أصول الدعوة وطرقها 2 - جامعة المدينة

جامعة المدينة العالمية

الدرس: 1 من أخلاق الدعاة إلى الله.

الدرس: 1 من أخلاق الدعاة إلى الله. بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الأول (من أخلاق الدعاة إلى الله) 1 - مِن صفاتِ الدّعاة التعريف ببعض الكلمات التي لها صِلة بالدّعوة إلى الله على بصيرة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه، ومَن دعا بدعوته إلى يوم الدِّين. أما بعد: الدّعوة إلى الله على بصيرة. ومِن الصّفات التي ينبغي أن يتحلّى بها الدّعاة إلى الله، وأن تكون مِن مُقوِّمات شخصيّتهم هي: الدّعوة إلى الله على بصيرة. فإنّ من خصائص دعوة الإسلام: أنّ عقائده وتشريعاته جليّة واضحة وضوح الشمس في الأفق، نقيّة بيضاء كنقاء اللّبن، صافية كصفاء السماء، ليس في عقائده لَبس يُحيِّر العقول، ولا طلاسم وألغاز تتيه بين ضبابها النفوس، ولا أمور غامضة يقِف القلب حيالها تائهاً حيراناً، كما هو الحال في الأديان والنِّحل والفلسفات الأخرى التي تُجبر أصحابَها على اعتناقها دون تبصّر وتدبّر. وحينما فشلوا في فهْمها، وعجزوا عن تعقُّل نصوصها، ركلوها جميعاً، وحصروها في الكنائس والبِيَع والأدْيرة، ومعابد الكهّان والرّهبان، وتركوها تلفظ أنفاسها في نسيان وصمت. أمّا الإسلام العظيم، فآياته بيِّنات ودلائلُه واضحات، تدركه العقول لأوّل لحظة، وتطمئنّ له القلوب، وتنشرح له الصدور، بمجرّد سماع آياته أو التّعرّف على أحكامه؛ قال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}. ولم ينتقل الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى الرّفيق الأعلى إلاّ بعد أن بلّغ الإسلام وأبان الحجّة، ووضّح العقيدة وضوحاً جلياً، وطبّق الشريعة، وأقام الحدود، ودخل الناس في

دين الله أفواجاً، وترك -صلى الله عليه وسلم- أمّته على الحنيفيّة السمحاء والمحجّة البيضاء، ليْلُها كنهارها لا يَزيغ عنها إلاّ هالك. ونزل قول الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً}. وتُوِّج القرآن الكريم بآخر سورة نزلت، وهي سورة (النصر)، قال تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً}. وما تمّ ذلك النّصر والفتح إلاّ لِكوْن الدّعوة إلى الله تُلامِس الفِطَر النّقيّة والعقول السليمة، من خلال الدلائل الواضحة التي لا يَسَع البشَرُ إزاء جلائها وظهورها سوى الدّخول في الإسلام مُختارِين طائعين؛ قال تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}. وفي هذه المحاضرة، سوف نوضّح الأساس والمنهج الذي مِن خلالِه انتشر الإسلام، وارتفع لواؤه في العالَمين، ونضع هذا المنهج أمام الدّارسين والدّعاة، والذي جاء في قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}. وسوف تتضمّن هذه المحاضرة العناصر التالية: العنصر الأول: التّعريف ببعض الكلمات التي لها صلة بالدعوة إلى الله على بصيرة، لكي نتعرف على أسس ومقوّمات الدّعوة على بصيرة واضحة وأدلّة ناصعة، كما جاءت في القرآن الكريم. ينبغي علينا أن نرجع لمصادر اللغة العربية نسترشد بها في تفهّم معاني الكلمات الآتية:

1 - البصر والبصيرة. "البصر": حسّ العيْن وحركتها للرؤية، وتُجمع على: أبصار؛ قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}. والبَصر من القلب: نظَره وخاطِره؛ قال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}، وقال تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ}. و"البصيرة": عقيدة القلب، والفِطنة، والحجّة، وتُجمع على: بصائر؛ قال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ}. يقول ابن كثير -رحمه الله-: "البصائر: هي البيِّنات والحُجج التي اشتمل عليها القرآن الكريم وما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم-". هذه البصائر التي تتجلّى في الأنْفُس والآفاق، أو من خلال آيات القرآن الكريم وهدْي الرسول -صلى الله عليه وسلم-، تُحقِّق الهداية والرحمة لأولئك النّفر من البشَر الذين وصَفَهم الله -تبارك وتعالى- في قوله: {هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}. وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}، أي: عبرةً وعظةً. وقال تعالى: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}. وقال تعالى: {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ}. والمنيب: هو العبد الخاضع، الخائف الوَجِل، الرّجّاع إلى الله -عز وجل-.

فقد بيّنتْ هذه الآيات مَن هُم الذين يُدركون تلك البصائر التي تَنطق بالأدلّة على دلائل القدرة، وآيات العظمة التي تستوجب الإيمان بوجود الله، وتفرّده بالوحدانية، واستحقاقه للعبوديّة الخالصة. إنها صفات: الإيمان، والتّذكّر، واليقين، والرجوع إلى الله. مَن اتّصف بتلك الصفات، تتجلّى له الحقيقة بيضاء ناصعة، ولامس الإسلام شِغاف قلبه، وتعمّق في وجدانه ومشاعره. 2 - البرهان: هو الدليل القاطع للعُذر، والحُجّة المزيلة للشُّبْهة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً}. ولقد طلب القرآن الكريم من المستكبِرين والمعانِدين أن يُقدِّموا البراهين والأدلّة على صدْق مَزاعِمهم الفاسدة وعلى صحّة معتقداتهم الباطلة، فما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً. ومن ذلك: ما اعتقده اليهود والنصارى من اقتصار الجنّة عليهم، وزعْمهم الباطل ألّنْ يدخُلَها غيرُهم، فطالَبهم الله بالبرهان والدليل؛ قال تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}. وقال تعالى عن عُبّاد الأصنام والمُتّخِذين من دون الله آلهة، بدون برهان أو دليل: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ}. 3 - الحُجّة -بالضّم-: البرهان، والمِحْجاج: الجَدِل، والتّحاجّ: التّخاصم. وتُجمع على: حُجَج، وهي: أن يَطلب كلّ واحد أنْ يرُدّ الآخَر عن حُجّته ومحجّته.

قال تعالى: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}. يقول الله لنبيّه -صلى الله عليه وسلم-: قل لهم يا محمد: فلله الحُجة البالغة، أي: الحِكمة التّامّة، والحجة البالغة في هداية من هَدى، وإضلال من ضلّ. ومن ذلك: قوله تعالى للرسول -صلى الله عليه وسلم-، حينما جادله وفْد نصارى نجران في حقيقة سيدنا عيسى -عليه السلام-: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}. وقد بيّن القرآن الكريم: أنّ كثيراً من الناس حُججُهم داحضة وأدلّتُهم كاذبة؛ وهذه ظاهرة متواجدة في كل زمان ومكان، كما يشاهِده العالَم الإسلامي من حُجج الغرب الباطلة وأدلّته الكاذبة، على العدوان على العالَم الإسلامي، واختلاق الأسباب للهيمنة بأعذار ودوافع واهية، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ}. 4 - البيِّنة: "البيان": بان بياناً: اتّضح فهو: بَيِّن. وبِنْتُه -بالكسر-، وتبيّنْتُه، وأبَنْتُه، واستبَنْتُه: أوضحْتُه وعرَفْته. فالبيان: الإفصاح عن ذكاء، والبيِّن: الفصيح؛ ولذلك كانت نِعمة البيان من أعظم النِّعم التي أنعم الله بها على الإنسان؛ قال تعالى: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}. وهو وسيلة الرّسل لتبليغ دعوة الله، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.

والقرآن الكريم تنزّل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بلسان عربيٍّ فصيح مُبين، أي: ظاهر واضح مُحكَم قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}. ولقد أخذ الله العهد والميثاق على أهل الكتاب على تبيين الناس الحق، غير أنهم خانوا العهد، وامتنعوا عن البيان، وحرّفوا أديانهم، ونبذوا كتبهم؛ قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ}. والبيان في الدعوة الإسلامية مرتبط بالحِكمة ارتباطاً وثيقاً، وكذلك في دعوات الأنبياء جميعاً؛ وقد تحدث القرآن عن عيسى -عليه السلام- قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}. والقرآن الكريم يضُمّ بين سُوَره سورةً قصيرة، عددُ آياتها ثماني آيات، تتحدّث عن البيِّنة والأدلّة والبراهين التي جاء بها القرآن الكريم، وتلاها عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في صُحفٍ مطهّرة. وبيّنتِ السّورة موقفَ كلّ من المسلمين والكافرين مِن البيِّنات التي جلاَّها وأظهرها القرآن الكريم, وأعلنها الرسول -صلى الله عليه وسلم-. ولقد طال الحديث عن البيِّنات باعتبارها أحد معالم الدّعوة إلى الله، والمنهج الحقيقيّ الذي ينبغي أن يَسلكه الدّعاة في دعْوتهم. 5 - الدليل: هو الذي يدلّ الناس على الشيء، خيراً كان أو شراً، ويتتبّعون خُطاه، ويَقتفون أثَرَه، ويثِقون فيه، لِخبْرته ومهارته؛ فهو: المُرشد الأمين. ومن ذلك: ما حكى القرآن عن أخت موسى، حينما دلّت فرعونَ وزوجَه على مُرضعة لموسى، ولم تكن سوى أمّه، قال تعالى: {فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ}.

بيان السبل والوسائل التي تعين الدعاة على الدعوة إلى الله على علم وبصيرة.

