أصول النحو 2 - جامعة المدينة

جامعة المدينة العالمية

الدرس: 1 نشأة العلة النحوية وذكر بعض الأمثلة لها.

الدرس: 1 نشأة العلة النحوية وذكر بعض الأمثلة لها. بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الأول (نشأة العلة النحوية وذكر بعض الأمثلة لها) مفهوم العلة النحوية الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: يدور معنى التعليل في اللغة العربية حول فعل الشيء مرة بعد أخرى، كما جاء في مادة عَلَل في (الصحاح) و (لسان العرب) وغيرهما من المعاجم اللغوية، فالعلل هو الشرب الثاني بعد النهل، وهو الشرب الأول، يقال: عَلَل بعد نَهَل، وعله أي: سقاه السقية الثانية، والعلة المرض وحدث يشغل صاحبه عن وجهه، كأن تلك العلة صارت شغلًا ثانيًا منعه عن شغله الأول. والعلة في اصطلاح النحويين: هي الوصف الذي يكون مظنة وجه الحكمة في اتخاذ الحكم، أو بعبارة أوضح: هي الأمر الذي يزعم النحويون أن العرب لاحظته حين اختارت في كلامها وجهًا معينًا من التعبير والصياغة. والعلاقة بين المعنيين اللغوي والاصطلاحي واضحة جلية، فالعلة النحوية تشغل النحوي في محاولته الوصول إليها عن كل ما عداها، وتتطلب منه كدَّ الفكر وإعمال النظر مرة بعد أخرى؛ حتى يطمئن إلى سلامتها وصحة الوثوق بها. ورحم الله شيخ العربية الخليل الذي سُئل عن العلل التي يعتلُّ بها في النحو فقيل له -فيما يرويه الزجاجي في كتابه (الإيضاح في علل النحو) فقيل له-: "عن العرب أخذتها، أم اخترعتها من نفسك؟ فقال: إن العرب نطقت على سجيتها وطبيعتها، وعرفت مواقع كلامها، وقام في عقولها علله، وإن لم يُنقل ذلك عنها، واعتللت أنا بما عندي أنه علة لما عللته منه، فإن أكن أصبت العلة فهو الذي التمسته، وإن تكن هناك علة له؛ فمثلي في ذلك مثل رجل حكيم دخل دارًا محكمة البناء، عجيبة النظم والأقسام، وقد صحت عنده حكمة بانيها بالخبر الصادق، أو بالبراهين الواضحة، والحجج اللائحة.

نشأة العلة النحوية في القرنين الأول والثاني.

فكلما وقف هذا الرجل في الدار على شيء منها قال: إنما فُعل هذا هكذا لعلة كذا وكذا، ولسبب كذا وكذا، سنحت له، وخطرت بباله محتملة لذلك، فجائز أن يكون الحكيم الباني للدار فعل ذلك للعلة التي ذكرها هذا الذي دخل الدار. وجائز أن يكون فعله لغير تلك العلة، إلا أن ذلك مما ذكره هذا الرجل محتمل أن يكون علة لذلك، فإن سنح لغيري علة لما عللته من النحو هو أليق مما ذكرته بالمعلول فليأتِ بها. قال الزجاجي: وهذا كلام مستقيم، وإنصاف من الخليل -رحمة الله عليه"، انتهى. نشأة العلة النحوية في القرنين الأول والثاني إن الحديث عن نشأة العلة النحوية يعني: الحديث عن نشأة قواعد اللغة العربية، فقد أجمع الرواة والمؤرخون على أن العلة النحوية رافقت نشأة النحو، ووُلدت مع ولادته. ومن ثَمَّ رأيناهم لا يفصلون بينهما، ويعدونهما منطلقًا واحدًا، وإن أكبر شاهد على هذا كتاب سيبويه، وهو أول كتاب في النحو وصل إلينا، فجميع ما أُلِّف قبله في هذا الفن لم يلق رعاية، ولم يصادف اهتمامًا فضاع واندثر قبل أن يصل إلينا منه شيء. وقد شغل ذلك الكتاب العلماء قديمًا وحديثًا، فأقبلوا عليه مفتونين به يوضحون غرائبه، ويحلون مشكلاته، ويدرسون مسائله، ويشرحون شواهده، ويضعونه موضع التقدير والإجلال؛ حتى كان المبرد يقول لمن أراد أن يقرأه عليه: "هل ركبت البحر؟ "، تعظيمًا له وتقديرًا لما حواه بين دفتيه من جمع ما تفرق من أقوال المتقدمين من علماء القرن الثاني الهجري، الذين اعتمدوا في بناء آرائهم على مشافهة العرب الخلص في البوادي، كأبي الأسود الدؤلي المتوفى سنة تسع وستين

من الهجرة، والذي ينسب إليه وضع بعض الأبواب الأساسية في علم النحو، والتكلم في مسائل التعليل والقياس، ويقول عنه محمد بن سلام الجمحي في (طبقات فحول الشعراء) في الصفحة الثانية عشرة: "كان أول من أسس العربية، وفتح بابها، وأنهج سبيلها، ووضع قياسها أبو الأسود الدؤلي، وإنما قال ذلك حين اضطرب لسان العرب، وغلبت السليقة، وكان سَرَاة الناس يلحنون؛ فوضع باب الفاعل، والمفعول، والمضاف، وحروف الجر، والرفع، والنصب، والجزم". انتهى. وكالخليل بن أحمد الفراهيدي وهو أشد شيوخ سيبويه صلة به، ومحبة له، وأكثرهم أثرًا فيه، وقال عنه ابن جني في (الخصائص): "فانظر إلى قوة تصور الخليل إلى أن هجم به الظن على اليقين، فهو المعنيُّ بقوله: الألمعي الذي يظن بك الظن كأن قد رأى وقد سمع"، وقال عنه أبو بكر الزبيدي في (طبقات النحويين): "وهو الذي بسط النحو، ومد أطنابه، وسبب علله، وفتق معانيه، وأوضح الحِجاج فيه؛ حتى بلغ أقصى حدوده، وانتهى إلى أبعد غاياته". انتهى. وقال السيرافي في (أخبار النحويين البصريين) عن الخليل: "كان الغاية في استخراج مسائل النحو وتصحيح القياس فيه". انتهى. والذي يعنينا هنا أن نشير إلى أمرين: أولهما: أن العلة النحوية كانت فطرية في نفس العربي، شأنها في ذلك شأن لغته التي كان يتكلم بها بالسليقة العربية من غير تعمُّل أو تكلف، ولا أدلَّ على ذلك من أن أعرابيا كان إذا سُئل عن العلة أجاب، يقول ابن جني: "وأما ما روي لنا فكثير، منه ما حكى الأصمعي عن أبي عمرو قال: سمعت رجلًا من اليمن يقول: فلان لغوب أي: أحمق جاءته كتابي فاحتقرها، فقلت له -أي: قال له أبو عمرو: أتقول: جاءته كتابي، قال: نعم أليس بصحيفة".

قال ابن جني معلقًا: "أفتراك تريد من أبي عمرو وطبقته، وقد نظروا، وتدربوا، وقاسوا، وتصرفوا أن يسمعوا أعرابيًّا جافيًا غفلًا يعلل هذا الموضع بهذه العلة، ويحتج لتأنيث المذكر بما ذكره -يعني: بالحمل على المعنى- فلا يهتاجوا هم لمثله، ولا يسلكوا فيه طريقه، فيقولوا: فعلوا كذا لكذا، وصنعوا كذا لكذا، وقد شرع لهم العربي ذلك، ووقفهم على سمته وأَمّه". انتهى. يعني ابن جني أن العلة النحوية قد نشأت فطرية عند العرب الأقحاح، وأن العرب قد أرادت من العلل والأغراض ما نسبه هؤلاء النحويون المتقدمون إليها، وما حملوها عليه؛ نتيجة لمشافهتهم للعرب ووقوفهم على طبائعهم وأوضاعهم. والأمر الآخر الذي نشير إليه ونؤكد عليه: ما سبق أن ذكرناه من أن التعليل النحوي قد نشأ مرافقًا ومصاحبًا لنشأة قواعد العربية، كما أجمع عليه صفوة العلماء الأجلاء. وبناء على ذلك نرى أن بواكير التعليل قد نشأت مع وضع الأسس الأساسية للنحو العربي، أعني: مِن أول وضع الإمام علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه- هذه الأسس قُبيل مقتله -رحمه الله تعالى- في السابع عشر من شهر رمضان سنة أربعين من الهجرة، أو من أول وضع أبي الأسود الدؤلي لبعض الأبواب النحوية، بإشارة من الإمام علي -رضي الله عنه، وكرم الله وجهه. وعلى أية حال فلسنا هنا في معرض الحديث عن وضع علم النحو، أو عمن وضع علم النحو، لكنا نرى أن التعليل النحوي نشأ قرين وضع القواعد النحوية، أو قرين الاهتمام بالإعراب ومحاربة اللحن، ولكنه كان -كما قيل- كأي علم آخر يبدأ عفويًّا فطريًّا مختلطًا بغيره إلى أن تثبت جذوره في الأرض، ويستقل عن غيره، ويصبح علمًا قائمًا بذاته، وإلا كيف كان أبو الأسود أول من ضبط المصحف ووضع العربية، كما قال ابن حجر في (الإصابة)، وعلى أي

أساس كان هذا الضبط، اللهم إلا إذا كان على الوقوف على مواضع الكلمات، ومواقعها، ووظائفها، ومفاهيمها على قدر ما تيسر له. وكيف أرشد أبو الأسود ابنته إلى أنها إذا أرادت التعجب من حسن السماء أن تقول: ما أحسن السماءَ، وتفتح فاها، وكيف كان كما قيل قد وضع أبواب العطف، والنعت، والتعجب، والاستفهام وغيرها. إن ذلك كله وهو قليل من كثير يشهد بوجود العلة النحوية مع هذه القواعد، غير أنها كانت كامنة مستترة في العقول، وإنما تظهر في وقت الحاجة إليها، أو السؤال عنها، كما علمنا مما حكى الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء وأعرابي اليمن، ويمضي الزمن وتمضي معه مدرسة أبي الأسود الدؤلي، ومعه تلاميذه العظام من أمثال: نصر بن عاصم الليثي، وعنبسة الفيل المهري، وعبد الرحمن بن هرمز، ويحيى بن يعمر العدواني من غير أن يحفظ لنا الزمان شيئًا من تراث هؤلاء الأعلام الأكابر، إلا بعض الشواهد الشعرية، أو القراءات القرآنية. يقول الدكتور شوقي ضيف -رحمه الله تعالى-: "وكل من ذكرنا من تلاميذ أبي الأسود كانوا من قراء الذكر الحكيم، وكان يُؤخذ عنهم النقطان جميعًا، نقط الإعراب، ونقط الإعجام، وكان ذلك عملًا خطيرًا حقًّا، فقد أحاطوا لفظ القرآن الكريم بسياج يمنع اللحن فيه؛ مما جعل بعض القدماء يظن أنهم وضعوا قواعد الإعراب أو أطرافًا منها، وهم إنما رسموا في دقة نقط الإعراب لا قواعده، كما رسموا نقط الحروف المعجمة من مثل: الباء والتاء والثاء والنون". انتهى. بيد أن أول نحوي نجد عنده طلائع البحث الدقيق في مجال التعليل النحوي هو عبد الله بن إسحاق الحضرمي، المتوفى سنة سبع عشرة ومائة من الهجرة، فهو

النحوي البصري الذي يُمثل نقطة تحول في تاريخ الدراسات النحوية، وفيه يقول ابن سلام: "كان أول من بعج النحو -أي: فتقه-، وفصل القول فيه، ومد القياس، وشرح العلل". انتهى. وكان يقال: عبد الله أعلم أهل البصرة وأعقلهم، ففرع النحو وقاسه، وتكلم في الهمز حتى عُمل كتاب مما أملاه، وكان رئيس الناس وواحدهم، وتلا ابن إسحاق أهم تلاميذه وهو عيسى بن عمر الثقفي البصري، المتوفى سنة تسع وأربعين ومائة من الهجرة، وقد مضى على درب أستاذه مولعًا بالقياس والتعليل، لكنه كان إلى جانب هذا مولعًا كذلك بالغريب والتشادق، والتقعر في كلامه، وهو صاحب كتابي (الجامع) و (الإكمال)، وقد نوَّه عن فضلهما الخليل بقوله: ذهب النحو جميعًا كله ... غير ما أحدث عيسى بن عمر ذاك إكمال وهذا جامع ... فهما للناس شمس وقمر وهما بابان صارا حكمة ... وأراحا من قياس ونظر وقد اندثرا ولم يصلنا منهما شيء، وذكر صاحب (المدارس النحوية) أن عيسى بن عمر كان مثل ابن أبي إسحاق يطعن على العرب الفصحاء إذا خالفوا القياس، وهو الذي مكَّن للنحو وقواعده التي اعتمد عليها تلميذه الخليل، ومن تلاه من البصريين؛ سواء في محاضراته وإملاءاته، أو في مصنفاته، وقد توفي تاركًا للخليل جهوده النحوية؛ كي يتم صرح النحو، ويكمل تشييده. وننتقل من عيسى بن عمر إلى تلميذه الخليل بن أحمد، الذي وصف الدكتور مازن المبارك صاحب (النحو العربي)، وصف عصره بأنه ذروة البناء النحوي بما اتصف به من شمول وإحاطة وبراعة في استعمال القياس، وكان أعظم النحويين حظًّا، وأبعدهم أثرًا بما ترك من أثر رائع في كتاب سيبويه، وقد عزا الزبيدي عدم

تأليفه في النحو إلى الترفع بنفسه وبقدره، بعد أن سُبق إلى التأليف فيه، فكره أن يكون لمن تقدمه تاليًا، وعلى نظر من سبقه محتذيًا، واكتفى في ذلك بما أوحى إلى سيبويه من علمه، ولقنه من دقائق نظره، ونتائج فكره، ولطائف حكمته؛ فحمل سيبويه ذلك عنه وتقلده، وألف فيه (الكتاب) الذي أعجز من تقدم قبله، كما امتنع على من تأخر بعده. أما واسطة العقد ودُرة تاج العربية وإمام النحو والنحاة، فهو عمرو بن عثمان بن قنبر بفتح القاف أو قُنبر بضمها وسكون النون مع فتح الباء، وضبطه الزبيدي في (تاج العروس) مادة قنبر بضم ففتح فسكون، وكنيته أبو بِشر، وأبو الحسن، وأبو عثمان، ولقبه سيبويه، وهي كلمة فارسية تتكون من سيب بمعنى التفاح، وويه بمعنى الرائحة، فمعنى التركيب كما قيل: رائحة التفاح. ويعللون هذا التلقيب بأن وجنتيه كانتا كأنهما تفاحتان، وكان غاية في الجمال، وقيل؛ لأن من يلقاه كان لا يزال يشم منه رائحة التفاح. وقد وصل كتاب سيبويه إلى درجة من النضج لم يصل إليها كتاب في النحو قبله، ولن يبلغها كتاب بعده، حتى قال أبو عثمان المازني: "من أراد أن يعمل كتابًا كبيرًا في النحو بعد كتاب سيبويه فليستحيِ مما أقدم عليه"، ولم يكتف سيبويه في (الكتاب) بجمع آراء الخليل وغيره من النحاة الأولين الذين شافهوا العرب الخلص فحسب، بل كان يناقش هذه الآراء بثاقب فكره وصائب رأيه، وقوة حجته، وغزارة مادته التي جمع الكثير منها عن طريق مشافهته العرب في البوادي، وقد حفل كتاب سيبويه بالمسموع من العرب، كما تكثر التعليلات فيه كثرة لافتة للنظر، فلا يكاد يترك حكمًا من غير تعليل، وهو لا يعلل فقط لما كثر في ألسنتهم، واستنبطت على أساسه القواعد؛ بل يعلل أيضًا لما يخرج على تلك

القواعد، كما قال (صاحب المدارس النحوية)، وكأنما لا يوجد أسلوب، ولا توجد قاعدة دون علة. ونختم هذا العنصر بالحديث عن علم كبير من أعلام المدرسة الكوفية عاش في القرن الثاني الهجري، وكان له اهتمام بالغ بالتعليل النحوي باعتباره أهم أركان القياس، وهو أبو الحسن علي بن حمزة الكسائي، المولود بالكوفة في سنة تسع عشرة ومائة من الهجرة، وتوفي سنة تسع وثمانين ومائة من الهجرة، وقد قالوا عنه: إنه يُعدُّ إمام مدرسة الكوفة، فهو الذي وضع رسومها، ووطأ منهجها، وهو أعلم الكوفيين بالعربية والقرآن، وهو قدوتهم وإليه يرجعون. يقول عنه الدكتور مهدي المخزومي في كتابه (مدرسة الكوفة): "وكان من تأثير العقل البصري فيه أن نزع منزع القياسيين في اعتماده واعتداده على القياس، ومغالاته فيه، حتى نسب إليه أنه قال: إنما النحو قياس يتبع ... وبه في كل أمر ينتفع وكان من تأثير العقل الكوفي فيه أن احتذى خطوات الفراء في العناية بالروايات اللغوية المنقولة بسند صحيح، والقياس عليها في الوقت الذي كان البصريون يعدونها، أو يعدون كثيرًا منها شواذ؛ لأنها خرجت على أصولهم التي تُعنى -كما يزعمون- بالأغلب، حتى كان القائل البصري يقول: إن الكسائي كان يسمع الشاذ الذي لا يجوز من الخطأ واللحن، وشعر غير أهل الفصاحة والضرورات، فيجعل ذلك أصلًا ويقيس عليه حتى أفسد النحو. وكان القائل الآخر يقول: قدم علينا الكسائي بالبصرة فلقي عيسى والخليل وغيرهما، وأخذ منهم نحوًا كثيرًا، ثم صار إلى بغداد فلقي أعراب الحطمية، فأخذ عنهم الفساد من الخطأ واللحن؛ فأفسد بذلك ما كان أخذه بالبصرة كله"،

ويعلق الدكتور مهدي المخزومي على ما قال البصريون، مدافعًا عن الكسائي بقوله: "فاعتماد الكسائي على قوم وثق بهم وروايته عنهم، وهو ما لم يستسغه البصريون انعكس في نفوس البصريين في صورة إفساد للنحو، وليس هو إفسادًا له، ولكنه في الواقع خروج على ما ألفه البصريون". انتهى. ويقول عن قياسه في موضع آخر: "ولكن قياسه يختلف عن قياس البصريين من حيث التطبيق، فبينما نجد البصريين يكونون أصلًا من الأصول بعد استقراء يقتنعون بصحة نتائجه، ويقيسون المسائل الجزئية عليه إذا توافر فيها علة ذلك الأصل؛ إذ نجد الكسائي يكتفي بالشاهد الواحد بسمعه من أعرابي يثق بفصاحته ليقيس عليه، وإن كان هذا الشاهد المسموع مما لا نظير له، أو مما يعدُّه البصريون شاذًّا لا يُعتدُّ به، وربما ضبطه البصريون ربما غمطوه ولحنوه؛ لأن مصادر سماعهم التي رسموها وقيدوا بها الدارسين لم يلتزم بها الكسائي، بل وسع دائرة مصادره حتى ألحق بها أعراب الحطمية، وأعراب سواد بغداد، وهم عند البصريين من غير أهل الفصاحة، وممن لا يجوز الأخذ عنهم. فاعتداد الكسائي وأخذه عنهم يُعد في نظرهم إفسادًا للغة وقواعدها". ثم يقول: "وهذا الإفساد الذي اتهم البصريون به الكسائي إنما هو لإفساد أصولهم ومقرراتهم، أما كونه يمس النحو، فيحتاج إلى برهان، لا أظنهم استطاعوا أن يأتوا به" انتهى، ويسير الدكتور شوقي ضيف -رحمه الله- على درب الدكتور المخزومي فيذكر مدافعًا عن وجهة نظر الكسائي أنه من المؤكد أن الكسائي تلقن عن الخليل وسيبويه وعيسى بن عمر معرفة العلل والأقيسة، بل كان يؤمن بأن النحو إنما هو ضروب من القياس، وما يطوى فيه من علل وحجج تشده وتقيم أوده، وحقًّا إنه توسع في القياس فلم يقف به عند المستعمل الشائع على الألسنة، ولا عند أعراب البدو؛ بل مده ليشمل ما ينطق به العرب

بعض أمثلة العلة النحوية عند المتقدمين من علماء القرن الثاني الهجري في ضوء ما ورد في كتاب سيبويه.

المتحضرون ممن يمكن أن يكون قد دخل اللحن على ألسنتهم في رأي البصريين، ولعله من أجل ذلك ألَّف كتابه في لحن العوام؛ ليدل على أنه كان يفرق بين لغات العرب وبين هذا اللحن. وأهم من ذلك أنه مدَّ النحو ليشمل الشاذ النادر من تلك اللغات مما لم يكن سيبويه والخليل يحفلان به، ولا يريان له قدرًا، ثم قال: "وأكبر الظن أن الذي دفع الكسائي إلى هذا الموقف من نحوهما، وأن يفسح في العربية للغات الشاذة النادرة أنه كان من القراء للذكر الحكيم، وكانت تجري في قراءته حروف تشذُّ على قواعد النحو البصري؛ فخشي أن يُظن بهذه الحروف أنها غير جائزة، وأنها لا تجري على العربية السليمة، وربما خشي اندثارها، وهي جميعًا مروية عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- غير أن منها ما هو متواتر، وهو القراءات السبع، ومنها ما هو غير متواتر وهو ما وراءها من قراءات، وجميعها صحيح، وينبغي أن نتوسع في قواعد النحو والصرف حتى تشمله" انتهى. بعض أمثلة العلة النحوية عند المتقدمين من علماء القرن الثاني الهجري في ضوء ما ورد في كتاب سيبويه قد علمت أن كتاب سيبويه أقدم مصدر نحوي وصل إلينا، وأنه قد حفل بالعلة النحوية، فلا تكاد ترى فيه حكمًا نحويًّا صادرًا عن سيبويه، أو عن أحد شيوخه الذين عُنوا بالقياس والتعليل قد أورده سيبويه غفلًا من ذكر علته، ونستعرض هنا طرفًا من أمثلة العناية بالعلة عند المتقدمين في ضوء ما ورد منها في كتاب سيبويه. أولًا: من تعليلات شيخ سيبويه الأخفش الأكبر، وهو أبو الخطاب عبد الحميد بن عبد المجيد مولى قيس بن ثعلبة من أهل هجر، وأول الأخافشة الثلاثة

المشهورين، أخذ من أبي عمرو بن العلاء وطبقته، ولقي الأعراب فأخذ عنهم، وتوفي بالسنة السابعة والسبعين بعد المائة من الهجرة، ومن تعليلاته ما ذكره سيبويه في (الكتاب) في باب ما ينتصب على إضمار الفعل المتروك إظهاره من المصادر في غير الدعاء، قال: "زعم أبو الخطاب أن سبحان الله كقولك: براءة الله من السوء، كأنه يقول: أبرئ براءة الله من السوء، وزعم أن مثله قول الشاعر وهو الأعشى: أقول لما جاءني فخره ... سبحان مِن علقمة الفاخر أي: براءة منه، وأما ترك التنوين في سبحان، فإنما تُرك صرفه لأنه صار عندهم معرفة، وانتصابه كانتصاب الحمد لله. وزعم أبو الخطاب أن مثله قولك للرجل: سلامًا، تريد تسلمًا منك، كما قلت: براءة منك، تريد لا ألتبس بشيء من أمرك، وزعم أن أبا ربيعة كان يقول: إذا لقيت فلانًا فقل له: سلامًا، فزعم أنه سأله ففسره له بمعنى براءة منك، وزعم أن هذه الآية {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} (الفرقان: 63) بمنزلة ذلك؛ لأن الآية فيما زعم مكية، ولم يؤمر المسلمون يومئذٍ أن يسلموا على المشركين، ولكنه على قولك: براءة منكم وتسلمًا، لا خير بيننا وبينكم ولا شر، وزعم أن قول الشاعر وهو أمية بن أبي الصلت: سلامك ربنا في كل فجر ... بريئًا ما تغنثك الذموم على قوله: براءتك ربنا من كل سوء، فكل هذا ينتصب انتصاب حمدًا وشكرًا، إلا أن هذا ينصرف وذاك لا ينصرف" انتهى. هذا النص يعلل فيه الأخفش الأكبر نصب "سبحان الله"، فيذكر أنه كقولك: براءة الله من السوء؛ أي: أبرئ براءة الله من السوء، أي: أنه منصوب على

المصدرية بفعل محذوف وجوبًا لا يُستعمل، وهو "سَبَحَ" الثلاثي كأنه قال: سَبَحَ سبحانًا، كما يقال: كَفَرَ كفرانًا، وشكر شكرانًا، ومعناه: التبرئة والبراءة من كل ما لا يليق أن يوصف به، فهو واقع موقع التسبيح الذي هو المصدر الحقيقي للفعل سبح، ولزومه للنصب من أجل أنه لا يتمكن في موضع المصادر؛ إذ لا يأتي إلا مصدرًا منصوبًا مضافًا وغير مضاف، وهو غير مصروف؛ لجعله علمًا للتسبيح، وجريه مجرى عثمان ونحوه من الأعلام المختومة بالألف والنون الزائدتين. وذكر أبو الخطاب أن سبب منعه من الصرف العلمية وزيادة الألف والنون، وذكر أن من مجيئه غير مضاف وغير مصروف قول الأعشى: ... ... ... ... ... سبحان مِن علقمة الفاخر ومعناه براءة من علقمة، يقول هذا لعلقمة بن علاثة الجعفري في منافرته لعامر بن الطفيل، وكان الأعشى قد فضل عامرًا، وتبرأ من علقمة وفخره أي: لما سمعت أن علقمة يُفاخر عامرًا تبرأت من قبح فعل علقمة وأنكرته، وواصل الأخفش الأكبر حديثه لسيبويه، فذكر أن مثل ذلك أي: من مجيء الاسم منصوبًا على المصدرية بفعل غير مستعمل قولك للرجل: سلامًا تريد تسلمًا منك أي: براءة منك، وعلى ذلك جاءت الآية الكريمة في سورة الفرقان {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} أي: براءة منكم، وقول أمية بن أبي الصلت: سلامك ربنا ... إلى آخر البيت. الشاهد فيه قوله: سلامك، ونصبه على المصدر الموضوع بدلًا من اللفظ بالفعل، ومعناه البراءة والتنزيه، وهو بمنزلة سبحانك في المعنى وقلة التمكن في مواضع المصادر، وبريئًا في البيت منصوب على الحال المؤكدة، والتقدير: أبرئك بريئًا؛

لأن معنى سلامك كمعنى أبرئك، ومعنى تغنثك تعلق بك، والأصل تتغنثك؛ فحذفت إحدى التاءين والذموم جمع الذم. ثانيًا: من تعليلات شيخ سيبويه عيسى بن عمر الثقفي المتوفى سنة تسع وأربعين ومائة من الهجرة، قال سيبويه في (الكتاب) في باب ما ينتصب فيه الصفة لأنه حال وقع فيه الألف واللام: "وكان عيسى يقول: ادخلوا الأولُ فالأول، لأن معناه ليدخل، فحمله على المعنى، وليس بأبعد من: لِيُبك يزيد ضارع لخصومة" انتهى. وتفصيل هذا الأمر أن الأصل في الحال أن تكون نكرة لا معرفة، وذلك على سبيل اللزوم؛ لأن الغالب أن تكون مشتقة، وأن يكون صاحبها معرفة، فالتزم تنكيرها؛ لئلا يتوهم كونها نعتًا إذا كان صاحبها منصوبًا، وحمل غيره عليه، فإن وردت بلفظ المعرفة أُوِّلت بنكرة؛ محافظة على ما استقر لها من لزوم التنكير، ومما سمع من ذلك قول العرب: ادخلوا الأول فالأول. فاللفظ الأول الواقع بعد واو الجماعة منصوب على الحالية من الواو، والثاني معطوف عليه بالفاء، وهما بلفظ المعرف بأل، فيؤولان بنكرة أي: مرتبين واحدًا فواحدًا. بيد أن سيبويه حكى أن عيسى بن عمر كان يقول: "ادخلوا الأول فالأول"، معللًا ذلك بقوله: "لأن معناه ليدخل"، أي: بإضمار فعل بالحمل على المعنى أي: بقرينة المعنى. وبيان ذلك أن فعل الأمر لا يسند إلى الاسم الظاهر، وعيسى بن عمر ليس ممن يغتفرون في التابع ما لا يُغتفر في المتبوع، فلا يصح عنده أن يكون الرفع على البدلية من واو الجماعة؛ لأن البدل على نية إحلاله محل المبدل منه، ولا يصح هنا هذا الإحلال؛ إذ لا يقال: ادخل الأول فالأول بالرفع على الفاعلية بخلاف نحو: دخلوا الأول فالأول، فإن رفع ما بعد واو الجماعة على

البدلية من واو الجماعة، واللفظ الثاني معطوف عليه، وصح جعل الأول بدلًا وحمله على الفعل؛ لصحة إحلاله محل المبدل منه، إذ يجوز أن يقال: دخل الأول فالأول. ويجوز أن يكون الرفع على البدلية عند من يغتفر في التابع ما لا يُغتفر في المتبوع كأبي سعيد السيرافي الذي خرج الرفع على البدلية من واو الجماعة، وقال في شرحه على كتاب سيبويه معلقًا على حمل الرفع على المعنى: "ولم يجز ذلك سيبويه، لأن لفظ الأمر للمواجَه -يعني: للمخاطب- لا يجوز أن يُعرى من ضمير، وإذا أبدل الظاهر منه فكأنه لا ضمير فيه، ألا ترى أنه لا يجوز: ادخلا الزيدان، ولا ادخلوا غلمان زيد، فتبدل من ضمير الاثنين والجماعة المخاطبين لأنا لا نقول: ادخل غلمان زيد، فإذا أبدلنا؛ فقد أبطلت الواو، ولم يفسر سيبويه علته، بل جوزه على وجه من وجوه ما يُحمل على المعنى". هذا وبالله التوفيق وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 2 أمثلة العلة النحوية للخليل وسيبويه.

الدرس: 2 أمثلة العلة النحوية للخليل وسيبويه. بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثاني (أمثلة العلة النحوية للخليل وسيبويه) بعض أمثلة التعليل النحوي للخليل بن أحمد، وسيبويه الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: المثال الأول: قال سيبويه في (الكتاب) في باب الأفعال التي تستعمل وتلغى: "وسألته عن أيهم، لم لم يقولوا: أيهم مررت به؟ فقال: لأن أيهم هو حرف الاستفهام لا تدخل عليه الألف، وإنما تركت الألف استغناء، فصارت بمنزلة الابتداء، ألا ترى أن حدَّ الكلام أن تؤخِّر الفعل فتقول: أيهم رأيت، كما تفعل ذلك بالألف، فهي نفسها بمنزلة الابتداء" انتهى. ذكر السيرافي أن قول سيبويه في (الكتاب): "وسألته" إنما يعني به الخليل، وكذلك كل ما ورد في (الكتاب) مثله إذا لم يتقدم ذكر عالم غيره، فسيبويه يسأل شيخه الخليل لِمَ لم يجز نصب اسم الاستفهام أيٍّ بفعل مضمر يُفسره الفعل المذكور، كما اختير في قولك: أزيدًا ضربته. فأجابه الخليل بأن هناك فرقًا بين التعبيرين، فنحن إذا قلنا: أزيدًا ضربته، فأداة الاستفهام -وهي الهمزة- منفصلة من زيد بمعنى: أنها كلمة مستقلة عنه قائمة بنفسها، وهي بالفعل أولى؛ إذ الغالب دخولها على الأفعال، فأضمرنا بينها وبين زيد فعلًا ينصبه. أما أي في المثال فهي اسم متضمن معنى همزة الاستفهام، مثل من وما، وسائر أسماء الاستفهام، فلا تدخل عليها همزة الاستفهام التي يغلب دخولها على الأفعال؛ لأن الاستفهام لا يدخل على الاستفهام، ولتضمنها معنى الاستفهام صار لها الصدارة كالهمزة، فلا يعمل فيها متقدم عليها، وصار حد الكلام أن تؤخر الفعل عنها فتقول مثلًا: أيهم رأيت، فالمثال الذي فيه أي هنا بمنزلة قولنا: زيد ضربته في اختيار رفع الاسم المتقدم، وما أجاز نحو: زيدًا ضربته، بنصب زيد بمرجوحية، بتقدير: ضربت زيدًا ضربته، يجيز أن يقال: أيَهم مررت به،

بنصب أي بمرجوحية أيضًا، مقدرًا فعلًا ناصبًا من معنى الفعل المذكور لا من لفظه، فالتقدير عنده: أيهم جزت مررت به أو أيهم لاقيت مررت به. وهكذا يسأل سيبويه شيخه الخليل عن الحكم فيجيبه عنه مشفوعًا بعلته. والمثال الثاني: قال سيبويه في (الكتاب): "وزعم الخليل -رحمه الله- أن الألف واللام إنما منعهما أن يدخلا في النداء، من قبل أن كل اسم في النداء مرفوع معرفة، وذلك أنه إذا قال: يا رجل، ويا فاسق فمعناه كمعنى يا أيها الفاسق ويا أيها الرجل، وصار معرفة، لأنك أشرت إليه وقصدت قصده، واكتفيت بهذا عن الألف واللام، وصارت كالأسماء التي هي للإشارة نحو: هذا وما أشبه ذلك، وصار معرفة بغير ألف ولام؛ لأنك إنما قصدت قصد شيء بعينه، وصار هذا بدلًا في النداء من الألف واللام، واستغني به عنهما، كما استغنيت بقولك: اضرب عن لتضرب، وكما صار المجرور بدلًا من التنوين، وكما صارت الكاف في رأيتك بدلًا من رأيت إياك" انتهى. يذكر سيبويه في هذه الفقرة نقلًا عن الخليل -رحمه الله- علة منع النداء ما فيه "ال" في الاختيار من غير ما استثني، ومجمل هذه العلة أن النداء يُفيد التعريف، وال تفيد التعريف، ولا يُجمع بين معرِّفين على معرَّف واحد، فلا يدخل حرف تعريف على حرف تعريف، كما لا يدخل فعل على فعل؛ لأنه لا يقتضيه، وإنما يدخل الفعل والحرف على مقتضاهما، قيل: ولهذا لا يجوز الجمع بين تعريف النداء وتعريف العلمية في الاسم المنادى العلم نحو: يا زيد، بل يُعرى عن تعريف العلمية تقديرًا، ويعرف بالنداء، فإذا لم يجز الجمع بين تعريفين: أحدهما بعلامة لفظية والآخر بعلامة معنوية، فمن طريق الأَولى ألا يجوز الجمع بين تعريفين كلاهما بعلامة لفظية.

قال السيرافي: "وقوله: واستغنيت بقولك: اضرب عن لتضرب؛ لأن الأصل عنده -أي: عند سيبويه- لتضرب، واضرب داخلة عليها، وإنما صار كذلك؛ لأن الأمر يقتضي النهي، والنهي لا يكون إلا بحرف كقولك: لا تضرب زيدًا، فينبغي أن يكون الأمر بحرف يوجب الإعراب، ويقوي تعريفه -يعني: تعريف النداء- أن يونس زعم أنه سمع من العرب من يقول: يا فاسق الخبيث، ويقوي أنه معرفة أيضًا، ترك التنوين؛ لأنه اسم شُبه بالأصوات، فيكون معرفة إذا لم ينون، وينون إذا كان نكرة، ألا ترى أنهم قالوا: هذا عمرويه وعمرويه آخر"، انتهى. والمثال الثالث: في باب المنفي المضاف بلام الإضافة قال سيبويه في (الكتاب): "اعلم أن التنوين يقع من المنفي في هذا الموضع إذا قلت: لا غلام لك، كما يقع من المضاف إلى اسم، وذلك إذا قلت: لا مثل زيد، والدليل على ذلك قول العرب: لا أبا لك، ولا غلامي لك، ولا مسلمي لك، وزعم الخليل -رحمه الله- أن النون إنما ذهبت للإضافة، ولذلك ألحقت الألف التي لا تكون إلا في الإضافة، وإنما كان ذلك من قِبل أن العرب قد تقول: لا أباك في معنى لا أبا لك، فعلموا أنهم لو لم يجيئوا باللام؛ لكان التنوين ساقطًا كسقوطه في لا مثل زيد، فلما جاءوا بلام الإضافة تركوا الاسم على حاله قبل أن تجيء اللام؛ إذ كان المعنى واحدًا، وصارت اللام بمنزلة الاسم الذي ثُنِّي به في النداء، ولم يغيروا الأول عن حاله قبل أن تجيء به، وذلك قولك: يا تيم تيم عدي. وبمنزلة الهاء إذا لحقت طلحة في النداء لم يغيروا آخر طلحة عما كان عليه قبل أن تلحقه، وذلك قولهم: كِليني لهمٍّ يا أميمة ناصب ... .... ..... ....... .......

ومثل هذا الكلام قول الشاعر إذا اضطر النابغة: .... ..... ....... ....... ... يا بؤس للجهل ضرارًا لأقوام حملوه على أن اللام لو لم تجئ لقلت: يا بؤس الجهل"، انتهى. وبيان ذلك أنه إذا وقع بعد الاسم المفرد المنفي بلا النافية للجنس، إذا وقع بعده اسم مجرور باللام، فالأصل والقياس أن يكون الاسم مبنيًّا مركبًا مع لا وأن يكون الجار والمجرور بعدهما في موضع النعت للاسم، أو في موضع الخبر كما قال السيرافي فيقال: لا غلام لك، ولا أبا لزيد، ولا أخ لعمرو، إلى آخره، كما قال نهار بن توسعة اليشكري: أبي الإسلام لا أب لي سواه ... إذا افتخروا بقيس أو تميم وكما قال الآخر: هذا لعمركم الصغار بعينه ... لا أم لي إن كان ذاك ولا أب غير أن العرب قالوا: لا أبا لك ولا غلامَي لك، ولا مسلمي لك، مخالفين بذلك الأصل والقياس، وقد اختلف النحاة في توجيه هذه الأساليب الخالية عن القياس على ثلاثة مذاهب، والذي يعنينا من هذه المذاهب هنا مذهب الخليل وسيبويه والجمهور، وهو أن اسم "لا" في العبارات المذكورة ونحوها مضاف إلى المجرور باللام، فهو معرب منصوب، أما اللام الواقعة بين المتضايفين فهي زائدة مقحمة بين المضاف والمضاف إليه لأمرين؛ الأمر الأول: لتأكيد الإضافة، إذ الإضافة في هذه العبارات ونحوها على معنى اللام، فاللام الظاهرة تأكيد للام المقدرة التي الإضافة بمعناها، كتيم الثاني في قولهم: يا تيم تيم عدي. والأمر الثاني: للفصل بين المتضايفين لفظًا حتى يصير المضاف كأنه ليس بمضاف، فلا يستنكر لفظه، وهم قد قصدوا نصب هذا المضاف المعرف بلا من غير تكرير لا تخفيفًا، وحق

المعارف المنفية بلا الرفع مع تكرير لا. والدليل على قصدهم هذا الغرض أنهم لا يعاملون المنفي المضاف إلى النكرة هذه المعاملة، فلا يقولون مثلًا: لا أبا لرجل حاله كذا، ولا غلامي لشخص نعته كذا. ونلحظ من النص السابق أن الخليل وسيبويه -رحمهما الله- قد عللا ذهاب النون في المثنى والجمع الذي على حده في الأساليب المذكورة ونحوها، ولحاق الألف في الأسماء الستة فيها بالإضافة، كما عللا كون اللام فيها زائدة مقحمة بأن العرب قد تقول في الشعر للضرورة: لا أباك في معنى لا أبا لك أي كقول مسكين الدارمي: وقد مات شماخ ومات مزرد ... وأي كريم لا أباك يخلد كما أبرزا -أي: الخليل وسيبويه- اسم لا في التراكيب المذكورة في صورة غير المعرف بالإضافة، وذلك بالتنظير بقولك: لا مثل زيد، ومن المعلوم أن إضافة مثل إلى المعرف لا تفيد تعريفه، كما نظرا كذلك لإقحام اللام بين المتضايفين من غير أن تُحدث تغييرًا في إعراب الاسم المنفي المضاف إلى ما بعدها بثلاثة أمور، كلها سُمعت عن العرب في أسلوب النداء، وهي؛ أولًا: قول العرب: يا تيم تيم عدي بفتح الأول، فمذهب سيبويه أنه منادى معرب منصوب؛ لأنه مضاف إلى ما بعد الثاني أي: أنه مضاف إلى عدي، ففتحته فتحة إعراب. أما الثاني: المتوسط بينهما فهو مقحم بينهما بين المتضايفين، وعومل في منع التنوين معاملة الأول. الأمر الثاني: قول العرب: يا طلحة أقبل. المنادى هنا مفرد معرفة، لكنه -كما ذكر سيبويه والخليل- بتقدير حذف التاء التي كان ينتهي بها هذا الاسم المنادى للترخيم على لغة من ينتظر، فصار المنادى يا طلح بالحاء فقط، بفتح الحاء كما

كانت قبل حذف التاء؛ لأنه على لغة من ينتظر المحذوف، ثم إقحام التاء المذكورة وترك الاسم على حاله، التي كان عليها قبل الإقحام، فالتاء المذكورة في قولهم: يا طلحة هي مقدر إقحامها بين الحاء وبين التاء الأصلية التي حذفت للترخيم. والأمر الثالث: قول النابغة الذبياني: كليني لهمٍّ يا أميمة ناصب ... وليل أقاسيه بطيء الكواكب وقد فعل الشاعر بأميمة ما فعلوا بطلحة من الترخيم والإقحام، الترخيم بحذف التاء الأصلية، وإقحام هذه التاء المذكورة مقدرًا توسطها بين الميم وبين التاء الأصلية. والمثال الرابع: في باب الجزاء يقول سيبويه: "وزعم الخليل أن إنْ هي أم حروف الجزاء، فسألته: لم قلت ذلك؟ فقال: من قبل -يعني: من جهة- أني أرى حروف الجزاء قد يتصرفن، فيكن استفهامًا، ومنها ما يفارقه ما؛ فلا يكون فيه الجزاء، وهذه -وهي إن- على حال واحدة أبدًا لا تفارق المجازاة" انتهى. يذكر الخليل لتلميذه سيبويه أن إن هي أم حروف الجزاء، فيسأله عن علة ذلك، لم كانت إن أم حروف الجزاء؟ فيبادره بذكر العلة، وهي أنها دون سائر ما يجازى به تدخل على الجزاء في جميع وجوهه، وليست كذلك سائر ما يجازى به، أي: لأن مَن الأصل أن يُجازى بها فيمن يعقل، وما ومهما فيما لا يعقل، وأيًّا فيما له أجزاء، ومتى وأيان للزمان، وأين وأن وحيثما للمكان، وإذن يتكلم بها القليل منهم، وما كل العرب تعرفها كما قال السيرافي. كما أن إن قد اتفق النحاة على أنها حرف وُضع للدلالة على مجرد التعليق أي: تعليق وقوع الجواب على وقوع الشرط، كما اتفقوا على أن مَن وما ومتى وأيًّا وأيان وأين وحيثما أسماء، تضمنت معنى الشرط، واختلفوا في إذما ومهما، أما إذما فهي حرف عند سيبويه

بمنزلة إن، وأما مهما فهي اسم على الأصح بمعنى ما؛ خلافًا للسهيلي الذي زعم أنها تأتي حرفًا. فالخلاصة: أن إن هي حرف عند الجميع، والتعليق معنى، والأصل في المعاني أن تؤدى بالحروف، لكل ذلك كانت إن أم أدوات الشرط والجزاء. ولعلك تلحظ أن الأحكام النحوية وعللها قد امتزجت في (الكتاب) وتلاحمت عند الخليل وسيبويه، فلا تكاد تفرق بين الخليل وشيخه فيها، وكأن سيبويه يرى أنه وشيخه بمنزلة علم واحد، وكأنه ذاب في شيخه، أو ذاب فيه شيخه، فإن عرفت صاحب الحكم فلا تعرف من صاحب العلة، اللهم إلا إذا كان لسيبويه رأي آخر، ومن ذلك مثلًا ما ورد في (الكتاب) في باب عنوانه: باب آخر من أبواب أن، يقول سيبويه في هذا الباب: "وسألت الخليل عن قوله جل ذكره: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} (المؤمنون: 52) بفتح الهمزة في قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو، فقال: إنما هو على حذف اللام، كأنه قال: ولأن هذه أمتكم أمة واحدة، وأنا ربكم فاتقون، وقال: ونظيرها {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} (قريش: 1)؛ لأنه إنما هو لذلك فليعبدوا، فإن حذفت اللام من أن فهو نصب، كما أنك لو حذفت اللام من {لِإِيلَافِ} كان نصبًا". ثم قال: "ولو قال إنسان: إن أن في موضع جر في هذه الأشياء، ولكنه حرف كثر استعماله في كلامهم؛ فجاز فيه حذف الجار كما حذفوا رب في قولهم: وبلد تحسبه مكسوحًا، لكان قولًا قويًّا، وله نظائر نحو قوله: لاه أبوك، والأول قول الخليل" انتهى. يشير هذا النص إلى رأي كل من الخليل وسيبويه في موقع المصدر المؤول الذي يُحذف منه الجار قياسًا مطردًا، ما موقعه بعد حذف الجار، فالخليل يرى أنه في

العلة النحوية في القرن الثالث الهجري.

موضع نصب على نزع الخافض، وسيبويه أجاز هذا، كما أجاز أن يكون في موضع جر معللًا ذلك بأن هذا الموضع كثر استعماله، فجاز فيه حذف الجار قياسًا على حذف رُب، واعتمادًا على نظائره من نحو قولهم: لاه أبوك، والأصل لله أبوك. وقد نبه سيبويه على أن هذا الرأي الأول إنما هو لشيخه الخليل. العلة النحوية في القرن الثالث الهجري مع بداية القرن الثالث الهجري ظهرت عند بعض النحويين فكرة تخصيص العلة النحوية بمؤلفات خاصة بها، مقصورة عليها، فألف تلميذ سيبويه أبو علي محمد بن المستنير الذي أطلق عليه شيخه سيبويه لقب قطرب، والمتوفى سنة ست ومائتين من الهجرة، ألف كتاب (العلل في النحو) كما ألف أبو عثمان المازني المتوفى سنة تسع وأربعين ومائتين من الهجرة على الراجح، ألف في علل النحو أيضًا كتابًا، ثم ظهر من وجّه عناية فائقة بالتعليل، وكان من أعمدة المدرسة البصرية، وهو محمد بن يزيد المعروف بالمبرد المتوفى سنة خمس وثمانين ومائتين. وقال عنه ابن جني: "يُعدُّ جيلًا في العلم، وإليه أفضت مقالات أصحابنا أي: البصريين، وهو الذي نقلها، وقررها، وأجرى الفروع، والعلل، والمقاييس عليها" انتهى. وقال عنه الأزهري في مقدمة (تهذيب اللغة): "كان أعلم الناس بمذاهب البصريين في النحو ومقاييسه"، وقال عنه صاحب (المدارس النحوية): وكان يحتكم دائمًا إلى القياس ولكنه لم يكن يقدمه على السماع عن العرب، بحيث يرفض ما ورد على ألسنتهم، أو قل، أو كثر على ألسنتهم؛ فقد كان يرد ما يخالف الكثرة الكثيرة الدائرة في أفواههم، ولكن حين لا توجد هذه الكثرة كان يُفسح للقياس، وكذلك كان يفسح له حين يشيع استعمال بين العرب، وليس

معنى ذلك أنه كان يقيس على الشاذِّ والنادر؛ إنما كان يقيس على ما سمع كثيرًا قائلًا: إذا جعلت النوادر والشواذ غرضك، واعتمدت عليها في مقاييسك كثرت زلاتك"، انتهى. وإليك طرفًا من تعليلاته التي حفل بها كتابه (المقتضب): أولًا: في أول الجزء الثاني من (المقتضب): هذا باب إعراب الأفعال المضارعة، وكيف صار الإعراب فيها دون سائر الأفعال، يعلل لإعراب الفعل المضارع دون سائر الأفعال، فيذكر أن الأفعال إنما دخلها الإعراب لمضارعتها الأسماء، ولولا ذلك لم يجب أن يُعرب منها شيء، وذلك أن الأسماء هي المعربة، وإنما دار على الأسماء من الأفعال ما دخلت عليه زائدة من الزوائد الأربع، يريد ما بُدئ بحرف من أحرف المضارعة الأربعة، ويصلح لوقتين يعني: للحال وللاستقبال، ويعلل للمضارعة بقوله: "وإنما قيل لها مضارعة، لأنها تقع مواقع الأسماء في المعنى ... " إلى آخره. ثانيًا: في باب إضافة العدد واختلاف النحويين فيه، يبطل مذهب القائلين بتعريف العدد بإدخال الألف واللام على غير ما ذهب إليه البصريون، سواء أكان العدد مضافًا أم مركبًا، وهو أحد عشر وتسعة عشر وما بينهما، أم لفظًا من ألفاظ العقود. قال: "اعلم أن قومًا يقولون: أخذت الثلاثة الدراهم يا فتى، وأخذت الخمسة عشرة درهم، وبعضهم يقول: أخذت الخمسة العشرة درهم، وأخذت العشرين الدرهم التي تعرف. وهذا كله خطأ فاحش، وعلة من يقول هذا الاعتلال بالرواية، يريد بالنقل عن العرب، لا أنه يصيب له في قياس العربية نظيرًا. وإنما يبطل هذا القول أن الرواية عن العرب الفصحاء خلافه، فرواية برواية، والقياس حاكم بعدُ، أنه لا يضاف ما فيه الألف واللام من غير الأسماء المشتقة من الأفعال، يريد أن ألا تدخل على المضاف في غير الإضافة غير المحضة،

وفي المواضع التي نبَّه عليها النحاة قال: لا يجوز أن تقول: جاءني الغلام زيد؛ لأن الغلام معرف بالإضافة، وكذلك لا تقول: هذه الدار عبد الله ولا أخذت الثوب زيد. وأما قولهم: الخمسة العشر فيستحيل من غير هذا الوجه، يريد لعلة أخرى، ويبين هذه العلة بقوله: لأن خمسة عشر بمنزلة حضرموت، وبعلبك، وقالقلا، وعيدسبا، وما أشبه ذلك من الاسمين اللذين يجعلان اسمًا واحدًا، فإذا كان شيء من ذلك، فإن تعريفه أن يجعل الألف واللام في أوله. وأما العشرون الدرهم فيستحيل من وجه ثالث ... " إلى آخره. والمثال الثالث: في باب ما يُعرب من الأسماء وما يبنى يقول: "اعلم أن حق الأسماء أن تُعرب جُمع وتُصرف، فما امتنع منها من الصرف فلمضارعته الأفعال؛ لأن الصرف إنما هو تنوين، والأفعال لا تنوين فيها ولا خفض، فمن ثم لا يُخفض ما لا ينصرف إلا أن تضيفه أو تدخل عليه ألفًا ولامًا، فتذهب بذلك عنه شبه الأفعال، فترُدَّه إلى أصله؛ لأن الذي كان يوجب فيه ترك الصرف قد زال. وكل ما لا يُعرب من الأسماء فمضارع به الحروف، لأنه لا إعراب فيها" انتهى. وكان المبرد صاحب شخصية علمية مستقلة، فرأيناه يبدي الرأي، ويصدر الحكم، ويثبت التعليل وإن خالف إمام النحاة سيبويه، ومن ذلك أن سيبويه ذكر في (الكتاب) أن الخليل رحمه الله قال: "اللهم نداء، والميم ها هنا بدل من يا، فهي ها هنا فيما زعم الخليل بمنزلة يا في أولها، إلا أن الميم ها هنا في الكلمة كما أن نون المسلمين في الكلمة بُنيت عليها، فالميم في هذا الاسم حرفان أولهما مجزوم أي: ساكن، والهاء مرتفعة؛ لأنه وقع عليها الإعراب، وإذا ألحقت الميم -يعني: بأن قلت: اللهم- لم تصف الاسم من قِبل أنه صار مع الميم عندهم بمنزلة

صوت كقولك -يعني لمن جُهل اسمه: يا هناه، يريد أن الميم صوت ليس باسم ولا فعل ولا حرف يدور في المواقع، كما هو الشأن في الحروف، وإنما هو صوت اتصل بالآخر، فالأصوات لا توصف. وأما قوله عز وجل: {اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (الزمر: 46) فعلى يا" انتهى. وهكذا رأى سيبويه أن لفظ {فَاطِرَ} في الآية الكريمة منادى بحرف نداء محذوف، ولا يجوز أن يكون وصفًا للفظ الجلالة على المحل، وخالف في ذلك المبرد، فقال في (المقتضب) في باب الحروف التي تنبه بها المدعو: "ولا يجوز عنده -أي: عند سيبويه- وصفه، ولا أراه كما قال: لأنها -أي: الميم المشددة- إذا كانت بدلًا من يا، فكأنك قلت: يا الله، ثم تصفه كما تصفه في هذا الموضع فمن ذلك قوله: {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} وكان سيبويه يزعم أنه نداء آخر، كأنه قال: يا فاطر السموات والأرض" انتهى. ومن ذلك أيضًا في (الكتاب) قال سيبويه: "وتقول: هذا رجل وامرأته منطلقان، وهذا عبد الله وذاك أخوك الصالحان؛ لأنهما ارتفعا من وجه واحد، وهما اسمان بُنيا على مبتدأين، وانطلق عبد الله ومضى أخوك الصالحان؛ لأنهما ارتفعا بفعلين، وذهب أخوك وقدم عمرو الرجلان الحليمان" انتهى. وخالفه المبرد فقال في (المقتضب) في باب اشتراك المعرفة والنكرة: "وكان سيبويه يجيز جاء عبد الله وذهب زيد العاقلان على النعت؛ لأنهما ارتفعا بالفعل، فيقول: رفعهما من جهة واحدة، وكذلك هذا زيد وذاك عبد الله العاقلان؛ لأنهما خبر ابتداء، وليس القول عندي كما قال؛ لأن النعت إنما يرتفع بما يرتفع به المنعوت، فإذا قلت: جاء زيد وذهب عمرو العاقلان؛ لم يجز أن يرتفع بفعلين، فإن رفعتهما بجاء وحدها، فهو محال؛ لأن عبد الله إنما يرتفع بذهب، وكذلك لو رفعتهما بذهب لم يكن لزيد فيها نصيب".

أثر علوم المنطق والكلام والشريعة في العلة النحوية.

أثر علوم المنطق والكلام والشريعة في العلة النحوية في كتاب (النحو العربي) قال الدكتور مازن المبارك: "وأما العلة في القرن الرابع فلا بد قبل الخوض فيها في الحديث عنها من وقفة قصيرة نتناول الحديث فيها عن المنطق والفقه والكلام، وصلتها بالنحو العربي، وذلك لأن العلة في القرن الرابع وما بعده كانت خاضعة لتأثير تلك العلوم، منطبعة بكثير من خصائصها"، انتهى. واحتذاء بهذا المنهج العلمي السليم وسيرًا على دربه، نوجز أثر العلوم المذكورة في النحو العربي بعامة، وفي التعليل النحوي بخاصة فنقول: قال الزجاج: "لما قدم المبرد بغداد جئت لأناظره، وكنت أقرأ على أبي العباس، فعزمت على إعناته أي: إيقاعه في شدة، فلما فاتحته ألجمني الحجة بالحجة، وطالبني بالعلة، وألزمني إلزامات لم أهتدِ إليها". يعلق الدكتور مازن المبارك على حديث الزجاج فيقول: "وهكذا إذن لم يبلغ القرن الثالث نهايته حتى كانت علل النحو موضوعا ذا قيمة، ترمقه أنظار النحاة، ويكتبون فيه، ويتخذون منه وسيلة امتحان واختبار، وقد أجمع العلماء الذين تناولوا ظاهرة التعليل النحوي نشأة وتطورًا، على أن العلة النحوية باعتبارها جزءًا أساسيًّا من النحو، كانت في القرن الرابع وما بعده خاضعة لتأثير علوم المنطق والشريعة والكلام؛ لخضوع علم النحو لهذه العلوم وتأثره". فأما المنطق فهو العلم الذي يبحث في صحيح الفكر وفاسده، وهو الذي يضع القوانين التي تعصم الذهن من الوقوع في الخطأ في الأحكام، فموضوعه هو الفكر الإنساني من ناحية خاصة هي ناحية صحته وفساده، ويتم له ذلك عن طريق البحث في القوانين العقلية العامة، التي يتبعها العقل الإنساني في تفكيره،

فما كان من التفكير موافقًا لهذه القوانين كان صحيحًا، وما كان مخالفًا لها كان فاسدًا. وهو من علوم اليونان والراجح أن تأثير المنطق في النحو العربي وغيره من علوم اللسان، بدأ مع ظهور ترجمة بعض كتب اليونان التي شاع فيها المنطق، عندما دعا الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور -المتوفى سنة ثمان وخمسين بعد المائة من الهجرة- عبد الله بن المقفع المتوفى في الثانية والأربعين بعد المائة من الهجرة؛ ليترجم هذه الكتب، بيد أن هذا التأثير بدا في بعض المؤلفات النحوية في أواخر القرن الثاني، وفي القرن الثالث الهجريين كما تقدم، ولكنه كان ضئيلًا ومحدودًا وبعيدًا عن الإيغال، ولكنه ظهر واضحًا في القرن الرابع الهجري وما بعده، بحيث لا يوجد مجال لإنكار تأثيره في المباحث النحوية، وبخاصة العلة النحوية. وقد ظهر تأثير المنطق في الدرس النحوي بصورة واضحة في استعمال النحويين للتعريفات، أو الحدود، والعوامل، والأقيسة، والعلل، وبعض المصطلحات المنطقية كالجنس، والفصل، والخاصة، والماهية، والماصدق، والعهد، والاستغراق، والعموم، والخصوص، المطلق، والعموم والخصوص الوجهي، والموضوع والمحمول، واللازم والملزوم، إلى آخر هذه المباحث المنطقية. وقد أدى نشوء الاعتزال واعتماد المعتزلة على العقل، وتقديمهم له، وإفساحهم المجال أمامه إلى آخر الحدود إلى تأثر النحويين البصريين خاصة؛ إذ نشأ بين ظهرانيهم في البصرة، فانصرف نحاة البصرة إلى تحكيم المقولات العقلية في دراساتهم النحوية من وجوه كثيرة، حتى وجدنا طابعها سائدًا في أساليب حجاجهم، وطرق جدالهم، وفي مناهجهم، وقواعدهم، ومصطلحاتهم.

وقد قال أبو البركات الأنباري في مقدمة كتابه (الإغراب في جدل الإعراب): "وبعد فإن جماعة من الأصحاب اقتضوني بعد تلخيص كتاب (الإنصاف في مسائل الخلاف) تلخيص كتاب في جدل الإعراب معرى عن الإسهاب، مجرد عن الإطناب؛ ليكون أول مصنف لهذه الصناعة في قوانين الجدل والآداب، ليسلكوا به عند المجادلة والمحاولة والمناظرة سبيل الحق والصواب، ويتأدبوا به عند المحاورة والمذاكرة عن المناكرة والمضاجرة في الخطاب، فأجبتهم على وفق طلبتهم؛ طلبًا للثواب، وفصلته اثني عشر فصلًا على غاية من الاختصار تقريبًا على الطلاب، فالله تعالى ينفع به إنه كريم وهاب" انتهى. وعلى النحو الذي حدث في علم الكلام وعلم النحو اقتحم علم المنطق علوم الشريعة، فلم تكن هذه العلوم بمعزل عنه، أو بمنأى عن تأثيراته، فأصابها ما أصاب غيرها من هذه التأثيرات، ولما كان علماء الشريعة من المهتمين بعلم النحو باعتباره أداة الدرس الأولى في هذه العلوم؛ كان لا بد أن يتداخل تأثير هذه العلوم في علم النحو، وتأثير علم النحو في هذه العلوم، يقول أبو البركات الأنباري: "علوم الأدب ثمانية: اللغة، والنحو، والتصريف، والعروض، والقوافي، وصنعة الشعر، وأخبار العرب وأنسابهم، وألحقنا بالعلوم الثمانية علمين وضعناهما، علم الجدل في النحو، وعلم أصول النحو، فيعرف به القياس، وتركيبه، وأقسامه من قياس العلة، وقياس الشبه وقياس الطرد إلى غير ذلك على حد أصول الفقه، فإن بينهما من المناسبة ما لا خفاء به؛ لأن النحو معقول من منقول، كما أن الفقه معقول من منقول" انتهى. ويقول السيوطي في (الاقتراح): "ورتبته على نحو ترتيب أصول الفقه في الأبواب والفصول والتراجم". ويقول الأستاذ سعيد الأفغاني: "فلما ذهبت

دولة المعتزلة غلبت دولة المحافظين في اللغة كما هو الشأن في كل علم، إذا عرفت ذلك كله أدركت الأثر البعيد الذي للعلوم الدينية في نشأة العلوم اللسانية، هذا في القياس خاصة، وقد علمت أن علماء العربية احتذوا طريق المحدِّثين من حيث العناية بالسند ورجاله، وتجريحهم، وتعديلهم، وطرق تحمل اللغة؛ فكانت لهم نصوصهم اللغوية كما كان لهؤلاء أو لأولئك نصوصهم الحديثية، ولهم طبقات الرواة كما لأولئك، ثم احتذوا المتكلمين في تطعيم نحوهم بالفلسفة والتعليل، ثم حاكوا الفقهاء أخيرًا في وضعهم أصولًا تشبه أصول الفقه، وتكلموا في الاجتهاد فيه، كما تكلم الفقهاء، وكان لهم طرازهم في بناء القواعد على السماع والقياس والإجماع، كما بنى الفقهاء استنباط أحكامهم على السماع والقياس والإجماع، وذلك تأثر واضح من آثار العلوم الدينية في علوم اللغة" انتهى. هذا وبالله التوفيق وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 3 العلة في القرن الرابع الهجري وأبرز النحاة الذين كان لهم الفضل في ذلك.

الدرس: 3 العلة في القرن الرابع الهجري وأبرز النحاة الذين كان لهم الفضل في ذلك.

ظهور تطور العلة النحوية في القرن الرابع الهجري.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثالث (العلة في القرن الرابع الهجري وأبرز النحاة الذين كان لهم الفضل في ذلك) ظهور تطور العلة النحوية في القرن الرابع الهجري الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: تجلى تأثير العلوم التي أشرنا إليها في الدرس السابق، وفي مقدمتها علم المنطق في إحداث مزيد من العناية والاهتمام بأمر العلة النحوية في القرن الرابع الهجري، فأصبحت صناعة العربية كأنها من جملة قوانين المنطق العقلية أو الجدل، وبعدت عن مناحي اللسان وملكته، كما قال ابن خلدون، وظهرت في مصنفات النحويين العناية الشديدة بالحدود النحوية وغرائب القياس، ودقائق العلل، واستحداث وسائل جديدة للنظر والتعليل، وذلك باستعمال المقدمات الصورية؛ لترسيخ التعليل في النحو العربي. ويرى بعض الباحثين -كالدكتور مازن المبارك في كتابه (الرُّماني النحوي) - أن إغراق الرماني في المنطق جعل النحاة يعرضون عن نحوه، ويصدون عنه. والدكتور عبد الكريم الأسعد في كتابه الذي عنونه بقوله (بين النحو والمنطق وعلوم الشريعة) رأى أن المنطق قد أساء للنحو العربي، وحوله إلى فلسفة لغوية غامضة بعيدة عن حقيقة النحو، وجعله أكثر تعقيدًا، وأشد بعدًا عن الفطرة والبساطة حتى قال أعرابي: ما زال أخذهم في النحو يعجبني ... حتى سمعت كلام الزنج والروم بمفعل فعل لا طاب من كلم ... كأنه زجل الغربان والبوم وقال غيره: نحو العرب فطرة، ونحونا فطنة، فلو كان إلى الكمال من سبيل؛ لكانت فطرتهم لنا مع فطنتنا، أو كانت فطنتنا لهم مع فطرتهم. لقد استقر النحو في القرون الأولى على أيدي النحاة القدامى على قاعدة السماع الصافي في زمن

الاحتجاج، وبني على القرآن الكريم وقراءاته، وعلى الحديث الشريف على ما في الاحتجاج بألفاظه من خلاف في وجهات النظر، فصفا بهذا الأصل الأول من أصول النحو، وانتفت من أسسه شوائب العجمة واللحن، وخلص للنقل المجرد من الفلسفة والمنطق؛ بيد أن الأمر لم يستمر على هذا المنوال، إذ استُحدثت بعض الأصول والأسس إلى جانب السماع، وأخذت جميعًا تتأثر شيئًا فشيئًا بالمنطق ونحوه، وبلغ هذا التأثر الذروة في القرن الرابع الهجري، وعمَّ في القرون التي تلته. ويقول صاحب (النحو العربي): "كانت العناية بأمر العلة والاهتمام بها تزداد كلما تقدم الزمن بالنحويين، فبعد أن رأينا التعليل يلقى به موجزًا بعقب الحكم النحوي رأيناه يُفرد بالتأليف ويخص بالكتب"، ونراه هنا في القرن الرابع ينال عناية أوفر، ويستنفذ جهدًا أكبر فتكثر فيه المؤلفات، ويدخله كثير من التطور". ثم يذكر بعض المؤلفات في العلة في القرن الرابع مرتبة بحسب تاريخ وفيات مؤلفيها وهي كتاب (علل النحو)، وكتاب (نقد علل النحو)، وهما للحسن بن عبد الله المعروف بلكذة بضم اللام وسكون الكاف وفتح الذال المعجمة، أو لغدة بالغين المعجمة الأصبهاني، وكان معاصرًا لأبي إسحاق الزجاج المتوفى سنة إحدى عشرة وثلاثمائة من الهجرة، وكتاب (العلل في النحو) لهارون بن الحائك الضرير النحوي، وهو أحد أعيان أصحاب ثعلب، ومن معاصري الزجاج، وكتاب (المختار في علل النحو) لمحمد بن أحمد بن كيسان المتوفى سنة عشرين وثلاثمائة من الهجرة، وهو على ما ذكروا كتاب ضخم مؤلف من مجلدات ثلاثة، أو أكثر، وكتاب (الإيضاح في علل النحو) لأبي القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي، المتوفى سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة من الهجرة. وكتاب (النحو المجموع على العلل) لمحمد بن علي العسكري المعروف بمبرمان أستاذ السيرافي والفارسي، والمتوفى سنة خمس وأربعين وثلاثمائة من الهجرة،

أبرز العلماء المهتمين بالعلة النحوية في القرن الرابع الهجري.

وكتاب (علل النحو) لأبي الحسن محمد بن عبد الله، المعروف بابن الوراق، والمتوفى سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة من الهجرة، وكتاب (شرح علل النحو) لأبي العباس أحمد بن محمد المهلبي من أعلام القرن الرابع الهجري، وكان معاصرًا لعلي بن أحمد المهلبي المتوفى سنة خمس وثمانين وثلاثمائة من الهجرة، وكتاب (تقسيمات العوامل وعللها) لأبي القاسم سعيد بن سعيد الفارقي، المتوفى سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة من الهجرة على أن أكثر هذه الكتب لم يصل إلينا. ويتابع الدكتور مازن المبارك حديثه عن تطور العلة النحوية بعد القرن الرابع الهجري، ذاكرًا أنه لم يأتِ بعد القرن الرابع الهجري من زاد في العربية شيئًا على أهل هذا القرن، وأن ما ظهر بعد ذلك من كتب ومؤلفات في هذه العلوم لا يعدو أن يكون شرحًا أو تفصيلًا لها، أو اختصارًا وتهذيبًا، أو استدراكًا وتعليقًا عليها. لم يشذ عن ذلك إلا من تفرَّد برأي أو منهج كابن هشام الأنصاري صاحب (مغني اللبيب)، ثم أشار إلى بعض من تتابعوا على مر القرون ممن ضربوا في العلة النحوية بسهمٍ وافر. أبرز العلماء المهتمين بالعلة النحوية في القرن الرابع الهجري إن أبرز العلماء الذين اهتموا بالعلة النحوية في القرن الرابع وما تلاه من قرون لا يكاد يحصرهم عدٌّ، بيد أننا سنقصر حديثنا على سبعة من كبار علماء هذا القرن، وهم بحسب ترتيب وفياتهم: الزجاج، وابن السراج، والزجاجي، والسيرافي، والفارسي، والرماني، وابن جني. أما الزجاج: فهو أبو إسحاق إبراهيم بن السري بن سهل، ولقب بالزجاج لأنه كان يخرط الزجاج في حداثته، وهو من علماء بغداد الذين غلبت عليهم النزعة

البصرية، وتوفي ببغداد في العام العاشر بعد الثلاثمائة من الهجرة، وكان يُعنى بالتعليل عناية فائقة، كانت محل إعجاب العلماء من بعده ومن تعليلاته: أولًا: ما ذكره تلميذه أبو القاسم الزجاجي في كتابه الموسوم بـ (الإيضاح في علل النحو) في باب القول في الفعل والمصدر، أيهما مأخوذ من صاحبه، فقد حكى عنه انتصاره لمذهب البصريين فقال بعد عرضه عددًا من الأدلة التي تشهد للبصريين قال الزجاجي: "دليل آخر للبصريين، كان شيخنا الزجاج -رحمه الله- يستدل به قال -أي: الزجاج: لو كان المصدر بعد الفعل وكان مأخوذًا من الفعل؛ لوجب أن يكون لكل مصدر فعل قد أُخذ منه أي: قد أخذ هذا المصدر من ذلك الفعل، لا محيص عن ذلك ولا مهرب منه، فلما رأينا في كلام العرب مصادر كثيرة لا أفعال لها البتة مثل: العبودية، والرجولية، والبنوة، والأمومة، والأموة، وما أشبه ذلك مما يطول تعداده من المصادر التي لم تؤخذ من الأفعال، ورأينا في كلامها أيضًا مصادر جارية على غير ألفاظ أفعالها نحو: الكرامة، والعطاء، وما أشبه ذلك؛ علمنا أنه ليست الأفعال أصولًا للمصادر يعني: كما قال الكوفيون؛ إذ كانت المصادر توجد بغير أفعال، وعلمنا أن المصادر هي الأصول؛ فمنها ما أُخذ منه فعل، ومنها ما لم يُؤخذ منه فعل، وهذا بين واضح" انتهى. ثانيًا: ما أورده ابن جني في (الخصائص) عن الزجاج من تعليله لرفع الفاعل ونصب المفعول قال: "قال أبو إسحاق -أي: الزجاج- في رفع الفاعل ونصب المفعول: إنما فعل ذلك للفرق بينهما، ثم سأل نفسه فقال: فإن قيل: فهلَّا عُكست الحال فكانت فرقًا أيضًا، يعني: هلَّا رفع المفعول ونصب الفاعل فكان الرفع هنا والنصب هناك فرقًا بين الفاعل والمفعول، قيل -يعني: في الجواب:

الذي فعلوه أحزم أي: أشد حزمًا، وذلك أن الفعل لا يكون له أكثر من فاعل واحد، وقد يكون له مفعولات كثيرة فرُفع الفاعل لقلته، ونصب المفعول لكثرته، وذلك ليقل في كلامهم ما يستثقلون، ويكثر في كلامهم ما يستخفون" انتهى. وأما ابن السراج فهو أبو بكر محمد بن السري النحوي البغدادي، الذي غلبت عليه النزعة البصرية، والمتوفى في العام السادس عشر بعد الثلاثمائة من الهجرة، كان من أحدث تلاميذ المبرد سنًّا، ولكنه كان شديد الذكاء حاد الذهن، قال عنه (صاحب المدارس النحوية): "وكان يعنى عناية واسعة بعلل النحو ومقاييسه، وفيهما صنف كتاب (الأصول الكبير) يعني به كتاب (الأصول في النحو)، انتزعه من كتاب سيبويه وأضاف إليه إضافات بارعة، ويقال: إنه جعله تقاسيم على طريقة المناطقة، ولم يكتفِ فيه بآراء سيبويه، فقد ضمَّ إليه كثيرًا من آراء الأخفش الأوسط والكوفيين موازنًا ومقارنًا" انتهى. وقد سبق قول ابن السراج: "واعتلالات النحويين على ضربين: ضرب منها هو المؤدي إلى كلام العرب كقولنا: كل فاعل مرفوع، وضرب آخر يسمى علة العلة مثل أن يقولوا لم صار الفاعل مرفوعًا، والمفعول به منصوبًا ... " إلى آخر ما قال، ونورد هنا مثالين من تعليلاته. المثال الأول: يدلل على فعلية ليس مع عدم تصرفها تصرف الأفعال يعني: لأنه لا يأتي منها مثلًا المضارع والأمر واسم الفاعل، وبقية المشتقات، يقول في كتابه (الأصول في النحو): "فأما ليس فالدليل على أنها فعل، وإن كانت لا تتصرف تصرف الأفعال قولك: لست كما تقول: ضربت، ولستما كضربتما، ولسنا كضربنا، ولسن كضربن، ولستن كضربتن، وليسوا كضربوا، وليست أمة الله

ذاهبة كقولك: ضربت أمة الله زيدًا"، يعني يقول: إن الدليل على فعلية ليس أنها تسند إلى الضمائر على حد إسناد بقية الأفعال إلى الضمائر، كما تتصل بها نون التوكيد، وتتصل بها نون النسوة، وتتصل بها أيضًا تاء التأنيث الساكنة، قال: "وإنما امتنعت من التصرف؛ لأنك إذا قلت: كان دللت على مضى، وإذا قلت: يكون دللت على ما هو فيه وعلى ما لم يقع أي: على الحال وعلى الاستقبال، وإذا قلت: ليس زيد قائمًا الآن أو غدًا أدَّت ذلك المعنى الذي في يكون، فلما كانت تدل على ما يدل عليه المضارع؛ استغني عن المضارع فيها، ولذلك لم تبنَ بناء الأفعال التي هي من بنات الياء مثل باع وبات" انتهى. والمثال الثاني: قاله الزجاجي في (الإيضاح في علل النحو) في الأدلة التي ذكرها للانتصار للبصريين في قضية أيهما الأصل في الاشتقاق الفعل أم المصدر، قال الزجاجي: "دليل آخر للبصريين كان أبو بكر بن السراج يستدل به قال: لو كانت المصادر مأخوذة من الأفعال جارية عليها؛ لوجب ألا تختلف كما لا تختلف أسماء الفاعلين والمفعولين الجارية على أفعال نحو: ضارب ومضروب، وشاتم ومشتوم، ومكرم ومكرم، وما أشبه ذلك مما لا ينكسر، ورأينا المصادر مختلفها أكثر مما جاء منها على الفعل كقولنا: شُربًا وشَربًا ومَشْربًا وشَرَابًا، وعدل عن الحق عدْلًا وعُدُولًا وما أشبه ذلك، علمنا أنها غير جارية على الأفعال، وأن الأفعال ليست بأصولها" انتهى. وأما الزجاجي فهو أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق من نهاوند، قدم بغداد وسمع من ابن السراج والأخفش، ولازم الزجاج فنُسب إليه، وسكن بدمشق، وانتفع الناس بعلمه حتى توفي سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة هجرية بدمشق، ومما قاله فيه الدكتور شوقي ضيف في مقدمة الكتاب الذي ألفه أبو القاسم الزجاجي

الموسوم بـ (الإيضاح في علل النحو) قال: "وقد جمع الزجاجي في هذا الكتاب العلل النحوية التي عرفت حتى عصره، سواء ما اتصل منها بالحدود وأحكام الإعراب، وما اتصل منها بالفروض والظنون الجدلية، ونثر في تضاعيف ذلك بعض آرائه غير متحيف -أي: غير متنقص أو ظالم- لآراء من سبقوه من البصريين والكوفيين والبغداديين، فهو يعرض آراءهم وعللهم في دقة وتحرٍّ شديد، وقد يتدخل ورائده الإنصاف، فيؤثر رأيًا على رأي، أو علة على علة، وقد يترك ذلك للقارئ ما دامت لم تستبن له الحجة الصحيحة التي يحكم على أساسها بين الطرفين المتعارضين"، انتهى. ويقول أبو القاسم في مقدمة كتاب (الإيضاح) متحدثًا عن موضوع كتابه وسبب تأليفه: "وهذا كتاب أنشأناه في علل النحو خاصة، والاحتجاج له، وذكر أسراره، وكشف المستغلق من لطائفه وغوامضه دون الأصول؛ لأن الكتب المصنفة في الأصول كثيرة جدًّا، ولم أر كتابًا إلى هذه الغاية مفردًا في علل النحو، مستوعبًا فيه جميعها، وإنما يُذكر في الكتب بعقب الأصول الشيء اليسير، منها مع خلو أكثرها منها". ولقد تحدثنا عن تقسيمه علل النحو إلى ثلاثة أنواع: تعليمية، وقياسية، وجدلية نظرية، وعرفنا أن العلل التعليمية: هي العلل الأولى التي يتوصل بها إلى تعلم كلام العرب، ويرى أستاذنا المرحوم الدكتور شوقي ضيف أن العلل التعليمية: هي التي يحتاجها الناشئة في تعلم النحو، أما المتخصصون فإنهم عليهم أن يتحملوا عبء دراسة جميع هذه الأنواع من العلل النحوية؛ إذ من الواجب أن يُعنى المتخصصون في النحو بدراسته في صورته القديمة، وكل ما داخلها من فلسفة العلة؛ حتى يتبينوا تطوره وما شُفع به هذا التطور من جهود عقلية خصبة، جعلت بعض المستشرقين يشيد بما تم لهذا العلم على أيدي أسلافنا من نضج وإكمال يحق للعرب أن يفخروا به.

