أصول النحو 1 - جامعة المدينة

جامعة المدينة العالمية

الدرس: 1 حد أصول النحو، وحد النحو، وحد اللغة

الدرس: 1 حد أصول النحو، وحد النحو، وحد اللغة بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الأول (حدّ أصول النحو، وحدّ النحو، وحدّ اللغة) معنى أصول النحو الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فنتعرف على حد أصول النحو، وحد النحو، وحد اللغة. أصول النحو: هي أدلة النحو التي تفرَّعت منها فروعه وفصوله، كما أن أصول الفقه أدلَّة الفقه التي تنوَّعت عنها جملته وتفصيله، ذكر هذا أبو البركات الأنباري في بداية كتابه (لمع الأدلة)، وفصل السيوطي المتوفى سنة إحدى عشرة وتسعمائة من الهجرة في كتابه المسمى (الاقتراح) فصَّل القول في هذا التعريف فقال: "أصول النحو علم يُبحث فيه عن أدلة النحو الإجمالية من حيث هي أدلته، وكيفية الاستدلال بها، وحال المستدل"، وهكذا أوضح السيوطي أن موضوع علم أصول النحو ثلاثة أمور: أولها: البحث عن أدلة النحو الإجمالية من حيث هي أدلته. وثانيها: البحث عن كيفية الاستدلال بهذه الأدلة. وثالثها: البحث عن حال المستدل بها. وألقى مزيدًا من الأضواء الكاشفة على هذا التعريف، مبينًا أن مراده بقوله: "علم" أنه صناعة يعني: أنه يحتاج في تحصيله إلى دُربة ومران؛ لتتكوَّن لدى من يتعلمه ملكة استحضار مسائله وقواعده وقضاياه، ولا يلزم فقده من فقد العالم به؛ لأنه صناعة مدوَّنة، وقواعد مقررة، وأدلَّة محررة؛ سواء وُجد العالم بها أو لم يوجد. وأفاد أن تقييده بقوله: "يبحث فيه عن أدلة النحو" يخرج كل صناعة

سوى هذا العلم وسوى النحو، أي: حتى يكون هذا العلم مقصورًا على موضوعه. وفي ضوء ما ذكره علماء أصول النحو، وعلى رأسهم ابن جني المتوفى سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة من الهجرة، وأبو البركات الأنباري المتوفى سنة سبع وسبعين وخمسمائة من الهجرة وجلال الدين السيوطي نقول: إن أدلة النحو التي اعتمد عليها علماء الصناعة النحوية في تقعيد القواعد كثيرة جدًّا تخرج عن حدِّ الحصر، لكن الغالب منها أربعة أنواع، وهي السماع، والقياس، والإجماع، واستصحاب الحال، وفي حديث السيوطي عن حدِّ أصول النحو في بداية كتابه المسمى بـ (الاقتراح) بيَّن أن ابن جني في كتابه الخصائص تحدَّث عن ثلاثة أنواع من هذه الأربعة، ولم يذكر الاستصحاب، وأن الأنباري تحدَّث أيضًا عن ثلاثة منها فقط، ولكنه لم يذكر الإجماع، ثم علَّق السيوطي على ذلك بقوله: "فزاد -يعني: الأنباري- الاستصحاب، ولم يذكر الإجماع؛ فكأنه لم يرَ الاحتجاج به في العربية كما هو رأي قوم" انتهى، والحق أن ذلك سهو من السيوطي -رحمه الله- وقد نبَّه عليه الأستاذ الدكتور أحمد محمد قاسم محقق (الاقتراح) طيب الله ثراه، كما نبَّه عليه غيره ممن عُنوا بشرح هذا المؤلف القيم، فأوضحوا أن الأنباري ذكر الإجماع في مؤلفه المسمى بـ (لمع الأدلة)؛ حيث ذكر إن الإجماع حجة قاطعة. تحليل الحدِّ الذي أورده السيوطي لعلم أصول النحو: أراد السيوطي أن يوضّح للدارسين أن هناك فرقًا دقيقًا بين الاستدلال عند علماء أصول النحو، والاستدلال عند علماء النحو، فلكل وظيفة وتخصص؛ فالأولون وهم علماء أصول النحو يبحثون عن الأدلة الإجمالية، أي: ككون القرآن الكريم حجة، أما علماء النحو فهم يبحثون عن الأدلة التفصيلية، وذكر لذلك أربعة أمثلة، وهي:

المثال الأول: مسألة جواز العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار. والمثال الثاني: مسألة جواز الإضمار قبل الذكر في باب الفاعل والمفعول. والمثال الثالث: مسألة جواز مجيء الحال من المبتدأ. والمثال الرابع: مسألة جواز مجيء التمييز مؤكدًا. وقال: إن البحث عن دليل خاصّ بكل مسألة من هذه المسائل ونحوها؛ إنما هو وظيفة علم النحو لا علم أصول النحو، يريد أن هذه المسائل الخلافية يتناولها علم النحو بالتفصيل والتحليل؛ مستعينًا على حسم الخلاف، والوصول إلى رأي معين بالترجيح، أو التضعيف، أو القبول، أو الرّدّ بما يحضر عالم النحو من الأدلة النحوية الخاصة من قرآن كريم، أو حديث نبوي شريف، أو كلام عربي، أو قياس نحوي، أو غير ذلك من الأدلة التي فاضت بها المؤلفات النحوية، والتي أفادها هذا العالم على سبيل الإجمال من تحصيله لعلم أصول النحو، وعرف عن طريق هذا العلم مدى قوة كل دليل أو ضعفه. وقول السيوطي: "في حد أصول النحو من حيث هي أدلته بيان لجهة البحث عن هذه الأدلة بما له حجية في علم النحو -أي: في البحث عن القرآن الكريم بأنه حجة في النحو كما سبق- لأنه أفصح الكلام؛ سواء أكان متواترًا أم آحادًا، وعن السنة النبوية الشريفة بشرطها الآتي في مبحث الكلام عنها بالتفصيل، وعن الكلام العربي النثري أو الشعري الصادر عمن يُوثق بعربيته، ويُحتج بكلامه، وعن إجماع أهل البلدين البصرة والكوفة، وعن القياس، وما يجوز من العلل فيه، وما لا يجوز"، وقوله في الحد: "وكيفية الاستدلال بها" معطوف على قوله: "أدلة النحو الإجمالية". والمعطوف هنا هو الأمر الثاني من الأمور الثلاثة التي يتناولها موضوع علم أصول النحو، فكما يُبحث فيه عن الأدلة السابق ذكرها

يُبحث فيه أيضًا عن كيفية الاستدلال بهذه الأدلة أي: عند تعارضها واختلاف مقتضاها، ونحو ذلك كتقديم السماع على القياس؛ إذ لا بد من قبول المسموع، ثم لا يُقاس عليه غيره كـ {اسْتَحْوَذَ} في قوله تعالى: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ} (المجادلة: 19) فالقياس في مثله أن تُنقل حركة الواو إلى الحرف الساكن الصحيح قبلها وهو الحاء هنا، ثم تُقلب الواو ألفا لتحركها في الأصل، وانفتاح ما قبلها بعد نقل حركتها إليه، ولكن قُدِّم المسموع على هذا القياس في خصوص ما سُمع، ثم لا يُقاس عليه غيره؛ فحكم ما سُمع عن العرب مخالفًا لأقيسة العلماء تقديم المسموع على المقيس، اللهم إلا لمانع من ذلك التقديم، كإجماعهم على إهدار ذلك المسموع لضعفه، كقول العرب: "خرق الثوب المسمار" برفع المفعول ونصب الفاعل. ومن أمثلة كيفية الاستدلال التي أوردها السيوطي: تقديم ما كثر استعماله على ما قوي قياسه، كتقديم اللغة الحجازية على اللغة التميمية، إلا لمانع من فقدِ شرط من شروط الإعمال، أو أكثر؛ لأن الحجازية أكثر استعمالًا، ولذا نزل بها القرآن الكريم، وإن كانت التميمية أقوى قياسًا، وكتقديم أقوى العلتين على أضعفهما، فإذا تعارض قياسان مثلًا أُخذ بأرجحهما، وهو ما وافق دليلًا آخر من سماع أو قياس، كقول الكوفيين إن "إنَّ" تنصب المبتدأ فقط؛ لشبهها بالفعل، أما الخبر فمرفوع بما كان مرفوعًا به قبل دخولها؛ لضعف الحرف عن القيام بعملين، وقول البصريين: إنها تنصب الاسم وترفع الخبر؛ لأنه ليس في كلام العرب عامل يعمل في الاسم النصب إلا وهو يعمل في الخبر الرفع، فما ذهبتم إليه أيُّها الكوفيون يؤدّي إلى ترك القياس ومخالفة الأصول لغير فائدة. وكتقديم أخف الأقبحين على أشدهما قبحًا، وذلك إذا قلت مثلًا: فيها قائمًا رجل. لما كنت بين أن ترفع قائمًا، فتقدم الصفة على الموصوف، وهذا لا يكون

بحال، وبين أن تنصبه حالًا من النكرة التي لا مسوّغ لها وهو خلاف القياس، ولكنه سُمع في لغة ضعيفة حكاها سيبويه في (الكتاب)، فالحمل على هذه اللغة الضعيفة أولى إلى غير ذلك. وقد اشتملت كتاب السيوطي (الاقتراح) بعد المقدمات على سبعة كتب، ويعني بها السيوطي: الأبواب أو الفصول، وعقد مبحثًا خاصًّا في التعارض والترجيح تضمَّن ست عشرة مسألة، تناول فيها كيفية الاستدلال بأدلة النحو عند تعارضها، وذلك في الكتاب السادس من هذه الكتب السبعة التي ضمها كتابه، ولذلك قال: "وهذا المعقود له الكتاب السادس"، وقوله في الحد: "وحال المستدل معطوف على ما قبله "، وهذا هو الأمر الثالث من الأمور التي يتناولها موضوع علم أصول النحو. فهذا العلم يُبحث فيه كذلك عن حال المستدل -أي: المستنبط للمسائل من الأدلة المذكورة، أي: يبحث فيه عن صفاته وشروطه، وما يتبع ذلك من صفة المقلد والسائل قال: "وهذا هو الموضوع له الكتاب السابع" والكتاب السابع آخر مباحث كتاب (الاقتراح)، وقد ضمَّ أربع مسائل. أما الأدلة غير الغالبة كالاستقراء والاستحسان، وعدم النظير، وعدم الدليل، فكان الكثير منها موضوع الكتاب الخامس، ولذلك قال بعد ذكره: أنه عقد أربعة الأبواب الأولى للحديث عن الأدلة الغالبة الأربعة، قال: "ودونها الاستقراء والاستحسان، وعدم النظير، وعدم الدليل المعقود لها الكتاب الخامس "، فائدة علم أصول النحو قال السيوطي نقلًا عن كتاب (لمع الأدلة) لأبي البركات الأنباري: "وفائدته -أي: فائدة علم أصول النحو- التعويل في إثبات الحكم على الحجة والتعليل، والارتفاع عن حضيض التقليد إلى يفاع الاطلاع على

حدود النحو.

الدليل، فإن المُخْلِد إلى التقليد لا يعرف وجه الخطأ من الصواب، ولا ينفك في أكثر الأمر عن عوارض الشك والارتياب" انتهى. ومعنى ما قاله أبو البركات الأنباري: أن دراسة أصول النحو والوقوف على أدلة الاحتجاج تُعِين الدارس على إثبات الأحكام الموثقة بالحجة البينة، والدليل المعتمد؛ فيكون حكمه أبعد ما يكون عن عوارض الشك والارتياب، في حين أن من يعجز عن الوصول إلى الدليل والنظر، ويركن إلى التقليد من غير تحقيق أو تدقيق، أو إعمال فكر، أو إدارة بصر لا يعرف وجه الخطأ من وجه الصواب، ولا تخلص معلوماته عن شوائب الشك والارتياب. حدود النحو ذكر السيوطي أن للنحو حدودًا شتَّى يريد أن حدود النحو كثيرة مبثوثة متفرقة في بطون الكتب، واختار من بين هذه الحدود ستة حدود لستة علماء من ستة مؤلفات؛ موضحًا أن أليقها بكتابه -أي: أحسنها، وألصقها، وأقربها إلى تحقيق الغرض من تأليف كتابه- هو قول ابن جني في (الخصائص): "هو انتحاء سمت كلام العرب في تصرفه من إعراب، وغيره كالتثنية والجمع، والتحقير، والتكثير، والإضافة، وغير ذلك؛ ليلحق من ليس من أهل اللغة العربية بأهلها في الفصاحة، وأصلها -يعني: النحو- مصدر نحوت بمعنى قصدت، ثم خُصَّ به انتحاء هذا القبيل من العلم، كما أن الفقه في الأصل مصدر فقهت بمعنى فهمت، ثم خُصَّ به علم الشريعة" انتهى. ونلحظ أن السيوطي قد تصرف في النقل عن ابن جني تصرفًا يسيرًا بالإيجاز غير المخل؛ خشية الإطالة على القارئ، ورغبة في الوفاء بما ذكره في مقدمة

(الاقتراح)؛ حيث قال: "واعلم أني قد استمديت -أي: استمدت بمعنى طلبت المدد والمعونة، فأصله بدالين ثم خُفف بإبدال الثانية ياء لكراهية التضعيف، وهذا الإبدال غير مطرد- هذا الكتاب كثيرًا من (الخصائص) لابن جني، فإنه وضعه في هذا المعنى وسماه (أصول النحو)، لكن أكثره خارج عن هذا المعنى، ثم قال: فلخصت منه جميع ما يتعلق بهذا المعنى بأوجز عبارة، وأرشقها، وأوضحها معزوًا إليه" انتهى. وهذا النص قد تضمن معنى النحو بأوجز عبارة وأفصح بيان، وأوضح أن النحو هو الاتجاه صوب كلام العرب، والميل جهة طرائقهم في تصرفه من إعراب وتصريف، أي: في تصرف الكلام العربي من وجه إلى آخر؛ سواء كان ذلك في التراكيب أو المفردات، وقال معللًا انتحاء سمت كلام العرب: ليلحق من ليس من أهل العربية بأهلها في الفصاحة، وابن جني يُريد بالفصاحة هنا ما يشمل سلامة المفردات من مخالفة الاستعمال، أو القياس، أو هما معًا، وسلامة التراكيب من الوقوع في اللحن. وقد ذكر شراح (الاقتراح) أن السيوطي في اختصاره كلام ابن جني حذف منه مواضع لا تخلو عن فائدة في الجملة، ولذلك نذكر كامل العبارة لإتمام النفع وإكمال الفائدة، قال ابن جني -رحمه الله تعالى- في (الخصائص): "باب القول على النحو هو انتحاء سمت كلام العرب في تصرفه من إعراب وغيره كالتثنية والجمع، والتحقير، والتكثير، والإضافة، والنسب، والتراكيب، وغير ذلك؛ ليلحق من ليس من أهل العرب بأهلها في الفصاحة، فينطق بها، وإن لم يكن منهم، وإن شذَّ بعضهم عنها رُدَّ به إليها، وهو في الأصل مصدر شائع -أي: نحوت نحوًا كقولك: قصد قصدًا، ثم خُصَّ به انتحاء هذا القبيل من العلم، كما أن الفقه في الأصل مصدر فقهت الشيء أي: عرفته، ثم خُصَّ به علم الشريعة

من التحليل، والتحريم، وكما أن بيت الله خُصَّ به الكعبة، وإن كانت البيوت كلها لله، وله نظائر في قصر ما كان شائعًا في جنسه على أحد أنواعه، وقد استعملته العرب ظرفًا وأصله المصدر" انتهى. وولي تعريف ابن جني للنحو في كتاب (الاقتراح) تعريف صاحب (المستوفى)، وهو أبو سعيد الفرخان أو الفرُّخان بالفاء المفتوحة والخاء المعجمة بينهما راء ساكنة أو مضمومة مشددة، والضبط الأول هو الأصح واسمه علي بن مسعود بن محمود بن الحكيم القاضي جمال الدين، المتوفى سنة ثمان وأربعين وخمسمائة من الهجرة قال في كتابه المذكور: "النحو صناعة علمية ينظر لها أصحابها في ألفاظ العرب من جهة ما يتألَّف بحسب استعمالهم؛ لتُعرف النسبة بين صيغة النظم، وصورة المعنى، فيتوصل بإحداهما إلى الأخرى" انتهى. ونحن نلحظ أن ابن جني قد حدَّ النحو بمفهومه القديم الشامل للنحو والصرف معًا، باعتبار الصرف قسمًا من النحو فحدَّه بما يتناول أحكام المفردات والتراكيب. أما صاحب (المستوفى) فقد حدَّه مقصورًا على ما يتألفه -أي: يتركب منه الكلام- ولا أدلَّ على ذلك من قوله في كتابه (المستوفى) عند حديثه عن فضيلة النحو: "وأما مرتبة هذا العلم من العلوم المناسبة له فبعد اللغة والتصريف، وقبل الكلام والفقه ... " إلى قوله: "فهو فوق ما قبله، ودون كثير مما بعده" انتهى. ففرَّق بينه وبين التصريف، ولكنه أشار في التعريف إلى مراعاة الارتباط فيه بين الألفاظ والمعاني؛ فالنحو عنده مراعاة ما تقتضيه ظاهر الصناعة، ومراعاة ما تتطلبه المعاني معًا لما بينهما من كمال الارتباط. أما الحد الثالث للنحو الذي أورده السيوطي في (الاقتراح) فقد نقله عن محمد بن يحيى بن هشام الأنصاري الخزرجي الأندلسي، المعروف بالخضراوي نسبة إلى

الجزيرة الخضراء المتوفى سنة ست وأربعين وستمائة من الهجرة قال: "النحو علم بأقيسة تغيير ذوات الكلم، وأواخرها بالنسبة إلى لغة لسان العرب" انتهى. والأقيسة هي القواعد -أي: القوانين- وقد شمل تعريفه النحو بأقيسة تغيير ذوات الكلم أي: المفردات؛ كالتثنية، والجمع، والتصغير، وسائر المباحث الصرفية، وأيضًا شمل تغيير أواخر الكلم أي: التراكيب؛ فالصرف عنده إذن قسم من النحو، فهو متابع في هذا لابن جني. وقد اتهم بأن في تعريفه هذا ركاكة غير خافية، وبخاصة قوله: "إلى لغة لسان العرب" فقيل: لو حذف كلمة "لسان" لكان أولى. أما الحد الرابع للنحو الذي أورده السيوطي فقد نقله عن ابن عصفور الأندلسي المتوفى سنة تسع وستين وستمائة من الهجرة قال: "النحو علم يُستخرج بالمقاييس المستنبطة من استقراء كلام العرب الموصلة إلى معرفة أحكام أجزائه التي ائتلف منها" انتهى. وتعبيره بالفعل المضارع "يستخرج" أبلغ من التعبير باسم المفعول "مستخرج"، لما في الفعل المضارع من الدلالة على الدوام والاستمرار، كما أن التعبير بالجمع الأقصى "مقاييس" أبلغ من تعبير الخضراوي بصيغة جمع القلة "أقيسة"؛ إذ القواعد النحوية لا تكاد تُحصى لكثرتها، فجمع الكثرة إذًا أولى بها من جمع القلة. والمراد بمعرفة أحكام أجزائه التي ائتلف منها ما يشمل الأحكام التصريفية والأحكام النحوية. ولم يَسْلَم هذا التعريف أيضًا من النقد؛ فقد اعترضه أحمد بن محمد الإشبيلي المشهور بابن الحاج المتوفى سنة سبع وأربعين وستمائة من الهجرة اعترضه من وجهين:

أحدهما: أن بيان ما يُستخرج منه النحو ليس بيانًا لحقيقة النحو. والآخر: أن كلامه يقتضي أن المقاييس شيء غير النحو مع أن علم مقاييس كلام العرب هو النحو. وقد رُدَّ عليه بأن قول ابن عصفور: "علم يستخرج بالمقاييس ... " إلى آخره مراده به إدراك حاصل من القواعد الحاصلة من المقاييس المستنبطة من الاستقراء، أي: من تتبع كلام العرب، وهو تبيينٌ لحقيقة النحو، لا تبيين لما منه استخراجه، ويُعلم بهذا أن علم مقاييس كلام العرب هو النحو، فيسقط النقد بوجهيه. أما الحد الخامس للنحو فقد نقله السيوطي عن صاحب كتاب (البديع)، وهو محمد بن مسعود الغزني المتوفى سنة إحدى وعشرين وأربعمائة من الهجرة، قال: "النحو صناعة علمية يُعرف بها أحوال كلام العربي من جهة ما يصح ويفسد في التأليف؛ ليعرف الصحيح من الفاسد وبهذا يعلم أن المراد بالعلم المصدر به حدود العلوم الصناعة، ويندفع الإيراد الأخير على كلام ابن عصفور" انتهى. وبهذا الحد يتفق صاحب (البديع) مع صاحب (المستوفى) فقد عرف كلاهما النحو بأنه صناعة نحوية، أي: ملكة حاصلة بالتمرّن والدُّربة، وأشار صاحب (البديع) إلى أنه بتعريف النحو بأنه صناعة نحوية يندفع ما أورد على تعريف ابن عصفور السابق الذي لم يشر في صدارته إلى أن النحو صناعة، من أنه يقتضي فقد العلم عند فقد العالم بما ذكر، وليس كذلك لثبوته؛ لأنه قواعد مقررة، وأقيسة محررة سواء وجد العالم بها أم لم يوجد. كما أشار إلى ذلك السيوطي عند تعريفه أصول النحو.

أما الحد السادس للنحو فأورده السيوطي نقلًا عن الإمام أبي بكر محمد بن الثري البغدادي المعروف بابن السراج المتوفى سنة ثلاثمائة وستة عشرة من الهجرة قال في كتابه المسمى بـ (الأصول في النحو): "النحو علم استخرجه المتقدمون من استقراء كلام العرب" وقد قيل: إن هذا التعريف تقريبي؛ لأنه يصدق على علوم الأدب كلها، فإن هذا شأن كل منها، ولم يشر السيوطي إلى فائدة علم النحو كما أشار إلى فائدة علم أصول النحو؛ لأن كتابه (الاقتراح) ليس موضوعه النحو، وإنما موضوعه أصول النحو. كما أن الحديث عن فائدة علم النحو حديث يحتاج إلى الإسهاب والإطناب، ولا تغني فيه الإشارة عن المقالة، ولكن الأمر كما يقول المثل العربي: حسبك من القلالة من أحاط بالعنق. ويكفي أن نطلع على ما ذكره المؤرخون لنشأة علوم اللغة العربية، وفي مقدمتها علم النحو، وكيف كانت الملكة اللسانية عند العرب من أحسن الملكات وأوضحها إبانة عن المقاصد والقدرة على الوصول إلى أجلّ المعاني، وأكثرها بأوجز الألفاظ وأقلها، وهذا هو معنى قول الرسول الكريم -صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطيبين الأطهار-: ((أوتيت جوامع الكلم، واختصر لي الكلام اختصارًا))، ولكن لما اختلط العرب بالعجم، تغيَّرت تلك الملكة بما ألقى إليها السمع من المخالفات التي للمستعربين، والسمع أبو الملكات اللسانية -كما قال ابن خلدون- ففسد بما ألقي إليها مما يُغايرها لجنوحها إليه باعتياد السمع، وخشي العلماء أن تفسد تلك الملكة رأسًا، ويطول العهد بها فينغلق فهم الكتاب والسنة، ولا يسلما من عادية اللحن والتحريف، وهما موئل الدين وذخيرة المسلمين فبادر الغيور على دين الله إلى تأليف تلك القواعد والقوانين في ضوء أدلة علم أصول النحو، واصطلحوا على تسميتها بعلم النحو.

حد اللغة.

حدُّ اللغة أما المعنى المعجمي لكلمة لغة، وتصريفها، ومعرفة حروفها؛ فإنها فعلة من لغوت أي: تكلمت، ومن المعاني التي دارت حولها مادة اللام والغين والواو، في كلام العرب: الخطأ، والباطل، والفحش في القول، والنطق، والتلفظ، والتكلم، يقال: لغى الرجل في القول يلغى، كسعى يسعى، ولغى يلغو لغوًا: تكلم باللغو، وهو أخلاط الكلام، ولغي يلغى كرضي يرضى لغًا وملغاة: أخطأ وقال باطلًا، واللاغية: الفاحشة، ولغي بالأمر يلغى من باب رضي أيضًا: لهج به، ويقال: إن اشتقاق اللغة من ذلك، وحذفت اللام وعُوّض منها التاء، وأصلها لغوة كغرفة؛ فلامها واو، قال ابن جني: "وأصلها لغوة ككرة وقلة وثبة، كلها لاماتها واوات لقولهم كروت بالكرة، وقلوت بالقلة، ولأن ثبة كأنها من مقلوب ثاب يثوب" انتهى. وقول ابن جني: "وأصلها لغوة ككرة ... " إلى آخره، يريد أنها كانت في الأصل لغوة، أي: قبل الإعلال والتعويض، ثم نقلت حركة الواو إلى الساكن الصحيح قبلها، وهو حرف الغين؛ فبقيت الواو ساكنة فحذفت وعوض منها التاء كما مر، والكرة معروفة، والقلة هي الخشبة الصغيرة تُنصب ليلعب بها الصبيان، والثبة الجماعة من الناس وغيرهم. وأما في الاصطلاح فقد حدها ابن جني "بأنها أصوات يُعبّر بها كل قوم عن أغراضهم"، ومعنى ما قاله ابن جني -رحمه الله- أن اللغة هي وسيلة التعبير والتفاهم بين أعضاء المجتمع الواحد، ولقد أخذ ابن خلدون هذا المعنى؛ فذكر في (المقدمة) في الفصل السادس الذي عقده في علوم اللسان العربي الأربعة: اللغة، والنحو، والبيان، والأدب، ذكر: "أن اللغة هي عبارة المتكلم عن مقصوده، وتلك العبارة فعلٌ لساني، فلا بد أن تصير ملكة متقرّرة في العضو الفاعل لها، وهو اللسان، وهو في كل أمة بحسب اصطلاحاتهم" انتهى. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 2 اللغة: وضع أم اصطلاح؟ ومناسبة الألفاظ للمعاني

الدرس: 2 اللغة: وضع أم اصطلاح؟ ومناسبة الألفاظ للمعاني

اختلاف العلماء في وضع اللغة.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثاني (اللغة: وضع أم اصطلاح؟ ومناسبة الألفاظ للمعاني) اختلاف العلماء في وضع اللغة الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن والاه، أما بعد: فنتعرف فيه على إجابة هذا السؤال: اللغة: أهي من وضع الله تعالى أم من وضع البشر وعلى مناسبة الألفاظ للمعاني، وعلى الدلالات النحوية؟ اختلف العلماء اختلافًا طويلًا في بيان واضع اللغة، وقد عقد ابن جني بابًا في (الخصائص) عنوانه: باب القول على أصل اللغة، أإلهام هي أم اصطلاح؟ وقال في صدارة هذا الباب، "هذا موضع مُحوج إلى فضل تأمّل" وهي عبارة توحي بأنه موضوع دقيق يحتاج إلى شدَّة معاناة، وإمعان نظر؛ ولذلك اختلف العلماء قديمًا وحديثًا فيه، وتنوعت آراؤهم، وتعددت مذاهبهم، ومع ذلك -كما قيل- لم يصل في بحثهم إلى نتائج يقينية، بل كان جُلّ آرائهم يصطبغ بالصبغة الشخصية ولم يتجاوز مرحلة الظن والحدس والتخمين، ونسوق هنا أشهر هذه المذاهب في ضوء ما أورده السيوطي منها: المذهب الأول: مذهب الوحي والإلهام، أو هو مذهب التوقيف، وهو أن اللغة بوضع الله -تبارك وتعالى- علمها الله تعالى نبيه آدم -عليه السلام- ووقَّف عليها عباده، وهذا المذهب منسوب إلى الأشعري، وهو أبو الحسن علي بن إسماعيل بن إسحاق المتوفى سنة أربع وعشرين وثلاثمائة من الهجرة، وقد اختار هذا المذهب جماعة من العلماء، منهم: أبو الحسين أحمد بن فارس اللغوي المعروف المتوفى سنة خمس وتسعين وتسعمائة من الهجرة، وبسط القول في كتابه المسمى بـ (الصاحبي) في توضيح هذا الرأي، وبيان الأسباب التي دعته إلى اختياره، فذكر: "أن دليل ذلك قول الله -جل ثناؤه-: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} (البقرة: 31)

فكان ابن عباس -رضي الله عنهما- يقول: علمه الأسماء كلها، وهي هذه الأسماء التي يتعارفها الناس من دابة، وأرض، وسهل، وجبل، وحمار، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها"، وأجاب ابن فارس على ما قد يوجه إلى هذا المذهب من اعتراض مضمونه: لو كان ذلك كما تذهب إليه لقال الخالق -تبارك وتعالى-: "ثم عرضهنَّ"، أو "ثم عرضها"، لكنه سبحانه قال: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ} (البقرة: 31) فمنطوق الآية يدل على أن المعروض عليهم جماعة العقلاء، أي: أعيان بني آدم أو الملائكة؛ لأن موضوع الضمير في كلام العرب أن يقال لمن يعقل: عرضهم، ولما لا يعقل: عرضها أو عرضهنّ. وقد أجاب ابن فارس بأن ما ورد في الآية الكريمة جاء مطابقًا لسنّة من سنن العرب في كلامهم؛ فمن سنن كلامهم ما يُعرف بالتغليب، فهم يغلّبون على الشيء ما لغيره لاختلاط بين الشيئين، فإذا اختلط جمع ما لا يعقل بجمع من يعقل غُلّب جمع من يعقل كقول الله -تبارك وتعالى-: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (النور: 45) فقال تعالى: {فَمِنْهُمْ} تغليبًا لمن يمشي على رجلين، وهم بنو آدم، وأشار ابن فارس إلى أنه ليس معنى أن اللغة توقيفية أنها جملة واحدة في زمان واحد، بل وقف الله -عز وجل- آدم -عليه السلام- على ما شاء أن يُعلّمه إيَّاه في زمانه، ثم علَّم بعده من عرب الأنبياء -صلوات الله عليهم- نبيًّا نبيًّا ما شاء أن يعلمه، حتى انتهى الأمر إلى نبينا محمد -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- فآتاه الله ما لم يؤتِه أحدٌ قبله، ثم قر الأمر قراره، فلا نعلم لغةً حدثت بعده. وقال السيوطي: "ومال إلى هذا القول ابن جني، ونقله عن شيخه أبي علي الفارسي وهما من المعتزلة". والمذهب الثاني: أنها اصطلاحية وضعها البشر، وهو مذهب أبي هاشم الجبائي المعتزلي المتوفى ببغداد سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة من الهجرة، ثم اختلف

أصحاب هذا المذهب فيمن وضع اللغة من البشر على ثلاثة آراء، فقيل: وضعها آدم -عليه السلام- وقد ذكر ابن جني أن أكثر أهل النظر على أن أصل اللغة، إنما هو تواضع واصطلاح، لا وحي وتوقيف، وعندما قال له شيخه أبو علي الفارسي يومًا: هي من عند الله، واحتج بآية البقرة السابقة: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} (البقرة: 31) ذكر ابن جني أن الآية الكريمة لا تقطع بكون اللغة توقيفية؛ إذ يجوز أن تؤوَّل على معنى أقدر الله آدم -عليه السلام- على أن واضع عليها، وقيل: لعله كان يجتمع حكيمان أو ثلاثة فصاعدًا، فيحتاجون إلى الإبانة عن الأشياء المعلومة، فوضعوا لكل واحد منها سمة ولفظًا؛ إذا ذُكر عُرف به مسماه، وامتاز به عن غيره، وأغنى ذكره عن إحضاره إلى مرآة العين؛ إذ ربما قد يُحتاج في كثير من الأحوال إلى ذكر ما لا يُمكن إحضاره كالمعاني، وقيل: إن أصل اللغات كلها إنما هو من الأصوات المسموعات كدويّ الريح، وخرير الماء، ونعيق الغراب، وصهيل الفرس، ونهيق الحمار ... ونحو ذلك، ثم وُلدت اللغات عن ذلك فيما بعد. قال ابن جني: "وهذا عندي وجه صالح ومذهب مُتقبَّل". والمذهب الثالث: الوقف -أي: لا يُدرى أهي من وضع الله -تبارك وتعالى- أم من وضع البشر، وهذا المذهب هو الذي اختاره ابن جني بعد طول تردُّد؛ لعدم وجود دليل قاطع على مذهب غيره من وجهة نظره، فالعقل يجوّز ذلك كله. ومن هنا ذكر السيوطي أن بعضهم زعم أنه لا فائدة لهذا الخلاف، قال السيوطي: "وليس كذلك بل ذُكر له فائدتان: الأولى فقهية، ولذا ذُكرت هذه المسألة في أصوله -يعني: في أصول الفقه- والأخرى نحوية، ولهذا ذكرتها في أصوله -يعني: في أصول النحو- تبعًا لابن جني في (الخصائص)، وهي جواز قلب اللغة، فإن قلنا: إنها اصطلاحية؛ جاز وإلا فلا".

مناسبة الألفاظ للمعاني.

أما الفائدة الفقهية التي أشار إليها السيوطي فهي المعروفة بمهر السّرّ والعلانية، وهي: إذا تزوج رجل امرأة بألف واصطلح على تسمية الألف بألفين، هل الواجب ألف لأنه مقتضى الاصطلاح اللغوي، أو ألفان نظرًا لهذا الوضع الحادث؟ اختلف في ذلك الفقهاء وصحَّحوا كلًّا من الاعتبارين. وأما الفائدة النحوية فهي النظر في جواز قلب اللغة، فحُكي عن بعض القائلين بالتوقيف منع القلب مطلقًا؛ فلا يجوز تسمية الثوب فرسًا، والفرس ثوبًا، وعن القائلين بالاصطلاح تجويزه. وأما المتوقفون فاختلفوا، فذهب بعضهم إلى التجويز كمذهب قائل الاصطلاح، وبعضهم إلى المنع، وهذا كله فيما لا يؤدّي قلبه إلى فساد النظام، أو تغييره إلى اختلاط الأحكام، فإن أدَّى إلى ذلك فلا يختلف في تحريم قلبه. مناسبة الألفاظ للمعاني هدف السيوطي من إيراد هذه المسألة تالية لمسألة الحديث عن وضع اللغة، وواضعها أن يبيّن أن اللغة هي لفظ ومعنًى؛ فاللفظ إطار المعنى، أو هو الصورة التي تُعبّر عن المضمون، فينبغي أن تكون هناك مناسبة بين الألفاظ ومدلولاتها، وقد نقل أهل أصول الفقه عن عباد بن سليمان الصيمري، وهو من المعتزلة أنه ذهب إلى أنه بين اللفظ ومدلوله مناسبة بالطبع، أي: طبيعية حاملة للواضع على أن يضع، قال: "وإلا لكان تخصيص الاسم المعين بالمسمى المعين ترجيحًا من غير مُرجح"، وأنكر الجمهور هذه المقالة وقال: "لو ثبت ما قاله لاهتدى كل إنسان إلى كل لغة، ولما صح وضع اللفظ للضدّين كـ"القرء" للحيض والطهر، و"الجون" للأبيض والأسود"، وأجابوا عن دليل عباد بأن التخصيص بإرادة الواضع

المختار؛ خصوصًا إذا قلنا: إن الواضع هو الله -تبارك وتعالى، فإن ذلك كتخصيصه وجود العالم بوقت دون وقت. وأما أهل اللغة والعربية فقد كادوا يجمعون على ثبوت المناسبة بين الألفاظ والمعاني، لكنهم يُخالفون عبَّادًا بأنهم لا يرونها ذاتية دالة بالطبع أو طَبَعِية كما قال، وعلى سبيل الوجوب كما يراها. وقد ذكر السيوطي المناسبة بين الألفاظ والمعاني نقلًا عن ابن جني الذي عقد لها في كتابه القيم (الخصائص) بابًا عنوانه: باب في إمساس الألفاظ أشباه المعاني وملخص هذا الباب: أن الواضع الحكيم قد وضع الحرف القوي للمعنى القوي، والحرف الضعيف للمعنى الضعيف، وقد صدره ابن جني بقوله: "اعلم أن هذا موضع شريف لطيف، وقد نبَّه عليه الخليل وسيبويه، وتلقته الجماعة بالقبول له، والاعتراف بصحته"، ثم أورد أمثلة كثيرة توضح قوة المناسبة بين اللفظ ومعناه، ومن هذه الأمثلة قول الخليل: كأن العرب توهَّموا في صوت الجُندب استطالة ومدًّا، فقالوا: سرّا، وتوهّموا في صوت البازي تقطيعًا فقالوا: صرصر" انتهى. والجُندُب أو الجُندَب -بضم الجيم وضم الدال أو فتحها، بينهما نون ساكنة-: هو نوع من الجراد أو طائر يقع في النار، ويقال: صر الجندب يصرّ صريرًا أي: صوّت، وفي المثل العربي: يا جندب ما يصرك -أي: ما يحملك على الصرير- قال: أخاف من حرِّ غدٍ. يُضرب هذا المثل لمن يخاف ما لم يقع بعد. والبازي أو الباز: نوع من الصقور التي يصطاد بها، ويقال: صرصر البازي صرصرة، وقال الشاعر: إذا صرصر البازي فلا ديك يصرخ ... ........................... وكأنهم تخيَّلوا في صوت الجندب المدَّ، وفي صوت البازي الترجيع؛ فحكوهما على ذلك، وفي (الخصائص): "وقال سيبويه في المصادر التي جاءت على

الفعلان: إنها تأتي للاضطراب والحركة نحو: النقذان، والغليان، والغثيان، فقابلوا بتوالي حركات المثال توالي حركات الأفعال. قال ابن جني: ووجدت أنا من هذا الحديث أشياء كثيرة على سمت ما حدَّاه، ومنهاج ما مثَّلاه، وذلك أنك تجد المصادر الرباعية المضاعفة تأتي للتكرير نحو: الزعزعة، والقلقلة، والصلصلة، والقعقعة، والصعصعة، والجرجرة، والقرقرة، ووجدت أيضًا الفعلى في المصادر والصفات إنما تأتي للسرعة نحو: البَشَكى، والجَمَذى، والوَلَق" انتهى. فابن جني يفتتح هذا الباب بإيراد ما يدْعَم به مسألة المناسبة بين الألفاظ والمعاني من الأمثلة الدالة على ذلك مما نقله عن شَيْخَي البصرة الخليل وسيبويه، وقد شرحنا ما نقله عن الخليل. أما ما نقله عن سيبويه فكعادته نراه قد تصرَّف فيه، ولقد سبق شيخنا التعلامة الشيخ محمد علي النجار، محقق (الخصائص) طيَّب الله ثراه حين قال: "ويبدو أنه -أي: ابن جني- قد يعتمد في النقل على حفظه فينال نقله بعض التغيير" انتهى. وعبارة سيبويه في (الكتاب) وليس ابن جني منها ببعيد، سوى في بعض الأمثلة التي لم ترد في نص الكتاب، وتفسير ما جاء في (الخصائص) من أمثلة: أما النقذان فمصدر قولك: نقذ الظبي وغيره في عدْوِه نقذًا ونقذانًا، أو وثب صُعُدا وقفز، والغليان مصدر: غلت القدر وغيرها غليًا وغليانًا، والغثيان مصدر: غثت النفس غثيًا وغثيانًا اضطربت وتهيأت للقيء، ونص سيبويه من (الكتاب) قال: "ومن المصادر التي جاءت على مثال واحد حين تقاربت المعاني قولك النزوان، والنقذان، وإنما هذه الأشياء في زعزعة البدن واهتزازه في ارتفاع، ومثله العسلان والرتكان" انتهى.

والعسلان مصدر: عسل الماء عسلًا وعسولًا وعسلانًا، أي: تحرك واضطرب، والرتكان مصدر: رتك البعير رتكًا وتكانًا أي: عدى في مقاربة خطو. فإذا تركنا ما ذكره الخليل من تعبير العرب بالأفعال التي تحكي صوت ما توهموه من استطالة ومدّ، أو ترجيع وتقطيع، وانتقالنا إلى المصادر التي تجيء على وزن واحد، وهو وزن "فعلان" رأيناها تدور حول معنًى واحد هو: زعزعة البدن واهتزازه في ارتفاع، كما ذكر سيبويه. نوع آخر من المصادر، وهو: مصادر الأفعال الرباعية والمضاعفة التي يتكرَّر فيها حرفان، فنجدها لمعانٍ فيها تكرير، وذلك مثل: الزعزعة، وهي التحريك، وهي مصدر زعزع الشيء -أي: حركه- ومثلها: القلقلة وزنًا ومعنى، والصلصلة مصدر صلصل الشيء أي: صوت صوتًا فيه ترجيع كالجرس، والحلي، والرعد، والصعصعة مصدر صعصع الرجل: خاف واضطرب، وجلب وصاح، وصعصع القوم أي: أفزعهم وفرّقهم، والجرجرة مصدر جرجر البعير أي: ردَّد صوته في حنجوره عند الضجر، والقرقرة مصدر قرقر بطنه أي: صوَّت من جوع أو غيره؛ فجعلوا الوزن المكرر للمعنى المكرر. ونجد أيضًا وزن "الفعلى" المتوالية المتتابعة الحركات في المصادر والصفات إنما يأتي لمعنى السرعة نحو: الجمذى، يقال: جمذى الفرس ونحوه جمذًا وجمذى: سار سيرًا قريبًا من العدو، والبَشَكى، يقال: ناقة بشكى، وامرأة بشكى: سريعة خفيفة، والولقى يستعمل مصدرًا وصفة يقال: ولق يلق أي: أسرع، والولقى عدوٌ للناقة فيه شدَّة، والناقة السريعة؛ فجعلوا الوزن الذي توالت حركاته للأفعال التي توالت الحركات فيها لكمال المناسبة بين الألفاظ والمعاني. ووصل ابن جني عرض الأمثلة، فذكر أن من ذلك أيضًا باب استفعل الذي جعلوه في أكثر الأمر للدلالة على الطلب؛ لما فيه من تقدم حروف زائدة على

الأصول، كما يتقدَّم الطلب الفعل، فالأفعال إذا أخبرت بأنك سعيت فيها وتسببت لها؛ وجب أن تقدم أمام حروفها الأصول في مُثُلِهَا الدالة عليها أن تقدّم أحرفًا زائدة على تلك الأصول تكون كالمقدمة لها، والمؤدّية إليها نحو: استسقى، واستطعم، واستوهب، واستمنح، واستقدم عمرو، واستصرخ جعفرًا؛ فجاءت الهمزة والسين والتاء في استفعل زوائد، ووردت بعدها الأصول: الفاء، والعين، واللام، فهذا من اللفظ الذي جاء وفق المعنى المراد التعبير عنه، وجعلوا الأفعال الواقعة عن غير طلب إنما تفجأ وتبغت حروفها الأصول نحو: وهب ومنح، أو ما ضارع الأصول نحو: أكرم وأحسن؛ فإن الهمزة وقعت موقع الفاء من الفعل الرباعي، فأشبهت الحرف الأصلي، ومن ذلك أيضًا أنهم جعلوا تكرير العين في البناء دالًّا على تكرير الفعل فقالوا: كسَّر، وقطَّع، وفتَّح، وغلَّق، وذلك أنهم لما جعلوا الألفاظ دليلة المعاني، فأقوى اللفظ ينبغي أن يُقابل به قوة الفعل، فناسبوا بين المعنى والمبنى، والعين أقوى من الفاء، ومن اللام؛ لأنها واسطة لهما ومكنوفة بهما؛ فصارا كأنهما سياج أي: سور أو جدار لها، ومذهولان للعوارض دونها، يعني: أنهما لكونهما في الطرف معرّضان لما يحدث للكلمة من إعلال ونحوه من غير أن يصل للعين شيء من هذا الإعلال غالبًا، فهما يحميانها من العوارض الإعلالية. فأما حذف الفاء ففي المصادر من باب وعد نحو: العدة والزنة؛ لأنهم استثقلوا الوعدة والوزنة، ولأن المصدر قد جرى مجرى الفعل، وأما حذف اللام فنحو: اليد، والدم والفم، والأب، والأخ. وقلما تجد الحذف في العين نحو: مذ وأصله منذ، فلما كانت الأفعال دليلة المعاني كرَّروا أقوى أحرفها، وجعلوا التكرير دليلًا على قوة المعنى المحدث به، وهو تكرير الفعل، كما جعلوا تقطيعه في نحو: صرصر دليلًا على تقطيعه، ولم يكونوا ليضعفوا الفاء، أو اللام؛ لكراهية التضعيف في أول

الدلالات النحوية.

الكلمة والإشفاق على الحرف المضعف أن يجيء في آخرها، وهو مكان الحذف وموضع الإعلال، وهم قد أرادوا تحصين الحرف الدّال على قوة الفعل. ومن ذلك أيضًا: مقابلة الألفاظ بما يشاكل أصواتها من الأحداث، وهو باب عظيم واسع، وذلك أنهم كثيرًا ما يجعلون أصوات الحروف معبِّرة عن الأحداث الدالة عليها، من ذلك قولهم: خضم، وقضم؛ فالخضم لأكل الرطب كالبطيخ والقثاء، والقضم للصلب اليابس نحو: قضمت الدابة شعيرها؛ فاختاروا الخاء لرخاوتها للرطب، والقاف لصلابتها لليابس، حذوا لمسموع الأصوات على محسوس الأحداث، ومثل ذلك قولهم النضح للماء ونحوه، وهو الرش، وبابه ضرب إن كان الفعل متعديًا يقال: نضح البيت: رشه، ويقال نضحت القربة أي: رشحت، وباب اللازم قطع. والنضخ بالخاء المعجمة أقوى من النضح بالحاء المهملة قال الله -سبحانه وتعالى: {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} (الرحمن: 66) فجعلوا الحاء لرقتها للماء الضعيف، والخاء لغلظها لما هو أقوى منه، فالعين نضاخة أي: كثيرة الماء أو الفوارة. الدلالات النحوية ذكر ابن جني أن الدلالات النحوية ثلاث: لفظية، وصناعية، ومعنوية، وأنها في القوة على هذا الترتيب فأقواهنّ اللفظية، ثم تليها الصناعية، ثم تليها المعنوية. وأفاد أن جميع الأفعال في كل فعل منها الدلالات الثلاث؛ فالفعل "قام" مثلًا دلَّ لفظه على مصدره أي: على الحدث، فهذه هي الدلالة اللفظية، ودلَّ بناؤه -أي: وزنه- على الزمان وهذه هي الدلالة الصناعية، ودل معناه على فاعله، وهذه هي الدلالة المعنوية، وإنما كانت الدلالة الصناعية أقوى من الدلالة المعنوية

من جهة إنها وإن لم تكن لفظًا، فإنها صورة أي: صفة يحملها اللفظ، ويخرج عليها ويستقرّ على البناء المعتزم بها، فلما كانت كذلك لحقت بحكمه، وجرت مجرى اللفظ المنطوق به؛ فدخل -أي: الدلالتان اللفظية والصناعية- بذلك في باب المعلوم بالمشاهدة. وأما المعنى فدلالته لاحقة بعلوم الاستدلال، وليست في حيز الضروريات، مثال ذلك: الأفعال، فالفعل -كما مر- دلَّ بلفظه على مصدره، وببنائه وصيغته على الزمان، وهما مدركان بحاسة السمع، وهو مراد ابن جني بالمشاهدة فيما سبق، ودلَّ بمعناه على فاعله، وهذا إنما يُدرك بإعمال النظر من جهة أن كل فعل لا بد له من فاعل؛ لأن وجود فعل من غير فاعل محالٌ فهو استدلالي ونظري، وليس في قوة الدلالتين الأوليين. ويفسّر ابن جني ذلك ويؤكد على أن دلالة الفعل على فاعله دلالة معنوية أي: من جهة معناه لا من جهة لفظه فيقول: "ألا تراك حين تسمع ضرب قد عرفت حدثه وزمانه، ثم تنظر فيما بعد فتقول: هذا فعل ولا بد له من فاعل، فليت شعري من هو، وما هو؟ فتبحث حينئذٍ إلى أن تعلم الفاعل من هو وما حاله من موضع آخر لا من مسموع ضرب، ألا ترى أنه يصلح أن يكون فاعله كلَّ مذكر يصحّ منه الفعل مجملًا غير مفصل فقولك: ضرب زيد، وضرب عمرو، وضرب جعفر، ونحو ذلك، شرع سواء، وليس لضرب بأحد الفاعلين هؤلاء ولا غيرهم خصوص ليس له بصاحبه، كما يُخص بالضرب دون غيره من الأحداث، وبالماضي دون غيره من الأبنية، ولو كنت إنما تستفيد الفاعل من لفظ ضرب لا معناه؛ للزمك إذا قلت: قام. أن تختلف دلالتهما على الفاعل لاختلاف لفظيهما، كما اختلفت دلالتهما على الحدث لاختلاف لفظيهما، وليس الأمر في

هذا كذلك بل دلالة ضرب على الفاعل كدلالة قام وقعد وأكل وشرب وانطلق واستخرج عليه، لا فرق بين جميع ذلك" انتهى. ونقل السيوطي عن الخضراوي قوله في كتابه المسمى بـ (الإفصاح): "ودلالة الصيغة هي المسماة دلالة التضمن، والدلالة المعنوية هي المسماة دلالة اللزوم" انتهى. ودلالة التضمن: هي دلالة الفعل على ما تضمَّنه معناه المركب من الحدث والزمان، وهو يدل على الزمان بهيئته، وعلى الحدث بمادته، ودلالته على مجموعهما مطابقة؛ لأنه تمام ما وُضع له لفظ الفعل، والدلالة المعنوية هي دلالة الفعل على الفاعل كما مر، وهي تُسمى دلالة اللزوم لدلالة اللفظ على لازم الموضوع له، وهو الحدث الواقع في زمانٍ من وجود فاعله، كما نقل السيوطي عن أبي حيان في كتابه المسمى (تذكرة النحاة) ذِكره: أن في دلالة الفعل ثلاثة مذاهب، نكتفي هنا بذكر المذهب الراجح، وهو أنه يدل على الحدث -أي: المصدر- بلفظه -أي: بمادته- وعلى الزمان بصيغته، أي: كونه على شكل مخصوص، ولدلالة صيغته على الزمان تختلف الدلالة على الزمان باختلاف صيغه، ولا تختلف الدلالة على الحدث باختلافها، أي: لأنه مهما اختلفت الصِّيَغ، فمادة الفعل ثابتة لا تتغيَّر. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 3 تقسيم الحكم النحوي

الدرس: 3 تقسيم الحكم النحوي

تقسيم الحكم النحوي إلى واجب وغيره.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثالث (تقسيم الحكم النحوي) تقسيم الحكم النحوي إلى واجب وغيره الحمد لله والصلاة، والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فالحكم النحوي ينقسم إلى: واجب، وممنوع، وحسن، وقبيح، وخلاف الأولى، وجائز على السواء. فالأقسام ستة. فأما الحكم الواجب: فكرفع الفاعل ونصب المفعول، أما رفع الفاعل؛ فلأنه عمدة إذ لا يستغنى عنه، والرفع لأنه أشرف علامات الإعراب جُعل علامة على العمد، ولكونه عمدة في الكلام جعل له الضمة أو ما ناب عنها، والضمة أقوى الحركات، وأما نصب المفعول فالغرض إظهار الفرق بينه وبين الفاعل، ولم يعكسوا؛ لأن الفعل له فاعل واحد، وقد يكون له مفعولات كثيرة، فمنه من يتعدى إلى مفعول واحد، ومنه ما يتعدى إلى مفعولين، ومنه ما يتعدى إلى ثلاثة، وربما يتعدى إلى أكثر من ذلك، كتعديه أيضًا إلى ظرف الزمان، وإلى ظرف المكان، وإلى المفعول لأجله، وإلى الحال ... إلى آخره، والرفع أثقل والفتح أخف، فأعطوا الأقل الأثقل، والأكثر الأخف؛ ليكون ثقل الرفع موازيًا لقلة الفاعل، وتكون خفة النصب موازيةً لكثرة المفعول. والمراد بالفاعل: الفاعل الاصطلاحي، وهو كل اسم، أو ما في تأويله ذكرته بعد فعل، أو ما في تأويله، وأسندت ذلك الفعل أو ما في تأويله إليه؛ فلا يرد فاعل الصفة المشبهة، واسم الفاعل والمصدر، واسم المصدر، فإن فاعل هذه الأسماء العاملة عمل الفعل يجوز جرُّه بإضافته إليها نحو قولك: زيد حسن الوجه، وأصله: حسنٌ وجهه، وعمرو قادم الأبي، وأصله: قادم أبوه، وآلمني ضرب زيد عمرو، أي: أن يضرب زيد عمرو، وأحب عطاءك المعروف، أي: أن تعطي المعروف، فهذان الحكمان النحويان بالنسبة للفاعل والمفعول حكمان

واجبان، ولا يقدح فيهما ما وَرَد عكسه شذوذًا في قولهم: خرق الثوب المسمار، وكثر الزجاج الحجر برفع المفعول ونصب الفاعل؛ لأن الشاذ يُحفظ ولا يُقاس عليه. ومن الأحكام الواجبة بالنسبة للفاعل أيضًا: تأخيره عن الفعل، فلا يجوز تقديم الفاعل عن الفعل؛ لأن الفاعل تنزل منزلة الجزء من الفعل، ولذلك وجدناهم يسكنون لام الفعل الماضي إذ اتصل به ضمير من ضمائر الرفع المتحركة، وهي: تاء الفاعل، ونا الفاعلين، ونون النسوة مثل: أنا فهمت، ونحن فهمنا، وهنَّ فهمنَ؛ فالفعل الماضي الذي يستحق البناء على الفتح في الأصل سُكّن آخره؛ كراهة تتابع أربعة متحركات فيما يُعدُّ كالكلمة الواحدة، ولولا أنهم نزلوا ضمير الفاعل من الفعل هذه المنزلة ما تغيَّرت علامة بناء الفعل. ووجدناهم كذلك يجعلون ثبوت النون في الأفعال الخمسة علامة للرفع، وحذفها علامة للنصب والجزم؛ لأنهم جعلوا الضمائر الثلاثة التي تتصل بالفعل المضارع -وهي ألف الاثنين، وواو الجماعة، وياء المخاطبة- بمنزلة جزء من هذه الأفعال فيقولون: هما يفهمان، وأنتما تفهمان، وهم يفهمون، وأنتم تفهمون، وأنت تفهمين، وعند إعراب ذلك نقول: إن كل ضمير من الثلاثة وقع فاعلًا، وإن الفعل مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون، فنجد علامة الرفع تقع بعد الضمير، ومن المعروف أن العلامة الإعرابية تكون في آخر الكلمة المعربة، ومعنى هذا أن الضمائر الثلاثة عُدَّت جزءً من الفعل؛ فوقعت العلامة الإعرابية بعدها. ومن أمثلة الأحكام النحوية الواجبة أيضًا: جرُّ المضاف إليه، لأنه لما كانت الإضافة على معنى حرف من أحرف الجر الثلاثة -اللام، أو من، أو في- وحُذف حرف الجر قام المضاف مقامه؛ فعمل في المضاف إليه الجر كما يعمل حرف الجر، وذلك نحو: سرَّني علم خالد، أي: علم لخالد، وهذا خاتم فضة،

أي: من فضة، وقوله تعالى: {تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} (البقرة: 226) أي: في أربعة أشهر. ومن الأحكام النحوية الواجبة كذلك: تنكير الحال والتمييز، أما وجوب تنكير الحال فلأنها تجري مجرى الصفة للمصدر، فإذا قلت: جاء فلان راكبًا. دلَّ على مجيء موصوف بركوب، والمصدر نكرة، فكذلك وصفه وجب أن يكون نكرة، ولأن الغالب أيضًا كونها مشتقة مع كون صاحبها معرفة؛ فالتزم تنكيرها لئلا يُتوهَّم كونها نعتًا إذا كان صاحبها منصوبًا نحو: أحببت عمرًا قارئًا، وحمل غير المنصوب على المنصوب، أما وجوب كون التمييز نكرة فلأنه يُشبه الحال، وذلك أن كل واحد منهما يُذكر للبيان ورفع الإبهام، فهو يُبيّن ما قبله كما أن الحال كذلك، فلما أشبه الحال أُعطي حكمها في وجوب التنكير. كما أن شرط التمييز أن يكون نكرة جنسًا مقدرًا بمن؛ لأنه واحد في معنى الجمع، فأنت إذا قلت: عندي عشرين درهمًا. معناه أن عندك عشرين من الدراهم، فقد دخله بهذا المعنى الاشتراك بين الدلالة على الإفراد والجمع، وما كان كذلك كان نكرة والممنوع كأضداد ذلك، فيمنع أن تنصب الفاعل إلا ما سُمع شاذًّا كما سبق بيانه، أو أن تجره بحرف أصلي. وأما قول جمهور البصريين: إن نحو قولنا في التعجب: أحسن بزيد. مثلًا الباء داخلة فيه على الفاعل، فإنهم يفسرون ذلك بأن الباء حرف جرّ غير أصلي، وما بعدها فاعل مرفوع بضمة مقدرة منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، وأن أصل التركيب في هذا ونحوه: أحسن زيد أي: صار ذا حسن؛ فالهمزة الداخلة على الفعل تسمى همزة الصّيرورة كقولهم أغدّ البعير، أي: صار ذا غدة، والغدة هي طاعون الإبل؛ فالصيغة في الأصل كانت خبرية ماضوية، ثم غُيّرت إلى إنشاء التعجب، فغيرت الصيغة إلى الأمرية أي: إلى أحسن زيد؛ فقبح إسناد صيغة الأمر إلى

الاسم الظاهر، لأن صيغة الأمر لا ترفع الاسم الظاهر، فزيدت الباء في الفاعل؛ ليصير في صورة المفعول به المجرور بالباء كامرر بزيد، ولم يتغيّر إعراب الاسم المتعجب منه. وقس على ما تقدَّم ما حكم عليه النحويون بالمنع من أضداد ما حكموا عليه بالوجوب. أما الحكم بالحسن فكحكمهم على رفع المضارع الواقع جوابًا وجزاءً لأداة شرط جازمة بعد شرط ماضٍ، وبيان ذلك: أن فعل الشرط إذا كان ماضيًا لفظًا أو معنًى -وهو المضارع المنفي بلم- وكانت الأداة جازمة؛ جاز لك رفع المضارع الواقع جوابًا وجزاءً، وهذا الرفع حسن؛ لأنه لمَّا لم يظهر لأداة الشرط تأثير في فعل الشرط لكونه ماضيًا ضعفت عن العمل في الجواب، وذلك نحو قولك: إن قام خالد يقوم عمرو، ونحو: إن لم يقم خالد يقوم عمرو، ومن ذلك قول زهير بن أبي سلمى يمدح هرم بن سنان: وإن أتاه خليلٌ يوم مسْغبة ... يقول لا غائبٌ مالي ولا حرم فالفعل المضارع "يقول" جاء مرفوعًا مع أنه في جواب أداة الشرط الجازمة، ومثله قول الآخر: ولا بالذي إن بان عنه حبيبه ... يقول ويخفي الصبر إني لجازع ويجوز جزم المضارع الواقع جوابًا وجزاء حينئذٍ، والجزم أحسن؛ لأنه هو الأصل وفاءً بحق الأداة الجازمة، والقبيح كرفع المضارع الواقع بعد شرط المضارع والأداة جازمة، كقول الراجز: يا أقرع بن حابس يا أقرعُ ... إنك إن يُصرعْ أخوك تصرعُ والشاهد في "تصرع" في آخر الرجز؛ حيث جاء مرفوعًا بعد شرط مضارع مجزوم، وإنما حكموا عليه بالقبح؛ لأن فيه تهيئة العامل للعمل ثم قطعه عنه، وقد أشار الناظم إلى الحسن والقبح في المثالين المذكورين ونحوهما بقوله:

وبعد ماضٍ رفعك الجزا حسن ... ورفعه بعد مضارع وهن أي: ضعف أو قبح، والحكم بخلاف الأولى مثل حكم النحويين بذلك على تقديم الفاعل في نحو: ضرب غلامه زيدًا، أي: ضرب غلام زيد سيده زيدًا؛ فالضمير متصل بفاعل مقدم وعائد على مفعول مؤخر، وقد أجاز هذه الصورة الأخفش وابن جني، ومن الكوفيين أبو عبد الله الطوال مستدلِّين بنحو قول حسان -رضي الله عنه- يرثي مطعم بن عدي: ولو أن مجدًا أخلد الدهر واحدًا ... من الناس أبقى مجده الدهر مطعما قوله: "الدهر" منصوب على الظرفية الزمانية في شطري البيت. والشاهد قوله: "أبقى مجده الدهر مطعما" حيث عاد الضمير من الفاعل المتقدّم على المفعول المؤخر. ويرى بعض العلماء ومنهم السيوطي أن ذلك ونحوه خلاف الأولى، وكأن الذي سوَّغ ذلك من وجهة نظر المجيزين تقدُّم ذكر المفعول، وكأن الشاعر قال: أبقى مجد هذا المذكور المتقدم ذكره مطعمًا. فوضع الظاهر موضع المضمر، كما لو قلت: إن زيدًا ضربت جاريته زيدًا، أي: ضربت جاريته إياه، ولا بأس بمثل هذا -كما قال عبد القادر البغدادي- ولا سيما إذا قصدت التعظيم والتفخيم لذكر الممدوح، والجمهور يُقصرون جواز ذلك على الضرورة، ويُوجبون فيه في النثر تقديم المفعول كقوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} (البقرة: 124) والجائز على السواء كحذف المبتدأ أو الخبر، وإثباته؛ حيث لا مانع من الحذف ولا مقتضي له، وأمثلة ذلك لا تخفى عليك، وقد اجتمعت الأقسام الستة في عمل الصفة المشبهة لاسم الفاعل، وهي كما عرَّفها ابن الناظم: "الصفة المصوغة لغير تفضيل لإفادة نسبة الحدث إلى موصوفها، دون إفادة الحدوث: وأشار الناظم إليها بقوله:

صفة استُحسن جر فاعل ... معنًى بها المشبهة اسم الفاعل يعني: هي التي استحسن فيها أن تضاف لما هو فاعل بها في المعنى كطويل الأنف، وعريض الحاجب، وواسع الفم، وحسن الوجه، ونقي الثغر، وطاهر العرض، والأصل في هذه المُثل: طويل أنفه، وعريض حاجبه، وواسع فمه، وحسن وجهه، ونقيّ ثغره، وطاهر عرضه. وتفصيل اجتماع الأقسام الستة في عملها أنها إما أن تكون بـ"أل" أو لا، فلها حالتان. ومعمولها إما مجرد أو مقرون بـ"أل" أو مضاف إلى ما فيه "أل" أو إلى ضمير الموصوف، أو إلى مضاف إلى ضمير الموصوف، أو إلى مجرد من أل والإضافة. فله ست حالات، فهذه اثنتا عشرة وعملها: إما رفع للمعمول على الفاعلية للصفة عند سيبويه، أو على الإبدال من ضمير مستتر فيها عند الفارسي، أو نصب على التشبيه بالمفعول به إن كان معرفة كالوجه، وعليهم أو على التمييز إن كان نكرة كوجهًا، أو جرٌّ بالإضافة؛ فمجموع الصور ست وثلاثون صورة، وهي الحاصلة من ضرب أوجه الإعراب الثلاثة في حالتي تنكير الصفة وتعريفها، في الحالات الست للمعمول تتعاورها الأحكام الستة النحوية على الوجه الآتي: الجارّ ممنوع في أربع صور، وهي: أن تكون الصفة بأل، والمعمول مجرد منها ومن الإضافة لما هي فيه، بأن يكون مجردًّا من أل والإضافة كالحسن وجه، أو يكون مضافًا إلى مجرد منهما كالحسن وجه أب، أو يكون مضاف إلى ضمير الموصوف كالحسن وجهه، أو يكون مضافًا إلى مضاف لضمير الموصوف كالحسن وجه أبيه. ووجه المنع في الصورتين الأولى والثانية: لزوم إضافة المعرفة إلى النكرة، وفي الصورتين الثالثة والرابعة: عدم الفائدة، وذلك لأن الإضافة اللفظية إنما تجوز إذا أفادت تخفيفًا، أو رفع قبح، ولا يوجد تخفيف في هاتين الصورتين؛ لسقوط التنوين بسبب وجود أل، ولا يوجد أيضًا رفع قبح؛ لوجود الضمير مع المعمول.

وخلاف الأولى الجرُّ في صورتين أن تكون الصفة مجردة من أل، والمعمول مضاف إلى ضمير الموصوف كحسن وجهه، أو مضاف إلى مضاف لضمير الموصوف كحسن وجه أبيه، والجر فيهما عدَّه سيبويه من الضرورات الشعرية، ومنعه المبرد في الشعر والنثر؛ لأنه يُشبه إضافة الشيء إلى نفسه، وأجازه الكوفيون في الكلام كله، ورأى ابن مالك أن رأيه هو الصحيح لوروده في بعض الأحاديث النبوية الشريفة كالحديث الذي رواه البخاري في صحيحه، في كتاب بدء الخلق، باب: واذكر في الكتاب مريم، في وصف الدجال، وفيه: ((أعور عينيه اليمنى))، ورأى السيوطي مراعاة للخلاف: أنهما خلاف الأولى، وخلاف الأولى أيضًا النصب في أربع صور: أن تكون الصفة مجردة والمعمول بأل، أو مضاف إلى ما فيه أل، أو مضاف إلى ضمير الموصوف، أو مضاف إلى مضاف لضمير الموصوف نحو: حسن الوجه، وحسن وجه الأب، وحسن وجه، وحسن وجه أبيه، ووجه كونها خلاف الأولى أنها من إجراء وصف القاصر مجرى وصف المتعدي. والقبيح الرفع في أربع صور: أن يكون المعمول مجردًّا، أو مضاف إلى مجرد؛ سواء كانت الصفة بأل أم بدونها، وذلك مثل: الحسن وجه، والحسن وجه أب، وحسن وجه، وحسن وجه أب، ووجه القبح بها خلو الصفة من ضمير يعود على الموصوف لفظًا، وعلى قبحها فهي جائزة في الاستعمال؛ لوجود الضمير تقديرًا، والحسن فيها النصب أو الجر. والواجب النصب في صورتين: أن تكون الصفة بأل، والمعمول مجرد أو مضاف إلى مجرد نحو: الحسن وجهًا، والحسن وجه أب. والجائز على السواء الأوجه الإعرابية الثلاثة في صورتين: أن تكون الصفة بأل والمعمول مقرون بها، أو مضاف إلى معرف بها نحو: الحسن الوجهُ، والوجهَ والوجهِ، والحسن وجه الأب، وجه الأب، وجه الأب بالأوجه الإعرابية الثلاثة.

تقسيم الحكم النحوي إلى رخصة وغيرها.

تقسيم الحكم النحوي إلى رخصة وغيرها ذكر السيوطي أن الحكم النحوي ينقسم أيضًا إلى رخصة وغيرها، وأراد بالرخصة: ما جاز استعماله لضرورة الشعر، أي: ما جاز في الشعر مما لا يجوز استعمال نظيره في الكلام النثري الاختياري، وهو المعروف بالضرائر الشعرية، وأوضح أن هذه الضرائر ليست على درجة واحدة، بل هي تتفاوت حسنًا وقبحًا أي: أن النحويين حكموا على بعض الضرائر بالحسن، وعلى بعضها بالقبح. وقال: "وقد يلحق بالضرورة ما في معناها، وهو الحاجة إلى تحسين النثر بالازدواج". ومن الواضح أن السيوطي قد اختار مذهب سيبويه والجمهور في تعريف الضرورة الشعرية؛ فالضرورة الشعرية عند هؤلاء العلماء: ما جاز في الشعر مما لا يجوز نظيره في الكلام الاختياري مطلقًا، أي: سواء أكان للشاعر عنه مندوحة -أي: مهرب وسعة وفسحة- أم لم يكن له عنه مندوحة لماذا؟ لأنهم يَرَوْن أن الشعراء أُمراء الكلام، والضرورة هي مخالفة لسَنَن الكلام أي: لطريقة الكلام الاختياري، بالنسبة للإجراء على القواعد النحوية المعروفة، ولكن ليس معناها الخروج ألبتَّة عن قواعد اللغة ومقاييسها، فللضرورة عندهم حدود تنتهي إليها، وغاية تقف عندها، ومقاييس يلتزم الشعراء بها، نعم هي مُخَالِفة ومُخَالَفة لسنن الكلام المنثور، خارجة عن قوانينه بما للشعر من سمات معينة، وطبيعة منفردة تجعله خليقًا بأن يتخفَّف من قيود الكلام، لكن الشاعر مع ذلك يُراعي أن الشعر أحد نوعي التعبير اللغوي؛ فينبغي أن تتصل بين النوعين الأسباب، وأن تمتدَّ بينهما الوشائج، فلا ضرورة إلا وهناك صلة ما تربطها بالكلام النثري، وهذه

الصلة هي التي تُعرف بوجه الضرورة، أو بعلة الضرورة، والمتتبّع لضرائر الشعر عند العرب يجد أن وجه الضرورة لا يكاد يخرج عن أحد أمرين: الأول: تشبيه ما وقع في الشعر بما وقع في الكلام النثري، كصرف ما لا ينصرف من الأسماء تشبيهًا له بما ينصرف في الكلام للتناسب، كتنوين "سلاسل" مع كونها على صيغة منتهى الجموع؛ لمناسبة ما بعدها في قول الله تعالى: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَا وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا} (الإنسان: 4) وقال أبو كبير الهذلي: مما حملنا به وهن عواقد ... حُبك النطاق فشب غير مهبل وصف الشاعر رجلًا شهم الفؤاد، ماضيًا في الرجال ينزع إلى أبيه في الشَّبَه، والشاهد في البيت صرف عواقد، مع أنه على صيغة منتهى الجموع، فهو جمع عاقدة، وذلك للضرورة الشعرية. والوجه الآخر للضرورة: ردُّ الأشياء إلى أصولها كفكّ المدغم الواجب إدغامه في الكلام كقول الشاعر: مهلًا أَعاذلَ قد جربت من خلقي ... أني أجود لأقوم وإن ضَنِنُوا الواجب في الكلام أن يقال: وإن ضنًّوا بوجوب إدغام المثلين، فلما اضطر الشاعر فك الإدغام؛ رجوعًا إلى الأصل. ومما يؤكد اختيار السيوطي لمذهب سيبويه والجمهور في الضرورة الشعرية إجازته أن يُلحَق بالضرورة ما في معناها، وهو الحاجة إلى تحسين النثر؛ فسيبويه والمبرد والسيرافي وابن عصفور وغيرهم كثير من النحويين قد أجازوا في بعض أنواع الكلام النثري ما جاز في الشعر، كالكلام المسجوع، والأمثال؛ لورود ذلك عن العرب. ففي حين منع جمهور البصريين حذف حرف النداء إذا كان المنادى نكرة مقصودة، ذكر سيبويه أنه قد يجوز بقلةٍ حذف ياء من النكرة المقصودة في الشعر

فقال في (الكتاب): "وقد يجوز حذف ياء من النكرة -أي: المقصودة- في الشعر، وقال العجاج: جاري لا تستنكري عذيري ... ......................... يريد: يا جارية، وقال في مثل: افتدي مخنوق، وأصبح ليل، وأطرق كرى" انتهى. وهكذا أدخل سيبويه الأمثال في حيّز ما يُستجاز في الشعر. وقال المبرد في (المقتضب): "والأمثال يستجاز فيها ما يستجاز في الشعر لكثرة الاستعمال لها" انتهى. واستطرد السيوطي فقال: "فالضرورة الحسنة ما لا يستهجن، ولا تستوحش منه النفس يُريد ما لا يستقبح، أو يعاب، أو تنفر منه النفس" وضرب لذلك ثلاثة أمثلة من غير استشهاد عليها، وهي صرف ما لا ينصرف كبيت أبي كبير الهذلي الذي أوردناه فيما سبق، وقصر الجمع الممدود كقول الشاعر: فلو أن الأطبّا كان حولي ... وكان مع الأطباء الأُسَاة فقصر الشاعر الأطباء في الشطر الأول من البيت، وهو جمع طبيب، كما أنه أيضًا اكتفى بالضمة عن واو الجماعة في قوله: كانوا، وهي ضرورة أخرى في البيت، وإن لم يذكرها السيوطي في (الاقتراح)، وقيل: إن السيوطي أراد بضرورة قصر الجمع الممدود حذف الياء الواقعة قبل الآخر في الجمع الأقصى، كقول الراجز يصف ما أصابه من الكبر: وكحل العينين بالعواور والأصل: بالعواوير؛ لأنه جمع عُوَار، والعوار: هو الرمد الذي يصيب العين، ومن الضرائر الشعرية التي أوردها السيوطي: مدُّ الجمع المقصور، قيل: أراد به

زيادة ياء قبل آخر الجمع الأقصى كقول الفرزدق يصف ناقة بالسرعة في حرّ الهاجرة، فقال: تنفي يداها الحصى في كل هاجرة ... نفي الدنانير تنقاد الصياريف فالصياريف أصله: الصيارف؛ لأنه جمع صيرف، فاضطر الشاعر إلى إشباع كسرة الراء وزيادة الياء. وذكر السيوطي أن أسهل الضرورات جمع المؤنث السالم للاسم المؤنث الثلاثي ساكن العين مفتوح الفاء، الذي على وزن "فَعْلة" -بسكون العين في المفرد- فإن قاعدة جمعه تقتضي أن تُفتح عينه في الجمع وجوبًا؛ إتباعًا لحركة فائه، قال الله تعالى: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ} (البقرة: 167) فحسرات جمع حسرة بسكون السين في المفرد، وبفتحها في الجمع، ويجوز تسكين عين الجمع في الشعر للضرورة الشعرية كقول الراجز: فتستريح النفس من زفراتها ومما عدَّه السيوطي من أقبح الضرائر الشعرية: الزيادة المؤدية لما ليس أصلًا في كلام العرب، كقول الشاعر: وأنني حيثما يَثني الهوى بصري ... من حيثما سلكوا أدنُوا فأنظُور يريد: فأنظر، ولكنه اضطر فأشبع الضمة على الظاء؛ فتولَّد عن هذا الإشباع زيادة الواو، وكذلك الزيادة المؤدية إلى ما يقل في الكلام كقول امرئ القيس يُشبه ناقته بعقاب خفيفة سريعة: كأني بفتخاء الجناحين لقوت ... صيود من العقبان طأطأت شيمالي يريد: شمالي، ولكنه اضطر فأشبع الكسرة، وقيل: الشيمال لغة في الشمال، ولكنها لغة قليلة، وكذلك يُستقبح النقص المُجْحِف كقول لبيد:

درس المنى بمتالع فأباني ... فتقادمت بالحبس فالثوبان أراد الشاعر درس المنازل، يقال: درس المنزل أي: عفى وانمحى أثره، ومتالع، وأبان، والحبس، والثوبان: أسماء مواضع. ومما يستقبح من الضرائر أيضًا: العدول عن صيغة لأخرى كقول الحطيئة: فيه الرماح وفيه كل سابغة ... جدلاء محكمةٍ من نسج سلَّام أي: من نسج سليمان. وختم السيوطي هذه المسألة بالإشارة إلى مذهب ابن مالك في الضرورة الشعرية؛ حيث ذهب ابن مالك إلى أن الضرورة ما ليس للشاعر عنه مندوحة، أي: ما ليس له عنه سعة وفسحة، وهو بهذا يُخالف ما عليه مذهب سيبويه والجمهور وقد حكم النحويون على مذهب ابن مالك بالفساد والبطلان؛ لاعتماده على مجرد التفسير اللغوي البحت لمعنى الضرورة، من غير مراعاة لطبيعة الشعر الذي هو لغة العواطف والوجدان؛ فالضرورة عند ابن مالك مشتقَّة من الضرر، وهو النازل الذي لا مدفع له، فقول الشاعر: يقول الخنا وأبغضُ العجم ناطقًا ... إلى ربنا صوت الحمار اليُجَدَّع فيه ضرورة عند الجمهور، وهي إدخال أل الموصولة على صريح الفعل المضارع المبني للمفعول؛ لمشابهته لاسم المفعول، وذلك لا يجوز عندهم في النثر؛ إذ هو شاذّ قبيح لا يجيء إلا في ضرورة. وذهب ابن مالك إلى أن وصل أل بالمضارع وغيره جائز اختيارًا، ولكنه قليل، وعلل بجعله في الاختيار بإمكان الشاعر أن يقول: صوت الحمار يُجدّع. من غير إخلال بالوزن أو المعنى، واعتمادًا على هذا المذهب في الضرورة لا يرى ابن مالك بأسًا من الاستشهاد لمجيء المضارع مجزومًا بلام طلب مقدرة بعد قول خبري في الاختيار، بقول الراجز:

قلت لبواب لديه دارُها ... كيدًا فإني حموها وجارها فهو يرى أن الأصل لتأذن، فحذف الشاعر اللام الجازمة وأبقى عملها، وكسر حرف المضارعة، وليس الراجز مضطرًا إلى هذا الحذف؛ لتمكنه من أن يقول: إيذن من غير إخلال بالوزن، أو المعنى، فحذف اللام الطلبية وإبقاء عملها إنما هو في البيت من قبيل العمل الاختياري، وليس كما رأى الكثير أن ذلك مقصورٌ على الشعر للضرورة الشعرية. ورفض هذا المذهب كثير من العلماء لأنه يؤدّي إلى أنه ليس في كلام العرب ضرورة؛ إذ لا توجد لفظة إلا يمكن للشاعر تبديلها، ونظم لفظ آخر مكانها، وربّ كلمة يرى الشاعر مفعمة بالمعاني التي تجيش في صدره، صادقة في التعبير عنها مع ما في استعمالها من مخالفة لسنن الكلام الاختيار وقواعد النحاة، ولا يرى ذلك في مرادفاتها مما يُساير سنن الكلام وقواعد النحاة. ولذلك رأى أبو حيان وغيره أن ابن مالك لم يفهم قول النحويين في ضرورة الشعر؛ فقال في غير موضع: "ليس هذا البيت بضرورة لأن قائله متمكن من أن يقول كذا" ففهم أن الضرورة في اصطلاحهم هي الإلجاء إلى الشيء، وليس كذلك. وقد أبطل الشاطبي مذهب ابن مالك من وجوه، أهمها: إجماع النحاة على عدم اعتبار ذلك المنزع، وعلى إهماله في النظر القياسي جملة، ولو كان معتبرًا لنبَّهوا عليه. والثاني: أن الضرورة عند النحاة ليس معناها أنه لا يمكن في الموضع غير ما ذُكر؛ إذ ما من ضرورة إلا يُمكن أن يعوَّض من لفظها غير هذا اللفظ، ولا ينكر هذا إلا جاحد لضرورة العقل. هذه الراء في كلام العرب من الشياع في الاستعمال بمكانٍ لا يُجهل، ولا يكاد المتكلم ينطق بجملتين تعريان عنها، وقد هجرها واصل بن عطاء لمكان لُثغته فيها، حتى كان يناظر الخصوم، ويخطب على المنبر، فلا يُسمع في نطقه راء؛ فكان إحدى الأعاجيب حتى صار مثلًا فيها. والسلام عليكم ورحمة الله.

