأهل الخصوص؛ فلا يَحْتَاجُونَ إلى تلك النصوص؛ بل إنما يُرَادُ منهم ما يقَعُ في قلوبهم، ويحكم عليهم بما يغلب عليهم من خواطرهم، وقالوا: وذلك لصفاء قلوبهم عن الأكدار، وخلوها عن الأغيار، فتتجلى لهم العلوم الإلهية، والحقائق الربانية، فيقفون على أسررار الكائنات، ويعلمون أحكام الجزئيات، فيستغنون بها عن أحكام الشرائع الكليات، كما اتفق للخَضِرِ؛ فإنه استغنى بما تجَلَّى له من العلوم عمَّا كان عند موسى من تلك الفهوم (¬2)، وقد جاء فيما ينقلون: "اسْتَفْتِ قَلْبَك وَإنْ أفْتَاكَ المُفْتُونَ"، قال شيخنا -رضي اللَّه عنه-: وهذا القول زندقة وكفر، يُقْتَلُ قائله، ولا يُسْتَتَابُ؛ لأنه إنكار ما عُلِمَ من الشرائع؛ فإن اللَّه -تَعَالَى- قد أجرى سنته، وأنفذ حكمته بأن أحكامه لا تُعْلَمُ إلا بواسطة رسله السُّفَرَاءِ بينه وبين خلقه، وهم المُبَلِّغُونَ عنه رسالته، وكلامه، المبينون شرائعه وأحكامه، اختارهم لذلك، وخصَّهُمْ بما هنالك؛ كما قال -تَعَالَى-: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج: 75]، وقال -تَعَالَى-: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124]، وقال -تَعَالَى-: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} [البقرة: 213]، إلى غير ذلك من الآيات، وعلى الجملة، فقد حصل العلم القطعي واليقين الضروري، واجتماع السلف والخلف على أن لا ¬

_ (¬1) "الجامع لأحكام القرآن" (11/ 40، 41). (¬2) وسيأتي -إن شاء الله- تفصيل الرد على هذا الزعم ص (258) وما بعدها.

طريق لمعرفة أحكام الله -تَعَالَى- التي هي راجعة إلى أمره ونهيه، ولا يُعرف شيء منها إلا من جهة الرسل، فمن قال: إن هناك طريقًا أخرى يُعرف بها أمره ونهيه غير الرسل؛ حيث يُسْتَغْنَى عن الرسل- فهو كافر يُقتل ولا يُسْتَتَابُ، ولا يُحتاج معه إلى سؤال وجواب، ثم هو قول بإثبات أنبياء بعد نبينا -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ الذي قد جَعَلَهُ اللَّه خاتَمَ أنبيائه ورسله، فلا نبي بعده ولا رسول". وبيان ذلك أن من قال: يأخذ عن قلبه، وأن ما يقع فيه حكم الله -تَعَالَى-، وأنه يعمل بمقتضاه، وأنه لا يحْتَاجُ مع ذلك إلى كتاب ولا سنة، فقد أثبت لنفسه خاصة النبوة؛ فإن هذا نحو ما قاله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّ رُوحَ القُدُسِ نفَثَ في رُوعِي" الحديث (¬1). انتهى من "تفسير القرطبي". وما ذكره في كلام شيخه المذكور من أن الزنديق لا يُسْتَتَابُ هو مذهب مالك ومن وافقه، وقد بيَّنَا أقوال العلماء في ذلك وأدلتهم، وما يُرجِّحُهُ الدليل في كتابنا "دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب" في سورة "آل عمران" (¬2)، وما يسْتَدِلُّ به بعض الجهلة ممن يدعي التصوف على اعتبار الإلهام من ظواهر بعض النصوص؛ كحديث: "اسْتَفْتِ قلْبَكَ، وإنْ أفْتَاكَ النَّاسُ، وأفْتَوْكَ" (¬3)، لا دليل ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه ص (169). (¬2) "دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب" ص (63 - 66) ملحق بالمجلد الأخير من "تتمة أضواء البيان". (¬3) انظر شرحه وافيًا في "الاعتصام" للشاطبي (2/ 153 - 163)، واستفتاء القلب إنما يكون في الواقعة التي تتعارض فيها الأدلة، وقال الغزالي -غفر الله له-: "واستفتاء القلب إنما هو حيث أباح المفتي، أما حيث حَرَّم فيجب الامتناع، ثم إنه لا يُعَوَّل على كل قلب، فرب موسوس ينفي كل شيء، ورب مساهل ينظر إلى كل شيء، فلا اعتبار بهذين القلبين، وإنما الاعتبار بقلب العالِم الموفَّق المراقب لدقائق الأحوال، فهو المِحَك الذي تُمتحن به حقائق الصدر، وما أعزَّ هذا القلب! ". اهـ. نقله عنه في "البحر المحيط" (6/ 105)، وانظر: "إرشاد الفحول" ص (232). وقيل: إن الحديث كان لوابصة في واقعة تخصه، ووقائع الأعيان لا عموم لها، وعلى فرض عمومه فموضع هذا: فيما لا نص فيه، ولا حجة شرعية، وإلا وجب اتباع الشرع لعموم الأدلة في ذلك، وانظر: "فيض القدير" (1/ 495).

فيه البتة على اعتبار الإلهام؛ لأنه لم يقل أحد ممن يُعْتَدُّ به: إن المفتيَ الذي تُتَلقى الأحكامُ الشرعية مِن قِبَلِه القلبُ، بل معنى الحديث: التحذير من الشُّبَهِ؛ لأن الحرام بيِّنٌ، والحلال بَيِّنٌ، وبينهما أمور مشتبهة، لا يعلمها كل الناس؛ فقد يفتيك المفتي بحِلِّية شيء، وأنت تعلم من طريق أخرى أنه يحتمل أن يكون حرامًا، وذلك باستنادٍ إلى الشرع؛ فإن قلب المؤمن لا يطمئن لما فيه الشبهة، والحديثُ كقوله: "دَعْ مَا يَرِيبُكَ إلَى ما لَا يَريبُكَ"، وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الْبِرُّ حُسْنُ الخُلُقِ، والإثْمُ مَا حَاكَ في نفْسِكَ، وكَرِهْتَ أنْ يَطَّلِعَ علَيْهِ النَّاسُ" رواه مسلم من حديث النَوَّاس بن سمعان -رضي اللَّه عنه-. وحديث وابصة بن معبد -رضي اللَّه عنه- المُشَارُ إليه، قال: أتيتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال: "جِئْتَ تَسْأَلُ عَنِ البِرِّ؟ " قلت: نعم، قال: "اسْتَفْتِ قَلْبَكَ، البِرُّ ما اطْمَأنَّتْ إليْهِ النَّفْسُ، واطْمَأنَّ إلَيْهِ القَلْبُ، والإثْمُ مَا حَاكَ في النَّفْسِ، وترَددَ في الصَّدْرِ، وإنْ أفْتَاكَ النَّاسُ، وأفْتَوْكَ". قال النووي في "رياض الصالحين": حديث حسن، رواه أحمد والدرامي في "مسنديهما"، ولا شك أن المراد بهذا الحديثِ ونحوه: الحث على الوَرَعِ، وترك الشُّبَهِ، فلو التبسَتْ -مثلًا- ميتة بمُذَكَّاة، أو امرأة محرم بأجنبية، وأفتاك بعض المفتين بحلِّية إحداهما؛ لاحتمال أن تكون هي المُذَكَّاة في الأول، والأجنبية في الثاني، فإنك إذا استفتيت قلبك، علمتَ أنه يحتمل أن تكون هي الميتة أو الأخت، وأن ترك الحرام، والاستبراء للدِّين والعِرض، لا يتحقق إلا بتجنب الجميع؛ لأن ما لا يتم ترك الحرام إلا بتركه فتركه واجب، فهذا يَحِيك في النفس، ولا تنشرح له؛ لاحتمال الوقوع في الحرام فيه كما ترى، وكل ذلك مُسْتنِدٌ لنصوص الشرع لا للإلهام. ومِمَّا يدل على ما ذكرنا من كلام أهل الصوفية المشهود لهم بالخير والدين والصلاح قول الشيخ أبي القاسم الجنيد بن محمد بن الجنيد الخرَّاز

القواريري -رحمه اللَّه-: "مذهبنا هذا مُقيَّدٌ بالكتاب والسنة" (¬1)، نقله عنه غير واحد ممن ترجمه -رحمه اللَّه-، كابن كثير، وابن خلكان، وغيرهما، ولا شك أن كلامه المذكور هو الحق؛ فلا أمر ولا نهي إلا على ألسنة الرسل -عليهم الصلاة والسلام-، وبهذا كُلِّه تعلم أن قتل الخَضِرِ للغلام، وخرقه للسفينة، وقوله: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف: 82]، دليل ظاهر على نُبُوَّتِه، وعزا الفخر الرازي في "تفسيره" القول بنبوته للأكثرين. ومما يُسْتَأْنَسُ به للقول بنبوته: تواضع موسى -عليه الصلاة والسلام- له في قوله: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف: 66]، وقوله: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} [الكهف: 69]، مع قول الخَضِر له: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} [الكهف: 68] اهـ (¬2). وقال العلامة محمد ناصر الدين الألباني -رحمه اللًه- تعليقًا على أثر: "يا سَاريَةُ الجَبَلَ": "ومما لا شك فيه أن النداء المذكور إنما كان إلهامًا من اللَّه -تَعَالَى- لعمر، وليس ذلك بغريب عنه؛ فإنه "محدَّث"؛ كما ثبت عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولكن ليس فيه أن عمر كُشِفَ له حالُ الجيش، وأنه رآهم رأي العين؛ فاستدلال بعض المتصوفة بذلك على ما يزعمونه من الكشف للأولياء، وعلى ¬

_ (¬1) ومثله ما حكاه شيخُ الإسلام ابن تيمية عن أبي الحسن الشاذلي قال: "قد ضُمنت لنا العصمة فيما جاء به الكتاب والسنة، ولم تضمن لنا العصمة في الكشوف والإلهام" "مجموع الفتاوى" (2/ 226). وقال أبو سليمان الداراني: "إنه لتقع في قلبي النكتة من نكت القوم، فلا أقبلها إلا بشاهدين عدلين: الكتاب، والسنة". "تلبيس إبليس" ص (162). وقال أبو عثمان النيسابوري: "من أمَّرَ على نفسه الشريعة قولًا وفعلًا، نطق بالحكمة، ومن أمَّر على نفسه الهوى قولًا وفعلًا، نطق بالبدعة؛ لأن اللَّه -تَعَالَى- يقول: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54]. وقال أبو عمرو بن نجيد: "كل وَجْدٍ لا يشهد له الكتاب والسنة؛ فهو باطل" كما في: "قطر الولي" ص (252). (¬2) "أضواء البيان" (4/ 158 - 162).

إمكان اطلاعهم على ما في القلوب من أبطل الباطل، كيف لا، وذلك من صفات رب العالمين، المنفرد بعلم الغيب، والاطلاع على ما في الصدور، وليت شعري، كيف يزعم هؤلاء ذلك الزعم الباطل، واللَّه -عز وجل- يقول في كتابه: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 26، 27]، فهل يعتقدون أن أولئك الأولياء رسل من رسل اللَّه حتى يصح أن يُقَالَ إنهم يطلعون على الغيب بإطلاع الله إياهم؟!! سبحانك هذا بهتانٌ عظيم!! على أنه لو صَحَّ تسمية ما وَقَعَ لعمر -رضي اللَّه عنه- كَشْفًا، فهو من الأمور الخارقة للعادة، التي قد تقع من الكافر -أيضًا-، فليس مجرد صدور مثله بالذي يدل على إيمان الذي صدر منه فضلًا عن أنه يدل على وَلايته؛ ولذلك يقول العلماء: "إن الخارق للعادة: إن صدر من مسلم فهو كرامة، وإلا فهو استدراج"، ويضربون على هذا مثلًا الخوارقَ التي تقع على يدِ الدجَّال الأكبر في آخر الزمان؛ كقوله للسماء: أمطري، فتمطر، وللأرض: أنبتي نباتك، فتنبت، وغير ذلك مما جاءت به الأحاديث الصحيحة. ومن الأمثلة الحديثة على ذلك؛ ما قرأته اليوم من عدد (أغسطس) من السنة السادسة من مجلة "المختار" تحت عنوان: "هذا العالم المملوء بالألغاز وراء الحواس الخمس"، ص (23): قصة (فتاة شابة ذهبت إلى جنوب أفريقية للزواج من خطيبها، وبعد معاركَ مريرةٍ معه، فسخت خِطبتها بعد ثلاثة أسابيع، وأخذت الفتاة تذرع غرفتها في اضطراب، وهي تصيح في أعماقها بلا انقطاع: "أواه! يا أماه ... ماذا أفعل؟ "، ولكنها قررت ألا تزعج أمها بذكر ما حدَثَ لها، وبعد أربعة أسابيع تلقت منها رسالةً جاء فيها: ماذا حدث؟ لقد كنت أهبط السلم عندما سمعتك تصيحين قائلة: "أوَّاهُ يا أماه .. ماذا أفعل؟ "، وكان تاريخ الرسالة متفقًا مع تاريخ اليوم الذي كانت تصيح فيه من أعماقها).

وفي المقال المشار إليه أمثلة أخرى مما يدخل تحت ما يسمونه اليوم بـ "التخاطر" (¬1)، و"الاستشفاف"، ويعرف باسم "البصيرة الثانية"، اكتفينا بالذي أوردناه؛ لأنها أقرب الأمثال مشابهة لقصة عمر -رضي الله عنه- التي طالما سَمعتُ من يُنكرها من المسلمين؛ لظنه أنها مِمَّا لا يُعْقَلُ، أو أنها تتضمن نسبة العلم بالغيب إلى عمر، بينما نجد غير هؤلاء ممن أشرنا إليهم من المتصوفة يستغلونها لإثبات إمكان اطلاع الأولياء على الغيب، والكل مخطئ؛ فالقصة صحيحة ثابتة، وهي كرامة أكرم اللَّه بها عمر، حيث أنقذ به جيش المسلمين من الأسر أو الفَتك به، ولكن ليس فيها ما زعمه المتصوفة من الاطلاع على الغيب، وإنما هو من باب الإلهام (في عرف الشرع)، أو (التخاطر) في عرف العصر الحاضر، الذي ليس معصومًا؛ فقد يصيب كما في هذه الحادثة، وقد يخطئ كما هو الغالب على البشر؛ ولذلك كان لابد لكل ولي من التقيد بالشرع في كل ما يصدر منه من قول أو فعل خشية الوقوع في المخالفة، فيخرج بذلك عن الولاية التي وصفها الله -تَعَالَى- بوصف جامع شامل فقال: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 62، 63]، ولقد أحسن من قال: إذَا رَأَيْتَ الشَّخْصَ قَدْ يَطِيرُ ... وَفَوْقَ مَاءِ البَحْرِ قَدْ يَسِيرُ وَلَمْ يَقِفْ عَلَى حُدُودِ الشَّرْعِ ... فَإنَّهُ مُسْتَدْرَجٌ وَبِدْعِي" (¬2) * * * ¬

_ (¬1) وهذا ما يعرف في "علم النفس غير الحِسِّيِّ" أو "البارا سيكولوجيا" Parapsychology بالتخاطر أو التليباثي Telepathy، وهو اتصال العقول عن طريق انتقال الخواطر Thought Transference أو قراءة الأفكار Mind Reading بأن يحدث الاتصال والاتفاق بين الأفكار في نفس اللحظة مع توصيل التأثيرات من غير استعانة بمسالك الحس المألوفة، انظر: "موسوعة علم النفس والتحليل النفسي" ص (182)، و"موسوعة الطب النفسي" (1/ 332، 333). (¬2) "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (3/ 102 - 104)، حديث (1110).

التحديث والمحدثون

التَّحدِيثُ وَالمُحَدَّثُونَ الأحَادِيثُ الوَارِدَةُ في المُحَدَّثِينَ: عَنْ أبي هُرَيْرةَ -رضي اللَّه عنه- عَنِ النَّبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قالَ: "إنَهُ كَانَ فِيمَا مَضَى قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَم مُحَدَّثُونَ، وَإنَّهُ إنْ كَانَ في أمَّتي هَذَهَ مِنْهُمْ فَإنَّهُ عُمَرُ بنُ الخَطابِ" (¬1). وعنه -رضي اللَّه عنه- مرفوعًا: "لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يُكَلَّمون (¬2) من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يَكُنْ من أمتي منهم أحد فعمر" (¬3). وعن عائشة -رضي الله عنها- عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه كان يقول: "قد كان يكون في الأمم قبلكم محدَّثون، فإن يكن في أمتي منهم أحد فإن عمر بن الخطاب منهم" (¬4). معنى المحدَّث: يقَالُ للرجل الصادق الظن: مُحدَّث، بتشديد الدال المفتوحة (¬5). وقال ابن وهب: (تفسير "مُحَدَّثُونَ": مُلْهَمُونَ) (¬6)، والملهم: "هو الذي يُلقى في نفسه الشيء، فيُخْبرُ به حَدْسًا وفراسة" (¬7). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3689) (7/ 42 - فتح). (¬2) قيل: تكلمه الملائكة في نفسه، وإن لم ير مكلمًا في الحقيقة، فيرجع إلى الإلهام، انظر: "فتح الباري" (7/ 50). (¬3) "نفسه". (¬4) رواه مسلم (4/ 1864) (23). (¬5) "لسان العرب" (2/ 124). (¬6) "صحيح مسلم" (4/ 1864). (¬7) "لسان العرب" (2/ 134)، و"النهاية" لابن الأثير (1/ 350).

وقال سفيان بن عيينة: مُحَدَّثُونَ: مُفَهَّمون (¬1). وقال ابن القيم: هو الذي يُحَدَّثُ في سِرِّه وقلبه بالشيء، فيكون كما يُحدَّث به (¬2). وقيل: "هو الرجل الصادق الظن، وهو من أُلقي في رُوعه شيء مِن قِبَلِ الملأ الأعلى، فيكون كالذي حدَّثه غيره به، وبهذا جَزَمَ أبو أحمد العسكري، وقيل: من يجري الصواب على لسانه من غير قصد" (¬3). ونقل النووي عن البخاري -رحمه الله- أن المحدَّثين "هم الذين يجري الصواب على ألسنتهم" (¬4). * * * ¬

_ (¬1) "سنن الترمذي" (5/ 622) (3693). (¬2) "مدارج السالكين" (1/ 39). (¬3) "فتح الباري" (7/ 50). (¬4) "شرح النووي لصحيح مسلم" (15/ 166).

التحديث إلهام خاص

التَّحدِيثُ إلهَامٌ خاصٌّ قال الإمام المحقق ابن قيم الجوزية -رحمه الله - تعالى-: (المَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ (¬1): مرتبة التحديث، وهذه دون مرتبة الوحي الخاص، وتكون دون مرتبة الصدِّيقين؛ كما كانت لعمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-؛ كما قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّهُ كَانَ في الأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحدَّثُونَ، فَإنْ يَكُنْ في هَذِهِ الأُمَّةِ فعُمَرُ بنُ الخَطَّابِ". التَحْدِيثُ أخَصُّ مِنَ الإلْهَامِ: فإن الإلهام عامٌّ للمؤمنين بحسب إيمانهم؛ فكل مؤمن فقد ألهمه اللَّه رشده الذي حصل له به الإيمان؛ فأما التحديث: فالنبي -صلى الله عليه وسلم- قال فيه: "إنْ يَكُنْ في هَذِهِ الأُمَّةِ أحد فعُمَرُ"؛ يعني من المُحَدَّثِينَ، فالتحديث إلهام خاص، وهو الوحي إلى غير الأنبياء: إما من المكلفين؛ كقوله -تَعَالَى-: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص: 7]، وقوله: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي} (¬2) [المائدة: 111]، وإما من غير المكلفين، كقوله -تَعَالَى-: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} [النحل: 68]. فهذا كله وحي إلهام) (¬3). الصِّدِّيقُ أكمَلُ مِنَ المُحَدَّثِ قال الإمام المحقق ابن قيم الجوزية -رحمه الله-: "والمحدَّث هو الذي يحدَّثُ في سره وقلبه بالشيء فيكون كما يُحَدَّثُ به. قال شيخنا: والصِّدِّيقُ أكمل من المحدَّث؛ لأنه استغنى بكمال صِدِّيقِيَّتِه ¬

_ (¬1) أي من مراتب الهداية للإنسان. (¬2) قال الأزهري: "الوحي هنا بمعنى الإلهام" اهـ. نقله ابن منظور في "لسان العرب" (2/ 555). (¬3) "مدارج السالكين" (1/ 44، 45).

ومتابعته عن التحديث والإلهام والكشف؛ فإنه قد سلَّمَ قلبه كله، وسره، وظاهره، وباطنه للرسول، فاستغنى به عما منه (¬1). قال: وكان هذا المحدَّث يَعْرِضُ ما يُحَدَّثُ به على ما جاء به الرسول، فإن وافقه قَبِلَهُ، وإلا ردَّهُ، فعُلِمَ أنَّ مرْتبَةَ الصِّدِّيقِيَّةِ فوق مرتبة التحديث" (¬2) اهـ. وقال أيضًا -رحمه اللَّه- تعالى: "ولا تظن أن تخصيص عمر -رضي اللَّه عنه- بهذا؛ تفضيل له على أبي بكر الصديق، بل هذا من أقوى مناقب الصديق، فإنه- لكمال مشربه من حوض النبوة، وتمام رضاعه من ثدي الرسالة، استغنى بذلك عما تلقَّاه من تحديثٍ أو غيره، فالذي يتلقاه من مشكاة النبوة أتم من الذي يتلقاه عمر من التحديث، فتأمل هذا الموضع، وأعطه حقه من المعرفة، وتأمل ما فيه من الحكمة البالغة الشاهدة لله بأنه الحكيم الخبير" (¬3). * * * ¬

_ (¬1) كذا بالأصل. (¬2) "مدارج السالكين" (1/ 39، 40)، وانظر: "مجموع الفتاوى" (2/ 226، 227)، و"دقائق التفسير الجامع لتفسير شيخ الإسلام ابن تيمية" تحقيق د. محمد السيد الجليند (4/ 306، 307). (¬3) "مفتاح دار السعادة" (1/ 255)، دار الكتب العلمية، بيروت.