وأما السيرافي فهو أبو سعيد الحسن بن عبد الله بن المرزبان السيرافي، ولد بسيراف من بلاد فارس، وكان أبوه مجوسيًّا فأسلم، وسماه ابنه السيرافي عبد الله، وتوفي ببغداد سنة ثمان وستين وثلاثمائة من الهجرة، وهو أحد الأئمة المعروفين في النحو واللغة والفقه والكلام، وقد تناول علوم العربية ومهر فيها حتى أصبح من مشاهير أئمتها، وأصحاب الرأي فيها، ويمثل شرحه لكتاب سيبويه مصدرًا أساسيًّا من مصادر دراسة العلة النحوية عند النحاة حتى النصف الثاني من القرن الرابع الهجري، ويقول عن شرحه لكتاب سيبويه صاحب (المدارس النحوية): "وكان السيرافي يتوسع في التعليل توسعًا أسعفه فيه عقله الجدلي الخصب، فليس هناك شيء علله النحاة إلا وتُذكر عللهم فيه، وتضاف إليها علل جديدة، وما لم يعللوه حاول جاهدًا أن يجد له علة، أو عللًا تسنده" انتهى. علم آخر من هؤلاء الأعلام وهو الفارسي أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسي أبًا، أما أمه فهي عربية سدوسية من سدوس شيبان، نشأ بفسا من أرض فارس، ثم ورد بغداد فأخذ النحو عن الزجاجي وابن السراج ومبرمان، وغيرهم، وتوفي بعد حياة حافلة بالدراسة والتأليف ببغداد سنة سبع وسبعين وثلاثمائة من الهجرة، قال عنه صاحب (المدارس النحوية): "وكان عقل أبي علي من الخصب بحيث ملأ نفس ابن جني تلميذه، حين ألمَّ بالموصل من جميع أقطارها، وهو يكثر من ذكر آرائه في كتابه (الخصائص) وغيره، حتى ليبدو كأنه كان كنزًا سائلًا بمسائل اللغة والنحو، وما يجري فيها من ضبط الأصول وضبط الأقيسة، والعلل"، انتهى. وقد امتلأت نفس ابن جني إعجابًا بأستاذه أبي علي، وقدرته على انتزاع العلل، فيقول في (الخصائص): "وقلت مرة لأبي بكر أحمد بن علي الرازي -رحمه الله- وقد أفضنا في ذكر أبي علي، ونُبل قدر، ونباوة محله: أحسب أن أبا علي

قد خطر له وانتزع من علل هذا العلم ثلث جميع ما وقع لجميع أصحابنا، فأصغى أبو بكر إليه، ولم يتبشع هذا القول عليه" انتهى. وقال ابن جني معبرًا عن شديد إعجابه بأقيسة شيخه وعلله قال: "ولله هو، وعليه رحمته، فما كان أقوى قياسه، وأشد بهذا العلم أنسه، فكأنه إنما كان مخلوقًا له، وكيف كان لا يكون كذلك، وقد أقام على هذه الطريقة مع جِلَّة أصحابها وأعيان شيوخها سبعين سنة، زائحة علله، ساقطة عنه كلفه، وجعله همه، وسَدَمه، لا يعتاقه عنه ولد، ولا يعارضه فيه متجر، ولا يسوم به مطلبًا، ولا يخدم به رئيسًا، إلا بأخرة، وقد حط من أثقاله، وألقى عصا ترحاله" انتهى. وعن احتفاء أبي علي بالقياس يقول عنه تلميذه ابن جني: "قال لي أبو علي -رحمه الله- بحلب سنة ست وأربعين: أخطئ في خمسين مسألة في اللغة، ولا أخطئ في مسألة واحدة في القياس". أما ابن جني: فهو أبو الفتح عثمان بن جني، وكان أبوه جني روميًّا يونانيًّا، وكان مملوكًا لسليمان بن فهد بن أحمد الأزدي، ولد بالموصل وتلقى عن علمائها، وتوفي ببغداد سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة من الهجرة، يقول عنه سعيد الأفغاني في كتابه (في أصول النحو): "أما إذا وصلنا إلى ابن جني فقد تبوأنا ذروة القياس، لقد كان أعلى علماء العربية كعبًا في جميع عصورها، وأغوصهم عامة على أسرار العربية، وأنجحهم في الاهتداء إلى النظريات العامة فيها، وكتابه (الخصائص) لا يزال محط إعجاب علماء العرب والغرب على السواء". ويرى الدكتور مازن المبارك أن ابن جني وقف أمام علل النحو وقفة طويلة يدرس ويصف، ويحلل ويصنف، فأتى بما لم يسبق إليه من قبل، وما لم يلحق فيه من بعد. إن اهتمامه بالعلة أمر لافت للأنظار، مثير للإعجاب، ويكفي أن نلقي نظرة سريعة على العناوين التي تقرب من عشرين عنوانًا، والتي تضمنت بحوثًا عن

العلة في كتاب (الخصائص) بأجزائه الثلاثة؛ لنتبين مدى هذا الاهتمام الفائق وتلك العناية الرائعة بأمر العلة النحوية. لقد كان هم أبي الفتح في كتاب (الخصائص) كما أوضح محقق الكتاب -طيب الله ثراه- كان همه إظهار حكمة العرب وسداد مقاصدهم فيما أَتَوا في لغتهم، وكان ذلك بإبداء العلل لسننهم، وخططهم في تأليف لسانهم؛ فأخذ نفسه في تقوية العلل التي تُنسب إلى أفعالهم، وتحمل عليهم، وهو ما يقوم به النحويون، وكان من دواعي ذلك وأسبابه ما اشتهر بين الناس من ضعف علل النحو، فهذا ابن فارس يقول: مرت بنا هيفاء مجدولة ... تركية تنمى لتركي ترنو بطرف فاتر فاتن ... أضعف من حجة نحوي فغاية ابن جني -رحمه الله تعالى- إذن أن يُبين حكمة العرب في لغتهم، وأن يرد على من ضرب بعلل النحويين المثل في الضعف، ولذلك عقد في الكتاب بابًا خاصًّا عنوانه: باب في الرد على من اعتقد فساد علل النحويين؛ لضعفه هو في نفسه عن إحكام العلة، وذكر فيه أن سبب هذا الاعتقاد أنه لا يعرف أغراض القوم، فيرى لذلك أن ما أوردوه من العلة ضعيف واهٍ ساقط غير متعال، وهو يدافع عن العلة النحوية التي توصل إليها حُذاق النحويين، ويبين فائدتها، فيخصص بابًا عنوانه: باب في أن العرب قد أرادت من العلل والأغراض ما نسبناه إليها، وحملناه عليها، ويقول فيه: "اعلم أن هذا موضع في تثبيته وتمكينه منفعة ظاهرة، وللنفس به مسكة وعصمة؛ لأن فيه تصحيح ما ندَّعيه على العرب من أنها أرادت كذا لكذا، وفعلت كذا لكذا، وهو أحزم لها، وأجمل بها، وأدلُّ على الحكمة المنسوبة إليها من أن تكون تكلفت ما تكلفته من استمرارها على وتيرة واحدة، وتقريها منهجًا واحدًا، تراعيه وتلاحظه، وتتحمل لذلك مشاقه، وكُلفه، وتعتذر من تقصير إن جرى وقتًا منها في شيء منه".

ثم هو يدعو إلى التعليل النحوي ويشجع عليه ويقول: "فكل من فُرق له عن علة صحيحة، وطريق نهجة كان خليل نفسه، وأبا عمرو فكره"، وهو يحدد الفروق الدقيقة بين العلة النحوية والعلل في العلوم الأخرى، فيذكر أن علل الحذاق المتقنين من النحويين أقرب إلى علل المتكلمين منها إلى علل المتفقهين، وذلك أنهم يُحيلون على الحس، ويحتجون بثقل الحال أو خفتها على النفس، وليس كذلك حديث علل الفقه، وذلك أنها إنما هي أعلام وأمارات؛ لوقوع الأحكام، ووجوه الحكمة فيها خفية عنا، غير ظاهرة لنا، ويوضح أن الشريعة إنما جاءت من عند الله تعالى، ومعلوم أنه سبحانه لا يفعل شيئًا إلا ووجه المصلحة والحكمة قائم فيه، وإن خفيت عنا أغراضه ومعانيه، وليس كذلك حال اللغة، ويذكر أنا قد نجد أيضًا في علل الفقه ما يضح أمره، ونعرف علته نحو: رجم الزاني إذا كان محصنًا، وحدِّه إذا كان غير محصن، وذلك لتحصين الفروج وارتفاع الشك في الأولاد والنسل، وزيد في حد المحصن على غيره لتعاظم جرمه، وجريرته على نفسه. وكذلك إقادة القاتل بمن قتله لحقن الدماء، وكذلك إيجاب الله الحج على مستطيعه؛ لما في ذلك من تكليف المشقة ليستحق عليها المثوبة، وكذلك نظائر هذا كثيرة جدًّا؛ بيد أن ما كانت هذه حاله من علل الفقه فهو أمر قائم في النفوس قبل ورود الشريعة به، ثم يقول: "واعلم أنا مع ما شرحناه وعُنينا به فأوضحناه من ترجيح علل النحو على علل الفقه، وإلحاقها بعلل الكلام، لا ندَّعي أنها تبلغ قدر علل المتكلمين، ولا عليها براهين المهندسين غير أنا نقول: إن علل النحويين على ضربين أحدهما: واجب لا بد منه، لأن النفس لا تطيق في معناه غيره، والآخر: ما يمكن تحمله إلا أنه على تجشم، واستكراه له"، انتهى.

هذا وبالله التوفيق وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 4 أبرز العلماء الذين تحدثوا عن العلة النحوية في القرن الرابع الهجري.

الدرس: 4 أبرز العلماء الذين تحدثوا عن العلة النحوية في القرن الرابع الهجري.

أبرز العلماء المهتمين بالعلة النحوية في القرن الرابع الهجري حتى القرن العاشر الهجري.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الرابع (أبرز العلماء الذين تحدثوا عن العلة النحوية في القرن الرابع الهجري) أبرز العلماء المهتمين بالعلة النحوية في القرن الرابع الهجري حتى القرن العاشر الهجري الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: إن أبرز النحاة الذين تتابعوا على مر القرون بعد نحاة القرن الرابع الهجري ضاربين في العلة بسهم وافر هم: الزمخشري، وأبو البركات الأنباري، وابن الحاجب، وابن مالك، وابن هشام الأنصاري، وجلال الدين السيوطي. فأما الزمخشري: فهو أبو القاسم محمود بن عمر جار الله المولود بزمخشر بخوارزم، والمتوفى بوطنه مأسوفًا عليه سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة من الهجرة، وقد وصف في مقدمة كتابه (المفصل في علم العربية) وصف الذين يغضون من العربية بالجور والظلم والاعتساف، وقال: "وذلك أنهم لا يجدون علمًا من العلوم الإسلامية فقهها، وعلمي تفسيرها وأخبارها، إلا وافتقاره إلى العربية بيِّنٌ لا يُدفع، ومكشوف لا يتقنع، ويرون الكلام في معظم أبواب أصول الفقه، ومسائلها مبنيًّا على علم الإعراب، والتفاسير مشحونة بالروايات عن سيبويه والأخفش والكسائي والفراء، وغيرهم من النحويين البصريين والكوفيين، والاستظهار في مآخذ النصوص بأقاويلهم، والتشبث بأهداب فسرهم، وتأويلهم" انتهى. ومن تعليلاته النحوية في كتابه (المفصل) قوله في باب المبتدأ والخبر متحدثًا عن عامل الرفع فيهما: "هما الاسمان المجردان للإسناد نحو قولك: زيد منطلق، والمراد بالتجريد إخلاؤهما من العوامل التي هي كان، وإن، وحسبت، وأخواتها؛ لأنهما إذا لم يخلوا منها؛ تلعبت بهما وغصبتهما القرار على الرفع، وإنما اشترط في التجريد أن يكون من أجل الإسناد؛ لأنهما لو جُرِّدا لا للإسناد، لكانا في حكم الأصوات التي حقها أن يُنعق بها غير معربة؛ لأن الإعراب لا

يستحق إلا بعد العقد والتركيب. وكونهما مجردين للإسناد هو رافعهما؛ لأنه معنى قد تناولهما معًا تناولًا واحدًا، من حيث إن الإسناد لا يتأتى بدون طرفين مسند ومسند إليه، ونظير ذلك أن معنى التشبيه في كأن لما اقتضى مشبهًا ومشبهًا به؛ كانت عاملة في الجزأين، وشبههما بالفاعل أن المبتدأ مثله في أنه مسند إليه، والخبر في أنه جزء ثانٍ من الجملة" انتهى. وأما الأنباري: فهو أبو البركات عبد الرحمن كمال الدين بن محمد الأنباري، العالم النحوي البغدادي صاحب النزعة البصرية، المتوفى ببغداد سنة سبع وسبعين وخمسمائة من الهجرة، وهو مؤلف المصنفات النحوية التي طبَّقت شهرتها الآفاق، ووطد فيها أواصر الصلة بين النحو وعلوم الفقه والكلام، وجعل فيها الجدل النحوي صنعة لها أصول نظرية، وقوانين وضعية، منصوص عليها تهدف إلى كشف أسرار العربية، وتبين ما في قواعدها النحوية من إحكام في الوضع، وإتقان في الترتيب والتبويب، وحكم، ولطائف في القياس والتعليل. ومن مصادر السيوطي في كتابه (الاقتراح في أصول النحو): (لمع الأدلة)، و (الإغراب في جدل الإعراب)، و (الإنصاف في مسائل الخلاف)، وثلاثتها من مؤلفات أبي البركات الأنباري، أما كتابه الموسوم بـ (أسرار العربية) فلحمته وسداه، وموضوعه من أوله إلى منتهاه هو التعليل النحوي. وأما ابن الحاجب: فهو أبو عمر عثمان جمال الدين بن عمر الكردي الأصل، المولود في أسنا بصعيد مصر، المتوفى سنة ست وأربعين وستمائة من الهجرة، قال عنه (صاحب المدارس النحوية): "وكان ابن الحاجب دقيق النظر، فخاض في تعليلات كثيرة مستنبطًا منها ما لا يكاد يقف به عند حد" انتهى. ويُعدُّ ابن الحاجب من النحاة الذين تأثروا كثيرًا بعلم المنطق، وممن أعطاهم المنطق وسائل جديدة للنظر والتعليل، ومن آثار ذلك استعماله المقدمات الصورية،

ومن أمثلة تعليلاته أنه ذكر في كتابه الموسوم بـ (الإيضاح في شرح المفصل) أن الوجه أن المنادى منصوب بفعل مقدر دل عليه حرف نداء، فالقائل: يا زيد ونحوه قد تمَّ كلامه، والحرف وحده مع الاسم لا يشكلان كلامًا، وقال مستدلًّا على ذلك: "لأنا إذا علمنا أن الجملة هي التي تتركب من كلمتين أسندت إحداهما إلى الأخرى، وعلمنا أن وضع الحرف لأنْ لا يُسند ولا يسند إليه؛ علم بهاتين المقدمتين أن الحرف والاسم لا ينتظم منهما كلام، وإذا ثبت هذان الأصلان باتفاق، فلا وجه لمن يقول: إن الحرف مع الاسم كلام؛ لأنه مخالف لما علم ثبوته، إذ يلزم منه أن يكون الحرف مسندًا إليه ومسندًا به، وكلاهما باطل، أو يلزم أن يكون أن يوجد كلام من غير إسناد، وهو باطل، فلما لزم منه بطلان أحد الأصلين المذكورين المتفق عليهما؛ عُلم أنه باطل، إذ ما أدَّى إلى الباطل فهو باطل" انتهى. وهكذا يبني ابن الحاجب تعليله على مقدمتين ونتيجة، كما يفعل المناطقة، وأما ابن مالك فهو أبو عبد الله محمد جمال الدين بن عبد الله بن مالك الطائي الجياني، المتوفى سنة اثنتين وسبعين وستمائة من الهجرة بدمشق، وإمام النحويين واللغويين لعصره، وصاحب المؤلفات المنظومة والمنثورة التي تناولها كثير من العلماء بالشرح، والدراسة والتعليق، ونالت أوفى عناية من العلماء المحققين، وترجمت إلى عديد من اللغات الإنسانية؛ فأقبل عليها الطلاب من كل صوب وحَدب، ينهلون من معينها العذب ويرتوون من نبعها الثر، الغزير، الفياض بالخير والعطاء. وحديث ابن مالك في العلة النحوية يدلك على قوة حجته وسعة اطلاعه، وفائق قدرته على الإقناع بالدليل والبرهان، ونسوق هنا مثالًا واحدًا على براعته

واهتمامه بالعلة النحوية، ذكر المتقدمون والمتأخرون من النحويين أن لا النافية للجنس تعمل فيما بعدها عمل إن فيما بعدها، بعد أن أطلق سيبويه -وهو إمام النحاة- مقولته المشهورة في صدارة باب النفي بلا في الكتاب، إذ قال: "ولا تعمل فيما بعدها فتنصبه بغير تنوين، ونصبها لما بعدها كنصب إن لما بعدها"، فاجتهد كثير من النحويين في محاولة البحث عن العلاقة التي تربط بين الحرفين؛ لتكون علة لهذا الحمل، فمن قائل: إن إن لتحقيق الإثبات وتوكيده، ولا لتحقيق النفي وتوكيده، فهما نظيران من جهة التحقيق والتوكيد، فيكون الحمل حملًا للنظير على النظير، ومن قائل: إن إن لتوكيد النسبة ولا لنفيها، فحملت عليها حملًا للنقيض على النقيض، ومنهم من رأى بينهما هذين الحملين معًا من جهة التحقيق والتوكيد، ومن جهتي النفي والإثبات. ورأى العلامة الرضي أن بينهما تنافيًا وتناقضًا لا مشابهة ولا مقاربة، ولما رأى ابن مالك ضعف ما ذكره العلماء من أوجه الشبه بين الحرفين مع كثرة أوجه المخالفة والمفارقة بينهما؛ توصل إلى أن لا النافية للجنس ليست عاملة بالحمل وحده، إنما تعمل بالاختصاص والحمل معًا، فقال في (شرح التسهيل): "إذا قُصد بلا نفي الجنس على سبيل الاستغراق، ورفع احتمال الخصوص؛ اختصت بالأسماء النكرات، لأن قصد ذلك يستلزم وجودَ مِن الجنسية لفظًا أو معنى، ولا يليق ذلك إلا بالأسماء النكرات، فوجب لـ: لا عند ذلك القصد عمل فيما يليها من نكرة، وذلك العمل إما جرٌّ، وإما نصب، وإما رفع، فلم يكن جرًّا؛ لئلا يتوهم أنه بمِن المنوية، فإنها في حكم الموجودة لظهورها في بعض الأحيان كقول الشاعر: فقام يذود الناس عنها بسيفه ... وقال: ألا ما من سبيل إلى هند ولأن عامل الجر لا يستقل كلام به وبمعموله، ولا يستحق التصدير، ولا المذكورة بخلاف ذلك، ولم يكن عملها فيما يليها رفعًا؛ لئلا يُتوهم أن عامله

الابتداء، فإن موضعها موضع المبتدأ، ولأنها لو رفعت ما يليها عند قصد التنصيص على العموم؛ لم يحصل الغرض، لأنها على ذلك التقدير بمنزلة المحمولة على ليس، وهي لا تنصيص فيها على العموم، فلما امتنع أن تعمل فيما وليها جرًّا أو رفعًا مع استحقاقها عملًا؛ تعين أن يكون نصبًا، ولما لم تستغن بما يليها عن جزء ثانٍ، عملت فيه رفعًا؛ لأنه عمل لا يستغنى بغيره عنه في شيء من الجمل. وأيضًا فإن إعمال لا هذا العمل إلحاق لها بإن لمشابهتها لها في التصدير، والدخول على المبتدأ والخبر، وإفادة التوكيد، فإن لا لتوكيد النفي، وإن لتوكيد الإثبات، ولفظ لا مساوٍ للفظ إن إذا خُففت، وأيضًا فإن لا تقترن بهمزة الاستفهام، ويراد بها التمني، فيجب إلحاقها بليت في العمل، ثم حملت في سائر أحوالها على حالها في التمني"، انتهى. وأما ابن هشام: فهو أبو محمد عبد الله جمال الدين بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري المصري، المتوفى بالقاهرة سنة إحدى وستين وسبعمائة من الهجرة، قال عنه صاحب (نشأة النحو): "فاق أقرانه بل شيوخه، وتخرج على يده الكثير، صنف المؤلفات المليئة بالفوائد الغريبة، والمباحث الدقيقة، والاستدراكات العجيبة، مع التصرف في منهجها، والتنويع في إفادتها مما يدل على الاطلاع الغريب" انتهى. ومن مؤلفاته التي تُعد درة ثمينة في تاج العربية كتاب (مغني اللبيب) يقول ابن خلدون في مقدمته: "ووصل إلينا بالمغرب لهذه العصور ديوان من مصر منسوب إلى جمال الدين بن هشام من علمائها، إلى أن قال: فوقفنا منه على علم جمٍّ يشهد بعلو قدره في هذه الصناعة، ووفور بضاعته منها، وكأنه ينحو في طريقته منحاة أهل الموصل، الذين اقتفوا أثر ابن جني، واتبعوا تعليمه، فأتى من ذلك بشيء عجيب دالٍّ على قوة ملكته واطلاعه، والله يزيد في الخلق ما يشاء"، انتهى. ومن أمثلة تعليلاته ما أورده في (مغني اللبيب) في مبحث أن المفتوحة الخفيفة، بعد ذكره أنها تُزاد في أربعة مواضع، ما أورده من زعم الأخفش أن أن هذه قد

تُزاد في غير هذه المواضع، وأنها تنصب المضارع وهي زائدة، كما تجر مِن والباء الزائدتان لاسم يعني: فلا منافاة بين الزيادة والعمل، وأن من ذلك قوله تعالى: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ} (إبراهيم: 12)، وقوله سبحانه: {وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (البقرة: 246)، وذكر ابن هشام أن غير الأخفش قال في الآيتين الكريمتين ونحوهما: إن أن في ذلك مصدرية لا زائدة، كما ذكر أن من القائلين بالمصدرية مَن ضَمن في الآيتين {مَا لَنَا} معنى ما منعنا أي: أن المصدر المؤول في كلتيهما منصوب على أنه مفعول ثانٍ على تضمين الجار والمجرور معنى منع الناصب لمفعولين، كما تقول: منعت زيدًا إساءته. ولم يرتضِ ابن هشام هذا التضمين، كما لم يرتضِ قياس الأخفش عمل أن الزائدة على عمل حرف الجر الزائد فقال: "وفيه نظر، وواصل معللًا النظر فقال رادًّا التضمين: لأنه لم يثبت إعمال الجار والمجرور في المفعول به، ولأن أصل ألا تكون لا زائدة يعني: هذا التخريج على تضمين الجار والمجرور معنى فعل ناصب لمفعولين، لا يصح لأمرين؛ أحدهما: عدم ثبوت إعمال الجار والمجرور في المفعول به، والآخر أنه يترتب عليه زيادة لا، وإذا قيل: إن {مَا لَنَا} ضُمن معنى ما منعنا؛ لزم زيادة لا، والمعنى: أي شيء منعنا التوكل، ومنعنا القتال، والأصل عدم زيادتها، كما علل لبطلان القياس الأخفش بأنه إنما لم يجز لأنِ الزائدة أن تعمل لعدم اختصاصها بالأفعال، بدليل دخولها على الحرف لو في قول الشاعر: فأقسم أنْ لو التقينا وأنتم ... لكان لكم يوم من الشر مظلم وعلى الحرف كأنّ في قول الشاعر: فأمهله حتى إذا أنْ كأنه ... معاطي يدٍ في لجة الماء غامر ودخولها على الاسم في قول الشاعر: ويومًا توافينا بوجه مقسم ... كأن ظبية تعطو إلى وارق السلم

رأي سيبويه في وثاقة العلة النحوية.

بخلاف حرف الجر الزائد، فإنه بقي على اختصاصه بالدخول على الأسماء كالحرف المعدي، فلذلك بقي له العمل فيها"، وذكر ابن هشام أن الصواب في هذه المسألة قول بعضهم: إن الأصل: وما لنا في ألا نفعل كذا، أي: ثم حُذف الجار، وهو في مثله حذف قياسي. وأما السيوطي فهو أبو الفضل عبد الرحمن جلال الدين بن أبي بكر المولود سنة تسع وأربعين وثمانمائة من الهجرة، والمتوفى سنة إحدى عشرة وتسعمائة من الهجرة، فهو يُعد من علماء القرنين التاسع والعاشر الهجريين، وهو صاحب كتاب (الاقتراح في علم أصول النحو)، والذي جعلناه العمدة في شرح هذه المادة، ونشير هنا إلى أنه في هذا الكتاب قد خصَّ العلة بحديث طويل مستفيض في فصل كامل هو أكبر فصول القياس، بل هو أكبر فصول كتاب (الاقتراح) جمع فيه الكثير مما أورده ابن جني والأنباري وغيرهما من حديث عن العلة النحوية. ومن مصنفاته في أصول النحو وقواعده الكلية كتاب (الأشباه والنظائر)، وهو يجمع القواعد المتشابهة، ويضم الشبيه إلى شبيهه والنظير إلى نظيره. رأي سيبويه في وثاقة العلة النحوية تحدثنا في عجالة عن وثاقة العلة النحوية، وآن لنا أن نبسط القول في هذا الموضوع، حتى يطمئن دارس العربية إلى أن ما بذله علماء السلف -طيب الله ثراهم- في استنباط علل الأحكام النحوية كان جهدًا خارقًا، وعزمًا صادقًا قرب البعيد، وذلل الصعب، وأزال اللبس، وكشف النقاب عن سلاسة العربية ومرونتها، وسلامة قواعدها وصحتها، وجمال لغتها وتميزها، وروعة بلاغتها وفصاحتها.

ونتحدث عن رأي إمام النحاة سيبويه في وثاقة العلة، مذكرين بأننا حين نتحدث عن العلة النحوية، فإنما نريد بها ما يشمل علل الأحكام المستنبطة من الواقع اللغوي العربي النثري، والشعري، المحتج به؛ سواء ما يتعلق بالمفردات وما يتعلق بالتراكيب، فمرادنا بالنحو في مادتنا هذه النحو بمفهومه القديم الشامل للقواعد النحوية والصرفية، وقد أبان سيبويه -رحمه الله- رأيه في وثاقة العلة النحوية في عبارة واحدة نقلها عنه ابن جني في (الخصائص)، ونقلها السيوطي عن ابن جني في (الاقتراح)، وهذه العبارة في كتاب سيبويه في آخر باب ما يحتمله الشعر قال فيها: "وليس شيء يضطرون إليه إلا وهم يحاولون به وجهًا" انتهى. وقد عقب عليها ابن جني بقوله: "وهذا أصل يدعو إلى البحث عن علل ما استكرهوا عليه، نعم، ويأخذ بيدك إلى ما وراء ذلك فتستضيء به، وتستمد التنبه على الأسباب المطلوبات منه" انتهى. ومعنى عبارة سيبويه: أن الضرورة الشعرية مع كونها رخصة للشاعر ينبغي أن يكون لها وجه تُخرج عليه؛ إذ ليس كونها رخصة أن يستعملها الشاعر من غير قيود ولا حدود، فإنه إن تجاوز القيود والحدود عُدَّ خارجًا عن سنن العربية، بعيدًا عن طرقها، ولذلك نرى سيبويه يذكر مثلًا في باب ما لا يجوز فيه الإضمار من حروف الجر: أن الكاف من حروف الجر المختصة بجر الظاهر، ولا يُجر بها الضمير، ثم ذكر آخر الباب أن الشعراء إذا اضطروا أضمروا في الكاف يعني: أدخلوا الكاف على الضمير تشبيهًا لها بلفظ مثل؛ لأنها في معناها، فيجرونها على القياس، واستشهد على هذا بقول العجاج: وأم أوعال كها أو أقربا

ثم قال: "ولو اضطر شاعر فأضاف الكاف إلى نفسه قال: ما أنتَ كِي، وكَي خطأ من قِبَل أنه ليس في العربية حرف يفتح قبل ياء الإضافة" انتهى. ومعنى هذا أن الشاعر إذا اضطر، فأدخل الكاف على ياء المتكلم أجراها على ما يقتضيه القياس، فكسر الكاف لمناسبة الياء، وليس له أن يتحرر من قيود العربية فيفتح الكاف قبل ياء المتكلم مثلًا بحجة الاضطرار، إذ لو فعل ذلك ما وجد وجهًا صحيحًا يحمل عليه هذه الضرورة. ويقول أبو سعيد السيرافي في شرحه لكتاب سيبويه موضحًا أن الضرورة الشعرية ليس معناها الخروج عن قواعد اللغة ومقاييسها، يقول: "اعلم أن الشعر لما كان كلامًا موزونًا تكون الزيادة فيه، والنقص منه يُخرجه عن صحة الوزن، حتى يحيله عن طريق الشعر المقصود مع صحة معناه، استجيز فيه لتقويم وزنه من زيادة ونقصان، وغير ذلك ما لا يُستجاز في الكلام مثله، وليس في شيء من ذلك رفع منصوب، ولا نصب مخفوض، ولا لفظ يكون المتكلم فيه لاحنًا، ومتى وُجد هذا في شعر؛ كان ساقطًا مطرحًا، ولم يدخل في ضرورة الشعر"، انتهى. وهكذا للضرورة الشعرية عند سيبويه وغيره من النحويين حدود تنتهي إليها، وغاية تقف عندها، ومقاييس يلتزم الشعراء بها، ولا يتجاوزونها، وذلك لأن الضرورة الشعرية مخالفة لسنن الكلام المنثور، خارجة عن قوانينه بما للشعر من سمات متميزة وطبيعة متفردة تجعله خليقًا بأن يتخفف من كثير من قيود الكلام المنثور، لكنه مع ذلك أحد نوعي التعبير اللغوي، فينبغي أن تتصل بين النوعين الأسباب، وأن تمتد بينهما الوشائج. ولذلك فالمتتبع لضرائر الكتاب يجد أن لكل ضرورة وجهًا تُحمل به على صحيح الكلام، وقد ذكر سيبويه أن وجه الضرورة عنده لا يخرج غالبًا عن أحد أمرين، أشار إلى أولهما بقوله: "اعلم أنه يجوز في الشعر ما لا يجوز في الكلام، من صرف ما لا ينصرف يشبهونه بما ينصرف من

رأي ابن جني وابن الفرخان صاحب (المستوفى) في وثاقة العلة النحوية.

الأسماء؛ لأنها أسماء كما أنها أسماء"، يريد بهذا الوجه تشبيه ما وقع في الشعر بما وقع في الكلام. ثم أشار إلى الوجه الثاني بقوله: "وقد يبلغون بالمعتل الأصل، فيقولون: رادد في رادٍّ، وضننوا في ضنُّوا، يريد الرد إلى الأصل". والخلاصة المستنبطة من موقف سيبويه من الضرورة الشعرية: أنه يرى أن العلل النحوية من الوثاقة والقوة بمكان عظيم، وأنها أبعد ما تكون عن الضعف والتمحل، وذلك أنه إذا كان لا مفرَّ من أن يكون لكل ضرورة شعرية يرتكبها الشاعر وجه صحيح في القياس المعتمد تُحمل عليه حتى تكون مقبولة جائزة، وإلا عُدَّت خطأ لخروجها عن قياس العربية، مع أن الشعر لغة العاطفة والوجدان، فإن الأمر بالنسبة إلى ما وراء لغة الشعر، وهو الكلام المنثور أشد وأقوى. ووجه الضرورة هو ما نسميه بالعلة النحوية، وسواء كانت هذه العلة علة تشبيه، أو علة أصل أو غيرهما، إن سيبويه قد رسخ أصلًا واجب الاتباع، ووضع قانونًا لازم العمل به، وأطلق دعوة تحث على البحث والتقصي عن علل الضرائر الشعرية؛ بل والبحث والتقصي في ضوئه وعلى هديه عن علل ما وراء ذلك من الكلام، وعدم التسمح في ذلك، فهل يقال بعد هذا: إن العلة النحوية ضعيفة واهية. رأي ابن جني وابن الفرخان صاحب (المستوفى) في وثاقة العلة النحوية إن الحديث عن رأي ابن جني في وثاقة العلة النحوية بعدما قدمناه عنه يُعدُّ من نوافل القول: إن هذا العالم -رحمه الله- ينبغي أن نسميه بحق عاشق العربية، لقد انتهج منهج الفقهاء في استنباط العلل، وكانت غايته -كما ذكرنا- أن يبين حكمة العرب في لغتهم، ويفند حجة من ادَّعى ضعف عللهم، ولأجل هذا راح يبحث عن مكان العلة النحوية بالنسبة لعلل المتكلمين، وعلل الفقهاء، وانتهى إلى أنها أقرب إلى علل المتكلمين منها إلى علل الفقهاء.

إن هذه النتيجة التي انتهى إليها تدل على مدى اعتداده بالعلة النحوية، واستناده إلى وثاقتها. وقد أوضح من بداية الأمر أنه إنما يعني علل الحذاق المتقنين من النحويين، لا علل ألفافهم المستضعفين، فإن شأن هؤلاء الأخلاط الضعف وعدم استحكام القوة. وكان يرى أن العلة أصيلة في نفوس العرب، وقد أصابت من قوة النظر عندهم وسلامة الحس اللغوي فيهم حظًّا وافرًا يقول: "سألت يومًا أبا عبد الله محمد بن العساف الجوثي التميمي، تميم جوثة، فقلت له: كيف تقول: ضربت أخوك؟ فقال أقول: ضربت أخاك، فأدرته على الرفع يعني: حاولت إلزامه إياه فأبى، وقال: لا أقول: أخوك أبدًا، قلت: فكيف تقول: ضربني أخوك؟ فرفع، فقلت: ألست زعمت أنك لا تقول: أخوك أبدًا، فقال: أيش هذا اختلفت جهتا الكلام". قال صاحب (إرشاد الأريب): "فهل قوله -يعني: قول الجوثي: اختلفت جهتا الكلام، إلا كقولنا: هو الآن فاعل، وكان في الأول مفعولًا، فانظر إلى قيام معاني هذا الأمر في أنفسهم، وإن لم تقطع به عبارتهم". ويقول ابن جني: "فإن قلت: فما تنكر أن يكون ذلك شيئًا طُبعوا عليه وأُجيئوا إليه من غير اعتقاد منهم لعلله، ولا لقصد من القصود التي تنسبها إليهم في قوانينه وأغراضه، بل لأن آخرًا منهم حذا أي: تبع وسلك على ما نهج الأول يعني: على ما سار عليه الأول فقال به، وقام الأول للثاني لكونه إمامًا له فيه مقام من هدى الأول إليه، وبعثه عليه ملكًا كان أو خاطرًا، قيل: لن يخلو ذلك أن يكون خبرًا رُوسِلُوا به، أو تيقظًا نُبهوا على وجه الحكمة فيه، فإن كان وحيًا أو ما يجري مجراه؛ فهو أنبه له، وأذهب في شرف الحال به، لأن الله سبحانه إنما هداهم لذلك، ووقفهم عليه؛ لأن في طباعهم قبولًا له، وانطواء على صحة الوضع فيه؛ لأنهم مع ما قدمناه عنهم من ذكر كونهم عليه من لطف الحس وصفائه، ونصاعة جوهر

الفكر ونقائه، لم يؤتوا هذه اللغة الشريفة المنقادة الكريمة إلا ونفوسهم قابلة لها، محسة لقوة الصنعة فيها، معترفة بقدر النعمة عليهم بما وهب لهم منها". فإذا انتقلنا إلى محاولة التعرف على رأي عالم آخر في مدى وثاقة العلة النحوية، وهو أبو سعد علي بن مسعود كمال الدين الفرخان الذي عاش -كما قال محقق كتابه على وجه التقريب- في أواخر القرن السادس ومنتصف القرن السابع، وجدناه يحتفي بالعلة النحوية غاية الاحتفاء، ويهتم بها كمال الاهتمام، فلا تكاد صفحة من صفحات كتابه (المستوفى في النحو) تخلو من حديث عن العلة، ويقول في مقدمة كتابه: "وأنت إذا استقريت أصول هذه الصناعة؛ علمت أنها في غاية الوثاقة، وإذا تأملت عللها؛ عرفت أنها غير مدخولة ولا متسمح فيها. فأما ما ذهب إليه غفلة العوام من أن علل النحو تكون واهية سخيفة، ومتمحلة بالوضع ضعيفة، واستدلالهم على ذلك بأنها قد تكون هي تابعة للوجود لا الوجود تابعًا لها، فبمعزل عن الحق، وذلك أن هذه الأوضاع والصيغ التي في أيدينا اليوم إن كنا نحن نستعملها، فليس ذلك على سبيل الابتداء والابتداع، بل على وجه الاقتداء والاتباع، ولا بد فيها من التوقيف إما مفردًا، وإما مع الاصطلاح على ما تحقق في غير هذا من العلوم. فنحن إذا صادفنا الصيغ المستعملة والأوضاع المحصلة بحال ما من الأحوال، وعلمنا أنها كلها أو بعضها من وضع حكيم تعالى وجل، تطلبنا بها وجه الحكمة لما خُصص لتلك الحال من بين أخواتها، فإذا حصلنا عليها فذلك غاية المطلوب، أترى أن أحدًا يُنكر الفائدة في علل التشريح المثبتة في كتب الطب التي شأنها شأن هذه، وليس إذا جهلنا علة لمسألة واحدة؛ أوجب ذلك أن نجهل ما كنا حصلناه قبل أو أحطنا به بإذن الله تعالى".

ولقد حرصنا أن نذكر كثيرًا من الألفاظ التي ذكرها ابن الفرخان كما ورد في كتابه، حتى نقف على صحيح وجهة نظره. لقد وصف العلة النحوية بأنها عند التأمل غير مدخولة بالنقض والإبطال، ولا متسمَّح فيها بعدم التثبت والتحقق، ورفض ما ادَّعاه بعضهم من كونها ضعيفة أو متمحلة أي: مصنوعة بالاحتيال والتكلف، وذلك أن استدلالهم على ذلك بكونها تابعة للوجود أي: بكونها مناسبات تُذكر بعد وقوع الحكم النحوي، فتجري على حسب ما وددته إن كان قويًّا أو ضعيفًا، وليس الوجود تابعًا لها كما هو شأن العلة الحقيقية، فإن الحكم دائر معها وجودًا وعدمًا لا العكس. ومن الواضح أن رأي ابن الفرخان ليس محل الموافقة من العلماء، لما فيه من غلوٍّ غير مقبول، فأن نقول بالتوقيف في اللغة فلا مانع، أما أن نقول: إن العلل توقيفية، فذلك ضرب من ضروب الغلو والإغراء؛ إذ كيف يقال هذا في حين أن الخليل صرح باختراعه الكثير منها. يقول الدكتور مازن المبارك: "ولا شك أن نظرتنا إلى علل النحو على أنها مزعومة مستنبطة لا تروق الذين يجلون هذه العلل، ويعتقدون أنها فوق ما ندعيه مكانة وأصالة وثباتًا، وأما الذين يبالغون في تقديس هذه العلل، فلن يكون لنا في ودهم نصيب، وسيرفضون كل ما نقول، وكيف لا، وفيهم من يغلو به الظن؛ حتى يزعم أن علل النحو توقيفية". قال صاحب (المستوفى): "إذا استقريت أصول هذه الصناعة" إلى آخر ما قال. وذكر ملخص ما قال ابن الفرخان وقال: "أفإن كان صاحب (المستوفى) يقول بالتوقيف في اللغة، أفيقول ذلك في كل ما يتصل باللغة من أوضاعها من نحو وعلل، ثم إن كانت اللغة هي التوقيفية، وهي التي نستعملها على وجه الاقتداء والاتباع، أفلسنا نحن الذين تطلبنا وجه الحكمة المخصصة لحال من أحوال تلك

اللغة كما يقولون، وما يمنع ما دمنا نحن المتلمسين للحكمة أن نضل، وما يمنع ما دمنا نحن الباحثين عن العلة، والذاكرين لها أن نأتي منها بالمدخول والمتسمَّح فيه، وما ليس في غاية الوثاقة". ولم يكتفِ الدكتور مازن بما ساق من أدلة للرد على ما قال ابن الفرخان، بل استدل على دحض هذا القول بأدلة أخرى منها: تصريح الخليل بن أحمد باختراعه الكثير من هذه العلل، وذكر ابن جني عن شيخه الفارسي أنه أتى بثلث ما جاء به النحاة من علل النحو، وأن تلك العلل بنتُ الطبع، وليست بنت الشرع، وتبيين السيوطي أن هذه العلل مستنبطة بالفكر والروية بقوله: "النحو بعضه مسموع مأخوذ من كلام العرب، وبعضه مستنبط بالفكر والروية وهو التعليلات، وبعضه يؤخذ من صناعات أخرى". هذا وبالله التوفيق والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 5 صنفا علل النحويين وذكر بعض الأمثلة لكل صنف منهما وتحليلها.

الدرس: 5 صنفا علل النحويين وذكر بعض الأمثلة لكل صنف منهما وتحليلها.

اعتلالات النحويين.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الخامس (صنفا علل النحويين وذكر بعض الأمثلة لكل صنف منهما وتحليلها) اعتلالات النحويين الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: اعتلالات النحويين صنفان: علة تطرد على كلام العرب وتنساق إلى قانون لغتهم، وهي الأكثر استعمالًا، والأشد تداولًا، والأوسع شعبًا. وعلة لا تطرد على كلامهم، ولكنها تُظهر حكمتهم، وتكشف عن صحة أغراضهم ومقاصدهم، ومدار المشهورة من علل الصنف الأول على أربعة وعشرين نوعًا، وقد أوردها السيوطي في (الاقتراح) نقلًا عن كتاب (ثمار الصناعة) لأبي عبد الله الحسين بن موسى بن هبة الله الدينوري الجليس وهي: علة سماع، وعلة تشبيه، وعلة استغناء، وعلة استثقال، وعلة فرق، وعلة توكيد، وعلة تعويض، وعلة نظير، وعلة نقيض، وعلة حمل على المعنى، وعلة مشاكلة، وعلة معادلة، وعلة قرب ومجاورة، وعلة وجوب، وعلة جواز، وعلة تغليب، وعلة اختصار، وعلة تخفيف، وعلة دلالة حال، وعلة أصل، وعلة تحليل، وعلة إشعار، وعلة تضاد، وعلة أَولى. وقد أتبع السيوطي هذه الأنواع الأربعة والعشرين بذكر أمثلة لثلاثة وعشرين منها نقلًا عن كتاب (التذكرة) لأبي محمد أحمد بن عبد القادر بن أحمد بن مكتوم القيسي، تاج الدين، المتوفى سنة ست وسبعين وسبعمائة من الهجرة، ثم ذكر أن ابن مكتوم قد اعتاص أي: صعب واشتدَّ عليه شرح علة التحليل، وفكر فيها أيامًا فلم يظهر له فيها شيء، وأن ابن الصائغ محمد بن عبد الرحمن بن علي شمس الدين النحوي الحنفي، المتوفى سنة تسع وأربعين وسبعمائة من الهجرة، قد رآها مذكورة في كتب المحققين كابن الخشاب البغدادي، حاكيًا لها عن السلف. كما ذكر السيوطي أن الصنف الثاني من العلل، وهو الذي لا يطرد على كلام العرب لم يتعرض له الجليس في (ثمار الصناعة)، ولا بينه، وإنما بينه ابن السراج

ذكر بعض الأمثلة لكل صنف وأنواعها.

في كتابه (الأصول في النحو)، فذكر أن اعتلالات النحويين على ضربين: ضرب منها هو المؤدي إلى كلام العرب، وضرب آخر يُسمى علة العلة. ومثل ابن السراج لكل ضرب من هذين الضربين غير أن ابن جني عقَّب عليه بأن هذا الذي سماه علة العلة، إنما هو تجوز في اللفظ. أما في الحقيقة فإنه شرح وتفسير وتتميم للعلة. ذكر بعض الأمثلة لكل صنف وأنواعها صدَّر الجليس أنواع العلة التي تطرد على كلام العرب بعلة السماع، لما كان السماع هو أصل هذا الفن وأكثره، وعليه مدار علم النحو؛ فكانت له الصدارة على العلل، ومن أمثلته رفع الفاعل ونصب المفعول، وكقولهم: امرأة ثدياء أي: عظيمة الثديين، ولا يقال: رجل أثدى لعدم سماع ذلك. والعلة الثانية: علة تشبيه، وهو كالقياس، فهو قرين السماع، ومن أمثلته رفع اسم كان تشبيهًا بالفاعل، ونصب خبر ما تشبيهًا بالمفعول، وإعراب المضارع عند خلوِّه من النونين تشبيهًا بالاسم، وبناءُ بعض الأسماء تشبيهًا لها بالحروف. والعلة الثالثة: علة استغناء، كحذف كل من المبتدأ والخبر فيما يجب حذفه فيه؛ استغناء عنه بما قام مقامه، وكالاستغناء عن الخبر بمرفوع الصفة في نحو: أقائم الزيدان، وكاستغنائهم بترَك عن وذر، وبكثرة عن ودع. والعلة الرابعة: علة استثقال، كتقدير الضمة في حالة الرفع، والكسرة في حالة الجر في الاسم المنقوص، كجاء القاضي، ومررت بالداعي، وكاستثقالهم الواو في نحو: يعِد؛ لوقوعها بين عدوتيها الياء والكسرة.

والعلة الخامسة: علة فرق، كتجرد خبر أفعال الشروع مثل: كاد، وأنشأ من أن، وكثرة لحاقها خبر أفعال الرجاء كعسى وأوشك، فإن الشروع لا يجامع الاستقبال الذي تدل عليه أن؛ لما بينهما من المنافاة، إذ الشروع حاليٌّ لا يجامع الاستقبال، ولا كذلك الرجاء، ومن ذلك أيضًا ما ذهبوا إليه من رفع الفاعل، ونصب المفعول؛ للفرق بينهما، وفتح نون الجمع، وكسر نون المثنى للفرق بينهما كذلك. والعلة السادسة: علة توكيد، كوصف دكَّة بواحدة في نحو قوله تعالى: {فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} (الحاقة: 14) وكإدخالهم نون التوكيد الثقيلة أو الخفيفة في فعل الأمر؛ لتأكيد إيقاعه. والعلة السابعة: علة تعويض، كتنوين نحو: جوارٍ، وهو تنوين العوض المعوض به الياء المحذوفة في الرفع والجر على مذهب سيبويه والجمهور، إما للتخلص من التقاء الساكنين بناءً على الراجح من تقديم الإعلال على المنع من الصرف؛ لتعلق الإعلال بجوهر الكلمة بخلاف منع الصرف، فإنه حال للكلمة. وبيان ذلك أن كل مفرد على وزن فاعلة، فإنه يُجمع قياسًا مطردًا على فواعل، فالأصل الأصيل لكلمة جوارٍ جواريٌ بالضم والتنوين، استثقلت الضمة على الياء، فحذفت، فالتقى ساكنان: الياء بعد حذف حركتها، ونون التنوين؛ فحذفت الياء للتخلص من التقاء الساكنين، ثم حُذف التنوين لوجود صيغة منتهى الجموع تقديرًا؛ لأن المحذوف لعلة كالثابت المذكور، فخيف رجوع الياء، لزوال الساكنين في غير المنصرف، المستثقل لفظًا بكونه منقوصًا، ومعنى بكونه فرعًا؛ إذ الجمع فرع الإفراد، فعوضوا التنوين من الياء لينقطع طمع رجوعها. وإما على القول بتقديم المنع من الصرف على الإعلال، فأصله بعد منع صرفه لصيغة منتهى الجموع جواريُ بالضم من غير تنوين، استثقلت الضمة على الياء

فحذفت، ثم حذفت الياء تخفيفًا وعوِّض منها التنوين؛ لئلا يكون في اللفظ إخلال بالصيغة، ومقابل مذهب سيبويه والجمهور ما قاله المبرد والزجاج من أن التنوين عوض من حركة الياء، وأن منع الصرف مقدَّم على الإعلال، فأصله بعد منع صرفه جواريُ، استثقلت الضمة على الياء فحذفت أي: الضمة، وأتي بالتنوين عوضًا منها، ثم حذفت الياء لالتقاء الساكنين، فالتنوين على كل حال هو تنوين العوض، غير أنه عوض من حرف هو الياء على قولي سيبويه والجمهور، وعوض من حركة الياء على قول المبرد والزجاج. ومن أمثلة علة التعويض كذلك تعويضهم الميم المشددة في اللهم من حرف النداء. والعلة الثامنة: علة نظير، ككسرهم أحد الساكنين إذا التقيا في الجزم كقوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} (البينة: 1) حملًا على الجر، إذ الجزم في الأفعال نظير الجر في الأسماء؛ لاختصاص كل واحد منهما بنوع من الكلمة، والعمل فيه، وكحمل أفعال المقاربة على الأفعال الناقصة في احتياجها إلى الخبر المنصوب؛ لكونها نظيرتها في عدم حصول الفائدة بمرفوعها فقط، وكحمل سراويل المفرد الأعجمي على نظيره وموازنه في الجمع الذي على صيغة منتهى الجموع في المنع من الصرف. والعلة التاسعة: علة نقيض، كإعمال لا النافية للجنس عمل إن، فإن لا لتأكيد النفي، وإن لتأكيد الإثبات حملًا للنقيض على النقيض، وكحمل رب التي للتقليل في جر ما بعدها على كم الخبرية التي للتكثير. والعلة العاشرة: علة حمل على المعنى، كتذكير فعل الموعظة، وهي مؤنثة في قوله تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ} (البقرة: 275) حملًا لها على المعنى، وهو الوعظ، وكتأنيث فعل الكتاب وهو مذكر في قول الأعرابي: فلان لغوب، جاءته

كتابي فاحتقرها، حملًا له على معنى الصحيفة. ومن ذلك العطف على التوهم الذي يعبر عنه النحاة بالعطف على المعنى إذا ورد في القرآن الكريم؛ تأدبًا مع كتاب الله -عز وجل- كرأي الخليل وسيبويه في العطف في قراءة غير أبي عمرو من السبعة، لقوله تعالى: {رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} (المنافقون: 10) بعطف الفعل أكن المجزوم على فعل منصوب بأن مضمرة بعد فاء السببية، وكأن العبد الذي أسرف على نفسه في الذنوب حينما رأى مصيره ذُهل عن نفسه، فعطف مجزومًا على منصوب؛ توهمًا أن المعطوف عليه مجزوم بتقدير سقوط الفاء، وقصد الجزاء، حملًا على المعنى، فإن معنى لولا أخرتني فأصدق، ومعنى: إن أخرتني أصدق واحد. والعلة الحادية عشرة: علة مشاكلة، أي: لفظية وذلك ما يسمى بالازدواج والتناسب، ومعناها أن يُذكر الشيء بلفظ غيره؛ لوقوعه في صحبته كتنوين غير المنصرف لمشاكلته لما بعده في اللفظ، كتنوين سلاسل مع كونه على صيغة منتهى الجموع في نحو قوله تعالى: {سَلَاسِلَا وَأَغْلَالًا} (الإنسان: 4) لمشاكلته لما بعده. والعلة الثانية عشرة: علة معادلة، أي: مقابلة وموازنة، وذلك مثل: جرهم ما لا ينصرف بالفتح حملًا على النصب، ثم عادلوا بينهما أي: بين النصب والجر، فحملوا النصب على الجر في جمع المؤنث السالم، فجعلوا علامتي النصب والجر في هذا الجمع الكسرة، ومن ذلك تنوين المقابلة في جمع المؤنث السالم، فإنه في موازنة ومقابلة النون في جمع المذكر السالم بمعنى: أنه قائم مقام التنوين الذي في الواحد في المعنى الجامع لأقسام التنوين فقط، وهو كونه علامة لتمام الاسم، كما أن النون في الجمع المذكر السالم قائمة مقام التنوين الذي في الواحد في ذلك.

والعلة الثالثة عشرة: علة قرب ومجاورة. مثل: جرهم نعت المرفوع لمجاورته لمجرور، من باب إعطاء الشيء حكم الشيء إذا جاوره، كقولهم هذا جحر ضب خرب، فالنعت وهو لفظ خرب حقه الرفع؛ لأنه صفة لمرفوع وهو جحر، الواقع خبرًا للمبتدأ، لكنه جُرَّ لمجاورته المضاف إليه المجرور، وهو لفظ ضب. وقد أشار سيبويه في (الكتاب) إلى ذلك بقوله: "ومما جرى نعتًا على غير وجه الكلام: هذا جحر ضب خرب، فالوجه الرفع، وهو كلام أكثر العرب، وأفصحهم، وهو القياس؛ لأن الخرب نعت الجحر، والجحر رفع، ولكن بعض العرب يجره، وليس بنعت للضب، ولكنه نعت للذي أضيف إلى الضب، فجروه لأنه نكرة كالضب، ولأنه في موضع يقع فيه نعت الضب، ولأنه صار هو والضب بمنزلة اسم واحد، ألا ترى أنك تقول: هذا حب رمان، فإذا كان لك قلت: هذا حب رماني، فأضفت الرمان إليك، وليس لك الرمان إنما لك الحَب" انتهى. ومن علة المجاورة أيضًا قول امرئ القيس: كأن أبانًا في عرانين وبله ... كبير أناس في بجاد مزمل أبان: جبل، والعرانين: الأوائل، والأصل في هذا أن قولهم: للأنف عرنين قد استعير لأوائل المطر؛ لأن الأنوف تتقدم الوجوه، والوبل القطر العظيم، وضمير وبله راجع للسحاب في بيت قبله، والبجاد كساء مخطط من أكسية الأعراب من وبر الإبل، وصوف الغنم، والمزمل الملتف. والشاعر يشبه الجبل في أوائل مطر هذا السحاب، وقد غطاه الماء الذي أحاط به فلم يظهر منه إلا رأسه من السحاب بشيخ سيد في قومه، ملتف في كساء مخطط. والشاهد فيه أن قوله: مزمل صفة للاسم المرفوع الواقع خبرًا لكأن، وهو قوله: كبير، فحقه الرفع، وقد خُفض لمجاورته لبجاد المجرور بفي.

والعلة الرابعة عشرة: علة وجوب، كتعليلهم رفع الفاعل ونحوه، وتحليلهم انقلاب كل من الواو والياء ألفًا عند تحرك أيٍّ منهما، وانفتاح ما قبله. والعلة الخامسة عشرة: علة جواز، كإلحاق علامة التأنيث للفعل إذا كان المسند إليه اسمًا ظاهرًا مجازي التأنيث. تقول: طلعت الشمس، وطلع الشمس، ومن علة الجواز كذلك ما ذكروه في تعليل الإمالة من الأسباب المعروفة، فإن هذه الأسباب علة لجواز الإمالة فيما أُميل لا لوجوبها. والعلة السادسة عشرة: علة تغليب، وذلك أنهم يغلبون على الشيء ما لغيره، لتناسب بينهما أو اختلاط، فيطلق اسمه على الآخر، ويثنى بهذا الاعتبار قصدًا إليه وإلى الآخر جميعًا، كالأبوين في الأب والأم كما قال تعالى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} (النساء: 11)، وكالعمرين في أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-، ولأجل الاختلاط أطلقت مَن على ما لا يعقل في نحو قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} (النور: 45) فإن الاختلاط حاصل في العموم في قوله تعالى: {كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ}، وفصله بقوله: {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} إلى آخره، وفي قوله تعالى: {مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ} اختلاط آخر في عبارة التفصيل، فإنه يعمُّ الإنسان والطائر. ومن ذلك أيضًا تغليبهم المذكر على المؤنث في نحو قوله تعالى: {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} (التحريم: 12) فأدرج مريم -رضي الله عنها- في جمع المذكر السالم. والعلة السابعة عشرة: علة اختصار، كالترخيم، وهو حذف آخر المنادى، وكحذف النون من مضارع كان المجزوم بالسكون غير الموقوف عليه، ولا المتصل بضمير نصب، ولا الذي بعده ساكن كقوله تعالى: {وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (النحل: 120)، وقوله عز وجل: {وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} (مريم: 20).

والعلة الثامنة عشرة: علة تخفيف، فقولهم: يرى وترى وأرى، أصله يرأى، وترأى، وأرأى، فحذفت الهمزة التي هي عين الفعل للتخفيف القياسي بأن ألقيت حركتها على الراء قبلها، ثم حُذفت، فصار الفعل يرى وترى وأرى على وزن يفَل وتفل وأفل، ولزم هذا التخفيف والحذف لكثرة الاستعمال، ومن التخفيف أيضًا الإدغام وهو الإتيان بحرفين ساكن فمتحرك من مخرج واحد، دون أن يُفصل بينهما بحيث يرتفع بهما اللسان وينحط دفعة واحدة، والغرض منه التخفيف. والعلة التاسعة عشرة: علة أصل، كاستحوذ في قوله تعالى: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ} (المجادلة: 19) بتصحيح الواو من غير إعلال رجوعًا إلى الأصل، ومثل يُؤكرم مضارع أكرم من غير حذف الهمزة بمقتضى القياس، رجوعًا إلى الأصل كذلك، قال الراجز: فإنه أهل لأن يؤكرم ومثل ذلك أيضًا صرف ما لا ينصرف للاضطرار أو التناسب، فالأول كقول الشاعر: تبصر خليلي هل ترى من ظعائن ... سوالك نقبًا بين حزني شعبعب الظعائن: جمع ظعينة وهي المرأة في الهودج، والسوالك: جمع سالكة مفعول ثان لترى، ومفعوله الأول: ظعائن، زيدت فيه مِن، ونقبًا: مفعول سوالك، أي: طريقًا في الجبل، وحزني: مثنى حَزْن، وهو ما غلظ من الأرض، وشَعَبْعَب: اسم ماء، والشاهد في البيت: صرف ظعائن مع أنه على صيغة منتهى الجموع للضرورة الشعرية، ومثال الثاني قوله تعالى: {سَلَاسِلَا وَأَغْلَالًا} (الإنسان: 4). والعلة المتممة للعشرين: علة أولى، كقولهم: إن الفاعل أولى برتبة التقديم من المفعول. والعلة الحادية والعشرون: علة دلالة حال، كقول المستهل -أي: الذي يرى الهلال: الهلالُ، بالرفع أي: هذا الهلال، فحذف المبتدأ، أو قوله: الهلالَ، بالنصب أي: انظر الهلال، فحذف الفعل.

والعلة الثانية والعشرون: علة إشعار، أي: علة إعلام كقولهم في جمع موسى: موسون، بفتح ما قبل الواو وهو السين، وكذلك كل مقصور يُجمع هذا الجمع، وإنما يفتح ما قبل الواو إشعارًا بأن المحذوف ألف حذف لالتقاء الساكنين، فإن الأصل مُوسَيُون، تحركت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفًا، ثم حذفت لملاقاتها ساكنة مع علامة الجمع. والعلة الثالثة والعشرون: علة تضاد، مثل قولهم في الأفعال التي يجوز إلغاؤها كأفعال القلوب: متى تقدمت على مفعوليها، وأكدت بالمصدر أو بضميره لم تلغ أصلًا؛ لما بين التأكيد والإلغاء من التضاد، فإن الإلغاء يقتضي الإهمال وعدم الاعتداد بالشيء الملغى، والتأكيد بخلافه، فعلة عدم إلغائها التضاد. والعلة الرابعة والعشرون: علة تحليل، وهي التي اعتاص تفسيرها على ابن مكتوم، وذكرها ابن الصائغ نقلًا عن بعض كتب المحققين، ومن أمثلتها الاستدلال على اسمية كيف بنفي حرفيتها، بأنها إذا ضمت إلى اسم تركب منهما كلام مثل: كيف حالك، والحرف مع الاسم لا يركب منهما كلام؛ إذ القاعدة أن الحرف لا يكون بضميمته لمثله، أو للفعل كلامًا، وقد تركب من كيف إذا ضُمَّت للاسم كلام، ولا يعترض بنحو قولهم: يا زيد، فقد صرحوا بأنهم جملة وكلام، لما تقرر من أن يا قائمة مقام أدعو أو أنادي، فكان كلامًا بسبب ذلك، كما ذكر ابن الحاجب وغيره. والاستدلال على نفي فعلية كيف بمجاورتها الفعل بلا فاصل في نحو قول الله -تبارك وتعالى: {كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ} (الفيل: 1) والفعل لا يسند إلى الفعل، فتحلل أي: انحل وانفك بذلك عقدة كونها ليست اسمًا، إذ لا يمكن أن تكون حرفًا أو فعلًا أي: انحلت دعوى عدم اسمية كيف بعدم إمكان قسيمي الاسم، وهما الفعل والحرف فتعين كونها اسمًا، إذ لا قسيم سوى ذلك.

انقسام العلة إلى موجبة للحكم وإلى مجوزة له.

أما الصنف الثاني الذي لم يتعرض له الجليس، فقد بينه ابن السراج في مقدمة كتابه (الأصول في النحو)، وكان لابن جني تعليق وتعقيب على حديث ابن السراج، وذلك بالنسبة للضرب الثاني من الضربين المذكورين الذي سماه علة العلل، ويرى أن الذي سماه ابن السراج علة العلة إنما هو تجوُّز في اللفظ، فأما في الحقيقة فإنه شرح وتفسير وتتميم للعلة. انقسام العلة إلى موجبة للحكم وإلى مجوزة له لقد استمدَّ السيوطي في (الاقتراح) مادة هذا العنصر من باب أورده ابن جني في كتاب (الخصائص) بعنوان: باب في ذكر الفرق بين العلة الموجبة وبين العلة المجوزة، وقد أوضح فيه أن أكثر العلل عندنا مبناها على الإيجاب بها يعني: أنها مبنية على أساس أنتج على الحكم بمقتضاها على سبيل الإيجاب الصناعي، فيلحن تاركه أي: تارك الحكم بمقتضى العلة، وينسب إلى الجهل بالعربية. ومن أمثلة هذا النوع: العلل المقتضية نصب الفضلة أي: ما زاد على ركني الإسناد، وإن توقف عليه صدق الكلام ككثير من الأحوال اللازمة، أو ما شابه في اللفظ الفضلة كخبر كان، ومفعولي ظن، فإنها عمد في الأصل، لكنها شابهت الفضلة، فجرت مجراها، ورفع المبتدأ والخبر، والفاعل وجر المضاف إليه، وغير ذلك؛ فعلل هذه الداعية إليها موجبة لها، غير مقتصر بها على تجويزها، وعلى هذا مفاد كلام العرب أي: فائدة كلامهم. وذكر ابن جني أن هناك نوعًا آخر يسمى علة، وهو ليس كذلك، وإنما هو في الحقيقة سبب يجوز الحكم ولا يوجبه، ومن هذا النوع: الأسباب الستة الداعية إلى الإمالة، فهي علة الجواز لا علة الوجوب، بدليل أنه ليس في الدنيا أمر يوجب الإمالة لا بد منها، وأن كل ممال لعلة من تلك الأسباب الستة لك أن تترك إمالته مع وجودها فيه، فهذه إذن علة الجواز لا علة الوجوب.

انقسام العلة إلى بسيطة وإلى مركبة.

ولو كانت علة حقيقية لأوجبت الإمالة لدوران الحكم مع علته وجودًا وعدمًا بمعنى: أنها إذا وُجدت وجد الحكم، وإذا انعدمت انعدم الحكم، ومن ذلك علة قلب واو "وُقتت" همزة كقوله تعالى: {وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ} (المرسلات: 11) أُبدلت الواو همزة؛ لكونها واوًا مضمومة ضمًّا لازمًا، فكأنه اجتمع فيها واوان، ومع ذلك يجوز إبقاؤها، وقد قرأ أبو عمرو وهو أحد القراء السبعة "وقتت" من غير إبدال، فعِلتها إذن مجوزة لا موجبة. وكذا كل موضع جاز فيه إعرابان فأكثر، كالذي يجوز جعله بدلًا وحالًا، وذلك أن تقع النكرة بعد المعرفة التي يتم الكلام بها، وتلك النكرة هي المعرفة في المعنى، فيجوز أن تعدها بدلًا، ويجوز لك أن تعدها حالًا نحو: مررت بزيد رجل صالح، على البدل، ومررت بزيد رجلًا صالحًا على الحال. قال السيوطي: "فظهر بهذا الفرق بين العلة والسبب". انقسام العلة إلى بسيطة وإلى مركبة البسيطة: هي التي يقع التعليل بها من وجه واحد كالتعليل بالاستثقال في تقدير الضمة في حالة الرفع، والكسرة في حالة الجر في الاسم المنقوص، والجوار كتعليل جر خرب، الواقع نعتًا لمرفوع في قولهم: هذا جحر ضب خرب، بمجاورته لمجرور، والمشابهة كتعليل إعراب الفعل المضارع بمشابهته للاسم، ونحو ذلك. والمركبة: هي ما تركبت من عدة أوصاف اثنين فصاعدًا، كتعليل قلب واو ميزان وميعاد؛ بوقوع كل منهما ساكنة إثر كسرة، إذ الأصل فيهما مِوْزَان وموعاد، لأنهما من الوزن والوعد فالعلة في القلب فيهما ليس مجرد سكون الواو فقط، ولا وقوعها بعد كسرة فقط، بل العلة مجموع الأمرين معًا، وذلك كثير جدًّا. هذا وبالله التوفيق وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 6 جواز التعليل بعلتين وجواز تعليل حكمين بعلة واحدة.

الدرس: 6 جواز التعليل بعلتين وجواز تعليل حكمين بعلة واحدة.

تعليل الحكم الواحد بعلتين.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السادس (جواز التعليل بعلتين وجواز تعليل حكمين بعلة واحدة) تعليل الحكم الواحد بعلتين الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: إنما جاز تعليل الحكم الواحد بعلتين، لأن المعاني لا تتزاحم، والعلل موضحة ومبينة وليست مؤثرة لأنها بعد الوقوع، وقد استمدَّ السيوطي مادة هذه المسألة، وهي جواز تعليل الحكم بعلتين من كتابي (الخصائص) و (لمع الأدلة)، ومجمل ما أورده ابن جني في (الخصائص) في باب عنوانه: باب في حكم المعلول بعلتين، أن هذا الباب على ضربين؛ أحدهما: ما لا نظر فيه، والآخر محتاج إلى النظر، ومن أمثلة الضرب الأول نحو قولهم: هذه عشريَّ، وهؤلاء مسلمي، فإن الأصل عشروي ومُسْلِمُويَ، فقُلبت الواو ياء لأمرين كل واحد منهما على حدته موجب للقلب من غير احتياج إلى الآخر؛ للاستعانة به على قلبه. أحدهما: اجتماع الواو والياء وسبق الأولى منهما بالسكون، والآخر أن ياء المتكلم أبدًا تكسر الحرف الذي قبلها إذا كان صحيحًا لمناسبتها نحو: هذا غلامي، ورأيت صاحبي، وقد ثبت فيما قبل أن نظير الكسر في الصحيح الياء في هذه الأسماء؛ فوجب قلب الواو ياء، وإدغامها في الياء؛ ليمكن كسر ما قبل ياء المتكلم، فهذه علة غير الأولى في وجوب قلب الواو ياء. ومن المعلول بعلتين أيضًا قولهم: سي في لاسيما، وري، والسي هو المثل والنظير تقول مثلًا: أتقن علوم العربية ولاسيما النحو، والمعنى: وبخاصة النحو، وسي أصله سِوْيٌ، وري أصله رويٌ؛ فانقلبت الواو ياء -إن شئت- لأنها ساكنة غير مدغمة وبعد كسرة، وإن شئت لأنها ساكنة قبل الياء، فهاتان علتان، إحداهما: كقلب ميزان أو كعلة قلب ميزان، وأصله موزان.

والأخرى: كعلة طي ولي مصدري طويت ولويت، وأصل المصدرين طوي ولوي، وكل من هاتين العلتين مؤثرة على حدة في القلب. فهذا ونحوه أحد ضربي الحكم المعلول بعلتين، والضرب الآخر منهما ما فيه النظر، وهو باب ما لا ينصرف، وذلك أن علة امتناعه من الصرف إنما هي لاجتماع شبهين فيه من أشباه الفعل، أو لوجود شبه واحد يقوم مقام الشبهين كما مضى تفصيله في بابه من النحو، كما أورد ابن جني في (الخصائص) في باب عنوانه: باب في تقاود السماع، وتقارع الانتزاع أنه قد يكثر الشيء، فيُسأل عن علته كرفع الفاعل ونصب المفعول، فيذهب قوم إلى شيء وآخرون إلى غيره، فيجب إذن تأمل القولين واعتماد أقواهما أي: أن يعتمد المتأمل ما يراه قويًّا من ذلك؛ لقوة مدركه، أو لموافقته المنقول، ويرفض الآخر، ولا يعتد به، فإن تساويا في القوة أي: في قوة المدرك وموافقة المنقول؛ لم ينكر اعتقادهما جميعًا، فقد يكون الحكم الواحد معلولًا بعلتين. أما أبو البركات الأنباري، فذكر في الفصل التاسع عشر من (لمع الأدلة) أن العلماء اختلفوا في تعليل الحكم بعلتين فصاعدًا، فذهب قوم إلى أنه لا يجوز؛ لأن هذه العلة أي: النحوية مشبهة بالعلة العقلية، والعلة العقلية لا يثبت الحكم معها إلا بعلة واحدة أي: لأنها مؤثرة، ولا يوجد أثر واحد لمؤثرين، فكذلك ما كان مشبهًا بها. وذهب قوم إلى أنه يجوز أن يعلل الحكم بعلتين فصاعدًا، وذلك مثل أن يدل على كون الفاعل ينزل منزلة الجزء من الفعل بعلل متعددة: الأولى: أنه تسكن له لام الفعل إذا اتصل به ضمير رفع متحرك نحو: أنا فهمت، ونحن فهمنا، وهن فهمن.

والثانية: أنه يمتنع العطف عليه إذا كان ضميرًا متصلًا قبل الفصل بينه وبين ما عطف عليه بشيء، ويجوز العطف مع الفصل كالفصل بالضمير المنفصل مثل: أحسنت أنت وإخوانك، فما بعد الواو معطوف على الضمير المرفوع المتصل الواقع فاعلًا في محل رفع، وصحَّ ذلك للفصل بالضمير المنفصل، وهو أنت، والضمير المرفوع المستتر في ذلك كالضمير المرفوع المتصل، ومن ذلك قوله تعالى: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} (البقرة: 35) فزوجك معطوف على الضمير المرفوع المستتر في {اسْكُنْ}؛ لأن الضمير المرفوع المتصل أو المستتر كالجزء من عامله لفظًا ومعنى، ولا يُعطف على جزء الكلمة، فإذا فُصل بينه وبين ما عُطف عليه بفاصل ما؛ حصل له نوع من الاستقلال فجاز العطف عليه. والثالثة: وقوع الإعراب بعده في الأمثلة الخمسة أي: في الأفعال الخمسة فتقول: الطلاب يجتهدون ولم يقصروا، ولن يقصروا، فواو الجماعة في الأفعال الثلاثة المذكورة ضمير رفع؛ لأنها فاعل، والفعل الأول مرفوع بثبوت النون، والثاني مجزوم بحذفها، والثالث منصوب بحذفها كذلك، فإعراب الثلاثة وقع بعد الضمير. ومن المعلوم أن الإعراب إنما يكون في أواخر الكلم مما يدل على أن الضمير المرفوع عُدَّ كالجزء من الفعل، وكأن آخر الفعل ما بعده. والرابعة: اتصال تاء التأنيث بالفعل إذا كان الفاعل أو نائبه مؤنثًا. والخامسة: قول العرب في النسب إلى كنت: كنتيٌ، فاعتبروا كان واسمها -وهو ضمير مرفوع متصل- كلمة واحدة، فألحقوا بآخرها علامة النسب، وهي الياء المشددة كقول الشاعر: فأصبحت كنتيًّا وأصبحت عاجنًا ... وشر خصال المرء كنت وعاجن

فقوله: كنتي معناه أن يقول: كنت أفعل في شبابي كذا، وكنت في حداثتي أصنع كذا، والعاجن هو الذي أسن، فلا يستطيع القيام إلا إذا اعتمد على يديه من شدة ضعفه، فأجروا ضمير الرفع مجرى الدال من زيد، وكأنهم نبَّهوا بهذا على قوة اتصال الفعل بهذا الضمير المتصل به، وأنهما قد حلَّا جميعًا محل الجزء الواحد. والسادسة: قولهم: حبذا، من نحو: حبذا زيد يعني: أنهم ركبوا حَب وهو فعل مع اسم الإشارة ذا، فصارا بمنزلة اسم واحد حكم على موضعه بالرفع على الابتداء، وهو ظاهر مذهب الخليل وسيبويه، كما في (الكتاب). وقد تغلَّب على المركب في هذا القول جانب الاسمية. والسابعة: قولهم: لا أحبذه، أي: لا أقول له مادحًا إياه: حبذا، فلا نافية، وأحبذ فعل مضارع، فاعله ضمير مستتر تقديره: أنا، والهاء مفعوله، وقد تغلب على المركب في هذا القول جانب الفعلية. والثامنة: إبدالهم تاء الضمير طاء في قولهم: فحصط برجلي، وأصله فحصت، فشبهوا تاء الفاعل بتاء افتعل كاصطبر، وأصله اصتبر؛ فأبدلت التاء طاء لتجانس الصاد في الإطباق، والإطباق هو أن ترفع في النطق أطراف لسانك إلى الحنك الأعلى مطبقًا له، فيفخم ذلك نطق الحرف، وحروف الإطباق هي: الصاد والضاد والطاء والظاء. قال ابن جني في (سر صناعة الإعراب): "ووجه شبه تاء فعلت بتاء افتعل أنها ضمير الفاعل، وضمير الفاعل قد أُجري في كثير من أحكامه من الفعل مجرى بعض أجزاء الكلمة من الكلمة، وذلك لشدة اتصال الفعل بالفاعل" انتهى.