الدرس: 4 تعلق الحكم بشيئين أو أكثر، وهل بين العربي والعجمي واسطة؟ وتقسيم الألفاظ، والمراد بالسماع

الدرس: 4 تعلق الحكم بشيئين أو أكثر، وهل بين العربي والعجمي واسطة؟ وتقسيم الألفاظ، والمراد بالسماع

تعلق الحكم النحوي بشيئين أو أكثر.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الرابع (تعلق الحكم بشيئين أو أكثر، وهل بين العربي والعجمي واسطة؟ وتقسيم الألفاظ، والمراد بالسماع) تعلق الحكم النحوي بشيئين أو أكثر الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فذكر السيوطي أن الحكم النحوي يعني بمفهومه العام الشامل للمفردات والتراكيب، هذا الحكم قد يتعلَّق بشيئين أو أكثر؛ فتارة يجوز الجمع بينهما أو بينها، وتارة يمتنع، فمما يجوز الجمع فيه مسوغات الابتداء بالنكرة، وهي كثيرة جدَّا أوصلها بعضهم إلى أكثر من ثلاثين مسوغًا، وجعلوا مدار صحة الإخبار عن النكرة على حصول الفائدة، لا على ما ذكروه من هذه المسوغات. فالمتقدمون لم يعولوا في ضابط الابتداء بالنكرة إلا على حصول الفائدة، وكل مسوّغ تتحقَّق به الفائدة؛ يجوز معه الابتداء بالنكرة على انفراده، ولا يمتنع اجتماع اثنين منها فأكثر فقوله تعالى: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ} (البقرة: 221) وقعت فيه النكرة، وهو كلمة "عبد" مبتدأ، فقال الجمهور: المسوغ للابتداء بالنكرة في الآية الكريمة وصفها بقوله: {مُؤْمِنٌ}. وقال بعضهم: المسوغ لذلك دخول لام الابتداء عليها. ورأى بعضهم أن المسوغ لها إنما هو معنى العموم؛ لأن المراد المفاضلة بين الجنسين، لا بين أفرادهما المخصوصة. ولا مانع من اجتماع هذه المسوغات المصححة للابتداء بالنكرة؛ إذ لا تعارض بينها. ومن أمثلة ذلك أيضًا: اجتماع دخول أل المعرفة والتصغير معًا على الاسم الواحد، مع أن كليهما من خواص الأسماء، فأل مما يتميز به الاسم عن قسيميه في أنواع الكلمة: الفعل، والحرف. والتصغير وصف في المعنى، فلا تُوصف إلا الأسماء، ويجوز مع ذلك اجتماعهما، فيقال مثلًا: هذا الرجل، هذا الرجيل أصغر من ذاك الرجيل، وذلك الجبيل أعلى من ذلك الجبيل. وقد والتاء من خواص الأفعال، ويجوز اجتماعهما نحو: قد قامت الصلاة، ومما لا يجوز فيهما

الجمع بينهما أداة التعريف أل والإضافة، وهما من خواص الأسماء، وإنما لم يجز الجمع بينهما؛ لأن كلتيهما أداة تعريف ولا يجوز الجمع بين معرفين على معرف واحد، فإن قيل: فقد اجتمع المعرفان في نحو قوله تعالى: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ} (آل عمران: 43) فقد اجتمع على الاسم التعريف بأداة النداء وبالعلمية، وقال الشاعر: علا زيدُنا يومًا نقى رأس زيدكم ... بأبيض ماضي الشفرتين يمان فقال: زيدنا، وزيدكم. فجمع بين التعريف بالعلمية والتعريف بالإضافة، فالجواب: أن تعريف العلمية قد زال مما ذكر، وأُجري العلم مجرى النكرات، وصار معرفًا بأل في الآية الكريمة، وبالإضافة في البيت، أو أن الممتنع هو الجمع بين التعريفين إذا كان بعلامتين لفظيتين، كالجمع بين يا مع الألف واللام، والعلمية ليست بعلامة لفظية. أما قولهم: يا الله. فقد جمعوا فيه بين يا وأل؛ لأن الألف واللام عِوَض من حرف أصلي، وكأن هذا الاسم الكريم أصله إله؛ فحذفوا الهمزة من أوله، وعوَّضوا منها الألف واللام، فصارت كأنها جزء منه، كما أن هذا الاسم الكريم قد كثر استعماله فخفَّ على ألسنتهم؛ فجوزوا فيه ما لم يجوزوا في غيره. ومما لا يجتمعان كذلك التنوين والإضافة مع أنهما من خواص الأسماء، وذلك أن كلًّا منهما علامة على نهاية الاسم وتمامه، ولا يجتمع على تمام الاسم علامتان، أو لأن التنوين يدلُّ على الانفصال، والإضافة تدلّ على الاتصال فلم يجمعوا بينهما، ألا ترى أن التنوين يُؤذِن بانقطاع الاسم وتمامه، والإضافة تدلّ على اتصال المضاف بما بعده وهو المضاف إليه، وكون الشيء متصلًا منفصلًا في حالة واحدة أمر محال، أو لأن التنوين في الأصل يدلّ على التنكير المفيد للعموم، أما الإضافة فتُخصّص أو تعرف، فلم يجتمعا.

قال ابن جني في (الخصائص): "ومن غلبة حكم الطارئ حذف التنوين للإضافة نحو: غلام زيد، وصاحب عمرو؛ لأنهما ضدَّان، ألا ترى أن التنوين مُؤذن بتمام ما دخل عليه، والإضافة حاكمة بنقص المضاف، وقوة حاجته إلى ما بعده، فلما كانت هاتان الصفتان على ما ذكرنا تعادتا وتنافاتا؛ فلم يمكن اجتماع علامتيهما. وأيضًا فإن التنوين علم للتنكير والإضافة موضوعة للتعريف، وهاتان أيضا قضيتان متدافعتان إلا أن الحكم للطارئ من العلمين -أي: من العلامتين- وهو الإضافة، ألا ترى أن الإفراد أسبق رتبة من الإضافة، كما أن التنكير أسبق رتبة من التعريف؟ " انتهى. وكذلك السين وسوف، وهما من خواص الفعل المضارع، ومن أدوات الاستقبال كلتاهما حرف مفيد للتنفيس أي: للتوسيع بمعنى: أنهما يقلبان المضارع من الزمن الضَّيّق وهو الحال، إلى الزمن الواسع وهو الاستقبال، وسوف مرادفة للسين، وقيل أوسع منها؛ لأن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، ولا يُجمع بينهما؛ كراهة الجمع بين علامتي استقبال، ولذلك ذكر ابن عصفور: "أنه لا يجوز أن يجمع بين أن المصدرية والسين وسوف؛ لكون أن إذا دخلت على المضارع خصَّصته بالزمن المستقبل، فلا يجوز أن يقال: يعجبني أن ستجتهد، أو أن سوف تجتهد؛ كراهة الجمع بين حرفين يعطيان شيئًا واحدًا، وهو التخليص للاستقبال". قال السيوطي: "والتاء والسين خاصتان ولا يجتمعان" انتهى. وتفسير ما قال: أن التاء سواء أكانت تاء التأنيث الساكنة، أم كانت تاء الفاعل المحرّكة، هي من خواص الفعل الماضي؛ فلا تجتمع مع السين التي هي من خواص الفعل المضارع لتنافيهما.

وقال السيوطي: "ومن القواعد المشتهرة قولهم: البدل والمُبدل منه، والعوض والمُعوض منه لا يجتمعان" ومن المهم الفرق بين البدل والعوض، ثم أورد نصين أحدهما من كتاب (تذكرة النحاة) لأبي حيان، والآخر لابن جني من (الخصائص)، ويدور هذان النصان حول ذكر الفرق بين البدل والعوض. وإنما ذكر السيوطي أنه من المهم معرفة الفرق بين البدل والعوض؛ لأن بعض النحاة يُطلقون لفظ البدل ويريدون به العوض، ومن هؤلاء المبرد في (المقتضب)، وابن يعيش في (شرح المفصل)، والعلامة الرضي في شرحه على (شافية ابن الحاجب)، وأبو الحسن الأشموني في شرحه على (ألفية بن مالك)، وهذا الإطلاق من باب التجوّز. وقد أوضح أبو حيان في نصه المنقول عن (التذكرة) أن البدل لغةً العوض، ويفترقان في الاصطلاح، ثم أشار إلى بعض الفروق الاصطلاحية بينهما؛ فالبدل عند علماء النحو هو أحد التوابع الخمسة، وقد عرفه النحويون بأنه: التابع المقصود بالحكم بلا واسطة، وهو يجتمع مع المبدل منه، قال الله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (الفاتحة: 6، 7) فقوله سبحانه: {صِرَاطَ الَّذِينَ} بدل من الصراط، وقد اجتمعا، وقال -عز وجل-: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (آل عمران: 97) فـ {مَنِ اسْتَطَاعَ}: بدل من {النَّاسِ}، وقد اجتمعا، وإنما يجتمع البدل مع المبدل منه لأن المقصود بالحكم هو البدل، وأما المبدل منه فهو يُذكر توطئة وتمهيدًا، ومن هنا يقولون: المبدل منه في حكم الطرح من جهة المعنى غالبًا، ويكون الغرض من ذكر البدل أن يُذكر الاسم المقصود بالحكم بعد التوطئة؛ لإفادة توكيد الحكم وتقريره، ولذلك يرى الأكثرون أن عامل البدل مقدَّر دلَّ عليه العامل في المبدل منه، فهو مع البدل جملة أخرى في الحقيقة، وإن كانوا يسمون الكلام المشتمل على المبدل منه والبدل جملة واحدة؛ اعتبارًا بظاهر اللفظ.

ويُحكى عن أبي علي الفارسي أنه قيل له: "كيف يكون البدل إيضاحًا للمبدل منه، وهو من غير جملته؟ فقال: لما لم يظهر العامل في البدل، وإنما دلَّ عليه العامل في المبدل منه، واتصل البدل بالمبدل منه في اللفظ؛ جاز أن يوضحه"، والذي يدل على أن العامل في البدل غير العامل في المبدل منه قوله تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ} (الزخرف: 33) فظهور اللام في "بيوتهم" وهي بدل من "مَن" دليل على أن عامل البدل غير عامل المبدل منه، ومثل ذلك قوله تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} (الأعراف: 75) فظهور اللام مع "من" وهو بدل من "الذين استضعفوا" دليل على ما تقدم أيضًا، هذا هو البدل النحوي. أما في اصطلاح علماء الصرف فمن مباحثهم: البدل والعوض، والبدل عندهم، هو: جعل حرف مكان حرف آخر مطلقًا كجعلهم الطاء في موضع التاء في "اصطبر"، والألف موضع الواو في "قال"، والهمزة موضع الياء في "بناء". ومرادهم بجعل حرف مكان آخر إزالة الحرف المبدل منه من الكلمة، ووضع حرف آخر موضعه، وهذا معنى قول أبي حيان في النص المنقول عنه: "وبدل الحرف من غيره لا يجتمعان أصلًا، ولا يكون إلا في موضع المبدل منه"، وأوضح أبو حيان أن البدل الصرفي في اصطلاحهم لا بد فيه من هذين الأمرين؛ لأنه بهما يُغاير العوض؛ فالعوض -كما قال أبو حيان- لا يكون في موضعه، يعني: لا يكون في موضع المعوض منه، وربما اجتمعا ضرورة، يُشير بهذه العبارة إلى مذهب بعض علماء الصرف كابن يعيش وغيره، الذين يذهبون إلى أن يكون العوض مقصورًا على كون الحرف الآتي عوضًا في غير موضع المحذوف المعوض منه؛ فهمزة الوصل في ابن واسم عوضٌ من الواو التي هي لام ابن، لأن أصله

"بنوٌ" فحذفت الواو تخفيفًا، وسكنت الباء، وجيء بهمزة الوصل للتعويض، وإمكان النطق بالساكن. وعوض من الواو في "اسم"؛ لأن أصله عندهم من السمو. ومثل ذلك التاء في نحو: عدة، وزنة، عوض من الواو التي هي فاء الكلمة، وهكذا. وربما اجتمع العوض والمعوض منه في كلمة واحدة وإن اختلف موقعهما، وذلك في الضرورة الشعرية كالجمع بين حرف النداء والميم المشددة التي تكون عوضًا منه كقول الراجز: إني إذا ما حدث ألمَّا ... أقول يا اللهم يا اللهم وبناءً على هذا المذهب تكون النسبة بين البدل والعوض التباين؛ فالبدل أن تُقيم حرفًا خلفًا لحرف في موضعه، ولا يجتمعان، والعوض: أن تقيم حرفًا خلفًا لحرف في غير موضعه، وقد يجتمعان في الشعر للضرورة الشعرية. قال أبو حيان: "وربما استعملوا العوض مرادفًا للبدل في الاصطلاح" أي: ربما استعملوا العوض في الاصطلاح في الإتيان بالحرف في مكان الحرف المحذوف؛ فيكون أعم من البدل لا مباينًا له، وهو يشير بهذه العبارة إلى مذهب بعض الصرفيين الذين لا يشترطون أن يكون الحرف الآتي عوضًا من غيره في مكان المعوض منه أو في غير مكانه؛ فالطاء في نحو: "اصطبر" عندهم عوضٌ من تاء الافتعال، والأصل: اصتبر، وهمزة الوصل في أول نحو: "ابن" عوض من الواو في آخره، وهكذا. وهم يرون أن النسبة بين البدل والعوض العموم، والخصوص المطلق؛ فيجتمعان في شيء وينفرد الأعم منهما -وهو العوض- في شيء، وذلك في كل كلمة حدث فيها تغيير بحذف حرف، وإحلال حرف آخر خلفًا له؛ سواء أكان في

هل بين العربي والعجمي واسطة؟.

موضع الحرف المحذوف أم في غير موضعه، فإن كان في موضعه فهو بدل وعوض، وإن كان في غير موضعه فهو عوض فقط. فكل بدل على ذلك يُسمّى عوضًا، وليس كل عوض يسمى بدلًا، فيجتمعان في نحو: اصطبر، وينفرد العوض في نحو: عدة، وزنة، واسم من السمو، قال ابن مالك في التصغير: وجائز تعويض يا قبل الطرف ... إن كان بعض الاسم فيهما انحذف الضمير في قوله: "فيهما" للتكسير والتصغير، ومعنى البيت: أنه يجوز أن يعوض مما حذف منهما ياء قبل الآخر، فيجوز أن يقال: فرازيق وفريزيق في تكسير فرزدق وتصغيره بزيادة ياء فيهما قبل الطرف؛ عوضًا من حذف الدال مع أنها في موضع المحذوف. أما نص ابن جني الذي نقله عنه السيوطي فقد أورده في (الخصائص) في باب عقده بعنوان: باب في الفرق بين البدل والعوض، بيَّن فيه أن جماع ما في هذا الباب أن البدل أشبه بالمبدل منه من العوض، وانتهى فيه إلى أن البدل أعمُّ تصرفًا من العوض؛ فكل عوض بدل، وليس كل بدل عوضًا. هل بين العربي والعجمي واسطة؟ وتدور فكرة هذا العنصر حول ما يُسمى بمسائل التمرين في الصرف العربي بأن يقال: كيف تبني من كذا مثل كذا، أي كيف تأتي بكلمة مطابقة لما يُوازن كلمة من كلام العرب، بمعنى: أنك إذا ركَّبت منها زنتها، وعاملت ما يقتضيه القياس التصريفي في هذه الكلمة من زيادة، أو حذف، أو قلب، أو إدغام، أو غير ذلك فهل تُعَدُّ هذه الكلمة المصنوعة ونظائرها من الكلمات المصنوعة، هل تُعَدُّ واسطة بين الكلام العربي والكلام العجمي؟

أجاب عن ذلك ابن عصفور في كتابه المسمى بـ (الممتع) بالإيجاب، أي: قال ما معناه: نعم. فإذا تكلمنا نحن بهذه الألفاظ المصنوعة كان تكلمنا بما لا يرجع إلى لغة من اللغات يعني: لا يكون عربيًّا ولا عجميًّا، وإنما يكون واسطة بين العربي والعجمي. وردَّه الخضراوي ذاكرًا بأن كل كلام ليس عربيًّا فهو عجمي، ولا واسطة بينهما، ونحن كغيرنا من الأمم. ووافق أبو حيان في شرحه على (التسهيل) ابن عصفور موضحًا أن الكلمات المصنوعة ليست عجمية؛ لأن العجمي عندنا هو كل ما نُقل إلى اللسان العربي من لسان غيره؛ سواء كانت من لغة الفرس، أو الروم، أو الحبش، أو الهند، أو البربر، أو الإفرنج، أو غير ذلك، انتهى. فأبو حيان يوافق ابن عصفور في أن الكلمات المصنوعة لا تُعدُّ أعجمية كما ذهب إلى ذلك الخضراوي؛ لأنها مصنوعة، وليست منقولة عن العجم، يعني: أن اللغة الأعجمية على اختلاف أنواعها وتباين أجناسها موضوعة لأهلها بالرواية عنهم، لم يصنعها، ولم يختلقها أحدٌ. أما التكلم بالألفاظ المصنوعة فتكلم بما لم يضعه واضع، فلا يتم قول الخضراوي. ولإلقاء مزيدٍ من الضوء على ما تُعرف به عُجمة الأسماء، أورد السيوطي بعض الوجوه التي ذكر النحاة أن بها تُعرف عجمة الاسم: أحدها: النقل: بأن ينقل ذلك أحد أئمة العربية كإيراد سيبويه في (الكتاب) في باب الأسماء الأعجمية بعض هذه الأسماء: "كاللجام، والديباج، واليرنج، والنيروز، والزنجبيل، والياسمين، وبعض الأعلام كإبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، وهرمز، وفيروز، وقارون، وفرعون". والثاني: خروجه عن أوزان الأسماء العربية نحو: إبريسم، والإبريسم هو أحسن الحرير، فإن مثل هذا الوزن، وهو "إفعيلَلْ" مفقود في أبنية الأسماء في اللسان العربي.

والثالث: أن يكون أوله نون ثم راء نحو: نرجس، فإن ذلك لا يكون في كلمة عربية. والرابع: أن يكون آخره زاي بعد دال نحو: مهندز، وصيَّروا زاياه سينًا فقالوا: مهندس، فإن ذلك لا يكون في كلمة عربية. والخامس: أن يجتمع فيه الصاد والجيم نحو: الصولجان، وهو المحجن أي: العصا المعوجَّة، والجص الجص بفتح الجيم وكسرها، وهو ما يُبنى، أو يُطلى به البيت. والسادس: أن يجتمع فيه الجيم والقاف نحو: المنجنيق: وهو آلة لرمي العدو بحجارة كبيرة، وقد اختلف العلماء في ميمه بين الأصالة والزيادة، وهي عند سيبويه من نفس الكلمة. والسابع: أن يكون خماسيًّا أو رباعيًّا خاليًا من حروف الزلاقة، وهي ستة أحرف مجموعة في قولهم: "مر بنفل"، وهي الميم، والراء، والباء، والنون، والفاء، واللام. والزلاقة لغة: الحدة، ولسان زلق أي: بليغ حديد، قال الأخفش: "سميت بذلك لأن عملهنَّ في طرف اللسان، وطرف اللسان زلق، وقيل: الزلاقة الفصاحة والخفة في الكلام، وهذه الحروف أخفّ الحروف، ولا ينفكّ رباعي أو خماسي متى كان عربيًّا من حرف منها إلا شاذًّا كالعسجد، وهو الذهب، وهو أيضًا الجوهر كله كالدُّرّ والياقوت، ويقال كذلك: بعير عسجد إذا كان ضخمًا، والدهدقة، وهو تكسير اللحم وتقطيعه، والزهزقة وهو شدَّة الضحك. وذلك لأن الرباعي والخماسي ثقيلان فلم يخليا من حرف سهل خفيف على اللسان، ومن أمثلة الأسماء المحكوم بأعجميتها لخلوّها من أحرف الزلقة: سفرجل، وهو نوع من الأشجار ثمره كثير الفوائد، وقزعمل وهو القصير الضخم من الإبل، وقرطعب وهو الشيء الحقير يقال: ما عنده قرطعبة ولا قزعملة أي: لا قليل ولا كثير، وجحمرش وهي الثقيلة السمجة من النساء.

تقسيم الألفاظ إلى واجب وممتنع وجائز.

تقسيم الألفاظ إلى واجب وممتنع وجائز ذكر السيوطي أن ابن الطراوة قسَّم الألفاظ إلى ثلاثة أقسام: واجب، وممتنع، وجائز. أما الواجب من الألفاظ فرجل وقائم ونحوهما مما يجب أن يكون في الوجود ولا ينفك الوجود عنه أي: لا يصحّ عند العقل عدمه، والممتنع: لا قائم ولا رجل؛ إذ يمتنع أن يخلو الوجود من أن يكون لا رجل فيه ولا قائم، أي: يمتنع نفي وجود ما يجب أن يكون في الوجود، فنفي الواجب ممتنع، والجائز أي: الذي يقبل العقل وجوده وعدمه نحو: زيد وعمرو؛ لأنه جائز أن يكون وأن لا يكون. قال ابن الطراوة: "فكلام مركب من واجبين لا يجوز نحو: رجل قائم؛ لأنه لا فائدة فيه أي: لأن مدلوله لا يغيب عن العقل، فلم تحصل فائدة من الكلام، فكان ممتنعًا، وكلام مركب من ممتنعين أيضًا لا يجوز نحو: لا رجل لا قائم؛ لأنه كذب ولا فائدة فيه أي: لأنه مركب من جزأين كاذبين، فالعقل لا يقبله بحسب العادة، وكلام مركب من ممتنع وجائز لا يجوز، ولا من واجب وممتنع نحو: زيد لا قائم، ورجل لا قائم لأنه كذب؛ إذ معناه لا قائم في الوجود، وكلام مركب من جائزين لا يجوز نحو: زيد أخوك لأنه معلوم، لكن بتأخيره صار واجبًا؛ فصح الإخبار به، لأنه مجهول في حق المخاطب؛ فالجائز يصير واجبًا بتأخيره، ولو قلت: زيد قائم صح. لأنه مركب من جائز وواجب، فلو قدمت وقلت: قائم زيد لم يجز؛ لأن زيد صار بتأخيره واجبًا فصار كلامه مركبًا من واجبين، فصار بمنزلة قائم رجل. قال أبو حيان: "وهذا مذهب غريب أي: خارج عن قانون العربية، وما قاله -أي: ابن الطراوة-: من أن الجائز يصير بتأخيره واجبًا. ممنوع لأن معناه مقدمًا ومؤخرًا واحد".

الأصل الأول من أصول النحو الغالبة: السماع.

الأصل الأول من أصول النحو الغالبة: السماع مراد علماء أصول النحو بالسماع الذي هو الأصل الأول من أصول النحو الغالبة: فنقول: ذكر السيوطي أنه -يعني: بالسماع- ما ثبت في كلام من يوثق بفصاحته، فشمل هذا كلام الله تعالى، وهو القرآن الكريم، وهو أفصح كلام وأبلغه، وكلام نبيه -صلى الله عليه وسلم- وهو الحديث النبوي الشريف، وكلام العرب قبل بعثته وفي زمنه وبعده إلى أن فسدت الألسنة بكثرة المولدين نظمًا ونثرًا من مسلم أو كافر. فهذه ثلاثة أنواع لا بد في كل منها من الثبوت: أما القرآن الكريم فكل ما ورد أنه قُرئ به؛ جاز الاحتجاج به في العربية، سواء كان متواترًا أم آحادًا أم شاذًّا، فالقرآن الكريم -كما قيل- فوق النحو، والفقه، والمذاهب كلها، فهو الأصل الأصول، ما وافقه فهو مقبول، وما خالفه فهو مردودٌ ومرذولٌ، وذلك أن لغة القرآن الكريم هي أفصح أساليب العربية على الإطلاق، وأن الكتاب أعربُ وأقوى من الشعر، كما قال الفراء -رحمه الله تعالى. ولقد صدق أبو عمرو الداني المتوفى سنة أربع وأربعين وأربعمائة من الهجرة حين قال: وأئمة القراءة لا تعمل من القراءات في شيء على الأفشى في اللغة، والأقيس في العربية؛ بل على الأثبت في الأثر، والأصح في النقل، والرواية إذا ثبتت عنهم لم يردَّها قياس عربية، ولا فشوّ لغة؛ لأن القراءة سُنة متبّعة فلزم قبولها والمصير إليها، انتهى. قال السيوطي: "وقد أطبق الناس -يعني: أجمعوا- على الاحتجاج بالقراءات الشاذَّة في العربية إذا لم تُخالف قياسًا معروفًا؛ بل ولو خالفته يُحتج بها في مثل ذلك الحرف بعينه، وإن لم يجز القياس عليه كما يُحتجّ بالمجمع على وروده، ومخالفته القياس في ذلك الوارد بعينه، ولا يقاس عليه نحو: استحوذ، ويأبى".

أوضح السيوطي في هذه الفقرة أن القراءات الشاذة أجمع النحويون على الاستشهاد بها في تقعيد القواعد إذا لم تُخالف قياسًا معروفًا، وإن خالفته أجمعوا على الاحتجاج بها أيضًا لكن في خصوص ما وردت فيه من غير أن يُقاس عليها، وقد أشار إلى ذلك ابن جني في غير موضع من (الخصائص). ثم أورد السيوطي مثالين للاحتجاج بالقراءات الشّاذّة فقال: "وما ذكرته من الاحتجاج بالقراءات الشاذة لا أعلم فيه خلافًا بين النحاة، وإن اختُلف في الاحتجاج بها في الفقه، ومن ثمَّ احْتُجَّ على جواز إدخال لام الأمر على المضارع المبدوء بتاء الخطاب بقراءة: "فبذلك فلتفرحوا" (يونس: 58) احتُجَّ بها على إدخالها على المبدوء بالنون بالقراءة المتواترة: {وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} (العنكبوت: 12)، واحتج على صحة من قال: إن الله أصله: لاه، بما قرئ شاذًّا: "وهو الذي في السماء لاهٌ وفي الأرض لاهٌ" (الزخرف: 84) " انتهى. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 5 ما عيب من القراءات، وحكم الاحتجاج بالحديث الشريف

الدرس: 5 ما عيب من القراءات، وحكم الاحتجاج بالحديث الشريف

بيان ما عيب من القراءات.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الخامس (ما عيب من القراءات، وحكم الاحتجاج بالحديث الشريف) بيان ما عيب من القراءات الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فيكشف لنا السيوطي النقاب عن حَمْلة آثمة لتلحين القراء، استفتح بابها وحمل لواءها نُحاة البصرة المتقدمون، ثم تابعهم غيرهم من اللغويين والمفسرين، ومصنّفي القراءات، كما قال شيخنا العلامة الشيخ محمد عبد الخالق عضيمة صاحب (دراسات لأسلوب القرآن الكريم) -رحمه الله تعالى رحمة واسعة- وقد افتتح السيوطي هذا المبحث في (الاقتراح) بقوله: "تنبيه: كان قوم من النحاة المتقدمين يعيبون على عاصم، وحمزة، وابن عامر قراءات بعيدة في العربية، وينسبونهم إلى اللحن، وهم مخطئون في ذلك؛ فإن قراءاتهم ثابتة بالأسانيد المتواترة الصحيحة التي لا مطعن فيها، وثبوت ذلك دليل على جوازه في العربية، وقد ردَّ المتأخرون -منهم ابن مالك- على من عاب عليهم ذلك بأبلغ ردّ، واختار جواز ما وردت به قراءاتهم في العربية، وإن منعه الأكثرون؛ مستدلًّا به". إن تصدير السيوطي هذه المقدمة بكلمة تنبيه يُوحي بخطورة ما سيلفت الأنظار إليه، ويوجه العقول إلى أهمية ما سينبّه عليه، وأيُّ خطورة أشدّ، وأيّ تنبيه أعظم من تلحين قُرَّاء القراءات المتواترة، ونسبة بعضهم إلى الخطأ في القراءة: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} (الكهف: 5)، فعاصم ابن بهدلة أبي النجود -بفتح النون وضم الجيم- هو شيخ الإقراء بالكوفة، وأحد القُرَّاء السبعة، وأبو النَّجود هو اسم أبيه، قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: "سألت أبي عن عاصم بن بهدلة. فقال: رجل صالح خير ثقة، فسألته: أيُّ القراءة أحبّ إليك؟ قال: قراءة أهل المدينة، فإن لم تكن فقراءة عاصم". وقد توفي -رحمه الله- سنة سبع وعشرين ومائة من الهجرة، وحمزة هو ابن حبيب الزيات أحد القُرَّاء السبعة،

وإليه صارت الإمامة في القراءة بعد عاصم. قال عنه ابن الجزري: "كان إمامًا، حجةً، ثقةً، ثبتًا، رضًا، قيمًا بكتاب الله، بصيرًا بالفرائض، عارفًا بالعربية، حافظًا للحديث، عابدًا، خاشعًا، زاهدًا، ورعًا، قانتًا لله عديم النظير". وقال أبو حنيفة لحمزة: "شيئان غلبتنا عليهما لسنا ننازعك فيهما القرآن والفرائض". توفي -رحمه الله- سنة ست وخمسين ومائة من الهجرة. وابن عامر هو عبد الله بن عامر اليحصبي أو اليحصبي -بضم الصاد وكسرها- أحد القُرَّاء السبعة، وإمام أهل الشام في القراءة قيل عنه: كان إمامًا عالمًا ثقة فيما آتاه، حافظًا لما رواه، متقنًا لما وعاه، عارفًا فَهِمًا قيمًا فيما جاء به، صادقًا فيما نقله من أفاضل المسلمين وخيار التابعين وأجلة الراوين، لا يُتهم في دينه، ولا يُشك في يقينه، ولا يُطعن عليه في روايته، صحيح نقله، فصيح قوله، عاليًا في قدره، مصيبًا في أمره، مشهورًا في علمه، مرجوعًا إلى فهمه لم يتعدَّ فيما ذهب إليه الأثر، ولم يقل قولًا يُخالف فيه الخبر، توفي -رحمه الله- سنة ثماني عشرة ومائة من الهجرة. والذين ذكرهم السيوطي ممن حكم بعض النحاة المتقدمين على قراءتهم باللحن هم قليل من كثير، فقد لحَّنوا نافع بن أبي نعيم قارئ مدينة رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وأحد القُرَّاء السبعة، وابن كثير وهو إمام أهل مكة، وأحد القُرَّاء السبعة وغيرهم وغيرهم. وقد أشار السيوطي إلى أن تلحين هؤلاء القُرَّاء كان بسبب قراءات لهم بعيدة في العربية، أي: بسبب قراءات قد خفي توجيهها على هؤلاء النحاة الذين حكموا عليها باللحن ونسبوها إلى الخطأ. إما لأنها كانت صادرة عن لهجات عربية لم تبلغهم، أو لكونها تُخالف ما كانوا يحتكمون إليه من قواعد، وما يتعارفون عليه من قوانين، وما يتوصلون إليه من أقيسة.

أما المنصفون فهم الذين يرون أن القراءة لا تتبع العربية، بل إن العربية هي التي تتبع القراءة؛ لأنها مسموعة من أفصح العرب بإجماع، وهو نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- ومن أصحابه ومن بعدهم، ولقد صدق ابن الحاجب إذ قال: "والأولى الرَّدّ على النحويين، فليس قولهم بحجة عند الإجماع، ومن القُرَّاء جماعة من النحويين، فلا يكون إجماع النحويين حجة مع مخالفة القُرَّاء لهم، ولو قُدِّر أن القُرَّاء ليس فيهم نحوي فإنهم ناقلون لهذه اللغة، وهم مشاركون النحويين في نقل اللغة، فلا يكون إجماع النحويين حجة دونهم، وإذا ثبت ذلك كان المصير إلى قول القُرَّاء أولى؛ لأنهم ناقلون عمن ثبتت عصمته عن الغلط في مثله. ولأن القراءة ثبتت متواترة، وما نقله النحويون آحاد، ثم لو سُلِّم أنه ليس بمتواتر فالقراء أعدل وأثبت؛ فكان الرجوع إليهم أولى"، وقد ذكر السيوطي ثلاثة أمثلة توضح بعض القراءة التي دافع عن صحّتها ابن مالك، واحتجَّ بها في إثبات القواعد المستنبطة منها وهي: المثال الأول: احتجاجه على جواز العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار بقراءة حمزة: "تساءلون به والأرحامِ" (النساء: 1) وبيان ذلك أن سيبويه قال في (الكتاب): "ومما يقبح أن يشركه المظهر علامة المضمر المجرور، وذلك قولك: مررت بك وزيد، وهذا أبوك وعمرو؛ كرهوا أن يشرك المظهر مضمرًا داخلًا فيما قبله" انتهى. أي: أن عطف الاسم الظاهر على الضمير المجرور بالحرف نحو: مررت بك وزيد، أو بالاسم نحو: هذا أبوك وعمرو، من غير إعادة الجار قبيح، وقد علَّل لذلك بأن الضمير المجرور قد جمع بين أمرين: أحدهما: أنه لا يتكلم به إلا متصلًا بما قبله من حرف، أو اسم؛ فلا يجوز فصله عما قبله؛ لأنه كالجزء منه.

والآخر: أنه بدل من اللفظ بالتنوين أي: أنه قام مقامه، تقول: غلام. فتجد فيه التنوين، فإذا أضفته قلت: غلامك. قام الضمير الواقع مضافًا إليه مقام التنوين؛ فلم يجز العطف عليه. كما لا يُعطف على التنوين. وأجاز سيبويه هذا العطف في الشعر؛ اعتمادًا على الضرورة الشعرية كقول الشاعر: فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا ... فاذهب فما بك والأيام من عجب حيث عطف الشاعر لفظ "الأيام" على ضمير المخاطب المجرور بالباء، ومن ثَمَّ عاب كثير من النحويين هذه القراءة -أي: قراءة حمزة- وخطأها المبرد، ووصفها الفراء بالقبح، وذهب جمهور الكوفيين وبعض البصريين وابن مالك إلى جواز هذا العطف في الاختيار، دون إعادة الجار محتجِّين بهذه القراءة، وببعض الشواهد الأخرى كقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ((إنما مثلكم واليهود والنصارى كرجل استعمل عمالًا ... )) إلى آخر الحديث الشريف، وهو في (صحيح البخاري)،وقال ابن مالك في الألفية مشيرًا إلى هذا الخلاف ومبينًا رأيه فيه: وعود خافض لدى عطف على ... ضمير خفض لازمًا قد جعلا وليس عندي لازمًا إذ قد أتى ... في النظم والنثر الصحيح مثبتا والمثال الثاني: احتجاج ابن مالك على جواز الفصل بين المضاف والمضاف إليه بمفعوله بقراءة ابن عامر: "وكذلك زُين لكثير من المشركين قتلُ أولادَهم شركائِهم" (الأنعام: 137)، والقراءة برفع "قتل" على النيابة عن الفاعل بـ"زُيّن" المبني للمفعول، ونصب "أولادهم" على المفعولية للمصدر "قتل"، وجر "شركائهم" الذي أضيف إليه المصدر، فـ"قتل" مصدر مضاف، و"شركائهم" مضاف إليه، من إضافة المصدر إلى فاعله، و"أولادهم" مفعوله وهو الفاصل بين

المتضايفين. وقد ردَّها الفراء في (معاني القرآن)، وقال أبو علي الفارسي: "ولو عدل عنها إلى غيرها كان أولى"، وأنكرها الطبري في تفسيره، والزمخشري في (الكشاف)، أما ابن مالك فقد رآها من أقوى الأدلة على جواز هذا الفصل معللًا لذلك بأن قراءة ابن عامر -رضي الله عنه- ثابتة بالتواتر، ومعزوَّة إلى موثوق بعربيته، قبل العلم بأنه من كبار التابعين، ومن الذين يُقتدى بهم في الفصاحة، كما يقتدى بمن في عصره من أمثاله الذين لم يُعلم عنهم مجاورة للعجم يحدث بها اللحن، وقال: "ويكفيه شاهدًا على ما وصفته به أن أحد شيوخه الذين عوَّل عليهم في قراءة القرآن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- وتجويز ما قرأ به في قياس النحو قويّ، وذلك أنها قراءة اشتملت على فصل بفضلة بين عامرها المضاف إلى ما هو فاعل، فحسَّن ذلك ثلاثة أمور: أحدها: كون الفاصل فضلة، فإنه بذلك صالح لعدم الاعتداد به. الثاني: كونه غير أجنبي لتعلقه بالمضاف. الثالث: كونه مقدَّر التأخير من أجل المضاف إليه، مقدر التقدم بمقتضى الفاعلية المعنوية، فلو لم تستعمل العرب الفصل المشار إليه؛ لاقتضى القياس استعماله، لأنهم قد فصلوا في الشعر بالأجنبي كثيرًا، فاستحقّ الفصل بغير أجنبي أن يكون له مزيَّة، فحكم بجوازه". انتهى ما قاله ابن مالك. والمثال الثالث: احتجاج ابن مالك على جواز سكون لام الأمر بعد "ثم" بقراءة "ثُمَّ ليقطع" من قوله -عز وجل-: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} (الحج: 15)، والقراءة المذكورة هي قراءة عاصم مع حمزة، وقد نصَّ النحاة على أن حركة لام الأمر الكسر حملًا على لام الجر؛ لأنها أختها في الاختصاص بنوع من أنواع الكلمة

وعملها فيه، وسُليم تفتحها، ويجوز تسكينها بعد الواو والفاء وثم، وتسكينها بعد الواو والفاء أكثر من تحريكها؛ لشدة اتصالهما بما بعدهما، لكونهما على حرف واحد، فصارا معه ككلمة واحدة، فخفف بحذف الكسر كما خفّف نحو كَتِف وفَخِذ بتسكين الوسط المحرك بالكسر، وذلك نحو قوله تعالى: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (البقرة: 186) قالوا: وكسر لام الأمر بعد ثم أكثر من تسكينها؛ لكون ثم على ثلاثة أحرف، وإنما جاز تسكينها بعدها؛ حملًا لها على الواو والفاء، فلا تبلغ مبلغهما، وخالف في ذلك المبرد؛ فمنع تسكينها بعد "ثم"، وذكر أن قراءة "ثم ليقطع" بتسكين اللام لحن، وممن أجاز التسكين ابن مالك محتجًا بالقراءة المذكورة، وقال في نظم (الكافية): واللام قد تسكن بعد الفا وثم ... والواو نحو من يكارم فليدم قال السيوطي: "فإن قلت: فقد روي عن عثمان أنه قال لما عرضت عليه المصاحف: إن فيه لحنًا ستقيمه العرب بألسنتها، وعن عروة قال: "سألت عائشة عن لحن القرآن عن قوله: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} (طه: 63) وعن قوله: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} (النساء: 162) وعن قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ} (المائدة: 69) فقالت: يا ابن أختي هذا عمل الكُتاب أخطئوا في الكتاب"، أخرجه أبو عبيد في فضائله، فكيف يستقيم الاستدلال بكل ما فيه بعد هذا، قلت: معاذ الله كيف يظن أولًا بالصحابة أنهم يلحنون في الكلام؛ فضلًا عن القرآن وهم الفصحاء اللُّدّ -أي: الذين رسخت أقدامهم في الفصاحة، وثبت لهم الوصف الكامل فيها- ثم كيف يظن بهم ثانيًا في القرآن الذي تلقوه من النبي -صلى الله عليه وسلم- كما أنزل، وضبطوه، وحفظوه، وأتقنوه، ثم كيف يُظن بهم ثالثًا اجتماعهم كلهم على الخطأ، وكتابته، ثم كيف يظن بهم رابعًا عدم تنبُّهِهِم ورجوعهم عنه، ثم كيف يظن بعثمان أن يقرأه ولا يغيره، ثم

كيف يظن أن القراءات استمرَّت على مقتضى ذلك الخطأ، وهو مروي بالتواتر خلفًا عن سلف، هذا مما يستحيل عقلًا وشرعًا وعادة". وقد ذكر السيوطي أن العلماء قد أجابوا عن ذلك بأجوبة عديدة بسطها في كتابه الموسوم بـ (الإتقان في علوم القرآن)، وهي توضح وجوه هذه المستحيلات، وخلاصة الأجوبة عن الأثر المروي عن عثمان -رضي الله عنه- وأحسنها أن ذلك لا يصحّ عن عثمان، فإن إسناده ضعيف مضطرب منقطع، ولأن عثمان جُعل إمامًا للناس يقتدون به، فكيف يرى في القرآن الكريم لحنًا ويتركه لتقيمه العرب بألسنتها، فإذا كان الذين تولَّوا جمعه وكتابته لم يقيموا ذلك، وهم الخيار فكيف يُقيمه غيرهم، وأيضًا فإنه لم يكتب مصحفا واحدًا، بل كتب عدَّة مصاحف. فإن قيل: إن اللحن وقع في جميعها فبعيد اتفاقهم على ذلك، أو في بعضها فهو اعتراف بصحة بعضها، ولم يذكر أحد من الناس أن اللحن كان في مصحف دون مصحف، ولم تأتِ المصاحف قط مختلفة إلا فيما هو من وجوه القراءة وليس ذلك بلحن، أو أن هذا الأثر قد وقع فيه تحريف؛ فإن ابن أشتة المتوفى سنة ستين وثلاثمائة من الهجرة، أخرجه في كتاب (المصاحف) من طريق عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر قال: "لما فُرغ من المصحف أُتي به عثمان فنظر فيه فقال: أحسنتم وأجملتم، أرى شيئًا سنقيمه بألسنتنا" انتهى. فكأنه لما عرض عليه بعد الفراغ من كتابته رأى فيه شيئًا على غير لسان قريش، كما وقع لهم في التابوت والتابوه من قوله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} (البقرة-: 248) فقال القرشيون: التابوت. وقال زيد: التابوه. فقال -رضي الله عنه: اكتبوه "التابوت" فإنه نزل بلسان قريش، فوعد بأنه سُيقيمه على لسان قريش، ثم وفَّى بذلك. وأما الأثر

المروي عن عائشة -رضي الله عنها- فيمكن أن يجاب عن إنكارها بأنه قد حصل قبل أن يبلغها التواتر، وليس كل صاحبيٍّ كان حافظًا لروايات القرآن الكريم. وأما خلاصة التوجيهات النحوية للآيات القرآنية الثلاث التي سُئلت عنها عائشة -رضي الله عنها- فنوجزها فيما يلي: أما قراءة قوله تعالى: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} (طه: 63) فأقوى توجيهاتها أنها جاءت على لغة بلحرث بن كعب، وقبائل أُخر، وهم الذين يُلزمون المثنى الألف كالمقصور في أحواله الثلاث، ويقدرون إعرابه بالحركات وهي لغة مشهورة، أو أن يقال: اسم إن ضمير الشأن محذوفًا، والجملة من المبتدأ والخبر بعده في محل رفع خبرًا لإن، والتقدير: إن الأمر والشأن هذان لهما ساحران. وأما قوله تعالى: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} من قوله -عز وجل-: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا} (النساء: 162) وهي قراءة الجمهور، فأحسن ما قيل في توجيهها: أن {الْمُقِيمِ ينَ} منصوب على القطع المفيد للمدح؛ لبيان فضل الصلاة، فهو مفعول به لفعل محذوف تقديره: أمدح المقيمين الصلاة. وعليه يكون قوله: {الرَّاس ِخُونَ} مبتدأ خبره جملة: {يُؤْمِنُون} ومتعلقاتها حتى يكون القطع بعد تمام الجملة الأولى. وأما قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (المائدة: 69) فقوله {وَال صَّابِئُونَ} بالرفع هي قراءة الجمهور أيضًا، وأظهر ما قيل في توجيهها: أنه مرفوع بالابتداء وخبره محذوف لدلالة خبر إن عليه، والنية به التأخير عما في حيز إن من اسمها وخبرها، والتقدير: إن الذين

الاحتجاج بكلام الرسول -صلى الله عليه وسلم-.

أمنوا والذين هادوا من آمن منهم ... إلى آخره والصابئون كذلك، أو أنه مرفوع عطفًا على محل اسم إن؛ لأنه قبل دخولها كان مرفوعًا بالابتداء، فلما دخلت عليه لم تغيّر معناه، بل أكدته. الاحتجاج بكلام الرسول -صلى الله عليه وسلم- إذا أطلق لفظ الحديث الشريف في اصطلاح المحدثين أُريد به ما أضيف إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- من قول، أو فعل، أو تقرير، وقد يُراد به ما أضيف إلى صحابي أو تابعي. ولكن الغالب أن يقيد إذا ما أريد به غير النبي -صلى الله عليه وسلم. أما الحديث الشريف عند النحاة: فهو قول الرسول الكريم -صلوات الله وسلامه عليه- وإنما يهتمّ النحويون بالقول؛ لأنه موضوع النحو، ومنبع استدلالهم، ومرجع أحكامهم، وكذلك الأقوال المنسوبة إلى الصحابة أو التابعين متى جاءت من طريق المحدثين تأخذ حكم الأقوال المرفوعة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من جهة الاحتجاج بها في إثبات لفظ لغوي، أو قاعدة نحوية. وقضية الاحتجاج بالحديث الشريف من القضايا المهمّة في النحو العربي، وقد انقسم النحاة فيها إلى مانعين ومُجيزين، ومتوسطين. ومن اللافت للنظر أن أكثر النحاة اهتمامًا بهذه القضية من الأقسام الثلاثة هم ممَّن ينتمون إلى المدرسة الأندلسية، فأوَّل من رفع لواء منع الاستشهاد بالحديث في مجال الدراسات النحوية -فيما نعلم- هو ابن الضائع، وهو أبو الحسن علي بن محمد بن علي الإشبيلي الكتامي المتوفى سنة ثمانين وستمائة من الهجرة، ثم تلميذه من بعده أبو حيان محمد أثير الدين بن يوسف الغرناطي المتوفى سنة خمس وأربعين وسبعمائة من الهجرة، الذي كان على مذهب أستاذه ابن الضائع في منع الاستشهاد بالحديث.

ثم جاء من بعدهما جلال الدين السيوطي المصري المتوفى سنة إحدى عشرة وتسعمائة من الهجرة، وهو صاحب كتاب (الاقتراح) فوجدناه أقرب إلى المنع منه إلى الإجازة، ولعله في هذا كان متأثرًا بأستاذه أبي حيان الذي يُعدُّ كتابه (ارتشاف الضرب من لسان العرب) من أهم المصادر العلمية التي استقى منها السيوطي كمادة كتابه (همع الهوامع). أما المجيزون للاستشهاد بالحديث الشريف فهم -بحمد الله- أكثر من المانعين، وعلى رأسهم ابن مالك المتوفى سنة اثنتين وسبعين وستمائة من الهجرة -رحمه الله تعالى- وهو إمام النحاة واللغويين لعصره، وأكبر عالم نحويّ اهتمَّ بالحديث الشريف، وجعله المصدر الثاني للتقعيد بعد القرآن الكريم، كما أنه المصدر الثاني للتشريع. ومن ثَمَّ وجه إليه المانعون نقدهم وإنكارهم، وكان قد سبقه إلى الاحتجاج بالحديث علماء أجلاء من علماء الأندلس، منهم: أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله السهيلي المتوفى سنة إحدى وثمانين وخمسمائة من الهجرة، وابن خروف وهو علي بن محمد بن علي الأندلسي المتوفى سنة تسع وستمائة من الهجرة، ثم قيَّد الله للحديث الشريف بعد ابن مالك من يسير على دَرْبه، ويُعيد رفع لواء الاحتجاج به، ومن هؤلاء جمال الدين عبد الله بن يوسف بن أحمد بن عبد الله المعروف بابن هشام الأنصاري المصري المتوفى سنة إحدى وستين وسبعمائة من الهجرة. أما المتوسطون المعتدلون ففي مقدماتهم أبو إسحاق إبراهيم بن موسى اللخمي الغرناطي المعروف بالشاطبي، المتوفى بالأندلس سنة تسعين وسبعمائة من الهجرة. ونبدأ مع السيوطي مناقشة قضية الاستشهاد بالحديث عند النحاة في ضوء ما أورده في (الاقتراح) يقول: "وأما كلامه -صلى الله عليه وسلم- فيستدل منه بما ثبت أنه قاله على اللفظ المروي، وذلك نادر جدًّا؛ إنما يوجد في الأحاديث القصار على قلة أيضًا،

فإن غالب الأحاديث مرويٌّ بالمعنى، وقد تداولتها الأعاجم والمولدون قبل تدوينها، فرووها بما أدَّت إليه عباراتهم فزادوا ونقصوا، وقدموا وأخروا، وأبدلوا ألفاظًا بألفاظ، ولهذا ترى الحديث الواحد في القصة الواحدة مرويًّا على أوجه شتَّى بعبارات مختلفة، ومن ثم أُنكر على ابن مالك إثباته القواعد النحوية بالألفاظ الواردة في الحديث" وما ذكره السيوطي في هذه العبارة ترديد أمين لكلام شيخه الذي تلمذ لمؤلفاته، واستقى أكثر مادته منها، وتأثر بمنهجه واتجاهه النحوي، وهو أبو حيان. ولذلك نجده قد أردف كلامه بكلام الشيخ أبي حيان في شرحه على (التسهيل) المسمى (التذييل والتكميل في شرح التسهيل)، ونوجز هنا منا أورده السيوطي من كلام شيخه أبي حيان في النقطتين الآتيتين: "الأولى: أن المصنف -يعني: ابن مالك- قد أكثر بالاحتجاج بالحديث على إثبات القواعد الكلية في لسان العرب، في حين أننا لم نَرَ أحدًا من النحاة القدامى، أو المتأخرين قد سلك هذه الطريقة؛ بل إن الواضعين الأولين لعلم النحو من أئمة البصريين أو الكوفيين الذين شافهوا العرب الخلص، واستقرءوا الأحكام من لسانهم لم يفعلوا ذلك، وتبعهم على هذا المسلك المتأخرون من سائر المدارس النحوية. الثانية: أن إحجام المتقدمين من واضعي هذا العلم عن الاحتجاج بالحديث الشريف في مؤلفاتهم؛ إنما يرجع إلى أمرين: أحدهما: تجويز الرواة النقل بالمعنى، ومن ثَمَّ تجد قصة واحدة جرت في زمانه -صلى الله عليه وسلم- يُوردها الرواة بألفاظ مختلفة كحديث النكاح المروي بألفاظ متعدِّدة: ((زوجتكها بما معك من القرآن)) ((ملكتكها بما معك)) ((خذها بما معك)) مما يدل على أن الرواة إنما يرْوُون بالمعنى.

والأمر الأخر: وقوع كثير من اللحن فيما روي من الحديث؛ لأن أكثر الرواة كانوا غير عرب" انتهى. ملخص كلام أبي حيان، وما قاله هو كما يقول المثل العربي: شنشنة أعرفها من أخزمي. فما قاله إنما هو ترديد أمين أيضًا لما قاله من قبله شيخه ابن الضائع، الذي استشهد على منعه الاحتجاج بالحديث بترك الأئمة هذا الاحتجاج وإجازة الرواية للحديث بالمعنى. وختم السيوطي هذا المبحث بالاستدلال على صحة ما ذهب إليه ابن الضائع وأبو حيان بأن ابن مالك قد استشهد على لغة "أكلوني البراغيث" بحديث (الصحيحين): ((يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار)) يعني: مع أن هذا الحديث لم يأتِ على هذه اللغة؛ لأنه حديث مختصر رواه البزار، كما ذكر السيوطي نقلًا عن السهيلي مطولًا مجودًا فقال فيه: ((إن لله ملائكة يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار)) فالواو في "يتعاقبون" هي واو الجماعة، وقعت فاعلًا، و"ملائكة" خبر مبتدأ محذوف أي: هم ملائكة، كما استشهد ابن مالك أيضًا يعني: على جواز وقوع خبر كاد مقرونًا بأن بحديث: ((كاد الفقر أن يكون كفرًا)) أي: مع أن سيبويه رأى أن ذلك لا يجوز إلا في شعر؛ اعتمادًا على الضرورة الشعرية، ووافقه المبرد والجمهور على منع ذلك الاختيار. ولذلك قال أبو البركات الأنباري في كتاب (الإنصاف في مسائل الخلاف) فإن صحَّ أي: الحديث المذكور، فزيادة "أن" من كلام الراوي لا من كلامه -عليه السلام؛ لأنه -صلوات الله عليه- أفصح من نطق بالضاد. ونختم برأي الشاطبي الذي توسَّط في الاحتجاج بالحديث ونحن معه، فلم يردّ الاحتجاج به، ولم يفتح الباب على مصراعيه لهذا الاحتجاج؛ فجوز في مبحث

الاحتجاج في شرحه على الألفية الاحتجاج بالأحاديث التي اعْتُني بنقل ألفاظها قائلًا: "لم نجد أحدًا من النحويين استشهد بحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وهم يستشهدون بكلام أجلاف العرب وسفهائهم الذين يبولون على أعقابهم، وأشعارهم فيها الفحش والخنى، ويتركون الأحاديث الصحيحة؛ لأنها تُنقل بالمعنى، وتختلف رواياتها وألفاظها بخلاف كلام العرب وشعرهم فإن، رواته اعتنوا بألفاظها لما يَنْبَني عليه من النحو، ولو وقفت على اجتهادهم قضيت منه العجب، وكذا القرآن ووجوه القراءات، وأما الأحاديث فعلى قسمين: قسم يَعتني ناقله بمعناه دون لفظه، فهذا لم يقع به استشهاد أهل اللسان. وقسم عُرف اعتناء ناقله بلفظه لمقصود خاص كالأحاديث التي قُصد بها بيان فصاحته -صلى الله عليه وسلم، ككتابه لهمدان، وكتابه لوائل بن حُجر، والأمثال النبوية. فهذا يصح الاستشهاد به في العربية" انتهى. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 6 أسماء القبائل العربية، وانقسام الكلام المسموع، وأشعار الكفار من العرب، وأحوال الكلام الفرد

الدرس: 6 أسماء القبائل العربية، وانقسام الكلام المسموع، وأشعار الكفار من العرب، وأحوال الكلام الفرد

كلام العرب، وأسماء القبائل التي أخذ عنها والتي لم يؤخذ عنها، وتوجيه ذلك.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السادس (أسماء القبائل العربية، وانقسام الكلام المسموع، وأشعار الكفار من العرب، وأحوال الكلام الفرد) كلام العرب، وأسماء القبائل التي أخذ عنها والتي لم يؤخذ عنها، وتوجيه ذلك الحمد لله والصلاة، والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فإن كلام العرب هو المصدر الثالث من مصادر السماع بعد القرآن الكريم والحديث الشريف عند من أجاز الاحتجاج به، وكلام العرب الذي يُحتج به هو كل نظم أو نثر ثبت عن الفصحاء الموثوق بعربيتهم قبل أن تفسد الألسنة؛ فليس كل كلام عربي يصحُّ الاحتجاج به، وإنما وضع العلماء ضوابط مكانيَّة وزمانية لما يجوز الاحتجاج به من كلام العربي، وما لا يجوز؛ فقد نقل السيوطي عن أبي نصر الفارابي المتوفى سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة من الهجرة أن قبائل العرب تنقسم من حيث الاحتجاج بكلامها، وعدم الاحتجاج قسمين: الأول القبائل التي لم يُؤخذ عنها ولم يُحتجّ بكلامها، وهي: لخم وجذام؛ لمجاورتهم أهل مصر والقبط، وقضاعة وغسان وإياد؛ فإنهم كانوا مجاورين لأهل الشام، أي: حيث يسكن الروم، فاختلطت ألسنتهم، وأكثرهم نصارى يقرءون في صلاتهم بغير العربية، وتغلب والنمر؛ فإنهم كانوا مجاورين لليونانية، وبكر؛ لأنهم كانوا مجاورين للنبط والفرس، وعبد القيس؛ لأنهم كانوا سكّان البحرين مخالطين للهند والفرس، وأزد عمان؛ لأنهم كانوا أيضًا مجاورين للهند والفرس، واليمن لمخالطتهم للهند والحبشة، وبنو حنيفة، وسكان اليمامة، وثقيف والطائف؛ لمخالطتهم تجار الأمم المقيمين عندهم، وحاضرة الحجاز؛ لأن الذين نقلوا اللغة صادفوهم حين ابتدءوا ينقلون لغة العرب قد خالطوا غيرهم من الأمم، وفسدت ألسنتهم. فهذه القبائل لا يجوز الاحتجاج بكلامها لأنها قبائل لم تتوغَّل في البداوة، بل كانت تسكن أطراف البلاد المجاورة لغير العرب؛ فلم تسلم لغاتها من التأثر بغير العربية، إذ دخل هذه اللغات ما يُؤثّر في فصاحتها لفظًا بمخالفة القياس وتركيبًا بوقوع اللحن.

وكما لم يُؤخذ عن هذه القبائل لم يُؤخذ كذلك عن حضري قط؛ لأن الحاضرة محلّ اجتماع الناس من كل جانب واختلاط اللغات واختلال الألسنة، وقد أفرد ابن جني في (الخصائص) بابًا في ترك الأخذ عن أهل المضر -أي: أهل المدن والقرى- بيَّن فيه علة امتناع الأخذ عنهم، وهي ما عرض للغات الحاضرة وأهل المضر من الاختلال والفساد والخطل. وفي ضوء ما ذكره ابن جني والسيوطي نقلًا عن الفارابي يمكن أن نقول: إن المعيار الذي وضعه العلماء لقبول لغة قبيلة ما هو سلامة لغة هذه القبيلة من الاختلاط بغير العرب؛ لأن الاختلاط بغير العرب من الأعاجم يؤدِّي إلى فساد اللغة وانحراف الألسنة عن الصواب، والألسنة تتأثر بما حولها فيلحقها اللحن، ويتسرب إليها الخطأ. الثاني: القبائل التي يُحتج بكلامها، وهي: قيس، وتميم، وأسد، ثم هذيل، وبعض كنانة، وبعض الطائيين؛ فهؤلاء هم الذين عنهم نُقلت اللغة العربية، وبهم اقتضي، وعنهم أخذ اللسان العربي من بين قبائل العرب، والذي يجمع من بين هذه القبائل هو توغُّلها في البداوة، وبُعدها عن الاختلاط بغيرها من الأمم، واتصالها بالأعاجم، كما يجمع بينها قُربها من قريش؛ لأن قريشًا -كما علمنا- أفصح العرب، وأجودهم انتقادًا للأفصح من الألفاظ. وقد ذهب ابن خلدون إلى أن مقياس الفصاحة هو القرب أو البعد من قريش فقال في مقدمته: "كانت لغة قريش أفصح اللغات العربية وأصلحها؛ لبعدها عن بلاد العجم من جميع جهاتهم، ثم من اكتنفهم من ثقيف، وهذيل، وخزاعة، وبني كنانة، وغطفان، وبني سعد، وبني تميم. وأما من بَعُد عنهم من ربيعة، ولخم، وجذامة، وغسان، وإياد، وقضاعة، وعرب اليمن المجاورين لأمم الفرس والروم والحبشة؛ فلم تكن لغتهم تامة الملكة بمخالطة الأعاجم، أي: بسبب مخالطة الأعاجم، وعلى نسبة بُعدهم من قريش كان الاحتجاج بلغاتهم في الصحة والفساد عند أهل الصناعة العربية" انتهى.

انقسام الكلام المسموع إلى: مطرد، وشاذ.

وكما جاز الاحتجاج بلغة هذه القبائل جاز الاحتجاج بأمرين آخرين: أحدهما: ما روي من نثر العرب ونظمهم بعد أن دوِّنت الدواوين بشرط أن يكون الراوي ثقةً صدوقًا أمينًا عدلًا: والآخر: كلام الإمام الشافعي -رضي الله عنه- الذي تأخر زمانه عن زمن الاحتجاج. وقد أورد السيوطي كلمة أحمد بن حنبل: "كلام الشافعي في اللغة حجة"، ولم يكن هذا رأي ابن حنبل وحده، بل تعدَّدت أقوال العلماء التي تدل على الاحتجاج بلغة الشافعي، ومنها قول عبد الملك بن هشام: "الشافعي بصير باللغة يؤخذ عنه، ولسانه لغة فاكتبوه"، وقول الوليد بن أبي الجارود: "كان يقال: إن الشافعي لغة وحده يحتج بها"، وقول أبي منصور الأزهري: "والشافعي فصيح حجة في اللغة" ومعنى هذه الأقوال أن ما جاء في مصنفات الإمام الشافعي من عبارات شذَّت عن القواعد العربية المعروفة لا يمكن حملها على الخطأ، وإنما تُجعل عباراته شاهدًا لما استعملت فيه كما تُعدُّ وجهًا من وجوه سعة العربية. وقد أحسن المحقق الكبير الأستاذ أحمد محمد شاكر حين صنع في نهاية (الرسالة) فهرسًا لأقوال الشافعي التي خالفت المعهود من قواعد العربية. انقسام الكلام المسموع إلى: مطرد، وشاذ انقسام المسموع إلى مطرد وغيره: ينقسم المسموع إلى مطرد وشاذ، فالمطرد مأخوذ من طرد، وأصل هذه المادة التتابع والاستمرار. وعليه يكون المطَّرد: هو ما استمرّ من الكلام في الإعراب وغيره. والشّاذ مأخوذ من شذذ، وأصل هذه المادة التفرق والتفرد، وعليه يكون الشّاذّ: هو ما فارق ما عليه بابه، وانفرد عن ذلك إلى غيره. ونلحظ أن السيوطي قد نقل تعريف المطرد والشاذ عن ابن جني في (الخصائص)، وتصرف في النقل عنه تصرفًا يسيرًا بالإيجاز غير المخل؛ فأسقط بعض الأمثلة

والشواهد التي ذكرها ابن جني، ليدل بها على معنى المطرد والشاذ. وكما نقل السيوطي عن ابن جني معنى المطرد ومعنى الشاذ نقل عنه أيضًا تقسيم الاطراد والشذوذ أربعة أضرب، وهي: مطرد في القياس والاستعمال معًا، ومطرد في القياس شاذ في الاستعمال، ومطرد في الاستعمال شاذ في القياس، وشاذ في القياس والاستعمال معًا. والحق أن ابن جني فيما ذكره من تقسيم الاطراد والشذوذ كان متأثرًا بشيخه أبي علي الفارسي؛ إذ أفرد في كتابه (المسائل العسكرية) بابًا لمعرفة ما كان شاذًّا في كلامهم، لكنه ذكر فيه أن الشَّاذّ في العربية على ثلاثة أضرب: شاذ عن الاستعمال مطرد في القياس، ومطرد في الاستعمال شاذ عن القياس، وشاذ عنهما. ولم يذكر أبو علي ما كان مطردًا في القياس والاستعمال معًا؛ لأنه جعل الباب خاصًّا بما كان شاذ في كلامهم، ولأن المطرد في القياس والاستعمال هو الأصل والغالب. والمراد بالقياس: ما ذكره أهل الصناعة النحوية، والمراد بالاستعمال: ما ورد عن العرب الموثوق بعربيتهم وفصاحتهم. تقسيم المطرد والشاذ: أما القسم الأول منه وهو المطرد في القياس والاستعمال معًا، فهو الغاية المطلوبة والنهاية المرغوب فيها من علم العربية؛ لأنها توافق ما سُمع عن العرب، كما توافق قياس علماء العربية الذي بُني على السماع كرفع الفاعل ونصب المفعول، وجر المضاف إليه، ونحو ذلك، فإن ورد في كلام العرب ما خالف القياس والسماع؛ حُكم بإهدار ذلك المسموع لضعفه كقول العرب: "خرق الثوب المسمار" برفع المفعول ونصب الفاعل.

وأما القسم الثاني: وهو المطرد في القياس والشاذ في الاستعمال: فالمراد به ما كان موافقًا لمقاييس العربية، ولكن السماع لم يردْ به، أو وَرَد السماع به على قلة، وله أمثلة متعدِّدة: المثال الأول: الفعلان: وَذَر، وَوَدَع، فإنهما ماضيان من يَذَر ويدع، والقياس لا يمنع منه؛ لأن كل مضارع يستعمل منه ماضٍ إلا هذين الفعلين؛ فقد شذَّا عن نظائرهما، وانفردا عن بابيهما وغيرهما من الأفعال يأتي منه الماضي نحو: يرث فالماضي منه ورث، ويزن فالماضي منه وزن، ولكن العرب لم تستعمل الماضي من يذر ويدع؛ استغناء عنه بترك، يقول سيبويه في (الكتاب): "وأما استغناؤهم بالشيء عن الشيء، فإن هم يقولون: يدع، ولا يقولون: ودع، استغنوا عنها بترك"، ويقول في موضع آخر: "يدع ويذر على ودعت ووذرت وإن لم يُستعمل"، ويقول في موضع ثالث: "يقال: يذر ويدع، ولا يُستعمل "فعل" أي: لا يُستعمل الماضي منهما، فصار قول الذي يقول: "ودع" شاذًّا عن الاستعمال، ولا يُخرجه عن شذوذه أنه ورد في قراءة: "ما وَدَعَكَ ربك وما قلى" (الضحى: 3) لأنها قراءة شاذة، كما لا يخرجه عن شذوذه أنه ورد في قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ((اتركوا الترك ما تركوكم وذروا الحبشة ما وذروكم))؛ لأن الماضي قد ورد في هذا الحديث للمشاكلة". المثال الثاني: قول العرب: مكان مبقل، فمبقل اسم فاعل من الفعل الرباعي "أبقل"، وهذا ما يقتضيه القياس؛ إذ إن اسم الفاعل من غير الثلاثي كما نعلم يكون بقلب حرف المضارعة ميمًا مضمومة وكسر ما قبل الآخر، ولكن كثر في الاستعمال قولهم: مكان باقل، فقد نقل ابن منظور عن الأصمعي قوله: "أبقل المكان فهو باقل من نبات البقل، وأورث الشجر فهو وارث إذا أورق" (لسان العرب) مادة: بقل،

فباقل أكثر استعمالًا من مُبقل، ومُبقل أقيس، ولكنه شاذٌّ في الاستعمال، وقد سُمع أيضًا في قول القائل: أعاشني بعدك وادٍ مبقل ... .......................... المثال الثالث: مجيء خبر كاد وأخواتها اسمًا صريحًا، فيقال: كاد زيد قائمًا، عسى عمرو راجعًا، فهذا هو القياس المطرد، لكنه قد شذَّ في الاستعمال مجيء الخبر اسمًا صريحًا، وكثر مجيئه جملة فعلية فعلها مضارع كقوله تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} (البقرة: 216) والأول مسموع، ومنه قول رؤبة: أكثرت في العزل ملحًّا دائمًا ... لا تكثرنَّ إني عسيتُ صائمًا وقولهم في المثل عسى الغوير أبؤسًا، فجاء خبر عسى اسمًا صريحًا، ولكنه قليل. وقد بيَّن ابن جني حكم هذا النوع فقال: "إن كان الشيء شاذًّا في السماع مطردًا في القياس تحاميت ما تحامت العرب من ذلك، وجريت في نظيره على الواجب في أمثاله، ومعناه الامتناع من قول ما لم تقله العرب، واستعمال نظيره وإن لم يسمعه المتكلم". وأما القسم الثالث -وهو المطرد في الاستعمال الشاذ في القياس- فالمراد به: ما استعمل كثيرًا في فصيح الكلام، وهو مخالف لأقيسة علماء العربية ومن أمثلته: المثال الأول: تصحيح العين في المعتلّ في نحو قوله تعالى: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ} (المجادلة: 19) ونحو قولهم: استنوق الجمل، وقولهم استصوبت الأمر؛ فالقياس في الأفعال استحوذ، واستنوق، واستصوب أن تُنقل حركة العين المعتلة إلى الساكن الصحيح قبلها، ثم تُقلب الواو ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها، فيقال: استحاذ، واستناق الجمل، واستصاب الأمر، كما يقال: استقام، والأصل: استقوم، هذا هو القياس، ولكن جاء السماع المطرد بخلافه.

الاستشهاد بأشعار الكفار من العرب.

المثال الثاني: فتح العين من المضارع "يأبى" في نحو قوله تعالى: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} (التوبة: 32) فإن القياس كسر العين؛ لأن الماضي إذا كان يائيّ اللام كان مضارعه على زنة "يفعل" بكسر العين، نحو: جرى يجري، وأوى يأوي، وثوى يثوي ونحوها. هذا هو القياس، وقد جاء السماع المطرد بخلافه، وحكم هذا النوع وجوب اتباع السمع الوارد به فيه نفسه، لكنه لا يُتَّخذ أصلًا يقاس عليه غيره؛ فلا يتجاوز المتكلم ما ورد السمع به. وأما القسم الرابع -وهو الشاذ في القياس والسماع معًا- فالمراد به: ما كان مخالفًا للمسموع من أشباهه ونظائره، ومخالفًا لأقيسة علماء العربية، ومن أمثلته: تتميم ما عينه واو عند تميم في صيغة "مفعول" كقولهم: ثوب مصوون، وفرس مقوود، ورجل معوود من مرضه، فهذا شاذٌّ في القياس؛ إذ القياس حذف إحدى الواوين فيقال: مصون ومقود، كما قيل: مزور ومصوغ، وشاذّ في الاستعمال أيضًا؛ إذ لم يوجد في كلامهم إلا قليلًا. وقد بين ابن جني حكم هذا النوع فقال: "لا يسوغ القياس عليه، ولا ردّ غيره إليه، ولا يحسن أيضًا استعماله فيما استعملته فيه -أي: العرب- إلا على وجه الحكاية". الاستشهاد بأشعار الكفار من العرب نقل السيوطي عن الشيخ عز الدين بن عبد السلام، الملقب بسلطان العلماء المتوفى سنة ستين وستمائة من الهجرة قوله: "اعْتُمد في العربية على أشعار العرب، وهم كفار لبعد التدليس فيها" انتهى. ونلحظ أن العز بن عبد السلام قد قيَّد الاحتجاج بالشعر، وكان الأولى أن يقول: اعتمد في العربية على كلام العرب؛ لأن الشعر العربي ونثرهم في ذلك سواء، وقد اعتذر عنه بعض شُرَّاح (الاقتراح) بأمرين:

أحوال الكلام الفرد في الاحتجاج به.