الفرق بين الفراسة والإلهام

الفَرقُ بَينَ الفِرَاسَةِ والإلهَامِ أن الفراسة قد تتعلق بنوع كسبٍ وتحصيلٍ، وأما الإلهامُ فموهبة مُجَرَّدَةُ، لا تُنَالُ بكسبٍ البتة (¬1). هل في الأُمَّةِ المُحَمَّديَّة مُحَدثَّونَ؟ قال الإمام المحقِّق ابن قَيِّمِ الجوزية -رحمه اللَّه - تعَالَى-: "وسمعت شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية -رحمه اللَّه- يقول: جزم (¬2) بأنهم كائنون في الأمم قبلنا، وعَلَّق وجودهم في هذه الأمة بـ "إن" الشرطية، مع أنها أفضل الأمم؛ لاحتياج الأمم قبلنا إليهم، واستغناء هذه الأمة عنهم بكمال نبيها، ورسالته، فلم يُحْوِج الله الأمة بعده إلى مُحدَّث، ولا مُلْهَم، ولا صاحب كشف، ولا منامٍ، فهذا التعليق لكمال الأمة، واستغنائها لا لنقصها" (¬3). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه اللَّه - تعَالَى-: "وأمَّا مُحمَّد -صلى الله عليه وسلم- فبُعِثَ بكتاب مستقلٍّ، وشرع مُستقِل كامل تامٍّ لم يُحْتَجْ معه إلى شرع سابق تتعلمه أمته من غيره، ولا إلى شرعٍ لاحقٍ يكمل شرعه؛ ولهذا قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في الحديث الصحيح: (إنَّهُ قَدْ كَانَ في الأُمَمِ قَبْلكُمْ مُحَدَّثُونَ، فَإنْ يَكُنْ في أُمَّتِي أحَد فعُمَرُ). فجزم أن من كان قبله كان فيهم مُحدَّثُونَ، وعلَّقَ الأمرَ في أمته، وإن كان هذا المُعَلَّق قد تحقق؛ لأن أمته لا تحتاج بعده إلى نبي آخر، فَلأَن لا تحتاج معه إلى مُحدَّث ملهم أولى وأحرى. وأما من كان قبله فكانوا يحتاجون إلى نبي بعد نبي، فأمكن حاجتهم إلى ¬

_ (¬1) "نفسه" (1/ 45)، وانظر: "لرسالة القشيرية" ص (106)، و"الذريعة إلى مكارم الشريعة" ص (186، 187)، و"فتح الباري" (1/ 170)، و"فراسة المؤمن" للشيخ إبراهيم الحازمي. (¬2) أي: النبي -صلى الله عليه وسلم-. (¬3) "مدارج السالكين" (1/ 39).

المُحَدَّثِينَ الملهمِين؛ ولهذا إذا نزل المسيح ابن مريم في أمَّتِه لم يحكم فيهم إلا بشرع محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-" (¬1). اهـ. وقال -أيضًا- رحمه اللَّه-: "المُحَدَّثُ كان فيمن قبلنا، وكانوا يحتاجون إليه .. وأمة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- لا تحتاج إلى غير محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-" (¬2). اهـ. وقال الحافظ ابن حجر -رحمه اللَّه-: "وقوله: (إنْ يَكُ في أُمَّتِي)، قيل: لم يورد هذا القول مورد الترديد؛ فإن أمته أفضل الأمم، وإذا ثبت أن ذلك وُجِدَ في غيرهم، فإمكان وجوده فيهم أولى (¬3)، وإنما أورده مورد التأكيد، كما يقول الرجل: "إن يكن لي صديق، فإنه فلان"، يريد اختصاصه بكمال الصداقة لا نفي الأصدقاء، ونحوه قول الأجير: "إن كنتُ عملتُ لك، فَوَفنِّي حقي"، وكلاهما عالم بالعمل، لكن مراد القائل أن تأخيرك حقي عملُ مَنْ عِنْدَهُ شكٌّ في كوني عملتُ. وقيل: الحكمة فيه أن وجودهم في بني إسرائيل كان قد تحقق وقوعه، وسبب ذلك احتياجهم، حيث لا يكون حينئذ فيهم نبي، واحتمل عنده -صلى الله عليه وسلم- ألَّا تحتاج هذه الأمة إلى ذلك، لاستغنائها بالقرآن عن حدوث نبي، وقد وقع الأمر كذلك؛ حتى إن المحدَّث منهم إذا تحقق وجوده؛ لا يحكم بما وقع له، بل لابد من عرضه على القرآن، فإن وافقه، أو وافق السنة، عمل به، وإلا تركه، وهذا -وإن جاز أن يقع- لكنه نادر ممن يكون أمره منهم مبنيًّا على اتباع الكتاب والسنة" (¬4). اهـ. ¬

_ (¬1) "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح" (2/ 382، 383). (¬2) "الفتاوى الكبرى" (5/ 107) بتصرف. (¬3) بل مقتضى أفضلية هذه الأمة المحمدية استغناؤها عن المحدثين، لكمال دينها، وإن فرض وجودهم فإن الشرع مستغن عنهم، وحاكم عليهم لا العكس، كما تقدم من كلام شيخ الإسلام، وكما يأتي من كلام ابن حجر -رحمه الله تعالى-. (¬4) "فتح الباري" (7/ 50، 51).

الفرق بين النبي والمحدث

الفَرقُ بَينَ النَّبِيِّ والمُحَدَّثِ (¬1): النَّبِيُّ: يُوحى إليه بوحي يَعلم أنه وحي من اللَّه -عز وجل- سواء كُلِّف بتبليغه إلى الناس أم لا. والنَّبي لا يحتاج إلى التأكد من صحة ما أوحي إليه به بعرضه على وحي سابق؛ لأنه يعلم يقينا أنه وحي من الله -سبحانه- ووحي اللَّه -عز وجل- يكمل بعضه بعضًا، ثم إن النبي معصوم من الوهم فيما يخبر به عن اللَّه -سبحانه- كما قال -جل ذكره-: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ} [الجن: 26 - 28]، فهو هنا يحرسهم حتى يبلِّغوا عنه. والنبي إن أخطأ في رأي أو اجتهاد، فإن اللَّه -سبحانه- لا يتركه على ذلك، بل يصحح له عن طريق الوحي؛ كما وقع في قصة أسرى بدر؛ حيث أنزل اللَّه: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: 67]، وكإذنه للمتخلفين عن تبوك، يقول اللَّه -تَعالَى-: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: 43]، وغير ذلك كثير. أمَّا المُحَدَّثُ: فإنه يُحدَّث في سره بالشيء، ولا يعلم أنه من الله -تَعالَى-، وقد كان عمر -رضي اللَّه عنه- يقول: "لا يقولن أحد: قضيت بما أراني اللَّه -تعَالَى-؛ فإن اللَّه -تَعالَى- لم يجعل ذلك إلا لنبيه، وأما الواحد منا فرأيه يكون ظنًّا، ولا يكون علمًا" (¬2)، أي أنه لا يصل ذلك التحديث إلى درجة اليقين لعدم تيقنه بكونه من اللَّه -سبحانه-، وكان -رضي اللَّه عنه- إذا قضى في شيء لا يعتبره قضية مُسلَّمة، وأنه من اللَّه، بل يعزوها إلى نفسه غير مؤكد صحتها؛ ففي قضية الكَلَالة (¬3)، قال: "أقول فيها برأيي؛ فإن يكن صوابًا؛ فمن الله، وإن ¬

_ (¬1) بتصرف من "عقيدة ختم النبوة" للشيخ أحمد بن سعد الغامدي ص (123 - 126). (¬2) "تفسير مفاتيح الغيب" (1/ 33). (¬3) الكلالة: اسم للورثة ما عدا الوالدين والمولودين، وقيل: اسم للميت الذي لا والد له، ولا ولد.

المحدث يجب أن يعرض آراءه على الكتاب والسنة

يكن خطأ؛ فمني ومن الشيطان" (¬1). فهذا عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- أفضل المحدَّثين -إن وجِدوا-، وقد شهد له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "إنِّي لأنْظُرُ إلى شَيَاطِينِ الجِن والأنْسِ قَدْ فَرُّوا مِنْ عُمَرَ" (¬2)، وقال -عليه الصلاة والسلام-: "إن اللهَ جعَلَ الحَق علَى لِسَانِ عُمَرَ وقَلْبِهِ" (¬3)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: لَوْ كَانَ نَبي بعْدِي لكَانَ عُمَرَ" (¬4)، وكان علي -رضي الله عنه- يقول: "ما كنا نُبْعِدُ أن السكِينة تنطق على لسان عمر" (¬5). وكان عمر يقول: "اقتربوا من أفواه المطيعين، واسمعوا منهم ما يقولون؛ فإنه تتجلى لهم أمور صادقة" (¬6). ومع ذلك لم يعتبر آراءه حقًّا صوابًا، بل كان يتَّهم نفسه؛ كما سبق؛ ولذلك كان يعرض آراءه على الكتاب والسنَّة. المُحدَّثُ يَجِبُ أن يعرضَ آراءَهُ علَى الكِتَابِ والسَّنَّةِ: لما كان المحدَّث لا يعلم أن ما في قلبه من الله؛ فإنه يلزمه -ليعلم صحة ذلك- أن يعْرضَهُ على ميزان صحيح واضح، وليس ذلك إلا كتاب الله، وسنَّة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وقد كانت هذه حالة عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- مع نفسه وغيره. فليس في المحدَّثين أفضل من عمر، وقد وافق ربَّه في عدة أشياء، ومع هذا، فكان عليه أن يعتصم بما جاء به الرسول، ولا يقبل ما يرد عليه حتى يعرضه على الرسول، ولا يتقدم بين يدي الله ورسوله. ¬

_ (¬1) "مدارج السالكين" (1/ 40). (¬2) "صحيح سنن الترمذي" (3/ 207) (2914). (¬3) "نفسه" (3/ 204) (2908). (¬4) "نفسه" (3/ 204) (2909). (¬5) "سير أعلام النبلاء: سير الخلفاء الراشدين" ص (76). (¬6) ذكره في "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" ص (52).

وكان إذا تبين له من ذلك أشياء خلاف ما وقع له فيرجع إلى السنَّة. وكان أبو بكر يبين له أشياء خفيت عليه، فيرجع إلى بيانه، وإرشاده؛ كما جرى يوم الحديبية، ويوم مات رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ويوم ناظره في مانعي الزكاة، وغير ذلك، وكانت امرأة ترُدُّ عليه، وتذكر الحجة من القرآن، فيرجع إليها؛ كما جرى في مُهور النساء، ومثل ذلك كثير (¬1). ومن الأمور التي بينها له أبو بكر - رضي الله عنه - وردَّه فيها إلى الصواب: أمر موت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ حيث قام عمر يقول: "والله، ما مات رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-"، وكان يقول بعدها: "واللَّه ما كان يقع في نفسي إلا ذاك، وليبعثنه اللَّه، فيقطعن أيدي رجال، وأرجلهم"، فجاء أبو بكر فكشف عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقبَّله، وقال: "بأبي أنت وأمي، طِبْتَ حيًّا وميِّتًا، والذي نفسي بيده لا يذيقك اللَّه الموتتين أبدًا"، ثم خرج، فقال: "أيها الحالفُ، على رِسْلِكَ"، فلما تكلم أبو بكر جلس عمر: فحمِد اللهَ أبو بكر، وأثنى عليه، وقال: "ألَا من كان يعبد محمدًا -صلى اللَّه عليه وسلم-، فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد اللَّه، فإن الله حي لا يموت، وقال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30]، وقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} " (¬2) [آل عمران: 144]. وكذلك في قصة الحديبية عندما صالح النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قريشًا، وثبت عمر بن الخطاب، فأتى أبا بكر، فقال: "يا أبا بكر، أليس رسولَ الله؟ " قال: بلى، قال: "أولسنا بالمسلمين؟ " قال: بلى، قال: "أوليسوا بالمشركين؟ " قال: بلى، قال: "فعلام نعطي الدَّنيَّةَ في ديننا؟ " قال أبو بكر: "يا عمر، الزم غَرْزَه؛ فإني أشهد أنه رسولُ الله"، قال عمر: ¬

_ (¬1) انظر: "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" ص (53، 54). (¬2) رواه البخاري (7/ 19 - فتح).

"وأنا أشهد أنه رسولُ اللَّه" (¬1). وقد قال عمر في ذلك: "ما زلت أتصدق، وأصوم، وأصلي، وأعتق؛ من الذي صنعتُ يومئذ مخافةَ كلامي الذي تكلمتُ به، حتى رجوتُ أن يكون خيرًا" (¬2)، لأنه قد قال للرسول -صلى الله عليه وسلم- مثل ما قال لأبي بكر. وكذلك في قصة عيينة بن حصن عندما دخل عليه، فقال له: "هِي يابن الخطاب، فواللَّه، ما تعطينا الجَزلَ، ولا تحكم بيننا بالعدل"؛ فغضب عمر حتى همَّ به، فقال له الحُرُّ: "يا أمير المؤمنين، إن اللَّه -تعَالَى- قال لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، وإن هذا من الجاهلين"، قال ابن عباس الراوي: "واللَّه، ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقَّافًا عند كتاب اللَّه" (¬3). وقال ابن حجر -رحمه الله-: "إن المحدَّث منهم إذا تحقق وجوده لا يحْكمُ بما وقع له، بل لابد له من عرضه على القرآن، فإن وافقه، أو وافق السنَّة، وإلا تركه" (¬4). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: (وكذلك في قتال مانعي الزكاة، قال عمر لأبي بكر: كيف نقاتل الناس، وقد قال رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم-: "أُمِرْتُ أنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حتَّى يَشْهَدُوا أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، فَإنْ فعَلُوا ذَلِكَ، عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وأمْوَالَهُمْ إلَّا بحَقِّهَا"، فقال له أبو بكر -رضي الله عنه-: ألم يقل: "إلَّا بحَقِّهَا"، فإن الزكاة من حقها، واللَّه، لو منعوني عَناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لقاتلتهم على منعها، قال عمر: فواللَّه، ما ¬

_ (¬1) رواه بنحوه البخاري (8/ 281). (¬2) "سيرة ابن هشام" (2/ 317). (¬3) رواه البخاري (8/ 304، 305 - فتح). (¬4) "فتح الباري" (7/ 51).

هو إلا أن رأيت قد شُرحَ صدر أبي بكر للقتال، فعلمت أنه الحق. ولهذا نظائر تبين تقدم أبي بكر على عمر، مع أن عمر - رضي الله عنه - مُحَدَّثٌ، فإن مرتبة الصديق فوق مرتبة المحدَّث؛ لأن الصديق يتلقى عن الرسول المعصوم كل ما يقوله ويفعله، والمحدَّث يأخذ عن قلبه أشياءَ، وقلبه ليس بمعصوم، فيحتاج أن يعرضه على ما جاء به النبي المعصوم. ولهذا كان عمر -رضي اللَّه عنه- يشاور الصحابة -رضِيَ اللَّه عنْهُمْ-، ويناظرهم، ويرجع إليهم في بعض الأمور، وينازعونه في أشياء، فيحتج عليهم، ويحتجون عليه بالكتاب والسنَّة، ويقرهم على منازعته، ولا يقول لهم: "أنا محدَّث ملهم مخاطَب؛ فينبغي لكم أن تقبلوا مني ولا تعارضوني"، فأي أحد ادعى، أو ادعى له أصحابه أنه ولي للَّه، وأنه مخاطَب يجب على أتباعه أن يقبلوا منه كل ما يقوله، ولا يعارضوه، ويسلموا له حاله من غير اعتبار بالكتاب والسنة؛ فهو، وَهُمْ مخطئون، ومثل هذا أضل الناس، فعمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أفضل منه، وهو أمير المؤمنين، وكان المسلمون ينازعونه، ويعرضون ما يقوله -وهو، وهُمْ- على الكتاب والسنَّة، وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن كل أحد يُؤْخَذُ من قوله ويُتْرَكُ، إلا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. وهذا من الفروق بين الأنبياء وغيرهم؛ فإن الأنبياء -صلوات اللَّه عليهم وسلامه- يجب لهم الإيمان بجميع ما يخبرون به عن اللَّه -عز وجل- وتجب طاعتهم فيما يأمرون به، بخلاف الأولياء؛ فإنهم لا تجب طاعتهم في كل ما يأمرون به، ولا الإيمان بجميع ما يخبرون به، بل يعرض أمرهم وخبرهم على الكتاب والسنَّة، فما وافق الكتاب والسنَّة: وجب قبوله، وما خالف الكتاب والسنَّة: كان مردودًا، وإن كان صاحبه من أولياء اللَّه، وكان مجتهدًا معذورًا فيما قاله، له أجر على اجتهاده، ولكنه إذا خالف الكتاب والسنَّة كان مخطئًا، وكان من الخطأ المغفور إذا كان صاحبه قد اتقى اللَّه ما استطاع، فإن اللَّه -تعَالَى- يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وهذا تفسير قوله -تَعَالَى-:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102]. قال ابن مسعود وغيره: "حق تقاته: أن يطاع فلا يُعْصَى، وأن يُذْكَر فلا يُنْسَى، وأن يُشْكَرَ فلا يُكفر"، أي بحسب استطاعتكم؛ فإن اللَّه -تعَالَى- لا يكلف نفسًا إلا وسعها؛ كما قال -تعَالَى-: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286]، وقال -تعَالَى-: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأعراف: 42]، وقال -تعَالَى-: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [الأنعام: 152]. وقد ذكر اللَّه -سبحانه وتعالى- الإيمان بما جاءت به الأنبياءُ في غير موضع؛ كقوله -تعَالَى-: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136]. وقال -تعَالَى-: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)} [البقرة: 1 - 5]، وقال -تَعَالَى-: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177]. وهذا الذي ذكرته من أن أولياء اللَّه يجب عليهم الاعتصام بالكتاب والسنَّة، وأنه ليس فيهم معصوم يسوغ له، أو لغيره اتباعُ ما يقع في قلبه من غير اعتبار بالكتاب والسنَّة هو مما اتفق عليه أولياء اللَّه -عز وجل-، ومن خالف في هذا

شيخ الإسلام ابن تيمية يدحض مقولة: "حدثني قلبي عن ربي"

فليس من أولياء اللَّه -سبحانه- الذين أمر اللَّه باتباعهم، بل إما أن يكون كافرًا، وإما أن يكون مُفرِطَا في الجهل) (¬1) اهـ. وقال -أيضًا- شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه اللَّه-: "ولو كان أحد يأتيه من اللَّه ما لا يحتاج إلى عرضه على الكتاب والسنَّة؛ لكان مستغنيًا عن الرسول في بعض دينه، وهذا من المارقين الذين يظنون أن من الناس من يكون مع الرسول كالخَضِر مع موسى، ومن قال هذا فهو كافر (¬2). شَيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَةَ يدحَضُ مقُولَةَ: "حدَّثَني قلبِي عن رَبِّي": قال: (وأما ما يقوله كثير من أصحاب الخيالات والجهالات: "حدَّثَنِي قلْبِي عَنْ ربِّي"، فصحيح أن قلبه حدَّثه، ولكن عَمَّن؟ عن شيطانه، أو عن ربه؟ فإذا قال: "حدَّثَنِي قلْبِي عَنْ رَبِّي"، كان مُسْندًا الحديثَ إلى من لم يعلم أنه حدَّثه به، وذلك كذبٌ، قال: ومحدَّث الأمة لم يكن يقول ذلك، ولا تفوَّه به يومًا من الدهر، وقد أعاذه الله من أن يقول ذلك، بل كتب كاتبه يومًا: "هذا ما أرى اللهُ أميرَ المؤمنين عمرَ بنَ الخطاب"، فقال: "لا، امْحُهْ، واكتب: هذا ما رأى عمر بن الخطاب، فإن كان صوابًا فمن اللَّه، وإن كان خطأ فمن عمر، واللَّه ورسوله منه بريء"، وقال في الكلَالة: "أقول فيها برأيي، فإن يكن صوابًا فمن اللَّه، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان"، فهذا قول المحدَّث بشهادة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وأنت ترى الاتحادي، والحلولي، والإباحي الشَّطَّاح، والسماعي، مجاهرًا بالقِحَة والفِرية، يقول: "حدَّثَنِي قَلْبِي عَنْ رَبِّي". فانظر إلى ما بين القائلَينِ والمرتبتين والقولَين والحالَين، وأعطِ كل ذي حقٍّ حقه، ولا تجعل الزَّغَلَ والخالص شيئًا واحدًا) (¬3) اهـ. ¬

_ (¬1) "الفرقان" ص (54 - 56). (¬2) "مجموعة الرسائل والمسائل" (1/ 43). (¬3) "مدارج السالكين" (1/ 40)، والزَّغَل: الغِشُّ.

فصل

فَصلٌ * قال الحافظ الذهبي -رحمه اللَّهُ - تَعَالَى-: " ... وقد رأيت غير واحد من هذا النمط الذين زال عقلهم أو نقص، يتقلبون في النجاسات، ولا يصلون، ولايصومون، وبالفحش ينطقون، ولهم كشف كما -واللَّه- للرهبان كشف، وكما للساحر كشف، وكما لمن يُصرع كشف، وكما لمن يأكل الحية، ويدخل النار حالٌ مع ارتكابه للفواحش، فواللَّه، ما ارتبطوا على مسيلمة والأسود إلا لإتيانهم بالمغيبات (¬1) ". اهـ. وقال الإمام المحقق ابن القيم -رحمه اللَّه - تَعَالى-: "الفراسة الثانية: فراسة الرياضة والجوع، والسهر والتخلي، فإن النفس إذا تجردت عن العوائق، صار لها من الفراسة، والكشف بحسب تجردها، وهذه فراسة مشتركة بين المؤمن والكافر، ولا تدل على إيمان، ولا على وَلاية، وكثير من الجهال يغتر بها، وللرهبان فيها وقائع معلومة، وهي فراسة لا تكشف عن حق نافع، ولا عن طريق مستقيم، بل كشفها جزئي من جنس فراسة الولاة، وأصحاب عبارة الرؤيا، والأطباء، ونحوهم. وللأطباء فراسة معروفة مِن حذقهم في صناعتهم، ومَن أحب الوقوف عليها، فليطالع تاريخهم وأخبارهم" (¬2). اهـ. وقال العلامة عبد الرحمن المُعَلِّمِيُّ اليماني -رحمه اللَّه- تَعَالَى-: " ... ثم جاء القرن الثاني، فتوغل أفرادٌ في العبادة والعزلة وكثرة الصوم والسهر وقلة الأكل، لعزَّة الحلال في نظرهم، فجاوزوا ما كان عليه الحال في عهد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فوقعوا في طرفٍ من الرياضة، فظهرت على بعضهم ¬

_ (¬1) "نزهة الفضلاء" (4/ 3671)، وانظره: (4/ 1683، 1733)، وانظر: "مجموع الفتاوى" (10/ 435) وما بعدها. (¬2) "مدارج السالكين" (2/ 486، 487)، وانظر: "قطر الولي" ص (171 - 179)، فإنه مهم.