جواز تعليل حكمين بعلة واحدة.

فهذه ثماني علل عُلِّلَ بها حكم واحد مما يدل على جواز تعدد العلل لحكم واحد في العربية، قال الأنباري في (لمع الأدلة) بعد إيراده هذه العلل وغيرها: "وتمسكوا -أي: مجيزو التعدد- في الدلالة على جواز ذلك بأن هذه العلة ليست موجبة، وإنما هي أمارة ودلالة على الحكم، وكما يجوز أن يستدل على الحكم بأنواع من الأمارات والدلالات، فكذلك يجوز أن يستدل عليه بأنواع من العلل، وعقَّب الأنباري بقوله: وهذا ليس بصحيح. وقولهم: إن هذه العلة ليست موجبة، وإنما هي أمارة ودلالة قلنا: ما المعنيِّ أي: ما المقصود بقولكم: إنها ليست موجبة؟ إن عنيتم -أي: إن قصدتم- أنها ليست موجبة كالعلل العقلية كالتحرك لا يُعلل إلا بالحركة، أو العالِمية لا تُعلل إلا بالعلم، فمسلَّم، وإن عنيتم أنها غير مؤثرة بعد الوضع على الإطلاق فلا نسلم، فإنها بعد الوضع أصبحت بمنزلة العلل العقلية، فينبغي أن تجري مجراها" انتهى. ويُفهم من هذه العبارة أن الحكم من الأنباري بعدم الصحة ينصب على تفسير كون العلة النحوية ليست موجبة بأنها غير مؤثرة، لا على جواز تعدُّد العلل. جواز تعليل حكمين بعلة واحدة افتتح السيوطي هذه المسألة بعد العنوان بقوله: "قال في (الخصائص): سواء لم يتضادا أم تضادا كقولهم: مررت بزيد ... إلى آخره"، وكعادة السيوطي نراه يتصرف في النقل، فيورد النص بالمعنى، ويتجه غالبًا إلى الإيجاز والاختصار، وعبارة ابن جني منقولة بمعناها من باب عنوانه: باب في تقاود السماع، وتقارع الانتزاع أي: في اتفاق السماع واطراده في شيء، وتخالف الاستنباط وتغايره فيه. قال ابن جني في هذا الباب: "واعلم أن اللفظ قد يرد شيء منه، فيجوز جوازًا صحيحًا أن يُستدل به على أمر ما، وأن يُستدل به على ضده البتة، وذلك نحو:

مررت بزيد، ورغبت في عمرو، وعجبت من محمد، وغير ذلك من الأفعال الواصلة بحروف الجر، فأحد ما يدل عليه هذا الضرب من القول أن الجار معتدٌّ من جملة الفعل الواصل به، ألا ترى أن الباء في مررت بزيد معاقبة لهمزة النقل في نحو: أمررت زيدًا، وكذلك أخرجته وخرجت به، وأنزلته ونزلت به، فكما أن همزة أفعل مصوغة فيه كائنة من جملته، فكذلك ما عاقبها من حروف الجر ينبغي أن يعتدَّ أيضًا من جملة الفعل؛ لمعاقبته ما هو من جملته، فهذا وجه. والآخر: أن يدل ذلك على أن حرف الجر جارٍ مجرى بعض ما جره، ألا ترى أنك تحكم لموضع الجار والمجرور بالنصب فيعطف عليه، فينصب لذلك فتقول: مررت بزيد وعمرًا، وكذلك أيضًا لا يفصل بين الجار والمجرور؛ لكونهما في كثير من المواضع بمنزلة الجزء الواحد، أفلا تراك كيف تقدر اللفظ الواحد تقديرين مختلفين، وكل واحد منهما مقبول في القياس متلقى بالبشر والإيناس" انتهى. ومجمل ما ذكره ابن جني في هذا النص أن نحو: مررت بزيد ونظائره مما يتعدى فيه الفعل بحرف من حروف الجر، يُستدل به على أن الجار والمجرور معدود من جملة الفعل، كما يستدل به على ضد ذلك أي: على أنه معدود من جملة الاسم المجرور به، ووجه كونه معدودًا من جملة الفعل أنه معدٍّ للفعل يجعل الفعل يتعدى به، فهو بمنزلة همزة التعدية التي تكون مجعولة حرفًا من بنية الفعل، وهي همزة أفعل، فكذلك ما عاقبها يعني: ما ناب عنها وخلفها. ووجه كونه جاريًا مجرى بعض مجروره أمران؛ أحدهما: أنه يحكم لموضع الجار والمجرور بالنصب، فيعطف عليهما بالنصب مراعاة لموضعهما في نحو: مررت بزيد وعمرًا، فعمرًا منصوب عطفًا على موضع بزيد عند ابن جني.

والآخر: أنه لا يُفصل بينهما بفاصل لأنهما بمنزلة الجزء الواحد، ونحن نلاحظ أن السيوطي لم يذكر في (الاقتراح) ما أجازه ابن جني من نحو: مررت بزيد وعمرًا، لماذا؟ لأنه لا يجيز ما أجازه ابن جني من مثل هذا الإعراب، وإنما يختار مذهب المحققين في اشتراطهم في العطف على الموضع إن كان ظهور هذا الموضع في فصيح الكلام، ولا يجوز في فصيح الكلام أن يقال: مررت زيدًا، ومن هنا لا يجوز عند المحققين العطف بالنصب على موضعه، ما دام المعطوف عليه لا يجوز نصبه وإسقاط الجار منه في الكلام الفصيح؛ لما فيه من تعدية القاصر أي: اللازم بنفسه. أما قول جرير: تمرون الديار ولم تعوجوا ... كلامكم علي إذن حرام فمقصور على السماع أو هو ضرورة، وابن جني لم يشترط ما اشترطه المحققون الذين يجيزون نحو: مررت بزيد وعمرًا، لكنهم يعربون ما بعد الواو -يعني: يعربون عمرًا- مفعولًا به لفعل محذوف تقديره: وجزت عمرًا، مثلًا، وقد أعاد ابن جني حديث مررت بزيد ونحوه في باب التقديرين المختلفين لمعنيين مختلفين في (الخصائص)، وعقَّب عليه بقوله: "فإنه مما يقبله القياس ولا يدفعه" انتهى. وأورد السيوطي مثالًا آخر نقلًا عن (الخصائص) أيضًا فقال: "وقال -أي: ابن جني في موضع آخر: باب في أن سبب الحكم قد يكون سببًا لضده على وجه، هذا باب ظاهره التدافع أي: التعارض، وهو مع استغرابه صحيح واقع، وذلك نحو قولهم: القود، أي: القصاص، والحَوَكة جمع حائك من حاك الثوب يحوكه حوكًا، وحياكًا، وحياكة أي: نسجه". قال السيوطي ملخصًا ما قال ابن جني في تصحيح الواو الواقعة عينًا لكلمتي القود والحوكة، ونظائرهما قال: "فإن القاعدة في مثله الإعلال بقلب الواو ألفًا

لتحركها، وانفتاح ما قبلها، لكنهم شبهوا حركة العين التابعة لها بحركة اللين أي: بحرف الألف التابع لها، فكأن فعلن فعال، فكما صح نحو: جواب وهيام، صح باب القود والغيب ونحوه" انتهى. يعني: أن القاعدة الصرفية تقضي بقلب الواو والياء ألفين إذا تحركتا وانفتح ما قبلهما، ولكن الكلمات التي جاءت عن العرب بتصحيح العين مما يُخالف بظاهره هذه القاعدة كالقود، والحوكة، والغَيَب، وهو جمع غائب، وكلها على وزن فعل، فقد شبَّهوا الفتحة التي هي حركة العين في هذه الكلمات بحرف الألف، فعوملت معاملة ما كان وزنه فعالًا كجواب، وهيام. ومن شروط قلب الواو والياء ألفين إذا تحركتا وانفتح ما قبلهما أن يتحرك ما بعدهما إن كانتا عينين، ولذلك صحت العين في نحو: بيان، وطويل، وغيور، لسكون ما بعدهما. قال ابن جني معلقًا على ذلك: "ألا ترى إلى حركة العين التي هي سبب الإعلال كيف صارت على وجه آخر سببًا للتصحيح، وهذا وجه غريب المأخذ" انتهى. ومن باب إتمام الفائدة وإكمال النفع نذكر مثالًا آخر لهذا الباب، أورده ابن جني في (الخصائص)، ولم يذكره السيوطي عملًا بمبدئه في التلخيص والاختصار، وذلك قول كَلْحَبة العريني: إذا المرء لم يخش الكريهة أوشكت ... حبال الهوينى بالفتى أن تقطعا ومعنى البيت: أن الإنسان إذا لم يخشَ مواجهة الشدائد والنوازل قاربت حبال الهوينى أي: الصبر والاتئاد عنده أن تتقطع عند إحساسه بأقل بادرة منها، قال ابن جني معلقًا على البيت: "وهذا عندهم قبيح، وهو إعادة الثاني مظهرًا بغير لفظه الأول، وإنما سبيله أن يأتي مضمرًا نحو: زيد مررت به، فإن لم يأت مضمرًا وجاء مظهرًا، فأجود ذلك أن يُعاد لفظه الأول البتة نحو: زيد مررت بزيد كقول الله

سبحانه: {الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ} (الحاقة: 1، 2)، و {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ} (القارعة: 1، 2) وقوله: لا أرى الموت يسبق الموت شيء ... نغص الموت ذا الغنى والفقير يعني ابن جني: أن وجه الحكم بالقبح على ما قال كلحبة، هو إعادته الاسم الظاهر، وهو المرء بلفظ اسم ظاهر غير لفظه الأول، وهو لفظ الفتى. وكان عليه إما أن يعيد الثاني مضمرًا فيقول: أوشكت حبال الهوينى به، وإما أن يُعيده مظهرًا لكن بلفظ الاسم الأول أي: أن يقول: أوشكت حبال الهوينى بالمرء، واستشهد على إعادة الثاني بلفظه الأول بما جاء في أول سورتي الحاقة والقارعة، وببيت من شواهد سيبويه في (الكتاب) منسوب إلى سواد بن عدي. وقد ذكر السيرافي في شرحه على (الكتاب) أن الاسم الظاهر متى احتيج إلى تكريره في جملة واحدة، كان الاختيار أن يذكر ضميره؛ لأن ذلك أخفَّ، وأنفى للشبهة، واللبس، ولو أعدت لفظه بعينه في موضع ضميره؛ لجاز، ولم يكن ذلك وجه الكلام، وإذا أعدت ذكره في غير تلك الجملة جاز إعادة ظاهره وحسن، كقولك: مررت بزيد، وزيد رجل صالح، قال الله تعالى: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (الأنعام: 124) فأعاد الظاهر؛ لأن قوله: {اللهُ أَعْلَمُ} جملة ابتداء وخبر وقد مرت الجملة الأولى" انتهى. وإنما تعيد العرب الظاهر بلفظه في جملة واحدة في مقام التفخيم أو التهويل كقوله تعالى: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} (الواقعة: 8)، وقوله عز وجل: {الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ}. ونعود إلى مواصلة حديث ابن جني عن بيت كلحبة حيث قال: "ويمكن أن يجعله جاعل سبب الحسن". يعني: يمكن أن يجعل جاعل

تعارض العلل.

إعادة الظاهر بلفظ غير لفظه في البيت، وهو الذي كان سببًا للحكم عليه بالقبح يُمكن أن يجعله سببًا للحكم له بالحسن. وأوضح ابن جني ذلك فقال: "وذلك أنه لما لم يعد لفظ الأول البتة، وعاد مخالفًا للأول؛ شابه بخلافه له المضمر الذي هو أبدًا مخالف للمظهر وعلى ذلك قال: أوشكت حبال الهوينى بالفتى، ولم يقل: به ولا بالمرء، أفلا ترى أن القبح الذي كان في مخالفة الظاهر الثاني للأول قد عاد فصار بالتأويل من حيث أرين حسنًا، وسببهما جميعًا واحد، وهو وجه المخالفة في الثاني للأول" انتهى. تعارض العلل مادة هذه المسألة في (الاقتراح) ملخصة عن باب أورده ابن جني في (الخصائص) بالعنوان نفسه، وقد ذكر ابن جني فيه أن الكلام في معنى تعارض العلل ضربان؛ أحدهما: حكم يتجاذب وجوده وحصوله علتان فأكثر منهما، والآخر حكمان في شيء واحد مختلفان دعت إليهما علتان مختلفتان، فالأول: سبق ذكره عن ابن جني وهو جواز التعليل بعلتين، ومثَّل له فيما مثل بقلب الواو ياء في نحو: مسلمي لأمرين، ومن الأمثلة التي ذكرها في باب تعارض العلل لهذا النوع أيضًا رفع المبتدأ. فالبصريون يعللون رفعه بالابتداء، والكوفيون يعتلون إما يرفعونه بالخبر الذي هو مرافعه، فالمبتدأ والخبر عندهم يترافعان، وإما بما يعود عليه من ذكره من الخبر على حسب مواقعه. وكذلك رفع الخبر، ورفع الفاعل، ورفع ما أقيم مقامه، ورفع خبر إن وأخواتها، وكذلك نصب ما انتصب، وجر ما انجر، وجزم ما انجزم، مما يتجاذبه الخلاف في علله، فكل واحد من هذه الأشياء له حكم واحد تتنازعه العلل.

والثاني من ضربي تعارض العلل كإعمال أهل الحجاز ما النافية تشبيهًا لها بليس أي: لكونها مثلها لنفي الحال عند الإطلاق، وترك بني تميم إعمالها، وإجرائهم إياها مجرى هل، ونحوها مما لا يعمل؛ لعدم الاختصاص بقبيل أي: بنوع من نوعي الكلمة الأسماء والأفعال. فكأن أهل الحجاز لما رأوها داخلة على المبتدأ والخبر دخول ليس عليهما، ونافية للحال نفيها إياها؛ أجروها في الرفع والنصب مجراها، وكأن بني تميم لما رأوها حرفًا داخلًا بمعناه يعني: لمجرد إفادة معنى النفي على الجملة المستقلة بنفسها، ومباشرة لكل واحد من جزأيها كقولك: ما زيد أخوك، وما قام زيد؛ أجروها مجرى هل، ألا تراها داخلة على الجملة لمعنى النفي دخول هل عليها للاستفهام، ولذلك كانت عند سيبويه لغة التميميين أقوى قياسًا من لغة الحجازيين. انتهى. يريد أقوى مدركًا، وإن كانت الحجازية أفصح وأقوى سماعًا؛ لنزول القرآن الكريم بها، وكذلك ليتما، وأصلها ليت، وقد اتصلت بها ما الزائدة فمن العرب من يلغيها عن العمل؛ إلحاقًا لها بأخواتها إن وأن وكأن ولعل، ولكن إذا اتصلت بهن ما الزائدة، فإنها تكفهنَّ عن العمل، وتجعلهن حروف ابتداء، وتهيئهن للدخول على الجمل الفعلية أيضًا بعد أن كنَّ مختصات بالدخول على الجمل الاسمية، ومن كفَّ ليت عن العمل بما قال: لا تكون ليت في وجوب العمل بها أقوى من الفعل. وقد نرى الفعل إذا كف بـ: ما زال عن عمله، وذلك كقولهم: قلما يقوم زيد، فما دخلت على قل، كافة لها عن عملها، ومثله كثرما وطالما، فكما دخلت ما على الفعل نفسه فكفته عن العمل، وهيأته لغير ما كان قبلها متقاضيًا له، كذلك تكون ما كافة لليت عن عملها، ومصيرة لها إلى جواز وقوع الجملتين جميعًا بعدها.

وبعض العرب يجعل ليتما ناصبة للاسم رافعة للخبر، من غير أن تكفها ما الزائدة عن العمل؛ إلحاقًا لها بحروف الجر التي تدخل عليها ما الزائدة، فلا تكفها عن العمل مثل: الباء كقوله عز وجل: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} (النساء: 155)، وعن كقوله تعالى: {عَمَّا قَلِيلٍ} (المؤمنون: 40)، ومِن كقوله تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ} (نوح: 25) في قراءة غير أبي عمرو من السبعة، واللام كقول الأعشى: إلى ملك خير أربابه ... فإن لما كل شيء قرارًا أي: فإن لكل شيء قرارًا، وذكر ابن جني أن الفرق بين ليت وبين كأن ولعل أنها أشبه بالفعل، منهما وقال: "ألا تراها مفردة وهما مركبتان؛ لأن الكاف زائدة واللام زائدة" انتهى. وقال السيوطي: "وفرق بينها أي: بين ليت، وبين أخواتها بأنها أشبه بالفعل في الإفراد، وعدد الحروف" انتهى. قال ابن الطيب في (الفيض): "فإن ليت بوزن ليس بخلاف أخواتها" انتهى. وابن جني إنما ذكر في (الخصائص) الفرق بينها وبين كأن ولعل كما أوضحنا، والذي يطمئن إليه الضمير العلمي في هذه المسألة في ضوء ما ورد في (الكتاب) لشيخ النحاة سيبويه وغيره ممن تناولها بالبحث والدراسة: أن ليتما يجوز كفها عن العمل بـ: ما المتصلة بها، وهذا الإلغاء حسن، ويجوز إعمالها واعتبار ما زائدة غير كافة يعني: وهذا الإعمال أحسن. وقد قال ابن يعيش في (شرح المفصل): "ومن ذلك ليتما الإلغاء فيها حسن، والإعمال أحسن؛ لقوة شبهها بالفعل، وعدم تغاير معناها" انتهى. وعكس ذلك الحكم ابن الحاجب في كافيته، وسار شارحه الرضي على مذهبه، فقال ابن الحاجب فيها: "وتلحقها ما فتلغى على الأفصح"، وقال الرضي في (الشرح): "إذا دخلت ما على ليت جاز أن تعمل وأن تلغى، وروي قوله: قالت: ألا ليتما هذا الحمام لنا ... إلى حمامتنا ونصفه فقد

رفعًا ونصبًا يعني: برفع الحمام على إهمال ليتما، ونصبه على إعمالها، ولم يسمع الإلغاء والإعمال عن العرب إلا مع ليتما"، وتابع الرضي شرحه فقال: "والإلغاء أكثر، لأنها تخرج بـ: ما عن الاختصاص بالجملة الاسمية، فالأولى ألا تعمل" انتهى. ولم يذكر شاهدًا واحدًا على دخول ليتما على الجملة الفعلية. ومن الضرب الثاني لتعارض العلل أيضًا: هلم، فقد ألحقها الحجازيون باسم فعل الأمر؛ لدلالتها على الأمر من غير أن تقبل علامة فعل الأمر، فلا تتصل بها نون التوكيد، وتكون بلفظ واحد للمفرد والمثنى، والجمع، والمذكر والمؤنث، وبلغتهم جاء التنزيل، وقد وردت متعدية بمعنى أحضِر، وهات، ومنه قوله تعالى: {هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ} (الأنعام: 150)، ولازمة بمعنى: ايت، وأقبل، وتتعدى بإلى كقوله عز وجل: {هَلُمَّ إِلَيْنَا} (الأحزاب: 18) والتميميون يُلحقونها العلامات، فهي عندهم فعل أمر فتتصل بها الضمائر على حد اتصالها بالأفعال، فيقولون: هلم، وهلمي، وهلما، وهلموا، وهلممن، على حسب نوع المخاطب وعدده استصحابًا ومراعاة لأصلها، فهي في الأصل مركبة من ها التي للتنبيه، ولُمَّ التي هي فعل أمر من قولهم: لَمَّ الله شعثه أي: جمعه، كأنه قيل: اجمع نفسك إلينا، وحذفت ألفها لكثرة الاستعمال، وهذا رأي أكثر البصريين، أو مِن هل الاستفهامية وأُمّ بضم الهمزة وشد الميم بمعنى: اقصد وهو رأي الفراء، ونسب إلى الكوفيين، والمشهور بين أهل العربية أنها بسيطة، كما نقله ابن العِلْج للبسيط، بل حكى بعضهم الإجماع على بساطتها، وفيه نظر لما علمت. هذا وبالله التوفيق وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 7 مسالك العلة.

الدرس: 7 مسالك العلة.

الإجماع.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السابع (مسالك العلة) الإجماع الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: إن الإجماع مسلك من مسالك العلة عند علماء أصول الفقه، وعنهم أخذه النحاة. وقد ذكر السيوطي أنه إذا أجمع أهل العلم بالعربية على علة لحكم من الأحكام، كان هذا الإجماع معتبرًا واجبًا قبوله، ومثاله: إجماعهم على أن علة تقدير جميع الحركات في آخر الاسم المقصور التعذُّر، أي: لأن الألف التي في آخر المقصور مع بقائها على لينها لا تقبل الحركات أصلًا، وإجماعهم على أن علة تقدير الضمة في حالة الرفع، والكسرة في حالة الجر في الاسم المنقوص الاستثقال. فمن المعلوم أن الاسم المقصور وهو الذي ينتهي بألف لازمة قبلها فتحة لا تظهر عليه أيُّ حركة من حركات الإعراب الثلاثة، بل تُقدر جميعها على الألف، وأن الاسم المنقوص وهو الذي ينتهي بياء قبلها كسرة تظهر عليه الفتحة وحدها في حالة النصب؛ لخفتها، وتُقدَّر على آخره الضمة والكسرة؛ إذ إن الفتحة والكسرة فيهما ثقل، وهما في حرف اللين أثقل فلما أجمع العلماء على أن تقدير الحركات في المقصور والمنقوص لعلتي التعذر والثقل؛ كان إجماعهم مسلكًا من مسالك العلة يجب قبوله، ويلزم المصير إليه. النص إن المراد به هنا أن ينصَّ العربي الفصيح على علة حكم من الأحكام، بحيث يكون كلامه صريحًا لا إشارة فيه، ولا تلميح، وهو مأخوذ من قولك: نصصت الشيء إذا رفعته وأظهرته. يقول السيوطي: "الثاني -من مسالك العلة: النص بأن ينص العربي على العلة"، ومعنى ما ذكره السيوطي أن العلة التي يصرح بها العربي فيما نطق به يجب قبولها، ولا يجوز ردُّها؛ لأنه أعلم بمراده من كلامه، وهذه ثلاثة أمثلة في كل مثال منها علة نص عليها عربي فصيح.

المثال الأول: قال أبو عمرو بن العلاء: "سمعت رجلًا من اليمن يقول: فلان لغوب أي: أحمق جاءته كتابي فاحتقرها، فقلت له: أتقول: جاءته كتابي؟ فقال: نعم، أليس بصحيفة"، فقد نطق العربي بعبارة يوهم ظاهرها مخالفة الصواب، والوقوع في الخطأ؛ إذ إنه عامل الكتاب -وهو لفظ مذكر- معاملة المؤنث، فأنث له الفعل جاءته، وأعاد الضمير إليه مؤنثًا احتقرها. وقد أنكر أبو عمرو بن العلاء صنيع الأعرابي، وسأله: "أتقول: جاءته كتابي؟ " وهو سؤال يُفهم منه الإنكار على الأعرابي تأنيث المذكر، فقال الأعرابي مجيبًا عما ارتكبه من التأنيث بأنه يطلق على الكتاب صحيفة فيؤنث باعتبارها؛ لأنهما بمعنًى واحد. وقد علق ابن جني على هذه القصة بقوله: "أفتراك تريد من أبي عمرو وطبقته، وقد نظروا، وتدربوا وقاسوا، وتشرفوا أن يسمعوا أعرابيًّا جافيًا غفلًا يُعلِّل هذا الموضع بهذه العلة، ويحتجُّ لتأنيث المذكر بما ذكره، فلا يهتاجوا هم لمثله، ولا يسلكوا فيه طريقته فيقول: فعلوا كذا لكذا، وصنعوا كذا لكذا، وقد شرع لهم العربي ذلك، ووقفهم على سمته وأمِّه" انتهى. والذي يرمي إليه ابن جني من تعليقه السابق هو أن العلة التي نص عليها ذلك الأعرابي تُعدُّ مسلكًا ثابتًا يجب الاعتماد عليه. والمثال الثاني عن المبرد أنه قال: "سمعت عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير يقرأ "ولا الليل سابق النهارَ" (يس: 40) فقلت له: ما تريد؟ أي: ما تريد بحذف التنوين ونصب المضاف إليه، فإنه غير معروف في مشهور الكلام، قال: سابقٌ النهار يعني: بالتنوين الموجب للنصب، فقلت له: فهلا قلته؟ فقال: لو قلته لكان أوزن"، فقد قرأ القارئ بما يخالف المعهود في لسان العرب؛ لأن المعهود في هذه الآية ونحوها أمران:

الأول: أن ينوَّن اسم الفاعل وينصب معموله، كما يقال مثلًا: هذا ضاربٌ زيدًا، والثاني: أن يُحذف التنوين من اسم الفاعل ويجر معموله بالإضافة، فيقال مثلًا: هذا ضارب زيد، ولم يقرأ القارئ بأحد هذين الأمرين، بل حذف التنوين من سابق، ونصب النهار، فقال: "ولا الليل سابق النهار". ولما كان ما صنعه القارئ مخالفًا لمعهود الكلام العربي الفصيح أنكره عليه المبرد، فسأله مستنكرًا: "ما تريد بحذف التنوين والنصب؟ فقال: أردت سابقٌ النهار"، أي: بتنوين اسم الفاعل الموجب نصب معموله، وقد عدل القارئ عن ذلك؛ فرارًا من الثقل إلى الخفة، لأنه رأى أن التنوين أثقل على اللسان، وأشق على النفس، فعدل عنه مع نيته وتقديره، ولذلك أبقى النهار منصوبًا. ومثله قول أبي الأسود الدؤلي: فألفيته غير مستعتب ... ولا ذاكرِ الله إلا قليلًا بنصب لفظ الجلالة مع إسقاط التنوين من اسم الفاعل ذاكر تخفيفًا، وإن كان سيبويه قد جعل حذف التنوين في البيت المذكور للضرورة، وقيل: إن حذف التنوين في قراءة عمارة وفي البيت لغة قليلة لقوم من العرب، وعليها جاءت قراءة "قل هو الله أحدُ * الله الصمد" دون تنوين أحد. وقد علَّق ابن جني على قصة قراءة عمارة بقوله: "ففي هذه الحكاية لنا ثلاثة أغراض؛ أحدها: تصحيح قولنا: إن أصل كذا كذا، والثاني: قولنا: إنها -أي: العرب- فعلت كذا لكذا، ألا تراه إنما طلب الخفة يدل عليه قوله: لكان أوزن أي: أثقل في النفس وأقوى، من قولهم: هذا درهم وازن أي: ثقيل، ذو وزن. والثالث: أنها قد تنطق بالشيء غيره في أنفسها أقوى منه لإيثارها التخفيف" انتهى. فقوله: "تصحيح قولنا: إن أصل كذا كذا" مأخوذ من قول القارئ: "سابق النهار" بإسقاط التنوين أصله سابقٌ النهار بإثباته، وقوله: "إنها قد تنطق بالشيء

الإيماء.

غيره في أنفسها أقوى منه لإيثارها التخفيف" معناه: أن الأصل قد يُخالف في لسان العرب اختيارًا للتخفيف، واختصاصًا به، وإيثارًا له. والمثال الثالث: قال سيبويه: "سمعنا بعضهم يدعو: اللهم ضبعًا وذئبًا، فقلنا له: ما أردت؟ قال: أردت اللهم اجمع فيها ضبعًا وذئبًا، كلهم يفسر ما نوى". قال ابن جني: "فهذا تصريح منهم بما ندعيه عليهم، وننسبه لهم" انتهى. أي: تصريح منهم بالعلة التي ذكرناها منسوبة إليهم، فضبعًا منصوب بفعل مضمر تقديره: اجمع أو اجعل، وقد ذكر سيبويه هذا المثال في باب ما جرى من الأمر والنهي على إضمار الفعل المستعمل إظهاره. ومن تمام الفائدة أن نذكر هنا عبارة سيبويه، فقد قال -رحمه الله: "وهذه حجج سُمعت من العرب، وممن يُوثق به، يزعم أنه سمعها من العرب، من ذلك قول العربي في مثل من أمثالهم: اللهم ضبعًا وذئبًا، إذا كان يدعو بذلك على غنم رجل، وإذا سألتهم ما يعنون، قالوا: اللهم اجمع أو اجعل فيها ضبعًا وذئبًا، وكلهم يفسر ما ينوي" انتهى. فقوله: "يفسر ما ينوي"، أي: يعلل النصب في قوله: "ضبعًا"؛ إذ ذهب إلى أنه على إضمار فعل، ففسر ما قصد من العامل المحذوف، مع أنه لا دليل عليه في الكلام. الإيماء الإيماء في اللغة مصدر الفعل الرباعي أومأ بمعنى: أشار إشارة خفية، وقيل: إن أصله الإشارة بالشفة والحاجب، وأما عند الأصوليين فهو اقتران وصف ملفوظ بحكم، ولو مستنبطًا إلى آخر ما بسطوه. ومن سنن العرب أن تُشير إلى المعنى إشارة، وتومئ إيماء دون التصريح، والمراد به هنا: الدلالة على العلة من طريق الإشارة إليها، دون أن يكون في الكلام دلالة على المراد لا بالمنطوق، ولا بالمفهوم، ولا بالتعريض، ولا بالكناية. ويُعدُّ هذا المسلك مقابلًا لمسلك النص؛

إذ يكون في النص تصريح بالعلة؛ بحيث يعرفها من يسمع نص الأعرابي، وليس كذلك في الإيماء؛ إذ لا يفطن إليه إلا لبيب. وقد ذكر السيوطي -رحمه الله- في كتاب (الاقتراح) مثالين فيهما إيماء إلى العلة وهما؛ المثال الأول: رُوي أن قومًا من العرب أتوا النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((من أنتم؟ فقالوا: نحن بنو غيان. فقال: بل أنتم بنو رشدان)) فكان الاسم مشتقًّا من الغي والغواية بفتح الغين فيهما، وهو الانهماك في الجهل، والإمعان في الضلال، ولم ينطق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بهذا الاشتقاق، بل غير الاسم إلى رشدان من الرشد، وهو ضد الغي؛ فكان تغييره دليلًا على أن الألف والنون في غيان زائدتان، وليس في اللفظ تصريح، ولا كناية، ولا تعريض يدل على زيادتهما، بل إيماء وإشارة إلى زيادتهما. وتُفهم هذه الإشارة من اشتقاقه إيَّاه من الغي. وقد علق ابن جني على هذا المثال بقوله: "أشار إلى أن الألف والنون زائدتان، وإن كان لم يتفوَّه بذلك غير أن اشتقاقه إيَّاه من الغي بمنزلة قولنا نحن: إن الألف والنون فيه زائدتان". ومعنى ما ذكره ابن جني: أن الاشتقاق من الغي دلَّ بطريق الإيماء على زيادة الألف والنون. والمثال الثاني: ما حكاه غير واحد أن الفرزدق حضر مجلس عبد الله بن أبي إسحاق، وكان عبد الله أعلم أهل البصرة وأعقلهم، وفرَّع النحو وقاسه، سُئل عنه يونس فقال: "هو والنحو سواء" فقال ابن أبي إسحاق للفرزدق: "كيف تنشد هذا البيت: وعينان قال الله كونا فكانتا ... فعولان بالألباب ما تفعل الخمر فقال الفرزدق: كذا أُنشد أي: كما أنشدته أنت كذلك أنشده أنا، أي: برفع فعولان، فقال ابن أبي إسحاق: ما كان عليك لو قلت: فعولين يعني: بالنصب

على أن الكلمة خبر كانتا؛ لأنها مثنى فعول كصبور، والمثنى يُنصب بالياء، فقال الفرزدق: لو شئت أن أسبح لسبحت، أو قال: لو شئت أن أسبِّح لسبَّحت أي: يجوز أن أسبح وهو مضارع سبح، كمنع، والمعنى عليه. لو أردت أن أخوض فيما لا يعني، وأسبح في لجة الحدس والتخمين والجهل بلا معرفة؛ لفعلت. ويجوز ضم الهمزة وشد الموحدة من التسبيح، والمعنى عليه أي: لسبحت الله تعجبًا من جهلك، فإن التسبيح يُذكر في مقامات التعجب كثيرًا. قال الفرزدق ذلك ونهض، فلم يعرف أحد في المجلس ما أراد"، أي: ما قصده من التخطئة، والتعجب من الجهل. قال ابن جني: "أي: لو نصب لأخبر أن الله خلقهما وأمرهما أن تفعلا ذلك، وإنما أراد أنهما تفعلان بالألباب ما تفعل الخمر، وقال: كان هنا تامَّة غير محتاجة إلى الخبر، فكأنه قال: وعينان قال الله: احدثا فحدثتا، أو اخرجا إلى الوجود فخرجتا" انتهى. فقد أنشد الفرزدق البيت برفع فعولان على الاستئناف وإضمار المبتدأ، والتقدير: هما فعولان بالألباب ما تفعل الخمر، والمعنى على هذا الإنشاد: أن كان في البيت تامة لا تحتاج إلى الخبر، فكأنه قال: احدثا فحدثتا، ثم استأنف قائلًا: هما تفعلان بالألباب ما تفعل الخمر، فدل الفرزدق بالإيماء على أن كان تامة، وليس في لفظه ما يدل على تمامها، لا بالمنطوق، ولا بالمفهوم، ولا بالتعريض، ولا بالكناية، ولو أنه أنشد البيت بالنصب لقال: وعينان قال الله كونا فكانتا ... فعولين بالألباب ما تفعل الخمر وكان المراد أنه يُخبر بأن الله خلقهما، وأمرهما أن تفعلا ذلك، وقد تعجَّب الفرزدق من قول ابن أبي إسحاق: "ما كان عليك لو قلت: فعولين"، وقام منصرفًا؛ إظهارًا للإعراض عنه، لأنه لم يرد بإنشاد البيت أن تكون كان ناقصة،

السبر والتقسيم وبعض من أمثلته عند ابن جني.

بل أراد تمامها، فأومأ إلى ذلك برفع فعولان، وقيل: على رواية فعولان بالرفع يجوز إعرابان؛ أحدهما: ما تقدم من جعل فعولان خبرًا لمبتدأ محذوف تقديره: هما فعولان، والآخر: إعراب فعولان نعتًا لعينان، والمعنى: وعينان فعولان بالألباب ما تفعل الخمر، قال الله: كونا فكانتا. وكان في كلا الوجهين تامة غير محتاجة إلى الخبر. وعلى رواية فعولين بالنصب يجوز إعرابان أيضًا، وهما: أن يكون النصب على الخبرية لكان الناقصة، أو أن يكون على القطع أي: على المفعولية لفعل محذوف تقديره: أعني، أو أمدح، أو نحو ذلك، وتكون كان تامة. السبر والتقسيم وبعض من أمثلته عند ابن جني السبر في اللغة الاختبار يقال: سبر الشيء أي: خبره، وفي حديث الغار قال أبو بكر لرسول الله -صلى الله عليه وسلم: ((لا تدخله حتى أسبره قبلك)) أي: أختبره، وأعتبره، وأنظر هل فيه أحد أو شيء يؤذي، والتقسيم: هو ذكر الأقسام المحتملة، والسبر والتقسيم مسلك من مسالك العلة عند الأصوليين، وعنهم أخذه النحاة. وقد عرفه السيوطي بقوله: "أن يذكر -أي: النحوي- جميع الوجوه المحتملة، ثم يسبرها -أي: يختبرها- فيبقي ما يصلح، وينفي ما عداه بطريقه". ويدل هذا التعريف على أن النحوي ينظر في جميع الوجوه التي يحتملها الحكم النحوي، ويختبرها جميعًا، فمنها ما يصلح ومنها ما لا يصلح، فما كان صالحًا منها أبقاه، وما كان غير صالح نفاه، وقوله: "وينفي ما عداه بطريقه": اختُلف علام يعود الضمير في قوله: "بطريقه"؟ فذهب أحد شراح (الاقتراح) إلى أن الضمير عائد على مصدر مفهوم من ينفي أي: بطريق النفي، وذهب آخر إلى أن الضمير عائد على السبر، وهو الصحيح؛ لأن المعنى يكون حينئذ: وينفي غير

الصالح بطريق النظر والاختبار. وتجدر الإشارة هنا إلى أمر مهم، وهو أنه إذا كان التقسيم هو ذكر الأقسام المحتملة، فليست جميع الأقسام المحتملة تصلح لأن تذكر في السبر والتقسيم، بل يجوز ذكر بعضها، ويمتنع ذكر بعضها الآخر. فالذي يُذكر هو ما كان قريبًا وحسنًا، والذي يمتنع ذكره هو ما كان بعيدًا وقبيحًا، وقد عقد ابن جني في (الخصائص) بابا عنوانه: باب في الاقتصار في التقسيم على ما يقرب ويحسن، لا على ما يبعد ويقبح. وقد بين في هذا الباب أن هناك وجوهًا لا يجوز ذكرها في التقسيم لبعدها، ومثَّل لذلك بأمثلة عدة منها: وزن عصي، فذكر أنه يُحتمل أن يكون على وزن فُعُول، أو فعِيل، أو فلِيع، أو فعلٍّ، ومنع أن يكون في التقسيم فعليٌ أي: بكسر الفاء والعين وسكون اللام، وإنما أجاز الأوزان السابقة؛ لأن لها وجودًا في لسان العرب، ففعول كدلي، وفعيل كشعير وبعير، وفليع كقسي، وأصلها فعول قووس، فغُيرت إلى قسو، فلوع، ثم إلى قسي فلي، وفِعِل كطِمِر، وهو وصف الفرس الجواد، ومنع وزن فعلي؛ لأنه ليس في لسان العرب هذا الوزن، ولا ما هو قريب منه إلا أن تقول: إنها مقاربة لطمر. ونذكر الأمثلة التي ذكرها السيوطي في كتاب (الاقتراح): المثال الأول: قال ابن جني: "وذلك كأن تقسم نحو: مروان إلى ما يحتمل حاله من التمثيل له فتقول: لا يخلو من أن يكون فعلان، أو مفعالًا أو فعوالًا، فهذا ما يبيحك التمثيل في بابه أي: ما يحتمله فيفسد كونه مفعالًا أي: بزيادة الميم في أوله والألف قبل آخره، أو فعوالًا أي: بزيادة الواو والألف أنهما مثالان لم يجيئا، فلم يبقَ إلا فعلان" انتهى. ومعنى ما نقله السيوطي عن ابن جني: أن مروان يحتمل في وزنه أن يكون فعلان بزيادة الألف والنون، فأصله مرو فالميم والراء

والواو أصول، ويُحتمل أن يكون وزنه مفعالًا فأصله رون، والميم زائدة في أوله، والألف زائدة قبل اللام، والراء والواو والنون أصول، ويُحتمل أن يكون وزنه فعوالًا بزيادة الواو والألف، فأصله مرن فالميم والراء والنون أصول". وبعد أن ذكر ابن جني ما يحتمله اللفظ من أوزان بين أن بعض هذه الأوزان لا يصلح، فيجب نفيه، وأن أحدها يصلح فيبقى، فلا يصلح أن يكون وزنه مفعالًا ولا فعوالًا؛ لأنهما بناءان والصيغتان لم يجيئا، ولم يثبتا عن العرب، فلم يبقَ إلا أن يكون مروان على وزن فعلان، ويدل على أن هذا الوزن هو الصحيح اطراد هذا الوزن في بعض الأوصاف، كما في سكران، وشبعان، وجوعان، وعطشان، ونحوها. ثم بين ابن جني -رحمه الله- أن هناك أربعة أوزان أخرى لا يجوز ذكرها في التقسيم، وهي مفلان، ومفوال، وفعوان، ومفوان، فلا يجوز أن نقول: إن مروان يُحتمل أن يكون وزنه أحد هذه الأوزان، وعلة امتناع ذكرها في التقسيم أنها غير موجودة في لسان العرب، فإن قيل: إن فعوالًا ومفعالًا غير موجودين أيضًا، وقد ذُكرا في التقسيم فما الفرق؟ أجيب: بأن فعوالًا ومفعالًا وإن كانا غير موجودين في لسان العرب، فإن في لسان العرب ما هو قريب منهما، فمفعال بفتح الميم قريب من مفعال بكسرها، وفعوال بفتح الفاء قريب من كسرها قيل: وإنما كان الكسر قريبا من الفتح لتوسطه بينه وبين الضم، ولأنهم حملوا الجر على النصب، وبالعكس؛ لأن كلًّا منهما من إعراب الفضلات، ولم يحملوا على الرفع، لأنه إعراب العمد، بخلاف الأوزان الأخرى، فليس لها نظير، ولا قريب مما له نظير. وذكر ابن جني أنه ليس لك أن تقول في تمثيله: لا يخلو أن يكون مفلان، أو مفوالًا، أو فعوان، أو مفوان، أو نحو ذلك؛ لأن هذه ونحوها إنما هي أمثلة ليست موجودة أصلًا، ولا قريبة من

الموجودة كقرب فعوال ومفعال من الأمثلة الموجودة، ألا ترى أن فعوالًا أخت فعوال، كقرواش، وهو طفيلي والعظيم الرأس، واسم ناس من العرب، وأخت فعوال كعصواد، ومن معانيه الجلبة والاختلاط. وأن مفعالًا أخت مفعال كمحراب، وأن كل واحد من مفلان ومفوان وفعوان لا يقرب منه شيء من أمثلة كلامهم. والمثال الثاني: ذكر ابن جني أنك تقول في تمثيل أيمن من قوله: "يبري لها من أيمن وأشمل"، لا يخلو أن يكون أفعلًا أو فعلنًا أو أيفلًا أو فيعلًا، فيجوز هذا كله؛ لأن بعضه له نظير، وبعضه قريب مما له نظير، ألا ترى أن أفعلًا كثير النظير كأكلب وأفرخ، ونحو ذلك، وأن أيفلًا له نظير، وهو أينق في أحد قولي سيبويه، وهو أن الأصل أنوق في جمع ناقة، ثم حُذفت العين التي هي الواو، وعُوِّض منها الياء قبل الفعل، فالوزن أيفل. والقول الآخر لسيبويه أن العين قُلبت إلى ما قبل الفاء فصارت في التقدير: أونقًا، ثم أبدلت الواو ياء؛ لأنها كما أعلت بالقلب أعلت كذلك بالإبدال، فالوزن أعفل، وأن فعلنًا يقارب أمثلتهم نحو: جلبن وهي الحمقاء، وعلجن وهي الناقة الغليظة، وأن فيعلًا أخت فيعل كصيرف، وفيعل كسيد، ومعنى ما ذكره ابن جني أن أيمنًا يحتمل أن يكون وزنه أفعلًا على أنه جمع يمين، وأن يكون وزنه فعلنًا بزيادة النون في آخره وأصالة ما عداه، وأن يكون وزنه أيفلًا بحذف العين من الكلمة وزيادة الألف والياء في أوله، وأن يكون وزنه فيعلًا بزيادة الياء بعد الفاء، وتكون الألف أصلية. وإذا كان هذا اللفظ تحتمله جميع هذه الأوزان؛ فإن وزنه هو الأول، وهو أفعل؛ لأنه كثير نحو: أكلب. بل ذكر صاحب (الفيض) في (شرح الاقتراح) أن هذا الوزن هو المتعين، وأن ما عداه من الأوزان التي أوردها احتمال غير صحيح

أمثلة السبر والتقسيم عند أبي البقاء، وابن فلاح.

وغير محتمل، لما فيه من البعد، ولتأييد أن أيمنًا -وهو جمع يمين- على أفعل وقوعه في مقابلة أشمل الذي هو جمع شمال. على أن ابن جني قد ذكر أوزانًا استبعدها من التقسيم، وهي أيفع، وفعمل، وأيفم؛ لأنها أوزان ليست في لسان العرب، ولا قريبة مما في لسان العرب. أمثلة السبر والتقسيم عند أبي البقاء، وابن فلاح نقل السيوطي في (الاقتراح) عن كتاب (التبيين عن مذاهب النحويين البصريين والكوفيين) لأبي البقاء العكبري، المتوفى سنة ست عشرة بعد الستمائة من الهجرة أن الدليل على أن نعم وبئس فعلان السبر والتقسيم، وذلك أنهما ليسا حرفين بالإجماع، وقد دلَّ الدليل على أنهما ليسا اسمين أي: وإن دخل عليهما الجار في شذوذ من الكلام، كما استدل به الكوفيون ما عدا الكسائي باسميتهما بذلك، فلا يُعتد به، والدليل على فعليتهما وجهان؛ أحدهما: بناؤهما على الفتح، ولا سبب لهما أي: للبناء لو كانا اسمين؛ لأن الاسم إنما يُبنى إذا أشبه الحرف، ولا مشابهة بين نعم وبئس وبين الحرف، فلو كانتا اسمين لأعربتا أي: لأن ذلك هو شأن الأسماء التي لا شبه لها بالحروف. والثاني: أن كل واحدة منهما لو كانت اسمًا لكانت إما اسمًا جامدًا أو وصفًا، ولا سبيل إلى اعتقاد الجمود في أيٍّ منهما؛ لأن وجه الاشتقاق فيهما ظاهر، لأنهما من نعم الرجل إذا أصاب نعمة، والمنعَم عليه يُمدح، ولا يجوز أن يكون أيٌّ منهما وصفًا؛ إذ لو كانت أي منهما كذلك لظهر الموصوف معها، وهو لم

يظهر أصلًا، ولأن الصفة ليست على هذا البناء، وإذا بطل كونها حرفًا وكونها اسمًا؛ ثبت أنها فعل. انتهى. أي: وإنما يدل بطلان كونهما حرفين أو اسمين على ثبوت كونهما فعلين، لأن أنواع الكلمة منحصرة في الأنواع الثلاثة بالاستقراء، ويدل على فعليتهما مع ذلك اتصال تاء التأنيث بهما. أما ادعاء اسميتهما بدليل دخول حرف الجر عليهما، فيما حكى أبو بكر بن الأنباري عن أبي العباس أحمد بن ثعلب عن سلمة، عن الفراء أن أعرابيًّا بُشر بمولودة فقيل له: نعم المولودة مولودتك، فقال: والله ما هي بنعم المولودة، نصرتها بكاء، وبرها سرقة. وحُكي عن بعض فصحاء العرب أنه قال: نِعْم السير على بئس العير، فقد أوَّلوه بأن الحكاية فيه مقدرة، وحرف الجر يدخل مع تقدير الحكاية على ما لا شبهة في فعليته، فالتقدير: والله ما هي بمولودة مقول فيها: نعم المولودة، ونعم السير على عير مقول فيه: بئس العير. إلا أنهم حذفوا الموصوف وأقاموا الصفة مقامه، فصار التقدير: ما هي بمقول فيها نعم المولودة، ونعم السير على مقول فيه بئس العير. ثم حذفوا الصفة التي هي مقول، وأقاموا المحكي بها مقامها؛ لأن القول يُحذف كثيرًا كما يُذكر كثيرًا، فدخل حرف الجر على الفعل لفظًا، وإن كان داخلًا على غيره تقديرًا، كما هو مبسوط في محله. فقد أثبت العكبري أن نعم وبئس فعلان بطريق السبر والتقسيم، فذكر أنهما ليسا حرفين بإجماع النحاة؛ فالخلاف بين النحاة منحصر في قولين؛ أحدهما: أنهما اسمان، والآخر: أنهما فعلان، يبطل أن يكونا اسمين؛ لأنهما مبنيان على الفتح، ولا سبب للبناء؛ إذ لا مشابهة بينهما وبين الحرف، ولا يُبنى من الأسماء إلا ما أشبه الحرف عند أكثر النحويين، يقول ابن مالك -رحمه الله- في ألفيته: والاسم منه معرب ومبني ... لشبه من الحروف مدني

ولما انتفت المشابهة بين الحرف، ونعم وبئس، لم يكن هناك ما يقتضي البناء، فبطل أن يكونا اسمين. ومما ينفي القول باسميتهما أن الاسم إما جامد أو وصف، ولا يتصوَّر الجمود في نعم وبئس؛ لأن اشتقاقهما ظاهر، ولا يتصور أيضًا أن يكونا وصفين؛ إذ لو كانا كذلك لظهر الموصوف، فإذا بطل كونهما اسمين، وكونهما حرفين؛ تعين أن يكونا فعلين، لأن أنواع الكلمة منحصرة في هذه الثلاثة بالاستقراء. ويدل على فعلية نعم وبئس، كما جاء في (الإنصاف في مسائل الخلاف) اتصال ضمير الرفع بهما على حد اتصاله بالفعل المتصرف، فإنه قد جاء عن العرب أنهم قالوا: نعما رجلين، ونعموا رجالًا، كما حكى ذلك الكسائي، واتصال تاء التأنيث الساكنة نحو: نعمت المرأة هند، وبئست المرأة دعد، وهذه التاء يختص بها الفعل الماضي لا تتعداه، ولا تجاوزه، فلا يجوز الحكم باسمية ما اتصلت به. كما نقل السيوطي عن كتاب (المغني) لابن فلاح، وهو منصور بن محمد بن سليمان بن معمر اليمني، الشيخ تقي الدين أبو الخير المشهور بابن فلاح النحوي، نقل عنه السيوطي أن الدليل على أن كيف اسم هو السبر والتقسيم، فنقول: لا يجوز أن تكون حرفًا لحصول الفائدة منها مع الاسم، وليس ذلك لغير حرف النداء، ولا يجوز أن تكون فعلًا؛ لأن الفعل يليها بلا فاصل نحو: كيف تصنع، فيلزم أن يكون اسمًا؛ لأنه الأصل في الإفادة. فقد استدل ابن فلاح على اسمية كيف بطريق السبر والتقسيم، بأن ذكر الأوجه المحتملة، ثم اختبرها، فأبقى ما كان صالحًا، ونفى ما عداه؛ فبين أنه لا يجوز: أن تكون كيف حرفًا، بحصول الفائدة فيها مع الاسم نحو: كيف زيد، فكيف خبر

مقدم لصدارته، وزيد مبتدأ مؤخر، فقد أتمت كيف معنى يحسن السكوت عليه، فبطل أن تكون حرفًا؛ لأن حصول الفائدة من الاسم والحرف لا يكون لغير حرف النداء؛ إذ يقوم حرف النداء مقام الفعل كما سبق بيانه، ولا يجوز أن تكون كيف فعلًا؛ لأن الفعل يليها من غير فاصل نحو: كيف تصنع، والفعل لا يلي الفعل بفاعل يكون فاصلًا، فلما انتفى أن تكون كيف حرفًا، أو فعلًا؛ تعيَّن القول باسميتها. ومن تمام الفائدة أن نذكر أن كيف اسم استفهام يُستفهم به عن كل حال؛ لأن الأحوال أكثر من أن يُحاط بها، فجاءوا بكيف اسمًا مبهمًا يتضمن جميع الأحوال. وإذا تأملنا الأمثلة السابقة وجدنا في كل منها ذكرًا للأقسام المحتملة، وإبطالًا لما لا يصلح منها، وإبقاء لما يصلح، ويُعد هذا أحد قسمين ذكرهما السيوطي نقلًا عن الأنباري. هذا والله ولي التوفيق وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 8 العلة في ضوء ما ورد في كتاب (الاقتراح) للسيوطي.

الدرس: 8 العلة في ضوء ما ورد في كتاب (الاقتراح) للسيوطي.

مسلك التقسيم عند أبي البركات الأنباري.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثامن (العلة في ضوء ما ورد في كتاب (الاقتراح) للسيوطي) مسلك التقسيم عند أبي البركات الأنباري الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: خصص الأنباري الفصل الرابع والعشرين من فصول (لمع الأدلة) للحديث عن ذكر ما يُلحق بالقياس من وجوه الاستدلال، موضحًا في بداية هذا الفصل أن أنواع الاستدلال كثيرة تخرج عن حد الحصر، وأنه سيذكر في هذا الفصل ما يكثر التمسك به، وأورد أمورًا أربعة مما يُلحق بالقياس، جاعلًا في مقدمتها التقسيم، ثم ذكر أن الاستدلال بالتقسيم ضربان؛ أحدهما: أن يذكر المستدل الأقسام التي يجوز عقلًا أن يتعلق الحكم بها، فيبطلها جميعًا، فيبطل بذلك قوله: أي: قول المثبت للحكم المتعلق بها في ضمن ما أبطله من الأقسام. ومثال ذلك: حكم دخول اللام في خبر لكنَّ المشددة النون، قياسًا على أختها إن، فقد ذهب الكوفيون إلى جوازه؛ احتجاجًا بقول بعض العرب: ولكنني من حبها لعميد وهذا الذي أجازه الكوفيون يبطل بطريق السبر والتقسيم، إذ يقال: إن هذه اللام الداخلة على خبر لكن، إما أن تكون لام التوكيد أو لام القسم. ولا يجوز أن تكون هذه اللام للتوكيد؛ لأن لام التوكيد إنما حسن دخولها على خبر إن لاتفاقهما في معنًى واحد وهو التأكيد، ولذا وجب تأخير اللام عن إن ودخولها على الخبر؛ لئلا يتوالى مؤكدان. ومن ثمَّ سُميت المزحلقة أي: التي زحلقت إلى موضع الخبر، وتدخل على الاسم إذا تأخر كما في قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً} (النازعات: 26) ونحوه. ولكنّ ليست للتأكيد، لأنها ليس فيها توكيد، ولا هي موضوعة له؛ فبطل أن تكون اللام الداخلة في خبرها للتأكيد. كما يبطل أن تكون اللام للقسم؛ لأن إن واللام بينهما مناسبة، وهي وقوع كل منهما في

جواب القسم، فمن وقوع إن في جواب القسم قوله تعالى: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} (يس: 3) جوابًا لقوله عز وجل: {يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} (يس: 1، 2). ولمَّا لم يجز وقوع لكن في جواب القسم امتنع أن تكون اللام للقسم، وإذا بطل أن تكون اللام للتوكيد وأن تكون للقسم؛ تعين بطلان الحكم نفسه، وهو دخول اللام في خبر لكن. وأما قول الشاعر: ولكنني من حبها لعميد فلا حجة فيه لشذوذه، إذ لا يعلم له تتمة، ولا قائل، ولا راوٍ عدل يقول: سمعت ممن يوثق بعربيته، والاستدلال بما هو هكذا في غاية الضعف، ولهذا لا يكاد يُعرف له نظير في كلام العرب وأشعارهم. ولو كان قياسًا مطردًا لكان ينبغي أن يكثر في كلامهم وأشعارهم كما جاء في خبر إن، وفي عدم ذلك دليل على أنه شاذ لا يُقاس عليه. وقد أورد أبو البركات الأنباري هذه المسألة في كتابه (الإنصاف في مسائل الخلاف)، وأوضح أن الكوفيين ذهبوا إلى أنه يجوز دخول اللام في خبر لكن، كما يجوز في خبر إن نحو: ما قام زيد لكن عمروًا لقائم، وذهب البصريون إلى أن ذلك لا يجوز، وأن الكوفيين قد احتجوا على ذلك بالنقل والقياس. أما النقل -أي: السماع- فقد جاء عن العرب إدخال اللام على خبرها، قال الشاعر: ولكنني من حبها لكميد وقد ذكر محقق (الإنصاف) شيخنا المرحوم محمد محيي الدين عبد الحميد -طيب الله ثراه- في تعليقه على هذا الشاهد أن أكثر العلماء الذين استشهدوا به ينصون على أنه لا يعلم قائله، ولا تعرف له تتمة، ولا سوابق أو لواحق، إلا ابن عقيل، فإنه رواه بيتًا كاملًا من غير عزو هكذا:

يلومونني في حب ليلى عواذلي ... ولكنني من حبها لعميد وأما حجة الكوفيين القياسية فهي كما ذكر الأنباري أن الأصل في لكن إن، زيدت عليها لا والكاف فصارتا أي: إن والزيادة جميعًا حرفًا واحدًا. وقد ردَّ البصريون حجة الكوفيين السماعية بما ذكره في (لمع الأدلة)، وقد أوردناه فيما سبق، وأجابوا عن الحجة القياسية بأنها مجرد دعوى من غير دليل ولا معنى. والثاني من ضربي التقسيم: أن تُذكر الأقسام التي يجوز أن يتعلق الحكم بها، فيبطلها المستدل إلا الذي يتعلق الحكم به من جهته فيصح قوله. ومن ذلك عامل النصب في المستثنى الموجب أي: الثابت، ويلزم كونه تامًّا كما يدل له مثاله الذي أورده في (لمع الأدلة)، وهو نحو: قام القوم إلا زيدًا، فقد اختلف فيه على أربعة أقوال؛ الأول: أن عامل النصب هو الفعل المتقدم بتقوية إلا. والثاني: أن عامل النصب هو إلا نفسها؛ لأنها بمعنى أستثني. والثالث: أن عامل النصب هو إلا نفسها؛ لأنها مركبة من إن المخففة أي: المكسورة ولا، وأدغمت النون في اللام لتقاربهما مخرجًا. والرابع: أن عامل النصب هو أن المقدرة، إذ التقدير فيه: قام القوم إلا أن زيدًا لم يقم. فهذه الأقسام الأربعة المحتملة، فمنها ثلاثة تبطل ولا يصح تعلق الحكم بها، ويبقى واحد وهو الصحيح الذي يتعلق الحكم به من جهته. فالقول الثاني وهو أن عامل النصب في المستثنى هو إلا؛ لأنها بمعنى أستثني مردود من أربع جهات؛ الأولى: نحو: قام القوم غير زيد، فلو كان النصب بإلا التي بمعنى أستثني؛ لكان التقدير: إلا غير زيد، وهذا يؤدي إلى فساد المعنى.

والثانية: لو كان عامل النصب إلا بمعنى أستثني؛ لوجب النصب في النفي كما يجب في الإيجاب، لأن فيه أيضًا معنى أستثني، وذلك نحو: ما قام القوم إلا زيد أو إلا زيدًا. ولما كان المستثنى في النفي يجوز فيه النصب على الاستثناء، ويجوز فيه الإتباع على البدلية؛ دلَّ ذلك على أن إلا ليست هي عامل النصب. والثالثة: أنه لو كان عامل النصب إلا التي بمعنى أستثني؛ لأدى ذلك إلى إعمال معنى الحرف، وذلك لا يجوز. والرابعة: أنه لو كان عامل النصب إلا لأنها بمعنى أستثني؛ لجاز الرفع بتقدير امتنع أي: بصيغة الماضي، فيحتاج لفاعل هو ذلك المستثنى، فنحو: قام القوم إلا زيدًا، لو قدر فيه امتنع؛ لوجب رفع زيد، لأن الفعل ماض يحتاج إلى فاعل. وقد استوى أستثني وامتنع لاستقامة المعنى مع كل منهما، فلا يجوز ترجيح أحدهما على الآخر؛ إذ ترجيح أحدهما على الآخر مع كون المعنى مع كل منهما مستقيمًا ظاهرًا ضرب من ضروب التحكم. كما أورد ذلك عضد الدولة، وهو أحد أمراء بني بويه على أبي علي الفارسي، وكان معه يومًا في الميدان، فسأل عضد الدولة الفارسي: "بِمَ ينتصب المستثنى؟ فقال له الفارسي: بتقدير أستثني. فقال له: لم قدرت: أستثني فنصبت، هلَّا قدرت امتنع زيد فرفعت؟ فقال الفارسي معتذرًا: هذا جواب ميداني أي: ذكرته في عجالة. فإذا رجعت قلت الجواب الصحيح"، والذي اختاره أبو علي الفارسي في (الإيضاح) أنه منتصب بالفعل المقدم بتقوية إلا. فهذه أربع جهات تبطل القول بأن عامل النصب هو إلا لأنها بمعنى أستثني. كما بطل أيضًا القول الثالث وهو أن عامل النصب إلا؛ لأنها مركبة من إن المخففة ولا، والذي يبطل هذا القول أن فيه إعمال إن المخففة، وإن إذا خففت

مسلك المناسبة.

قل عملها جدًّا، وكان الأكثر إهمالها. كما يبطله أن الحرف إذا رُكب مع حرف آخر خرج كل منهما عن حكمه، وثبت للمركب بالتركيب حكم آخر غير الحكم الذي كان لأجزائه التي رُكب منها. والقول الرابع: وهو أن عامل النصب هو أن المقدرة قول مردود كذلك؛ إذ يبطله أن أن لا تعمل مقدرة، وإنما تعمل ظاهرة، وإذا بطلت هذه الآراء الثلاثة؛ تعين القول الأول، وهو أن عامل النصب في المستثنى هو الفعل المتقدم بتقوية إلا، ويدل على صحة هذا القول أن أصل العمل يكون للفعل إلا أن الفعل لا يصل إلى المعمول بنفسه، وإنما يصل بإلا، فكان الفعل هو العامل لكن بواسطتها، ويشهد لصحة هذا القول وجود النظير، وهو عامل النصب في المفعول معه؛ فإنه الفعل المتقدم بواسطة الواو على الرأي الراجح من آراء النحويين. وخلاصة ما سبق: أن السبر والتقسيم مسلك من مسالك العلة عند النحويين، وأن الأقسام المحتمل منها ما يصلح فيبقى، وما لا يصلح فينفى. مسلك المناسبة المسلك الخامس من مسالك العلة طبقًا لما ورد في (الاقتراح) هو المناسبة، وقد ذكر السيوطي أن المناسبة تسمى أيضًا الإخالة؛ لأن بها يُخال -أي: يظن- أن الوصف علة، ويسمى قياسها قياس علة. قال ابن الطيب في (الفيض): "قوله: الإخالة بالخاء المعجمة، كأنه مصدر أخاله أي: صيره خائلًا أي: ظانًا كما أشار إليه"، انتهى. ومعنى ما ذكره السيوطي وابن الطيب أن هذا المسلك طريقه غلبة الظن والإخالة، وأن المتكلم بالعلة قد سلك إلى الوصول إليها طريق القياس على الأصل، وقد غلب على ظنه أنها العلة للحكم في الفرع المسئول عنه، ومن هنا كان قياسها كما قال السيوطي قياس علة.

وقد عرف السيوطي تبعًا لأبي البركات الأنباري هذا القياس بأنه حملُ الفرع على الأصل بالعلة التي عُلِّق عليها الحكم في الأصل، ومثَّل له بحمل ما لم يُسمَّ فاعله، وهو النائب عن الفاعل في الرفع بعلة الإسناد، وبحمل المضارع يعني: عند خلوه من نوني التوكيد والنسوة على الاسم في الإعراب بعلة اعتوار أي: توارد المعاني عليه. وذكر الأنباري في الفصل الرابع عشر من (لمع الأدلة) أنه يُستدل على صحة العلة بشيئين: التأثير وشهادة الأصول، فأما التأثير فهو وجود الحكم لوجود العلة، وزواله لزوالها، وذلك مثل: أن يُدل على بناء الغايات كقبل وبعد على الضم باقتطاعها عن الإضافة، فإذا طولب المستدل بالدليل على صحة العلة قال: الدليل على صحتها التأثير، وهو وجود الحكم لوجودها، وهو البناء، وعدمه لعدمها. ألا ترى أنها قبل اقتطاعها -يعني: عن الإضافة- كانت معربة، فلما اقتطعت عن الإضافة صارت مبنية. وأما شهادة الأصول بصحة العلة فمثل: أن يدل على بناء كيف، وأين، وأيان، ومتى؛ لتضمنها معنى الحرف، فإذا طولب المستدل بصحة هذه العلة قال: الدليل على صحة هذه العلة أن الأصول تشهد وتدل على أن كل اسم تضمن معنى الحرف؛ وجب أن يكون مبنيًّا، فإن قيل: ومن أين زعمتم أن الأصول تشهد أن كل اسم تضمن معنى الحرف وجب أن يُبنى؟ وقد أعربوا أيًّا مع تضمن معنى حرف الاستفهام كما تضمنت كيف وأخواتها؟ قيل: إنما بقوا أيًّا وحدها على إعرابها مع تضمن معنى الحرف؛ تنبيهًا على أن الأصل في الأسماء الإعراب، كما أنهم بقَّوا الفعل المضارع إذا اتصلت به نون التوكيد مع مشابهة الاسم الموجبة للإعراب على البناء، تنبيهًا على أن الأصل في الأفعال البناء، على أنهم قد قالوا: إنما أعربوها أي: أعربوا أيًّا حملًا على نظيرها ونقيضها، فنظيرها جزء، ونقيضها كل، وبنوا الفعل المضارع إذا اتصلت به نون التوكيد؛

لأن نون التوكيد أكدت فيه الفعلية، فردته إلى أصله وهو البناء على أن أيًّا جاءت شاذة في بابها، والشواذ لا تورد نقضًا على القواعد المطردة. ألا ترى أن الأصل في كل واوٍ تحركت وانفتح ما قبلها أن تُقلب ألفًا نحو: باب، ودار، وعصا، وقفا، والأصل فيها: بوب، ودور، وعصو، وقفو، فلما تحركت الواو وانفتح ما قبلها قُلبت ألفًا. ولا يجوز أن يورد -يعني: أن يدخل في هذا الباب- القود والحوكة أيضًا؛ لشذوذه في بابه، فكذلك هنا، وأورد السيوطي ما ذكره أبو البركات الأنباري في الفصل الحادي والعشرين من (لمع الأدلة) من حديث عن اختلاف العلماء في وجوب إبراز المستدل وجه المناسبة والإخالة، وإظهارها عند مطالبة الخصم بذلك، أو عدم وجوب ذلك قال الأنباري: "اعلم أن العلماء اختلفوا في ذلك" يعني: في إبراز الإخالة والمناسبة عند المطالبة، وأوضح الأنباري أن العلماء قد انقسموا إزاء ذلك قسمين: فذهب قوم إلى أنه لا يجب إبراز الإخالة، وذهب آخرون إلى وجوب إبرازها، ولكل حجته ودليله، وقد بدأ أبو البركات الأنباري بسوق حكم القائلين بعدم الوجوب، وحجتهم، فذكر أن قومًا قالوا: لا يجب أي: لا يجب على المستدل إبراز المناسبة عند مطالبة خصمه بذلك، كأن يستدل المستدل على جواز تقديم خبر كان عليها فيقول: هي -أي: كان- فعل متصرف، فجاز تقديمه -أي: تقديم الخبر- عليها قياسًا على سائر الأفعال المتصرفة أي: في جواز تقديم مفعولاتها عليها لقوتها بالتصرف. فإذا طالبه الخصم بوجه الإخالة والمناسبة بين كان وباقي الأفعال المتصرفة حتى يسوغ هذا الحمل، فلا يجب عليه إبراز ذلك. واستُدلَّ على عدم وجوب ذلك بأن المستدل أتى بالدليل بأركانه التي أثبتها علماء أصول النحو، وهي الأصل،

والفرع، والعلة الجامعة، فلا يبقى عليه إلا الإتيان بوجه الشرط، وهو الإخالة، وليس على المستدل بيان الشرط؛ بل يجب على المعترض بيان عدم الإخالة التي هي الشرط لصحة القياس. وذلك بأن يأتي بما يمنع المناسبة بين الحكم والوصف، ولو كلفنا المستدل أن يذكر الأسئلة، لكلفناه أن يستقلَّ بالمناظرة وحده، وأن يورد الأسئلة ويجيب عنها، وذلك لا يجوز؛ لأنه إلزام بما لا يتوقف عليه القياس. وذهب قوم آخرون إلى وجوب إبراز الإخالة والمناسبة بين الأصل والفرع، وحجتهم في ذلك أن الدليل إنما يكون دليلًا إذا ارتبط به الحكم وتعلق به، وإنما يكون مرتبطًا ومتعلقًا به إذا بان وجه الإخالة، قال أبو البركات الأنباري معقبًا على رأي القائلين بوجوب إبراز الإخالة بحجة أن عدم وجوبها يُزيل الارتباط بين الدليل والحكم: "وأجيب بوجود الارتباط -يعني: بين الدليل والحكم- فإنه قد صرح بالحكم، فصار -أي: الحكم- بمنزلة ما قامت عليه البينة بعد الدعوى، فأما المطالبة بوجه الإخالة والمناسبة فمنزلة عدالة الشهود، فلا يجب ذلك على المدعي أي: لأنه عليه إحضار الشهود لا القدح فيهم، ولكن على الخصم أن يقدح في الشهود أي: فإذا قدح الخصم في الشهود فعلى المدعي حينئذ تزكيتهم، وإظهار عدالتهم. فكذلك لا يجب على المستدل إبراز الإخالة، وإنما على المعترض أن يقدح". انتهى ما أورده الأنباري من اختلاف العلماء في وجوب إبراز المناسبة، أو عدم وجوب ذلك. ونحن نلحظ أن الأنباري قد رجح في هذا الخلاف الرأي الذي صدر به المسألة، وهو رأي القائلين بعدم الوجوب، وختم الخلاف بالرد على حجة القائلين بالوجوب، ففندها، وأيَّد رأي مخالفيهم وما ذهب إليه هو الصواب.

قياس الشبه.

قياس الشبه هذا المسلك هو السادس من مسالك العلة، وقد نقله السيوطي في (الاقتراح) ملخصًا عن كتاب (لمع الأدلة)، الفصل الخامس عشر؛ حيث بدأه أبو البركات الأنباري بتعريفه فقال: "اعلم أن قياس الشبه أن يُحمل الفرع على الأصل بضرب من الشبه، غير العلة التي عُلق عليها الحكم في الأصل"، وبهذا التعريف علمنا من بداية الأمر أن بين مسلك المناسبة والإخالة، وبين مسلك قياس الشبه اتفاقًا وافتراقًا، فأما الاتفاق بينهما فمن جهة أن كليهما حمل الفرع على الأصل، وأما الافتراق فلأن العلة التي في الفرع هي عين العلة التي عُلق عليها الحكم في الأصل في المناسبة والإخالة، أما في قياس الشبه فالعلة التي في الفرع غير العلة التي عُلق عليها الحكم في الأصل، وإنما هي بضرب من الشبه، وذلك مثل أن يُدل على إعراب الفعل المضارع أي: حملًا على إعراب الاسم الثابت بعلة المناسبة والإخالة، بأنه يتخصص بزمن معين بعد أن كان شائعًا في زمني الحال والاستقبال، ويخصص لأحدهما بالقرينة. قال الأنباري: "وبيان ذلك أنك تقول: يقوم فيصلح للحال والاستقبال، فإذا أدخلت عليه السين اختص بالاستقبال، كما أنك تقول: رجل، فيصلح لجميع الرجال، فإذا أدخلت عليه الألف واللام فقلت: الرجل اختص برجل بعينه، فلما اختص هذا الفعل بعد شياعه، كما كان الاسم يختص بعد شياعه؛ فقد شابه الاسم، والاسم معرب، فكذلك ما شابهه أي: أن الفعل المضارع يدل على حدث شائع في زمنين هما الحال والاستقبال، وصالح لأن يتخصص لأحدهما بالقرينة ككلمة الآن، التي تخصصه للحال وما في معناها، ولام

الابتداء، ونفيه بليس أو ما، أو إن، أو ككلمة غد التي تخصصه للمستقبل، ومثلها بقية ظروف المستقبل ونواصب المضارع، واقتضاؤه طلبًا أو وعدًا، وسبقه بأداة ترج، أو سبقه بلو المصدرية، أو حرف تنفيس، واتصاله بنون التوكيد. كما أن الاسم يتخصص بعد شياعه أي: فإنه يكون شائعًا كرجل، ثم يتخصص بقرينة كالوصف، والألف واللام، والإضافة فيصير معينًا، فقد شابه الفعل المضارع الاسم في الشياع وصلاحية التخصص، فكان معربًا كالاسم لذلك. والعلة الجامعة بين الفرع والأصل في هذا القياس هي الاختصاص بعد الشياع، أو أن يدل على إعراب المضارع بأنه يدخل عليه لام الابتداء كقوله عز وجل: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (النحل: 124) فكان معربًا كالاسم لذلك"، قال الأنباري: "أو أن يدل على إعرابه بأن تدخل عليه لام الابتداء كما تدخل على الاسم، والاسم معرب، فكذلك هذا الفعل" وبيانه أنك تقول: إن زيدًا لا يقوم، كما تقول: إن زيدًا لقائم، وقائم معرب، فكذلك ما قام مقامه. والعلة الجامعة بين الفرع والأصل في هذا القياس هي دخول لام الابتداء عليه، أو أن يُدل على إعراب المضارع بجريانه على لفظ اسم الفاعل في مطلق الحركات والسكون، وعدد الحروف، وتعيين الأصول والزوائد، كما في يضرب وضارب، ويكرم ومكرم، وينطلق ومنطلق، ويستخرج ومستخرج. فكذلك كان الفعل المضارع مضارعًا أي: مشابهًا للاسم في هذه الأشياء، فكان معربًا، والعلة الجامعة بين الفرع والأصل في هذا القياس هي جريانه على الاسم المعرب في حركاته وسكناته. وختم الأنباري هذا الفصل بذكره أن قياس الشبه قياس صحيح يجوز التمسك به في الأصح كقياس العلة أي: كقياس المناسبة، لأن كلا القياسين يوجبان غلبة

مسلك الطرد.