الأول: أنه اقتصر على الشعر لأن الشعر هو الأغلب في كلام العرب. والآخر: أنه إذا كان يُحتجُّ بالشعر، مع كون الشعر محلّ الضرائر والضيق؛ فالاحتجاج بالنثر من باب أولى وأحرى، وإنما جاز الاحتجاج بكلام الكفار من العرب؛ لأن اللغة العربية عندهم سليقة طُبعوا عليها، وهذا هو مراد الشيخ العز بن عبد السلام في قوله: "لبعد التدليس فيها". ثم ذكر السيوطي أن العدالة شرط في الراوي، وليست شرطًا فيمن يُحتجّ بكلامه من العرب، فقال: "فعلم أن العربي الذي يُحتج بقوله لا يشترط فيه العدالة، نعم تشترط -أي: العدالة- في راوي ذلك" انتهى. فهناك إذًا فرق بين قائل الكلام وراوي الكلام من حيث اشتراط العدالة، وعدم اشتراطها. أما قائل الكلام فلا تُشترط العدالة فيه لماذا؟ لأنه ينطق على سجيَّته، وقد احتجُّوا بكلام الصبيان والمجانين، وأثبتوا به القواعد والكلمات. وأما الراوي فإن العدالة شرط فيه؛ لأنه ناقل كلام غيره، والعدالة أصل في قبول الأخبار. ولما كانت العدالة أصلًا في قبول الأخبار؛ لم يُقبل من الأخبار من انقطع سنده، وهو المرسل، وما لا يُعرف قائله وهو المجهول؛ لأن انقطاع السند والجهل بالناقل يوجبان الجهل بالعدالة. أحوال الكلام الفرد في الاحتجاج به إن السيوطي قد لخَّص هذا الموضع من مواضع متفرّقة ذكرها ابن جني في (الخصائص)، وبتأمّل كلام ابن جني نلحظ أن كلمة "الفرد" يُراد بها وصف الكلام حينًا، ويُراد بها وصف المتكلم حينًا آخر، وله أحوال: الحالة الأولى: أن يكون الفرد صفة للكلام بأن يكون المسموع فردًا ليس له نظير في الألفاظ المسموعة أي: سُمع وحده، ولم يُسمع عن العرب ما يُخالفه، بل

أجمعوا على النطق به، مثال ذلك: قولهم في النسب إلى شنوءة، ومن معانيه المتقزّز مما يُعاب به، يقال في النسب إليه: شنأيٌّ بحذف الواو؛ لأن شنوءة على وزن "فعولة"، فحذفت الواو عند النسب كما حُذفت الياء عند النسب إلى ما كان على وزن "فعيلة"؛ لتساويهما -أي: الواو والياء- في كونهما حرفي مدّ، وفي كونهما بعد عين الكلمة، وفي أن آخر كل وزن منهما تاء التأنيث، وفي أن الوزنين يتواردان فيقال: أثيم وأثوم، ورحيم ورحوم؛ فلما استمرَّت حال فعيلة وفعولة هذا الاستمرار، حذفت الواو من شنوءة كما حُذفت الياء من حنيفة، فأطبق العرب على قولهم "شنأيّ" عند النسب، فلم يُسمع خلافه، كما أن هذا المسموع لم يسمع في غير هذه الكلمة، فكان المسموع فردًا. وحكم هذا النوع أنه يقبل ويُحتج به ويقاس عليه غيره، وعلة ذلك -كما قال العلامة ابن جني-: "أنه لم يأت فيه شيء ينقضه" أي: لم يأتِ فيه شيء آخر، إذ لم يسمع إلا هو. إذًا تُحذف الواو من كل اسم على وزن "فعولة" فيقال -بناء على هذا- في النسب إلى ركوبة وحلوبة: ركبي وحلبي، وإتمامًا للنفع وإكمالًا للفائدة نشير إلى أنه يُشترط في حذف الواو مما على وزن "فعولة" عند النسب ألا تكون العين معلة أو مضعفة، فإن كانت العين معلة لم تُحذف الواو نحو: قوولة، فيقال عند النسب: قُوُولي، وإن كانت العين مضعفة لم تُحذف الواو نحو: حرورة، فيقال عند النسب: حروريّ ببقاء الواو؛ حملًا على بقاء الياء فيما كان على وزن فعيلة نحو: جليلة، إذ يقال في النسب: جليلي. الحالة الثانية: أن يكون الفرد صفة للمتكلم، وأن يكون المتكلم به من العرب واحدًا مخالفًا لما عليه الجمهور، ولم يردْ استعمال هذا اللفظ إلا من جهة هذا الإنسان، ولا يمكن الحكم بقبوله أو ردِّه إلا إذا نظرنا في حال هذا المتكلم، ولا يخرج حاله عن أمرين، أي: عن أحد أمرين؛ لأنه إما أن يكون فصيحًا في غير

الموضع الذي خالف فيه الجمهور، أو أن يكون غير ذلك، ولكلٍّ حكم. فإن كان هذا المتكلم فصيحًا في جميع ما قال لم يُؤثر عنه لحن، ولم يُعهد عليه خطأ، وكان الكلام الذي انفرد به مما يقبله القياس اللغوي؛ فحكمه حينئذٍ الحكم بصحته، لقول ابن جني الذي نقله السيوطي: "فإن الأولى في ذلك أن يُحسن الظن به -أي: بالمتكلم- ولا يُحمل على فساده"، وقد يعترض هذا القول متعرض فيقول: إن تفرُّد متكلم واحد بما يُخالف ما عليه جمهور العربي فيه ارتجال لغة لنفسه غير معهودة، ولا يجوز ذلك، فكيف يمكن قبوله. وقد افترض ابن جني هذا الاعتراض، وأجاب عنه بأن تفرُّد متكلم واحد بما يُخالف ما عليه الجمهور ليس ارتجالًا للغة، وإنما يُمكن أن يكون ذلك وقع إليه من لغة قديمة طال عهدها، وعفى رسمها، ولم يصل إلينا مما قالته العرب إلا أقلُّه؛ فقد يكون هذا الفصيح المتفرّد بالكلام قد وصل إليه من لغات العرب ما لم يصل إلى غيره من العرب، وإن كان المتكلم المخالف للجماعة قد عَرف الناس لحنه، وعهدوا منه فساد كلامه؛ فحكمه أن يُردَّ القول الذي تفرد به، وألا يُسمع منه. يقول ابن جني: "هذا هو الوجه، وعليه ينبغي أن يكون العمل، فإن قيل: ولم لا يكون قوله الذي تفرَّد به منقولًا عن لغة أخرى لم تصل إلى غيره، كما قيل في حال من عُرفت فصاحته؟ أجيب بأن هناك فرقًا بين من عُرفت فصاحته ومن عُرف فساد قوله، فإن من عرفت فصاحته كان حسن الظن به أولى، فقُبل ما تفرَّد به؛ لاحتمال أنه قد وصل إليه من لغة أخرى. أما من عرف فساد قوله فإنه يُحكم بردِّ ما تفرد به؛ لأنا لو فتحنا هذا الباب ما رددنا خطأً أبدًا لمجيء ذلك الاحتمال فيه، ولأن المدار في الخطأ والصواب على الظواهر.

والحالة الثالثة: أن يكون الفرد صفة للمتكلم، وأن يكون المتكلم به من العرب واحدًا، ولا يُسمع من غيره لا ما يُوافقه ولا ما يُخالفه. فالفرق بين هذه الحالة والتي قبلها أن المتكلم في الحالة السابقة قد خالف ما عليه جمهور العرب، أما المتكلم في هذه الحالة فقد تفرَّد في شيء لم يرد عن العرب لا ما يوافقه ولا ما يخالفه. والحكم عن هذه الحالة متوقف على معرفة المتكلم، فإن كان المتكلم فصيحًا ثبتت فصاحته؛ وجب قبول كلامه ولا يجوز ردُّه. وقد أفرد ابن جني في كتابه (الخصائص) بابًا في الشيء يُسمع من العربي الفصيح لا يُسمع من غيره؛ فقيد السماع الفرد بأن يكون صادرًا عن عربي فصيح، وذكر من أمثلته: الجبر، ومعناه: الملك، في قوله: اسلم براوُوق حبيت به ... وانعم صباحًا أيُّها الجبر ومن أمثلته أيضًا: البابوس، ومعناه: ولد الناقة، في قوله: حنت قلوصي إلى بابوسها جزعًا ... فما حنينك، أم ما أنت والذِّكَر بكسر الذال وفتح الكاف جمع ذكرة بكسر فسكون، وهي الذكرى بمعنى التذكر، ومن أمثلته أيضًا: المأنوسة، ومعناه: النار، في وقوله: كما تطاير عن مأنوسة الشَّرَرُ فهذه أحرف من الغريب الذي قال عنه الأصمعي فيما نقله ابن جني: "لا أعلم أحدًا أتى بها إلا ابن أحمر الباهلي" انتهى. وحكم هذا النوع: أنه يجب قبوله لما ثبت من فصاحة ابن أحمر، فيكون الذي تفرَّد به إما أن يكون شيئًا أخذه عمَّن نطق به بلغة قديمة لم يُشارك في سماع ذلك منه، أو شيئًا ارتجله، أي: اخترعه وجاء به من عنده، وليس عجيبًا أن يرتجل الأعربي الفصيح ما لم يُسبق إليه؛ فقد حُكي عن رؤبة وأبيه أنهما كانا يرتجلان

ما لم يسمعاه، أو ما لم يُسبقا إليه، فقبل ما ارتجلاه، ولا يُقبل إلا من فصيح، يقول ابن جني: "لكن لو جاء شيء من ذلك عن ظنين، أو متهم، أو من لم ترقَ به فصاحته، ولا سبقت إلى الأنفس ثقته؛ كان مردودًا غير متقبل" انتهى. ومعنى ما قاله ابن جني، ونقله السيوطي: هو أن قبول الفرد مقيَّد بفصاحة المتكلم. ونختم ببيان حكم الكلام الفرد الذي يُخالفه كلام العرب، ويأباه القياس على كلامها، فنقول: نقل السيوطي عن ابن جني قوله: "إن ورد عن بعضهم شيء يدفعه كلام العرب ويأباه القياس على كلامها؛ فإنه لا يُقْنَع في قبوله أن يُسمع من الواحد ولا من العدة القليلة، إلا أن يكثر من ينطق به منهم" انتهى. ومعنى هذا الكلام: أنه إذا ورد عن بعض المتفردين كلامٌ يُخالف معهود العرب في كلامها، وكان أيضًا مخالفًا لقياس العرب؛ وجب ردُّه، ولم يجز قبوله، فإن كان على قياس كلام العرب قُبل؛ لقول المازني: "ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب"، هذا إذا كان المتكلم واحدًا أو عدة قليلة. أما إذا كثر الناطقون بما خالف قياس العرب في كلامها، فإن الكلام الفرد يكون مقبولًا غير مردود مع ضعفه من جهة القياس، وطريق جوازه أمران: أحدهما: أن يكون المتكلم به لم يُحكم قياسه. والآخر: أن يكون المستمع قد قَصُرَ عن استدراك وجه صحته. وقد ذكر ابن جني: "أنه يُحتمل أن يكون المتفرد قد سمع كلام الفرد من غير فصحاء، ثم دخل غير الفصيح في الفصيح من الكلام، وامتزج به امتزاجًا"، ولكنه ضعَّف هذا الاحتمال بقوله: "إلا أن هذا كأنه متعذِّر، ولا يكاد يقع مثله، وذلك أن الأعرابي الفصيح إذا عُدل به عن لغته الفصيحة إلى أخرى سقيمة عافها ولم يَبْهَأ بها" انتهى.

ونقل السيوطي كلام ابن جني، وغيَّر "يَبْهَأ" إلى "يَعْبَأ"، ونبَّه الأستاذ الدكتور أحمد محمد قاسم محقق (الاقتراح) -طيب الله ثراه- إلى هذا التغيير؛ موضحًا أن عبارة ابن جني معناه: لم يأنس بها، فهي أنسب من عبارة السيوطي. ونخلص مما سبق إلى أن الفصيح إن تكلَّم بكلام قُبل منه كلامه، ولم يُردَّ عليه، ويُحمل أمره على ما عُرف من حاله وإن خالف القياس مشيًا على الظاهر الذي هو مناط الأحكام، ولذلك قاسه ابن جني على قبول القاضي شهادة من دارت عدالته، وإن كان يجوز أن يكون الأمر عند الله بخلاف ما شهد به؛ لأن القاضي إنما أُمر بحمل الأمور على ما تبدو، وإن كان في المغيب غيره. انتهى. فإذا لم يجزْ للقاضي أن يشكّ فيمن ظهرت عدالته؛ وجب على متلقي اللغة أيضًا ألا يشكَّ فيمن ظهرت فصاحته؛ لأن الشك لو تسرَّب إليه لأدى ذلك إلى ترك الفصيح. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 7 الاحتجاج باللغات، وامتناع الأخذ عن أهل المدر، وكلام العربي المتنقل، وتداخل اللغات

الدرس: 7 الاحتجاج باللغات، وامتناع الأخذ عن أهل المدر، وكلام العربي المتنقل، وتداخل اللغات

اللغات والاحتجاج بها.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السابع (الاحتجاج باللغات، وامتناع الأخذ عن أهل المدر، وكلام العربي المتنقل، وتداخل اللغات) اللغات والاحتجاج بها الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فإن علماء العربية لم يأخذوا عن جميع القبائل العربية، وإنما أخذوا عن القبائل التي سَلِمَ أهلها من الاختلاط بالأعاجم، وانحصرت هذه القبائل في ستّ وهي: قيس، وتميم، وأسد، وهذيل، وبعض كنانة، وبعض الطائيين. وقد اختلفت لغات هذه القبائل وتعدَّدت أوجه الاختلاف بينها: فمنها: أن يكون الاختلاف في الحذف والإثبات، وذلك نحو: استحيت واستتحييت. ومنها: أن يكون الاختلاف في الإمالة والتفخيم في مثل: قضى ورمى فبعضهم يفخم وبعضهم يُميل. ومنها: أن يكون الاختلاف في صورة الجمع، فبعضهم يجمع لفظ أسير على أسرى، وبعضهم يجمعه على أُسارى. ومنها: أن يكون الاختلاف في الإعراب وذلك نحو: ما زيد قائمًا، وبعضهم يقول: ما زيد قائم، برفع الجزأين. وقد أفرد ابن جني في كتابه (الخصائص) بابًا عنوانه: اختلاف اللغات وكلها حجة، وعليه عوَّل السيوطي في موضعين من كتابه (الاقتراح) أولهما هنا، والآخر في الكتاب السادس من (الاقتراح) المسألة الثانية، والمراد باللغات لغات القبائل المأخوذ عنها والمعتدّ بفصاحتها. وبتأمّل ما ذكره ابن جني ونقله السيوطي يمكن تقسيم الاختلاف بين لغات العرب قسمين:

أحدهما: أن يكون الاختلاف بين لغتين متقاربتين يقبلهما القياس. والآخر: أن يكون الاختلاف بين لغتين متباعدتين بأن تكون إحداهما قليلة جدًّا، والأخرى تكون كثيرة جدًّا، ولكلٍّ حكم. أولًا: الاختلاف بين لغتين متقاربتين: إن كان الاختلاف بين لغتين متقاربتين، وكان القياس يقبلهما، فقد بيَّن ابن جني الحكم في هذه الحالة فقال: "ليس لك أن تردَّ إحدى اللغتين بصاحبتها؛ لأنها ليست أحق بذلك من رسيلتها، لكن غاية ما لك في ذلك أن تتخيَّر إحداهما فتقويِّها على أختها، وتعتقد أن أقوى القياسين أقبل لها، وأشدّ أُنسًا بها. فأما ردُّ إحداهما بالأخرى فلا". ومعنى ما قاله ابن جني: أن اللغتين المتقاربتين اللتين يقبلهما القياس يجب قبولهما، ولا يجوز ردُّ إحداهما بالأخرى مع اختيار واحدة منهما؛ لأنه لا يمكن الجمع بينهما في وقت واحد. ونسوق هنا مثالين يدلَّان على هذه القاعدة: المثال الأول: إعمال "ما" وإهمالُها، فللعرب في ذلك مذهبان: أحدهما: إعمال ما عمل ليس فترفع المبتدأ اسمًا لها، وتنصب الخبر خبرًا لها بشروط، وهي لغة الحجازيين؛ إذ يقولون: ما زيد قائمًا بنصب الخبر، والآخر إهمالها فتدخل على المبتدأ والخبر، فتفيد معنى النفي ولا تعمل شيئًا في المبتدأ والخبر وهي لغة بني تميم؛ إذ يقولون: ما زيد قائم بالرفع، واللغتان يقبلهما القياس؛ فقد عملها الحجازيون حملًا لها على ليس؛ لأن "ما" تشبه ليس في الجمود ونفي الحال، فلما أشبهت "ما" "ليس" عملت عملها فرفعت الاسم ونصبت الخبر. وأهملها بنو تميم فلم تعمل عندهم شيئًا؛ لأنه قد فُقد منها شرط

العمل وهو الاختصاص، إذ تقرر أن غير المختص لا يعمل كحروف الاستفهام، فإنه يقع بعدها الاسم والفعل؛ فلا تختص بأحدهما دون الآخر. وكذلك "ما" فإنها تدخل على الأسماء والأفعال، فالأصل ألا تعمل، ولذلك وصف سيبويه في (الكتاب) وصف إهمالها بأنه هو القياس فلما كانت اللغتان -لغة الإعمال ولغة الإهمال- متقاربتين؛ لم يجز ردُّ إحداهما بالأخرى، وإنما نقدم إحدى اللغتين على الأخرى، مع اعتقادنا أن اللغة الأخرى صحيحة فصيحة فنقول: إن لغة الحجازيين في إعمال "ما" هي المقدمة وهي العليا التي نزل بها القرآن الكريم قال تعالى: {مَا هَذَا بَشَرًا} (يوسف: 31) فـ"ما" في الآية الكريمة يقال: إنها نافية، وإنها بمعنى ليس، وتعمل عمل ليس، واسم الإشارة اسمها في محل رفع، و {بَشَرًا} خبرها منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة. وقال -عز وجل-: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} (المجادلة: 2) فـ"ما" هي ما النافية الحجازية التي تعمل عمل ليس، والضمير: {هُنَّ} في محل رفع؛ لأنه اسمها، وأمهاتي من: {أُمَّهَاتِهِمْ}؛ لأنه جمع مؤنث سالم منصوب؛ لأنه خبرها، وعلامة نصبه الكسرة؛ لأن هذه العلامة هي العلامة التي تكون علامة لنصب جمع المذكر السالم. وأمهات مضاف وهم مضاف إليه. وإنما قُدمت لغة الحجازيين؛ لكثرة استعمالها وشيوع المسموع بها؛ لأنه إذا تعارض قوَّة القياس وكثرة الاستعمال قُدِّم ما كَثُر استعماله، كما جاء في (الخصائص). والمثال الثاني: حكم الاستثناء المنقطع، والمراد بالاستثناء المنقطع: هو ما كان المستثنى فيه من غير جنس المتستثنى منه، وذلك نحو: ما في الدار أحد إلا حمارًا، فحمارًا هو المستثنى وليس من جنس المستثنى منه، وللعرب في هذا النوع من الاستثناء مذهبان:

أحدهما: وجوب النصب وهي لغة الحجازيين، والإعراب على لغتهم ما: نافية. وفي الدار: جار ومجرور متعلق بمحذوف لأنه خبر مقدم للمبتدأ وهو "أحد" المرفوع. وإلا: أداة استثناء. وحمارًا: مستثنى مع أنه مستثنى منقطع إلا أنه عندهم منصوب على الاستثناء. والآخر: جواز الإتباع بأن يكون المستثنى تابعًا للمستثنى منه؛ رفعًا أو نصبًا أو جرًّا، وهي لغة تميم، والإعراب عندهم. ما: نافية. وفي الدار: جار ومجرور خبر مقدم. وأحد: مبتدأ مؤخر. وإلا: أداة استثناء. وحمار: بالرفع بدل من أحد المستثنى منه المرفوع. فالمستثنى هو تابع للمستثنى منه على البدلية ولكلٍّ وجهٌ، فقد أوجب الحجازيون النصب؛ لأنه لا يصح الإبدال فيه حقيقةً من جهة أن المستثنى ليس من جنس المستثنى منه، وقد قال سيبويه في (الكتاب): "وكرهوا أن يُبدلوا الآخر من الأول، فيصير كأنه من نوعه؛ فحُمِلَ على معنى: ولكنَّ، وعمل فيه ما قبله كعمل العشرين في الدرهم". انتهى. وأجاز بنو تميم الإتباعَ، والباعثُ عليه واحد من ثلاثة: إما الحمل على المعنى؛ لأن المقصود هو المستثنى فالقائل: ما في الدار أحد إلا حمار، بالرفع على لغة بني تميم، كأنه أراد: ما في الدار إلا حمار، وأُدخلت أحد توكيدًا، وإما أنهم جعلوا الحمار من جنس أحد على سبيل المجاز، وإما أنهم خلطوا من بعض ما يعقل بما لا يعقل فغلَّبوا مَن يعقل، فقالوا: ما فيها أحد. وهم يريدون من يعقل ومن لا يعقل ثم أبدلوا من أحد على هذا التأويل، واللغتان متقاربتان فلا يجوز ردُّ إحداهما بالأخرى؛ لأن سعة القياس تُبيح لهم ذلك ولا تحظره عليهم.

ثانيا: الاختلاف بين لغتين متباعدتين: إن كان الاختلاف بين لغتين متباعدتين بأن كانت إحداهما كثيرة جدًّا، وكانت الأخرى قليلة جدًّا؛ فقد بين ابن جني حكم هذه الحالة بقوله: "تأخذ بأوسعهما روايةً، وأقواهما قياسًا" ومعنى ما قاله ابن جني أن اللغات القليلة لا يُقاس عليها، وإنما يقتصر فيها على المسموع، ولا يتجاوز. وقد أفرد ابن فارس في كتابه (الصاحبي) بابًا لهذه اللغات القليلة عنوانه: باب اللغات المذمومة، كما أفرد لها السيوطي النوع الحادي عشر في كتابه (المزهر)، عنوانه: معرفة الرديء المذموم من اللغات، وفي وصف هذه اللغات بأنها رديئة ومذمومة ما يدلُّ على أنها لا يُقاس عليها، وإنما يُكتفى فيها بما سمع عن العرب، فلا يجوز أن يقول قائل: أكرمتكش. بزيادة الشين بعد كاف الخطاب المنصوبة؛ قياسًا على مَن ألحقها بالمجرورة، فقال: مررت بكش؛ لأن هذه اللغة قليلة وتُسمى الكشكشة ولا يقاس عليها. ونختم ببيان أمرين: الأول: أن هذه اللغات القليلة يجب أن يقلَّ استعمالها، وأن يكثر استعمال ما هو شائع من اللغات إلا أن استعمال شيء من اللغات القليلة لا يُعَدُّ خطأً يُلام صاحبه عليه، ولا يقال: إن من استعملها قد أخطأ، وإنما يقال: إن مَن يستعمل هذه اللغات يكون مخطئًا لأجود اللغتين حين ترك القوي من اللغات واستعمل الضعيفَ، أو ترك الكثير واستعمل القليلَ. والثاني: أنه لو اضطر شاعر فاستعمل شيئًا من هذه اللغات القليلة فإنه لا يكون ملومًا على استعماله، وكذلك لو ألجأ السجع أحد المتكلمين به إلى استعمال شيء من هذه اللغات فله ارتكاب ذلك بلا لَوْم ولا نسبة لخطأ ولا إنكار عليه في ذلك؛ لِمَا تقرر أن الضرورات تُبيح المحذورات.

علة امتناع الأخذ عن أهل المدر.

علة امتناع الأخذ عن أهل المدر إن المراد بالمدر: المدن والحضر، وأصل المدر في اللغة قطع الطين، وسميت الحاضرة بذلك؛ لأن بيوتها ومبانيها تكون من المدر، وقد عرفنا أنه لم يؤخذ عن حضري قط؛ لأن الحاضرة محل اجتماع الناس من كل جانب واختلاط اللغات واختلال الألسنة، وأن ابن جني قد أفرد في (الخصائص) بابًا لعلة امتناع الأخذ عن أهل المدر، قال فيه: "علة امتناع ذلك ما عرض للغات الحاضرة وأهل المدر من الاختلال والفساد والخطل". وفي ضوء ما ذكره ابن جني ونقله السيوطي، نعلم أن الحاضرة بذاتها ليست مانعة من الاحتجاج، وإنما امتنع الاحتجاج بكلام أهلها؛ لأنه يغلب عليهم الاحتكاك بغير العرب من الأمم، والاختلاط بالأعاجم، وفساد الألسنة، ومع أن العلماء قد نصُّوا على عدم الاحتجاج بكلام أهل المدر، نجد ابن جني قد بيَّن أن المعيار في الاحتجاج وعدمه ينحصر في أمر واحد، وهو الفصاحة بقاؤها أو عدمها، فمن بقيت فصاحته قُبلت لغته وإن كان من أهل المدر، ومن زالت عنه الفصاحة لم يُؤخذ بكلامه وإن كان من أهل الوبر. يقول ابن جني: "ولو عُلم أن أهل المدينة باقون على فصاحتهم، ولم يعترض شيء من الفساد للغتهم؛ لوجب الأخذ عنهم كما يُؤخذ عن أهل الوبر، وكذلك أيضًا لو فشا في أهل الوبر ما شاع في لغة أهل المدر من اضطراب الألسنة وخبالها، وانتقاد عادة الفصاحة وانتشارها؛ لوجب رفض لغتها وترك تلقّي ما يَرِد عنها". ومعنى ما ذكره ابن جني ونقله عنه السيوطي: أن الفصاحة الكاملة هي المعيار في قبول الكلام أو ردّه، والمقياس الذي يُعتمد عليه في الاحتجاج وتركه، فلو بقي

أهل مدينة على فصاحتهم وجب الأخذ عنهم والاحتجاج بكلامهم، ولو عرض لأهل البادية ما يقدح في فصاحتهم تعين ترك لغتهم وبطل الأخذ عنهم؛ لأن الحكم دائر مع علته وجودًا وعدمًا، فمتى وجدت الفصاحة الكاملة والوثوق؛ صح الاحتجاج من كِلا الفريقين، ومتى انتفى ذلك انتفى الاحتجاج. ومن هذا يتبين أن علماء العربية قد دقَّقوا النظر فيما يأخذون عنهم، فلم يأخذوا إلا عن قوم اطمأنوا إلى فصاحتهم، ووثقوا بصفاء لغتهم، وخلوص عربيتهم، ويدل على ذلك قول سيبويه في (الكتاب): "وسمعنا الثقة من العرب يقول: يا حرمل. يريد يا حرملة"، وقوله: "وسمعنا بعض العرب الموثوق بهم يقول: ما منهم مات حتى رأيته في حال كذا وكذا، وإنما يريد ما منهم واحد مات". انتهى. ونلحظ في كلام سيبويه أنه ينقل عن الثقات من العرب، والثقات هم الذين لم يعرض لكلامهم ما يمنع من أخذه والاحتجاج به، ومن أجل ذلك وجدنا ابن جني لا يثق بكل أعرابي، وإن كان أكثر كلامه مقبولًا، لا سبيل إلى الطعن في فصاحته، بل يدعو إلى الاطمئنان إلى أن لغته ليس فيها ما يقدح في فصاحتها، أو ينال منها، أو يغضُّ من شأنها فيقول -رحمه الله تعالى-: لا نكاد نرى بدويًّا فصيحًا وإن نحن آنسنَا منه فصاحة في كلامه، لم نكد نعدم ما يفسد ذلك، ويقدح فيه، وينال ويغض منه". انتهى. وقد استدلَّ ابن جني على فساد سليقة الأعراب في زمنه وقبل زمنه بأمور: منها: أنه قد طرأ عليه أحد من يدَّعي الفصاحة البدوية فتلقى ابن جني أكثر كلامه بالقبول له، وميزه تمييزًا حَسُنَ في النفوس موقعه إلى أن وقع في كلامه ما لا أصل له، ولا قياس يسوغه، ولا ورد بمثله سماع.

العربي الفصيح ينتقل لسانه.

ومنها: ما روي في لحن في الصدر الأول؛ إذ وقع اللحن أمام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((أرشدوا أخاكم، فقد ضل))، كما وقع اللحن في عهد عمر -رضي الله عنه- فقد رَوَوا أن أحد ولاته كتب إليه كتابًا لَحَنَ فيه، فكتب إليه عمر: "أن قنّع كاتبك صوتًا". وروي أن مقرئًا أقرأ أعرابيًّا قوله تعالى: "أن الله بريء من المشركين الله ورسولِه" (التوبة: 3) بكسر اللام فقال الأعرابي: برئت من رسول الله، فأنكر ذلك علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- ورسم لأبي الأسود من عمل النحو ما رسمه، وصحة قراءة الآية: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} (التوبة: 3) برفع لفظ "رسوله" وإعرابها في المشهور أن رسوله بالرفع مبتدأ والخبر محذوف، والتقدير: ورسوله بريء كذلك، أو أنه معطوف على الضمير المرفوع في الصفة المشبهة الواقعة خبرًا لـ"أن"، وهو لفظ: {بَرِيءٌ}. وإذا كان اللحن قد عُرف من قديم فإنه ينبغي أن يستوحش من الأخذ عن كل أحد، إلا أن تقوى لغته، وتشيع فصاحته، ويُعرف بجودة لسانه وسلامة سليقته، وقد قال الفراء في بعض كلامه: "إلا أن تسمع شيئًا من بدوي فصيح فتقوله". العربي الفصيح ينتقل لسانه استمدَّ السيوطي هذا الفرع من كتاب (الخصائص) لابن جني إلا أنه قد ترك من كلام ابن جني أمورًا لا بد من ذكرها لإكمال النفع، وإتمام الفائدة، وقد أفرد ابن جني بابًا عنوانه: "في العربي الفصيح ينتقل اللسان"، والمراد بالعربي هنا: مَن تؤخذ عنه اللغة، ويُحتجّ بكلامه في العربية، ولذلك قيَّده ابن جني بقوله: "في العربي الفصيح"، والمراد بانتقال لسانه: أن يفارق لغته المعروفة له التي نشأ عليها؛ ليتكلم بغيرها، ولا تخلو اللغة التي انتقل إليها لسانه من إحدى حالتين:

الحالة الأولى: أن تكون اللغة التي انتقل إليها لسانه قد سلمت من اللحن، وبرئت من الاختلال والفساد، فكأنه انتقل من لغة فصيحة إلى لغة أخرى فصيحة، وقد بيَّن ابن جني حكم هذه الحالة بقوله "فإن كان إنما انتقل من لغته إلى لغة أخرى مثلها فصيحة؛ وجب أن يُؤخذ بلغته التي انتقل إليها، كما يُؤخذ بها قبل انتقاله إليها، حتى كأنه إنما حضر غائب من أهل اللغة التي صار إليها، أو نطق ساكت من أهلها". انتهى. ومعنى ما قاله ابن جني: أنه إذا كانت اللغة التي انتقل إليها لسان العربي الفصيح لغة فصيحة يُؤخذ بها، ويحتجُّ بها، بأن كانت منقولة عن إحدى القبائل التي يحتجُّ بكلامها في العربية، إذَا كان الأمر كذلك؛ فإنه لا يضيرها أن يكون المتكلم بها من أهلها، أو لا. ونلحظ في كلام ابن جني قوله: "وجب أن يؤخذ بلغته التي انتقل إليها" فوصف اللغة التي انتقل إليها لسان العربي الفصيح بأنها لغته، فكأنه أحد أبنائها وقد كان غائبًا فحضر، أو كان ساكتًا فنطق بها، ومن تكلم لغة قوم فهو منهم. والحالة الثانية: أن تكون اللغة التي انتقل إليها لسان العربي الفصيح غير فصيحة، والحكم حينئذٍ ألَّا يؤخذ بكلامه وألا يُعتبر به وألا يلتفت إليه، وإنما يُؤخذ بلغته الأولى التي انتقل عنها واشتهر بالفصاحة فيها. يقول ابن جني -رحمه الله تعالى-: "فإن كانت اللغة التي انتقل لسانه إليها فاسدة لم يُؤخذ بها، ويؤخذ بالأولى حتى كأنه لم يزل من أهلها". انتهى. وفي كلام ابن جني ما يدلّ على أن لغة العربي الفصيح قد يدخلها شيء من الفساد، أو يتسرَّب إليها لحن أو خطأ، ولكن هذا الاحتمال لا يجوز أن يكون حائلًا يحول دون الأخذ عن الفصحاء، أو سببًا يؤدِّي إلى التشكيك فيما يقولونه؛

تداخل اللغات.

لأنه لو أُخذ بهذا الاحتمال لأدَّى ذلك إلى ألا تطيب نفس بلغة من اللغات، وإلى الإعراض عن كل واحد من العرب الفصحاء، ولا يخفى ما في ذلك من الخطأ وفساد الرأي. تداخل اللغات نشير إلى أن جُلَّ العنوانات في كتاب (الاقتراح) إنما هي من صنع محققه الدكتور أحمد محمد قاسم -طيب الله ثراه- يشهد بذلك خلوُّ شروح (الكتاب) من العنوانات، وخلو الطبعات الأخرى منها، ولكن عنوان: تداخل اللغات، لم يكن من صنع المحقق، وإنما كان من صنع المؤلف -رحمه الله رحمة واسعة- وقد وضع العنوان نفسه في كتابه (المزهر) النوع السابع عشر، وهو معرفة تداخل اللغات، ونقل في الكتابين عن كتاب (الخصائص) لابن جني، ولكنه غير العنوان؛ لأن ابن جني قد عبَّر عن هذا الفرع بقوله في (الخصائص): "باب في الفصيح يجتمع في كلامه لغتان فصاعدًا". وقد ذكر الشراح (الاقتراح) أن العنوان الذي اختاره ابن جني أولى من العنوان الذي ذكره السيوطي؛ لأن تداخل اللغات يعني: دخول بعضها في بعض، والمقصود به عند أهل العربية أن تتكلَّم بلغة مركبة من لغتين، كأن يقال: رَكن يركن بالفتح في الماضي والمضارع، وهذا شيء لا يُعرف؛ إذ إن فتح العين في الماضي والمضارع لا يكون إلا إذا كانت العين أو اللام من أحرف الحلق، وهي الهمز والهاء والعين والحاء والغين والخاء، نحو: فتح يفتح، وبدأ يبدأ، ونهى ينهى، ونأى ينأى إلى آخره، فإن لم تكن العين أو اللام من أحرف الحلق؛ لم يُعرف في كلام العرب فتح العين في الماضي والمضارع إلا في لفظة واحدة، وهي:

أبى يأبى، وليس لها ثانٍ، فإن قيل: ركن يركن بفتح العين فيهما كان فيه تداخل لغتين؛ لأن ركن بفتح العين في الماضي لغة فصيحة، ومضارعه يركن بضم العين في المضارع، وأما يركن بفتح العين في المضارع، فهو مضارع لركن المكسور، فإن قيل: ركن يركن بالفتح فيهما، كان فيه تداخل لغتين وتركيبهما، حتى صارتَا لغة واحدة، وهو غير المراد من هذا الباب. وقد أفرد ابن جني لتداخل اللغات بابًا آخر عنوانه: باب في تركب اللغات، وجاء فيه بأنواع من التداخل التي أورد السيوطي بعضها، وأشار شراح كتاب (الاقتراح) إلى أن السيوطي قد خلط بين بابين؛ هما: باب الفصيح يجتمع في كلامه لغتان فصاعدًا، وباب: تركب اللغات، حتى ذكر أحد شراح (الاقتراح) أن السيوطي قد أجحف بكلام ابن جني غاية الإجحاف، وجعل بابين مستقلّين في فرع واحد، وأدخل بعضهما في بعض، ولا بد من مراجعة كلام ابن جني، ووضع هذا العنصر في أمرين يتناول أحدهما اجتماعَ لغتين، ويتناول الآخر تداخلَ اللغات. وبِناءً على ما سبق يندرج تحت هذا العنصر أمران: الأول: اجتماع لغتين فصاعدًا في كلام فصيح. والثاني تداخل لغتين. الأمر الأول: وهو اجتماع لغتين فصاعدًا في كلامٍ فصيحٍ، فنقول: إن اجتماع لغتين فصاعدًا في كلام فصيح ليس نذرًا قليلًا، وإنما هو كثير في كلام الفصحاء كثرة ظاهرة حتى وصفه ابن جني بقوله "وما اجتمعت في لغتان أو ثلاث أكثر من أن يحاط به". انتهى. ومما اجتمعت في لغتان قول لبيد بن أبي ربيعة العامري:

سقى قومي بني مجد وأسقى ... نميرًا والقبائل من هلال فجمع بين الفعلين سقى المجرد، وأسقى المزيد بحرف، وهما بمعنًى واحد، يقال: سقيت الرجل، وأسقيته، كما يقال: سقاه الله الغيث وأسقاه. ومنه أيضًا قول الشاعر: أما ابن طوق فقد أوفى بذمَّته ... كما وفى بخلاص النجم حاديها فجمع بين الفعلين "وفى" المجرد و"أوفى" المزيد، وهما بمعنًى واحد، يقال: وفى بعهده وأوفى بمعنًى. ومنه قول الشاعر: وأشرب الماء ما بي نحوه عطش ... إلا لأن عيونه سيل واديها فأشبع الهاء من قوله نحوه لأنها تتولَّد عن الضمة فيُنطق بها لفظًا ولا ترسم في الخط، وأسكن الهاء من قوله: عيونه، والإشباع والإسكان لغتان اجتمعتَا في كلام فصيح، والإشباع أفصح اللغتين. وزعم الزجاج أن هناك لغة ثالثة وهي ضم الهاء من غير إشباع، وزعم أن من هذه اللغة قول الشاعر: له زجل كأنه صوت حاد ... إذا طلب الوثيقة أو زمير فالهاء من قوله: "له" مشبعة على اللغة الفصحى، والهاء من قوله: "كأنه" مضمومة من غير إشباع، وليس ضمها من غير إشباع لغة ثالثة، كما زعم الزجاج، بل هو ضرورة من الضرائر التي تسوغ للشاعر دون الناثر، وقد ذكر سيبويه هذا البيت في (الكتاب) في باب: ما يحتمل الشعر، واقتفى أثره ابن جني فذكر أنه ينبغي أن يكون ذلك ضرورة وصنعة لا مذهب ولغة؛ لضعفه في القياس، ووجه ضعفه أنه ليس على مذهب الوصل، ولا على مذهب الوقف.

أما الوصل فيُوجب إثبات واوه في اللفظ لا في الكتابة: كلقيته أمس، وأما الوقف فيوجب الإسكان: كلقيته وكلمته، ولما كان قول الشاعر: "كأنه" في البيت السابق على غير مذهب الوصل هو مذهب الوقف؛ تعيَّن أن يكون ذلك ضرورة لا لغة. وإذ انتهينا إلى أن اجتماع لغتين فصاعدًا كثير في كلام الفصحاء يجدر بنا أن نتساءل: كيف اجتمعت اللغتان في كلام الفصيح؟ وللإجابة عن هذا التساؤل لا بد من النظر في حال المتكلم الفصيح الذي اجتمعت لغتان في كلامه. فإما أن تكون اللغتان اللتان اشتملا عليهما كلامه متساويتين في كثرة استعمالهما، أو لا، فإن كانت اللفظتان في كلامه متساويتين في الاستعمال ففي اجتماع الكلمتين احتمالان: الأول: أن تكون القبيلة التي ينتمي إليها هذا المتكلم قد اصطلحت على وضع اللفظتين لمعنًى واحد. والثاني: أن تكون إحدى اللفظتين من لغة القبيلة التي ينتمي إليها هذا المتكلم، ثم إنه استفاد الأخرى من قبيلة أخرى وطال بها عهده وكثر استعماله لها؛ فلحقت لطول المدة واتصال الاستعمال بلغته الأولى، وأقرب هذين الاحتمالين إلى الصحة، وأحقهما بالقبول هو الأول؛ لأن العرب قد تضع الألفاظ الكثيرة للمعنى الواحد وهو الترادف؛ فرارًا من التكرار وإعادة اللفظ بعينه، والداعي إلى ذلك أمران: أحدهما: الحاجة إليه في أوزان أشعارها. والآخر: لأن العرب تفرُّ من التكرار وإعادة اللفظ بعينه لما فيه من استكراه السامع، والثقالة على المستمع. أما إيراد المعنى الواحد في قوالب مختلفة من الألفاظ فقد نبَّه أئمة الأدب على عدِّه من التفنن العجيب والتصرف الغريب.

وإذا كانت إحدى اللفظتين أكثر في كلامه من الأخرى ففي اجتماعهما احتمالان: الأول: أن تكون اللفظة التي كثر استعمالها في كلامه هي لغته الأصلية، وتكون اللفظة الأخرى التي قل استعماله إيَّاها هي الجديدة المستحدثة. والثاني: أن تكون اللفظتان معنى اللغتين له ولقبيلته، وإنما قلت إحداهما لضعفها أو شذوذها، ومذهب العربي الاستخفاف بالأضعف واستعمال الأقوى؛ لأن الأقوى أحق وأحرى، كما أنهم لا يستعملون المجاز إلا لضرب من المبالغة. الأمر الثاني: وهو تداخل لغتين وهو الذي عنوانه في (الخصائص) باب في تركب اللغات، ومعناه: أن يؤخذ الماضي من لغة والمضارع أو الوصف من لغة أخرى لا تنطق بالماضي كذلك، فمثال ما أُخذ المضارع من لغة أخرى قول بعضهم: قنط يقنط بفتح العين في الماضي والمضارع، وهما لغتان تداخلتا؛ لأن الفعل الماضي قنط بفتح العين يكون مضارعه يقنط بكسر العين في المضارع. أما الفعل قنط بكسر العين في الماضي فمضارعه يقنط بفتح العين في المضارع، ثم تداخلت اللغتان فتركبت لغة ثالثة بفتح العين في الماضي والمضارع. ومثاله أيضًا قول بعضهم: قلى يقلى بفتح العين في الماضي والمضارع على غير قياس؛ لأن مضارع قلى المفتوح العين هو يقلي بكسر العين نحو: رمى يرمي، ومضارع قلي المكسور العين هو يقلَى بفتح العين، فتركبت من اللغتين لغة ثالثة. ومثاله أيضًا قول بعضهم: فضل يفضل بكسر العين في الماضي وضمها في المضارع، وهما لغتان تداخلتا؛ لأن من العرب من يقول: فضل يفضل بفتح

العين في الماضي وضمها في المضارع، ومنهم مَن يقول: فضل يفضل بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارع، فمن قال: فضل يفضل بكسر العين في الماضي وضمها في المضارع؛ فقد أخذ الماضي من لغة والمضارع من لغة أخرى. ومثال ما أخذ الوصف من لغة أخرى قول بعضهم: طهر فهو طاهر، وشعر فهو شاعر بضم العين في الفعلين: طهر وشعر، وجاء اسم الفاعل منهما على وزن فاعل، والأصل أن اسم الفاعل يكون على وزن فاعل من الثلاثي مفتوح العين أو مكسورها نحو: ضرب فهو ضارب، ولعب فهو لاعب. أما الثلاثي المضموم العين فاسم الفاعل منه على وزن فعيل نحو: كرم فهو كريم، وشرف فهو شريف. وقد بيَّن ابن جني أن سبب تداخل اللغتين هو أن أصحاب اللغتين قد تلاقيَا فسمع هذا لغةَ هذا، وسمع هذا لغة هذا؛ فأخذ كل واحد من صاحبه ما ضمَّه إلى لغته. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 8 الاحتجاج بكلام المولدين، وأول الشعراء المحدثين، والاحتجاج بكلام مجهول قائله، وقولهم: "حدثني الثقة"

الدرس: 8 الاحتجاج بكلام المولدين، وأول الشعراء المحدثين، والاحتجاج بكلام مجهول قائله، وقولهم: "حدثني الثقة"

حكم الاحتجاج بكلام المولدين.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثامن (الاحتجاج بكلام المولدين، وأول الشعراء المحدثين، والاحتجاج بكلام مجهول قائله، وقولهم: "حدثني الثقة") حكم الاحتجاج بكلام المولدين الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فالمولد هو: المحدث من كل شيء ومنه المولدون من الشعراء، سمُّوا بذلك لحدوثهم، وقد ذكر السيوطي في بداية هذا الفرع الإجماع على أن كلام المولدين لا يكون حجة؛ فقال: "أجمعوا على أنه لا يحتج بكلام المولدين والمحدثين في اللغة والعربية" انتهى. ولنا مع كلام السيوطي ثلاث وقفات: الأولى: لبيان المراد بمن أجمعوا على عدم الاحتجاج بكلام المولدين والمحدثين. والثانية: لبيان معنى عطف المحدثين على المولدين، وهل هما بمعنى واحد أم بمعنيين مختلفين؟. والثالثة: لبيان معنى عطف العربية على اللغة، وهل هما بمعنًى واحد أم بمعنيين مختلفين؟. أما قوله: "أجمعوا" فإن الذين أجمعوا على ذلك هم أئمة النحو والصرف واللغة، أما علماء المعاني والبيان والبديع فإنهم يستدلون بأشعار جميع أنواع الشعراء على اختلاف طبقاتهم؛ سواء أكانوا من القدماء أم من المحدثين. وأما قوله: "لا يحتج بكلام المولدين والمحدثين" ففيه عطف المحدثين على المولدين، والعطف يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه، وبناء على ذلك يكون المولدون غير المحدثين عند السيوطي. وقد ذكر العلامة عبد القادر البغدادي المتوفى سنة ألف وثلاث وتسعين من الهجرة أنهما بمعنًى واحد، فذكر أن شعراء الطبقة الرابعة هم المولدون وقال: "ويقال: لهم المحدثون" فطبقات الشعراء عنده أربعة طبقات.

الأولى: الشعراء الجاهليون، وهم الذين كانوا قبل الإسلام كعنترة وامرئ القيس والأعشى وغيرهم. والثانية: الشعراء المخضرمون، وهم الذين أدركوا الجاهلية والإسلام كلبيد بن ربيعة العامري وحسان بن ثابت. والثالثة: الشعراء الإسلاميون، ويقال لهم: المتقدمون، وهم الذين نشئوا في الإسلام كجرير والفرزدق. والرابعة: المولدون، ويقال لهم: المحدثون، وهم من بعدهم إلى زمننا هذا كبشار بن برد وأبي نواس. وذهب ابن الطيب الفاسي المتوفى سنة ألف ومائة وسبعين من الهجرة إلى أن المولدين هم الذين هم الذي جاءوا بعد الإسلاميين، وأما المحدثين هم الذين جاءوا بعدهم، وأما المتأخرين هم الذين جاءوا بعدهم من شعراء الحجاز والعراق. وهذا الذي ذكره ابن الطيب الفاسي لا فائدة فيه ولا ثمرة منه. وقد اتفق العلماء على صحة الاحتجاج بشعر الطبقتين الأولى والثانية من الطبقات الأربع، واختلفوا في الاحتجاج بشعر الطبقة الثالثة وهي طبقة الإسلاميين؛ فمنع أبو عمرو بن العلاء الاحتجاج بما جاء في أشعارهم، وقال عن جرير: "لقد أحسن هذا المولد حتى لقد هممت أن آمر صبياننا برواية شعره"، فوصف جريرًا بأنه مولد؛ لأن أبا عمرو لم يكن يحتجّ إلا بأشعار المتقدمين، يقول الأصمعي: "جلست إليه عشر حجج فما سمعته يحتج ببيت إسلامي"، وذهب غير أبي عمرو إلى جواز الاحتجاج بشعر هذه الطبقة الثالثة، وهو صحيح. أما الطبقة الرابعة -وهي طبقة المولدين أو المحدثين- فالصحيح أنه لا يجوز الاحتجاج بكلامها على اللغة والنحو والتصريف، وإلى هذا ذهب جمهور

العلماء، وخالف الزمخشري ومن تبعه فاحتجوا بأشعار المحدثين، وقد استشهد الزمخشري ببيت لأبي تمام عند تفسيره قوله تعالى: {وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} (البقرة: 20) فذكر أن الظاهر في الفعل أظلم أن يكون متعديًا، واستدل على تعديته بقراءة "أُظلم" على ما لم يُسمَّ فاعله، وبقول أبي تمام: هما أظلما حاليّ ثمّ تأجْليَا ... ظلاميهما عن وجهِ أمردَ أشيبا وحجته -أي: الزمخشري- في ذلك أن أبا تمام ليس كغيره من الشعراء المولدين، بل هو إمام في هذا الفن، عارف بمقاصده الغامضة، فكما أن العلماء كانوا يستشهدون بأبيات الحماسة التي رواها أبو تمام ثقة بروايته؛ فكذلك يجوز عند الزمخشري الاستشهاد بما يقول أبو تمام، وفي ذلك يقول الزمخشري في (الكشاف): "وهو -أي: أبو تمام- وإن كان محدثًا لا يستشهد بشعره في اللغة، فهو من علماء العربية، فاجعل ما يقوله بمنزلة ما يرويه، ألا ترى إلى قول العلماء الدليل عليه بيت الحماسة، فيقتنعون بذلك لوثوقهم بروايته وإتقانه" انتهى. ولم يرتضِ جمهور العلماء ما ذهب إليه الزمخشري من التسوية بين ما يقوله أبو تمام وما يرويه، بل ذهبوا إلى التفرقة بينهم وهو الصحيح؛ لأن الرواية مبنية على الضبط والوثوق، والقول مبنيّ على الدراية والإحاطة بأوضاع اللغة وقوانينها، وإتقان الرواية لا يلزم منه إتقان القول؛ لأنه جمع في الحماسة أشعار من يجوز الاستشهاد بأشعارهم، فمن أين يجب أن يكون ما استعمله في شعره مسموعًا ممن يُوثق به، أو مأخوذًا من استعمالهم. وقد خطأ النحاة واللغويون أبا تمام والمتنبي والبحتري وأضرابهم من الشعراء في أشياء كثيرة، ومما يُضعف ما ذهب إليه الزمخشري أن الإنسان قد يتساهل فيما ينطق به دون ما ينقله إذا كان عدلًا، وأنه لو فُتح هذا الباب؛ لجاز الاحتجاج

بكل ما وقع بشعر المحدثين، ومع ضعف ما ذهب إليه الزمخشري وجدنا من علماء العربية من يوافقه ويأخذ به، وهو العلامة الرضي الذي استشهد بشعر أبي تمام في عدَّة مواضع من (شرح كافية ابن الحاجب)، وبذلك يكون الزمخشري أوَّل من جوز الاحتجاج بشعر أبي تمام، فإن قيل: إن أبا علي الفارسي قد ذكر بيتًا لأبي تمام في كتابه (الإيضاح) وهو قوله: من كان مرعى عزمه وهمومه ... روض الأماني لم يزل مهمومًا وفيه دليل على أن الفارسي هو أول من استشهد بشعر أبي تمام؛ لأنه يسبق الزمخشري. أجيب بأن الفارسي لم يذكر هذا البيت على سبيل الاستشهاد به، وإنما ذكره على سبيل التمثيل، وقد أحسن ابن أبي الربيع إذ ذكر في شرحه على (الإيضاح) أن النحويين لهم أن يضعوا أمثلة من عندهم؛ لبيان ما تقرر عندهم من قوانين العربية، وقد رأى الفارسي أن يأتي بهذا البيت عوضًا من مثال من عنده؛ استحسانًا للفظه ومعناه، وكأنه قال: لو قلت: من كان همه بطنه لم يزل ممقوتًا؛ لجاز في بطنه الرفع والنصب. ونعود إلى تحليل كلام السيوطي، وإلى قوله: "في اللغة والعربية"، وفيه عطف العربية على اللغة، فهل هما متغايران، أم أن هذا العطف من قبيل عطف العام على الخاص؟ الظاهر أنهما متغايران، وأن المراد باللغة متنها، أي: متن اللغة، وهو معرفة الألفاظ المفردة، وأن المراد بالعربية التراكيب النحوية والتغايير الصرفية؛ فلا يُحتج فيها بكلام المولدين، وقد نبَّه بعض شراح (الاقتراح) على أن العروض والقوافي من العلوم العربية التي لا يُقبل فيها إلا كلام العرب بطبقاتهم، دون كلام المولدين. وفي كلام السيوطي احتراز عن علوم المعاني والبيان والبديع، فلم ير علماء هذه العلوم بأسًا في الاحتجاج بكلام المولدين على المعاني.

أول الشعراء المحدثين.

أول الشعراء الُمْحَدثين إن العلماء قد أجمعوا على جواز الاحتجاج بقول من يُوثق بفصاحته وسلامة عربيته، وقد قصروا الاحتجاج من حيث الزمان على أقوال عرب الجاهلية، وفصحاء الإسلام حتى منتصف القرن الثاني الهجري، ولم يقبلوا الاحتجاج بشعر من جاء بعد هذا التاريخ، ويجدر بنا أن ننقل كلام السيوطي كاملًا إذ قال -رحمه الله-: "أول الشعراء المحدثين بشار بن برد، وقد احتج سيبويه في كتابه ببعض شعره تقربًا إليه؛ لأنه كان هجاه لترك الاحتجاج بشعره" ذكره المرزباني وغيره، ونقل ثعلب عن الأصمعي قال: "خُتم الشعر بإبراهيم بن هرمة، وهو آخر الحجج" انتهى كلام السيوطي. وقد اشتمل هذا الكلام على ثلاثة أمور، وهي: أن أول الشعراء المحدثين هو بشار بن برد، وأن سيبويه قد احتج بشعره تقربًا إليه، وأن آخر الحجج هو إبراهيم بن هرمة، أي: آخر من يحتج بشعره، وبشار بن برد أصله من طخارستان من سبي المهلب بن أبي سفرة، وكنيته أبو معاذ، وهو عقيلي بالولاء نسبة إلى قبيلة عقيل بن كعب، وهو في أول مرتبة المحدثين من الشعراء المجيدين، وأحد مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية، وقد تُوفي سنة سبع وستين ومائة من الهجرة، ولا يجوز الاحتجاج بشعر بشار بن برد؛ لأنه من الشعراء المحدثين. وقد ذكر السيوطي أن سيبويه احتج في كتابه بشعر بشار تقربًا إليه وخوفًا من لسانه، وزعم أن هذا قول المرزباني، والحق أن المرزباني في كتابه (الموشح) قد ذكر قصة هجاء بشار لسيبويه، ولم يُشر إلى أن سيبويه احتج بشيء من شعر بشار. أما الذي كان يحتج بشعر بشار في كتبه فهو أبو الحسن الأخفش، ذكر أبو

الفرج الأصفهاني في كتابه (الأغاني) أن الأخفش بعد أن هجاه بشار كان يحتجُّ بشعره في كتبه ليبلغه ذلك فيكُفَّ عن ذكره بعد هذا بشر، فكَفَّ عن ذكره بعد هذا. وليس في كتاب سيبوبه ما يدل على استشهاد سيبويه بشعر لبشار، وإنما يمكن أن يكون سيبويه قد ذكر شعر بشار في بعض مجالسه من غير أن يقصد إلى الاحتجاج به، ولم يذكر شيئًا منه في كتابه يدل على ذلك قول أبو الفرج الأصفهاني في (الأغاني) عن سيبويه: "وكان إذا سُئل عن شيء فأجاب عنه، ووجد له شاهدًا من شعر بشار؛ احتج به استكفافًا لشره"، انتهى. استكفافًا: أي: طلبًا للكفّ. ولعل سيبويه لم يكن يقصد الاحتجاج، وإنما أراد التمثيل فقط، وإلى هذا أشار أبو العلاء المعري في (رسالة الغفران) فقال: "وذكر من نقل أخبار بشار أنه توعَّد سيبويه بالهجاء، وأنه تلافاه واستشهد بشعره، ويجوز أن يكون استشهاده به على نحو ما يذكره المتذاكرون في المجالس ومجامع القوم" انتهى. وتبقى الإشارة إلى أن كتاب سيبويه قد خلا من اسم بشار، كما خلا من شعره، ولا يوجد في كتاب سيبويه إلا بيت واحد زعم أصحاب بشار أنه من شعره، وهو قوله: فما كل ذي لُبّ بمؤتيك نصحه ... وما كل مؤتٍ نصحه بلبيب وقد ذكر سيبويه عجز هذا البيت في باب الإدغام في (الكتاب) ولم ينسبه إلى قائل، وأصحاب بشار يَرْوُون له هذا البيت. والصحيح أنه لأبي الأسود الدؤلي وهو مذكور في ديوانه، كما جاء في كثير من المصادر. وقد ختم السيوطي كلامه بقوله: "ونقل ثعلب عن الأصمعي قال: خُتم الشعر بإبراهيم بن هرمة" وهذا الرأي هو أحد آراء ثلاثة ذكرها الأصمعي فيمن يعد

حكم الاحتجاج بكلام مجهول قائله.

خاتمة الحجج، فتارة يذكر أنه الطرماح، وتارة يذكر أنه ابن هرمة، وتارة يذكر أنه بشار بن برد، والطرماح بكسر الطاء والراء المهملتين وتشديد الميم وآخره حاء مهملة، ووزنه فعمّال، أو فعلَّان من قولهم: طرمح البناء وغيره أي: علاه ورفعه، وهو طرماح بن حكيم الطائي شاعر إسلامي في الدولة المروانية، ومولده ومنشأه في الشام، ثم انتقل إلى الكوفة مع من وردها من جيوش الشام. أما إبراهيم بن هرمة: فهو إبراهيم بن علي بن سلمة بن عامر بن هرمة، وهو من مخضرمي الدولتين، مدح الوليد بن يزيد، ثم أبا جعفر المنصور، وكان مولده سنة سبعين، ووفاته في خلافة الرشيد بعد الخمسين ومائة تقريبًا. حكم الاحتجاج بكلامٍ مجهولٍ قائلُه لقد استقرَّ عند النحاة أنه لا يجوز الاحتجاج بكلام المولدين ومن لا يُوثق بفصاحتهم، وقد ترتَّب على هذا الأصل عندهم عدم الاحتجاج بكلام لا يُعلم قائله؛ خوف أن يكون من كلام من لا يحتج بكلامه، وقد صدر السيوطي هذا الفرع بقوله: "لا يجوز الاحتجاج بشعر أو نثر لا يُعرف قائله" صرَّح بذلك ابن الأنباري في (الإنصاف)، فنسب السيوطي هذه القاعدة إلى أبي البركات الأنباري، ولم يكن الأنباري المتوفى سنة سبع وسبعين وخمسمائة من الهجرة هو أول من صرَّح بعدم الاحتجاج بكلام مجهول قائله، وإنما سبقه إلى ذلك أبو عثمان المازني المتوفى سنة تسع وأربعين ومائتين من الهجرة، الذي سُئل عن لفظ "السكين" أمذكر أم مؤنث؟ فقال: إنه مذكر فأنشده السائل قول الشاعر: ............................... ... بسكين موثقة النصاب

فوصف لفظ "السكين" بالمؤنث فدلَّ على تأنيثه؛ فقال أبو عثمان: "من هذا؟ وما صاحبه؟ وأين صاحبه من أبي ذؤيب حين قال: ...................... ... فذلك سكين على الحلق حاذق فقد ردَّ المازني القول بأن السكين مؤنث؛ لأنه قول لا يُعلم قائله، وصار على دربه تلميذه المبرد المتوفى سنة خمس وثمانين ومائتين من الهجرة في كتابه (المقتضب)؛ إذ منع إضمار اللام الجازمة للمضارع في شعر أو نثر، وأما قول الشاعر: محمد تفدي نفسك كل نفس ... إذا ما خفت من أمر تبالى أي: هلاكًا، فلم يرتضِ المبرد تخريجه على إضمار اللام، أي: على أن يكون التقدير: لتفدي نفسك كل نفس، وحجته في ذلك عدم العلم بقائله، فقال معلقًا على هذا البيت في (المقتضب): "وأما هذا البيت الأخير فغير معروف" انتهى. ولم يذكر السيوطي شيئًا من كلام المازني ولا من كلام المبرد، وإنما اعتمد على ما ذكره أبو البركات لأمرين: الأول: أنه ذكر في مقدمة (الاقتراح) أنه أخذ من (الإنصاف) حين قال: "وضممت إليه من كتابه (الإنصاف) في مباحث الخلاف جملة". والآخر: أن أبا البركات الأنباري قد ذكر هذه القاعدة في عديد من المواضع من كتابه (الإنصاف في مسائل الخلاف)، وهو يرد على الكوفيين احتجاجهم بما لا يُعرف قائله. ومن هذه المواضع ما جاء في مسألة إضافة النيف إلى العشرة، فقد أجازها الكوفيون، والنيف كل ما زاد على العقد فهو نيف حتى يبلغ العقد الثاني كما في (الصحاح) و (القاموس)، واحتج الكوفيون بقول الشاعر:

كُلف من عنائه وشقوته ... بنت ثماني عشرة من حجته وموضع الشاهد قوله: "بنت ثماني عشرة"؛ حيث أضاف الشاعر لفظ النيف وهو "ثماني" إلى العشرة، فلم يجد الأنباري في هذا البيت حجة للكوفيين؛ فقال في (الإنصاف): "أما ما أنشدوه -أي: الكوفيون- فلا يُعرف قائله، ولا يُؤخذ به"، ومما ردَّه لعدم العلم بقائله أيضًا ما جاء في مسألة توكيد النكرة توكيدًا معنويًّا؛ إذ ذهب الكوفيون إلى جوازه مستدلين بعدة أبيات من الشعر، منها قول الراجز: قد صرتِ البكرةُ يوما أجمعا فأكد يومًا بأجمع، فاستدلَّ الكوفيون به على جوازه، وردَّه الأنباري بقوله في (الإنصاف): "هذا البيت مجهول لا يعرف قائله فلا يجوز الاحتجاج به". ومن ذلك أيضًا: ما جاء في مسألة إظهار أن المصدرية بعد كي، فقد ذهب الكوفيون إلى جوازه محتجين بقول الشاعر: أردت لكيما أن تطير بقربتي ... فتتركها شنًّا ببيداء بلقع فقد ظهرت أن المصدرية بعد كي، وردَّه الأنباري بقوله في (الإنصاف): "هذا البيت غير معروف، ولا يُعرف قائله؛ فلا يكون فيه حجة". ومما ردَّه لعدم العلم بقائله كذلك ما جاء في مسألة مد المقصور في الشعر، فلقد ذهب الكوفيون إلى جوازه مستدلين بقول الراجز: قد علمت أم أبي السعلاء ... وعلمت ذاك مع الجراء أن نعم مأكولًا على الخواء ... يا لك من تمر ومن شيشاء ينشب في المسعل واللهاء ... ....................... والسعلاء -بكسر السين وسكون العين- أصله: السعلاة، والخواء واللهاء كلها مقصورة في الأصل؛ إنما مُدَّت لضرورة الشعر؛ فجاز عند الكوفيين لذلك مد

المقصور للضرورة مستشهدين بهذا الرجز، ولم يرتض ذلك أبو البركات الأبناري؛ فقال في كتابه (الإنصاف): "أما قول الشاعر: قد علمت أم أبي السعلاء ... ........................... ... الأبيات إلى آخرها، فلا حجة فيها؛ لأنها لا تُعرف ولا يُعرف قائلها، ولا يجوز الاحتجاج بها، ولو كانت صحيحة لتأوَّلناها على غير الوجه الذي صاروا إليه" انتهى. وهكذا تعدَّدت الأبيات التي يردُّ أبو البركات الأنباري الاحتجاج بها، لماذا؟ لأنها مجهولة القائل، وقد ذكر السيوطي أن أبا البركات الأنباري قد ردَّ على الكوفيون استشهادهم بقول القائل: ................................... ... ولكنني من حبها لعميد على جواز دخول اللام في خبر لكن لعدم العلم به، ونقل عنه أنه قال عن هذا البيت: "هذا البيت لا يُعرف قائله، ولا أوله، ولم يذكر منه إلا هذا، ولم يُنشده أحد ممن وثق في اللغة، ولا عزي إلى مشهور بالضبط والإتقان" انتهى. والحق أن أبا البركات قد علَّق على هذا البيت، أو على هذا الجزء من البيت بقوله في (الإنصاف): "هو شاذّ لا يُؤخذ به لقلته، وشذوذه، ولهذا لا يكاد يُعرف له نظير في كلام العرب وأشعارهم" انتهى. ومن كلام الأنباري يُفهم أنه ردَّ الاستشهاد بهذا البيت لا لعدم العلم به فحسب، كما ذكر السيوطي، وإنما ردَّ الاستشهاد به؛ لأنه أيضًا شاذّ لا يُقاس عليه. وقد ذهب بعض الدارسين المحدثين إلى أن هذا الأصل كان مضطربًا في ذهن أبي البركات الأنباري؛ لأنه وضع في أصول النحو كتابين وهما: (لمع الأدلة)، و (الإغراب في جدل الإعراب)، ولم يشر إلى هذا الأصل فيما ضمنه الكتابين من أصول.

وهذا يدل على أن ما فعله في كتاب (الإنصاف) لم يكن غير استجابة لطبيعة الجدل والمناظرة، واضطرب المتأخرون في فهم هذا الأصل واعتمده، فابن هشام الأنصاري المتوفى سنة إحدى وستين وسبعمائة من الهجرة يذكر في تعاليقه على الألفية، كما ذكر السيوطي أنه لا يجوز الاحتجاج بكلام مجهول قائله، ويردُّ على الكوفيين استدلالهم بالأبيات الخمسة المجهولة القائل السابقة على جواز مد المقصور في الشعر، ويقول: "الجواب عندنا أنه لا يُعلم قائله فلا حجة فيه"، ثم يستنكر رفض الاحتجاج بالبيت المجهول قائله فيقول -يعني في شرحه المختصر لشواهد الألفية الشعرية المسمى (تخليص الشواهد وتلخيص والفوائد) -: طعن عبد الواحد الطواح في كتابه (بغية الآمل ومنية السائل) في الاستشهاد بقوله: ........................... ... لا تكثرن إني عسيت صائمًا وقال: "هو بيت مجهول لم ينسبه الشراح إلى أحد، فسقط الاحتجاج به، ولو صح ما قاله لسقط الاحتجاج بخمسين بيتًا من كتاب سيبويه، فإن فيه ألف بيت قد عُرف قائلوها وخمسين مجهولة القائلين" انتهى كلام ابن هشام. وهذا الاضطراب الذي وقع فيه ابن هشام يدل على ضعف هذا الأصل عنده، كما يدل على ضعفه أيضًا أن النحاة القدامى كانوا يستدلون بأقوال أعراب مجهولين لا يسمونهم، وينقلون عنهم أقوالًا نثرية، ولم يعترض ذلك معترض من النحاة. ولا بد من الإشارة إلى أن العلماء كانوا يقبلون ما يذكره الثقة من النحاة كسيبويه، فإنهم قبلوا ما جاء في كتابه وإن لم يعلموا قائله؛ اعتمادًا على أنه ثقة، وفي ذلك يقول البغدادي في (خزانة الأدب الجزء): "الشاهد المجهول قائله وتتمته إن صدر عن ثقة يعتمد عليه؛ قبل، وإلا فلا، ولهذا كانت أبيات سيبويه أصح الشواهد، اعتمد عليها خلف بعد سلف، مع أن فيها أبيات عديدة جهل قائلوها وما عيب بها ناقلوها" انتهى.

ونعود إلى كلام ابن هشام حول قضية الأبيات الخمسين في كتاب سيبويه، فنذكر أن أول من أشار إليها هو أبو عمر الجرمي المتوفى سنة خمس وعشرين ومائتين من الهجرة في قوله: "نظرت في كتاب سيبويه فإذا فيه ألف وخمسون بيتًا، فأما الألف فقد عرفت أسماء قائليها فأثبتها، وأما الخمسون فلم أعرف أسماء قائليها" انتهى. وقال أبو جعفر النحاس في (مقدمة شرح أبيات سيبويه): "جملة أبيات كتاب سيبويه ألف وخمسون بيتًا منها خمسون غير معروفة" انتهى. وينبغي أن نفرق بين أمرين: الجهل بالقائل، وعدم نسبة البيت إلى قائل معين، فإن سيبويه لم يكن يحرص على نسبة لجميع الأبيات إلى قائليها؛ لأنه كان واثقًا من صدق الذين أخذها عنهم، وكان واثقًا أيضًا من دقتهم وتثبتهم، فذكر كثيرًا من الشواهد دون اعتداد بذكر قائليها، وقد بلغ عدد الشواهد المنسوبة في (الكتاب) إلى قائليها سبعمائة وتسعة وثلاثين شاهدًا نصَّ فيها سيبويه على اسم الشاعر، كما أن سيبويه استشهد بأبيات أخرى لم يذكر أسماء الشعراء فيها، وإنما ذكر أسماء القبائل التي يُنسب إليها هؤلاء الشعراء، وعدد هذا القسم من الشواهد يبلغ سبعة وأربعين شاهدًا. وإذا صح ما روي عن أبي عمر الجرمي كان المراد منه أن في الكتاب خمسين بيتًا قد جهل الجرمي نسبتها إلى قائليها، ولا يلزم منه أن يكون في الكتاب خمسون بيتًا يسقط الاحتجاج بها؛ لأن الواجب كون الشاهد معروف القائل حال الاستشهاد به، وطروُّ الجهالة بقائله بعد ذلك لا يضر في ثبوت ما ثبت به حال معرفته، فسيبويه ما استدلَّ إلا بما كان معروفًا مشهور القائل في ذلك الوقت، وما قامت حجته على مخالفيه بتلك الشواهد إلا وهي معروفة القائلين لديهم، مشهورة فيما بينهم.

هل يقبل قول القائل: "حدثني الثقة"؟.

وقد قال أحد الباحثين المعاصرين: "المتصفح لكتاب سيبويه يلاحظ أن معظم شواهد الشعر فيه كانت معروفة لدى شيوخ سيبويه، وبخاصة الخليل بن أحمد ويونس بن حبيب، ويبدو أن تلك الشواهد كانت متداولة في مجالس العلم حيث ذاك، والظاهر أن سيبويه كان لا يترك شاهدًا سمعه من شاعر، أو من راوٍ، أو من عالم، أو من طالب علم دون أن يعرض ذلك الشاهد على من يثق به من العلماء، وبخاصة شيخاه الخليل ويونس، فعدد كبير من الشواهد التي لا ينصّ سيبويه صراحة على سماعه لها من العرب، أو من أحد العلماء نجده يعرضها من خلال رأي لأحد العلماء بصورة تدل دلالة قاطعة على أن هذا العالم، أو ذاك كان على معرفة بتلك الشواهد ورواياتها، وما يدور حولها من مشكلات لغوية". هل يُقبل قولُ القائل: "حدثني الثقة"؟ إن اللغة تؤخذ سماعًا من الرواة الثقات ذوي الصدق والأمانة، والأصل في الكلام أن يكون معزوًّا إلى قائله منسوبًا إليه باسمه، وقد يُعدل عن هذا الأصل فيقول النحوي أو اللغوي: حدثني ثقة. ولا يذكر اسمه. وقد اختلف في حكمه؛ فقيل: يقبل قوله، وقيل: لا يقبل، وقد وقع هذا القول كثيرًا من سيبويه في كتابه، فكان يقول: حدثني ثقة. يريد به شيخه الخليل وغيره. وقد ذكر السيوطي في كتابه (المزهر) نماذج مما قال فيه النحوي: حدثني ثقة؛ منها قول أبي زيد: "كل ما قال سيبويه في كتابه حدثني ثقة فأنا أخبرته"، ومنها قول أبي زيد أيضًا: "كان سيبويه يأتي مجلسي فإذا سمعته يقول: وحدثني من أثق بعربيته، فإنما يريدني"، ومنها أيضًا ما رواه ثعلب في أماليه قال: "كان يونس يقول: حدثني الثقة عن العرب، فقيل له: من الثقة؟ قال: أبو زيد، قيل: فلم لا تسميه؟ قال: هو حي بعدُ فأنا لا أسميه" انتهى. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 9 طرح الشاذ، متى يكون التأويل سائغا؟ والاحتمال يسقط الاستدلال، ورواية الأبيات بأوجه مختلفة

الدرس: 9 طرح الشاذ، متى يكون التأويل سائغا؟ والاحتمال يسقط الاستدلال، ورواية الأبيات بأوجه مختلفة

طرح الشاذ، وعدم الاهتمام به.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس التاسع (طرح الشاذ، متى يكون التأويل سائغًا؟ والاحتمال يسقط الاستدلال، ورواية الأبيات بأوجه مختلفة) طرح الشاذ، وعدم الاهتمام به الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فالشَّاذ في اللغة: مأخوذ من شَذَذَ، وأصل هذه المادة هو الانفراد والتفرق يقال: شذَّ الرجل إذا انفرد عن أصحابه، ويقال: شُذَّاذ الناس أي: متفرقوهم، ويُطلق الشاذ في اصطلاح العلماء على ما فارق ما عليه بابه، وانفرد عن ذلك إلى غيره كما يطلق على ما خالف القياس، أو خرج عن القواعد النحوية أو الصرفية. وقد بين السيوطي حكم الشاذ فقال: "يُطرح طرحًا ولا يُهتم بتأويله" انتهى. فقوله: "يطرح طرحًا" معناه: يلغى ويرمى ولا يلتفت إليه؛ لأنه من سخط المتاع. وقوله: "ولا يهتم بتأويله" معناه: لا يعتنى بشأنه، ولا ينظر إليه؛ لأنه خرج عن الأصول المجمع عليها، ومعنى كلام السيوطي: أن الشاذ لا يجوز القياس عليه وما ذكره السيوطي هو مذهب جمهور البصريين؛ إذ ذهبوا إلى أن الشّاذ يُطرح ولا يُقاس عليه، ولا تنقض به القواعد المطردة، يقول سيبويه في (الكتاب): "لا ينبغي لك أن تقيس على الشاذ المنكر". ويقول ابن السراج في (الأصول): "ينبغي أن تعلم أن القياس إذا اطرد في جميع الباب لم يُعنَى بالحرف الذي يشذّ منه". ويقول الزجاجي في (الإيضاح في علل النحو): "إن الشيء إذا اطرد عليه باب فصح في القياس، وقام في المعقول، ثم اعترض عليه شيء شاذّ نذر قليل لعلَّة تلحقه، لم يكن ذلك مبطلًا للأصل والمتفق عليه في القياس المطرد". ويقول أبو البركات الأنباري في (لمع الأدلة): "الشواذ لا تُورد نقدًا على القواعد المطردة، ألا ترى أن الأصل في كل واو تحركت وانفتح ما قبلها أن تُقلب ألفًا نحو: باب، ودار، وعصًا، وقفًا. والأصل فيه: بوب ودور وعصو وقفو، فلما تحركت الواو وانفتح ما قبلها؛ قُلبت ألفًا، ولا يجوز أن يُورد القَوَد والحَوَكة نقدًا لشذوذه في بابه". انتهى.

والمراد بالقود القصاص، والمراد بالحوكة جمع حائك، وهو الذي ينسج الثياب، وقد ذكر السيوطي في موضع آخر من (الاقتراح) من شروط المقيس عليه: ألا يكون شاذًّا خارجًا عن سنن القياس، فإن كان كذلك لم يجز القياس عليه. وإنما لم يجز القياس على الشَّاذ؛ لأنه لو قيس عليه لكثر الشذوذ، واضطربت القواعد. ومن الشاذ الذي يجب طرحه، ولا يُجوز أن يقاس عليه نُدبة الأسماء الموصولة، فقد استدل الكوفيون على جواز ندبة الأسماء الموصولة بما حَكَوه من قولهم: "وامَن حفر بئر زمزماه" وردَّه الأنباري في (الإنصاف): "لأنه من الشاذ الذي لا يُقاس عليه". ومن الشاذ الذي يجب طرحه إضافة لبي إلى الاسم الظاهر في قول الراجز: دعوت لما نابني مسورًا ... فلبَّى فلَبَّي يدي مسور أو إضافته إلى ضمير الغائب في قول الآخر: "لقلت لبيه لمن يدعوني"؛ إذ الأصل في لبَّي أن يلزم الأضافة إلى ضمير المخاطب بأن يقال: لبيك. ومما يجب طرحه أيضًا لشذوذه بناء أفعل التفضيل من الألوان كما في قول الراجز: يا ليتني مثلك في البياض ... أبيض من أخت بني أباض فقد استدلَّ به الكوفيون على جواز التفضيل من لفظ البياض، وردَّه ابن السراج بقوله: "هذا معمول على فساد، وليس البيت الشاذ، والكلام المحفوظ بأدنى إسناد حجة على الأصل المجتمع عليه في كلام، ولا نحو، ولا فقه، وإنما يركن إلى هذا ضَعَفَة أهل النحو، ومن لا حجة معه، وتأويل هذا وما أشبهه في الإعراب كتأويل ضَعَفة أهل الحديث، وأتباع القصاص في الفقه". انتهى. ونلحظ في كلام ابن السراج -الذي نقله السيوطي-: أنه يصف مَن يقيس على الشاذ بالضعف في العربية، وقوله: "وتأويل هذا" الإشارة فيه لمن ذكر من ضَعَفة

متى يكون التأويل مستساغا، ومتى لا يكون؟.

أهل النحو، والمعنى: تأويل الضعيف في العربية السالك هذه المسالك الخارجة عن الأصول كتأويل ضَعَفة أهل الحديث، وأتباع القُصَّاص الذين يذكرون الأخبار الماضية، ويحكون عن القرون السابقة والأمم الهالكة، دون الاعتماد على السند الصحيح، فكما تُطرح الأحاديثُ التي لا تعتمد على سند قوي يُطرح ما انفرد عن بابه من الكلام. متى يكون التأويل مستساغًا، ومتى لا يكون؟ لقد وصلت إلينا نصوص عربية فصيحة مخالفة للأقيسة والقواعد التي وضعها النحويون، وقد نظر النحويون في هذه النصوص المخالفة للأقيسة، وحرصوا على توجيهها توجيهًا يتفق مع القواعد، وقد عُرف هذا باسم التأويل. فالتأويل كما عرَّفه أحد الباحثين المعاصرين: هو النظر فيما نُقل من فصيح الكلام مخالفًا للأقيسة والقواعد المستنبطة من النصوص الصحيحة، والعمل على تخريجها وتوجيهها لتوافق هذه الأقيسة والقواعد، على ألا يؤدِّي هذا التوجيه إلى تغير القواعد، أو زحزحة صحتها واطرادها. وإذا كان النحاة قد اتخذوا التأويل منهجًا في تعاملهم مع النصوص التي وصلت إلينا مخالفة لأقيستهم؛ فليس كل ما خالف الأقيسة يجوز تأويلُه، وإنما وضع العلماء ضابطًا لِمَا يجوز تأويله ولما لا يجوز، فقال أبو حيان: "التأويل إنما يسوغ إذا كانت الجادَّة على شيء، ثم جاء شيء يخالف الجادة، فيُتؤل". والمراد بالجادة: معظم الطريق، أو الطريقة المسلوكة الواضحة، ومعنى ما قاله أبو حيان ونقله السيوطي: أنه إذا كانت الطريقة التي يسلكها المتكلمون الفصحاء قد جاءت على شيء ثم جاء ما يُخالفها؛ ساغ تأويل هذا المخالف؛ لأنه لا يمكن ردُّه.