بعض آثارها الطبيعية؛ كالإخبار بأن فلانًا الغائب قد مات، أو سيقدم وقت كذا، وأن فلانًا يضمر في نفسه كذا، وما أشبه ذلك من الجزئيات القريبة (¬1)، فكان ¬

_ (¬1) علق العلامة الألباني -رحمه الله- على هذا الموضع قائلًا: (قلت: الإخبار عما في نفس الغير ليس من الجزئيات القريبة، بل هو من خصوصيات الله -تبارك وتعالى-، {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي} [المائدة: 116]، فيستحيل أن يصل إلى هذه المرتبة من يتعاطى الرياضة من مؤمن أو كافر، ونحوه الإخبار بموت الغائب، أو بقدومه، نعم هذان الأمران الأخيران ونحوهما قد يكون من وحي الشيطان الجني الذي يسترق السمع إلى الشيطان الإنسي، أو يمكنه بحكم جبلته أن يطلع على موت فلان، قبل أن يطلع عليه البعيد عنه من بني الإنسان، فيخبر به من يريد أن يضله من الإنس، كهؤلاء المرتاضين الذين يتحدث عنهم المصنف -رحمه الله تعالى- ومثله قدوم الغائب، ومكان الضالة، ونحو ذلك، فهذه أمور ميسورة للجن، فَيُطْلِعون بعض الإنس بها لإضلالهم: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن: 6]، وأما الاطلاع على ما في الصدور والإخبار به، فليس في طوق أحد منهم إلا بإخبار الله -عز وجل- من شاء من عباده الذين ارتضاهم لرسالته، كما قال: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ}، نعم ليس من هذا القبيل ما يُلهمه الرجل الصالح، ثم يقع كما أُلهم، لأنه لو سئل عنه قبل ذلك لم يستطع الجزم به، فلأنه لا يدري أمن إلهام الرحمن هو، أم من وحي الشيطان؟ بخلاف التي قالت: {مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ}. وليس منه أيضًا ما يتنبأ به الإنسان بفراسته وملاحظته الدقيقة التي لا يتنبه لها غيره، وقد وقع لي شخصيًّا من هذا النوع حوادث كثيرة لولا أنني كنت أبادر إلى الكشف عن أسبابها الطبيعية لظنها الناس كشفًا صوفيًّا! فمن ذلك أنني كنت يومًا في حلقة الدرس أنتظر أن يكتمل الجمع، إذ قلت لمن عن يميني -وهو حي يرزق-: "بعد قليل يدخل فلان -لشاب سميته-"، فلم يمضِ سوى لحظات حتى دخل! فنظر إلى جليسي دهشًا كأنه يقول: أكشف؟ فقلت: "لا بل هي الفراسة"، ثم شرحت له سر المسألة، وذلك أن الشاب المشار إليه أعرف أن له دراجة عادية يأتي عليها إلى الدرس، وأعرف أيضًا أن الراكب لها إذا أراد النزول عنها أوقف تحريك رجليه إذا اقترب من المكان الذي يريد النزول عنده، وأنه عند ذاك يُسمع منها صوتُ بعض مسنناتها، وكانت دراجة الشاب من النوع المعروف بـ (السباقية)، والصوت الذي يسمع منها عند النزول أنعم من الأخريات، وكان هو الوحيد الذي يركبها من بين الذين يحضرون الدرس عادة، فلما أراد النزول، وأوقف رجليه طرق سمعي ذلك الصوت، فعرفت أنه هو، وأخبرت جليسي به، فكان كذلك! وقد اتفق لي مرارًا -ويتفق مثله لغيري- أنني وأنا في صدد تقرير مسألة يقوم بعض الحاضرين يريد أن يسأل، فأشير إليه بأن تمهل، فإذا فرغت منها، قلت له: "الآن فَسَل"، فيقول: "ما أردت السؤالَ عنه قد حصل! " فأقول: أهذا هو الكشف؟! فمثل هذه الإجابة قد تقع تارة عفوًا، وتارة بقصد من المدرس الذي بحكم مركزه قد يتنبه لما لا يتنبه له الحاضرون، فيعرف من علاماتٍ خاصة تبدو له =

الناس يظنون أن جميع ذلك من الكرامات، والواقع أن كثيرًا منه كان من آثار الرياضة، وهي آثار طبيعية غريبة تحصل لكل من كان في طبعه استعداد وتعانى الرياضة بشروطها؛ سواء أكان مسلمًا -صالحًا أو فاجرًا- أم كافرًا، فأما الكرامات الحقيقية فلا دخل فيها لقوى النفوس، فلما وقعوا في ذلك وجد الشيطان مسلكًا للسلطان على بعض أولئك الأفراد بمقدار مخالفتهم للسنَّة؛ فمنهم من كان عنده من العلم ما دافع به عن دينه؛ كما نُقِل عن أبي سليمانَ الداراني أنه قال: "ربما تقع في قلبي النكتة من نكت القوم أيامًا، فلا أقبل منه إلا بشاهدين عدلين: الكتاب والسنَّة، ذكرها ونحوها من كلامهم أبو إسحاق الشاطبي في "الاعتصام" (106 - 121). ومنهم من سلم له أصل الإيمان، لكن وقع في البدع العلمية، ومنهم من كان سلطان الشيطان عليه أشد؛ فأوقعه في أشد من ذلك، كما ترى الإشارة إلى بعضه في ترجمة رياح بن عمرو القيسي من "لسان الميزان"، ثم صار كثير من الناس يتحرون العزلة والجوع والسَّهَرَ لتحصيل تلك الآثار، فقوي سلطان الشيطان عليهم، ثم نُقِلت مقالات الأمم الأخرى، ومنها الرياضة، وشرح ما تثمره من قوة الإدراك والتأثير، فضمها هواتُها إلى ما سبق، ملصِقين لها بالعبادات الشرعية، وكَثُرَ تعاطيها من الخائضين في الكلام والفلسفة، فمنهم من تعاطاها؛ ليروج مقالاته المنكرة بنسبتها إلى الكشف والإلهام والوحي، ويتورع عن الإنكار عليه، بزعم أنه من أولياء اللَّه -تَعَالَى-، ومنهم من تعاطاها على أمل أن يجد فيها حلًّا للشكوك والشُّبَهِ التي أوقعه فيها التعمقُ في الكلام والفلسفة. ¬

_ = من الذي يريد السؤال، ما هو سؤاله، فيجيبه قبل أن يسأل! فيظن كثير من الناس أنه كشف أو إخبار عما يضمر في نفسه، وإنما هو الظن والفراسة، ويستغل ذلك بعض الدجالين، فيلقون في نفوس مريديهم أنهم يطلعون على الضمائر، وأنهم يعلمون الغيب، فيتقبلون ذلك منهم ببساطة وسلامة قلب، حتى إن الكثير منهم لا يسافرون، ولا يأتون عملًا يهمهم، إلا بعد موافقة شيخهم عليه، فكأنه عندهم {بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النساء: 176]. واللَّه المستعان). اهـ. من هامش "القائد إلى تصحيح العقائد" ص (66، 67).

هذا، والشرع يقضي بأن الكشف ليس مما يصلح الاستناد إليه في الدين، ففي "صحيح البخاري" من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "لَمْ يَبْقَ مِنَ النُّبُوَّةِ إلَّا المُبَشِّرَاتُ" (¬1)، قالوا: وما المبشرات؟ قال: "الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ". وفيه حجة على أنه لم يبق مما يناسب الوحي إلا الرؤيا، اللهم إلا أن يكون بقي ما هو دون الرؤيا، فلم يعتد به، فدل ذلك أن التحديث، والإلهام، والفراسة، والكهانة، والكشف، كلها دون الرؤيا، والسر في ذلك أن الغيب على مراتب: الأُوْلَى: ما لا يعلمه إلا اللَّه، ولم يُعْلِمْ به أحدًا، أو أعلم به بعض ملائكته. الثَّانِيَةُ: ما قد علمه غير الملائكة من الخلق. الثَّالِثَةُ: ما عليه قرائن ودلائل إذا تنبه لها الإنسان عرفه؛ كما ترى أمثلة ذلك فيما يحكى من ذكاء إياس، والشافعي، وغيرهما، فالرؤيا قد تتعلق بما هو من المرتبة الأولى، لكن الحديث يقضي أنه لم يبق منها إلا ما كان على وجه التبشير فقط، وفي معناه التحذير، والفراسة، تتعلق بالمرتبة الثالثة، وبقية الأمور بالمرتبة الثانية، وإنما الفرق بينهما -واللَّه أعلم- أن التحديث والإلهام من إلقاء الملَك في الخاطر، والكهانة من إلقاء الشيطان، والكشف قوة طبيعية غريبة؛ كما يسمى في هذا العصر قراءة الأفكار. نعم، قد يقال: إن الرياضة قد تؤهل صاحبها لأن يقع له في يقظته ما يقع له في نومه، فيكون الكشف ضربًا من الرؤيا. وأقول: إن صح هذا، فقد تقدم أن الرؤيا قصاراها التبشير والتحذير، وفي الصحيح أن الرؤيا قد تكون حقًّا وهي المعدودة من النبوة، وقد تكون من الشيطان، وقد تكون من حديث النفس، والتمييز مُشْكِل، ومع ذلك فالغالب أن ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه ص (21).

تكون على خلاف الظاهر؛ حتى في رؤيا الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- كما قُصَّ من ذلك في القرآن، وثبت في الأحاديث الصحيحة؛ ولهذه الأمور اتفق أهل العلم على أن الرؤيا لا تصلح للحُجَّة، وإنما هي تبشير، وتنبيه، وتصلح للاستئناس بها إذا وافقت حجة شرعية صحيحة؛ كما ثبت عن ابن عباس أنه كان يقول بمتعة الحج؛ لثبوتها عنده بالكتاب والسنَّة، فرأى بعض أصحابه رؤيا توافق ذلك؛ فاستبشر ابن عباس. هذا حال الرؤيا، فَقِس عليه حال الكشف إن كان في معناها، فاما إن كان دونها، فالأمر أوضح، وتجد في كلام المتصوفة أن الكشف قد يكون حقًّا، وقد يكون من الشيطان، وقد يكون تخيلًا موافقًا لحديث النفس، وصرحوا بأنه كثيرًا ما يكشف للرجل بما يوافق رأيه حقًّا كان أو باطلًا، ولهذا تجد في المتصوفة من ينتسب إلى قول أهل الحديث، ويزعم أنه يكشف له بصحة مذهبه، وهكذا تجد فيهم الأشعري والمعتزلي والمتفلسف وغيرهم، وكلٌّ يزعم أنه يُكْشَفُ له بصحة مذهبه، ومخالفه منهم لا يُكذِّبُهُ، ولكنه يُكذِّبُ كشفه، وقد يكشف لأحدهم بما يوافق مقالات الفرقة التي ينتسب إليها، وإن لم يكن قد عرف تلك المقالاتِ من قبل؛ كأنه لحسن ظنه بهم، وحرصه على موافقتهم إنما تتجه همته إليهم؛ فيقرأ أفكارهم، وترتسم في مخيلته أحوالهم. فالكشف إذن تبع للهوى، فغايته أن يؤيد الهوى، ويرسخه في النفس، ويحول بين صاحبه وبين الاعتبار والاستبصار، فكأن الساعي في أن يحصل له الكشف إنما يسعى في أن يضله اللَّه -عز وجل-، ولا ريب أن من التمَس الهدى من غيرِ الصِّراط المستقيم مستحق أن يضله اللَّه -عز وجل-، وما يزعمه بعض غلاتهم من أن لهم علاماتٍ يميزون بها بين ما هو حق من الكشف وما هو باطل دعوى فارغة، إلا ما تقدم عن أبي سليمان الداراني، وهو أن الحق ما شهد له الكتاب والسنَّة، لكن المقصود الشهادة الصريحة التي يفهمها أهل العلم من الكتاب والسنَّة بالطريق التي كان يفهمها بها السلف الصالح.

فأما ما عُرِفَ عن المتصوفة من تحريف النصوص بما هو أشنع وأفظع من تحريف الباطنية، فهذا لا يشهد لكشفهم، بل يشهد عليه أوضح شهادة بأنه من أبطل الباطل: أولًا: لأن النصوص بدلالتها المعروفة حجة؛ فإذا شهدت ببطلان قولهم، عُلِم أنه باطل. ثانيًا: لأنهم يعترفون أن الكشف محتاج إلى شهادة الشرع؛ فإن قبلوا من الكشف تأويل الشرع؛ فالكشف شهد لنفسه، فمن يشهد له على تأويله؟ " (¬1). اهـ. * * * ¬

_ (¬1) "القائد إلى تصحيح العقائد" ص (66، 67) باختصار.

الفصل الخامس ادعاء لقيا الخضر والتلقي عنه

الفَصلُ الخَامِسُ ادِّعَاءُ لُقيَا الخَضِرِ والتَّلَقِّي عَنهُ

الفَصلُ الخَامِسُ ادِّعَاءُ لُقيَا الخَضِرِ (¬1) والتَّلَقِّي عَنهُ وهذه الدعوى مبنية على زعم الصوفية أن الْخَضِرَ -عليه السلام- حيٌّ، ويَبْدُو أن أول من افتراها مُحَمَّد بن علي بن الحسن الترمذي المُسَمَّى بالحكيم؛ حيث قال في كتابه "ختم الوَلاية" في سياق جوابه عن علامات الأولياء: "وللْخَضِرِ -عليه السلام- قصة عجيبة في شأنهم -أي الأولياء- وقد كان عَايَنَ شأنهم في البدء، ومن وقت المقادير، فأحب أن يدركهم، فأُعطِيَ الحياة حتى بلغ من شأنه أنه يُحْشَرُ مع هذه الأمة، وفي زمرتهم، حتى يكون تَبعًا لمحمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهو رجل من قرن إبراهيم الخليل، وذي القرنين، وكان على مقدمة جنده؛ حيث طلب ذو القرنين عين الحياة (¬2)، ففاتته، وأصابها الْخَضِرُ، في قصة طويلة". وهذه آياتهم وعلاماتهم، فأوضح علاماتهم ما ينطقون به من العلم من أصوله. قال له قائل: وما ذلك العلم؟ قال: علم البدء، وعلم الميثاق، وعلم المقادير، وعلم الحروف. فهذه أصول الحكمة، وهي الحكمة العليا، وإنما يظهر هذا العلم عن كُبَرَاءِ ¬

_ (¬1) الخَضِر: بفتح أوله وكسر ثانيه، أو الخِضْر: بكسر أوله وإسكان ثانيه، ثبتت بهما الرواية، وبإثبات الألف واللام فيه، وبحذفهما، وانظر: "تهذيب الأسماء واللغات" (1/ 176)، "فتح الباري" (1/ 154). ولُقِّبَ به لأنه "جلس على فروة بيضاء، فإذا هي تهتز من خلفه خضراء". انظر: "فتح الباري" (6/ 309)، والفروة: وجه الأرض، أو الحشيش الأبيض، والهشيم اليابس. (¬2) أي عين ماء الحياة؛ من شرب منها فلا يموت أبدًا في زعمهم.

الأولياء، ويقبله عنهم من له حظ من الولاية (¬1). وزعم الحكيم الترمذي أن من صفات أوليائه المزعومين أنه "تظهر على أيديهم الآيات؛ كطي الأرض، والمشي على الماء، ومحادثة الخضر -عليه السلام-"، الذي زعم -أيضًا- أن "الأرض تُطْوَى له برها وبحرها، سهلها وجبلها، يبحث عن الأولياء شوقًا إليهم" (¬2). * * * ¬

_ (¬1) "ختم الولاية" (ص 362)، نقلًا عن "الفكر الصوفي" (ص 134، 135)، وهذا الكتاب يُعَدُّ -بحق- أخطر كتب الصوفية على الإطلاق. (¬2) السابق ص (361).

خلاصة التصور الصوفي للخضر عليه السلام

خُلاصَةُ التصور الصُّوفيِ للْخَضِرِ عليه السلام 1 - أنه حي إلى أبد الدهر. 2 - أنه صاحب شريعة، وعلم باطني يختلف عن علوم الشريعة الظاهرية. 3 - أنه ولي، وليس بنبي (¬1). 4 - أن علمه "لدني"، موهوب له من اللَّه بغير وحي الأنبياء -عليهم السلام- وأن هذه العلوم تُنَزَّلُ إلى جميع الأولياء في كل وقت، قبل بعثة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وبعد بعثته، وأن هذه العلوم أكبر وأعظم من العلوم التي مع الأنبياء، بل لا تدانيها، ولا تُضَاهِيهَا علوم الأنبياء (¬2). وكما أن الْخَضِرَ -وهو ولي فقط في زعمهم- كان أعلم من موسى؛ فكذلك الأولياء من أمَّةِ محمد -صلى الله عليه وسلم- هم أعلم من محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ لأن مُحَمَّدًا -صلى اللَّه عليه وسلم- عالم بالشريعة الظاهرة فقط، والولي عالم بالحقيقة الصوفية، وعلماء الحقيقة أعلم من علماء الشريعة. ¬

_ (¬1) راجع أدلة ترجيح نبوة الخضر عليه السلام، ص (200) وما بعدها. (¬2) ويوصف صاحب هذا العلم عند الصوفية بأنه "ذو موهبة بالسر اللدني" أو أنه "ذو روح خضري" أو "خضري المقام"، وهو من كان علمه غير مستفاد من نقل أو صدر، انظر: "الطبقات الكبرى" للشعراني (1/ 175)، (2/ 56، 76، 152). وقد شاع عند الصوفية إطلاق "العلم الباطن" أو "علم الحقيقة" على العلم اللدني. واعلم أن ما زعمه بعضهم من أن أحكام العلم الباطن وعلم الحقيقة مخالفة لأحكام الظاهر وعلم الشريعة، هو زعم باطل عاطل، وخيال فاسد كاسد، كما في "روح المعاني" (15/ 330)، وفي "الإحياء" (1/ 100): "من قال: إن الحقيقة تخالف الشريعة، أو الباطن يناقض الظاهر، فهو إلى الكفر أقرب منه إلى الإيمان". ويقول فاروق السهرندي: "فكل من الطريقة والشريعة عين الآخر، لا مخالفة بينهما بقدر رأس الشعيرة، وكل ما خالف الشريعة مردود، وكل حقيقة ردتها الشريعة فهي زندقة". انظر: "روح المعاني" (16/ 18).

نقول عن الصوفية في لقيا الخضر والتلقي عنه

5 - أن الْخَضِرَ يلتقي بالأولياء، ويُعَلِّمُهُمْ من هذه الحقائق، ويأخذ لهم العهود الصوفية. 6 - أن الحقائق تَخْتَلِفُ عن الشريعة المحمدية، فلكل ولي طريقته المستقلة، وكشفه الخاص، وعلمه اللدني الذي قد يختلف مع الوحي المحمدي (¬1). يقول الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق -حفظه اللَّه تعالى-: "باختصار لقد تَحَوَّلَ الْخَضِرُ إلى قصة خُرَافِيَّةٍ كبيرة أشبهَ بقصة ما يُسَمُّونَهُ "بالسوبرمان"، الذي يطير في كل مكان، ويلتقي بالأصدقاء والخِلان في كل البلدان، ويشرع للناس ما شاء من عبادات وقربان، ويلقن الأذكار، وينشئ الطرق الصوفية، ويُعَمِّدُ الأولياء والأقطاب، ويولِّي من يشاء، ويعزل من يشاء، وما عليك إذا أردت لقاء الْخَضِرَ إلا أن تذكر مجموعة من الأذكار، فيأتيك الْخَضِرُ في الحال، ويبشرك بما تشاء من البشارات، ويجعلك وليًّا من الأولياء، ويعطيك علومًا لدنية لم يعلمها الرسل أنفسهم، ولا خَطَرَتْ لهم على بال" (¬2). نُقُولٌ عَنِ الصُّوفِيَّة فيِ لُقيَا الخَضِرِ والتَّلَقِّي عَنهُ - قال أحمد بن إدريس الشاذلي: "اجتمعْتُ بالنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- اجتماعًا صوريًّا، ومعه الْخَضِرُ -عليه السلام-، فأمر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الخَضِرَ أن يلقنني أذكار الطريقة الشاذلية، فلقنني إياها بحضرته"، ويَسْتَطْرِدُ قائلًا: "ثم قال -صلى اللَّه عليه وسلم- للخَضِرِ -عليه السلام-: يا خَضِرُ، لَقِّنْهُ ما كان جامعًا لسائر الأذكار، والصلوات، والاستغفار" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة" ص (133). (¬2) "نفس المصدر" ص (134). (¬3) "مفاتيح كنوز السماوات والأرض"، لصالح محمد الجعفري، ص (8) نقلًا عن "الفكر الصوفي" ص (139).