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}. وقد يكون الدّليل ماكِراً خبيثاً يورِد مَن اتّبعوه موارد التّهلكة، كما دلّ الشيطان آدمَ وزوْجَه على الأكل من الشجرة، قال تعالى: {فَدَلاّهُمَا بِغُرُورٍ} وقال: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَ يَبْلَى}. فممّا سبق، يتّضح من قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي}: أنّ طريق الدّعوة إلى الله والسبيل الذي يوصل إلى سعادة الداريْن، يقوم على البصيرة التي تعتمد على البراهين النّقليّة من الكتاب والسّنّة، والعقلية التي تعتمد على العقل والفكر، وعلى الحُجج الواضحة، والبيان البليغ، والدليل الواضح، وأنّه لا نجاح للدّعاة إن لم يتمرّسوا على تلك الأساليب التي تَقطع الحُجج، وتُفنِّد المزاعم، وتُظهر الحقائق؛ قال تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلاَّ الظَّالِمُونَ}. وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ}. أما عن كيفية وصول الدّعاة إلى هذا المستوى الرفيع، فهذا ما سنتاوله في العنصر الثاني. بيان السُّبل والوسائل التي تُعين الدّعاة على الدّعوة إلى الله على علْم وبصيرة كما سبق أنْ أوضحنا: إنّ الدّعوة إلى الله ليس عملاً مرتجَلاً، أو انفعالاً عاطفياً يفيض بالحماس، ويشتعل وميضُه لحظات ثم ينطفئ ويخمد، وإنّ ساحة الدّعوة في معظم أقطار العالَم الإسلامي تقوم على الارتجال، وردّ الفعل العاطفي الغير مدروس. كما يفتقد ميدان الدعوة إلى الترابط بين مؤسّساته، والتنسيق بين هيئاته؛ فكلّ يعمل في وادٍ بعيد عن الآخر، فضلاً عن ضعف مستوى الأداء. هذا مع ملاحظة تفوّق الأجهزة الإعلامية الأخرى تفوّقاً ظاهراً وملموساً، ونجحت في انتزاع الناس من أحضان المساجد والدّعاة، وألْقت بهم في مستنقَعات الفنّ الهابط والأدب الرخيص.

وإنّ الدعوة التي على علْم وبصيرة تستوجب الأمور التالية: أولاً: تحديد الأهداف. إنّ كل شيء في الكون يسير وفْق غاية مقصودة وهدف منشود، خلَقه الله لذلك. وإن النظام البديع في الكون هو مرآة تدلّ على أنّ كل شيء فيه له هدف. والدّاعي إلى الله يجب عليه: أن يُحدِّد الهدف من دعْوته، وتحديد الهدف يدفعه إلى أن يكون مرتّباً في كلامه، منطقياً في حديثه. وإنّ ما يَحدُث في مضمار الدّعوة الآن، مِن عدم تحديد الأهداف ووضوحها، حيث يَتَشتّت ذهن المستمع في موضوعات شتَّى وفي أمور متنوِّعة، تجْعله ينصرف عن الدّعاة، لأنه لم يجد لديْهم هدفاً مُحدّداً. ولقد حدّد الله -سبحانه وتعالى- الهدَف من خلْق الإنسان والجانّ في آية واحدة، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ}. وحدّد القرآن هدفَ الإنسان في هذا الكون، وأرشد إلى رسالته في الحياة، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}. ولقد حدّد -صلى الله عليه وسلم- مضمونَ رسالته، والغايةَ منها، منذ أول يوم، حينما وقف على جبل الصفا ينادي أهله وعشيرته قائلا: ((إنّ الرائد لا يَكذب أهلَه. والله الذي لا إله إلاّ هو! إنِّي رسولُ الله إليكم خاصّة، وإلى الناس عامّة. والله لتموتُنّ كما تنامون، ولتُبعثُنّ كما تستيقظون، ولتحاسَبُنّ بما تعملون. وإنها لجنّة أبداً أو النار أبداً)).

ثانيا: تنظيم الأهداف. لكي تكون الدّعوة إلى الله على هدىً وبصيرة، فينبغي تنظيم العمل الإسلامي وتحديد أولويّاته، وأن ينظر الدّعاة فيمن حولهم ويتساءلون: ما الذي يجب أن يَبدؤوا به معهم؟ وما هي الجُرعات المناسبة في الوعظ والإرشاد التي ينبغي أن تُقدَّم؟ وأن يعقب ذلك دراسة واعية للظروف الاجتماعية، والاتّجاهات المضادّة للأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، ومدى مواجهتها؟ وبأيّ درجة من درجات التغيير التي حدّدها -صلى الله لعيه وسلم- يبدأ بها؟ إن استباق بعض المراحل، وتقديم البعض على البعض دون ترتيب وتنظيم، يُخلّ بالعمل الإسلامي. وحينما ينظر الدّعاة والدارسون لتطوّر مراحل الدّعوة، نجد أنها مرّت بالمراحل التالية: المرحلة الأولى: من بدْء الوحْي في غار حراء حتى قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُون}. وفي هذه المرحلة كانت الدعوة إلى الإسلام تنتشر بهدوء، لا تلتفت لها الأنظار، واقتصرت على مُحيط الزوجة السيدة خديجة -رضي الله عنها-، وبعض أبناء عمومته كعليّ -رضي الله عنه-، وعدد من أصدقائه المقرَّبين وفي مقدّمتهم أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-. كما انتشر نور الإسلام إلى قلوب بعض المستضعَفين في مكة، كبلال، وعمّار بن ياسر، ووالده، ووالدته، وعبد الله بن مسعود. وانتحى الرسول -صلى الله عليه وسلم- ناحية بعيدة عن أنظار القوم من دار الأرقم بن أبي الأرقم، يُعلِّم أتباعه. واستمرّت هذه الفترة زهاء ثلاث سنوات. المرحلة الثانية: تبدأ من لحظة وقوفه -صلى الله عليه وسلم- على الصفا، يُعلنها صريحة بعدما أمَره الله بذلك، قال تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ}.

وهذه المرحلة من أخطر مراحل الدّعوة إذ تمّت المواجهة بين الدِّين الجديد ومعتقَدات الآباء والأجداد. وتجلّت في هذه الفترة شجاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وصبر أصحابه على الأذى، ورفْض المساومة على الدّعوة، وتحمّل المقاطعة الاقتصادية والاجتماعية في شِعب أبي طالب، حتى أكلوا أوراق الشجر. وتخلّل هذه المرحلة هجرة بعض المسلمين إلى الحبشة، وخروج الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى الطائف. المرحلة الثالثة: تبدأ من الإسراء والمعراج، حتى الإعداد للهجرة والخروج من مكة المكّرمة إلى المدينة المنورة. ولقد اتّسمت تلك المرحلة بانتشار الإسلام بين أهل يثرب -الأوس والخزرج-، وبَيْعتَي العقبة الأولى والثانية، وما تمّ فيهما من عهود ومواثيق بين الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه. ولقد كانت أحداث الهجرة ووقائعها صورةً رائعة للإعداد الجيِّد، والتنظيم الدقيق المتقن الذي يأخذ بكلّ الأسباب، ثم يترك الأمور لله يُصرِّفها كيف يشاء. المرحلة الرابعة: تبدأ من الهجرة وتأسيس المجتمع المسلم على ثلاث قواعد، وهي: 1 - علاقة المسلم بخالِقه، وذلك من خلال بناء مسجد قباء، ومسجد الرسول -صلى الله عليه وسلم- في المدينة. 2 - توثيق العلاقة بين المهاجرين والأنصار بالمؤاخاة بينهم. 3 - تأسيس العلاقة بين المسلمين وأهل الكتاب، من خلال عقد معاهدة بين المسلمين واليهود ونصارى نجران.

المرحلة الخامسة: وتبدأ من لحظة إعداد المسلمين للدّفاع عن الدّعوة، والانتقال بهم من مرحلة الصبر والصفح والعفو حتى عن المسيء، إلى مرحلة الاستعداد للدِّفاع عن الإسلام وردع العدوان وكسْر شوكة الكافرين. واتّسمت تلك المرحلة -والتي استمرت ثماني سنوات- بالعديد من المعارك، كان من أهمِّها: بدر، وأحُد، والخندق. وكانت سرايا الاستطلاع تجوب الجزيرة العربية، وترقب تحرّكات المشركين. واستمرت هذه المرحلة حتى فتح مكة في العام الثامن من الهجرة. المرحلة السادسة: تبدأ من بعد فتح مكة وحتى انتقال الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى الرفيق الأعلى. وفي هذه المرحلة، توالت التشريعات لبناء الدّولة الإسلامية من خلال ما جاء في القرآن الكريم وسُنّة الرسول -صلى الله عليه وسلم- القوليّة والفعليّة. وغدا الإسلام قوّة دانت له الجزيرة العربية، وصالحَتْه أطرافُها. وأرسل الرسول -صلى الله عليه وسلم- الرّسُل إلى الملوك والأمراء، وعلى رأسهم كسرى ملِك الفُرس، وهرقْل إمبراطور الروم، والمقوقس عظيم القبط في مصر. وبدأ الإسلام يمدّ أذرعته خارج الجزيرة العربية. هذه المراحل تُنبئ عن تنظيم الأهداف وترتيبها، في إعداد مرتبط بوحي السماء، وحِكمة خير الأنبياء. وحينما نضع هذه المراحل بين أيْدي الدّارسين والدّعاة، إنما نهدف من ذلك: أن نُلفت الأذهان والعقول إلى أنّ الدعوة إلى الله على بصيرة توجِب الإعداد الجيِّد، والعمل المنظّم، كما تعمل الأمّة بكلّ مؤسّساتها التربوية والثقافية والتعليمية والإعلامية على إعداد رعيل من الدّعاة يفقهون دين الله، وعلى علم وبصيرة

تعريف "الصبر" في اللغة والاصطلاح.

بأمور الدّعوة إلى الله، وأن تكون لديهم الكفاءة العلمية والخبرة بأحوال الناس وبقضاياهم؛ قال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ}. وقال تعالى: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}. هذا، وبالله التوفيق. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. 2 - من أخلاق الدّعاة إلى الله تعريف "الصّبر" في اللغة والاصطلاح الحمد لله رب العالمين، بَشّر الصابرين بالفوز والنجاة يوم الدِّين، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين وإمام الدّاعين والمرسلين، ورحمة الله للناس أجمعين. أما بعد: الصّبر: 1 - "الصّبْر" في اللغة: حَبْس النفْس عن الجزَع. والتصبّر: تكلّف الصّبر. وقيل: أصل الكلمة: من الشّدّة والقوّة. وقيل: مأخوذ من: الجمْع والضّمّ؛ فالصابر يجمع نفسه ويضمّها عن الهلع والجزع. قال ابن القيم -رحمه الله-: والتحقيق: أنّ في الصبر المعاني الثلاثة: المَنْع، والشّدة، والضّم. 2 - و"الصّبر" بالمعنى الاصطلاحي هو: قوّة خُلُقية من قوى الإرادة الإنسانية، تُمكِّن الإنسان من ضبط نفسه لتَحمّل المتاعب والمشاقّ والآلام، وضبْطها عن الاندفاع بعوامل الضّجر والجزع، والسّأم والمَلل، والعجلة والرّعونة، والغضب والطيش، والخوف والطمع، والأهواء والشهوات والغرائز". وقال الإمام أبو حامد الغزالي: "الصّبر: عبارة عن ثبات باعث الدِّين في مقاومة باعث الهوى".

مجالات الصبر وميادينه.