ولم يذكر السيوطي مثالًا لما جاءت به الطريقة المسلوكة ثم جاء ما يخالفها، ومثال ذلك: تنكير الحال، فالجادة أن يكون الحال نكرة؛ لأنه خبر من الأخبار، فألزموه التنكير؛ لئلا يُتوهَّم كونه نعتًا لا حالًا؛ ولأن الحال فضلة فلم يستحق أن يُعرف؛ إذ لا فائدة لتعريفه، وقد جاء ما يخالف هذه الجادة، فورد الحال معرفةً في قوله تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ} (الزمر: 45) ونحو قولهم: ادخلوا الأول فالأول، ونحو: أرسلها العراك. فلما كانت الحال معرفة فيما سبق وهو مخالف لأقيسة النحويين؛ وجب تأويلها بالنكرة، ففي قوله تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ} (الزمر: 45) يكون التأويل: وإذا ذُكر الله منفردًا، وقولهم: ادخلوا الأول فالأول، على تأويل: ادخلوا مرتبين، وقولهم: أرسلها العراك على تأويل: أرسلها معتركة أي: أرسل الإبل، أو الخيل، أو الأُتُن للشرب مزدحمة على الماء. وإنما ساغ تأويل في هذه الأمثلة ونحوها؛ لأنه لا يمكن ردُّها لورودها عن الفصيح المحتج بكلامه، ولا يجوز نقدُ القواعد بها؛ لأن القواعد لا تُنقد بمجرَّد ما يُسمع، وقد يكون الشيء المخالف للجادة لغة لقوم من العرب، وله حينئذٍ حكم آخر بيَّنه أبو حيان بقوله: "أما إذا كان لغة طائفة من العرب لم تتكلم إلا بها، فلا تأويلَ" انتهى. فقوله: "إذا كان" يريد به إذا كان ما ثبت عن العرب، وكان مخالفًا للقواعد؛ فلا يجوز تأويله. هذا هو الحكم الذي ذكره أبو حيان، ونقله عنه السيوطي، وهو حكم عام في جميع ما خالف الجادة، وكان لغة لطائفة من العرب. والتحقيق: أنه إذا كان الكلام المخالف للجادة لغةً لطائفة من العرب؛ فله حكمان بالنظر إلى مَن سُمع منه، فإن سُمع مِن أصحاب هذه اللغة لم يجز تأويله، وإن سمع من غيرهم جاز تأويله.

ومن الأمثلة الدالة على هذا الأمر: ما جاء في لغة المطابقة بين الفعل والفاعل إفرادًا وتثنيةً وجمعًا، فمن المعروف أن اللغة الشائعة عند العرب هي إفراد الفعل دائمًا حتى ولو كان الفاعل مثنًى أو مجموعًا، وهي اللغة العالية التي نزل بها القرآن قال تعالى: {قَالَ رَجُلَانِ} (المائدة: 23)، وقال سبحانه: {فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا} (الإسراء: 99)، ونقل العلماء عن طائفة من العرب أنهم يطابقون بين الفعل وفاعله في العدد، فيثنُّون الفعل إذا كان الفاعل مثنًى، ويجمعون الفعل إذا كان الفاعل جمعًا، ونُسبت هذه اللغة إلى طيئ وأزدشنوءة وغيرهما، فيقولون: ضرباني أخواك، وضربوني قومك. وقد ذكر العلماء في تخريج ما جاء على هذه اللغة ثلاثة أقول؛ وهي: أن تكون الألف علامة للتثنية والواو علامة للجمع، فهما حرفان، ويكون الاسم الظاهر بعدهما هو الفاعل. والقول الثاني: أن تكون الألف فاعلًا وكذلك الواو، والاسم الظاهر بعدهما يُعرب بدلًا منهما. والثالث: أن تكون الألف فاعلًا وكذلك الواو، والجملة خبرًا مقدمًا، والاسم الظاهر بعدهما يكون مبتدأً مؤخرًا. فالتخريج الأول لا تأويل فيه، والتخريجان الأخيران فيهما تأويل. وقد وصف ابن مالك في (شرح التسهيل) تأويل ما جاء على هذه اللغة بأنه غير ممتنع إن كان من سُمع ذلك منه من أهل غير اللغة المذكورة، فإن ورد شيء من هذه اللغة على ألسنة الناطقين بها؛ لم يجز تأويله، بل تكون الألف علامةَ تثنية

في نحو: ضربان أخواك، وتكون الواو علامة جمع في نحو: ضربوني قومك، وإلى هذا أشار سيبويه بقوله في (الكتاب): "واعلم أن من العرب من يقول: ضربوني قومك، وضرباني أخواك؛ فشبهوا هذا بالتاء التي يُظهرونها في: قالت فلانة، وكأنهم أرادوا أن يجعلوا للجمع علامةً كما جعلوا للمؤنث". انتهى. وواضح مما ذكره سيبويه أنه لم يؤوّل ما جاء على هذه اللغة؛ لأنها لغة لقوم مخصوصين من العرب، وقد بين ذلك الدسوقي في (حاشيته على المغني) فقال: "إن تواطؤ أهل هذه اللغة على الإتيان بالواو والألف يُبعد جعلهم لها فاعلات، بل الغرض إنما أرادوا العلامات". انتهى. ونخلص مما سبق إلى أن ما كان لغة لقوم من العرب لا يجوز تأويله، ومما لا يجوز تأويله فيه؛ لأنه لغة لبعض العرب قولهم: ليس الطيب إلا المسك، بالرفع، فإن لغة الحجازيين نصب الخبر ولغة بني تميم رفعه؛ لأنهم يجرون "ليس" مجرى "ما"، فيهملونها إذا انتقد النفي بـ"إلا"، كما تُهمل ما في نحو قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ} (آل عمران: 144)، ولما كان رفع لغة لبعض العرب قال جمهور النحويين: الطيب مبتدأ والمسك خبره، بلا تأويل، وخالف في ذلك بعض النحاة، منهم أبو عليٍّ الفارسي وابنُ مالك، فذهبوا إلى التأويل. وحاصل ما ذكروه من أوجه في تأويل هذا القول أربعة أوجه: أولها: أن يكون في ليس ضمير الشأن، و"الطيب" مبتدأ، و"المسك" الخبر، وتقدر "إلا" حينئذٍ داخلة على الجملة، فيكون التقدير: ليس إلا الطيب المسك. وثانيها: أن يكون "الطيبُ" اسمَ ليس، والخبرُ محذوفًا، و"إلا المسك" بدل منه، والتقدير: ليس الطيب في الوجود إلا المسك. والثالث: أن يكون "الطيب" اسم ليس، و"إلا المسك" نعت له، والخبر محذوفًا. والتقدير: ليس الطيب الذي هو غير المسك طيبًا في الوجود.

الاحتمال يسقط الاستدلال.

والرابع: أن يكون "الطيب" اسم ليس، و"المسك" مبتدأً، وخبره محذوف، والتقدير: ليس الطيب إلا المسك أفخره، والجملة في موضع خبر ليس. وهذه التأويلات كلها مردودة والذي يردُّها ويبطلها ما نقله أبو عمرو بن العلاء، من أن الرفع لغة لقوم من العرب، إذ قال: "ليس في الأرض حجازي إلا وهو ينصب، ولا تميمي إلا وهو يرفع، فما جاء لغةً لبعض العرب كان التأويل فيه غير مستساغ". الاحتمالُ يسقط الاستدلال إن الدليل هو ما يُستدلُّ به على إثبات قاعدة ما، والمراد به هنا الشواهد السماعية التي يذكرها النحاة دليلًا على صحة القواعد التي يقعدونها، والمذاهب التي ينتمون إليها. وقد حرص النحاة على أن يذكروا لكل قاعدة دليلًا من الكلام الفصيح؛ تأييدًا لها، ويُشترط في الشاهد شروط متعددة؛ منها: أن يكون البيت معلومَ القائل أو مرويًّا عن ثقة كسيبويه، وأن يكون قائله من الذين يُحتج بكلامهم، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك. ومنها: أن يكون البيت نصًّا في القاعدة لا يحتمل وجهًا آخرَ، فإن احتمل البيت وجهًا آخر كان الاستدلال به ساقطًا. وقد نقل السيوطي عن أبي حيان قوله: "إذا دخل الدليل الاحتمال سقط به الاستدلال". والمعنى: أن النحوي إذا استدلَّ بشاهد ما على قاعدة ما نُظر في هذا الشاهد، فإن كان لا يحتمل إلا الوجهَ الذي من أجله ساقه هذا النحوي؛ كان دليلًا مقبولًا يصح الاستشهاد به، وإن كان يحتمل الوجه الذي من أجله ساقه النحوي ويحتمل غيره؛ كان الاستدلال به

ساقطًا غيرَ مقبول؛ لأن الاحتمال إذا دخل دليلًا من الأدلة أكسبه ثوب الإجمال، فأضعفه عن مقام الاستدلال، كما ذكر شُرَّاح (الاقتراح). وتُعَدّ هذه القاعدة من أكثر القواعد التي يستخدمها النحاة في الرَّدِّ على ما لا يرتضونه من الآراء والأقوال. والأمثلة على استخدام هذه القاعدة كثيرة جدًّا، وهي مبثوثة في كتب العربية، ونكتفي هنا بذكر أربعة أمثلة ذكر السيوطي أحدها في (الاقتراح): المثال الأول: ذكر العلماء من اللغات في الأخ لغة القصر، والمراد بها إلزامه الألف دائمًا في حالات الرفع والنصب والجر، فيقال: هذا أخاك، ورأيت أخاك، ومررت بأخاك، ومنه قولهم: مُكره أخاك لا بطل. والقياس أن يكون بالواو، وما قاله العلماء في هذا الشأن مسلَّم؛ فالقصر إحدى اللغات الثلاث الواردة في الأخ من الأسماء الستة، وقد أراد ابن مالك الاستدلال على هذه اللغة، فاستدل بقول الشاعر: أخاك الذي إن تَدْعُهُ لِمُلِمَّة ... يجبك بما تبغي ويكفيك من يبغي والظاهر وجه استدلال ابن مالك بالبيت وقوع أخاك فيه مبتدأ، ومجيؤه على لغة القصر بالألف، وما ذكره ابن مالك من كونه في البيت المذكور مبتدأً على لغة القصر لا يتعيَّن؛ لأنه يمكن أن يكون جاريًا على اللغة الفاشية، وأن يكون منصوبًا بإضمار فعل، والتقدير: الزم أخاك يعني: أنه أسلوب إغراء، ولذلك أسقط أبو حيان هذا الدليل فقال: "ولا دليل فيه؛ لأنه يحتمل أن يجوز أن يكون منصوبًا بإضمار فعل والتقدير: الزم أخاك، وإذا دخل الدليل الاحتمال سقط به الاستدلال". انتهى. والمثال الثاني ذهب جمهور النحويين إلى أن اسم الفعل لا يجوز أن يتقدَّم معموله عليه، فلا يقال: زيدًا عليك، وإن جاز أن يتقدَّم معمول الفعل عليه فيقال: زيدًا

الزم؛ لأن اسم الفاعل فرع عن الفعل في العمل، والفروع أبدًا تنحطُّ عن درجات الأصول، وزعم بعضهم جواز ذلك مستدلِّين بقول الشاعر: يا أيها المائح دلوي دونك ... إني رأيت الناس يحمدونك المائح: هو الذي ينزل البئر عند قلَّة مائها؛ ليملأ منها الإناء، ووجه الاستدلال بالبيت إعراب دلوي معمولًا لاسم الفعل دونك، وقد تقدَّم المعمول عليه مما يدلّ على جواز أن يتقدم معمول اسم الفعل عليه، لكن الجمهور أبطلوا الاستدلال بهذا البيت على ذلك لماذا؟ لأنه ليس نصًّا في جواز إعمال اسم الفاعل متأخرًا؛ إذ إنه يحتمل أوجهًا أخرى غير الوجه الذي ذكره المستدلّ به، فيحتمل أن يجوز أن يكون دلوي: مبتدأ، ودونك: يكون اسم فعل فاعله مستتر فيه وجوبًا، والجملة في محل رفع خبر، ووقوع الخبر جملة طلبية سائغ، ويحتمل أن يكون خبرًا لمبتدأ محذوف، والتقدير: هذه دلوي، ويحتمل أن يكون معمولًا لفعل محذوف، والتقدير: خذ دلوي. فلما كان البيت محتملًا هذه الأوجه الظاهرة؛ لم يكن فيه دليل على أن معمول اسم الفعل يتقدم عليه. والمثال الثالث: ذهب جمهور النحويين إلى أنه لا يجوز إبدال الظاهر من ضمير الحاضر، وخالف الأخفش في ذلك، فأجاز أن يُبدَل الظاهر من ضمير الحاضر مستدلًّا بقول الشاعر: أنا سيف العشيرة فاعرفوني ... حميدًا قد تدرجت السنام فأعرب حُميدًا بدلًا من الياء في: فاعرفوني، ولا حجة في البيت؛ لاحتمال أن يكون "حُميدًا" منصوبًا بإضمار فعل على المدح، كأنه قال: أعني حميدًا، أو أمدحُ حميدًا. وتدرجت السنام: بمعنى: علوت السنام، وهو من الذروة -أو الذروة بالكسر والضم-.

رواية الأبيات بأوجه مختلفة.

والمثال الرابع: ذهب جمهور النحويين إلى أنه لا يجوز استعمال أسماء الإشارة موصولات، وخالف في ذلك الفرَّاء وبعض البصريين، فأجازوا استعمالها موصولات مستدلِّين بقول القائل: عدس ما لعباد عليك إمارة ... نجوت وهذا تحملين طليقُ فزعموا أن هذا اسم موصول، وأن التقدير: والذي تحملينه طليق. ولا دليل في هذا البيت على جواز استعمال أسماء الإشارة موصولات؛ لأن البيت يحتمل أوجهًا أخرى من التخريج، وهي: أن يكون اسم الإشارة على أصله، وأن يكون قوله: "تحملين" جملة في موضع الحال، والتقدير: وهذا محمولًا -أي: حالة كونه محمولًا- طليق. وأن يكون الاسم الموصول محذوفًا للضرورة والتقدير: وهذا الذي تحملين طليق. وأن يكون قوله تحملين صفة لموصوف محذوف تقديره: وهذا رجل تحملين طليق. وقوله: عدس: اسم لزجر البغل ليسرع. ومما سبق يتبيَّن أنه لا يجوز الاستدلال بدليل من الأدلة إلا إذا كان نصًّا على القاعدة لا يحتمل توجيهًا آخر. رواية الأبيات بأوجه مختلفة إن تعدُّد الروايات في البيت الواحد من الظواهر الشائعة في كتب النحو، وهو أثر من آثار الرواية الشفهية، فقد يكون للبيت الواحد روايتان فأكثر، وربما لا يكون لهذا الاختلاف أثرٌ في إثبات القاعدة النحوية أو نفيها، كما في قول الشاعر: ألا عِمْ صَبَاحًا أيها الطلل البالي ... وهل يعي من كان في العصر الخالي

فقد استشهد النحاة بهذا البيت على أن "مَنْ" اسم موصول استُعمل لغير العاقل، وهو الطلل، وفي البيت رواية أخرى وهي: "وهل ينعمن"، ولا أثر لهذا الاختلاف على الشاهد، فالشاهد ما زال كما هو. ونظير ذلك قول الشاعر: عدس ما لي عباد عليك إمارة ... نجوتُ وهذا تحملين طليق فقد استشهد بعض النحاة بهذا البيت على أن اسم الإشارة هذا يُستعمل اسمًا موصولًا -كما سبق- ورُوي أول عجز هذا البيت بلفظه: نجوت، كما روي بلفظ: أمنت، ولا أثرَ لهذا الاختلاف بين الروايتين في موضع الشاهد الذي من أجله سِيقَ هذا البيت في كُتب النحاة. وقد يكون الاختلاف بين روايتي البيت مؤثرًا في إثبات القاعدة، أو في تأييد مذهب نحوي وردِّ مذهب آخر -كما سيجيء بيانه-. ويعنينا الآن أن نقف على أسباب التعدد في رواية الأبيات؛ إذ ذكر السيوطي أن لهذا التغيير سببين -عندما سُئل عن ذلك قديمًا- فأجاب: "باحتمال أن يكون الشاعر أنشد مرة هكذا، ومرة هكذا"، ثم رأى السيوطي ابن هشام ذكر في كتابه المسمى (تخليص الشواهد)، الذي شرح فيه شواهد شرح (الألفية) أن عَجُزَ قوله: فلا مزنة وَدَقَتْ ودقها ... ولا أرض أَبْقَلَ إبقالها روي بالتذكير يعني: بتذكير الفعل أبقل، ورُوي أيضًا بالتأنيث مع نقل حركة همزة إبقالها إلى تاء التأنيث وإسقاط الهمزة أي: برواية: ولا أرض أبقلت إبقالها. وذكر ابن هشام أنه إن صح أن القائل بالتأنيث هو القائل بالتذكير؛ صح الاستشهاد به على الجواز من غير الضرورة، وإلا فقد كانت العرب يُنشد بعضُهم شعرَ بعضٍ، وكلٌّ يتكلم على مقتضى سجيته التي فُطر عليها، ومن هنا تكثَّرت الرواية في بعض الأبيات. انتهى.

وخلاصة كلام السيوطي: أن هناك سببين لتعدُّد الروايات: أحدهما: أن يكون الشاعر المنسوب إليه هذا البيت أو ذاك، هو الذي غيَّر في شعره وبدَّل بأن ذكر البيت أولًا برواية، وذكره مرةً أخرى برواية ثانية، ولا يضيره ذلك؛ لأن الشاعر بفصاحته يتلاعب بمقولاته، فينشدها كيف أراد، وهذا هو السبب الذي تَبادر إلى ذهن السيوطي حين سُئل عن ذلك، وهو أيضًا السبب الذي ذكره ابن هشام احتمالًا. والآخر: أن يكون التغيير من صنع الرواة لا من صنع الشعراء؛ لأن العرب كان يُنشد بعضُهم بعضًا، فتعدَّدت الروايات بتعدُّد الرواة؛ لأن كل الرواة كانوا من الفصحاء، ولا تقدح رواية في رواية، أي: لا ترد الرواية الرواية الأخرى. ونلحظ في كلام السيوطي: أنه يميل إلى ما ذكره ابن هشام، وهو أن التغيير من صنع الرواة لا من صنع الشعراء، وهذا هو السبب الأقرب إلى القَبول لقول ابن ولَّاد في ردِّه على المبرد: "الرواة قد تغير البيتَ على لغتها، وترويه على مذاهبها مما يوافق لغة الشاعر ويخالفها، ولذلك كثرت الروايات في البيت الواحد". فحصل ابن ولَّاد السبب في أمر واحد، وهو تصرف الرواة. وهناك سبب ثالث لم يذكره السيوطي أدَّى إلى تعدُّد الروايات في البيت الواحد، وهو أن يكون هذا التعدد لا من صنع الشعراء ولا من صنع الرواة، وإنما من صنع المشتغلين بدراسة البيت من النحويين وغيرهم، وقد عُرف المبرد بتغيير الروايات حتى قال عنه علي بن حمزة البصري: "واستشهاره بتغيير الروايات يغنينا عن التماس الحجج عليه". انتهى.

وقد أشار السيوطي إلى أن البيت إذا رُوي بروايات مختلفة فربما يكون الشاهد في بعض هذه الروايات دون بعضها، ولم يذكر السيوطي مثالًا لذلك، ونذكر هنا ثلاثة أمثلة تدلُّ على أن الشاهد قد يكون في بعض الروايات دون بعضها الآخر: المثال الأول: ذكر النحويين أن الأصل في "كان" إذا كان معمولاها معرفة ونكرة؛ فالمعرفة هو الاسم، والنكرة هو الخبر، ولا يجوز العكس أي: لا يجوز أن يكون الاسم هو النكرة والخبر هو المعرفة، إلا في ضرورة الشعر، ومنه قول الشاعر: قفي قبل التفرق يا ضباع ... ولا يك موقف منك الوداع فاسم يك نكرة وهو موقف، والخبر معرفة وهو الوداع؛ لضرورة الشعر. وفي البيت رواية أخرى وهي: ................................ ... ولا يك موقفي منك الوداع ولا شاهدَ في البيت على هذه الرواية؛ لأن موقفي معرفة بإضافته إلى الضمير، كما أن الخبر معرفة أيضًا. والمثال الثاني: اختلف النحويون في تقديم التمييز على عامله المتصرف، فمذهب الكوفيين -واختاره المازني والمبرد- أنه يجوز أن يتقدم التمييز على عامله المتصرف فيقال: نفسًا طابَ زيد، ويستدلون على ذلك بقول الشاعر: أتهجر ليلى بالفراق حبيبها ... وما كان نفسًا بالفراق تطيب فنفسًا تمييز، وقد تقدم على عامله المتصرف تطيب، على هذه الرواية، ومذهب البصريين -عدا المبرد-: أنه لا يجوز أن يتقدم التمييز على عامله المتصرف، ويرْوُون هذا البيت برواية أخرى، إذ يقول الزجاج الرواية: ................................. ... وما كان نفسي بالفراق تطيب

ولا شاهدَ في البيت على هذه الرواية. والمثال الثالث: يذكر بعض النحاة أن لعل يكون حرف جر في لغة عقيل، ويستشهدون بقول الشاعر: فقلت ادعو أخرى وارفع الصوت جهرة ... لعل أبي المِغوار منك قريب بجر أبي المغوار، وفي البيت رواية أخرى وهي: .................................. ... لعل أبا المغوار منك قريب أبا: اسم من الأسماء الستة منصوب بالألف على الرواية الأخيرة، فكأن لعل على بابها، فهي أخت من أخوات إن تنصب المبتدأ وترفع الخبرَ. وقد وصف أبو زيد الأنصاري هذه الروايةَ بأنها الرواية المشهورة التي لا خلافَ فيها، ولا شاهد في البيت على هذه الرواية -أي: الأخيرة-. ونختم بأن نُشير إلى أنه إذا تعارضت روايتان لبيت واحد بأن كانت إحداهما تثبت حُكمًا نحويًّا، والأخرى تنفي هذا الحكمَ؛ فإن ابن جني -رحمه الله- قد دعا إلى تحكيم القياس بين هاتين الروايتين، فقال: "فرواية برواية، والقياس بعدُ حاكم". والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 10 حكم معرفة اللغة والنحو والتصريف، والتواتر والآحاد والرواة، والنقل عن النفي، وأدلة النحو عند الأنباري

الدرس: 10 حكم معرفة اللغة والنحو والتصريف، والتواتر والآحاد والرواة، والنقل عن النفي، وأدلة النحو عند الأنباري

حكم معرفة اللغة والنحو والتصريف.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس العاشر (حكم معرفة اللغة والنحو والتصريف، والتواتر والآحاد والرواة، والنقل عن النفي، وأدلة النحو عند الأنباري) حكم معرفة اللغة والنحو والتصريف الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فإن أولى العلوم بالرعاية وأحقها بالاهتمام علم كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- ومعرفة أحكام الشرع الحنيف، ولقد نشأت علوم اللغة العربية جميعها من أجل الوصول إلى معاني القرآن الكريم، والحديث الشريف؛ فعلوم اللغة هي الأداة الموصلة إلى فهم الكتاب والسنة، ومعرفة الأحكام الشرعية. وبيان ذلك: أن الكتاب والسنة قد ورد بلغة العرب، ولا سبيل لفهم الكتاب والسنة إلا بمعرفة اللسان العربي. ومن ثم نقل السيوطي عن كتاب (المحصول) للإمام فخر الدين الرازي المتوفى سنة ست وستمائة من الهجرة قوله: "اعلم أن معرفة اللغة والنحو والتصريف فرضُ كفاية؛ لأن معرفة الأحكام الشرعية واجبة بالإجماع، ومعرفة الأحكام بدون معرفة أدلتها مستحيل، فلا بد من معرفة أدلتها، والأدلة راجعة إلى الكتاب والسنة، وهما واردان بلغة العرب ونحوهم وتصريفهم. فإذًا توقف العلم بالأحكام على الأدلة، ومعرفة الأدلة تتوقَّف على معرفة اللغة والنحو والتصريف، وما يتوقف على الواجب المطلق وهو مقدور للمكلَّف فهو واجبٌ. فإذًا معرفة اللغة والنحو والتصريف واجبة" انتهى. فقوله: "معرفة اللغة والنحو والتصريف" لا يُراد به هذه العلوم وحدها، وإنما يراد غيرها من العلوم العربية التي تتوقَّف عليها الأحكام الشرعية. وقوله: "فرض كفاية" المراد منه أنه لا يلزم جميع الناس أن يقوموا به، وإنما يلزم بعضهم، فإذا قام به بعض الناس سقط عن الباقين. ومعنى ما ذكره السيوطي نقلًا عن الإمام فخر الدين الرازي: أن هذه العلوم العربية ليست غاية في ذاتها، وإنما هي وسيلة يتوصل بها إلى هدف سامٍ، وغاية

التواتر والآحاد والرواة.

نبيلة، وهي معرفة الأحكام الشرعية؛ إذ إن معرفة الأحكام الشرعية من الواجبات، ولا تتمّ هذه المعرفة إلا بمعرفة الأدلة، والأدلة راجعة إلى الكتاب والسنة، والمراد بالكتاب: القرآن الكريم، والمراد بالسنة: أقوال النبي -صلى الله عليه وسلم- وأفعاله، وأحواله، وتقريراته، وقد نزل القرآن بلسان عربي مبين، وجاءت أقوال النبي -صلى الله عليه وسلم- كذلك بلسان عربي، فلا سبيل إلى معرفة الأدلة إلا بمعرفة اللغة والنحو والتصريف. ومن هنا كانت معرفة هذه العلوم واجبة؛ لأن الوسائل لها حكم المقاصد، وما لا يتمّ الواجب إلا به فحكمه الوجوب. وقوله: "ومعرفة الأدلة" فيه إظهار في موقع الإضمار، فقد كان يمكنه أن يقول: ومعرفتها. ولكنه اتجه إلى الإظهار؛ لئلا يتوهَّم متوهم أن الضمير يعود إلى الأحكام فأعاد ذكر الأدلة؛ لأنها المقصودة، فمعرفة الأدلة هي التي تتوقف على معرفة اللغة والنحو والتصريف. والمراد بالأدلة: الأدلة الأصلية، وهي الكتاب والسنة. التواترِ والآحاد والرُّواةِ بعد أن نقل السيوطي عن الإمام فخر الدين حكم معرفة اللغة والنحو والتصريف، نقل عنه أيضًا الطريق إلى معرفة اللغة: "وأكثر اللغة إنما يُعرف عن طريق النقل المحض -أي: النقل الخالص الذي لا شائبة للعقل فيه، ولا مجال له أصلًا، وبعض اللغة يكون طريقه النقل والعقل معًا -أي: مجموعهما- ولا يكون العقل وحده طريقًا إلى معرفة اللغة. هذا، والنقل المحض قسمان: متواتر، وآحاد، ومعنى هذا القول أن اللغة قد وصلت إلينا منقولة إما نقلًا متواترًا يرويه الجماعة التي يستحيل عليهم الاتفاق

على الكذب دون غيرهم عن الجماعة التي يستحيل عليهم الاتفاق على الكذب كذلك. وإما نقل آحاد بأن يتفرَّد بالنقل واحد ولم يوجد به شرط التواتر". وقد أورد الفخر الرازي إشكالات على المتواتر والآحاد، وهذه الإشكالات تجعل من المتعذِّر في الظاهر قبول اللغة بالنقل، لكنه ردَّ عليها بما يُزيل إشكالها. أولًا: الإشكالات على المتواتر: يَرِدُ على المتواتر ثلاثة إشكالات: الإشكال الأول: اختلاف الناس في معاني الألفاظ التي هي أكثر الألفاظ تداولًا ودورانًا على ألسنة المسلمين، كاختلافهم في لفظة "الله"، فزعم بعضهم أنها عبرية، وقال قوم: إنها سريانية. واللذين ذهبوا إلى أنها عربية اختلفوا هل هي مشتقَّة أو لا؟ والقائلون بالاشتقاق اختلفوا اختلافًا شديدًا في الأصل المشتقة منه، ومن تأمَّل أدلتهم في تعيين مدلول هذا اللفظ الكريم، علم أنها متعارضة وأن شيئًا منها لا يفيد الظن الغالب فضلًا عن اليقين. وكذلك اختلفوا في لفظ "الإيمان" وهو مصدر الفعل: آمن؛ هل همزته للتعدية؛ أو هي للصيرورة؟ وهل مسماه التصديق الجناني؛ أو النطق اللساني؛ أو هما معًا؟ واختلفوا كذلك في لفظ الكفر هل هو بمعنى الجحد؛ أو بمعنى الستر؟ وكذلك اختلفوا في لفظ "الصلاة" هل هي مصدر أو اسم مصدر؛ وهل معناه الدعاء أو الرحمة أو العطف أو الحنو؟ وهكذا يقع الاختلاف في معاني الكلمات التي كثرت دورانها وتداولها على ألسنة الناس مما يُظهر أن دعوى التواتر في اللغة متعذِّر. وقد أجاب الفخر عن هذا الإشكال بأنه إن لم يمكن دعوى التواتر في معانيها على سبيل التفصيل؛ فإنا نعلم معانيها في الجملة؛ فنعلم أن لفظ "الله" عَلَم على الإله

المعبود بحق؛ وإن كنَّا لا نعلم مسمى هذا اللفظ أذاته أي: فيكون اسمًا للذات بناء على أنه مرتجل غير مشتقّ؛ أو كونه معبودًا أي: بناء على أنه مشتقّ من أله إلهة كعبد عبادة؛ أم كونه قادرًا على الاختراع؛ أم كونه ملجأ للخلق؛ أم كونه بحيث تتحيَّر العقول في إدراكه ... إلى غير ذلك من المعاني المذكورة لهذا اللفظ؛ وكذلك القول في سائر الألفاظ. والإشكال الثاني: الجهل بشرط التواتر؛ لأنا لا نعلم حصول شرط التواتر فيما سبق من أزمنة؛ وشرط التواتر: هو استواء الطرفين والواسطة، وقد جهلنا هذا الشرط، والجهل بالشرط جهل بالتواتر نفسه، وللرَّد على هذا الإشكال نقول: إن الغاية القصوى في راوي اللغة أن يُسند ما يرويه إلى كتاب صحيح، أو إلى أستاذ متقن. والإشكال الثالث: أخذ اللغة عن علماء ليسوا معصومين ولا بالغين حد التواتر، وإذا كان كذلك لم يحصل القطع واليقين بقولهم، وللرّدّ على هذا الإشكال نقول: إن عدم عصمتهم لا يستلزم وقوع النقل والتغيير. ثانيًا: الإشكال على الآحاد: وقد أورد الفخر الرازي إشكالًا على الآحاد، وحاصله: أن الرواة المجرَّحون لم يسلموا من القدح؛ فقد قدح الكوفيون والمبرد في كتاب سيبويه، كما قدح كثير من أهل اللغة في كتاب (العين) للخليل، وأفرد ابن جني في كتاب (الخصائص) بابًا في قدح أكابر الأدباء بعضهم في بعض، وبابًا آخر غرضه القدح في الكوفيين، ومثل هذا كثير. وللرّدّ عن هذا الإشكال نقول: إن القدح لا يلزم منه عدم القبول، فإن المبرد الذي قدح في كتاب سيبويه قد رجع عن أقواله في الكتاب، وإن العلماء الذين

النقل عن النفي.

قدحوا في (العين) لم يكن قدحهم فيه سببًا يصرف الناس عن الكتاب وعن الإفادة منه. وقد أجاب الفخر عن الإشكالات كلها بقوله: "والجواب عن الإشكالات كلها: أن اللغة والنحو والتصريف تنقسم قسمين؛ قسم منه متواتر والعلم الضروري حاصل به، أو حاصل بأنه كان في الأزمنة الماضية موضوعًا لهذه المعاني، فإنا نجد أنفسنا جازمة بأن السماء والأرض -يعني: لفظتيهما- كانتا متسعملتين في زمنه -صلى الله عليه وسلم- في معناهم المعروف، وكذلك الماء والهواء والنار وأمثالها. وكذلك لم يزل الفاعل مرفوعًا، والمفعول منصوبًا، والمضاف إليه مجرورًا. وقسم منه مظنون وهو الألفاظ الغريبة، والطريق إلى معرفتها الآحاد، وأكثر ألفاظ القرآن ونحوه وتصريفه من القسم الأول والثاني قليل جدًّا، فلا يتمسَّك به في القطعيات، ويتمسك به في الظنيات" انتهى. وحاصل هذا الكلام أن الطريق إلى معرفة اللغة هو النقل بشقيه: المتواتر والآحاد، وأن القدح فيهما وإيراد الإشكالات عليهما لا يمنع من كونهما طريق معرفة اللغة. النقلِ عن النفي إن المراد بالنقل عن النفي هو أن يقول القائل: لم أره، أو لم أقف عليه، أو لم أجده، أو نحو ذلك من العبارات التي تدل على نفي الشيء وعدم وجوده، وذلك بخلاف قوله: لا أعرفه، أو لا أذكره، فليس في هذين القولين ونحوهما دليلٌ على نفي الشيء. والسؤال الذي يطرحه هذا العنصر هو: هل في نفي المتكلم العلم بالشيء دليل على عدم وجود الشيء؟

لقد نقل السيوطي عن بهاء الدين بن النحاس أنه لا دليل فيه؛ فقال: "قال الشيخ بهاء الدين بن النحاس في (التعليقة): النقل عن النفي فيه شيء؛ لأن حاصله أنني لم أسمع هذا، وهذا لا يدل على أنه لم يكن" انتهى قول ابن النحاس. وقوله: "فيه شيء" أي: فيه بحث ومناقشة، وقوله: "لا يدل على أنه لم يكن" أي: أن نفي العلم لا يدل على نفي الوجود. ولم يعلق السيوطي -رحمه الله- على القول الذي نقله؛ مما يرجح أنه يرى الرأي نفسه ولا يخالفه. وتحقيق الأمر في هذه المسألة أن يُنظر في حال القائل، فإن لم يكن واسع الاطلاع غزير المعرفة؛ لم يكن في كلامه دليل على نفي الوجود، بل كان كلامه دليلًا على عدم معرفته هو، وعدم اطلاعه على ما ذُكر، ربما يكون غيره ممن اتسعت روايتهم، وكثر اطّلاعهم قد عرف ما غاب عن صاحبه. أما إذا صدر هذا القول عن إمام نحرير متتبع لكلام العرب، واسع الاطلاع؛ كان قوله بمنزلة التصريح بعدم ورود ذلك. نظير ذلك ما قاله المحدثون في مثله، فإنهم قد صرَّحوا بأنه إذا قال الحافظ النقاد في حديث ما: لا أعرفه، فمعناه: لا أصل له. ولأبي الأسود الدؤلي كلام صريح في هذا الأمر ذكره ابن فارس: أنه بلغه عن أبي الأسود أن امرأ كلَّمه ببعض ما أنكره أبو الأسود، فسأله أبو الأسود عنه فقال: هذه لغة لم تبلغك. فقال له: يا ابن أخي إنه لا خير لك في ما لم يبلغني. فعرفه بلفطف أن الذي تكلم به مختلق، ومعنى ما ذكره أبو الأسود أن العالم المتتبع لكلام العرب إن نفى شيئًا كان نفيه دليلًا على عدم وجوده.

أدلة النحو عند الأنباري.

أدلة النحو عند الأنباري إن الأنباري له في علم أصول النحو كتابان هما: (لمع الأدلة)، و (الإغراب في جدل الإعراب)، والإغراب بالعين المهملة، أو بالغين المعجمة. وقد أشار السيوطي في مقدمة (الاقتراح) إلى أنه لم يقرأ كتابَي الأنباري إلا بعد فراغه من كتابه (الاقتراح)، كما أشار هنا إلى أنه رأى كلام الأنباري بعد أن حرَّر كتاب السماع بفصوله وفروعه، فقال: "بعد أن حررت هذا الكتاب بفروعه، وجدت ابن الأنباري قال في أصوله: أدلة النحو ثلاثة: نقل، وقياس، واستصحاب حال" انتهى. وقد ذكر الأنباري هذه الأدلة الثلاثة أيضًا في كتابه (الإغراب في جدل الإعراب) فقال: "أدلة صناعة الإعراب ثلاثة: نقل، وقياس، واستصحاب حال" انتهى. وهذه هي الأدلة الغالبة. ويُضاف إليها دليل رابع وهو الإجماع الذي ذكره الأنباري في (لمع الأدلة)، وبذلك تكون أصول النحو الغالبة عند الأنباري أربعة أصول، وهي: النقل، والقياس، والإجماع، واستصحاب الحال؛ فالنقل هو الأصل الأول من أصول النحو، ويراد به المنقول، وهو الذي ذكره السيوطي تحت عنوان السماع. وقد عرَّف الأنباري النقل بقوله: "الكلام العربي الفصيح المنقول النقل الصحيح، الخارج عن حدّ القلة إلى حد الكثرة"، وقد اشترط الأنباري في النقل الذي يُحتج به ثلاثة شروط: الأول: أن يكون الكلام عربيًّا فصيحًا ينتمي إلى إحدى القبائل المأخوذ عنها، كما ينتمي إلى زمن الاحتجاج، وعليه يخرج ما جاء من كلام المولدين والمحدثين.

والثاني: أن يكون الكلام خارجًا عن حدِّ القلة إلى حدِّ الكثرة. ولم يذكر السيوطي هذا الشرط الأخير، وإنما عرف السماع: بأنه كلام من يُوثق بفصاحته، ولعل الذي دفع الأنباري إلى وضع هذا الشرط أنه كان معنيًّا بمسألة القياس، وهو يرى أنه لا يجوز القياس على الشاذ والقليل؛ فالشاذ لا يجوز القياس عليه في نحو: الجزم بـ"لن" في قول كثير عزة: أيادي سبا يا عزة ما كنت بعدكم ... فلن يَحْل للعينين بعدك منظر فجزم الفعل الفعل المضارع "يحلى" بـ"لن"، ومثله قول الآخر: لَنْ يخِبِ الآنَ مِنْ رَجَائكَ مَنْ ... حَرَّكَ مِنْ دُونِ بَابِكَ الحَلَقَه فجزم الفعل المضارع بـ"لن"، ونظير ذلك النصب بـ"لم" في قول الراجز: في أي يومي من الموت أفر ... أيوم لم يُقْدر أم يوم قُدِر؟ فنصب الفعل المضارع بـ"لم". والشرط الثالث: أن يكون الكلام الفصيح منقولًا نقلًا صحيحًا، وقد عقد الأنباري في (لمع الأدلة) عدَّة فصول لخصها السيوطي في (الاقتراح)، ولنوجزها هنا في أربعة نقاط، وهي: النقطة الأولى: أقسام النقل، وحكم كل قسم، وما يُشترط فيه: ذكر الأنباري أن النقل ينقسم إلى تواتر وآحاد: فالقسم الأول وهو: التواتر، والمراد به لغة القرآن الكريم، أي: ما عدا القراءات الشاذة؛ إذ القراءات الشاذة لا خلاف في أنها روايات آحاد، وليست متواترة، والمراد بالتواتر أيضًا: ما تواتر من السنة وكلام العرب، وهذا القسم دليل قطعي من أدلة النحو يُفيد العلم عند جمهور العلماء، وقد اشترط الأنباري للتواتر

شرطًا، وهو أن يبلغ عددُ النقلة حدًّا لا يجوز فيه على مثلهم الاتفاق على الكذب أي: لا يتصوَّر هذا الاتفاق، كنقلة لغة القرآن الكريم وما تواتر من السنة الشريفة، وكلام العرب، فإنهم انتهوا إلى حدِّ يستحيل على مثلهم الاتفاق على الكذب. القسم الثاني: الآحاد، وهو ما تفرَّد بنقله بعض أهل اللغة، ولم يوجد فيه شرط التواتر، ومعنى أنه لم يوجد فيه شرط التواتر: أنه لم يجتمع على القول به عدد يستحيل على مثلهم الاتفاق على الكذب. وذكر أبو البركات الأنباري أن ما تفرَّد به بعض أهل اللغة يُعدُّ من أدلة الاحتجاج؛ فقال: "هو دليل مأخوذ به"، واختلفوا في إفادته، فذهب الأكثرون إلى أنه يُفيد الظن، وذهب بعضهم إلى أنه يفيد العلم، واختار الأنباري الأول، وهو أن خبر الآحاد يُفيد الظن. وقد عقد الأنباري فصلًا لبيان شرط نقل الآحاد ذكر فيه أنه يُشترط أن يكون ناقل اللغة عدلًا، رجلًا كان أو امرأة، حرًّا كان أو عبدًا، كما يُشترط في ناقل الحديث الشريف عن النبي -صلى الله عليه وسلم- لأن باللغة معرفة تفسيره وتأويله، فاشترط في نقلها ما اشترط في نقله، ومعنى كلام الأنباري أن العدالة شرطٌ في راوي اللغة كي نضمن أنه يروي اللغة في دقة، ودون تحريف ظواهر اللغة وخصائصها. ثانيًا: ونلاحظ في كلام الأنباري أنه اشترط العدالة في راوية اللغة، كما اشترطها في راوية الحديث، ولا يعني ذلك أن الأنباري يسوِّي بين اللغة الحديث في الفضل، وقد نبَّه على ذلك بقوله: "وإن لم تكن في الفضيلة من شكله" أي: وأن لم تكن اللغة تساوي الحديث في فضله ومنزلته ومكانته، إلا أنه يُشترط في نقلها ما يشترط في نقله. ورفض الأنباري رواية ناقل اللغة إن كان فاسقًا، فذكر أنه إن كان ناقل اللغة فاسقًا لن تُقبل روايته، والعلة في ذلك أن فسقه ربما يدفعه دفعًا إلى الكذب والادّعاء، ولأنه قد ارتكب محذور دينه مع علمه بتحريمه، أي: مع علمه

بأنه محرم عليه، فلم يُؤمَن مع ذلك أن يكذب مع علمه بتحريمه، أي: مع علمه بأن الكذب محرم عليه أيضًا". وبعد أن بين أبو البركات الأنباري أن نقل العدل الواحد مقبول بيَّن أنه لا يشترط أن يوافقه غيره؛ فقال: "ويُقبل نقل العدل الواحد، ولا يشترط أن يوافقه في النقل غيره؛ لأن الموافقة لا تخلو إما أن تُشترط لحصول العلم أو لغلبة الظن، بطل أن تكون لحصول العلم؛ لأن العلم لا يحصل بنقل اثنين، فوجب أن تكون لغلبة الظن، وغلبة الظن قد حصلت بخبر الواحد من غير موافقة" انتهى. ومعنى كلام الأنباري: أنه لا يُشترط في قبول العدل الواحد أن يُوافقه غيره. والنقطة الثانية: قبول نقل أهل الأهواء: والمراد بأهل الأهواء: أصحاب الأهواء الفاسدة، والآراء الضالة من المبتدعة كالمعتزلة والرافضة ونحوهم، والأهواء في اللغة جمع: هوى، وهو العشق والحب، ثم أطلقوه إذا أرادوا الشيء المستقبح. وقد عقد أبو البركات الأبناري الفصل السابع من فصول كتابه (لمع الأدلة) في قبول نقل أهل الأهواء، ولخصه السيوطي في (الاقتراح) في جملة واحدة؛ إذ قال: "ويقبل نقل العدل الواحد، وأهل الأهواء إلا أن يكونوا ممن يتديَّنون بالكذب" انتهى ما قاله السيوطي. ومعنى ما قاله السيوطي: أنه يُقبل نقل أهل الأهواء إلا إذا كانوا ممن يتخذون الكذب دينًا كالخطّابية من الروافض، وما ذكره السيوطي هو من كلام الأنباري في (لمع الأدلة) إذ قال -رحمه الله-: "اعلم أن نقل أهل الأهواء مقبول في اللغة وغيرها، إلا أن يكونوا ممن يتديَّن بالكذب كالخطابية من الرافضة" انتهى. وليس هذا القول موضع إجماع العلماء، فمن العلماء من ذهب إلى أن نقل أهل الأهواء لا يُقبل، وقد أشار الأنباري إلى هذا الرأي بقوله: "وزعم بعضهم أنه لا

يُقبل نقل أهل الأهواء؛ لأنه إذا رُدَّت رواية الفاسق لفسقه، فلأن لا تُقبل رواية المبتدع لبدعته كان ذلك أولى" انتهى. وفي هذا الكلام إشارة إلى أن فريقًا من العلماء لم يَقبل رواية أهل الأهواء والبدع؛ حملًا على رواية الفاسق التي ذكر الأنباري أنه لا يجوز قبولها، بل يجب ردُّها، ولم يرتضِ الأنباري هذا القول، فوصفه في بداية كلامه بأنه زعم، ثم وصفه بأنه ليس بصحيح. وفرق الأنباري بين الفاسق وصاحب البدع؛ فالفاسق قد يدفعه فسقه إلى الكذب، أما المبتدع فلا تحمله بدعته على الكذب؛ فصحَّ عنده أن يقبل نقل المبتدع دون نقل الفاسق، وأما المبتدع فما ارتكب محذور دينه مع العلم بالتحريم، وليست بدعته حاملة له على الكذب؛ فوجب أن يقبل" انتهى. ونلحظ فيما ذكره الأنباري في هذه النقطة أن المعيار عنده هو التزام الصدق، فمن ظهرت صدقه قُبلت روايته، وإن كان من أهل الأهواء، ومن تدين بالكذب لم تُقبل روايته. والنقطة الثالثة: في حكم قبول المرسل والمجهول: وقد عقد الأنباري الفصل الثامن من كتابه (لمع الأدلة) في قبول المرسل والمجهول، وعرف المرسل: بأنه هو الذي انقطع سنده نحو: أن يروي أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد المولود سنة ثلاثة وعشرين ومائتين من الهجرة، والمتوفى سنة إحدى وثلاثين ومائتين عن أبي زيد الأنصاري المولود سنة تسع عشرة ومائة من الهجرة، والمتوفى سنة خمس عشرة ومائتين، فابن دريد لم يدرك أبا زيد، فبينهما راوٍ أو أكثر، وهذا هو المراد من انقطاع السند؛ فالانقطاع يعني: عدم الاتصال بين الراوي والمروي عنه.

وقد ذكر السيوطي في كتابه (المزهر) أمثلة للمرسل منها ما في (الجمهرة) لابن دريد يقال: "فسأت الثوب أفسأه فسأً أي: مدته حتى تفزر، أي: تشقق". وأخبر الأصمعي عن يونس قال: "رآني أعرابي محتبيًا بطيلسان، والطيلسان: هو ضرب من الأوشحة يُلبس على الكتب، أو يحيط بالبدن، وهو خالٍ عن التفصيل والخياطة. فقال: علام تفسؤه؟ " والشاهد في هذا المثال: أن ابن دريد لم يدرك الأصمعي؛ لأن ابن دريد قد وُلد سنة ثلاثة وعشرين ومائتين، والأصمعي قد توفي سنة ست عشرة أو خمس عشرة ومائتين، فبينهما راوٍ أو أكثر. أما المجهول فقد عرفه بقوله: "والمجهول هو الذي لم يُعرف ناقله نحو: أن يقول أبو بكر الأنباري حدثني رجل عن ابن الأعرابي، ولم يذكر اسم هذا الرجل، وقد جمع الأنباري بين المرسل والمجهول، وحكم عليهما بحكم واحد، وهو الرّدّ وعدم القبول، فقال: وكل واحد من المرسل والمجهول غير مقبول، وإنما لم يقبل الأنباري المرسل والمجهول للشرط الذي اشترطه من قبل، من وجوب العدالة في قبول النقل، وانقطاع السند، وكذلك الجهل بالناقل يُفهم منهما عدم معرفة حقيقة الناقل إن كان عدلًا، أو غير عدل، ولأن العدالة شرط في قبول النقل؛ فقد رفض الأنباري المرسل والمجهول. وقال: وكل واحد من المرسل والمجهول غير مقبول؛ لأن العدالة شرط في قبول النقل. والجهل بالنقل وانقطاع سند الناقل يُوجبان الجهل بالعدالة، فإن من لم يذكر اسمه، أو ذكر اسمه ولم يعرف؛ لم تعرف عدالته، فلا يقبل نقله". وما ذكره الأنباري هو أحد رأيين في المسألة، وفيها رأي آخر وهو قبول المرسل والمجهول، فقد أجازهما قوم محتجِّين بأن المرسل لو صدر عن عالم اتصل سنده؛ لوجب قبوله، وكذلك المجهول لو صدر عن عالم لا يُتهم في نقله لوجب قبوله أيضًا، ومعنى هذا الكلام أن من قبل المرسل والمجهول قد حملهما على المتصل

السند والمعلوم باعتبار أن الإرسال صدر ممن لو أسند؛ لقبل ولم يتهم في إسناده. فعدم الاتهام في الإسناد يعني: وجوب الأخذ بالمرسل، وعدم الاتهام في المعلوم يعني: وجوب الأخذ بالمجهول. وردَّ الأنباري هذا الكلام وقال: "وهذا ليس بصحيح، وقولهم: "إن الإرسال صدر ممن لو أسند لقُبل ولم يتهم في إسناده فكذلك في إرساله"؛ قلنا هذا اعتبار فاسد، لأن المسند قد صرَّح فيه باسم الناقل، وأمكن الوقوف على حاله بخلاف المرسل، أي: فليس فيه تصريح باسم الناقل، وكذلك أيضًا النقل عن المجهول لم يُصرح أيضًا فيه باسم الناقل، ولا يمكن الوقوف على حقيقة حاله؛ بخلاف ما إذا صُرّح باسم الناقل، فبان بهذا أنه لا يلزم من قبول المسند قبول المرسل، ولا من قبول المعروف قبول المجهول" انتهى. ونختم بأن نشير إلى أن السيوطي نقل كلام الأنباري مختصرًا في كتابه (الاقتراح)، ولم يذكر جواب الأنباري عن الرأي القائل بقبول المرسل والمجهول، وقد نبَّه على ذلك شُرّاح (الاقتراح)، فأخذوا على السيوطي أنه لم يذكر الجوابين. والنقطة الرابعة: حكم الإجازة: ويُعدُّ الحديث عن حكم الإجازة أثرًا من آثار علوم الحديث وانتقالها إلى أصول النحو؛ لأن الإجازة في الأصل مصطلح من مصطلحات علم الحديث، والمراد بها أن يُجيز المحدِّث لمعيِّن في شيء معين، كأن يقول المحدث: أجزت لفلان الكتاب الفلاني، فيجوز حينئذٍ أن يرويه عن شيخه، وأن يُحدِّث به، وأئمة الحديث على جوازها؛ إبقاء للتبرك بالانخراط في سلسلة الإسناد، والمراد بالإجازة هنا رواية الكتب والأشعار المدونة. وقد عقد الأنباري الفصل التاسع من

(لمع الأدلة) لذكر اختلاف علماء اللغة في جوازها فقال: "اعلم أن العلماء اختلفوا في جواز الإجازة، فذهب قوم إلى جوازها وذهب آخرون إلى أنها غير جائزة" انتهى. ففي المسألة إذًا رأيان: أحدهما: الجواز، والآخر: المنع، وحجة من أجاز أن النبي -صلوات الله وسلامه عليه- كتب إلى ملوك؛ فنزل ذلك منزلة قوله وخطابه، وكتب صحيفة الزكاة والديات، ثم صار الناس يُخبرون بها عنهم، ولم يكن هذا إلا بطريق المناولة والإجازة. والمراد بالمناولة أن يناول العالم التلميذ كتابًا ليروي عنه ما فيه؛ فكان ما فعله الرسول -صلى الله عليه وسلم- دليلًا على جواز الإجازة، وهو الرأي الذي ذهب إليه أبو البركات الأنباري ووافقه فيه السيوطي، وذهبت طائفة قليلة وُصفت بأنها شرذمة -أي: جماعة قليلة- إلى عدم جواز الإجازة، وحجتهم في ذلك أن المتكلم يقول: أخبرني فلان، ولم يحدث إخبار، وقد ردَّ أبو البركات الأنباري هذا القول، ووصفه بأنه غير صحيح فقال: "وليس بصحيح، فإنه يجوز لمن كتب له إنسان كتابًا ذكر فيه أشياءً أن يقول: أخبرني فلان في كتابه بكذا، ولا يكون كاذبًا" انتهى. وخلاصة القول: أن الإجازة جائزة، بل هي إحدى الوسائل التي ينتقل بها العلم من العالم إلى تلميذه، ولا عبرة بقول من منعها". والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 11 الإجماع

الدرس: 11 الإجماع

حجية إجماع النحاة.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الحادي عشر (الإجماع) حجيةُ إجماع النحاة الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: الإجماع في اللغة مصدر الفعل الرباعي أجمع، وله معنيان: أحدهما: العزم، يقال: أجمعت على الأمر، أي: عزمت عليه عزمًا لا يلحقه توانٍ ولا نقص. والآخر: الاتفاق، يقال: أجمع القوم على كذا، أي: اتفقوا عليه وتواطئوا. ويرجع تعريف الإجماع في الاصطلاح إلى المعنى الثاني، وهو الاتفاق. وقبل تعريف الإجماع في اصطلاح النحويين لا بد من الإشارة إلى أمرين: أحدهما: أن هذا المصطلح مصطلح فقهي اعتمده الفقهاء أصلًا من أصول الشريعة ودليلًا من أدلتها، وقد عرفوه بأنه: اتفاق المجتهدين من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- بعد زمانه في عصر على حكم شرعي، ثم انتقل هذا المصطلح من الفقه إلى النحو؛ فكان الأصل الثاني من أصول النحو عند ابن جني الذي جعل أصول النحو ثلاثة كما ذكر السيوطي، وهي: السماع، والإجماع، والقياس. والأمر الآخر: أن الإجماع إما أن يراد به إجماع النحاة؛ وإما أن يراد به إجماع العرب، والغالب أن يكون المراد به إجماع النحاة على حكم ما. ومن هنا كان تعريف الإجماع في الاصطلاح هو: اتفاق نحاة البلدين -البصرة والكوفة- على حكم نحوي أو على أمر يتصل بالصناعة النحوية. وقال السيوطي: المراد به: إجماع نحاة البلدين البصرة والكوفة. وإنما قيد التعريف بنحاة البصرة والكوفة؛ لأنهم -كما قال- الجماعة التي طال بحثها وتقدم نظرها:

فالبصريون هم الذين وضعوا علم النحو وتعهدوه بالرعاية؛ فالبصرة صاحبة الفضل في وضعه وتعهده في نشأته. والكوفيون نهضوا بهذا الفن ونافسوا في الظفر بشرفه؛ فكان منهم علماء تلاقوا مع علماء البصرة؛ فوثب هذا العلم على أيديهم جميعًا وثبة حيي بها حياة بعد. وقد ذكر السيوطي في أول (الاقتراح) أن الإجماع هو أحد أصول النحو الثلاثة عند ابن جني وهي: السماع، والقياس، والإجماع، غير أن الإجماع لم يحظَ عند ابن جني بما حظي به السماع والقياس؛ فهما أصلان معتمدان مطلقًا؛ أما الإجماع فلا يكون حجة إلا إذا لم يخالف المنصوص والمقيس على المنصوص. ومن هنا وجدنا ابن جني يعقد في (الخصائص) بابًا عنوانه: القول على إجماع أهل العربية متى يكون حجة. وعنه نقل السيوطي غير أنه اختصر الكلام اختصارًا غير مخلٍ، ونحن نذكر هنا كلام ابن جني كله إكمالًا للنفع وإتمامًا للفائدة: قال -رحمه الله-: "اعلم أن إجماع أهل البلدين إنما يكون حجة إذا أعطاك خصمك يده ألا يخالف المنصوص والمقيس على المنصوص". فقوله: "إجماع أهل البلدين"، معناه: إجماع أهل البصرة والكوفة؛ لأن عليهما الاعتماد في الأحكام النحوية. وقوله: "إنما يكون حجة إذا أعطاك خصمك يده ألا يخالف المنصوص والمقيس على المنصوص"، معناه: أن الإجماع إذا خالف المنصوص أو المقيس عليه لم يكن حجة بل يجب تقديم النص عليه، وقد أراد ابن جني بكلامه هذا أن يفرق بين الإجماع عند النحاة والإجماع عند الفقهاء.

فالإجماع عند الفقهاء ملزم يجب قبوله ولا يجوز رده؛ بل قال بعض الفقهاء: إن الإجماع أقوى من النص؛ لأن النص قد يلحقه التغيير حين يتطرق إليه النسخ، والإجماع يسلم من أن يتطرق إليه النسخ. ومن هنا كان إجماع المجتهدين من الفقهاء حجة، ومعنى كونه حجة: وجوب العمل به مقدمًا على باقي الأدلة. أما إجماع النحاة؛ فلا يعد ملزمًا عند ابن جني، وقد أقره السيوطي على ذلك. وإنما كان إجماع النحاة غير ملزم عند ابن جني لأمرين اثنين: أحدهما: إمكان وقوع الخطأ من علماء البصرة والكوفة مجتمعين؛ فالنحاة لا يدخلون تحت قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تجتمع أمتي على ضلالة))؛ إذ لم يرد في قرآن ولا سنة أن علماء النحو من البصرة والكوفة لا يجتمعون على الخطأ. والأمر الآخر: طبيعة هذا العلم؛ فعلم النحو -كما وصفه ابن جني- علم منتزع من استقراء هذه اللغة؛ فكل من فرق له عن علة صحيحة وطريقة نهجة كان خليل نفسه وأبا عمرو فكره ... انتهى. ومعنى ما ذكره ابن جني ونقله السيوطي: أن كل من كُشف وأُبين له عن علة صحيحة أو طريقة واضحة وتمرس في دراسة هذا العلم تمرسًا طويلًا حتى أحس في نفسه القدرة على التمكن من مسائله والإحاطة بقضاياه؛ قام في نفسه دليل قاطع يغنيه عن الخليل بن أحمد، وثبت لديه من فكره برهان ساطع يكيفه عن أبي عمرو بن العلاء؛ فمن اتصف بهذه الصفات؛ جاز له أن يخالف إجماع أهل البلدين. ولكن هذه المخالفة مشروطة بطول البحث والتقصي والبعد عن نزوات الفكر؛ كما أنها مشروطة أيضًا بإجلال السلف؛ لأنهم القوم الذين لا نشك في أن الله

-سبحانه وتقدست أسماؤه- قد هداهم لهذا العلم الكبير وأراهم وجه الحكمة في الترجيب له والتعظيم، وجعله -ببركاتهم وعلى أيدي طاعاتهم- خادمًا للكتاب المنزل وكلام نبيه المرسل، وعونًا على فهمهما، ومعرفة ما أمر به أو نهي عنه الثقلان منهما ... انتهى. ونلحظ في كلام ابن جني إجلاله للسابقين من أهل العلم وتوقيره لهم، ويدل على تقديره إياهم أنه، مع إباحته مخالفتهم لمن تمرس بهذا العلم وعرف أصوله وقضاياه؛ إلا أن الأولى عنده موافقة الإجماع؛ إذ ذكر أننا -مع ذلك- لا نسمح له بالإقدام على مخالفة الجماعة التي طال بحثها وتقدم نظرها إلا بعد إمعان وإتقان. ومعنى كلام ابن جني: أن من كان خليل نفسه وأبا عمرو فكره لا يجوز له خرق إجماع أهل الكوفة والبصرة، والجرأة على مخالفة ما أجمع عليه الفريقان إلا بعد إمعان وإتقان. وقد خرق ابن جني نفسه إجماع النحاة في مسألتين ذكر السيوطي إحداهما ولم يذكر الأخرى، وسنذكرها: أما المسألة الأولى التي خرق فيها ابن جني إجماع النحاة: فالجر على الجوار في نحو قولهم: "هذا جحرُ ضبٍّ خربٍ"؛ فـ"خربٍ" صفة لجحرُ؛ فكان حقه الرفع؛ لأن الأصل في الصفة أن تكون تابعة للموصوف، وقد جاء قولهم: "خربٍ" مجرورًا؛ لأنه جاور مجرورًا، وأجمع العلماء على أنه من الشاذ الذي لا يقاس عليه ولا يجوز رد غيره إليه، وعلى هذا أجمع النحويون. وخالفهم ابن جني وذهب إلى أن "خربٍ" صفة لـ"ضبٍّ"، على أن الأصل: خربٍ جحرُه؛ فـ"خربٍ" نعت سببي لـ"ضبٍّ"؛ كما هو شأن النعت السببي.

ولم يرتضِ المتأخرون ما ذهب إليه ابن جني؛ فوصف بعضهم ما قال ابن جني بأنه مسلك ظاهر على وجهه التكلف غير محتاج لما ارتكبه ابن جني في تخريجه من التعسف. والمسألة الثانية التي خالف ابن جني الإجماع: ما يعود عليه الضمير في قول الشاعر: جزى ربُّه عني عديَّ بن حاتم ... جزاءَ الكلابِ العاوياتِ وقد فعل فقد ذهب جمهور النحويين إلى أن الضمير في ربُّه عائد على متقدم، وهذا المتقدم هو المصدر الذي دل عليه قوله جزى؛ فالتقدير: جزى ربُّ الجزاءِ عني عديَّ بن حاتم، ومنع النحويون عود الضمير إلى "عديَّ"؛ حتى لا يعود الضمير على متأخر عليه في اللفظ والرتبة. وخرق ابن جني إجماع النحاة؛ فأجاز أن يكون الضمير المتصل بالفاعل عائدًا إلى "عدي" الواقع مفعولًا به فقال: أجمعوا على أن ليس بجائز: "ضرب غلامُه زيدًا"؛ لتقدم المضمر على مظهره لفظًا ومعنى، وقالوا في قول النابغة: جزى ربُّه عني عديَّ بن حاتم ... ............................ ........ البيت: إن الهاء عائدة على مذكور متقدم؛ كل ذلك لئلا يتقدم ضمير المفعول مضافًا إلى الفعل فيكون مقدمًا عليه لفظًا ومعنًى؛ وأما أنا -والكلام لابن جني- فأجيز أن تكون الهاء في قوله: جزى ربُّه عني عديَّ بن حاتم ... ............................ عائدة على "عديَّ" خلافًا على الجماعة" انتهى. ونلحظ في كلام ابن جني أنه لا يرى بأسًا بمخالفة ما أجمع عليه النحويون؛ بل يرى مخالفة الإجماع جائزة؛ لأن للإنسان أن يرتجل من المذاهب ما يدعو إليه القياس ما لم يلوِ بنص أو ينتهك حرمة شرع.

ومراده بالإلواء بالنص: المخالفة بالنص عن جهته وقصده، وإذا كان الإجماع عند ابن جني يجوز خرقه ومخالفته؛ فإن هناك رأيًا آخر، وهو: أن إجماع النحاة حجة ولا تجوز مخالفته. وقد سبق إلى القول بهذا الرأي أبو العباس المبرد؛ فقد ذكر في (المقتضب): أنه لا يجوز أن يقال: جاءني الغلامُ زيدٍ، بالإضافة؛ وكذلك لا يجوز: هذه الدارُ عبدِ الله، ولا: أخذتُ الثوبَ زيدٍ. وقد بين علة امتناع ذلك بقوله: وقد أجمع النحويون على أن هذا لا يجوز، وإجماعهم حجة على من خالفه منهم، واختار المتأخرون ما ذهب إليه المبرد؛ فعدوا الإجماع أصلًا من أصول النحو المعتبرة، ولم يجيزوا خرقه أو مخالفته أو الخروج عليه؛ ولذلك قال السيوطي بعد أن نقل كلام ابن جني: وقال غيره: إجماع النحاة على الأمور اللغوية معتبر؛ خلافًا لمن تردد فيه، وخرقه ممنوع ومن ثم رد. انتهى. فقوله: "وقال غيره" يعني به: غير ابن جني؛ للذي تقدم من أن ابن جني يجيز خرق الإجماع ومخالفته. وقوله: "إجماع النحاة" يقصد به نحاة البصرة والكوفة؛ لأنهم هم المعنيون في باب الإجماع. وقوله: "معتبر" أي: معمول به لا يجوز لأحد خرقه ولا عبرة بمن تردد فيه. وقد أحسن الشاطبي -رحمه الله- حين قال في (المقاصد الشافية شرح الخلاصة الكافية): "ومخالفة إجماع النحويين كمخالفة إجماع الفقهاء وإجماع الأصوليين وإجماع المحدثين، وكل علم اجتمع أربابه على مسألة منه فإجماعهم حجة ومخالفهم مخطئ". انتهى.

وقد ضرب السيوطي مثلًا يُستدل به على عدم جواز خرق الإجماع؛ فنقل عن ابن الخشاب قوله: "لو قيل: إن "مَن" في الشرط لا موضع لها من الإعراب لكان قولًا؛ إجراء لها مجرى إن الشرطية، وتلك لا موضع لها من الإعراب؛ لكن مخالفة المتقدمين لا تجوز". انتهى. ومعنى ما قاله ابن الخشاب: أن هناك من الآراء ما يكون صحيحًا مستقيمًا عند النظر؛ ولكن يحول بينه وبين قبوله ما فيه من مخالفة المتقدمين، ومن أمثلة ذلك: "مَن" الشرطية؛ فإن لها في الإعراب محلًّا، ولو أن قائلًا قال: بأن ليس لها محل من الإعراب حملًا لها على "إنْ" الشرطية لكان قوله مستقيمًا؛ فمن القواعد المقررة في علم النحو جواز حمل الشيء على الشيء إذا أشبهه في لفظه أو معناه أو فيهما معًا، وقد أشبهت "مَن" الشرطية "إنْ" الشرطية في معناها، ومع استقامة هذا القول من جهة النظر؛ فإنه لا يجوز القول به لما فيه من مخالفة المتقدمين وخرق إجماعهم، ولما كان الإجماع معتبرًا عند غير ابن جني؛ فإنهم لم يلتفتوا لمن خالف ذلك منهم؛ بل رد المتأخرون كل ما فيه خرق لإجماع النحويين، والأمثلة على هذا الرد كثيرة نجتزئ منها بأربعة أمثلة تكشف لنا عن عناية المتأخرين بالإجماع وعده أصلًا من الأصول المعتبرة التي يعول عليها وردهم قول من خرقه أو خالفه. ونلحظ في الأمثلة الآتية أنها تختلف عن المثال الذي ذكره ابن الخشاب في (المرتجل) ونقله عنه السيوطي في (الاقتراح)؛ لأن ما ذكره ابن الخشاب لم يقل به أحد من النحويين؛ وإنما افترضه افتراضًا؛ ليدل به على وجوب احترام ما أجمع عليه النحويون. أما الأمثلة الآتية؛ فقد وقع فيها بالفعل خرق لإجماع النحويين:

المثال الأول: انقسام الكلمة إلى اسم وفعل وحرف: أجمع العلماء على انحصار أقسام الكلمة في هذه الأقسام الثلاثة: وهي الاسم، والفعل، والحرف، وزاد أبو جعفر بن صابر قسمًا رابعًا سماه: الخالفة -وهو اسم الفعل- ولا عبرة بقوله ولا اعتداد بخلافه؛ لما فيه من خرق إجماع النحويين؛ ولذا قال السيوطي في (الأشباه والنظائر): أجمعوا -إلا من لا يعتد بخلافه- على انحصار أقسام الكلمة في ثلاثة: الاسم، والفعل، والحرف. انتهى. والمثال الثاني: النداء بالهمزة و"يا": ذهب جمهور النحويين إلى أن الهمزة: حرف موضوع لنداء القريب مسافة أو حكمًا، وأن "يا": حرف موضوع لنداء البعيد وإن كان يمكن أن ينادى به القريب لكثرة استعماله، ونقل ابن الخباز -المتوفى سنة سبع وثلاثين وستمائة من الهجرة- عن شيخه عمر بن أحمد بن أبي بكر -المتوفى سنة ثلاث عشرة وستمائة من الهجرة- أن الهمزة لنداء المتوسط وأن "يا" لنداء القريب. وهذا المنقول فيه خرق لإجماع النحويين من وجهين: الأول: دعوى أن الهمزة للمتوسط؛ وإنما هي عندهم لنداء القريب فقط. والثاني: كون القريب لم يوضع لندائه غير "يا". والمثال الثالث: الإخبار بالزمان عن الذات: أجمع النحويون على أنه لا يجوز أن يكون ظرف الزمان خبرًا عن الذات؛ بل يجوز أن يكون خبرًا عن الحدث؛ فيجوز أن تقول: القيامُ يومَ الجمعة، ولا يجوز: زيدٌ يومَ الجمعة، ولم يخالف في ذلك إلا ابن الطراوة. والمثال الرابع: المخالفة بين عطف البيان ومتبوعه:

حجية إجماع العرب.

أجمع النحويون على وجوب التطابق بين عطف البيان ومتبوعه، وقد أشار المتأخرون -ومنهم ابن مالك والمرادي- إلى هذا الإجماع؛ فقالوا: لا خلاف في موافقة عطف البيان متبوعه في الإفراد والتثنية والجمع والتذكير والتأنيث، ويتوافقان أيضًا في التعريف والتنكير، وتخالفُهُما في التعريف والتنكير ممتنع. وقد خرق الزمخشري إجماع النحويين؛ فأجاز أن يكون عطف البيان معرفة ومتبوعه نكرة، وخرج عليه قوله تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} (آل عمران: 97)، فقال في (الكشاف): {مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} عطف بيان لقوله: {آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} ولم يرتضِ جمهور النحويين ما ذهب إليه الزمخشري، ووصفوه بمخالفة الإجماع والسهو والغلط، وبأنه لا يُلتفَت إليه. حجيةُ إجماع العرب سبق أن أشرنا إلى أن الإجماع في اصطلاح النحويين يراد به أحد أمرين: أحدهما: إجماع النحاة من البصريين والكوفيين، وقد سبق الحديث عنه. والآخر: إجماع العرب. وإذا كان الخلاف قد وقع بين العلماء في حجية إجماع النحاة؛ فإنه ليس بين العلماء خلاف في حجية إجماع العرب؛ فإجماعهم حجة عند الجميع؛ لأن الله تعالى صان ألسنتهم عن الخطأ في التعبير وصانهم عن الإقرار على الخطأ والتغيير. يقول السيوطي: وإجماع العرب أيضًا حجة". وقوله: "أيضًا" معناه: أنه يرى أن إجماع النحويين حجة خلافًا لمن أسقطه من أدلة الاحتجاج، ويدل على أن هذا هو رأيه قوله في أول (الاقتراح): "وقد تحصل

مما ذكراه -يعني: مما ذكره ابن جني والأنباري- أربعة، وقد عقدت لها أربعة كتب". انتهى. وقد استبعد السيوطي وقوع هذا الإجماع من العرب؛ فقال: أنى لنا بالوقوف عليه. ومعنى ما قاله السيوطي: أن حصول إجماع العرب والظفر به شيء مستبعد؛ لا يوصل إليه إلا بمشقة عظيمة. ومن صور إجماع العرب: ما يعرف بالإجماع السكوتي، وهو الذي عرفه السيوطي بقوله: أن يتكلم العربي بشيء ويبلغهم ويسكتون عليه، أي: وهم يسكتون عليه. انتهى. ففي سكوت العرب عما بلغهم إجماع منهم على جوازه، وهو الإجماع المعروف عند الفقهاء بالإجماع السكوتي، وقد عده كثير من الفقهاء معتبرًا كالإجماع القولي، وقد أراد السيوطي -رحمه الله- إثبات الإجماع السكوتي في اللغة؛ فنقل عن ابن مالك قوله في (شرح التسهيل): "استدل على جواز توسيط خبر "ما" الحجازية ونصبه بقوله الفرزدق: فأصبحوا قد أعاد الله نعمتهم ... إذ هم قريش وإذ ما مثلهم بشر ورد المانعون بأن الفرزدق تميمي تكلم بهذا معتقدًا جوازه عند الحجازيين؛ فلم يصب. ويجاب: بأن الفرزدق كان له أضداد من الحجازيين والتميميين، ومن مناهم أن يظفروا له بزلة يشنعون بها عليه؛ مبادرين لتخطئته، ولو جرى شيء من ذلك لنقل؛ لتوافر الدواعي على التحدث بمثل ذلك إذا اتفق؛ ففي عدم نقل ذلك عنه دليل على إجماع أضداد الحجازيين والتميميين على تصويب قوله". انتهى كلام ابن مالك.

ونقف في هذا النص على قضيتين تتعلق إحداهما بعلم النحو وتتعلق الأخرى بأصول النحو: أما الأولى: فهي نصب خبر "ما" الحجازية إذا تقدم على اسمها؛ فمن المقرر في علم النحو: أنه يشترط في إعمال "ما" عمل "ليس" في لغة أهل الحجاز شروط؛ منها: بقاء الترتيب بين الناسخ واسمه وخبره بألا يتقدم خبرها على اسمها نحو: ما زيدٌ قائمًا؛ فإن تقدم الخبر على الاسم بطل إعمال "ما"؛ فيقال: ما قائمٌ زيدٌ، بالرفع، وقد أعمل الفرزدق -وهو تميمي- "ما" عمل "ليس" مع توسط الخبر بين الناسخ واسمه، وهو أمر لا يكاد يعرف -كما قال سيبويه في (الكتاب). وتسلمنا هذه القضية النحوية إلى القضية الثانية الأصولية: وهي أن العرب الذين سمعوا الفرزدق لم ينكروا عليه هذا القول؛ فأخذ من إقرار سامعيه وعدم إنكارهم عليه أنه إجماع سكوتي تقوم به الحجة على جواز مثل هذا التركيب، وذكر بعض النحاة أنه ليس في كلام الفرزدق دليل على جواز هذا التركيب؛ لأن الفرزدق من بني تميم وهم يهملون "ما" مطلقًا، وقد أراد أن يتكلم بلغة الحجازيين -أي: بإعمال "ما"- فغفل عن شرط عملها -وهو مراعاة الترتيب- فأخطأ في التعبير، فما في كلامه خطأ لا يستدل به. هذا حاصل ما ذكره المانعون، وقد رده ابن مالك بما سبق ذكره. وقد ساق السيوطي كلام ابن مالك -رحمه الله- ليستدل به على إثبات الإجماع السكوتي، وتحقيق الأمر: أن ليس فيما ذكر دليل على هذا الإجماع؛ إذ لا يلزم من سكوتهم جواز ما ذكر؛ لأن في البيت تخريجات أخرى يحسن بنا أن نذكرها إتمامًا للفائدة، وردًّا على السيوطي في دعواه: إن قول الفرزدق: "وإذا ما مثلَهم بشر" ذكر فيه العلماء توجيهات متعددة:

تركيب المذاهب.

منها: أنه لا يكاد يعرف -وهو قول سيبويه كما سبقت الإشارة إليه. ومنها: أن "بشر" خبر و"مثلَهم" مبتدأ؛ ولكنه بني على الفتح لإبهامه مع إضافته إلى المبني؛ فهو نظير قوله تعالى: {إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُون} (الذاريات: 23). ومنها: أن يكون الأصل: "ما في الوجود بشرٌ مثلُهم"؛ فـ"مثلَهم" في الأصل نعت لـ"بشرٌ" و"بشرٌ" مبتدأ، والخبر محذوف وهو الجار والمجرور، ثم قدم النعت على المنعوت ونعت النكرة إذا تقدم عليها انتصب على الحال فـ"مثلَهم" حال. وخلاصة ما سبق: أن ما ذكره ابن مالك ليس فيه دليل على إجماع العرب. تركيبُ المذاهب إن الحديث عن تركيب المذاهب أثر من آثار الدراسات الفقهية التي اقتبسها النحاة وأدخلوها في علم النحو، وتركيب المذاهب يشبه في أصول الفقه إحداث قول ثالث في مسألة فيها قولان، والمراد بتركيب المذاهب هنا: أن يعمد النحوي إلى الجمع بين مذهبين ليخرج مذهبًا ثالثًا. وقد عقد له ابن جني بابًا في (الخصائص) وشبهه بتداخل اللغات. ومن أمثلة تركيب المذاهب ما صنعه المازني في تصغير "يضع" إذا جعل علمًا لرجل؛ فمذهب يونس رد الحرف المحذوف؛ لأن الأصل فيه "يوضِع" على وزن "يفعل"؛ فحذفت الفاء لما وقعت بين عدوتيها الياء والكسرة؛ وفتحت العين لأن اللام حرف حلقي؛ فإذا أريد تصغير "يضع" علمًا؛ فإن يونس يرد الحرف المحذوف؛ إذ التصغير يرد الأشياء إلى أصولها؛ فيقول: "يويْضع"، ومذهب سيبويه عدم رد الحرف المحذوف؛ لأن الاسم استوفى ثلاثة أحرف؛ فينظر إليه سيبويه على أنه اسم ثلاثي فيقول في تصغيره: "يُضيْع".