- وقال الشيخ أحمد بن عمر الأنصاري، أبو العباس المُرْسِيُّ (¬1): "وأما الخضر -عليه السلام- فهو حي، وقد صافحته بكفي هذه .. وعرَّفني بنفسه"، وقال بعد كلام: "فلو جاءني الآن ألف فقيه يجادلونني في ذلك، ويقولون بموت الخضر، ما رجعتُ إليهم" (¬2). - وقال شيخهم ابن عربي: "اعلم أَيَّدَكَ اللَّه -أيها الولي الحميم- أن هذا الوتد هو خضر صاحب موسى -عليه السلام-، أطال اللَّه عمره إلى الآن، وقد رأينا من رآه، واتفق لنا في شأنه أمر عجيب، وذلك أن شيخنا أبا العباس العريبي -رحمه اللَّه - تَعَالَى- جرت بيني وبينه مسألة في حق شخص كان قد بَشَّرَ بظهوره رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال لي: "هو فلان ابن فلان"، وَسَمَّى لي شخصًا أعرفه باسمه، وما رأيته، ولكن رأيت ابن عمته، فربما توقفت منه، ولم آخذ بالقبول؛ أعني قول الشيخ العريبي فيه؛ لكوني على بصيرة في أمره، ولاشك أن الشيخ رجع سهمه عليه، فتأذى في باطنه، ولم أشعر بذلك؛ فإني كنت في بادية الطريق. فانصرفت عنه إلى منزلي، فنمت في الطريق، فلقيني شخص لا أعرفه، فسلَّم عليَّ ابتداءً سلامَ مُحِبٍّ مشفق، وقال لي: "يا محمد، صدِّق الشيخَ أبا العباس فيما ذكره لك عن فلان"، وسَمَّى لنا الشخص الذي ذكره أبو العباس العريبي، فقلت: "نعم"، وعلمت ما أراد، ورجعت من حيني إلى الشيخ لأُعَرِّفه بما جرى، فعندما دخلت عليه، قال لي: "يا أبا عبد اللَّه، أحتاج معك إذا ذكرت لك مسألة يقف خاطرك عن قبولها إلى الْخَضِرِ يتعرض إليك، يقول لك: صَدِّق فلانًا فيما ذكره لك؟! ومن أين يتفق لك هذا في كل مسألة تسمعها مني، فتتوقف؟ "،- فقلت: "إن باب التوبة مفتوح"، فقال: "وقبول التوبة ¬

_ (¬1) فقيه متصوف، من أهل الإسكندرية، ومات فيها سنة (686 هـ)، أصله من مرسية في الأندلس. (¬2) "جامع كرامات الأولياء" ليوسف النبهاني (1/ 521).

واقع"، فعلمت أن ذلك الرجل كان الْخَضِرَ، ولا شَك أني استفهمت الشيخ عنه: أهو هو؟ قال: نعم، هو الْخَضِرُ" (¬1) - وزعم ابن عربي أيضًا: "أنه اجتمع بالخضر، وأنه -أي الخضر- ألبسه خرقة الصوفية، وأن ذلك تم تجاه الحجر الأسود في مكة، وأنه أخذ عليه العهد بالتسليم لمقامات الشيوخ "أهل التصريف" وأنه كان مترددًا في لبس الخرقة من الخضر حتى أعلمه الخضر أنه لبسها من يد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالمدينة المشرفة منبع الفيض الأتم" (¬2). - وذكر الشعراني في "معارج الألباب" عن بعض شيوخه، ذكر له أن الْخَضِرَ -عليه السلام- كان يحضر مجلس فقه أبي حنيفة في كل يوم بعد صلاة الصبح يتعلم منه الشريعة، فلمَّا مات -أي أبو حنيفة- سأل الْخَضِرُ ربه أن يرد روح أبي حنيفة إلى قبره؛ حيث يتم له علم الشريعة، وأن الْخَضِرَ كان يأتي إليه كل يوم على عادته يسمع منه الشريعة داخل القبر، وأقام على ذلك خمس عشرة سنة؛ حتى أكمل علم الشريعة (¬3). - وحلف الإمام عبد اللَّه بن أسعد اليافعي الشافعي اليماني على حياة الخضر، والتقائه بالناس، وقال: "وواللَّهِ لقد أخبرني غير واحد من الأولياء ¬

_ (¬1) "الفتوحات المكية" (3/ 180). (¬2) "الكتاب التذكاري، لابن عربي" ص (304). (¬3) "معارج الألباب" ص (44)، نقلًا عن "الفكر الصوفي" ص (137، 138)، وانظر: "الإنصاف" للصنعاني ص (52)، وقد أورد البرزنجي الحكاية كاملة في "الإشاعة لأشراط الساعة" ص (222 - 225)، وأبطلها من وجوه، وفيها ركاكة ولحن، ولا تروج إلا على ذوي العقول السخيفة. والعجب أن القوم يثبتون حياة الخضر وأنه أدرك النبي -صلى الله عليه وسلم- ومع ذلك لم يتعلم منه شريعته -صلى الله عليه وسلم-، ولا من صحابته الكرام -رضي الله عنهم-، كعلي وزيد وأُبي ومعاذ، ولا من عظماء التابعين كالفقهاء السبعة، وسعيد بن المسيب، وعطاء، والحسن، ومكحول، ثم يؤخر طلب العلم قرنًا ونصف قرن كي يتلقاه على يد إمام مجتهد يصيب ويخطئ، حتى خالفه صاحبه في أكثر من ثلث أقواله، ويُعرض عن المعصوم -صلى الله عليه وسلم-، ولا شك أن هذه الأكاذيب والافتراءات لا يرضاها أبو حنيفة نفسه -رحمه اللَّه تعالى-.

وقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى-

أنهم اجتمعوا به، بل واللَّهِ لقد أخبروني أنه اجتمع بي، وسألني عن شيء فأجبته، ولم أعرفه، لأنه لا يعرفه إلا صاحبُ نور" (¬1). وقال الحافظ ابن حجر -رحمه اللَّه تعالى-: قلت: وذكر لي الحافظ أبو الفضل العراقي بن الحسين شيخنا أن الشيخ عبد اللَّه بن أسعد اليافعي كان يعتقد أن الخضر حيٌّ، قال: فذكرتُ له ما نُقل عن البخاري والحربي وغيرهما من إنكار ذلك، فغضب، وقال: "من قال: إنه مات غضبت عليه"، قال: "فقلنا: رجعنا عن اعتقاد موته" (¬2). اهـ. * * * ¬

_ (¬1) "نشر المحاسن الغالية في فضل المشايخ الصوفية أصحاب المقامات العالية" ص (396). (¬2) "الإصابة" (2/ 335)، وقد قال الحافظ العراقي -رحمه الله- في "المغني عن حمل الأسفار" -بهامش "الإحياء"-: "ولم يصحَّ في حديث قطُّ اجتماع الخضِر بالنبيِ -صلى الله عليه وسلم- ولا عدم اجتماعه، ولا حياته، ولا موته" اهـ. (1/ 336)، وانظر: "إتحاف السادة المتقين" (5/ 181).

إبطال دعوى الصوفية أن الخضر حي

إِبطَالُ دَعوَى الصُّوفِيَّةِ أَنَّ الخَضِرَ حَيٌّ * قال العلَّامةُ القرآني محمد الأمين الشنقيطي -رحمه اللَّه - تَعَالَى-: "اعلم أن العلماء اختلفوا في الْخَضِرِ: هل هو حي إلى الآن، أو هو غير حي، بل ممن مات فيما مضى من الزمان؟ فذهب كثير من أهل العلم إلى أنه حي، وأنه شَرِبَ من عين تُسَمَّى عين الحياة، وممن نصر القول بحياته القرطبي في "تفسيره"، والنووي في "شرح مسلم" وغيره، وابن الصلاح، والنقَّاش، وغيرهم (¬1)، قال ابن عطية: وأطنب النَّقَّاش في هذا المعنى، يعني حياة الخَضِرِ وبقائه إلى يوم القيامة، وذكر في كتابه أشياء كثيرة عن علي بن أبي طالب وغيره، وكلها لا تقوم على ساق. انتهى بواسطة نقل القرطبي في "تفسيره" (¬2). وحكايات الصالحين عن الْخَضِرِ أكثر من أن تُحصر، ودعواهم أنه يحج هو وإلياس كل سنة، ويروون عنهما بعض الأدعية؛ كل ذلك معروف، ومستند القائلين بذلك ضعيف جدًّا؛ لأن غالبه حكاياتٌ عن بعض من يُظَنُّ به الصلاح، ومناماتٌ، وأحاديثُ مرفوعةٌ عن أنس وغيره، وكلها ضعيف لا تقوم به حجة. ومن أقواها عند القائلين به -آثار التعزية حين تُوفيِّ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقد ذكر ابن عبد البر في "تمهيده" عن علي -رضي اللَّه عنه- قال: ¬

_ (¬1) ومن القائلين بموت الخضر -عليه السلام- البخاري، وإبراهيم الحربي، وأبو الحسين بن المنادي، وأبو الفرج بن الجوزي، وابن حزم الظاهري، ومحمد بن أبي الفضل المرسي، وعلي بن موسى الرضا، وحكى القاضي أبو يعلى موته عن بعض أصحاب أحمد، وجزم بموته أيضًا أبو بكر بن العربي، وأبو يعلى بن الفراء، وأبو طاهر العبادي، وابن قيم الجوزية، وأبو الفضل بن ناصر، وأبو بكر محمد بن الحسن النقاش، وغيرهم، وانظر: "إرشاد الساري" (5/ 384)، و"المنار المنيف" ص (72). والأئمة الكبار الذين ذهبوا إلى استمرار حياته لم يتعدوا ذلك -حاشهم- إلى تبني الآراء الصوفية الضالة في الخضر، وإنما استثمر الصوفية قصة الخضر لتوكيد أو لتأسيس ضلالاتهم وغلوهم، بما ينسجم مع مشربهم وأذواقهم ومفهوم الوَلاية عندهم، كما تقدم ص (235، 236). (¬2) "الجامع لأحكام القرآن" (11/ 41).

لما تُوُفيِّ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَسُجِّيَ بثوبٍ، هَتَفَ هاتف من ناحية البيت يسمعون صوته، ولا يرون شخصه: "السلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته، السلام عليكم أهلَ البيت {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185]، إنَّ في اللَّه خَلَفًا من كل هالك، وعِوَضًا من كل تالف، وعزاءً من كل مصيبة، فباللَّه فثقوا، وإياه فارجوا؛ فإن الْمُصَابَ من حُرِمَ الثواب"، فكانوا يُرَوْنَ أنه الْخَضِرُ -عليه السلام- يعني أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. انتهى بواسطة نقل القرطبي في "تفسيره" (¬1). قال مُقَيِّدُهُ -عفا اللَّه عنه-: والاستدلال على حياة الْخَضِرِ بآثار التعزية -كهذا الأثر الذي ذكرنا آنفًا- مَرْدُودٌ من وجهين: الأوَّل: أنه لم يثبت ذلك بسند صحيح، قال ابن كثير في "تفسيره": وحكى النووي، وغيره في بقاء الْخَضِرِ إلى الآن، ثم إلى يوم القيامة قولين، ومال هو وابن الصلاح إلى بقائه، وذكروا في ذلك حكاياتٍ عن السلف وغيرهم، وجاء ذكره في بعض الأحاديث، ولا يصح شيء من ذلك، وأشهرها حديث التعزية، وإسناده ضعيف. اهـ منه. الثَّانِي: أنه على فرض أن حديث التعزية صحيح، لا يلزم من ذلك عقلًا، ولا شرعًا، ولا عرفًا، أن يكون ذلك المُعزِّي هو الْخَضِرُ؛ بل يجوز أن يكون غيرَ الْخَضِرِ من مؤمني الجن؛ لأن الجن هم الذين قال اللَّه فيهم: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف: 27]، ودعوى أن ذلك المعزي هو الْخَضِرُ تحكُّمٌ بلا دليل، وقولهم: "كانوا يُرَوْنَ أنه الْخَضِرُ"، ليس حجةً يجب الرجوع إليها؛ لاحتمال أن يُخْطِئُوا في ظنهم، ولا يدل ذلك على إجماع شرعي معصوم، ولا متمسك لهم في دعواهم أنه الْخَضِرُ كما ترى (¬2). ¬

_ (¬1) "الجامع لأحكام القرآن" (11/ 43، 44). (¬2) قال الإمام النووي في "المجموع": "وأما قصة تعزية الخضر -عليه السلام- فرواها الشافعي في (الأُم) بإسناد ضعيف، إلا أنه لم يقل: (الخضر) عليه السلام، بل: (سمعوا قائلًا يقول) ". اهـ. =

قال مُقَيِّدُهُ -عفا اللَّه عنه-: الذي يظهر لي رجحانه بالدليل في هذه المسألة أن الْخَضِرَ ليس بحي، بل تُوُفِّيَ، وذلك لعدة أدلة: الأوَّل: ظاهر عُمُومِ قَوْلِه -تعَالَى-: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء: 34]؛ فقوله "لبشر" نكرة في سياق النفي، فهي تَعُمُّ كل بشر، فيلزم من ذلك نفيُ الخلد عن كل بشبر من قبله، والْخَضِرُ بَشَرٌ من قبله؛ فلو كان شَرِبَ من عين الحياة، وصار حَيًّا خالدًا إلى يوم القيامة، لكان اللَّه قد جعل لذلك البشر الذي هو الْخَضِرُ من قبله الخلد (¬1). الثَّانِي: قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللَّهُمَّ إنْ تَهْلِكْ هَذ الْعِصَابَةُ مِنْ أَهْلِ الإسْلَامِ لَا تُعْبَدْ فِي الأرْضِ"، فقد روي مسلم في "صحيحه" بسنده إلى ابن عباس -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قال: حَدَّثَنِي عمر بن الخطَّاب -رضي اللَّه عنه-، قال: لما كان يوم بدر نظر رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- إلى المشركين، وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلًا، فاستقبل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- القبلة، ثم مَدَّ يَدَيْهِ، فجعل يهتف بِرَبّهِ: "اللَّهُمَّ أنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَني، اللَّهُمَّ إنْ تَهْلِكْ هِذِهِ الْعِصَابَةُ مِنْ أهْلِ الإسْلَامِ لَا تُعْبَدْ فِي الأَرْضِ"، فمازال يهتف بربه مادًّا يديه مستقبلَ القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكرٍ، فأخذ رداءَهُ، فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه، وقال: يا نبي اللَّه، كفاك مناشدتك ربك؛ فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل اللَّه -عز وجل-: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9]، فأمده اللَّه بالملائكة ... الحديث، ومَحَلُّ الشاهد منه قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تُعبد في الأرض" فِعْلٌ في سياق النفي، فهو بمعنى: لا تقع عبادة لك في الأرض"؛ لأن الفعل ينحل عن مصدر وزمن عند النحويين، وعن ¬

_ = من "المجموع" (5/ 305)، وبمثله قال الحافظ العراقي في "المغني" (4/ 475) بهامش "الإحياء" (¬1) انظر: "البداية والنهاية" للحافظ ابن كثير (1/ 334).

مصدر، ونسبة، وزمن، عند كثير من البلاغيين، فالمصدر كامن في مفهومه إجماعًا، فيتسلط عليه النفي، فيؤول إلى النكرة في سياق النفي، وهي من صيغ العموم؛ وإلى كون الفعل- في سياق النفي، والشرط، من صيغ العموم، أشار في "مراقي السعود" بقوله عاطفًا على ما يفيد العموم: وَنَحْوُ لَا شَرِبْتُ أَوْ إنْ شَرِبَا ... وَاتَّفَقُوا إنْ مَصْدَرٌ قَدْ جُلِبَا فإذا علمت أن معنى قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنْ تَهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ لَا تُعْبَد فِي الأرْضِ"؛ أي لا تقع عبادة لك في الأرض؛ فاعلم أن ذلك النفي يشمل بعمومه وجود الْخَضِرِ حيًّا في الأرض؛ لأنه على تقدير وجوده حيًّا في الأرض، فإن اللَّه يُعْبَدُ في الأرض، ولو على فرض هلاك تلك العصابة من أهل الإسلام؛ لأن الْخَضِرَ ما دام حيًّا، فهو يُعْبَدُ في الأرض. الثَّالِثُ: إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- بأنه على رأس مِئة سنة من الليلة التي تكلَّمَ فيها بالحديث لم يَبْقَ على وجه الأرض أحد ممن هو عليها تلك الليلة، فلو كان الْخَضِرُ حيًّا في الأرض لما تَأَخَّرَ بعد المائة المذكورة، روي مسلم بسنده إلى عبد اللَّه بن عمر -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قال: صَلَّى بنا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ذات ليلة صلاة العشاء في آخر حياته؛ فلما سَلَّمَ قام، فقال: "أرأَيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ، فَإِنَ عَلَى رأسِ مِئَةِ سَنَة مِنْهَا لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى ظَهْرِهَا أحَد"، قال ابن عمر: فَوَهَلَ (¬1) الناس في مقالة رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- تلك، فيما يتحدثون من هذه الأحاديث عن ماِئَةِ سنة، وإنما قال رسول اللَّه -صلى الئَه عليه وسلم-: "لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ الْيَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الأرْضِ أحَدٌ"، يريد بذلك أن يَنْخَرِم ذلك القرن (¬2). ¬

_ (¬1) فَوَهَلَ: الوَهَل: الفزع، وَهِلْتُ أَهِلُ وَهَلًا: إذا فجأك أمر لم تعرفه، فارتعت له، وَوهل يَهِل إلى الشيء وَهْلًا: إذا ذهب وَهْمُه إليه، "جامع الأصول" (10/ 389)، وانظر: "النهاية" (5/ 233). (¬2) وحكى الحافظ أبو القاسم السهيلي في كتابه "التعريف والإعلام" عن البخاري، وشيخه أبي بكر بن العربي: أنه أدرك حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- ولكن مات بعده، لحديث الصحيحين: =

وروي مسلم في "صحيحه" بسنده إلى ابن جُرَيْج، قال: أخبرني أبو الزُّبَيْر أنه سمع جابر بن عبد اللَّه -رَضي اللَّه عنهما- يقول: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول -قبل أن يموت بشهر-: "تسألوني عن الساعة؟ وإنما علمها عند اللَّه، وأقسم باللَّه ما على الأرض من نفس منفوسة اليومَ يأتي عليها مِئَةُ سَنَةٍ وهي حَيَّةٌ يومئذ". وروي بسنده عن أبي سعيد -رضي اللَّه عنه-، قال: لما رَجَعَ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من تَبُوك سألوه عن الساعة، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا تَأتِي مِئَةٌ، وَعَلَى الأرْضِ نَفْسٌ مَنْفُوسَةٌ الْيَوْمَ". ثم روي بسنده عن جابر بن عبد اللَّه، قال: قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ تَبْلُغُ مِائَةَ سَنَةٍ"، فقال سالم: تذاكرنا ذلك عنده، إنما هي كل نفس مخلوقة يومئذ. فهذا الحديث الصحيح الذي رواه عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ابن عمر، وجابر، وأبو سعيد، فيه تصريح النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بأنه لا تبقى نفس منفوسة حية على وجه الأرض بعد مائة سنة، فقوله: "نفس منفوسة" ونحوها من الألفاظ في روايات الحديث نَكِرَةٌ في سياق النفي، فهي تَعُمُّ كل نفس مخلوقة على الأرض، ولا شك أن ذلك العموم بمقتضى اللفظ يشمل الخَضِرَ؛ لأنه نفس منفوسة على الأرض. وروى البخاري في "صحيحه" بسنده أن عبد اللَّه بن عُمَرَ، قال: صلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- صلاة العشاء في آخر حياته، فَلَمَّا سلَّمَ قام ¬

_ = " .. إلى مئة سنة لا يبقى ممن هو على وجه الأرض اليوم أحد"، قال ابن كثير -رحمه الله-: "وفي كون البخاري -رحمه الله- يقول بهذا، وأنه إلى زمان النبي -صلى الله عليه وسلم- نظر". اهـ. من "البداية والنهاية" (1/ 336). وقد قال -صلى الله عليه وسلم- في حديث صحيح: "رحم الله موسى، لوددنا لو كان صبر حتى يقص علينا من خبرهما"، فلو كان الخضر موجودًا لما حَسُن هذا التمني، ولأحضره بين يديه، وأراه العجائب، وكان أدعى لإيمان الكفرة، لا سيما أهل الكتاب، انظر: "فتح الباري" (6/ 310).

النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: "أرَأيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هِذِه؛ فإنَّ رأسَ مِئَةٍ لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ الْيَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الأرْضِ أحَدٌ"، فَوَهَلَ الناس في مقالة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى ما يتحدثون من هذه الأحاديث عن مئة سنة، وإنَّمَا قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ الْيَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الأرْضِ"، يريد بذلك أنها تخرم ذلك القرن. الرَّابعُ: أن الْخَضِرَ لو كان حيًّا إلى زمن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لكان من أتباعه، ولنَصَرَهُ، وقاتل معه؛ لأنه مَبْعُوثٌ إلى جميع الثَّقَلَيْنِ الإنس والجن. والآياتُ الدَّالَّةُ على عموم رسالته كثيرة جدًّا؛ كقوله تَعَالَى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158]، وقوله: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1]، وقوله -تَعَالَى-: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سبأ: 28]، وُيوَضِّحُ هذا أنه -تَعَالَى- بَيَّنَ في سورة "آل عمران": أنه أخذ على جميع النبيين الميثاقَ الْمُؤكَّدَ أنهم إن جاءهم نبينا -صلى اللَّه عليه وسلم- مُصَدِّقًا لما معهم أن يؤمنوا به وينصروه، وذلك في قوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 81 - 82]. وهذه الآية الكريمة -على القول بأن المراد بالرسول فيها نبينا -صلى اللَّه عليه وسلم-، كما قاله ابن العَبَّاس وغيره- فالأمر واضح، وعلى أنها عامَّة؛ فهو -صلى اللَّه عليه وسلم- يدخل في عمومها دخولًا أوليًّا؛ فلو كان الْخَضِرُ حيًّا في زمنه لجاءه ونصره، وقاتل تحت رايته؛ ومِمَّا يوضح أنه لا يدركه نبي إلا اتبعه؛ ما رواه الإمام أحمد وابن أبي شيبة، والْبَزَّارُ من حديث جابر -رضي الله عنه-: أن عمر -رضي اللَّه عنه- أتى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه عليه، فغضب، وقال: "لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا

بَيْضَاءَ نَقِيةً، لَا تَسْألُوهُمْ عَنْ شَئءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ أوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ، وَالَّذِى نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أن مُوسَى كَانَ حَيًّا ما وَسِعَهُ إلَّا أنْ يَتَّبِعَني". اهـ. قال ابن حجر في "الفتح": "ورجاله موثوقون، إلا أن في مجالدٍ ضعفًا". وقال الحافظ ابن كثير -رحمه اللَّه- في "تاريخه" بعد أن ساق آية "آل عمران" المذكورة آنفًا، مُسْتَدِلًّا بها على أن الْخَضِرَ لو كان حَيًّا لجاء النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم -ونصره- ما نَصُّهُ: [قال ابن عَبَّاس -رَضي اللَّه عنهما-: "ما بَعَثَ اللَّه نَبِيًّا إلا أخذ عليه الميثاق؛ لئن بُعِثَ محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو حي؛ ليؤمِنَنَّ به، وليَنْصُرَنَّهُ، وأمره أن يأخذ على أمته الميثاق لئن بُعِثَ مُحَمَّدٌ وهم أحياء لَيُؤْمِنُنَّ به، وليَنْصُرُنَّهُ"- ذكره البخاري عنه. فالخضر إن كان نَبِيًّا أَوْ وَليًّا؛ فقد دخل في هذا الميثاق، فلو كان حَيًّا في زمن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لكان أشرفَ أحواله أن يكون بين يديه، يؤمن بما أنزل اللَّه عليه، وينصره إن وصل أحدٌ من الأعداء إليه؛ لأنه إن كان وليًّا، فالصِّدِّيقُ أفضلُ منه، وإن كان نبيًّا؛ فموسى أفضل منه. وقال الإمام أحْمَدُ في "مسنده": حَدَّثنَا سُرَيْجُ بن النعمان، حدَّثنا هشيم، أنبأنا مجالد، عن الشعبي، عن جابر بن عبد اللَّه -رضي اللَّه عنهما-: أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أنَّ مُوسَى كَانَ حَيًّا مَا وَسِعَة إلَّا أنْ يَتَّبِعَنِي"، وهذا الذي يُقْطَعُ به، ويُعْلَمُ من الدين علمَ الضرورة. وقد دَلَّتْ عليه هذه الآية الكريمة؛ أن الأنبياء كلهم لو فُرِض أنهم أحياء في زمن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، لكانوا كُلُّهُمْ أتباعًا له، وتحتَ أوامره، وفي عموم شرعه، كما أنه -صلواتُ اللَّه وسلامُه عليه- لما اجتمع بهم ليلةَ الإسراء، رُفِعَ فوقهم كُلِّهِمْ، ولَمَّا هبطوا معه إلى بيت المقدس، وحانتِ الصلاةُ أمَرَهُ جبريلُ عن أمر اللَّه أن يَؤُمَّهُمْ؛ فَصَلَّى بهم في مَحَلِّ وِلايتهم، ودار إقامتهم، فَدَلَّ على أنه الإمَامُ الأعْظَمُ، والرسولُ الخاتَم الْمُبَجَّلُ الْمُقَدَّمُ -

صلوات اللَّه وسلامه عليه وعليهم أجمعين-. فإذا عُلِمَ هذا -وهو معلوم عند كل مؤمن- عُلِمَ أنه لو كان الْخَضِرُ حيًّا؛ لكان من جملة أُمَّةِ محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، وممن يَقْتَدِي بشرعه، لا يسعه إلا ذلك، هذا عيسى ابن مريم -عليه السلام- إذا نزل في آخر الزمان، يحكم بهذه الشريعة المُطهَّرَةِ، لا يخرجُ منها، ولا يَحِيدُ عنها، وهو أحد أولي العزم الخمسة المرسلين، وخاتَم أنبياء بني إسرائيل، ومعلومٌ أن الْخَضِرَ لم يُنقل -بسند صحيحٍ، ولا حسنٍ تسكنُ النفسُ إليه- أنه اجتمع برسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في يومٍ واحد، ولم يَشْهَدْ معه قتالًا، في مشهدٍ من المشاهد، وهذا يومُ بدر، يقول الصادق المصدوق فيما دعا به لربه -عز وجل- واستنصره، واستفتحه على من كفره: "اللَّهُمَّ إنْ تَهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ لَا تُعْبَدْ بَعْدَها فيِ الأرْضِ" (¬1)، وتلك العصابةُ كان تحتها سادةُ المسلمين يومئذٍ، وسادةُ الملائكة، حتى جبريلُ -عليه السلام- كما قال حسَّانُ بن ثابت -رضي اللَّه عنه- في قصيدة له، في بيت يُقَال: إنَّه أفخرُ بيتٍ قالته العرب: وَبِبئْرِ بِدْرٍ إذْ يَرُدُّ وُجُوهَهُمْ ... جِبْرِيلُ تَحْتَ لِوَائِنَا وَمُحَمَّدُ فلو كان الْخَضِرُ حيًّا لكان وقوفُه تحت هذه الراية أشرفَ مقاماته، وأعظمَ غزواته. قال القاضي أبو يعلى محمد بن الْحُسَين بن الفرَّاء الحنبلي: سُئِل بعض أصحابنا عن الْخَضِر هل مات؟ فقال: نعم، قال: وبلغني مثلُ هذا عن أبي طاهرٍ ابن الغُبارِي، قال: وكان يَحْتَجُّ بأنه لو كان حيًّا، لجاء إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- نقله ابن الجوزي في "العُجالة"، فإن قيل: فهلَّا يُقال: إنه كان حاضرًا في هذه المواطن كلِّها، ولكن لم يكن أحدٌ يراه (¬2)؟ ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1763)، والترمذي (3081)، والإمام أحمد (2/ 30، 32). (¬2) دعوى أنه محجوب عن أعين الناس؛ كالملائكة، والجن لا دليل عليها، وهي خلاف الأصل؛ لأن الأصل في بني آدم أن يرى بعضُهم بعضًا.

فالجواب: أن الأصلَ عدمُ هذا الاحتمالِ البعيد، الذي يَلْزَمُ منه تخصيصُ العموماتِ بمجردِ التوهماتِ، ثم ما الحاملُ له على هذا الاختفاء؟ وظهورُه أعظمُ لأجره، وأعلى في مرتبته، وأظهرُ لمعجزته، ثم لو كان بَاقِيًا بعدَه، لكان تبليغُه عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الأحاديثَ النبوية، والآياتِ القرآنيةَ، وإنكارُه لما وقع من الأحاديثِ المكذوبة، والرواياتِ المقلوبة، والآراءِ البدعية، والأهواءِ العصبية، وقتالُه مع المسلمين في غزواتهم، وشهودُه جُمَعَهِم وجماعاتِهم، ونفعُه إياهم، ودفعه الضررَ عنهم مِمَّن سواهم، وتسديدُه العلماءَ والحُكَّامَ، وتقريره الأدلةَ والأحكام- أفضلَ مما يُقَالُ من كُنونه (¬1) في الأمصار، وَجَوْبِهِ الفَيافِيَ والأقطار، واجتماعِه بعُبَّادِ لا يُعْرَفُ أحوالُ كثيرٍ منهم، وجعله لهم كالنقيب المُتَرْجِمِ عنهم. وهذا الذي ذَكَرْناه لا يتوقف أحد فيه بعد التفهم، واللَّه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم]. انتهى من "البداية والنهاية" (¬2)، لابن كثير -رحمه اللَّه- تَعَالَى. فتحصَّلَ أن الأحاديث المرفوعة التي تدل على وجود الْخَضِرِ حيًّا باقيًا لم يثبت منها شيء، وأنه قد دلت الأدلة المذكورة على وفاته، كما قدمنا إيضاحه" (¬3). اهـ. وقال القاضي أبو يعلى -رحمه اللَّه-: "وما أبْعَدَ فَهْمَ من يُثْبِتُ وجود الْخَضِرِ -عليه السلام- وينسى ما في طيِّ إثباته من الإعراض عن هذه الشريعة ... ". ثم قال بعد أن ذكر وُجُوهًا من الأدلة العقلية على عدم حياة الْخَضِرِ: ¬

_ (¬1) كَنَّ الشيءُ كُنونًا: استتر. (¬2) "البداية والنهاية" (2/ 265 - 268)، طبعة دار هجر (1417 هـ - 1997 م). (¬3) "أضوء البيان" (4/ 163 - 171) بتصرف.

"الْخَامِسُ: أن القول بحياة الْخَضَرِ قول على اللَّه -تَعَالَى- بغير علم، وهو حرام بنص القرآن. أمَّا المْقُدِّمَةُ الثَّانِيَةُ: فظاهرة، والأولى؛ فلأن حياته لو كانت ثابتة لدلَّ عليها القرآن أو السنة، أوإجماع الأمة؛ فهذا كتاب اللَّه، فأين فيه حياة الْخَضِرِ؟ وهذه سنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأين فيها ما يَدُلُّ على ذلك بوجه؟ وهؤلاء علماء الأمة، فمتى أجمعوا على حياته؟ السَّادِسُ: أن غاية ما يُتَمَسَّكُ به في حياته حكايات منقولة، يخبر الرجل بها أنه رأى الْخَضِرَ فَيَا لَلْعجب! هل لِلْخَضِرِ علامَة يعرفه بها من رآه؟ وكثير من زاعمي رؤيته يَغْتَرُّ بقوله: أنا الْخَضِرُ، ومعلوم أنه لا يجوز تصديق قائل ذلك بلا برهان من اللَّه -تَعَالَى- فمِنْ أين للرائي أن المُخْبِرَ له صادق لا يكذب؟ السَّابعُ: أن الْخَضِرَ فَارَقَ موسى بن عمران كليم الرحمن، ولم يصاحبه، وقال: {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف: 78]، فكيف يرضي لنفسه بمفارقة مثل موسى -عليه السلام-، ثم يجتمع بِجَهَلَةِ العُبَّادِ الخارجين عن الشريعة، الذين لا يحضرون جُمُعَةً، ولا جماعة، ولا مجلسَ علم؟ وكلٌّ منهم يقول: قال لي الْخَضِرُ، جاءني الْخَضِرُ، أوصاني الْخَضِرُ، فيا عَجَبًا له يُفَارِقُ الكليمَ، ويدور على صُحْبَةِ جاهل، لا يصحبه إلا شيطان رجيم، سبحانك هذا بهتان عظيم! الثَّامِنُ: أن الأمَّة مُجْمِعَةٌ على أن الذي يقول: "أنا الْخَضِرُ" لو قال: سمعت رسول اللَّه يقول كذا وكذا، لم يُلْتَفَتْ إلى قوله، ولم يُحْتَجَّ به في الدين، ولا مخلص للقائل بحياته عن ذلك إلا أن يقول: إنه لم يَأتِ إلى الرسول -عليه الصلاة والسلام-، ولا بايعه، أو يقول: إنه لم يُرْسَلْ إليه، وفي هذا من الكفر ما فيه. التَّاسع: أنَّهُ لو كان حيًّا لكان جهاده الكفَّارَ، ورباطه في سبيل اللَّه -تعالى-، ومقامه في الصف ساعة، وحضوره الْجُمُعَةَ والجماعة، وإرشاد جَهَلَةِ الأمة،

وقال ابن الجوزي في "عجالة المنتظر في شرح حال الخضر"

أفضل بكثير من سياحته بين الوحوش في القفار والفلوات، إلى غير ذلك" (¬1). وقال ابن الجوزي في "عجالة المنتظر في شرح حال الخضر": "إن من قال: (إنه موجود قائمًا)، قال ذلك لهواجس ووسواس" (¬2). اهـ. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه اللَّه - تَعَالَى-: "والصواب الذي عليه المحققون أنه ميت، وأنه لم يدرك الإسلام، ولو كان موجودًا في زمن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، لوجب عليه أن يُؤْمِنَ به، ويُجَاهِدَ معه؛ كما أوجب اللَّه ذلك عليه، وعلى غيره، ولكان يكون في مكة والمدينة، ولكان يكون حضوره مع الصحابة للجهاد معهم، وإعانتهم على الدين- أولى به من حضوره عند قوم كُفَّارٍ؛ ليُرَقِّعَ لهم سفينتهم، ولم يكن مختفيًا عن خير أمة أُخْرِجَتْ للناس، وهو قد كان بين يدي المشركين، ولم يحتجب عنهم، ثم ليس للمسلمين به وأمثاله حاجة لا في دينهم، ولا في دنياهم؛ فإن دينهم أخذوه عن الرسول النبي الأمي -صلى اللَّه عليه وسلم- الذي عَلَّمَهُمْ الكتاب والحكمة ... وإذا كان الْخَضِرُ حيًّا دائمًا، فكيف لم يذكر النبيُّ ذلك قط؟ ولا أخبر به أمته؟ ولا خلفاؤه الراشدون؟ وقول القائل: "إنه نقيب الأولياء"، فيقالُ له: مَن وَلَّاهُ النِّقابة؟ وأفضل الأولياء أصحاب محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، وليس فيهم الْخَضِرُ، وعامَّةُ ما يُحْكَى في هذا الباب من الحكايات بعضها كَذِبٌ، وبعضها مبني على ظن رجل؛ مثل شخص رأى رجلًا ظن أنه الْخَضِرُ (¬3)، وقال: إنه الْخَضِرُ، كما أن الرافضة تَرَى شَخْصًا تَظُنُّ أنه الإمام ¬

_ (¬1) نقله عنه الألوسي في "روح المعاني" (15/ 320، 321). (¬2) حكاه عنه في "كشف الظنون" (2/ 1125). (¬3) وعادة ما ينتهي كثير من هذه الحكايات بما يؤكد أنه مجرد ظن وتخمين، كقول بعضهم: "فالتفت لأكلمه، فلم أره، فوقع في نفسي أنه الخضر". اهـ. من "فتح الباري" (6/ 311)، وفي بعضها: "فقلت: ما أشبه أن يكون هذا الخضر، أو بعض الأبدال". اهـ. من "الإصابة" (2/ 132، 133)، وفي بعضها: "ثم غاب الشيخ، فعلمنا أنه الخضر". اهـ. "من مناقب الإمام أحمد" لابن الجوزي ص (144، 145).

وقال الإمام أبو الحسن بن المنادي -رحمه الله -

الْمُنْتَظَر الْمَعْصُومُ، أو تدعي ذلك، ورُوِيَ عن الإمام أحمد بن حنبل أنه قال -وقد ذُكِرَ له الْخَضِرُ-: "من أحالك على غائبٍ فما أنصفك، وما ألقى هذا على ألسنة الناس إلا الشيطان" (¬1). وقال الإمام أبو الحسن بن المنادي -رحمه اللَّه (¬2) -: "بحثت عن تعمير الخَضِرِ، وهل هو بَاقٍ، أم لا؛ فإذا أكثرُ الْمُغفَّلِينَ مفترون بأنه بَاقٍ من أجل ما رُوِىَ في ذلك، قال: "والأحاديث المرفوعة في ذلك واهية، والسند إلى أهل الكتاب ساقط؛ لعدم ثقتهم، وخبر مسلمة بن مصقلة كالخرافة، وخبر رياح كالريح، قال: وما عدا ذلك كله من الأخبار كلها واهية الصدور والأعجاز، لا يخلو حالها من أحد أمرين: إما أن تكون أُدْخِلَتْ على الثقات استغفالًا، أو يكون بعضهم تَعَمَّدَ. وقد قال اللَّه -تَعَالَى-: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء: 34] " اهـ. وممن قال بموت الخَضِرِ إبراهيم الحربي؛ حيث قال حين سُئِلَ عن بقاء الخَضِرِ إلى الآن: "من أحال على غائب لم ينتصف منه، وما ألقى هذا بين الناس إلا الشيطان" (¬3). وقال الإمام أبو الخَطَّابِ بن دحية -رحمه اللَّه-: "وجميع ما ورد في حياته لا يصح منها شيء باتفاق أهل النقل، وإنما يذكر ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (27/ 100 - 102)، وانظره: (4/ 337)، وقد جاء في موضع آخر (4/ 338 - 340) ما يفيد القول بحياته، حتى استغرب جامع الفتاوى الفتوى التي تؤيد كونه حيًّا، فقال: "هكذا وجدت هذه الرسالة". اهـ. فالراجح -والله أعلم- أنه انتهى إلى القول بموته لأنه أيده بأدلة قوية، بجانب أنه ينسجم مع منهجه العلمي المعروف عنه في مثل هذا، وقد قال -رحمه الله- في "منهاج السنة النبوية": "والصواب الذي عليه محققو العلماء أن إلياس والخضر ماتا". اهـ. (1/ 97). (¬2) "الزهر النضر في نبأ الخضر"، ضمن "الرسائل المنيرية" (2/ 206، 207). (¬3) نقله عنه ابن الجوزي في "الموضوعات" (1/ 199)، والألوسي في "روح المعاني" (15/ 320).

وقال الإمام المحقق ابن قيم الجوزية -رحمه الله تعالى-

ذلك من يروي الخبر، ولا يذكر علته؛ إما لكونه لا يعرفها، وإما لوضوحها عند أهل الحديث". ثم قال: "وأما ما جاء عن المشايخ فهو مما يُتعجب منه؛ كيف يجوز لعاقل أن يَلْقَى شخصًا لا يعرفه، فيقول له: أنا فلان، فيصدقه؟ ". ثم قال: "وأما حديث التعزية الذي ذكره أبو عُمَرَ، فهو موضوع رواه عبد الله بن مُحَرَّرِ عن يزيد بن الأصم، عن علي -رضي اللَّه عنه-، وابن مُحَرَّرٍ متروك، وهو الذي قال ابن المبارك في حقه كما أخرجه مسلم في "مقدمة صحيحه": (لما رأيته كانت بَعْرَةٌ أحبَّ إليَّ منه)، ففضل رؤية النجاسة على رؤيته" (¬1). قال الحافظ: "وكان الإمام أبو الفتح الْقُشَيْرِىُّ يذكر عن شيخ له أنه رأى الخَضِرَ وحَدَّثَهُ، فَقِيلَ له: "من أعلمه أنه الخَضِرُ؟ أم كيف عرف ذلك؟ فسكت" (¬2). وقال الإمام المحقق ابن قيم الجوزية -رحمه اللَّه تعالى-: "والأحاديث التي يُذكَر فيها الخضر وحياتُه كلُّها كذبٌ، ولا يصح في حياته حديث واحد". اهـ (¬3). وساق الإمام الحافظ ابن كثير -رحمه الله- الحكايات والروايات التي اسْتَدَلَّ بها القائلون بحياة الخَضِرِ، ثم قال: "وهذه الروايات والحكايات هي عمدة من ذهب إلى حياته إلى اليوم، وكلٌّ من الأحاديث المرفوعة ضعيفة جدًّا، لا يقوم بمثلها حجة في الدين، والحكاياتُ لا يخلو أكثرها عن ضعفٍ في الإسناد، وقُصَارَاهَا أنها صحيحة إلى من ليس بمعصوم؛ من صحابي، أو غيره؛ ¬

_ (¬1) "الزهر النضر" (2/ 203 - منيرية)، والخبر في "مقدمة صحيح مسلم" (1/ 27)، وانظر: "الإصابة" (2/ 119). (¬2) "نفسه" (2/ 234)، وانظر: "البحر المحيط" لأبي حيان (6/ 147). (¬3) "المنار المنيف" ص (67).

لأنه يجوز عليه الخطأ، واللَّه أعلم" .. إلى أن قال: "وقد تصدى الشيخ أبو الفرج ابن الجوزي -رحمه الله (¬1) - في كتابه "عُجَالَةُ المنتظر في شرح حالِ الخَضِرِ"، للأحاديث الواردة في ذلك من المرفوعات، فَبَيَّنَ أنها موضوعات، ومن الآثار عن الصحابة، والتابعين ومَن بعدهم، فَبَيَّنَ ضَعْفَ أسانيدها ببيان أحوالها، وجَهَالَةِ رجالِها، وقد أجاد في ذلك، وأحسن الانتقاد" (¬2). وقال الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني -رحمه اللَّه-: "والذي تَمِيلُ إليه النفس من حيث الأدلة القوية خلاف ما يعتقده العوامُّ من استمرار حياته، لكن ربما عرضت شبهة من جهة كثرة الناقلين للأخبار الدالة على استمراره؛ فَيُقَالُ: هب أن أسانيدها واهية؛ إذ كل طريق منها لا يسلم من سبب يقتضي تضعيفها، فماذا يُصْنَعُ في المجموع؛ فإنه على هذه الصورة قد يلتحق بالتواتر المعنوي الذي مَثَّلُوا له بجود حاتم (¬3)، فمن هنا مع احتمال التأويل في أدلة القائلين بعدم بقائه؛ كآية {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} [الأنبياء: 34]، وكحديث: "رَأْس مِئَةِ سَنَة" وغير ذلك مما تقدم بيانه. وأقوى الأدلة على عدم بقائه عدم مجيئه إلى رسول الله -صلى اللَّه عليه ¬

_ (¬1) انظر: "الموضوعات" لابن الجوزي (1/ 193 - 199)، و"الإصابة" (2/ 286 - 335). (¬2) "البداية والنهاية" (2/ 263 - 265). (¬3) أجاب الحافظ نفسُه على هذا الإيراد بقوله: "ولا يقال: يُستفاد من هذه الأخبار التواتر المعنوي؛ لأن التواتر لا يُشترط ثقةُ رجاله ولا عدالتهم، وإنما العمدة على ورود الخبر بعددٍ يستحيل في العادة تواطؤهم على الكذب، فإن اتفقت ألفاظه فذاك، وإن اختلفت فمهما اجتمعث فيه فهو التواتر المعنوي، وهذه الحكاية تجتمع في أن الخضر حي، لكن يطرق حكايةَ القطع بحياته قولُ بعضهم: إنَّ لكل زمانٍ خَضِرًا، وإنه نقيبُ الأولياء، وكلما مات نقيبٌ أقيم نقيبٌ بعدَه مكانه، ويُسمى الخضر. وهذا قول تداولته جماعة من الصوفية من غير نكير بينهم، ولا يقطع مع هذا بأن الذي ينقل عنه أنه الخضر هو صاحبُ موسى؛ بل هو خضِر ذلك الزمان، ويؤيده اختلافهم في صفته، فمنهم من يراه شيخًا أو كهلًا أو شابًّا؛ وهو محمول على تغاير المرئي وزمانه، والله أعلم". اهـ. من "الإصابة (2/ 294)، وانظر ص (255).