الظن، ولأن مشابهة الفرع للأصل تقتضي أن يكون حكمه مثل حكمه، ولو لم يدل على جواز التمسك به إلا أن الصحابة تمسكوا به في المسائل الظنية، ولم يُنكر ذلك منهم منكر، ولا غيَّره مغير؛ لكان ذلك كافيًا. مسلك الطرد وهو المسلك السابع من مسالك العلة، وقد نقله السيوطي في (الاقتراح) ملخصًا عن (لمع الأدلة) الفصل السادس عشر، وقد صدره أبو البركات الأنباري بتعريف هذا المسلك، فأوضح أن الطرد هو الذي يوجد معه الحكم، وتفقد الإخالة في العلة. وانتقل إلى بيان موقف العلماء من حجيته، فذكر أنهم قد اختلفوا في كونه حجة على فريقين، فذهب قوم إلى أنه ليس بحجة؛ لأن مجرد الطرد لا يوجب غلبة الظن أي: بعلة جامعة بين الأصل والفرع، ألا ترى أنك لو علَّلت بناء ليس بكونها جامدة لا تتصرف؛ لاطراد البناء في كل فعل جامد لا يتصرف، وعللت إعراب الاسم الذي لا ينصرف بعدم الانصراف لاطراد الإعراب في كل اسم غير منصرف؛ لما كان ذلك الطرد يُغلِّب على الظن أن بناء ليس لعدم التصرف، ولا أن إعراب ما لا ينصرف لعدم الانصراف. أي: أنك لو عللت بناء ليس بالجمود، وإعراب ما لا ينصرف بعدم الانصراف؛ لما جعل الطرد الظن غالبًا بما عللت، لاحتمال أن بناء ليس وإعراب ما لا ينصرف لأمر آخر غير ما عللت به، فتنتفي غلبة الظن؛ لأنا نعلم على سبيل اليقين أن ليس إنما بُني لأنه فعل، والأصل في الأفعال البناء، وأن ما لا ينصرف إنما أُعرب لأنه اسم، والأصل في الأسماء الإعراب، فكل منهما على أصل بابه. وإذا ثبت بطلان هذه العلة مع اطرادها؛ عُلم أن مجرد الطرد لا يكتفى به أي: في القياس في نقل حكم الأصل للفرع ونحوه، فلا بد من إخالة أو شبه، ليحمل

الفرع على الأصل بواحد منهما. قالوا: ويدل على أن الطرد لا يكون علة أنه لو كان علة لأدَّى إلى الدور أي: لأدى إلى توقف الشيء على ما يتوقف عليه، ويُسمى الدور المصرح كما يتوقف ألف على باء، وبالعكس أو بمراتب، ويسمى الدور المضمر، كما يتوقف ألف على باء، وباء على جيم، وجيم على ألف، وكلاهما باطل، وما أدَّى إلى الباطل باطل، ألا ترى أنه إذا قيل له -أي: للمستدل مثلًا: ما الدليل على صحة دعواك؟ فيقول: أن أدعي أن هذه العلة علة في محل آخر، فإذا قيل له: وما الدليل على أنها علة في محل آخر؟ فيقول: دعواي على أنها علة في مسألتنا، فدعواه دليل على صحة دعواه أي: دعوى على أنها علة في محل آخر دليل على صحة دعواه في مسألتنا، وإثبات كل منهما موقوف على إثبات الآخر، وهذا هو الدور. فإذا قيل له: وما الدليل على أنها علة في الموضعين جميعًا؟ فيقول: وجود الحكم معها في كل موضع دليل على أنها علة أي: لوجوده عند وجودها، وذلك هو شأن العلة. فإذا قيل له: فإن الحكم قد يوجد مع الشرط كما يوجد مع العلة أي: فيحتاج إلى الفرق، فما الدليل على أن الحكم ثبت بها -أي: بالعلة- في المحل الذي هو فيه؟ قال في (الفيض): "قوله: في المحل الذي هو، كذا في الأصول بتذكير الضمير، والظاهر أن يقال: هي -أي: العلة- فيه، وهو الفرع". أي: أن صحة تركيب السؤال السابق أن يقال له: فما الدليل على أن الحكم ثبت بها في المحل الذي هي فيه؟ أي: ما الدليل على أن حكم الأصل ثبت للفرع في الموضع الذي العلة في هذا الفرع؟ لأن شأن العلة أن يثبت بها الحكم في الفرع عند قيام علة الأصل في الفرع. فيقول: كونها علة، فإذا قيل: وما الدليل على كونها علة؟ أي: وهلَّا كانت شرطًا وليست علة، فيقول: وجود الحكم معها في كل موضع وُجدت فيه،

يعني: وليس ذلك للشرط أي: شأن الشرط فقد المشروط عند فقده. أما عند وجوده فيجوز الوجود والعدم، فيصير الكلام دورًا أي: لأنه أثبت الحكم بها وأثبتها به. وخلاصة هذا المذهب: أن مجرد الطرد دون إخالة أو شبه ليس بحجة لأمرين؛ أولهما: أن مجرد الطرد لا يوجب غلبة الظن بعلة جامعة بين الأصل والفرع. والآخر: أن الطرد لا يكون علة؛ إذ لو كان علة لأدى إلى الدور، وذلك باطل، وما أدى إلى الباطل باطل. وقال آخرون: إن الطرد حجة، واستدلوا على ذلك بثلاثة أدلة: الأول: قولهم: الدليل على صحة العلة اطرادها وسلامتها من النقض، وهذا موجود ها هنا. والثاني: ربما قالوا: عجز المعترض أي: عن الفرق بين الموضعين المطردة فيهما العلة دليل على صحة العلة أي: عجز المعترض على المستدل، عن إيجاد الفرق بين الموضعين اللذين ذكر المستدل أن العلة موجودة فيهما دليل على صحتها أي: لأنها لو لم تكن علة لهما؛ لأبدى المعترض فرقًا وما عجز عن ذلك. والثالث: ربما قالوا: الطرد نوع من القياس أي: لصدق تعريف القياس عليه، فوجب أن يكون حجة، كما لو كان فيه إخالة أو شبه أي: كغيره من أنواع القياس الصحيح. وبهذا نكون قد وصلنا أخي الدارس إلى ختام هذا الدرس هذا وبالله التوفيق.

الدرس: 9 القوادح في العلة.

الدرس: 9 القوادح في العلة.

النقض.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس التاسع (القوادح في العلة) النقض الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومَن والاه؛ أما بعد: القوادح على وزن فواعل، فهو صيغة من صيغ منتهى الجموع -أي: الجمع الأقصى- ومما يطرد فيه هذا الجمع من المفردات ما كان صفة لمذكر غير عاقل كصاهل وصواهل، فهو جمع قادح والقادح اسم فاعل من القدح، وهو العيب في العِرض، وأُكال يقع في الشجر والأسنان والعفن، والصدع في العود، والسواد الذي يظهر في الأسنان. يقول جميل بثينة: رمى الله في عيني بثينة بالقذى ... وفي الغر من أنيابها بالقوادح فالقوادح -إذن- هي العيوب التي تُصيب العلةَ النحويةَ، ويعترض بسببها على الاستدلال بالقياس، والتعبير عنها بالجمع الأقصى إشارة إلى كثرة هذه العيوب. ومن هنا افتتح السيوطي مبحثها بقوله: "منها"، وهذا تعبير يدل على عدم استيفائه إياها، واكتفائه بإيراد بعضها في ضوء ما أتى به ابن جني في (الخصائص) وأبو البركات الأنباري في (الإغراب في جدل الإعراب) و (لمع الأدلة). والقادح الأول كما رتبه السيوطي النقض: بالنون والقاف والضاد المعجمة، ومعناه في اللغة: الكسر والإبطاء، والمراد به هنا كما قال الأنباري في (الإغراب في جدل الإعراب) وجود العلة ولا حكم على مذهب مَن لا يرى تخصيص العلة، أي: على مذهب من لا يرى تخصيص العلة ببعض الأفراد لوجود اطرادها، فإذا وُجدت العلة وجد الحكم، فتخلفه عنها مع وجودها نقض لها. قال الأنباري في (لمع الأدلة): "الأكثرون على أن الطرد شرط في العلة، أي: وإلا لم تكن علة؛ لفقد المشروط عند فقد شرطه، وذلك -أي: الطرد- المعتبر لتحقق العلة أن يوجد الحكم عند وجودها في كل موضع. يعني: أن يوجد الحكم

المعلل بها عند وجود العلة في كل موضع، فلا يتخلف عنها لدورانه عليها وجودًا وعدمًا، كرفع كل ما أسند إليه الفعل في كل موضع لوجود علة الإسناد، يعني: مثل رفع المسند إليه في الجملة الفعلية، سواء أكان فاعلًا أم نائبَ فاعل. لوجود علة الإسناد المقتضية للرفع عند وجودها، ونصب كل مفعول وقع فضلة؛ لأن المفعول به هو المراد عند الإطلاق كما قال ابن هشام في (مغني اللبيب) في الباب السابع في كيفية الإعراب، قال: إن كان المبحوث فيه مفعولًا عُين نوعه، فقيل: مفعول مطلق أو مفعول به أو لأجله أو معه أو فيه، وجرى اصطلاحهم على أنه إذا قيل مفعول وأطلق، لم يرد إلا المفعول به، لما كان أكثر المفاعيل دورًا في الكلام خففوا اسمه". انتهى. لوجود علة وقوع الفعل عليه. أي: لأنه الذي يقع الفعل عليه. وكجر كل ما دخل عليه حرف الجر لوجود عامله، وكذلك وجود الجزم في كل ما دخل عليه حرف الجزم لوجود عامله. وإنما كان الطرد شرطًا -يعني: في العلة- لأن العلة العقلية لا تكون إلا مطردة. أي: والعلة النحوية هنا كالعلة العقلية. ولا خلاف في أن العلة العقلية لا تكون إلا مطردة، ولا يجوز أن يدخلها التخصيص فكذلك العلة النحوية؛ لأنها إذا خصصت ببعض أفراد المعلول كان تحكمًا وإلغاءً لغير مقتض. وقال قوم: ليس الطرد بشرط، فيجوز أن يدخلها التخصيص. أي: ويكفي العلة ثبوتها في الأعم الأغلب من الأفراد؛ لأنها دليل على الحكم بجعل جاعل أي: وهو الواضع للفن، فصارت بمنزلة الاسم العام الصادق على ما فوق الواحد من غير حصر في أنه لا يجب تعميمه عقلًا لجميع الأفراد، بل يجوز تخصيصه ببعضها؛ لأن عمومه ظاهري لا قطعي، فكما يجوز تخصيص الاسم العام فكذلك ما كان في معناه، أي: يجوز أيضًا تخصيص ما كان بمعنى الاسم

العام من العلة الجعلية بقصرها على بعض أفراده، وكما يجوز التمسك بالعموم المخصوص، فكذلك يجوز التمسك بالعلة المخصوصة. قال السيوطي: "وعلى الأول -وهو جواز عدم التخصيص- قال الأنباري في (الجدل) ". أي: في (جدل الإعراب). مثال النقض: أن يقول المستدل: إنما بُنيت حَذام وقطام ورقاش، أي: كل ما كان علمًا مؤنثًا على وزن فَعال على الكسر في لغة الحجازيين مطلقًا، أي: سواء كان آخره راء كسقار، وهو اسم لماء من مياه العرب، ملحوظًا فيه التأنيث، أو اسم لبئر، وكَوَبار، وهو اسم لقبيلة، أو لا، كحذام وقطام ونحوهما، وأما التميميون فمنهم مَن أعربه إعرابَ ما لا ينصرف، ومنهم من فصل بين ما ختم بالراء فبناه على الكسر، وما ليس كذلك فأعربه إعرابَ ما لا ينصرف، لاجتماع ثلاث علل، وهي: التعريف والتأنيث والعدل، أي: إنما بُنيت هذه الأعلام المؤنثة التي على وزن فعال على الكسر؛ لاجتماع ثلاث علل فيها: التعريف والتأنيث والعدل، عن حاذمة وقاطمة وراقشة، أي: لتقدير هذه الأعلام معدولة عن وزن فاعلة؛ لأنها أعلام مؤنثة. فنقول: هذا البناء المعلل بما ذُكِر ينتقض بأذربيجان أو أذربيجان، ففي نطقها قولان بفتح الهمزة والذال المعجمة وسكون الراء أَذَرْبِيجان، أو بفتح الهمزة وسكون الذال وفتح الراء وكسر الموحدة أَذْرِبيجان، بلد بنواحي العراق غربي أرمينيةَ، فإن فيه ثلاث علل وهي: العلمية والتأنيث والعجمة، بل أكثر، كأنه يشير إلى التركيب أيضًا؛ لأنه قيل: إنه مركب من أذربي وجان، وقد جعله ابن جني في (شرح اللمع) اسمًا ممنوعًا من الصرف لاجتماع خمسة موانع من الصرف فيه، وهي: التعريف والتأنيث والعجمة والتركيب وزيادة الألف والنون، ومع ذلك ليس بمبني، بل هو معرب غير منصرف، أي: فانتقضت

العلة التي هي اجتماع العلل بوجودها مع فقد الحكم الذي هو البناء في كلمة أذربيجان. قال -أي: الأنباري: "والجواب عن النقض أن يمنع -أي: المعلل- مسألةَ النقض إن كان فيها مَنعه، أي: إن كان فيها احتمال منعه. بأن يمنع وجود العلة فيما نقضت فيه، أو يدفع النقض باللفظ أو بمعنى في اللفظ. فالجواب إذن بأحد ثلاثة أشياء فصلها بقوله: فالمنع مثل أن تقول: إنما جاز النصب في تابع المنادى المضموم في نحو: يا زيد الظريف؛ حملًا على الموضع، أي: على موضع المنادى إذ هو في محل نصب؛ لأنه وصف لمنادًى مفرد مضموم لفظًا منصوب محلًّا، فيقال: هذا ينتقض بقولهم: يا أيها الرجل، فإن الرجل وصف لمنادى مفرد مضموم، ولا يجوز فيه النصب، أي: لأنه غير مسموع، فالعلة وجدت وهي كون التابع وصفًا لمنادى مفرد مضموم دون الحكم، وهو جواز النصب. فنقول جوابًا عن النقض: لا نسلم أنه لا يجوز فيه النصب ويمنع -أي: ويدفع النقض- على مذهب من يرى جوازه، أي: مَن يرى جواز النصب في نعت هذا المنادى، كالمازني والزجاج؛ قياسًا على صفة غيره من المناديات المضمومة، فهما يجيزان أن يقال: يا أيها الرجل". وقول الأنباري: "ويمنع" هو تفسير لقوله: "لا نسلم"؛ لأن هذه العبارة هي المعروفة بالمنع عند أهل المناظرة، أي: يمنع النقض، والدفع باللفظ مثل أن يقول في حد المبتدأ: كل اسم عريته -أي: جردته- من العوامل اللفظية لفظًا أو تقديرًا فيقال: هذا ينتقض بقولهم: إذا زيد جاءني أكرمته، فزيد قد تعرَّى عن العوامل اللفظية ومع هذا فليس بمبتدأ، أي: بل هو فاعل لفعل محذوف يفسره المذكور، فيقول المعلل: قد ذكرت في الحد ما يدفع هذا النقض؛ لأني قلت: لفظًا أو تقديرًا، وهو -أي: زيد في المثال المذكور- إن تعرى لفظًا لم يتعر تقديرًا، فإن التقدير: إذا جاءني زيد جاءني، فحذف من الأول لدلالة الثاني عليه، والدفع

تخلف العكس.

بمعنى في اللفظ، مثل أن يقول: إنما ارتفع يكتب في نحو: مررت برجل يكتب؛ لقيامه مقامَ الاسم وهو كاتب، فيقول المعترض على المعلل: هذا ينتقض بقولك: مررت برجل كتب، فإنه -أي: كتب- فعل قد قام مقام الاسم وهو كاتب، وليس بمرفوع، فانتقضت العلة. فتقول في الجواب: قيام الفعل مقام الاسم إنما يكون موجبًا للرفع إذا كان الفعل معربًا، وهو الفعل المضارع نحو: يكتب، وكتب فعل ماض، والفعل الماضي لا يستحق شيئًا من الإعراب أي: لا رفعًا ولا غيره، فلما لم يستحق شيئًا من جنس الإعراب، أي: لعدم وجود ما يقتضي الإعراب فيه وهو تعاور المعاني المختلفة على التركيب، مُنِعَ هذا الفعل الرفع الذي هو نوع منه -أي: من الإعراب- فكأنا قلنا: هذا النوع من الأفعال الذي هو المضارع المستحق للإعراب، قام مقام الاسم فوجب له الرفع، أي: وقوله: هذا النوع المستحق للإعراب لم يذكر في لفظ العلة، لكنه معنى موجود فيها، فلا يرد النقض بالفعل الماضي الذي لا يستحق شيئًا من الإعراب، فدفع النقض هنا كان بمعنى في اللفظ، أما على مذهب من يرى تخصيص العلة فإن النقض غير مقبول، أي: لأن العلة عنده مخصوصة بغير ما نقضت به. تخلف العكس ذكر السيوطي أن القادح الثاني من القوادح في العلة تخلف العكس، فقال: "ومنها -أي: من القوادح- تخلف العكس، بناء على أن العكس شرط في العلة، وهو رأي الأكثرين"، وهو -أي: العكس- كما قال الأنباري في (لمع الأدلة): "أن يعدم الحكم عند عدم العلة"، فمعنى تخلفه انتفاؤه، أي: كون العلة غير منعكسة مع أن العكس شرط فيها عند الأكثرين. ومن أمثلة العكس التي أوردها

السيوطي نقلًا عن الأنباري: كعدم رفع الفاعل لعدم إسناد الفعل إليه لفظًا أو تقديرًا، وعدم نصب المفعول لعدم وقوع الفعل عليه لفظًا أو تقديرًا. ومع أبي البركات الأنباري حيث يقول: "وقولنا: تقديرًا؛ احتراز من نحو قولهم: إنِ الله أمكنني من فلان، وامرأ اتقى الله، فإنه وإن كان إسناد الفعل إلى الفاعل ووقوع الفعل على المفعول قد عدم لفظًا، إلا أنه قد وجد تقديرًا؛ لأن التقدير في قولهم: إنِ الله أمكنني من فلان: إن أمكنني الله أمكنني من فلان، فحذف الفعل الأول لفظًا وجعل الثاني تفسيرًا له، وعلى هذا التقدير قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ} (التوبة: 6) أي: وإن استجارك أحد من المشركين استجارك، فحذف الأول وجعل الثاني تفسيرًا له، والتقدير في قولهم: امرأً اتقى الله: رحم الله امرأً، فحذف الفعل لفظًا لدلالة الحال عليه، فالفعل ها هنا وإن عدم لفظًا فقد وجد تقديرًا، فلهذا المعنى قلنا: أو تقديرًا. وإنما وجب أن يكون العكس شرطًا في العلة؛ لأن هذه العلة مشبهة بالعلة العقلية، والعكس شرط في العلة العقلية، فكذلك ما كان مشبهًا بها. وذهب بعضهم إلى أن العكس ليس بشرط في العلة -أي: في صحتها- ومعنى عدم العكس -أي: تخلف العكس- أنه لا يعدم الحكم -أي: لا يفقد- عند فقدها، أي: عند عدم العلة. فتخلف العكس هو وجود الحكم مع فقد العلة، وذلك نحو ما ذهب إليه بعض النحويين الكوفيين من أنه لا يعدم أي: لا يعدو نصب الظرف إذا وقع خبرًا عن المبتدأ نحو: زيد أمامك، من أنه منصوب بفعل محذوف غير مطلوب إظهاره، ولا مقدر وجوده، بل حذف الفعل واكتفي بالظرف منه وبقي منصوبًا بعد حذف الفعل لفظًا وتقديرًا على ما كان عليه من قبل حذف الفعل، أي: وبهذا المثال يعلم أنه وجد المعلول وهو نصب الظرف بغير علته وهو الفعل الناصب له.

عدم التأثير.

وتمسكوا -أي: القائلون بأن العكس ليس بشرط في صحة العلة- في الدلالة على أن العكس ليس بشرط في العلة، بأن هذه العلة مشبهة بالدليل العقلي، والدليل العقلي يدل وجوده على وجود الحكم ولا يدل عدمه على عدم الحكم، فإن وجود العالم يدل على وجود الصانع، ولا يدل عدمه على عدمه". وأبطل أبو البركات الأنباري ما ذهب إليه أصحاب هذا الرأي الأخير، وأفسد دليلهم، فقال: "وهذا ليس بصحيح، وذلك أن الدليل لو تُصور عدمه لَعُدِمَ المدلول، فإن مدلول العالم العلم بالصانع مع نتيجة وجود العالم، والعالَم لن يُتصور خروجه عن أن يكون موجودًا في الوقت الذي كان موجودًا فيه، ولو تصور عدمه لعدم المدلول وهو العلم بالصانع، وإذا كان ذلك شرطًا في الدليل العقلي فكذلك ها هنا أي: كما قال الأولون". عدم التأثير القادح الثالث من القوادح في العلة: عدم التأثير؛ أي: عدم التأثير للوصف في الحكم، قال السيوطي: "وهو أن يكون الوصف لا مناسبة فيه". وقد نقل السيوطي هذا المبحث عن الأنباري في (لمع الأدلة) حيث قال الأنباري: "اعلم أن العلماء -أي: أكثرهم- ذهبوا إلى أنه لا يجوز إلحاقه على الإطلاق سواء كان لدفع نقض أو غيره، بل هو حشو في العلة لا يجوز تعليق الحكم به، أي: لا يجوز إلحاق الوصف بالعلة مع عدم المناسبة، بل يُعد حشوًا زائدًا يقدح في العلة، وذلك - أي: عدم تأثير الوصف- مثل أن يدل المستدل على ترك صرف حُبلى، فيقول: إنما امتنع هذا اللفظ من الصرف؛ لأنه في آخره ألف التأنيث المقصورة، أي: فوجب أن يكون غير منصرف كسائر ما في آخره ألف التأنيث المقصورة،

فَذِكْر المقصورة حشو؛ لأنه لا أثر له في العلة؛ لأن ألف التأنيث لم تستحق أن تكون سببًا مانعًا من الصرف لكونها مقصورةً، وإنما كانت مانعة من الصرف لكونها للتأنيث فقط. ألا ترى أن ألف التأنيث الممدودة سبب مانع من الصرف كالألف المقصورة أي: لوجود المانع وهو التأنيث، فلو كان القصر معتبرا في منع الصرف ما مُنعت الممدودة، وإنما قام التأنيث بهما -أي: بالمقصورة والممدودة- مقام سببين بخلاف التاء للزومها، أي: للزوم ألف التأنيث الكلمة بخلافها، أي: بخلاف تاء التأنيث، ألا ترى أنه ليس لهم حُبل وحبلى كما لهم طلح وطلحة". وانتقل الأنباري إلى ذكر دليل القائلين بعدم جواز إلحاق الوصف بالعلة مع عدم المناسبة، فقال: "وتمسكوا في الدلالة على أنه لا يجوز إلحاقه -أي: إلحاق الوصف المذكور ونحوه بالعلة- وأنه حشو فيها، بأنه لا إخالةَ فيه ولا مناسبة، وإذا كان خاليًا عن الإخالة والمناسبة لم يكن دليلًا، أي: على الحكم المعلل به، وإذا لم يكن دليلًا لم يجز إلحاقه بالعلة، وإذا لحق بها كان حشوًا فيها أي: قادحًا فيها؛ لعدم تأثيره. وذهب بعضهم إلى التفصيل بين أن يذكر الوصف دليلًا للحكم فلا يجوز، أو يذكر للنقض فيجوز، فذهبوا إلى أنه إذا ذكر -أي: الوصف- لدفع النقض -أي: للعلة فيما تخلف فيه الحكم عنها- لم يكن حشوًا في العلة، أي: لم يكن خاليًا عن الفائدة لتأثيره في الحكم". قال الأنباري: "وتمسكوا أي: الذين فصلوا في الدلالة على ذلك، أي: على أن الوصف المذكور لدفع نقض لا يعد حشوًا في العلة، بأن قالوا: الأوصاف في العلة تفتقر إلى شيئين؛ أحدهما: أن يكون لها تأثير، والثاني: أن يكون فيها احتراز، فكما لا يكون ما له تأثير حشوًا، فكذلك

لا يكون ما فيه احتراز حشوًا، أي: لما علمت أن الاحتراز من مطالب العلة كالتأثير". قال الأنباري معقبًا على ما قالوا: "وهذا ليس بصحيح؛ لأن ما له تأثير فيه تأثير واحتراز، فلوجود الشرطين جعل علةً، وما ذكر للاحتراز فقط فَقَدْ فُقِدَ فيه أحدُ الشرطين فلا يعتد به". قال السيوطي: "وقال ابن جني في (الخصائص): قد يزاد في العلة صفة لضرب من الاحتياط، أي: لا للتأثير ولا للاحتراز. ولكن لضرب من الاحتياط، بحيث لو أُسقطت لم يقدح إسقاطها فيها، أي: لم يؤثر إسقاط الصفة في العلة. كقولهم في همز أوائل وهو جمع أول، وأصله: أوأل، من وأل أي: نجا؛ لأن النجاة في السبق، وقيل: أصله أأول، بفتح فسكون، من آل بمعنى: رجَعَ؛ لأن كل شيء يرجع إلى أوله، فهو أفعل بمعنى مفعول كأشهر وأحمد، فأبدلت الهمزة في الوجهين المذكورين واوا إبدالا شاذا، وقال الكوفيون: هو فَوْعل من وَوَل، فأبدلت الأولى همزةً، قال الرضي في (شرح الكافية): وتصريفه كتصريف أفعل التفضيل، واستعماله بـ"مِن" مبطلان لكونه فوعلًا"، انتهى. قالوا في همز أوائل: أصله -أي: أصل أوائل-: أواول، أي: بواوين كما كانتا في المفرد، فلما اكتنفا أي: أحاط الألف واوان، وقربت الثانية منهما من الطرف، ولم يؤثر إخراج ذلك على الأصل تنبيهًا على غيره من المغيرات في معناه، أي: لم يعهد إبقاء ذلك على أصله من غير تغيير دلالةً على ما غير من غيره -كما سيأتي- وليس هناك ياء قبل الطرف، يعني: أنه جاء على مثال مفاعل وليس على مثال مفاعيل بياء قبل آخره، إذ لو وجدت هذه الياء لفظًا أو تقديرًا لمنعت من الإبدال كما ستعرف، وكانت الكلمة جمعًا، ثقل ذلك، فأبدلت الواو همزةً، فصار أوائل، أي: لأنه من مواضع إبدال كل من الواو

والياء همزة وجوبًا أن تقع إحداهما ثاني حرفي علة توسطتهما ألف الجمع الذي على مثال مفاعل، سواء أكان الحرفان المكتنفان لألف الجمع واوين كأوائل، وأصله أواول، أم ياءين كعيائل وهو جمع عَيِّل، بمعنى فقير، أو كثير العيال، من: عَال يعيل عيلًا وعيلةً وعيولًا، فأصل الجمع: عيايل، أم مختلفين كبوائع في جمع بائعة، وسيائد في جمع سيد، وأصلهما: بوايع وسياود، فهذه علة مركبة من خمسة أوصاف محتاج إليها في وجوب الإبدال، إلا الخامس، وهو كون الكلمة جمعًا، أي: فإنه لا حاجة إليه لتحقق الإبدال مع الأربعة الأول سواء كان مفردًا أو جمعًا. فقولك: ولم يؤثر ... إلى آخره، احتراز من نحو قوله: تسمع من شُذّانها عواولا ... ....... ..... ........ ...... ...... ..... هذا القول رجز لم يعلم قائله، والشذان جمع شاذ، كشاب وشبان. قيل: والعواول جمع عِوَّال بكسر العين وتشديد الواو، مصدر عوَّل، أي: صاح، كما يقال: كذب كذابًا، وكأنه يصف دلوًا يتناثر منها الماء، أو منجنيقًا يتناثر منها الحجارة، قيل: وأصل العواول العواويل، فحذفت الياء للضرورة، والذي نراه أنه لا ياءَ مقدرةً في عواول، وليس أصلها عواويل، وحذفت الياء للضرورة كما قيل، إذ لو كان الأمر كذلك لاتفق هذا الشاهد مع ما بعده، وصارَا معًا بمنزلة شيء واحد لشاهد واحد، وصارت العلة مركبة من أربعة أشياء لا من خمسة كما ذكر السيوطي. كما أن عبارة ابن جني: "ولم يؤثر ... " إلى آخره. لا تعين على هذا التخريج، وتوحي أن هذا الجزء من العلة المذكورة مغاير للذي بعده، وأقرب تفسير لذلك من وجهة نظرنا في ضوء ما ذكره ابن جني والسيوطي: أن عواول ليس جمع عِوال، وإنما هو جمع عائلة، وهو اسم فاعل لمؤنث على فاعلة من الفعل

الأجوف الواوي عالت تعول إذا صاحت، وكان هذا الجمع بمقتضى القياس يستحق الإبدال كصوائل وجوائل، ولكن أُوثِر إخراج هذا الجمع على أصله، أي: من غير إبدال؛ ليكون دلالةً على أصل ما غُير من غيره في نحوه كما قال ابن جني، وهذا هو الشاهد فيه. ويؤيد هذا التفسير أن شذان قد جاء في بعض نسخ (الخصائص) كما ذكر محققه -رحمه الله تعالى- بفتح الشين، وذكر (القاموس) وغيره من المعاجم اللغوية: أنه بالفتح والضم ما تفرق من الحصى وغيره، فربما يكون المعنى: أنك تسمع من ارتطام هذا الحصى المتفرق بعضه ببعض أصواتًا عاليةً تشبه ما عَلَا من الصياح. والله أعلم. وقولك: وليس هناك ياء مقدرة لئلا يلزمك نحو قوله: وكحل العينين بالعواور؛ لأن أصله عواوير، يخاطب الراجز، وهو جندل بن المثنى الطهوي أو العجاج امرأته بقوله: غرك أن تباعدت أباعري ... وأن رأيت الدهر ذا الدوائر حنى عظامي وأراه ثاغري ... وكحل العينين بالعواور وتباعد الأباعر وهو جمع بعير كناية عن ترك السفر لكبره، أو عن فقره، فقلت أباعره، وقرب بعضها من بعض، وثاغر: كاسر ثغري أي: أسناني، والعواور جمع عوار بضم العين وتشديد الواو كرُمان، وهو القذى الذي في العين، أو الرمد الشديد، وأصل الجمع عواوير؛ لأن ألف الجمع الأقصى تأتي ثالثة فاصلة بين الواوين، إذ الواو المشددة في موضع العين بواوين، فالجمع على مثال مفاعيل، وكل ما كان على هذا الوزن من مثل هذا الجمع لا يُبدل حرف العلة الثاني منه همزة؛ لبعده عن الطرف؛ لأن الياء التي قبل الآخر جاءت مبعدة إياه عن ذلك، وقد نص العلماء على أن هذه الياء تمنع الإبدال سواء أكانت منطوقًا بها أم كانت مقدرةً، فالعبرة بما يقتضيه القياس لا بالمنطوق، وبناء على هذه القاعدة سَلِمَ الجمع في الرجز المذكور؛ عملًا بالقياس؛ لأن الجمع القياسي لعوار

هو العواوير، ولكن الراجز حذف الياء للضرورة، فهي في تقدير الموجودة. وقولك: وكانت الكلمة جمعًا، غير محتاج إليه؛ لأنك لو لم تذكره لم يخل ذلك بالعلة، أي: لحصول الحكم وإن فُقدت الجمعية، ألا ترى أنك لو بَنيت من قُلت وبِعت واحدًا على فواعل أي: كعوارض وهو جبل ببلاد طيئ، وعليه قبر حاتم، أو أُفاعل أي: كأُباتر، وهو الذي يقطع رحمه أو الذي لا نسل له، لهمزتَ كما تهمز في الجمع، أي: لهمزت ذلك المفرد كما تهمز في الجمع، لكنه ذُكر -أي: ذكر وصف الجمع مع التعليل- تأنيثًا. عبارة ابن جني في (الخصائص): "فَذِكْرك الجمع في أثناء الحديث إنما زدت الحال به أنسًا". انتهى. من حيث كان الجمع في غير هذا، أي: في غير هذا الوزن مما يدعو إلى قلب الواو ياء في نحو: حُقي ودلي، أي: في جمع حَقو وحِقو بفتح الحاء وكسرها، وهو الخاصرة، ودلو، وقد وقعت الواو فيهما لامًا لجمع على فعول، فأصلهما: حقوو ودلوو، بواوين، أولاهما واو الجمع، والثانية لام الكلمة، فتقلب الثانية منهما ياءً؛ استثقالًا لاجتماع واوين مع ثقل الجمعية، وقبلهما ضمتان. وفي الطرف الذي يتطلع إلى التخفيف ثم تقلب الأولى ياء؛ لاجتماعها ساكنة مع الواو، ثم تدغم الياء في الياء، ثم تقلب الضمة قبل الياء المشددة كسرةً؛ لمناسبة الياء، وهذا هو قدر واجب. أما إتباع الفاء للعين في الكسر فجائز حسن. فذُكر هنا -أي: ذكر في أوائل- قيد الجمع في أوصاف العلة؛ تأكيدًا لا وجوبًا، أي: لما علمت أن ذلك الوزن يقتضي القلب مطلقًا، وأن الجمع مما يدعو إليه. قال -أي: ابن جني في (الخصائص): "ولا يجوز زيادة صفة لا تأثير لها أصلًا البتة، كقولك في رفع طلحة من نحو: جاءني طلحة، إنه لإسناد الفعل إليه، أي: وهذه هي العلة الصحيحة، ولأنه مؤنث وعَلَم، فَذِكْر التأنيث والعلمية لغو لا فائدةَ له". انتهى. أي: قدر زائد خال عن الفائدة.

القول بالموجب.

القول بالموجب الموجب -بفتح الجيم- ما يقتضيه الدليل، أو هو المسبب، وبكسرها: الدليل نفسه، أو السبب، وقد ذكر السيوطي نقلًا عن أبي البركات الأنباري قوله في (جدل الإعراب) معرفًا بالقول الموجب في اصطلاح علماء الأصول: "وهو أن يسلِّم للمستدل -أي: الخَصم- ما اتخذه موجبًا للعلة مع استبقاء الخلاف، أي: في المتنازع فيه، ومتى توجه -أي: الخلاف- في عموم الصور المختلف فيها كان المستدل منقطعًا، فإن توجه في بعض السور مع عموم العلة، لم يعدَّ منقطعًا. أي: لعموم علته لذلك وإن اختلف فيه، أي: في هذا العموم". وضَرَبَ مثلًا لذلك، فقال: "مثل أن يستدل البصري على جواز تقديم الحال على عاملها الفعل المتصرف". هذه عبارة السيوطي. وعبارة الأنباري: "مثل أن يستدل البصري على جواز تقديم الحال على العامل في الحال إذا كان العامل فيها فعلًا متصرفًا، وذو الحال -أي: وصاحب الحال- اسمًا ظاهرًا، نحو: راكبًا جاء زيد، فراكبًا حال، وجاء فعل ماض، وزيد فاعل، فالعامل في الحال -وهو جاء- فعل متصرف، فيكون عمله قويًّا، فيجوز تقديم الحال عليه، ولذلك قيل: راكبًا جاء زيد". قال ابن مالك: والحال إن ينصب بفعل صرفا ... أو صفة أشبهت المصرفا فجائز تقديمه كمسرعًا ... ذا راحل ومُخلصًا زيد دَعَا ابن مالك أتى في البيت الثاني بمثالين؛ المثال الأول: تقدمت فيها الحال والعامل في الحال لفظ راحل، وهو صفة متصرفة؛ لأنها اسم فاعل،

والمثال الثاني: مخلصًا زيد دعا، تقدم الحال، والعامل فعل متصرف وهو دعا، فشمل النوعين، فيقول -أي: البصري: جواز تقديم معمول الفعل المتصرف ثابت في غير الحال، يعني: في نحو قوله تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ} (الضحى: 9) فـ {الْيَتِيمَ} مفعول مقدم، وقد تقدم على عامله المتصرف، ونحو قوله -عز وجل: {فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ} (البقرة: 87) {فَفَرِيقًا} مفعول به مقدم، وقد تقدم على عامله الفعلي المتصرف، وما لا يحصَى من المفاعيل، فكذلك في الحال، أي: كغيره من المنصوبات. فيقول له الكوفي: أنا أقول بموجبه، فإن الحال يجوز تقديمها عندي إذا كان ذو الحال مضمرًا، أي: إذا كان صاحب الحال مضمرًا، نحو: راكبًا جئتُ، فراكبًا حال، وقد تقدمت على العامل، لكن صاحب الحال هنا مضمر وليس اسمًا ظاهرًا، وهو الضمير: تاء الفاعل، دونما إذا كان صاحب الحال مظهرًا. لماذا؟ لئلا يؤدي ذلك إلى الإضمار قبل الذكر، أي: وذلك عندي -أنا الكوفي- ممنوع. والجواب: أن يقدر العلة على وجه لا يمكنه القول بالموجب، بأن يقول: عنيت به ما وقع الخلاف فيه، وعرفته بالألف واللام، فتناوله وانصرف إليه. وبهذا نكون قد وصلنا إلى ختام هذا الدرس هذا وبالله التوفيق.

الدرس: 10 تابع القوادح في العلة.

الدرس: 10 تابع القوادح في العلة.

فساد الاعتبار.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس العاشر (تابع القوادح في العلة) فساد الاعتبار الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومَن والاه؛ أما بعد: المراد بفساد الاعتبار: فساد الاعتبار للعلة في الحكم، وذلك عند مخالفة القياس للنص، وعرَّفه السيوطي في (الاقتراح) نقلًا عما ورد في الفصل التاسع في (الإغراب في جدل الإعراب) لأبي البركات الأنباري: بأنه الاستدلال بالقياس في مقابلة النص عن العرب، ومثاله: أن يستدل البصري على أن ترك صرف ما لا ينصرف لا يجوز في ضرورة الشعر؛ بأن الأصل في الاسم الصرف، فلو جوزنا ترك صرف ما ينصرف، لأدى ذلك إلى أن نرده عن الأصل إلى غير أصل، فوجب ألا يجوز قياسًا على مد المقصور، فإنه ممنوع، فيقول له المعترض عليه في استدلاله وتعليله أي: ممن يجوزون تركَ صرف ما ينصرف في ضرورة الشعر، وهم الكوفيون وبعض البصريين: هذا استدلال منك بالقياس في مقابلة النص عن العرب، وهو -أي: القياس في مقابلة النص- لا يجوز، فإنه -أي: الحال والشاذ- قد ورد النص عنهم -أي: عن العرب- في أبيات تركوا فيها صرف المنصرف للضرورة، وذلك في كثير من أشعارهم، وإذا ثبت النقل عنهم في ورود المدعَى، فلا اعتبارَ للقياس ولا التفات إليه. ومن هذه الأبيات التي تشهد لذلك وأوردها الأنباري في (الإغراب) و (الإنصاف) قول حسان -رضي الله عنه: نصروا نبيهم وشدوا أزره ... بحُنين يوم تواكل الأبطال فحنين: اسم واد بين مكة والطائف كانت به وقعة بين المسلمين والكفار، وذكره الله في كتابه فقال تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا} (التوبة: 25) وقد أجمع القُراء على صرفه في الآية الكريمة. وقول الأخطل التغلبي من كلمة يمدح فيها سفيان بن الأبيرد:

طلب الأزارقَ بالكتائب إذ هَوَت ... بشبيب غائلة الثغور غدور الأزارق: أصله الأزارقة، جمع أزرقي، وهو المنسوب إلى رأس الخوارج نافع بن الأزرق، وشبيب هو شبيب بن يزيد الشيباني من الخوارج كذلك، والشاهد في قوله: "بشبيب" حيث منعه من الصرف مع أنه ليس فيه إلا العلمية، وهي وحدها لا تقتضي منعه من الصرف، ومع ذلك فقد منعه للضرورة. وقول أبي دهبل وهب بن زمعة الجمحي: أنا أبو دهبل وهب لوهب ... من جُمح والعز فيهم والحَسَب فترك صرف "دهبل" وهو منصرف، وقد جاء في (الإنصاف) في المسألة السبعين كثير من الأبيات مع هذه الأبيات، وقد رجح الأنباري في (الإنصاف) مذهب الكوفيين والأخفش والفارسي ومَن تبعهم؛ لكثرة النقل الذي خرج عن حد الشذوذ. ورجحه ابن مالك في (الكافية الشافية) فقال: وبعضهم أجازه اختيارًا ... وليس بدعًا فدع الإنكار وقال في (الألفية): ولاضطرار أو تناسب صرف ... ذو المنع والمصروف قد لا ينصرف ومع ذلك فقد ناقش الأنباري هذه المسألة هنا مناقشة أصولية؛ لأنه بصدد بيان سبل الحجاج وطرائق الاستدلال، فقال في (الإغراب): "والجواب -أي: من طرف المستدل بالقياس، وهو هنا البصري- أن تتكلم عليه -أي: أن ترد عليه- أيها المستدل بالقياس بما هيأت أي: بما بينت أنا لك من الاعتراضات على النقل. وتبين أن ما توهمه معارضًا ليس كذلك". فإذا رجعنا إلى الفصل الثامن من (الإغراب) عرفنا هذا الجواب، وعنوان هذا الفصل: في الاعتراض على الاستدلال بالنقل، ومضمون ما قال الأنباري ونقله عنه السيوطي: أن الجواب

هو الطعن في النقل المذكور، ويكون هذا الطعن إما في الإسناد وإما في المتن. أما الطعن في الإسناد فمن وجهين: أحدهما: أن تطالبه أيها المستدل بالقياس بإثبات الإسناد؛ لأنه مدع، والمدعي عليه الإثبات حتى تنهض دعواه؛ عملًا بالقاعدة الشرعية: البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه. قال الأنباري: "وقد ذهب قوم إلى أنه ليس له أن يطالبه بإثبات الإسناد، وإنما عليه أن يطعن فيه إن أمكنه، وليس ذلك بصحيح؛ لأنه لو لم يكن له -أي: للمستدل- ذلك، لأدى إلى أن يروي كل من أراد ما أراد، وهذا غاية في الفساد"، انتهى. والجواب من المعترض عن المطالبة بإثبات الإسناد بأحد أمرين؛ أن يسنده أي: ينسبه لسند معين، رجاله معروفون بالعدالة والثقة، حتى ينتهي إلى من نقله عن العرب وأثبته، أو يحيله على كتاب معتمد عند أهل اللغة، وأما الطعن في الرواية فمعناه الطعن في رواية الرجال الذين هم في السند بما يرد روايتهم، ويجعلها غير مقبولة، وجواب الطعن في الرواية من جانب المستدل بها أن يبدي أي: يظهر لذلك النص طريقًا آخرَ، سالمًا من القدح والطعن الذي ورد على النص الأول، وأما الطعن في المتن أي: بعد التسليم بثبوت وروده عن العرب وقبول سنده، فمن خمسة أوجه؛ أحدها: التأويل؛ أي: حمل اللفظ على خلاف الظاهر لدليل، بأن يقول الكوفي ومَن سار على دربه: الدليل على ترك صرف المنصرف قول ذي الإصبع العدواني وهو شاعر معمر شجاع جاهلي: وممن ولدوا عامـ ... ر ذو الطول وذو العرض والشاهد في قوله: "عامر" فقد جاء به مرفوعًا من غير تنوين، فدل على أنه منعه من الصرف مع أنه ليس فيه إلا العلمية وحدها، وقوله: "ذو الطول وذو

العرض" كناية عن عظم الجسم وبسطته. فيلجأ البصري إلى التأويل، فيقول للكوفي: إن البيت ليس مما الكلام فيه من ترك صرف المنصرف، بل هو منصرف للعلمية والتأنيث المعنوي، إذ لم يصرفه؛ لأنه ذهب به إلى القبيلة، أي: لأنه جعله اسمًا للقبيلة حملًا على المعنى، والحمل على المعنى كثير في كلامهم، كقول الشاعر يحكي عن أعرابية وقفت على قبر ابن لها يقال له: عامر، ترثيه وتبكيه، فقالت: قامت تبكيه على قبره ... مَن لي بعدك يا عامر تركتني في الدار ذا غربة ... قد ذَل من ليس له ناصر فقال الشاعر على لسان المرأة: "ذا غربة" ولم يقل: ذات غربة؛ لأنه حمله على المعنى كأنه قال: تركتني إنسانًا أو شخصًا ذا غربة، والإنسان أو الشخص يطلق على الذكر والأنثى، فيقول له الكوفي: قوله: "ذو الطول وذو العرض" يدل على أنه لا يذهب به إلى القبيلة؛ لأنه لو ذهب به إلى القبيلة لقال: ذات الطول والعرض، فيقول له البصري قوله: "ذو الطول" رجع إلى الحي، ونحو هذا في التنقل من معنى إلى معنى قول الراجز: إن تميمًا خلقت ملموما ... قومًا ترى واحدهم صهميما الملموم: اسم مفعول من اللم، وهو الجمع الكثير الشديد، وصخرة ملمومة: مستديرة صلبة، والصهميم: السيد الشريف من الناس، ومن الإبل: الكريم، والخالص في الخير والشر مثل الصميم، والذي لا ينثني عن مراده، ومحل الاستشهاد قوله: "خلقت" فإنه قد جاء به كما يجيء بإخبار المؤنث، فدل بهذا على أنه يريد بتميم القبيلة، ثم قال: "ملمومًا" فأجرى الكلام على أنه يريد الحي، ثم ترك لفظ الواحد وحقق مذهب الجمع، فقال بعد ذلك:

قومًا ترى واحدهم صهميما ... ..... .... ..... ..... ... والوجه الثاني من أوجه القدح في المدح: المعارضة بنص آخر مثله، فيتساقطان ويسلم الأول، أي: المعارضة بنص ثبت فيه إبقاء صرفه، والنصان متكافئان فيتساقطان، وإلا كان ترجيحًا بلا مرجح، فإذا تساقطَا سلم الدليل الأول لسقوط ما عارضه، كأن يقول الكوفي: الدليل على أن إعمال الأول، أي: لسبقه في باب التنازع أولى أي: أحق من إعمال الثاني، أي: كما يقول البصريون بقربه قول الشاعر: وقد نغنى بها ونرى عصورًا ... .... .... ....... ..... ..... وهذا صدر بيت من الوافر، وعجزه: ..... ..... .... .... .... ... .... ... بها يقتدننا الخلد الخدال ونسبه سيبويه إلى المرار الأسدي، وأنشد قبله: فرد على الفؤاد هوًى عميدًا ... وسوئل لو يبين لنا سؤالا والهوى العميد: هو العِشق الشديد الذي يضني صاحبه، و"نغنى" مضارع غني بالمكان كرضي، أي: أقام فيه وتوطن، والخليدة: هي المرأة الحيية الطويلة السكوت، أو البكر، والخِدَال: جمع خدلة وهي الممتلئة، وفاعل "رد" في البيت الأول ضمير مستتر تقديره هو، أي: منزل أحبابه، وقد أعاد عليه الضمير مؤنثًا في البيت الثاني في قوله: "بها"؛ لأنه في معنى الدار، والشاهد في البيت الثاني حيث أراد: ونرى الخلد الخدال بها يقتدننا في عصور، فالعصور ظرف، وأعمل العامل الأول وهو نرى في الخلد، ولو أعمل الفعل الثاني وهو يقتاد، لقال: ونرى عصورًا بها تقتادنا الخلد الخدال، بالرفع. فيقول البصري: هذا البيت بعد أن نسلمه ونقول بثبوته، معارض بقول الآخر، وهو الفرزدق:

ولكن نصفًا لو سببت وسبني ... بنو عبد شمس من مناف وهاشم النصف: الإنصاف والعدل، والشاهد فيه في قوله: "سببت وسبني بنو عبد شمس" أي: بإعمال الثاني، ولو أعمل الأول لقال: سببت وسبوني بني عبد شمس، بنصب بني وإظهار الضمير في سبني. والوجه الثالث من أوجه القدح في المتن: اختلاف الرواية، كأن يقول الكوفي: الدليل على جواز مد المقصور في ضرورة الشعر قول الشاعر: سيغنيني الذي أغناك عني ... فلا فقر يدوم ولا غناء فمد غنى وهو مقصور ضرورة فقال: غناء، فيقول له البصري: الرواية غناء، بفتح الغين ممدود، أي: من قولهم: هذا رجل لا غناء عنده، فيكون ممدودًا أصالة فلا دليل في البيت، وزعم آخرون أنه بكسر الغين وأنه مصدر: غانيته أغانيه غِناءً، مثل: راميته أراميه رِماءً، إذا فاخرته وباهيته في الغنى بكسر الغين وبالقصر، فهو ممدود قياسًا، فلا دليل. والوجه الرابع من أوجه القدح في المتن: منع ظهور دلالته، أي: دلالة الدليل على ما يلزم منه فساد القياس، كأن يقول البصري: الدليل على أن المصدر أصل للفعل أنه يسمى مصدرًا، والمصدر هو الموضع الذي تصدر عنه الإبل، فلو لم يصدر عنه الفعل لما سُمِّي مصدرًا. فقول البصري: والمصدر هو الموضع، كأنه يشير إلى أنه اسم مكان كمقعد ونحوه، فيقول له الكوفي: هذا حُجة لنا في أن الفعل أصل للمصدر، فإنه إنما سمي مصدرًا؛ لأنه مصدور عن الفعل -أي: مأخوذ منه- فالمراد به المفعول لا الموضع، كما يقال: مَركب فَارِه، ومشرب عذْب، أي: مركوب ومشروب، أي: أن مركبًا ومشربًا بوزن مصدر وهما بمعنى مفعول، فمصدر مثلهما.

قال الأنباري في (الإنصاف) جوابًا عن هذه الحجة الكوفية: "قلنا: -أي: نحن البصريين- هذا باطل من وجهين؛ أحدهما: أن الألفاظ إذا أمكن حملها على ظاهرها فلا يجوز العدول بها عنه، يعني: والظاهر يوجب أن يكون المصدر للموضع لا للمفعول، فوجب حمله عليه، والثاني: أن قولهم: مركب فاره، ومشرب عذب، يجوز أن يكون المراد به موضع الركوب وموضع الشرب، ونُسب إليه الفراهة والعذوبة للمجاورة، يعني: أنه مجاز عقلي علاقته المجاورة، كما يقال: جرى النهر، والنهر لا يجري، وإنما يجري الماء فيه، قال الله تعالى: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} (التوبة: 72) فأضاف الفعل إليها، وإن كان الماء هو الذي يجري فيها؛ لما بينا من المجاورة، ومنه قولهم: بلد آمن ومكان آمن، فأضافوا الأمن إليه؛ مجازًا لأنه يكون فيه، قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا} (إبراهيم: 35) وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} (العنكبوت: 67) فأضاف الأمن إليه؛ لأنه يكون فيه، ومنه قوله تعالى: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} (سبأ: 33) فأضاف المكر إلى الليل والنهار، ومنه قولهم: ليل نائم، فأضافوا النوم إلى الليل لكونه فيه ... إلى آخره. والوجه الخامس من أوجه القدح في المتن سقط من نسخ (الاقتراح) وذكره الأنباري في (الإغراب) وأشار إليه في (الإنصاف) ونقله عنه صاحب (الإصباح في شرح الاقتراح) وهو أن يستدل -أي: المستدل- بما لا يقول به، مثل أن يقول البصري: الدليل على أن واو رُب لا تعمل وإنما العمل لرب المقدرة، أنه قد جاء الجر بإضمارها من غير عِوض في نحو قول جميل بن معمر العذري صاحب بثينة: رسم دار وقفت في طلله ... كدت أقضي الحياة من جَلَله

فساد الوضع.

الرسم: ما بقي لاصقًا بالأرض من آثار الديار كالرماد ونحوه، والطلل: ما بقي شاخصًا مرتفعًا من آثارها كالوتد ونحوه، ومن جلله: أي: من أجله، أو من عظمه في نفسي، ومحل الاستشهاد في البيت قوله: "رسمِ دار"، فإن الرواية بجر الرسم، وقد خرجها العلماء على أنه مجرور برب المحذوفة الباقي عملُها، فيقول له الكوفي: إعمال حرف الجر مع الحذف من غير عوض لا تقول به، فكيف يجوز لك الاستدلال به؟!. فساد الوضع عرف السيوطي هذا القادح في (الاقتراح) نقلًا عن أبي البركات الأنباري في (الإغراب في جدل الإعراب) فذكر أن معناه: أن يعلق -أي: المستدل- على العلة ضد المقتضَى، أي: أن يعلق عليها حكمًا مضادًّا لما تقتضيه. كأن يقول الكوفي: إنما جاز التعجب من السواد والبياض دون سائر الألوان؛ لأنهما أصلا الألوان. يعني: أنه يجوز أن يستعمل ما أفعله في التعجب من السواد والبياض خاصةً من بين سائر الألوان، نحو أن تقول: هذا الثوب ما أبيضه، وهذا الشعر ما أسوده، والعلة في هذا الحكم بالجواز أن السواد والبياض أصلا الألوان، ومنهما يتركب سائرها من الحمرة والصفرة والخضرة والصهبة والشهبة، إلى غير ذلك، فإذا كانَا هما الأصلين للألوان كلها، جاز أن يثبت لهما ما لا يثبت لسائر الألوان، إذ كانا أصلين لها ومتقدمين عليها. فيقول له البصري: قد علقت على العلة -أي: التي ذكرتها- وهي كونهما أصلًا للألوان ضد المقتضى، أي: ضد مقتضاها أي: مطلوبها وما تقتضيه. فإن مقتضى كونهما أصلين أبلغيتهما في المنع؛ لأن التعجب إنما امتنع من سائر الألوان

المنع للعلة.

للزومها المحل، يعني: أن التعجب إنما يكون من حدوث أمر وعروضه، وهذه الألوان أشياء مستقرة في الشخص لا تكاد تزول عنه، فجرت مجرى أعضائه. وهذا المعنى في الأصل أبلغ منه في الفرع، أي: أن هذا المعنى وهو لزوم هذه الأشياء واستقرارها في الأصل، أبلغ؛ لقوته وشدته بالأصالة، فإذا لم يجز مما كان فرعًا لملازمته المحل فلأن لا يجوز مما كان أصلًا، وهو ملازم للمحل أولى، أي: أحق بالمنع لأبلغيته فيه. والجواب: أن يبين عدم الضدية، أي: يبين له ألا تضاد بين العلة والحكم الذي تقتضيه، أو يسلم له، أي: للمعترض ذلك، أي: الضدية بين العلة والحكم، ويبين أنه -أي: كونه أصلها- يقتضي ما ذكره هو أيضًا من وجه آخر، أي: غير الوجه المدخول فيه. المنع للعلة المراد بهذا القادح الاعتراض على الاستدلال بالقياس لعدم التسليم بالعلة، أي: لرفض العلة وعدم قبولها، وقد ذكر السيوطي نقلًا عن الأنباري في (جدل الإعراب) أن هذا المنع قد يكون في الأصل وقد يكون في الفرع، أي: في علة الأصل المقيس عليه أو في علة الفرع المقيس. قال: "فالأول -أي: المنع في الأصل- كأن يقول البصري: إنما ارتفع المضارع لقيامه مقام الاسم، أي: فهو يقع بجملته خبرًا وصفة وحالًا، والأصل في هذه المواقع الاسم، وهو -أي: قيامه مقام الاسم- عامل معنوي فأشبه -أي: هذا العامل- الابتداء في الاسم المبتدأ والابتداء يوجب الرفع، فكذلك ما أشبهه، أي: وهو القيام مقام الاسم في الفعل المضارع. فيقول له الكوفي: لا نسلم -

يعني: نمنع- أن الابتداء يوجب الرفع في الاسم المبتدأ، أي: لأن الابتداء أمر معنوي يضعف عن التأثير في أمر لفظي". والثاني أي: وهو المنع للعلة في الفرع، كأن يقول البصري: الدليل على أن فعل الأمر مبني أن دراك ونزال ونحوهما من أسماء الأفعال مبنية؛ لقيامها مقامه، أي: مقام فعل الأمر في إفادة معناه، فعوملت في البناء معاملته، ولولا أنه مبني لَمَا بني ما قام مقامه، أي: الدليل على أن فعل الأمر مبني إجماعنا على أن ما كان على وزن فعال من أسماء الأفعال كنزال وتراك وحذار، مبني؛ لأنه ناب عن فعل الأمر، فنزال ناب عن انزل، وتراك ناب عن اترك، وحذار ناب عن احذر، وهكذا. فالأصل في بناء أسماء الأفعال هذه ونحوها قياسها على فعل الأمر، فبناؤها فرع عن بناء أفعال الأمر التي بمعناها. فيقول له الكوفي: لا نسلم أن نحو: تراك ودراك إنما بني لقيامه مقام فعل الأمر، أي: فالمنع هنا لوجود العلة في الفرع، بل لتضمنه لام الأمر، بل إنما بني نزال ونحوه؛ لتضمنه معنى لام الأمر، أي: فأشبه الحرف في المعنى لتضمنه معناه، ألا ترى أن نزال اسم انزل وأصله لتنزل، فلما تضمن معنى اللام بني، كتضمن أين معنى حرف الاستفهام. وكما أن أين بنيت لتضمنها معنى حرف الاستفهام، فكذلك بنيت نزال لتضمنها معنى اللام. والجواب عن منع العلة: أن يدل -أي: من جهة المستدل- على وجودها في الأصل أو في الفرع بما يظهر به فساد المنع، أي: بدليل يظهر به للوجود فساد المنع، وأن المنع إنما هو ضرب من ضروب العناد والمكابرة، فلا عبرةَ به؛ لأن المكابرة كما يقولون: توجب قطعَ المناظرة.

المطالبة بتصحيح العلة.

المطالبة بتصحيح العلة من القوادح في العلة: المطالبة من المعترض للمستدل بتصحيح العلة، أي: بإقامة الدليل على صحة ثبوتها، وذكر السيوطي أن أبا البركات الأنباري قال: "والجواب: أن يدل من قبل المستدل على ذلك الثبوت بشيئين؛ التأثير: أي: التأثير في الحكم لمناسبتها له، وشهادة الأصول بكونها علة، فالأول -وهو التأثير- وجود الحكم لوجود العلة وزواله لزوالها، أي: لأن ذلك -أي: دوران الحكم مع العلة وجودًا وعدمًا- هو شأن العلة، كأن يقول المستدل: إنما بنيت قبلُ وبعد على الضم؛ لأنها اقتطعت عن الإضافة، أي: نحو قراءة الجماعة؛ لقول الله تعالى: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} (الروم: 4). فيقال -أي: من جهة المعترض: وما الدليل على صحة هذه العلة؟ أي: ما الدليل على صحة كون قطع هذين الظرفين ونحوهما عن الإضافة هو علة البناء على الضم؟ فيقول -أي: المستدل: الدليل التأثير، أي: هو الدليل على صحة هذه العلة، وهو وجود البناء لوجود هذه العلة وعدمه لعدمها؛ ألا ترى أنه إذا لم يقتطع عن الإضافة يعرب، فإذا اقتطع عنها بني، فإذا عادت الإضافة عاد الإعراب أي: فوجود الحكم وهو البناء لوجود العلة، وهي القطع عن الإضافة، وعدمه لعدمها دليل على أنها هي المؤثرة فيه وجودًا وعدمًا، والتأثير دليل على صحة العلة. والثاني: وهو شهادة الأصول كأن يقول المستدل: إنما بنيت كيف وأين ومتى؛ لتضمنها معنى الحرف، فيقال: وما الدليل على صحة هذه العلة؟ فيقول: إن الأصول تشهد وتدل على أن كل اسم تضمن معنى الحرف وجب أن يكون مبنيًّا".

المعارضة.

المعارضة من القوادح في العلة: المعارضة، ومعنى المعارضة كما قال الأنباري في (جدل الإعراب) و (لمع الأدلة) ونقله عنه السيوطي في (الاقتراح): "أن يعارض المستدل بعلة مبتدأة، أي: أن يعارض الخصم المستدل بعلة مستأنفة تقتضي خلاف مقتضى علة المستدل". وأوضح الأنباري أن العلماء قد اختلفوا في قبول المعارضة، فقال: "والأكثرون على قبولها؛ لأنها دفعت العلة أي: لأنها ردت العلة الأولى وعارضتها، وقيل: لا تقبل؛ لأنها تَصَدٍّ لمنصب الاستدلال، وذلك رتبة المسئول لا السائل، أي: وذهب بعض العلماء إلى عدم قبول المعارضة؛ لأنها تصد لمنصب الاستدلال. والتصدي معناه التعرض، وهو مصدر تصدى إليه أي: تعرض له أي: وإقامة الدليل منصب المستدل وهو المسئول لا منصب المعترض وهو السائل، ومنصب المعترض ووظيفته إنما هو منع دليل المستدل لا إقامة دليل". قال الأنباري في (لمع الأدلة) ذاكرًا ما علل به الذاهبون إلى عدم قبول المعارضة: "فإن السائل هادم والمعارض بانٍ، والشخص الواحد لا يكون هادمًا بانيًا في حال واحدة"، وعلق الأنباري على ما ذكروه بقوله: "وهذا ليس بصحيح؛ لأن من حق السائل أن يعرض على العلة ويقفها، وقد وجد ها هنا، فإن العلة ما لم تسلم عن معارضة دليل لم يكن عليها تعويل، فوجب أن تكون - يعني: المعارضة- مقبولة صحيحة"، انتهى. مثال المعارضة: أن يقول الكوفي في الإعمال -أي: في التنازع: إنما كان إعمال الأول أي: من العاملين المتنازعين أو العوامل المتنازعة، أولى؛ لأنه

سابق، وهو صالح للعمل، فكان إعماله أولى لقوة الابتداء به والعناية، أي: أن العامل الأول سابق العامل الثاني وهو صالح للعمل كالعامل الثاني، إلا أنه لما كان مبدوءًا به كان إعماله أولى؛ لقوة الابتداء والعناية به، ولهذا لا يجوز إلغاء "ظن" أو "كان" إذا وقعت أي منهما مبتدأةً، بخلاف ما إذا توسطت أو تأخرت. فيقول البصري: هذا معارض بأن الثاني أقرب إلى الاسم أي: من أن العامل الأول أبعد والثاني أقرب إلى الاسم، وليس في إعماله -أي: في إعمال الثاني- نقض معنى، فكان إعماله أولى، أي: من إعمال الأول. يعني: أن دليلك أيها الكوفي على اختيار الأول معارض بدليل من قبل البصريين على اختيارهم إعمال الثاني لا الأول، وهو أن الثاني يتميز بقرب الجوار، وأنه لا ينقض -أي: لا يغير- معنى، ومعنى هذا أن الثاني من العاملين أقرب إلى المعمول، وليس في إعماله حدوث خلل في المعنى، إذ لا فرقَ في المعنى بين إعمال الأول أو الثاني. وتكتسب مع إعمال الثاني رعاية جانب القرب، وحرمة المجاورة، فقرب الثاني من المعمول يقتضي ألا يلغَى عنه، يدل عليه أن المجاورة توجب كثيرًا من أحكام الثاني للأول، والأول للثاني، ألا ترى إلى قولهم: الشمس طلعت وأنه لا يجوز فيه حذف التاء لما جاور الضمير الفعل، ولذلك يقولون: إن الفعل هنا وجب التأنيث؛ لماذا؟ لأن الفاعل ضمير يعود على مؤنث على الرغم من أن المؤنث هنا مجازي التأنيث، إلا أن تأنيث الفعل بالتاء واجب لمجاورة الضمير المستتر للفعل، وكذلك: قامت هند، لا يجوز حذف التاء لمجاورة المؤنث الظاهر للفعل، فلو فَصلتَ بينهما بفاصل ما جاز لك في هذه الحالة أن تحذف التاء، أي: جاز لك تذكير الفعل وتأنيثه، وما كان ذلك إلا رعايةً للمجاورة.

ومما يدل على رعايتهم جانب القرب والمجاورة، أنهم قالوا: جحر ضرب خرب، وماء شَن بارد، فأتبعوا الأوصاف إعراب ما قبلها وإن لم يكن المعنى عليه، فَجُحر -كما قلنا من قبل- خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: هذا جحر، وهو مضاف، وضب مضاف إليه، ثم جاء النعت خرب، المفروض في المعنى أن يكون الخراب صفةً للجحر وليس صفةً للضب، ومع ذلك جاء الخراب أو جاء الوصف مجرورًا؛ مراعاةً لمجاورته للمجرور، وكذلك: ماء شن بارد، الشن: هو قِربة الماء، والشن لا يوصف بالبرودة وإنما الذي يوصف بالبرودة هو الماء في داخل الشن، فيقال: ماء شنٍ باردٌ، إلا أن المسموع عن العرب: ماء شنٍ باردٍ بالإتباع الشن على اللفظ بالجر؛ مراعاةً للجوار وإن لم يكن المعنى عليه. فإذا كانوا قد لحظوا المجاورة مع فساد المعنى، فالأحرى أن يلحظوها مع صراحه، ومع ذلك فقد أكد سيبويه أنه إذا حدث نقض للمعنى خرج الكلام من باب التنازع، ولذلك قال في قول امرئ القيس: فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة ... كفاني ولم أطلب قليلٌ من المال قال: "فإنما رفع؛ لأنه لم يجعل "القليل" مطلوبًا، وإنما كان المطلوب عنده الملك، وجعل "القليل" كافيًا، ولو لم يرد ذلك ونصب فسَدَ المعنى"، انتهى. يعني: أن الشاعر امرأ القيس رفع "قليلًا" بكفاني، قال: "كفاني قليل من المال" ولم ينصبه بأطلب، إذ الرواية جاءت برفع "قليل"، قال: لأنه إنما أراد: لو سعيتُ لمنزلة دنية كفاني قليل من المال، ولم أطلب الملكَ، وعلى ذلك معنى الكلام. فإذن هنا عاملان؛ العامل الأول: كفى، والعامل الثاني: أطلب، وجاء المعمول مرفوعًا، هذا الرفع متعلق بالعامل الأول، ولا يمكن أن يوجه إليه العامل الثاني، إذ لو وُجِّه إليه العامل الثاني لفسد المعنى، قال: لو سعيت لمنزلة دنية كفاني قليل

من المال ولم أطلب الملك. قال: وعلى ذلك معنى الكلام؛ لأنه قال في البيت الثاني: ولكنما أسعى لمجد مؤثل ... وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي المجد المؤثل: هو المجد المؤصل، ولو نصب بأطلب لاستحال المعنى؛ لماذا؟ لأن شرط هذا الباب أن يكون العاملان موجهين في المعنى إلى شيء واحد، ولو وجه كفاني وأطلب إلى "قليل" لفسد المعنى؛ لماذا؟ لأن "لو" تدل على امتناع الشيء لامتناع غيره، فإذا كان ما بعدها مثبتًا كان منفيًّا، وإذا كان ما بعدها منفيًّا تحول بمقتضاها إلى مثبت، وعلى هذا فقوله: "أنما أسعى لأدنى معيشة" منفي بمقتضى لو؛ لأنه جاء مثبتًا، فأفاد عدم السعي لأدنى معيشة، و"لم أطلب" مثبت بمقتضى لو أيضًا؛ لأنه جاء منفيًّا، فلو وجه إلى "قليل" لوجب إثبات طلب القليل، وهو عين ما نفاه أولًا، وإذا بطَلَ ذلك تعين أن يكون مفعول أطلب محذوفًا تقديره: ولم أطلب الملك بدليل البيت الذي بعده. هذا وبالله التوفيق، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 11 الاستصحاب.

الدرس: 11 الاستصحاب.

نظرة تأريخية في ظهور مصطلح "استصحاب الحال" في علم أصول النحو.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الحادي عشر (الاستصحاب) نظرة تأريخية في ظهور مصطلح "استصحاب الحال" في علم أصول النحو الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومَن والاه؛ أما بعد: عرفنا فيما سبق أنّ أصول النحو هي -كما ذكر أبو البركات الأنباري في بداية كتابه (لُمع الأدلة) - أدلة النحو التي تفرّعتْ منها أصولُه وفروعُه، كما أنّ أصول الفقه: هي أدلة الفقه التي تنوعتْ عنها جملتُه وتفصيلُه. كما عرفنا أنّ أدلة النحو التي اعتمد عليها علماء الصناعة النحوية في تقعيد القواعد كثيرةٌ جدًّا تخرج عن حدّ الحصر، لكنّ الغالب منها أربعةٌ، وهي: السماع، والقياس، والإجماع، واستصحاب الحال، وأنّ ابن جني في (الخصائص) لم يذكر استصحابَ الحال، وإنما أثبته الأنباري فقط. ولعلّك تعجب حينما ترى عَلَمًا في مكانة ابن جني، وهو في مقدمة علماء أصول النحو، لا يذكر هذا الدليل في أدلة النحو، في حين ترى أنّ أبا البركات الأنباريَّ -وهو الذي جاء بعده بما يقرب من قرنين من الزمان- هو الذي يثبته بعدِّه دليلًا من الأدلة الغالبة في النحو العربي، بل يزداد عجبُك حينما تعلم أنّ مصطلح استصحاب الحال لم يظهر في عِلم أصول النحو إلا عن طريق أبي البركات الأنباري، على الرغم من أنّ سيبويه قد استدلّ به في مواضعَ كثيرةٍ من (الكتاب). وحقيقةُ الأمر أنّ أبا البركات الأنباري قد نقل مصطلحَ استصحاب الحال من أصول الفقه إلى أصول النحو، وقد عرفنا من قبل العَلاقة الوثيقةَ بين علمي أصول الفقه وأصول النحو، ومدى تأثُّر كلٍّ من العِلْمين بالآخَر؛ فقد كان تعلُّمُ العربية عند المسلمين من الواجبات الدينية التي لا يجوز التفريط فيها، وكان تعلُّمُها شرطًا أساسيًّا من الشروطِ التي يجب توافرُها فيمن يريد أن يصبح مجتهدًا يقوم باستنباطِ الأحكام الشرعية من مصدريْها: الكتاب، والسنة، أو يريد أن يتصدَّى للإفتاء أو القضاء كما نصّ على ذلك علماءُ الفقه وأصوله.

قال ابن فارس في كتابه (الصاحبِي): "إنّ العِلْم بلغة العرب واجبٌ على كل متعلِّقٍ من العِلْم بالقرآنِ والسنةِ والفُتيا بسبب، حتى لا غَناءَ بأحد منهم عنه. وذلك أنّ القرآن نازِلٌ بلغة العربِ، ورسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- عربيٌّ. فمَن أراد معرفة ما في كتاب الله -جلّ وعزّ- وما في سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من كل كلمة غريبةٍ أو نظْم عجيبٍ لم يجد من العلْم باللغة بُدًّا". انتهى كلام ابن فارس في كتابه (الصاحبي). إذن، فعلاقة علم النحو بعلم الفقه واضحة جلية، وجاء أبو البركات الأنباري فوطَّدَ تلك العلاقةَ، وأكّد ارتباطَ علم أصول النحو بعلم أصول الفقه، وكثمرةٍ من ثمراتِ هذا الارتباطِ وجدناه يُظهر مصطلحَ استصحاب الحال في أدلة النحو، بل ويَعُدّه أحدَ الأدلةِ الغالبة، فقال في (لمع الأدلة) في الفصل الذي عقده للحديث عن أدلة النحو: "أقسام أدلته ثلاثة: نقلٌ، وقياسٌ، واستصحابُ حالٍ". كما اهتم بتعريف الاستصحاب والتمثيل له في كتابه (الإغراب في جدل الإعراب)، وإن كان هذا الدليل بهذا المصطلح -كمصطلح- لم يظهر قبل أبي البركات فيما نعلم، فإنه كدليل وجدناه في مواضعَ من كتاب سيبويه -كما قدمنا- وفي مؤلفات مَن جاء بعده من البصريين والكوفيين. فالاستصحاب مصطلحٌ فقهيٌّ في الأصل، أمّا معناه لغةً: فهو الاستفعالُ من الصحبة، وهي الملازمة واستمرار الصحبة واستدامتها. يقال: استصحبَ الشيءَ: لازمَهُ. ويقال: استصحبَ الرجلَ: دعاه إلى الصُّحبة. واستصحبَه الشيءَ: سألَه أن يجعلَه في صُحبتِه. وكلُّ ما لازمَ شيئًا فقد استصحبَه. قال الشاعر: إنَّ لك الفضلَ على صُحبتِي ... والمِسْكُ قد يَسْتصْحِبُ الرَّامِكا والرَّامِكُ: نوعٌ من الطِّيب رديءٌ خسيس. وله عند الأصوليين تعريفاتٌ مختلفةٌ؛ منها: بقاءُ الأمر ما لم يوجد ما يُغيِّرُه. ومنها: استدامةُ ما كان ثابتًا، ونفيُ ما كان منفيا. ومنها: الحكمُ على الشيء بما كان ثابتًا له أو منفيًّا عنه؛ لعدم قيام الدليل

من مسائل الاستصحاب في النحو العربي.