الإجماع السكوتي وإحداث قول ثالث.

ومذهب يونس في "جوارٍ" وهو في الأصل جمع "جارية" إذا جُعل علمًا لرجل منع صرفه؛ لأنه على صيغة منتهى الجموع عنده؛ فيبقيه يونس على أصله استصحابًا للأصل، وإبقاء لما كان على ما كان، وسيبويه يصرفه؛ لأن المنع إنما كان لصيغة منتهى الجموع، وقد فقدت هذه الصيغة بتصييره علمًا. وقد ركب المازني من المذهبين -مذهب يونس ومذهب سيبويه- مذهبًا ثالثا، وهو: الصرف على مذهب سيبويه والرد على مذهب يونس؛ فاختار في تصغيره "يضع" علمًا رد المحذوف وهو مذهب يونس واختار الصرف وهو مذهب سيبويه؛ فجمع بينهما؛ فتحصل له مذهب ثالث مركب من مذهبي الرجلين. فإذا أراد المازني تصغير "يرى" علمًا لرجل قال: رأيت "يُرَئِيًا"؛ فيرد الهمزة المحذوفة؛ لأن الأصل: "يَرأيُ"، وينونه، فرد المحذوف مذهب يونس، والصرف -أي: التنوين- مذهب سيبويه، ولو أراد يونس أن يصغر هذا الاسم لقال: "رأيت يُرئِيَ" برد الهمزة فقط وعدم التنوين؛ لأن مذهبه عدم الصرف؛ ولو أراد سيبويه أن يصغر هذا الاسم لقال: رأيت "يريًّا"، بإدغام ياء التصغير في الياء المنقلبة عن الألف وبتنوينه؛ لأن مذهبه الصرف؛ فقد عرف تركب مذهب المازني من مذهبي الرجلين. الإجماع السكوتي وإحداث قول ثالث إن هذا العنصر شديد الاتصال بالذي قبله؛ إذ يتناول سكوت النحاة عن أمر بلغه فلم ينكروه؛ كما يتناول إحداث قول ثالث مأخوذ من قولين. تعريف الإجماع السكوتي: إن الإجماع السكوتي مصطلح من مصطلحات أصول الفقه، ويراد به: أن ينطق بعض المجتهدين بحكم ويسكت الباقون عنه بعد علمهم به؛ لأن سكوتهم مجرد

عن الاستنكار موافقة وإن لم يصرحوا بها، وهو أحد الأدلة المعتبرة عند الفقهاء؛ فكثير من المحققين اعتبره وأجراه مجرى الإجماع القولي. وقد انتقل هذا المصطلح من أصول الفقه إلى أصول النحو، ولم يكن أبو البقاء العكبري يعتد بالإجماع السكوتي من النحاة، ومن ثم فقد أحدث قولًا ثالثًا في مسألة نقلها عنه السيوطي ونسبها إلى كتابه (التبيين) وليس في كتاب (التبيين) المطبوع بين أيدينا شيء مما نقله السيوطي عنه؛ فلعله نقل ذلك عن نسخة خطية أخرى من الكتاب لم تصل إلينا. وخلاصة القول في هذه المسألة: أن أبا البقاء العكبري يرى أن الضمير المتصل بـ"لولا" في نحو: لولاك، ولولاي، يجوز فيه وجهان لم يذكرهما الجمهور: أحدهما: ألا يكون للضمير موضع من الإعراب. والآخر: أن يكون هذا الضمير في موضع نصب. وهذان القولان لم يسبق إليهما أحد من النحويين؛ وإنما النحويون في هذا الضمير وجهين وهما: - أن يكون في موضع جر لأن "لولا" جارة، وهو قول جمهور البصريين. - وذهب الأخفش والكوفيون إلى أن الضمير في موضع رفع على الأصل؛ لأن "لولا" إنما يليها المبتدأ ولا عمل لها أصلًا. أما أبو البقاء العكبري؛ فقد أداه الاجتهاد إلى القولين الذين سبق ذكرهما، ثم أورد العكبري على نفسه سؤالًا حاصله: أن ما ذهب إليه خلاف الإجماع، والقول بما يخالف الإجماع مردود بناء على ما هو التحقيق من أنه لا يجوز خرق إجماع علماء العربية.

وقد أجاب العكبري عن هذا بقوله: الجواب عنه من وجهين: أحدهما: أن هذا إجماع مستفاد من السكوت؛ وذلك أنهم لم يصرحوا بالمنع من قول ثالث؛ وإنما سكتوا عنه، والإجماع: هو الإجماع على حكم الحادثة -أي: النازلة- التي يقع البحث فيها قولًا -أي: مقولًا- منصوصًا مصرحًا به. والثاني: أن أهل العصر الواحد إذا اختلفوا على قولين جاز لمن بعدهم إحداث قول ثالث. هذا معلوم من أصول الشريعة، وأصول اللغة محمولة على أصول الشريعة. انتهى. ومعنى ما ذكره أبو البقاء: أن الإجماع المعتد به عنده، والذي لا يجوز خرقه لا تجوز مخالفته: هو الإجماع القولي الذي لا يكتفي فيه العلماء بالسكوت؛ وإنما يكون بالقول الصريح؛ كما يفهم من كلامه أن جواز إحداث قول ثالث في مسألة ذكر العلماء فيها قولين. وقوله: "جاز لمن بعدهم" يريد من بلغ منزلة المتقدمين ووصل إلى رتبتهم في النظر والاجتهاد؛ كأبي علي الفارسي المتوفى سنة سبع وسبعين وثلاثمائة؛ فإنه قد بلغ من الاجتهاد في علوم العربية مبلغًا عظيمًا سوغ له أن يستنبط، ومن ذلك: ما جوَّزه من إدخال الألف واللام على لفظة "كل" مع منع السابقين لذلك. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 12 القياس (1)

الدرس: 12 القياس (1)

معنى القياس، وبيان مدى اعتماد النحو عليه، وعدم إمكان إنكاره.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثاني عشر (القياس (1)) معنى القياس، وبيانُ مدى اعتماد النحو عليه، وعدمُ إمكانِ إنكارِه الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: معنى القياس: عرفه أبو البركات الأنباري في كتابه (لمع الأدلة) بأن معناه في اللغة: التقدير، وهو مصدر قايست الشيء بالشيء مقايسة وقياسًا، أي: قدرته، ومنه المقياس، أي: المقدار، وقيس رمح، أي: قدر رمح، وقال: وهو في عرف العلماء -أي: في اصطلاحهم- عبارة عن: تقدير الفرع بحكم الأصل، وقيل: هو حمل فرع على أصل بعلة وإجراء حكم الأصل على الفرع، وقيل: هو إلحاق الفرع بالأصل بجامع، وقيل: هو اعتبار الشيء بالشيء بجامع، وهذه الحدود كلها متقاربة. انتهى. وعرفه في كتابه المسمى (الإغراب في جدل الإعراب) بأنه يعني في الاصطلاح: هو حمل غير المنقول على المنقول إذا كان في معناه، كما أوضح المراد بالنقل والمنقول فقال: فأما النقل: فالكلام العربي الفصيح المنقول النقل الصحيح الخارج عن حد القلة إلى حد الكثرة. انتهى. وأشار السيوطي إلى مكانة القياس وأهميته بالنسبة لبقية أدلة النحو فقال: وهو معظم أدلة النحو والمعول في غالب مسائله عليه؛ كما قيل: "إنما النحو قياس يُتبع"؛ فاستشهد السيوطي هنا بصدر بيت من بحر الرمل اقتطعه من قصيدة للكسائي أورد منها السيوطي في كتابه (بغية الوعاة) أحد عشر بيتًا، وهي: أيها الطالب علمًا نافعًا ... اطلب النحو ودع عنك الطمع إنما النحو قياس يُتبع ... وبه في كل علم يُنتفع

وإذا أبصر النحوَ فتًى ... مر في المنطق مرًّا فاتسع فاتقاه كلُّ من جالسه ... من جليس ناطق أو مستمع وإذا لم يبصر النحوَ الفتى ... هاب أن ينطق جبنًا فانقطع فتراه ينصب الرفع وما ... كان من نصب ومن خفض رفع يقرأ القرآن لا يعرف ما ... صرف الإعراب فيه وصنع والذي يعرفه يقرؤه ... وإذا ما شك في حرف رجع ناظرًا فيه وفي إعرابه ... فإذا ما عرف اللحن صدع فهما فيه سواء عندكم ... ليست السنة منا كالبدع كم وضيع رفع النحوُ وكم ... من شريف قد رأيناه وضع قال السيوطي: ولهذا -يريد ولمكانة القياس في علم النحو- قيل في حده -يعني: في حد النحو-: إنه علم بمقاييس مستنبطة من استقراء كلام العرب، وقال صاحب (المستودع): كل علم فبعضه مأخوذ بالسماع والنصوص وبعضه بالاستنباط والقياس وبعضه بالانتزاع من علم آخر؛ فالفقه بعضه بالنصوص الواردة في الكتاب والسنة وبعضه بالاستنباط والقياس، والطب بعضه مستفاد من التجربة وبعضه من علوم أخر، والهيئة بعضها من علم التقدير وبعضها تجربة يشهد بها الرصد، والموسيقى جلها منتزع من علم الحساب، والنحو بعضه مسموع مأخوذ من العرب وبعضه مستنبط بالفكر والروية -وهو التعليلات- وبعضه يؤخذ من صناعة أخرى؛ كقولهم: الحرف الذي تختلس حركته في حكم المتحرك لا الساكن؛ فإنه مأخوذ من علم العروض؛ وكقولهم: الحركات أنواع: صاعد عالٍ، ومنحدر سافل، ومتوسط بينهما؛ فإنه مأخوذ من صناعة الموسيقى. انتهى ما نقله السيوطي عن صاحب كتاب (المستوفى) وهو ابن الفرخان.

الرد على من أنكر القياس.

وقبل أن نتابع السيوطي في استطراده للرد على من أنكر القياس نورد تفسيرًا لمصطلحات بعض العلوم والألفاظ المنقولة عن (المستوفى) مع التنبيه على أن السيوطي متصرف في النقل عنه: فالهيئة: هي علم يعرف به أحوال الكواكب وجريانها ومنازلها، وعلم التقدير: هو العلم المعروف الآن بالهندسة، والرصد: هو تتبع حركات الكواكب، والاختلاس: هو الإتيان بحركة هاء الغائب كاملة من غير صلة -أي: من غير إشباع- إجراءً للوصل مجرى الوقف للضرورة الشعرية، ومن أمثلته قول مالك بن خريم الهمداني: فإنْ يكُ غَثًّا أو سَمينا فإنَّنِي ... سَأَجعَلُ عيْنَيْهي لنفسهِ مقْنَعَا أراد: "لنفسهي"؛ فحذف الياء ضرورة في الوصل تشبيهًا لها بها في الوقف عليها إذا قال: لنفسه، والشاعر في بيته وصف ضيفًا؛ فيقول: إنه يقدم إليه ما عنده من القراءة ويحكمه فيه ليختار أفضل ما تقع عليه عيناه؛ فيقنع بذلك. أما الحرف الصاعد العالي فكفتحة "دعا"، والمنحدر السافل فككسرة "يرمي"، والمتوسط بينهما فكالمختلس كحرف الهاء في البيت السابق. الردُّ على من أنكرَ القياس اعتمد السيوطي في هذا الرد على ما ذكره أبو البركات الأنباري في كتابه (لمع الأدلة)، ومجمل هذا الرد أنه لا سبيل إلى إنكار القياس في النحو؛ لأن النحو كله قياس؛ كما تجلى في تعريف أبي علي الفارسي له ومن بعده تعريف ابن عصفور وغيرهما، بأن النحو: علم بالمقاييس المستنبطة من استقراء كلام العرب؛ فمن أنكر القياس في النحو فقد أنكر النحو كله.

ونوضح هذا الرد في النقاط الآتية: أولًا: إنكار القياس في النحو جريًا على إنكار جماعة له في الفقه كالظاهرية أمر محال؛ لأن إنكاره يؤدي إلى المحال؛ ولذلك لا يُعلم أحد من العلماء أنكر القياس في النحو؛ وذلك لثبوته بالدلالة القاطعة التي لا يرقى إليها شك أو تشكيك؛ فالعلماء أجمعوا على أنه إذا قال العربي: كتب زيدٌ؛ فإنه يجوز قياسًا على قوله أن يسند الفعل "كتب" إلى كل اسم مسمى تصح منه الكتابة، عربيًّا كان كعمرو وبشر، أو أعجميًّا كأزدشير، وهو اسم فارسي وممن سمي به أزدشير بن هرمز -أحد ملوك الفرس- وإلى ما لا يدخل تحت الحصر، وإثبات ما لا يدخل تحت الحصر بطريق النقل محال عادة، وإذا استحال النقل فيما ذكر كان قياسًا لا نصًّا على كل فرد فرد من تلك التراكيب غير المنحصرة في الوجود. ثانيًا: كذلك العوامل الداخلة على الأسماء والأفعال، وهي الرافعة والناصبة والجارة للأسماء، والرافعة والناصبة والجازمة للأفعال؛ فإنه يجوز إدخال كل منها على ما لا يدخل تحت الحصر. ونقل المسموع من ذلك عن العرب أمر متعذر؛ فإنه يتعذر في النقل دخول كل عامل من العوامل على كل ما يجوز أن يكون معمولًا له؛ ألا ترى أنه يتعذر أن يُنقل بعد عامل الرفع كل ما يجوز أن يكون مرفوعًا به، وبعد عامل النصب كل ما يجوز أن يكون منصوبًا به، وبعد عامل الجر كل ما يجوز أن يكون مجرورًا به، وبعد عامل الجزم كل ما يجوز أن يكون مجزومًا به؟! فلو لم يجز القياس واقتُصر على ما ورد في النقل من الاستعمال لبقي كثير من المعاني لا يمكن التعبير عنها لعدم النقل؛ وذلك منافٍ لحكمة وضع الألفاظ؛ فوجب أن يوضع -أي: النحو- وضعًا قياسيًّا عقليًّا -أي: مقتصرًا فيه على معرفة الأنواع دون الأفراد-

حل شبه تورد على القياس.

لا نقليًّا -أي: لا مقتصرًا فيه على التراكيب المنقولة عن العرب- لتعذر ذلك بخلاف اللغة -يعني: مفردات الألفاظ- فإنها وضعت وضعًا نقليًّا لا عقليًّا، أي: ولذلك قال ابن فارس اللغوي: وليس لنا اليوم أن نخترع، ولا أن نقول غير ما قالوه، ولا أن نقيس قياسًا لم يقيسوه؛ لأن في ذلك فساد اللغة وبطلان حقائقها. انتهى. ومن ثم لا يجوز القياس في اللغة؛ بل يقتصر على ما ورد به النقل؛ ألا ترى أن القارورة -وهي: وعاء من الزجاج تحفظ فيه السوائل- سمي بذلك لاستقرار الشيء فيها، ولا يسمى كل مستقر فيه قارورة؛ وكذلك سميت الدار دارًا لاستدارتها، ولا يسمى كل مستدير دارًا. وختم الأنباري هذا الرد بقوله: فلو قلنا إن النحو ثبت نقلًا لا قياسًا وعقلًا؛ لأدى ذلك إلى رفع الفرق بين اللغة والنحو، وإلى التسوية بين المقيس والمنقول، وذلك مخالف للعقول. انتهى. حلُّ شُبَهٍ تُوردُ على القياس ذكر أبو البركات الأنباري تحت هذا العنوان في الفصل الثاني عشر من (لمع الأدلة) ثلاث شبه واعتراضات لإمكان ورودها من المنكر للقياس، وأتبعها بذكر الجواب عليها، وقد صدر هذا الفصل بقوله: اعلم أن لمنكر القياس أن يقول: الاعتراض على ما ذكرتموه من القياس من ثلاثة أوجه: أما مضمون الوجه الأول من الاعتراضات أو الشبه في ضوء ما ذكره أبو البركات الأنباري: فهو لو جاز حمل الشيء على الشيء بحكم الشبه -يعني: كما هو مقتضى القياس- لما كان حمل أحدهما على الآخر بأولى من صاحبه. ومثل لذلك بمثالين يتضح من خلالهما مفهوم هذا الاعتراض:

أولهما: أنه ليس حمل الاسم المبني لشبه الحرف على الحرف في البناء بأولى من حمل الحرف لشبه الاسم على الاسم في الإعراب، يعني: أنكم تقولون: إن الاسم بني لشبهه بالحرف؛ فجعلتم الحرف هو الأصل في البناء وحملتم عليه الاسم بحكم ما أوردتموه من أوجه الشبه، ومع إقراركم بوجود هذه الأوجه بينهما لم تكملوا المعادلة ليكون الحرف معرَبًا حملًا له على الأصل في الإعراب وهو الاسم بحكم الشبه؛ لمنافاة ذلك للواقع اللغوي؛ فقياسكم إذًا غير مطرد. والمثال الثاني: ليس منع الاسم من الصرف -أي: من التنوين- حملًا له على الفعل لشبهه به بأولى من تنوين الفعل حملًا له على الاسم بحكم هذا الشبه؛ ومع ذلك لا ينون الفعل مما يدل على بطلان قياسكم الاسم على الفعل. والوجه الثاني من الاعتراضات على القياس: أنه إذا كان القياس حمل الشيء على الشيء بضرب من الشبه؛ فما من شيء يشبه شيئًا من وجه إلا يفارقه من وجه آخر؛ فإن كان وجه المشابهة يوجب الجمع -يعني: يوجب الجمع بين المقيس والمقيس عليه في الحكم ومد حكم المقيس عليه إلى المقيس- فوجه المفارقة يوجب المنع -أي: يوجب منع مد الحكم من المقيس عليه إلى المقيس- وليس مراعاة ما يوجب الجمع لوجود المشابهة بأولى من مراعاة ما يوجب المنع لوجود المفارقة. ومن أمثلة ذلك: ما لم يسمَّ فاعله؛ فإنه وإن أشبه الفاعل من وجه فقد خالفه وفارقه من وجه آخر فإن كان وجه المشابهة يوجب القياس -أي: قياس ما لم يسمَّ فاعله على الفاعل في الأحكام التي كانت للفاعل- فإن وجه المفارقة يوجب منع القياس. والوجه الثالث من الاعتراضات: أنهم قالوا: لو كان القياس جائزًا؛ لكان ذلك يؤدي إلى اختلاف الأحكام؛ لأن الفرع قد يأخذ شبهًا من أصلين مختلفين إذا حُمل على كل واحد

منهما وجد التناقض في الحكم، وذلك لا يجوز؛ مثال ذلك: "أنْ" الخفيفة المصدرية تشبه أصلين مختلفين تشبه "أنَّ" المشددة من وجه وتشبه ما المصدرية من وجه، و"أنَّ" المشددة معملة؛ فهي تنصب المبتدأ وترفع الخبر و"ما" المصدرية غير معملة؛ فلو حملنا "أنْ" الخفيفة المصدرية على "أنَّ" المشددة في العمل وعلى "ما" المصدرية في ترك العمل؛ لأدى ذلك إلى أن يكون الحرف الواحد معملًا وغير معمل في حال واحدة، وذلك محال. وبعد انتهائه من الاعتراضات الثلاثة السابقة أورد الأجوبة عليها على النحو الآتي: أما قولهم في الوجه الأول: "إنه لو جاز حمل الشيء على الشيء بحكم الشبه؛ لما كان حمل أحدهما على الآخر بأولى من صاحبه"؛ فظاهر الفساد؛ وذلك لأن الاعتبار في كون أحدهما محمولًا على الآخر أن يكون المحمول خارجًا عن أصله إلى شبه المحمول عليه، أي: أن يكون المقيس خارجًا عما هو الأصل في بابه إلى شبه المقيس عليه؛ فالمحمول -وهو المقيس- صار أضعف لخروجه عن أصل بابه إلى شبه المحمول عليه وهو المقيس عليه؛ والمحمول عليه أقوى؛ لأنه باقٍ على أصله ولم يخرج إلى شبه المحمول؛ فلما وجب حمل أحدهما على الآخر كان حمل الأضعف على الأقوى أولى من حمل الأقوى على الأضعف. وعلى هذا الاعتبار يخرج ما ذكرتموه من حمل الاسم على الحرف في البناء دون حمل الحرف على الاسم في الإعراب. وبيان ذلك: أن الاسم لما خرج عما هو الأصل في بابه وهو الإعراب ضعُف في بابه؛ في حين أن الحرف لم يخرج عما هو الأصل في بابه -وهو البناء- فلم يضعف؛ فكان حمل الاسم على الحرف في البناء لضعفه في بابه ونقله عن أصله

أولى من حمل الحرف على الاسم في الإعراب؛ لقوته في بابه وعدم نقله عن أصله. وينطبق هذا الاعتبار كذلك على ما لا ينصرف؛ فالاسم لما خرج عن أصله إلى شبه الفعل لوجود علتين فيه من العلل التسع التي يجمعها بيتان من الشعر، وهما: جمع ووصف وتأنيث ومعرفة ... وعُجمة ثم عدل ثم تركيبُ والنون زائدةٌ من قبلها ألفٌ ... ووزنُ فعلٍ وهذا القول تقريبُ وهاتان العلتان إحداهما ترجع إلى اللفظ والأخرى ترجع إلى المعنى؛ أو لوجود علة واحدة تقوم مقام العلتين، لما خرج الاسم عن أصله وأشبه الفعل في ذلك؛ ضعُف في بابه، والفعل لما لم يخرج عن أصله قوي في بابه؛ فلما وجب حمل أحدهما على الآخر كان حمل الاسم على الفعل في عدم التنوين لضعفه في بابه وخروجه عن أصله أولى من حمل الفعل على الاسم في دخول التنوين؛ لقوته في بابه وعدم نقله عن أصله. ولا خلاف في أنه ليس الأصل في الاسم أن يكون فيه علة من هذه العلل التسع؛ لأنها كلها فروع كما أن الفعل فرع، فإذا اجتمع منها علتان في اسم؛ علمنا أنه قد خرج إلى شبه الفعل. وقد أوضح الأنباري في كتابه (أسرار العربية) معنى كون العلل التسع المذكورة فرعًا فقال: فإن قيل: ومن أين كانت هذه العلل فروعًا؟ قيل: لأن وزن الفعل فرع على وزن الاسم، والوصف فرع على الموصوف، والتأنيث فرع على التذكير، والألف والنون الزائدتان فرع؛ لأنهما تجريان مجرى علامة التأنيث في امتناع دخول علامة التأنيث عليهما، والتعريف فرع على التنكير، والعجمة فرع

على العربية، والجمع فرع على الواحد والعدل فرع؛ لأنه متعلق بالمعدول عنه، والتركيب فرع على الإفراد؛ فهذا وجه كونها فروعًا. انتهى. قال الأنباري في (لمع الأدلة) رادًّا على الاعتراض الثاني: وأما قولكم في الوجه الثاني: إن القياس حمل الشيء على الشيء بضرب من الشبه وما من شيء يشبه شيئًا من وجه إلا يفارقه من وجه آخر؛ فإن كان وجه المشابهة يوجب الجمع فوجه المفارقة يوجب المنع؛ فظاهر الفساد أيضًا. وأوضح الأنباري سبب فساد هذا الاعتراض: وهو أنه إنما يجب القياس عند اجتماع المقيس مع المقيس عليه في معنًى خاصٍّ -وهو معنى الحكم أو ما يوجب غلبة الظن- والافتراق في ما عدا ذلك لا يؤثر في جواز الجمع، وبناء عليه؛ يخرَّج ما مثلتم به وهو قياس ما لم يسمَّ فاعله على الفاعل في الرفع؛ فإنه وإن كان يشابهه من وجه ويفارقه من وجه؛ إلا أن الوجه الذي يوجب القياس من المشابهة أولى من الوجه الذي يمنع من جواز القياس من المفارقة؛ لأن المعنى الموجب للقياس من المشابهة: هو الإسناد، وهو المعنى الخاص الذي هو معنى الحكم في الأصل، وأما المعنى الموجب لمنع القياس من المفارقة؛ فليس بمعنى الحكم ولا أثر له فيه بحال؛ فلهذا كان القياس أولى من منعه. وأبطل الأنباري الاعتراض الثالث الذي يتضمن تأدية القياس إلى تناقض الأحكام بأنه ظاهر الفساد كسابقيه؛ لأن المقيس لا يلحق بكلا المشبه بهما المختلفين، وإنما يلحق بأقواهما وأكثرهما شبهًا، ومن هنا؛ فإن "أنْ" الخفيفة المصدرية تلحق بـ"أنَّ" المشددة المصدرية لا بـ"ما" المصدرية؛ لأن الأولى أكثر شبهًا بها من الثانية لمشابهتها لها لفظًا ومعنًى دون الثانية التي تشبهها معنى فقط.

أركانه القياس وشروطه.

أركانُه القياس وشروطه الركن الأول من أركان القياس الأربعة: الأصل المقيس عليه، ومن شرطه ألا يكون شاذًّا: ذكر السيوطي أن للقياس أربعة أركان: وهي أصل -وهو المقيس عليه- وفرع -وهو المقيس- وحكم، وعلة جامعة. ومثل لذلك بمثال نقله عن أبي البركات الأنباري: وهو أن تركب قياسًا في الدلالة على رفع ما لم يسمَّ فاعله -أي: الدلالة على رفع نائب الفاعل- فتقول: اسم أسند الفعل إليه مقدمًا عليه؛ فوجب أن يكون مرفوعًا، قياسًا على الفاعل؛ فالأصل المقيس عليه هو الفاعل، والفرع المقيس هو ما لم يسمَّ فاعله -أي: نائب الفاعل- والحكم الذي امتد من الأصل إلى الفرع هو الرفع، والعلة الجامعة هي الإسناد، والأصل في الحكم -وهو الرفع هنا-: أن يكون للأصل الذي هو في هذه المسألة الفاعل؛ وإنما أجري على الفرع الذي هو نائبه، أي: امتد إليه بالعلة الجامعة التي هي الإسناد. وقد عقد السيوطي لهذه الأركان الأربعة أربعة فصول أولها: في الأصل المقيس عليه، وذكر أن من شرط المقيس عليه ألا يكون شاذًّا -أي: خارجًا- عن سنن القياس -أي: عن طريقه ونهجه- فإن خرج عن نهج القياس؛ فإنه لا يقاس عليه وإن لم يكن مردودًا في نفسه عند البلغاء لورود السماع به؛ فهو يُحفظ ولا يقاس عليه، ومن أمثلة هذا الشاذ تصحيح عين الأفعال: استحوذ، واستصوب، واستنوق، مع استحقاقها بمقتضى القياس أن تُعل -أعني: أن تغير، كما سبق بيانه- وكحذف نون التوكيد في قول الشاعر:

اضرب عنك الهمومَ طارقَها ... ضربك بالسوط قونَسَ الفرسِ قونس الفرس: هو العظم الناتئ بين أذني الفرس، وأصل الكلام: اضربن عنك -بنون توكيد خفيفة ساكنة- وفعل الأمر يبنى مع نون التوكيد على الفتح، وقد حذف الشاعر نون التوكيد وهو ينويها؛ فلذلك أبقى الفعل مبنيًّا على الفتح كما كان عليه وهو مقرون بها؛ لتكون هذه الفتحة مشيرة إلى النون المحذوفة ودليلًا عليها، وهذا الحذف شاذ؛ لأن نون التوكيد الخفيفة لا تحذف إذا وليها حرف متحرك كالبيت المذكور، ووجه ضعفه في القياس: أن الغرض من التوكيد التحقيق؛ وإنما يليق به الإسهاب والإطناب لا الاختصار والحذف؛ وإنما تحذف نون التوكيد الخفيفة إذا وليها حرف ساكن؛ كقول الأضبط بن قريع السعدي: لا تهينَ الفقير علك أن ... تركع يومًا والدهر قد رفعه والأصل: "لا تهينن" بنونين؛ أولاهما: لام الكلمة، والثانية: نون التوكيد الخفيفة؛ فحذف الشاعر نون التوكيد لالتقاء الساكنين: نون التوكيد الخفيفة، ولام "أل" بعدها، وأبقى الفتحة قبلها -أي: قبل نون التوكيد- دليلًا عليها. ومن الخروج عن سنن القياس: حذف صلة الضمير دون الضمة وهو المسمى بالاختلاس؛ كقول الشماخ يصف حمار وحش هائجًا: له زجلٌ كأنهُ صوتُ حادٍ ... إذا طلب الوسيقةَ أو زميرُ يقول: إذا طلب وسيقته -وهي أنثاه- صوَّت بها في تطريب وترجيع؛ كالحادي يتغنى بالإبل، أو كأن صوته مزمار، وشاهده "كأنه" أصلها: "كأنهو" بالمد؛ فحذف الصلة وأبقى الضمة مُنَزَّلةً منزِلَةً بين منزلتي الوصف والوقف، وهو أمر لم يُعهد في القياس ... نعم؛ يجوز القياس على ما استُعمل للضرورة في الضرورة؛ تطبيقًا لمقولة أبي علي الفارسي؛ كما جاز لنا أن نقيس منثورنا على منثورهم؛ كذلك يجوز أن نقيس شعرنا على شعرهم ... انتهى.

جواز القياس على القليل.

ونفى ابن جني أن يكون الشعراء المحتج بشعرهم كانت ضرورتهم أقوى من ضرورتنا، وكان عذرهم فيه أوسع من عذرنا، اعتمادًا على أنهم كانوا يرتجلون الشعر ارتجالًا من غير تمهل وترفق فيه ومراجعة له كما يفعل الشعراء المولدون. وأوضح أن الشعراء المحتج بشعرهم ليس جميع شعرهم مرتجلًا؛ بل كان منهم من يترسَّل ويتمهَّل كالشعراء المولدين، ومن هؤلاء: زهير بن أبي سلمى، ومروان بن أبي حفصة؛ كما أن من المولدين من يرتجل -أي: فتساوى الآخرون بالأولين- وكما لا يقاس على الشاذ نطقًا لا يقاس عليه تركًا؛ فقد أوضح ابن جني أنه إذا كان الشيء شاذًّا في السماع مطردًا في القياس تحاميت -أي: تجنبت- ما تحامت العرب من ذلك وجريت في نظيره على الواجب في أمثاله. ومثَّل لذلك بترك استعمال ماضي الفعلين "يذر"، و"يدع"؛ فلا يقال: "وذر" أو "ودع" لترك العرب إياهما استغناء عنهما بـ"ترك"، ولا مانع من استعمال نظيرهما المطِّرد في الاستعمال والقياس كـ"وزن" و"وعد" وإن لم تسمع أنت هذا النظير؛ فالشذوذ في الترك والنطق مقصور على محله لا يتجاوز لغيره. جوازُ القياس على القليل ذكر السيوطي أنه ليس من شرط المقيس عليه: الكثرة؛ فقد يقاس على القليل لموافقته للقياس، ويمتنع على الكثير لمخالفته له، وما أورده السيوطي هنا منقول عن (الخصائص) ذكره ابن جني تحت عنوان: باب في جواز القياس على ما لا يقل ورفضه فيما هو أكثر. ومن أمثلة القياس على القليل الموافق للقياس: قولهم في النسب إلى شنوءة: شنأيٌّ، ولم يرد في النسب إلى فعولة غير هذه الكلمة؛ فهي بذلك تعد كل

المسموع في النسب إلى هذا الوزن؛ فلك أن تقيس عليها ما لم يسمع فتقول في النسب إلى ركوبة -وهي ما يركب من الدواب-: ركبيٌّ، وإلى حلوبة -وهي الناقة المعدة للحلب-: حلبيٌّ، وإلى "قتوبة" وهي الناقة التي يوضع عليها القتب -وهو الرحل الصغير الذي يجلس عليه الراكب-: قتبِيٌّ قياسًا على "شنأيّ" إجراء لما كان على وزن فعولة مجرى ما كان على وزن فعيلة؛ لمشابهته إياه من أربعة أوجه: - فكلاهما ثلاثي -أي: مكون من ثلاثة أحرف- وثالثه حرف لين وآخره تاء تأنيث، ويتواردان على معنى واحد -أي: يأتي أحدهما مكان الآخر- نحو أثيم وأثوم، ورحيم ورحوم، ومشِيٌّ ومشوٌّ، والأصل فيهما: مشييٌ ومشويٌ، ونهيٌّ عن الشيء ونهوٌّ، والأصل فيهما: نهييٌ ونهويٌ، فلما استمرت حال فعيلة وفعولة هذا الاستمرار؛ جرت واو شنوءة مجرى ياء حنيفة؛ فكما قالوا "حنفيٌّ" قياسًا قالوا "شنأيٌّ" أيضًا قياسًا، قال ابن جني: قال أبو الحسن -يعني: الأخفش-: فإن قلت: إنما جاء هذا في حرف واحد -يعني: في كلمة واحدة وهي كلمة شنوءة- قال: فإنه جميع ما جاء. وعلق ابن جني على رد الأخفش مبديًا إعجابه بهذا الرد قائلًا: وما ألطف هذا القول من أبي الحسن! وتفسيره أن الذي جاء في فعولة هو هذا الحرف، والقياس قابله ولم يأتِ فيه شيء ينقضه، فإذا قاس الإنسان على جميع ما جاء وكان أيضًا صحيحًا في القياس مقبولًا؛ فلا غرو ولا ملام. انتهى. والمعنى: أنهم عدوا كلمة: شنأيٌّ، هو كل ما سمع عن العرب في النسب إلى الكلمة التي على وزن فعولة؛ فهي كل المسموع أو كل المنقول وكل الوارد عن

العرب، وهو في الوقت نفسه موافق للقياس؛ فلا مانع من القياس عليه، ويعد هذا القياس صحيحًا مقبولًا؛ فلا غرو ولا ملام على القائل به. ومن أمثلة ما لا يجوز القياس عليه مع كونه واردًا عن العرب أكثر من "شنأيّ" لمخالفته للقياس: قولهم في النسب إلى ثقيف وقريش وسليم: ثَقَفيٌّ وقُرشِيٌّ وسلَميٌّ، قال ابن جني: فهذا، وإن كان أكثر من شنأيّ؛ فإنه عند سيبويه ضعيف في القياس؛ فلا يجوز على هذا في سعيد: سعَديٌّ، ولا في كريم: كرَمِيٌّ. انتهى. وابن جني أشار بما سبق إلى ما ذكره سيبويه في (الكتاب) نقلًا عن شيخه الخليل: أن كل شيء عدلته العرب -أي: حادت به ورجعت به عن طريق القياس- تركته على ما عدلته عليه العرب. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 13 القياس (2)

الدرس: 13 القياس (2)

حمل فرع على أصل.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثالث عشر (القياس (2)) حملُ فرعٍ على أصلٍ الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فقبل أن نبدأ الحديث عن هذه العناصر نشير إلى أن السيوطي -رحمه الله- قد افتتح هذه المسألة بقوله: "القياس في العربية على أربعة أقسام". ومعنى ما ذكره السيوطي: أن هذه الأقسام الأربعة هي أقسام القياس باعتبار المقيس والمقيس عليه؛ لأن للقياس أقسامًا مختلفة باعتبارات متعددة؛ وإنما كانت أقسام القياس أربعة باعتبار المقيس والمقيس عليه، بدليل الاستقراء. حمل فرع على أصل: إن المراد بحمل فرع على أصل: أن يأخذ المقيس حكم المقيس عليه؛ لأنه أصله؛ فالمقيس عليه هو الأصل، والمقيس هو الفرع، وللأصل حكم؛ فيأخذ الفرع حكم أصله. وقد ذكر السيوطي أن هذا النوع من القياس يسمى قياس المساوِي؛ وإنما سمي بذلك لأنه قد حصلت فيه المساواة بين الأصل المقيس عليه والفرع المقيس؛ فكان حكمهما واحدًا. ومن أمثلته: إعلال الجمع وتصحيحه حملًا على المفرد في ذلك؛ كقولهم: قِيَم ودِيَم، في جمع قيمة وديمة، وقولهم: زِوَجة وثِوَرة، في جمع زوج وثور؛ لأن الجمع تابع لمفرده في صحته وإعلاله؛ فإذا كان المفرد معلًّا كان الجمع مثله؛ وإذا كان المفرد صحيحًا كان الجمع مثله كذلك؛ فكلمة: "قِيَم" الأصل فيها "قِوَم" بالواو لا بالياء؛ لأنها من التقويم، وكلمة "دِيَم" الأصل أن يقال فيها "دِوَم" بالواو؛ لأنها من الدوام؛ ولكن أبدلت الواو فيهما ياءً لأنها وقعت عينًا لجمع

حمل أصل على فرع.

صحيح اللام وقبلها كسرة، وكانت في المفردة معلة -أي: مغيرة- فمفرد قيم: قيمة، ومفرد ديم: ديمة، والأصل في المفردين: قِوْمة ودِوْمة. وقد أعلت الواو في المفرد الذي هو أصل الجمع -أي: أبدلت ياء- لسكونها إثر كسرة؛ فأعلت في الجمع -وهو الفرع- حملًا للفرع على الأصل؛ فإذا كانت الواو صحيحة في المفرد وجب تصحيحها في الجمع، نحو قولهم: "زِوَجة" فإنه جمع "زوج"؛ ولم تقلب الواو في الجمع لسلامتها في المفرد، وكذلك قالوا: "ثِوَرة" في جمع "ثور"؛ ولم يعلوا الواو في الجمع لسلامتها في المفرد أيضًا. والخلاصة: أن الفرع يحمل على الأصل في صحته وإعلاله؛ فإذا كان الأصل صحيحًا كان الفرع صحيحًا؛ وإذا كان الأصل معلًّا كان الفرع معلًّا، ويلاحظ أن المفرد هو أصل الجمع لأنه أسبق منه. حملُ أصلٍ على فرعٍ إن المراد بحمل أصل على فرع: هو أن يثبت الحكم للفرع ثم يحمل الأصل عليه، وهو عكس النوع الأول، وقد أفرد ابن جني لهذا القسم من القياس بابًا في (الخصائص) عنوانه: باب من غلبة الفروع على الأصول، ومعناه: تشبيه الأصل بالفرع وحمله عليه، وعليه وعلى غيره اعتمد السيوطي في كتاب (الاقتراح)، وذكر أن هذا القسم من القياس يسمى قياس الأولى؛ لأنه إذا ثبت الحكم للفرع فالأصل أولى به، والأمثلة التي حُمِل فيها الأصل على فرعه كثيرة ذكر السيوطي منها ما يلي: المثال الأول: حمل المصدر على الفعل في الصحة والإعلال، والمصدر أصل للفعل على الرأي الراجح والمذهب المختار، ومع كون المصدر أصلًا والفعل فرعًا

عنه؛ فالمصدر يحمل على الفعل في صحته وإعلاله؛ فيصح إذا كان الفعل صحيحًا ويعل إذا كان الفعل معلًّا. ومن أمثلة ذلك: إعلال المصدر لإعلال فعله وتصحيحه لصحته؛ كقمت قيامًا، وقاومت قِوامًا، وبيان ذلك أنهم لما أعلوا الفعل في الجملة الأولى -وهو قام من قمت- أعلوا مصدره -وهو قيام- حملًا عليه؛ فإن الأصل في الفعل أن يكون "قوَم"؛ تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفًا، والأصل في المصدر أن يكون بلفظ "قِوام"؛ لكن وقعت الواو عينًا لمصدر فعل أعلت في فعله، وقبلها كسرة وبعدها ألف؛ فقلبت ياءً. فنلحظ أن المصدر قد أعلت عينه لما كانت عين الفعل معلة، وإن اختلف وجه الإعلال؛ فلما صححوا عين الفعل في الجملة الثانية وقالوا: قاوم من قاومت؛ صححوا عين المصدر حملًا عليه؛ فقالوا: قوامٌ؛ فسلمت العين في المصدر لسلامتها في الفعل؛ فالمصدر في الحالتين محمول على الفعل؛ فهو من باب حمل الأصل على الفرع. والمثال الثاني من أمثلة هذا النوع من الحمل: حمل الحرف على الحركة في الحذف عند الجزم، فقد نقل السيوطي عن ابن جني قوله: ومن حمل الأصل على الفرع حذف الحروف للجزم -وهي أصول- حملًا على حذف الحركات له وهي زوائد. انتهى. والمراد بالحروف التي تحذف للجزم: أحرف العلة الثلاثة التي ينتهي بها الفعل المضارع، وهي: الألف، والواو، والياء، وحرف النون في الأمثلة الخمسة؛ فإنها تحذف عند الجزم حملًا لها على حذف الحركات، والحروف أصل لقوتها والحركات فروع عن الحروف.

والمثال الثالث من أمثلة هذا النوع من الحمل كذلك: حمل الاسم على الفعل في منع الصرف، وقد ذكر السيوطي هذا المثال نقلًا عن ابن جني، ومعناه: أن الاسم أصل والفعل فرع عنه؛ وإنما كان الاسم هو الأصل والفعل هو الفرع؛ لأن الفعل مشتق ومأخوذ من أحد أنواع الاسم -وهو المصدر- ومع كون الاسم أصلًا للفعل؛ فقد حمل الأصل -وهو الاسم- على الفرع -وهو الفعل- فمُنع الاسم من الصرف عند مشابهته للفعل في وجود علتين: إحداهما راجعة إلى اللفظ، والأخرى راجعة إلى المعنى، أو عند وجود علة واحدة تقوم مقام العلتين؛ فلما حُمل الاسم على الفعل كان ذلك من حمل الأصل على الفرع. والمثال الرابع من أمثلة هذا النوع من الحمل أيضًا: حمل الاسم على الحرف في البناء، فمعلوم أن مرتبة الحرف دون مرتبة الاسم؛ لأن الحروف موضوع للربط بين الاسم والفعل، ومع كون الاسم أصلًا والحرف فرعًا حُمل الاسم على الحرف؛ فبني عند قيام الشبه بين الاسم والحرف. والمثال الخامس من أمثلة هذا النوع من الحمل كذلك: حمل الفعل على الحرف في عدم التصرف، ومثاله الذي ذكره ابن جني ونقله السيوطي عنه هو حمل "ليس" و"عسى" في عدم التصرف على "ما" و"لعل" كما حملت "ما" على "ليس" في العمل؛ فإن "ليس" و"عسى" فعلان على الرأي الراجح، وقد منعا التصرف أي: لا يصاغ منهما غير الماضي؛ فلا يبنى من "ليس" مضارع ولا اسم باتفاق النحويين كما لا يبنى من "عسى" مضارع ولا اسم على الرأي الأصح؛ وإنما منعا التصرف حملًا لـ"ليس" على "ما" لأنهما بمعنى واحد وهو النفي وحملًا "لعسى" على "لعل"؛ لأنهما بمعنى الترجي. والمثال السادس من أمثلته أيضًا: حمل العطف على التثنية، فالعطف أصل والتثنية فرع، ويشترط في عطف الفعل على الفعل: اتحاد الزمان، وإن اختلفت الصيغ؛ فيجوز عطف

الماضي على المضارع إن أريد بالمضارع معنى الماضي أو بالماضي معنى المستقبل؛ وأما إذا اختلف زمانهما فلا يجوز عطف أحدهما على الآخر، وقد ذهب أبو حيان إلى أن هذا من حمل الأصل وهو العطف على الفرع وهو التثنية؛ وإنما كان العطف هو الأصل لأن المثنى يغني عن المتعاطفين. وذكر أبو حيان ما يشير إلى أنه يمكن ألا تكون هذه المسألة من باب حمل الفرع على الأصل إذا قيل: إن العطف في الفعل نظير التثنية في الاسم -أي: لعدم قبول الفعل للتثنية. ونختم الحديث بمثال سابع ذكره السيوطي نقلًا عن ابن جني وجعله في مقدمة الأمثلة التي يستدل بها على حمل الأصل على الفرع، وقد أرجأناه لما يمتاز به من شرح وبيان بذكر أشباه له ونظائر، وهذا المثال ذكره ابن جني في (الخصائص)؛ فأوضح أن سيبويه أجاز في جر "الوجه" من قولك: هذا الحسنُ الوجهِ، أن يكون من موضعين: أحدهما بإضافة الحسن إليه، والآخر تشبيهه بالضارب الرجل، مع أنه من المعلوم أن الجر في الرجل من قولك: هذا الضاربُ الرجلِ؛ إنما جاءه وأتاه من جهة تشبيههم إياه بالحسن الوجه؛ لكن لما اطَّرد الجر في نحو: هذا الضاربُ الرجلِ والشاتمُ الغلامِ، صار كأنه أصل في بابه حتى دعا ذلك سيبويه إلى أن عاد فشبه "الحسن الوجه" بـ"الضارب الرجل" من الجهة التي إنما صحت للضارب الرجل تشبيهًا بالحسن الوجه. وهذا يدلك على تمكن الفروع عندهم؛ حتى إن أصولها التي أعطتها حكمًا من أحكامها قد حارت -أي: رجعت- فاستعادت من فروعها ما كانت هي أدته إليها، وجعلته عطية منها لها، وجعل ابن جني ذلك من حملهم الأصل على الفرع فيما كان الفرع قد أفاده من الأصل.

وقال ابن جني أيضًا في (الخصائص): وهذا المعنى عينه قد استعمله النحويون في صناعتهم؛ فشبهوا الأصل بالفرع في المعنى الذي أفاده ذلك الفرع من الأصل، وأعاد ابن جني ذكر حمل "الحسن الوجه" على "الضارب الرجل" مع كون الجر في "الحسن الوجه" هو الأصل، وابن جني يشير فيما تقدم إلى عبارة سيبويه في (الكتاب) في باب الصفة المشبهة، بعد ذكره: أنك كما تقول: الضاربُ زيدًا تقول: هو الحسنُ الوجهَ، أي بنصب معمول الصفة المشبهة المقترنة بـ"أل" إذا كان المعمول معرفة على التشبيه بالمفعول به. قال: وقد يجوز في هذا أن تقول: هو الحسنُ الوجهِ على قوله: هو الضارب الرجل؛ فالجر في هذا الباب من وجهين: من الباب الذي هو له وهو الإضافة، ومن إعمال الفعل ثم يستخف فيضاف. انتهى. ومعنى ما ذكره سيبويه وابن جني: أن الأصل في قولنا: هذا الحسنُ الوجهِ: جر "الوجه"، والأصل في قولنا: هذا الضاربُ الرجلَ: نصب الرجل، إلا أن كلًّا منهما قد حمل على صاحبه؛ فجاز في "الحسن الوجهِ" أن يكون منصوبًا حملًا على "الضارب الرجلَ" وجاز في "الضارب الرجلَ" أن يكون مجرورًا حملًا على "الحسن الوجهِ"؛ وإنما جاز الأمران لأن العرب إذا شبهت شيئًا بشيء فحملته على حكمه؛ عادت أيضًا فحملت الآخر على حكم صاحبه تثبيتًا لهما وتتميمًا لمعنى الشبه بينهما وتمكينًا لهما وإظهارًا لأثر المماثلة بين المشبه والمشبه به. والأمثلة على ذلك متعددة، وقد ذكر السيوطي لنا ستة أمثلة نوردها بحسب ترتيب ورودها في (الاقتراح) وهي: المثال الأول: تشبيه الفعل المضارع باسم الفاعل، وتشبيه اسم الفاعل بالفعل المضارع. وبيان ذلك: أنه سمي الفعل المضارع مضارعًا لأنه ضارع اسم الفاعل

-أي: شابهه، كما سبق أن ذكرنا- ولما كان الفعل المضارع شبيهًا باسم الفاعل خالف بقية الأفعال وأعرب، والأصل في الأفعال البناء، وعكس العرب الأمر؛ فشبهوا اسم الفاعل بالفعل في الدلالة على التجدد والحدوث، وأعملوه عمل الفعل تتميمًا للمشابهة بينهما. والمثال الثاني: تشبيه الوقف بالوصل وتشبيه الوصل بالوقف؛ فإذا كانت الكلمة مختومة بتاء؛ فإن الأصل إبقاء التاء عند الوصل وإبدالها هاء عند الوقف، وهي اللغة الفصحى، وبعض العرب يقف على التاء وسمع بعضهم يقول: يا أهل سورة البقرتْ، فقال بعض من سمعه: والله ما أحفظ منها آيتْ؛ فكان الوقف بالتاء. كما يكون الوصل بالتاء: ومن ذلك قولهم -عليه السلام والرحمتْ، بالتاء من غير إبدالها هاء، وقول الراجز: الله نجاك بكفي مسلمتْ، أي: مسلمة. ولما فعلوا ذلك عكسوا الأمر؛ فشبهوا الوصل بالوقف فقالوا: سبسبا وكلكلا، بلا تنوين والأصل تنوينه؛ ولكنهم شبهوه بالوقف، والسبسب: هو المفازة أو الأرض المستوية البعيدة، والكلكل: هو الصدر. والمثال الثالث: إجراء غير اللازم مجرى اللازم، وإجراء اللازم مجرى غيره؛ فمن إجراء غير اللازم مجرى اللازم: تسكين الهاء من الضمير "هي" بعد همزة الاستفهام في قول الفرزدق: فقمت للضيف مرتاعًا فأرقني ... فقلت أهْيَ سرت أم عادني حلم فقد قل سكون الهاء من الضمير بعد همزة الاستفهام؛ ولكن الشاعر أجرى السكون غير اللازم مجرى اللازم فنطق به، ومن ذلك قول الآخر: ومن يتَّقْفَ إن الله معه ... ورزق الله مؤتاب وغادي

مؤتاب: أي راجع. وقد أجرى الشاعر في البيت "تقِف" مجرى "علِم" حتى صار: تقْف كعلم، ولما أجرى العرب غير اللازم مجرى اللازم أجروا اللازم مجرى غيره أيضًا في قراءة: "على أن يحيِي الموتى" (القيامة: 40) بإسقاط حركة النصب في الفعل المضارع بعد "أنْ" المصدرية الناصبة إجراء للنصب مجرى الرفع الذي لا يلزم فيه الحركة. والمثال الرابع: حمل النصب على الجر وحمل الجر على النصب، فقد حمل العرب النصب على الجر في المثنى وجمع المذكر السالم؛ لأن الجر فيهما جاء على أصل إعراب الحروف، وهو الجر بالياء، وحُمِل النصب على الجر؛ فكان النصب بالياء أيضًا، ثم حملوا الجر على النصب في باب الممنوع من الصرف فكان مجرورًا بالفتحة، وجره بالفتحة خلاف الأصل؛ ولكنه محمول على نصبه. والمثال الخامس: تشبيه الياء بالألف وتشبيه الألف بالياء، فمن المعلوم أن الألف لا تظهر عليها علامات الإعراب، وأن الياء تقدر عليها الضمة والكسرة وتظهر عليها الفتحة؛ فتقول: رأيت القاضيَ، وأكرمت الداعيَ. وقد شبهت العرب الياء بالألف في تقدير الفتحة عليها؛ فقال الشاعر: كأن أيديهن بالقاع القَرِق ... أيدي جوارٍ يتعاطين الوَرِق وصف الراجز إبلًا بسرعة السير، والقَرِق: المكان الأملس المستوي الذي لا حجارة فيه، والوَرِق: الدراهم. والراجز قدر الفتحة على الياء من "أيديهن" والنصب في مثله يظهر لخفته؛ إلا أن الراجز قدره إجراءً للياء مجرى الألف. وكما شبهوا الياء بالألف في تقدير الفتحة عليها شبهوا الألف بالياء في تقدير السكون عليها؛ وذلك في قوله:

حمل نظير على نظير.

إذا العجوز غضبتْ فطلِّقِ ... ولا ترَضَّاها ولا تملَّقِ فأثبت الألف في "ولا ترضَّاها" وقدر السكون عليها حملًا على الياء التي حملت هي في تقدير الفتحة عليها على الألف. والمثال السادس: وضع المنفصل موضع المتصل ووضع المتصل موضع المنفصل، فمن الأحكام المقررة أن الضمير لا يجوز انفصاله إن أمكن اتصاله، وقد وُضِع الضمير المنفصل في الموضع المتصل في قول الشاعر: بالباعثِ الوارثِ الأمواتُ قد ضمنتْ ... إياهمُ الأرضُ في دهر الدهارير فإن الأصل "قد ضمنتهم الأرض"؛ ولكن الضمير المنفصل وضع موضع المتصل. كما وضع الضمير المتصل في موضع الضمير المنفصل في قول الشاعر: وما نبالي إذا ما كنتِ جارتنا ... ألا يجاورنا إلّاك ديار فإن الضمير المتصل لا يلي إلا في الاختيار، وقد وليها في الاضطرار؛ إجراءً له مجرى الضمير المنفصل الذي انفصل في موضع يمكن فيه اتصاله -وهو قول الشاعر السابق: قد ضمنت إياهم الأرض". حملُ نظيرٍ على نظيرٍ المراد بحمل النظير على النظير: حمل الشيء على شيء يشبهه ويماثله، وقد تكون المماثلة بين المحمول والمحمول عليه في اللفظ دون المعنى، أو في المعنى دون اللفظ، أو فيهما معًا؛ فهذه أنواع ثلاثة ولكل نوع أمثلته: أولًا: حمل النظير على النظير في اللفظ دون المعنى. له أمثلة متعددة منها ما يلي:

المثال الأول: زيادة إن بعد ما المصدرية الظرفية وبعد ما الموصولة لشبههما في اللفظ بـ"ما" النافية التي تزاد "إنْ" بعدها كثيرًا كما في قول النابغة: ما إنْ أتيتُ بشيء أنت تكرهه ... إذًا فلا رفعت سوطي إليَّ يدي وقول الآخر: فما إنْ طِبُّنا جبنٌ ولكن ... منايانا ودولة آخرين وبزيادة "إنْ" بعد "ما" المصدرية الظرفية: قول الشاعر: ورَجِّ الفتى للخير ما إنْ رأيته ... على السن خيرًا لا يزال يزيد أي: ما رأيته، والمعنى: مدة رؤيتك له؛ فـ"ما" مصدرية ظرفية، وزيدت "إنْ" بعدها كما تزاد بعد "ما" الموصولة، ومنه قول الشاعر: يرجِّي المرء ما إن لا يراه ... وتعرض دون أدناه الخطوب والمعنى: يرجِّي المرء الذي لا يراه؛ فزيدت "إن" بعد "ما" الموصولة. والمثال الثاني: دخول لام الابتداء على "ما" النافية حملًا لها على "ما" الموصولة؛ لأنها بلفظها، وقد دخلت لام الابتداء على "ما" النافية في قول النابغة: لمَا أغفلتُ شكرَك فاصطنعني ... فكيف ومِن عطائك جلُّ مالي البيت من قصيدة يتنصل فيها عما اتُّهِم به عند النعمان بن المنذر، وقد أدخل لام الابتداء على "ما" النافية، والأصل في لام الابتداء أن تدخل على الاسم الواقع مبتدأ؛ كقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك)). و"ما" النافية لست مبتدأة؛ وإنما دخلته لام الابتداء؛ لأنها تشبه "ما" الموصولة في لفظها؛ فلما صح أن تدخل لام الابتداء على "ما" الموصول في نحو: أي لا الذي تصنعه حسن؛ جاز دخولها على "ما" النافية؛ لأنها تشبه الموصولة في لفظها.

والمثال الثالث: توكيد المضارع بالنون بعد "لا" النافية حملًا لها في اللفظ على "لا" الناهية؛ فقد كثر توكيد المضارع المسبوق بـ"لا" الناهية، ومنه قوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} (إبراهيم: 42)؛ فأجاز بعض العلماء توكيد المضارع المسبوق بـ"لا" النافية حملا لها على "لا" الناهية، وحملوا على ذلك قوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} (الأنفال: 26) ذهب بعض العلماء إلى أن "لا" في الآية نافية وقد جاء المضارع بعدها مؤكدًا بالنون حملًا لها على "لا" الناهية. والمثال الرابع: حذف فاعل "أفعِل به" في التعجب لما كان مشبهًا لفعل الأمر في اللفظ؛ لأن فعل الأمر للواحد نحو: أكرِمْ، وأحسِنْ، يكون معه الفاعل ضميرًا مستترًا وجوبًا؛ ولما كان لفظ "أفعِل به" في التعجب كلفظ الأمر؛ حذف فاعله في قوله تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} (مريم: 38). والمثال الخامس: بناء باب "حَذامِ" على الكسر تشبيهًا له بـ"دَرَاكِ ونَزَالِ"، ومعناه: أن ما كان علمًا لمؤنث على وزن فعال؛ فإنه يبنى على الكسر لأنه يشبه أسماء الأفعال نحو: دَرَاكِ بمعنى أدرك، ونَزَالِ بمعنى: انزلْ، ونكتفي بهذه الأمثلة الخمسة التي حمل فيها النظير على نظيره في اللفظ دون المعنى. الصورة الثانية: وهي حمل النظير على نظيره في المعنى دون اللفظ، وهي: أن يحمل الشيء على شيء يشبهه في معناه ولا يشبهه في لفظه: وله أمثلة متعددة، ذكر السيوطي منها مثالين، وهما: المثال الأول: جوازُ: غيرُ قائمٍ الزيدانِ؛ حملًا على: ما قائمٌ الزيدانِ؛ ولإيضاح هذا المثال وبيانه نقول: إن المبتدأ ينقسم قسمين: مبتدأ له خبر، ومبتدأ له مرفوع يغني عن الخبر؛ فالمبتدأ الذي له خبر نحو: زيد قائم، والمبتدأ الذي له مرفوع

يغني عن الخبر: هو كل وصف اعتمد على نفي أو استفهام، نحو: ما قائمٌ الزيدان؛ فقائم مبتدأ، والزيدان فاعل يغني عن الخبر، ونظيره المحمول عليه: غيرُ قائمٍ الزيدان؛ لأنه في معناه؛ فإن النفي الذي تدل عليه "ما" دلت عليه "غير"، وإن اختلف المثالان في اللفظ، وغير مبتدأ، وقائمًا مضاف إليه، والزيدان فاعل مرفوع بقائم، وقد أغنى عن الخبر. ويحسن بنا أن نشير هنا إلى أن قد وقع في نسخ (الاقتراح) التي بين أيدينا قول السيوطي: ومن أمثلة الثاني -يعني: من أمثلة حمل النظير على النظير في المعنى فقط- جواز غير قائم الزيدان؛ حملًا على: ما قام الزيدان؛ لأنه في معناه. انتهى. فذكر المحمول عليه بلفظ الفعل الماضي المسبوق بـ"ما" النافية، وهو سهو لم ينتبه إليه محققو (الاقتراح) في طبعاته المختلفة؛ لأن قولنا: ما قام الزيدان، لا علاقة له بما نحن فيه؛ فإن السيوطي قد قال بعد ذلك مباشرة: لأن المبتدأ إما أن يكون ذا خبر أو ذا مرفوع يغني عن الخبر. انتهى. فإذا قيل: ما قام الزيدان -كما ورد في نسخ (الاقتراح) - فالجملة فعلية لا علاقة لها بالمبتدأ ولا بالخبر، والصواب ما أثبتناه. والمثال الثاني: إهمال "أنْ" المصدرية مع المضارع حملًا على "ما" المصدرية؛ فيرفع الفعل المضارع بعدها، ومن ذلك قراءة مجاهد: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (البقرة: 233) قرأ مجاهد: "لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمُّ الرَّضَاعَة" برفع الفعل "يُتِمُّ"، وقول الشاعر: أن تقرآن على أسماءَ ويْحَكُما ... مني السلام وألا تُشعِرا أحدا فالفعل "تقرآن" وقع بعد أن المصدرية، وهو مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة.

حمل ضد على ضد.

ثالثًا: حمل النظير على النظير في اللفظ والمعنى، ومن أمثلته "أفعَل" التفضيل، وهو اسم بإجماع النحويين، وأفعَلَ في التعجب نحو: ما أحسَنَ زيدًا، وقد صححه أنه فعل ماضٍ، وفاعله ضمير راجع لـ"ما" والمنصوب على التعجب هو المفعول، وأفعل التفضيل يوجب أفعل في التعجب وزنًا وأصلًا ومبالغة، وللتشبيه بينهما أجازوا تصغير أفعل في التعجب ومنعوا أفعل التفضيل أن يرفع الاسم الظاهر؛ حملًا لكل على الآخر. حملُ ضدٍّ على ضدٍّ إن حمل الشيء على ضده أو على نقيضه هو الصورة الرابعة من صور القياس، وله أمثلة متعددة منها: النصب بـ"لم"؛ حملًا على الجزم بـ"لن"؛ فإن "لم" و"لن" ضدان؛ إذ إن الأولى تفيد نفي الماضي وتفيد الثانية نفي المستقبل، و"لم" من أدوات جزم الفعل المضارع، وقد جاء النصب بها شاذًّا في قراءة من قرأ: "أَلَمْ نِشْرَحَ لَكَ صَدْرَك" (الشرح: 1) ومنه قول القائل: من أي يومي من الموت أفر ... أيوم لم يقدر أو يوم قدر؟ فقد ورد المضارع "يقدر" منصوبًا بعد "لم" كما جاء الجزم بـ"لن" في قول الشاعر: لن يخِب الآن من رجائك ... من حرك من دون بابك الحلقه فجزم بـ"لن"، وتعرف هذه الظاهرة باسم التقارب في اللغة، ومعنى التقارب: أن يستعير كل واحد من اللفظين من الآخر حكمًا هو أخص به، ونقل السيوطي عن الجزولية: أنه قد يحمل الشيء على مقابله، وعلى مقابل مقابله، وعلى مقابل مقابل مقابله.

مثال الأول: لم يضرب الرجل، حمل الجزم على الجر، يعني: لما احتيج إلى التخلص من التقاء الساكنين حرك الساكن الأول وهو الباء بالكسر التي هي العلامة الأصلية للجر؛ لأنهما متقابلان؛ فالجزم من خصائص الأفعال ويقابله الجر من خصائص الأسماء. ومثال الثاني: اضرب الرجل، حمل الجزم فيه -أي: في اضرب- على الكسر -أي: في الفعل لم يضرب الرجل- الذي هو -أي: الكسر- مقابل الجر من جهة أن الكسر في البناء مقابل الجر في الإعراب. ومثال الثالث: اضرب الرجل، حُمل السكون فيه على الكسر الذي هو -أي: الكسر- مقابل للجر الذي هو -أي: الجر- مقابل للجزم، والجزم الذي هو علامة إعراب مقابل للسكون الذي هو علامة بناء. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 14 القياس (3)

الدرس: 14 القياس (3)

المقيس، وهل يوصف بأنه من كلام العرب أو لا؟.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الرابع عشر (القياس (3)) المقيس، وهل يُوصف بأنه من كلام العرب أوْ لاَ؟ الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد. لقد عرفنا -فيما سبق- أن القياس هو حمل غير المنقول على المنقول إذا كان في معناه، أو هو حمل فرع على أصل بعلة تقتضي إجراء حكم الأصل على الفرع، أو هو إلحاق الفرع بالأصل بجامع ... إلى آخر هذه التعريفات التي اختلفت ألفاظها وتقاربت معانيها؛ كما عرفنا أن للقياس أربعة أركان، وهي: المقيس عليه، والمقيس، والحكم، والعلة الجامعة، وقد بدأ السيوطي فصل المقيس في كتاب (الاقتراح) بسؤال وهو: هل يوصف المقيس بأنه من كلام العرب أو لا؟. وقد صرح ابن جني في (الخصائص) بأن ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب، ولم يصغ القضية على هيئة سؤال؛ أما السيوطي فقد بدأ الفصل بهذا السؤال: هل يوصف المقيس بأنه من كلام العرب؟ والذي دفع السيوطي إلى طرح هذا السؤال: أن المقيس يتنازعه أمران؛ لأنه قد صيغ في قوالب العرب، وجاء على نهج كلامهم، ونسج على منوالهم، ثم إن العرب لم تتكلم به؛ فإذا نظر إلى الأمر الأول قيل: إن المقيس يوصف بأنه من كلام العرب، وإذا نظر إلى الأمر الثاني قيل: إنه ليس من كلامهم، هذا هو مراد السيوطي من سؤاله. وقد أجاب عنه بأن: المقيس يوصف بأنه من كلام العرب؛ إذ قال: قال المازني: ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب، ولنا وقفة مع السيوطي في نسبة هذا القول إلى المازني، وقد سبقه إلى ذلك ابن جني في (الخصائص) فقال: "نص أبو عثمان -أي: المازني- عليه فقال: ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب". انتهى. والحق أن أبا عثمان المازني مسبوق بهذا القول؛ إذ سبقه إليه الخليل وسيبويه، وذلك فيما أورده ابن جني من كلام المازني نفسه في كتاب (المنصف) وهو شرح لكتاب (التصنيف) للمازني؛ فقد قال ابن جني: "وكان أبو الحسن الأخفش يجيز أن تبني على ما بنت العرب وعلى أي مثال سألته، إذا قلت له: ابن لي من كذا

مثال كذا، وإن لم يكن من أمثلة العرب، ويقول: إنما سألتني أن أمثل لك؛ فمسألتك ليست بخطأ وتمثيلي عليها صواب، وكان الخليل وسيبويه يأبيان ذلك ويقولان: ما قيس على كلام العرب؛ فهو من كلامهم". انتهى. ويتبين مما سبق: أن هذه العبارة صدرت أول ما صدرت عن شيخي العربية: الخليل، وسيبويه، وقد نقلها عنهما المازني؛ فنسبت إليه. ونعود إلى الإجابة على سؤال (الاقتراح): إن المقيس على كلام العرب يوصف بأنه من كلامهم حكمًا وعملًا وإن لم يرد ذلك عنهم بعينه ولا وفاه بألفاظه، وقد بين المازني الدليل على صحة هذا القول؛ قال ابن جني في (الخصائص): باب: في أن ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب: "هذا موضع شريف وأكثر الناس يضعف عن احتماله لغموضه ولطفه، والمنفعة به عامة، والتساند إليه مقوٍّ مجدٍ، وقد نص أبو عثمان عليه فقال: ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب؛ ألا ترى أنك لم تسمع ولا غيرك اسم كل فعل ولا مفعول؛ وإنما سمعت البعض فقست عليه غيره؛ فإذا سمعت: قام زيد، أجزت: ظرف بشر، وكرم خالد؟! ". انتهى. ومن المعلوم أن السيوطي قد اعتمد على كتاب (الخصائص) لابن جني؛ غير أنه قد اختصر الكلام اختصارًا غير مخل؛ فكلام ابن جني أكثر نفعًا وأتم فائدة، وبخاصة تلك الأمثلة التي ذكرها ولم يذكرها السيوطي في (الاقتراح)، وهي تدل على أن المقيس يوصف بأنه من كلام العرب، ويدل على ذلك أمور: منها: إعراب بعض الكلمات غير العربية، ومن ذلك قول أبو علي الفارسي شيخ ابن جني: "إذا قلت: طاب الخشكنان؛ فهذا من كلام العرب؛ لأنك بإعرابك إياه قد أدخلته كلام العرب" انتهى؛ فالخشكنان كلمة معربة، والمراد

بها: خالص دقيق الحنطة إذا عجن وملئ بالسكر واللوز وماء الورد وجمع وخبز، وهي كلمة غير عربية -كما سبق أن بينا- غير أنها سبقت بفعل فأعربت فاعلًا؛ فصار هذا الكلام عربيًّا منسوبًا إلى لغة العرب، وإن لم تنطق العرب به ولا فاهوا بهذه اللفظة؛ وإنما صار هذا الكلام عربيًّا لأنه قيس على كلام العرب وداخله الإعراب. ومنها: إجراء الكلمات الأعجمية مجرى العربية، فإن العرب قد أجرت الكلمات الأعجمية جرى كلامها العربي في الصرف والمنع من الصرف، وبيان ذلك ذكره ابن جني بقوله: "ما أعرب من أجناس الأعجمية قد أجرته العرب مجرى أصول كلامها؛ ألا تراهم يصرفون في العلم نحو: آجر، وإبريسم، وفرند، وفيروزج، وجميع ما تدخله لام التعريف، وذلك أنه لما دخلته اللام في نحو: الديباج، والفرند، والسهريز -وهو ضرب من التمر- والآجر، أشبه أصول كلام العرب -أعني: النكرات- فجرى في الصرف ومنعه مجراها". انتهى. ومعنى ما ذكره ابن جني: أن العرب قد عاملت الأسماء الأعجمية معاملة الأسماء العربية في الصرف والمنع منه؛ فإذا كانت الكلمة الأعجمية علمًا تدخله اللام صرفته؛ لأنه يشبه النكرة. ومنها: الاشتقاق من الأعجمي، فإن العرب قد اشتقت من بعض الكلمات الأعجمية، ومن ذلك: ما حكاه أبو علي عن ابن الأعرابي أنه قال: يقال درهمة الخُبَّازة أي: صارت كالدراهم؛ فاشتق من الدرهم -وهو اسم أعجمي. وحكى أبو زيد: رجل مدرهم، أي: كثير الدراهم. ومما اشتقته العرب من كلام العجم أيضًا: ما جاء في قول الراجز: هل تعرف الدار لأم الخزرج ... منها فظلت اليوم كالمزرج

أي: الذي شرب الزرجون، وهي الخمر؛ فاشتق المزرج من الزرجون، وهي كلمة أعجمية، وكان قياسه كما في (الخصائص): كالمزرجن؛ من حيث كانت النون في زرجون قياسها أن تكون أصلًا؛ إذ كانت بمنزلة السين من قربوسٍ؛ ولكن العرب إذا اشتقت من الأعجمي خلَّطت فيه. ووجه الاستدلال بهذه الأمور الثلاثة التي سبق ذكرها: أن العرب قد أعربت غير العربي وأجرته مجرى الكلام العربي واشتقت منه؛ فدل ذلك كله على أن المقيس على كلام العرب يجوز وصفه بأنه من كلامهم، وقد قال أبو علي: لو شاء شاعر أو ساجع أو متسع أن يبني بإلحاق اللام اسمًا وفعلًا وصفةً؛ لجاز له ولكان ذلك من كلام العرب، وذلك نحو قولك: خرْجج أكرم من دخْلل، وضرْبب زيد عمرًا، ومررت برجل ضرْبب وكرْمم، ونحو ذلك. انتهى. ومعنى هذا الكلام: أنه يجوز للمتكلم أن يصوغ أبنية بإلحاق اللام في آخر الكلمة، ومعنى الإلحاق ذكره ابن جني في (المنصف) فقال: "الإلحاق إنما هو: زيادة في الكلمة تبلغ بها زنة الملحق به؛ لضرب من التوسع في اللغة"، وقال في (المنصف) أيضًا: "لو اضطر شاعر الآن لجاز أن يبني من ضرب اسمًا وصفة وفعلًا وما شاء من ذلك فيقول: ضرْبب زيدٌ عمرًا، ومررت برجل ضرْبب، وضرْبب أفضل من خرْجج". انتهى. وقال الرضي في شرحه على (الشافية): "ومعنى الإلحاق في الاسم والفعل: أن تزيد حرفًا أو حرفين على تركيب زيادة غير مطردة في إفادة معنى؛ ليصير ذلك التركيب بتلك الزيادة، مثل كلمة أخرى في عدد الحروف وحركاتها المعينة والسكنات، كل واحد في مثل مكانه في الملحق بها، وفي تصاريفها من الماضي والمضارع والأمر والمصدر واسم الفاعل واسم المفعول إن كان الملحق به فعلًا

رباعيًّا، ومن التصغير والتكسير إن كان الملحق به اسمًا رباعيًّا لا خماسيًّا. وفائدة الإلحاق: أنه ربما يحتاج في تلك الكلمة إلى مثل ذلك التركيب في شعر أو سجع". انتهى. فبالإلحاق إذًا تزداد العربية غنًى وثراءً، وتتمكن من الوفاء بحاجة الشاعر والناثر؛ فربما احتاج هذا أو ذاك إلى كلمة معينة تقيم للشعر بنيانه أو تحفظ للسجع كيانه؛ فيجد كل منهما في الإلحاق طلبته ويعثر فيه على بغيته. وقد ذكر أبو علي الفارسي وأبو عثمان المازني وغيرهما: أن إلحاق المطرد الذي لا ينكسر إنما يكون موضعه من جهة اللام -أي: أن يكون موضع اللام من الثلاثة مكررًا للإلحاق- نحو: "جلْبب"؛ فالباء في آخره زائدة للإلحاق، وكذلك الجيم في "خرْجج"، واللام في "دخْلل"، والباء في "ضرْبب"؛ فهذه كلها زوائد للإلحاق بـ"فعلَلَ" ولا يلزم أن تكون لها معانٍ معروفة؛ وإنما ذلك تمرين للصرفيين إذا أرادوا بناء مثال على مثال؛ ولذلك قال الفارسي فيما نقله السيوطي: وكذلك يجوز أن تبني بإلحاق اللام ما شئت كقولك: خرْجج ودخْلل وضرْبب من خرج ودخل وضرب على مثال: شمْلل وسعْرر. انتهى. ومعنى شملل: أسرع وشمر، وسعرر بالعين المهملة من قولهم: سعرر الشيء فتسعرر، أي: دحرجه فتدحرج واستدار. وكما أن أبا علي الفارسي قد ذهب إلى أن ما قيس على كلام العرب: فهو من كلامهم؛ فإن تلميذه ابن جني قد وافقه في هذا الأمر -كما سبق- وزاد أمثلة لم يذكرها شيخه، وقد نقل السيوطي بعضها، وننقل هنا كلام ابن جني كاملًا؛ إذ إن فيه دلالة واضحة على مذهبه فقد قال -رحمه الله- في (الخصائص): "ومما يدلك على أن ما قيس على كلام العرب فإنه من كلامها: أنك لو مررت على

قوم يتلاقون بينهم مسائل أبنية التصريف -أي: يلقي بعضهم على بعض أسئلة عن هذه الأبنية- نحو قولهم في مثال: صمحْمَح، ومن الضرب: ضربْرَب، ومن القتل: قتلْتَل، ومن الأكل: أكلْكَل، ومن الشرب: شربْرَب، ومن الخروج: خرجْرَج، ومن الدخول: دخلْخَل، ومن مثل سفرجل من جعفر: جعفرَر ... ونحو ذلك؛ فقال لك قائل: بأي لغة يتكلم هؤلاء؟ لم تجد بدًّا من أن تقول بالعربية وإن كانت العرب لم تنطق بواحد من هذه الحروف". انتهى. وذكر ابن جني في (الخصائص): أن الأصمعي قال له الخليل: إن رجلًا أنشده: ترافع العز بنا فارفنْعَعا فقال الخليل للمنشد: هذا لا يكون! فتعجب الأصمعي وقال للخليل: كيف جاز للعجاج أن يقول: تقاعس العز بنا فاقعنْسَسا يعني: أن المنشد قد قاس إنشاده وبنى "فارفنععا" على قول العجاج في أرجوزته: "فاقعنسسا"؛ فلم منعته؟ قال ابن جني موضحًا ظاهر ما تدل عليه هذه القصة: فهذا يدل -يعني بظاهره- على امتناع القوم من أن يقيسوا على كلامهم؛ ألا ترى إلى قول الخليل وهو سيد قومه وكاشف قناع القياس في علمه؛ كيف منع من هذا؟! ولو كان ما قاله أبو عثمان يعني قوله: ما قيس على كلام العرب فهو من كلامهم، وصحيحًا ومذهبًا مرضيًّا لما أباه الخليل ولا منع منه. وقد أجاب ابن جني عن هذا بعدة أوجه، وخلاصة هذه الأوجه: أن الأمر ليس كما يظهر منه؛ فالأصمعي لم يقف على القصة بحذافيرها؛ فهو ليس ممن ينشط للمقاييس ولا لحكاية التعليل ومعروف بقلة انبعاثه في النظر، وتوفره على ما يُروى ويُحفظ، فمن الجائز أن الخليل قد أمسك عن شرح الحال له لمعرفته بهذه

الصفات فيه، أو أن الخليل أنكر ذلك لأنه في ما لامه حرف حلقي والعرب لم تبنِ المثال مما لامه حرف حلق، خصوصًا وحرف الحلق فيه متكرر، وذلك مستنكر عندهم مستثقل؛ وإنما استنكر العرب ذلك لتوالي العينين، وفي تواليهما من التنافر والثقل ما لا يخفى؛ فالثقل هو المانع، لا ما قد يقال من القياس، وقد اكتفى السيوطي بإيراد الجواب الأخير في (الاقتراح)، ولم يذكر غيره مما ذكره ابن جني؛ لأن هذا الوجه -كما وصفه ابن جني- هو ألطف من جميع ما جرى ذكره من أجوبة وأصنعه، أي: أقربه إلى قواعد الصنعة وأصولها. ونختم الحديث بما ذكره ابن جني من أن من قوة القياس عندهم اعتقاد النحويين أن ما قيس على كلام العرب فهو من كلامهم، نحو قولك في بناء مثل جعفر من ضرب: ضرْبَب، وهذا من كلام العرب، ولو بنيت مثله ضيْرَب، أو ضوْرَب، أو ضرْوَب ... أو نحو ذلك؛ لم يعتقد من كلام العرب؛ لأنه قياس على الأقل استعمالًا والأضعف قياسًا. ومعنى ما قاله ابن جني أن قولك: ضرْبَب -الملحق بجعفر- معدود من كلام العرب لكثرته في كلامهم؛ لأن الإلحاق المطرد يكون بتكرير اللام، أما الإلحاق بغير تكرير اللام كزيادة الياء في قولك: ضيْرَب أو زيادة الواو في قولك: ضوْرَب أو ضرْوَب؛ فهو قليل في الاستعمال ضعيف في القياس، وما كان كذلك لم يجز الرجوع إليه ولا القياس عليه. وقد اعتمد ابن جني فيما اعتمد عليه في ذلك على ما ذكره أبو عثمان المازني من أن أقيس الإلحاق أن يكون بتكرير اللام؛ فباب شمللتُ وسعررتُ أقيس في الإلحاق من باب حوقلتُ وبيطرتُ وجهورتُ، وهذا التفصيل الذي ذكره ابن جني هو الذي مشى عليه كثير من المحققين.