وقال الألوسي -رحمه الله تعالى- في موضع آخر

وسلم-، وانفراده بالتعمير من بين أهل الأعصار المتقدمة بغير دليل شرعي، والذي لا يُتوقَّفُ فيه: الجزمُ بنبوته" (¬1). ورَجَّحَ المفسِّر الشهير الألوسي -رحمه اللَّه- القول بحياة الخضر -عليه السلام-، والعجيب أنه -مع ذلك- قال: "ثم اعلم بعد كل حساب أن الأخبار الصحيحة النبوية والمقدمات الراجحة العقلية تساعد القائلين بوفاته -عليه السلام- أيَّ مساعدة، وتعاضدهم على دعواهم أي معاضدة، ولا مقتضى للعدول عن ظواهر تلك الأخبار إلا مراعاة ظواهر الحكايات المروية -واللَّه- تَعَالَى -أعلمُ بصحتها- عن بعض الصالحين الأخيار، وحسن الظن ببعض السادة الصوفية، فإنهم قالوا بوجوده إلى آخر الزمان على وجه لا يقبل التأويل السابق" (¬2). وقال الألوسي -رحمه اللَّه تعالى- في موضع آخر: "إن غاية ما يُتمسك به في حياته، حكايات منقولة، يخبر الرجل بها أنه رأى الخضر ... ، وكثير من زاعمي رؤيته يغتر بقوله: (أنا الخضر)!!، ومعلوم أنه لا يجوز تصديق قائل ذلك بلا برهان من اللَّه تعالى، فمن أين للرائي أن المخبِر له صادق لا يكذب؟! " (¬3). اهـ. وقال العلامَةُ الشيخ بكر أبو زيد -حفظه اللَّه-: "إذا اتَّضَحَ ذلك فاعلم أن القول بوَلاية الخَضِرِ، والقول بأنه ما زال حيًّا، قد جَرَّ هذان القولان من البلايا والمحن، والدعاوى الكاذبة، والتلبيس على العامَّة، بل وعلى الخاصَّة، ما لا يُصَدِّقُهُ عقل، ولا يقبله دين: مِن دعوى فضل الوَلاية والأولياء على النبوة والأنبياء (¬4)، وان فلانًا لقي الخَضِرَ -عليه السلام- واستلهمه كذا وكذا، ¬

_ (¬1) "الزهر النضر"، ضمن "الرسائل المنيرية" (2/ 234). (¬2) "روح المعاني" (15/ 328). (¬3) "نفس المصدر" (15/ 321). (¬4) قال الحافظ -رحمه الله- في "الإصابة" (2/ 288): =

والسؤال الآن: إذا صدق الذين زعموا لقيا الخضر، والخضر ميت على الراجح، فما الجواب عن حكاياتهم؟

والقول بوَلايته وحياته أبد الدهر هما مُعْتَمَدُ الصوفية في جعل الشريعة لها ظاهر وباطن، وأن علماء الباطن يُنْكِرُونَ على علماء الظاهر ولا عكس، وبه قالوا بحجية الإلهام، وأن الولي أفضل وأعلم من النبي، والدعوى الواسعة للقاء الخَضِرِ، والأخذ عنه، فمنهم من لقي الخَضِرَ يصلي على المذهب الحنفي، وآخرون رأوه يصلي على المذهب الشافعي" (¬1). اهـ. وَالسُّؤَالُ الآنَ: إذا صَدَقَ الذين زعموا لقيا الخَضِرِ، والخَضِرُ ميت على الراجح، فما الجواب عن حكاياتهم؟ قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه اللَّه تعالى-: "وعامة ما يُحكى في هذا الباب من الحكايات، بعضها كذب، وبعضها مبنيٌّ على ظَنِّ رجلٍ، مثل شخص رأى رجلًا ظن أنه الخضر، وقال: إنه الخضر! كما أن الرافضة ترى شخصًا تظن أنه الإمام المنتظر المعصوم، أو تدعي ذلك" (¬2). اهـ. وقال أيضًا شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه اللَّه-: "إن الذين رأوا من قال: (إني أنا الخضر) هم كثيرون صادقون، والحكايات متواترات (¬3)؛ لكن أخطئوا في ظنهم أنه الخضر، وإنما كان جنيًّا" (¬4). ¬

_ = (وكان بعض أكابر العلماء يقول: "أول عقد يحل من الزندقة اعتقاد كون الخضر نبيًّا؛ لأن الزنادقة يتذرعون بكونه غير نبي إلى أن الوليَّ أفضلُ من النبي، كما قال قائلهم: مقام النبوة في برزخ ... فُوَيْقَ الرسولِ ودونَ الولي). اهـ (¬1) "التحذير من مختصرات الصابوني في التفسير" ص (65). (¬2) "مجموع الفتاوى" (27/ 101، 102). (¬3) لكن هذه الحكايات لا تستوفي شروط الخبر المتواتر، إذ لا يتحقق التواتر إلا بأن توجد الكثرة العددية في جميع طبقات السند، الأمر الذي يقدح في وصفها بالتواتر، وهذا الشرط نفسه مما نبطل به دعاوى النصارى في زعمهم تواتر صلب المسيح عليه السلام. (¬4) "مجموع الفتاوى" (13/ 93).

وقال أيضًا -رحمه الله-: "كُلُّ من ادعى أنه رأى الخَضِرَ، أو رأى من رأى الخَضِرَ، أو سمع شَخْصًا رأى الخَضِرَ، أو ظن الرائي أنه الخَضِرُ: فكل ذلك لا يجوز إلا على الجهلة الْمُخَرِّفِينَ الذين لا حظَّ لهم من علم، ولا عقل، ولا دين، بل هم من الذين لا يفقهون، ولا يعقلون" (¬1). وقال -رحمه اللَّه-: "ومنهم من لا يَظُنُّ أولئك الأشخاص إلا آدميين أو ملائكة؛ فإن كانوا غير معروفين، قال: هؤلاء رجال الغيب، وإن تَسَمَّوْا فقالوا: هذا هو الخَضِرُ، وهذا هو إلياس، وهذا هو أبو بكر وعمر، وهذا هو الشيخ عبد القادر، أو الشيخ عَدِىٌّ، أو الشيخ أحمد الرفاعي، أو غير ذلك، ظن أن الأمر كذلك. فهنا لم يغلط، لكن غلط عقله؛ حيث لم يعرف أن هذه شياطين تمثلت على صور هؤلاء، وكثير من هؤلاء يظن أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- نفسه، أو غيره من الأنبياء أو الصالحين يأتيه في اليقظة ... والذي له عقل وعلم يعلم أن هذا ليس هو النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ تارة لِمَا يَرَاهُ منهم من مخالفة الشرع؛ مثل أن يأمروه بما يخالف أمر اللَّه ورسوله، وتارة يعلم أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ما كان يأتي أحدًا من أصحابه بعد موته في اليقظة، ولا كان يخاطبهم من قبره، فكيف يكون هذا لي؟ " (¬2). وقال -أيضًا - رحمه اللَّه-: "فمن هؤلاء من يسمع خطابًا، أو يرى من يأمره بقضية، ويكون ذلك الخطاب من الشيطان، ويكون ذلك الذي يخاطبه الشيطان، وهو يحسب أنه من أولياء اللَّه، من رجال الغيب، ورجال الغيب هم الجن، وهو يحسب أنه إنسي، وقد يقول له: أنا الخَضِرُ، أو إلياس، بل أنا محمد، أو إبراهيم الخليل، أو المسيح، أو أبو بكر، أو عمر، أو أنا الشيخ ¬

_ (¬1) "نفسه" (27/ 458). (¬2) "نفسه" (13/ 77، 78).

فلان ... ويكون ذلك شيطانًا لَبَّس عليه، فهؤلاء يتبعون ظَنًّا لا يُغْنِي من الحق شيئًا، ولو لم يتقدموا بين يدي اللَّه ورسوله، بل اعتصموا بالكتاب والسنة، لتبين لهم أن هذا من الشيطان، وكثير من هؤلاء يتبع ذوقه ووَجْدَه، وما يجده محبوبًا إليه، بغير علم، ولا هدًى، ولا بصيرة، فيكون مُتَّبِعًا لهواه بلا ظن، وخيارهم من يتبع الظن وما تهوى الأنفس" (¬1). اهـ. * * * ¬

_ (¬1) "نفسه" (13/ 71، 72).

فصل في إبطال احتجاج الصوفية بقصة موسى والخضر على أن الولي يخرج عن شريعة النبي - صلى الله عليه وسلم -

فَصلٌ في إبطَالِ احتِجَاجِ الصُّوفِيَّةِ بِقِصَّةِ مُوسَى وَالخَضِرِ عَلَى أنَّ الوَليَّ يَخرُجُ عَن شَرِيعَةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله - تعالى-: "وأما احتجاجهم بقصة موسى والخَضِرِ فيحتجون بها على وجهين: أحَدهُمَا: أن يقولوا: إن الخَضِرَ كان مُشَاهِدًا الإرادة الربانية الشاملة، والمشيئة الإلهية العامَّة، وهي الحقيقة الكونية، فلذلك سَقَطَ عنه الملام فيما خالف فيه الأمر والنهي الشرعي، وهو من عظيم الجهل والضلال، بل من أعظم النِّفَاقِ والكفر، فإن مضمون هذا الكلام أن من آمن بالقدر، وشَهِدَ أن الله رب كل شيء، لم يكن عليه أمر ولا نهي، وهذا كُفْرٌ بجميع كتب اللَّه، ورُسْلِهِ، وما جاءوا به منِ الأمر والنهي ... وهؤلاء هم القدرية الشِّرْكِيَّةُ، الذين يحتجون بالقدر على دفع الأمر والنهي، هم من شر القدرية الذين هُمْ مَجُوسُ هذه الأمة، الذين رُوِيَ فيهم: "إن مرضوا: فلا تعودوهم، وإن ماتوا: فلا تشهدوهم" (¬1)؛ لأن هؤلاء يقرون بالأمر والنهي، والثواب والعقاب، لكن أنكروا عموم الإرادة والقدرة والخلق، وربما أنكروا سابق العلم. وأما القدرية الشِّرْكِيَّةُ فإنهم يُنْكِرُونَ الأمر والنهي، والثواب والعقاب، لكن -وإن لم ينكروا عموم الإرادة والقدرة، والخلق- فإنهم ينكرون الأمر والنهي، والوعد والوعيد، ويَكفُرونَ بجميع الرسل والكتب؛ فإن الله إنما أرسل الرسل مُبَشِّرِينَ مَنْ أطاعهم بالثواب، ومنذرين من عصاهم بالعقاب. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (4691)، والحاكم (1/ 85)، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" (4/ 150).

وأيضًا فإن موسى -عليه السلام- كان مؤمنًا بالقدر، عالمًا به، بل أتباعه من بني إسرائيل كانوا -أيضًا- مؤمنين بالقدر؛ فهل يَظُنُّ من له أدنى عقل أن موسى طلب أن يتعلم من الخَضِرِ الإيمان بالقدر، وأن ذلك يدفع المَلَامَ، مع أن موسى أعلم بالقدر من الخَضِرِ؟ بل عموم أصحاب موسى يعلمون ذلك. وأيضًا، فلو كان هذا هو السر في قصة الخَضِرِ لَبُيِّنَ ذلك لموسى، وقال: "إني كنت شاهدًا للإرادة والقدر"، وليس الأمر كذلك، بل بَيَّنَ له أسبابًا شرعية تُبِيحُ له ما فعل. وَأَمّا الوَجْهُ الثَّانِي: فإن مِن هؤلاء مَن يظن أن من الأولياء من يسوغ له الخروج عن الشريعة النبوية، كما سَاغَ لِلْخَضِرِ الخروج عن متابعة موسى، وأنه قد يكون للولي في المكاشفة والمخاطبة ما يستغني به عن متابعة الرسول في عموم أحواله أو بعضها، وكثيرٌ منهم يُفَضِّلُ الولي -في زعمه: إما مُطْلقًا، وإما من بعض الوجوه- على النبي، زاعمين أن في قصة الخَضِرِ حُجَّةً لهم، وكل هذه مقالات من أعظم الجهالات والضلالات، بل من أعظم أنواع النفاق، والإلحاد، والكفر؛ فإنه قد عُلِم بالاضطرار من دين الإسلام أن رسالة محمد بن عبد اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لجميع الناس عربهم وعجمهم، وملوكهم وزُهَّادهِمْ، وعلمائهم وعامتهم، وأنها باقية دائمة إلى يوم القيامة، بل عامَّة الثقلين الجن والإنس، وأنه ليس لأحد من الخلائق الخروجُ من متابعته وطاعته، وملازمة ما يشرعه لأمته من الدين، وما سَنَّهُ لهم من فعل المأمورات، وترك المحظورات، بل لو كان الأنبياء المتقدمون قبله أحياءً لوجب عليهم متابعته وطاعته ... ومما يُبَيِّنُ الغلط الذي وقع لهم في الاحتجاج بقصة موسى والخَضِرِ على مخالفة الشريعة: أن موسى -عليه السلام- لم يكن مبعوثًا إلى الخضِر، ولا أوجب اللَّه على الخَضِرِ متابعته وطاعته، بل قد ثَبَتَ في "الصحيح" أن الخَضِرَ، قال له: "يَا مُوسَى إِنِّي عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنيهِ اللَّهُ لا تَعْلَمُهُ،

وَأَنْتَ عَلَى عِلْمِ مِنْ عِلْمِ اللهِ عَلَّمَكَهُ اللَّهُ لَا أَعْلَمُهُ"، وذلك أن دعوة موسى كانت خاصة، وقد ثبت في الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال فيما فَضَّلَهُ الله به على الأنبياء قال: "كَان النَّبِيُّ يُبْعَثُ إلى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً" (¬1). فدعوة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- شاملة لجميع العباد، وليس لأحد الخروجُ عن متابعته وطاعته، ولا استغناءٌ عن رسالته، كما ساغ للخَضِرِ الخروجُ عن متابعة موسى وطاعته، مستغنيًا عنه بما علَّمَهُ اللَّه، وليس لأحد ممن أدركه الإسلام أن يقول لمحمد: "إني على علمِ من علم اللَّه عَلَمَنيهِ لا تعلمه"، ومن سَوَّغَ هذا، أو اعتقد أن أحدًا من الخلق الزُّهَّادِ، والعُبَّادِ، أو غيرهم، له الخروج عن دعوة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، ومتابعته؛ فهو كَافِرٌ باتفاق المسلمين ... وقصة الخَضِرِ ليس فيها خروج عن الشريعة؛ ولهذا لما بَيَّنَ الخَضِرُ لموسى الأسباب التي فعل لأجلها ما فعل؛ وافقه موسى، ولم يختلفا حينئذ (¬2) ولو كان ما فعله الخَضِرُ مخالفًا لشريعة موسى لما وافقه" (¬3). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في موضع آخر رَادًّا على المُتَصَوِّفَة، الذين يحتجون بقصة الخَضِرِ مع موسى على أن الأولياء يسوغ لهم الخروج عن الشريعة، كما خرج الخَضِرُ عن شَرِيعَةِ موسى، وفعل أمورًا محرمة في شريعة موسى؛ قال -رحمه اللَّه-: "ومثل احتجاج بعضهم بقصة الخَضِرِ وموسى -عليه السلام- على أن من الأولياء من يستغني عن محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- كما استغنى الخَضِرُ، ومثل قول بعضهم: إن خاتَم الأولياء له طريق إلى اللَّه يَسْتَغْنِي به عن خاتم الأنبياء، وأمثال هذه الأمور التي كَثُرَتْ في كثير من المنتسبين إلى الزُّهْدِ، والفقر، والتصوف، والكلام، والتفلسف، وكُفْرُ هؤلاء ¬

_ (¬1) "صحيح البخاري" مع الفتح (1/ 436). (¬2) انظر: "الفكر الصوفي" ص (130، 132). (¬3) "مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" (11/ 420 - 426) باختصار.

وقال الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق -حفظه الله تعالى-

قد يكون من جنس كُفْرِ اليهود والنصارى، وقد يكون أعظم، وقد يكون أخفَّ، بحسب أحوالهم" (¬1). وقال الإمام ابن القَيِّمِ مُسْتَنْكِرًا احتجاج المتصوفة بِقِصَّةِ الخَضِرِ مع موسى على جواز خروج الأولياء عن الشريعة الإسلامية: "فمن ادَّعَى أنه مع مُحَمَّد -صلى اللَّه عليه وسلم- كالخَضِرِ مع موسى، أو جَوَّز ذلك لأحد من الأمة؛ فليجدد إسلامه، وليتشهد شهادة الحق؛ فإنه بذلك مُفَارِقٌ لدين الإسلام بالكلية؛ فضلًا عن أن يكون من خاصة أولياء اللَّه، وإنما هو من أولياء الشيطان، وخلفائه، ونُوَّابِهِ، وهذا الموضع مُقَطَّعٌ، ومُفَرَّقٌ، بين زنادقة القوم، وبين أهل الاستقامة منهم، فَحَرِّكْ تَرَهُ" (¬2). وقال الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق -حفظه اللَّه تعالى-: "إن وجود الخَضِرِ- عليه السلام- على دين وشريعة غير شريعة موسى كان أمرا سائغًا، وسنة من سنن اللَّه قبل بعثة محمد- صلى اللَّه عليه وسلم-؛ لأن النبي كان يُبْعَثُ إلى قومه خَاصَّة؛ ولذلك كان موسى رَسُولًا، إلى بني إسرائيل فقط، ولم يكن رَسُولًا، للعالمين، ولذلك لما سَلَّم موسى -عليه السلام- على الخَضِرِ، قال الخَضِرُ: وأَنَّى بأرضك السلام؟ قال له موسى: أنا موسى، قال الخَضِرُ: موسى بني إسرائيل؟! قال: نعم ... أي أنت مبعوث إلى بني إسرائيل، ومنهم. ولذلك لم تكن شريعة موسى لازمة للخضر، ولجميع الناس في زمانه، وأما بعد بعثة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، فإنه لا يجوز شرعًا أن يكون هُنَاكَ من هو خَارجٌ عن شريعته؛ لأن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- رسول العالمين، لا يَسَعُ الخَضِرَ ولا غيره أن يتخلف عن الإيمان به واتباعه؛ ولذلك لا وجود بتاتًا ¬

_ (¬1) "نفس المرجع" (24/ 339). (¬2) "مدارج السالكين" (2/ 476).

للخَضِرِ، أو أمثاله، بعد بعثة الرسول محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-" (¬1). ولو طاوعتِ الأُمةُ الصوفيةَ، واتبعت مزاعمهم في هذا الباب؛ احتِجَاجًا باستغلالهم السيئ لقصة موسى والخَضِرِ -عليهما السلام-، لبطل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولَفُتِحَتِ الذريعة للزنادقة لاستحلال المحرمات، وإسقاط التكاليف؛ كما تذرعت إلى ذلك الباطنية بمفهومهم للباطن والظاهر. إن قصة موسى والخَضِرِ حق من عند اللَّه، أما استغلال الصوفية لها، فإنما يريدون به الباطل؛ وذلك لوجوه تسعة (¬2): الوَجْه الأوَّل: أن موسى -عليه السلام- كان يعلم منزلة الخَضِرِ في العلم، وبأنه أكثر عِلْمًا منه، وهذا كافٍ لأخذ ما عند الخضر بلا إنكار ولا اعتراض، ومع ذلك فقد أنكر موسى عليه، بينما لم يُخْبِرِ اللَّه العباد عن حقيقة صِدْقِ مشايخ وأولياء الصوفية، أو كذبهم، ولا أنزل فيهم ذِكْرًا يجعل الناس واثقين من أن ما يَرَوْنَهُ منهم من الأعمال المنكرة، قد يكون له تأويلات مشابهة لأعمال الخَضرِ. فإنه حين سُئِلَ موسى -عليه السلام-: أي الناس أعلم؟ قال: "أنا"، فَعَتَب اللَّه عليه؛ إذ لم يَرُدَّ العلم إليه، فقال له: "بَلَى، لِي عَبْدٌ بِمَجْمَعِ البَحْرَيْنِ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ"، قَالَ: "أَيْ رَبِّ مَنْ لي بِهِ؟ " قَالَ: "تَأخُذُ حُوتًا فَتَجْعَلُهُ في مِكْتَلٍ، حَيْثُمَا فَقَدْتَ الحُوتَ فَهُوَ ثَمَّ" (¬3)، أي يكون في المكان الذي أضعت عنده الحوت. إذن، فموسى على علم بمنزلته في العلم، وبمكانه الذي يَلْقَاهُ عنده، بل وهو ¬

_ (¬1) "الفكر الصوفي" ص (132). (¬2) منقولة بتصرف من "أبو حامد الغزالي والتصوف"، للشيخ عبد الرحمن دمشقية، ص (290 - 296). (¬3) انظر:"فتح الباري" (6/ 431، 432).

مأمور بملاقاته كما يُسْتَفَادُ ذلك من الحديث؛ قال الطبري: "وكان موسى قد حَدَّثَ نفسه أنه ليس أحد أعلم منه أو تَكَلَّمَ به، فمِن ثَمَّ أُمِرَ أن يأتي الخَضِرَ". الوَجْه الثَّانِي: أن ما فعله الخَضِرُ -عليه السلام- كان مأمورًا به، ولم يفعله من عنده؛ لقوله تعالى: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف: 82]، وقد ذهب المفسرون إلى أن الأمر ههنا هو الوحي -وفي مقدمتهم الرازي-؛ بحجة استحالة قتل غلام ونحوه، من غير حصول وحي قاطع يأمر بذلك، فهل مشايخ الصوفية مأمورون من اللَّه بفعل المنكرات المخالفة لأوامره ونواهيه، ودينه الذي أتمه وارتضاه لعباده؟ وهل يحصل لهم الوحي في ذلك كما حصل للخَضِرِ -عليه السلام-؟ إن قالوا بحصول الوحي: فإنهم حينئذٍ دَجَاجِلَة، لا فرق بينهم وبين مسيلمة الكذَّاب. وإن نَفَوْا أن يكونوا قد فعلوا هذه المنكرات بمقتضى وحي ما،، فإنه حينئذ يُقَالُ لهم: ما تفعلونه مخالف لما أوحاه الله على نبيه -صلى الله عليه وسلم-؛ فلا وجه يَصِحُّ في استدلالكم بقصة الخَضِرِ، وبأفعاله التي كانت وَحْيًا، ولم يفعلها عن أمره؟! الوَجْه الثَّالِث: أنهم باستدلالهم بقصة موسى والخَضِرِ ينتقصون من مكانة وقدر موسى -عليه الصلاة والسلام-؛ فإنهم يُنَزِّلُونَهُ منزلة العوامِّ الذين يرون ظواهر الأعمال، ولا يتفطنون إلى معرفة حقائقها. وهم -أي مشايخ الصوفية- يَدَّعُونَ أنهم يعرفون ذلك، ويُقَدِّمُونَ بذلك دَرَجَةَ العارف "الصوفي" على رتبة النبي (¬1) جاعلين موسى في مصافِّ العوامِّ الذين لم ينالوا درجة الصوفي العارف. ¬

_ (¬1) كما قال ابن عربي في "الفصوص" (1/ 62، 134).