على تغييره. ومنها: ما ثبت في الزمن الماضي، فالأصل بقاؤُه في الزمن المستقبل. وهذه التعريفاتُ مختلفةٌ في ألفاظها، لكنّ معانيَها متقاربةٌ؛ بل هي ترجِعُ إلى معنًى واحدٍ، وهو: إبقاءُ ما كان على ما كان حتى يقوم الدليلُ على تغيُّر حالِه. فالاستصحاب -في ضَوْء المعنيين اللغوي والاصطلاحي- عند الأصوليين هو: مصاحبة حكم كان ثابتًا في الماضي باقيًا في الحاضر، حتى يأتي دليلٌ على تغييره، مع بذل الجهد في البحث والطلب. وقد نَقَل هذا المصطلحََ أبو البركات -عبدُ الرحمن كمالُ الدين الأنباريُّ في القرن السادس الهجري- من أصول الفقه إلى أصول النحو. ويُعرِّف الأنباريُّ استصحاب الحال في كتابه (الإغراب في جدل الإعراب) بقوله: "وأمّا استصحابُ الحالِ فإبقاءُ اللفظِ على ما يستحقّه في الأصل عند عدم دليل النقل عن الأصل، كقولك في فعل الأمر: إنما كان مبنيًّا؛ لأنّ الأصلَ في الأفعال البناءُ، وإنّ ما يُعرب منها لشبَه الاسم، ولا دليلَ على وجود الشبَه، فكان باقيًا على الأصل في البناء". انتهى. وعليه، فلا يختلف تعريف الاستصحاب عند الأصوليين عن تعريفه عند النحويين؛ فالمعنى واحدٌ، وهو إبقاءُ الحكمِ على ما كان عليه، فلا يلحقه تغييرٌ إلا إذا قام الدليلُ على هذا التغييرِ. من مسائل الاستصحاب في النحو العربي عرفنا أنه لم يَستعمل أحدٌ من النحاة -قبل الأنباري- مصطلحَ استصحاب الحال، ولا يعني هذا عدمَ استدلالهم به؛ فقد قيل: إنَّ سيبويه استدلّ بهذا الدليل في مواضعَ كثيرة من كتابه وإن لم يصرح به، ولم يسمه استصحابَ الحال، أو استصحابَ الأصل، ومن هذه المواضع ما جاء في (الكتاب) من قوله: "واعلم أنّ بعض الكلام أثقلُ من بعض؛ فالأفعالُ أثقلُ من الأسماءِ؛ لأنَّ

الأسماءَ هي الأُولى". فأشار سيبويه بهذه العبارة إلى خِفة الأسماءِ المنصرفةِ، وأنّ الصرفَ فيها هو الأولُ والأصلُ، وأنّ الذي مَنع الصرفَ عِلَلٌ مِن بعد ذلك دخلتْ عليها -أي: على الأسماء- فهي عللٌ حادِثةٌ فرعيةٌ، فدَلّ هذا على أنّ الفعلَ أثقلُ من الاسمِ في الأصل؛ فعِلةُ كونِ الأسماء مستحقةً للصرف هي استصحابُ الأصل، وهي بعينها علةُ استحقاقِ الأفعال عدمَ الصرف. ومن هذا القَبيل قوله: "واعلم أنّ النكرة أخفُّ عليهم من المعرفةِ، وهي أشدُّ تمكُّنًا؛ لأنّ النكرةَ أولُ، ثم يدخل عليها ما تُعَرَّفُ به، فمِن ثَمَّ أكثرُ الكلام ينصرف في النكرة. واعلم أنّ الواحدَ أشدُّ تمكُّنًا من الجميع؛ لأنّ الواحدَ أولُ، ومِن ثَمَّ لَمْ يصرفوا ما جاء من الجميع ما جاء على مِثالٍ ليس يكون للواحد، نحو: مساجدَ ومفاتيحَ. واعلم أنَّ المذكر أخفُّ عليهم من المؤنث؛ لأنّ المذكرَ أولُ، وهو أشدّ تمكنًا، وإنما يخرج التأنيثُ من التذكيرِ". وفي قوله تعالى: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (طه: 43، 44). ذهب سيبويه في (الكتاب) إلى أن لعل على بابها من الترجي، وأن الترجيَ في حق موسى وهارونَ -عليهما السلام- وأن المعنى: اذهبَا أنتما في رجائِكما وطمعكما ومَبلغِكما من العلم. ففي كلام سيبويه إبقاءُ ما كان على ما كان، أي: إبقاءُ لعلَّ على معناها الأصلي، وهو الترجي، فبقي حالُ اللفظِ على ما يستحقه، ولم ينتقل عن أصلِه؛ لعدمِ الدليلِ، وهذا هو الاستصحابُ، وإن لم يُسَمِّهِ سيبويه باسمه. وإذا كان سيبويه قد استدل باستصحابِ الحالِ في كتابه، فقد اقتفى أثرَه كثيرٌ من العلماء بعده، منهم الزجاجيُّ في كتابه (الإيضاح في علل النحو)، وابنُ جني في كتابه (الخصائص). أما الزجاجي فقد ذكر أن الحروفَ كلَّها مبنيّةٌ ولا يُعرَب شيءٌ

منها، وعَلّل ذلك بأن أصلها البناءُ، ولم يُوجد دليلٌ يُخرِجُها عن أصلها، فوجب إبقاؤُها على ما كانت عليه، وقال: "بقيت الحروف كلُّها على أصولها مبنيّةً؛ لأنها لم يعرض لها ما يُخرجُها عن أصولها". انتهى. فقد استدلّ الزجاجي باستصحاب الأصل دون أن يسميه، وأما ابنُ جني فقد أفرد في كتابه (الخصائص) بابًا عنوانه: بابٌ في إقرار الألفاظ على أوضاعها الأُوَل ما لم يدْعُ داعٍ إلى الترك والتحول. ومعنى ما ذكره ابنُ جني في هذا الباب: أن اللفظ يبقى على ما يستحقه ولا ينتقل عنه إلا بدليل. وضرب ابنُ جني مثلًا بحرفِ العطفِ أو، فإنه في الأصلِ موضوعٌ للدلالةِ على أحد الشيئين شَكًّا أو إبْهَامًا، تخييرًا أو إباحةً، ولا يجوز أن تدل أو على معنى آخرَ إلا بدليل، فلا يجوز أن تكون بمعنى بل كما زعم الفرَّاءُ، ولا بمعنى الواو، كما زعم قُطْرُب، وقد ردّ ابنُ جني زَعْمَهُما، وبيّن أنَّ أو على بابها في قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} (الصافات: 147)، فقال: "فأما قول الله سبحانه: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} فلا يكون فيه أو على مذهبِ الفرَّاءِ بمعنى بل، ولا على مذهب قُطرب في أنها بمعنى الواو، لكنها عندنا على بابِها في كونها شَكًّا؛ وذلك أن هذا كلامٌ خرَجَ حكايةً من الله -عز وجل- لقول المخلوقين، وتأويلُه عند أهل النظر: وأرسلناه إلى جَمْع لو رأيتموه لقلتم أنتم فيهم: هؤلاء مائة ألف أو يزيدون". انتهى. ومن الأمثلة التي ذكرها الأنباريّ على استصحاب الحال مثالٌ نقله عنه السيوطي في (الاقتراح) وهو حكمُ الاسم والفعل من حيث الإعراب والبناء، فإن الأصلَ في الاسم أن يكون معربًا؛ لأن الأسمَاء تعتوِرُها المعاني؛ فتكونُ فاعلةً ومفعولةً، ومضافةً ومضافًا إليها، ولم تكنْ في صورها وأبنيتِها أدلَّةٌ على هذه

المعاني، فجُعِلَ الإعرابُ دليلًا على هذه المعاني، فتََبيّن من ذلك أن العرب يُفرِّقون بالإعراب -أي: يميزون بالإعراب- بين المعاني المختلفة، كما تَبيّن أن الإعراب أصلٌ في الأسماء. ولما كان الإعرابُ أصلًا في الأسماء لم يجز أن يُبنَى شيءٌ من الأسماء حتى يُوجد ما يُوجب البناء. وقد ذكر أبو البركات الأنباري ما يُوجب البناء في بعض الأسماء؛ فقال: "وما يوجب البناء في الأسماء هو شَبَه الحرف، أو تضمُّن معنى الحرف، فشَبَه الحرف في نحو: الذي، وتضمن معنى الحرف في نحو: كيف". ومعنى ما ذكره الأنباري أن هناك أمرين يُوجبان بناءَ بعضِ الأسماء؛ أحدهما: أن يُشبه الاسمُ الحرفَ. والآخر: أن يتضمن الاسمُ معنى الحرف. فمثال الأول: الذي فإنه مبنيٌّ؛ لأنه أشبهَ الحرفَ في الافتقارِ اللازمِ؛ أي: في كونه مفتقرًا إلى ما يفسر معناه ويبينه، فكما أن الحرف يفتقر إلى ما بعده، فكذلك الأسماء الموصولة وُضِعت على الافتقار في فَهْم معانيها إلى صِلاتها، فلا يُؤتَى بها دون أن يُؤْتى بما يبيّنها، كما أن الحروف كذلك. ومثال الثاني: كيف، فقد ذكر الأنباريُّ أن علة بنائه هي أنه تضمن معنى الحرف، ويُطلق المتأخرون من النحاةِ على هذا التضمنِ اسمَ الشبهِ المعنويِّ، ومعناه: أن يتضمن الاسمُ معنًى من معاني الحروف، فقد يشبه الاسم حرفًا موجودًا، وقد يشبه حرفًا غيرَ موجودٍ، فمثال ما أشبه حرفًا موجودًا: كيف فإنها تُستعمل للاستفهام، وهي تُشبه حرفًا موجودًا وهو الهمزة. ومثال ما أشبه حرفًا غيرَ موجودٍ: هنا فإنها مبنية؛ لأنها تدل على الإشارةِ، والإشارةُ معنًى من المعاني، وحقها أن يُوضع لها حرفٌ يدل عليها، فلم يوضَعْ، فبُنيت أسماءُ الإشارة لشبهها في المعنى حرفًا مقدرًا.

ومما سبق يمكن القول: بأن سبب بناء بعض الأسماء ينحصرُ في أمرٍ واحدٍ، وهو شبه الاسم بالحرف؛ وأن ما ذكره الأنباري من تضمن الاسم معنى حرف هو نوعٌ من أنواع الشبه. وبعد أن انتهينا من بيان استصحاب الأصل في إعراب الأسماء، نعود إلى كلام الأنباريّ في استصحاب الأصل في الأفعال، وهو البناء، فنقول: إن الأصل في الفعل أن يكون مبنيًّا؛ لعدم اختلاف المعاني الدالِّ عليها، وما أُعرِبَ من الأفعال فإنما أُعرِب لعلةٍ تُوجب إعرابَه، وقد ذكر أبو البركات الأنباريُّ ما يُوجب الإعرابَ في بعض الأفعال؛ فقال: "وما يُوجب الإعرابَ من الأفعال فهو مضارعةُ الاسمِ في نحو: يذهب، ويكتب، ويركب، وما أشبه ذلك". انتهى. ومعنى ما ذكره الأنباريُّ: أن الفعل المضارع وحدَهُ هو الذي يُعرب، وغيرُه من الأفعال يظل على أصله من البناء، وإنما أُعرب المضارع؛ لأنه أشبه الاسمَ، ويَحسنُ بنا أن نذكر الأوجهَ التي أشبه فيها الفعل المضارعُ الاسمَ، فاستحق الإعرابَ لذلك، فنقول: إن الفعل المضارعَ قد أشبه الاسمَ في عدة أوجه: الوجه الأول: الإبهام والشيوع، ثم التخصيص بالقرينة، فالفعل المضارع فيه شيوعٌ، ثم يدخل عليه حرفٌ يزيل شيوعَه ويخلّصه لشيء واحد، تقول: زيد يفعل، فيصلح أن يكون للحال والاستقبال، فإذا قلت: يفعل الآن، أو سيفعل، أو سوف يفعل، فقد قرنته بما يزيل إبهامه، ويخلّصه لأحد الوجهين -وهو الحالُ- فلا يصلحُ للاستقبالِ، أو الاستقبال فلا يصلح للحال، وهو بذلك بمنزلةِ الأسماءِ الشائعة كرجل وفرس؛ لأنك تقول: جاءني رجل، فلا يَختص بواحدٍ من النوع، ثم تُدْخِلُ عليه حرفًا يخصه بواحد معين، تقول: جاءني الرجل الذي تعْلم، فيصير بحيث تضع اليد عليه، فقد تقرر المشابهةُ بين الاسم وهذا النوع من الفعل، من حيث إنك أزلتَ الشِّياعَ في كل واحد منها بحرف أدخلتَه على أوله.

والوجه الثاني: دخول لام الابتداء على الفعل المضارع، كما تدخل على اسم الفاعل، تقول: إن زيدًا ليقاتلُ، كما تقول: إن زيدًا لمقاتلٌ. قال الله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (النحل: 124). والوجه الثالث: أن الفعل المضارع تُوصَف به النكراتُ، كقولك: مررت برجلٍ يقوم، كما يكون اسمُ الفاعل صفةً للنكراتِ، تقول: مررت برجل قائمٍ. والوجه الرابع: أن الفعل المضارعَ يُشبه اسمَ الفاعل ويساويه في مطلق حركاته وسكونه، مثل: ضارب ويضرب، ومُكبّر ويُكبِّر، وينطلق، ومنطلِق، ويستخرج، ومستخرِج، ونحو ذلك. نقول: إن الاسم يُستَصْحبُ حالُه وهو الإعرابُ، فلا يقال ببنائه حتى يُوجد الدليلُ على البناءِ، وهو مشابهةُ الحرفِ، والفعلُ يُستَصْحبُ حاله، وهو البناء، فلا يُقال بإعرابه حتى يُوجد الدليل على الإعراب وهو مشابهة الاسم. وقد نقل السيوطي -أيضًا- مسألتين في استصحاب الحال عن كتاب (الإنصاف) للأنباري؛ ودعاه إلى ذلك أمران؛ أحدهما: الرغبةُ في الوفاء بما ذكره في مقدمة (الاقتراح)؛ إذ قال: "وضممتُ إليه من كتابه (الإنصافَ في مباحث الخلاف) جملةً". والآخر: كثرة مسائل الخلاف التي استدل فيها الأنباري بالاستصحاب في كتابه. كما نقل السيوطي مسألةً عن ابن مالك في (التسهيل)، ومسألةً عن الأندلسي في (شرح المفصل). فهذه أربع مسائل نشير إليها مبينين الاستدلال فيها باستصحاب الحال، وهي: المسألة الأولى: القولُ بأن كم مفردةٌ لا مركبةٌ، وهو رأي البصريين، وخالفهم الكوفيون؛ فذهبوا إلى أنها مركبة، واحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا ذلك؛ لأنّ الأصلَ في كم: ما زيدت عليها الكاف؛ لأنّ العربَ قد تصل الحرف في أوله

نحو: هذا، وهذاكَ، وفي آخره نحو: إمَّا، فكذلك ها هنا: زادوا الكافَ على ما فصارتَا جميعًا كلمةً واحدةً، إلا أنه لمّا كثرت في كلامهم وجرت على ألسنتهم، حُذفت الألفُ من آخرِها وسُكّنتْ ميمُها. وأمّا البصريون فحجتهم في ذلك كما يقول الأنباري في (الإنصاف في مسائل الخلاف): "إن الأصلَ هو الإفرادُ، وإنما التركيب فرعٌ، ومن تمسك بالأصل خرَجَ عن عهدة المطالبة بدليل، ومن عدَلَ عن الأصل افتقرَ إلى إقامةِ الدليلِ؛ لعدولِه عن الأصل، واستصحابُ الحالِ أحدُ الأدلة المعتبرة". انتهى. فقد استدلّ البصريون على إفراد كم باستصحاب الحال. والمسألة الثانية: إعمال حرف القسم محذوفًا بعِوَضٍ، فقد ذهب الكوفيون: إلى أنه يجوزُ الخفضُ في القسَم بإضمارِ حرفِ الخفض من غير عوضٍ، وذهب البصريون: إلى أنه لا يجوز إعمالُ حرفِ الجر محذوفًا إلا بِعِوَضٍ، كألف الاستفهام في نحو: آللهِ ما فعلتَ كذا؟ أو هاء التنبيه، نحو: ها اللهِ، وحجتهم في ذلك -كما قال الأنباري في (الإنصاف) - أن الأصل في حروف الجر ألا تعمل مع الحذفِ، وإنما تعملُ معه في بعض المواضعِ إذا كان لها عِوض، فإن لم يوجد بقيت على أصلها، والتمسكُ بالأصل تمسكٌ باستصحابِ الحال. والمسألة الثالثة: دلالة كان على الحدث والزمن، وهذه المسألة منقولةٌ عن ابن مالك في كتابه (تسهيل الفوائد)؛ إذ كان ابنُ مالك من الذين يستدلون باستصحاب الحال، وقد استدل بهذا الدليل في هذه المسألة في أثناء ردِّه على مَن زعَمَ أن كان تدل على الزمن ولا تدل على الحدث، فقال في (التسهيل) في باب: الأفعال الرافعة الاسم الناصبة الخبر: "وتُسمَّى نواقصَ؛ لعدم اكتفائها بالمرفوع، لا لأنها تدلّ على زمنٍ دون حدَثٍ، فالأصحُّ دلالتُها عليهما إلا ليس". انتهى. وقد ذهب إلى عدم دلالتها على الحدَث جماعةٌ من العلماء، منهم ابنُ جني وابنُ

برهان وعبد القاهر الجرجاني، فقد ذهبوا إلى أن كان وأخواتِها تدل على زمن وقوع الحدثِ، ولا تدل على الحدث. ورد ابنُ مالكٍ -رحمه الله- في شرح (التسهيل) دعواهم من عشرة أوجه، كان أولَها وثانيَها: أنّ هؤلاء النحاةَ جميعًا معترفون بأن كان وأخواتِها أفعالٌ، ومن المعلوم أن الفعلَ يدل على الحدث والزمن، فإذا كانت كان وأخواتُها أفعالًا، فإنها تدل لا محالةَ على الحدث والزمن؛ إبقاءً للأصل، وهو دلالةُ الفعل عليهما. والمسألة الرابعة: موضع الضمير من لولاكَ، ولولايَ. فقد ذهب البصريون: إلى أنّ الكاف والياءَ في موضع جرٍّ بـ: لولا، وذهب الكوفيون والأخفش إلى أن الضمير المتصل بـ: لولاك ونحوه مرفوعٌ؛ وحجتهم في ذلك أنه لو وُضع في موضع هذا الضمير اسمٌ ظاهر لكان مرفوعًا، نحو: واللهِ لولا اللهُ ما اهتدينا، ونحو ذلك. فلما كان الأمر كذلك وجب أن يكون الضميرُ في موضع رفع؛ لاستصحاب الأصل. يقول الأندلسي في (شرح المفصل): "استدل الكوفيون على أن الضمير في لولاك ونحوه مرفوع بأن قالوا: أجمعنا على أن الظاهر الذي قام هذا الضمير مقامَه مرفوعٌ، فوجب أن يكون كذلك في هذا الضميرِ بالقياسِ عليه والاستصحاب". انتهى. ومن أجل إتمام الفائدة نذكر -هنا- مسألتين من المسائل التي اعتمد فيها الكوفيون في الاستدلال على استصحاب الحال: أمّا المسألة الأولى منهما: فقد أوردها أبو البركات الأنباريُّ في (الإنصاف) وهي المسألة الخامسة والثمانون، وعنوانُها: عامِلُ الرفع في الاسم المرفوع بعد إنِ الشرطية، وقد ذهب الكوفيون فيها إلى أنه إذا تقدّم الاسمُ المرفوعُ بعد إنِ الشرطية نحو قولك: إنْ زيدٌ أتانِي آتِهِ، فإنه يرتفع بما عاد إليه من الفعل من غير

تقديرِ فعلٍ. وذهب البصريون إلى أنه يرتفع بتقدير فعلٍ، والتقدير فيه في المثال السابق: إنْ أتاني زيدٌ أتاني، والفعلُ المظهَرُ تفسيرٌ لذلك المقدَّر. وحكي عن الأخفش أنه يرتفع بالابتداء. واحتجّ الكوفيون بقولهم: إنما جوَّزْنا تقديمَ المرفوع مع إنْ خاصةً وعملَهَا في فعل الشرط مع الفصل؛ لأنها الأصلُ في باب الجزاء دون غيرها من الأسماء والظروف التي يجازَى بها؛ لتضمنها معناها، والأصلُ يتصرَّف ما لا يتصرّف الفرع؛ فلقوتها جاز تقديمُ المرفوعِ معها، وقلنا: إنه يرتفع بالعائد؛ لأنّ المكنيَّ المرفوعَ في الفعل هو الاسمُ الأولُ؛ فينبغي أن يكون مرفوعًا به، كما قالوا: جاءني الظريفُ زيدٌ، وإذا كان مرفوعًا به لم يفتقر إلى تقدير فعل. وأمّا المسألة الثانية: فهي المسألة الثانية بعد المائة في كتاب (الإنصاف)، وعنوانها: أيٌّ الموصولةُ معربةٌ دائمًا أو مبنيةٌ أحيانًا؟. وقد ذهب الكوفيون فيها إلى أنّ أيَّهم إذا كان بمعنى الذي وحُذف العائدُ من الصلة يكون معربًا، نحو قولهم: لأكرمَنَّ أيَّهم أفضلُ، وذهب البصريون إلى أنه يكون مبنيًّا على الضم. وقد احتج البصريون بأن قالوا: إنما قلنا: إنها مبنية ها هنا على الضم؛ لأنّ القياس يقتضي أن تكون مبنية في كل حال؛ لوقوعها موقعَ حرفِ الجزاء والاستفهام والاسم الموصول كما بُنيتْ: مَن، وما لذلك في كل حال. واعتمد الكوفيون في الاستدلال على ما ذهبوا إليه باستصحاب الحال، وقالوا في معرض ردّهم على البصريين: والذي يدل على فساد قول مَن ذهب إلى أنه مبنيٌّ على الضم، أنّ المفردَ من المبنيات إذا أُضيف أُعربَ، نحو: قبْلُ وبعْدُ، فصارت الإضافةُ توجِب إعرابَ الاسم، وأيٌّ إذا أُفردت أُعربتْ، فلو قلنا: إنها إذا أضيفت بُنيت، لكان هذا نقْضًا للأصول، وذلك محالٌ. هذا وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 12 تابع الاستصحاب.

الدرس: 12 تابع الاستصحاب.

الاستصحاب من الأدلة المعتبرة.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثاني عشر (تابع الاستصحاب) الاستصحاب من الأدلة المعتبرة الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومَن والاه أما بعد: عرفنا مما سبق أن هناك علاقةً عضوية تربط بين أصول الفقه وأصول النحو، وقد أكّد أبو البركات الأنباريُّ هذه العَلاقةَ في مؤلفاته التي سار بها على نهج الفقهاء ومصطلحاتهم؛ ومن هنا كانت أول إشارة وردت بلفظ استصحاب الحال صادرةً عنه، ثم تناقلها النحويون مِن بعدِهِ، وقد وقفنا على قوله في (لمع الأدلة): "وهو -أي: الاستصحاب- من الأدلة المعتبرة، والمراد به استصحابُ حال الأصل في الأسماء، وهو الإعراب، واستصحاب حال الأصل في الأفعال، وهو البناء، حتى يوجد في الأسماءِ ما يُوجب البناءَ، ويوجدَ في الأفعالِ ما يُوجب الإعرابَ". انتهى. وقد تكرّر حديثُه عن الاستصحاب في كتابه (الإنصاف) ووصفُه إياه بأنه من الأدلة المعتبرة، كقوله في المسألة السابعة والخمسين على لسان البصريين؛ في معرض إبداء حجتهم في أنه لا يجوز الخفض في القسم بإضمار حرف الخفض من غير عوض -قال على لسانهم: "أجمعْنا على أنّ الأصل في حروف الجرّ ألا تعملَ مع الحذفِ، وإنما تعملُ مع الحذف في بعض المواضع إذا كان لها عوضٌ، ولم يوجد ها هنا، فبقِينا فيما عداه على الأصل، والتمسكُ بالأصل تمسُّكٌ باستصحاب الحال، وهو من الأدلة المعتبرة". انتهى. كما ذكر أنّ التمسكَ باستصحاب الحال خروجٌ مِن عهدةِ المطالبةِ بالدليل، ومَن عدَلَ عن الأصل فقد بقيَ مرتهَنًا بإقامة الدليل؛ ففي المسألة الأربعين -التي عرضنا طَرَفًا منها- قال على لسان البصريين في استدلالهم على أنّ كمْ مفردةٌ وليست مركبةً كما ذهب إلى ذلك الكوفيون: "إنما قلنا: إنها مفردةٌ؛ لأنّ الأصلَ

هو الإفرادُ، وإنما التركيبُ فرعٌ، ومَن تمسك بالأصل خرَجَ عن عهدة المطالبة بالدليل، ومَن عدَل عن الأصل افتقر إلى إقامة الدليل؛ لعدوله عن الأصل، واستصحابُ الحال أحدُ الأدلة المعتبرة". انتهى. وفي المسألة السابعة والستين ذهب الكوفيون إلى أنّ أوْ تأتي بمعنى الواو، وبمعنى بلْ، وذهب البصريون إلى أنها لا تكون بمعنى أيٍّ منهما، وقال على لسان البصريين في استدلالهم على ما ذهبوا إليه: "الأصل في أوْ أن تكون لأحد الشيئين على الإبهام، بخلاف الواو وبلْ؛ لأنّ الواو معناها الجمعُ بين الشيئين، وبل معناها الإضرابُ، وكلاهما مخالفٌ لمعنى أوْ، والأصلُ في كل حرفٍ ألا يدلَّ إلا على ما وُضِعَ له، ولا يدلّ على معنى حرفٍ آخَرَ؛ فنحن تمسّكْنا بالأصل، ومَن تمسّكَ بالأصًل استغنَى عن إقامة الدليلِ، ومَنْ عدَلَ عن الأصل بقيَ مرتهَنًا بإقامة الدليل، ولا دليلَ لهم يدلّ على صحة ما ادَّعَوْه". وفي المسألة الثامنة والثمانين ذهب الكوفيون إلى أنّ إنِِ الشرطيةَ تقع بمعنى إذ، وذهب البصريون إلى أنها لا تقع بمعنى إذ، وقال الأنباريُّ على لسان البصريين في استدلالهم على ما ذهبوا إليه: "أجمعْنا على أنّ الأصل في إنْ أنْ تكون شرطًا، والأصل في إذ أنْ تكون ظرفًا، والأصل في كل حرف أن يكون دالًّا على ما وُضع له في الأصل، فمن تمسّك بالأصل فقد تمسّك باستصحاب الحال، ومَن عدَل عن الأصل بقيَ مرتهَنًا بإقامة الدليل، ولا دليلَ لهم يدلّ على ما ذهبوا إليه". وفي المسألة الحادية والتسعين ذهب الكوفيون إلى أنّ كيف يُجازَى بها كما يُجازَى بمتَى ما، وأينما وما أشبهَهُما من كلمات الجزاء. وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز أن يُجازَى بها. وقال الأنباريُ فيما قاله على لسان البصريين في استدلالهم على صحة ما ذهبوا إليه: "إنّ الأصل في الجزاء أن يكون بالحرفِ، إلا أنْ يُضطرَّ إلى

استعمال الأسماء، ولا ضرورةَ ها هنا تُلجِئُ إلى المجازاة بها؛ فينبغي ألا يُجازَى بها؛ لأنَّا وجدنا أيًّا تُغنِي عنها". وفي المسألة الثالثة بعد المائة ذهب الكوفيون إلى أنّ هذا وما أشبهَهُ من أسماء الإشارة يكون بمعنى الذي والأسماءِ الموصولةِ، نحو: هذا قال ذاك زيدٌ، أي: الذي قال ذاك زيدٌ. وذهب البصريون إلى أنه لا يكون بمعنى الذي، وكذلك سائرُ أسماء الإشارة لا تكون بمعنى الأسماء الموصولة. وقال الأنباريّ على لسان البصريين في معرض الاستدلال على صحة ما ذهبوا إليه: "إنما قلنا ذلك؛ لأنّ الأصل في هذا وما أشبههُ من أسماء الإشارة أن يكون دالًّا على الإشارة، والذي وسائرُ الأسماء الموصولةِ ليستْ في معناها؛ فينبغي ألا يُحملَ عليها، وهذا تمسكٌ بالأصل واستصحابِ الحال، وهو من جملة الأدلة المذكورة، فمَن ادَّعَى أمرًا وراءَ ذلك بقيَ مرتهنًا بإقامة الدليل، ولا دليلَ لهم يدلّ على ما ادَّعَوْه". انتهى. وقد سار على درب الأنباريُّ في عدِّ استصحاب الحال من الأدلةِ المعتبرةِ في أصول النحو بعضُ المتأخرين من النحاة، ومنهم عبدُ اللطيف بنُ أبي بكرٍ الشَّرْجِيُّ الزَّبِيدِيُّ، المتوفى سنة اثنتين وثمانمائة من الهجرة، وهو صاحب كتاب (ائتلاف النُّصْرة في اختلاف نُحاة الكوفة والبصرة). قال هذا العالم اليمني على لسان البصريين في المسألة السابعة من مسائل الفصل الثالث: "أجمعْنا على أنّ الخفض في الأصل إنما يكون بالحرف، فالتمسُّكُ بالأصل تمسكٌ باستصحاب الحال، وهو دلالةٌ معتبرة". وفي المسألة العاشرة قال: "والأصل في كل حرف ألا يدلَّ إلا على ما وُضِعَ له، ولا يدلّ على معنى حرف آخرَ؛ تمسكًا بالأصل، ومَن تمسك بالأصل استغنى عن الدليل". وذكر مثل ذلك في المسألة التاسعةَ عشرةَ، وأضاف: "واستصحاب الحال حجةٌ. ومن عدل عن الأصل بقي مرتهنًا بإقامة الدليل".

أمّا السيوطيُّ فقد رأيناه يُعوِّل على كلام الأنباريِّ، ويرى رأيه في أنّ الاستصحاب من أصول النحو الغالبة، وكان يقول: "والمسائل التي استدلّ فيها النحاةُ بالأصل كثيرةٌ جدًّا لا تحصَى"، وقد كثرت المسائل التي استدلّ فيها السيوطيُّ باستصحاب حال الأصل في مواضع متفرقةٍ من مؤلفاته. ونذكر هنا مسألتين أوردهما السيوطي في كتابه (هَمع الهوامع)؛ المسألة الأولى: الأصل في البناء أن يكون على السكون، ذكر السيوطي أنّ الأصل في البناء السكون، وقال: "لأنّ السكون أخفُّ، فلا يُعدَل عنه إلا لسبب؛ ولأنّ الأصل عدمُ الحركة، فوجب استصحابُه -أي: استصحابُ الأصل، وهو السكون- ما لم يمنع منه مانع". والمسألة الثانية: تسكين فعل الأمر؛ استصحابًا للأصل، قال في مبحث المضمَر: "إذا أُسنَدَ الفعلُ إلى التاء والنون ونا سكَنَ آخرهُ، كضربْتُ، وضربْنَ، ويضربْنَ، واضربْنَ، وضربْنا، وعلة الإسكان عند الأكثر كراهةُ توالي أربعِ حركات فيما هو كالكلمة الواحدة؛ لأنّ الفاعلَ كجزءٍ من فعله، ثم حُمِلَ المضارعُ على المعنى، وأمّا الأمرُ فيسكُن استصحابًا". انتهى. ومعنى ما ذكره السيوطي أنّ فعل الأمر يبنى على السكون استصحابًا للأصل؛ لأنّ الأصل في البناء أن يكون على السكون. ومع عناية السيوطي بهذا الأصل وعدِّه إياه واحدًا من الأصول الغالبة، وجدناه لم يرتضِ اتخاذَه دليلًا لعلة بناء الآنَ، وردَّ قولَ مَن استدلَّ به وهو الفرّاءُ؛ إذ ذهب الفرّاءُ في أحد قوليه إلى أنّ الآنَ إنما بُنيَ؛ لأنه نُقِلَ من فعلٍ ماضٍ وهو آنَ فبقيَ على بنائه؛ استصحابًا للأصل. قال الفرّاءُ في (معاني القرآن): "وإن شئتَ جعلتَ الآن أصلها من قولك: آنَ لكَ أنْ تفعلَ، أَدْخَلْتَ عليها الألفَ واللامَ،

استصحاب الحال من أضعف الأدلة.

ثم تركتَها على مذهب فَعَلَ، فأتاها النصبُ من نصْبِ فَعَلَ. وهو وجهٌ جيدٌ؛ كما قالوا: ((نهَى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن قِيلَ وقالَ وكثرةِ السؤال))، فكانتا كالاسمين فهما منصوبتان. ولو خُفِضَتا على أنهما أُخرِجَتا من نية الفعل كان صوابًا؛ سمعتُ العربَ تقول: مِن شُبَّ إلى دُبَّ بالفتح، ومِن شُبٍّ إلى دُبٍّ؛ يقول: مذ كان صغيرًا إلى أنْ دَبَّ، وهو فَعَلَ". انتهى. وكلام الفرّاء يشير إلى أنّ علة البناء في هذا الظرف هي استصحاب الأصل، وأصله الفعلُ الماضي آنَ، ولم يرتضِ السيوطيّ استصحابَ الأصل دليلًا في هذه المسألة، فذكر في (الهمع) أن كلام الفرّاءِ قد رُدَّ بأنه لو كان كذلك لم تدخل عليه أل، كما لا تدخل على قِيلَ وقالَ، ولجاز فيه الإعرابُ كما جاز في قِيلَ وقالَ. انتهى. وقول السيوطيُّ: "ولجاز فيه الإعراب ... " إلخ. معناه: أنّ قِيلَ وقالَ يجوز فيهما الإعرابُ على أنهما أخرجتَا من نيةِ الفعلِ كما قال الفرّاءُ؛ فيجوز: نهَى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن قِيلٍ وقالٍ بالجرّ، ولا يجوز ذلك في الآنَ، فدلّ ذلك على بطلان هذه العلة. استصحاب الحال من أضعف الأدلة في ضوء ما تقدّم ترى أنّ التمسك بالأصل تمسُّكٌ باستصحاب الأصل، فمن تمسك بالأصل من النحويين في إثبات دعواه فقد تمسك بالاستصحاب، وهذا يدلُّكَ على أنّ هذا الدليل شائع في سائر المؤلفات النحوية، وليس مقصورًا على ما ورد في مؤلفات الأنباريّ، كل ما هنالك أنّ المصطلح -كما قلنا من قبل- هو الذي ظهر في كتب الأنباري متأثرًا بثقافته الفقهية. وإذا كان الأنباريُّ يرى أن الاستصحاب من أصول النحو الغالبة، ومن الأدلة المعتبرة، فهذا يدعونا إلى أن نطرح السؤال الآتي، وهو: ما مكانةُ هذا الدليل بين الأدلة الأخرى عند الأنباري؟

لقد أجاب الأنباريّ عن هذا السؤال مرةً في (الإغراب في جدل الإعراب) فقال: "وأمّا استصحابُ الحال فلا يجوز الاستدلالُ به ما وُجد هناك دليلٌ بحال"، ومرتين في كتابه (لُمع الأدلة)؛ المرةَ الأولى عندما ذكَرَ أصول النحو، فقال: "أقسامُ أدلته ثلاثة: نقلٌ، وقياسٌ، واستصحابُ حالٍ، ومراتبُها كذلك، وكذلك استدلالاتُها". فدلّ كلامُه على أنّ الاستصحاب يقع في المرتبة المتأخرة عن مرتبتي السماع والقياس. والمرة الثانية حين قال عن استصحاب الحال: "استصحابُ الحال من أضعف الأدلة؛ لهذا لا يجوز التمسكُ به ما وُجد هناك دليلٌ". وقد قيل: يظهر كذلك عدم اهتمام الأنباريّ بالاستصحاب كغيره من الأدلة في أنه ألّفَ كتابه (لمع الأدلة) وجعله في ثلاثين فصلًا تحدّث فيها عن أقسام أدلة النحو: النقل، والقياس، واستصحاب الحال، وخصّص لدليل النقل ستةَ فصولٍ من الثالث إلى التاسع، وللقياس أربعة عشرَ فصلًا من العاشر إلى الرابع والعشرين، أمّا استصحابُ الحال فقد عقَدَ له فصلًا واحدًا هو الفصل التاسع والعشرون. ونظرة الأنباري إلى الاستصحاب على أنه أضعف الأدلة مظهر آخر من مظاهر تأثره بالفقهاء، فجمهورهم يصف الاستصحاب بأنه أضعف الأدلة، وبأنه آخرُ متمسَّكٍ للناظر، وبأنه آخر مدارِ الفتوى؛ فإنّ المفتي إذا سئل عن حادثة يَطلب حكمَها في الكتاب، ثم في السنة، ثم في الإجماع، ثم في القياس، فإن لم يجد يأخذ حكمَها من استصحاب الحال في النفي والإثبات. ومعنى ما ذكره الأنباريّ هنا أنه يُشترط لصحةِ الاحتجاجِ بالاستصحابِ عدم وجود دليل آخر يعارضه، وضرب الأنباري لنا مثلًا على ذلك، فأوضح: أنه لا يجوز التمسكُ بالاستصحاب في إعراب الاسم مع وجود البناء، وهو مشابهة الاسم للحرف، وكذلك لا يجوزُ التمسك به في بناء الفعل مع وجود دليل الإعراب، وهو مشابهة الفعل للاسم؛ لأنّ التمسك بالاستصحاب تمسكٌ بعدم

الدليل، فإذا قام الدليلُ بطل التمسكُ بالأصل، ويستوي أن يكون هذا الدليلُ سماعيًّا أو قياسيًّا؛ لأنه إذا تعارض استصحابُ الحال مع دليل آخرَ من سماع أو قياس فلا عبرةَ بالاستصحاب، ولا اعتداد به، ولا التفات إليه؛ لقوة الدليل الآخر الذي يقابله ويعارضه، فيُقَدَّمُ السماعُ أو القياسُ عليه. وقد بيَّن الأنباريّ ضَعفَ الاستدلال بالاستصحاب في المسألة الرابعة عشرة من مسائل (الإنصاف)، وهي مسألة نعم وبئس؛ إذ ذهب البصريون إلى أنهما فعلان، واستدل بعضهم على فعليتهما باتصال الضمير بهما على حدّ اتصاله بالفعل المتصرف، فإنه قد جاء عن العرب قولُهم: نعما رجلين، ونعموا رجالًا، كما استدل بعضهم على فعليتهما باتصال تاء التأنيث الساكنة بهما، كقولهم: نعمت المرأة هند، وبئست الجارية دعد، فهذه التاء يَختصّ بها الفعل الماضي لا تتعدّاه. ومن البصريين من استدل على فعليتهما فقال: الدليل على أنهما فعلان ماضيان أنهما مبنيان على الفتح، ولو كانا اسمين لمَا كان لبنائهما وجهٌ؛ إذ لا علةَ ها هنا توجب بناءَهما غير الأصل، أو غير استصحاب الأصل. ولم يرتضِ الأنباريُّ الاستدلالَ بهذا الدليل الأخير؛ لأنه استدلالٌ بالاستصحاب، فقال: "وهذا تمسكٌ باستصحاب الحال، وهو من أضعف الأدلة، والمعتمَدُ عليه ما قدَّمْناه". انتهى. أي: أنّ المعتمد عليه في إثبات فعليتهما هو اتصال الضمير المرفوع بهما كما يتصل بكل فعل متصرف، واتصالهما بتاء التأنيث الساكنة. وخلاصة القول: أنّ استصحاب الحال أحد الأدلة المعتبرة، وهو في الوقت نفسه من أضعف الأدلة، فلا يجوز التمسك به ما وجد هناك دليلٌ.

الاعتراض على الاستدلال بالاستصحاب.

الاعتراض على الاستدلال بالاستصحاب لقد ذكر الأنباريُّ أن أدلة النحو الغالبة ثلاثة أدلة، وهي: النقل، والقياس، واستصحاب الحال، وأن كل دليلٍ من هذه الأدلة الثلاثة يمكن الاعتراض عليه؛ ولذلك عقد الأنباري في كتابه (الإغراب) ثلاثة فصول تناول فيها الاعتراض على أدلة النحو الغالبة، مبيّنًا كيفيةَ الجواب عما يُمكن أن يَرِدَ على هذه الأدلة من اعتراضات، فأول الفصول الثلاثة: الاعتراض على الاستدلال بالنقل، وثانيها: الاعتراض على الاستدلال بالقياس، وثالثها: الاعتراض على

الاستدلال باستصحاب الحال، وهو الذي يعنينا في هذا الدرس. والمراد بالاعتراض في اللغة: هو المنع والحيلولة؛ إذ يقال: عرَض الشيءُ يعرِض واعترض: انتصب ومنع وصار عارضًا كالخشبة المنتصبة في النهر والطريق تمنع السالكين سلوكَها، ولا ينفك المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغوي، فالمراد بالاعتراض هنا الحيلولةُ بين المستدِلّ وما يَستدل به على حكم من أحكام النحو، وقد عرّف أحدُ الباحثين الاعتراضَ على الدليل بأنه: ما يمنع به المعترضُ استدلالَ المستدلّ بدليله. فإذا كان المستدلّ يستدلّ على مسألة ما بدليل من السماع -مثلًا- فإن هناك أمورًا يَمنع بها المعترضُ هذا الاستدلالَ، كأن يطعن في السند، أو يعترضَ على المتن باختلاف الرواية أو نحو ذلك. وإن كان المستدل يستدل باستصحاب الحال فقد ذكر الأنباريُّ أن للمعترض أن يَعترض عليه بأن يذكر دليلًا يدل على زوال استصحاب الحال، أي: زوال ذلك الأصلِ المستصحَبِ وسقوطِه، ولم يكتف الأنباريُّ بذِكْر الاعتراض وحده، وإنما ذكر كيفية الجواب عنه، فقال في (الإغراب في جدل الإعراب): "الاعتراض على الاستدلال باستصحاب الحال وهو أن يَذكر -يعني المستدل- دليلًا يدل على زوال استصحاب الحال، مثل: أن يَدل الكوفي على زواله إذا تمسك البصري به في بناء فعل الأمر، فيُبيِّنَ أن فعل الأمر مقتطعٌ من الفعل المضارع ومأخوذ منه، والفعل المضارع قد أشبه الاسم، وزال عنه استصحابُ حال البناء، وصار معربًا بالشبَه، فكذلك فعل الأمر. والجواب أن يُبَيِّنَ البصريُّ أن ما توهمه دليلًا لم يوجد، فيبقي التمسك باستصحاب الحال صحيحًا". انتهى. وقد نقل السيوطي هذا الكلام، ولم يعلق عليه بشيء، وفيه إجمالٌ يَحتاج إلى تفصيلٍ يكشفه، وتفصيل القول في هذا الكلام أن نقول: إن البصريين يذهبون إلى أن فعلَ الأمر مبنيٌّ، ولهم أن يستدلوا على صحة مذهبهم باستصحاب الأصل؛ لأن الأصلَ في الأفعال البناءُ، وقد يَعترض الكوفيون على مذهب البصريين بأن يقولوا: إن استصحاب الحال -وهو البناء- قد زال عن فعل الأمر، والدليل على زواله أن فعل الأمر ليس قسمًا برأسه، وإنما هو مأخوذ من المضارع ومُقْتَطَعٌ منه، ولما كان فعل الأمر مأخوذًا من المضارع، والمضارع معرَبٌ؛ لأنه أشبه الاسم، كان فعل الأمر كذلك معربًا بالشبه، فيقال: إن اضْرِبْ فعلٌ معربٌ؛ لأن أصله: لِتضْرِبْ، ثم حُذِفت اللام، ثم حُذِف حرف المضارعة، ثم جيء بهمزة الوصل؛ توصلًا إلى النطق بالساكن. هذا ما يمكن أن يورده الكوفي اعتراضًا على دليل البصري، فيجيب عنه البصري: بأن ما توهمه الكوفي دليلًا على إعراب فعل الأمر، وهو أنه مأخوذ من المضارع ومقتطعٌ منه، لم يوجد، بل هو نوع مستقلٌّ على حِدَةٍ، وحينئذٍ يبقى التمسك بالاستصحاب، واستصحاب الحال فيه هو أصل البناء في الفعل.

الاستدلال بالعكس.

الاستدلال بالعكس إن الاستدلالَ بالعكس دليلٌ من أدلة الأصوليين، ويعبرون عنه بقياس العكس، ويعرِّفونه بأنه: عدم الحكم عند عدم العلة، وقد جعله السيوطي أولَ الأدلة غير الغالبة، فقال: "ومنها الاستدلال بالعكس، أي: جعْلُ عكس الحكم دليلًا"، وبهذا الدليل رُدّ على الكوفيين زعمُهم أن الخبر إذا كان ظرفا كان منصوبًا بالخلاف؛ ومعنى كلام الكوفيين أنه إذا قيل: زيدٌ أمامَك، وعمرو وراءَك، فالظرفان أمامَك ووراءَك منصوبان بالخلاف، وحجتهم في ذلك أن خبر المبتدأ هو المبتدأ في المعنى، فإذا قيل: زيدٌ قائمٌ، وعمرو جالسٌ، فزيدٌ مبتدأ، وقائمٌ خبره، فقائم هو زيد في المعنى، والقائم هو زيدٌ. وكذلك عمرو هو الجالس، والجالس هو عمرو. فيستحقّ الخبر أن يكون مرفوعًا. وإذا قيل: زيدٌ أمامَك، وعمرو وراءَك، لم يكن أمامك في المعنى هو زيد، ولا وراءك في المعنى هو عمرو، كما كان قائمٌ في المعنى هو زيد، فلما كان مخالفًا نُصب على الخلاف. ومما سبق يتبين أن الكوفيين يرون أن عامل النصب في الظرف الواقع خبرًا هو عاملٌ معنوي عبروا عنه باسم الخلاف، ومعناه هنا: المخالفة بين الخبر والمبتدأ، وأرادوا به أن الخبر ليس هو المبتدأ في المعنى، وإنما هو مخالفٌ له. وقد أفسدَ الأنباريُّ هذا القولَ مستدلًّا على فساده بالعكس؛ لأنه لو كان عامل النصب في الظرف هو الخلاف لكان من الواجب أن يكون المبتدأ أيضًا منصوبًا؛ لأن الخلاف مصدر الفعل خالف، وبِنْيَةُ هذا الفعل تدل على المشاركة بين اثنين يخالف كلٌّ منهما صاحبَه، كما هو شأن المفاعلة، نحو: خاصمَ، ولا يُتصور الخصامُ من واحد، وكذلك جادل، ولا يُتصور الجدال من واحد، فإذا كان الخبر مخالفًا

للمبتدأ، فمعناه أن المبتدأ أيضًا مخالفٌ للخبر، وإذا كان الخلاف يوجب نصب الظرف كما زعم الكوفيون، فالواجب أيضًا نصبُ المبتدأ، ولو وافقناهم على زعمهم، فنقول: زيدًا أمامَك، بالنصب، ولا قائلَ به، فبطل ما استدلّ به الكوفيون. يقول الأنباري في (الإنصاف): "لو كان الموجبُ لنصب الظرف كونَه مخالفًا للمبتدأ لكان المبتدأ أيضًا يجب أن يكون منصوبًا؛ لأن المبتدأ مخالف للظرف كما أن الظرفَ مخالفٌ للمبتدأ؛ لأن الخلاف لا يُتصوّرُ أن يكون من واحدٍ، وإنما يكون من اثنين فصاعدًا، فينبغي أن يُقال: زيدًا أمامَك، وعمرًا وراءك، وما أشبه ذلك، فلما لم يجز ذلك دلّ على فساد ما ذهبوا إليه". انتهى. وقد نقل السيوطي في (الاقتراح) كلام الأنباري باختصارٍ غير مخلٍّ؛ لأن الغاية التي سعى إليها هي بيان الاستدلال بالعكس، وأنه لَمَّا لَمْ يكن المبتدأ منصوبًا مع قيام الخلاف به أيضًا دلّ عدمُ نصبه على أن الخلاف لا يكون موجِبًا للنصب في الظرف، وإلا فإن كونَ الخلاف عاملًا في أحدهما دون الآخر تَحكُّمٌ، وترجيحٌ بلا مرجح، فكان عكسُ الحكم دليلًا على نفيه. رأي البصريين في عامل النصب في الظرف الواقع خبرًا: ذهب جمهور البصريين إلى أن عامل النصب في الظرف الواقع خبرًا هو فعلٌ مقدر، والتقدير: زيدٌ استقرَّ أمامَك، وعمرو استقرّ وراءَك، وذهب بعضهم إلى أنّ عامل النصب اسمُ فاعلٍ، والتقدير: زيدٌ مستقرٌّ أمامك، وعمرو مستقرٌّ وراءك، والقول بتقدير الفعل أولى من تقدير اسم الفاعل؛ لأن اسم الفاعل فرعٌ عن الفعل في العمل، والفعل أصلٌ في العمل، فلما وجب تقدير عاملٍ كان تقدير ما هو الأصل في العمل، وهو الفعل، أولى من تقدير ما هو الفرع فيه، وهو اسمُ الفاعل.

الاستدلال بالأصول.

الاستدلال بالأصول إن السيوطي قد عوّل في هذا العنصر على كلام أبي البركات الأنباري في كتابه (لمع الأدلة)، وقد ذهب الأنباريُّ إلى أن الاستدلالَ بالأصول هو أحدُ أوجهِ الاستدلال التي تُلحَق بالقياس، ويُعَدُّ الاستدلال بالأصول من جملة الأدلة التي يلجأ إليها النحويُّ عند المحاجَّاة والجدل؛ إذ إن المراد به إبطالُ مذهبٍ أو رأي بالرجوع إلى الأصل الذي أصّله النحويون. ومن الأصول التي أصلها النحويون أن يكون الرفع مقَدّمًا على غيره من أنواعِ الإعرابِ، وبهذا الأصل رَدَّ الأنباريُّ مذهبَ القائلين بأن عامل الرفع في الفعل المضارع المرفوع هو تجرده من الناصب والجازم؛ لأن القول بالتجرد معناه أن الفعل كان متلبسًا بهما قبل تجرده منهما، وفي القول بذلك مخالفة للأصول؛ إذ إن الأصل تقدُّمُ الرفع على غيره. قال الأنباري في (لمع الأدلة): "وأما الاستدلال بالأصول فمِثل أن يُسْتَدَلَّ على إبطال مذهبِ مَن ذهب إلى أن رفعَ المضارع إنما كان لسلامته من العوامل الناصبة والجازمة، بأن ما ذهبَ إليه يُؤدي إلى خلاف الأصول؛ لأنه يؤدي إلى أن يكون الرفع بعد النصب والجزم، وهذا خلاف الأصول؛ لأن الأصول تدل على أن الرفع قبل النصب؛ لأن الرفع صفة الفاعل، والنصب صفة المفعول، كما أن الفاعل قبل المفعول، فكذلك الرفع قبل النصب، وكذلك تدل الأصول على أن الرفع قبل الجزم؛ لأن الرفع في الأصل من صفات الأسماء، والجزم من صفات الأفعال، وكما أن رتبة الأسماء قبل رتبة الأفعال، فكذلك الرفع قبل الجزم". انتهى. وفي كلام أبي البركات الأنباري إجمالٌ يَحتاج إلى تفصيل يكشفه ويبينه، وهو أن نقول: إن الأنباريَّ قد رد مذهبًا من المذاهب وأبطل قولًا من الأقوال بالرجوع إلى الأصول التي استقرت عند النحويين، فقد استقر عند النحويين أن الرفع مُقَدَّمٌ على غيره من أنواع الإعراب، فهو مقدَّم على النصب والجزم، فإذا كان الفعل

المضارعُ مرفوعًا فإنه لا يجوز عند الأنباري أن يُقال: إن رافعه هو تجرده من الناصب والجازم؛ لأن التعبير بالتجرد منهما يؤدِّي إلى سبقهما للرفع، ويؤدي إلى أن المضارع تجرد منهما بعد أن كان متلبسًا بهما، وهو خلاف الأصول؛ إذ إن الأصول شاهدةٌ بتقدم الرفع عليهما. ويدل على تقدم الرفع على النصب أن الرفع حكمٌ ثابتٌ للفاعل، وهو عمدةٌ، كما أن النصبَ حكمٌ ثابتٌ للمفعول به، وهو فَضلةٌ، فكما أن الفاعلَ قبل المفعول مَنْزِلَة واعتبارا، فكذلك الرفع يكون قبل النصب مَنْزِلَةً واعتبارًا. ويدل على تقدم الرفع على الجزم أن الرفع في الأصل صفة من صفات الأسماء، والجزم من صفات الأفعال، والأسماء متقدمة في الرتبة على الأفعال، فكذلك الرفع متقدمٌ في الرتبة على الجزم. وخلاصة ما سبق أن الأصلَ هو تقدم الرفع على النصب والجزم، فمن قال: إن المضارع مرفوعٌ بتجرده من الناصب والجازم فقد قدم النصبَ والجزمَ على الرفع، وبذلك يكون قد خالف أصلًا من أصول النحاة، فلا يُقْبَلُ قَوْلُهُ ولا يُرتضَى مذهبه عند الأنباري. وهذا القولُ الذي رده الأنباريُّ واستدل على إبطاله بالأصول هو رأي حُذّاق الكوفيين، يقول الفَرّاءُ في (معاني القرآن) عند قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} (البقرة: 83): "رُفعت: {تَعْبُدُونَ} لأن دخول أنْ يصلح فيها، فلما حُذف الناصب رُفعت، وهو القول الذي يجري على ألسنة المعربين". ونختم بقول أحد الباحثين المعاصرين: " والحق أن استدلال الأنباري يبدو عليه التكلف؛ إذ يُمكن الاعتراضُ عليه من عدة أوجه؛ فمن الممكن أن نقول: إن التعريَ أسبقُ من التقييد، فالتعري أولًا، ولما كان الرفع هو الأول كان ملازمًا للتعري، كما يمكن أن يُقال: إن الفعلَ المضارعَ رُفِعَ؛ لأنه لم يدخل عليه ناصبٌ فينصبَه، ولا جازمٌ فيجزمَه، دون أن نمَس أسبقية الرفع للنصب والجزم ". هذا والله ولي التوفيق، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 13 عدم النظير.

الدرس: 13 عدم النظير.

معنى عدم النظير، ومتى يحتج به؟.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثالث عشر (عدم النظير) معنى عدم النظير، ومتى يحتج به؟ الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن والاه؛ أما بعد: النظير في اللغة: المناظر والنِّظْر، والمثل والمثيل والمساوي، وفلان منقطع النظير أي: منفرد في بابه. والمراد به في الاصطلاح: ألا يكون للشيء نظائر في بابه، بمعنى: أنه واحد لم يرد به سماع، وقد أفرد ابن جني لعدم النظير بابًا في (الخصائص) عنوانه: باب في عدم النظير، ولخصه السيوطي في (الاقتراح) وبدأه بقوله: "ومنها الاستدلال بعدم النظير"، أي: ومن أدلة النحو المتفرقة التي لا تُحصر عدم النظير، ومعنى الاستدلال به النفي لعدم وجود دليل الإثبات. ولذلك قال السيوطي في ضَوْء ما نقله عن ابن جني: "وإنما يكون دليلًا على النفي لا على الإثبات"، وقال أيضًا: "وإنما يُستدل بعدم النظير على النفي حيث لم يقم الدليل على الإثبات، فإن قام لم يلتفت إليه؛ لأن إيجاد النظير بعد قيام الدليل إنما هو للأُنس به لا للحاجةِ إليه". ومعنى هذا أن النظير يصحح الحكم النحوي وأن عدمه ينفيه، وقد أكثر النحويون من الاحتكام إلى النظائر، وتعددت أقوالهم الدالة على قبولهم ما له نظير وردهم ما ليس له نظير، ومن أقوالهم الدالة على ذلك قولهم: الحَمْل على ما له نظير أولى من الحمل على ما لا نظيرَ له، وقولهم: ما لا نظير له في العربية، ولا يشهد له شاهد من العلل النحوية يكون فاسدًا، وقولهم: الحمل على ما له نظير وإن قل وخرج عن القياس أولى من قول لا نظير له، وقولهم: إذا أدى القول إلى ما لا نظير له وجب رفضه واطراح الذهاب إليه. ومع كثرة أقوال النحويين في هذا الشأن فإنه لا يشترط إيجاد النظير في إثبات شيء إذا قام الدليل معه، وإنما يجب إيجاد النظير إذا لم يقم الدليل، وإلى هذا الأمر

أشار ابن جني بقوله في (الخصائص): "أما إذا دل الدليل فإنه لا يجب إيجاد النظير، وذلك مذهب صاحب (الكتاب) -يعني: سيبويه- فإنه حكى فيما جاء على فِعِل إبلًا وحدها، ولم يمنع الحكم بها عنده أن لم يكن لها نظير؛ لأن إيجاد النظير بعد قيام الدليل إنما هو للأنس به لا للحاجة إليه"، انتهى. ومعنى ما ذكره ابن جني أن سيبويه -رحمه الله- لم يذكر مما جاء على وزن فِعل، بكسر الفاء والعين، إلا كلمة واحدة، وهي إبل وقال في (الكتاب): "ويكون -أي: ما كان على ثلاثة أحرف من غير الأفعال- فِعِلًا في الاسم، وهو قليل لا نعلم في الأسماء والصفات غيره"، انتهى. ولم يمنع سيبويه هذا الوزن مع أنه لا يعلم له نظيرًا؛ لأنه قد قام الدليل من السماع الصحيح على وجوده، وإذا قام الدليل على إثبات شيء لم تكن هناك حاجة إلى إيجاد نظيره ولا عبرة بعدمه، وإذا وجد فإنه يكون مؤنسًا ولا يتوقف ثبوت الحكم عليه. وقد قال ابن جني في (الخصائص): "إذا قام الدليل لم يلزم النظير"، انتهى. ومما قام الدليل على صحته ولا نظير له في الكلام لفظ أندلس، بفتح الهمزة، وسكون النون، وفتح الدال، وضم اللام، وقد قام الدليل فيه على زيادة النون، وهو أنه لو لم يحكم بزيادتها لحكم بأصالتها فيكون الوزن فَعْلَلُلا، وليس في ذوات الخمسة الأحرف شيء على وزن فَعْلَلُل تكون فيه النون أصلًا لوقوعها موقع العين، فوجب أن تكون النون زائدة، وأن يكون على وزن أنفعُلٍِ بفتح الهمزة وسكون النون وفتح الفاء وضم العين، وليس في العربية على هذا الوزن غير هذا اللفظ، وهو مقبول غير مردود، مع أنه بناء لا نظير له، وإنما قُبل هذا البناء مع عدم نظيره لقيام الدليل عليه، والدليل هو أن النون زائدة لا محالة، وإذا ثبت زيادة النون بقي في الكلمة ثلاثة أحرف أصول، وهي: الدال واللام والسين، وفي أولها همزة، ومتى وقع ذلك حكمت بزيادة الهمزة؛ لأنها واقعة

قبل ثلاثة أصول، ولا تكون النون أصلًا والهمزة زائدة؛ لأن ذوات الأربعة لا تلحقها الزيادة من أولها إلا في الأسماء الجارية على أفعالها، نحو: مدحرج وبابه. فقد وجب إذن الحكم بأن الهمزة والنون زائدتان، وعليه تكون الكلمة على وزن أنْفَعُل وإن كان مثالًا لا نظير له. ومما قام الدليل على صحته ولم يثبت له في الكلام نظير أيضًا، ما ذكره سيبويه من أنهم قد ثبت في كلامهم فعُلت تفعل بضم العين في الماضي، وفتحها في المضارع، وهو كُت تكاد ولا يوجد غيره. قال سيبويه: "وقد قال بعض العرب: كت تكاد، فقال: فعلت تفعل". كما أثبت سيبويه وزنًا وهو انفعل بكسر الهمزة وسكون النون وفتح الفاء وسكون العين، وقد أثبته سيبويه بكلمة انقحل: وهو الرجل الذي يبس جلده على عظمه من البؤس والكبر والهرم، وإن لم يحك غيره، فقال: "ويكون على انفعل قالوا: انقحل في الوصف لا غير". ومن هذه الأمثلة وغيرها يتبين أنه إذا قام الدليل على صحة شيء لم تكن هناك حاجة إلى النظير، وقد أشار إلى ذلك ابن جني بقوله في (الخصائص): "ألا تعلم أن القياس إذا أجاز شيئًا وسُمع ذلك الشيء عينه فقد ثبت قدمه، وأخذ من الصحة والقوة مأخذه، ثم لا يقدح فيه ألا يوجد له نظير؛ لأن إيجاد النظير وإن كان مأنوسًا به فليس في واجب النظير إيجاده، ألا ترى أن قولهم في شنوءة: شَنَئي لَمَّا قبله القياس لم يقدح فيه عدم نظيره، نعم، ولم يرضَ له أبو الحسن -أي: الأخفش- بهذا القدر من القوة حتى جعله أصلًا يُرد إليه"، انتهى. وقال: "وليس يلزم إذا قاد الظاهر إلى إثبات حكم تقبله الأصول ولا تستنكره، ألا يحكم به حتى يوجد له نظير، وذلك أن النظير لعمري مما يؤنس به، فأما ألا تثبت الأحكام إلا به فلا"، انتهى.

ومعنى ما ذكره ابن جني: هو أن النظير يوجد للأنس به عند عدم الدليل، ولا يلتفت إليه، ولا يعول عليه إذا قام الدليل على حكم نحوي، وأنه إذا ورد الدليل فإن عدم النظير لا يضر، وأنه لا ينظر إلى عدم النظير عند قيام دليل الحكم وثبوته، وإنما تكون الحاجة إلى إيجاد النظير إذا لم يقم الدليل، وقد نبه ابن جني على ذلك بقوله في (الخصائص): "فأما إن لم يقم دليل، فإنك محتاج إلى إيجاد النظير، ألا ترى إلى عِزويت، لَمَّا لَمْ يقم الدليل على أن واوه وتاءه أصلان احتجتَ إلى التعلل بالنظير، فمنعتَ من أن يكون فِعويلًا لما لم تجد له نظيرًا، وحملتَه على فِعليت؛ لوجود النظير، وهو عِفريت ونفريت"، انتهى. ويفيد كلام ابن جني هنا أن النظير يحتاج إليه إذا لم يقم الدليل، فلفظ عزويت -ومعناه القصير أو اسم موضع- لا دليل فيه على أن واوه وتاءه حرفان أصليان، فربما يكونان أصليين، وربما يكونان زائدين، ويختلف وزنه باختلاف القول بأصالتهما وزيادتهما، فيحتمل أن يكون على وزن فِعويل، وأن يكون على وزن فعليت، والوزن الأول فعويل لا نظير له، والثاني فِعليت له نظير، نحو: عفريت ونفريت، فصح أن القول بأنه على وزن فعليت هو القول المرضي لوجود نظائره. كما ذكر ابن جني أنه إذا اجتمع الدليل والنظير فهو الغاية، فقال في (الخصائص): "فإن ضام الدليل النظير فلا مذهبَ بك عن ذلك، وهذا كنون عنتر، فالدليل يقضي بكونها أصلًا؛ لأنها مقابلة لعين جَعفر، والمثال أيضًا معك، وهو فعلل، وكذلك القول على بابه، فاعرف ذلك وقِسه"، انتهى. فقوله: "والمثال أيضًا معك"، يعني: والنظير أيضًا موجود معك.

أمثلة من احتجاج النحويين بعدم النظير.

أمثلة من احتجاج النحويين بعدم النظير إذ قد انتهينا إلى معرفة أن النظير يحتاج إليه إذا لم يكن هناك دليل، فإننا نشير إلى أن النحويين قد احتجوا كثيرًا بعدم النظير، وردوا ما لا نظيرَ له في الكلام. والأمثلة على ذلك في النحو والصرف كثيرة جدًّا، نذكر منها ما يلي: أولًا: ما استدل به المازني ردًّا على من زعم أن السين وسوف ترفعان الفعل المضارع، فقد رد المازني هذا القول: بأنه لا يوجد في العربية عامل في الفعل تدخل عليه اللام، والمراد بها لام الابتداء، وقد دخلت اللام على سوف في قوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} (الضحى: 5)، فالقول بعمل سوف يُفضي إلى عدم النظير. قال ابن جني في (الخصائص): "قال أبو عثمان - يعني: المازني- في الرد على مَن ادعى أن السين وسوف ترفعان الأفعال المضارعة: لم نرَ عاملًا في الفعل تدخل عليه اللام، وقد قال سبحانه: {فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} (الشعراء: 49) فجعل عدم النظير ردًّا على مَنْ أنكر قوله". انتهى. ثانيًا: ما احتج به المبرد على رد قول الخليل وسيبويه: بأن اسم لا النافية للجنس إذا كان مثنى أو مجموعًا جمعًا سالمًا لمذكر نحو: لا غلامين في الدار، ونحو: لا ناصرين لعدو، يكون مبنيًّا مركبًا مع لا، وتكون لا مع اسمها في موضع رفع بالابتداء. قال سيبويه: "وترك التنوين لما تعمل فيه لازم أي: لما تعمل فيه لا النافية للجنس؛ لأنها جعلت وما عملت فيه بمنزلة اسم واحد، نحو: خمسة عشر، ولا وما تعمل فيه في موضع ابتداء، وقال: واعلم أن المنفي الواحد إذا لم يل لك، فإنما يذهَب منه التنوين كما أُذهب من آخر خمسة عشر لا كما أذهب من المضاف، والدليل على ذلك أن العرب تقول: لا غلامين عندك، ولا غلامين

فيها، ولا أب فيها، وأثبتوا النون؛ لأن النون لا تُحذف من الاسم الذي يُجعل وما قبله أو وما بعده بمنزلة اسم واحد، ألا تراهم قالوا: الذين في الدار، فجعلوا الذين وما بعده من الكلام بمنزلة اسمين جعلَا اسمًا واحدًا، ولم يحذفوا النون؛ لأنها لا تجيء على حد التنوين، ألا تراها تدخل في الألف واللام وما لا ينصرف"، انتهى. فقال المبرد في (المقتضب): "وكان الخليل وسيبويه يزعمان أنك إذا قلت: لا غلامين لك، أن غلامين مع لا اسم واحد وتثبت النون كما تثبت مع الألف واللام، وفي تثنية ما لا ينصرف وجمعه، نحو قولك: هذان أحمران، وهذان المسلمان، فالتنوين لا يثبت في واحد من الموضعين، فرقوا بين النون والتنوين، واعتلوا بما ذكرت لك، وليس القول عندي كذلك؛ لأن الأسماء المثناة والمجموعة بالواو والنون لا تكون مع ما قبلها اسمًا واحدًا، لم يوجد ذلك"، انتهى ما قاله المبرد. وقال ابن يعيش في (شرح المفصل) ملقيًا الضوء على هذا الخلاف: "وتقول: لا غلامين لك، ولا ناصرين لزيد، فالاسم المنفي مبني مع لا بناء خمسة عشر كما كان كذلك في قولك: لا أب لك؛ لأن الموضع موضع بناء لا مانعَ من ذلك، وتثبت النون فيه كما تثبت مع الألف واللام وتثنية ما لا ينصرف، نحو قولك: هذان أحمران، وهذان المسلمان، والتنوين لا يثبت في واحد من الموضعين؛ وذلك لقوة النون مع الحركة، هذا مذهب الخليل وسيبويه". وذهب أبو العباس المبرد: إلى أنهما معربان وليسا مبنيين مع لا"، وذكر ابن يعيش عبارة المبرد، ثم عقَّب عليها بقوله: "وهذا -أي: كلام المبرد- إشارة إلى عدم النظير". انتهى ما قاله ابن يعيش. أي: أن المبرد رد مذهب الخليل وسيبويه بأنه يؤدي إلى عدم النظير، وهو تركيب الأسماء المثناة والمجموعة مع ما قبلها.

ثالثًا: ما احتج به ابن السرَّاج على رد إجازة الكوفيين نصب واقفًا على الخبر في نحو قولك: مررت بزيد واقفًا، وإجازتهم إدخال الألف واللام فيه، قال: "وتقول: مررت بزيد واقفًا، فتنصب واقفًا على الحال، والكوفيون يجيزون نصبه على الخبر، يجعلونه كنصب خبر كان وخبر الظن، ويجيزون فيه إدخال الألف واللام، ويكون: مررت عندهم، على ضربين: مررت بزيد، فتكون تامة، ومررت بزيد أخاك، فتكون ناقصة إن أسقطت الأخ كنقصان كان إذا قلت: كان زيد أخاك، ثم أسقطت الأخ، كان ناقصًا حتى تجيء به. وهذا الذي أجازوه غير معروف عندي من كلام العرب، ولا موجود فيما يوجبه القياس"، انتهى. فقوله: "غير معروف ... " إلى آخره إشارة إلى عدم النظير. رابعًا: ما احتج به أبو علي الفارسي على مَن قال: إن النون في شيطان زائدة، واستدل على أن لفظ شيطان على وزن فَيعال مثل لفظ بيطار، وليس على وزن فعلان؛ اعتمادًا على ما حكاه سيبويه عن العرب من قولهم: شيطنته فتشيطن، فلو كان من شاط يشيط لكان شيطنته فتشيطن: فعلنته فتفعلن، ولا نعلم هذا الوزن جاء في كلامهم، مما يدلك على أنه على وزن فيعلته مثل بيطرته، ووجه الاستدلال بما ذكره أبو علي أنه استدل على أصالة النون في لفظ شيطان بما حكاه سيبويه عن العرب من قولهم: تشيطن، وهو على وزن تفيعل لا تفعلن، إذ ليس من أبنيتهم تفعلن، فالنون هي لام الكلمة، فَحَمَلَ أبو علي لفظ تشيطن على ما له نظير نحو: تدهقن أي: صار دِهقانًا، وهو رئيس القرية أو الكثير المال، ولم يحمله على ما لا نظير له في كلامهم. خامسًا: ما احتج به ابن جني على رد قول المازني: "إن الواو في حيوان أصلية وغير منقلبة عن ياء"، ورَد عليه: بأن ما عينه ياء ولامه واو غير موجود في

الكلام ولا نظير له، وذكر أن ما أجازه المازني مخالف للخليل وسيبويه؛ لأنهما يريان أن أصل حيوان حَيَيَان بياءين، فقلبت الياء الواقعة لامًا واوًا؛ استكراهًا لتوالي ياءين، ولا نعرف في الكلام ما عينه ياء ولامه واو، فذلك لا نظير له، فلا بد أن تكون الواو بدلًا من ياء. سادسًا: ما احتج به أبو علي الشلوبين على رد قول مَن قال: إن الواو والألف والياء في الأسماء الستة علامات إعراب؛ لأن قوله يؤدي إلى عدم النظير، وأوضح: بأنا إذا قلنا بذلك في: فوك وذو مال، كان كل واحد منهما اسمًا معربًا على حرف واحد، وهذا لا نظير له في الأسماء المبنية إلا في الضمائر المتصلة بما قبلها، فما ظنك به في الأسماء المعربة؟. سابعًا: ما احتج به ابن مالك على رد مذهب الزجاج والسيرافي في فتحة: لا رجلَ، وشبهه، فقد ذهب الزجاج والسيرافي إلى أن هذه الفتحة فتحة إعراب، وأن التنوين حذف منها تخفيفًا، ولشبهه بالمركب، ورده ابن مالك: بأنه يستلزم مخالفة النظائر؛ لأن الاستقراء قد أطلعنا على أن حذف التنوين من الأسماء المتمكنة لا يكون إلا لمنع صرف، أو للإضافة، أو لدخول الألف واللام، أو لكونه في عَلَم موصوف بابن مضاف إلى علم، أو لملاقاة ساكن، أو لوقف، أو لبناء، واسم لا النافية للجنس ليس واحدًا من الأنواع الستة الأولى، فتعين أن يكون من النوع السابع، وهو البناء. ثامنًا: ما احتج به أبو حيان على رد مذهب الفراء في باب التنازع القائل: "إذا استوى العاملان في طلب المرفوع فالعمل لهما"، وذلك نحو: قام وقعد زيد، ويحسن ويسيء ابناك، فهو يرى: أن العاملين في الجملتين السابقتين ونحوهما كالعامل الواحد؛ لأن مطلوبهما واحد، فرَد ذلك أبو حيان: بأنه يؤدي إلى عدم

احتجاج أبي البركات الأنباري والسيوطي بعدم النظير.

النظير، إذ لا يجتمع عاملان على معمول واحد إلا في التقدير، نحو: ليس زيد بجبان، يعني: لا يجوز أن يجتمع عاملان على معمول واحد في اللفظ وإن توجها إليه في المعنى؛ لأن العوامل كالمؤثرات، ولا يجوز اجتماع مؤثرين في محل واحد. ونختم هذا العنصر مكتفين بما أوردناه من أمثلة تدل على مدى اهتمام العلماء بالاستدلال بعدم النظير، ومنبهين على أن السيوطي إن كان قد أوجز القول في عدم النظير في (الاقتراح) فقد أورد مبحثًا مطولًا في كتابه الموسوم بـ (الأشباه والنظائر) عنوانه: الحمل على ما له نظير أولى من الحمل على ما ليس له نظير، تضمن عددًا من الأمثلة على عدم النظير. احتجاج أبي البركات الأنباري والسيوطي بعدم النظير وإنما آثرنا أن نفرد احتجاج أبي البركات الأنباري والسيوطي بعدم النظير بهذا العنصر؛ لنبين أولًا: أن قول السيوطي في مبحث الاستدلال بعدم النظير عبارة، ولم يذكره ابن الأنباري وذكره ابن جني، مراده به أن أبا البركات الأنباري لم يذكر عدم النظير في أدلة الاحتجاج في كتابيه (الإغراب في جدل الإعراب) و (لمع الأدلة) لا أنه لم يحتج به البتة، إذ الواقع أنه قد احتج به كثيرًا في كتابه (الإنصاف في مسائل الخلاف). ولنبين ثانيًا: أن السيوطي مع أنه لم يذكر مثالًا يوحي باحتجاجه بعدم النظير في كتابه (الاقتراح) قد احتج به في كتابيه (همع الهوامع) و (الأشباه والنظائر). وإليك بعض الأمثلة على احتجاج الأنباري به في كتاب (الإنصاف في مسائل الخلاف). أولًا: في المسألة الثانية، وعنوانها: الاختلاف في إعراب الأسماء الستة: احتج الأنباري بعدم النظير على رد مذهب الكوفيين في إعراب الأسماء الستة، وتأييد

مذهب البصريين، إذ ذهب البصريون إلى أنها معربة من مكان واحد، والواو والألف والياء هي حروف الإعراب، وذهب الكوفيون إلى أنها معربة من مكانين، وأيد الأنباري مذهب البصريين بأن له نظيرًا؛ لأن كل معرب في كلامهم ليس له إلا إعراب واحد، كما رد مذهب الكوفيين بأنهم ذهبوا إلى ما لا نظير له في كلامهم، فإنه ليس في كلامهم معرب له إعرابان، والمصير إلى ما له نظير أولى من المصير إلى ما لا نظير له. ثانيًا: في المسألة الثالثة، وعنوانها: القول في إعراب المثنى والجمع على حده: ذكر أن النحاة قد اختلفوا في الألف والواو والياء في التثنية والجمع، وأن الجرمي ذهب إلى أن انقلابها هو الإعراب، وأن هذا المذهب قد أفسده بعض النحويين من وجهين: أحدهما: أن هذا يؤدي إلى أن يكون الإعراب بغير حركة ولا حرف، وهذا لا نظير له في كلامهم. ثالثًا: في المسألة الخامسة والأربعين، وعنوانها: المنادَى المفرد العلم معرب أو مبني؟: ذهب إلى أن الكوفيين قالوا: إن الاسم المنادى المعرف المفرد معرب مرفوع بغير تنوين، محتجين بأنا إنما قلنا ذلك؛ لأنا وجدناه لا معرب له يصحبه من رافع ولا ناصب ولا خافض، ووجدناه مفعول المعنى، فلم نخفضه لئلا يشبه المضاف، ولم ننصبه لئلا يشبه ما لا ينصرف، فرفعناه بغير تنوين إلى آخره. ورد عليهم: بأن قولهم: إن المنادى لا معرب له يصحبه. غير مسلَّم، وبأن قولهم: إنا رفعناه قلنا لهم: وكيف رفعتموه ولا رافعَ له؟ وهل لذلك قط نظير في العربية؟ وأين يوجد فيها مرفوع بلا رافع أو منصوب بلا ناصب أو مخفوض بلا خافض؟ وهل ذلك إلا تحكم محض لا يستند إلى دليل؟!

احتجاج السيوطي: المثال الأول: ذكر في (الهمع): أن في إعراب الأسماء الستة اثني عشر مذهبًا، سادسها: أنها معربة من مكانين بالحركات والحروف معًا، وعليه الكسائي والفراء، ورد بأنه لا نظير له، وسابعها: أنها معربة بالتغير والانقلاب حالة النصب والجر، وبعدم ذلك حالة الرفع، وعليه الجرمي، ورد بأنه لا نظير له. والمثال الثاني: ذكره في (الهمع) كذلك: بأن جملة ما يعرف به الزائد تسعة أشياء، تاسعها: لزوم عدم النظير بتقدير أصالته فيما هو منه، أو في نظير ما هو منه، وذكر أن مثال الأول ملوط وهو مِقرعة الحديد، فالواو زائدة والميم أصلية، ووزنه فعول؛ لأنه لو عكس لكان وزنه مفُعلًا، ومَفُعْل مفقود، وفَعُول موجود، نحو: عتود، وهو ولد المعز، وعسول، وهو الذئب. وذكر مثال الثاني أن يكون في اللفظ حرف لا يمكن حمله إلا على أنه زائد، ثم يُسمع في ذلك اللفظ لغة أخرى يحتمل ذلك الحرف فيها أن يحمل على الأصالة، وعلى الزيادة، فيُقضى عليه بالزيادة لثبوت زيادته في اللغة الأخرى التي هي نظيرة هذه، وذلك نحو: تَتْفُل، وهو ولد الثعلب، فإن فيه لغتين: فتح التاء الأولى، وضم الفاء، وضمها مع الفاء، فمن فتح التاء فلا يمكن أن تكون عنده إلا زائدة، إذ لو كانت أصلية لكان وزن الكلمة فعلُلًا بضم اللام الأولى، ولم يرِد مثل ذلك في كلامهم، ومَن ضم التاء أمكن أن تكون عنده أصلية. هذا والله ولي التوفيق، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 14 الاستدلال بالاستحسان.

الدرس: 14 الاستدلال بالاستحسان.