3 - فائدة الصّبْر: الصّبر يخلق في الإنسان تريّث العقل، فلا يندفع ويتسرّع في الحُكم على الأشياء. ويُؤدِّي إلى اطمئنان القلب، فلا يتزلزل في مواطن الشّدّة، ولا يجزع عند البلاء. ويُضفي على النفْس الصفاء والهدوء والثبات، فلا يُعكِّر صفْوَها كدرُ الحياة ومتاعب الدنيا. ويولِّد الأمل والرّجاء والتفاؤل وانشراح الصدر وثبات الجأش. الصبر يدفع الإنسان لوضع الأمور في مواضعها بعقل واتّزان، يأخذها بحكمة وثاقب نظَر، وسداد رأي، وتبصرة بالعواقب، وتحسب للنتائج. 4 - نتائج فقدان خُلُق الصبر: الإنسان الذي تخلو أخلاقه من فضيلة الصبر يتّسم بالتّسرّع والاندفاع، ممّا يُؤدِّي به إلى التهلكة، بسبب اتخاذه لقرارات رعناء، ومواقف متعجِّلة غير مدروسة، ممّا يُؤدِّي لليأس والقنوط، والتحيّر، والعجز عند مواجهة الشدائد. كما أنّ الشخص الذي يفتقد خُلُق الصبر يعيش في توتّر عصبي وقلق نفسي، حينما يواجه خبراً أو موقفاً طارئاً؛ فهو سريع الانفعال، شديد الغضب، يتّسم بالتضجّر وعدم التّحمّل، ممّا يحمل بين ثناياه آثاراً ونتائج غير محمودة العواقب. مجالات الصّبر وميادينه للصبر مجالات كثيرة في ميادين الحياة التي تتطلّبه؛ ومن ذلك: أولاً: ضبط النفْس وحبْسها عن الضيق والحزن عند حلول المصائب، كموت عزيز، وفقدان مال، أو ضياع متاع، أو مرض عضال، أو تعطل حاسّة من الحواسّ. قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ

رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}. ومن وصايا لقمان لابنه: ما جاء في قوله تعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}. وعن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه-، أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((يقول الله تعالى: ما لِعبدي المؤمن عندي إذا قبضتُ صَفيَّه من أهل الدنيا، ثم احتسَبه، فهو من أهل الجنة))، رواه البخاري. وعن أنس رضي الله تعالى عنه، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إنّ الله -عز وجل- قال: إذا ابتلَيْتُ عبدي بحبيبَتيْه فصبر، عوّضْتُه منهما الجنّة))، يريد: عيْنيْه. رواه البخاري. ومن نتائج الصبر على المصائب أمران: الأول: تكفير الخطايا والسّيِّئات. وهذا رحمة من الله بتعجيل العقوبة على الذنوب في الدنيا. فعن أبي سعيد وأبي هريرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((ما يُصيب المسلمَ من نَصَبٍ، ولا وصَبٍ، ولا همٍّ، ولا حزنٍ، ولا أذىً، ولا غمّ، حتى الشوكة يُشاكُها، إلاّ كفّر الله بها من خطاياه))، رواه الشيخان. وعن أبي هريرة -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ما يزال البلاءُ بالمؤمن والمؤمنة، في نفْسِه وولدِه ومالِه، حتى يَلقى الله تعالى وما عليه خطيئة))، رواه الترمذي وقال: "حديث حسن صحيح". الأمر الثاني: منْح الأجْر على الصّبر. وهذا الأجر يتضاعف ويتكاثر كلّما كان الصبر أجمل وأشمل، والجزع أقلّ وأضعف. فمن الثواب، ولا سيما إذا ارتبط الصبر بحُسن العبادة والطاعة: سلام

الملائكة في الجنّة على الصابرين. قال تعالى: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}. وقال تعالى: {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. وقال تعالى: {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ}. وقال تعالى: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً}. وقال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}. ثانياً: الصّبر في ميادين القتال عند لقاء الأعداء. إنّ من مجالات الصّبر وميادينه: الصّبر عند اللقاء؛ فهو أهمّ مقوّمات النصر على الأعداء. فإن الظفر مع الصبر، ومغالبة العسر والشدّة يعقبهما فرح ويُسر. فالمرابطة في سبيل الله، والسهر على حراسة الحدود والثغور، في برد الشتاء وزمهريره، وحرارة الصيف وقيظه، بين وهج المعارك وأزيز الطائرات وأصوات المدافع: مواطن ومواقف لا يثبت فيها إلاّ المؤمن المتسلِّح بالإيمان، المتخلِّق بالصبر. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. ومن توجيهات القرآن الكريم للمجاهدين في سبيل الله: أمور هي مفتاح النصر، ومنها: الصبر في ميادين القتال عند لقاء الأعداء، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا

لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}. والعدد القليل المتسلِّح بفضيلة الصّبر يُحقِّق النصر على الكثرة المذعورة التي لا تصبر في ميادين الوغى ولهيب المعارك وقعقعة السلاح، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ * الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}. ولذلك كان دعاء الجيوش المؤمنة عبر التاريخ أثناء لقاء الأعداء، هو ما جاء في القرآن الكريم على لسان طالوت وجنوده، قال تعالى: {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ}. ثالثا: الصّبر في ميادين الدّعوة إلى الله. لقد خلَق الله الخلْق متفاوتين في العقول، مختلفين في التفكير، متمايزين في المشاعر والعواطف، تتصادم مصالحُهم وتتنازع رغباتهم، وتختلف نظرتهم للأمور وحُكمُهم على الأشياء بدرجات كبيرة، واستجابتهم للنصح والإرشاد والتوجيه يختلف اختلافاً شاسعاً. وهذا الاختلاف في المشارب والأهواء سُنّة من سُنن الله في الخلْق والتكوين، قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}. وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.

فالتمايز في العقول وفي السلوك، والتّباين الشديد في المعتقَدات والمذاهب والآراء، يوجب على مَن يَنزل ساحة الدّعوة إلى الله، ويتشرّف بحمْل لوائها، أن يتّصف بالصبر والحِلم وسعة الصدر؛ فلا يضيق صدراً بمَن خالَفه، ولا يحزن لِمن هاجمه بالقول. ولْيحبِسْ آلامَه حينما يعتدي عليه أحد. وينبغي ألاّ يتسرّب اليأس إلى نفسه حينما يجد صدوداً أو إعراضاً. وينبغي أن لا يعرف العجزُ والقنوط والفشل طريقاً إلى قلبه، حينما يُضيَّق الخناق عليه، وتُصادَر كلمتُه ويُقطَع رزقُه. فالابتلاء والاختبار والامتحان كان وسيظل هو طريق الدّعاة إلى الله، قال تعالى: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}. ورسُل الله هم النموذج الفريد والقدوة الحسنة والأسوة الطّيِّبة، في التحمّل والتّحلّي بالصبر، والتّحمّل لأعباء الرسالة ومشاقّ الدّعوة، ومواجهة الموانع، والإعراض بالحِلم وسعة الصدر، ولين الجانب وخفْض الجناح. وسوف نتابع رحلة الأنبياء والمرسلين في رياض الصبر والمصابرة، ونرقُب خطَى سيْرهم في تحمّلهم لكل أنواع العنت، وجميع ضروب المتاعب والآلام، بنفْس سمحة، وقلب رؤوف رحيم، لنضعها أمام أعين الدّعاة ليقتدوا بهم ويسيروا على دربهم في التّخلّق بفضيلة الصبر الذي وصفه -صلى الله عليه وسلم- بـ"الضياء"، ووصفه مرة أخرى بأنه: "نصف الإيمان". وهو السّمة المشتركة لجميع الأنبياء والمرسلين، والصفة الغالبة لمن يسلك طريق الدّعوة إلى الله. فعن أبي عُبيد الله خباب بن الأرت -رضي الله عنه- قال: ((شكونا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو متوسِّد بُردة له في ظلّ الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ فقال: قد كان ممّن قبلكم يُؤخذ الرّجُل، فيُحفر له في الأرض، فيُجعل فيها. ثم يُؤتى بالمنشار، فيوضع

على رأسه فيُجعل نصفيْن، ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصدّه ذلك عن دينه. والله! لَيُتِمَّنَّ الله هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلاّ الله، والذئبَ على غنَمه؛ ولكنكم تستعجلون))، رواه البخاري. هذا الحديث يتطابق ويتوافق مع قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ}. وفي شأن صبْر المرسلين وتحمّلهم المشاق والأذى، قال تعالى لرسوله -صلى الله عليه وسلم-: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ}. ولقد تحدّث القرآن الكريم عن نبإ المرسلين في الصّبر والحِلم واللِّين والرِّفق، وأخبر عن أحوالهم في مواجهة المعاندين والمعارضين، ولا سيما أولو العزم من الرسل الذين أمر الله رسوله -صلى الله عليه وسلم- بالتأسي بهم، فقال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ}. وهم خمسة: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، وخاتم الأنبياء محمد -صلى الله عليه وسلم-. وقد نص الله على أسمائهم من بين الأنبياء في سورتَي: (الأحزاب) و (الشورى). قال تعالى في سورة (الأحزاب): {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً}. وفي سورة الشورى، ذكَرهم الله بقوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ}.

الصبر الذي تحلى به أولو العزم من الرسل في ميدان الدعوة إلى الله.

فتكرار ذكْرهم في القرآن الكريم يوجب على الدّارسين والدّعاة: أن يقفوا على سُبل تحمّلهم وأساليب صبرهم. وسوف نعرض لمواقفهم -صلوات الله وسلامه عليهم- في الصبر والمصابرة، والمغالبة، والتّحمّل، في العنصر التالي. الصّبر الذي تحلّى به أولو العزْم من الرّسُل في ميدان الدّعوة إلى الله التعريف اللّغوي لكلمة "عزْم": عَزَمَ على الأمْر: أراد فعْله، وقطع عليه، أوْ جدَّ في الأمْر. وأولو العزْم من الرّسُل: الذين عزموا على أمْر الله فيما عُهد إليهم. وقال الزمخشري: هم أولو الجِدّ والثّبات والصبر. والأنبياء والمرسلون -صلوات الله عليهم أجمعين- من لدن آدم -عليه السلام- أولو عزم وثبات وصبر في الدعوة إلى الله. ولقد جاء في تفسير قوله تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ}: أنّ {مِنْ} بيانيّة تشمل جميع الأنبياء والمرسلين. ويرى جمهور المفسرين: أنّ {مِنْ} تبعيضية تختص ببعض الأنبياء الذين أشار إليهم القرآن الكريم في سورتَيِ (الأحزاب) و (الشورى)، وهم: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى بن مريم، ومحمد -صلى الله عليهم وسلم أجمعين-. وسوف نقصر الحديث في هذه المحاضرة على جانب الصّبر في رسالات هؤلاء الخمسة -صلوات الله وسلامه عليهم-، أمّا عن مناهجهم وأساليبهم في الدعوة إلى الله، فسنُفرد لها محاضرة خاصة في المستوى الثاني -إن شاء الله-. أولاً: نوح -عليه السلام-. هو: أبو البشر الثاني، وأوّل الرسل بعد آدم -عليه السلام-، اصطفاه الله للنّبوّة، واختاره للرسالة، بعد أن انتشرت في قومه عبادة الأصنام، وانحرفت أخلاقُهم إلى الرذائل، واستشرى الظلم والاستبداد والقهر من الأغنياء على الضعفاء.