الوَجْه الرَّابع: أنه لا يجوز الخروج على شريعة النبي محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، إلى شريعة أخرى، وهذه القصة حدثت في بني إسرائيل لم نُؤْمَرْ بالتعبد بفعلها، قال -تعالى-: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 134]. فقد أمر اللَّه -تعالى- مريم وزكريا أن يُمْسِكَا عن الكلام ثلاثة أيام بقوله: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} [مريم: 26]. وقوله لزكريا -عليه السلام-: {قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} [مريم: 10]؛ فهل يجوز أن يتخذ أحد من أمة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- من هذا الصيام عبادة له؛ فيصوم عن الكلام؛ مُسْتَدِلًّا بورود ذلك في القرآن؟ ومعلوم أن الخَضِرَ وموسى- بل وسائر الأنبياء -عليهم أفضل الصلوات وأتم التسليم- لو كانوا أحياء لما وَسِعَهُمْ إلا أن يتبعوا شريعة النبي محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ لأن النبي كان يُرْسَلُ إلى قومه خاصَّةً، ونبينا -صلى اللَّه عليه وسلم- أُرْسِلَ إلى الناسِ عامَّة -إِنْسِهِمْ وجِنِّهِمْ- وحين يَنْزِلُ المسيح آخر الزمان؛ فإنه يحكم بين الناس بشريعة القرآن، لا يحكم بإنجيل ولا توراة. والمسيح -عليه السلام- هو من الرسل الخمسة أولي العزم، وهو خاتَم أنبياءِ بني إسرائيل، ومع هذا فإنه يَتَّبعُ ما أنزل إلى نبينا -صلى اللَّه عليه وسلم-، ويحكم بين الناس فيه. الوَجْه الخَامِس: أن موسى والخَضِر -عليهما السلام- لم يخرجا عن الشريعة والنصوص في شيء، وإنما كان موقف موسى مع الخَضِرِ كموقف المُجْتَهِدِ المتمسك بعموم الدليل مع صاحب النص الخاصِّ المتمسك بالدليل الخاصِّ، وكلاهما على الدليل يعتمد، ومن الشريعة يستقي؛ لأن هذا مأمور، وذاك مأمور.

الوَجْه السَّادِس: أنَّ الخَضِرَ -أولًا- لم ينكر على موسى إنكاره عليه مطلقًا، بل أنكر عليه إقدامَهُ على الإنكار قبل أن يسأله عن مأخذه الشرعي، مع أنه حَذَّرَهُ أنه لن يستطيع معه الصبرَ على ما لم يُحِطْ به خُبْرًا. وثَانِيًا: أنه اشترط عليه ألَّا يسأله عن شيء حتى يُحْدِثَ له منه ذِكْرًا، ولكن كان من شأن موسى -عليه السلام- وطبعه أن يسارع في الحق؛ كما قص اللَّه -تعالى- علينا من خبر إقدامه على قتل القبطي، وأخذه بلحية أخيه هارون ورأسه، وإلقائه الألواح، وقد بادر ههنا إلى قوله: {إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي} [الكهف: 76]. ولهذا قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى مُوسَى، لَوْ لَبِثَ مَعَ صَاحِبِهِ لَأَبْصَرَ الْعَجَبَ" (¬1). فأين هذا من أوامر الصوفية الصريحة بعدم الاعتراض على الشيخ مهما ارتكب من المحرمات الظاهرة، فإن مُجَرَّدَ الاعتراض أو الاستدراك على الشيخ مُوجِبٌ عندهم للمقت، والطرد من رحمة اللَّه، وسلب المال، والسقوط في امتحان الشيخ؛ كما يُلَفِّقون. الوَجْه السَّابع: أن إنكار موسى يُستدل منه على أن الفطر السليمة -الخالصة من شوائب العبودية، والتقديس لغير الحق الذي أنزله الله- لا بد وأن تُنْكِرَ المُنْكَرَ، وكل الناس مأمورون بذلك؛ عَمَلًا بقوله -تعالى-: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]، ولم يُسْتَثْنَ من هذه الآية شَيْخٌ، ولا ولي، بل ولا صحابي أو تابعي، وقد كان الصحابة يُنْكِرُ الواحد منهم على الآخر إن خالف في شيء ما، فإذا كان ذلك يقع بين الصحابة -وهم أفضل أولياء اللَّه على الإطلاق- فما بالك بأولياء ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" (15/ 186)، و"فتح الباري" (8/ 424).

الصوفية إن كانوا أولياء لله حقًّا؟! ثم إن الله أمرنا أن نُنكِرَ المُنْكَرَ، في حين أنه لم يُؤتِنَا عِلْمَ الغيب الذي يمكن معه معرفة حقيقة مراد الشيخ الصوفي بالمنكر الذي يزعم أنه يبدو منكرًا في ظاهره. فترك المُنْكَرِ بحجة ما حصل بين موسى والخَضِرِ لا حجة فيه، بل الحجة كل الحجة في الإنكار على من خالف شرع الله في شيء ما؛ لأن الوعيد الوارد في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كثير من الآيات والأحاديث، وقد لُعِنَ بنو إسرائيل بسبب تركهم هذا الأصلَ العظيمَ من أصول الدين، والذي به يُحْفَظُ الدين من فساد المفسدين، وضلال المُضِلِّينَ، وبِدَع المُبْتَدِعِينَ، الذين يأخذون ما تشابه من قصة موسى والخَضِرِ -عليهما السلام-، ويتركون المُحْكَمَ من الآيات والأحاديث الدالَّة على حِلِّ الطيبات، وتحريم الخبائث. وعلامة ضلالهم أنهم لا يَحُثُّونَ الناس على العمل بهذا الأصل، ولا يُذَكِّرُونَهُمْ بقوله -تعالى-: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110]. وإنما يُحَذِّرُونَهُم من الإنكار؛ مُسْتَدِلِّينَ بقصة موسى والخَضِر التي لا تشهد إلا ضدهم، وبالحديث القدسي: "مَنْ عَادَى لي وَليًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بالحَربِ"، ولكن الحديث لم يَعْنِهِمْ بذلك؛ لأن أولياء الله ليسوا مُخَرِّفَةً ولا مُبْتَدِعَةً، فلا يرقصون عند السماع، ولا يجعلون دعاءهم للَّه مُكَاءً وتصديةً، ولا ينشرون الوثنية والدَّجلَ بين العوامِّ. الوَجْه الثَّامِن: أن فَهْمَ المتصوفة للقصة فَهم شاذٌّ، وتأسيهم بها شَاذٌّ -أيضًا-؛ فالصحابة، والتابعون، وتابعو التابعين، لم يفهموا منها هذا الفَهْمَ، ولم يبنوا عليها منهجًا يُرتِّب على أساسها العلاقةَ بين المريد والشيخ، ولا يُعْقَلُ أن يكون المتصوفة قد انفتح عليهم من فَهْمِ هذه الآية، وأُخْفِيَ على أولئك الأفاضل الذين لم يُقَلِّدْ أحد منهم- ولا أفاضل الأئمة -فيما بينهم- ما حَدَثَ بين

موسى والخَضِرِ، حتى جاء الصوفية، وتذرعوا بتلك القصة؛ تلبيسًا منهم على عوامِّ الخلق. الوَجْه التَّاسِع: إذا كان الخَضِرُ -عليه السلام- قال لموسى -عليه السلام-: "يَامُوسى، إِنِّي عَلَى عِلْمٍ مِن علمِ اللهِ عَلَّمَنيهِ اللَّهُ لَا تَعْلَمُهُ"، وإذا كان هذا خروجًا من الخَضِرِ عن شريعة موسى في هذا الباب، فإن ذلك لا يجوز قوله في شريعة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، التي قال اللَّه فيها: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]، فما خَرَجَ الخَضِرُ عن شريعة موسى في هذا الباب إلا لشرع آخر من الله أمره به، أما شريعة سيدنا محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، فإنها باقية إلى قيام الساعة، ولا يُسْتَبْدَلُ أويُسْتَغْنَى عنها بشيء آخر البتة، ولا يجوز أن يقول قائل: أنا على علم من اللَّه لم يُؤْتَهُ مُحَمَّدٌ -صلى الله عليه وسلم-؛ إذْ ما نُزِّلَ عليه -صلى الله عليه وسلم- هو المصدر الوحيد الذي يجب أن يكون مشكاة للمسلمين كُلِّهِمْ، لا يُسْتَثْنَى منهم أحد في الخروج عنه، وقد قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]. فذلك تأكيد من اللَّه على عدم حصول وحي منه على أحد غير النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهو في الوقت نَفْسِهِ يفيد تحريم أخذ شيء من الأمور التعبدية عن غير هذا الطريق. * * * وهذا آخر ما تيسر جمعه في هذا الباب، وصلى اللَّه على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله ربِّ العالمين.

فهرس المراجع

فهرس المراجع (أ) 1 - الآثار الإسلامية في مصر من الفتح العربي حتى نهاية العصر الأيوبي - مصطفى عبد الله شيحة. 2 - ابن الفارض والحب الإلهي - د. محمد مصطفى حلمي - ط. ثانية - 1971 م - دار المعارف - القاهرة. 3 - أبو حامد الغزالي والتصوف - دار طيبة - الرياض - ط. أولى - 1406 هـ. عبد الرحمن دمشقية. 4 - أبو الحسن الشاذلي - د. عبد الحليم محمود - دار الإسلام - القاهرة، والمكتبة العصرية - بيروت - 1387 هـ - 1967 م. 5 - إتحاف السادة المتقين بشرح أسرار إحياء علوم الدين - محمد بن محمد الحسني الزبيدي - دار الفكر - بيروت. 6 - الأجوبة الفاخرة عن الأسئلة الفاجرة - أحمد بن إدريس القرافي - تحقيق د. بكر زكي عوض - ط. ثانية - 1407هـ - 1987 م - مكتبة وهبة - عابدين - القاهرة. 7 - أحاديث العقيدة التي يوهم ظاهرها التعارض في الصحيحين - د. سليمان بن محمد الدبيخي - (1426 هـ) مكتبة دار المنهاج - الرياض - السعودية. 8 - الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان - الحافظ أبو حاتم محمد بن حبان البستي - بترتيب الأمير علاء الدين علي بن بلبان الفارسي - تحقيق شعيب الأرناؤوط - (1407 هـ - 1987 م) - مؤسسة الرسالة - بيروت - لبنان. 9 - أحكام الجنائز وبدعها - محمد ناصر الدين الألباني - المكتبة الإسلامية - بيروت. 10 - الإحكام في أصول الأحكام - مطبعة العاصمة - القاهرة - ط. الثانية - أبو محمد علي بن حزم الأندلسي.

11 - الأحلام بين العلم والعقيدة - د. علي الوردي - ط. ثانية - (1994 م) - فى دار كوفان - لندن. 12 - الأحلام - تحليل مئة حالة نفسية - سمير عبده - (1986 م) - مطبعة العجلوني - سورية. 13 - إحياء علوم الدين - طبعة دار الشعب - القاهرة - أبو حامد الغزالي. 14 - الاختيارات الفقهية من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية - علاء الدين أبو الحسن علي بن فتيان البعلي المشهور بابن اللحام - مطبعة كردستان العلمية - 1329 هـ. 15 - الأدب المفرد - محمد بن إسماعيل البخاري، ط. المطبعة السلفية - القاهرة - 1375هـ - تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي. 16 - إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول - مصطفى البابي الحلبي - القاهرة - ط. أولى - 1356هـ - محمد بن علي الشوكاني. 17 - الإصابة في تمييز الصحابة - دار نهضة مصر - الفجالة - القاهرة - أحمد بن علي بن حجر العسقلاني. 18 - الإشاعة لأشراط الساعة - مكتبة المشهد الحسيني - القاهرة- محمد بن رسول الحسيني البرزنجي. 19 - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن - مطبعة المدني - القاهرة - محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي. 20 - الاعتصام - دار عمر بن الخطاب - الإسكندربة - أبو إسحاق الشاطبي. 21 - أغرب وأظرف الرؤى والأحلام - د. محمد عبد الرحمن غنيم - 2003 م - دار الإيمان - الإسكندرية. 22 - أفعال الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، ودلالتها على الأحكام الشرعية - مكتبة المنار الإسلامية - الكويت - الطبعة الأولى 1389 هـ - د. محمد سليمان الأشقر.

(ب)

23 - الإلهام ودلالته على الأحكام - د. عبد الفتاح الدخميسي - مؤسسة قرطبة - ط. أولى 1426هـ - 2005 م. 24 - الانحرافات العقدية والعلمية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين - علي بن بخيت الزهراني - دار طيبة - مكة المكرمة، دار آل عمار - الشارقة - ط. ثانية - 1418 هـ - 1998 م. 25 - الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل - عبد الكريم الجيلي - ط. الحلبي - مصر - ط. الرابعة. 26 - الإنصاف في حقيقة الأولياء وما لهم من الكرامات والألطاف - أشرف على طباعته حسن بن علي العواجي - ط. أولى - 1417 هـ - 1996 م - محمد بن إسماعيل الصنعاني. (ب) 27 - باب النوم وباب الأحلام - د. علي كمال -1989 م - دار الجيل - بيروت. 28 - البحر المحيط - بدر الدين الزركشي - ط. وزارة الأوقاف - الكويت. 29 - بدائع الفوائد - مكتبة القاهرة - مصر - ط. ثانية 1392 هـ - 1972 م- ابن قيم الجوزية. 30 - البدع والنهي عنها - محمد بن وضاح القرطبي - فى دار الصفا - القاهرة، وطبعة مكتبة ابن تيمية - القاهرة - 1416هـ. 31 - البداية والنهاية - نشر مكتبة المعارف - بيروت - الطبعة الثانية 1979 م - ابن كثير القرشي. 32 - بغية المستفيد - بشرح منية المريد - محمد العربي السائح التجاني - ط. أولى - 1380 هـ - 1959 م - مصطفى البابي الحلبي - مصر. 33 - بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية - أحمد بن تيمية - تعليق محمد بن القاسم - مطبعة الحكمة - مكة المكرمة - 1392 هـ. 34 - تاريخ بغداد "أو مدينة السلام" - دار الكتب العلمية - بيروت - الخطيب البغدادي.

35 - تاج العروس من جواهر القاموس - محمد مرتضى الزَّبيدي - دار مكتبة الحياة - بيروت. 36 - تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري - دار الكتاب العربي - 1399 هـ - 1977 م - أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عساكر الدمشقي. 37 - التجانية - دار طيبة - الرياض - علي بن محمد الدخيل الله. 38 - التحذير من مختصرات الصابوني في التفسير - دار الراية - الرياض - الطبعة الأولى 1409 هـ - بكر بن عبد الله أبو زيد. 39 - التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة - مكتبة الكليات الأزهرية - 1400هـ، وطبعة دار الفكر - بيروت - أبو عبد الله القرطبي. 40 - الترغيب والترهيب من الحديث الشريف - عبد العظيم بن عبد القوي المنذري - المكتبة التجارية الكبرى - القاهرة - ط. أولى - 1380 هـ. 41 - تشنيف المسامع مع شرح جمع الجوامع - الزركشي - دار الكتب العلمية - بيروت. 42 - تصحيح الدعاء - بكر بن عبد الله أبو زيد - ط. أولى - 1419 هـ - 1999 م. 43 - التعريفات - لأبي الحسن الجرجاني - المطبعة الرسمية - تونس - 1974 م. 44 - تعريف الأحياء بفضائل، الإحياء - ملحق بإحياء علوم الدين - طبعة دار الشعب - عبد القادر العيدروس. 45 - التفسير الكبير (مفاتيح الغيب) - مكتبة الإيمان - المنصورة - ط. الأولى - 1412 هـ - 1991 م - فخر الدين الرازي. 46 - التقريب والتيسير (مع شرحه: تدريب الراوي) - مطبعة السعادة بمصر - أبو زكريا يحيى بن شرف النووي. 47 - تقويم الأدلة - أبو زيد الدبوسي - تحقيق خليل الميس - دار الكتب العلمية - بيروت.

48 - تلبيس إبليس - مكتبة المدني - جُدَّة - 1403 هـ - أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي. 49 - تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير - مكتبة الكليات الأزهرية - 1399 هـ - 1979 م - شهاب الدين أحمد بن علي بن حجر الشافعي. 50 - تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي (مصرع التصوف) - مطبعة السنة المحمدية - القاهرة - ط. أولى 1372 هـ - 1953 م - برهان الدين البقاعي - تحقيق عبد الرحمن الوكيل. 51 - التنكيل لما ورد في تأنيب الكوثري من الأباطيل - عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني - تحقيق الألباني ومحمد عبد الرزاق حمزة - دار الكتب السلفية - القاهرة. 52 - تهذيب الأسماء واللغات - أبو زكريا بن شرف النووي - إدارة الطباعة المنيرية - دار الكتب العلمية - بيروت. 53 - تيسير التحرير شرح أمير باد شاه على كتاب التحرير لابن الهمام الحنفي - طبعة الحلبي. 54 - تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد - المكتب الإسلامي - بيروت - الطبعة السادسة - 1405هـ - 1985م - سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب. 55 - ثبوت النبوات عقلًا ونقلًا والمعجزات والكرامات - أحمد بن تيمية - تحقيق محمد يسري سلامة - دار ابن الجوزي - القاهرة - 1427 هـ - 2006 م. 56 - جامع الأسرار شرح المنار - محمد بن محمد الكاكي - تحقيق فضل الرحمن الأفغاني - ط. نزار الباز. 57 - جامع الأصول في أحاديث الرسول - صلى اللًّه عليه وسلم - دار الفكر - بيروت - ط. ثانية 1403 هـ - 1983 م - تحقيق عبد القادر الأرناؤط - ابن الأثير الجزري.

(ح)

58 - جامع البيان عن تأويل آي القرآن - طبعة الحلبي - محمد بن جرير الطبري. 59 - جامع كرامات الأولياء - شركة مصطفى البابي الحلبي - ط. الثانية 1394 هـ - يوسف النبهاني الشاذلي. 60 - الجامع لأحكام القرآن - دار الكاتب العربي - القاهرة - 1386 هـ - أبو عبد الله القرطبي. 61 - الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية خلال سبعة قرون - إشراف الشيخ بكر أبو زيد - دار عالم الفوائد - مكة المكرمة - ط. ثانية 1422 هـ. 62 - جمع الجوامع - تاج الدين السبكي - طبعة الحلبي. 63 - الجواب الباهر في زوار المقابر - ط. المطبعة السلفية - مصر - تحقيق سليمان الصنيع وعبد الرحمن المعلمي - شيخ الإسلام ابن تيمية. 64 - الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح - دار العاصمة - الرياض - ط. ثانية - 1419هـ - شيخ الإسلام ابن تيمية. 65 - جولة في رياض العلماء وأحداث الحياة - مكتبة الفلاح - ط. ثانية - 1407 هـ - 1987م - د. عمر سليمان الأشقر. 66 - جواهر المعاني وبلوغ الأماني في فيض سيدي أبي العباس التجاني - على حرازم بن العربي الفاسي - 1380 هـ - 1961 م - مصطفى البابي الحلبي - مصر. 67 - الجيش الكفيل بأخذ الثأر ممن سلَّ على الشيخ التجاني سيف الإنكار - محمد بن محمد الصغير الشنقيطي - بهامش بغية المستفيد - الفحامين - مصر. (ح) 68 - الحاوي للفتاوى - مطبعة الشيخ منير - 1353 هـ - جلال الدين السيوطي. 69 - حقوق النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الإجلال والإخلال - كتاب المنتدى الإسلامي - ط. أولى 1422 هـ - 2001 م - مجموعة مؤلفين. 70 - حقوق النبي - صلى الله عليه وسلم - على أمته - دار الفتح - الشارقة - ط. أولى 1418هـ - د. محمد خليفة التميمي.

(خ)

71 - حلية الأولياء وطبقات الأصفياء - مطبعة السعادة - مصر - 1394 هـ - 1974م - أبو نعيم الأصبهاني. (خ) 72 - خصائص المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بين الغلو والجفاء - د. الصادق ابن محمد إبراهيم - مكتبة دار المنهاج - الرياض - ط. أولى 1426 هـ. 73 - الخصومة في مهدية السودان - بروفيسور محمد إبراهيم أبو سليم - مركز أبي سليم للدراسات - ط. أولى - الخرطوم - 1425 هـ - 2004 م. 74 - الخضر بين الواقع والتهويل - محمد خير رمضان يوسف - دار القلم - دمشق، الدار الشامية - بيروت - ط. ثالثة 1420 هـ - 1999 م. 75 - درء تعارض العقل والنقل - جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية - الطبعة الأولى 1399 هـ - 1979م - شيخ الإسلام أحمد بن تيمية - تحقيق د. محمد رشاد سالم. 76 - الدرة الخريدة شرح الياقوتة الفريدة - محمد فتحا بن عبد الواحد السوسي النطيفي - ط. مطبعة السعادة - مصر - 1398 هـ - 1978 م. 77 - الدرر السنية في شروط وأحكام أوراد الطريقة التجانية - محمد سعد الرباطي التجاني - ط. أولى - 1375 هـ - 1955 م - مطبعة حجازي - القاهرة. 78 - الدر المنثور في التفسير بالمأثور - جلال الدين السيوطي - ط. أولى 1424 هـ - 2003 م - مركز هجر - المهندسين - القاهرة. 79 - الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة - مطبعة المدني - القاهرة - تحقيق محمد سيد جاد الحق - شهاب الدين أحمد بن حجر العسقلاني. 80 - دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب - ملحق بآخر "أضواء البيان" - مطبعة المدني - القاهرة - 1386 هـ - 1967 م - محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي. 81 - ديوان ابن الفارض - عمر بن الفارض - ط. مكتبة القاهرة - 1399 هـ.