معنى الاستحسان، ومكانته بين أدلة النحو.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الرابع عشر (الاستدلال بالاستحسان) معنى الاستحسان، ومكانته بين أدلة النحو الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومَن والاه؛ أما بعد: إن الاستحسان في اللغة: عَدُّ الشيء حسنًا، وأصله مصطلح من مصطلحات الفقه وأصوله، وهو أحد الأدلة المختلف فيها عند الفقهاء، ومن تعاريفه: أنه دليل ينقدح في نفس المجتهد وتقصر عنه عبارته فلا يقدر على إظهاره، وقيل: إن الاستحسان عبارة عن دليل يقابل القياس الجلي الذي تسبق إليه الأفهام، وهذا المعنى ينقاد مع ما أراده ابن جني الذي أفرد له بابًا في (الخصائص) عنوانه: باب في الاستحسان. وكما اختلف الفقهاء في الأخذ به اختلف النحويون أيضًا في الأخذ به على قولين؛ الأول: عدم الأخذ بالاستحسان؛ لأن في الأخذ به تركًا للقياس ومخالفة له. والثاني: جواز الأخذ به، وقد حكى القولين أبو البركات الأنباري، فقال في (لمع الأدلة): "اعلم أن العلماء اختلفوا في الأخذ به، فذهب بعضهم إلى أنه غير مأخوذ به؛ لِمَا فيه من التحكم وترك القياس، وذهب بعضهم إلى أنه مأخوذ به، واختلفوا فيه، فمنهم من قال: هو ترك قياس الأصول لدليل، ومنهم من قال: هو تخصيص العلة"، انتهى. ومعنى ما ذكره الأنباري: أن القائلين بجواز الأخذ بالاستحسان قد اختلفوا في حقيقته، فذهب بعضهم إلى أن المراد به هو أن يُترك الأصل إلى غيره لدليل، وقد ذكر الأنباري أن من أمثلة ترك قياس الأصول مذهب مَن ذهب إلى أن رافع الفعل المضارع عند تجرده من الناصب والجازم، هو حرف المضارعة الزائد في أوله، يعني: أن القائل بذلك قد ترك قياسَ الأصول؛ لأن حرف المضارعة صار جزءًا من الفعل، والأصولُ تدل على أن يكون العامل غيرَ المعمول، وألا يكون جزءًا

منه؛ لأن جزء الشيء لا يعمل فيه، وقد نسب هذا الرأي للكسائي، وقد ترك قياس الأصول لدليل اعتمد عليه، وهو ملازمة هذه الأحرف للمضارع في الأحوال الثلاثة، ولم تعمل مع عاملي النصب والجزم؛ لقوتهما عنها. وذهب بعضهم إلى أن المراد بالاستحسان تخصيص العلة، ومعنى تخصيص العلة عدم اطرادها، ومثال تخصيص العلة: ما جاء في جمع أرض جمعًا سالمًا لمذكر بالواو والنون رفعًا، والياء والنون نصبًا وجرًّا، مع أنها ليست عَلَمًا لمذكر ولا صفةً له، فقد فقدت شروط جمع المذكر السالم؛ لأنها اسم جنس جامد مؤنث، وإنما جُمِعت هذا الجمع، فقيل: أرضون، عوضًا من حذف تاء التأنيث؛ لأن الأصل أن يقال في أرض: أرضة، بالهاء الدالة على التأنيث؛ لأنها علامة لفظية، فهي أصل لتقديرها، فلما حُذِفت التاء في اللفظ مع بقاء معناها جُمعت بالواو والنون عوضًا من التاء المحذوفة. ونلحظ: أن هذه العلة غير مطردة، فالعرب قد خصصوا هذه اللفظة بجمعها جمع مذكر سالمًا، ولم يُسمع ذلك في نظائرها من كل اسم مؤنث حُذفت منه تاء التأنيث، نحو: شمس وقِدر ودار، فإن الأصل في هذه الكلمات الثلاث: شمسة وقدرة ودارة، ولا يجوز أن تجمع بالواو والنون، فلا يقال: شمسون ولا قدرون ولا دارون؛ لأن هذا الباب سَماعي يُقتصر فيه على ما ورد، ولا يتعداه إلى غيره. كما نلحظ: أن الاستحسان لا يكون إلا عن دليل؛ لأن فيه عدولًا عن القياس، ولا يعدل عن القياس إلا بدليل، ولذلك نعَى الأنباري على مَن أجاز الاستحسان بلا دليل، وذكر أن القائل بذلك لا يُلتفت إلى قوله ولا يُعول عليه، وأن ما حكي عن بعضهم من أن الاستحسان هو ما يستحسنه الإنسان من غير دليل، فليس عليه تعويل. وبعد أن عَرَضْنا مذهبي العلماء في الاستحسان نشير

مناقشة أمثلة الاستحسان التي وردت في (الاقتراح) في ضوء نص ابن جني.

إلى أن ابن جني كان ممن يأخذون به، وقد أفرد له بابًا وبين في مقدمة هذا الباب أن علة الاستسحسان ضعيفة غير مستحكِمة، يعني: أنه لما كان الاعتماد فيه على ما يقابل الجلي من القياس كان جِماع أمره أن علته ضعيفة غير محكمة، إلا أن فيه ضربًا من الاتساع والتصرف. مناقشة أمثلة الاستحسان التي وردت في (الاقتراح) في ضوء نص ابن جني إنه مع ضعف علة الاستحسان وعدم إحكامها وجدنا ابن جني قد ساق كثيرًَا من الأمثلة مستدلًّا عليها بالاستحسان، وعليه اعتمد السيوطي، فنقل في (الاقتراح) بعض هذه الأمثلة وأعرض عن بعض، كما نقل مثالًا عن صاحب (البديع). المثال الأول: تركك الأخف إلى الأثقل من غير ضرورة كقلب الياء واوًا في الأسماء، نحو قولهم: الفتوى، والبقوى -أي: الإبقاء- والتقوى، والشروى -أي: المثل- يقال: فلان لا يملك شروى نقير، أي: معدم، فإن الأصل فيها وفي نحوها أن يكون بالياء بأن يقال: فَتِي وبقي وتقي وشري؛ لأن الكلمة الأولى من فتي بالكسر: يفتَى فتًى، فهو فتي السن بَيِّنُ الفتاء، والثانية من بقي يبقَى، والثالثة من وقَى يقِي، والرابعة من شرَى الشيء يشريه. ولكن العرب قد خالفوا هذا الأصل فقلبوا الياء فيها واوًا من غير استحكام علة، أي: من غير علة قوية توجب قلب الياء واوًا؛ لأنه يمكن بقاؤها على حالها من غير مخالفة شيء من الأصول، وإنما قلبوا استحسانًا للقلب، وإيماءً للفرق بين الاسم الذي على وزن فَعلى كالأسماء المذكورة، والصفة التي على هذا الوزن، نحو: صديى مؤنث صديان، أي: عطشان، ونحو: خزيى.

وخصوا الاسم بالإعلال؛ لأنه أخف من الصفة، فكان أحمل للأثقل، وهذه علة ضعيفة وليست علة معتدة كما قال ابن جني، ووجه ضعفها وعدم اعتدادها أن الاسم شارك الصفةَ في أشياء أخرى ولم يوجب العرب على أنفسهم التفرقةَ بينهما في جميع ما اشتركَا فيه، ومما اشتركَا فيه تكسيرهما على وزن واحد، فقد قالوا في تكسير حسن وهو صفة: حِسان، كما قالوا في تكسير جبل وهو اسم لا صفة: جبال، فوزن جمع الاسم وجمع الصفة واحد، وهو فعال، وقالوا: رجل غفور، وقوم غفر، وفخور وفُخُر، كما قالوا في تكسير عمود وهو اسم عُمُد، وقالوا: جمل بازل، أي: طلع نابه، وذلك في السنة الثامنة أو التاسعة، وإبل بوازل، وشغل شاغل، وأشغال شواغل، كما قالوا في الاسم: غارب وغوارب، وكاهل وكواهل، فلم يختلف وزن الاسم عن وزن الصفة. ومعنى ذلك: أن علة الفرق بين الاسم والصفة علة ليست مطردة، فدل ذلك على أنها ضعيفة غير مستحكمة؛ لأنها لو كانت مستحكمة لاطردت في جميع المواضع، فجميع ذلك إنما هو استحسان لا عن ضرورة علة، وليس بجار مجرى رفع الفاعل ونصب المفعول، ألا ترى أنه لو كان الفرق بينهما واجبًا لَجَاء في جميع الباب كما أن رفع الفاعل ونصب المفعول منقاد في جميع الباب؟. والمثال الثاني: ما يخرج عن القياس للتنبيه على أصل الباب في نحو: استحوذ، من قوله تعالى: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ} (المجادلة: 19) وقولهم: أَغْيَلت المرأة ولدَها، أي: أرضعته الغَيْلَ، وهو اللبن الذي ترضعه المرأة ولدها وهي حامل، وأَطْوَلتَ من قول الشاعر: صددت فأطولتَ الصدودا وقلما ... وِصال على طول الصدود يدوم وقول العرب: كثرة الشراب مبْوَلة، وقولهم: هو مطيبة للنفس، وقول الراجز: فإنه أهل لأن يؤكرما

فقد وُجد في هذه الألفاظ ما يقضي بإعلالها، فيقال: استحاذ وأغالت وأطلت ومبالة ومطابة ويكرم، ولكن بقيت الواو والياء بحالهما مع قيام مقتضى الإعلال؛ استحسانًا، وتنبيهًا على أن الألف في نحو قولنا: استقام، أصله الواو، وأن الأصل: استقوم، وعلى أن أصل نحو مقامة هو مقومة، وأصل يحسن: يؤحسن، ولا يقاس هذا؛ لأنه لم تستحكم علته، وإنما خرج تنبيهًا وتصرفًا واتساعًا. والمثال الثالث: بقاء الحكم مع زوال علته، وهذا المثال نقله السيوطي عن (الخصائص) من باب عنوانه: باب في بقاء الحكم مع زوال علته، ومضمون هذا الباب: أن الأصل أن الحكم مرهون بعلته، فإن زالت العلة زال الحكم إلا أن يكون في الكلام استحسان، فتزول العلة ويبقى الحكم، وقد صدره ابن جني بقوله: "هذا موضع ربما أوهم فساد العلة، وهو مع التأمل ضد ذلك نحو قولهم فيما أنشده أبو زيد: حِمًى لا يُحل الدهر إلا بإذننا ... ولا نسأل الأقوام عقد المياثق ومعنى البيت: كنا في الزمن الذي لا يطيع الناس بعضهم بعضًا، يُرَى لنا حمًى لا يحل إلا بإذننا، وحمى في البيت مرفوع؛ لأنه قام مقام الفاعل للفعل يرى في بيت قبله، والدهر منصوب على الظرفية الزمانية"، وأوضح ابن جني أن المياثق جمع مفرده ميثاق، والأصل فيه: موثاق، وقد وقعت الواو ساكنة بعد كسرة فقلبت ياءً، فقيل: ميثاق، ويجمع على: مواثق، برد الواو إلى أصلها؛ لأن العلة التي أوجبت قلبها في المفرد قد زالت في الجمع، وهي كسر ما قبلها مع سكونها، لكن استحسن هذا الشاعر ومَن تابعه إبقاء القلب مع زوال العلة، فقال في جمعه: مياثق، بإبقاء القلب، والذي حسن بقاء القلب هو أن الجمع غالبًا تابع لمفرده إعلالًا وتصحيحًا، أي: وهذه علة استحسانية خلفت العلةَ الموجبةَ للقلب، فلأجلها بقي القلب بحاله، فلما أعل المفرد بقلب الواو ياءً وقيل: ميثاق، أعل الشاعر الجمع تبعا لمفرده؛ استحسانًا، لا عن علة قوية مستحكمة. قال ابن

مناقشة مثالين آخرين من أمثلة الاستحسان الأخرى التي وردت في (الخصائص) ولم يذكرها (الاقتراح).

جني: "وقياس تحقيره -أي: تصغيره- على هذه اللغة -أي: التي أبقت القلب بحاله مع زوال علته- أن يقال: مُيَيْثِيق". انتهى. يعني: أن يصغر على مييثيق بالياء؛ إتباعًا للمكبر وإبقاءً لما كان على ما كان. والمثال الرابع ذكره صاحب (البديع) قال: "إذا اجتمع التعريف العَلَمي والتأنيث السماعي أو العجمة في ثلاثي ساكن الوسط كهند ونوح، فالقياس منع الصرف أي: لوجود مقتضيه وهو اجتماع العلتين العلمية والتأنيث، أو العلمية والعجمة، والاستحسان الصرف لخفته"، انتهى. أي: أن صرف الممنوع من الصرف إذا كان علمًا مؤنثًا أو عجميًّا ثلاثيًّا ساكن الوسط، نحو: هند ونوح، فالقياس في هذين الاسمين ونحوهما المنع من الصرف، فيمنع الأول من الصرف للعلمية والتأنيث، ويمنع الثاني من الصرف للعلمية والعجمة، ولكن هذا القياس قد يخالَف، فيصرف هذان الاسمان ونحوهما؛ تخفيفًا، فعلة الصرف الاستحسان مع قيام علة المنع، والخفة علة للاستحسان. قيل: ظاهر كلام المصنف تساوي الوجهين في العلمين مع أن الأحسن في ذي التأنيث المنع، والوجهان متساويان أو الراجح الصرف في ذي العجمة. مناقشة مثالين آخرين من أمثلة الاستحسان الأخرى التي وردت في (الخصائص) ولم يذكرها (الاقتراح) ذكر ابن جني في كتابه (الخصائص) من أمثلة الاستحسان أمثلة، نذكر منها مثالين؛ المثال الأول: إلحاق نون التوكيد اسم الفاعل، فالأصل في نون التوكيد أن تلحق الفعل المضارع وقد لحقت اسم الفاعل في قول الراجز: أَريتَ إن جئتُ به أُمْلُودا ... مُرَجَّلا ويلبس البُرودا أقائلن: أحضروا الشهودا ... ...........................

الأملود: الأملس الناعم، والمرجل الشعر: الذي شعره بين الجعودة والسبوطة، قيل من قصة هذا الرجز: أن رجلًا من العرب أتى أَمة له فلما حملت منه جحدها، وزعم أنه لم يقربها، فقالت له هذا الرجز، تريد: أخبرني إن ولدت ولدًا مرجل الشعر، حسن الملمس كالغصن الناعم، أتقول لي: أحضري الشهود على أن هذا الولد منك؟ إنك لن تقول ذلك، وإنما ترضى بالولد، فاصبر فعسى أن أجيء بما تقر به عينك. وقد ألحق الراجز أو الراجزة نون التوكيد اسم الفاعل أقائلن؛ تشبيهًا له بالفعل المضارع، وأصله: أقائلون، فلما أُكِّد صار أقائلونن فحذفت نون الجمع لتوالي الأمثال، وحذفت الواو أيضًا؛ لاجتماعها ساكنةً مع نون التوكيد، وبقيت الضمة دليلًا عليها. قال ابن جني في (الخصائص): "فهذا استحسان لا عن قوة علة ولا عن استمرار عادةً، ألا تراك لا تقول: أقائمن يا زيدون ولا أمنطلقن يا رجال؟ إنما تقوله بحيث سمعته، وتعتذر له، وتنسبه إلى أنه استحسان منهم على ضعف منه واحتمال بالشبهة له"، انتهى. يريد ابن جني: أن المشابهة الحاصلة بين اسم الفاعل والفعل المضارع هي التي سوغت مخالفة الأصل، وأن تلحق نون التوكيد اسم الفاعل، والمشابهة ليست علة قوية مستحِكمة، بل هي علة ضعيفة، وقال الشيخ خالد في (التصريح): "ولقائل أن يقول: لا نسلم أن في قوله: أقائلن توكيدًا بالنون؛ لاحتمال أن يكون أصله: أقائل أنا، فحذفت الهمزة اعتباطًا، ثم أدغم التنوين في نون أنا على حد قوله تعالى: {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} (الكهف: 38) قاله الدماميني، وقال غيره: نُقلت حركة الهمزة إلى التنوين قبلها ثم حذفت الهمزة، ثم أدغم التنوين في نون نا والأول قصر المسافة"، وتابع الشيخ خالد حديثه. فذكر أن كلا التقديرين معترض عليه من وجهين:

أحدهما: أنه يعتبر في المقيس أن يكون على وزن المقيس عليه، وهنا ليس كذلك؛ لأن الألف الثانية في المقيس عليه -يعني: {لَكِنَّا} في آية الكهف- مذكورة، وفي المقيس -يعني: أقائلن- محذوفة. والثاني: أن هذا الاحتمال إنما يتمشى حيث كان المعنى: أقائل أنا على التكلم، أما إذا كان المعنى على الخطاب كما تعطيه السوابق واللواحق فلا. والمثال الثاني: قلبهم الواو ياء من غير استيفاء شروط هذا القلب، قال ابن جني: "ومن الاستحسان قولهم: صِبية وقِنية وعِذي وبِلْي سفر، وناقة عِليان، ودَبَّة مِهيار، فهذا كله استحسان لا عن استحكام علة". يريد ابن جني أن يقول: إن العرب قد أعلوا الواوَ بقلبها ياءً في الكلمات السابقة ونحوها من غير استيفاء شرط هذا الإعلال، فقد شرط الصرفيون لقلب الواو ياءً هنا أن تكون الواو متطرفة حقيقة أو حكمًا إثر كسرة، سواء أكانت في اسم كالداعي والغازي اسمي فاعل من الدعوة والغزوة، أم في فعل مبني للفاعل كرضي من الرضوان، وقوي من القوة، أو مبني للمفعول كدُعِي وعفي من الدعوة والعفو، وسواء أكان التطرف حقيقيًّا -كما تقدم- أم حكميًّا كما في نحو شَجْيَة، وهي صفة مشبهة لمؤنث من الشجو، وهو الحزن، وأكسية في جمع كساء من الكسوة، وغازية اسم فاعلة من الغزو، فإن التاء سواء أكانت للتأنيث أم بُنيت الكلمة عليها تعد في تقدير الانفصال. وقد شذ من ذلك نوعان: أحدهما: نوع صحح ولم تعل فيه الواو بقلبها ياء مع استيفاء شرطي الإعلال، كقولهم في جمع كلمة سواء -بفتح السين المهملة والمد بمعنى مستو: سَواسِوَة، يقال: الناس سواسوة في هذا الأمر، أي: مستوون فيه، وقالوا أيضًا: سواسية على الأصل والقياس، وكقولهم: مَقاتِوَة -بقاف وتاء مثناة فوق- بمعنى خُدام

في جمع مُقْتَو، اسم فاعل من القَتْو، وهو الخدمة، أصله مُقْتَوِو، قُلبت الواو الثانية ياءً؛ لتطرفها إثر كسرة، ثم أعل إعلال قاض، فقالوا في الجمع: مقاتوة. وقال عمرو بن كلثوم مخاطبًا عمروَ بنَ هند ملك الحيرة في الجاهلية: بأي مشيئة عمرو بن هند ... تطيع بنا الوشاة وتزدرينا بأي مشيئة عمرو بن هند ... نكون لقيلكم فيها قطينا تهددنا وأوعِدنا رويدًا ... متى كنا لأهلك مقتوينا؟ تزدرينا أي: تحتقرنا، والقَيْل: الحاكم الذي وليتموه علينا، وقطينا أي: رعايا وخدمًا، والفعلان اللذان في أول البيت الثالث جاءا بصيغة الأمر: تَهَدَّدْنا وأوعدنا، للتهديد والسخرية، والشاهد في قوله: "متى كنا لأهلك مقتوينا" أي: متى كنا لأهلك خدمًا. والنوع الثاني الذي حكم عليه الصرفيون بالشذوذ نوع أُعلت فيه الواو بقلبها ياء من غير أن تستوفي الشرط الثاني من شرطي هذا الإعلال، كالأمثلة التي أوردها ابن جني فيما تقدم، فقد أعلت الواو فيها بقلبها واوًا وهي وإن كانت الواو فيها متطرفة حقيقة أو حكمًا، ليست إثر كسرة، وقد ذكر ابن جني أن هذا المسموع عن العرب إنما خُولِف فيه القياس؛ استحسانًا لا عن استحكام علة، وفَصَّل القول في بيان ذلك فقال: "وذلك أنهم لم يعتدوا الساكن حائلًا بين الكسرة والواو لضعفه، وكله من الواو". يعني ابن جني أن العرب اعتبروا لام هذه الكلمات وهي الواو -كما سيبين لاحقًا- في حكم المتطرفة؛ لأنها وإن لم تكن طرفًا حقيقةً فهي طرف حُكمًا، إذ الحاجز بين الواو والكسرة حرف ساكن، والحرف الساكن حاجز غير حصين، فعدوه في حكم غير الموجود. ونتابع تفصيل الأمر مع ابن جني، حيث يقول: "وذلك أن قِنْيَة من قَنَوْت، ولم يثبت أصحابنا قنيت"، يعني: أن لفظ قنية -بكسر فسكون- ومعناها: ما يتخذه

الإنسان من الغنم وغيرها لنفسه لا للتجارة، واوية اللام عند أصحابه البصريين، أي: وعلى رأسهم سيبويه الذي يقول في (الكتاب): "وقالوا: قنية للكسرة، وبينهما حرف، والأصل: قنوة، فكيف إذا لم يكن بينهما شيء؟ ". انتهى. وابن جني يعني بالبغداديين هنا الكوفيين، قال ابن منظور في (لسان العرب) مادة قنا: "القِنوة والقُنوة والقِنية والقُنية: الكِسْبة، قلبوا فيه الواو ياءً للكسرة القريبة منها، وأما قُنية فأقرت الياء بحالها التي كانت عليها في لغة ما انكسر، هذا قول البصريين. وأما الكوفيون فجعلوا: قنيت وقنوت لغتين"، انتهى. وساق ابن جني بعض الكلمات الأخرى التي من قبيل قنية، ومن ذلك قوله: "وصبية من صبوت، وعِلية من علوت، وعذي من قولهم: أرضون عَذَوات، وبلي سفر من قولهم في معناه: بِلو أيضًا، ومنه البلوى، وإن لم يكن فيها دليل، إلا أن الواو مطردة في هذا الأصل، قال: فأبلاهما خير البلاء الذي يبلو ... ........... وهو راجع إلى معنى بلو سفر، وقالوا: فلان مبلو بمحنة، وغير ذلك، والأمر واضح، وناقة عليان من علوت أيضًا". انتهى. يريد ابن جني أن لفظ صبية أصله صِبوة، فهو واوي اللام، وقد حدث فيه ما حدث في نظائره من الكلمات المذكورة ونحوها، وفي (لسان العرب) مادة صبا: "الصبوة: جهلة الفتوة واللهو من الغزل، ومنه: التصابي والصبا، صبَا صَبوًا وصُبوًّا وصبًى وصباءً، والصبوة جمع صبي، والصبية لغة، والمصدر الصبا، والصبي: من لدن يولد إلى أن يفطم، والجمع: أصبية، وصبوة، وصِبية، وصَبية، وصِبوان، وصُبوان، وصبيان، قلبوا الواو فيها ياءً للكسرة التي قبلها، ولم يعتدوا بالساكن حاجزًا حصينًا؛ لضعفه بالسكون، وقد يجوز أن يكونوا آثروا الياء لخفتها، وأنهم لم يراعوا قرب الكسرة، والأول أحسن، وأما قول بعضهم: صُبيان -بضم الصاد

مع الياء- ففيه من النظر، أنه ضم الصاد بعد أن قلبت الواو ياء في لغة ما انكسر، فقال: صُبيان، فلما قلبت الواو ياء للكسرة وضمت الصاد بعد ذلك، أُقرت الياء بحالها التي هي عليها في لغة ما انكسر". انتهى. فابن منظور في (لسان العرب) يرى أن قلبهم الواو ياء في صبية لإحدى عِلتين؛ إما مراعاة للكسرة قبلها والحاجز غير حصين، وإما إيثارًا للياء؛ طلبًا للخفة دون مراعاة لقرب الكسرة، وأن أقوى السببين الأول، لا طلب الخفة، وابن منظور مسبوق فيما ذكره من أن القلب لإحدى السببين بما قاله ابن جني، فقد أشار ابن جني في حديث مفصل إلى أن القلب هنا قد يكون لهذه العلة أو لتلك، وذكر العلتين اللتين أوردهما ابن منظور، المتوفى سنة إحدى عشرة وسبعمائة من الهجرة، أي: بعد وفاة ابن جني بأكثر من ثلاثة قرون، ولكن ابن جني ذكر أن القلب مع الكسرة لم يكن له قوة في القياس في حديث: قنية وصبيان وصبية في إقرار الياء بحالها مع زوال الكسرة في صُبيان وقُنية، وإنما كان مجنوحًا به إلى الاستخفاف، وذلك أن الكسرة لم تل الواو، ألا ترى أن بينهما حاجزًا وإن كان ساكنًا؟ فإن مثله في أكثر اللغة يحجز، وذلك نحو: جِرْو وعلو وصنو وقنو ومِجول ومِقول، وهذا كثير فاش، فلما أعلوا في صبية وبابه، عُلم أن أقوى سببي القلب إنما هو طلب الاستخفاف لا متابعة الكسر مضطرًّا إلى الإعلال. وحديث ابن جني هنا كعادته في سائر أحاديثه، إنه حديث النقل والعقل معًا، فهو لم يكتفِ بإيراد النظائر الدالة على زوال أثر الكسرة مع الحاجز الساكن من واقع المسموع عن العرب، كجرو ونحوه، بل ذكر أن باب صبية وعِلية أقر حكمه مع زوال الكسرة عنه؛ اعتذارًا في ذلك بأن القلب فيه لم يكن عن وجوب فيزال عنه لزوال ما دعا إليه، وإنما كان استحسانًا، فليكن مع زوال الكسر أيضًا استحسانًا، أي: طلبًا للخفة.

ومن واوي اللام أيضًا عِلية من نحو قولهم: فلان من عِلية القوم، أي: عالي القدر، رفيع المنزلة، ومن ذلك قولهم: ناقة عليان، أي: ضخمة طويلة جسيمة، وأصله: علوان؛ لأنه أيضًا من: علوت، ومنه أيضًا: عِذي، من قولهم: أرضون عَذَوات، وهي الأرض الطيبة التربة، الكريمة المنبت، وبلي من قولهم: ناقة بلي، أي: أبلاها وأتعبها وأضناها السفر، وذكر ابن جني أنه يقال في معناها كذلك: بلو، أي: من غير قلب الواو ياء مع الكسرة، ومن ذلك البلوى، إلا أن البلوى يحتمل أن تكون الواو فيها بدلًا من الياء كالفتوى والتقوى، وأن يكون أصلها البَلْي، فأبدلت الياء واوًا من باب ترك الأخف إلى الأثقل من غير ضرورة كما قيل في الفتوى والتقوى ونحوهما، وأن تكون واوية اللام، وهو الاحتمال الأقوى؛ لاطراد الواو في هذا الأصل، وعليه قول زُهير: جزى الله بالإحسان ما فعلَا بكم ... وأبلاهما خيرَ البلاء الذي يبلو أي: صنع الله بهما خير الصنيع الذي يبلو به عباده، والشاهد في قوله: "يبلو" فهو مضارع بلا، من قولهم: بلوت الرجلَ، وأبلاه الله بلاءً حسنًا، من الإبلاء، وهو الإنعام والإحسان، والبلاء الاسم، ممدود، ومن هنا فليس في لفظ البلوى دليل قاطع على أنه واوي اللام. فإذا انتقلنا من ابن جني وذهبنا إلى الزمخشري، وجدناه في كتابه (المفصل) يذكر أن إبدال الواو ياء في نحو صبية وعليان، غير مطرد. ويقول شارحه ابن يعيش في شرحه عليه: "وقد أبدلوا الياء من الواو إذا وقعت الكسرة قبل الواو وإن تراخت عنها بحرف ساكن؛ لأن الساكن لضعفه ليس

حاجزًا قويًّا، فلم يعتد حاجزًا، فصارت الكسرة كأنها باشرت الواو، ومن ذلك قولهم: صبية وصِبيان، والأصل: صبوة وصبوان؛ لأنه من: صبوتُ أصبو، فقلبت الواو ياءً لكسر الصاد قبلها، ولم تفصل الباء بينهما؛ لضعفها بالسكون، وربما قالوا: صِبوان، فأخرجوها على الأصل -أي: بالواو- وقد قال بعضهم: صُبيان، بضم الصاد مع الياء، وذلك أنه ضم الصاد بعد أن قلبت الواو ياءً في لغة ما انكسر، فأقرت الياء على حالها وقالوا: ناقة بِلو أسفار، وبلي أسفار، وهو من: بلوت، وقالوا: ناقة عليان وعليانة، أي: طويلة جسيمة، فهو من: علوت، فقلبوا الواو ياء؛ لما ذكرناه من الكسرة قبلها، ولم يعتدوا بالساكن بينهما؛ لضعفه". انتهى ما قاله ابن يعيش. ومن الواضح تأثر ابن يعيش بكلام ابن جني إلى حد بعيد. هذا والله ولي التوفيق، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 15 بعض مباحث التعارض والترجيح.

الدرس: 15 بعض مباحث التعارض والترجيح.

المراد بالتعارض والترجيح.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الخامس عشر (بعض مباحث التعارض والترجيح) المراد بالتعارض والترجيح الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومَن والاه؛ أما بعد: إن التعارض والترجيح مصطلحان من مصطلحات أصول الفقه، ولم يذكر السيوطي في كتابه (الاقتراح) التعريف بهما. والتعارض في اللغة: مصدر الفعل تعارض، إذ يقال: تعارض الشيئان: إذا عارض كل منهما الآخرَ وقابله، وفي نسخة أخرى: التعادل، بدل التعارض، أي: التوازن في الأدلة. ويعرفه علماء أصول الفقه: بأنه تقابل الدليلين المتساويين على سبيل التمانع، بمعنى: أن يقتضي كل دليل منهما حكمًا يخالف ما يقتضيه الدليل الآخر، والترجيح في اللغة: هو مصدر الفعل رجَّحَ، ويعرفه الأصوليون: بأنه إظهار زيادة أحد المتماثلين على الآخر، بمعنى: أن يكون في أحد الدليلين المتماثلين زيادة ترجح ما يقتضيه هذا الدليل على ما يقتضيه الدليل الآخر. والمراد به عند النحاة: وقوع الرجحان بين الأدلة المتعارضة، وحديث علماء أصول النحو عن التعارض والترجيح أثرٌ من آثار أصول الفقه؛ لأن الأصوليين من الفقهاء قد عُنوا بالترجيح بين الأدلة التي يظن بينها التعارض، كما عني الأصوليون من النحاة بالترجيح بين الأدلة المتعارضة في النحو. غير أن هناك فرقًا بين التعارض في أدلة الشرع والتعارض في أدلة النحو، إذ ليس هناك تعارض حقيقي بين الأدلة الشرعية؛ لأن التعارض بين الأدلة الشرعية -كما يقول أحد المعاصرين- جمع بين متناقضين، وهو محال على الشارع الحكيم المحيط علمه بكل شيء؛ لأنه أَمارة العجز -تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا- وإنما المراد التعارض الظاهري في نظر المجتهد المستنبط للأحكام من أدلتها قبل معرفة

الناسخ والمنسوخ من الدليل، أو قبل أن يظهر له رجحان أحدهما على الآخر، أو إمكان الجمع بينهما، فهو يحكم في بادئ الأمر بالتعارض قبل البحث، وبعد بحثه وتأمله يزول هذا التعارض. أما أدلة النحو فيجوز أن يوجد بينها تعارض حقيقي، فنجد أن أحد الأدلة يثبت حكمًا وينفيه الآخر، وحينئذٍ يكون الترجيح بين الأدلة المتعارضة، وإذا عرفنا أن مبحث التعارض والترجيح منقول من أصول الفقه إلى أصول النحو مع الفارق الذي بيناه؛ فإننا نشير إلى أن ابن جني قد أفرد في كتابه (الخصائص) بابًا عنوانه: باب في تعارض السماع والقياس، كما أشار في الجزء الثاني إلى تحكيم القياس في الترجيح بين السماعين إذا تعارضَا. وعقَدَ الأنباري في كتابه (الإغراب في جدل الإعراب) فصلًا عنوانه: في ترجيح الأدلة، كما عقد في كتابه (لمع الأدلة) ثلاثة فصول أولها في المعارضة، وثانيها في معارضة النقل بالنقل، وثالثها في معارضة القياس بالقياس. ثم جاء السيوطي فجمع ما ذكره ابن جني وما ذكره الأنباري، وزاد عليهما فصولًا، فجعل التعارض والترجيح في ست عشرة مسألةً. وبتأمل هذه المسائل التي ذكرها السيوطي في (الاقتراح) نلحظ أن بعض هذه المسائل يندرج تحت تعارض الأدلة النحوية، وذلك مثل التعارض بين سماعين، وأيضًا مثل التعارض بين قياسين، والتعارض بين السماع والقياس، فهذه المسائل تتناول التعارضَ بين أدلة النحو وأصوله، إذ إن السماع والقياس من أدلة النحو الغالبة، كما أن بعض هذه المسائل ليس من تعارض الأدلة النحوية كالتعارض بين ارتكاب ضعيف وارتكاب لغة شاذة، وتعارض القولين لعالم واحد، وما رجحت به لغة قريش على غيرها من لغات العرب، والترجيح بين البصريين والكوفيين وغيرها. فهذه المسائل ليست من تعارض الأدلة.

حكم تعارض نقلين.

حكم تعارض نقلين إن التعارض بين نقلين هو المسألة الأولى من مسائل التعارض والترجيح في (الاقتراح) وقد استقى السيوطي مادة هذه المسألة من (لمع الأدلة) الفصل السابع والعشرين، والمراد به أن يدل دليل من السماع على حكم ويدل دليل آخر على خلافه. قال الأنباري: "اعلم، أنه إذا تعارض نقلان أُخِذَ بأرجحهما، والترجيح يكون في شيئين؛ أحدهما: الإسناد، والآخر: المتن. فأما الترجيح في الإسناد: فأن يكون رواة أحدهما أكثر من الآخر، أو أعلم، أو أحفظ"، وذكر مثالًا لذلك. ثم قال: "وأما الترجيح في المتن فأن يكون أحد النقلين على وفق القياس، والآخر على خلاف القياس"، وذكر مثالًا لذلك أيضًا. ومعنى ما ذكره الأنباري ونقله السيوطي عنه: أنه قد يرد في كلام العرب دليل نقلي يدل على حكم من الأحكام النحوية، ثم يرد دليل آخر يقتضي خلافَ ما دل عليه الدليل الأول، وإذا وقع مثل ذلك أُخِذَ بأرجحهما؛ لأن الأرجحية من مرجحات الأدلة ومقوية لبعض النقول على بعض. وهناك سبيلان للترجيح بين هذين الدليلين المتعارضين؛ أحدهما: أن يكون الترجيح بالإسناد، والآخر: أن يكون الترجيح بالمتن، ومعنى الترجيح بالإسناد: أن يكون رواة أحد الدليلين أكثرَ أو أعلمَ أو أحفظَ من رواة الدليل الآخر، فيكون الدليل الذي كثر رواتُه أو سَلِموا من الطعن أولى بالقبول من الدليل الذي قَلَّ رواتُه أو لم يسلموا من الطعن فيهم. ومثال الدليلين المتعارضين اللذين رجَّحَ الإسناد أحدهما وضعف الآخر، قول الشاعر عَدي بن زيد العِبادي: اسمع حديثًا كما يومًا تحدثه ... عن ظهر غيب إذا ما سائل سأل

فقد روي قوله: "تحدثه" بروايتين: الرفع تحدثُه، والنصب: تحدثَه، فاستدل الكوفيون برواية النصب على أن كما تأتي بمعنى كيما ويكون المضارع بعدها منصوبًا، وذهب البصريون إلى أن كما لا تكون بمعنى كيما ولا يجوز نصب المضارع بعدها، وحجتهم في ذلك: أن رواية النصب في "تحدثه" لم يذكرها إلا المفضل بن سلمة بن عاصم أبو طالب الضبي النحوي اللغوي الكوفي، المتوفى نحو سنة تسعين بعد المائتين من الهجرة، فقد ذكر رواية النصب وحده، أي: هو الذي ذكر البيت برواية "تحدثَه" وله -أي: للمفضل هذا- اختيارات اختار المحققون خلافها، وقد أجمع الرواة من البصريين والكوفيين على رواية الرفع، فلما كان رواة الرفع أكثر وأعلم وأحفظَ كانت روايتهم راجحةً على رواية النصب، وبذلك يكون الإسناد هو الذي رجَّح أحدَ النقلين على الآخر. ومعنى الترجيح بالمتن: أن يكون أحد النقلين موافقًا للقياس ويكون النقل الآخر مخالفًا له، فيكون الدليل الذي جاء موافقًا للقياس أولى بالقبول وأحق، كما يكون أولى بالترجيح، ومثاله قول الشاعر طرفة بن العبد: ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى ... وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي قوله: "أيهذا الزاجري"، أي منادى بإسقاط حرف النداء، والتقدير: يا أيها، وها: للتنبيه، وقد ذكرت وصلة كما هو معروف، والإشارة نعت لأي، والزاجري: أي: الذي يزجرني ويمنعني ويكفني، وهو نعت لاسم الإشارة، والوغى: الحرب، وقوله: "هل أنت مخلد" معناه: هل تضمن لي البقاء والخلود إذا أحجمتُ عن القتال ومنازلة الأقران؟. وقد روي قوله: "أحضر" بروايتين: الرفع "ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى"، وبالنصب: "ألا أيهذا الزاجري أحضرَ الوغى". واستدل الكوفيون برواية النصب

على أن الأصل أن أحضرَ فدل على جواز إعمال أنْ محذوفةً في غير مواضع حذفها المقررة في علم العربية، ومنع ذلك البصريون، إذ إِنَّ أَنْ لا يجوز إعمالها عندهم محذوفةً في غير مواضع حذفها، وردوا قول الكوفيين بقولهم: إن رواية الرفع جاءت موافقةً للقياس، ووجه موافقتها له -أي: للقياس- أن أنْ من عوامل الفعل المضارع وهي ضعيفة، فينبغي ألا تعمل من غير عوض، ويدل على ضعفها أن من العرب من يهملها مظهرةً، ويرفع ما بعدها؛ تشبيهًا لها بما المصدرية كما جاء في قراءة ابن محيصن -وهو أحد القراء الأربعة فوق العشرة- كما جاء قوله تعالى: "لِمَنْ أرادَ أنْ يُتمُّ الرضاعةَ" (البقرة: 233) برفع الفعل المضارع "يتم". ولما كانت أنْ ضعيفة عن العمل كان القياس ألا تعمل وهي محذوفة، وعلى القياس جاءت رواية الرفع في قول طرفة: "أحضرُ الوغى" ولذلك كانت رواية الرفع أولى وأرجح من رواية النصب في البيت المذكور. ونلحظ على مثال الترجيح في المتن: أن السيوطي قد نقله من (لمع الأدلة) لأبي البركات الأنباري، وقد سبق إلى الترجيح بالمتن ابن جني في كتابه (الخصائص) إذ ذكر أن القياس يكون حَكَمًا بين النقلين المتعارضين، وذلك في مسألة تقديم التمييز على عامله المتصرف، فقد اختلف النحويون في حكم تقديم التمييز على عامله المتصرف، فذهب فريق من النحويين إلى جوازه وعلى رأس هذا الفريق الكسائي والمازني والمبرد وابن مالك؛ قياسًا على سائر الفضلات المنصوبة بفعل متصرف، ولصحة وروده في الكلام الفصيح بالنقل الصحيح، كما قال ابن مالك في شرح (التسهيل) وغيره. وجعله في نظم (الألفية) قليلًا، فقال: وعامل التمييز قدِم مطلقًا ... والفعل ذو التصريف نزرًا سُبِقَا فأجاز هذا الفريق -أعني: الكسائي ومن معه- أن يقال -مثلًا: عَرَقًا تصببتُ، مستدلين بقول الشاعر:

أتهجر ليلَى بالفراق حبيبها ... وما كان نفسًا بالفراق تطيبُ فقد روي البيت بنصب "نفسًا" على التمييز، فتقدم التمييز "نفسًا" على عامله المتصرف "تطيب". ومنع فريق من النحويين أن يتقدم التمييز، وذكروا أن هذه الرواية تقابلها رواية أخرى وهي "وما كان نفسي بالفراق تطيب"، برفع "نفسي"؛ لأنها اسم كان، و"تطيب" خبرها، كأنه قال: وما كان نفسي طيبةً، فتَعَارَض نقلان، وقد منع سيبويه والجمهور تقديم التمييز على عامله المتصرف، وتبع ابن جني مذهب سيبويه والجمهور، ورجح روايةَ الرفع على رواية النصب، وكان القياس هو المرجح؛ لأن التمييز فاعل في المعنى، ولا يجوز تقديم الفاعل على الفعل، فكذلك التمييز. قال ابن جني -رحمه الله: "ومما يَقْبُحُ تقديمه الاسم المميِز وإن كان ناصبه فعلًا متصرفًا، فلا نجيز: شحمًا تفقأتُ، ولا عَرَقًا تصببتُ، فأما ما أنشده أبو عثمان وتلاه فيه أبو العباس من قول المخبل: أتهجر ليلى بالفراق حبيبها ... وما كان نفسًا بالفراق تطيبُ فتقابله برواية الزجاجي وإسماعيل بن نصر وأبي إسحاق أيضًا: وما كان نفسي بالفراق تطيب، فرواية برواية، والقياس من بعد حاكِم". وأوضح ابن جني أن التمييز في البيت المذكور في الأصل هو الفاعل في المعنى، فأصل الكلام: تصبب عرقي، وتفقأ شحمي، ثم حُوِّل الإسناد عن الفاعل الواقع مضافًا إلى ياء المتكلم إلى المضاف إليه، أي: إلى ياء المتكلم، فحولت إلى ضمير رفع؛ لوقوعها فاعلًا، فحصل في الإسناد إلى هذا الضمير إبهام، فجِيء بالمضاف الذي كان فاعلًا وجعل تمييزًا، ويقال عنه: إنه تمييز محول عن الفاعل، فكما لا يجوز تقديم الفاعل على الفعل، فكذلك لا يجوز تقديم المميِز، إذ كان هو الفاعل في المعنى على الفعل.

حكم ترجيح لغة على أخرى.

حكم ترجيح لغة على أخرى لقد أفرد ابن جني بابًا في كتابه (الخصائص) عنوانه: باب اختلاف اللغات وكلها حجة، وعليه عول السيوطي في هذه المسألة، فقد أجاز ابن جني فيه الاحتجاج بجميع لغات العرب، وليس المراد جميع ما نطقت العرب به، بل المراد باللغات لغات القبائل التي يؤخذ عنها ويعتد بفصاحتها، إذ إن علماء العربية لم يأخذوا عن جميع القبائل وإنما أخذوا عن بعضها وأعرضوا عن بعض، فأخذوا عن القبائل التي سلم أهلها من الاختلاط بالأعاجم، وأعرضوا عن القبائل التي لم تسلم من ذلك، فتسرب إلى ألسنتهم اللحن والخطأ في البنية أو التركيب. وقد قال ابن جني: "باب اختلاف اللغات وكلها حجة، اعلم أن سعة القياس تبيح لهم ذلك ولا تحظره عليهم، ألا ترى أن لغة التميميين في ترك إعمال "ما" يقبلها القياس، ولغة الحجازيين في إعمالها كذلك؛ لأن لكل واحد من القومين ضربًا من القياس يؤخذ به، ويخلد إلى مثله، وليس لك أن ترد إحدى اللغتين بصاحبتها؛ لأنها ليست أحق بذلك من رسيلتها، لكن غاية ما لك في ذلك أن تتخير إحداهما، فتقويها على أختها، وتعتقد أن أقوى القياسين أقبل لها وأشد أنسًا بها، فأما رد إحداهما بالأخرى فلا، أَوَ لا ترى إلى قول النبي -صلى الله عليه وسلم: ((نزَلَ القرآن بسبع لغات كلها كافٍ شافٍ)) ". انتهى. ونلحظ في كلام ابن جني: أن له عناية واضحة بالقياس، وقد تجلت هذه العناية في أمرين: أحدهما: أنه قد جعل اللغات على اختلافها حجة إذا كانت هذه اللغات موافقة للقياس، فإن كانت إحداها مخالفة له فهي لغة مردودة مرغوب عنها. والآخر: أنه قد أوجب على المتكلم أن يختار إحدى اللغتين، وهو معتقد أنه الأقوى قياسًا وأن

يترك الأخذ بالأخرى وهو معتقد أنها الأضعف من جهة القياس. كما نلحظ أن ابن جني يرفض رد إحدى اللغتين بصاحبتها؛ لأنهما متساويتان في قبول القياس لهما، ولذلك قال: "فأما رد إحداهما بالأخرى فلا". وقوله: "غاية ما لك في ذلك أن تتخير إحداهما" معناه: أن الواجب على المتكلم إذا وجد لغتين يقبلهما القياسُ أن يتخير إحدى اللغتين؛ لعدم إمكان الأخذ بهما معًا، إذ لا يمكن الجمع بين لغتين في وقت واحد، وضرب ابن جني لذلك مثلًا وهو إعمال ما وإهمالها، فإن للعرب لغتين في ذلك؛ الأولى: إعمالها عمل ليس وهي لغة الحجازيين، والثانية: إهمالها وهي لغة التميميين، والقياس يقبل اللغتين ولا يرد واحدة منهما. ومما تقدم نلحظ: أن اللغتين يقبلهما القياس فيجب قبولهما ولا يجوز رد واحدة منهما، وإنما نقدم إحداهما على الأخرى مع الاعتقاد بصحة الأخرى، وفصاحتها، واللغة المقدمة من هاتين اللغتين هي لغة الحجازيين في إعمال ما عمل ليس؛ لأنها اللغة التي بها نزل القرآن الكريم، إذ يقول الله تعالى: {مَا هَذَا بَشَرًا} (يوسف: 31) وقد كثر استعمالها كثرة ظاهرة، ولا يجوز رد لغة التميميين؛ لأن هاتين اللغتين لغتان متساويتان في القياس، فليست إحداهما أحق من الأخرى. أما إذا تباعدت اللغتان فكانت إحداهما كثيرة جدًّا وكانت الأخرى قليلة جدًّا، فلا يجوز القياس على اللغة القليلة، وإنما يقتصر فيها على المسموع ولا يتجاوز، وقد ذكر ابن جني أنه إن قَلت إحدى اللغتين جدًّا وكثرت الأخرى جدًّا، أخذتَ بأوسعهما روايةً وأقواهما قياسًا، ألا ترى أنك لا تقول: مررت بَك، ولا المال لِكَ؛ قياسًا على قول قُضاعة: المال لِه ومررت بَه، ولا تقول: أكرمتكش ولا أكرمتكس؛ قياسًا على لغة من قال: مررت بكش، وعجبت منكس، انتهى.

ومعنى ما ذكره ابن جني: أن كسر كاف المخاطب لا يجوز؛ قياسًا على كسر الهاء، كما لا يجوز زيادة الشين أو السين بعد كاف الخطاب المنصوبة؛ قياسًا على مَن ألحقها بالمجرورة. فمثل هذا لا قياس عليه، بل يقتصر فيه على المسموع ولا يتجاوَز. ثم ذكر ابن جني أن استعمال هذه اللغات الضعيفة لا يعد خطأ، وإن كان الواجب على المتكلم أن يقل استعماله لها، وأن يتخير ما هو أقوى وأشيع، أي: ما هو أقوى في القياس، وأشيع في الاستعمال، فإن تكلم باللغة القليلة فإنه مصيب في الجملة؛ لعدم خروجه عن كلام العرب بالكلية، كما أن المتكلم إذا اضطر إلى استعمال شيء من ذلك لإقامة وزن أو لمراعاة سجع في كلامه، فإن له أن يرتكب ذلك بلا لوم ولا نسبة خطأ ولا إنكار عليه. وقد ذكر ابن جني في ذلك: أنه إذا كان الأمر في اللغة المعول عليها هكذا وعلى هذا، فيجب أن يقل استعمالها، وأن يتخير ما هو أقوى وأشيع منها، إلا أن إنسانًا لو استعملها لم يكن مخطئًا لكلام العرب، لكنه يكون مخطئًا لأجود اللغتين، فأما إن احتاج إلى ذلك في شعر أو سجع فإنه مقبول منه غير منعي عليه، وكذلك إن قال يقول على قياس من لغته كذا وكذا، ويقول على مذهب من قال كذا وكذا، وكيف تصرفت الحال، فالناطق على قياس لغة من لغات العرب مصيب غير مخطئ وإن كان غير ما جاء به خيرًا منه. انتهى. وقد ختم السيوطي هذه المسألة بقول أبي حيان في شرح (التسهيل): "كل ما كان لغةً لقبيلة قِيس عليه"، انتهى. وليس هذا الكلام على إطلاقه؛ لأن إبدال اللام ميمًا لا يقاس عليه لقلته، فوجب التفصيل بين ما كان لغة قليلة وما كان لغة كثيرة، أما اللغة القليلة فلا يقاس عليها، وأما اللغة التي تكثر في كلام العرب فإنه يجوز القياس عليها.

اللغة الضعيفة أولى من الشاذ.

اللغة الضعيفة أولى من الشاذ لقد ذكر ابن عصفور فيما نقله السيوطي عنه أنه إذا تعارض ارتكاب شاذ ولغة ضعيفة، فارتكاب اللغة الضعيفة أولى من ارتكاب الشاذ، ومعنى ما ذكره ابن عصفور: أنه إذا دار أمر المتكلم بين أن يتكلم بلغة ضعيفة أو بكلام شاذ، فإن التكلم باللغة الضعيفة أولى من ارتكابه الشاذ؛ لأن هذه اللغة على ضعفها مروية عن بعض العرب، وكل لغة تمثل حقلًا لغويًّا لا يصح إهداره أو الحيف عليه، وليس كذلك الشاذ، فاللغة الضعيفة إنما قُدِّمت على الشاذ؛ لأن اللغة الضعيفة مجمع على أن طائفة من العرب قد نطقت بها وإن كانت ضعيفة؛ ولأن الأصل في الشاذ أن يحفظ ولا يقاس عليه، فلا يجوز أن تبنى عليه القواعد، والمراد بالشاذ هنا المردود كتتميم مفعول فيما عينه واو نحو قول بعضهم: ثوب مصوون، ومِسك مَدْوُوف، أي: مخلوط أو مبلول، وفرس مقوود، ورجل مَعْوود من مرضه. الأخذ بأرجح القياسين عند تعارضهما إن التعارض بين قياسين صورة من صور التعارض بين الأدلة، وقد أفرد الأنباري في كتابه (لمع الأدلة) فصلًا عنوانه: في معارضة القياس بالقياس، وعنه نقل السيوطي هذه المسألة، وقد ذكر الأنباري في مقدمة هذا الفصل: أنه قد يقع التعارض بين قياسين؛ فأحدهما يثبت حكمًا، والآخر يثبت حكمًا آخرَ، وإذا وقع التعارض بين القياسين رُجِّح أحدهما على الآخر. وقد ذكر الأنباري أن هناك طريقين يرجح بهما بين القياسين المتعارضين، فقال: "اعلم أن القياسين إذا

تعارضا أخذ بأرجحهما، وهو أن يكون أحدهما موافقًا لدليل آخر من طريق النقل أو طريق القياس". ومعنى ما ذكره الأنباري: أن السماع -وهو الذي يعبر عنه الأنباري باسم النقل- قد يُرجح قياسًا على قياس، كما أن موافقة القياس قد ترجح أحدهما على الآخر، ولم يذكر الأنباري مثالًا رجح فيه السماع أحد القياسين، وإنما اكتفى بقوله: "فأما الموافقة من طريق النقل، فنحو ما قدمناه في الفصل الذي قبله". انتهى. والمراد بالفصل الذي قبله: فصل معارضة النقل بالنقل. ومما سبق نقول: إن الأنباري لم يذكر في (لمع الأدلة) كما لم يذكر السيوطي في (الاقتراح) مثالًا تعارض فيه قياسان، وكان السماع مرجحًا أحدهما على الآخر، وقد ذكر الأنباري مثالًا لترجيح السماع بين القياسين المتعارضين، وذلك في كتابه (الإنصاف) إذ أفرد في هذا الكتاب مسألةً لعامل النصب في خبر ما النافية. فقد ذهب الكوفيون إلى أن ما الحجازية لا تعمل النصب في الخبر، وإلى أن الخبر منصوب بنزع الخافض، واحتجوا لمذهبهم بالقياس فقالوا: إن القياس في ما ألا تعمل؛ لأن الحرف إنما يكون عاملًا إذا كان مختصًّا و"ما" غير مختص، فالأصل فيه ألا يعمل، ولذلك أهملها بنو تميم، وأعملها الحجازيون؛ لأنهم شبهوها بـ: ليس من جهة المعنى، وهو شبه ضعيف، فلم يقوَ على العمل في الخبر كما عملت ليس. وذهب البصريون إلى أن "ما" هي التي تنصب الخبر واحتجوا بالقياس، فذكروا أن الدليل على صحة مذهبهم، هو أن ما أشبهت ليس فوجب أن تعمل عملها، وعمل ليس الرفع والنصب، أي: رفع الاسم ونصب الخبر، ويقوي الشبهَ بين ما وليس دخول الباء في خبر ما كما تدخل في خبر ليس فَمِن دخول الباء في خبر

ليس قوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} (الزمر: 36) ومن دخول الباء في خبر ما قوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} (فصلت: 46). فإذا ثبت أن ما قد أَشبهت ليس وجب أن تعمل عملها. ومما سبق: يتبين أن هناك قياسين متعارضين، وقد رجح الأنباري قياس البصريين، فذكر أن النقل -أي: السماع- هو الذي يرجح ما ذهب إليه البصريون، فقال: "وأما قولهم -أي: قول الكوفيين: إن القياس يقتضي ألا تعمل، قلنا: كان هذا هو القياس، إلا أنه وُجِدَ بينها وبين ليس مشابهة اقتضت أن تعمل عملها، وهي لغة القرآن، قال الله تعالى: {مَا هَذَا بَشَرًا} وقال تعالى: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} (المجادلة: 2) ". ومما سبق: يتبين أن السماع هو أحدُ الطريقين اللذين يُرجح بهما بين القياسين المتعارضين. والطريق الآخر هو القياس، ومثاله: أن يقول الكوفي: إنَّ إِنَّ وأخواتِها تعمل في الاسم النصب لشبه الفعل، ولا تعمل في الخبر الرفع، بل الرفع فيه بما كان يرتفع به قبل دخولها، فيقول البصري: هذا فاسد؛ لأنه ليس في كلام العرب عامل يعمل في الاسم النصب إلا وهو يعمل الرفع، فما ذهبتَ إليه يؤدي إلى ترك القياس ومخالفة الأصول لغير فائدة، وذلك لا يجوز. وبيان ذلك: أن النحويين لم يختلفوا في أن إنَّ أو إحدى أخواتها هي التي تعمل النصب في الاسم، ولكن اختلفوا في عامل الرفع في الخبر على مذهبين، وحجة الكوفيين فيما ذهبوا إليه أن إنَّ إنما عملت بالحمل على الفعل فهي ضعيفة، ويجب أن تكون منحطةً عن رتبة الفعل الذي عملت بالحمل عليه كما هو شأن الفرع أبدًا، فوجب نزولها عن الفعل، ولو عملت في الخبر لأدى ذلك إلى التسوية بين الأصل والفرع.

وحجة البصريين أن إنَّ قد نصبت المبتدأ وجعلته اسمًا لها، ولو جاز أن يكون الخبر مرفوعًا على ما كان مرفوعًا به قبل دخول إنَّ لكان المبتدأ أحق بذلك، فلما نُصِبَ المبتدأ بـ: إن وجب أن يكون رفع الخبر أيضًا بها إذ ليس في كلام العرب شيء يعمل النصب في الأسماء، ولا يعمل الرفع، ومن المحال ترك القياس ومخالفة الأصول بغير فائدة. ومعنى ما سبق: أن الكوفيين قد استدلوا على صحة مذهبهم بالقياس، وهو أن إنَّ فرع عن الفعل في العمل، والفروع تنحط أبدًا عن درجات الأصول، كما استدل البصريون على صحة مذهبهم بالقياس أيضًا، وهو أن إنَّ وأخواتها قد أشبهت الفعل لفظًا ومعنًى، فلما قوي شبهها بالفعل -والفعل يرفع وينصب- وجب أن تكون مثله وقد تعارض القياسان، ورجح الأنباري مذهب البصريين بالقياس؛ لأنه ليس في كلام العرب عامل يعمل في الأسماء النصب إلا وهو يعمل الرفع. وبهذا نكون قد وصلنا إلى ختام هذا الدرس فإلى لقاء يتجدد إن شاء الله تعالى مع الدرس السادس عشر هذا وبالله التوفيق.

الدرس: 16 الحكم في تعارض السماع والقياس.

الدرس: 16 الحكم في تعارض السماع والقياس.

حكم ما ورد شاذا في القياس مطردا في الاستعمال.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السادس عشر (الحكم في تعارض السماع والقياس) حكم ما ورد شاذًّا في القياس مطردًا في الاستعمال الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومَن والاه؛ أما بعد: تكرر حديث ابن جني في (الخصائص) عن القياس والسماع؛ لكونهما في مقدمة أدلة النحو المعتمدة، كما تكرر حديثه عن الاطراد والشذوذ، وذكر غيرَ مرةٍ أن الكلام إذا كان مطردًا في القياس والاستعمال جميعًا كان هو الغاية المطلوبة والمثابة المنوبة، وأن ذلك ما لا غايةَ وراءه ولا هدف بعده نحو منقاد اللغة من النصب بحروف النصب، والجر بحروف الجر والجزم بحروف الجزم وغير ذلك، مما هو فاشٍ في الاستعمال قوي في القياس. ومن ذلك حديثه في باب: القول على الاطراد والشذوذ، وذكر فيه أن الكلام في الاطراد والشذوذ على أربعة أضرب: مطرد في القياس والاستعمال جميعًا، ومطرد في القياس شاذ في الاستعمال، ومطرد في الاستعمال شاذ في القياس، وشاذ في القياس والاستعمال جميعًا. وذكر حكمَ كل ضرب منها وبعضَ أمثلته، ثم أفرد بابًا عنوانه: باب في تعارض السماع والقياس في الجزء الأول أيضا من (الخصائص). وقد فَصَّل فيه ما أجمله في الباب الأول، ولكنه أكد في البابين على قوانينَ تُعد من الثوابت في العربية. وفي مقدمة هذه القوانين: أن أقوى الكلام ما كان فاشيًا في الاستعمال قويًّا في القياس، وذلك نحو: قام زيد، وأكرمت عمرًا، ومررت بسعيد، أي: ما كان مراعيًا للقواعد المطردة المستنبطة من كلام العرب الفصحاء الموثوق بعربيتهم، وأن السماع والقياس إذا تعارضَا نطقت بالمسموع على ما جاء عليه، أي: لأنه نص وأصل ولم تقسه في غيره، أي: في غير ما ورد من النص؛ لاقتضاء القياس المنع من ذلك، وأجزتَ الوارد لوروده مقتصرًا عليه دون قياس ما وراءه عليه لمخالفته القياس، أي: إذا كان قياس النحويين يؤدي إلى حكم من

الأحكام يخالف الحكم الذي يؤدي إليه المسموع، فليس لك أن تحدث في المسموع تغييرًا، وإنما عليك أن تنطق به كما سُمع عن العرب ولا تقيسه في غيره؛ لأنه ليس بقياس، لكنه لا بد من قبوله؛ لأنك إنما تنطق بلغتهم وتحتذي في ذلك -أي: وتتبع في ذلك- أمثلتهم، ثم إنك من بعد لا تقيس عليه غيره، وهذا ما يعرف بأنه شاذ في القياس مطرد في الاستعمال، وذلك نحو قوله تعالى: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ} (المجادلة: 19). فهذا النص القرآني يقتضي إبقاء الواو في قوله: {اسْتَحْوَذَ} على حالها وهذا ليس بقياس؛ لأن القياس يقتضي انقلابها ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها، ومع قبوله بحاله كما ورد في النص الكريم لا تقِس عليه غيره، فلا تقل في استقام: استقوم، ولا في استباع: استبيع، بل تجيء بذلك على ما يقتضيه القياس، فتقلب كلًّا من الواو والياء ألفًا، وتقتصر في إبقاء المسموع عن العرب مخالفًا لذلك بحاله عن الوارد عنهم، المسموع منهم، فتكون بذلك جامعًا بين إعمال النص وإعمال القياس. ومما ورد من هذا النوع مخالفًا للقياس قولهم لمن ذل بعد عز: استنوق الجمل، أي: صار كالناقة في ذلها، وقولهم لمن أشبه الفيل في عظمه: استفيل الجمل، أي: صار كالفيل في ضخامته، وقولهم: استتيست الشاة، أي: صارت كالذكر من المعز، وذكر ابن جني أن استنوق واستفيل واستتيسَ مع شذوذه أسهل من استحوذ، وذلك أن استحوذ فعل مزيد بالألف والسين والتاء، وقد تقدمه فعله الثلاثي المجرد المعتل، وهو حاذ يحوذ نحو قول العجاج يصف ثورًا وكلابًا: يحوذهن وله حُوذي ... كما يحوذ الفئة الكَمِي يروَى بالذال والزاي: يحوذهن ويحوزهن، أي: يسوقهن السوق الشديد، والحوذي والحوزي: هو السائق المُجِد المستحث على السير. قال ابن جني مشيرًا

إلى احترام المسموع مع شدة مخالفته للقياس: "فلما كان استحوذ خارجًا عن معتل -يعني: حاذ يحوذ- وجب إعلاله؛ إلحاقًا في الإعلال به، وكذلك باب: أقام وأطال واستعاذ واستزاد، مما يسكن ما قبل عينه في الأصل. ألا ترى أن أصل أقام: أقوم، وأصل استعاذ: استعوذ، فلو أخلينا وهذا اللفظ أي: الذي عليه هذا الأصل، لاقتضت الصورة تصحيح العين لسكون ما قبلها، يعني: لبقيت الواو من غير إعلالها بقلبها ألفًا لسكون ما قبلها، غير أنه لما كان منقولًا ومخرجًا من معتل هو قام وعاذ، أُجري أيضًا في الإعلال عليه. وليس كذلك: استنوق الجمل واستتيست الشاة؛ لأن هذا ليس منه فعل معتل. ألا تراك لا تقول: ناقَ ولا تاس؟ إنما الناقة والتيس اسمان لجوهر، لم يصرف منهما فعل معتل، فكان خروجهما على الصحة أمثلَ منه في باب: استقام واستعاذ، وكذلك: استفيل"، انتهى. يقارن ابن جني في النص السابق بين الشذوذ القياسي في الكلمات: استنوق واستتيس واستفيل، والشذوذ في كلمة: استحوذ، فيذكر أن الشذوذ في الكلمات الأول أسهل من الشذوذ في الكلمة الأخيرة، وذلك أن استحوذ تقدمها فعلها الثلاثي المجرد وهو حاذ، وهو فعل أجوف واوي العين، وقد أعل بقلب واوه ألفًا، فكان القياس يوجب إلحاق مزيد هذا الفعل به في الإعلال، فيقال: استحاذ، هذا ما كان يقتضيه القياس، وما يقتضيه في كل فعل أجوف من بابي: أفعل واستفعل، نحو: أقام وأطال واستعاذ واستزاد، فهذه الأفعال المزيدة ونحوها قد أُعلت فيها العين وهي واو أو ياء بقلبها ألفًا؛ حملًا على إعلال مجردها، فأصل الفعل أقام: أقوم، ووزنه: أفعل، فَأُعِل بقلب عينه وهي الواو ألفًا بعد نقل حركتها إلى الساكن الصحيح قبلها، وهو القاف.

ولولا نقل حركة الواو إلى الساكن قبلها ما قُلبت ألفًا؛ حتى لا يلتقي ساكنان، وإنما كان لا بد لإحداث قلب هذه العين المحركة في الأصل ألفًا أن يفتح ما قبلها؛ حتى تكون الواو قد تحركت في الأصل وانفتح ما قبلها بعد نقل حركتها، وحينئذٍ تُقلب ألفًا؛ إجراءً للفعل المزيد مجرى فعله المجرد في الإعلال. وهكذا في بقية الأفعال التي على هذه الصفة من أفعال هذين البابين، فأطال أصله: أطول، واستعاذ أصله: استعوذ، واستزاد أصله: استزيد، وقد فُعل فيها ما فعل بأقام؛ حملًا للمزيد على مجرده في الإعلال. أما: استنوق واستتيس واستفيل ونحوها مع شذوذها وخروجها عن القياس، فأمر شذوذها أسهل، إذ لم يتقدمها فعل معتل؛ لأن الناقة والتيس والفيلَ أسماءُ ذوات، فكان خروجها إلى الصحة وعدم الإعلال أيسر من خروج استحوذ. وذكر ابن جني أن مما ورد شاذًّا عن القياس ومطردًا في الاستعمال أيضًا قولهم: الحَوَكَة، في جمع الحائك الذي ينسج الثياب، والخونة؛ وذلك لأن الواو فيهما قد تحركت وانفتح ما قبلها، فكان مقتضى القياس قلبها ألفًا لا تصحيحها، ولكنهم صححوا العين فيها؛ تنبيهًا على الأصل، وقد قالوا على القياس: خانه، ومع شذوذ الحوكة والخونة، هما في الاستعمال غير متأبيين، فهما شائعان، ولكنهما لا يقاس عليهما، فلا يقال في جمع قائم: قومة، ولا في جمع صائم: صومة، ولو جمع ذلك على وزن فَعلة ما كان إلا معلًّا. ومما ورد شائعًا في الاستعمال شاذًّا عن القياس قولهم: أقائم أخواك أم قاعدان؟ قال ابن جني: "ومن ذلك قول العرب: أقائم أخواك أم قاعدان؟ هذا كلامها، قال أبو عثمان: والقياس يوجب أن تقول: أقائم أخواك أم قاعد هما؟ إلا أن العرب لا تقوله إلا: قاعدان، فتصل الضميرَ، والقياسُ يوجب فصلَه؛ ليعادل

الجملة الأولى"، انتهى. وبيان ذلك: أن المبتدأ في القول المذكور هو اسم الفاعل قائم، وقد رفع فاعلًا مستغنيًا به عن الخبر وهو أخواك، وأَمْ حرف عطف، وقاعدان معطوف على الوصف المستغني بمرفوعه عن الخبر، وفاعله ضمير مستتر فيه تقديره هما، والضمير المستتر بمنزلة الضمير المتصل، وقد ذَكر كثير من النحويين منهم أبو الحسن الأشموني: أن مرفوع الوصف المستغني بمرفوعه عن الخبر إما أن يكون اسمًا ظاهرًا كالمثال المذكور، وإما أن يكون ضميرًا منفصلًا، كقوله تعالى: {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ} (مريم: 46). وبذلك يكون ما بعد العاطف في المثال المذكور قد خالف القياس؛ لأن الوصف المعطوف رفع ضميرًا متصلًا، والقياس يوجب أن يكون ضميرًا منفصلًا. ومن هنا رأى أبو عثمان المازني: أن القياس يوجب أن يقال: أم قاعد هما؟ ليحصل التعادل بين الجملتين، فيعطف قاعد على قائم ويكون مرفوع الوصف الأول اسمًا ظاهرًا، ومرفوع الوصف الواقع بعد العاطف ضميرًا منفصلًا. وقال ابن هشام: "قاعدان مبتدأ؛ لأنه عطف بـ"أم" المتصلة على المبتدأ، وليس له خبر ولا فاعل منفصل، وإنما جاز؛ لأنهم يتوسعون في الثواني"، انتهى. فأشار ابن هشام إلى فاعلية الضمير المستتر وإغنائه عن الخبر على خلاف القياس؛ لأنه يغتفر في الثواني ما لا يغتفر في الأوائل، أي: يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع، وجوز غيره كون الوصف الثاني خبر مبتدأ محذوف، أي: أم هما قاعدان؟ فتكون أم منقطعة. ولا يقف احترام المسموع عن العرب عند حد تقديمه على القياس عند تعارضهما عند هذا الحد، بل إن ابن جني ينقل لنا وصيةً عن أبي الحسن الأخفش، قال ابن جني: "واعلم، أنك إذا أداك القياس إلى شيء ما، ثم سمعت العرب قد نطقت

حكم ما شذ في الاستعمال وقوي في القياس.

فيه بشيء آخر على قياس غيره، فدَعْ ما كنتَ عليه إلى ما هم عليه، فإن سمعت من آخر مثل ما أجزته فأنت فيه مخير، تستعمل أيهما شئتَ، فإن صح عندك أن العرب لم تنطق بقياسك أنت كنت على ما أجمعوا عليه البتة، وعَدَدْتَ ما كان قياسك أداك إليه لشاعر مولد أو لساجع أو لضرورة؛ لأنه على قياس كلامهم. بذلك وصى أبو الحسن"، انتهى. حكم ما شذ في الاستعمال وقوي في القياس ذكر ابن جني في (الخصائص): أنه إن كان الشيء شاذًّا في السماع مطردًا في القياس تحاميت ما تحامت العرب من ذلك، وجريتَ في نظيره على الواجب في أمثاله، من ذلك: امتناعك من: وذَر وودع، لأنهم لم يقولوهما، ولا غَرْوَ عليك -أي: لا عجبَ عليك- أن تستعمل نظيرهما نحو: وزن ووعد لو لم تسمعهما، فأما قول أبي الأسود: ليت شعري عن خليلي ما الذي ... غاله في الحب حتى ودعه فشاذ، وكذلك قراءة بعضهم: "ما وَدَعَكَ ربك وما قلى" (الضحى: 3). وذهب بعض العلماء إلى أن العرب لم تتحامل البتة استعمال الفعل الماضي وَدَع كما ذكر ابن جني، لكنهم استعملوه بقلة، ففي (لسان العرب): "ودَعَ، وقال ابن الأثير: وإنما يُحمل قول النحاة على قلة استعماله، فهو شاذ في الاستعمال، صحيح في القياس، وقد قرئ به في قوله تعالى: "ما ودَعَك ربك وما قلى" بالتخفيف". انتهى. وذكر ابن جني أن من الشاذ في السماع المطرد في الاستعمال أيضًا: استعمالك "أنِ" المصدرية بعد كاد، نحو: كاد زيد أن يقوم، هو قليل شاذ في الاستعمال وإن لم يكن قبيحًا ولا مأبيًّا في القياس، ويرى سيبويه عدم جواز

حكم ما ضعف في القياس والاستعمال جميعا.