ونوح -عليه السلام- نموذج فريد من بين الأنبياء والمرسلين الذين تحدّث عنهم القرآن الكريم؛ فقد لبث يَدعو قومه ألْف سنة إلاّ خمسين عاماً، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ}. هذه القرون العشرة زاخرة بالدروس، مليئة بالعِبر، واتّسمت بالصبر والمصابرة، والمجاهدة والمجالدة، والثبات وقوة العزيمة، وأبرزت للدّعاة أدبَ المجادلة وأساليب المحاورة، ونماذج التضحية حتى بالأبناء والأهل في سبيل الدّعوة إلى الله. وقد أشار القرآن الكريم إلى مواقف نوح -عليه السلام- مع قومه في ثمانية وعشرين سُورة، وانفردت سورة كاملة تَحمل اسمه، وهي: سورة (نوح). وسوف نستنبط معالم صبْره -عليه السلام- في مجالات الدّعوة التالية: 1 - الصبر على مواصلة الدّعوة بقوّة نافذة، وعزيمة شديدة لا تعرف اليأس ولا السّأم، في طول مرحلة الدّعوة مدّة تكاد تبلغ الألْف عام. قال تعالى حكاية عنه -عليه السلام-: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَاراً * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً}. 2 - الصّبر على إيذاء قومه، والذي اتّخذ صُوَراً متعدِّدة، منها: أ- تهديده بالقتْل والرّجْم، قال تعالى: {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ}. ب- وصْفه بالجنون، قال تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ * فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ}.

ج- الصّبر على المجادلة والمحاورة، قال تعالى: {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}. د- الصّبر على سخرية قومه واستهزائهم به، قال تعالى: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ}. هـ- الصّبر على فجيعته في زوْجه وولده؛ فالزوجة تابعت قومَها في كفْرهم وعنادهم، قال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ}. أمّا الابن، فقد عصى أمْر والده نوح -عليه السلام-، وركب رأسه واتّبع هواه، واعتصم بالجبال من الماء، فكان من المغرقين. وتحركت فيه عاطفة الأبوّة الرحيمة فدعا ربه، كما قال تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}؛ فامتثل -عليه السلام- لأمر الله، وصبر على قضائه. ثانيا: إبراهيم الخليل -عليه الصلاة والسلام-. حياته ودعوته خير مثال لصبر الأنبياء، وعزيمة المؤمنين، وقوّة الصابرين؛ فقد جمَع صلوات الله وسلامه عليه بين الصبر والحِلم وسعة الصدر، قال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ}. هذا الحِلم والصّبر كان سِمة من سماته ومَعلماً من معالِم شخصيّته، ظهر ذلك واضحاً جلياً لمحاوراته لعُبّاد الأصنام، ومجادلاته لعُبّاد الكواكب، وتصدِّيه بقوّة

للحاكم الظالم الذي ادّعى الألوهية. ويتجلّى الصّبر والحِلم مع أبيه. ويتجلّى في أعظم صُوَره وأسمى معانيه في تنقّله بين فلسطين ومصر ومكّة المكرمة. غير أنّ ما انفرد به وتميّز به في ميدان الصبر وقوة التحمّل، والثّبات ورباطة الجأش، والاستسلام لأمر الله والرضى بقضائه وقَدَره، كان في المواطن التالية: 1 - الصبر وعدم اليأس من الإنجاب والذُّرِّية، وقد جُوزِي وكوفِئ على صبره بإسماعيل من زوجته هاجر، وبإسحاق من زوجته سارة. 2 - الصبر على الإلقاء في النار، بصبر واطمئنان، وثقة مطلقة بالله، فأنجاه الله منها وخرج سليما معافىً، قال تعالى: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ}. 3 - الصبر على فراق هاجر وإسماعيل، وترْكهما في مكة المكرمة، حيث لا ماء ولا زرع ولا بشَر، ولجأ في هذا الموقف لله، قال تعالى عن لسانه -عليه السلام-: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}. 4 - الصبر الجميل والاستسلام المُطلَق لأمْر الله بذبْح إسماعيل بعد رؤية صادقة، فصبر صبراً ليس في طاقة بشَر أن يتحمّله؛ فمن يطيق أن يُمسك بالسِّكِّين ويذبح وحيدَه وفلذة كبِده، والذي رزقه الله بعد صبر وتلهّف وطول انتظار. ولكنّه أمْر الله الذي لا يُردّ، وطبيعة الأنبياء في المبادرة بالإذعان والإسراع في تنفيذ الأمْر بلا تردّد أو مناقشة. وقد اشترك الابن والأب والأمّ في فضيلة الصبر ومُطلق الطاعة لله؛ فالابن قال: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}. والأب امتثل. والأم استسلمت لأمر الله في وحيدها وقرّة عيْنها.

إنها فعْلاً أسرة صابرة بالفطرة، لا تتصنّع الصبر ولا تتجمّل بالفداء. لقد نجحوا جميعاً في امتحان الصبر والرضى بالقضاء، فكانت المكافأة: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ}. ثالثاً: موسى -عليه السلام-. وهو من أنبياء بني إسرائيل، ومِن أولي العزم من الرّسل الذين خصّهم الله بالعزم القويّ، والصبر الجميل، والتّحمّل الشديد. وحياته -عليه السلام- فيها من العِبَر والفوائد ممّا يضيق المقام عن حصرها، غير أنّ جانب الصّبر في دعوته ظاهر بارز، كشأن إخوانه من الأنبياء والمرسلين. ولقد تعدّدت مراحل حياته منذ ولادته والتقاط آل فرعون له. وفي هذه المرحلة تبرز صورة أمّه والتي أوحى الله إليها أن تُلقي به في البحر. ويربط -سبحانه وتعالى- على قلبها، فتصبر على قضاء ربّها، وتطمئنّ إلى حسْن تدبيره وحفظه تعالى لموسى، قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}. إنها الأمومة الصابرة التي جمعَت بين هاجر، وأمّ موسى، ومريم أمّ عيسى. ثم تتتابع رحلة حياته حينما خرج من مصر، وصبر على آلام الغرية. وتتجلى المواقف الإيمانية التي تتّسم بالصبر في دعوته لفرعون، وصبره على ما لقيه من بني إسرائيل أثناء رحلة الخروج من مصر. ولقد أمَرهم بالاستعانة بالله والصبر والتقوى، قال تعالى: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}.

غير أن بني إسرائيل لم يعملوا بنصيحته ولم يلتزموا بما شرعه الله لهم، وصبر موسى وهارون -عليهما السلام- على تعنّتهم وتجرّئهم على الله، وتطاولهم عليهما. وقد استفاض القرآن الكريم في ذكْر مواقف بني إسرائيل من موسى كثيراً، للتنبيه على خطرهم، وتحذير الإنسانية من شرورهم التي أظهرت الأحداث في هذا العصر إعجاز وصدْق ما أخبر به القرآن الكريم عنهم. رابعا: عيسى بن مريم -عليه السلام-. من أولي العزم من الرّسل، ورسالته هي خاتمة رسالات بني إسرائيل. وهو -عليه السلام- كإخوانه الأنبياء والمرسلين قد تحلّى بالصبر والرحمة. وقد اتضحت معالم دعْوته ومنهج رسالته منذ ميلاده حين أنطقه الله وهو ما زال في المهد صبياً. وقد تحدّث القرآن الكريم عن هذا المنهج في قوله تعالى: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً * وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً * وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً}. وقد صبرت أمه مريم عليها السلام على تلك الألسنة التي تطاولت عليها، وعلى تلك النظرة المريبة التي لاحقتْها أثناء الحمل والولادة. وكان ثمار هذا الصبر الجميل، والتحمل الذي لا يطيقه بشَر: أن تولّى الله عنايتها، وأظهر لها من المعجزات ما ثبّت قلبها وهدّأ من روعها؛ وهذا جزاء الصابرين. قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}. خامسا: إمام الصابرين، أشرف الخلْق وخاتم الرسُل محمد -صلى الله عليه وسلم-. لقد كانت حياته -صلى الله عليه وسلم- وسيرته بعد انتقاله للرفيق الأعلى تجسيداً حياً ونموذجاً فريداً للصبر والحلْم وتحمّل كلّ صنوف الإيذاء والعنت، بنفْس صافية لا تحمل

ضغينة، وقلب مطمئن بالإيمان، مستوثق كلّ الثقة بنصر الله وتأييده. لقد تجمّع صبر الأنبياء جميعاً في صبره، وأفرغ الله عليه من الثبات واليقين وقوّة العزم ورباطة الجأش الذي لا تُحرِّكه شدائد الدنيا بأسرها، وأودع الله بين حنايا نفْسه الرحيمة والحليمة من الحِلْم وسعة الصدر ما وسع أعداءه قبل أصحابه، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}. وسوف نقتطف من رياض صبره -صلى الله عليه وسلم- بعض الباقات التي ترسم صورة رائعة سامية للصبر والمصابرة، والمجاهدة والتحمّل، دون تبرّم أو ضيق أو غضب، الصبر الذي يحمل بين ثناياه أملاً يتجدّد، وتفاؤلاً يُرسل أشعّته على القلوب، فتشعر بالطمأنينة لجانب الله والرضى بقضائه وقَدَره. هذا الخُلق الكريم، والفضيلة المتألّقة بين الفضائل، يُجهد الإنسان نفْسه ويعتصر عقله وفكْره إذا ما أراد حصْر بعضها عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أو استيعاب جزء منها في محاضرة أو عدة محاضرات؛ حيث إنّ مجالات الصبر وميادينه في حياته -صلى الله عليه وسلم- أكثر من أن تحصى، لذلك سأرصد للدارسين والدّعاة بعضاً منها على النحو التالي: 1 - اليُتْم المُبكِّر للرسول -صلى الله عليه وسلم- ربّى فيه ملَكة الصّبر منذ طفولته، ومجابهة الحياة وتحمّل مسؤولية الرِّجال، وهو -صلى الله عليه وسلم- فتىً صغير يرعى الغنم، ليكفل نفْسه ويُعين عمّه أبا طالب. 2 - ما أمره به الحقّ -تبارك وتعلى- في مرحلة التربية والإعداد للدعوة بالصبر، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ}. وقال تعالى في سورة (المزمل)، وهي من أوائل ما نزل من القرآن الكريم: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً}.