(ر)

82 - ديوان البوصيري - شرف الدين البوصيري - ط. مصطفى البابي الحلبي - مصر. (ر) 83 - الرؤى والأحلام في السنة النبوية - عبد الله محمد أمين العمري - (1425هـ - 2005 م) - دار النفائس - عمَّان. 84 - رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام - محمد شومان الرملي - (1423 هـ - 2003 م) - دار النفائس - عمَّان - الأردن. 85 - الرسالة القشيرية - مطبعة حسان - شارع الجيش - القاهرة - أبو القاسم عبد الكريم القشيري - تحقيق د. عبد الحليم محمود، ومحمود بن الشريف. 86 - الرفاعية - ط. أولى - 1410 هـ - عبد الرحمن دمشقية. 87 - رماح حزب الرحيم على نحور حزب الرجيم - عمر بن سعيد الفوتي - بهامش "جواهر المعاني" - 1380هـ - 1961م - مصطفى البابي الحلبي - مصر. 88 - روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني - دار الفكر - بيروت - 1398هـ - 1978م - شهاب الدين محمود الألوسي. (ز) 89 - زاد المسلم فيما اتفق عليه البخاري ومسلم - طبعة عيسى البابي الحلبي - القاهرة - وطبعة دار الفكر - بيروت - 1401 هـ - محمد حبيب الله الشنقيطي. 90 - زغل الدعاة - دار الأندلس الخضراء - جدة - الطبعة الأولى 1416 هـ - 1995 م - سعيد بن ناصر الغامدي. 91 - الزهر النضر في نبأ الخضر (ضمن مجموعة الرسائل المنيرية) - المطبعة المنيرية - 1970 م - شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني. (س) - سلسلة الأحاديث الصحيحة، وشيء من فقهها وفوائدها - المكتب الإسلامي - دمشق - محمد ناصر الدين الألباني.

(ش)

93 - سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيء في الأمة. - المكتب الإسلامي - دمشق - محمد ناصر الدين الألباني. 94 - سنن ابن ماجه - الإمام محمد بن يزيد القزويني - ط. ثانية - دار الفكر - بيروت. 95 - سنن الترمذي - المكتبة الإسلامية - تحقيق أحمد محمد شاكر - أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي. 96 - سورة يوسف، دراسة تحليلية - د. أحمد نوفل. 97 - سير أعلام النبلاء - مؤسسة الرسالة - بيروت - تحقيق شعيب الأرناؤوط - الإمام شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي. 98 - السيرة النبوية - عبد الملك بن هشام - ط. أولى 1355 هـ - مصطفى البابي. 99 - سيف الله على من كذب على أولياء الله - صنع الله الحلبي الحنفي - دار الوطن للنشر - الرياض - ط. أولى 1420 هـ - 1999 م. (ش) 100 - شبهات أهل الفتنة وأجوبة أهل السنة - عبد الرحمن دمشقية - دار الجابري - لبنان. 101 - شبهات التصوف - د. عمر بن عبد العزيز قريشي - 1412 هـ - 1992 م. 102 - شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - دار طيبة - الرياض - السعودية - 1402هـ - أبو القاسم هبة الله بن الحسن اللالكائي - تحقيق د. أحمد سعد حمدان. 103 - شرح الزرقاني على الموطأ - محمد بن عبد الباقي الزرقاني - ط. دار المعرفة - بيروت - لبنان - 1398 هـ. 104 - شرح السنة - أبو محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي - ط. المكتب الإسلامي - ط. أولى - بتحقيق زهير الشاويش، وشعيب الأرناؤوط. 105 - شرح العقيدة الأصفهانية - أحمد بن تيمية - دار الكتب الحديثة - مصر.

(ص)

106 - شرح المواهب اللدنية - المطبعة الأزهرية المصرية - الطبعة الأولى 1325 هـ - محمد بن عبد الباقي الزرقاني. 107 - شرح النووي على صحيح مسلم - المطبعة المصرية - القاهرة - الإمام يحيى ابن شرف النووي. 108 - شرح الكوكب المنير - ابن النجار الفتوحي الحنبلي - تحقيق د. محمد الزحيلي، د. نزيه حماد - مطبوعات جامعة الملك عبد العزيز. 109 - شعب الإيمان - أبو بكر البيهقي - دار الكتب العلمية - بيروت - ط. أولى - 1410 هـ - 1990 م. 110 - الشمائل المحمدية - الترمذي - ط. أولى - حمص - 1388 هـ. (ص) 111 - الصحاح (تاج اللغة وصحاح العربية) - دار العلم للملايين - بيروت - ط. ثالثة 1404 هـ - 1984 م - إسماعيل بن حماد الجوهري - تحقيق أحمد عبد الغفور عطا. 112 - صحيح الجامع الصغير وزيادته - المكتب الإسلامي - دمشق - محمد ناصر الدين الألباني. 113 - صحيح سنن ابن ماجه - المكتب الإسلامي - بيروت - ط. الأولى 1407 هـ - 1986 م - محمد ناصر الدين الألباني. 114 - صحيح سنن أبي داود - محمد ناصر الدين الألباني - نشر مكتب التربية العربي لدول الخليج - الرياض - ط. أولى 1409 هـ - 1989 م. 115 - صحيح سنن الترمذي - المكتب الإسلامي - بيروت - ط. أولى 1408 هـ - 1988 م - محمد ناصر الدين الألباني. 116 - صحيح مسلم - أبو الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري - ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي - دار إحياء الكتب العربية - الحلبي.

(ط)

117 - صراع بين الحق والباطل - مكتبة النهضة المصرية - ط. ثانية 1388 هـ - 1968 م - سعد صادق محمد. 118 - صيد الخاطر - أبو الفرج بن الجوزي - تحقيق عبد القادر أحمد عطا - مكتبة الكليات الأزهرية - القاهرة. 119 - ضعيف سنن ابن ماجه - محمد ناصر الدين الألباني - ط. أولى - 1408 هـ - 1988 م - المكتب الإسلامي - بيروت. 120 - ضوء الشمس في قول النبي: بني الإسلام على خمس - أبو الهدى الصيادي - ط. عبد الحكيم عبد الباسط. (ط) 121 - طبقات الشافعية - ابن هداية الله الحسيني - دار الآفاق الجديدة - بيروت. 122 - طبقات الشافعية الكبرى - تاج الدين السبكي - تحقيق د. محمود الطناحي، ود. عبد الفتاح الحلو - عيسى الحلبي - 1383 هـ، طبعة الحسينية بمصر 1324 هـ. 123 - الطبقات الصغرى - لعبد الوهاب الشعراني - ط. مكتبة القاهرة - ط. أولى - 1390 هـ. 124 - الطبقات في خصوص الأولياء والصالحين والعلماء والشعراء في السودان - محمد نور ضيف الله الجعلي - تحقيق يوسف فضل حسن - ط. دار التأليف والترجمة - جامعة الخرطوم - ط. ثانية. 125 - الطبقات الكبرى المسمى "لواقح الأنوار في طبقات الأخيار" - للشعراني - ط. مصطفى البابي الحلبي - مصر - ط. أولى - 1373 هـ - 1954م. 126 - طرح التثريب في شرح التقريب - زين الدين العراقي - نشر جميعة النشر والتأليف الأزهرية - دار إحياء التراث العربي - بيروت. (ع) 127 - عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي - أبو بكر بن العربي - دار الوحي المحمدي - القاهرة.

(غ)

128 - عالم الجن والشياطين - د. عمر سليمان الأشقر - دار النفائس - عمان - الأردن - ط. الثالثة عشر - 1425 هـ - 2005 م. 129 - عالم الملائكة الأبرار - د. عمر سليمان الأشقر - دار النفائس - عمان - الأردن - ط. الثالثة عشر 1425 هـ. 130 - عقيدة ختم النبوة بالنبوة المحمدية - دار طيبة - الرياض - 1405 هـ - ط. أولى - أحمد بن سعد بن حمدان الغامدي. 131 - عكاظ (جريدة سعودية) - عدد 18 محرم 1400 هـ. 132 - عمدة القاري شرح صحيح البخاري - طبعة إدارة المطبعة المنيرية - القاهرة - بدر الدين محمود بن أحمد العيني. 133 - عون المعبود شرح سنن أبي داود - مطبعة المجد - ط. الثانية - 1389 هـ - محمد شمس الحق آبادي. (غ) 134 - غاية الأماني في الرد على النبهاني - مكتبة ابن تيمية - القاهرة - محمود شكري الألوسي. 135 - الغيث الهامع شرح جمع الجوامع - ولي الدين العراقي - تحقيق مؤسسة قرطبة - مصر. (ف) 136 - الفتاوى الحديثية - أحمد بن حجر الهيتمي المكي - مصطفى البابي الحلبي - مصر - ط. ثانية - 1390 هـ - 1970 م. 137 - فتاوى سلطان العلماء العز بن عبد السلام - تحقيق مصطفى عاشور - بدون تاريخ - مكتبة القرآن - القاهرة. 138 - فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والافتاء - دار أولي النهي - ط. أولى - 1411 هـ. 139 - فتاوى معاصرة - دار القلم - الكويت - ط. الخامسة - 1410 هـ - 1990 م - د. يوسف القرضاوي.

140 - فتح الباري شرح صحيح البخاري - مصطفى الحلبي سنة 1378 هـ - السلفية سنة 1380 هـ - القاهرة - أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، وطبعة دار طيبة - الرياض - 1426 هـ - 2005 م. 141 - فتح المنعم حاشية على زاد المسلم - محمد حبيب الله الشنقيطي - دار الفكر - بيروت - 1401 هـ. 142 - الفتوحاث المكية - دار صادر - بيروت - محيي الدين بن عربي. 143 - الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان - المكتب الإسلامي - بيروت - ط. رابعة - 1397 هـ - شيخ الإسلام أحمد بن تيمية. 144 - فرق الهند المنتسبة إلى الإسلام في القرن العاشر الهجري - دار ابن الجوزي - ط. أولى 1422 هـ - د. محمد كبير أحمد شودري. 145 - الفروق - شهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي - عالم الكتب - بيروت. 146 - الفصل في الملل والأهواء والنحل - مكتبة السلام العالمية - القاهرة - الإمام ابن حزم الأندلسي. 147 - فصوص الحِكَم - محيى الدين بن عربي - تعليق أبي العلا عفيفي - ط. ثانية - دار الكتاب العربي - بيروت - لبنان - 1400هـ - 1980 م 148 - الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة - عبد الرحمن عبد الخالق - مكتبة ابن تيمية - الكويت - ط. ثالثة 1406 هـ - 1986 م. 149 - فواتح الرحموت شرح مُسَلَّم الثبوت - عبد العلي محمد نظام الدين الأنصاري الهندي - ط. دار إحياء التراث. 150 - فوات الوفيات - محمد بن شاكر الكتبي - تحقيق د. إحسان عباس - دار صادر - بيروت - 1973 م. 151 - فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة - أبو حامد الغزالي - مكتبة الجندي - مصر. 152 - فيض القدير شرح الجامع الصغير للسيوطي - عبد الرؤوف المناوي - دار المعرفة - بيروت - ط. ثانية 1391 هـ - 1972 م.

(ق)

(ق) 153 - القائد إلى تصحيح العقائد - المكتب الإسلامي - بيروت - ط. ثانية - 1402هـ - عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني. 154 - قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة - المكتب الإسلامي - بيروت - 1390 هـ - شيخ الإسلام ابن تيمية. 155 - القاموس المحيط - مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز آبادي - المكتبة التجارية الكبرى - القاهرة. 156 - قضايا في المنهج - دار مكتبة القدس - صنعاء - ط. ثالثة - 1420 هـ - سلمان بن فهد العودة. 157 - قلادة الجواهر في سيرة الرفاعي وأتباعه الأكابر - الصيادي - ط. دار الكتب العلمية. 158 - قواطع الأدلة من الأصول - ابن السمعاني - تحقيق د. علي عباس الحكمي - ط. مكتبة التوبة - 1419 هـ. 159 - القول المبين في أخطاء المصلين - مشهور حسن سلمان - ط. أولى - 1412 هـ - 1991 م - دار ابن القيم - الدمام - السعودية. (ك) 160 - الكامل في التاريخ - عز الدين ابن الأثير - 1399 هـ -1989 م - دار صادر - بيروت. 161 - الكتاب التذكاري لمحيي الدين بن عربي - القاهرة - 1389 هـ. 162 - كتب حذر منها العلماء - مشهور بن حسن آل سلمان - ط. أولى 1415 هـ - دار الصميعي - الرياض. 163 - كشف الأسرار شرح متن المنار - حافظ الدين النسفي - دار الباز - مكة المكرمة. 164 - الكشاف عن حقائق التنزيل - أبو القاسم بن عمر الزمخشري - مطبعة مصطفى الحلبي - القاهرة - 1385 هـ -، مطبعة دار الكتاب العربي - بيروت.

(ل)

165 - كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون - مصطفى بن عبد الله (حاجي خليفة) - مكتبة المثنى - بغداد. (ل) 166 - لسان العرب - أبو الفضل جمال الدين محمد بن منظور الأفريقي المصري - دار صادر - بيروت. (م) 167 - مجمع الزوائد ومنبع الفوائد - طبعة نشر دار الكتاب 1967 م، طبعة القدسي - نور الدين الهيثمي. 168 - مجموعة الرسائل والمسائل- دار الباز - مكة المكرمة - مصورة عن طبعة المنار - شيخ الإسلام أحمد بن تيمية. 169 - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية - مكتبة ابن تيمية - القاهرة - شيخ الإسلام ابن تيمية - جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد بن القاسم النجدي. 170 - المجموع شرح المهذب للشيرازي - النووي - مكتبة الإرشاد - جدة. 171 - المحلى - أبو محمد علي بن أحمد بن حزم - المكتب التجاري للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت. 172 - المختار المصون من أعلام القرون - دار الأندلس الخضراء - جُدَّة - السعودية - الطبعة الأولى -1415 هـ - 1950 م - اختيارات محمد بن حسن ابن عقيل موسى. 173 - مختصر التذكرة للقرطبي - مطبعة محمد علي صبيح بالأزهر - القاهرة - 1388 هـ - 1968م - عبد الوهاب الشعراني. 174 - مدارج السالكين بين منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} - ابن قيم الجوزية - 1375 هـ - تحقيق محمد حامد الفَقي - مطبعة السنة المحمدية - القاهرة. 175 - المدخل - أبو عبد الله محمد بن محمد العبدري ابن الحاج - الطبعة الثانية - 1397 هـ - 1977 م - دار الفكر - بيروت. 176 - المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل - طبعة المطبعة المنيرية بالقاهرة -

طبعة مؤسسة الرسالة - بيروت - 1401 هـ - عبد القادر بن بدران الدمشقي. 177 - مساجد مصر وأولياؤها الصالحون - مطبعة الأهرام التجارية - نشر المجلس الأعلى للشئون الإسلامية - 1971 م - الدكتورة سعاد ماهر فهمي. 178 - المستدرك على الصحيحين - أبو عبد الله الحاكم النيسابوري - دار الكتاب العربي - بيروت - لبنان. 179 - المسند - الإمام أحمد بن حنبل - المكتب الإسلامي - بيروت - ط. خامسة - 1405 هـ. 180 - مشتهى الخارف الجاني، في رد زلقات التجاني الجاني - محمد خضر الجكني الشنقيطي - عيسى البابي الحلبي - مصر - 1346 هـ. 181 - مشكاة الأنوار - أبو حامد الغزالي - مكتبة الجندي - مصر. 182 - مشكلات الجيل في ضوء الإسلام - محمد المجذوب - ط. 1390 هـ. 183 - مصائب الإنسان من مكايد الشيطان - إبراهيم بن مفلح المقدسي - دار الإيمان - الإسكندرية - 2002 م. 184 - المصباح المنير - أحمد بن محمد بن علي الفيومي - ط. الخامسة - المطبعة الأميرية. 185 - معالم السنن شرح سنن أبي داود - أبو سليمان الخطابي البستي - تحقيق أحمد شاكر ومحمد حامد الفَقي - دار المعرفة - بيروت - 1400 هـ. 186 - معالم في طريق طلب العلم - دار شقراء - الرياض - ط. ثانية 1418 هـ - عبد العزيز محمد السدحان. 187 - المعجم الأوسط - أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني - ط. أولى - 1417 هـ - 1996 م - دار الحديث - القاهرة. 188 - المعجم الكبير - أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني - تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي - نشر وزارة الأوقاف - العراق.

189 - مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة - مكتبة حميدو - الإسكندرية - ط. الثالثة - 1399 هـ - ابن قيم الجوزية - تصحيح وتعليق محمود حسن ربيع. 190 - مفردات ألفاظ القرآن - الراغب الأصفهاني - دار القلم - دمشق، والدار الشامية - بيروت - ط. أولى 1412 هـ - 1992 م. 191 - مقاصد المكلفين فيما يتعبد به لرب العالمين - د. عمر سليمان الأشقر - مكتبة الفلاح - الكويت - ط. أولى - 1401 هـ - 1981 م. 192 - المقدمة السالمة في خوف الخاتمة - المكتب الإسلامي - بيروت - ط. أولى - 1409هـ - علي سلطان محمد القاري. 193 - المنار - مجلة علمية أدبية تهذيبية - مصر - السيد محمد رشيد رضا. 194 - المنار المنيف في الصحيح والضعيف (أو: نقد المنقول) مطبعة الحرية 1383 هـ - طبعة الشام بتحقيق محمود مهدي استانبولي، ومطبعة مكتب المطبوعات الإسلامية - ط. أولى - 1390 هـ - 1970م - تحقيق عبد الفتاح أبو غدة - الإمام ابن قيم الجوزية. 195 - مناقب الإمام أحمد بن حنبل - أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي - ط. ثانية - 1409 هـ - 1988 م - دار هجر - الجيزة - مصر. 196 - المنقذ من الضلال - مؤسسة الرسالة - بيروت - أبو حامد الغزالي - تحقيق د. عبد الحليم محمود. 197 - منهاج السنة النبوية - مكتبة ابن تيمية - القاهرة - ط. ثانية 1409هـ - 1989م - شيخ الإسلام أحمد بن تيمية - تحقيق د. محمد رشاد سالم. 198 - منهج شيخ الإسلام ابن تيمية في تقرير عقيدة التوحيد - إبراهيم البريكان - دار ابن القيم - الرياض، ودار ابن عفان - القاهرة - ط. أولى - 1425هـ - 2004 م. 199 - منية المريد في آداب وأوراد الطريقة التجانية - ابن بابا الشنقيطي العلوي التجاني - مكتبة القاهرة.

200 - الموافقات - دار ابن عفان - الخُبر - السعودية - ط. الأولى - 1417 هـ - 1997 م - أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي - تحقيق أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان. 201 - موسوعة الدفاع عن الصحابة - رضي الله عنهم - د. عبد القادر بن محمد عطا صوفي - (1426هـ - 2006 م) - دار أضواء السلف - الرياض. 202 - موسوعة الطب النفسي - مكتبة مدبولي - القاهرة - ط. أولى 1412 هـ - 1992 م - د. عبد المنعم الحفني. 203 - موسوعة علم النفس والتحليل النفسي - دار سعاد الصباح - الكويت - ط. أولى - 1993 م - د. فرج عبد القادر طه، وآخرون. 204 - الموسوعة الفقهية - وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - الكويت - ط. الثانية - 1404 هـ - 1983 م. 205 - الموضوعات - عبد الرحمن بن علي بن الجوزي - تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان - ط. أولى - 1386 هـ - 1966م - المكتبة السلفية بالمدينة المنورة. 206 - موقف الإمام ابن تيمية من التصوف والصوفية - د. أحمد بن محمد بناني - دار طيبة الخضراء - مكة المكرمة - ط. ثالثة - 1426 هـ - 2005 م. 207 - موقف الإسلام من الإلهام والكشف والرؤى ومن التمائم والكهانة والرقى - د. يوسف القرضاوي - ط. ثانية - (1425 هـ - 2004 م) - مكتبة وهبة - القاهرة - مصر. 208 - الموطأ - الإمام مالك بن أنس - تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي - ط. دار إحياء الكتب. 209 - ميزان الأصول في نتائج العقول - علاء الدين السمرقندي - ط. قطر. 210 - ميزان العمل - أبو حامد الغزالي - ط. دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان.

(ن)

(ن) 211 - ندوة اتجاهات الفكر الإسلامي المعاصر - انعقدت بالبحرين في (1405 هـ - 1985 م) - مكتب التربية العربي لدول الخليج - (1407 هـ- 1987 م). 212 - نزهة الفضلاء تهذيب سير أعلام النبلاء - دار الأندلس الخضراء - جدة - السعودية - ط. الثالثة - 1418 هـ- 1998 م - محمد بن حسن بن عقيل موسى. 213 - نشر البنود على مراقي السعود - عبد الله بن إبراهيم الشنقيطي - دار الكتب العلمية - بيروت - ط. أولى 1409 هـ - 1988 م. 214 - نشر المحاسن الغالية في فضل المشائخ الصوفية أصحاب المقامات العالية - لأبي محمد عبد الله بن أسعد اليافعي - ط. أولى - 1381 هـ - 1961م. 215 - نقد البردة مع الرد والتصحيح - عبد البديع صقر - دار الاعتصام - القاهرة - ط. ثانية - 1406 هـ - 1986 م. 216 - نوادر الحكايات في الرؤى والمنامات - إبراهيم محمود عبد الراضي - 2004 م - دار الإيمان - الإسكندرية. 217 - نظرية التحليل النفسي عند فرويد في ميزان الإسلام - د. سعد الدين السيد صالح - (1414 هـ - 1993 م) - مكتبة الصحابة - جدة - ومكتبة التابعين - الزيتون - القاهرة - مصر. 218 - النوم والأحلام في الطب والقرآن - د. محمد عبد الفتاح المهدي - (1422 هـ - 2001 م) - دار اليقين - المنصورة - مصر. 219 - النوم والرؤى والأحلام - د. السيد سلامة السقا - (1413 هـ - 1992 م) - دار النهضة الإسلامية. 220 - نهاية البداية والنهاية - مكتبة النصر الحديثة - الرياض - ط. الأولى - 1968 م - ابن كثير الدمشقي. 221 - النهاية في غريب الحديث والأثر - طبعة دار الفكر - تحقيق الزاوي والطناحي - الإمام مجد الدين أبو السعادات ابن الأثير.

(و)

(و) 222 - وفيات الأعيان وأنعاء أبناء الزمان - دار الثقافة - بيروت - لبنان - شمس الدين أحمد بن أبي بكر بن خلكان. 223 - ولاية الله والطريق إليها - دراسة لرسالة قطر الولي للشوكاني - دار الكتب الحديثة - القاهرة - 1979 م - د. إبراهيم إبراهيم هلال. * * *

§1/1