اقتران خبر كاد بـ"أنْ" إلا في الضرورة الشعرية، وكرر ذلك في (الكتاب)، ومن ذلك قوله: "ويضطر الشاعر فيقول: كدت أن، وكدت أن أفعل، لا يجوز إلا في شعر"، وقوله: "وقد جاء في الشعر كاد أن يفعله، شبهوه بعسى، قال رؤبة: قد كاد من طول البلى أن يَمْصَحا ... ..... ..... ...... ...... ...... .... والمحص مثله". انتهى. ووصف منزلًا بالِبلَى والقِدم، وأنه لذلك كاد يمصح، أي: يذهب. وذهب جماعة من النحاة منهم ابن مالك إلى ما ذهب إليه ابن جني من أن اقتران خبر كاد بـ"أنْ" قليل وليس مقصورًا على الضرورة، واستدل على ذلك في كتابه (شواهد التوضيح والتصحيح) فيما استدل به بما جاء من نحو قوله -صلى الله عليه وسلم: ((كاد الحسد يغلب القدر، وكاد الفقر أن يكون كفرًا))، وقال أبو البركات الأنباري في كتابه (الإنصاف): "فأما الحديث: ((كاد الفقر أن يكون كفرًا)) فإن صح فزيادة أن من كلام الراوي لا من كلامه -عليه السلام- لأنه -صلوات الله عليه- أفصحُ مَن نطق بالضاد". انتهى. أي: أنه يرى رأي سيبويه. حكم ما ضعف في القياس والاستعمال جميعًا ذكر ابن جني في (الخصائص): أن كل ما شذ في القياس والاستعمال فلا يسوغ القياس عليه، ولا رد غيره إليه، ولا يحسن أيضًا استعماله فيما استعملته فيه العرب إلا على وجه الحكاية، كتتميم مفعول فيما عينه واو، نحو: ثوب مصوون، ونظائره، وقد سبق القول فيه، وقال: "وأما ضعف الشيء في القياس وقلته في الاستعمال، فمرذول مطرح، غير أنه قد يجيء الشيء منه إلا أنه قليل". والمثال الأول الذي أورده ابن جني لهذا الضعف المزدوج قول الشاعر: اضرب عنك الهموم طارقها ... ضربك بالسيف قونس الفرس

قوله: "طارقها"، اسم الفاعل من طرق يطرق: إذا أتى ليلًا، وقَوْنَس الفرس -بفتح القاف والنون وسكون الواو، وآخره سين مهملة- هو العظم الناتئ بين أذني الفرس. وقد ذكر ابن جني أن سبب الحكم على هذا البيت بالضعف في الاستعمال والقياس، أن فيه مخالفةً للقواعد ونقضًا للغرض؛ وذلك لأن الشاعر أكَّدَ فعل الأمر اضربن بنون التوكيد الخفيفة الساكنة، وفعل الأمر يبنى على الفتح مع نوني التوكيد، والتوكيد يدل على المبالغة في الدلالة على هذا الأمر، ويقتضي الإطناب والإسهاب، ولا يليق به الإيجاز والاختصار، ولكنه -أي: الشاعر- مع ذلك حذف نون التوكيد وهو ينويها، فلذلك أبقى الفتحة في آخر الفعل؛ لتكون هذه الفتحة مشيرةً إليها ودالةً عليها، والحذف منافٍ لغرض التأكيد، فضلًا عن أن نون التوكيد الخفيفة لا تُحذف إلا إذا وليها ساكن؛ حتى لا يلتقي ساكنان، وما بعدها في البيت المذكور متحرك وليس ساكنًا. قال ابن جني معلقًا على هذا البيت: "قالوا: أراد اضْربَنْ عَنْكَ، فحذف نون التوكيد، وهذا من الشذوذ في الاستعمال على ما تراه، ومن الضعف في القياس على ما أذكره لك، وذلك أن الغرض في التوكيد إنما هو التحقيق والتسديد، وهذا مما يليق به الإطناب والإسهاب، وينتفي عنه الإيجاز والاختصار. ففي حذف هذه النون نقض الغرض، فجرى وجوب استقباح هذا في القياس مجرى امتناعهم من ادغام الملحق". وذكر ابن جني أمثلةً لبعض الأسماء والأفعال التي كرر فيها العرب المثلين المتحركين في أواخرها للإلحاق بغيرها، وذكر النحويون: أنه قد استقبحوا الإدغام على الرغم من توالي المثلين المتحركين في أواخر هذه الكلمات ونحوها؛ للوفاء بحق ما يقتضيه القياس من تماثل الملحق مع الملحق به في حركاته وسكونه، وذلك

نحو: مَهدد، وهو عَلم امرأة، وقد كررت فيه الدال للإلحاق بجعفر، وقَردد وهو اسم جبل، وما ارتفع من الأرض، ومن الظهر أعلاه، ومن الشتاء شدته وحدته، وهو كسابقه في الإلحاق بجعفر، وجلبب يقال: جلببه أي: ألبسه الجلباب، وقد كرر فيه الحرف الأخير للإلحاق بدحرج، وشملل أي: أسرع، وهو كسابقه في الإلحاق بدحرج، وسبهلل، السبهلل: هو الفارغ، يقال: جاء سبهللًا أي: لا شيءَ معه، وهو ملحق بسفرجل، وقَفَعْدَد، والقفعدد: هو القصير، وهو كسابقه في الإلحاق بسفرجل. وذكر ابن جني: أن العرب لو أدغموا المثلين المتحركين في الكلمات السابقة ونظائرها، لنقضوا الغرضَ الذي اعتزموه من الإلحاق، أي: لوقعوا في ضعف الاستعمال والقياس الذي وقع فيهما من قال: اضرب عنك. وأورد مثالًا آخر لعدم نقضهم الغرض الذي اعتزموا، فذكر أن أبا الحسن الأخفش امتنع من توكيد الضمير المحذوف المنصوب في نحو: الذي ضربت زيدٌ، أي: الذي ضربتَه زيد، فمنع الأخفش أن يقال: الذي ضربت نفسه زيد، على أن نفسه توكيد للضمير المنصوب المحذوف الذي كان عائدًا على الاسم الموصول؛ لأن ذلك يؤدي إلى نقض الغرض، إذ الحذف ينافي التوكيد. والمثال الثاني الذي جاء في (الخصائص) لضعف الاستعمال والقياس جميعًا، قول الشماخ بن ضرار يصف حمارًا وحشيًّا هائجًا: له زجل كأنه صوت حاد ... إذا طلب الوسيقة أو زمير الوسيقة: هي أنثاه، والزمير: هو الغناء في القصبة، شَبَّه تطريب هذا الحمار إذا طلب أنثاه بصوت الحادي أو بالغناء، يقول: إذا طلب وسيقته -أي: أنثاه- صَوَّت بها في تطريبٍ وترجيعٍ كالحادي الذي يتغنى بالإبل، أو كأن صوته صوت

مِزمار. والبيت من شواهد سيبويه في (الكتاب) في باب: ما يحتمل الشعر، وقد أورده سيبويه شاهدًا على ضرورة شعرية، وهي حذف الواو الواقعة صلةً للضمير الغائب وهو الهاء في "كأنه"؛ إجراءً للوصل مجرى الوقف، وتبع كثير من النحاة سيبويه في اعتبار هذا الحذف ضرورة، ومنهم المبرد وابن عصفور، والإتيان بحركة هاء الغائب كاملة من غير صلة -أي: من غير إشباع- يسمى اختلاسًا. وقد حكم ابن جني على هذه الضرورة بالضعف استعمالًا وقياسًا، فقال: "ومما ضعف في القياس والاستعمال جميعًا بيت (الكتاب): له زجل كأنه صوت حاد ... ... ..... .... ...... ...... .. فقوله: "كأنه" بحذف الواو وتبقية الضمة ضعيف في القياس قليل في الاستعمال". وذكر محقق (المقتضب) شيخنا المرحوم محمد عبد الخالق عضيمة -رحمه الله رحمةً واسعةً- أن اختلاس حركة هاء الغائب الذي جعله سيبويه والمبرد من الضرورة الشعرية، جاء في آيات كثيرة في القراءات السبعية المتواترة، منها قوله تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} (الأنعام: 90) وقوله -عز وجل: {فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ} (النمل: 28) وقوله -عز من قائل: {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} (الزمر: 7). والحق أن هناك فرقًا بين اختلاس حركة هاء الغائب في الضرورة التي أشار إليها سيبويه في (الكتاب) وما ورد في القراءات السبعية المتواترة التي أشار إليها شيخنا عضيمة -طيب الله ثراه- وذلك أن الهاء في الآيات الكريمة المذكورة ونحوها كانت مسبوقةً بحرف علة ساكن، وهاء الضمير إن سُبقت بحرف علة ساكن -واو أو ياء أو ألف- فالمختار حذف الياء والواو بعدها، قال سيبويه في باب: ثبات الياء والواو في الهاء التي هي علامة الإضمار وحذفهما،: "فإذا كان قبل الهاء حرف لين، فإنَّ حَذْفَ الياء والواو في الوصل أحسنُ؛ لأن الهاء من مخرج

الألف، والألف تشبه الياءَ، والواو تشبههما في المد وهي أختهما، فلما اجتمعت حروف متشابهة حذفوا وهو أحسن وأكثرُ، وذلك قولك: عليه يا فتى، ولديه فلان، ورأيت أباه قبلُ، وهذا أبوه كما ترى. وأحسن القراءتين: {وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} (الإسراء: 106) و {إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ} (الأعراف: 176) و {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} (يوسف: 20) و {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} (الحاقة: 30) والإتمام عربي". انتهى ما قال سيبويه. فَصِلة الضمير كانت محذوفة في الفعل "يرضاه" قبل الجزم، فلما جزم؛ لوقوعه في جواب الشرط وحذفت الألف للجزم، لم يُعتد بهذا الحذف، وبقيت الصلة؛ استصحابًا للأصل، وحمل عليه أمره نحو: اقتده وألقه ... إلى آخره. وليس كذلك ما ورد في الشعر شاهدًا على الضرورة المذكورة، إذ لم تُسبق فيه هاء الضمير بحرف علة ساكن، وعلى هذا يمكن القول: بأن حَذْف صلة ضمير الغائب إنما يكون ضرورة عند سيبويه ومَن تبعه إذا لم يكن ما قبل هاء الضمير حرفُ علةٍ ساكنًا في الأصل كالبيت المذكور. ونعود إلى (الخصائص) لنقف على وجه ضَعْف بيت الشماخ السابق، فنجد ابن جني يقول: "ووجه ضعف قياسه أنه ليس على حد الوصل ولا على حد الوقف، وذلك أن الوصل يجب أن تتمكن فيه واوه كما تمكنت من قوله في أول البيت: له زجل، والوقف يجب أن تحذف الواو والضمة فيه جميعًا وتسكن الهاء، فيقال: كَأَنَّهْ فَضَمُّ الهاء بغير واو منزلةٌ بين منزلتي الوصل والوقف، وهذا موضع ضيق ومقام زَلْخ، لا يتقيك بإيناس ولا ترسو فيه قدمُ قياسٍ. وقال أبو إسحاق في نحو هذا: إنه أجرى الوصل مجرى الوقف، وليس الأمر كذلك؛ لما أريتُك من أنه لا على حد الوصل ولا على حد الوقف".

ومن العجيب أننا نجده يفرد بابًا في (الخصائص) عنوانه: باب في الحكم يقف بين الحكمين، ويصدره بقوله: "هذا فصل موجود في العربية لفظًا، وقد أعطته مقادًا عليه وقياسًا"، ثم يذكر أن من ذلك بيت (الكتاب): له زجل كأنه صوت حاد ... ...... ..... ..... ....... ..... .... ويقول معلقًا عليه: "فحذف الواو من قوله: كأنه لا على حد الوقف ولا على حد الوصل، أما الوقف فيقضي بالسكون كأنهْ وأما الوصل فيقضي بالمطل وتمكين الواو كأنهُ. فقوله إذن: كأنهُ منزلة بين الوصل والوقف، وكذلك أيضًا سواء قوله: يا مرحباه بحمار ناجية ... إذا أتَى قربته للسانية فثبات الهاء في مرحباه ليس على حد الوقف ولا على حد الوصل، أما الوقف فيؤذِن بأنها ساكنة: يا مرحباه، وأما الوصل فيؤذن بحذفها أصلًا: يا مرحبا بحمار ناجية، فثباتها إذن في الوصل متحركة -أي: قوله: يا مرحباه بحمار ناجية- منزلةٌ بين المنزلتين"، انتهى. ثم يقول في ختام هذا الباب: "فظاهر هذا الجمع بين ضدين، فهو إذن منزلة بين المنزلتين، وسبب جواز الجمع بينهما أن كل واحد منهما قد كان جائزًا على انفراده، فإذا جُمع بينهما فإنه على كل حال لم يَكْلَف إلا بما من عادته أن يأتي به مفردًا، وليس على النظر بحقيقة الضدين كالسواد والبياض والحركة والسكون، فيستحيل اجتماعهما، فَتَضَادُّهُمَا إذن إنما هو في الصناعة لا في الطبيعة، والطريق مُتْلَئِبة منقادة، والتأمل يوضحها ويمكنك منها"، انتهى. فعبارات ابن جني في هذا الباب الأخير توحي بأن المُنَزَّلَ بين منزلتي الوصل والوقف معهود موجود في العربية لفظًا واستعمالًا، وجائز قياسًا، فقد أعطته

العربية -كما قال ابن جني نفسُه- مقادًا عليه وقياسًا، والطريق أمامه متلئبة منقادة، والتأمل يوضحها ويمكِّنك منها، وكان ذلك رجوعًا عما أورده من الحكم على بيت (الكتاب) بالضعف في القياس، والقلة في الاستعمال، وهذا ما ذكره ابن عصفور في كتابه (ضرائر الشعر) بعد أن استدل على ضرورة إثبات هاء السكت في حال الوصل بقول الراجز، وهو عروة بن حِزام العذري: يا مرحباه بحمار عفراء ... .... .... ..... ...... ..... .... قال ابن عصفور بعد إيراده البيت: "قال أبو الفتح -أي: ابن جني: وهو شاذ ضعيف عند أصحابنا لا يثبتونه في الرواية، ولا يحفظونه في القياس، من جهة أنه لا يخلو من أن تجري الكلمة على حد الوقف أو على حد الوصل، فإنْ أجراها على حد الوصل فسبيله أن يحذف الهاء وصلًا، أي: أن يحذف هاء السكت في حالة الوصل؛ لاستغنائه عنها في الوصل بما يتبع الألف، وإن كان على حد الوقف فقد خالف ذلك بإثباته إياها متحركةً بالكسر كانت أو بالضم، وهي في الوقف بلا خلاف ساكنة، ولا يعلم هنا منزلة بين الوصل والوقف يرجع إليها، وتجري هذه الكلمة عليها، فلهذا كان إثبات الهاء متحركة خطأً عندنا". قال ابن عصفور معلقًا على عبارة ابن جني التي وردت في شرحه ديوان المتنبي: "وهذا الذي أنكره قد جاء مثله وهو قوله: له زجل كأنه صوت حاد ... ..... .... .... ..... ..... .... ... البيت، وأشباهه، ألا ترى أن قوله: كأنه صوت حاد، ليس على حد الوقف؛ لأن الضمير متحرك، أي: كأنه، ولا على حد الوصل؛ لأنه غير ممطول، أي: لم يقل: كأنهُ بالإشباع وزيادة الواو بعد حركة الضمير. فهو بين الوصل والوقف، وقد أثبت هو -أي: ابن جني- هذا وأمثالَه، ولم ينكره". يشير ابن

عصفور إلى ما ذكره ابن جني في الباب الأخير، قال: "فكان ينبغي ألا ينكر "يا مرحباه" وأمثاله من جهة القياس". انتهى ما قاله ابن عصفور. فابن عصفور في النص السابق يسجل على ابن جني رجوعه عن رأيه بإنكار ما كان على منزلة بين الوصل والوقف. ونقل عبد القادر البغدادي ما ذكره ابن جني في (شرح ديوان المتنبي)، ذكر ذلك في (خزانة الأدب) ثم قال: "وقد رجَعَ عن هذا في (الخصائص) ". انتهى. ولكن العجيب أنه قال الرأي ورجع عنه في كتاب واحد وهو (الخصائص). غير أننا نؤكد أن ما ذكره شيخنا ومَن سار على دَرْبه بأن سيبويه كان يذكر أحيانًا بعضَ الضرائر على الرغم من أنها قد جاءت في بعض روايات سبعية متواترة، فنحن نقول: إن هناك فرقًا بين هذه الضرائر التي أشار إليها سيبويه، وبين ما أورده شيخنا -رحمه الله- في كتابه العظيم (دراسات لأسلوب القرآن الكريم). هذا وبالله التوفيق، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 17 من صور التعارض والترجيح.

الدرس: 17 من صور التعارض والترجيح.

ما كثر استعماله مقدم على ما قوي قياسه.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السابع عشر (من صور التعارض والترجيح) ما كثر استعماله مقدم على ما قوي قياسه الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: قد يكون الشيء كثيرًا في استعمال العرب الفصحاء الموثوق بعربيتهم، وهو مع كثرته في الاستعمال أضعف في القياس من غيره، وإذا تعارضت قوة القياس بقوة علته مع كثرة الاستعمال، وضعف علته بالنسبة لعلة القياس؛ كان استعمال ما كثر استعماله أولى مما قوي قياسه. وقد ساق السيوطي في هذا الأمر مثالًا نقله عن ابن جني، وهو تقديم اللغة الحجازية في إعمال ما النافية عمل ليس على اللغة التميمية في إهمالها، ولغة بني تميم أقوى قياسًا؛ لأن ما فقدت شرط العمل، وهو الاختصاص، ولذلك قال سيبويه عن إهمال ما في لغة بني تميم: "وهو القياس"، فهي حرف غير مختص؛ فكان القياس ألا تعمل، إلا أن قوة القياس هنا معارضة بكثرة المسموع؛ إذ كثُر في الكلام الفصيح إعمال ما عمل ليس، وعُدَّت هذه اللغة هي اللغة العليا؛ لأن القرآن الكريم نزل بها. ومنه قوله تعالى: {مَا هَذَا بَشَرًا} (يوسف: 31)، وقوله تعالى: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} (المجادلة: 2)، ولما تعارضت قوة القياس مع كثرة الاستعمال؛ كانت كثرة الاستعمال هي المقدمة. وكان على المتكلم أن يستعمل في كلامه ما كثر استعماله في كلام الفصحاء، ولذلك قال ابن جني في الاستعمال مع ضعف علته بالنسبة لقوة القياس: "اللغة التميمية في ما هي أقوى قياسًا وإن كانت الحجازية أسير استعمالًا، وإنما كانت التميمية أقوى قياسًا من حيث كانت عندهم كهَلْ في دخولها على الكلام مباشرة كل واحد من صدري الجملتين، الفعل، والمبتدأ،

كما أن هل كذلك، إلا أنك إذا استعملت أنت شيئًا من ذلك؛ فالوجه أن تحمله على ما كثُر استعماله، وهو اللغة الحجازية، ألا ترى أن القرآن بها نزل" انتهى. ومعنى ما ذكره ابن جني: أن على المتكلم أن يتكلم بلغة الحجاز، لأنها اللغة التي كثر استعمالها، إلا أن هذا الحكم ليس على إطلاقه، وإنما هو حكم مقيد بقيد، وهو أن تستوفي ما شروط إعمالها عند الحجازيين، وهي مراعاة الترتيب بين اسمها وخبرها؛ بأن يكون اسمها متقدمًا وخبرها متأخرًا، وألا يتقدم معمول الخبر وهو غير ظرف ولا مجرور، وألا ينتقض النفي بإلا. فإن فقد شرط من هذه الشروط، أهملت ما وهو القياس. وقد نقل السيوطي في (الاقتراح) عن ابن جني قوله: "فمتى رابك في الحجازية ريب من تقديم خبر، أو نقض النفي، فزعت إذ ذاك إلى التميمية، فكأنك من الحجازية على حَرْد، وإن كثرت في النظم والنثر" انتهى. وقوله: "فكأنك من الحجازية على حرد" يعني: كأن المتكلم بها غير مطمئنٍّ إليها؛ لضعف قياسها بالنسبة لقياس التميمية، فهو يتهيَّأ الفرصة؛ ليخرج منها عند اختلال شرط من شروط إعمالها، لأن ذلك هو القياس، أو كأنه على المنع لها، والتحرج منها، وقد يكون الأصل: فكأنك من الحجازية على حرف، كما ذكر المحقق -رحمة الله ورضوانه عليه. وإنما وجب الرجوع حينئذ إلى التميمية لأنها القياس، ولأنه لا معارض للقياس لفقد شرط المعارضة. ونلحظ أن ابن جني قد عبَّر بالفعل فزع ليدل به على وجوب الإسراع والمبادرة، فليس للمتكلم أن يختار، يقال: فزع إلى الأمر كفرح أي: بادر إليه وأسرع، وأصله المبادرة إلى النصرة والإغاثة، ثم تجاوزوا به ذلك إلى مطلق المبادرة، وإنما يجب عليه أن يُسرع ويُبادر إلى لغة تميم؛ لأنها القياس.

الحكم في معارضة مجرد الاحتمال للأصل والظاهر.

الحكم في معارضة مجرد الاحتمال للأصل والظاهر لقد تناول ابن جني هذه القضية في موضعين من (الخصائص)، وعليهما عوَّل السيوطي في (الاقتراح)، بيد أنه أوردهما بعكس ترتيب ورودهما في (الخصائص): فبدأ بالموضع الثاني في (الخصائص)، وافتتح المسألة بقوله: "قال في (الخصائص): باب في الشيء يرد، فيوجب له القياس حكمًا، ويجوز أن يأتي السماع بضده، أُيقطع بظاهره، أم يتوقف إلى أن يرد السماع بجلية حاله؟ " انتهى. ومعنى قول ابن جني: "أيقطع بظاهره" أي: لا يُنظر إلى ما يحتمله اللفظ، وإنما ينظر إلى ظاهر حاله ومعنى قوله: "بجلية حاله" أي: بحاله الجلية الظاهرة، ومن الواضح أن ابن جني لم يذكر فيه رأيه ومذهبه صراحة، وإن كان تقديمه للقطع في اللفظ يدل على تقديمه إيَّاه في العمل. وقد كثرت الأمثلة التي تدل على أنه إذا تعارض الظاهر مع الاحتمال كان القول بالظاهر أولى، ومنها: القول في نون عنبر وعنتر ونحوهما، فإن الظاهر هو القول بأن النون فيهما أصلية؛ لأنها وقعت في موضع الأصل وهو العين في فعلل نحو: جعفر، فلما وقعت النون في موضع الأصل كان الظاهر أنها أصلية، ويجوز أن يُحكم على النون بأنها زائدة، كما قيل بزيادتها في عَنْسَل، وهي الناقة السريعة، فإن النون فيها زائدة قطعًا، ويدل على زيادتها الاشتقاق من العسلان، وهو إسراع الذئب في مشيته، فحكموا بأن وزنه فنعل، مع عدم هذا الوزن في أبنيتهم، وإنما أوجبوا أن يكون عنسل على وزن فنعل؛ لأن الاشتقاق دال عليه، وهذا هو الأصح، وبه جزم سيبويه في كتابه فقال: "ومما جعلته زائدًا بثبت العنسل، لأنهم يريدون العَسُول" انتهى.

وقوله: "يريدون العسول" معناه: زيادة النون، وقيل: إنه من العَنْس، وهو الناقة الصلبة فنونه أصلية ولامه زائدة إلا أن الأصح قول سيبويه؛ لأن زيادة النون أكثر من زيادة اللام آخرًا. ومن الأمثلة التي ذكرها ابن جني في هذا الباب أيضًا ألف آأة حملها الخليل -رحمه الله- على أنها منقلبة عن الواوا؛ حملًا على الأكثر. وأوضح ابن جني أننا لسنا ندفع مع ذلك أن يرد شيء من السماع يقطع معه الخليل بكونها منقلبة عن ياء، على ما قدمنا من بُعد نحو ذلك لمخالفته الظاهر، ونعذره أي: ونتكلف العذر له، والآأة واحدة الآء، ففي (لسان العرب) مادة الهمزة مع الواو مع الهمزة: "آء على وزن عاع: شجر واحدته آأة، وفي حديث جرير: ((بين نخلة وضالة وسدرة وآأة))، الآأة بوزن العاعة، وتُجمع على آءٍ بوزن عاع، هو شجر معروف ليس في الكلام اسم وقعت فيه ألف بين همزتين إلا هذا، هذا قول كراع، وهو من مراتع النعام، وتصغيرها أُويئَة. قال ابن بري: والدليل على أن أصل هذه الألف التي بين الهمزتين واو قولهم في تصغير آأة: أويئة" انتهى. ومن الأمثلة التي أوردها ابن جني في هذا الباب كذلك ما أشار إليه في قوله: "ويجيء على قياس ما نحن عليه أن تسمع نحو: بيت وشيخ، فظاهره لعمري أن يكون فَعْلًا مما عينه ياء، ثم لا يمنعنا هذا أن نجيز كونه فيعِلًا مما عينه واو كميت، وهين. ولكن إن وجدت في تصريفه نحو: شيوخ وأشياخ ومشيخة قطعت بكونه من باب بيع وكَيْل أي: حكمت بأنه من الثلاثي الذي على وزن فعل بفتح الأول وسكون الثاني كبيع وكيل، غير أن القول وظاهر العمل أن يكون من باب بيع؛ بل إذا كان سيبويه قد حمل سِيدًا على أنه من الياء تناولًا لظاهره مع توجه كونه فعلًا مما عينه واو كريح، وعيد؛ كان حمل نحو شيخ على أن يكون من الياء

لمجيء الفتحة قبله أولى وأحجى، فعلى نحو من هذا فليكن العمل فيما يرد من هذا" انتهى. يدعم ابن جني ما ذكره من أن نحو: بيت وشيخ مما يُحمل على الظاهر، فيُجعل من باب فعل بفتح الفاء وسكون العين مع ورود احتمال كونه من باب ميت وهين أي: من باب فيعل؛ إذ أصلهما مَيْوِت وهيون، وأُبدلت الواو فيهما ياء وأدغمت الياء في الياء، ثم خُفِّف بحذف الياء الثانية وهي العين، لكن مع وجود بعض التصريفات الأخرى يُقطع بصواب حمله على ظاهر حاله، وهو كونه ثلاثيًّا يائي العين، ومما يؤكد هذا الحمل أن سيبويه قد حمل سِيدًا: وهو الذئب أو الأسد على أنه من قبيل يائي العين؛ تناولًا لظاهر حاله مع ورود توجه أن يكون مما عينه واوا قُلبت ياء لعلة تصريفية، بل إن احتمال ورود هذا في لفظ سيد أقوى من احتمال وروده في لفظ بيت وشيخ؛ لأن كسر الحرف الأول في سيد أعون على إحداث قلب الواو ياء عنه في بيت وشيخ، لفتح الأول فيهما. أما الموضع الثاني الذي تناول فيه ابن جني هذه القضية في (الخصائص) فهو في باب عنوانه: باب في الحمل على الظاهر، وإن أمكن أن يكون المراد غيره، وهذا الباب في (الخصائص) وارد قبل الباب السابق غير أن السيوطي أخَّر الحديث فيه؛ لكثرة ما تضمنه من تفصيلات، ومعنى ما ذكره ابن جني في هذا الباب أن الشيء يجب حمله على ظاهره، وإن كان ممكنًا من جهة العقل أن يكون باطنه بخلاف هذا الظاهر. وقد وصف ابن جني القول بذلك بأنه المذهب، وبأن العمل عليه، وبأن الوصية به فقال: "اعلم أن المذهب هو هذا الذي ذكرناه، والعمل عليه، والوصية به، فإذا شاهدت ظاهرًا يكون مثله أصلًا؛ أمضيت الحكم على ما شاهدته من حاله، وإن أمكن أن تكون الحال في باطنه بخلافه".

ثم ذكر مثالًا يدل على عناية علماء العربية بالظاهر، وهو حمل سيبويه كلمة سِيد على أن عينه ياء، فوضعه في (الكتاب) في باب تحقير كل اسم كان ثانيه ياء تثبت في التحقير، فالظاهر من حاله أن تكون عينه ياء، ولذلك قال سيبويه في تصغيره: سُيَيْد بضم أوله؛ لأن التصغير يضم أوائل الأسماء، فهو لازم له، كما أن الياء لازمة له، ثم ذكر سيبويه أن من العرب من يكسر أوله فيقول: سِيَيْد كراهية الياء بعد الضمة. ومن هذا المثال يتبين أن سيبويه قد حمل لفظ سيد على أن عينه ياء، لأنه هو الظاهر من حاله مع إمكان أن يكون عينه واوًا، ولذلك قال السيوطي: "حمل سيبويه سيدًا على أنه مما عينه ياء فقال في تحقيره: سييد عملًا بظاهره مع توجه كونه فعلًا مما عينه واو كريح وعيد" انتهى. يريد السيوطي أن سيبويه حمل لفظ سيد على الظاهر من حاله، وهو أنه مما عينه ياء؛ لأن ظاهر حاله أخذه من السيادة، وإن احتمل أن يكون واوي العين من السواد، أو السُودد؛ فقلبت عينه ياء لسكونها إثر كسرة، كلفظ ريح الذي كان أصله واوي العين، وأصله رِوْح بدليل جمعه على أرواح؛ فقلبت عينه ياء لسكونها إثر كسرة. وكلفظ عيد الذي فُعل به ما فُعل بريح، وأصله واوي العين؛ لأنه من العَوْد، لأنه يعود كل سنة، وإنما يُجمع على أعواد، دفعًا لتوهم أنه جمع عُود، ومراعاة للفظ الواحد. وقال ابن يعيش في (شرح الملوكي): "فأما قولهم: عيد وأعياد فإنما أُلزم القلب لكثرة استعماله، وأما ريح فتكسيره على أرواح قال الشاعر: تلفه الأرواح والسُّمِي وربما قالوا: أرياحا ألزموه القلب، وهو قليل من قبيل الغلط" انتهى. وذكر ابن عصفور في (الممتع) أن عيدًا من عاد يعود، وأن الأصل فيه عِوْد؛ فقلبت الواو

ياء لسكونها وانكسار ما قبلها، فقيل عيد. ولكن ينبغي إذا جمعنا أن نقول في جمعه: أعواد بالواو؛ لزوال موجب قلبها ياء، كما قالوا في جمع ريح: أرواح بالواو لزوال موجب قلبها ياء في ريح، وهو سكونها وانكسار ما قبلها قال: تلفه الأرواح والسُّمِي إلا أنهم لما أبدلوا الواو ياء في عيد أجروا هذه الياء مجرى الأصلية. انتهى. وكون السيد واويًّا هو الذي عليه أكثر أهل الاشتقاق، بل زعم بعضهم أنه لا وجود لمادة سيد بالتحتية بين المهملتين أصلًا، وقول السيوطي: "مع توجه كونه فعلًا" معناه: أن كلمة سيد على وزن فعل أي: على هذا الوزن بكسر الفاء وسكون العين، لا أنها فِعْل من الأفعال، وهذا القول من السيوطي يصحح سهوًا وقع فيه محقق كتاب (الاقتراح) -رحمه الله- تبعًا لمحقق كتاب سيبويه -رحم الله الجميع- إذ أثبتاه بلفظ سَيد والصحيح أنه سِيد بكسر السين. ومن باب إتمام الفائدة وإكمال النفع نقرأ معًا ما قال ابن جني في (الخصائص) في استدلاله بحمل سيبويه لفظ سِيد على الظاهر مع إمكان أن يكون المراد غيره، يقول ابن جني: "ألا ترى أن سيبويه حمل سيدًا على أنه مما عينه ياء فقال في تحقيره: سُييد وسِييد، كديك ودييك، وفيل وفييل". ونلحظ أن محقق (الخصائص) -رحمه الله تعالى وأجزل ثوابه- قد ضبط السين في مصغر سيد بالضمة والكسرة معًا، وأشار في الهامش بأن هذا الضبط مطابق لأصح نسخ الأصل، وموافق للقاعدة الصرفية؛ إذ الوجهان جائزان لمكان الياء، وهو يُشير إلى قول سيبويه: "ومن العرب من يقول: شِيَيْخ وبييت، وسييد؛ كراهية الياء بعد الضمة" انتهى. ونعود إلى حديث ابن جني حيث يقول معللًا تصغير سيبويه لفظ سيد على أنه مما عينه ياء بحمله على ظاهر حاله يقول: "وذلك أن عين الفعل لا يُنكر أن تكون ياء

يعني: وذلك لأن عين هذا اللفظ الذي على وزن فعل بكسر الأول وسكون الثاني لا يُنكر أن تكون في الاحتمال طبقًا للظاهر ياء قال: وقد وُجدت -أي: العين- في سيد ياء فهي في ظاهر أمرها إلى أن يرد ما يستنزل عن بادئ حالها يعني: إلى أن يأتي ما يدل على أنها على خلاف هذا الظاهر، قال: فإن قلت -أي: معترضًا على جعل هذه الكلمة من قبيل يائي العين: فإنا لا نعرف في الكلام تركيب السين مع الياء والدال، فهلَّا لما لم يجد ذلك حمل الكلمة على ما في الكلام مثله، وهو ما عينه من هذا اللفظ واو، وهو السواد والسودد، ونحو ذلك. قيل -أي: في الرد: هذا يدلك على قوة الظاهر عندهم، وأنه إذا كان مما تحتمله القسمة، وتنتظمه القضية؛ حُكم به وصار أصلًا على بابه، وليس يلزم إذا قاد الظاهر إلى إثبات حكم تقبله الأصول ولا تستنكره ألا يُحكم به حتى يوجد له نظير، وذلك أن النظير لعمري مما يؤنس به. فأما ألا تثبت به الأحكام فلا"، وقال أيضًا: "فإن قلت: فإن سيدًا مما يمكن أن يكون من باب ريح وديمة يعني: أن يكون واوي العين مثلهما، فهلا توقف أي: سيبويه عن الحكم بكون عينه ياء لأنه لا يأمن أن تكون واوًا قيل: هذا الذي تقوله إنما تدَّعي فيه ألا يؤمَن أن يكون من الواو، وأما الظاهر فهو ما تراه ولسنا ندع حاضرًا له وجه من القياس لغائب مُجَوَّز ليس عليه دليل، فإن قيل: كثرة عين الفعل واوًا تقود إلى الحكم بذلك قيل: إنما يحكم بذاك مع عدم الظاهر، فأما والظاهر معك فلا معدل عنه بك، لكن لعمري إن لم يكن معك ظاهر احتجت إلى التعديل والحكم بالأليق والحمل على الأكثر" انتهى. ومن الأمثلة التي أوردها ابن جني في هذا الباب أيضًا حمل سيبويه لفظا عَيَّنٍ على ظاهر حاله مما عينه ياء، فأثبت به فيعلًا بفتح العين يقال: سقاء عين وعين

بفتح الياء المشددة وكسرها أي: قربة ماء رقت فلم تُمسك الماء، وقد كان يمكن أن يكون هذا اللفظ من قبيل واوي العين على وزن فوعل، أو فعول من غير أن ينكر أحد عليه ذلك. قال ابن جني: "وعلى نحو مما جئنا به في سيد حمل سيبويه عيَّنًا، فأثبت به فيعلًا مما عينه ياء، وقد كان يمكن أن يكون فوعلًا وفعولًا من لفظ العين ومعناها، ولو حكم بأحد هذين المثالين؛ لحمل على مألوف غير منكور، ألا ترى أن فوعلًا وفعولًا لا مانع لكل واحد منهما أن يكون في المعتل كما يكون في الصحيح، وأما فيعل بفتح العين مما عينه معتلة فعزيز، ثم لم يمنعه عزة ذلك أن يحكم به على عيَّن، وعدل عن أن يحمله على أحد المثالين اللذين كل واحد منهما لا مانع له من كونه في المعتل العين كونه في صحيحها، وهذا مما يبصرك بقوة الأخذ بالظاهر عندهم، وأنه مكين القدم راسيها في أنفسهم" انتهى. وابن جني يشير بذلك إلى استشهاد سيبويه في (الكتاب) بقول رؤبة: ما بال عيني كالشعيب العين والشَّعِيب العَيَّن القربة الخلق الممزقة البالية التي يسيل منها الماء لقدمها، ويذكر ابن جني في ختام هذا الباب أن قوة اعتقاد العرب في الحمل على الظاهر إنما تكون إذا لم يمنع من هذا الحمل مانع، فإن منع منه مانع فلا حمل عليه. ويمثل لذلك بقوله: "وأما حيوة والحيوان فيمنع من حمله على الظاهر يعني: على كونه يائي العين واوي اللام أنا لا نعرف في الكلام ما عينه ياء ولامه واو، فلا بد أن تكون الواو بدلا من ياء لضرب من الاتساع مع استثقال التضعيف في الياء، ولمعنى العلمية في حيوة، وإذا كانوا قد كرهوا تضعيف الياء مع الفصل حتى دعاهم ذلك إلى التغيير في حاحيت، وهاهيت، وعاعيت يعني: أن أصولها حيحيت، وهيهيت، وعيعيت، وهي أسماء أصوات لزجر الغنم ونحوها، وأبدلت الياء الأولى فيها ألفًا كراهة تضعيفها، كان إبدال اللام في الحيوان يختلف الحرفان أولى

الحكم في تعارض الأصل والغالب.

وأحجى، فإن قلت: فهلَّا حملت الحيوان على ظاهره، وإن لم يكن له نظير كما حملت سيدًا على ظاهره، وإن لم تعرف تركيب السين مع الياء والداء، قيل: ما عينه ياء كثر، وما عينه ياء ولامه واو مفقود أصلًا من الكلام، فلهذا أثبتنا سيدًا ونفينا ظاهر أمر الحيوان" انتهى. الحكم في تعارض الأصل والغالب إذا تعارض الأصل والغالب فقد ذكر السيوطي أن علماء النحو قد حذوا حذو الفقهاء في اختلافهم، فقد اختلف الفقهاء على قولين، وهما: العمل بالأصل والعمل بالغالب، والأصح العمل بالأصل في الأكثر، وإلا فقد يُعملون الغالب، وعلى دربهم سار النحويون، فمنهم من ذهب إلى أن العمل يكون بالأصل، ومنهم من ذهب إلى أن العمل يكون بالغالب. ومثال ذلك ما ذكره ابن هشام الخضراوي المتوفى سنة ست وأربعين وستمائة من الهجرة في كتابه (الإفصاح) من أن الأصل في الاسم أن يكون مصروفًا، فإن جاء في كلامهم اسم علم على وزن فعل بضم الفاء وفتح العين، ولم يُعلم أصرفوه كما هو الأصل، أم منعوه من الصرف كما هو الغالب فيما كان على وزن فعل نحو: عمر وزفر، فإنهما ممنوعان من الصرف للعلمية والعدل، فإذا جاء اسم علم ولم يثبت عدله عن غيره ولم يُعلم اشتقاقه فهل يكون مصروفًا؛ لأن الأصل في الاسم الصرف أم يكون ممنوعًا من الصرف، لأن نظيره من الأسماء ممنوع من الصرف. لقد ذكر السيوطي أن في ذلك ونحوه مذهبين للنحاة: الأول: مذهب سيبويه وهو الصرف حتى يثبت أنه معدول أي: جريًا على الأصل في الأسماء، لأن الأصل في الأسماء عدم العدل عن غيرها، يقول

سيبويه في (الكتاب): "هذا باب فُعَل، اعلم أن كل فعل كان اسمًا معروفًا في الكلام أو صفة فهو مصروف، فالأسماء نحو: سرد، وجعل، وثقب، وحفر إذا أردت جماع -أي: جمع- الحفرة والثقبة، وأما الصفات فنحو: هذا رجل حطم" انتهى. والمذهب الثاني: مذهب غير سيبويه وهو المنع من الصرف لأنه الأكثر والغالب في كلامهم، والصحيح ما ذهب إليه سيبويه؛ لأن الأصل في الأسماء أن تكون مصروفة لا ممنوعة من الصرف، فلما لم يقم دليل على منع بعضها؛ كان الرجوع إلى الأصل أولى. ومما تعارض فيه الأصل والغالب أيضًا ما ذكره أبو حيان في (شرح التسهيل) من اختلافهم في رحمان ولحيان بفتح اللام، وهو عظيم اللحية على قولين؛ أحدهما: الصرف لأنه الأصل أي: ولأنه لا يُمنع من الصرف إلا بشرط ألا يكون مؤنثه بالتاء بأن يكون مؤنثه على وزن فَعْلى، ورحمان ولحيان لا مؤنث لهما. والآخر: المنع لأن الغالب هو أن يكون وزن فعلان ممنوعًا من الصرف، فتعارض الأصل والغالب. وقال السيوطي -رحمه الله- نقلًا عن أبي حيان: "والصحيح صرفه -أي: صرف رحمان ولحيان- لأنا قد جهلنا النقل فيه عن العرب، والأصل في الأسماء الصرف، فوجب العمل به، ووجه مقابله أن ما يوجد من فعلان الصفة غير مصروف في الغالب، والمصروف منه قليل؛ فكان الحمل على الغالب أولى" انتهى ما قال أبو حيان. وعقب السيوطي على عبارة أبي حيان بقوله: "هذه عبارته" أي: هذه عبارة أبي حيان في (شرح التسهيل)، وكأن السيوطي قال ذلك للتبرؤ؛ لأنه أورد ذلك للتمثيل، لا لكونه يرى رأي أبي حيان لأن غيره صحح الأصل.

تعارض أصلين.

تعارض أصلين لقد عقد ابن جني في كتابه (الخصائص) بابًا عنوانه: باب في مراجعة الأصل الأقرب دون الأبعد، وقد وصف هذا الموضع بأنه موضع يجب أن يُنبه عليه، ويحرر القول فيه، والمراد بمراجعة الأصل الأقرب دون الأبعد، هو أنه إذا تعارض في الكلام أصلان أحدهما قريب والآخر بعيد؛ وجب الرجوع إلى الأصل القريب دون البعيد. ومما تعارض فيه أصلان ضم الذال من كلمة مذ في نحو: ما رأيته مذ اليوم، فإن الأصل في الكلمة أن تكون ساكنة ويليها ساكن، فكان القياس أن يتخلص من التقاء الساكنين بالكسر، كما هو الشأن دائمًا في كل ساكنين التقيا، فالتخلص منهما يكون بكسر أولهما فيقال: ما رأيته مذِ اليوم، ولكن هذا الأصل قد عارضه أصل آخر؛ لأن أصلها الضم في منذ، وضُمت فيه لالتقاء الساكنين إتباعًا لضمة الميم، فهنا أصلان تعارضا؛ الأول: الأصل الأبعد وهو السكون، والثاني: الأصل الأقرب وهو الضم، فكان الرجوع إلى الأصل الأقرب أولى، فضمت الذال من مذ عند التقاء الساكنين؛ ردًّا إلى الأصل الأقرب وهو ضم منذ، ولم ترد إلى الأبعد الذي هو سكونها، لأن مراجعة الأصل الأقرب أولى من مراجعة الأبعد. ومما تعارض فيه أصلان أيضًا أحدهما قريب والآخر بعيد قولهم: بعت بكسر الباء، وقلت بضم القاف فأصل الفعلين باع وقال أن يكونا على وزن فعل بفتح العين، فلما أسندا إلى تاء الفاعل نُقل الفعل باع إلى وزن فعل بكسر العين، ونقل الفعل قال إلى وزن فعل بضم العين، ثم قلبت كل من الواو والياء ألفًا لتحركهما

وانفتاح ما قبلهما، فالتقى ساكنان وهما العين المقلوبة ألفًا، ولام الفعل التي سكنت لاتصال الفعل بتاء الفاعل، ثم نُقلت الكسرة التي في عين الفعل الأول وهو بعت إلى فاء الكلمة، ونقلت الضمة التي في عين الفعل الثاني وهو قلت إلى الفاء أيضًا فقيل: بعت وقلت، وفي هذا النقل مراجعة للأصل الأقرب وهو اعتبار الفعلين بعد نقلهما من فعل المفتوح العين إلى فعل وفعل المكسور العين والمضمومها. ولمزيد من البيان نوجز ما ذكره ابن جني في (المنصف) عن قال وباع، فقد ذكر أن الفعل قال لا يخلو من أن يكون فعَلت أو فعُلت أو فعِلت، وليس قسم رابع، فلا يمكن أن يكون فعُلت؛ لأن مضموم العين لا يجيء متعديًا، وقد قالوا: قلتُه، ولا يمكن أن يكون فعِلت، لأن الماضي مكسور العين، لا يأتي مضارعه مضموم العين، ومضارعه: يقول، فلم يبق إلا أن يكون مفتوح العين في الماضي، وأما الفعل باع فلا يمكن أن يكون مضموم العين لمجيء مضارعه مكسور العين فقالوا: يبيع، ولو كان مكسور العين في الماضي لجاء مضارعه يَبَاع كما قالوا في هِبتُ: أهاب. هذا وبالله التوفيق والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 18 تابع صور التعارض والترجيح.

الدرس: 18 تابع صور التعارض والترجيح.

تفضيل السماع والقياس على استصحاب الحال.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثامن عشر (تابع صور التعارض والترجيح) تفضيل السماع والقياس على استصحاب الحال الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: إن استصحاب الحال من أصول النحو الغالبة عند الأنباري، فقد قال في (لمع الأدلة): "وهو -أي: الاستصحاب- من الأدلة المعتبرة" انتهى. ومع عدِّه إيَّاه من أصول النحو الغالبة ذكر أنه أضعف الأدلة فقال: "واستصحاب الحال من أضعف الأدلة ولهذا لا يجوز التمسك به ما وُجد هناك دليل" انتهى. ويدل على ضعفه ما نقله السيوطي من أنه إذا تعارض استصحاب الحال مع دليل آخر من سماع، أو قياس؛ فلا عبرة به أي: لا اعتداد بالاستصحاب، ولا التفات إليه؛ لقوة الدليل الآخر الذي يقابله ويعارضه، فيقدم السماع أو القياس على الاستصحاب، وعلة ذلك هي أن الأصل المستصحب إنما جرَّده النحاة، فأصبح من عملهم، ولم يكن من عمل العربي صاحب السليقة، فإذا عرضه السماع فالسماع أرجح؛ لأن ما يقوله العربي أولى مما يجرده النحوي، وإذا عارضه القياس فالقياس أرجح؛ لأن القياس وإن كان تجريدًا فهو حمل على ما قاله العربي، فاستصحاب الحال من أدلة النحو التي تتصف بالقوة تارة وبالضعف تارة أخرى، فهو دليل من الأدلة المعتبرة إن لم يعارضه دليل غيره من سماع أو قياس، فإن عارضه دليل منهما فهو حينئذٍ من أضعف الأدلة. وقد عرفت فيما تقدم أن التمسك بالأصل تمسك باستصحاب الأصل، فمن تمسك بالأصل من النحويين في إثبات دعواه فقد تمسك بالاستصحاب، وهذا يدلُّك على أن هذا الدليل شائع في سائر المؤلفات النحوية، وليس مقصورًا على ما ورد في مؤلفات الأنباري، كل ما هنالك أن المصطلح هو الذي ظهر في كتب الأنباري متأثرًا بثقافته الفقهية، وحينما طرحنا السؤال الآتي: ما مكانة هذا الدليل بين الأدلة الأخرى عند الأنباري؟ أجاب الأنباري نفسه عن هذا السؤال مرة في (الإغراب في جدل الإعراب)

فقال: "وأما استصحاب الحال فلا يجوز الاستدلال به ما وجد هناك دليل بحال"، ومرتين في كتابه (لمع الأدلة) المرة الأولى عندما ذكر أصول النحو فقال: "أقسام أدلته ثلاثة: نقل، وقياس، واستصحاب حال، ومراتبها كذلك، وكذلك استدلالاتها" فدل كلامه على أن الاستصحاب يقع في المرتبة المتأخرة عن مرتبتي السماع والقياس، والمرة الثانية حين قال عن استصحاب الحال: "استصحاب الحال من أضعف الأدلة، لهذا لا يجوز التمسك به ما وجد هناك دليل". كما قيل: يظهر كذلك عدم اهتمام الأنباري بالاستصحاب كغيره من الأدلة في أنه ألف كتابه (لمع الأدلة)، وجعله في ثلاثين فصلًا، تحدث فيها عن أقسام أدلة النحو: النقل، والقياس، واستصحاب الحال، وخصص لدليل النقل ستة فصول من الفصل الثالث إلى التاسع، والقياس أربعة عشر فصلًا من الفصل العاشر إلى الرابع والعشرين. أما استصحاب الحال فقد عقد له فصلًا واحدًا هو الفصل التاسع والعشرون. وقلنا: إن نظرة الأنباري إلى الاستصحاب على أنه أضعف الأدلة مظهر آخر من مظاهر تأثره بالفقهاء، فجمهورهم يصف الاستصحاب بأنه أضعف الأدلة، وبأنه آخِر متمسَّك للناظر، وبأنه آخر مدار الفتوى، فإن المفتي إذا سُئل عن حادثة يطلب حكمها في كتاب الله، ثم في سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم في الإجماع، ثم في القياس، فإن لم يجد يأخذ حكمها من استصحاب الحال في النفي والإثبات. ومعنى ما ذكره الأنباري هنا أنه يُشترط لصحة الاحتجاج بالاستصحاب ألا يجد المستدل دليلًا غيره يعارضه، وضرب الأنباري لنا مثلًا على ذلك، فأوضح أنه لا يجوز التمسك بالاستصحاب في إعراب الاسم مع وجود البناء، وهو مشابهة الاسم للحرف، وكذلك لا يجوز التمسك به في بناء الفعل مع وجود دليل الإعراب، وهو مشابهة الفعل للاسم؛ لأن التمسك بالاستصحاب تمسك بعدم الدليل، فإذا قام الدليل بطل التمسك بالأصل. ويستوي أن يكون هذا الدليل

الحكم في تعارض قبيحين.

سماعيًّا أو قياسيًّا؛ لأنه إذا تعارض استصحاب الحال مع دليل آخر من سماع أو قياس، فلا عبرة بالاستصحاب، ولا اعتداد به، ولا التفات إليه؛ لقوة الدليل الآخر الذي يقابله ويعارضه. وقد بين الأنباري ضعف الاستدلال بالاستصحاب في المسألة الرابعة عشرة من مسائل (الإنصاف في مسائل الخلاف)، وهي مسألة نعم وبئس، إذ عرفنا أن من البصريين من استدل على فعليتهما فقال: الدليل على أنهما فعلان ماضيان، أنهما مبنيان على الفتح، ولو كانا اسمين لما كان لبنائهما وجه؛ إذ لا علة ها هنا توجب بناءهما. ولم يرتض الأنباري الاستدلال بهذا الدليل الأخير، لأنه استدلال بالاستصحاب فقال: "وهذا تمسك باستصحاب الحال، وهو من أضعف الأدلة، والمعتمد عليه ما قدمناه" انتهى. أي: أن المعتمد عليه في إثبات فعليتهما هو اتصال الضمير المرفوع بهما، كما يتصل بكل فعل متصرف، واتصالهما بتاء التأنيث الساكنة. وخلاصة القول: إن استصحاب الحال أحد الأدلة المعتبرة، وهو في الوقت نفسه من أضعف الأدلة، فلا يجوز التمسك به إذا عارضه دليل غيره من سماع أو قياس. الحكم في تعارض قبيحين لقد عوَّل السيوطي في هذه المسألة على ما ذكره ابن جني في (الخصائص)؛ إذ إنه قد أفرد بابًا عنوانه: باب في الحمل على أحسن القبيحين، ومراده بذلك أنه إذا حضر عندك ضرورتان أي: أمران قبيحان، وكان أحدهما أشد قبحًا من الآخر، ولا بد للمتكلم من ارتكاب أحد القبيحين، فينبغي حينئذٍ ارتكاب أقربهما وأقلهما فحشًا. وقد نقل السيوطي في (الاقتراح) عن ابن جني مثالين فيهما ارتكاب أقل القبيحين فحشًا وهما:

المثال الأول: حكم الواو في كلمة وَرَنْتَل، والورنتل هو الداهية، والشر، والأمر العظيم، فإن المرء فيها بين ضرورتين أن يدَّعي أن هذه الواو أصلية، وأن يدعي أنها زائدة، وهما أمران قبيحان؛ لأن الواو لا تكون أصلية في ذوات الأربعة إلا مكررة نحو قولهم: الوصوصة، والوحوحة، والوصوصة مصدر الفعل الرباعي وَصْوَص أي: نظر في الوصوص الذي هو خرق في الستر ونحوه على قدر العين يُنظر فيه، والوحوحة مصدر الفعل الرباعي وحوح، يقال: وحوح الرجل صَوَّت مع بَحَح، أو نفخ في يده من شدة البرد. كما أنها -أي: الواو- لا تكون زائدة في أول الكلام، وقد ذكر ابن جني في كتابه (المنصف) "أن أبا عثمان المازني قال في (التصريف): "الواو لا تزاد أولًا البتة"، وحينما سأل ابن جني أستاذه أبا علي الفارسي وقت أن قرأ عليه امتناع زيادة الواو أولًا: "لم كان ذلك؟ فأجابه أبو علي: لأنها لو زيدت أولًا مضمومة؛ لاطرد قلبها همزة نحو: أُقِّتت، وبابه ولو زيدت مكسورة أيضًا؛ لجاز قلبها جوازًا كالمطرد نحو: إسادة وإفادة في وسادة ووِفادة، ولو زيدت مفتوحة حتى تحقر الكلمة لانضم أولها، فجاز قلبها همزة يريد تحقير وَزَّة وُزَيْزَة، ويجوز أُزيزة". وواصل الفارسي حديثه مع تلميذه ابن جني قائلًا: "فلما كانت زيادتها تقود إلى هذا التغيير والقلب واللبس، ويكون ذلك فيها أثقل؛ لأنها زائدة رُفضت زيادتها أولًا فلم يُجز لذلك" انتهى. وذكر ابن جني أنه لا بد في ورنتل من ارتكاب أحد القبيحين: الحكم بأصالة الواو، أو الحكم بزيادتها، فلما كان الأمر كذلك كان القول بجعلها أصلًا أولى من القول بجعلها زائدة؛ لأن الواو قد تكون أصلًا في ذوات الأربعة على وجه من الوجوه أي: في حال التضعيف كما تقدم في الوصوصة والوحوحة ونحوهما، أما أن تزاد أولًا فإن هذا أمر لم يوجد على حال

من الأحوال، فكان ارتكاب ما هو موجود خيرًا من ارتكاب ما هو مفقود وليس بموجود. والمثال الثاني: نحو: فيها قائمًا رجل، لما كان المتكلم بيْن أن يرفع قائمًا فيقول: فيها قائم رجل، فيجعل اسم الفاعل صفة متقدمة على موصوفها، وهذا لا يكون بحال من الأحوال، وبين أن ينصبه فيقول: فيها قائمًا رجل، فيجعل قائمًا حالًا من النكرة، وذلك مع قلته جائز. لما كان المتكلم لا بد من ارتكابه أمرًا من هذين الأمرين حمل المسألة على الحال فنصب، وإنما لم يجز أن تتقدم الصفة على الموصوف لأن الصفة لا تكون إلا تابعة، والتابع لا يتقدم على المتبوع، ولأن الصفة تجري مجرى الصلة في الإيضاح؛ فلا يجوز تقديمها على الموصوف، كما لا يجوز تقديم الصلة على الموصول، وإنما كان الأمر الأخير وهو جعل الصفة المتقدمة على موصوفها النكرة حالًا من النكرة قليل الورود؛ لأن أصل صاحب الحال أن يكون معرفة؛ لأنه محكوم عليه بالحال، وحق المحكوم عليه أن يكون معرفة؛ لأن الحكم على المجهول لا يفيد غالبًا، إذ للحال شبه بالخبر، ولصاحبها شبه بالمبتدأ، ومن هنا لم يكن صاحب الحال نكرة إلا بمسوغ يُقربه من المعرفة، كما لم يكن المبتدأ نكرة إلا بمسوغ. ومن مسوغات تنكير صاحب الحال تقديم الحال عليه كالمثال المذكور، وقد أشار سيبويه في (الكتاب) إلى ذلك فقال: "هذا باب ما ينتصب، لأنه قبيح أن يوصف بما بعده، ويبنى على ما قبله، وذلك قولك: هذا قائمًا رجل، وفيها قائمًا رجل، لَما لم يجز أن توصف الصفة بالاسم، وقبح أن تقول: فيها قائم، فتضع الصفة موضع الاسم، كما قبح: مررت بقائم، وأتاني قائم؛ جعلت القائم حالًا، وكان المبني على الكلام ما بعده. ولو حسن أن تقول: فيها قائم؛ لجاز: فيها

قائم رجل، لا على الصفة، ولكنه لما قال: فيها قائم قيل له: من هو وما هو؟ فقال: رجل أو عبد الله. وقد يجوز على ضعفه، وحُمل هذا النصب على جواز: فيها رجل قائمًا، وصار حين أُخر وجه الكلام فرارًا من القبح" انتهى. واستشهد سيبويه على ورود النصب على الحال من النكرة بقول ذي الرمة: وتحت العوالي في القنا مستظلة ... ظباء أعارتها العيونَ الجآذرُ القنا: هي الرماح، وعواليها: صدورها، والجآذر: جمع جُؤذر أو جؤذر بضم الذال وفتحها، وهو ولد البقرة الوحشية. يصف الشاعر نسوة سُبِينَ أي: وقعن في الأسر، فصرن تحت سيطرة الرماح، والعرب تشبه النساء بالظباء في طول الأعناق وانطواء الكَشح أي: الخاصرة. والشاهد فيه نصب مستظلة على الحال، بعد أن كانت صفة لظباء متأخرة. وقد كان التقدير قبل تقديم الصفة: وتحت العوالي في القنا ظباء مستظلة، فلما صارت متقدمة؛ امتنع أن تكون صفة لها، لأن الصفة لا تتقدم على الموصوف. كما استشهد سيبويه على ذلك أيضًا بقول الآخر: وبالجسم مني بَيِّنًا لو علِمْتِه ... شحوب وإن تستشهد العين تشهد يذكر شحوبه وتغير جسمه تغيرًا ظاهرًا، لما يقاسي من الوجد بصاحبته، وأنها لو طلبت من عينها أن تشهد على ذلك لشهدت. والشاهد فيه تقديم بينًا على شحوب، ونصبه على الحال بعد أن كان صفة متأخرة، وأصله: وبالجسم مني شحوب بيِّن، فحدث فيه ما حدث في ما قبله، ومن شواهد سيبويه على ذلك أيضًا قول كثير: لمية موحشا طلل ... يلوح كأنه خِلَل والطلل: ما شخص من آثار الديار، والموحش: مِن أوحش المنزل إذا ذهب عنه الناس وصار ذا وحشة، وهي الخلوة والهم، والخلل: جمع خِلة، وهي بطانة

يُوَشَّى بها غِمد السيف، وتكون منقوشة بالذهب وغيره، والشاهد فيه نصب موحشًا على الحال، وقد كان صفة في الأصل، وكان التقدير: لمية طلل موحش، فلما تقدم نصب على الحال. ويروى البيت الأخير في غير (الكتاب): لعزة موحشا طلل قديم ... عفاه كل أسحم مستديم وعفاه بمعنى درَسه وغيَّره، والأسحم: هو الأسود، والمراد هنا السحاب؛ لأنه إذا كان ذا ماء يُرى أسود لامتلائه، والمستديم صفة كل، وهو السحاب الممطر المستمر مدة أقلها ثلث النهار، أو ثلث الليل، قيل: من روى البيت: لعزة موحشًا قال: إنه لكثير عزة، ومن رواه: لمية موحشًا قال: إنه لذي الرمة، فإن عزة تنسب لكثير، ومية تنسب لذي الرمة. وأكثر ما يكون فيه تقديم الصفة على الموصوف، وجعلها حالًا في الشعر، ولذلك عقَّب سيبويه على الشواهد الشعرية التي أوردها على ذلك بقوله: "وهذا كلام أكثر ما يكون في الشعر، وأقل ما يكون في الكلام". يعني: في الكلام الاختياري. وأورد ابن جني في (الخصائص) مثالًا ثالثًا لتعارض القبيحين، والحمل على أقلهما قبحًا نذكره من باب إكمال النفع، وإن كان لم يرد في (الاقتراح). قال ابن جني: "وكذلك: ما قام إلا زيدًا أحد، عدلت إلى النصب" يعني ابن جني: أنه إذا تقدم المستثنى على المستثنى منه في غير الإيجاب أي: في النفي أو شبهه كالمثال المذكور الذي تقدم فيه المستثنى زيدًا على المستثنى منه أحد، وتقدَّم على الكلام أداة نفي، عدلْتَ عن الحكم الذي كان يستحقه هذا المستثنى لو لم يتقدم على المستثنى منه، وجاء في موضعه الأصلي وهو الرفع على الإتباع للمستثنى منه المرفوع، على أنه بدل بعض من كل عند البصريين، وعطف نسق عند الكوفيين؛ لأن "إلا" عندهم من حروف العطف في باب الاستثناء خاصة. قال ابن جني معللًا عدولك في نحو ما ذُكر من الإتباع إلى النصب: "لأنك إن رفعت لم

تجد قبله ما تُبدله منه -يعني: على رأي البصريين- وإن نصبت دخلت تحت تقديم المستثنى على ما استثني منه، وهذا -أي: تقديم المستثنى على المستثنى منه- وإن كان ليس في قوة تأخيره عنه، فقد جاء على كل حال، فاعرف ذلك أصلًا في العربية تحمل عليه غيره". يعني ابن جني: أنك في نحو المثال المذكور بين أمرين كلاهما قبيح، ولا بد من ارتكاب أحدهما: أن ترفع المستثنى على الإتباع، لكنك لن تجد متبوعًا قبله تتبعه له، ولا يُتبع لما بعده عند أصحابه البصريين؛ لأن التابع لا يتقدم على المتبوع. والآخر أن تنصبه على الاستثناء، فتدعي تقديم المستثنى على المستثنى منه، وهذا مع ضعفه لمخالفته الأصل وارد على كل حال، أي: ومن ذلك قول الكميت يمدح آل هاشم: وما لي إلا آلَ أحمد شيعة ... وما لي إلا مذهب الحق مذهب والأصل: وما لي شيعةٌ إلا آلُ أحمد وما لي مذهب إلا مذهب الحق، فلما قُدِّم المستثنى على المستثنى منه؛ وجب نصبه، وأراد بأحمد النبي -صلى الله عليه وسلم. وذكر ابن يعيش في (شرح المفصل) مثالًا رابعًا لتعارض قبيحين، والحمل على أقلهما قبحًا وأقربهما فحشًا، وأثبت هذا المثال السيوطي في كتابه (الأشباه والنظائر). ذكر ابن يعيش أن حذف المضاف وإبقاء عمله ضعيف في القياس، قليل في الاستعمال. أما ضعفه في القياس فلوجهين؛ أحدهما: أن المضاف نائب عن حرف الجر وخَلَف عنه، فإذا حذفت المضاف فقد أجحفت بحذف النائب والمنوب عنه. والوجه الثاني: أن المضاف عامل في المضاف إليه الجر، ولا يحسن حذف الجار وتبقية عمله، فمن ذلك قولهم في المثل: ما كل سوداء تمرةً ولا بيضاء شحمةً، وأوضح ابن يعيش موضع الشاهد في هذا المثل بإعرابه على النحو الآتي: أن

ترفع كلًّا بما الحجازية على أنه اسمها، وتخفض سوداء بالإضافة، والفتحة علامة الخفض؛ لأنه لا ينصرف لألف التأنيث الممدودة، وتمرة منصوب على أنه خبر ما، والواو عاطفة، وبيضاء مخفوض أيضًا على تقدير إضافته إلى لفظ كلٍّ أخرى محذوفة، كأنك لفظت بها فقلت: ولا كلُ بيضاءَ، وشحمة منصوب عطفًا على تمرة. وهذا الإعراب الذي ذكره ابن يعيش إنما هو على مذهب الخليل وسيبويه والبصريين، ونحن نلاحظ أن العطف فيه إنما هو على معمولي عامل واحد، فما بعد العاطف في التقدير وهو كل بيضاء معطوف على اسم ما، وهو كل سوداء. وشحمة بالنصب معطوف على خبر ما، وهو تمرة المنصوب، فالعامل واحد وهو ما الحجازية، والعطف من باب عطف المفردات، وفي هذا الإعراب قبح، وهو تقدير حذف الجار وهو لفظ كل الواقع مضافًا إلى لفظ بيضاء، وفي ذلك حذف للجار وتبقية للمجرور كما تقدم. وقال ابن يعيش: "وكان أبو الحسن الأخفش وجماعة من البصريين يحملون ذلك، وما كان مثله على العطف على عاملين، وهو رأي الكوفيين، وذلك أن بيضاء جر عطف على سوداء، والعامل فيها كل وقوله: شحمة منصوب عطفًا على خبر ما أي: والعامل ما، ومثله عندهم: ما زيد بقائم ولا قاعد عمرو تخفض قاعدًا بالعطف على قائم المخفوض بالباء، وترفع عمرًا بالعطف على اسم ما، فهما عاملان الباء وما، كما كان في المثل عاملان: كل وما، قالوا: وقد عطفت شيئين على شيئين، والعامل فيهما شيئان مختلفان، وسيبويه والخليل لا يريان ذلك ولا يجيزانه، والحجة لهما في ذلك أن حرف العطف خلف عن العامل ونائب عنه، وما قام مقام غيره فهو أضعف منه في سائر أبواب العربية. فلا يجوز أن يتسلط على عمل الإعراب بما لا يتسلط ما أقيم مقامه، فإذا أقيم مقام الفعل؛

المجمع عليه أولى من المختلف فيه.

لم يجز أن يتسلط على عمل الجر، فلهذه العلة لم يجز العطف عندهما على عاملين، لذلك حملوه على حذف المضاف" انتهى. وقال ابن مالك في (شرح التسهيل): "العطف على عاملين بمنزلة تعديتين بمعدٍّ واحد، فلا يجوز"، والخلاصة المستنبطة أن المتكلم بنحو المثل المذكور بين أمرين قبيحين، إما أن يعطف على عاملي عاملين مختلفين، وإما أن يدعي حذف المضاف، وذلك مع قبحه أهون الضررين وأقل القبحين. المجمع عليه أولى من المختلف فيه إذا تعارض أمر أجمع عليه النحويون من البصريين والكوفيين، وأمر آخر اختلفوا فيه، فإن الرأي المجمع عليه أولى من الرأي المختلف فيه؛ لأن للإجماع مكانته عند علماء العربية، وقد عدَّه ابن جني من أصول النحو الغالبة، كما ذكر الشاطبي -رحمه الله- أن إجماع النحويين كإجماع الفقهاء وإجماع المحدِّثين، وكل علم اجتمع أربابه على مسألة منه؛ فإجماعهم حجة ومخالفهم مخطئ، وإذا كان الأمر كذلك فإن الرأي المجمع عليه أولى من الرأي المختلف فيه. ولذلك قال السيوطي: "إذا تعارض مجمع عليه ومختلف فيه فالأول أولى"، وذكر مثالًا لذلك، وهو أنه إذا كان الشاعر مضطرًا إلى قصر الممدود أو مد المقصور، فارتكاب الأول أولى؛ لإجماع البصريين والكوفيين على جوازه أي: على جواز قصر ممدود، ومنع البصريين الثاني أي: وهو مد المقصور. وفي (الإنصاف) قال أبو البركات: "أجمعوا على أنه يجوز قصر الممدود في ضرورة الشعر، إلا أن الفراء من الكوفيين اشترط في مد المقصور وقصر الممدود شروطًا لم يشترطها غيره، وذكر مثل ذلك أبو سعيد السيرافي في كتابه (ضرورة الشعر).

ومن الشروط التي اشترطها الفراء أنه لا يجوز أن يُمد من المقصور ما لا يجيء في بابه ممدود، فنحو: فَعْلى تأنيث فعلان مثل: سكرى وعطشى، هذا لا يجوز أن يمد، لأن مذكره سكران وعطشان، وفعلى تأنيث فعلان لا تجيء إلا مقصورة، ولا يجوز أن يقصر من الممدود ما لا يجوز أن يأتي في بابه مقصور نحو: تأنيث أفعل مثل: بيضاء وسوداء، فهذا لا يجوز أن يقصر؛ لأن مذكره أبيض وأسود، وفعلاء مؤنث أفعل لا يكون إلا ممدودًا". وقد ذكر الأنباري أن ما ذهب إليه الفراء من اشتراطه في قصر الممدود أن يجيء في بابه مقصور باطل؛ لأنه قد جاء القصر فيما لم يجئ في بابه مقصور، ومن ذلك قول الأعشى: والقارحَ العَدَّا وكل طِمِرَّة ... ما إن تنال يد الطويل قذالها والقارح: أراد به الفرس الذي اكتمل سنه، والطمرة: العالية، والقذال: جماع مؤخر الرأس، والشاهد قوله: العدا، أراد العَدّاء فقصره للضرورة، ووجه الاستشهاد بهذا البيت أن العداء صيغة مبالغة فعلها عدا يعدو، ولم يأت في صيغ المبالغة مقصور حتى يُحمل هذا عليه. ومن قصر الممدود المجمع على جوازه قول الراجز: لابد مِن صنعا وإن طال السفر ...... والأصل صنعاء، وأما مد المقصور فموضع خلاف بين النحويين، إذ أجازه الكوفيون متمسكين بقول الشاعر: سيغنيني الذي أغناك عني ... فلا فقر يدوم ولا غناء بمد غناء، والأصل عند الكوفيين غنى، فلما اضطر الشاعر مده. وذهب البصريون إلى أن غناء في البيت مصدر لغانيت؛ لأنهم يمنعون مد المقصور ولو في ضرورة الشعر، فتعارض قولان؛ أحدهما مجمع عليه والآخر مختلف فيه، فكان المجمع عليه أولى من المختلف فيه.

الحكم عند تعارض المانع والمقتضي.

الحكم عند تعارض المانع والمقتضي إن المراد بالمقتضي: ما يقتضي الحكم، أي: سبب الحكم، والمراد بالمانع: ما يمنع الحكم فهما نقيضان، فإذا تعارض المانع والمقتضي كان المانع مقدمًا على المقتضي، والأمثلة التي يقدم فيها المانع على المقتضي كثيرة منها؛ المثال الأول نحو: هذا راشد وذاك غادر، فراشد اتصلت بألفه راء مفتوحة، وغادر اتصلت بألفه راء مضمومة، فوجد فيهما سبب إمالة الألف وهو وقوع كسرة بعدها، كما وجد فيهما ما يمنع الإمالة وهو الراء المفتوحة أو المضمومة، فيقدم المانع على المقتضي، وبعض العرب يميل ولا يلتفت إلى الراء غير المكسورة. المثال الثاني: أيٌّ، وجد فيها سبب البناء، وهو أنها أشبهت الحرف، ووجد فيها أيضًا ما يمنع البناء، وهو لزومها الإضافة التي هي من خصائص الأسماء، فقدم المانع وامتنع البناء. والمثال الثالث: الفعل المضارع المؤكد بالنون وجد فيه سبب الإعراب، وهو مضارعته للاسم ومشابهته إيَّاه، ووجد فيه ما يمنعه الإعراب، وهو اتصال النون به، وقد باعد اتصال النون به بينه وبين الاسم فقُدِّم المانع، وأصبح المضارع الذي اتصلت به النون مبنيًّا غير معرب. والمثال الرابع: اسم الفاعل إذا وُجد شرط إعماله، وهو الاعتماد على نفي أو استفهام أو نحوهما، فإن وجد فيه ما يمنع العمل من تصغير أو وصف قَبْل العمل؛ فقد تعارض المانع والمقتضي، فيقدم المانع ويُمنع اسم الفاعل من العمل. هذا وبالله التوفيق وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 19 تابع صور التعارض والترجيح.

الدرس: 19 تابع صور التعارض والترجيح.

الحكم إذا كان أحد القولين المتعارضين مرسلا والآخر معللا.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس التاسع عشر (تابع صور التعارض والترجيح) الحكم إذا كان أحد القولين المتعارضين مرسلًا والآخر معللًا الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: إن المجتهد الواحد قد يكون له في المسألة الواحدة قولان؛ لاختلاف نظره فيها، وتغير اجتهاده إزاءها، ولقد قضى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في امرأة توفيت وتركت زوجها وأمها وإخوتها لأبيها وأمها، فأشرك عمر بين الإخوة للأم والإخوة للأب والأم في الثلث، فقال له رجل: "إنك لم تشرك بينهم عام كذا وكذا، فقال: تلك على ما قضينا يومئذٍ، وهذه على ما قضينا اليوم". وقد يكون للعالم الواحد قولان متعارضان في المسألة الواحدة في كتاب واحد من كتبه، أو في كتابين، وحينئذٍ يقف القارئ حائرًا، فلا يدري أيَّ القولين يأخذ وأي القولين يدع. وقد أفرد ابن جني -رحمه الله تعالى- بابًا في (الخصائص) عنوانه: باب في اللفظين على المعنى الواحد يردان عن العالم متضادين، وقد وضع في هذا الباب بعض القواعد التي يُمكن للقارئ أن يتعرف في ضوئها على ما ينبغي عليه الأخذ به وما يجب عليه أن يتركه، وما هو مخير بين أخذه وتركه، وذكر أن ذلك على أوجه: أحدها: إذا كان أحد القولين مرسلًا أي: غير مقيد بالدليل، والآخر معللًا أي: مقيدًا بالدليل مصحوبًا بالعلة، أُخذ بالمعلل لقيام حجته، وترك المرسل لضعفه، وعدم قيام حجته. ووجب مع ذلك أن يتأول المرسل يعني: أن يصرف عن ظاهر معناه إلى ما يطابق معنى المعلل؛ لإزالة التضاد بين القولين. ومن الأمثلة التي أوردها ابن جني على ذلك قول صاحب (الكتاب) أي: سيبويه في غير موضع في التاء من بنت وأخت: "إنها للتأنيث"، أي: ولم يذكر علة كونها للتأنيث، وقال أيضًا مع ذلك في باب ما ينصرف وما لا ينصرف: "إنها ليست للتأنيث"، واعتل لهذا القول أي: لأنها ليست للتأنيث بأن ما قبلها

ساكن، وتاء التأنيث في الواحد لا يكون ما قبلها ساكنًا، إلا أن يكون ألفًا كقناة وفتاة وحصاة، والباقي كله مفتوح كرطبة وعنبة وعلّامة ونسابة، قال -يعني سيبويه: "ولو سميت رجلًا ببنت وأخت لصرفته، وهذا واضح، فإذا ثبت هذا القول الثاني بما ذكرناه -وما زلنا مع عبارة ابن جني- وكانت التاء فيه إنما هي عنده على ما قاله بمنزلة تاء عفريت وملكوت؛ وجب أن يُحمل قوله فيها: إنها للتأنيث على المجاز، وأن يُتأول ولا يحمل القولان على التضاد" انتهى. وخلاصة ما ذكر ابن جني في النص السابق أن لسيبويه في (الكتاب) نصين متعارضين في نوع التاء في كلمتي بنت وأخت، ففي غير موضع ذكر أن التاء فيهما للتأنيث، وستعرف أنه ذكر ذلك في ثلاثة أبواب في باب الإضافة أي: النسب إلى بنات الحرفين، وباب يُجمع فيه الاسم إن كان لمذكر أو مؤنث بالتاء، كما يُجمع ما كان آخره هاء التأنيث أي: باب جمع المؤنث السالم، وباب علل ما تجعله زائدًا من حروف الزوائد، وما تجعله من نفس الحرف، ولم يعلل كونها للتأنيث، وذكر مع ذلك أنها للإلحاق في باب ما ينصرف في المذكر البتة مما ليس في آخره حرف التأنيث، وفي باب الوقف في أواخر الكلم المتحركة في الوصل. وبالرجوع إلى كتاب سيبويه نجد أن سيبويه قد تناول الحديث عن كلمتي بنت وأخت في خمسة مواضع من (الكتاب) ذكر في ثلاثة منها أن التاء فيهما للتأنيث، وفي اثنين منها أنها للإلحاق: الموضع الأول: في باب ما لا يجوز فيه من بنات الحرفين إلا الرد، وهو أحد أبواب الإضافة أي: النسب، قال: "وإذا أضفت أي: نسبت إلى أخت قلت: أخوي، هكذا ينبغي له أن يكون على القياس، وذا القياس قول الخليل من قِبل أنك لما جمعت بالتاء حذفت تاء التأنيث كما تحذف الهاء، ورددت إلى الأصل؛

فالإضافة أي: النسب تحذفه كما تحذف الهاء، وهي أَرَدُّ له إلى الأصل"، ثم قال في الباب الذي يليه: "وأما بنتٌ، فإنك تقول: بنوي من قِبل أن هذه التاء التي هي للتأنيث لا تثبت في الإضافة كما لا تثبت في الجمع بالتاء، وذلك لأنهم شبهوها بهاء التأنيث، فلما حذفوا، وكانت زيادة في الاسم كتاء سَنْبَتَة، وتاء عفريت، ولم تكن مضمومة إلى الاسم كالهاء؛ يدلك على ذلك سكون ما قبلها جعلناها بمنزلة ابن" انتهى. وظاهر ما قال في هذين النصين بالنسبة لكلمة أخت أن التاء فيها للتأنيث، وأن النسب إليها من قبيل النسب إلى ما ورد من الأسماء على حرفين حذف ثالثهما؛ لأن أقل أبنية الاسم المجرد ثلاثة أحرف، ولذلك عند جمعها بالألف والتاء والنسب إليها كان القياس أن يردَّ إليها ما حُذف منها وهو اللام؛ لأن الجمع والنسب مما يُردُّ فيهما الأسماء إلى أصولها، بل إن النسب أقوى من الجمع بالألف والتاء من ردِّ اللام المحذوفة إلى أصلها، فكما تقول في الجمع: أخوات برد اللام المحذوفة وهي الواو، تقول في النسب: أخوي، وذلك هو القياس عند الخليل وسيبويه. وأما بالنسبة لكلمة بنت فقد جعل حكمها في النسب كحكم نظيرتها أخت، ذاكرًا مرة أن التاء فيها هي التاء التي للتأنيث، ومرة أخرى أنهم شبهوها بهاء التأنيث. والموضع الثاني: قال: "هذا باب يُجمع فيه الاسم إن كان لمذكر أو مؤنث بالتاء، كما يُجمع ما كان آخره هاء التأنيث، وتلك الأسماء التي آخرها تاء التأنيث، فمن ذلك بنت إذا كان اسمًا لرجل، تقول: بنات من قِبَل أنها تاء التأنيث لا تثبت مع تاء الجمع، كما لا تثبت الهاء، فمن ثم صيرت مثلها، وكذلك هَنْت وأخت، لا تجاوز هذا فيها" انتهى.