3 - مع اشتداد الإيذاء الذي صبّتْه قريش بكلّ صنوفه عليه -صلى الله عليه وسلم- وعلى أصحابه، كانت آيات الصبر تتتابع، إمّا في صورة أمْر، كقوله تعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}. أو في عرض قصص الأنبياء والمرسلين مع أقوامهم، تسلية للرسول -صلى الله عليه وسلم- وتثبيتاً لقليه، واطمئناناً لنفسه؛ فلا تُضعف مواقفُ قومه ولا يوهن عنتُهم وحقدُهم مِن عزيمته، قال تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ}. أو تتوالى الآيات في بيان حُسن ثواب الصابرين، ومن ذلك قوله تعالى: {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. كما ربط القرآن الكريم بين الصبر والجهاد في سبيل الله في أكثر من آية، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. وقال تعال: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً}. والربط بين الصبر والصلاة: دلالة على أهمية كلّ منهما للآخَر، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}. وقال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا}. وقال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ}. أعلن الله محبّته للصابرين، قال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}. من خلال عرض خبر أولي العزم من الرّسُل، وعَبْر حديث القرآن الكريم عن الصّبر، يتبيّن: أنه من الواجب تربية الدّعاة إلى الله على فضيلة خُلُق الصبر في مختلف المواقف التي يتعرّضون لها.

فالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر من لوازمه: الصّبر والتّحمّل. وقد ذكَر القرآن الكريم من وصايا لقمان ما ذكَر الحقّ -سبحانه وتعالى-: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ}. فالربط بين قضية الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر بالصبر على ما يصيب الدّعاة: إشارة لما يمكن أن ينزل بهم من إيذاء وفِتن وابتلاءات. وآيات الصبر في القرآن الكريم والتي جاءت في أكثر من مائة آية تخلق في الدّعاة ملَكات كثيرة منها: 1 - عدم اليأس والقنوط من إصلاح البشَر، فالفطرة الإنسانية مجبولة على الخير، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: ((كلّ مولود يولَد على الفِطرة)). وقد يتأثّر الشخص بعوامل كثيرة؛ فالواجب على الدّعاة ألاّ يفقدوا الأمل في إصلاح النفوس وهداية القلوب. 2 - أن يصبر على ممارسة الدّعوة، ولا يتوقف في مرحلة من مراحل حياته لسبب من الأسباب؛ بل يظلّ عطاؤه متجدِّداً ومُستمِراً. 3 - على الدّاعي أن لا يضيق ذرعاً بالناس، ولا يحنق عليهم، بل يتودّد إليهم ويترفّق بهم، ويحلُم عليهم. 4 - أن يصبر على المعاندين والمعارضين، لعل الله يهديَهم على يديه، فينال بذلك الثواب العظيم؛ يقول -صلى الله عليه وسلم-: ((لأنْ يهديَ الله بك رجُلاً أحَبّ إليك من حُمر النَّعَم)). وهكذا يتبيّن بوضوح وجلاء ما ينبغي أن يتحلّى به الدعاة إلى الله من خُلُق الصبر والحِلم وسعة الصدر. هذا، وبالله التوفيق. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 2 تابع من أخلاق الدعاة إلى الله، والثقافة الإسلامية وأثرها على العالم.

الدرس: 2 تابع من أخلاق الدعاة إلى الله، والثقافة الإسلامية وأثرها على العالم.

تعريف الصدق.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثاني (تابع من أخلاق الدعاة إلى الله، والثّقافة الإسلاميّة وأثرها على العالَم) 1 - من أخلاق الدعاة إلى الله تعريف الصِّدْق الحمد لله، أمَر المؤمنين بالتّقوى والصدق، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}. والصلاة والسلام على الصّادق الأمين، المبعوثِ رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه الذي صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فنالوا رضاه وحُسن مثوبته، ومن سار على درب الصديقين إلى يوم الدين. وبعد: الصدق: هو: القول المطابق للواقع والحقيقة. ويُعرّف أيضاً بأنه قولُ الحقّ. وضدّه: الكذب، وهو عدم مطابقة الخبر للواقع، أو عدم قول الحق. وكما يكون الصدق والكذب في الأقوال، يكون في الأفعال؛ فقد يصدق بعض الدّعاة في تعبيراتهم وانفعالاتهم ومشاعرهم، وقد يكون البعض منهم كمَن يتصنّع أمام الناس أفعال المتّقين، وهو أبعد ما يكون عن التقوى، أو يرتدي ملابس الزهد والقناعة، إخفاءً لما يخفيه من جشع وطمع. ومن أمثلة ذلك: ما حكاه الله في القرآن الكريم من أقوال وأفعال إخوة يوسف -عليه السلام-، حيث جمعوا بين كذِب القول فيما حكاه القرآن الكريم حينما جاؤوا أباهم عشاءً يبكون بكاءً كاذباً، وقالوا كذباً: {يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ}، ثم جاؤوا على قميص يوسف -عليه السلام- بدم كذِب؛ فجمعوا بين كذِب القول وكذِب الفعل؛ قال تعالى: {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ * قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ * وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ واللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَاتَصِفُونَ}. فالآيات الكريمة في هذه القصة توضّحُ كذِب أقوالهم وأفعالهم؛ وهي صفة توارثها اليهود ويُجيدون القيام بها في كل زمان ومكان. وقد أجادوا ذلك خير إجادة في قضية فلسطين.

الأدلة من القرآن والسنة على خلق الصدق وفضله.

ومن قبيل كذِب الأفعال والأقوال: ما يقوم به المراؤون والمنافقون في المجتمع. الصّدق من الأخلاق الفطريّة: يُفطَر الإنسان على الخلال الحميدة والأخلاق الكريمة، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}. ويقول -صلى الله عليه وسلم-: ((كلّ مولودٍ يُولدُ على الفِطْرة؛ فأبواه يهوِّدانه أو يُنصِّرناه أو يُمجِّسانه)). ويظهر ذلك في براءة الأطفال حيث يتحدّثون الصّدق، ولا يكذبون إلاّ بعد تأثّرهم بمن حولهم من أفراد الأسرة والمجتمع. والصدق غريزة فطرية في المؤمن، يظلّ طول حياته، ولا يتخلّى عنه بحال من الأحوال. فقد يتّصف المسلم ببعض الأخلاق غير الحميدة كالطمع والخوف، ولكنه لا يكون كذّاباً. روى الإمام أحمد في "مسنده" عن أبي أمامة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((يُطبع المؤمن على الخلال كلّها، إلاّ الخيانة والكذب)). وروى الإمام مالك في "موطئه"، أنه قيل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أيكون المؤمن جباناً؟ قال: ((نعم))، فقيل له: أيكون المؤمن بخيلاً؟ قال: ((نعم)) فقيل له: أيكون المؤمن كذاباً؟ قال: ((لا)). الأدلّة من القرآن والسُّنّة على خُلق الصِّدق وفضْله 1 - الأمْر به كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}. وقال تعالى: {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ}.

روى الإمامان البخاري ومسلم قولّ الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ((عليكم بالصدق! فإنّ الصِّدق يهدي إلى البِرّ، وإنّ البِرّ يهدي إلى الجنة. وما يزال الرجُل يصدُق ويتحرّى الصِّدق حتى يُكتب عند الله صديقاً. وإيّاكم والكذب! فإنّ الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار. وما يزال الرجُل يكذب ويتحرّى الكذِب حتى يُكتب عند الله كذّاباً)). 2 - الصّدْق خُلُق من أخلاق الأنبياء يجب أن يتحلّى به الدّعاة. فهو من الصفات التي يجب أن يتّصف بها الأنبياء، لأنهم الأمناء على وحْي الله، المُبلِّغين لشرْعه؛ ولذلك جبَلَهم الله على الصِّدق منذ طفولتهم وقبل تنزّل الوحي عليهم، قال تعالى: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ}. ولقد اشتهر -صلى الله عليه وسلم- قبل البعثة بأنه الصادق الأمين، قال تعالى: {وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً}. ولقد تخلّق صحابة الرسول -صلى الله الله عليه وسلم- بالصِّدق، والوفاء بالعهد، والثّبات على الحقّ، فقال تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ}. والعلماء والدّعاة هم ورثة الأنبياء، وحمَلة رسالتهم والمبلِّغون عنهم، ولا سيما الأمّة الخاتِمة التي شرُفت بتحمّل أعظم أمانة وأشرف رسالة، فينبغي أن يتحلّوْا بالصِّدق، ويكونون في أقوالهم وأفعالهم مرآةً صادقة لِما يأمرون به ويدْعون إليه، قال تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ}.

ولِمكانة الصِّدق والصّادقين، فقد جعل الله للمتّقين في الجنة مقعداً خاصاً لهم، يَحمل اسم "الصدق"، به يتميّزون، قال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ}. وقال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى واتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى}. وقد أُمِر الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يُبلِّغ المؤمنين أنّ الصدق من خصائصهم ونسيج حياتهم، يجب أن يكون في كافّة الأمور سواءً مداخلها أو مخارجها، قال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً * وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً}. 3 - الصّدق بين الدّعاة يُعين على النجاح في دعْوتهم إلى الله، ويحمل الأمّة على التّفقّه فيهم. الناس في هذا العصر يتخبّطون في بحار متلاطمة الأمواج من المذاهب والآراء والأفكار، قد تاهت عنهم الحقائق، وأُلبِست عليهم الأمور، وتقطعت بهم سُبُل معرفة الحقيقة، فتعثّرت الخُطى السليمة، وانعدمت الرؤية الصحيحة، وأُلْبِسَ الباطلُ ثوب الحق، فانقلبت المعايير وتغيّرت الموازين. وساعد على هذا الضلال والإضلال: أجهزة الإعلام الحديثة، ولا سيما القنوان؛ فاجتازت الحدود بلا حواجز، واخترقت العقول بلا موانع، واقتحمت البيوت بلا استئذان، مسخِّرة في ذلك بعض العقول ممّا يُطلق عليهم: مفكِّرون ومدقِّقون، والله يعلم أنهم بأقوالهم وسلوكهم عن الفكر المستقيم والثقافة السليمة بعيدون، وقد باعوا دينهم وأوطانهم بثمن بخسٍ أو منصبٍ رخيص، لا يتحرّوْن الصِّدق في أقوالهم، ويفترون الكذب في أحاديثهم، ويُحرِّفون الكلِم عن مواضعه؛ فكذبوا على الله ورسوله وعلى الناس.