الحكم.

وذهب بعضهم إلى الجواز مطلقًا؛ لأن العرب أدخلت في كلامها الألفاظ الأعجمية؛ فإذا كانت الألفاظ الأعجمية قد دخلت لغة العرب فإن الألفاظ المصنوعة نحو: ضيْرَب وضوْرَب أحق وأولى، وهذا القول مردود مرغوب عنه؛ لأن الأعجمي لا يصير عربيًّا بإدخاله في الكلام العربي؛ بل يكون العربي أدخل في كلامه كلمة أعجمية ويكون الكلام المصنوع غير راجع للغة من اللغات. الحكم إن الحكم: هو الركن الثالث من أركان القياس، وقد وصفه أحد الباحثين بأنه: ثمرة القياس ونتيجته العملية؛ لأن عملية إلحاق المقيس بالمقيس عليه؛ لو لم يترتب عليها إعطاء حكم الأصل للفرع لبطلت العملية القياسية بأسرها؛ لأنه لا قياس بلا حكم. وقد أورد السيوطي مسألتين تتعلقان بالحكم: المسألة الأولى: تقسيم الحكم قسمين: أحدهما: حكم ثبت استعماله عن العرب. والآخر: حكم ثبت بالقياس والاستنباط. والمسألة الثانية: حكم القياس على الأصل المختلف في حكمه. أما المسألة الأولى: فقد بدأها السيوطي بقوله: إن ما يقاس على حكم ثبت استعماله عن العرب، وهل يجوز أن يقاس على ما ثبت بالقياس والاستنباط؟. - ظاهر كلامهم: نعم.

ومعنى ما قاله السيوطي: أن هناك إجماعًا على أن الحكم إذا ثبت استعماله عن العرب كان القياس عليه مما لا خلاف فيه؛ كرفع نائب الفاعل قياسًا على الفاعل، والذي نلحظه في هذا المثال أن الحكم مستفاد فيه من استعمال العرب؛ فلا خلاف بين العلماء في جوازه؛ أما إذا كان الحكم مما ثبت بالقياس والاستنباط؛ فالظاهر من كلامهم أنه كسابقه يجوز القياس عليه. وقد أشار السيوطي في هذا الصدد إلى أن ابن جني قد أفرد بابًا في (الخصائص) عنوانه: باب في الاعتلال لهم بأفعالهم -أي: في الاعتلال للعرب- ومعنى الاعتلال: طلب العلة وإظهارها، ومعنى اعتلال النحوي للعرب: أن يذكر علة لأحكام كلامهم ويوجهها بتوجيه مأخوذ من أصول قواعد خطاباتهم بأفعالهم الصادرة منهم؛ فيستنبط منها توجيهات لأفعال أخرى في الكلام، والمراد بأفعالهم: تصرفاتهم في الكلام. ومن الأمثلة الدالة على أن الحكم الثابت بالقياس والاستنباط يجوز القياس عليه: قياس الصفة المشبهة على اسم الفاعل في حكم ثبت لاسم الفاعل بالاستنباط والقياس وليس بالسماع عن العرب، وهذا الحكم: هو أن اسم الفاعل لا يتحمل الضمير إذا جرى على غير من هو له، وهذا الحكم ثابت بالاستنباط، وتقاس الصفة المشبهة عليه، ويثبت لها حكم اسم الفاعل. وقبل أن نذكر ما أورده ابن جني في (الخصائص) ونقله عنه السيوطي في (الاقتراح) يحسن بنا أن نشرح هذه المسألة النحوية لما يترتب على شرحها من فائدة محققة تعين على فهم هذه المسألة الأصولية: أجمع البصريون والكوفيون على أن الضمير في اسم الفاعل إذا جرى على من هو له لا يجب إبرازه؛ فلو قلت: زيد مكرِمي وجعفر مكرمك؛ لم يلزم إبراز

الضمير لأنه -أي: اسم الفاعل- جرى مجرى ومعنى على من هو له، ومعنى جريه على من هو له: أنه وقع خبرًا رافعًا لضمير يعود على مبتدئه؛ فهو في المعنى لمبتدئه؛ فإذا جرى اسم الفاعل على غير من هو له خبرًا أو صفة مثلًا؛ وجب عند البصريين إبراز الضمير الذي يرفعه اسم الفاعل مطلقًا، أي: سواء ألبس أم لم يلبس، وذلك نحو: أن تقول عند إرادة الإخبار بضاربية زيد ومضروبية عمرو، زيدٌ عمرٌو ضاربُه هو؛ فاسم الفاعل في الجملة المذكورة جارٍ على غير من هو له؛ لأنه لم يقع خبرًا عن زيد الواقع مبتدأ أولًا؛ وإنما هو خبر عن عمرو الواقع مبتدأ ثانيًا، والضمير البارز هو عائد على زيد، وبذلك علم أن الضاربية له؛ ولو لم يبرز واستتر لأفاد التركيب عكس هذا المعنى، ومثال ما أمن فيه اللبس: زيدٌ هندٌ ضاربُها هو، وهندٌ زيدٌ ضاربتُه هي؛ وإنما أبرز الضمير في المثالين مع أمن اللبس طردًا للباب على وتيرة واحدة. وقيد الكوفيون وجوب إبراز الضمير باللبس فقالوا: لا يجب إبراز الضمير إلا فيما يؤدي عدم إبرازه إلى اللبس، والراجح ما ذهب إليه البصريون، وأدلة الفريقين في المسألة الثامنة من كتاب (الإنصاف) لأبي البركات الأنباري؛ فإذا كان الأمر كذلك في اسم الفاعل الذي هو أقوى شبهًا بالفعل من الصفة المشبهة؛ فإنه يجب أن يبرز الضمير مع الصفة المشبهة به؛ لأنها ضعيفة الشبه بالفعل؛ إذ هي مشبهة باسم الفاعل القاصر؛ ولضعفها وجب إبراز ضميرها عند جريانها على غير من هي له من باب أولى؛ قياسًا على اسم الفاعل، وفي ذلك يقول ابن جني في (الخصائص): "ومن الاعتلال لهم بأفعالهم أن تقول: إذا كان اسم الفاعل على قوة تحمله للضمير متى جرى على غير من هو له صفةً أو صلةً أو حالًا أو خبرًا؛ لم يحتمل الضمير كما يحتمله الفعل؛ فما ظنك بالصفة المشبهة باسم

الفاعل نحو: قولك: زيدٌ هندٌ شديدٌ عليها هو؛ إذا أجريت شديدًا خبرًا عن هند؛ وكذلك قولك: أخواك زيدٌ حسنٌ في عينه هما، والزيدون هندٌ ظريفٌ في نفسها هم". انتهى. وإذ قد بينا هذه المسألة من جهة النحو نعود إلى القضية الأصولية التي ساق ابن جني وتبعه السيوطي هذه المسألة دليلًا عليها: إن عندنا أصلًا مقيسًا عليه، وهو اسم الفاعل، وعندنا فرع مقيس، وهو الصفة المشبهة، وعندنا حكم ثابت للأصل المقيس عليه، وهو وجوب إبراز الضمير في اسم الفاعل إذا جرى على غير من هو له، وهذا الحكم إنما هو ثابت بالاستنباط والقياس على الفعل الرافع للاسم الظاهر؛ حيث لا تحلقه العلامات الدالة على التثنية أو الجمع، وجاز القياس عليه؛ فدل ذلك على أنه يجوز أن يقاس على ما ثبت بالقياس والاستنباط. ومن هنا يتبين أن الحكم يجوز القياس عليه؛ سواء أكان حكمًا ثابتًا عن استعمال العرب، أم كان حكمًا ثابتًا بالقياس والاستنباط. أما المسألة الثانية التي أوردها السيوطي في هذا الفصل فهي: حكم القياس على الأصل المختلف في حكمه، وقد اعتمد السيوطي في هذه المسألة على كلام الأنباري؛ غير أنه قد اختصره وقدم فيه وأخر؛ كما نبه على ذلك محقق (الاقتراح) الأستاذ الدكتور أحمد محمد قاسم -رحمه الله تعالى- غير أنه قد سها؛ فذكر أن كلام الأنباري في الفصل العشرين من كتابه (لمع الأدلة) وليس كذلك؛ وإنما هو في الفصل الثاني والعشرين الذي عنوانه: في الأصل الذي يرد إليه الفرع إذا كان مختلفًا فيه. وقد ذكر الأنباري في هذا الفصل أن اختلاف العلماء في ذلك على قولين:

أحدهما: أنه يجوز القياس على الأصل المختلف فيه؛ لأن المختلف فيه إذا قام الدليل عليه صار بمنزلة المتفق عليه. والآخر: أنه لا يجوز القياس عليه؛ قال -رحمه الله-: "اعلم أن العلماء اختلفوا في ذلك؛ فذهب قوم إلى أنه جائز، وتمسكوا في الدلالة على جواز ذلك: بأن الأصل المختلف فيه إذا قام الدليل عليه صار بمنزلة المتفق عليه، وذهب قوم إلى أنه لا يجوز، وتمسكوا في الدلالة على أنه لا يجوز بأنه لو جاز القياس على المختلف فيه لأدى ذلك إلى محال؛ وذلك لأن المختلف فيه فرع لغيره؛ فكيف يكون أصلًا والفرع ضد الأصل؟! ". انتهى. وواضح مما سبق أمران: أحدهما: أن الأنباري ذكر حجة كل فريق من الفريقين، وقد نقل ذلك كله السيوطي في (الاقتراح). والآخر: أن الأنباري والسيوطي يذهبان مذهب القائلين بأنه يجوز القياس على الأصل المختلف فيه، ودليل ذلك أمور ثلاثة: الأول: أنهما قدما هذا المذهب على غيره. والثاني: أنهما ردَّا على حجة القائلين بالمنع؛ فإن حجة هؤلاء المانعين هي أن المختلف فيه فرع لغيره؛ فكيف يستقيم أن يكون فرعًا وأن يقاس عليه بعد ذلك فيكون أصلًا؟!. وقد رد الأنباري -ووافقه السيوطي-: بأنه يجوز أن يكون الشيء فرعًا لأصل وأصلًا لشيء آخر، وهذان مثالان على ذلك: المثال الأول: اسم الفاعل، فاسم الفاعل فرع عن الفعل في العمل؛ لأن الأصل للعمل أن يكون للأفعال؛ بدليل أن الأفعال كلها عمل؛ وإنما اعمل اسم الفاعل عمل الفاعل لأمور متعددة:

أولها: أن الاسم استحق الإعراب بالأصالة والفعل استحق العمل بالأصالة؛ فلما أُعرب الفعل المضارع دخل فيما يستحقه الاسم -وهو الإعراب- فأعمل اسم الفاعل ليدخل فيما يستحقه الفعل -وهو العمل- ولذلك قال سيبويه في (الكتاب): "فكل واحد منهما داخل على صاحبه". انتهى. وثانيها: أن اسم الفاعل يجري مجرى الفعل المضارع في حركاته وسكناته. وثالثها: أن اسم الفاعل يثنى ويجمع كما أن الفعل تلحقه علامة التثنية والجمع. ومعنى هذا: أن اسم الفاعل فرع عن الفعل في العمل، وهو -مع ذلك- أصل للصفة المشبهة؛ فالصفة المشبهة هي التي أشبهت اسم الفاعل في العمل؛ فهي فرع عن فرع عن أصل؛ يقول سيبويه في (الكتاب): "هذا باب الصفة المشبهة بالفاعل فيما عملت فيه ولم تقوَ أن تعمل عمل الفاعل؛ لأنها ليست في معنى الفعل المضارع". انتهى. وإنما كانت الصفة المشبهة فرعًا عن اسم الفاعل لا عن الفعل؛ لبعدها عن الفعل؛ فإنها للثبوت والاستمرار والدوام؛ فتخالف شأن الفعل الذي هو للتجدد والحدوث. والمثال الثاني: "لا" العاملة عمل "ليس": تعمل "لا" عمل "ليس"؛ فترفع المبتدأ اسمًا لها وتنصب الخبر خبرًا لها بشروط، وهي: أن يكون الاسم والخبر نكرتين، وألا يتقدم خبرها على اسمها، وألا ينتقض النفي بـ"إلا"، والأصل في العمل أن يكون لـ"ليس"؛ وإنما أعملت "لا" عمل "ليس" حملًا عليها؛ لأنها تشبهها في النفي والجمود، وكما كانت "لا" فرعًا في العمل؛ فإن "لات" فرع عن "لا"؛ لأن "لات" لما كانت مقرونة بحرف التأنيث صارت فرعًا لـ"لا" المجردة عنه.

فمن النظر في هذين المثالين اللذين ساقهما الأنباري ونقلهما عنه السيوطي يمكن القول بأن الشيء يكون فرعًا لشيء وأصلًا لشيء آخر؛ ولذلك قال السيوطي: لا تناقض في ذلك لاختلاف الجهة، أي: لا تناقض في كون الشيء الواحد يتصف بالأصالة والفرعية لاختلاف الجهة؛ وإنما يقع التناقض أن يكون فرعًا من الوجه الذي يكون منه أصلًا، وأما من وجهين مختلفين؛ فلا تناقض في ذلك كما قال الأنباري. وإذا ثبت أنه يجوز اتصاف الشيء بالأصالة والفرعية؛ ثبت أنه يجوز القياس على الأصل المختلف فيه، وهو رأي فريق من العلماء، وقد اختاره الأنباري والسيوطي. هذا؛ وقد ذكر الأنباري والسيوطي مثالًا يمكن أن يستدل به على أنه يجوز القياس على الأصل المختلف فيه، وهو أن يقال: إن "إلا" هي عامل النصب في المستثنى؛ لأنه حرف قام مقام فعل يعمل النصب، وهو الفعل "أستثني"، أو "أُخرِج" ... أو نحو ذلك؛ فعمل النصب؛ كما أن حرف النداء "يا" قد عمل النصب في المنادى؛ لقيامه مقام الفعل: "أدعو" أو "أنادي". ووجه الاستدلال بهذا المثال: أن كون حرف النداء هو عامل النصب في المنادى أمر مختلف فيه، وليس هذا القول موضع اتفاق بين النحويين؛ ومع كونه موضع خلاف بينهم؛ فإنه يجوز عده أصلًا يقاس عليه غيره؛ فيقال: إن "إلا" الاستثنائية هي عامل النصب في المستثنى الواقع بعدها؛ فجاز القياس على الأصل المختلف فيه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 15 القياس (4)

الدرس: 15 القياس (4)

العلة النحوية: وثاقتها، وأقسامها.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الخامس عشر (القياس (4)) العلة النحويةُ: وَثاقتُها، وأقسامُها الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن والاه، أما بعد: فبقي أن تتعرف على الركن الرابع، وهو آخر أركان القياس وأهمها على الإطلاق، وهو: العلة النحوية: أما الحديث عن وثاقة العلة: فالعلة النحوية كما قال ابن الفرخان في كتابه (المستوفى): "في غاية الوثاقة فهي غير مدخولة، أو متسمح فيها، وليست كما ذهب إليه غَفَلة العوام واهية أو متمحلة". أما قول ابن فارس اللغوي -رحمه الله تعالى-: مرت بنا هيفاء ممشوقة ... تركية تُنمى لتركيي ترنو بطرف فاتر فاتن ... أضعف من حُجة نحويي فهو يعني: العلل المتكلفة التي يتخيَّلها بعض النحاة. أما العلل المعتمدة: فهي كما قال عنها ابن جني في (الخصائص) مشيرًا إلى وثاقتها وقوتها: "وظهور وجهها أقرب إلى علل المتكلمين منها إلى علل المتفقهين، وذلك أنهم يحيلون على الحسّ، ويحتجُّون فيه بثقل الحال أو خفَّتها على النفس، وليس كذلك حديث علل الفقه ... " إلى آخر ما قال. فأوضح أن أكثر العلل النحوية تظهر حكمتها؛ لأنها تعتمد على الحس الذي هو أقوى الأدلة، وعلل الأحكام الفقهية كثيرًا ما تَخفى حكمتها عن الفقهاء؛ لأن عللهم مبنيَّة على الظنون؛ إذ الفقه مبناه على غلبة الظن؛ لأنها أمور تتعلق بأمور تعبديَّة، فإذا عجز الفقيه عن تعليل الحكم قال: "هذا تعبدي، وما عجز النحويون عن تعليل حكمه قالوا عنه: هو مسموع".

كما ذكر ابن جني في (الخصائص): "أنه لا شك أن العرب أرادت من العلل والأغراض ما استنبطه النحويون بدليل اطراد رفع الفاعل، ونصب المفعول، والجر بحروفه، والنصب بحروفه، والجزم بحروفه، وغير ذلك من التثنية، والجمع، والإضافة، والنسب، والتحقير، وما يطول شرحه من أبواب العربية العارضة للكلم، فهل يحسن بذي لُبٍّ أن يعتقد أن هذا كله اتفاق وقع وتَوارُد اتَّجه. أما الاختلاف اليسير بين اللهجات العربية في الأحكام كالخلاف بين ما الحجازية والتميمية، فهو شيء غير محتفل به لقلته، ولكونه في الفروع. ومع هذا فلكل وجهه من القياس له ما يدل على وجاهته، وأنه يُؤخذ به، ولو كانت هذه اللغة حشوًا قليلًا، وحسوًا مهيلًا -يعني: لو كانت عشوائية أو اعتباطية- لكثر خلافها، وتعادت أوصافها، فجاء عنهم جرُّ الفاعل، ورفع المضاف إليه، والنصب بحروف الجزم" انتهى. وأما الحديث عن أقسامها فقد ذكر السيوطي نقلًا عن كتاب (ثمار الصناعة) لأبي عبد الله الحسين بن موسى الدينوري المعروف بالجليس: "أن اعتلالات النحويين صنفان: علة تطرد على كلام العرب، وتنساق إلى قانون لغتهم. وعلة تُظهر حكمتهم وتكشف عن صحة أغراضهم، ومقاصدهم. والأولى هي الأكثر استعمالًا، والأشدّ تداولًا، والمشهور منها أربعة وعشرون نوعًا. وأورد السيوطي هذه الأنواع الأربعة والعشرين عن الجليس، وأردفها بذكر أمثلة لثلاثة وعشرين منها نقلًا عن كتاب (التذكرة) لأحمد بن عبد القادر بن أحمد بن مكتوم القيسي تاج الدين المتوفى سنة تسع وأربعين وسبعمائة من الهجرة، ذاكرًا أن ابن مكتوم قد اعتاص عليه شرح علة منها، وشرحها، ومثَّل لها شمس الدين بن الصائغ الحنفي، المتوفى سنة ست وسبعين وسبعمائة من الهجرة.

العلل وأمثلتها: أما العلة الأولى: فهي علة سماع، وذلك قولهم: امرأة ثدياء، أي: عظيمة الثديين، ولا يُقال رجل أثدى؛ لعدم سماع ذلك. والعلة الثانية: علة تشبيه، كإعراب الفعل المضارع لمضارعته للاسم، أي: لمشابهته له، وبناء بعض الأسماء لمشابهتها للحرف. والعلة الثالثة: علة استغناء، كاستغنائهم بترك عن ودع ووزر. والعلة الرابعة: علة استثقال، كاستثقالهم الواو في نحو: يعد وأصلها يوعد؛ لوقوعها بين عدوَّتيها: الياء، والكسرة. والعلة الخامسة: علة فرق، وذلك فيما ذهبوا إليه من رفع الفاعل ونصب المفعول للفرق بينهما، وفتح نون الجمع وكسر نون المثنى للفرق بينهما كذلك. والعلة السادسة: علة توكيد كإدخالهم نون التوكيد الخفيفة أو الثقيلة في فعل الأمر؛ لتوكيد إيقاعه. والعلة السابعة: علة تعويض، كتعويضهم الميم المشددة في قولهم: "اللهم"، عوضًا من حرف النداء. والعلة الثامن: علة نظير، ككسرهم أحد الساكنين إذا التقيا في الجزم كقوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} (البينة: 2) حملًا على الجر؛ إذ الجزم في الأفعال نظير الجرّ في الأسماء، لاختصاص كل واحد منهما بنوع من أنواع الكلمة والعمل فيه. والعلة التاسعة: علة نقيض، كنصبهم اسم لا النافية للجنس حملًا على نصب إنّ لاسمها؛ لأن "لا" نقيضة "إن"؛ لأن "إن" لتوكيد الإثبات و"لا" لتوكيد النفي، فهما متناقضان.

والعلة العاشرة: علة حمل على المعنى كقوله تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ} (البقرة: 275) بتذكير فعل "الموعظة" وهي مؤنثة حملًا لها على المعنى؛ لأنها في معنى الوعظ. والعلة الحادية عشرة: علة مشاكلة، كتنوين "سلاسل" مع كونه على صيغة منتهى الجموع في قوله تعالى: "سَلَاسِلًا وَأَغْلَالًا" (الإنسان: 4) لمشاكلته لما بعده، والمشاكلة أن يُذكر الشيء بلفظ غيره؛ لوقوعه في صحبته. والعلة الثانية عشرة: علة معادلة، وذلك مثل جرهم ما لا ينصرف بالفتح حملًا على النصب، ثم عادلوا بينهما -أي: بين النصب والجر- فحملوا النصب على الجر في جمع المؤنث السالم، فجعلوا علامتيهما في هذا الجمع الكسرة. والعلة الثالثة عشرة: علة مجاورة، مثل جرِّهم نعت المرفوع في قولهم: هذا جحر ضبٍ خربٍ؛ لمجاورته للمجرور كما سبق بيانه. والعلة الرابعة عشرة: علة وجوب، كتعليلهم رفع الفاعل ونحوه. والعلة الخامسة عشرة: علة جواز، وذلك ما ذكروه في تعليل الإمالة من الأسباب المعروفة. والعلة السادسة عشرة: علة تغليب، كتغليبهم المذكر على المؤنث في قوله تعالى: {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} (التحريم: 12) فأدرجها في جمع المذكر السالم. والعلة السابعة عشرة: علة اختصار كالترخيم، وهو حذف آخر المنادى، قال ابن مالك: ترخيمًا احذف آخر المنادى ... كيا سُعى فيمن دَعَا سُعاد وكحذف النون في قوله تعالى: {وَلَمْ يَكُ} (النحل: 120).

والعلة الثامنة عشرة: علة تخفيف، كإدغام المتماثلين أو المتقاربين. والعلة التاسعة عشرة: علة أصل كـ"استحوذ" في قوله تعالى: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ} (المجادلة: 19) من غير إعلال؛ رجوعًا إلى الأصل، ومثل "يؤكرم" من غير حذف الهمزة بمقتضى القياس، رجوعًا إلى الأصل قال الراجز: فإنه أهل لأن يؤكرما والعلة المتممة للعشرين: علة أولى كقولهم: إن الفاعل أولى برتبة التقديم من المفعول. والعلة الحادية والعشرون: علة دلالة حال كقول المستهل -أي: الذي يرى الهلال- الهلال، أي: هذا الهلال؛ فحذف المبتدأ لدلالة الحال عليه. والعلة الثانية والعشرون: علة إشعار، أي: إعلام كقولهم في جمع موسى ومصطفى: موسون ومصطفون، بفتح ما قبل الواو فيهما؛ إشعارًا بأن المحذوف ألف، والأصل: موسيون ومصطفيون، تحركت الياء فيهما وانفتح ما قبلها؛ فقلبت ألفًا، ثم حذفت لالتقائها ساكنة من الواو الساكنة. والعلة الثالثة والعشرون: علة تضاد مثل قولهم في أفعال القلوب، وهي الأفعال التي يجوز إلغاؤها: إن هذه الأفعال متى تقدمت وأُكِّدت بالمصدر أو بضميره لم تلغ أصلًا، لما بين التأكيد والإلغاء من التضادّ؛ إذ التأكيد يدل على الاهتمام والاعتداد، والإلغاء يدل على خلاف ذلك. والعلة الرابعة والعشرون، وهي العلة التي اعتاص على ابن مكتوم شرحها، وشرحها الشيخ شمس الدين بن الصائغ الذي رآها مذكورة في كتب المحققين كابن الخشاب البغدادي، فهي: علة تحليل، وذلك كاستدلالهم على اسميَّة كيف، بنفي حرفيتها؛ لأنها مع الاسم كلام، أي: ولا يكون الحرف مع الاسم كلامًا، وبنفي فعليَّتها

الفرق بين العلة والسبب، ومحصول مذهب البصريين في العلل.

لمجاورتها الفعل بلا فاصل كقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} (الفيل: 1) أي: ولا يجاور الفعلُ الفعلَ بلا فاصل، فتحلل عقد شُبَه خلاف المدَّعي. وأما الصنف الثاني من العلل فلم يتعرض له الجليس، ولا بيَّنه، وإنما بينه ابن السراج في كتابه (الأصول في النحو) فقال: "واعتلالات النحويين على ضربين: ضرب منها هو المؤدِّي إلى كلام العرب كقولنا: كل فاعل مرفوع، وضرب آخر يُسمَّى علة العلة مثل أن يقولوا: لما صار الفاعل مرفوعًا والمفعول به منصوبًا، ولما إذا تحركت الياء والواو وكان ما قبلهما مفتوحًا قلبتا ألفًا، وهذا لا يكسبنا أن نتكلم كما تكلمت العرب، وإنما نستخرج منه حكمتها، ونبيّن بيها فضل هذه اللغة على غيرها من اللغات" انتهى. وعقَّب عليه ابن جني بقوله في (الخصائص): "بأن هذا الذي سماه علة العلة، إنما هو تجوّز في اللفظ، فأما في الحقيقة فإنه شرح وتفسير وتتميم للعلة، ألا ترى أنه إذا قيل له: فلم ارتفع الفاعل؟ قال: لإسناد الفعل إليه، ولو شاء لابتدأ هذا فقال في جواب رفع زيد من قولنا قام زيد؛ إنما ارتفع لإسناد الفعل إليه، فكان مغنيًا عن قوله إنما ارتفع بفعله، حتى تسأله فيما بعدُ عن العلة التي ارتفع لها الفاعل، وهذا هو الذي أراده المجيب بقوله: ارتفع بفعله، أي: بإسناد الفعل إليه" انتهى. الفرق بين العلة والسبب، ومحصولُ مذهب البصريين في العلل اعتمد السيوطي على ما أورده ابن جني في (الخصائص) بعنوان: باب ذكر الفرق بين العلة الموجبة وبين العلة المجوزة، وما أورده في (الخصائص) كذلك بعنوان باب في تخصيص العلل وخلاصة المنقول عن البابين في (الاقتراح) ثلاثة أمور:

أولها: أن أكثر العلل عند النحويين مبناها الإيجاب كنصب الفضلة وما شابهها كخبر كان، ومفعولي ظن، ورفع العمدة، وجر المضاف إليه، وأن هناك ضربًا آخر يُسمَّى علة، وإنما هو في الحقيقة سبب يجوِّز الحكم ولا يُوجبه كأسباب الإمالة فإنها علة جواز لا وجوب، والإمالة معناها أن تذهب بالفتحة جهة الكسرة، فإن كان بعد الفتح ألف ذهبتَ بالألف إلى جهة الياء كالفتى بإمالة الفتحة والألف، وإن لم يكن بعد الفتحة ألف أملت الفتحة وحدها فأشربتها شيئًا من صوت الكسرة، كنعمة، وسحر، بجعل فتحة الميم في نعمة، والحاء في سحر ممالة، وكذلك علَّة قلب واو "وقتت" همزة كقوله تعالى: {وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ} (المرسلات: 11) أُبدلت الواو همزة لكونها مضمومة ضمًّا لازمًا، ولثقل الضمة عليها، فكأنه اجتمع لك واوان، ومع ذلك يجوز إبقاؤها. وقد قرأ أبو عمرو -وهو أحد القراء السبعة- "وُقتت"، وكذلك كل موضع جاز فيه إعرابان فأكثر، فظهر بهذا الفرق بين العلة والسبب، فما كان موجبًا حكمًا يُسمى علة، وما كان مجوِّزًا حكمًا يُسمى سببًا. وخلاصة الأمر الثاني: أن محصول مذهب البصريين ومتصرف أقوالهم مبنيٌّ على جواز تخصيص العلل، يعني: ببعض المعلولات وعدم اطرادها في جميع الأفراد، وذلك لأن أكثرها يجري مجرى التخفيف والفرق، فلو تكلف متكلف نقضها لكان ذلك ممكنًا، وإن كان على غير قياس ومستثقلًا، كما لو تكلف تصحيح فاء ميزان وميعاد فقال: موزان وموعاد، وتكلف نصب الفاعل ورفع المفعول. وليست كذلك علل المتكلمين لأنها لا قدرة على غيرها، فعلل النحويين متأخرة عن علل المتكلمين، ومتقدمة على علل المتفقهين. وعلل النحويين بهذا نوعان: نوع لا بد منه لأن النفس لا تطيق في معناه غيره، وهذا لاحق بعلل المتكلمين كقلب الألف واوًا لضم ما قبلها، وياء لكسر ما قبلها، وكمنع الابتداء بالساكن،

الخلاف في إثبات الحكم في محل النص

والجمع بين الألفين المدَّتين، وتقدير الحركات في الاسم المقصور. ونوع يمكن تخلُّفه بمشقة، وهذا لاحق بعلل الفقهاء كقلب الواو الساكنة ياء لكسر ما قبلها؛ إذ يمكن أن تقول في عصافير: عصافِوْرٌ، لكن على كره ومشقة، ومنه تقدير الضمة والكسرة في الاسم المنقوص. والأمر الثالث الأخير: أن النحويين قد انتزعوا العلل من كتب محمد بن الحسن وجمعوها منها بالملاطفة والرفق، ومحمد بن الحسن هو صاحب أبي حنيفة، ومؤلف الكتب النادرة في الفقه، وهو ابن خالة الفراء تُوفي بالرّي سنة ثمان وتسعين ومائة، في اليوم الذي مات فيه الكسائي، وقيل: إن الرشيد قال يومئذٍ: دَفَنت الفقه والعربية بالري. الخلافُ في إثبات الحكم في محلّ النَّصّ هذا العنصر هو موضوع الفصل العشرين في (لمع الأدلة) لأبي البركات الأنباري، وقد نقله السيوطي في (الاقتراح)، ومجمل هذا الموضوع اختلاف العلماء في إثبات حكم وارد في نصٍّ من كتاب، أو حديث، أو كلام العرب، كرفع لفظ الجلالة مثلًا في نحو: قال اللهُ، بماذا ثبت أبالنصّ أم بالعلة؟ فذكر الأكثرون إلى أنه يثبت بالعلة لا بالنص، أي: بإسناد فعل تقدَّمه إليه لا بالنص من المتكلم به؛ إذ لو كان بالنص لسُدَّ باب القياس، وصار الحكم مقصورًا على النص في محله، لأن القياس حمل فرع على أصل بعلة جامعة، فإذا فُقدت العلة الجامعة بطل القياس، وكان الفرع مأخوذًا من غير أصل، وذلك مُحال. ألا ترى أنا لو قلنا: إن الرفع والنصب في نحو: ضرب زيد عمرًا بالنص لا بالعلة؛ لبطل الإلحاق بالفاعل والمفعول والقياس عليهما، وذلك لا يجوز.

تقسيم العلة إلى بسيطة ومركبة.

وذهب بعضهم إلى أنه يثبت في محل النص بالنص، ويثبت فيما عداه بالعلة، وذلك نحو النصوص المقبولة عن العرب المقيس عليها بالعلة الجامعة في جميع أبواب العربية، واستدلَّ أصحاب هذا الرأي لذلك بأن النص مقطوع به، والعلة مضمونة، وإحالة الحكم على المقطوع به أولى من إحالته على المضموم، ولا يجوز أن يكون الحكم ثابتًا بالنص والعلة معًا؛ لئلا يكون مقطوعًا به مظنونًا في حالة واحدة، وذلك مُحال. ولما كان الأنباري مع الأكثرين فقد ردَّ رأي مخالفيهم بقوله: "وقولهم: إن النص مقطوع به، والعلة مضمونة، وإحالة الحكم على المقطوع به أولى من إحالته على المضمون إلى آخر ما قرروا، قلنا: الحكم إنما يثبت بطريق مقطوع به، وهو النص، ولكن العلة هي التي دعت إلى إثبات الحكم، فنحن نقطع على الحكم بكلام العرب، ونظن أن العلة هي التي دعت الواضع إلى الحكم؛ فالظن لم يرجع إلى ما يرجع إليه القطع، بل هما متغايران، فلا تناقض بينهما" انتهى. يعني: أن طريق القطع مغاير لطريق الظن، فلا منافاة بين الأمرين ولا تضاد. تقسيم العلة إلى بسيطة ومركبة ذكر السيوطي أن العلة قد تكون بسيطة، وقد تكون مركبة. فالبسيطة هي التي يقع التعليل بها من وجه واحد، كالتعليل بالاستثقال في تقدير الضمة في حالة الرفع، والكسرة في حالة الجر في الاسم المنقوص، والجوار كتعليل جرّ "خرب" الواقع نعتًا لمرفوع في قولهم: "هذا جحر ضب خرب". بمجاورته لمجرور، والمشابهة كتعليل إعراب الفعل المضارع إذا لم يتصل بنوني التوكيد والنسوة بمشابهته للاسم، ونحو ذلك.

والمركبة: هي ما تركبت من عدة أوصاف اثنين فصاعدًا، كتعليل قلب واو "ميزانٍ" و"ميعادٍ"، بوقوع كل منهما ساكنة إثر كسرة؛ إذ الأصل فيهما "موزان" و"موعاد"، لأنهما من الوزن والوعد؛ فالعلة في القلب فيهما ليس مجرد سكون الواو فقط، ولا وقوعها بعد كسرة فقط، بل العلة مجموع الأمرين معًا، وذلك كثير جدًّا. وقد يُزاد في العلة صفة لضرب من الاحتياط أي: لا للتأثير ولا للاحتراز؛ بحيث لو أسقطت هذه الصفة لم يقدح فيها، أي: لم يؤثر إسقاطها في العلة، كتعليل ابن عصفور حذف التنوين من العلم الموصوف بابن مضاف إلى عَلَم، نحو: "هذا زيد بن سعيد"، بحذف التنوين من "زيد" بعلة مركبة من مجموع أمرين: كثرة الاستعمال مع التقاء الساكنين. والنحاة غيره لم يُعلِّلوه إلا بكثرة الاستعمال فقط، بدليل حذفه من نحو: هذه هند بنت عاصم، على لغة من صرف هندًا، وإن لم يلتقِ هنا ساكنان، وكأنه لمَّا رأى انتقاض العلة احتاج إلى قوله: "ومن العرب من يحذف لمجرَّد كثرة الاستعمال" انتهى. قال السيوطي: "وهذه -يعني: كثرة الاستعمال- العلة الصحيحة المطردة في الجميع، لا ما علل به أولًا" يريد السيوطي أن ما علَّل به ابن عصفور أولًا هو زيادة في العلة لضرب من الاحتياط، ومن الأمثلة التي أوردها السيوطي للعلة المركبة قول الزمخشري في (المفصل) في "الذي": "ولاستطالتهم إيَّاه بصلته، مع كثرة الاستعمال خفَّفوه من غير وجه فقالوا: الذِ. بحذف الياء، ثم الذ. بحذف الحركة، ثم حذفوه رأسًا واجتزءوا عنه بالحرف الملتبس به وهو لام التعريف، وقد فعلوا ذلك بمؤنث اللتي فقالوا: اللتِ، واللت" انتهى.

من شرط العلة: أن تكون هي الموجبة للحكم.

أي: فالعلة فيما فعلوا من تخفيف في الاسم الموصول مجموع الأمرين: استطالته بالصلة أي: عدُّهم إياه طويلًا بسبب صلته، مع كثرة الاستعمال. ومن العلل المركبة التي أوردها السيوطي أيضًا: ما نقله عن ابن النحاس في التعليل لالتزام العرب الفصل بين أن المخففة من الثقيلة وبين خبرها إذا كان جملة فعلية فعلها متصرف، لعلة مركبة من مجموع أمرين، وهما: العوض من تخفيفها، وإيلاؤها ما لم يكن يليها. والفصل الذي أشار إليه ابن النحاس ما ذكره النحويون من أن المخففة من الثقيلة إذا وليها فعل متصرف يكون بجملته خبرًا لها؛ وجب أن يكون مفصولًا منها بـ"لن" نحو قوله تعالى: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} (البلد: 5)، أو بـ"لم" كقوله -عز وجل-: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ} (البلد: 7)، أو بـ"لا" كقول المولى -تبارك وتعالى-: "وحسبوا ألا تكونُ فتنة" (المائدة: 71) في قراءة رفع تكون، أو بشرط نحو قوله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ} (النساء: 140)، أو بـ"لو" كقوله -عز وجل-: {أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} (الأعراف: 100) أو بـ"قد" نحو قوله سبحانه: {وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا} (المائدة: 113)، أو بحرف تنفيس كقول الله تعالى: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى} (المزمل: 20). من شرط العلة: أن تكون هي الموجِبة للحكم ذكر السيوطي أن من شرط العلة أن تكون هي الموجبة للحكم في المقيس عليه، وقال: "ومن ثَمَّ خطَّأ ابن مالك البصريين في قولهم: إن علة إعراب المضارع مشابهته للاسم في حركاته، وسكناته، وإبهامه، وتخصيصه؛ فإن هذه الأمور ليست الموجبة لإعراب الاسم، وإنما الموجب له قبوله بصيغة واحدة معاني مختلفة، ولا يميزها إلا الإعراب".

وأقول: إن مراد البصريين بمشابهة المضارع للاسم في حركاته وسكناته موافقته خصوص لفظ اسم الفاعل في مطلق الحركات والسكنات، وعدد الحروف مطلقًا، أي: بغضِّ النظر عن خصوص الحركة أو الحرف، وموافقته له في تعيين الحروف الأصول والزوائد، كما في قولك: يضرب وضارب، ويكرم ومكرم، وينطلق ومنطلق، ويستخرج ومُستخرج. ومرادهم بمشابهة المضارع للاسم في إبهامه وتخصيصه: أنه يحتمل الحال والاستقبال، وشيوعه في زمنين يؤدِّي إلى الإبهام، ويخصص لأحد الزمنين بالقرينة ككلمة الآن التي تُخصصه للحال، أو كلمة غدٍ التي تُخصصه للمستقبل، وهو في هذا يشبه الاسم ككلمة "رجل" مثلًا فهي اسم مبهم شائع في جميع أفراد جنسه دون تخصيص، وهو صالح للتخصيص بقرينة الوصف، أو دخول الألف واللام، والدليل على دلالة الاسم على معانٍ مختلفة لا يُميزها إلا الإعراب أنك لو قلت: "ما أحسن زيد" بالوقف بالسكون على الكلمتين بعد "ما"، احتمل الكلام ثلاثة معانٍ: أنك تريد: ما أحسن زيدٌ، أي: نفي إحسان زيد، أو ما أحسن زيدًا أي: التعجب من إحسانه، أو ما أحسن زيدٍ؟ أي: الاستفهام عن أحسن جزء في زيد. فلولا الإعراب لالتبس التعجب بالاستفهام، والاستفهام بالنفي. وعليه فلا بد أن تكون هذه العلة، وهي توارد المعاني المختلفة المفتقرة في التمييز بينها إلى الإعراب على التركيب، هي الموجبة لإعراب الفعل المضارع، وذلك مثل قولهم: لا تأكل السمك وتشربُ اللبن، أو وتشربَ اللبن أو تشربِ اللبن؛ فالفعل "تأكل" مجزوم لوقوعه بعد لا الناهية الجازمة، وحُرك بالكسر للتخلص من التقاء الساكنين، ويجوز في الفعل تشرب الواقع بعد الواو ثلاثة أوجه بحسب ما تريد من المعاني؛ فإن أردت النهي عن كلٍّ من الفعلين على حدة جزمته، والواو عاطفة. وإن أردت النهي عن الجمع بينهما نصبته بأن مضمرة وجوبًا، والواو للمعية. وإن أردت النهي عن الأول فقط وإباحة الثاني رفعته، والواو للاستئناف، ولا يُبيِّن ذلك إلا الإعراب.

الخلاف في التعليل بالعلة القاصرة.

الخلاف في التعليل بالعلة القاصرة ذكر السيوطي نقلًا عن أبي البركات الأنباري: "أن العلماء قد اختلفوا في التعليل بالعلة القاصرة، وهي التي لا تتجاوز محل النص المعلل بها إلى غيره، فجوَّزها قوم، ومنعها قوم آخرون، ومثَّل لها بالعلة في قولهم: "ما جاءت حاجتك"، بنصب "حاجتك"، وقولهم: "عسى الغوير أبؤسًا"، فإن "جاءت" و"عسى" فيهما أُجريَا مُجرى "صار"؛ فجعل لهما اسم مرفوع وخبر منصوب، ولا يجوز أن يجري مجرى "صار" في غير هذين المثالين، فلا يقال مثلًا: ما جاءت حالتك، أي: ما صارت. ولا جاء زيد قائمًا، أي: صار زيد قائمًا، كما لا يجوز عسى الغوير أنعمًا، ولا عسى زيد قائمًا؛ بإجراء عسى مُجرى صار". وبيان ذلك: أن الأصل في جاء أن يكون فعلًا كسائر الأفعال، ومن العرب مَن لا يجعله متعديًا فيقول: جاء زيد إلى عمرو. ومنهم من يعدِّيه فيقول: جاء زيد عمرًا. فأما قول العرب: ما جاءت حاجتك، فمعناه: أية حاجة صارت حاجتك، فما في التركيب اسم استفهام مبتدأ في محل رفع، وجاءت بمعنى صارت، فهي فعل ماضٍ ناسخ ككان، واسمها ضمير مستتر فيها، وحاجتك خبرها، ومضاف إليه، والجملة الفعلية خبر ما في محل رفع. وأما قولهم: "عسى الغوير أبؤسًا"، فالغوير: تصغير غارٍ، والأبؤس: جمع بؤس وهو الشدة، والمعنى: لعل الشَّرَّ يأتيكم من قبل هذا الغار يُضرب للرجل يقال له: لعل الشر جاء من قبلك. والشاهد في المثالين العربيين: أن العلة فيهما لا تتجاوزهما لغيرهما، واستدلَّ أبو البركات الأنباري على صحتها بأنها ساوت العلة المتعدية في الإخالة والمناسبة، وزادت عليها بظاهر النقل، أي: فيما هي

خاصة به ومقصورة عليه، فإن لم يكن ذلك علامة للصحة؛ فلا أقل من ألا يكون علامة على الفساد. والإخالة هي المناسبة، فالعطف عطف تفسير، ومعنى الإخالة والمناسبة بيان وجه الارتباط والتعلق بين العلة والحكم. وهناك رأي آخر مقابل للرأي السابق في العلة القاصرة ذكره السيوطي نقلًا عن الأنباري أيضًا، وهو: أن هناك قومًا قالوا عنها إنها علة باطلة لأن العلة إنما تراد لتعديتها، أي: لتعدية حكم الأصل إلى الفرع، وهذه العلة لا تعدية فيها، فلا فائدة لها لأنها لا فرع لها، والحكم فيها ثابت بالنص لا بها، أي: فيكون ذكرها حينئذٍ عبثًا. وأجيب بأنا لا نسلم أن العلة إنما تُراد للتعدية، فإن العلة إنما كانت علة لإخالتها ومناسبتها لا لتعديتها، أي: وإن كانت التعدية لازمة لها غالبًا، ولا نسلم أيضًا عدم فائدتها، فإنها تفيد الفرق بين المنصوص الذي يُعرف معناه، والمنصوص الذي لا يُعرف معناه، وهو الذي يقال له سماعي؛ فلا يقاس عليه لعدم تعقُّل معنى الحكم حتى يُنظر أوجد في غيره أم لا؟ وتفيد كذلك أنه ممتنع ردُّ غير المنصوص عليه، وتفيد أيضًا أن الحكم ثبت في المنصوص عليه بهذه العلة، وهذه الإجابة من الأنباري تدلُّ على أنه ممن يرى جواز التعليل بالعلة القاصرة لتعدد فوائدها. ونقل السيوطي عن ابن مالك ذكره في (شرح التسهيل): "أنهم علَّلوا سكون آخر الفعل المسند إلى التاء، ونحوه بقولهم: لئلا تتوالى أربع حركات فيما هو كالكلمة الواحدة، وهذه العلة ضعيفة لأنها قاصرة؛ إذ لا يوجد التوالي إلا في الثلاثي الصحيح، وبعض الخماسي كانطلق وانكسر، والكثير لا يتوالى فيه والسكون عام في الجميع، قال السيوطي: "فمنع -أي: ابن مالك- العلة القاصرة". والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 16 القياس (5)

الدرس: 16 القياس (5)

جواز التعليل بعلتين.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السادس عشر (القياس (5)) جوازُ التعليل بعلتين الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فاعتمد السيوطي في مسألة جواز تعليل الحكم بعلتين على النقل من كتابي (الخصائص) و (لُمع الأدلة) فذكر نقلًا عما أورده ابن جني في (الخصائص) في باب عنوانه: باب في حكم المعلول بعلتين، ذكر من أمثلة هذا الباب: قولهم: "هؤلاء مسلميَّ"؛ فإن الأصل: "مسلموي"؛ فقلبت الواو ياءً لأمرين، كل واحد منهما على حدته موجب للقلب من غير احتياج إلى الآخر: أحدهما: اجتماع الواو والياء وسبق الأولى منهما بسكون. والآخر: أن ياء المتكلم أبدًا تكسر الحرف الذي قبلها لمناسبتها؛ فوجب قلب الواو ياءً وإدغامها في الياء ليمكن كسر ما قبل ياء المتكلم؛ فهذه علة غير العلة الأولى في وجوب قلب الواو ياء. ومن المعلول بعلتين أيضًا قولهم: "سِيٌّ" في "لا سيما"، والسيُّ: هو المثل والنظير، تقول: أتقن علوم العربية؛ ولا سيما النحوِ، أو ولا سيما النحوُ، والمعنى: ولا مثل النحو، أو وبخاصة النحو، وسِيٌّ أصله: سِوْيٌ؛ قلبت الواو ياء إن شئت؛ لأنها ساكنة غير مدغمة وبعد كسرة، وإن شئت لأنها ساكنة قبل الياء؛ فهاتان علتان اثنتان: إحداهما: كعلة قلب ميزان، وأصله: مِوْزان، والأخرى كعلة: طَيّ ولَيّ، مصدري: طوَيْتُ ولوَيْتُ، وأصل المصدرين: طوْيٌ ولوْيٌ، وكل من هاتين العلتين مؤثرة على حدة في القلب. كما ذكر السيوطي نقلًا عن (الخصائص): في باب عنوانه: باب في تقاوض السماع وتقارع الانتزاع: أنه قد يكثر الشيء؛ فيسأل عن علته كرفع الفاعل

ونصب المفعول، فيذهب قوم إلى شيء وآخرون إلى غيره؛ فيجب إذًا تأمل القولين واعتماد أقواهما ورفض الآخر؛ فإن تساويا في القوة لم ينكر اعتقادهما جميعًا؛ فقد يكون الحكم الواحد معلولًا بعلتين. ونقل السيوطي عن أبي البركات الأنباري أنه ذكر في (لمع الأدلة): أن العلماء اختلفوا في تعليل الحكم بعلتين فصاعدًا؛ فذهب قوم إلى أنه لا يجوز؛ لأن هذه العلة -أي: النحوية- مشبهة بالعلة العقلية، والعلة العقلية لا يثبت الحكم معها إلا بعلة واحدة، أي: لأنها مؤثرة، ولا يوجد أثر واحد لمؤثرين؛ فذلك ما كان مشبهًا بها. وذهب قوم إلى أنه يجوز أن يعلل بعلتين فصاعدًا، وذلك مثل أن يدل على كون الفاعل ينزل منزلة الجزء من الفعل بعلل متعددة: الأولى: أنه تسكن له لام الفعل إذا اتصل به ضمير رفع متحرك، نحو: ضربت وضربنا وضربن. والثانية: أنه يمتنع العطف عليه إذا كان ضميرًا متصلًا بينه وبين ما عطف عليه بشيء؛ كالفصل بالضمير المنفصل مثل: لقد اجتهدتَ أنتَ وإخوانُك؛ فما بعد الواو معطوف على الضمير المرفوع المتصل الواقع فاعلًا في محل رفع، وصح ذلك للفصل بالضمير المنفصل -وهو: أنت- والضمير المرفوع المستتر في ذلك كالضمير المتصل، ومن ذلك قول الله تعالى: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} (البقرة: 35) فـ"زوجك" معطوف على الضمير المستتر في {اسْكُنْ}، وصح ذلك للفصل بالضمير المنفصل أنت أيضًا؛ وإنما اشترط الفصل لأن الضمير المرفوع المتصل أو المستتر كالجزء من عامله لفظًا ومعنًى ولا يعطف على جزء الكلمة؛ فإذا فصل بينه وبين ما عطف عليه بفاصلٍ ما حصل له نوع من الاستقلال.

والثالثة: وقوع الإعراب بعده في الأمثلة الخمسة؛ فنقول: الطلاب يجتهدون، ولم يقصروا ولن يقصروا؛ فواو الجماعة في الأفعال الثلاثة المذكورة ضمير رفع؛ لأنها فاعل، والفعل الأول مرفوع بثبوت النون، والثاني مجزوم بحذفها، والثالث منصوب بحذفها كذلك؛ فإعراب الثلاثة وقع بعد الضمير، ومن المعلوم أن الإعراب إنما يكون في أواخر الكلم؛ مما يدل على أن الضمير المرفوع عد كالجزء من الفعل وكأن آخر الفعل ما بعده. والرابعة: اتصال تاء التأنيث بالفعل إذا كان الفاعل أو نائبه مؤنثًا. والخامسة: قول العرب في النسب إلى كنت: كُنتيٌّ؛ فاعتبروا كان واسمها وهو ضمير مرفوع متصل كلمة واحدة؛ فألحقوا بآخرها علامة النسب، وهي: الياء المشددة؛ كقول الشاعر: فأصبحت كنتيًّا وأصبحت عاجنا ... وشر خصال المرء كنت وعاجن فقوله: "كنتيٌّ" معناه: أن يقول: كنت أفعل في شبابي كذا، وكنت في حداثتي أصنع كذا، والعاجن: هو الذي أسن فلا يستطيع القيام إلا إذا اعتمد على يديه من شدة ضعفه؛ فأجروا ضمير الرفع مجرى الدال من "زيد"، وكأنهم نبهوا بهذا على قوة اتصال الفعل بهذا الضمير المتصل به؛ وأنهما قد حلَّا جميعًا محل الجزء الواحد. والسادسة: قولهم "حبذا" من نحو: حبذا زيدٌ، يعني أنهم ركبوا "حب" وهو فعل، مع اسم الإشارة "ذا"؛ فصار بمنزلة اسم واحد حكم على موضعه بالرفع على الابتداء، وهو ظاهر مذهب الخليل وسيبويه -كما في (الكتاب)، وقد تغلب على المركب في هذا القول جانب الاسمية. والسابعة: قولهم: لا أحبذه، أي: لا أقول له مادحًا إياه: حبذا؛ فلا نافية، وأحبذ فعل مضارع فاعله ضمير مستتر تقديره أنا، والهاء مفعوله، وقد تغلب على المركب في هذا القول جانب الفعلية.

والثامنة: إبدالهم تاء الضمير طاء في قولهم: فحصْطُ برجلي، وأصله: فحصت؛ فشبهوا تاء الفاعل بتاء افتعل؛ كاصطبر، وأصله: اصتبر؛ فأبدلت التاء طاء لتجانس الصاد في الإطباق، والإطباق: هو أن ترفع في النطق أطراف لسانك إلى الحنك الأعلى مطبقًا له؛ فيفخم نطق الحرف، وحروف الإطباق هي: الصاد، والضاد، والطاء، والظاء. قال ابن جني في (سر صناعة الإعراب): "ووجه شبه تاء فعلتُ بتاء افتعَلَ: أنها ضمير الفاعل وضمير الفاعل قد أجري في كثير من أحكامه من الفعل مجرى بعض أجزاء الكلمة من الكلمة وذلك لشدة اتصال الفعل بالفاعل". انتهى. فهذه ثماني عِلَل عُلِّلَ بها حكم واحد مما يدل على جواز تعدد العلل لحكم واحد في العربية؛ قال الأنباري في (لمع الأدلة) بعد إيراده هذه العلل وغيرها: وتمسكوا -أي: مجيزو التعدد- في الدلالة على جواز ذلك بأن هذه العلة ليست موجبة؛ وإنما هي أمارة ودلالة على الحكم، وكما يجوز أن يستدل على الحكم بأنواع من الأمارات والدلالات؛ فكذلك يجوز أن يستدل عليه بأنواع من العلل. وعقب الأنباري بقوله: وهذا ليس بصحيح، وقولهم: إن هذه العلة ليست موجبة وإنما هي أمارة ودلالة. قلنا: ما المعني بقولكم إنها ليست موجبة؟! - إن عنيتم أنها ليست موجبة كالعلل العقلية كالتحرك لا يعلل إلا بالحركة أو العالمية لا تعلل إلا بالعلم فمسلم؛ وإن عنيتم أنها غير مؤثرة بعد الوضع على الإطلاق فلا نسلم؛ فإنها بعد الوضع أصبحت بمنزلة العلل العقلية؛ فينبغي أن تجري مجراها. انتهى.

جواز تعليل حكمين بعلة واحدة.

جوازُ تعليل حكمين بعلة واحدة افتتح السيوطي هذه المسألة بعد العنوان بقوله: قال في (الخصائص): سواء لم يتضادا أم تضادا كقولهم: مررت بزيد ... إلخ. وكعادة السيوطي نراه يتصرف في النقل؛ فيورد النص بالمعنى ويتجه غالبًا إلى الإيجاز والاختصار، وعبارة ابن جني منقولة بمعناها من باب عنوانه: باب في تقاوض السماع وتقارع الانتزاع، أي: في اطِّراد السماع في شيء وتخالف الاستنباط فيه؛ قال ابن جني في هذا الباب: واعلم أن اللفظ قد يرد شيء منه فيجوز جوازًا صحيحًا أن يستدل به على أمر ما، وأن يستدل به على ضده ألبتة، وذلك نحو: مررت بزيد، ورغبت في عمرو، وعجبت من محمد، وغير ذلك من الأفعال الواصلة بحروف الجر؛ فأحد ما يدل عليه هذا الضرب من القول أن الجار معتد من جملة الفعل الواصل به؛ ألا ترى أن الباء في "مررت بزيد" معاقبة لهمزة النقل في نحو: "أمررت زيدًا" وكذلك: أخرجته وخرجت به، وأنزلته ونزلت به؛ فكما أن همزة "أفعل" مصوغة فيه كائنة من جملته؛ فكذلك ما عاقبها من حروف الجر، يعني: ينبغي أن يعتد أيضًا من جملة الفعل لمعاقبته ما هو من جملته .... فهذا وجه. والآخر: أن يدل ذلك على أن حرف الجر جارٍ مجرى بعض ما جره؛ ألا ترى أنك تحكم لموضع الجار والمجرور بالنصب؛ فيعطف عيه فينصب لذلك؟ فتقول: مررت بزيد وعمرًا، وكذلك أيضًا لا يفصل بين الجار والمجرور؛ لكونهما في كثير من المواضع بمنزلة الجزء الواحد؛ أفلا تراك كيف تقدر اللفظ الواحد تقديرين مختلفين وكل واحد منهما مقبول في القياس متلقًّى بالبشر والإيناس؟!. انتهى.

ومجمل ما ذكره ابن جني في هذا النص: أن نحو: مررت بزيد، ونظائره مما يتعدى فيه الفعل بحرف من حروف الجر يستدل به على أن الجار والمجرور معدود من جملة الفعل؛ كما يستدل به على ضد ذلك -أي: على أنه معدود من جملة الاسم المجرور به، ووجه كونه معدودًا من جملة الفعل أنه معدٍّ للفعل؛ فهو بمنزلة همزة التعدية التي تكون مجعولة حرفًا من بنية الفعل: وهي همزة أفعل؛ فكذلك ما عاقبها -يعني: ما ناب عنها وخلفها. ووجه كونه جاريًا مجرى بعض مجروره أمران: أحدهما: أنه يحكم لموضع الجار والمجرور بالنصب؛ فيعطف عليهما بالنصب مراعاة لموضعهما في نحو: مررت بزيد وعمرًا؛ فعمرًا منصوب عطفًا على موضع بزيد عند ابن جني. والآخر: أنه لا يفصل بينهما بفاصل؛ لأنهما بمنزلة الجزء الواحد. ونحن نلاحظ أن السيوطي لم يذكر في (الاقتراح) ما أجازه ابن جني من نحو: مررت بزيدٍ وعمرًا؛ لأنه لا يجيز ما أجازه ابن جني من مثل هذا الإعراب؛ وإنما يختار مذهب المحققين في اشتراطهم في العطف على الموضع إمكان ظهور هذا الموضع في فصيح الكلام، ولا يجوز في فصيح الكلام أن يقال: مررت زيدًا، ومن هنا؛ لا يجوز العطف بالنصب عندهم ما دام المعطوف عليه لا يجوز نصبه وإسقاط الجار منه في الكلام الفصيح؛ لما فيه من تعدية القاصر بنفسه. أما قول جرير: تمرون الديار ولم تعوجوا ... كلامكمو عليَّ إذًا حرامُ فمقصور على السماع، أو ضرورة.

وابن جني لم يشترط ما اشترطه المحققون الذين يجيزون نحو: مررت بزيد وعمرًا؛ لكنهم يعربون ما بعد الواو مفعولًا به لفعل محذوف تقديره: وجزت عمرًا، مثلًا، وقد أعاد ابن جني حديث: مررت بزيد، ونحوه، في باب التقديرين المختلفين لمعنيين مختلفين في (الخصائص) وعقب عليه بقوله: فإنه مما يقبله القياس ولا يدفعه. انتهى. وأورد السيوطي مثالًا آخر نقلًا عن (الخصائص) أيضًا فقال: وقال -أي: ابن جني- في موضع آخر: باب في أن سبب الحكم قد يكون سببًا لضده على وجه، هذا باب ظاهره التدافع -أي: التعارض- وهو -مع استغرابه- صحيح واقع؛ وذلك نحو قولهم: القود -أي: القصاص- والحوكة -والحوكة جمع حائك، من حاك الثوب يحوكه حوكًا وحياكًا وحياكة: أي نسجه. قال السيوطي ملخِّصًا ما قال ابن جني في تصحيح الواو الواقعة عينًا لكلمة القود والحوكة ونظائرهما: فإن القاعدة في مثله الإعلال بقلب الواو ألفًا؛ لتحركها وانفتاح ما قبلها؛ لكنهم شبهوا حركة العين التابعة لها بحرف اللين -أي: بحرف الألف- التابع لها؛ فكأن فَعلًَا فَعالٌ؛ فكما صح نحو: جواب وهيام؛ صح باب القود والغيب ونحوه. انتهى. يعني السيوطي: أن القاعدة الصرفية تقضي بقلب الواو والياء ألفين إذا تحركتا وانفتح ما قبلهما؛ ولكن الكلمات التي جاءت عن العرب بتصحيح العين مما يخالف بظاهره هذه القاعدة؛ كالقود، والحوكة، والغيب، وهو جمع غائب، وكلها على وزن فعَل؛ فقد شبهوا الفتحة التي هي حركة العين في هذه الكلمات بحرف الألف؛ فعوملت معاملة ما كان وزنه فعالًا؛ كجواب، وهيام. ومن شروط قلب الواو والياء ألفين إذا تحركتا وانفتح ما قبلهما: أن يتحرك ما بعدهما إن كانتا عينين؛ ولذلك صحت العين في نحو: بيان، وطويل، وغيور؛

دور العلة.

لسكون ما بعدهما؛ قال ابن جني معلقًا على ذلك: "ألا ترى إلى حركة العين التي هي سبب الإعلال كيف صارت على وجه آخر سببًا للتصحيح؟! وهذا هو وجه غريب المأخذ". انتهى. دَوْرُ العلة وقد استقى السيوطي مادة هذه المسألة من (الخصائص) كذلك، من باب عنوانه: باب في دور الاعتلال، ويريد ابن جني بدور الاعتلال: أن يعلل الشيء بعلة معللة بذلك الشيء، والدور بين شيئين توقف كل منهما على الآخر، وهذا من مصطلحات المتكلمين ولهم فيه تقاسيم وبحوث. ذكر السيوطي أن ابن جني قال في (الخصائص): هذا نوع طريف، ذهب محمد بن يزيد -أي: المبرد- في وجوب إسكان اللام في نحو: ضربن وضربت، إلى أنه لحركة ما بعده من الضمير، يعني مع الحركتين قبل، أي: لئلا يتوالى أربع حركات -كما جاء في (الاقتراح) - وذهب أيضًا في حركة الضمير من نحو هذا؛ لأنها إنما وجبت لسكون ما قبله؛ فتارة اعتل بهذا لهذا، ثم دار تارة أخرى فاعتل لهذا بهذا. واستطرد السيوطي ناقلًا عن ابن جني بالمعنى فقال: "قال -أي: ابن جني-: وهو نظير ما أجازه سيبويه في جر الوجه من قولك: الحسن الوجه وأنه جعله تشبيهًا بالضارب الرجل مع أن جر الرجل تشبيهًا بالحسن الوجه، قال -أي: ابن جني-: إلا أن مسألة سيبويه أقوى من مسألة المبرد؛ لأن الشيء لا يكون علة نفسه، وإذا لم يكن كذلك كان من أن يكون علة علته أبعد". انتهى.

تعارض العلل.

وإنما رجح ابن جني تعليل سيبويه في المسألة المذكورة جر الوجه تشبيهًا بجر الرجل في المثالين المذكورين ونحوهما؛ لأن لهذا الحمل مسوغًا قويًّا أشار إليه ابن جني بقوله: "وذلك أن الفروع إذا تمكنت قويت قوة تسوغ حمل الأصول عليها؛ وذلك لإرادتهم تثبيت الفرع والشهادة له بقوة الحكم". انتهى. أما تعليل المبرد؛ فليس له هذه القوة؛ إذ جعل الشيء علة نفسه؛ فتسكين اللام في باب ضربتُ؛ لحركة الضمير، وحركة الضمير لسكون اللام؛ فقال عنه ابن جني: شنيع الظاهر والعذر فيه أضعف منه في مسألة (الكتاب). تعارُضُ العلل مادة هذه المسألة ملخصة عن باب أورده ابن جني في (الخصائص): بالعنوان نفسه، وقد ذكر فيه ابن جني أن الكلام في معنى تعارض العلل ضربان: أحدهما: حكم يتجاذب وجوده وحصوله علتان فأكثر منهما. والآخر: حكمان في شيء واحد مختلفان دعت إليهما علتان مختلفتان. فالأول سبق ذكره عن ابن جني وهو: جواز التعليل بعلتين، ومثل له فيما مثل بقلب الواو ياء في نحو "مسلمِيَّ"؛ لأمرين ذكرناهما هناك. ومن الأمثلة التي ذكرها في باب تعارض العلل لهذا النوع أيضًا: رفع المبتدأ؛ فالبصريون يعتلون لرفعه بالابتداء، والكوفيون إما يرفعونه بالخبر الذي هو مرافعه؛ فالمبتدأ والخبر عندهم يترافعان؛ وإما بما يعود عليه من ذكره من الخبر على حسب مواقعه؛ وكذلك رفع الخبر، ورفع الفاعل ورفع ما أقيم مقامه، ورفع خبر "إنَّ" وأخواتها، وكذلك نصب ما انتصب، وجر ما انجر، وجزم ما

انجزم، مما يتجاذبه الخلاف في علله؛ فكل واحد من هذه الأشياء له حكم واحد تتنازعه العلل. انتهى. والثاني من ضربي تعارض العلل: كإعمال أهل الحجاز "ما" النافية تشبيهًا لها بـ"ليس"، أي لكونها مثلها لنفي الحال عند الإطلاق، وترك بني تميم إعمالها وإجرائهم إياها مجرى "هل" ونحوها مما لا يعمل؛ فكأن أهل الحجاز لما رأوها داخلة على المبتدأ والخبر دخول "ليس" عليهما ونافية للحال نفيها إياها؛ أجروها في الرفع والنصب مجراها، وكأن بني تميم لما رأوها حرفًا داخلًا بمعناه -يعني: لمجرد إفادة معنى النفي- على الجملة المستقلة بنفسها، ومباشرة لكل واحد من جزئيها؛ كقولك: ما زيد أخوك، وما قام زيد، أجروها مجرى "هل"؛ ألا تراها داخلة على الجملة لمعنى النفي دخول "هل عليها" للاستفهام؟! ولذلك كانت عند سيبويه لغة التميميين أقوى قياسًا من لغة الحجازيين. انتهى. وابن جني يشير بذلك إلى قول سيبويه في (الكتاب): "هذا باب ما أجري مجرى ليس في بعض المواضع بلغة أهل الحجاز، ثم يصير إلى أصله: وذلك الحرف: "ما": تقول: ما عبدُ الله أخاك وما زيدٌ منطلقًا؛ وأما بنو تميم فيجرونها مجرى "أما" و"هل"، أي: لا يعملونها في شيء؛ وهو القياس لأنه ليس بفعل وليس "ما" كـ"ليس" ولا يكون فيها إضمار". انتهى. يعني سيبويه: أن القياس في "ما" ألا تعمل؛ لعدم اختصاصها لأنها تدخل على الأسماء والأفعال؛ فشأنها شأن سائر الحروف غير المختصة؛ كـ"هل" و"إنما" وهمزة الاستفهام، وهي حرف؛ أما "ليس"؛ ففعل على الصحيح؛ فلا يكون فيها إضمار كـ"ليس"؛ أما "ليس"؛ فيضمر فيها، تقول: لست ولسنا وليسوا ... إلخ؛ فمذهب التميميين فيها أقوى من مذهب أهل الحجاز الذين أعملوها حملًا

لها على "ليس" في المعنى؛ فإنها مثلها لنفي الحال عند الإطلاق، أي: عند عدم التقيد بزمن آخر غير الحال؛ ومع ذلك فهي عندهم أضعف من "ليس"؛ ولذلك لا يعملونها إلا بشروط، كما عرفت في دراستك إياها في علم النحو. وكذلك "ليتما" وأصلها: "ليت"، وقد اتصلت بها "ما" الزائدة؛ فمن العرب من يلغيها عن العمل؛ إلحاقًا لها بأخواتها: "إنَّ، وأنَّ، وكأنَّ، ولعلَّ، ولكنَّ" إذا اتصلت بهن "ما" الزائدة؛ فإنها تكفهن عن العمل وتجعلهن حروف ابتداء وتهيئهن للدخول على الجمل الفعلية أيضًا بعد أن كن مختصات بالدخول على الجمل الاسمية، ومن كف "ليت" عن العمل بـ"ما" قال: لا تكون ليت في وجوب العمل بها أقوى من الفعل، وقد نرى الفعل إذا كف بـ"ما" زال عن عمله؛ وذلك كقولهم: قلما يقوم زيد؛ فـ"ما" دخلت على الفعل "قل" كافة له عن عمله. ومثله "كثُرما" و"طالما"؛ فكما دخلت "ما" على الفعل نفسه فكفته عن العمل وهيأته لغير ما كان قبلها متقاضيًا له؛ كذلك تكون "ما" كافة لـ"ليت" عن عملها ومصيِّرة لها إلى جواز وقوع الجملتين جميعًا بعدها. وبعض العرب يجعل "ليتما" ناصبة للاسم رافعة للخبر من غير أن تكفها "ما" الزائدة عن العمل؛ إلحاقًا لها بحروف الجر التي تدخل عليها "ما" الزائدة فلا تكفها عن العمل، مثل: الباء؛ كقوله -عز وجل-: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} (النساء: 155)، و"عن"؛ كقوله تعالى: {عَمَّا قَلِيلٍ} (المؤمنون: 40)، و"من" كقوله تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ} (نوح: 25) في قراءة غير أبي عمرو من السبعة، واللام؛ كقول الأعشى: إلى ملكٍ خيرِ أربابه ... فإنَّ لِما كلِّ شيءٍ قرارا أي: فإن لكل شيء قرارًا.

وذكر ابن جني أن الفرق بين "ليت" وبين "كأنَّ ولعلَّ": أنها أشبه بالفعل منهما، وقال: ألا تراها مفردة وهما مركبتان؟! لأن الكاف زائدة واللام زائدة. انتهى. وقال السيوطي: وفُرِّق بينها -أي: بين "ليت"- وبين أخواتها بأنها أشبه بالفعل في الإفراد وعدد الحروف. انتهى. قال الإصباح: فإن "ليت" بوزن "ليس" بخلاف أخواتها. انتهى. وابن جني إنما ذكر في (الخصائص) الفرق بينها وبين "كأنَّ ولعلَّ" كما أوضحنا قريبًا، والذي يطمئن إليه الضمير العلمي في هذه المسألة في ضوء ما ورد في (الكتاب) لشيخ النحاة سيبويه وغيره ممن تناولها بالبحث والدراسة أن "ليتما" يجوز كفها عن العمل بـ"ما" المتصلة بها وهذا الإلغاء حسن، ويجوز إعمالها واعتبار "ما" زائدة غير كافة، يعني: وهذا الإعمال أحسن. وقد قال ابن يعيش في (شرح المفصل): "ومن ذلك: "ليتما" الإلغاء فيها حسن، والإعمال أحسن؛ لقوة شبهها بالفعل وعدم تغير معناها". انتهى. وعكس ذلك الحكم ابن الحاجب في "كافيته" وسار شارحه الرضي على مذهبه؛ فقال ابن الحاجب فيها: "وتلحقها "ما" فتلغى على الأفصح"، وقال الرضي في (الشرح) شارحًا ذلك: "إذا دخلت "ما" على "ليت"؛ جاز أن تعمل وأن تلغى، وروي قوله -أي: قول النابغة-: قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا ... إلى حمامتِنا ونصفه فقَدِ رفعًا ونصبًا، يعني: برفع الحمام على إهمال "ليتما" ونصبه على إعمالها، ولم يسمع الإلغاء والإعمال عن العرب إلا مع "ليتما". ونتابع مع الرضي شرحه؛ فنجده يقول: والإلغاء أكثر؛ لأنها تخرج بما عن الاختصاص بالجملة الاسمية؛ فالأولى ألا تعمل". انتهى.

ولم يذكر الرضي شاهدًا واحدًا على دخول "ليتما" على الجملة الفعلية؛ بل قال أبو حيان في (ارتشاف الضرب): "وذهب الفراء إلى أنه لا يجوز كف "ما" لـ"ليت" ولا لـ"لعل"؛ بل يجب إعمالهما؛ فتقول: ليتما زيدًا قائم، ولعلما بكرًا قادم". انتهى. قال ابن عصفور في (شرح الجمل): "وأما الفراء؛ فزعم أن "ليت" قوي شبهها بالفعل؛ لكونها على مثال من أمثلة الفعل؛ ألا ترى أنها على وزن علْم المخفف من علِم". انتهى. وإنما كان لـ"ليتما" هذه المكانة مع ما ذكره ابن جني أنَّ أخواتها ورد في فصيح الكلام: وهو القرآن الكريم وبعده كلام العرب، ورد زوال اختصاصها بالدخول على الجمل الاسمية، ودخلت في هذا الكلام الفصيح على الجمل الفعلية؛ قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (فاطر: 38) وقال سبحانه: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} (المؤمنون: 115) وقال عز من قائل: {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ} (الأنفال: 6) وقال امرؤ القيس: ولكنما أسعى لمجدٍ مؤثَّل ... وقد يدرك المجدَ المؤثَّلَ أمثالي فأولى "لكنما" الفعل، والمجد المؤثل: هو المجد الثابت الموطد، وقال الفرزدق: أعد نظرًا يا عبد قيس لعلما ... أضاءت لك النارُ الحمارَ المقيَّدا فأولى "لعلما" الفعل. قال ابن عصفور في المصدر السابق بعد إيراده الشواهد القرآنية والشعرية السابقة التي زال فيها من الأحرف الخمسة المذكورة اختصاصها: "وأما "ليتما"؛ فلم تولها العرب الفعل قط؛ لا يحفظ من كلامهم: ليتما يقوم زيد". انتهى.

جواز التعليل بالأمور العدمية.

ومن الضرب الثاني لتعارض العلل أيضًا: "هلم": فقد ألحقها الحجازيون باسم الفعل الأمر لدلالتها على الأمر من غير أن تقبل علامة فعل الأمر؛ فلا تتصل بها نون التوكيد، وتكون بلفظ واحد للمفرد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث، وبلغتهم جاء التنزيل، وقد وردت متعدية بمعنى: أحضر وهات، ومنه قوله تعالى: {هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ} (الأنعام: 150)، ولازمة بمعنى: ايتِ وأقبل، وتتعدى بإلى كقوله -عز وجل-: {هَلُمَّ إِلَيْنَا} (الأحزاب: 18). والتميميون يلحقونها العلامات؛ فهي عندهم فعل أمر؛ فتتصل بها الضمائر على حد اتصالها بالأفعال؛ فيقولون: هلم، وهلمي، وهلما، وهلموا، وهلممن، على حسب نوع المخاطب وعدده استصحابًا ومراعاة لأصلها؛ فهي في الأصل مركبة من "ها" التي للتنبيه و"لم" التي هي فعل أمر من قولهم: لم الله شعثه، أي: جمعه؛ كأنه قيل: اجمع نفسك إلينا، وحذفت ألف "ها" لكثرة الاستعمال. جوازُ التعليل بالأمور العدَمية قال السيوطي: "يجوز التعليل بالأمور العدمية؛ كتعليل بعضهم بناء الضمير باستغنائه عن الإعراب باختلاف صيغه لحصول الامتياز بذلك". انتهى. ومن النحاة الذين أشار إليهم السيوطي: ابن مالك الذي قال في (التسهيل): "ويبنى المضمر لشبهه بالحرف وضعًا وافتقارًا وجمودًا أو للاستغناء باختلاف صيغه لاختلاف المعاني".