والموضع الثالث: في باب علل ما تجعله زائدًا من حروف الزوائد، وما تجعله من نفس الحرف، قال: "وكذلك تاء أخت وبنت، وثنتين، وكلتا؛ لأنهن لحقن للتأنيث، وبُنِينَ بناء ما لا زيادة فيه من الثلاثة، كما بنيت سنبتة بناء جندلة" انتهى. وأما الموضعان اللذان ذكر سيبويه فيهما أن تاءهما للإلحاق فهما: الموضع الأول: في باب ما ينصرف في المذكر البتة مما ليس في آخره حرف التأنيث، قال: "وإن سميت رجلًا ببنت وأخت صرفته؛ لأنك بنيت الاسم على هذه التاء، وألحقتها ببناء الثلاثة، كما ألحقوا سنبتة بالأربعة، ولو كانت كالهاء لما أسكنوا الحرف الذي قبلها؛ فإنما هذه التاء فيها كتاء عفريت، ولو كانت كألف التأنيث لم ينصرف في النكرة، وليست كالهاء لما ذكرت لك، وإنما هذه زيادة في الاسم بني عليها وانصرف في المعرفة، ولو أن الهاء التي في دجاجة كهذه التاء انصرف في المعرفة" انتهى. والموضع الثاني: في باب الوقف في أواخر الكلم المتحركة في الوصل، قال: "فعلامة التأنيث إذا وصلته التاء، وإذا وقفت ألحقت الهاء، أرادوا أن يفرقوا بين هذه التاء والتاء التي هي من نفس الحرف نحو: تاء القَت، وما هو بمنزلة ما هو من نفس الحرف نحو: تاء سنبتة، وتاء عفريت؛ لأنهم أرادوا أن يلحقوهما ببناء قَحْطَبة، وقنديل. وكذلك التاء في بنت وأخت لأن الاسمين ألحقا بالتاء ببناء عُمْر وعِدْل، وفرقوا بينها وبين تاء المنطلقات؛ لأنها كأنها منفصلة من الأول، كما أن موت منفصل من حضر في حضرموت" انتهى. وكان هذا مظهرًا من مظاهر العجب في كتاب سيبويه، وأوقع كثيرًا من النحاة في اضطراب، وهم يحاولون الوقوف على حقيقة التاء في الكلمتين المذكورتين في ضوء ما ذكر إمام النحاة سيبويه، حتى قال شيخنا المرحوم الشيخ محمد عبد

الخالق عضيمة -طيب الله ثراه- في كتابه القيم (فهارس كتاب سيبويه): "عنيت ببحث موضوع الإلحاق منذ عشرين سنة فكتبت عنه بحثًا ضافيًا شغل أربعين صفحة، أرسيت قواعده، وأوضحت أماراته. ثم بعد هذا رأيت أبا الفتح أي: ابن جني في (المنصف) وابن سيده في (المخصص)، وابن يعيش وغيرهم يقولون: إن تاء بنت للإلحاق بجذع، وتاء أخت للإلحاق بقُفل، هالني الأمر؛ إذ لم أر إلحاق ثلاثي بثلاثي في غير هذا، ثم إن التاء في بنت وأخت تدل على التأنيث، وشأن حرف الإلحاق ألا يدل على معنى مطرد، قرأت كثيرًا في كتاب سيبويه فلم أهتدِ إلى شيء، ثم بعد سنوات أوقفتني المصادفة وحدها على حديث سيبويه عن ذلك في باب الوقف، من كان يخطر بباله أو يقع في ظنه أن يعرض سيبويه لمسألة من الإلحاق في الوقف، وما صلة باب الوقف بالإلحاق، شتان ما بينهما" انتهى كلام شيخنا -عليه رحمة الله. ولذلك من العلماء من رأى أن التاء فيهما بدل من اللام المحذوفة، وأنها دالة على التأنيث؛ أخذًا بظاهر ما ورد في (الكتاب)، ومن هؤلاء المالقي المتوفى في السنة الثانية بعد السبعمائة من الهجرة، قال في كتابه (رصف المباني في شرح حروف المعاني): "وأما أخت وبنت وهنت، فذهب الأكثرون إلى أنها -أي: التاء- عوض من لام الكلمة، لأنها واو أو ياء في الأصل فأصلها أَخَوَة، وهَنَوَة، وبنوة، وأعلوها بالحذف كما أعلوا مذكرها، وذهب بعضهم إلى أنها علامة تأنيث، والصحيح أنها عوض من لام الكلمة التي هي واو في الأصل، كما تقدم، ولكن مع ذلك تدل على التأنيث بلفظها، ويخرج من مذهب سيبويه القولان، وظاهر مذهبه أنها بدل، ودالة على التأنيث" انتهى.

وذهب أكثر العلماء ومنهم ابن جني إلى أن مذهب سيبويه هو القول الثاني أي: أن التاء فيهما للإلحاق، ذكر ذلك في (الخصائص)، وفي (سر صناعة الإعراب)، وفي (المنصف)، كما ذكر أن أصل أخت أَخَوَة، وأصل بنت بنوة، وأن وزنهما في الأصل فَعَل، فنُقلوا إلى فُعْل وفِعْل، وألحقوهما بالتاء المبدلة من لامهما بوزن قفل، وحِلْس، فقالوا: أخت وبنت، وقال في (سر صناعة الإعراب): "وليست التاء فيهما بعلامة تأنيث، كما يظن من لا خبرة له بهذا الشأن؛ لسكون ما قبلها هذا مذهب سيبويه، وهو الصحيح وقد نص عليه في باب ما لا ينصرف فقال: لو سميت بهما رجلًا لصرفتهما معرفة، ولو كانت للتأنيث لما انصرف الاسم" انتهى. وأوضح ابن جني أن وجه الجمع بين القولين الواردين في كتاب سيبويه أن هذه التاء، وإن لم تكن عنده للتأنيث فإنها لمَّا لم توجد في الكلمة إلا في حال التأنيث؛ استجاز أن يقول فيها: "إنها للتأنيث"؛ على أن سيبويه قد تسمح في بعض ألفاظه في (الكتاب) فقال: "هما علامتا تأنيث" وإنما ذلك تجوز منه في اللفظ؛ لأنه أرسله غُفْلًا، وقد قيده وعلله في باب ما لا ينصرف، والأخذ بقوله المعلل أولى من الأخذ بقوله الغفل المرسل، ووجه تجوزه أنه لما كانت التاء لا تُبدل من الواو فيهما إلا مع المؤنث صارتا كأنهما علامتا تأنيث. ونذكر تفسيرًا لبعض الكلمات اللغوية التي وردت في نصوص (الكتاب) السابقة، فنقول: القَتُّ: الكذب، وقحطبة: عَلَم، والسنبتة: سوء الخلق، وسرعة الغضب، والمدة من الزمن، والهنت: كناية عن الشيء يُستفحش ذكره، والجندلة: واحدة الجندل، وهو الصخر العظيم، والعِدْل: من معانيه المثل والنظير.

الحكم إذا كان القولان المتعارضان مرسلين وأمكن تأويل أحدهما.

الحكم إذا كان القولان المتعارضان مرسلين وأمكن تأويل أحدهما أشار ابن جني في (الخصائص) إلى الحكم إذا كان القولان لعالم واحد في مسألة واحدة قد وردا عنه متضادين، وكانا مرسلين أي: مطلقين من التعليل بقوله: "ومن ذلك أن يرد اللفظان عن العالم متضادين على غير هذا الوجه، أي: على غير الوجه الأول الذي سبق الحديث عنه، وهو أن يحكم في شيء بحكم ما، ثم يحكم فيه نفسه بضده، غير أنه لم يُعلل أحد القولين، فينبغي حينئذٍ أن يُنظر إلى الأليق بالمذهب، والأجرى على قوانينه، فيُجعل هو المراد المعتزم منهما، ويتأول الآخر إن أمكن"، وذكر ابن جني مثلًا لذلك بما وقع من سيبويه في (الكتاب) في ناصب الفعل المضارع الواقع بعد حتى، فقال: "وذلك كقوله -يريد سيبويه- حتى الناصبة للفعل، وقد تكرر من قوله أنها حرف من حروف الجر، وهذا نافٍ؛ لكونها ناصبة له، من حيث كانت عوامل الأسماء لا تباشر الأفعال، فضلًا عن أن تعمل فيها. وقد استقر من قوله في غير مكان ذكر عدة الحروف الناصبة للفعل، وليست فيها حتى، فعُلم بذلك وبنصه عليه في غير هذا الموضع أن أن مضمرة عنده بعد حتى، كما تُضمر مع اللام الجارة في نحو قوله سبحانه: {يَغْفِرْ لَكَ اللهُ} (الفتح: 2) ونحو ذلك، فالمذهب إذن هو هذا". وإذا انتقلنا قليلًا من ابن جني إلى (الكتاب) لسيبويه وقفنا على الآتي: أولًا: من أبواب (الكتاب): هذا باب إعراب الأفعال المضارعة للأسماء، وقد صدره سيبويه بقوله: "اعلم أن هذه الأفعال لها حروف تعمل فيها فتنصبها، لا تعمل في الأسماء، كما أن حروف الأسماء التي تنصبها لا تعمل في الأفعال"، وتلا هذا الباب مباشرة باب الحروف التي تُضمر فيها أن، وبدأه سيبويه بقوله: "وذلك اللام التي في قولك: جئتك لتفعل، وحتى، وذلك قولك: حتى تفعل ذاك، فإنما

انتصب هذا بأن، وأنْ ها هنا مضمرة، ولو لم تضمرها؛ لكان الكلام محالًا، لأن اللام وحتى إنما يعملان في الأسماء فيجران، وليستا من الحروف التي تُضاف إلى الأفعال، فإذا أضمرت أنْ حسن الكلام، لأن "أنْ" وتفعل بمنزلة اسم واحد، كما أن "الذي" وصلته بمنزلة اسم واحد، فإذا قلت: هو الذي فعل، فكأنك قلت: هو الفاعل، وإذا قلت: أخشى أن تفعل، فكأنك قلت: أخشى فعلك، أفلا ترى أن أنْ تفعل بمنزلة الفعل، فلما أضمرت أن؛ كنت قد وضعت هذين الحرفين مواضعهما، لأنهما لا يعملان إلا في الأسماء، ولا يضافان إلا إليها، وأنْ تفعل بمنزلة الفعل". ثم قال في الباب نفسه: "واعلم أن أنْ لا تظهر بعد حتى وكي، كما لا يظهر بعد أما الفعل في قولك: أما أنت منطلقًا انطلقت، واكتفوا عن إظهار أنْ بعدهما بعلم المخاطب أن هذين الحرفين لا يُضافان إلى فعل، وأنهما ليسا مما يعمل في الفعل، وأن الفعل لا يحسن بعدهما إلا أن يُحمل على أنْ، فأنْ ها هنا بمنزلة الفعل في أما. وما كان بمنزلة أما مما لا يظهر بعده الفعل، فصار عندهم بدلًا من اللفظ بأنْ" انتهى. وهكذا يذكر سيبويه غير مرة أن حتى من عوامل جر الأسماء، وأن عوامل الأسماء لا تعمل في الأفعال، كما أن عوامل الأفعال لا تعمل في الأسماء، وأن الفعل المضارع المنصوب بعد حتى منصوب بأنْ مضمرة بعدها، وأنها والفعل بمنزلة اسم واحد هو المصدر. وبعد صفحات قليلة من الباب السابق في (الكتاب) نجد بابًا عنوانه: هذا باب حتى، يقول سيبويه في أوله: "اعلم أن حتى تنصب على وجهين؛ فأحدهما: أن تجعل الدخول غاية لمسيرك، وذلك قولك: سرت حتى أدخلها، كأنك قلت: سرت إلى أنْ أدخلها، فالناصب للفعل ها هنا هو الجار للاسم، إذا كان غاية؛ فالفعل إذا كان غاية نصب، والاسم إذا كان غاية جر، وهذا قول الخليل. وأما الوجه الآخر: فأن يكون السير قد كان، والدخول لم يكن، وذلك إذا جاء مثل كي التي فيها إضمار أن وفي معناها، وذلك قولك: كلمته حتى يأمر لي بشيء" انتهى.

الحكم إن لم يمكن التأويل.

فظاهر النص الأخير يتعارض مع ما ورد في النص الأول، إذ النص الأخير يدل بظاهره على نسبة النصب للفعل المضارع إلى حتى، من غير إشارة إلى "أنْ" من قريب أو من بعيد، غير أن الأمر كما أوضح ابن جني أنه قد تكرر من قول سيبويه أن حتى من حروف الجر، وهذا نافٍ لكونها ناصبة للفعل المضارع من حيث كانت عوامل الأسماء لا تُباشر الأفعال، فضلًا عن أن تعمل فيها، كما استقر من قوله في غير موضع: "ذكر عدة الحروف الناصبة للفعل"، وليست فيها حتى، فعُلم بذلك وبنصه على أن أنْ هي الناصبة مضمرة بعد حتى أن المذهب والأجرى على قوانينه، أن حتى من حروف الجر، وأن الناصب بعدها أنْ مضمرة وجوبًا. ومن هنا فقد حرص ابن جني على إزالة هذا التعارض الظاهر بين القولين بتأويل القول الثاني فقال: "ووجه القول في الجمع بين القولين بالتأويل أن الفعل لما انتصب بعد حتى، ولم تظهر هناك أنْ، وصارت حتى عوضًا منها ونائبة عنها؛ نسب -أي: سيبويه- النصب إلى حتى، وإن كان في الحقيقة لـ: أنْ" انتهى. الحكم إن لم يمكن التأويل إذا تعذر الأخذ بأحد القولين المرسلين المتعارضين لعدم إمكان الرجوع عن الآخر بضرب من التجوز والتأويل، فإن نص العالم في أحدهما عن الرجوع عن الآخر؛ عُلم بذلك أن رأيه مستقر على ما أثبته ولم ينفيه، وأن القول الآخر مطرح متروك، لا يُنسب إليه بعد رجوعها، قال ابن جني: "ومن ذلك أن يرد اللفظان عن العالم متضادين، غير أنه نص في أحدهما على الرجوع عن القول الآخر؛ فيُعلم بذلك أن رأيه مستقر على ما أثبته ولم ينفِهِ، وأن القول الآخر

مطرح من رأيه"، ثم ذكر أن من أمثلة الشائع في الرجوع عنه من المذاهب ما كان أبو العباس المبرد قد تتبع به كلام سيبويه وجمعه في كتاب سماه (مسائل الغلط)، ثم اعتذر منه وكان يقول: "هذا شيء كنا رأيناه في أيام الحداثة، فأما الآن فلا". فإن تعذر الأخذ بأحدهما وتأويل الآخر، ولم ينص العالم على الرجوع عن أحدهما، واستبهم الأمر فلم يُعرف التاريخ؛ وجب سبر المذهبين، وإنعام الفحص عن حال القولين، فإن كان أحدهما أقوى من صاحبه؛ وجب إحسان الظن بذلك العالم، وأن ينسب إليه أن الأقوى منهما هو قوله المعتمد الذي به يقول وله يعتقد، وأن الأضعف منهما هو القول الذي تركه ولم يعتمده، وإن تساوى القولان في القوة؛ وجب أن يُعتقد أنهما رأيان له، وأن الدواعي إلى تساويهما عند الباحث عنهما هي الدواعي التي دعت القائل بهما إلى أن اعتقد كلًّا منهما. وذكر ابن جني أن أبا الحسن الأخفش كان يقع له ذلك كثيرًا، حتى إن أبا علي كان إذا عرض له قول عنه يقول: "لا بد من النظر في إلزامه إياه؛ لأن مذاهبه كثيرة"، كما حكى عن أبي علي -رحمه الله- أنه كان يقول في هيهات: "أنا أفتي مرة بكونها اسمًا سُمي به الفعل كصه ومه، وأفتي مرة أخرى بكونها ظرفًا على قدر ما يحضرني في الحال"، وقال مرة أخرى: "إنها وإن كانت ظرفًا فغير ممتنع أن تكون مع ذلك اسمًا سُمي به الفعل كعندك ودونك" يعني: أن أبا علي كان يرى مرة أن هيهات اسم فعل ماض بمعنى بعُد كصه، التي هي اسم فعل أمر بمعنى: اسكت، ومه التي هي اسم فعل أمر أيضًا بمعنى اكفف، فيفتي بذلك، ومرة أخرى يراها ظرفًا فيفتي بكونها ظرفًا يعني إذا قلت: هيهات ما تقول، فالمعنى: في البُعد ما تقول. وكان مرة ثالثة يرى أنها وإن كانت ظرفًا فغير ممتنع أن تكون ظرفًا سُمي به الفعل.

وتابع ابن جني حديثه عن شيخه أبي علي، وبيان ما كان يفعله إزاء ما يسمعه من أقوال أبي الحسن الأخفش الكثيرة فقال: "وكان إذا سمع شيئًا من كلام أبي الحسن -أي: الأخفش- يُخالف قوله يقول: عكر الشيخ، يعني: أخرج كلامه عن الوضوح والصفاء إلى الغموض والخفاء، قال: وهذا ونحوه -أي: ما يخطر بباله من الأفكار والإدراكات- من خلاج الخاطر، وتعادي المناظر، وهو الذي دعا أقوامًا إلى أن قالوا بتكافؤ الأدلة أي: بتساويها، واحتملوا أثقال الصغار والذلة. قال: وحدثني أبو علي قال: قلت لأبي عبد الله البصري: أنا أعجب من هذا الخاطر في حضوره تارة ومغيبه أخرى، وهذا يدل على أنه من عند الله، فقال: نعم، هو من عند الله إلا أنه لا بد من تقديم النظر" انتهى. وأختم بذكر مثال للقولين المتضادين لعالم واحد، وبالبحث عن تاريخهما يُعلم أن الثاني هو ما اعتزمه ذلك العالم، وأن الأول يُعدُّ مرجوعًا عنه في ضوء ما وضعه ابن جني من قوانين، وما نص عليه من قواعد، وإن لم يذكر لنا مثالًا لذلك. وذلك المثال الذي نورده هنا من واقع بعض مؤلفات ابن مالك -رحمه الله تعالى. قال ابن مالك في كتاب (التسهيل) باب إعمال المصدر: "والغالب إن لم يكن بدلًا من اللفظ بفعله تقديره به بعد أنِ المخففة أو المصدرية، أو ما أختها". ويُفهم من هذه العبارة شيئان؛ أحدهما: أن المصدر العامل عمل فعله نوعان: نوع يقدر بالفعل، وحرف مصدري من الأحرف الثلاثة، ونوع يقدر بالفعل وحده وهو الآتي بدلًا من اللفظ بفعله. والآخر: أن تقدير المصدر بالفعل والحرف المصدري في النوع الأول ليس شرطًا لازمًا في عمل المصدر، بل هو عند ابن مالك شرط غالب يعني: قد يتخلف،

وأيَّد ذلك في (شرح التسهيل) فقال: "وليس تقدير المصدر العامل بأحد الأحرف الثلاثة شرطًا في عمله، ولكن الغالب أن يكون كذلك"، لكنه رجع عن ذلك الرأي الذي خالف فيه جمهور النحاة في (الألفية) قال في باب إعمال المصدر: بفعله المصدر ألحق في العمل ... مضافًا او مجردًا أو مع ال إن كان فعل مع أن أو ما يحل ... محله والاسم مصدر عمل وتبعه شراحها في اشتراط ما اشترطه فيها، فإذا انتقلنا إلى (الكافية الشافية) لابن مالك أيضًا وجدناه يقول في نظمها: كفعله المصدر أعمل حيثما ... يصح حرف مصدري تمما ثم يقول في الشرح: "وينبغي أن يُعلم أن المصدر العامل على ضربين؛ أحدهما: مقدر بالفعل وحرف مصدري، والثاني: مقدر بالفعل وحده، فإن أُريد بالأول الحال قُدِّر بـ: ما المصدرية والفعل، ولم يقدر بـ: أنْ؛ لأن مصحوبها لا يكون حالًا، وإن أريد به غير الحال؛ جاز أن يُقدَّر بـ: أن وبـ: ما، ولأجل الحاجة إلى غير أنْ قلت -يعني: في النظم: حرف مصدري، ثم قال: ولأجل تقديره أي: المصدر العامل بفعل وحرف مصدري، جُعل هو ومعموله كموصول وصلته"، انتهى كلام ابن مالك في (شرح الكافية الشافية)، وهكذا رجع عن الرأي الذي أثبته في (التسهيل) وشرحه. هذا وبالله التوفيق.

الدرس: 20 ما رجحت به لغة قريش على غيرها.

الدرس: 20 ما رجحت به لغة قريش على غيرها.

مصادر لغة قريش.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس العشرون (ما رجحت به لغة قريش على غيرها) مصادر لغة قريش الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن والاه، أما بعد: إن لغة العرب هي إحدى اللغات السامية، وقد انقسمت هذه اللغة إلى لهجات عديدة في أنحاء شبه الجزيرة العربية، وأدَّى إلى هذا الانقسام أن أصحاب اللغة الواحدة كانوا يعيشون في بيئة جغرافية واسعة، تختلف الطبيعة فيها من مكان إلى مكان، وأدَّى هذا الاختلاف إلى وجود لهجات تنتمي إلى اللغة نفسها. وقد عُرفت هذه اللهجات عند القدماء باسم اللغات، وقد عقد ابن جني بابًا في (الخصائص) عنوانه: اختلاف لغات العرب وكلها حجة، والمراد باللغات اللهجات، وكذلك قول السيوطي: "لغة قريش"، يريد به لهجتها التي تنتمي إلى اللغة العربية. فاللهجة أخص من اللغة، واللغة أعم منها؛ لأن العلاقة بين اللغة واللهجة هي العلاقة بين العام والخاص، إذ إن اللهجة طريقة معينة في الاستعمال اللغوي، توجد في بيئة خاصة من بيئات اللغة الواحدة. وقد اتفق القدماء على أن لهجة قريش هي أفصح اللهجات العربية وأعلاها، وأنها اللغة التي سادت شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام. يقول ابن فارس -رحمه الله: "أجمع علماؤنا بكلام العرب والرواة لأشعارهم والعلماء بلغاتهم، وأيامهم، ومحالهم أن قريشًا أفصح العرب ألسنة، وأصفاهم لغة، وذلك أن الله -جل ثناؤه- اختارهم من جميع العرب واصطفاهم، واختار منهم نبي الرحمة محمدًا -صلى الله عليه وسلم، فجعل قريشًا قُطَّان حرمه، وجيران بيته الحرام، وولاته، فكانت وفود العرب من حجاجها وغيرهم، يفدون إلى مكة للحج، ويتحاكمون إلى قريش في أمورهم، وكانت قريش تعلمهم مناسكهم وتحكم بينهم، ولم تزل العرب تعرف لقريش فضلها عليهم، وتسميها أهل الله؛ لأنهم

الصريح من ولد إسماعيل -عليه السلام- لم تشبهم شائبة، ولم تنقلهم عن مناسبهم ناقلة، فضيلة من الله -جل ثناؤه- لهم وتشريفًا، إذ جعلهم رهط نبيه الأَدْنَيْن، وعترته الصالحين" انتهى. وإنما كانت لغة قريش هي اللغة الغالبة لعدة أسباب: منها أن قبيلة قريش هي القبيلة التي قامت بخدمة البيت الحرام، والعناية بشئونه، واستضافة الحجيج وسقايتهم، وتعليمهم مناسكهم، وقد كان العرب من مختلف القبائل يحجون إلى بيت الله الحرام، ويتحدثون بلغاتهم المختلفة، وكانت قريش تستمع إلى هذه اللغات، فتختار منها أحسنها وأصفاها، وتترك منها ما تراه مخلًّا بالفصاحة، وقد نقل السيوطي عن أبي نصر الفارابي أن قريشًا كانت أجود العرب انتقادًا للأفصح من الألفاظ، وأسهلها على اللسان عند النطق، وأحسنها مسموعًا وإبانة عما في النفس. ومن هنا كانت لغة قريش هي أفصح لغات العرب، والسبب في ذلك أنها تكلمت بما استحسنته من لغات العرب، وقد نقل السيوطي عن الفراء قوله: "كانت العرب تحضر الموسم في كل عام، وتحج البيت في الجاهلية، وقريش يسمعون لغات جميع العرب، فما استحسنوه من لغاتهم تكلموا به، فصاروا أفصح العرب، وخلت لغتهم من مستبشع اللغات، ومستقبح الألفاظ" انتهى. ومعنى ما ذكره السيوطي: أن قريشًا كانت تنتقي من الألفاظ أفصحها، ومن التراكيب أسهلها، وقد أدَّى ذلك إلى أن تكون للغة قريش الغلبة على غيرها من اللغات، حتى أصبحت لغة عامة العرب، استعملتها القبائل المختلفة في نتاجها الأدبي من شعر، ونثر، وإن احتفظت كل قبيلة بخصائصها اللهجية، فيما يدور بين أبنائها من حديث يومي، ومن هنا تجلت حكمة الخالق -تبارك وتعالى- حين اختار هذه اللغة؛ لتكون لغة القرآن الكريم.

صفاء لغة قريش وخلوها من مستبشع اللغات.

صفاء لغة قريش وخلوها من مستبشع اللغات لقد خلت لغة قريش من تلك الخصائص اللهجية التي ذكرها السيوطي في (الاقتراح)، وهي: الكشكشة، والكسكسة، والعنعنة، والفحفحة، والوكم، والوهم، والعجعجة، والاستنطاء، والوتن، والشنشنة. فهذه هي الخصائص اللهجية التي عُرفت عند بعض القبائل، وقد خلت منها لغة قريش. ونشير إلى أمر ذي بال، وهو أن العرب في الجاهلية لم تكن تعرف هذه الألقاب، وإنما ذكرها رجل من جَرْم كان في مجلس معاوية بن أبي سفيان، وقد سأل معاوية جلساءه قائلًا لهم: "من أفصح الناس؟ فقام رجل من السماط -أي: من الصف، أو من أمام مائدة الطعام- فقال: قوم تباعدوا عن فراتية العراق، وتيامنوا عن كشكشة تميم، وتياسروا عن كسكسة بكر، ليس فيهم غمغمة قضاعة، ولا طُمْطُمانية حمير، فقال له معاوية: من أولئك؟ فقال: قومك يا أمير المؤمنين، فقال له معاوية: من أنت؟ قال: رجل من جرم"، قال الأصمعي: "وجرم من فصحاء الناس". وقد شاعت هذه الألقاب منسوبة إلى بعض القبائل العربية التي نطقت بها. أولًا: الكَشْكَشة بالشين المعجمة، وإلحاق الشين بالكاف، وقد سُميت هذه اللغة بالكشكشة؛ لاجتماع الكاف والشين فيها، وقيل: تُسمى هذه اللغة الكشكشة بكسر الكافين، قيل: وهو الأصل لحكاية الكسر أي: حكاية كِشكِش، فركب، ولكون الكاف للمؤنث، ومن يفتحهما يأتي بهما على حد قولهم في التعبير عن بسم الله بالبسملة. وقد نسب السيوطي وبعض العلماء هذه اللغة إلى ربيعة ومضر، ونسبها ابن جني إلى ربيعة وحدها في (الخصائص)، والمراد بالكشكشة

نطقهم بالشين بعد كاف الخطاب في المؤنث أي: أنهم يجعلون بعد كاف الخطاب في المؤنث شينًا، سواء أكانت كاف الخطاب للمؤنث في موضع نصب، أم كانت في موضع جر، فمثال ما كانت فيه كاف الخطاب في موضع نصب: رأيتكِ، وربيعة ومضر يقولون: رأيتكش، ومثال ما كانت فيه الكاف في موضع جر: مررت بك، وربيعة ومضر يقولون: مررت بكش، بزيادة الشين بعد الكاف في الموضعين. ونلحظ أن الكاف هنا لا يلحقها تغيير، بل هي مكسورة على أصلها في الجميع، ولم يكن الناطقون بالكشكشة سواء؛ بل افترقوا ثلاث فرق؛ الفرقة الأولى: تثبت الكاف بعد الشين في حال الوقف فقط، وهو الأشهر، فإذا وصلت لم تثبت الشين، وقد أشار سيبويه إلى هذه اللغة بقوله في (الكتاب): "وقوم يُلحقون الشين ليبينوا بها الكسرة في الوقف، وذلك قولهم: أعطيتكش، وأكرمكش، فإذا وصلوا تركوها" انتهى. كما أشار إليها ابن جني فقال حكاية عن أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب: "وأما كشكشة ربيعة، فإنما يريد قولها مع كاف ضمير المؤنث إنكش، ورأيتكش، وعطيتكش، تفعل هذا في الوقف، فإذا وصلت أسقطت الشين". والفرقة الثانية: تثبت الكاف بعد الشين في الوصل والوقف جميعًا. والفرقة الثالثة: تجعل الشين في موضع الكاف فتقول: منش، والمراد منك، ويقولون: عليش والمراد عليك، وقد نسب سيبويه هذه اللغة إلى ناس كثير من تميم وأسد، فقال في (الكتاب): "فأما ناس كثير من تميم، وناس من أسد، فإنهم يجعلون مكان الكاف للمؤنث الشين، وذلك أنهم أرادوا البيان في الوقف" انتهى، وتبعه الرضي فقال في (شرح الكافية): "وناس كثير من تميم ومن أسد يجعلون مكان كاف المؤنث في الوقف شينًا" انتهى.

ومعنى ما ذكره سيبويه وتبعه فيه الرضي أن قلب الكاف شينًا لا يكون إلا في الوقف، وقد وردت الشواهد على إبدال الكاف شينًا في الوقف والوصل، فمن شواهد إبدال الكاف شينًا في الوقف ما ورد في (خزانة الأدب) من قولهم للمرأة: "جعل الله البركة في دارش"، ومن شواهد إبدال الكاف شينًا في الوصل قراءة من قرأ: "قد جعل ربش تحتش سريا" لقوله تعالى: {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} (مريم: 24)، ومنه قول القائل: فعيناش عيناها وجيدش جيدها ... ولكن عظم الساق منش دقيق يريد عيناك وجيدك، ومنك، فأبدل الكاف شينًا في الوصل، والبيت للمجنون يُخاطب ظبية أعطى صائدها شاة، ثم حلها من الشرك بعد أن تأمل في محاسنها. ومع ورود الشواهد الدالة على إبدال الكاف شينًا في الوصل والوقف، فإن الأصل هو إبدالها في الوقف كما قال سيبويه، وتبعه الرضي، وإنما أبدلت في الوصل إجراء للوصل مجرى الوقف. ثانيًا: الكَسْكَسة بالسين المهملة، وهي إلحاق السين بالكاف، وسُميت هذه اللغة بالكسكسة؛ لاجتماع السين والكاف فيها، وقد نسبت هذه اللهجة إلى بكر وهوازن، ونسبها السيوطي إلى ربيعة ومضر، والمراد بها إلحاق كاف الخطاب بالمؤنث سينًا فيقال: أعطيتكس وعليكس، والمراد أعطيتك وعليك. ونلحظ في هذين المثالين أن السين تلحق الكاف؛ سواء أكانت في موضع نصب كما في المثال الأول، أم في موضع جر كما في المثال الثاني. وقد ذكر سيبويه أن إبدال الكاف سينًا يكون في الوقف دون الوصل فقال في (الكتاب): "واعلم أن ناسًا من العرب يلحقون الكاف السين ليبينوا كسرة التأنيث، وإنما ألحقوا السين لأنها قد تكون من حروف الزيادة في استفعل، وذلك أعطيتكس وأكرمكس، فإذا وصلوا لم يجيئوا بها؛ لأن الكسرة تَبِين" انتهى.

ومعنى ما ذكره سيبويه أن الكسكسة هي إلحاق الكاف سينًا، ولذلك قال الرضي في شرحه على الكافية: "وأما سين الكسكسة، وهي في لغة بكر بن وائل فهي السين التي تلحقها بكاف المؤنث في الوقف، إذ لو لم تلحقها لسكنت الكاف، فتلتبس بكاف المذكر، وجعلوا ترك السين في الوقف علامة المذكر، فيقولون: أكرمتكس، فإذا وصلوا لم يأتوا بها؛ لأن حركة الكاف إذن كافية في الفصل بين الكافين" انتهى. ومن العلماء من ذهب إلى أنها إبدال الكاف سينًا كما تقدم في الحديث عن الكشكشة. ثالثًا: العنعنة بعينين مهملتين ونون، وقد نُسبت هذه اللهجة إلى تميم وقيس وأسد، ومن جاورهم، والمراد بها جعل الهمزة المبدوء بها عينًا، وقد أورد السيوطي في كتاب (الاقتراح) ثلاثة أمثلة للعنعنة فقال: "تقول في أنك عنك، وفي أسلم عسلم، وفي إذا عذًا". فهذه الأمثلة الثلاثة التي أوردها السيوطي يُفهم منها أن العنعنة هي إبدال الهمزة عينًا إذا وقعت في أول الكلام مطلقًا دون تخصيص، ومن العلماء من ذهب إلى أن العنعنة هي إبدال همزة أنْ وأنَّ وحدهما. وإلى هذا ذهب ابن جني فقال في (الخصائص): "فأما عنعنة تميم، فإن تميمًا تقول في موضع أنّ عن، تقول: عن عبد الله قائم، وأنشد ذو الرمة عبدَ الملك: أعن رسمت من خرقاء منزلة انتهى". وهو صدر بيت عجزه: ماء الصبابة من عينيك مسجوم ترسمت الدار أي: تأملت رسمها بأن نظرت وتفرست أين تحفر أو تبنى، وخرقاء هي صاحبته والهمزة في أول البيت للاستفهام التقريري، خاطب به نفسه

على طريق التجريد يقول: لأجل ترسمك ونظرك دارها التي نزلتْ بها، أسالت عينك دموعها. والشاهد في قوله: "أعن"، أصلها أأن، قلبت بنو تميم وبنو أسد همزة أن عينًا، فقد حصر ابن جني إبدال الهمزة عينًا في حرفين هما: أن وأن، ومثَّل لكل منهما بمثال، ثم علل ابن يعيش اختصاص هذين الحرفين بإبدالهما عينًا، فقال في (شرح المفصل): "وذلك أي: الإبدال في أن وأن خاصة؛ إيثارًا للتخفيف، لكثرة استعمالهما وطولهما بالصلة قالوا: أشهد عنك رسول الله، ولا يجوز مثل ذلك في المكسورة" انتهى. ولو كان إبدال الهمزة عينًا جائزًا في كل همزة مبدوء بها؛ لجاز في إنّ المكسورة، فلما لم يجز دل ذلك على أنه خاص بأن وأن. رابعًا: الفَحْفَحة؛ وقد نُسبت هذه اللغة إلى هذيل، والمراد بها قلب الحاء عينًا في كلمة حتى، فيقال فيها: عتى، ولم يشر السيوطي -رحمه الله- إلى أن هذا القلب خاص بكلمة حتى فقال: "الفحفحة في لغة هذيل يجعلون الحاء عينًا"، وكلام السيوطي يوهم أن قبيلة هذيل تقلب الحاء عينًا أينما وقعت، وليس الأمر كذلك، بل الصواب أن هذا القلب خاص بكلمة حتى وحدها. ومن هنا علق محقق (الاقتراح) المرحوم الأستاذ الدكتور أحمد محمد قاسم -رحمه الله- على كلام السيوطي بقوله: "ظاهر ما قاله السيوطي أن الفحفحة إبدال الحاء عينًا مطلقة، مثل أن نقول في: حال الحول وحل الموعد، عال العول وعل الموعد". ثم نقل عن المرحوم الدكتور إبراهيم أنيس قوله في كتابه (اللهجات العربية): "وهذا ضعيف لأنه لم يرد به نص عن العرب، والصحيح الذي لا ينبغي العدول عنه هو أن الفحفحة لهجة تخص كلمة واحدة، وهي كلمة حتى، فإن هذيلًا تقلب حاءها عينًا، فتقول: عتى، ويشهد لذلك ويدل عليه قول ابن جني

في (المحتسب): روي عن عمر أنه سمع رجلا يقرأ "عتى حين" (يوسف: 35) فقال: من أقرأك؟ قال الرجل: ابن مسعود، فكتب إليه عمر: إن الله -عز وجل- أنزل هذا القرآن فجعله عربيًّا، وأنزله بلغة قريش، فأقرئ الناس بلغة قريش، ولا تقرئهم بلغة هذيل، والسلام" انتهى. ووجه الاستشهاد بهذه القصة أن الحاء لم تُقلب عينا في كلمة {حِينٍ}، وهي مجاورة لكلمة {حَتَّى}، ولو كانت الفحفحة قلب الحاء عينًا مطلقًا؛ لقلبت في الكلمتين، فلما لم تقلب إلا في كلمة {حَتَّى} دلَّ ذلك على أن هذا الإبدال خاص بها دون غيرها. خامسًا: الوَكْم، وهو مصدر وَكَم يَكِم كوعد، يقال: هم يكمون الكلام أي: يقولون: السلام عليكِم بكسر الكاف، والمراد بهذه اللغة كسر الكاف من ضمير المخاطب المتصل كم، إذا كان هذا الضمير مسبوقًا بكسرة أو ياء، فيقال: بِكِم، وعليكم بكسر الكاف فيهما، وكأنهم كانوا يرون في ذلك مناسبة كما هو ظاهر. وعامة العرب تضم الكاف، وقد نسبت لغة الكسر إلى ربيعة وقوم من كلب، ونسبها سيبويه إلى قوم من بكر بن وائل، ووصف هذه اللغة بالرداءة، فقال في (الكتاب): "وقال ناس من بكر بن وائل: مِن أحلامكم، وبكم شبهها -أي: الكاف- بالهاء؛ لأنها عَلَم إضمار، وقد وقعت بعد الكسرة، فأتبع الكسرة الكسرة؛ حيث كانت حرف إضمار، وكانت أخف عليهم من أن يضم بعد أن يكسر، وهي رديئة جدًّا، سمعنا أهل هذه اللغة يقولون: قال الحطيئة: وإن قال مولاهم على جُل حادث ... من الدهر ردوا فضل أحلامكِم ردوا يمدح آل قريع، وهم حي من تميم، والمولى هنا ابن العم، وجل حادث أي: حادث جليل، والمعنى: إذا احتاج المولى إليهم عادوا عليه بفضل حلومهم، ولم يخذلوه، والشاهد فيه: كسر الكاف من أحلامكم تشبيهًا لها بهاء أحلامهم؛

لأنها أختها في الإضمار، ومناسبة لها في الهمس، وهي لغة ضعيفة؛ لأن أصل الهاء الضم، والكسر عارض عليها بخلاف الكاف، فحمل الكاف عليها بعيد ضعيف لأنها أبين منها وأشد". سادسًا: الوهم؛ والمراد به كسر الهاء من ضمير الغائبين المتصل هم مطلقًا، فيقال: منهِم، وعليهم، ونبئهم، وإن لم يكن قبل الهاء ياء ولا كسرة، وعامة العرب تضم الهاء من هذا الضمير، إلا إذا وقع بعد كسرة أو ياء، فمثال ما وقع بعد كسرة: بهم، وبصاحبهم، ومثال ما وقع بعد ياء: قاضيهم، فإذا لم يقع هذا الضمير بعد كسرة أو ياء؛ بقي على أصله، وهو ضم الهاء، إلا أن بني كلب يكسرون الهاء مطلقًا، وهو ما عُرف بالوهم. وتجدر الإشارة إلى أن ظاهرتي الوكم والوهم متقاربتان؛ إذ إنهما تختصان بضميري الخطاب والغيبة، فالأصل في الكاف والهاء الضم فيقال: كتابكم وكتابهم، إلا أن بعض القبائل العربية يكسر الكاف، وبعضها يكسر الهاء. سابعًا: العجعجة بعينين مهملتين وجيمين، وقد نُسبت هذه اللغة إلى قضاعة، والمراد بها جعل الياء المشددة الدالة على النسب في الأكثر جيمًا، فيقولون في تميمي: تميمج، ويقولون بصرج وكوفج، والمراد بصري وكوفي، وقد يبدلون الياء غير النسبية جيمًا أيضًا فيقولون في علي علج أي: أنهم يُبدلون الياء المشددة جيمًا، سواء أكانت هذه الياء للنسب، أم كانت لغيره. قال سيبويه في (الكتاب): "وأما ناس من بني سعد، فإنهم يُبدلون الجيم مكان الياء في الوقف؛ لأنها خفية، فأبدلوا من موضعها أَبْيَنَ الحروف، وذلك قولهم: هذا تميمج يريدون تميمي، وهذا علج يريدون علي، وسمعت بعضهم يقول: عربانج، يريد عرباني، وحدثني من سمعهم يقولون:

خالي عُويف وأبو علج ... المطعمان اللحم بالعشج وبالغداة فِلَق البَرْنِج ... ...... ..... ..... ...... ....... يريد بالعشي، والبرني، فزعم أنهم أنشدوه هكذا" انتهى. والفلق: جمع فلقة بالكسر، وهي ما قُطع من التمر بعد تكتله، والبرني بفتح الباء: ضرب من التمر أصفر مدور، وهو أجود أنواع التمر، والشاهد في الرجز: إبدال الجيم من الياء في علي، والعشي، والبرني، يقول السيوطي: "ومن ذلك -أي: من المستقبح الذي خلت منه لغة قريش- العجعجة في قضاعة، يجعلون الياء المشددة جيمًا"، ونلحظ في هذا النص أن السيوطي قد جعل إبدال الياء جيمًا خاصًّا بالياء المشددة، وقد ورد ما يدل على أن الياء الخفيفة تُبدل جيمًا كقول الراجز: يا رب إن كنت قبلت حجتج ... فلا يزال شاحج يأتيك بج أقْمَر نَهَّاة يُنَزِّي وَفْرَتِج ... ...... ..... ..... ...... ....... أي: حجتي، ويأتيك بي، ووفرتي، والياء فيها ليست مشددة، بل هي ياء المتكلم الخفيفة، والشاحج بالشين المعجمة، والحاء المهملة قبل الجيم: البغل والحمار مِن شَحَج البغل والحمار شحيجًا، وشُحاجًا إذا صوَّت، والأقمر: الأبيض، والنهَّاة: النَّهَّاق يقال: نهَت الحمار ينهت بكسر الهاء أي: نهق، ونهت الأسد أيضًا أي: زأر، والنهيت دون الزئير، وينزي بالنون والزاي المعجمة أي: يُحرك، والتنزية: التحريك، والوفرة بالفاء: الشعر إلى شحمة الأذن، يقول: اللهم إن كنت قبلت حجتي، فلا تزال دابتي تأتي بيتك، وأنا عليها أحرك وفرتي، أو جسدي في سيرها إلى بيتك، أي: إن علمت أن حجتي هذه مقبولة، فأنا أبدًا أزور بيتك. والشاهد: إبدال الياء الخفيفة جيمًا، فدل ذلك على أن العجعجة إبدال الياء مطلقًا خفيفة كانت أو مشددة جيمًا، وقد ذهب ابن عصفور في كتاب (ضرائر

الشعر) إلى أن إبدال الياء الخفيفة جيمًا من الضرائر الشعرية أي: أنه خاص بالشعر فقال: "ومنه -يعني: ومن إبدال الحرف من الحرف في الضرورة الشعرية- إبدالهم الجيم من الياء الخفيفة نحو قول هِميان بن قحافة: يطير عنها الوبر الصُّهابِج ...... ..... ..... ...... ....... يريد الصهابي من الصهبة، فحذف إحدى الياءين تخفيفًا، وأبدل من الأخرى جيمًا؛ لتتفق القوافي، وسهل ذلك كون الجيم والياء متقاربين في المخرج. ومثل ذلك قول الآخر أنشده الفراء: يا رب إن كنت قبلت حجتج ... . ...... ..... ..... ...... ....... إلى آخر الأبيات يريد حجتي، ويأتيك بي، وينزي، وفرتي، فأبدل من الياء جيمًا. وقول الآخر: حتى إذا ما أمسجت وأمسج ... .. ...... ..... ..... ...... ....... ... يريد أمست وأمسى، إلا أنه ردهما إلى أصلهما، وهو أمسيتْ وأمسيا، ثم أبدل الياء جيمًا؛ لتقاربهما لَما اضطر إلى ذلك" انتهى كلام ابن عصفور. وقال البغدادي في (شرح شواهد الشافية) معلقًا على جعل ابن عصفور ذلك من الضرائر مع أنه لغة قال: "ولم أره لغيره" انتهى. ثامنًا: الاستنطاء؛ كأنه استفعال من نطى أي: طلب هذا اللفظ، وقد نُسبت هذه اللغة إلى سعد بن بكر، وهذيل، والأزد، وقيس، والأنصار، والمراد بها جعل العين الساكنة نونًا إذا جاورت الطاء، وظاهر هذا التعريف أن العين الساكنة إذا جاورت الطاء في أي كلمة؛ قُلبت عند بعض القبائل نونًا، ولم تذكر المصادر إلا مثالًا واحدًا لهذه اللغة، وهو إبدال العين الساكنة نونًا في كلمة أعطى فيقال: أنطى فإن العين ساكنة، وقد جاورت الطاء فقُلبت نونًا. قال أبو حيان في (البحر

المحيط): "قرأ الجمهور: {أَعْطَيْنَاكَ} (الكوثر: 1) بالعين، والحسن وطلحة وابن محيصن والزعفراني "أنطيناك" بالنون، وهي قراءة مروية عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم". وأورد أبو حيان وغيره بعض الشواهد الأخرى على هذه اللغة. ومن شواهد هذه اللغة ما جاء في الحديث النبوي الشريف: ((اللهم لا مانع لما أنطيت، ولا منطي لما منعت))، وحديث: ((اليد المنطية خير من اليد السفلى))، فقد ذكر ابن الأثير هذين الحديثين في كتابه (النهاية في غريب الحديث والأثر)، وذكر أنهما مرويان بالنون، والرواية المشهورة فيهما بالعين، والأصل: ((اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت))، و ((اليد المعطية خير من اليد السفلى))، إلا أن العين الساكنة جاورت الطاء فقُلبت نونًا، فجاءت على لغة الاستنطاء. تاسعًا: الوَتْم، هكذا ضبطها السيوطي بالتاء، ومادة وَتَم مهملة، والمادة المعروفة بالثاء المثلثة الوثْم، وقد نُسبت هذه اللغة إلى أهل اليمن، والمراد بها قلب السين تاء فيقولون في الناس: النات، وفي (مختصر شواذ القرآن) حكى أبو عمرو أن برب النات في قوله تعالى: "قل أعوذ برب النات" (الناس: 1) لغة لقضاعة. انتهى، وعليه جاء قول الراجز: يا قبح الله بني السَّعْلات ... عمرو بن يربوع شرار النات غير أعفاء ولا أكيات ... ...... ..... ..... ...... ....... أراد عمرو بن يربوع شرار الناس، غير أعفاء ولا أكياس، فأبدل السين تاء. عاشرًا: الشنشنة؛ وقد نسبت هذه اللغة إلى أهل اليمن، والمراد بها جعل الكاف شينًا مطلقًا نحو: لبيش اللهم لبيش، والمراد لبيك اللهم لبيك. وتختلف هذه الظاهرة عن ظاهرة الكشكشة التي سبق ذكرها؛ لأن ظاهرة الكشكشة تختص بحرف الكاف إذا كان ضمير خطاب لمؤنث، أما الشنشنة ففيها إبدال الكاف مطلقًا.

وبعد أن ذكر السيوطي هذه الظواهر اللهجية العشر بألقابها التي عُرفت بها مقرونة بأسماء القبائل العربية التي نطقت بها، نقل عن (معجم الأدباء) لياقوت الحموي أن من العرب من يجعل الكاف جيمًا، فيقول: الجعبة، والمراد الكعبة، وأيًّا كان الأمر، فإن هناك لغات أخرى فوق هذه اللغات، وأعني بها لهجات أخرى فوق هذه اللهجات، ولكن الله -تبارك وتعالى- من فضل الله علينا وعلى الناس، وهو الذي قدر منذ الأزل أن يكون القرآن الكريم بلسان عربي مبين، اختار لهذه الأمة أن تأتي قريش، وأن تختار قريش من سائر اللغات العربية أفصح ما في هذه اللغات، أو أفصح ألسنة العرب وأصفاها في اللغة حتى يكون القرآن بلسان عربي مبين، ولتظل مائدة الله -تبارك وتعالى- موصولة ممتدة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، تنفيذًا لعهده ووعده: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9). هذا وبالله التوفيق وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 21 الترجيح بين مذهب البصريين ومذهب الكوفيين.

الدرس: 21 الترجيح بين مذهب البصريين ومذهب الكوفيين.

الاتفاق على أن البصريين أصح قياسا وأن الكوفيين أوسع رواية.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الحادي والعشرون (الترجيح بين مذهب البصريين ومذهب الكوفيين) الاتفاق على أن البصريين أصح قياسًا وأن الكوفيين أوسع رواية الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن والاه، أما بعد: لقد أجمعت كتب التاريخ والتراجم والطبقات على أن البصرة قد استأثرت بعلم النحو حينًا من الدهر، وأنها صاحبة الفضل في وضع أصول هذا العلم الجليل وأسسه، ومبادئه، وأنها هي التي تعهَّدت هذا العلم في نشأته الأولى؛ فالبصرة -كما قال صاحب (المدارس النحوية) رحمه الله- هي واضعة النحو أي: متمثلة في أبي الأسود الدؤلي المتوفى سنة تسع وستين من الهجرة، وموطنه البصرة؛ إذ هو على الراجح الواضع الأول للنحو، وكان النحويون على اختلاف بلدانهم عالة على نحاة البصرة؛ إذ استمدوا علمهم منها ومن علم الخليل المتمثل في كتاب سيبويه خاصة. وقد ظلت الكوفة نحو قرن من الزمن منصرفة عن علم النحو بما شغلها من رواية الأشعار، والأخبار، والنوادر، ثم اتجه علماؤها إلى دراسة علم النحو، فتلمذوا للبصريين وأخذوا عنهم، ثم خالفوهم في أمور متعددة منها: أن البصريين لا يلتفتون إلى كل مسموع، ولا يقيسون على الشاذ من كلام العرب شعرًا ونثرًا، بل كانوا يقيسون على الكثير المطرد. أما أهل الكوفة فقد كانوا يقيسون على البيت النادر والقول الشاذ، والشاهد الفرد الذي لا نظير له. يقول السيوطي: "اتفقوا على أن البصريين أصح قياسًا، لأنهم لا يلتفتون إلى كل مسموع، ولا يقيسون على الشاذ، والكوفيون أوسع رواية"، ومعنى ما ذكره السيوطي أن للكوفيين عناية فائقة بالمروي من الأشعار والأخبار والنوادر تفوق عناية البصريين، وأن هذه العناية قد دفعت الكوفيين إلى قبول جميع ما سمعوا، وجعله أصلًا يُقاس عليه، وقد وُصف الكسائي -وهو من أئمة الكوفة- بأنه كان

يسمع البيت الشاذ الذي لا يجوز إلا في الضرورة فيجعله أصلًا ويقيس عليه، وكان من آثار ذلك أن قلَّ عند الكوفيين التأويل والتقدير، والقول بالندرة والشذوذ. وكان من آثار ذلك أيضًا أن عقد الكوفيون كثيرًا من أصولهم وأحكامهم على جميع القراءات القرآنية، المتواترة والشاذة، ولم يلجئوا إلى التأويل الذي لجأ إليه البصريون، ومما يدل على أن الكوفيين يقيسون على البيت الواحد ما نقله السيوطي عن الأندلسي في (شرح المفصل) من قوله: "الكوفيون لو سمعوا بيتًا واحدًا فيه جواز شيء مخالف للأصول جعلوه أصلًا، وبوَّبوا عليه بخلاف البصريين، ومعنى ما ذكره السيوطي نقلًا عن الأندلسي أن الكوفيين يجعلون البيت الواحد دليلًا على القاعدة، ولو كان مخالفًا للأصول، بل إنهم كانوا يقيسون على شطر بيت لا يُعرف له بقية أو قائل، كمذهبهم في جواز دخول اللام في خبر لكن، كما يجوز في خبر إن مستشهدين بقول الشاعر: ...... ..... ..... ...... ....... ... ولكنني من حبها لكميد مع نص أكثر العلماء على أن هذا الشاهد لا يعرف قائله، ولا تعرف له تتمة، ولا سوابق ولا لواحق. أما البصريون: فإنهم يُحافظون على القواعد، ويبقون الأصول على حالها، ويحملون البيت النادر على القلة، أو الشذوذ، أو الضرورة، أو مخالفة الأصول. ولذلك كانت قواعدهم أضبط، وأصولهم أتقن، وليس هذا بعيب في منهج البصريين؛ فقد أرادوا التثبت في قبول المادة اللغوية التي يبنون عليها قواعدهم، ولذلك كان مما افتخر به البصريون على الكوفيين أن قالوا: نحن نأخذ اللغة من حَرَشَة الضِّبَاب، وأكلة اليرابيع، وأنتم تأخذونها من أكلة الشواء وباعة الكواميخ. وحرشة الضباب أي: صائدو الضباب، والضباب:

جمع ضب، وهو حيوان يعيش في الصحراء يُشبه التمساح الصغير. ويُروى: نحن نأخذ اللغة من حوشة الضباب، والحوشة بفتح الحاء المهملة والواو والشين المعجمة: جمع حاش، ككاتب وكتبة، والقياس إعلاله بقلب واوه ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها، وصُحح شذوذًا يقال: حاش الصيد حَوْشًا وحياشة إذا جاءه من حواليه؛ ليصرفه إلى الحِبالة. قوله: وأكلة ... إلى آخره، الأكلة: جمع آكل، واليرابيع: جمع يربوع، وهو حيوان معروف كالفأر إلا أنه أطول من الفأر آذانًا وذنبًا، ورجلاه أطول من يديه على عكس الزرافة، والكواميخ: جمع كامخ، وهو نوع من الإدام، ومعناه: أن البصريين قد أخذوا اللغة من الأعراب سكان البوادي الذين لا إلمام لهم بالحاضرة، فأخذوها من منبعها الصافي قبل أن تُكدره دلاء الأعاجم. أما الكوفيون فقد تلقوا اللغة عن الحواضر أهل الأسواق والاختلاط بغيرهم ممن أفسدوا الألسنة، وحرفوا اللغات، فلا عبرة بمن يأخذون عنهم. وخلاصة القول في ذلك: أن البصري أضبط في الأخذ، وأتقن في الاستنباط، وأن الكوفي أوسع في الرواية، وأكثر في النقل. وقد عرف ابن جني الكوفيين ساعة روايتهم فقال في (الخصائص): "أهل الكوفة أعلم بالشعر من أهل البصرة" انتهى. ونشير إلى أن إتقان الأصول عند البصريين، وضبط القواعد لديهم لا يعني خطأ الكوفيين في جميع ما ذهبوا إليه، ولا يعني اتباع البصريين في جميع ما قالوا به، بل الواجب اتباع الدليل، وقد نقل السيوطي عن أبي حيان الأندلسي قوله: "ولسنا متعبدين باتباع مذهب البصريين، بل نتبع الدليل" انتهى. والمراد: أنه ليس مطلوبًا منا اتباع البصريين على وجه التعبد، حتى نقتفي مذهبهم ونأخذ بقولهم، دون أن يظهر لنا وجهه، ونتبين دليله، بل المطلوب هو اتباع الدليل القوي

الصحيح؛ سواء أكان مع البصريين أم مع الكوفيين، ويمكن أن نُوجز هنا أهم العوامل التي أعانت على ترجيح مذهب النحويين البصريين فيما يلي: أولًا: نزوح القبائل العربية العريقة في اللغة الفصحى إلى البصرة، فهي تقع على مقربة من البادية التي استطاب أهلها النزوح إليها، وأكثرهم من العرب الأقحاح الذين احتفظوا بلغتهم العربية، خالية من شائبة اللحن والعجمة، ممن هم من قيس وتميم. ثانيًا: وقوع البصرة على مقربة من سوق المِرْبَد، تلك السوق التي صارت في الإسلام صورة معدلة لعكاظ الجاهلية، ففيها تَنَاشُد وتَفَاخُر، وفيها تجارة وبيع، وفيها النوادي الأدبية والمجامع الثقافية، وفيها مجالس العلم والأدب. ثالثًا: الموقع الجغرافي للبصرة، فإنها على طرف البادية مما يلي العراق، وأدنى المدن إلى العرب الموثوق بعربيتهم، فعلى مقربة منها بوادي نجد غربًا، والبحرين جنوبًا، والأعراب تفدُ إليها منهما، ومن داخل الجزيرة العربية بكثرة. رابعًا: تبادل الرحلات بين علماء البصرة إلى البادية، وورود أعراب البادية إليهم لشئون معايشهم، ومشافهة علماء البصرة للأعراب، وأخذهم اللغة من منابعها الصافية. خامسًا: حِرص علماء البصرة على تحري سلامة لغة العربي الذين يأخذون عنه، وتثبتهم من ضبط الرواة وصدقهم، ذلك كله وغيره كان له أكبر الأثر في فصاحة أهل البصرة، وسلامة لغتهم، قال شيخنا المرحوم الشيخ محمد الطنطاوي -طيب الله ثراه- في كتابه القيم (نشأة النحو) بعد ذكره بعض ما تميزت به مدينة البصرة مهد النحو البصري وموطنه قال: "فكان لزامًا لذلك أنه لم تدون قواعدهم -أي: قواعد البصريين- إلا مدعومة على عناصر ثلاثة؛

الأول: سلامة من أخذوا عنه من العرب المقطوع بعراقتهم في العروبة، وصونهم فطرهم من تسرب الوهن إليها من رطانة الحضارة حتى لم يأخذوا إلا عن سكان البوادي. الثاني: الثقة برواية ما سمعوه عنهم من طريق الحفظة. الثالث: الكثرة الفياضة من هذا المسموع التي تخول لهم القطع بنظائره، وتسلمهم إلى الاطمئنان عليه في نوط القواعد به"، انتهى ملخصًا. وقد استشهد شيخنا الطنطاوي -رحمه الله- على تحرز علماء البصرة عن التلقي ممن يلمحون عليهم ضعفًا في اللغة من العرب الذين يأخذون عنهم بما قاله ابن جني في (الخصائص) في باب ترقب اللغات، من أن أبا عمرو بن العلاء، وهو من أشهر العلماء البصريين الذين اعتمد سيبويه على علمهم في (الكتاب)، استضعف فصاحة أبي خيرة نهشل بن زيد لما سأله عن قول العرب: استأصل الله عرقاتهم أي: قلع أصولهم، فنصب أبو خيرة التاء من عِرْقاتهم، وهو جمع عرقة، ومعناها الأصل، فهو جمع مؤنث سالم وقع مفعولًا به، فقال له أبو عمرو: "هيهات أبا خيرة، لان جلدك". يريد أنه بَعُد عهده بالبادية؛ حيث الخشونة والقشف، وأثر فيه الحضر، فنال ذلك من فصاحته. ويقول المرحوم الدكتور شوقي ضيف -رحمه الله- في كتابه (المدارس النحوية): "وعلى هذه الشاكلة شادت البصرة صرح النحو، ورفعت أركانه؛ بينما كانت الكوفة مشغولة عن ذلك كله، على الأقل حتى منتصف القرن الثاني للهجرة بقراءات الذكر الحكيم، ورواية الشعر والأخبار، وقلما نظرت في قواعد النحو إلا ما سقط إلى بعض أساتذتها من نحاة البصرة؛ إذ كانوا يتتلمذون لهم، ويختلفون إلى مجالس محاضراتهم، وإملاءاتهم، وكان القدماء يعرفون ذلك معرفة

دقيقة، فنصوا عليه بعبارات مختلفة، من ذلك قول ابن سلام: وكان لأهل البصرة في العربية قُدْمَة -أي: سابقة في الأمر- وبالنحو ولغات العرب والغريب عناية. ويصرح ابن النديم في هذا المجال تصريحًا أكثر وضوحًا إذ يقول في حديثه عن نحاة الكوفة والبصرة: إنما قدمنا البصريين أولًا؛ لأن علم العربية عنهم أُخذ" انتهى. ويذكر الدكتور شوقي -رحمه الله رحمة واسعة- أنه يظهر أنه كُفل للبصرة اتصال ببعض الثقافات الأجنبية في القرن الثاني للهجرة ما لم يُكفل للكوفة، فقد كانت مرفأ تجاريًّا للعراق على خليج العرب، فنزلتها عناصر أجنبية أعدت لوصلها بثقافاتها المختلفة، وهكذا نشأ النحو، وتكوَّن في البصرة، وكانت الكوفة وقتذاك منشغلة عنه بالقراءات وروايتها رواية دقيقة، وبالفقه كذلك. كما عنيت عناية فائقة برواية الأشعار القديمة وصنعة دواوين الشعر، وإن كانت لم تعن بالتحري والتثبت فيما جمعت من أشعار؛ حتى إن أبا الطيب اللغوي في كتابه (مراتب النحويين) ليقول: "الشعر بالكوفة أكثر وأجمع منه بالبصرة، ولكن أكثره مصنوع ومنسوب إلى من لم يقله، وذلك بيِّن في دواوينهم" انتهى. ويقول الأفغاني في كتابه (من تاريخ النحو): "أما الكوفة فهي أدخل في العراق، وأقرب إلى الاختلاط بالأعاجم، ولغة أعرابها ليست لها سلامة لغة أعراب البصرة، فأكثرهم يَمَن، وبها قليل من قبائل أخرى، واليمن لا يُحتج بلغتها؛ لتغيرها بالاختلاط بالفرس والأحباش، ثم بين الكوفة وجزيرة العرب صحراء السماوة الشاسعة، فلذا لم تكن رحلات علمائها إلى الجزيرة كرحلات علماء البصرة"، ويذكر لنا الأفغاني قصة نقلًا عن (وفيات الأعيان) هي أبعد في الدلالة على ما حكاه أبو الطيب اللغوي، وهي قصة خلف الأحمر، وهو راوية علماء

احتكاك المدرستين عن طريق المناظرات النحوية.

الكوفة الكبير، فقد قال: "أتيت الكوفة لأكتب عنهم الشعر، فبخلوا عليَّ به، فكنت أعطيهم المنحول، وآخذ الصحيح، ثم مرضت فقلت لهم: ويلكم أنا تائب إلى الله تعالى، هذا الشعر لي، فلم يقبلوا مني، وبقي منسوبًا إلى العرب لهذا السبب". ويتابع الأفغاني حديثه فيقول: "أما راويتهم الأكبر حماد فهو الشمس شهرة في كذبه، ووضعه"، وينقل كلمة للمفضل الضبي عنه وهي: "قد سُلط على الشعر من حماد الراوية ما أفسده فلا يصلح أبدًا، فلا يزال يقول الشعر يُشبه به مذهب رجل من الأقدمين، ويدخله في شعره، ويحمل عنه ذلك في الآثار، فتختلط أشعار القدماء، ولا يتميز الصحيح منها إلا عند عالم ناقد وأين ذلك؟ ". احتكاك المدرستين عن طريق المناظرات النحوية إن الاختلاف في الآراء ووجهات النظر أمر من لوازم الطبيعة الإنسانية جعله الله بين بني البشر، فالقدرة على التفكير، وكيفية معالجة الأمور، ودرجة استيعاب العقول، والفطنة في استنباط الأدلة، كل هذه الأمور متفاوتة عند بني الإنسان. لذلك كان لا بد من الخلاف والاختلاف، وتلك فطرة الله التي فطر الناس عليها. ومن هنا كان من الأمور الطبيعية أن يحدث الخلاف والاحتكاك بين علماء البصرة وعلماء الكوفة، بل كان يحدث أحيانا بين علماء المدرسة الواحدة، والذي يعنينا هنا أن نلقي الضوء على مسألة خلافية مشهورة في تاريخ النحو العربي، وهي التي تُسمى المسألة الزنبورية، وهي توضح لنا صورة من صور التنافس بين المدرستين الكبريين، وهما مدرسة البصرة ومدرسة الكوفة، ويمثل كل مدرسة

منهما رئيسها، وأعني بهما: سيبويه رئيس مدرسة البصرة، والكسائي رئيس مدرسة الكوفة. والمسألة الزنبورية هي المسألة التاسعة والتسعون في كتاب (الإنصاف في مسائل الخلاف)، وقد حفلت بها كتب العلم والأدب، واهتم بها علماء التراجم والطبقات، وقد بدأها أبو البركات الأنباري في (الإنصاف) بقوله: "ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز أن يقال: كنت أظن أن العقرب أشد لسعة من الزنبور، فإذا هو إياها، وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز أن يقال: فإذا هو إياها، ويجب أن يقال: فإذا هو هي". أما الكوفيون فاحتجوا بالحكاية المشهورة بين الكسائي وسيبويه، وسرد الأنباري الحكاية كما ذكرها غيره، ونمزج هنا قليلًا بين ما يرويه الأنباري الذي أيَّد سيبويه في هذه المسألة، وبين ما يرويه الزجاجي في كتابه (مجالس العلماء)؛ حيث يروي لنا هذه المسألة على لسان علم من أعلام الكوفيين كان أحد شخصيات القصة، وأحد المحركين لأحداثها، وهو أبو زكريا الفراء الذي كان الساعد الأيمن لشيخه الكسائي؛ رغبة منا في الوصول إلى الحقيقة مجردة من التعصب لفريق من الفريقين. تقول القصة: إن سيبويه قدم على البرامكة، وهم الذين كانوا وزراء الرشيد، وأصحاب الحظوة عنده، وذكر الفراء أن يحيى بن خالد البرمكي وزير الرشيد عزم على الجمع بينهما أي: بين سيبويه والكسائي، وجعل يحيى للمناظرة يومًا حضر فيه سيبويه مجلس يحيى وعنده ولداه جعفر والفضل، ومن حضر بحضورهم من الأكابر، كما حضره عدد من علماء الكوفة على رأسهم تلميذا الكسائي علي بن الحسن المعروف بالأحمر، والمتوفى سنة أربع وتسعين ومائة من

الهجرة، وأبو زكريا الفراء، فتقدَّم الأحمر على سيبويه قبل حضور الكسائي فسأله عن مسألة، فأجابه سيبويه، فقال له الأحمر: "أخطأت، ثم سأله عن ثانية، فأجابه فيها فقال له: أخطأت، ثم سأله عن ثالثة فأجابه سيبويه فيها، فقال له: أخطأت. فقال له سيبويه: هذا سوء أدب، ويذكر الفراء أنه أقبل على سيبويه فقال له: إن في هذا الرجل حدة وعجلة، ولكن ما تقول في من قال: هؤلاء أبونا، ومررت بأبينا، كيف تقول على مثال ذلك مِن وَأيت أو أويت؟ فقدَّر فأخطأ، هكذا يحكي الفراء، فقلت -والكلام على لسان الفراء: أعد النظر، فقدَّر فأخطأ، ثلاث مرات يجيب ولا يصيب، فلما كثر ذلك عليه قال: لا أكلمكما، أو يحضر صاحبكما حتى أناظره، قال: فحضر الكسائي، فأقبل على سيبويه فقال: تسألني أو أسألك؟ فقال له سيبويه: لا، بل سلني أنت، فأقبل عليه الكسائي فقال: كيف تقول: كنت أظن أن العقرب أشد لسعة من الزنبور، فإذا هو هي، أو فإذا هو إياها؟ فقال سيبويه: فإذا هو هي، ولا يجوز النصب، فقال له الكسائي: لحنت، ثم سأله عن مسائل من هذا النوع نحو: خرجت فإذا عبد الله القائمُ أو القائمَ. فقال سيبويه في ذلك كله بالرفع، دون النصب. فقال الكسائي: ليس هذا من كلام العرب، والعرب ترفع ذلك كله وتنصبه، فدفع سيبويه قوله ولم يجز فيه النصب. فقال له يحيى بن خالد: قد اختلفتما وأنتما رئيسا بلديكما، فمن ذا يحكم بينكما؟ فقال له الكسائي: هذه العرب ببابك قد اجتمعت من كل أوب، ووفدت عليك من كل صُقْع، وهم فصحاء الناس، وقد قنع بهم أهل المِصْرَيْن، وسمع أهل الكوفة وأهل البصرة منهم، فيحضرون، ويُسألون، فقال له يحيى وجعفر: لقد أنصفت، وأمر بإحضارهم،

فدخلوا وفيهم أبو فَقْعَس، وأبو زياد، وأبو الجراح، وأبو ثروان، فسُئلوا عن المسائل التي جرت بين الكسائي وسيبويه، فتابعوا الكسائي، وقالوا بقوله. فأقبل يحيى أو الكسائي على سيبويه فقال: قد تسمع أيها الرجل، فاستكان سيبويه أي: خضع، وأقبل الكسائي على يحيى فقال له: أصلح الله الوزير إنه وفد عليك من بلده مؤمِّلًا، فإن رأيت ألا تردَّه خائبًا، فأمَر له بعشرة آلاف درهم، فخرج سيبويه وصير وجهه إلى فارس، وأقام هناك إلى أن مات، ولم يعد إلى البصرة". وقد اجتمعت كلمة العلماء المنصفين على أن سيبويه قد خُذل في هذه المسألة ظلمًا وعدوانًا، وذكروا أن الحق كان مع سيبويه، وأن ما قاله هو الحق الذي له وجهه الموافق لما في القرآن الكريم من وقوع الجملة الاسمية بعد إذا التي للمفاجأة نحو قوله تعالى: {فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} (الأعراف: 108)، وقوله عز وجل: {فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} (طه: 20). وقال ابن الشجري في أماليه: "وإنما أنكر سيبويه النصب؛ لأنه لم يره مطابقًا للقياس، ولم ير له وجهًا يُقارب الصواب، ولما لم يظفر الكسائي بحجة قياسية يدفع بها إنكار سيبويه للنصب؛ كان قصاراه الالتجاء إلى السماع، والتشبث بقول أعراب أُحضروا، فسئلوا عن ذلك، وكان للكسائي بهم أَنَسَة، وسيبويه إذ ذاك غريب طارئ عليهم، وذكر قوم من البصريين أن الكسائي قد جعل لهم جعلًا استمالهم به إلى تصويب قوله، وقيل: إنما قصد الكسائي بسؤاله عما علم أنه لا وجه له في العربية، واتفق هو والفراء على ذلك ليخالفه سيبويه، فيكون الرجوع إلى السماع، فينقطع المجلس عن النظر والقياس" انتهى. وقال ابن هشام: "يقال: إنهم -أي: العرب الذين استشهد بهم الكسائي- قد أُرشوا على ذلك، أو إنهم علموا منزلة الكسائي عند الرشيد، ويقال: إنهم إنما

مما رجح فيه رأي الكوفيين.

قالوا: القول قول الكسائي، ولم ينطقوا بالنصب، وإن سيبويه قال: يحيى مُرهم أن ينطقوا بذلك، فإن ألسنتهم لا تُطَوَّع به"، ثم قال ابن هشام: "فإذا هو إياها إن ثبت، فخارج عن القياس، واستعمال الفصحاء كالجزم بلن، والنصب بلَم، والجر بلعل، وسيبويه وأصحابه لا يلتفتون لمثل ذلك، وإن تكلم به بعض العرب" انتهى. مما رجح فيه رأي الكوفيين سبق أن ذكرنا قول أبي حيان: "ولسنا متعبدين بقول نحاة البصرة"، وعبارة أبي حيان بتمامها كما جاءت في (البحر المحيط) وفي (النهر الماد) بهامش (البحر المحيط)، وكلاهما لأبي حيان قال: "ولسنا متعبدين بقول نحاة البصرة، ولا غيرهم ممن خالفهم، فكم حكم ثبت بنقل الكوفيين من كلام العرب لم ينقله البصريون، وكم حكم ثبت بنقل البصريين لم ينقله الكوفيون، وإنما يعرف ذلك من له استبحار في علم العربية لا أصحاب الكنانيس، المشتغلون بدروب من العلوم الآخذون عن الصحف دون الشيوخ" انتهى. وقد قال أبو حيان هذه المقولة في مسألة من مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين، وهي مسألة عطف الاسم الظاهر على الضمير المجرور من غير إعادة الجار، وهي من المسائل القليلة التي رجح فيها المذهب الكوفي على المذهب البصري، فقد ذهب البصريون إلى أن الاسم الظاهر لا يجوز عطفه على الضمير المجرور إلا بعد إعادة الجار، فيقال: مررت بك وبزيد، وهذا كتابك وكتاب عمرو، كما في قوله تعالى: {فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ} (فصلت: 11)، وكما في قوله

تعالى: {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} (المؤمنون: 22)، فإن جاء في الكلام عطف الاسم الظاهر على الضمير المجرور دون إعادة الجار؛ كان ذلك قبيحًا عند البصريين، لقول سيبويه -رحمه الله- في (الكتاب): "ومما يقبح أن يَشْرَكَه المظهر علامة المضمر المجرور، وذلك قولك: مررت بك وزيد، وهذا أبوك وعمرو، كرهوا أن يشرك المظهر مضمرًا داخلًا فيما قبله" انتهى. وذهب الكوفيون إلى جواز عطف الاسم الظاهر على الضمير المجرور من غير إعادة الجار، واختار مذهبهم بعض المتأخرين، ومنهم أبو حيان معللًا اختياره هذا المذهب بقوله: "لوقوعه في كلام العرب كثيرًا شعرًا ونثرًا" انتهى. فمن الشعر قول الشاعر: فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا ... فاذهب فما بك والأيامِ من عجل فقوله: "والأيام" عطف على الضمير المجرور في بك، ومنه قول الشاعر: إذا أوقدوا نارًا لحرب عدوهم ... فقد خاب من يصلى بها وسعيرها فسعيرها مجرور عطفًا على الضمير في بها دون إعادة الجار، ومنه قول الشاعر: نعلق في مثل السواري سيوفنا ... وما بينها والكعب غُوطٌ نَفَانِف فعطف الاسم الظاهر على الضمير المجرور في بينها دون إعادة الجار، ومن النثر قول بعض العرب: ما فيها غيره وفرسه، بجر فرسه عطفًا على الضمير في غيره، دون إعادة الجار، ومنه قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ((إنما مثلكم واليهود والنصارى)) بجر اليهود والنصارى عطفًا على الضمير في قوله: ((مثلكم)) دون إعادة الجار. ولما كثر في كلام العرب شعرًا ونثرًا عطف الاسم الظاهر على الضمير المجرور من غير إعادة الجار، أجاز بعض معربي القرآن الكريم -ومنهم أبو حيان رحمه الله-

حمل بعض الآيات الكريمة عليه، فحملوا عليه قوله تعالى: {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (البقرة: 217)، فـ {الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} معطوف على الضمير في {بِهِ}، كما حملوا عليه قوله تعالى: "وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامِ" (النساء: 1) بجر "الْأَرْحَامِ" في قراءة حمزة عطفًا على الضمير في {بِهِ} دون إعادة الجار، وقد رجح أبو حيان مذهب الكوفيين على مذهب البصريين. ومن تمام الفائدة نذكر هنا أن للبصريين فيما ذهبوا إليه حجتين: الأولى: أن ضمير الجر شبيه بالتنوين ومعاقِب له، فلم يجز العطف عليه كما لا يجوز العطف على التنوين. والثانية: أن حق المعطوف والمعطوف عليه أن يصح حلول كل واحد منهما محل الآخر، وضمير الجر لا يصح حلوله محل ما يعطف عليه، فيمنع العطف إلا بإعادة الجار، والحجتان ضعيفتان. أما الأولى: فيدل على ضعفها أن شبه الضمير بالتنوين ضعيف، فلا يترتب عليه إيجاب ولا منع، ولو منع من العطف عليه لمنع من توكيده، ومن الإبدال منه، وضمير الجر يؤكَّد، ويبدل منه بإجماع؛ فالعطف عليه أسوة بالتوكيد والبدل. وأما الثانية: فيدل على ضعفها أنه لو كان حلول كل واحد من المعطوف والمعطوف عليه شرطًا في العطف؛ لم يجز قولهم: رُب رجل وأخيه ونحوه؛ لأنه لا يصح حلول أخيه محل رجل، إذ إن رُب تختص بالدخول على النكرات، فلما جاز: رب رجل وأخيه؛ دلَّ على أن حلول كل واحد من المعطوف والمعطوف

عليه ليس شرطًا، ولو كان حلول كل واحد من المعطوف والمعطوف عليه شرطًا في العطف لم يجز قولهم: كم ناقةٍ لك وفصيلِها، ولم يجز: الواهب الأَمةِ وولدِها، ولم يجز: زيد وأخوه منطلقان، وأمثال ذلك من المعطوفات الممتنع تقدمها وتأخر ما عُطفت عليه، وفي ذلك وارد كثيرًا، فكما لم يمتنع فيها العطف لم يمتنع عطف الاسم الظاهر على الضمير المجرور من غير إعادة الجار، فبطل ما تمسك به البصريون، وكان مذهب الكوفيين في هذه المسألة من المسائل القليلة الذي يُعد فيها راجحًا، ويكفي دليلًا على رجحانه كثرة الوارد منه في كلام العرب شعرًا ونثرًا، وهذا وحده دليل قوي. هذا والله ولي التوفيق وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

§1/1