وحينما أطلّوا بوجوههم، ولوَوْا بألسنتهم عنق الحقيقة فنالوا من ثوابت الأمّة، وهمزوا ولمزوا في أشرف مقدّساتها وأعظم مصادرها: القرآن والسّنّة، وأعلنوا في وقاحةٍ وعدم استحياءٍ: أنّ الإسلام إرهاب والتّديّن رجعيّةٌ، والفضيلة تخلُّف، والتزام آداب الشرع تزمّت وتشدّد. وأمعنوا في الكذب والإفك، فزعموا -قاتَلَهم الله-: أنّ الإلحاد والعلمانية تحرّراً، وأنّ الانحلال الخُلُقي تقدّماً، وأنّ تبرّج المرأة واختلاطها وسفورها مدنيّةٌ، وأنّ صناعة الكذب في ميادين السياسة وفي العلاقات بين الأفراد والجماعات والدّول وسائلُ حضارية مشروعة. وقد قال الله في أمثال هؤلاء: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}. وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ}. إنّ فكر هؤلاء الأصاغر خيانة، خاصّة إذا صدّقهم الناس؛ فقد روى أبو داود، عن سفيان بن أسد الحضرمي، قال: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((كَبُرَتْ خيانة أنْ تُحدِّث أخاك حديثاً هو لك به مُصدِّق، وأنت له به كاذب)). وقد جاء القرآن بآيات كثيرة تفْضح مَن يزعم الإصلاح وهو يُضمر ويُخطِّط لإفساد المجتمع. وتمزِّق الآياتُ الأردية والأقنعة التي يختفون وراءها. وحديث القرآن الكريم عن هؤلاء في أكثر من موضع: إعجازٌ له، وإشارة إلى أنّ أفاعي العقول والفكر والنفاق لن تخلُوَ منهم المجتمعات الإنسانية في كل زمان ومكان إلى يوم الدين. ومما جاء في ذلك: قوله تعالى في أول سورة (البقرة) التي تتصدّر

المصحف الشريف بعد سورة (الفاتحة): {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لاَ يَشْعُرُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لاَ يَعْلَمُونَ * وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ}. فهل هناك تصوير لآفات الفكر وجراثيم الثقافة من المنافقين والعملاء، أوضحُ بياناً، وأدقُ تفصيلاً، وأوجز كلاماً، من كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديْه ولا من خلْفه، تنزيل من حكيم حميد؟ إنّ وجود هؤلاء على ساحة السياسة والفكر والثقافة، وتجميلهم أمام المجتمعات بأنهم رواد النهضة وزعماء الإصلاح، يوجب على العلماء والدّعاة والغيارى على هذا الدِّين: أن يَنفِروا لِصَدّ تلك الهجمة الشّرسة على الإسلام والمسلمين، وأن يكون الصّدق هو لسان أقوالهم وأفعالهم، يكشفون الحقائق بلا وجَل، ويُحقُّون الحقّ ويُزهقون الباطل بلا تردّد، ويُظهرون شرع الله للأمّة في كلّ المجالات كظهور الشمس في رائعة النهار. وحيثما يتّضح للناس صدْقُ العلماء والدّعاة، ولا يستشعرون من كلامهم رائحة نفاق أو رياء، وأنّهم يقصدون بدعْوتهم وجْه الله -سبحانه وتعالى-، فإن الأمّة ستلتفّ حولهم، وتُنصت لكلامهم؛ وحينذاك

مراتب الصدق.

سيسقط مُدّعو الفكر السقيم، دعاة العلمانية والإلحاد، كأوراق الخريف الجافّة التي يُطوِّح بها الهواء، وتدوسها الأقدام، قال تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ}. مراتب الصِّدق إن لفضيلة الصّدق درجات ومراتب عدّة، كلّها تتضافر وتتعاون على إظهار الحقيقة ساطعة، وعلى إعلان الحق واضحاً، ومَن اتّصف بهذه المراتب كلها فهو: "صِدِّيق"، وهي صيغة مبالغة لكلمة "صَديق". وهي تطلق على الصّديق المُخلص غاية الإخلاص، شديد الحب والوفاء لِمن يُصادقه. ولقد اتّصف بها الأنبياء والمرسلون جميعاً، وقد ذكر القرآن الكريم منهم: إبراهيم -عليه السلام- قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً}، ويوسف -عليه السلام- حينما وصَفَه الملِك، قال تعالى: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ}. وتحدّث القرآن عن إدريس، قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً}. ووصف الله مريم -عليها السلام- في قوله تعالى: {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ}. وتشرّف بهذا اللقب أتباع الأنبياء والمرسلين الذين كانوا صادقين مصدِّقين لهم، وكذلك الشهداء في سبيل الله الذي صدَقت نيّتهم لله، قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}. وقد نال هذا اللقب من صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبو بكر الصديق -رضي الله تعالى عنه- لإخلاصه في الصّدق لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

وقد ضمّ القرآن الكريم من يطيع الله ورسوله مع صفوة الخلْق وخيرة البشر، قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً}. هؤلاء الذين ذكَرهم القرآن الكريم، وأثنى الله عليهم الثناء الحسن الجميل، وأجزل لهم العطاء الكثير، لم يصِلوا إلى هذه المكانة العالية والمنزلة الرفيعة، إلاّ بعد أن تحقّقت فيهم مراتب الصِّدق التالية: المرتبة الأولى: صِدْق النِّيّة والإخلاص فيها: "النِّيّة" لغة: القصْد، يقال: نوى الشيء يَنْويه نِيّة: قَصَده؛ فالنِّيّة هي: الوجه الذي يُذهب فيه. وهي أصل عظيم من أصول الإسلام، وعلى مدار صدْقها والإخلاص فيها يكون الثواب والعقاب. وهي أمرٌ مستورٌ خفيّ لا يعلَمه إلاّ الله -سبحانه وتعالى-، قال تعالى: {قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. وقال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}. وقال تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}. وقال تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}. وقال تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ}.

هذه الآيات وغيرها تؤكِّد في وضوح وجلاء على: أنّ الله -جلّتْ قدرته- يعْلَم حقيقة الإنسان، ويطّلع على ما توسوس به نفسه، قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}. فصِحّة الأعمال وقبولُها أو عدم قبولِها مُتوقِّف على صدْق النّية والإخلاص فيها، قال تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ * أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}. وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}. وعن تعلّق الأعمال وصدْق التّوجّه بالنّية، روي عن أمير المؤمنين أبي حفصٍ عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إنّما الأعمال بالنِّيّات، وإنّما لِكلّ امرئٍ ما نوى. فمن كانت هجْرته إلى الله ورسولِه، فهجْرتُه إلى الله ورسوله. ومَن كانت هجْرتُه لِدنْيا يُصيبها أو امرأة يَنكحها، فهجْرتُه إلى ما هاجر إليه))، متفق عليه. فالأعمال تتحدّد قيمتُها بقيمة النِّيّات الباعثة عليها، أمّا مظاهر الأعمال المادِّيّة، فلا قيمة لها دون صدْق النّية. وقد وضّح المرحوم الشيخ عبد الرحمن الميداني في كتابه القيِّم "الأخلاق" ما يتعلّق بالنية الباعثة على الأعمال"، واستخلص النتائج التالية: 1 - إنّ الأعمال لا يُنظر إليها عند الله إلاّ من خِلال النِّيّات الباعثة عليها، وبِحَسب النّية يجري الحساب والجزاء على الأعمال عند الله -تبارك وتعالى-. 2 - إذا كانت النّياتُ مُخالفةً لظواهر الأعمال، أُلغِيَت الأعمال، وجرى الحساب والجزاء على النِّيّات فقط، كأعمال المنافقين والمُرائين.

3 - إذا وُجِدت النِّيات الجازمات، ولم يقف دون تنفيذ الأعمال إلاّ عقبات أو أعذارٌ خارجة عن إرادة الإنسان، فإنّ مناط المسؤولية حينئذٍ هو النّيات وحْدها، ويجري الحساب عليها كما لو تمّ تنفيذ الأعمال التي تقتضيها. والدليل على ذلك: ما رواه الإمام البخاري عن أبي موسى الأشعري، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إذا مَرِض العبْد أو سافَر، كُتب له بمِثْل ما كان يعمل مُقيماً صحيحاً)). وروى الإمام مسلم عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: كنّا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في غزاة، فقال: ((وإنّ بالمدينة لَرجالاً ما سِرْتُم مسيراً ولا قطعْتُم وادياً إلاّ كانوا معكم، حَبَسَهم المرض))، وفي رواية ((إلاّ شركوكم في الأجْر)). 4 - إذا وُجدت النّيات الجازمات، ولكن لم يتمّ التنفيذ للأعمال التي تقتضيها بسبب يرجع إلى الإنسان نفسه، فإن سيّئاتها لا تُكتب عليه، ويتجاوز الله عنها. فإذا كان ذلك خوفاً من الله وابتغاء مرضاته، فإن الله يكتب له بذلك حسنة. وأمّا حسناتها فتُكتب له في صحيفة على مقدارها دون مضاعفة بخلاف ما لو فعَلها؛ فإنها تُضاعف له أضعافاً، فضلاً من الله وكرَماً. 5 - الخواطر والوساوس معفوٌ عنها، ولا تدخل في حدود العمل المراد ما لم تصِلْ إلى مستوى النّيّة المقترنة بالإرادة الجازمة. ولكن قد يُثاب الإنسان على خواطر الخير إذا كانت ثمرة توجّهه وإرادته؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الله تجاوز عن أمّتي ما وسوسَتْ به صدورُها، ما لم تَعملْ به أو تَتَكلّم))، رواه الشيخان. 6 - الهمّ بالعمل إذا كان هماً بفعْل حسَنة فالله يُثيب عليه من غير مضاعفة، إذا لم يتمّ تنفيذه، ومع المضاعفة الكثيرة إذا تمّ تنفيذه. وإذا كان هم

اً بفعْل سيِّئةٍ فلَه حُكم الوساوس والخواطر المعفوّ عنها؛ فإن الله يتجاوز عنه ولا يُسجِّله على صاحبه، فضلاً وكرماً. والدليل على ذلك: ما روى الشيخان عن أبي هريرة -رضي الله-، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((يقول الله تعالى: إذا همّ عبْدي بحسَنة ولم يعملْها، كتبْتُها له حسَنة؛ فإنْ عمِلها، كتبتُها له عشْرَ حسَنات إلى سبعمائة ضِعف. وإذا همّ بسيِّئة فلم يعملْها، لم أكتب عليه؛ فإنْ عمِلها كتبْتُها سيِّئةً واحدة)). وهكذا يبدو من تلك النصوص مدى الأهمِّيّة المترتِّبة على صدْق الّنية؛ إذ إن العمل الإنساني قبل أن يبرز إلى الوجود ويدخل حيّز التنفيذ يَمرّ بالمراحل التالية: 1 - توجّه النفس إلى العمل خيراً أو شراً. 2 - الرغبة في القيام به. 3 - الهمّ بالتنفيذ والتخطيط له. 4 - الإرادة الجازمة التي تدفع إلى التنفيذ. 5 - العقل الذي يقوم بالإعداد إلى كيفيّة التنفيذ والإعداد له. 6 - العزم والذي من خلاله يُقدم الإنسان على ما عزم عليه خيراً أو شراً. هذه الخطوات وتسلْسُلها وتتابعها على النحو المذكور، جاءت في قصة يوسف -عليه السلام- مع امرأة العزيز. وقد أشار إلى مراحل النّية ووجوب الصّدق فيها: الإمام أبو حامد الغزالي في كتابه "إحياء علوم الدين" (4/ 410)، حيث قال عن مراحل النِّيّة: الصّدق في النّية، ثم الإرادة، ثم الصّدق في العزم، ثم الصّدق في الوفاء بالعزم.