وقال في (شرح التسهيل): بعد أن شرح المراد بشبه الحرف وضعًا وافتقارًا وجمودًا: "والمراد باختلاف صيغه لاختلاف المعاني: أن المتكلم إذا عبر عن نفسه خاصة؛ فله تاء مضمومة في الرفع وفي غيره ياء، يعني: وللمتكلم في غير الرفع ياء، وهي التي تسمى ياء المتكلم، وإذا عبر عن المخاطب فله تاء مفتوحة في الرفع، وفي غيره كاف مفتوحة في التذكير ومكسورة في التأنيث؛ فأغنى ذلك عن إعرابه؛ لأن الامتياز حاصل بدونه". انتهى. والخلاصة: أن بيان الوظائف المختلفة التي يؤديها الضمير في الجملة العربية حاصلة من غير حاجته إلى الإعراب للتمييز بينها؛ وذلك بسبب اختلاف صيغه الدالة على هذه الوظائف، والتعليل باختلاف الصيغ لبناء الضمير لحصول الامتياز بها مع عدم الحاجة إلى الإعراب لذلك هو ما عبر عنه السيوطي بـ"الأمور العدمية". والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 17 الدليل الرابع من أدلة الاحتجاج الغالبة عند النحاة: الاستصحاب

الدرس: 17 الدليل الرابع من أدلة الاحتجاج الغالبة عند النحاة: الاستصحاب

حجية الاستصحاب.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السابع عشر (الدليل الرابع من أدلة الاحتجاج الغالبة عند النحاة: الاستصحاب) حجية الاستصحاب الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فالاستصحاب في اللغة: مصدر الفعل استصحب، أي: طلب الصحبة ودعا إليها؛ فالاستصحاب استفعال من الصحبة، يقال: استصحبت الكتاب، أي: حملته بصحبتي. وقبل تعريف الاستصحاب في اصطلاح النحويين لا بد من الإشارة إلى أن هذا المصطلح مصطلح فقهي في الأصل، وله عند الأصوليين تعريفات مختلفة: منها: بقاء الأمر ما لم يوجد ما يغيره. ومنها: استدامة ما كان ثابتًا ونفي ما كان منفيًّا. ومنها: الحكم على الشيء بما كان ثابتًا له أو منفيًّا عنه لعدم قيام الدليل على تغييره. وهذه التعريفات مختلفة في ألفاظها لكن معانيها متقاربة؛ إذ ترجع إلى معنى واحد وهو: إبقاء ما كان على ما كان. وقد انتقل هذا المصطلح من أصول الفقه إلى أصول النحو على يد أبي البركات الأنباري الذي جعل الاستصحاب أحد أصول النحو الغالبة؛ فقال في (لمع الأدلة): أقسام أدلته -يعني: النحو-: ثلاثة: نقل، وقياس، واستصحاب حال، وعرف الاستصحاب في (الإغراب في جدل الإعراب): بأنه إبقاء حال اللفظ على ما يستحقه في الأصل عند عدم دليل النقل عن الأصل. انتهى. ولا يختلف تعريف الاستصحاب عند الأصوليين عن تعريفه عند النحويين؛ فالمعنى واحد، وهو: إبقاء الحكم على ما كان عليه؛ فلا يلحقه تغيير إلا إذا قام الدليل على تغيير الحكم.

ولم يستعمل أحد من النحاة قبل الأنباري هذا المصطلح، ولا يعني هذا عدم استدلالهم به؛ فقد قيل: إن سيبويه قد استدل بهذا الدليل في مواضع كثيرة من كتابه، وإن لم يصرح به ولم يسمه استصحاب الحال أو استصحاب الأصل، ومن هذه المواضع: ما جاء في قوله تعالى {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (طه: 43، 44) فقد ذهب سيبويه في (الكتاب) إلى أن "لعل" على بابها من الترجي، وأن الترجي في حق موسى وهارون -عليهما السلام- وأن المعنى: اذهبا أنتما في رجائكما وطمعكما ومبلغكما من العلم؛ ففي كلام سيبويه إبقاء ما كان على ما كان، أي: إبقاء "لعل" على معناها الأصلي، وهو: الترجي؛ فبقي حال اللفظ على ما يستحقه ولم ينتقل عن أصله لعدم الدليل. وهذا هو الاستصحاب وإن لم يسمه سيبويه باسمه. وإذا كان سيبويه قد استدل باستصحاب الحال في كتابه؛ فقد اقتفى أثره الزجاجي في كتابه (الإيضاح في علل النحو) وابن جني في كتابه (الخصائص)؛ أما الزجاجي؛ فقد ذكر أن الحروف كلها مبنية ولا يعرب شيء منها، وعلل ذلك بأن أصلها البناء ولم يوجد دليل يخرجها عن أصلها؛ فوجب إبقاؤها على ما كانت عليه، وقال: بقيت الحروف كلها على أصولها مبنية؛ لأنها لم يعرض لها ما يخرجها عن أصولها. انتهى. فقد استدل الزجاجي باستصحاب الأصل دون أن يسميه. وأما ابن جني فقد أفرد في كتابه (الخصائص) بابًا عنوانه: باب في إقرار الألفاظ على أوضاعها الأول ما لم يدع داعٍ إلى الترك والتحول، ومعنى ما ذكره ابن جني في هذا الباب: أن اللفظ يبقى على ما يستحقه ولا ينتقل عنه إلا بدليل، وضرب ابن جني مثلًا بحرف العطف "أو"؛ فإنه في الأصل موضوع للدلالة على

أحد الشيئين شكًّا أو إبهامًا أو تخييرًا أو إباحةً، ولا يجوز أن تدل "أو" على معنى آخر إلا بدليل؛ فلا يجوز أن تكون بمعنى "بل" -كما زعم الفراء- ولا أن تكون بمعنى الواو -كما زعم قطرب. وقد رد ابن جني زعمهما وبين أن "أو" على بابها في قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} (الصافات: 147) فقال: فأما قول الله سبحانه: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} فلا يكون في "أو" على مذهب الفراء بمعنى "بل" ولا على مذهب قطرب في أنها بمعنى الواو؛ لكنها عندنا على بابها في كونها شكًّا، وذلك أن هذا كلام خرج عن حكاية من الله -عز وجل- لقول المخلوقين، وتأويله عند أهل النظر: وأرسلناه إلى جمع لو رأيتموه لقلتم أنتم فيهم: هؤلاء مائة ألف أو يزيدون. انتهى. ومع استدلال بعض السابقين من النحويين بهذا الأصل لم نجد أحدًا قبل الأنباري عرَّفه أو سمَّاه، وأول من فعل ذلك من النحويين هو أبو البركات في كتابيه: (الإغراب في جدل الإعراب)، و (لمع الأدلة) وعنهما نقل السيوطي في كتابه (الاقتراح). قال الأنباري في (لمع الأدلة): "وهو -أي: الاستصحاب- من الأدلة المعتبرة، والمراد به: استصحاب حال الأصل في الأسماء -وهو الإعراب- واستصحاب حال الأصل في الأفعال -وهو البناء- حتى يوجد في الأسماء ما يوجب البناء ويوجد في الأفعال ما يوجب الإعراب". انتهى. وقوله: "من الأدلة المعتبرة" معناه: أنه دليل من أدلة النحو التي يعتد بها ويعول عليها، والمثال الذي ذكره الأنباري ونقله عنه السيوطي هو: حكم الاسم والفعل من حيث الإعراب والبناء؛ فإن الأصل في الاسم أن يكون معربًا؛ لأن

الأسماء تعتورها المعاني؛ فتكون فاعلة ومفعولة ومضافة ومضافًا إليها، ولم تكن في صورها وأبنيتها أدلة على هذه المعاني؛ فجُعل الإعراب دليلًا على هذه المعاني؛ فتبين من ذلك أن العرب يفرقون بالإعراب بين المعاني المختلفة؛ كما تبين أن الإعراب أصل في الأسماء؛ ولما كان الإعراب أصلًا في الأسماء؛ لم يجُز أن يبنى شيء من الأسماء حتى يوجد ما يوجب البناء. وقد ذكر أبو البركات الأنباري ما يوجب البناء في بعض الأسماء فقال: "وما يوجب البناء في الأسماء هو شبه الحرف أو تضمن معنى الحرف؛ فشبه الحرف في نحو: الذي، وتضمن معنى الحرف في نحو: كيف". انتهى. ومعنى ما ذكره الأنباري: أن هناك أمرين يوجبان بناء بعض الأسماء: أحدهما: أن يشبه الاسم الحرف. والآخر: أن يتضمن الاسم معنى الحرف. فمثال الأول: "الذي"؛ فإنه مبني لأنه أشبه الحرف في الافتقار اللازم، أي: في كونه مفتقرًا إلى ما يفسر معناه ويبينه؛ فكما أن الحرف يفتقر إلى ما بعده؛ فكذلك الأسماء الموصولة وضعت على الافتقار في فهم معانيها إلى صِلتها؛ فلا يؤتى بها دون أن يؤتى بما يبينها؛ كما أن الحروف كذلك. ومثال الثاني: "كيف"، فقد ذكر الأنباري أن علة بنائه هي أنه تضمن معنى الحرف، ويطلق المتأخرون من النحاة على هذا التضمن اسم "الشبه المعنوي"، ومعناه: أن يتضمن الاسم معنى من معاني الحروف؛ فقد يشبه الاسم حرفًا موجودًا، وقد يشبه حرفًا غير موجود؛ فمثال ما أشبه حرفًا موجودًا: "كيف"؛ فإنها تستعمل للاستفهام، وهي تشبه حرفًا موجودًا -وهو الهمزة- ومثال ما أشبه حرفًا غير موجود: "هنا"؛ فإنها مبنية لأنها تدل على الإشارة، والإشارة

معنًى من المعاني، وحقها أن يوضع لها حرف يدل عليها؛ فلم يوضع؛ فبنيت أسماء الإشارة لشبهها في المعنى حرفًا مقدرًا. ومما سبق يمكن القول بأن: سبب بناء بعض الأسماء ينحصر في أمر واحد، وهو: شبه الاسم بالحرف، وأن ما ذكره الأنباري من تضمن الاسم معنى حرف هو نوع من أنواع هذا الشبه. وبعد أن انتهينا من بيان استصحاب الأصل في إعراب الأسماء نعود إلى كلام الأنباري في استصحاب الأصل في الأفعال وهو البناء؛ فنقول: إن الأصل في الفعل أن يكون مبنيًّا؛ لعدم اختلاف المعاني الدالة عليها، وما أعرب من الأفعال فإنما أعرب لعلة توجب إعرابه، وقد ذكر أبو البركات الأنباري ما يوجب الإعراب في بعض الأفعال فقال: "وما يوجب الإعراب من الأفعال؛ فهو مضارعة الاسم في نحو: يذهب، ويكتب، ويركب، وما أشبه ذلك". انتهى. ومعنى ما ذكره الأنباري: أن الفعل المضارع وحده هو الذي يعرَب، وأن غيره من الأفعال يظل على أصله من البناء؛ وإنما أعرب المضارع لأنه أشبه الاسم، ويحسن بنا أن نذكر هنا الأوجه التي أشبه فيها الفعل المضارع الاسم فاستحق الإعراب لذلك: إن الفعل المضارع قد أشبه الاسم في عدة أوجه: الوجه الأول: الإبهام والشيوع ثم التخصيص بالقرينة: فالفعل المضارع فيه شيوع، ثم يدخل عليه حرف يزيل شيوعه ويخلصه لشيء واحد؛ تقول: زيد يفعل؛ فيصلح أن يكون للحال أو للاستقبال؛ فإذا قلت: سيفعل أو سوف يفعل؛ فقد أدخلت عليه ما يزيل إبهامه ويخلصه لأحد الوجهين: وهو الاستقبال؛ فلا يصلح للحال؛ وهو بذلك بمنزلة الأسماء الشائعة؛ كرجل،

مكانة الاستصحاب بين أدلة النحو.

وفرس؛ لأنك تقول: جاءني رجل؛ فلا يختص بواحد من النوع، ثم تدخل عليه حرفًا يخصه بواحد معين، تقول: جاءني الرجل الذي تعلم؛ فيصير بحيث تضع اليد عليها؛ فقد تقرر المشابهة بين الاسم وهذا النوع من الفعل، من حيث: إنك أزلت الشياع في كل واحد منها بحرف أدخلته على أوله. والوجه الثاني: دخول لام الابتداء على الفعل المضارع كما تدخل على اسم الفاعل: تقول: إن زيدًا ليقاتل؛ كما تقول: إن زيدًا لمقاتل؛ قال الله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (النحل: 124). والوجه الثالث: أن الفعل المضارع توصف به النكرات؛ كقولك: مررت برجل يقوم، كما يكون اسم الفاعل صفة للنكرات تقول: مررت برجل قائم. والوجه الرابع: أن الفعل المضارع يشبه اسم الفاعل ويساويه في حركاته وسكناته، مثل: ضارب ويضرب، ومكبر ويكبر ... ونحو ذلك. إن الاسم يستصحب حاله وهو الإعراب؛ فلا يقال ببنائه حتى يوجد الدليل على البناء وهو مشابهة الحرف، وإن الفعل يستصحب حاله وهو البناء؛ فلا يقال بإعرابه حتى يوجد الدليل على الإعراب: وهو مشابهة الاسم. مكانة الاستصحاب بين أدلة النحو لقد بينا أن النحاة السابقين قد احتجوا بدليل الاستصحاب دون أن ينصُّوا على اسمه أو يعرفوه، وأن أول من فعل ذلك من النحويين: هو أبو البركات الأنباري؛ إذ عد الاستصحاب من أصول النحو المعتبرة ووافقه السيوطي فذكر أن أصول النحو الغالبة أربعة، وهي: السماع، والقياس، والإجماع، والاستصحاب، وعقد لكل أصل منها كتابًا في كتابه (الاقتراح) -أي: بابًا في

(الاقتراح) - وقد نقل السيوطي مسألتين عن كتاب (الإنصاف) لأبي البركات الأنباري، ودعاه إلى ذلك أمران: أحدهما: الرغبة في الوفاء بما ذكره في مقدمة (الاقتراح)؛ إذ قال: وضممت إليه من كتابه (الإنصاف) في مباحث الخلاف جملة. والآخر: كثرة مسائل الخلاف التي استدل فيها الأنباري بالاستصحاب في كتابه (الإنصاف في مسائل الخلاف). كما نقل السيوطي مسألة عن ابن مالك في (التسهيل) ومسألة عن الأندلسي في (شرح المفصل)؛ فهذه أربع مسائل نشير إليها مبينين الاستدلال فيها باستصحاب الحال، وهي: المسألة الأولى: القول بأن "كم" مفردة لا مركبة: وهو رأي البصريين، وحجتهم في ذلك -كما يقول الأنباري في (الإنصاف في مسائل الخلاف) -: "إن الأصل هو الإفراد؛ وإنما التركيب فرع؛ ومن تمسك بالأصل خرج عن عهدة المطالبة بدليل؛ ومن عدل عن الأصل افتقر إلى إقامة الدليل لعدوله عن الأصل، واستصحاب الحال أحد الأدلة المعتبرة". انتهى. فقد استدل البصريون على إفراد "كم" باستصحاب الحال؛ لأنه دليل يعول عليه. والمسألة الثانية: إعمال حرف القسم محذوفًا بعوض: فقد ذهب البصريون إلى أنه لا يجوز إعمال حرف الجر محذوفًا إلا بعوض؛ كألف الاستفهام في نحو: آللهِ ما فعلت كذا؟! أو هاء التنبيه نحو: "هالله" وحجتهم في ذلك -كما قال الأنباري في (الإنصاف) -: إن الأصل في حروف الجر ألا تعمل مع الحذف؛ وإنما تعمل معه في بعض المواضع إذا كان لها عوض؛ فإذا لم يوجد

بقيت على أصلها والتمسك بالأصل تمسك باستصحاب الحال، وهو من الأدلة المعتبرة. والمسألة الثالثة: دلالة كان على الحدث والزمان: وهذه المسألة منقولة عن ابن مالك في كتابه (تسهيل الفوائد)؛ إذ كان ابن مالك من الذين يستدلون باستصحاب الحال، وقد استدل بهذا الدليل في هذه المسألة في أثناء رده على من زعم أن "كان" تدل على الزمن ولا تدل على الحدث، وقد ذهب إلى هذا الرأي جماعة من العلماء، منهم ابن جني، المتوفى سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة من الهجرة، وابن برهان، المتوفى سنة ست وخمسين وأربعمائة، وعبد القاهر الجرجاني، المتوفى سنة إحدى وسبعين وأربعمائة، فقد ذهبوا إلى أن "كان" وأخواتها تدل على زمن وقوع الحدث ولا تدل على الحدث. ورد ابن مالك -رحمه الله- دعواهم من عشرة أوجه، كان أولها وثانيها: أن بين أن هؤلاء النحاة جميعًا يذهبون إلى أن "كان" وأخواتها أفعال، ومن المعلوم أن الفعل يدل على الحدث والزمن؛ فإذا كانت كان وأخواتها أفعالًا؛ فإنها تدل لا محالة على الحدث والزمن؛ إبقاء للأصل: وهو دلالة الفعل عليهما. وقال -رحمه الله- في (شرح التسهيل): "ودعواهم باطلة من عشرة أوجه: أحدها: أن مدعي ذلك -أي: من يدعي عدم دلالة "كان" على الحدث- معترف بفعلية هذه العوامل، والفعلية تستلزم الدلالة على الحدث والزمان معًا؛ إذ الدال على الحدث وحده مصدر، والدال على الزمان وحده اسم زمان، والعوامل المذكورة ليست بمصادر ولا أسماء زمان؛ فبطل كونها دالة على أحد المعنيين دون الآخر.

الثاني: أن مدعيَ ذلك معترف بأن الأصل في كل فعل الدلالة على المعنيين؛ فحكمه على العوامل المذكورة بما زعم إخراج لها عن الأصل؛ فلا يقبل إلا بدليل ... " إلى آخر ما قال ابن مالك في (شرح التسهيل). ولو أننا تأملنا ما نقله السيوطي في (الاقتراح) عن ابن مالك؛ لوجدنا السيوطي قد أوجز القول إيجازًا ليستدل على أن استصحاب الأصل يرد القول بأن "كان" وأخواتها تدل على الزمن دون الحدث، وقد ذكرنا من كلام ابن مالك ما تتم به الفائدة ويكمل به النفع. والمسألة الرابعة: موضع الضمير من "لولاك" ونحوه: ذهب الكوفيون إلى أن الضمير المتصل بـ"لولاك" ونحوه مرفوع، وحجتهم في ذلك: أنه لو وضع في موضع هذا الضمير اسم ظاهر لكان مرفوعًا، نحو: "والله لولا الله ما اهتدينا" ونحو ذلك، فلما كان الأمر كذلك وجب أن يكون الضمير في موضع رفع؛ لاستصحاب الأصل، يقول الأندلسي في (شرح المفصل): "استدل الكوفيون على أن الضمير في "لولاك" ونحوه مرفوع، بأن قالوا: أجمعنا على أن الظاهر الذي قام هذا الضمير مقامه مرفوع؛ فوجب أن يكون كذلك في هذا الضمير بالقياس عليه والاستصحاب". انتهى. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الأنباري لفرط عنايته بدليل الاستصحاب قد وافق الكوفيين في هذه المسألة، وذهب مذهبهم فيها مع بصريته الظاهرة وموافقته البصريين في جل المسائل التي ذكرها في كتابه (الإنصاف)؛ فقد وافق الكوفيين في هذه المسألة؛ فقال في (الإنصاف): "والصحيح ما ذهب إليه الكوفيون". انتهى. وبعد أن انتهينا من المسائل الأربع التي نقلها السيوطي عن الأنباري في (الإنصاف) وابن مالك في (شرح التسهيل) والأندلسي في (شرح المفصل) نشير

إلى أن السيوطي كان يعول على كلام الأنباري ويرى رأيه في أن الاستصحاب أصل من أصول النحو الغالبة؛ ويدل على أن هذا الرأي هو رأي السيوطي قوله: والمسائل التي استدل فيها النحاة بالأصل كثيرة جدًّا لا تحصى وقد كثرت المسائل التي استدل فيها السيوطي بالاستصحاب في مواضع متفرقة من مؤلفاته ونذكر هنا مسألتين: المسألة الأولى: الأصل في البناء أن يكون على السكون: ذكر السيوطي أن الأصل في البناء السكون؛ لأن السكون أخف؛ فلا يعدل عنه إلا لسبب، ولأن أصل عدم الحركة؛ فوجب استصحابه ما لم يمنع منه مانع. ووجه الاستشهاد بهذه المسألة: أن السيوطي استصحب أصل البناء: وهو السكون. والمسألة الثانية: تسكين فعل الأمر استصحابًا: يقول السيوطي في باب المضمر من كتابه (همع الهوامع): "إذا أسند الفعل إلى التاء والنون و"نا"؛ سكن آخره؛ كضربت، وضربن، ويضربن، واضربن، وضربنا، وعلة الإسكان عند الأكثر: كراهة توالي أربع حركات فيما هو كالكلمة الواحدة؛ لأن الفاعل كجزء من فعله وحمل المضارع على الماضي؛ وأما الأمر فيسكن استصحابًا". انتهى. ومعنى ما ذكره السيوطي: أن فعل الأمر يسكن استصحابًا للأصل؛ لأن الأصل في البناء أن يكون على السكون، ومن عناية السيوطي بهذا الأصل وعدِّه واحدًا من أصول النحو الغالبة؛ وجدناه لم يرتضِ اتخاذه دليلًا لعلة بناء "الآن"، ورد قول من استدل به وهو الفراء؛ إذ ذهب الفراء في أحد قوليه إلى أن علة البناء في

كلمة "الآن" هي أن هذه الكلمة منقولة عن الفعل الماضي "آنَ"؛ فبقيت على بنائه استصحابًا للأصل. قال الفراء: إن شئت جعلت الآن أصلها من قولك: آن لك أن تفعل، أدخلت عليها الألف واللام، ثم تركتها على مذهب فعَل؛ فأتاها النصب من نصب "فعَل" وهو وجه جيد؛ كما قالوا: ((نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن قيل وقال، وكثرة السؤال)). وكلام الفراء يشير إلى أن علة البناء في كلمة "الآن" هي استصحاب أصلها، وأصلها هو الفعل الماضي "آنَ"؛ ولم يرتضِ السيوطي استصحاب الأصل دليلًا في هذه المسألة؛ فرد كلام الفراء بقوله: ورد بأنه لو كان كذلك لم تدخل عليه "أل"؛ كما لا تدخل على ((قيل وقال)) ولجاز فيه الإعراب كما جاز في ((قيل وقال)) ... انتهى. وقوله: لجاز فيه الإعراب كما جاز في ((قيل وقال))، معناه: أن ((قيل وقال)) يجوز فيهما أن يقال: ((نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن قيلٍ وقالٍ)) بالجر، ولا يجوز الإعراب في "الآن"؛ فدل ذلك على أنه ليس مبنيًّا لاستصحاب حال البناء. وإذا كان الأنباري يرى أن الاستصحاب من أصول النحو الغالبة ومن الأدلة المعتبرة؛ فما مكانة هذا الدليل بين الأدلة الأخرى عند الأنباري؟ لقد أجاب الأنباري عن هذا السؤال مرتين في كتابه (لمع الأدلة): المرة الأولى: عندما ذكر أصول النحو؛ فقال: أقسام أدلته الثلاثة: نقل، وقياس، واستصحاب حال، ومراتبها كذلك؛ فدل كلامه على أن الاستصحاب يقع في مرتبة متأخرة عن مرتبتي: السماع، والقياس.

والمرة الثانية: حين قال عن الاستصحاب: استصحاب الحال من أضعف الأدلة؛ وعلة ضعفه تقدم السماع، والقياس، والإجماع عليه. ونلحظ في كلام الأنباري تأثره بالفقهاء؛ فقد نقل هذا المصطلح من علم أصول الفقه إلى علم أصول النحو، ولم يذكره أحد قبله، ووصفه بأنه أضعف الأدلة؛ كما وصفه الفقهاء بأنه آخر متمسك للناظر، وبأنه: آخر مدار الفتوى؛ فإن المفتي إذا سئل عن حادثة يطلب حكمها في الكتاب، ثم في السنة، ثم في الإجماع، ثم في القياس؛ فإن لم يجده يأخذ حكمها من استصحاب الحال في النفي والإثبات. ويدل على ضعف هذا الدليل: أنه لا يجوز الاستدلال به إلا إذا لم يوجد دليل آخر؛ فإن وجد دليل آخر؛ لم يجز الاستدلال بالاستصحاب. يقول الأنباري في (الإغراب في جدل الإعراب): "وأما استصحاب الحال فلا يجوز الاستدلال به ما وجد هناك دليل بحال". انتهى. ومعنى ما ذكره الأنباري: أنه يشترط لصحة الاحتجاج بالاستصحاب ألا يجد المستدل دليلًا غيره، وضرب الأنباري لنا مثلًا وهو: أنه لا يجوز التمسك بالاستصحاب في إعراب الاسم مع وجود دليل البناء وهو مشابهة الاسم للحرف؛ وكذلك لا يجوز التمسك به في بناء الفعل مع وجود دليل الإعراب وهو مشابهة الفعل للاسم؛ لأن الاستصحاب تمسك بعدم الدليل؛ فإذا قام الدليل بطل التمسك بالأصل، ويستوي أن يكون هذا الدليل الذي عارض الاستصحاب سماعيًّا أو قياسيًّا؛ لأنه إذا تعارض استصحاب الحال مع دليل آخر من سماع أو قياس؛ فلا عبرة بالاستصحاب، أي: لا اعتداد به ولا التفات إليه؛ لقوة الدليل الآخر الذي يقابله ويعارضه؛ فيقدم السماع أو القياس على الاستصحاب.

الاعتراض على الاستدلال بالاستصحاب.

وقد بين الأنباري ضعف الاستدلال بالاستصحاب في مسألة "نِعم" و"بئس"؛ إذ ذهب البصريون إلى أنهما فعلان واستدل بعضهما على فعليتهما باتصال الضمير بهما على حد اتصاله بالفعل المتصرف؛ فإنه جاء عن العرب قولهم: نعما رجلين ونعموا رجالًا؛ كما استدل بعضهم على فعليتهما باتصالهما بتاء التأنيث الساكنة كقولهم: نعمت المرأة هند، وبئست الجارية دعد؛ فهذه التاء يختص بها الفعل الماضي لا تتعداه. ومن البصريين من ذهب إلى أن "نِعم" و"بئس" فعلان مستدلًّا على فعليتهما بأن قال: الدليل على أنهما فعلان ماضيان: أنهما مبنيان على الفتح، ولو كانا اسمين لما كان لبنائهما وجه؛ إذ لا علة ها هنا توجب بناءهما ... انتهى. ولم يرتضِ الأنباري الاستدلال بهذا الدليل الأخير؛ لأنه استدلال بالاستصحاب؛ فقال: وهذا تمسك باستصحاب الحال، وهو من أضعف الأدلة، والمعتمد عليه ما قدمناه، أي: أن المعتمد عليه في إثبات فعلية "نعم" و"بئس": هو اتصال الضمير المرفوع بهما كما يتصل بكل فعل متصرف، واتصالهما بتاء التأنيث الساكنة. وخلاصة القول: أن الاستصحاب من أدلة النحو عند الأنباري ما لم يوجد دليل غيره؛ فإن وجد دليل غيره كان الاستدلال به ضعيفًا. الاعتراض على الاستدلال بالاستصحاب لقد ذكر الأنباري أن أدلة النحو الغالبة ثلاثة أدلة، وهي: النقل، والقياس، واستصحاب الحال، وكل دليل من هذه الأدلة الثلاثة يمكن الاعتراض عليه؛ ولذلك عقد في كتابه (الإغراب في جدل الإعراب) ثلاثة فصول، تناول فيها الاعتراض على أدلة النحو الغالبة مبينًا كيفية الجواب عما يمكن أن يرد على هذه الأدلة من اعتراضات:

فأول الفصول الثلاثة: الاعتراض على الاستدلال بالنقل. وثانيها: الاعتراض على الاستدلال بالقياس. وثالثها: الاعتراض على الاستدلال باستصحاب الحال، وهو الذي يعنينا في هذا الدرس. وقبل أن نذكر ما قاله الأنباري في هذا الفصل ونقله عنه السيوطي في (الاقتراح) نشير إلى أن المراد بالاعتراض في اللغة هو المنع والحيلولة؛ إذ يقال: عرض الشيء يعرض واعترض: انتصب ومنع، وصار عارضًا كالخشبة المنتصبة في النحو والطريق تمنع السالكين سلوكها، ولا ينفك المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغوي؛ فالمراد بالاعتراض هنا: الحيلولة بين المستدل وما يستدل به على حكم من أحكام النحو. وقد عرف أحد الباحثين الاعتراض على الدليل بأنه: ما يمنع به المعترض استدلال المستدل بدليله؛ فإذا كان المستدل يستدل على مسألة ما بدليل من السماع مثلًا؛ فإن هناك أمورًا يمنع بها المعترض هذا الاستدلال؛ كأن يطعن في السند أو يعترض على المتن باختلاف الرواية أو نحو ذلك؛ وإذا كان المستدل يستدل باستصحاب الحال؛ فقد ذكر الأنباري أن للمعترض أن يعترض عليه بأن يذكر دليلًا يدل على زوال استصحاب الحال، ولم يكتفِ الأنباري بذكر الاعتراض وحده وإنما ذكر كيفية الجواب عنه. فقال في (الإغراب في جدل الإعراب): "الاعتراض على الاستدلال باستصحاب الحال: وهو أن يذكر دليلًا يدل على زوال استصحاب الحال، مثل: أن يدل الكوفي على زواله إذا تمسك البصري به في بناء فعل الأمر؛ فيبين أن فعل الأمر مقتطع من الفعل المضارع ومأخوذ منه، وأن الفعل المضارع قد أشبه الاسم وزال عنه استصحاب حال البناء وصار معربًا بالشبه؛ فكذلك فعل الأمر.

والجواب: أن يبين -أي: البصري- أن ما توهمه -أي: الكوفي- دليلًا لم يوجد؛ فيبقى التمسك باستصحاب الحال صحيحًا". انتهى. وقد نقل السيوطي هذا الكلام ولم يعلق عليه بشيء، وفيه إجمال يحتاج إلى تفصيل يكشف، وتفصيل القول في هذا الكلام: أن نقول: إن البصريين يذهبون إلى أن فعل الأمر مبني، ولهم أن يستدلوا على صحة مذهبهم باستصحاب الأصل؛ لأن الأصل في الأفعال البناء، وقد يعترض الكوفيون على مذهب البصريين بأن يقولوا: إن استصحاب الحال -وهو البناء- قد زال عن فعل الأمر الذي استدل به البصري، والدليل على زوال استصحاب الحال من فعل الأمر: أن فعل الأمر ليس قسمًا برأسه؛ وإنما هو مأخوذ من الفعل المضارع ومقتطع منه، ولما كان فعل الأمر مأخوذًا من المضارع، والمضارع معرب لأنه أشبه الاسم؛ كان فعل الأمر كذلك معربًا بالشبه؛ فيقال: إن "اضرب" فعل معرب؛ لأن أصله "لِتضربْ"، ثم حذفت اللام -أي: لام الأمر- ثم حذف حرف المضارعة، ثم جيء بهمزة الوصل توصلًا إلى النطق بالساكن. هذا ما يمكن أن يورده الكوفي اعتراضًا على دليل البصري. فيجيب عنه البصري بأن: ما توهمه الكوفي دليلًا على إعراب فعل الأمر، وهو أنه مأخوذ من الفعل المضارع ومقتطع منه؛ لم يوجد؛ بل هو نوع مستقل على حدة، وحينئذ يبقى التمسك بالاستصحاب، واستصحاب الحال فيه: هو أصل البناء في الفعل. والخلاصة: أن استصحاب الحال، مع أنه قد جعل أحد الأدلة الأربعة الغالبة من الأدلة التي تعد أصولًا للنحو العربي؛ فإنه يعد أضعف هذه الأدلة؛ لأنه إنما يعتمد عليه في حالة عدم وجود دليل يعارضه؛ أما إذا وجد دليل يعارضه؛ فإن

هذا الدليل المعارض يسقط استصحاب الأصل، يقال: استصحاب الأصل، ويقال: استصحاب الحال، وهما بمعنى واحد؛ لأن المراد استصحاب حال الأصل كما عرفنا بالنسبة للإعراب في الأسماء وبالنسبة للبناء في الأفعال. لما كان الإعراب هو الأصل في الأسماء باعتبار أن الأسماء تتعاورها -أي: تتقلب عليها- المعاني المختلفة التي تفتقر معها إلى الإعراب للتمييز بين هذه المعاني؛ بحيث إذا لم يوجد الإعراب؛ اختلطت هذه المعاني بعضها ببعض، والتبس بعضها ببعض؛ فلم يتبين المستمع أو المخاطب لا يعرف مثلًا الفاعل من المفعول، أو المبتدأ من الخبر، أو أسلوب التعجب من أسلوب النفي ... إلى آخر ما قلناه؛ فإنها في هذه الحالة تحتاج احتياجًا متأصلًا إلى الإعراب، ومن ثم؛ فإذا أردنا أن نستدل على الإعراب في الأسماء؛ فإننا يمكن أن نستدل عليها باستصحاب الحال، لأن الإعراب هو الأصل في الأسماء؛ اللهم إلا إذا وجد دليل يعارض هذا الأصل، وهو: وجود شبه من أنواع الشبه بالحرف كما ذكرنا. وعلى العكس الفعل؛ فإن الأصل فيه البناء؛ لأنه لا تتعاوره المعاني المختلفة؛ إذ لا يدل على معنى الحدث والزمان، ومن ثم فهو لا يحتاج إلى الإعراب؛ فالأصل فيه البناء. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 18 أدلة متفرقة من أدلة النحو غير الغالبة

الدرس: 18 أدلة متفرقة من أدلة النحو غير الغالبة

الاستدلال بالعكس.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثامن عشر (أدلة متفرقة من أدلة النحو غير الغالبة) الاستدلال بالعكس الحمد لله والصلاة، والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن والاه، أما بعد: النصف الأول من الباب الخامس من أبواب كتاب (الاقتراح)، والذي عقده السيوطي للحديث عن: أدلة متفرقة من أدلة النحو غير الغالبة: نشير إلى أن السيوطي قد وضع لهذا الباب عنوانًا وهو: في أدلة شتى. والأدلة: جمع دليل وهو ما يستدل به. وقوله: "شتى" أي: متفرقة، ليس لها ضابط خاص؛ فهي تجمع في هذا الباب. وقد افتتح السيوطي الباب بقول الأنباري في (لمع الأدلة): "اعلم أن أنواع الاستدلال كثيرة لا تنحصر ... " انتهى. ومعنى قوله: "لا تنحصر": أنها كثيرة جدًّا، تخرج عن حد الحصر؛ لأن مدارها على حدة الفكر، وقوة الذكاء، وحسن الاستنباط. وقد ذكر السيوطي في هذا الباب ثمانية أدلة نتناول في هذا الدرس أربعة منها، ونبدأ الحديث عن الاستدلال بالعكس: إن الاستدلال بالعكس دليل من أدلة الأصوليين ويعبرون عنه بقياس العكس، ويعرفونه بأنه: عدم الحكم عند عدم العلة، وقد جعله السيوطي أول الأدلة غير الغالبة؛ فقال: ومنها: الاستدلال بالعكس، أي: جعل عكس الحكم دليلًا، وبهذا الدليل رُدَّ على الكوفيين زعمهم أن الخبر إذا كان ظرفًا كان منصوبًا بالخلاف. ومعنى كلام الكوفيين: أنه إذا قيل: زيدٌ أمامَك وعمرٌو وراءَك؛ فالظرفان "أمامك" و"وراءك" منصوبان بالخلاف، وحجتهم في ذلك: أن خبر المبتدأ هو

المبتدأ في المعنى؛ فإذا قيل: زيدٌ قائمٌ وعمرٌو جالسٌ؛ فزيد مبتدأ وقائم خبره، وقائم هو زيد في المعنى؛ فالقائم هو زيد؛ وكذلك عمرو هو الجالس، والجالس هو عمرو؛ فيستحق الخبر عندئذٍ أن يكون مرفوعًا به، أي: بالمبتدأ، وإذا قيل: زيد أمامَك وعمرٌو وراءَك، لم يكن "أمامَك" في المعنى هو زيد ولا "وراءَك" في المعنى هو عمرو؛ كما كان "قائم" في المعنى هو زيد؛ فلما كان الظرف مخالفًا للمبتدأ نُصِب على الخلاف. ومما سبق يتبين أن الكوفيين يرون أن عامل النصب في الظرف الواقع خبرًا هو عامل معنوي، عبروا عنه باسم الخلاف، ومعناه: المخالفة بين الخبر والمبتدأ، وأرادوا بأن الخبر ليس هو المبتدأ في المعنى وإنما هو مخالف له. وقد أفسد الأنباري هذا القول مستدلًّا على فساده بالعكس؛ لأنه لو كان عامل النصب في الظرف هو الخلاف لكان من الواجب أن يكون المبتدأ منصوبًا؛ لأن الخلاف مصدر الفعل "خالف"، وبنية هذا الفعل تدل على المشاركة بين اثنين يخالف كل منهما صاحبه كما هو شأن المفاعلة نحو: خاصم؛ إذ لا يتصور الخصام من واحد؛ وكذلك: جادل؛ ولا يتصور الجدال من واحد؛ فإذا كان الخبر مخالفًا للمبتدأ؛ فمعناه: أن المبتدأ أيضًا مخالف للخبر، وإذا كان الخلاف يوجب نصب الظرف -كما زعم الكوفيون- فالواجب أيضًا نصب المبتدأ، ولو وافقناهم على زعمهم فنقول: زيدًا أمامَك، بالنصب، ولا قائل بذلك؛ فبطل ما استدل به الكوفيون. يقول الأنباري في (الإنصاف): "لو كان الموجب لنصب الظرف كونه مخالفًا للمبتدأ؛ لكان المبتدأ أيضًا يجب أن يكون منصوبًا؛ لأن المبتدأ مخالف للظرف كما أن الظرف مخالف للمبتدأ؛ لأن الخلاف لا يتصور أن يكون من واحد؛ وإنما يكون من اثنين فصاعدًا؛ فكان ينبغي أن يقال: زيدًا أمامَك وعَمْرًا وراءَك ... وما أشبه ذلك؛ فلما لم يجز ذلك دل على فساد ما ذهبوا إليه" انتهى.

الاستدلال ببيان العلة.

وقد نقل السيوطي في (الاقتراح) كلام الأنباري باختصار غير مخلٍّ؛ لأن الغاية التي سعى إليها هي بيان الاستدلال بالعكس، وأنه لما لم يكن المبتدأ منصوبًا مع قيام الخلاف به أيضًا دل عدم نصبه على أن الخلاف لا يكون موجبًا للنصب في الظرف وإلا فإن كون الخلاف عاملًا في أحدهما دون الآخر تحكم وترجيح بلا مرجح؛ فكان عكس الحكم دليلًا على نفيه. ونختم الحديث ببيان رأي البصريين في عامل النصب في الظرف الواقع خبرًا في نحو ما تقدم إكمالًا للنفع وإتمامًا للفائدة؛ فنقول: ذهب جمهور البصريين إلى أن عامل النصب في الظرف الواقع خبرًا هو فعل مقدر، والتقدير عندهم: زيد استقر أمامَك، وعمرو استقر وراءَك، وذهب بعضهم إلى أن عامل النصب اسم فاعل، والتقدير: زيد مستقر أمامَك، وعمرو مستقر وراءَك، والقول بتقدير الفعل أولى من القول بتقدير اسم الفاعل؛ لأن اسم الفاعل فرع عن الفعل في العمل، والفعل هو الأصل في العمل؛ فلما وجب تقدير عامل كان تقدير ما هو الأصل في العمل -وهو الفعل- أولى من تقدير ما هو الفرع فيه -وهو اسم الفاعل. الاستدلال ببيان العلة إن السيوطي قد اعتمد في مادة هذا الدليل على ما أورده أبو البركات الأنباري في الفصل الرابع والعشرين من كتابه (لمع الأدلة) وعنوانه: ما يلحق بالقياس من وجوه الاستدلال، وذكر في هذا الفصل: أن الاستدلال ببيان العلة هو أحد أدلة النحو غير الغالبة، وجعله مما يكثر التمسك به، وعليه عوَّل السيوطي في كتابه (الاقتراح) تعويلًا كاملًا؛ إذ نقل كلام الأنباري الذي ذكر فيه: أن بيان العلة قد يكون دليلًا يُستدَل به ويعتمد عليه عند الخلاف في إثبات حكم من الأحكام

النحوية أو نفيه؛ فيكون وجود العلة دليلًا على وجود الحكم ويكون عدمها دليلًا على نفي الحكم وعدم وجوده، وذكر أن الاستدلال ببيان العلة يكون على وجهين: أحد هذين الوجهين: أن يبين علة الحكم ويستدل بوجودها في موضع الخلاف؛ ليوجد بها الحكم. والثاني: أن يبين علة الحكم ثم يستدل بعدمها في موضع الخلاف؛ ليعدم الحكم ... انتهى. ومعنى ما قاله الأنباري ونقله عنه السيوطي: أن المستدل يكثر تمسكه بهذا الدليل -وهو بيان العلة- في مواضع الخلاف؛ فيثبت حكمًا وينفي آخر، يثبت بوجود علته وينفي آخر لانتفاء علته؛ إذ إن الحكم يدور مع العلة وجودًا وعدمًا؛ لأنه كلما وُجدت العلة وُجد ذلك الحكم وإن انتفت العلة انتفى الحكم. وإذا كان الأنباري قد ذكر أن الاستدلال ببيان العلة يكون من وجهين وهما: إثبات الحكم، ونفيه؛ فإنه قد مثل لكل وجه منهما بمثال: أما الوجه الأول -وهو الاستدلال بوجود العلة على وجود الحكم- فمثاله: أن يستدل من أعمل اسم الفاعل إذا كان بمعنى الماضي فيقول: إنما عمل اسم الفاعل في محل الإجماع لجريانه على حركة الفعل وسكونه، وهذا جارٍ على حركة الفعل وسكونه فوجب أن يكون عاملًا ... انتهى. ولتوضيح هذا المثال الذي ذكره الأنباري نقول: إنه لا خلاف بين النحاة في إعمال اسم الفاعل إذا كان للحال أو للاستقبال؛ لأنه في هذه الحالة يكون موافقًا للفعل الموافق له في اللفظ -وهو الفعل المضارع- يكون موافقًا له أيضًا في المعنى -وهو الزمن: الدلالة على الحال أو الاستقبال- فإن كان اسم الفاعل بمعنى

الماضي فقد ذهب جمهور النحويين من البصريين والكوفيين إلى أنه لا يجوز إعماله؛ فلا يجوز: "هذا ضاربٌ زيدًا أمسِ"؛ بل يجب أن يقال: "هذا ضاربُ زيدٍ أمسِ"، بالإضافة على سبيل الوجوب؛ لأنه فقد الشبه بالفعل المضارع في المعنى. وخالف في ذلك الكسائي وحده؛ فأجاز إعمال اسم الفاعل إذا كان بمعنى الماضي، ويجوز لمن يرى إعمال اسم الفاعل إذا كان بمعنى الماضي -كالكسائي ومن سار على دربه واتبع نهجه- أن يستدل على صحة رأيه ببيان العلة؛ فيقول: إن العلة التي من أجلها عمل اسم الفاعل عمل فعله: هي أنه يساوي فعل المضارع في حركاته وسكناته؛ فقولنا: يضرب، يساوي قولنا: ضارب، في الحركات والسكنات، وقولنا: يضرب، يساوي قولنا: ضارب، في الحركات والسكنات أيضًا ... وهكذا؛ فهو جارٍ على الفعل في حركاته وسكناته، وهذه العلة موجودة في اسم الفاعل، أي: أنه يجري على حركات المضارع وسكناته، يوافقه في حركاته وسكناته؛ سواء أكان بمعنى الماضي، أم كان بمعنى الحال، أم كان بمعنى الاستقبال، وإذا كان الأمر كذلك صح أن يعمل اسم الفاعل عمل فعله في الزمن الماضي لوجود العلة فيه؛ وبذلك يكون بيان العلة دليلًا يثبت به حكم من الأحكام، وهو: إعمال اسم الفاعل في الماضي. وإذ انتهينا من معرفة أن بيان العلة يكون بيانًا يثبت به إعمال اسم الفاعل في الماضي؛ يحسن بنا أن نشير إلى أن الراجح في هذه المسألة هو مذهب الجمهور، وأن مذهب الكسائي مرغوب عنه؛ لأن اسم الفاعل قد عمل عمل فعله لمجموع أمرين؛ وهما: المعنى، والشبه له من جهة اللفظ؛ فقولنا: هذا مكرمٌ عمرًا غدًا؛ فـ"مكرمٌ" بمنزلة "يكرم" في المعنى؛ بحيث يمكن إحلال الفعل "يكرم" محله، والمعنى -أي: من ناحية الزمن- يكون واحدًا، وهو مثله في اللفظ أيضًا، لا فرق

بينهما في الحركات والسكنات والأصول والزيادة؛ إلا أن الفعل أحد أحرف المضارعة، والأول من اسم الفاعل هو الميم المضمومة، واسم الفاعل إذا كان بمعنى الماضي لا يعمل؛ لأنك إذا قلت: "هذا ضاربٌ زيدًا أمس"، كان في معنى "ضرب" وليس مثله في اللفظ لا في الحركات ولا في السكنات ولا في عدد الحروف. وأما الوجه الثاني: وهو الاستدلال بنفي العلة على نفي الحكم؛ فمثاله: أن يستدل من أبطل عمل "إنْ" المخففة من الثقيلة؛ فيقول: إنَّما عملت "إنَّ" الثقيلة لشبهها بالفعل، وقد عدم هذا الشبه بالتخفيف؛ فوجب ألا تعمل. ولتوضيح هذا المثال الذي ذكره الأنباري نقول: إن "إنَّ" المثقلة من الأحرف الناسخة التي تنصب المبتدأ اسمًا لها وترفع الخبر خبرًا لها، ولا خلاف بين النحويين في إعمالها وهي مثقلة، وقد ذكر النحويون أن علة إعمال "إنَّ" وأخواتها: شبهها بالفعل من جهتي اللفظ والمعنى، وأن أهم أوجه الشبه: أنها موضوعة على ثلاثة أحرف كما أن أغلب الأفعال كذلك، وأنها مبنية على الفتح كما أن الفعل الماضي كذلك، وأنها تلزم الدخول على الأسماء كما أن الأفعال كذلك، وأنها تدخل عليها نون الوقاية مثل: إنني، وكأنني، ولكنني ... إلى آخره، والفعل كذلك، تقول: أفهمني، وعلمني ... إلى آخره، وأنها يتصل بها المضمر المنصوب ويتعلق بها كتعلقه بالفعل؛ تقول: إنه، وإنها، وإنك، وإنني، كما تقول: أكرمته، وأكرمتها، وأكرمتك، وأكرمتني، وأن فيها معاني الأفعال؛ فمعنى "إنَّ" و"أنَّ": حققت، ومعنى "كأنَّ": شبهت، ومعنى: "لكنَّ": استدركت، ومعنى "ليت": تمنيت، ومعنى "لعل": ترجيت؛ فإذا خففت جاز فيها وجهان:

الاستدلال بالاستقراء.

فالأول: إبقاؤها على ما كانت عليه من الإعمال، وهو قليل في لسان العرب. والثاني: إهمالها، وهو الأكثر. ولكل وجهة هو موليها؛ فوجه بقاء الإعمال هو أنها عملت لأنها أشبهت الفعل، وتخفيفها لا يزيل شبهها بالفعل؛ لأن التخفيف حذف، والحذف عارض، والأصل هو الإثبات؛ فالمحذوف كأنه لم يحذف، ووجه الإهمال هو الذي أشار إليه الأنباري إذ ذكر: أنه يجوز لمن أهملها أن يستدل على صحة رأيه ببيان العلة؛ فيقول: إن العلة التي من أجلها عملت "إنَّ" هو شبهها بالفعل في المبنى والمعنى -كما سبق- وقد عدم الشبه بالتخفيف؛ إذ لم يبقَ مبناها كمبنى الفعل؛ فوجب انتفاء إعمالها لانتفاء العلة، وبذلك يكون بيان العلة دليلًا ينتفي به حكم من الأحكام: وهو إعمال "إنْ" المخففة عمل "إنَّ" المثقلة. الاستدلال بالاستقراء إن الدليل الثالث من الأدلة غير الغالبة عند السيوطي هو الاستدلال بعدم الدليل في الشيء على نفيه؛ أما الاستدلال بالاستقراء فهو الدليل السابع من الأدلة غير الغالبة عند السيوطي؛ ولكنا آثرنا تقديمه على الاستدلال بعدم الدليل لأنهما ضدان؛ فما ثبت بالاستقراء فقد ثبت بالإيجاب؛ وما ثبت بعدم الدليل فقد ثبت بالنفي؛ فأردنا أن نذكرهما متتاليين، وأن نبدأ الحديث عن الاستدلال بالاستقراء: فنقول: إن الاستقراء في اللغة هو مصدر الفعل استقرى بمعنى: تتبع، يقال: قروت البلاد قروًا، وقريتها قريًا، واقتريتها واستقريتها، أي: تتبعتها، أخرج من أرض إلى أرض، والمراد بالاستقراء هنا: تتبع الجزئيات لإثبات أمر كلي، وهو

من الأدلة غير الغالبة في أصول النحو، وقد اتخذه العلماء دليلًا في مواضع، ذكر منها السيوطي في (الاقتراح) موضعًا واحدًا لا غير، وهو: انحصار الكلمة في ثلاثة أنواع، وهي: الاسم، والفعل، والحرف. وقد استدل العلماء على هذا الحصر بأدلة متعددة منها الأثر المروي عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- حين قال لأبي الأسود الدؤلي: "الكلام كله اسم، وفعل، وحرف، جاء لمعنى"، ومنها الدليل العقلي، وبيانه: أن الكلمة إما أن تدل على معنًى في نفسها أو في غيرها؛ فإن دلت على معنى في نفسها ولم تقترن بزمن فهي الاسم؛ وإن اقترنت بزمن فهي الفعل؛ وإن دلت على معنى في غيرها فهي الحرف. ومن الدليل العقلي على انحصار الكلمة في هذه الأنواع الثلاثة: أن هذه الأنواع يعبر بها المتخاطبون عن جميع ما يخطر في أنفسهم من المعاني؛ فلو كان هناك نوع رابع لبقي في النفوس معانٍ لا يمكن التعبير عنها بإزاء هذا النوع الساقط. ومع كثرة الأدلة التي تدل على انحصار الكلمة في هذه الأنواع الثلاثة؛ فقد ذهب بعض العلماء إلى أن أحسن أدلة الحصر هو الاستقراء؛ لأن علماء العربية قد تتبعوا كلام العرب في محاوراتهم ومخاطباتهم؛ فلم يجدوا إلا هذه الأنواع الثلاثة، ولو كان هناك نوع رابع لعثروا على شيء منه؛ فلما لم يعثروا إلا على هذه الأنواع بعد تتبع كان الاستقراء هو دليل الحصر، وقد قال ابن الخباز -المتوفى سنة تسع وثلاثين وستمائة من الهجرة- وهو -أي: الاستقراء- أحسن دلائل الحصر. ونختم الحديث بأمرين: الأول: أن نشير إلى أن انحسار الكلمة في هذه الأنواع الثلاثة -الاسم، والفعل، والحرف- كان موضع إجماع النحاة، وخرق هذا الإجماع أبو جعفر بن صابر،

ولا عبرة بخلافه؛ لأن إجماع النحويين معتبر -كما سبق أن ذكرنا في مبحثه- فهو كإجماع الفقهاء، وإجماع المحدثين؛ وكل علم اجتمع أربابه على مسألة منه فإجماعهم حجة ومخالفهم مخطئ، كما قال العلامة الشاطبي. والثاني: أن نشير إلى أن انحصار الكلمة في الاسم والفعل والحرف ليس الموضع الوحيد الذي استدل فيه العلماء بدليل الاستقراء؛ بل هناك مواضع متعددة استدل العلماء فيها بدليل الاستقراء، وإلى هذا أشار السيوطي بقوله: استدلوا به في مواضع ... انتهى. ونكتفي بأن نشير هنا إلى موضعين من هذه المواضع وهما: الموضع الأول: الدليل على انحصار العلم المنقول، أي: غير المرتجل: فمن المعلوم أن العلم المنقول هو الذي نقل عن غيره مما لم يكن علمًا في الأصل، أي: أنه لم يوضع في الأصل على العلمية؛ فهو الذي كان مستعملًا قبل العلمية في أمر آخر؛ فله أصل مستعمل ثم سمي به الشخص؛ ككلمة "زيد"؛ فهي في الأصل مصدر الفعل زاد، وقد نُقل عن هذا المصدر وجُعل علمًا على الذات المشخصة المسماة به، فيقال له في هذه الحالة: إنه علم منقول. وقد ذكر السيوطي في كتابه (الأشباه والنظائر) نقلًا عن صاحب (البسيط) أن العلم المنقول ينحصر في ثلاثة عشر نوعًا، ولا دليل على حصره -كما ذكر- سوى استقراء كلام العرب. والموضع الثاني: وهو الدليل على معنى السين وسوف: فمن المقرر في علم العربية أن السين وسوف حرفا تنفيس تدخلان على الفعل المضارع فتخلصانه للاستقبال، وقد كان قبل دخول أحدهما عليه صالحًا للحال وللاستقبال، وقد ذكر السيوطي في (الأشباه والنظائر) أيضًا -نقلًا عن ابن

الاستدلال بعدم الدليل في الشيء على نفيه.

إياس-: "أن التراخي في سوف أشد منه في السين، واستدل على ذلك بالاستقراء؛ فقال: بدليل استقراء كلامهم؛ قال تعالى: {وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} (الزخرف: 44)، وطال الأمد والزمان، وقال تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ} (البقرة: 142) فتعجل القول ... " انتهى. وقد أوردنا هذا المثال لنبين به أن السيوطي قد ذهب -نقلًا عن ابن إياس- إلى أن الدليل على أن سوف أوسع من السين هو الاستقراء، وليس قوله بمجمع عليه؛ وإنما ذهب إلى هذا الرأي البصريون؛ لأنهم نظروا إلى أن الأحرف التي تتألف منها سوف أكثر؛ فقالوا: إن كثرة الحروف تدل على كثرة المعنى، وليس ذلك بمطَّرد؛ فإن حذرًا يدل على المبالغة مع قلة حروفه عن حاذر الذي لا يدل على المبالغة، مع أن الثاني -وهو حاذر الذي لا يدل على المبالغة؛ لأنه مجرد اسم فاعل- أكثر حروفًا من الأول. الاستدلال بعدم الدليل في الشيء على نفيه إن هذا الدليل هو الدليل الثالث من أدلة النحو غير الغالبة، وقد أخرناه عن الاستقراء للعلة التي أوردناها، وهي: أن الاستدلال بالاستقراء والاستدلال بعدم الدليل ضدان؛ لأن ما ثبت بالاستقراء فقد ثبت بالإيجاب؛ كأقسام الكلم، وأنواع الإعراب، فإذا أردنا استعمال دليل النفي أمكن أن نقول: إن الدليل على أقسام الكلمة ثلاثة: أنه لو لم تكن كذلك لقام الدليل على الزيادة أو النقص في هذا العدد، وذلك لما نعرفه عن جهد النحاة الذي بذلوه في البحث والتقصي؛ فلما لم يقم دليل يعارض أن أقسام الكلم ثلاثة؛ ثبت أنها ثلاثة ليس غير ... ذكر ذلك الأنباري في (لمع الأدلة). ويفهم مما سبق أن الاستدلال بعدم الدليل معناه: أن ينفي المستدل حكمًا؛ لأنه لم يرد دليل على صحة ذلك الحكم، ويكتفي به وإن لم يذكر دليلًا على النفي.

وقد عده الأنباري أحد الأدلة غير الغالبة وأفرد له الفصل الثلاثين من كتابه (لمع الأدلة)، ونقل السيوطي كلامه في (الاقتراح). وقبل أن نذكر ما قاله الأنباري ونقله عنه السيوطي نشير إلى أنه لا خلاف بين العلماء في أن إقامة الدليل واجبة على من أراد إثبات حكم من الأحكام، والخلاف بينهم في من أراد نفي حكم من الأحكام؛ فذهب فريق من العلماء إلى أن النافي عليه إقامة الدليل، وذهب آخرون إلى أن النافي لا دليل عليه. وقد عرض الأنباري الرأيين ومال إلى الرأي الأول، وهو: أن النافي عليه إقامة الدليل؛ فقال: اعلم أن هذا مما يكون فيما إذا ثبت لم يخفَ دليل؛ فيستدل بعدم الدليل على نفيه، وذلك مثل: أن يستدل على نفي أن أقسام الكلمة أربعة، أو نفي أن إعراب الكلمة خمسة أنواع؛ فيقال: لو كان أقسام الكلمة أربعة أو أنواع الإعراب خمسة لكان على ذلك دليل؛ ولو كان على ذلك دليل لعرف ذلك مع كثرة البحث وشدة الفحص؛ فلما لم يعرف ذلك دل على أنه لا دليل؛ فوجب ألا يكون أقسام الكلمة أربعة ولا أنواع الإعراب خمسة ... انتهى. ومعنى ما ذكره الأنباري: أن من نفى أن تكون أقسام الكلمة ثلاثة أو أن تكون أنواع الإعراب أربعة؛ فعليه إقامة الدليل على دعواه، ولما لم يقم دليل على هاتين الدعويين وجب ردهما والتمسك بأن أقسام الكلمة ثلاثة وأن أنواع الإعراب أربعة. وبعد أن بيَّن الأنباري أن النافي عليه إقامة الدليل عارض الرأي الآخر، وهو: وقد زعم بعضهم أن النافي لا دليل عليه؛ وإنما الدليل على المثبت وهذا ليس بصحيح؛ لأن الحكم بالنفي لا يكون إلا عن دليل، وكما يجب الدليل على المثبت؛ فكذلك يجب الدليل على النافي ... انتهى. ومعنى ما ذكره الأنباري: أن الرأي الذي يأخذ به ويطمئن إليه ويعوِّل عليه هو: التسوية بين الإثبات والنفي في إقامة الدليل؛ فمن أثبت حكمًا فعليه إقامة الدليل؛ ومن نفى حكمًا فعليه أيضًا إقامة الدليل.

ويبدو أن الأنباري قد اقتفى أثر الأصوليين في هذه القضية؛ فإن جمهور الأصوليين من الفقهاء يذهبون إلى التسوية بين المثبت والنافي، ويرون أن النافي يجب عليه إقامة الدليل على نفيه كما يجب على المثبت، ويستدلون على ذلك بقوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة: 111). ووجه الاستدلال بهذه الآية الكريمة: أن اليهود والنصارى قد نفوا دخول الجنة عن غيرهم، ومع ذلك طالبهم الله تعالى بالبرهان على النفي؛ فدل ذلك على أن النافي مطالب بإقامة الدليل على نفيه، وإلى هذا ذهب جمهور الأصوليين ووافقهم الأنباري. هذا؛ ويستعان بهذا الدليل كثيرًا في الرد على من يزعم تركيب بعض الأدوات أو حروف المعاني، ونورد هنا ثلاثة نماذج من الأدوات التي زعم بعض النحويين أنها مركبة، ورُد عليهم بأنه قول يفتقر إلى دليل: الأول: تركيب "لكنَّ": ذهب الكوفيون ووافقهم السهيلي إلى أن "لكنَّ" مركبة، واختلفوا فيما ركبت منه؛ فرأى الفراء أنها مركبة من "لكنْ" و"أنَّ" فطرحت الهمزة للتخفيف ونون "لكنْ" للساكنيْن، ورأى باقي الكوفيين أنها مركبة من "لا" و"إنَّ" والكاف الزائدة غير التشبيهية، وحذفت الهمزة تخفيفًا، ورأى السهيلي أنها مركبة من "لا" و"إنَّ" والكاف التشبيهية، وذهب البصريون وكثير من المتأخرين إلى أنها بسيطة لا تركيب فيها، وحجتهم في ذلك أن القول بتركيبها إنما هو مجرد دعوى من غير دليل. الثاني: تركيب "كم": ذهب الكوفيون إلى أن "كم" مركبة من الكاف و"ما" الاستفهامية، ثم حذفت ألفها لدخول الجار، وسكنت ميم للتخفيف لثقل الكلمة بالتركيب، وذهب

البصريون إلى أنها بسيطة غير مركبة، ووافقهم الأنباري، ورد قول الكوفيين بقوله: هذا مجرد دعوى من غير دليل. الثالث: تركيب "إلَّا": فقد زعم الفراء أن "إلَّا" مركبة من "إنَّ" و"لا" ثم خففت "إنَّ" وركبت مع "لا"، وقد رد الأنباري هذا الرأي بقوله: وأما قول الفراء فمجرد دعوى يفتقر إلى دليل، ولا يمكن الوقوف عليه إلا بوحي وتنزيل، وليس إلى ذلك سبيل ... انتهى. ومما سبق يتبين أن عدم الدليل يكون وسيلة من وسائل الرد على من يزعم تركيب بعض الأدوات، وكما كان من النحاة استدلال بعدم الدليل على بساطة بعض الأدوات؛ كان منهم استدلال به أيضًا على معانيها؛ ومن ذلك: ما ذهب الكوفيون إليه من أن اللام الداخلة على خبر "إنْ" المكسورة الهمزة المخففة من الثقيلة تكون بمعنى "إلَّا"؛ فقولنا: إنْ زيدٌ لقائم، وإن كان زيدٌ لقائمًا، وما أشبه ذلك، معناه: ما زيدٌ إلا قائمٌ، وما كان زيد إلا قائمًا، فـ"إنْ" نافية بمعنى "ما"، واللام بمعنى "إلَّا" وأنكر البصريون ذلك، وقالوا: إن هذه اللام تسمى لام الإيجاب ولام الفصل؛ لأن قولنا: إنْ زيدٌ لقائمٌ، معناه: إنَّ زيدًا لقائمٌ؛ فلما خففت "إنَّ" بطل عملها ورُفع ما بعدها بالابتداء والخبر ولزمتها اللام في الخبر؛ لئلا تلتبس بـ"إنْ" النافية التي بمعنى "ما". وخلاصة ما سبق: أن الاستدلال بعدم الدليل في الشيء على نفسه مما استعمله النحويون كثيرًا في استدلالهم وإن كثر أن يكون استعمال هذا الدليل في مواضع الجدل والرد على المخالفين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 19 تابع: أدلة متفرقة من أدلة النحو غير الغالبة

الدرس: 19 تابع: أدلة متفرقة من أدلة النحو غير الغالبة

الاستدلال بالأصول.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس التاسع عشر (تابع: أدلة متفرقة من أدلة النحو غير الغالبة) الاستدلال بالأصول الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: النصف الثاني من الباب الخامس من أبواب كتاب (الاقتراح)، والذي عقده السيوطي للحديث عن: أدلة متفرقة من أدلة النحو: إن السيوطي قد عوَّل على كلام أبي البركات الأنباري في كتابه (لمع الأدلة)، وقد ذهب الأنباري إلى أن الاستدلال بالأصول هو أحد أوجه الاستدلال التي تلحق بالقياس، ويعد الاستدلال بالأصول من جملة الأدلة التي يلجأ إليها النحوي عند المحاجاة والجدل؛ إذ إن المراد به: إبطال مذهب أو رأي بالرجوع إلى الأصل الذي أصَّله النحويون، ومن الأصول التي أصَّلها النحويون: أن يكون الرفع مقدمًا على غيره من أنواع الإعراب، وبهذا الأصل رد الأنباري مذهب القائلين بأن عامل الرفع في الفعل المضارع المرفوع هو تجرده من الناصب والجازم؛ لأن القول بالتجرد معناه: أن الفعل كان متلبسًا بهما، أي: بالناصب والجازم، قبل تجرده منهما، وفي القول بذلك مخالفة للأصول؛ إذ الأصل تقدم الرفع على غيره. قال الأنباري في (لمع الأدلة): "وأما الاستدلال بالأصول فمثل أن يستدل على إبطال مذهب من ذهب إلى أن رفع المضارع إنما كان لسلامته من العوامل الناصبة والجازمة؛ لأن ما ذهب إليه يؤدي إلى خلاف الأصول؛ لأنه يؤدي إلى أن يكون الرفع بعد النصب والجزم؛ وهذا خلاف الأصول؛ لأن الأصول تدل على أن الرفع قبل النصب؛ لأن الرفع صفة للفاعل والنصب صفة للمفعول، وكما أن الفاعل قبل المفعول فكذلك الرفع قبل النصب، وكذلك تدل أصول على أن الرفع قبل الجزم لأن الرفع في الأصل من صفات الأسماء والجزم من صفات الأفعال، وكما أن رتبة الأسماء قبل رتبة الأفعال؛ فكذلك الرفع قبل الجزم" انتهى.

وفي كلام أبي البركات الأنباري إجمال يحتاج إلى تفصيل يكشفه ويبينه: إن الأنباري قد رد مذهبًا من المذاهب وأبطل قولًا من الأقوال بالرجوع إلى الأصول التي استقرت عند النحويين؛ فقد استقر عند النحويين أن الرفع مقدم على غيره من أنواع الإعراب؛ فهو مقدم على النصب والجزم؛ فإذا كان الفعل المضارع مرفوعًا فإنه لا يجوز -عند الأنباري- أن يقال: إن رافعه هو تجرده من الناصب والجازم؛ لأن التعبير بالتجرد منهما يؤدي إلى سبقهما للرفع، ويؤدي إلى أن المضارع تجرد منهما بعد أن كان متلبسًا بهما، وهو خلاف الأصول؛ إذ إن الأصول شاهدة بتقدم الرفع عليهما. ويدل على تقدم الرفع على النصب: أن الرفع حكم ثابت للفاعل -وهو عمدة- كما أن النصب حكم ثابت للمفعول به -وهو فضلة- فكما أن الفاعل قبل المفعول منزلة واعتبارًا؛ فكذلك الرفع يكون قبل النصب منزلة واعتبارًا. ويدل على تقدم الرفع على الجزم: أن الرفع في الأصل صفة من صفات الأسماء، والجزم من صفات الأفعال، والأسماء متقدمة في الرتبة على الأفعال؛ فكذلك الرفع متقدم في الرتبة على الجزم. وخلاصة ما سبق: أن الأصل هو تقدم الرفع على النصب والجزم؛ فمن قال: إن المضارع مرفوع بتجرده من الناصب والجازم فقد قدم النصب والجزم على الرفع، وبذلك يكون قد خالف أصلًا من أصول النحاة فلا يُقبل قوله ولا يرتضى مذهبه عند الأنباري. وهذا القول الذي رده الأنباري واستدل على إبطاله بأصول هو رأي حذاق الكوفيين؛ يقول الفراء في (معاني القرآن) عند قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} (البقرة: 83): رُفعت {تَعْبُدُونَ} لأن دخول "أنْ" يصلح فيها؛ فلما حذف الناصب رُفعت، انتهى.

الاستدلال بعدم النظير.

وهو القول الذي يجري على ألسنة المعربين، وقد قال ابن مالك في ألفيته: ارفع مضارعًا إذا يُجرَّد ... من ناصب وجازم كتسعدُ ونلحظ أن الأنباري قد أبطل هذا الرأي اعتمادًا على أن التجرد عن الناصب والجازم معناه: أن الفعل كان متلبسًا بهما قبل الرفع؛ ولكن يمكن أن يجاب عنه: بأن المراد بتجرد المضارع عن الناصب والجازم عدمُهما؛ وعبر عن العدم بالتجرد تنزيلًا للإمكان منزلة الحضور كما قالوا عند حفر بئر: "ضيِّقْ فمَها" أي: أوجدها ضيقة الفم. ونختم الحديث بقول أحد الباحثين المعاصرين: والحق أن استدلال الأنباري السابق يبدو عليه التكلف؛ إذ يمكن الاعتراض عليه من عدة أوجه؛ فمن الممكن أن نقول: إن التعري أسبق من التقييد؛ فالتعري أولًا؛ ولما كان الرفع هو الأول كان ملازمًا للتعري؛ كما يمكن أن يقال: إن الفعل المضارع رفع لأنه لم يدخل عليه ناصب فينصبه ولا جازم فيجزمه، دون أن نمس أسبقية الرفع للنصب والجزم، يضاف إلى ذلك أن عوامل النصب والجزم في المضارع عارضة، وعندما لا تأتي هذه العوارض فإن المضارع يأخذ الحكم الأول؛ ولما كان الرفع الأول أخذ المضارع الرفع. الاستدلال بعدم النظير لقد أفرد ابن جني لعدم النظير بابًا في (الخصائص) عنوانه: باب في عدم النظير، ولخصه السيوطي في (الاقتراح) وبدأه بقوله: ومنها الاستدلال بعدم النظير ... يعني: ومن أدلة النحو المتفرقة التي لا تحصر: عدم النظير: والمراد به: ألا يكون للشيء نظائر في بابه، بمعنى: أنه واحد لم يرد به سماع، ومعنى الاستدلال به: النفي لعدم وجود دليل الإثبات؛ ولذلك قال السيوطي: وإنما يكون دليلًا على النفي لا على الإثبات، ومعنى ما ذكره السيوطي: أن النظير يصحح الحكم

النحوي وأن عدمه ينفيه، وقد أكثر النحويون من الاحتكام إلى النظائر، وتعددت أقوالهم الدالة على قبولهم ما له نظير وردهم ما ليس له نظير. ومن أقوالهم الدالة على ذلك قولهم: الحمل على ما له نظير أولى من الحمل على ما لا نظير له، وقولهم: ما لا نظير له في العربية ولا يشهد له شاهد من العلل النحوية يكون فاسدًا، وقولهم: الحمل على ما له نظير -وإن قل وخرج عن القياس- أولى من قول لا نظير له، وقولهم: إذا أدى القول إلى ما لا نظير له وجب رفضه واقتراح الذهاب إليه. ومع كثرة أقوال النحويين في هذا الشأن فإنه لا يشترط إيجاد النظير في إثبات شيء إذا قام الدليل معه؛ وإنما يجب إيجاد النظير إذا لم يقم الدليل، وإلى هذا الأمر أشار ابن جني بقوله في (الخصائص): "أما إذا دل الدليل فإنه لا يجب إيجاد النظير، وذلك مذهب صاحب (الكتاب)؛ فإنه حكى فيما جاء على فعِل "إِبِلًا" وحدها، ولم يمنع الحكم بها عنده أن لم يكن لها نظير؛ لأن إيجاد النظير بعد قيام الدليل إنما هو للأنس به لا للحاجة إليه" انتهى. ومعنى ما ذكره ابن جني: أن سيبويه -رحمه الله- لم يذكر مما جاء على وزن فعِلٍ -بكسر الفاء والعين- إلا كلمة واحدة وهي: "إبِلٌ"، وقال في (الكتاب): "لا نعلم في الأسماء والصفات غيره" انتهى. ولم يمنع سيبويه هذا الوزن مع أنه لا يعلم له نظيرًا؛ لأنه قد قام الدليل من السماع الصحيح على وجوده، وإذا قام الدليل على إثبات شيء لم يكن هنا حاجة إلى إيجاد نظيره ولا عبرة بعدمه، وإذا وُجِد فإنه يكون مؤنسًا ولا يتوقف ثبوت الحكم عليه، وقد قال ابن جني في (الخصائص): "إذا قام الدليل لم يلزم النظير" انتهى.

ومما قام الدليل على صحته ولا نظير له في الكلام: لفظ "أَنْدَلُس" -بفتح الهمزة وسكون النون وفتح الدال وضم اللام- وقد قام الدليل فيه على زيادة النون: وهو أنه لو لم يحكم بزيادتها لحكم بأصالتها؛ فيكون الوزن فَعْلَلُلًَا، وليس في ذوات الخمسة الأحرف شيء على وزن "فَعْلَلُلٍ" تكون فيه النون أصلًا لوقوعها موقع العين؛ فوجب أن تكون النون زائدة، وأن يكون على وزن "أَنْفَعُلٍ" -بفتح الهمزة وسكون النون وفتح الفاء وضم العين- وليس في العربية على هذا الوزن غير هذا اللفظ، وهو مقبول غير مردود، مع أنه بناء لا نظير له؛ وإنما قُبِل هذا البناء مع عدم نظيره لقيام الدليل عليه. والدليل: هو أن النون زائدة لا محالة، وإذا ثبت زيادة النون بقي في الكلمة ثلاثة أحرف أصول، وهي: الدال، واللام، والسين، وفي أولها همزة؛ ومتى وقع ذلك حكمت بزيادة الهمزة؛ لأنها واقعة قبل ثلاثة أصول، ولا تكون النون أصلًا والهمزة زائدة؛ لأن ذوات الأربع لا تلحقها الزيادة من أولها إلا في الأسماء الجارية على أفعالها نحو: مدحرِج وبابه؛ فقد وجب إذًا أن الهمزة والنون زائدتان؛ وعليه تكون الكلمة على وزن: "أَنْفَعُلٍ"، وإن كان مثالًا لا نظير له. ومما قام الدليل على صحته ولم يثبت له في الكلام نظير أيضًا: ما ذكره سيبويه من أنه قد ثبت في كلامهم فعُلتَ تفعَل -بضم العين في الماضي وفتحها في المضارع- وهو: كُدْتَ تكاد، ولا يوجد غيره؛ كما أثبت سيبويه وزنًا هو "إِنْفَعْلٌ" -بكسر الهمزة وسكون النون وفتح الفاء وسكون العين- وقد أثبته سيبويه بكلمة "إِنْقَحْلٍ": وهو الرجل الذي يبس جلده على عظمه من البؤس والكبر والهرم، وإن لم يحكِ غيره. ومن هذه الأمثلة وغيرها يتبين لنا: أنه إذا قام الدليل على صحة شيء لم تكن هناك حاجة إلى النظير، وقد أشار إلى ذلك ابن جني بقوله في (الخصائص): "ألا

تعلم أن القياس إذا أجاز شيئًا وسُمِع ذلك الشيء عينه؛ فقد ثبت قدمه وأخذ من الصحة والقوة مأخذه، ثم لا يقدح فيه ألا يوجد له نظير؛ لأن إيجاد النظير وإن كان مأنوسًا به فليس في واجب النظير إيجاده" انتهى. وقال: "وليس يلزم إذا قاد الظاهر إلى إثبات حكم تقبله الأصول ولا تستنكره ألا يحكم به حتى يوجد له نظير؛ وذلك أن النظير -لعمري- مما يؤنس به؛ فأما ألا تثبت الأحكام إلا به؛ فلا" انتهى. ومعنى ما ذكره ابن جني: هو أن النظير يوجد للأنس به عند عدم الدليل ولا يُلتفت إليه ولا يُعوَّل عليه إذا قام الدليل على حكم نحوي؛ وإذا ورد الدليل فإن عدم النظير لا يضر، وأنه لا يُنظر إلى عدم النظير عند قيام دليل الحكم وثبوته؛ وإنما تكون الحاجة إلى إيجاد النظير إذا لم يقم الدليل. وقد نبه ابن جني على ذلك بقوله في (الخصائص): "فأما إن لم يقم دليل فإنك محتاج إلى إيجاد النظير؛ ألا ترى إلى "عِزْوِيت" لما لم يقم الدليل على أن واوه وتاءه أصلان احتجت إلى التعلل بالنظير؛ فمنعت من أن يكون "فِعوِيلًا" لما لم تجد له نظيرًا وحملته على "فعليت"؛ لوجود النظير وهو: عفريت، ونفريت؟! " انتهى. ويفيد كلام ابن جني هنا أن النظير يحتاج إليه إذا لم يقم الدليل؛ فلفظ "عِزْوِيت" ومعناه: القصير، أو هو اسم موضع لا دليل فيه على أن واوه وتاءه حرفان أصليان؛ فربما يكونان أصليين وربما يكونان زائدين، ويختلف وزنه باختلاف القول بأصالتهما وزيادتهما؛ فيحتمل أن يكون على وزن "فِعويل" وأن يكون على وزن "فِعليت"، والوزن الأول -فعويل- لا نظير له، والثاني -فعليت- له نظير نحو: عفريت ونفريت؛ فصح أن القول بأنه على وزن "فعليت" هو القول المرضي لوجود نظائره.

وإذ قد انتهينا إلى معرفة أن النظير يحتاج إليه إذا لم يكن هناك دليل؛ فإننا نشير إلى أن النحويين قد احتجوا كثيرًا بعدم النظير، وردوا ما لا نظير له في الكلام، والأمثلة على ذلك في النحو والصرف كثيرة جدًّا، نذكر منها ما يلي: أولًا: ما استدل به المازني ردًّا على من زعم أن السين و"سوف" ترفعان الفعل المضارع؛ فقد رد المازني هذا القول بأنه لا يوجد في العربية عامل في الفعل تدخل عليه اللام، وقد دخلت اللام على "سوف" في قوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} (الضحى: 5) فالقول بعمل "سوف" يفضي إلى عدم النظير. ثانيًا: احتج به أبو عليٍّ الفارسي على من قال: إن النون في "شيطان" زائدة، واستدل على أن لفظ "شيطان" على وزن "فَيْعالٍ"، مثل لفظ: "بَيْطارٍ" وليس على وزن "فعلان" اعتمادًا على ما حكاه سيبويه عن العرب من قولهم: شيطنته فتشيْطن؛ فلو كان من شاط يشيط؛ لكان شيطنته فتشيطن: فعلنته فتفعلن، ولا نعلم هذا الوزن جاء في كلامهم؛ مما يدلك على أنه على فَيْعلته مثل بَيْطرته. ووجه الاستدلال بما ذكره أبو علي أنه استدل على أصالة النون في لفظ "شيطان" بما حكاه سيبويه عن العرب من قولهم: "تشيطن" وهو على وزن "تفيعل" لا "تفعلن"؛ إذ ليس من أبنيتهم -أعني: من أوزانهم-: تفعلن؛ فالنون هي لام الكلمة؛ فحمل أبو علي لفظ تشيْطن على ما له نظير نحو: تدهقن، أي: صار دهقانًا، وهو -أي: الدهقان-: رئيس القرية أو الكثير المال، ولم يحمله على ما لا نظير له في كلامهم. ثالثًا: احتج به ابن جني على رد قول المازني: إن الواو في "حيوان" أصلية وغير منقبلة عن ياء، ورد عليه بأن ما عينه ياء ولامه واو غير موجود في الكلام ولا نظير له، وذكر أن ما أجازه المازني مخالف للخليل وسيبويه؛ لأنهما يريان أن

أصل حيوان: "حييان"، بياءين؛ فقلبت الياء الواقعة لامًا واوًا استكراهًا لتوالي ياءين، ولا نعرف في الكلام ما عينه ياء ولامه واو؛ فذلك لا نظير له؛ فلا بد أن تكون الواو بدلًا من ياء. رابعًا: احتج به أبو علي الشَّلَوبين على رد قول من قال: إن الواو والألف والياء في الأسماء الستة علامات إعراب؛ لأن قوله يؤدي إلى عدم النظير، وأوضح بأنا إذا قلنا بذلك في "فوك وذو مال" كان كل واحد منهما اسمًا معربًا على حرف واحد، وهذا لا نظير له في الأسماء المبنية إلا في الضمائر المتصلة بها؛ فما ظنك به في الأسماء المعربة؟!. خامسًا: احتج به الأنباري على رد مذهب الكوفيين في إعراب الأسماء الستة وتأييد مذهب البصريين؛ إذ ذهب البصريون إلى أنها معربة من مكان واحد، والواو والألف والياء هي حروف الإعراب، وذهب الكوفيون إلى أنها معربة من مكانين، وأيد الأنباري مذهب البصريين بأن له نظيرًا لأن كل معرب في كلامهم ليس له إلا إعراب واحد؛ كما رد مذهب الكوفيين بأنهم ذهبوا إلى ما لا نظير له في كلامهم؛ فإنه ليس في كلامهم معرب له إعرابان، والمصير إلى ما له نظير أولى من المصير إلى ما لا نظير له. سادسًا: احتج به ابن مالك على رد مذهب الزجاج والسيرافي في فتحة: "لا رجلَ وشبهِه"، فقد ذهب الزجاج والسيرافي إلى أن هذه الفتحة فتحة إعراب وأن التنوين حذف منها تخفيفًا ولشبهه بالمركب، ورده ابن مالك بأنه يستلزم مخالفة النظائر؛ لأن الاستقراء قد أطلعنا على أن حذف التنوين من الأسماء المتمكنة لا يكون إلا لمنع صرف، أو للإضافة، أو لدخول الألف واللام، أو لكونه في علم موصوف بابن مضاف إلى علم، أو لملاقاة ساكن، أو لوقف، أو لبناء، واسم لا النافية للجنس ليس واحدًا مما سبق.

الاستحسان.

سابعًا: احتج به أبو حيان على رد مذهب الفراء في باب التنازع، هذا المذهب القائل: إذا استوى العاملان في طلب المرفوع فالعمل لهما، وذلك نحو: قام وقعد زيد، ويحسن ويسيء ابناك؛ فهو يرى أن العاملين في كل جملة من الجملتين السابقتين ونحوهما كالعامل الواحد؛ لأن مطلوبهما واحد؛ فرد ذلك أبو حيان بأنه يؤدي إلى عدم النظير؛ إذ لا يجتمع عاملان على معمول واحد إلا في التقدير نحو: "ليس زيد بجبان"، يعني: لا يجوز أن يجتمع عاملان على معمول واحد في اللفظ وإن توجها إليه في المعنى؛ لأن العوامل كالمؤثرات، ولا يجوز اجتماع مؤثرين في محل واحد. فهذه سبعة أمثلة تدل على عناية العلماء بالنظير واحتجاجهم بعدم النظير. الاستحسان إن الاستحسان -في أصله- مصطلح من مصطلحات الفقه وأصوله، وهو أحد الأدلة المختلف فيها عند الفقهاء، وكما اختلف الفقهاء في الأخذ به اختلف النحويون أيضًا في الأخذ به على قولين: الأول: عدم الأخذ بالاستحسان؛ لأن في الأخذ به تركًا للقياس ومخالفة له. والثاني: جواز الأخذ به. وقد حكى القولين أبو البركات الأنباري فقال: في (لمع الأدلة): "اعلم أن العلماء اختلفوا في الأخذ به: فذهب بعضهم إلى أنه غير مأخوذ به لما فيه من التحكم وترك القياس، وذهب بعضهم إلى أنه مأخوذ به، واختلفوا فيه فمنهم من قال: هو ترك قياس الأصول لدليل، ومنهم من قال: هو تخصيص العلة" انتهى.

ومعنى ما ذكره أبو البركات الأنباري: أن القائلين بجواز الأخذ بالاستحسان قد اختلفوا في حقيقته، فذهب بعضهم إلى أن المراد به هو أن يُترك الأصل إلى غيره لدليل. وقد ذكر الأنباري أن من أمثلة ترك قياس الأصول مذهب من ذهب إلى أن رافع الفعل المضارع عند تجرده من الناصب والجازم هو حرف المضارعة الزائد في أوله، يعني: أن القائل بذلك قد ترك قياس الأصول؛ لأن حرف المضارعة صار جزءًا من الفعل، والأصول تدل على أن يكون العامل غير المعمول وألا يكون جزءًا منه؛ لأن جزء الشيء لا يعمل فيه، وقد نسب هذا الرأي للكسائي، وقد ترك قياس الأصول لدليل اعتمد عليه، وهو ملازمة هذه الأحرف للمضارع في الأحوال الثلاثة؛ ولم تعمل مع عاملي النصب والجزم لقوتهما عنها. وذهب بعضهم إلى أن المراد بالاستحسان، هو: تخصيص العلة، ومعنى تخصيص العلة: عدم اطِّرادها، ومثال تخصيص العلة: ما جاء في جمع أرض جمع مذكر سالمًا بالواو والنون رفعًا، والياء والنون نصبًا وجرًّا مع أنها ليست علمًا لمذكر ولا صفة له؛ فقد فقدت شروط جمع المذكر السالم لأنها اسم جنس جامد مؤنث؛ وإنما جمعت هذا الجمع؛ فقيل: أرَضون؛ عوضًا من حذف تاء التأنيث؛ لأن الأصل أن يقال في أرض: أرضة؛ بالهاء الدالة على التأنيث؛ لأنها علامة لفظية؛ فهي أصل لتقديرها؛ فلما حذفت التاء في اللفظ مع بقاء معناها جمعت بالواو والنون عوضًا من التاء المحذوفة. ونلحظ أن هذه العلة غير مطردة؛ فالعرب قد خصصوا هذه اللفظة بجمعها جمع مذكر سالمًا، ولم يسمع ذلك في نظائرها من كل اسم مؤنث حذفت منه تاء التأنيث، نحو: شمس، وقِدر، ودار؛ فإن الأصل في هذه الكلمات الثلاث:

شمسة، وقدرة، ودارة، ولا يجوز أن تجمع بالواو والنون؛ فلا يقال: شمسون، ولا قدرون، ولا دارون؛ لأن هذا الباب سماعي يقتصر فيه على ما ورد ولا يتعداه إلى غيره. كما نلحظ أن الاستحسان لا يكون إلا عن دليل؛ لأن فيه عدولًا عن القياس ولا يعدل عن القياس إلا بدليل؛ ولذلك نعى الأنباري على من أجاز الاستحسان بلا دليل، وذكر أن القائل بذلك لا يلتفت إلى قوله ولا يعوَّل عليه، وأن ما حكي عن بعضهم من أن الاستحسان هو ما يستحسنه الإنسان من غير دليل فليس عليه تعويل. وبعد أن عرضنا مذهبي العلماء في الاستحسان نشير إلى أن ابن جني كان ممن يأخذون به وقد أفرد له في (الخصائص) بابًا عنوانه: باب في الاستحسان، وبيَّن ابن جني في مقدمة هذا الباب أن علة الاستحسان ضعيفة غير مستحكمة إلا أن فيه ضربًا من الاتساع والتصرف، ومع ضعف علته؛ فإن ابن جني ساق كثيرًا من الأمثلة مستدلًّا عليها بالاستحسان؛ وعليه اعتمد السيوطي فنقل في كتابه (الاقتراح) بعض هذه الأمثلة وأعرض عن بعض؛ كما نقل مثالًا عن صاحب (البديع). ونحن نذكر هنا جميع ما نقله السيوطي في (الاقتراح) ثم نتبعه بمثال مما ذكره ابن جني في (الخصائص) ولم يذكره السيوطي: المثال الأول: ترك الأخف إلى الأثقل من غير ضرورة؛ كقلب الياء واوًا في نحو: الفتوى، والتقوى؛ فإن الأصل فيهما وفي نحوهما: أن يكون بالياء بأن يقال: فتيا، وتقيا؛ لأن الكلمة الأولى من فتى يفتي، والثانية من وقى يقي؛ ولكن

العرب قد خالفوا هذا الأصل؛ فقلبوا الياء فيهما واوًا من غير علة قوية توجب قلب الياء؛ لأنه يمكن بقاؤها على حالها من غير مخالفة شيء من الأصول؛ وإنما انقلبوا استحسانًا للقلب وإيماءً للفرق بين الاسم والصفة؛ وخصوا الاسم بالإعلال لأنه أخف من الصفة فكان أحمل للأثقل. وهذه علة ضعيفة وليست علة معتدة كما قال ابن جني، ووجه ضعفها وعدم اعتدادها: أن الاسم شارك الصفة في أشياء أخرى، ولم يوجب العرب على أنفسهم التفرقة بينهما في جميع ما اشتركا فيه، ومما اشتركا فيه: تكثيرهما على وزن واحد؛ فقد قالوا في تكسير حسن: حسان؛ كما قالوا في تكسير جبل: جبال، فوزن جمع الاسم وجمع الصفة واحد -وهو فِعال- وقالوا في تكسير غفور: غُفُر، كما قالوا في تكسير عمود: عُمُد؛ فلم يختلف وزن الاسم عن وزن الصفة، ومعنى ذلك: أن علة الفرق بين الاسم والصفة علة ليست مطردة؛ فدل ذلك على أنها علة ضعيفة غير مستحكمة؛ لأنها لو كانت مستحكمة لاطَّردت في جميع المواضع. والمثال الثاني: التنبيه على أن أصل الباب في نحو: {اسْتَحْوَذَ}، من قوله تعالى: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ} (المجادلة: 19)، و"أطْوَلْتَ" من قول الشاعر: صددت فأطْوَلْتَ الصدود وقَلَّما ... وصالٌ على طول الصدود يدوم ومطيبة من قولهم: هو مطيبة للنفس. فقد وجد في هذه الألفاظ الثلاثة ما يقضي بإعلالها فيقال: استحاذ، وأطلت، ومطاب؛ ولكن بقيت الواو في الأولين والياء في الأخيرة بحالها، مع قيام مقتضى الإعلال استحسانًا؛ تنبيهًا على أن الألف في نحو قولنا: استقام، أصله الواو وعلى أن أصل نحو: مقامة، هو مقومة.

والمثال الثالث: بقاء الحكم مع زوال علته؛ فالأصل أن الحكم مرهون بعلته؛ فإن زالت العلة زال الحكم إلا أن يكون في الكلام استحسان؛ فتزول العلة ويبقى الحكم؛ كما في قول الشاعر: حمًى لا يُحِل الدهر إلا بإذننا ... ولا نسأل الأقوام عقدَ المياثق فإن "المياثق" جمع مفرده: ميثاق، والأصل فيه: موثاق، وقد وقعت الواو ساكنة بعد كسرة فقلبت ياء، وقيل: ميثاق، ويجمع على مواثق؛ برد الواو إلى أصلها؛ لأن العلة التي أوجبت قلبها في المفرد قد زالت، وهي: كسر ما قبلها مع سكونها؛ لكن استحسن هذا الشاعر ومن تابعه إبقاء القلب مع زوال العلة؛ فقال في جمعه: "مياثق" بإبقاء القلب، والذي حسَّن بقاء القلب: هو أن الجمع غالبًا تابع لمفرده إعلالًا وتصحيحًا؛ فلما أعل المفرد بقلب الواو ياء وقيل: "ميثاق"؛ أعل الشاعر الجمع تبعًا لمفرده استحسانًا، لا عن علة قوية مستحكمة. والمثال الرابع: صرف الممنوع من الصرف إذا كان ثلاثيًّا ساكن الوسط نحو: هند، ونوح؛ فالقياس في هذين الاسمين: المنع من الصرف؛ فيمنع الأول من الصرف للعلمية والتأنيث، ويمنع الثاني من الصرف للعلمية والعجمة؛ ولكن هذا القياس قد خولف؛ فصرف هذان الاسمان ونحوهما تخفيفًا؛ فعلة الصرف الاستحسان مع قيام علة المنع، والخفة علة للاستحسان. المثال الخامس: إلحاق نون التوكيد اسم الفاعل: فالأصل في نون التوكيد أن تلحق الفعل المضارع، وقد لحقت اسم الفاعل في قول الراجز: أريتَ إن جئتُ به أُملودا ... مُرَجَّلًا ويلبس البرودا أقائلنَّ أحضروا الشهودا

الدليل المسمى بالباقي.

فقد لحقت نون التوكيد اسم الفاعل: "أقائلن" تشبيهًا له بالفعل المضارع؛ قال ابن جني: فهذا استحسان لا عن قوة علة ولا عن استمرار عادة؛ ألا تراك لا تقول: أقائمن يا زيدون، ولا أمنطلقن يا رجال؟! إنما تقوله بحيث سمعته وتعتذر له وتنسبه إلى أنه استحسان منهم على ضعف منه واحتمال للشبهة له. الدليلُ الْمُسَمَّى بالباقي إن المراد به بقاء الدليل على حكمه الأصلي في جانب معين، بعد ما خولفت الجوانب الأخرى لعلة اقتضت ذلك: ومن أمثلة ذلك: أن الأصل في الفعل أن يكون مبنيًّا لعدم وجود علة تقتضي الإعراب، وقد خولف هذا الدليل في دخول الرفع والنصب الفعل المضارع؛ لأن هناك علة اقتضت ذلك، وهي: مشابهة المضارع اسم الفاعل؛ ولكن بقي الجر؛ فلم يجز أن يدخل المضارع؛ فكان الجر هو الدليل الباقي على أن الأصل عدم دخول الإعراب على الفعل. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 20 التعارض والترجيح

الدرس: 20 التعارض والترجيح

المراد من التعارض والترجيح.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس العشرون (التعارض والترجيح) المراد من التعارض والترجيح الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: الجزء الأول من جزأي الباب السادس من أبواب كتاب (الاقتراح)، والذي عقده السيوطي للحديث عن: التعارض، والترجيح: قبل أن نذكر المراد منهما نقول: إن التعارض والترجيح مصطلحان من مصطلحات أصول الفقه ولم يذكر السيوطي في كتابه (الاقتراح) التعريف بهما. و"التعارض" في اللغة مصدر الفعل تعارض؛ إذ يقال: تعارض الشيئان، إذا عارض كل منهما الآخر وقابله، ويعرفه علماء أصول الفقه بأنه: تقابل الدليلين المتساويين على سبيل التمانع، بمعنى: أن يقتضي كل دليل منهما حكمًا يخالف ما يقتضيه الدليل الآخر. و"الترجيح" في اللغة وهو مصدر الفعل رجح، ويعرفه الأصوليون بأنه: إظهار زيادة أحد المتماثلين على الآخر، بمعنى: أن يكون في أحد الدليلين المتماثلين زيادة ترجح ما يقتضيه هذا الدليل على ما يقتضيه الدليل الآخر. والمراد به عند النحاة: وقوع الرجحان بين الأدلة المتعارضة. وحديث علماء أصول النحو عن التعارض والترجيح أثر من آثار أصول الفقه؛ لأن الأصوليين من الفقهاء قد عنوا بالترجيح بين الأدلة التي يظن بينها التعارض؛ كما عني الأصوليون من النحاة بالترجيح بين الأدلة المتعارضة في النحو؛ غير أن هناك فرقًا بين التعارض في أدلة الشرع والتعارض في أدلة النحو؛ إذ ليس هناك تعارض حقيقي بين الأدلة الشرعية؛ لأن التعارض بين الأدلة

الشرعية -كما يقول أحد المعاصرين- جمع بين متناقضيْن، وهو محال على الشارع الحكيم المحيط علمه بكل شيء؛ لأنه أمارة العجز، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا. وإنما المراد: التعارض الظاهري في نظر المجتهد المستنبط للأحكام من أدلتها قبل معرفة الناسخ والمنسوخ من الدليل، أو قبل أن يظهر له رجحان أحدهما على الآخر أو إمكان الجمع بينهما؛ فهو يحكم في بادئ الأمر بالتعارض قبل البحث، وبعد بحثه وتأمله يزول هذا التعارض. أما أدلة النحو؛ فيجوز أن يوجد بينها تعارض حقيقي؛ إذ إن أحد الأدلة يثبت حكمًا وينفيه الآخر، وحينئذ يكون الترجيح بين الأدلة المتعارضة، هذا وارد في النحو. وإذا عرفنا أن مبحث التعارض والترجيح منقول من أصول الفقه إلى أصول النحو مع الفارق الذي بيَّنَّاه؛ فإننا نشير إلى أن ابن جني قد أفرد في كتابه (الخصائص) بابًا عنوانه: باب في تعارض السماع والقياس؛ كما أشار إلى تحكيم القياس في الترجيح بين السماعين إذا تعارضا، وعقد الأنباري في كتابه (الإغراب في جدل الإعراب) فصلًا عنوانه: في ترجيح الأدلة؛ كما عقد في كتابه (لمع الأدلة) ثلاثة فصول: أولها: في المعارضة، وثانيها: في معارضة النقل بالنقل، وثالثها: في معارضة القياس بالقياس. ثم جاء السيوطي فجمع ما ذكره ابن جني وما ذكره الأنباري، وزاد عليهما فصولًا؛ فجعل التعارض والترجيح في ست عشرة مسألة. وبتأمل هذه المسائل التي ذكرها السيوطي في (الاقتراح) نلحظ أن بعض هذه المسائل يندرج تحت تعارض الأدلة النحوية، مثل: التعارض بين سماعين،

تعارض نقلين.

والتعارض بين قياسين، والتعارض بين السماع والقياس؛ فهذه المسائل تتناول التعارض بين أدلة النحو وأصوله؛ إذ إن السماع والقياس من أدلة النحو الغالبة؛ كما أن بعض هذه المسائل ليس من تعارض الأدلة النحوية؛ كالتعارض بين ارتكاب ضعيف وارتكاب لغة شاذة، وتعارض القولين لعالم واحد، وما رجحت به لغة قريش على غيرها من لغات العرب، والترجيح بين البصريين والكوفيين ... وغيرها؛ فهذه المسائل ليست من تعارض الأدلة. تعارض نقلين إن التعارض بين نقلين هو المسألة الأولى من مسائل التعارض والترجيح، والمراد به: أن يدل دليل من السماع على حكم ويدل دليل آخر على خلافه، وقد نقل السيوطي هذه المسألة عن الأنباري الذي قال في (لمع الأدلة): "اعلم أنه إذا تعارض نقلان أُخِذ بأرجحهما، والترجيح يكون في شيئين: أحدهما: الإسناد، والآخر: المتن؛ فأما الترجيح في الإسناد؛ فأن يكون رواة أحدهما أكثر من الآخر، أو أعلم وأحفظ؛ وأما الترجيح في المتن؛ فأن يكون أحد النقلين على وفق القياس، والآخر على خلاف القياس" انتهى. ومعنى ما ذكره الأنباري ونقله السيوطي عنه: أنه قد يرد في كلام العرب دليل نقلي يدل على حكم من الأحكام النحوية ثم يرد دليل آخر يقتضي خلاف ما دل عليه الدليل الأول، وإذا وقع مثل ذلك كان هناك سبيلان للترجيح بين هذين الدليلين المتعارضين: أحدهما: أن يكون الترجيح بالإسناد. والآخر: أن يكون الترجيح بالمتن.

ومعنى الترجيح بالإسناد: أن يكون رواة أحد الدليلين أكثر أو أعلم أو أحفظ من رواة الدليل الآخر؛ فيكون الدليل الذي كثر رواته أو سلموا من الطعن أولى بالقبول من الدليل الذي قل رواته أو لم يسلموا من الطعن فيهم. ومثال الدليلين المتعارضين اللذيْن رجح الإسناد أحدهما وضعف الآخر: قول الشاعر: اسمع حديثًا كما يومًا تحدِّثُه ... عن ظهر غيب إذا ما سائل سأل فقد روي قوله: "تحدِّثُه" بروايتين: "تحدِّثُه" و"تحدِّثَه" -بالرفع والنصب- فاستدل الكوفيون برواية النصب على أن "كما" تأتي بمعنى: "كيما"، ويكون المضارع بعدها منصوبًا، وذهب البصريون إلى أن "كما" لا تكون بمعنى: "كيما"، ولا يجوز نصب المضارع بعدها، وحجتهم في ذلك: أن رواية النصب في "تحدِّثُه" لم يذكرها إلا المفضل الضبي وحده، وقد أجمع الرواة من البصريين والكوفيين على رواية الرفع: "تحدِّثُه"، فلما كان رواة الرفع أكثر وأعلم وأحفظ؛ كانت روايتهم راجحة على رواية من روى البيت بالنصب؛ وبذلك يكون الإسناد هو الذي رجح أحد النقلين على الآخر. ومعنى الترجيح بالمتن: أن يكون أحد النقلين موافقًا للقياس ويكون النقل الآخر مخالفًا له؛ فيكون الدليل الذي جاء موافقًا للقياس أولى بالقبول وأحق بالترجيح. ومثاله قول الشاعر: ألا أيُّهذا الزاجري أحضرُ الوغى ... وأن أشهدَ اللذاتِ هل أنت مخلِدي فقد روي قوله: "أحضر" بروايتين: "أحضرُ" و"أحضرَ" بالرفع والنصب، واستدل الكوفيون برواية النصب على أن الأصل: أن أحضرَ؛ فدل هذا على جواز إعمال "أنْ" محذوفة في غير مواضع حذفها المقررة في علم العربية؛ ومنع ذلك البصريون إذ إن "أنْ" لا يجوز إعمالها عندهم محذوفة في غير مواضع حذفها،

وردوا قول الكوفيين بقولهم: إن رواية الرفع جاءت موافقة للقياس، ووجه موافقتها له: أن "أنْ" من عوامل الفعل وهي ضعيفة؛ فينبغي ألا تعمل من غير عوض، ويدل على ضعفها أنَّ من العرب من يهملها مظهرة ويرفع "ما" بعدها تشبيهًا لها بـ"ما" المصدرية؛ كما جاء في قراءة ابن محيصن: "لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمُّ الرَّضَاعَةَ" (البقرة: 233) برفع "يُتِمُّ"؛ ولما كانت "أنْ" ضعيفة عن العمل كان القياس ألا تعمل وهي محذوفة، وعلى القياس جاءت رواية الرفع في قول الشاعر: "أحضر الوغى"، ولما كان القياس يقتضي ألا تعمل "أنْ" وهي محذوفة كانت رواية الرفع أولى وأرجح من رواية النصب في قول الشاعر: ألَا أيُّهذا الزاجري أحضرُ الوغى ... .................................. ... البيت، ونلحظ على هذا المثال أن السيوطي قد نقله من (لمع الأدلة) لأبي البركات الأنباري، وقد سبق إلى الترجيح بالمتن ابن جني في كتابه (الخصائص)؛ إذ ذكر أن القياس يكون حكمًا بين النقلين المتعارضين، وذلك في مسألة تقديم التمييز على عامله المتصرف؛ فقد اختلف النحويون في تقدم التمييز على عامله المتصرف؛ فذهب فريق من النحويين إلى جوازه؛ فأجازوا أن يقال مثلًا: عرقًا تصببتُ؛ مستدلين في إحدى روايتي هذا البيت: أتهجر ليلى بالفراق حبيبَها ... وما كان نفسًا بالفراق تطيب فقد روي البيت بنصب "نفسًا" على التمييز فتقدم التمييز "نفسًا" على عامله المتصرف "تطيب"، ومنع فريق من النحويين أن يتقدم التمييز، وذكروا أن هذه الرواية تقابلها رواية أخرى، وهي: وما كان نفسي بالفراق تطيب برفع نفسي لأنها اسم كان وتطيب خبرها، كأنه قال: وما كان نفسي طيبة؛ فتعارض نقلان، وقد منع ابن جني تقديم التمييز على عامله المتصرف، ورجح رواية الرفع على رواية النصب؛ وكان القياس هو المرجح لأن التمييز فاعل في المعنى، ولا يجوز تقديم الفاعل على الفعل؛ فكذلك التمييز.

ترجيح لغة على أخرى.

قال ابن جني -رحمه الله-: ومما يقبح تقديمه الاسم المميز وإن كان الناصبه فعلًا متصرفًا؛ فلا نجيز: شحمًا تفقَّأتُ، ولا عرقًا تصببتُ، وأما ما أنشده أبو عثمان وتلاه فيه أبو العباس من قول المخبل: أتهجر ليلى بالفراق حبيبَها ... وما كان نفسًا بالفراق تطيب فتقابله برواية الزجاجي وإسماعيل بن نصر وأبي إسحاق أيضًا: وما كان نفسي بالفراق تطيب؛ فرواية برواية والقياس من بعد حاكم ... انتهى. وأوضح ابن جني أن التمييز في البيت المذكور في الأصل هو الفاعل في المعنى؛ فأصل الكلام: تصبب عرقي، وتفقأ شحمي، ثم حول الإسناد عن الفاعل الواقع مضافًا إلى ياء المتكلم إلى المضاف إليه، أي: إلى ياء المتكلم؛ فحوِّلت إلى ضمير رفع لوقوعها فاعلًا؛ فحصل في الإسناد إلى هذا الضمير إبهام؛ فجيء بالمضاف الذي كان فاعلًا وجعل تمييزًا، ويقال عنه: إنه تمييز محول عن الفاعل؛ فكما لا يجوز تقديم الفاعل على الفعل؛ فكذلك لا يجوز تقديم المميز؛ إذ كان هو الفاعل في المعنى على الفعل. ترجيحُ لغةٍ على أُخرى لقد أفرد ابن جني بابًا في كتابه (الخصائص) عنوانه: باب اختلاف اللغات وكلها حجة، وعليه عوَّل السيوطي في هذه المسألة؛ فقد أجاز ابن جني فيه الاحتجاج بجميع لغات العرب، وليس المراد جميع ما نطق العرب به؛ بل المراد باللغات لغات القبائل التي يؤخذ عنها يؤخذ عنها ويعتد بفصاحتها؛ إذ إن علماء العربية لم يأخذوا عن جميع القبائل؛ وإنما أخذوا عن بعضها وأعرضوا عن بعض؛ فأخذوا عن القبائل التي سلم أهلها من الاختلاط بالأعاجم وأعرضوا عن

القبائل التي لم تسلم من مخالطة الأعاجم فتسرب إلى ألسنتهم اللحن والخطأ في البنية أو التركيب. وقد قال ابن جني: "باب اختلاف اللغات وكلها حجة؛ اعلم أن سعة القياس تبيح لهم ذلك ولا تحظره عليهم؛ ألا ترى أن لغة التميميين في ترك إعمال "ما" يقبلها القياس، ولغة الحجازيين في إعمالها كذلك؛ لأن لكل واحد من القومين ضربًا من القياس يؤخذ به ويخلد إلى مثله؟! وليس لك أن ترد إحدى اللغتين بصاحبتها؛ لأنها ليست أحق بذلك من رسيلتها؛ لكن غاية ما لك في ذلك: أن تتخير إحداهما فتقويها على أختها وتعتقد أن أقوى القياسين أقبل لها وأشد أنسًا بها؛ فأما رد إحداهما بالأخرى فلا" انتهى. ونلحظ في كلام ابن جني أن له عناية واضحة بالقياس، وقد تجلت هذه العناية في أمرين: أحد هذين الأمرين: أنه قد جعل اللغات على اختلافها حجة إذا كانت هذه اللغات موافقة للقياس، فإن كانت إحداها مخالفة له؛ فهي لغة مردودة مرغوب عنها. والآخر: أنه قد أوجب على المتكلم أن يختار إحدى اللغتين وهو معتقد أنه الأقوى قياسًا وأن يترك الأخذ بالأخرى وهو معتقد أنها الأضعف من جهة القياس؛ كما نلحظ أن ابن جني يرفض رد إحدى اللغتين بصاحبتها لأنهما متساويتان في قبول القياس لهما؛ ولذلك قال: فأما رد إحداهما بالأخرى فلا. وقوله: "غاية ما لك في ذلك: أن تتخير إحداهما"، معناه: أن الواجب على المتكلم إذا وجد لغتين يقبلهما القياس: أن يتخير إحدى اللغتين لعدم إمكان الأخذ بهما معًا؛ إذ لا يمكن الجمع بين لغتين في وقت واحد، وضرب ابن جني لذلك مثلًا، وهو: إعمال "ما" وإهمالها؛ فإن للعرب لغتين في ذلك:

الأولى: إعمالها عمل "ليس"، وهي لغة الحجازيين. والثانية: إهمالها، وهي لغة التميميين. والقياس يقبل اللغتين ولا يرد واحدة منهما، وقد سبق أن فصلنا القول في اللغتين. ومما تقدم نلحظ أن اللغتين يقبلهما القياس؛ فيجب قبولهما، ولا يجوز رد واحدة منهما؛ وإنما تقدم إحداهما على الأخرى مع الاعتقاد بصحة الأخرى وفصاحتها، واللغة المقدمة من هاتين اللغتين هي لغة الحجازيين في إعمال "ما" عمل "ليس"؛ لأنها اللغة التي نزل بها القرآن الكريم؛ إذ يقول الله تعالى: {مَا هَذَا بَشَرًا} (يوسف: 31)، وقد كثر استعمالها كثرة ظاهرة ولا يجوز رد لغة التميميين؛ لأن هاتين اللغتين لغتان متساويتان في القياس؛ فليست إحداهما أحق من الأخرى؛ أما إذا تباعدت اللغتان فكانت إحداهما كثيرة جدًّا وكانت الأخرى قليلة جدًّا؛ فلا يجوز القياس على اللغة القليلة؛ وإنما يقتصر فيها على المسموع ولا يتجاوز. وقد ذكر ابن جني أنه: "إن قلت: إن إحدى اللغتين قلت جدًّا وكثرت الأخرى جدًّا؛ أخذتَ بأوسعهما رواية وأقواهما قياسًا؛ ألا ترى أنك لا تقول: مررت بَك، ولا: المال لِك؛ قياسًا على قول قضاعة: المال لِه، و: مررت بَه؛ و: لا أكرمتُكِش؛ قياسًا على لغة من قال: مررت بكِش، وعجبت منكِس" انتهى. ومعنى ما ذكره ابن جني: أن كسر كاف المخاطب لا يجوز قياسًا على كسر الهاء؛ كما لا يجوز زيادة الشين بعد كاف الخطاب المنصوبة قياسًا على من ألحقها بالمجرورة؛ فمثل هذا لا قياس عليه؛ بل يقتصر فيه على المسموع ولا يتجاوز.

ترجيح لغة ضعيفة على الشاذ.

ثم ذكر ابن جني أن استعمال هذه اللغات الضعيفة لا يعد خطأ؛ وإن كان الواجب على المتكلم أن يقل استعماله لها، وأن يتخير ما هو أقوى وأشيع؛ فإن تكلم باللغة القليلة فإنه مصيب في الجملة لعدم خروجه عن كلام العرب بالكلية؛ كما أن المتكلم إذا اضطُر إلى استعمال شيء من ذلك لإقامة وزن أو لمراعاة سجع في كلامه فإن له أن يرتكب ذلك بلا لوم ولا نسبة خطأ ولا إنكار عليه، وقد قال ابن جني في ذلك: الواجب في مثل ذلك: استعمال ما هو أقوى وأشيع؛ ومع ذلك لو استعمله إنسان لم يكن مخطئًا لكلام العرب؛ فإن الناطق على قياس لغة ما من لغات العرب مصيب غير مخطئ؛ لكنه يكون مخطئًا لأجود اللغتين؛ فأما إن احتاج لذلك في شعر أو سجع فإنه مقبول منه غير منعي عليه ... انتهى. وقد ختم السيوطي هذه المسألة بقول أبي حيان في (شرح التسهيل): "كل ما كان لغة لقبيلة قيس عليه" انتهى. وليس هذا الكلام على إطلاقه؛ لأن إبدال اللام ميمًا لا يقاس عليه لقلته؛ فوجب التفصيل بين ما كان لغة قليلة وما كان لغة كثيرة؛ أما اللغة القليلة فلا يقاس عليها -كما سبق- وأما اللغة التي تكثر في كلام العرب فإنه يجوز القياس عليها. ترجيح لغةٍ ضعيفةٍ على الشاذّ لقد ذكر ابن عصفور فيما نقله السيوطي عنه أنه إذا تعارض ارتكاب شاذ ولغة ضعيفة؛ فارتكاب اللغة الضعيفة أولى من ارتكاب الشاذ، ومعنى ما ذكره ابن عصفور: أنه إذا دار أمر المتكلم بين أن يتكلم بلغة ضعيفة أو بكلام شاذ؛ فإن التكلم باللغة الضعيفة أولى من ارتكابه الشاذ؛ لأن هذه اللغة -على ضعفها- مروية عن العرب أو عن بعض العرب، وكل لغة تمثل حقلًا لغويًّا لا يصح إهداره أو الحيف عليه؛ وليس كذلك الشاذ؛ فاللغة الضعيفة إنما قدمت على الشاذ لأن

الأخذ بأرجح القياسين عند تعارضهما.

اللغة الضعيفة مجمع على أن طائفة من العرب قد نطقت بها -وإن كانت ضعيفة- ولأن الأصل في الشاذ أن يُحفظ ولا يقاس عليه؛ فلا يجوز أن تبنى عليه القواعد، والمراد بالشاذ هنا: المردود -كما سبق أن أوضحنا ذلك غير مرة. الأخذ بأرجح القياسين عند تعارضهما إن التعارض بين قياسين صورة من صور التعارض بين الأدلة، وقد أفرد الأنباري في كتابه (لمع الأدلة) فصلًا عنوانه: في معارضة القياس بالقياس، وعليه عوَّل السيوطي في هذه المسألة، وقد ذكر الأنباري في مقدمة هذا الفصل أنه قد يقع التعارض بين قياسين؛ فأحدهما يثبت حكمًا والآخر يثبت حكمًا آخر، وإذا وقع التعارض بين القياسين؛ رجح أحدهما على الآخر، وقد ذكر الأنباري أن هناك طريقين يرجح بهما بين القياسين المتعارضين؛ فقال: "اعلم أن القياسين إذا تعارضا أخذ بأرجحهما، وهو أن يكون أحدهما موافقًا لدليل آخر من طريق النقل أو طريق القياس" انتهى. ومعنى ما ذكره الأنباري: أن السماع -وهو الذي يعبر عنه الأنباري باسم النقل- قد يرجح قياسًا على قياس كما أن موافقة القياس قد ترجح أحدهما على الآخر، ولم يذكر الأنباري مثالًا رجح فيه السماع أحد القياسين؛ وإنما اكتفى بقوله: "فأما الموافقة من طريق النقل فنحو ما قدمناه في الفصل الذي قبله" انتهى. والمراد بالفصل الذي قبله: فصل معارضة النقل بالنقل. ومما سبق نقول: إن الأنباري لم يذكر في (لمع الأدلة) كما لم يذكر السيوطي في (الاقتراح) مثالًا تعارض فيه قياسان وكان السماع مرجحًا أحد القياسين على الآخر، وقد ذكر الأنباري مثالًا لترجيح السماع بين القياسين المتعارضين، وذلك

في كتابه (الإنصاف)؛ إذ أفرد في هذه المسألة عامل النصب في خبر "ما" النافية، أفرد كلامًا كثيرًا تحدث فيه عن قوله: ذهب الكوفيون إلى أن "ما" الحجازية لا تعمل النصب في الخبر، وإلى أن الخبر منصوب بنزع الخافض، واحتجوا لمذهبهم بالقياس فقالوا: إن القياس في "ما": ألا تعمل؛ لأن الحرف إنما يكون عاملًا إذا كان مختصًّا و"ما" غير مختص؛ فالأصل فيه ألا يعمل؛ ولذلك أهملها بنو تميم وأعملها الحجازيون؛ لأنهم شبهوها بـ"ليس" من جهة المعنى وهو شبه ضعيف؛ فلم يقوَ على العمل في الخبر كما عملت "ليس". وذهب البصريون إلى أن "ما" هي التي تنصب الخبر، واحتجوا بالقياس؛ فذكروا أن الدليل على صحة مذهبهم، هو أنَّ "ما" أشبهت "ليس"؛ فوجب أن تعمل عملها، وعمل "ليس": الرفع والنصب، أي: رفع الاسم ونصب الخبر، ويقوي الشبه بين "ما" و"ليس": دخول الباء في خبر "ما" كما تدخل في خبر "ليس"؛ فمن دخول الباء في خبر "ليس": قوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} (الزمر: 36)، ومن دخول الباء في خبر "ما": قوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} (فصلت: 46)، فإذا ثبت أن "ما" قد أشبهت "ليس"؛ وجب أن تعمل عملها. ومما سبق يتبين أن هناك قياسين متعارضين، وقد رجح الأنباري قياس البصريين؛ فذكر أن النقل -أي: السماع- هو الذي يرجح ما ذهب إليه البصريون؛ فقال: وأما قولهم -أي: قول الكوفيين-: إن القياس يقتضي ألا تعمل؛ قلنا: كان هذا هو القياس إلا أنه وجد بينها وبين "ليس" مشابهة اقتضت أن تعمل عملها، وهي لغة القرآن؛ قال الله تعالى: {مَا هَذَا بَشَرًا} (يوسف: 31)، وقال تعالى: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} (المجادلة: 2). ومما سبق يتبين أن السماع هو أحد الطريقين الذين يرجح بهما بين القياسين المتعارضين، والطريق الآخر هو القياس، ومثاله: أن يقول الكوفي: إنَّ "إنَّ"

وأخواتها تعمل في الاسم النصب لشبه الفعل ولا تعمل في الخبر الرفع؛ بل الرفع فيه بما كان يرتفع به قبل دخولها؛ فيقول البصري: هذا فاسد؛ لأنه ليس في كلام العرب عامل يعمل في الاسم النصب إلا وهو يعمل الرفع أيضًا؛ فما ذهبت إليه -يا كوفي- يؤدي إلى ترك القياس ومخالفة الأصول لغير فائدة، وذلك لا يجوز. وقد ذكر السيوطي هذا الذي قاله وفيه إجمال يحتاج إلى تفصيل يكشفه ويبينه، وبيانه أن نقول: لم يختلف النحويون في أنَّ "إنَّ" أو إحدى أخواتها هي التي تعمل النصب في الاسم؛ ولكن اختلفوا في عامل الرفع في الخبر على مذهبين: أحد هذين المذهبين: أن عامل الرفع في الخبر بعد دخول "إنَّ" هو عامل الرفع في الخبر قبل دخولها، وهو مذهب الكوفيين، وحجة الكوفيين فيما ذهبوا إليه أنَّ "إنَّ" إنما عملت بالحمل على الفعل؛ فهي ضعيفة، ويجب أن تكون منحطة عن رتبة الفعل الذي عملت بالحمل عليه؛ كما هو شأن الفرع أبدًا؛ فوجب نزوله عن الفعل؛ ولو عملت في الخبر لأدى ذلك إلى التسوية بين الأصل والفرع، وذلك لا يجوز؛ فوجب بقاء الخبر على رفعه الذي كان عليه قبل؛ إبقاء لما كان على ما كان، ومعنى ذلك: أن الكوفيين قد قاسوا حال الخبر بعد دخول "إنَّ" عليه بحاله قبل دخولها. والآخر: أن "إنَّ" وأخواتها هي التي ترفع الخبر أيضًا، وهذا مذهب البصريين؛ يقول سيبويه في (الكتاب): "وزعم الخليل أنها -أي: "إنَّ" وأخواتها- عملت عملين الرفع والنصب كما عملت "كان" الرفع والنصب" انتهى. وحجة البصريين فيما ذهبوا إليه: أن "إنَّ" قد نصبت المبتدأ وجعلته اسمًا لها، ولو جاز أن يكون الخبر مرفوعًا على ما كان مرفوعًا به قبل دخول "إنَّ"؛ لكان المبتدأ

تعارض القياس والسماع.

أحق بذلك؛ فلما نصب المبتدأ بـ"إنَّ" وجب أن يكون رفع الخبر أيضًا بها؛ إذ ليس في كلام العرب شيء يعمل النصب في الأسماء ولا يعمل الرفع، ومن المحال ترك القياس ومخالفة الأصول بغير فائدة. ومعنى ما سبق: أن الكوفيين قد استدلوا على صحة مذهبهم بالقياس، وهو أن "إنَّ" فرع عن الفعل في العمل، والفروع أبدًا تنحط عن درجات الأصول؛ كما استدل البصريون على صحة مذهبهم بالقياس أيضًا: وهو أنَّ "إنَّ" وأخواتها قد أشبهت الفعل لفظًا ومعنًى؛ كما أوضحنا من قبل؛ فلما قوي شبهها بالفعل والفعل يرفع وينصب وجب أن تكون مثله، وقد تعارض القياسان، ورجح الأنباري مذهب البصريين بالقياس؛ لأنه ليس في كلام العرب عامل يعمل في الأسماء النصب إلا وهو يعمل الرفع أيضًا. تعارض القياس والسماع وقد أفرد له ابن جني في (الخصائص) بابًا عنوانه: باب في تعارض السماع والقياس، ويعد التعارض بين السماع والقياس صورة من صور التعارض بين الأدلة النحوية، ومعناه: أن يؤدي قياس النحويين إلى حكم من الأحكام، وأن يؤدي السماع عن العرب الفصحاء الموثوق بعربيتهم إلى حكم آخر يخالف الحكم الذي أدى إليه القياس، وقد عوَّل السيوطي في هذا الباب على ما ذكره ابن جني الذي يقول: إذا تعارضا -أي: السماع والقياس- نطقتَ بالمسموع على ما جاء عليه ولم تقسه في غيره، وذلك نحو قوله تعالى: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ} (الحشر: 19)؛ فهذا ليس بقياس لكنه لا بد من قبوله؛ لأنك تنطق بلغتهم وتحتذي في جميع ذلك أمثلتهم، ثم إنك من بعد لا تقي عليه غيره فلا تقول في استقام: استقوم، ولا في استباع: استبيع، انتهى.

وقد نقله السيوطي بتصرف يسير جدًّا، ومعنى قول ابن جني: "إذا تعارضا" يعني: إذا اقتضى كل منهما خلاف الحكم الذي يقتضيه الآخر؛ فلا بد في هذه الحالة من قبول المسموع عن العرب والإقرار بفصاحته والاقتصار عليه؛ لكن دون قياس غيره عليه؛ لأنه مخالف للقياس. ومما سمع من ذلك وهو مخالف للقياس مثل: {اسْتَحْوَذَ} من قوله تعالى: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ} فإن القياس يقتضي نقل حركة الواو إلى الساكن الصحيح قبلها -وهو الحاء- لأنه حينما تكون الحاء -وهي حرف صحيح- تكون ساكنة في الوقت الذي فيه الواو حرف علة يكون متحركًا فتلك إذا قسمة ضيزى! فيجب -في هذه الحالة- نقل حرف العلة إلى الحرف الساكن الصحيح قبل هذا الحرف -وهو الحاء. ثم يقال: تحركت الواو في الأصل وانفتح ما قبلها الآن؛ فتقلب الواو ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها؛ فكان القياس أن يقال: استحاذ؛ هذا ما كان يقتضيه القياس؛ لكن جاء السماع بخلافه؛ فتعارض السماع والقياس، والحكم حينئذ هو قبول اللفظ المسموع لورود النص به مع عدم القياس عليه؛ فلا يجوز أن نقيس عليه غيره، يعني: أن نقول مثلًا في استقام: استقوَم؛ لا يجوز أن نقول ذلك مع أنه هو الأصل؛ كما أن الأصل في استباع: استبيَع؛ فهما مثل {اسْتَحْوَذَ} إلا أنه قد سمع {اسْتَحْوَذَ} ولم يسمع استقوَم ولا استبيَع؛ فوجب الاقتصار على ما سمع ولم يجز قياس غيره عليه. - فإن قيل: فقد جاء عن العرب قولهم: استنوَق الجمل واستتيَستْ الشاة؛ فلم تقلب الواو أو الياء فيهما ألفًا مع وجود شرط القلب، وهو: وقوع كل منهما عينًا متحركة مفتوحًا ما قبلها؛ فكان القياس أن يقال فيهما: استناق واستتاس. أجيب بأن قولهم: استنوق، واستتيست، من الشاذ، والشاذ يحفظ ولا يقاس عليه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 21 تابع: التعارض والترجيح

الدرس: 21 تابع: التعارض والترجيح

تقديم كثرة الاستعمال على قوة القياس.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الحادي والعشرون (تابع: التعارض والترجيح) تقديم كثرة الاستعمال على قوة القياس الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فإليك بقية الباب السادس من أبواب كتاب (الاقتراح)، والذي عقده السيوطي للحديث عن التعارض والترجيح: قد يكون الشيء كثيرًا في استعمال العرب الفصحاء الموثوق بعربيتهم، وهو مع كثرته في الاستعمال أضعف في القياس من غيره؛ وإذا تعارضت كثرة الاستعمال مع قوة القياس كان استعمال ما كثر استعماله أولى مما قوي قياسه. وقد ساق السيوطي في هذا الأمر مثالًا نقله عن ابن جني: وهو تقديم "ما" النافية الحجازية على "ما" التميمية، ولغة بني تميم أقوى قياسًا؛ لأن "ما" فقدت شرط العمل، وهو: الاختصاص؛ ولذلك قال سيبويه عن إهمال ما في لغة بني تميم؛ قال: وهو القياس؛ فهي حرف غير مختص؛ فكان القياس ألا تعمل؛ إلا أن قوة القياس هنا معارضة لكثرة المسموع؛ إذ كثر في الكلام الفصيح إعمال "ما" عمل "ليس"؛ وعدت هذه اللغة هي اللغة العليا؛ لأن القرآن نزل بها، ومنه قوله تعالى: {مَا هَذَا بَشَرًا} (يوسف: 31) وقوله -عز وجل-: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} (المجادلة: 2). ولما تعارضت قوة القياس مع كثرة الاستعمال كانت كثرة الاستعمال هي المقدمة، وكان على المتكلم أن يستعمل في كلامه ما كثر استعماله في كلام الفصحاء؛ ولذلك قال ابن جني في المصدر السابق نفسه: إذا استعملت أنت شيئًا من ذلك؛ فالوجه: أن تحمله على ما كثر استعماله، وهو اللغة الحجازية؛ ألا ترى أن القرآن بها نزل؟! انتهى. ومعنى ما ذكره ابن جني: أن على المتكلم أن يتكلم بلغة الحجاز لأنها اللغة التي كثر استعمالها؛ إلا أن هذا الحكم ليس على إطلاقه؛ وإنما هو حكم مقيد بقيد، وهو: أن تستوفي "ما" شروط إعمالها عند الحجازيين، وهي: مراعاة الترتيب بين اسمها وخبرها، بأن يكون اسمها متقدمًا وخبرها متأخرًا، وألا يتقدم معمول

معارضة مجرد الاحتمال للأصل والظاهر، وتعارض الأصل والغالب

الخبر وهو غير ظرف ولا مجرور، وألا ينتقض النفي بـ"إلا"؛ فإن فقد شرط من هذه الشروط أهملت "ما" وهو القياس. وقد نقل السيوطي في (الاقتراح) عن ابن جني قوله: "فمتى رابك في الحجازية ريب من تقديم خبر أو نقض النفي؛ فزعت إذ ذاك إلى التميمية" انتهى. وإنما وجب الرجوع حينئذ إلى التميمية؛ لأنها القياس؛ ولأنه لا معارض للقياس لفقد شرط المعارضة. ونلحظ أن ابن جني قد عبر بالفعل "فزع"؛ ليدل به على وجوب الإسراع والمبادرة؛ فليس للمتكلم حينئذ أن يختار؛ وإنما يجب أن يفزع وأن يسرع ويبادر إلى لغة بني تميم؛ لأنها هي القياس. معارضة مجرد الاحتمال للأصل والظاهر، وتعارض الأصل والغالب معارضة مجرد الاحتمال بالأصل والظاهر: لقد تناول ابن جني هذه القضية في موضعين من (الخصائص) وعليهما عوَّل السيوطي في (الاقتراح) وأوردهما بعكس ترتيب ورودهما في (الخصائص)؛ فبدأ بالموضع الثاني في (الخصائص) وافتتح المسألة بقوله: "قال في (الخصائص): باب في الشيء يرد؛ فيوجب له القياس حكمًا ويجوز أن يأتي السماع بضده؛ أنقطع بظاهره أم نتوقف إلى أن يرد السماع بجلية حاله؟ " انتهى. ومعنى قول ابن جني: "نقطع بظاهره"، أي: لا ننظر إلى ما يحتمله اللفظ؛ وإنما ننظر إلى ظاهر حاله، ومعنى قوله: "بجلية حاله"، أي: بحاله الجلية الظاهرة، ومن الواضح أن ابن جني لم يذكر فيه رأيه ومذهبه صراحة وإن كان تقديمه للقطع في اللفظ يدل على تقديمه إياه في العمل.

وقد كثرت الأمثلة التي تدل على أنه إذا تعارض الظاهر مع الاحتمال كان القول بالظاهر أولى، ومنها: القول في نون: عنبر، وعنتر، ونحوهما؛ فإن الظاهر هو القول بأن النون فيهما أصلية؛ لأنها وقعت في موضع الأصل، وهو العين في "فعلَلٍ" نحو: جعفرٍ؛ فلما وقعت النون في الموضع الأصل كان الظاهر أنها أصلية، ويجوز أن يحكم على النون بأنها زائدة؛ كما قيل بزيادتها في: "عنْسَلٍ"، وهي الناقة السريعة؛ فإن النون فيها زائدة قطعًا ويدل على زيادتها الاشتقاق من العسلان: وهو إسراع الذئب في مشيته؛ فحكموا بأن وزنه: "فنْعل"، مع عدم هذا الوزن في أبنيته؛ وإنما أوجبوا أن يكون "عنْسل" على وزن "فنعل"؛ لأن الاشتقاق دال عليه، وهذا هو الأصح وبه جزم سيبويه في كتابه: فقال: "ومما جعلته زائدًا بثبت العنسل لأنهم يريدون العسول" انتهى. وقوله: "يريدون العسول" معناه: زيادة النون. أما الموضع الثاني؛ فهو باب في الحمل على الظاهر، وإن أمكن أن يكون المراد غيره، ومعنى ما ذكره ابن جني في هذا العنوان: أن الشيء يجب حمله على ظاهره وإن كان ممكنًا من جهة العقل أن يكون باطنه بخلاف هذا الظاهر. وقد وصف ابن جني القول بذلك بأنه المذهب، وبأن العمل عليه، وبأن الوصية به، ثم ذكر مثالًا يدل على عناية علماء العربية بالظاهر، وهو: حمل سيبويه كلمة سِيد -وهو الذئب أو الأسد- على أن عينه ياء؛ فوضعه في (الكتاب) في باب: تحقير كل اسم كان ثانيه ياء تثبت في التحقير؛ فالظاهر من حاله أن تكون عينه ياء؛ ولذلك قال سيبويه في تصغيره: سُيَيْد -بضم أوله؛ لأن التصغير يضم أوائل الأسماء- وهو لازم له كما أن الياء لازمة له. ثم ذكر سيبويه أن من العرب من يكسر أوله فيقول: سِيَيْد؛ كراهية الياء بعد الضمة.

ومن هذا المثال يتبين أن سيبويه قد حمل لفظ "سِيد" على أن عينه ياء؛ لأنه هو الظاهر من حاله مع إمكان أن يكون عينه واوًا؛ ولذلك قال السيوطي: "حمل سيبويه سيدًا على أنه مما عينه ياء؛ فقال في تحقيره: سُيَيْد عملًا بظاهره، مع توجه كونه فِعلًا مما عينه واو كريح وعيد" انتهى. وقول السيوطي: "مع توجه كونه فعلًا"، معناه: أن كلمة سِيد على وزن فِعل لا أنها فعل من الأفعال، وهذا القول من السيوطي يصحح سهوًا وقع فيه محقق كتاب (الاقتراح) -رحمه الله تعالى- تبعًا لمحقق كتاب سيبويه -رحم الله الجميع- إذ أثبتاه بلفظ "سَيِّد"، والصحيح أنه "سِيد" -بكسر السين- فقد حمله سيبويه على ظاهره، وهو أنه يائي العين مع جواز أن يكون واوي العين؛ فقلبت ياء لسكونها بعد كسرة كما قلبت فريح؛ فإن الأصل رِوْح؛ بدليل الجمع على أرواح، وقد وقعت الواو ساكنة بعد كسر؛ فقلبت ياء. وننتقل الآن إلى الحديث عن: تعارض الأصل والغالب: إذا تعارض الأصل والغالب؛ فقد ذكر السيوطي أن علماء النحو قد حذَوْ حَذْوَ الفقهاء في اختلافهم؛ فقد اختلف الفقهاء على قولين، وهما: العمل بالأصل، والعمل بالغالب، والأصح العمل بالغالب، وعلى ضربهم سار النحويون؛ فمنهم من ذهب إلى أن العمل يكون بالأصل، ومنهم من ذهب إلى أن العمل يكون بالغالب. ومثال ذلك: أن الأصل في الاسم أن يكون مصروفًا؛ فإن جاء في كلامهم اسم علم أو صفة على وزن "فُعْل" -بضم الفاء وفتح العين- ولم يعلم؛ أصرفوه -كما هو الأصل- أم منعوه من الصرف؛ كما هو الغالب في ما كان على وزن

"فُعَل"، نحو: عمَر، وزُفَر؛ فإنهما ممنوعان من الصرف للعلمية والعدل؛ فإذا جاء اسم علم أو صفة ولم يثبت عدله عن غيره ولم يعلم اشتقاقه؛ فهل يكون مصروفًا لأن الأصل في الاسم الصرف أم يكون ممنوعًا من الصرف؛ لأن نظيره من الأسماء ممنوع من الصرف؟. لقد ذكر السيوطي أن في ذلك ونحوه مذهبين للنحاة: الأول: مذهب سيبويه: وهو الصرف حتى يثبت أنه معدول؛ لأن الأصل في الأسماء عدم العدل عن غيرها؛ يقول سيبويه في (الكتاب): "اعلم أن كل فُعَل كان اسمًا معروفًا في الكلام أو صفة فهو غير مصروف؛ فالأسماء نحو: صُرَد وجُعَل، وأما الصفات فنحو: هذا رجل حُطَم" انتهى. والمذهب الثاني: مذهب غير سيبويه، وهو: المنع من الصرف؛ لأنه الأكثر والغالب في كلامهم، والصحيح ما ذهب إليه سيبويه؛ لأن الأصل في الأسماء أن تكون مصروفة لا ممنوعة من الصرف؛ فلما لم يقم دليل على منع بعضها كان الرجوع إلى الأصل أولى. ومما تعارض فيه الأصل والغالب أيضًا: ما ذكره أبو حيان في (شرح التسهيل): من اختلافهم في رحمن، ولَحيان، على قولين: أحدهما: الصرف؛ لأنه الأصل، أي: ولأنه لا يمنع من الصرف إلا بشرط ألا يكون مؤنثه بالتاء بأن يكون مؤنثه على وزن "فَعلى"، ورحمان ولحيان لا مؤنث لهما. والآخر: المنع؛ لأن الغالب هو أن يكون على وزن "فعْلان" أن يكون ممنوعًا من الصرف؛ فتعارض الأصل والغالب.

تعارض أصلين، وتفضيل السماع والقياس على استصحاب الحال.

وقال السيوطي -رحمه الله- نقلًا عن أبي حيان، والصحيح صرفه -أي: صرف رحمان ولحيان- لأنا قد جهلنا النقل فيه عن العرب، والأصل في الأسماء الصرف؛ فوجب العمل به، ووجه مقابله: أن ما يوجد من "فعْلان" الصفة غير مصروف في الغالب، والمصروف منه قليل؛ فكان الحمل على الغالب أولى ... انتهى ما قال أبو حيان. وعقب السيوطي على عبارة أبي حيان بقوله: هذه عبارته، أي: هذه عبارة أبي حيان في (شرح التسهيل)؛ وكأن السيوطي قال ذلك للتبرؤ؛ لأنه أورد ذلك للتمثيل لا لكونه يرى رأي أبي حيان؛ لأن غيره صحح الأصل. تعارض أصلين، وتفضيل السماع والقياس على استصحاب الحال تعارض أصلين: لقد عقد ابن جني في كتابه (الخصائص) بابًا عنوانه: باب في مراجعة الأصل الأقرب دون الأبعد، وقد وصف هذا الموضع بأنه موضع يجب أن ينبه عليه ويحرر القول فيه، والمراد بمراجعة الأصل الأقرب دون الأبعد: هو أنه إذا تعارض في الكلام أصلان أحدهما قريب والآخر بعيد وجب الرجوع إلى الأصل القريب دون البعيد. ومما تعارض فيه أصلان: ضم الذال من كلمة "مُذْ" في نحو: "ما رأيته مُذُ اليوم"؛ فإن الأصل في الكلمة أن تكون ساكنة ويليها ساكن؛ فكان القياس أن يتخلص من التقاء الساكنين بالكسر كما هو الشأن دائمًا في كل ساكنين التقيا؛ فالتخلص منهما يكون بكسر أولهما؛ فيقال: ما رأيته مُذُ اليوم؛ ولكن هذا الأصل قد

عارضه أصل آخر؛ لأن أصلها الضم في "منذ"، وضمت فيه لالتقاء الساكنين إتباعًا لضمة الميم؛ فهنا إذًا أصلان تعارضا: الأول: الأصل الأبعد، وهو السكون. والثاني: الأصل الأقرب، وهو الضم. فكان الرجوع إلى الأصل الأقرب أولى؛ فضمت الذال من "مُذ" عند التقاء الساكنين ردًّا إلى الأصل الأقرب، وهو "منذ"، ولم ترد إلى الأبعد الذي هو سكونها؛ لأن مراجعة الأصل الأقرب أولى من مراجعة الأبعد. ومما تعارض فيه أصلان: أحدهما قريب والآخر بعيد: قولهم: بعت -بكسر الباء- وقلت -بضم القاف- فأصل الفعلين -باع وقال-: أن يكونا على وزن فعَل؛ فلما أسندا إلى تاء الفاعل نقل "باع" -وهو الأجوف اليائي- إلى وزن فعِل بكسر العين، ونقل الفعل قال -وهو الأجوف الواوي- إلى وزن فعُل بضم العين، ثم قلبت كل من الواو والياء ألفًا لتحركهما وانفتاح ما قبلهما؛ فالتقى ساكنان، وهما: العين المقلوبة ألفًا، ولام الفعل التي سكنت لاتصال الفعل بتاء الفاعل، ثم نقلت الكسرة التي في عين الفعل الأول، وهو بِعْت، إلى فاء الكلمة، ونقلت الضمة التي في عين الفعل الثاني، وهو قلت، إلى الفاء أيضًا؛ فقيل: بعت، وقلت، وفي هذا النقل مراجعة للأصل الأقرب، وهو اعتبار الفعلين بعد نقلهما من فعَل المفتوح العين إلى فعِل وفعُل المكسور العين والمضمومها. وننتقل الآن إلى الحديث عن: تفضيل السماع والقياس على استصحاب الحال: إن استصحاب الحال من أصول النحو الغالبة عند الأنباري؛ فقد قال في (لمع الأدلة): "وهو -أي الاستصحاب- من الأدلة المعتبرة" انتهى.

تعارض قبيحين، وتعارض المجمع عليه والمختلف فيه.

ومع عده إياه من أصول النحو الغالبة ذكر أنه أضعف الأدلة؛ فقال: "واستصحاب الحال من أضعف الأدلة؛ ولهذا لا يجوز التمسك به ما وجد هناك دليل" انتهى. ويدل على ضعفه ما نقله السيوطي من أنه: إذا تعارض استصحاب الحال مع دليل آخر من سماع أو قياس؛ فلا عبرة به -أي: لا اعتداد بالاستصحاب- ولا التفات إليه؛ لقوة الدليل الآخر الذي يقابله ويعارضه؛ فيقدم السماع أو القياس على الاستصحاب، وعلة ذلك: هي أن الأصل المستصحب إنما جرده النحاة فأصبح من عملهم ولم يكن من عمل العربي صاحب السليقة؛ فإذا عارضه السماع؛ فالسماع أرجح؛ لأن ما يقوله العربي أولى مما يجرده النحوي؛ وإذا عارضه القياس فالقياس أرجح؛ لأن القياس إن كان تجريدًا فهو حمل على ما قاله العربي. تعارض قبيحين، وتعارض الْمُجْمَعِ عليه والْمُختلَف فيه تعارض قبيحين: لقد عوَّل السيوطي في هذه المسألة على ما ذكره ابن جني في (الخصائص)؛ إذ إنه قد أفرد بابًا عنوانه: باب في الحمل على أحسن القبيحين، ومراده بذلك: أنه إذا حضرت عندك ضرورتان -أي: أمران قبيحان- وكان أحدهما أشد قبحًا من الآخر ولا بد للمتكلم من ارتكاب أحد القبيحين؛ فينبغي حينئذ ارتكاب أقربهما وأقلهما فحشًا. وقد ذكر السيوطي نقلًا عن ابن جني مثالين فيهما ارتكاب أقل القبيحين فحشًا، وهما:

المثال الأول: حكم الواو في "ورَنْتَل"، والورنتل: هو الشر والأمر العظيم؛ فإن الأمر في هذه الواو بين ضرورتين أن يدعي أنها أصلية وأن يدعي أنها زائدة، وهما أمران قبيحان؛ لأن الواو لا تكون أصلية في ذوات الأربعة إلا مكررة، نحو قولهم: الوصوصة والوحوحة؛ كما أنها لا تكون زائدة في أول الكلام، ولا بد من ارتكاب أحد القبيحين؛ فلما كان الأمر كذلك كان القول بجعلها أصلًا أولى من القول بجعلها زائدة؛ لأن الواو قد تكون أصلًا في ذوات الأربعة على وجه من الوجوه، أي: في حال التضعيف؛ أما أن تزاد أولًا فإن هذا أمر لم يوجد -على أي حال- فكان ارتكاب ما هو موجود خيرًا من ارتكاب ما ليس بموجود. والمثال الثاني نحو: فيها قائمًا رجلٌ، وفيها قائم رجل؛ فللمتكلم أن يرتكب أحد القبيحين؛ وهما: أن ينصب الوصف المشتق؛ فيجعل "قائمًا" حالًا من النكرة، وأن يرفعه؛ فيجعل اسم الفاعل نعتًا متقدمًا على منعوته؛ فلما كان مخيرًا بين هذين الأمرين كان القول بجعله حالًا من النكرة أولى؛ لأنه وارد على ضعف وأكثره في الشعر؛ كقول كثير: لمية موحشة طلل ... يلوح كأنه خلل وأما تقديم النعت على المنعوت فلم يرد. وننتقل الآن إلى الحديث عن: تعارض المجمع عليه والمختلف فيه: إذا تعارض أمر أجمع عليه النحويون من البصريين والكوفيين وأمر آخر اختلفوا فيه؛ فإن الرأي المجمع عليه أولى من الرأي المختلف فيه؛ لأن للإجماع مكانته عند علماء العربية، وقد عده ابن جني من أصول النحو الغالبة؛ كما ذكر الشاطبي -رحمه الله- أن إجماع النحويين كإجماع الفقهاء وإجماع المحدثين، وكل علم اجتمع أربابه على مسألة منه؛ فإجماعهم حجة ومخالفهم مخطئ، وإذا كان الأمر كذلك؛ فإن الرأي المجمع عليه أولى من الرأي المختلف فيه؛ ولذلك

تعارض المانع والمقتضي، وتعارض القولين لعالم واحد.

قال السيوطي: إذا تعارض مجمع عليه ومختلف فيه؛ فالأول أولى، وذكر مثالًا لذلك: وهو أنه إذا كان الشاعر مضطرًّا إلى قصر الممدود أو مد المقصور؛ فارتكاب الأول أولى؛ لأن البصريين والكوفيين جميعًا قد أجمعوا على جواز قصر الممدود في الشعر، ومنه قول الشاعر: لا بد من صنعا وإن طال السفر ... ............................. والأصل: صنعاء. أما مد المقصور للضرورة؛ فموضع خلاف بين النحويين؛ إذ أجازه الكوفيين متمسكين بقول الشاعر: سيغنيني الذي أغناك عني ... فلا فقر يدوم ولا غناء بمد غناء، والأصل عند الكوفيين: غنًى، بالقصر؛ فلما اضطر الشاعر مد، وذهب البصريون إلى أن "غناء" في البيت مصدر لغانيت؛ لأنهم يمنعون مد المقصور ولو في ضرورة الشعر؛ فتعارض قولان: أحدهما مجمع عليه، والآخر مختلف فيه؛ فكان المجمع عليه أولى من المختلف فيه. تعارض المانع والمقتضِي، وتعارض القولين لعالمٍ واحدٍ تعارض المانع والمقتضي: إن المراد بالمقتضي: ما يقتضي الحكم، أي: سبب الحكم، والمراد بالمانع: ما يمنع الحكم؛ فهما نقيضان؛ فإذا تعارض المانع والمقتضي كان المانع مقدمًا على المقتضي. والأمثلة التي يقدم فيها المانع على المقتضي كثيرة منها: المثال الأول: "هذا راشد وذاك غادر"؛ فـ"راشد" اتصلت بألفه راء مفتوحة، و"غادر" اتصلت بألفه راء مضمومة؛ فوجد فيهما سبب إمالة الألف: وهو وقوع

كسرة بعدها؛ كما وجد فيهما ما يمنع الإمالة: وهو الراء المفتوحة أو المضمومة؛ فيقدم المانع على المقتضي، وبعض العرب يُميل ولا يلتفت إلى الراء غير المكسورة. والمثال الثاني: "أي" وجد فيها سبب البناء، وهو أن "أيًّا" هذه أشبهت الحرف ووجد فيها أيضًا ما يمنع البناء وهو لزومها الإضافة، والإضافة من خصائص الأسماء؛ فقدم المانع وامتنع البناء. والمثال الثالث: الفعل المضارع المؤكد بالنون، وجد فيه سبب الإعراب وهو مضارعته للاسم ومشابهته إياه، ووجد فيه ما يمنعه من الإعراب وهو اتصال النون به، وقد باعد اتصال النون به بينه وبين الاسم؛ فقدم المانع، وأصبح المضارع الذي اتصلت به النون، أي نون التوكيد، مبنيًّا غير معرب، ومثل ذلك نون النسوة أيضًا. والمثال الرابع: اسم الفاعل إذا وجد شرط إعماله -وهو الاعتماد على نفي أو استفهام أو نحوهما- فإن وجد فيه ما يمنع العمل من تصغير أو وصف قبل العمل؛ فقد تعارض المانع والمقتضي؛ فيقدم المانع ويمنع اسم الفاعل من العمل. وننتقل الآن إلى الحديث عن: في القولين لعالم واحد: إن العالم الواحد قد يكون له في المسألة الواحدة غير قول في غير كتاب من كتبه أو في كتاب واحد من كتبه، وقد يقف المرء حائرًا بأي القولين أو الأقوال يأخذ وأي القولين أو الأقوال يدع، وقد وضع ابن جني -رحمه الله- في (الخصائص) قواعد بها نتعرف على القول الذي نأخذ به والقول الذي ندعه، وهذه القواعد هي:

أولًا: إذا كان أحد القولين مرسلًا والآخر معللًا؛ كان الأخذ بالقول المعلل أولى لقيام حجته؛ وكان ترك القول المرسل واجبًا لضعفه وعدم قيام حجته. ومثال ذلك: ما جاء عن سيبويه -رحمه الله- فقد ذكر في غير موضع من كتابه: أن التاء في بنت وأخت للتأنيث؛ فقال في باب النسب في (الكتاب): "وأما بنت؛ فإنك تقول: بنويٌّ -يعني: في النسب- من قبل أن هذه التاء التي هي للتأنيث لا تثبت عند الإضافة كما لا تثبت في الجمع" انتهى. وقال في باب ما لا ينصرف: إنها ليست للتأنيث، وعلل ذلك بأن ما قبلها ساكن وتاء التأنيث في الواحد لا يكون ما قبلها ساكنًا إلا أن يكون ألفًا؛ كفتاة ... ونحوها؛ فالقول بأنها ليست للتأنيث قول معلل، والقول بأنها للتأنيث قول مرسل؛ فكان المصير إلى القول المعلل أولى؛ لقيام حجته وظهور دليله. وقوله: "إنها للتأنيث" يكون مؤولًا بأن يقال: إنه محمول على التجوز؛ لأن التاء لا توجد في الكلمة إلا في حال التأنيث وتذهب بذهابه. ثانيًا: إذا كان القولان مرسلين بلا تعليل في أحدهما؛ كان القول المعتمد هو القول الأليق بمذهب صاحب القولين والأجرى على قوانينه. ومثال ذلك: قول سيبويه: إن "حتى" ناصبة للفعل المضارع، وقوله الآخر: إنها حرف جر؛ فهذان القولان متنافيان؛ لأن أحدهما يجعل "حتى" ناصبة، والآخر يجعلها جارة، والذي يليق بسيبويه ومذهبه النحوي البصري ويجري على القوانين المعتمدة عند البصريين: هو أن تكون "حتى" جارة، ويدل على ذلك أنه عد الحروف الناصبة للفعل المضارع ولم يذكر منها "حتى"؛ فعلم بذلك أن الفعل المضارع بعد "حتى" ليس منصوبًا بها؛ وإنما هو منصوب بأن المضمرة وجوبًا بعدها، وقول سيبويه: "إن "حتى" هي الناصبة للمضارع" فيه تجوز؛ فينبغي الرجوع إلى قوله الذي نص فيه على أنها جارة.

فيما رجحت به لغة قريش على غيرها، والترجيح بين مذهبي البصريين والكوفيين.

ثالثًا: إن لم يمكن التأويل؛ فإنْ نصَّ العالم في أحد الرأيين على الرجوع عن الرأي الآخر؛ علم أن الرأي الثاني هو رأيه؛ وإن لم ينص العالم على ذلك بحث عن تاريخهما وعمل بالمتأخر، وعلم أن الأول مرجوع عنه؛ فإن لم يعلم التاريخ وجب سبر المذهبين -أي: النظر في دليلهما قوة ودقة- كما وجب البحث عن حال القولين قوة وضعفًا؛ فإن كان أحدهما أقوى نسب إليه أنه قوله إحسانًا للظن به وأن الآخر مرجوع عنه؛ فإن تساويا في القوة وجب أن يعتقد أنهما رأيان له. فيما رجحت به لغة قريش على غيرها، والترجيح بين مذهبي البصريين والكوفيين فيما رجحت به لغة قريش على غيرها: إن العرب كانت تحضر مواسم الحج كل عام، وكانت قريش قائمة على أمر البيت الحرام؛ فكانوا يسمعون لغات جميع العرب؛ فيستحسنون ويستقبحون؛ فما استحسنوه من كلام العرب تكلموا به وما استقبحوه تركوه؛ فصاروا أفصح العرب لسانًا؛ لأن لغتهم قد خلت من مستبشع اللغات ومستقبح الألفاظ، وقد ذكر علماء العربية كثيرًا من اللغات العربية ووصفوها بالرديء والمذموم ونحوهما من الألقاب التي تدل على استبشاعهم إياها وذكروا أن لغة قريش قد خلت من ذلك كله. ومما خلت منه لغة قريش: - الكشكشة: وهي إلحاق كاف المخاطبة المؤنثة شينًا؛ فيقولون: رأيتكِش، والمراد: رأيتكِ، وقد كانت هذه اللغة في ربيعة ومضر. - والكسكسة: وهي إلحاق كاف الخطاب للمؤنث سينًا عند الوقف؛ فيقولون: أعطيتكِس، وهي لغة هوازن.

- والعنعنة: وهي جعل الهمزة المبدوء بها عينًا؛ فيقال في أنك: عَنَّك، وقد كانت هذه اللغة في قيس وتميم. - والعجعجة: وهي جعل الياء المشددة جيمًا؛ فيقولون في النسب إلى تميم: تميمجّ، وهي لغة قضاعة، وقد خلت قريش من ذلك كله وغيره مما عيبت به اللغات الأخرى؛ فرجحت على باقي لغات العرب. وننتقل الآن إلى الحديث عن: الترجيح بين مذهبي البصريين والكوفيين: إن البصريين هم أئمة النحو، وقد شغلوا به نحو قرن من الزمن، والكوفة مشغولة عنه برواية الأشعار والأخبار، وقد وصف البصريون بأنهم أصح قياسًا؛ لأنهم لا يلتفتون إلى كل مسموع ولا يقيسون على الشاذ، كما وصف الكوفيون بأنهم أوسع رواية لأنهم أكثر اطلاعًا على أشعار العرب. وقد ذكر السيوطي أن أبا حيان قد رجح مذهب الكوفيين على البصريين في مسألة العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار؛ إذ منعه البصريون وأجازه الكوفيون؛ لأنه قد ورد في كثير من الكلام العربي الفصيح، ومنه قول الشاعر: فاليوم قرَّبت تهجونا وتشتمنا ... فاذهب فما بك والأيامِ من عجب وقد ذكر أبو حيان علة جواز ذلك بقوله: الذي يختار جوازه لوقوعه في كلام العرب كثيرًا نظمًا ونثرًا، ومعنى ما ذكره: أن الدليل هو الذي يرجح مذهبًا من المذاهب على آخر. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

§1/1