المرتبة الثانية: صدْق اللّسان: إنّ نعمة البيان من أعظم النِّعم التي أنعم الله بها على الإنسان، قال تعالى: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}. فاللّسان هو المعبِّر عمّا يجيش به الفؤاد، والنّاطق بما يجول في القلب والفكر والوجدان. وبمَنطِقِه يتمّ التفاهم بين بني الإنسان، والتعارفُ بين الأمم والأوطان. وهو أداة لنقل العلوم والمعارف. وهو أساس البلاغة ومن أمارات الفصاحة، به تُستمال القلوب، وتنقاد الأمم والشعوب. وهو وسيلة الرّسُل في الدّعوة إلى الله، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}. فموسى -عليه السلام- حينما أمَره الله بالذهاب إلى فرعون، دعا الله سبحانه أن يفكّ عقدة لسانه، قال تعالى: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي}. وقد طلَب الاستعانة بأخيه هارون، لفصاحة لِسانه وملَكة بيانِه، قال تعالى: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ}. والقرآن الكريم تنزّل على خاتم المرسلين محمد -صلى الله عليه وسلم- بلسان عربيّ مُبين، قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}. فطلاقة اللّسان بالصّدق، وحُسْن المنطق بالحق، وسلامة التعبير بإظهار الحقيقة، هي دعائم الدّاعي إلى الله؛ فإنّ التأثير في جمهور المسلمين، واستمالتهم

وإقناعهم واحتواءهم، لن يبلغ أثَره في القلوب والنفوس مهما أوتي الإنسان من البلاغة وتصنّع تزويق الكلام وتحسينه، إلا إذا ارتبط بقول الحق ونُطْق الحقّ. وحينما يتوافق صِدْق النّية مع صدْق اللسان، وتتّحد مشاعر القلب وأفكار العقل مع طلاقة اللسان، ببيان أحكام الشرع وآدابه، وبيان الأشياء على حقيقتها، وتقديم النّصح دون خوف أو وجل، وإبداء الشجاعة في الحديث دون مجاملة على حساب الدِّين، وبلا مُزايدة على مصالح الأمّة، ومن غير نفاق ينال الدّاعي به رضى بشَر، ولا رياء يَنفُذ مِن خلاله لمَنصب أو جاه، فإنّ القلوب تطمئنّ لِحديثه، والنفوس تنشرح بكلامه، والأفئدة والعقول تنقاد لتوجيهه وإرشاده. ولأهمِّيّة صدْق اللسان، كان دعاء إبراهيم -عليه السلام-، كما جاء في قوله تعالى: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ}. ولقد استجاب الله دعاءه، بعد صِدق القول في النصيحة لأبيه وقومه، وأعلن اعتزاله لهم، وبُعدهِ عن مواطن أصنامهم، فوهبه الله أبناء وأحفاداً أصحاب ألْسنةٍ صادقة، قال تعالى: {قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً * فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً * وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً}. وقد وصف الله -سبحانه وتعالى- القرآن الكريم أنه كتاب صدْق بلسان عربيّ، قال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَاناً عَرَبِيّاً لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ}. وقد أفصح القرآن الكريم عن خطورة ما يقوم به أهل الكتاب بالكذب على الله، وتحريف الكلِم عن مواضعه، لتحريم حلال أو تحليل حرام، مُمالأة لِحاكم أو

طمعاً في متاع الدّنيا من مالٍ وجاه، قال تعالى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}. ويلحق بهؤلاء نفَر من بعض أبناء المسلمين الذين يتطوّعون لإصدار الفتاوى التي تتناقض وأصول العقيدة، وتتعارض مع ثوابت الشريعة، ويلتقطون الأدلّة الواهية والآراء الضعيفة التي تساند ما يدعون إليه من إفْك وبهتان، قال تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. وإنّ أخطر شيء على الأمّة: أن يستشرى الكذبُ وينتشر النفاق فيها، وأن يكون هناك انفصامٌ وانفصالٌ بين ما يُكنّه القلب وما تُضمره النفس، وبين ما تلوي به الألسنة من كذب، وما تلوكه الأفواه من كلام عارٍ عن الصّدق بعيد عن الحقيقة؛ قال تعالى كاشفاً طوايا نفوس المتخلِّفين عن الجهاد بلا عذر: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً}. ولأهمّية صدْق اللسان، والتحذير من التّحدّث بالكذب، تتابعت أحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- تُحذِّر من فلتات اللسان، وتُنذر من خطورته على الدِّين والفرد والمجتمع، وتوجب على كلّ إنسانٍ أن يصون لسانه عن جميع الكلام إلاّ ما كان فيه المصلحة. يقول الإمام النووي -رحمه الله-: "ومتى استوى الكلام وتَرْكه في المصلحة، فالسُّنّة الإمساك عنه، لأنه قد ينجرُّ الكلام المباح إلى حرام أو مكروه، وذلك كثير في العادة بين الناس. والسلامة لا يَعْدلها شيء".

ومن الأحاديث التي تُلزم اللّسان بالصّدق، وتكفّه عن التّحدّث بغير حق: ما يلي: 1 - فعن أبي هريرة -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: ((مَن كان يُؤمن بالله واليوم الآخِر، فلْيقُلْ خيراً أو لِيَصْمتْ!))، متفق عليه. 2 - عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه-، قال: يا رسول الله، أيُّ المسلمين أفضل؟ قال: ((مَن سلِم المسلمون مِن لَسانه ويدِه))، متفق عليه. 3 - وعن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه-: أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إنّ العبْدَ لَيتكلّم بالكلمة مِن رضوان الله ما يُلقي لها بالاً، يرفعُه الله بها درجات. وإنّ العبْد لَيتكلّم بالكلمة مِن سخط الله تعالى لا يُلقي لها بالاً، يَهوي بها في جهنّم))، متفق عليه. 4 - وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: ((إذا أصبح ابن آدم، فإنّ الأعضاء كلّها تُكفّر اللِّسان تقول: اتّقِ الله فينا! فإنما نحن بك؛ فإن استقمْتَ استقمْنا، وإن اعوجَجْت اعوجَجْنا))، رواه الترمذي. ومعنى تكفِّر اللسان: أي تذلّ وتخضع له. والأحاديث في الأمر بصدْق اللّسان والنّهي عن الكذب كثيرة، فلْيُرْجَع إليها. وللإمام أبي حامد في كتابه "الإحياء" كلام طيّب ومفيد عن آفات اللسان، فليُرجَع إليه. ممّا سبق، يتبيّن لنا في هذه المحاضرة أهمّيّة صدْق الحديث وقول الحقّ في ميدان الدّعوة إلى الله، وأنه يجب على الدّاعية: أن يتحلّى بفضيلة الصِّدْق، وأن يتّصف بالشجاعة في إعلان الحقّ، وأن يتسلح بالإيمان بالله والتّوكّل والاعتماد عليه في منازلة الباطل وحزبه، قال تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}،

تحديد مفهوم الثقافة والتعريف بها.

وأن ينأى الدّعاة عن بيع دينِهم بثمن بخْس، ولو بالدنيا بأسرها، ولا يلبسون الحقّ بالباطل، لهوىً في النفس، ومرض في القلب، أو طمَع فيما بأيدي الحكام، ولا يكتمونه خوفاً وجبناً، قال تعالى: {وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ * وَلاَ تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}. وقد ذكَر القرآن الكريم أنّ جناحَيْ دعوةِ الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقومان على الحقّ والصِّدْق، قال تعالى: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ}. وإذا ما أراد الدّعاة أن تلين لهم القلوب، وتُنصت لهم الأسماع، أن يتخلّقوا بخُلُق النّطق بالحق، والتّحدّث بالصِّدق. هذا، وبالله التوفيق. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. 2 - تعريف مفهوم الثقافة ومكوِّناتها تحديد مفهوم الثقافة والتعريف بها الحمد لله، يؤتي الحكمة من يشاء، ومَن يُؤتَ الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً، وما يذّكّر إلاّ أولو الألباب. وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، علَّم بالقلم، علّم الإنسان ما لم يعْلم. والصلاة والسلام على أشرف الخلْق وخاتم الرّسُل، الذي آتاه الله الحِكمة وفصْل الخطاب، وعلى آله وأصحابه الذين تزوّدوا بالتقوى والعلْم ففَتَح الله بهم البلاد والعباد. أمّا بعد: تعريف كلمة "ثقافة" في اللغة: جاء في "القاموس المحيط" (3/ 162)، حرف الفاء: "الثقافة": مصدر ثَقُفَ -بالضم- ككَرُم، وثَقِفَ كَفَرِحَ، ثَقْفاً، وثَقَفاً، وثقافةً: صار حاذقاً فطِناً، فهو ثِقْفٌ. وامرأةٌ ثَقَافٌ: فَطِنةٌ. وتُستعمل هذه الكلمة كذلك في معنى: الظفر والغلبة، والأخْذ في قوّة، وفي معنى: المصادفة، والإدراك، والتّسوية، والتقويم، والإصلاح، وفي معنى: الوجود. وقد وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم بما يتضمّن هذه المعاني؛ ومن ذلك: قوله تعالى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ}، أي: ظفَرتم بهم.

خصائص الثقافة.

وقوله تعالى: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}، أي أدركتموهم عند القتال. وقوله تعالى: {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً}، أي: وُجدوا. وقوله سبحانه: {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً}، أي: قدروا عليكم. هذا هو المفهوم اللّغوي لكلمة "ثقافة". والمفهوم المعاصر للثّقافة لا يخرج عن المفهوم اللّغوي. تعريف "الثقافة" في الاصطلاح: "الثقافة": مصطلح يستخدمه علماء الاجتماع للإشارة إلى طريقة الحياة الكلِّيّة لشعب من الشعوب. وقد تشير كلمة "ثقافة" في المحادثات اليومية إلى ضروب النشاط في مختلف الميادين. ويرى علماء الاجتماع أنّ ثقافة شَعْب من الشعوب تشتمل على: كلِّ ما صَنعه وابتدعه من الأفكار والأشياء، وطرائق العمل فيما يصنعه ويوجده. فالثقافة تشتمل على المعتقدات، والأعراف، والتقاليد، واللغة، والاختراعات، والآداب، والفنون ... والثقافة ليست فِطريّة في الإنسان، ولا موروثة؛ وإنما يكتسبها بالتّعلّم والتزود بأنواع المعارف، والممارسة والمحاكاة، والتجارب والأسفار. خصائص الثّقافة 1 - الثقافة اكتساب إنسانيّ يتمّ من خلال عملية تسمى: "التنشئة الثقافية".

2 - الشخص يكتسب الثقافة باعتباره عضواً في المجتمع؛ فالحياة الاجتماعية تصبح مستحيلة دون وجود التّفاهم والممارسات المتبادَلة التي يشترك فيها الناس جميعاً، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهَ أَتْقَاكُمْ}. 3 - إن الثقافة كلٌّ مُعقّد، تتمثّل وحداته فيما يُسمَّى: بـ"الملامح والسِّمات الثقافية"، وتسمَّى المجموعات الثقافية المتقاربة: "النمط الثقافي". ويستخدم علماء الاجتماع أحياناً مصطلح "الثقافة الفرعية" إلى مجموعة السّمات الثقافية التي توجد في جماعة واحدة، كثقافة الدّعاة إلى الله، وثقافة الأطباء، وغيرهم ... التّعدّديّة الثقافية: تختلف المجتمعات عن بعضها البعض في مدى انفتاحها على ثقافة غيرها أو انغلاقها على ثقافة نفسها. وقد كان الانغلاق ممكناً قبل تقدّم وسائل الاتصالات والمواصلات، وتطوّر وسائل الإعلام تطوراً مذهلاً، حيث انتهى تقوقع الثقافات وانعزالها، وأصبحت كلّ أمّة تخشى على ثقافتها من الغزو الثقافي الخارجي. ويشهد العالَم الإسلاميّ غزواً ثقافياً واسعاً، وحِصاراً فكرياً مُدمِّراً، حيث سماؤه وأرضه مفتوحتان على مصاريعهما للثقافة الغربية، التي لا يمكن أن تتلاءم أو تتجانس أو تتعايش مع الثقافة الإسلامية، التي تقوم على وحي السماء ورسالات الأنبياء، وسلوك الأتقياء. ولذلك فإنّ أخطر ما تواجهه الثقافة الإسلامية: الدّعوة إلى حوار الأديان ولقاء الثقافات. وليس معنى هذا: انغلاق الثقافة الإسلامية، ووصْد الأبواب في وجه الثقافات الوافدة والغازية؛ فهذا أمرٌ لم يَعُدْ ممكناً، ومنْعه أصبح مستحيلاً. فالأقمار

الصناعية تملأ الفضاء، والقنوات الإعلامية تُغطّي السماء والأرض، وتصل بالثقافات الغربيّة إلى مَخادع الأُسَر. ولكنّ المراد: أن تكون هناك غربلةٌ للثقافة الواردة، فيُقبل منها ما يتلاءم مع ثوابت الإسلام وخصائصه، ويتوافق مع الأعراف والتقاليد الإسلامية. فثقافة العلوم والمخترَعات والتقنيات الحديثة واجب على المسلمين شرعاً: أن ينتفعوا بها، ويتعلّموها ويتثقّفوا بها، وكذلك سائر الصناعات الحديثة وكل وسائل التكنولوجيا المتقدِّمة. أما ثقافة الإلحاد والانحلال، وثقافة الأدب الهابط والفنّ المبتذل، وثقافة الإغراق في المادِّيّات والشهوات، فهي ممنوعة يجب أن توصد في وجْهها الأبواب، ويُرْكل دُعاتُها بالأقدام، لأن هذه ثقافة إشاعة الفاحشة. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}. الفرْق بين الثقافة الإسلامية والثقافة الغربيّة: 1 - تختلف جذور الثقافة الإسلامية في أصل نشأتها وتطوّرها عن الثقافات الأخرى، ولا سيما الغربية منها. فالثقافة الإسلامية تُمثّل ثقافة الفطرة الإنسانية التي خلَق الله الخلْق عليها؛ فهي ثقافة تصون وتحفظ ضروريّات الإنسان الخمْس: الدِّين، النّفس، العقل، النّسل، المال. فشرائع الإسلام ونُظمه، ونصوصه المقدّسة من الكتاب والسُّنّة، وفكْر سلف الأئمة، يكوِّن الوعاء الثقافيّ لفكْر الأمّة وسلوكها نحو المحافظة على هذه الضروريات الخمْس.

2 - الثقافة الإسلامية ثقافة إنسانية ترتبط بالإنسان منذ أن خلَق الله آدم -عليه السلام-، وعبْر مسيرة التاريخ الذي شهد كوكبة من الأنبياء والمرسلين، دعَوْا جميعاً إلى الإسلام، وبيّنوا للإنسانية عظَمة الخالق سبحانه، ودلائلَ قدرته، وبالغ حِكمته. وكلّما انحرف العقل الإنساني وابتعد عن تلك الثقافة الإيمانية، أرسل الله نبياً أو رسولاً على فترات متقاربة أو متباعدة، لتصحيح الفكر، ونتقية ثقافة الأمم وعاداتها وتقاليدها من الشوائب. وظلّ الأمر على هذا النهج، حتى خُتمت النبوات والرسالات بخاتَم الأنبياء: سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-. 3 - الثقافة الإسلامية في جذورها ونشأتها تكوّنتْ على وحي السماء من خلال آيات القرآن الكريم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا مِن خلْفه، تنزيل من حكيم حميد. وكذلك تشكّلت معالِمُها وتحدّدت ملامحها بأقوال الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأفعاله، ممّا جعَلها فكراً وثقافة ينشدان الكمال الإنساني في أسمى صُوَره. ولقد كان اختيار مكة بالذّات مهبطاً للوحي، ثم المدينة عاصمة للدولة الإسلامية، وهما يبعدان كلّ البعد عن الحواضر الكبرى المعاصرة في فارس والروم، ممّا يوحي بالاستقلال التام للثقافة الإسلامية، وأنها تصوغ عقل الأمّة وفكْرَها وثقافتها صياغة مستقلةً عن الحضارات والثقافات الأخرى. وقد نزل القرآن الكريم بالقول الفصل في استقلال الإسلام بكلّ مقوّماته العقائدية والتشريعية والثقافية عن الآخَرين، فقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلاَ أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}. وفي تكرار نفي عدَم العبادة بالمفهوم اللّغوي، وهو عدم الطاعة والخضوع، ممّا يوحي بعدم قبول كلّ فريق بعقيدة الآخَر وثقافته.

ثانياً: جذور الثقافة الأوربية ونشأتها: الحضارة الأوربية الحديثة بِمكوِّناتها الحضارية والثقافية، ترجع إلى جذور الحضارة اليونانية والرومانية القديمة، مع بقايا النصرانية التي لا تَمُتّ بصِلة إلى الدّين الحقّ المنزَل على عيسى -عليه السلام-، وإنما ترجع إلى تعاليم بولس الرسول. ولكي نقف على جذور ومعالم الحضارة الغربية الحديثة ومكوّناتها الثقافية وأخلاقها الاجتماعية، نُلقي نظرة موجزة على تلك الحضارتيْن: أولاً: الحضارة اليونانية القديمة: تُعتبر بلاد اليونان مهْد الحضارة الأوربية القديمة وشرياناً رئيسياً لنهضتها المادية المعاصرة. ولقد اتّسعت تلك الحضارات وامتدّت ثقافتُها لتشمل المستعمرات اليونانية في أوروبا، ومصر، وفلسطين، وسوريا، وآسيا الصغرى وسواحلها. ومِن أشهر المُدن التي كانت مَنبع الحضارة اليونانية القديمة: 1 - مدينة أسبرطة: والتي برز دورها منذ القرن التاسع قبل الميلاد، حينما وُضع دستور يحدّد العلاقة بين أفراد المدينة، كما وُضعت القوانين التي تنظِّم المجتمع الأسبرطي، وتجعله مجتمعاً عسكرياً. ثم ما لبث أن دبّ الخلاف بين أسبرطة وأثينا، فانتصرت عليها وورثت حضارتها. 2 - مدينة أثينا: وهي المدينة اليونانية الثانية التي ورثت مجْد أسبرطة، وانتصرت على الفرس عام (491 ق. م). وقد تشكّلت ثقافتها على أيدي فلاسفة اليونان كسقراط،

وأرسطو، وأفلاطون. ثم ما لبثت أن نشبت الحرب بينها وبين أسبرطة، فأضعفت كلّ منهما الأخرى. وقد قامت على أنقاضهما دولة مقدونيا بقيادة الملك فيليب المقدوني، الذي استطاع توحيد بلاد اليونان عام (357 ق. م)، ثم خلفه ابنه الإسكندر المقدوني عام (336 ق. م). وقد نجح في إنشاء إمبراطورية واسعة الأرجاء، شملت أوروبا وبلاد الشرق. وأجهز على الإمبراطورية الفارسية واحتلّ عاصمتها، ثم فتح آسيا الصغرى، والعراق، والشام، ومصر، وشمال إفريقيا. وبموته عام (332 ق. م) تمزّقت إمبراطوريته، وقامت على أنقاضها الإمبراطورية الرّومانية. عقيدة اليونان وثقافتهم: كانت اليونان أمةً وثنية تُقدّس الطبيعة وتعدِّد الآلهة. جاء في كتاب "قصة الحضارة" ول يورانت (2/ 319): فقد كان لكل أسرة في أيام اليونان القديمة إلهها الخاص، توقد له في البيت النار التي لا تنطفئ أبداً، وتًقرب له القربان من الطعام والخمر. وكانت هناك آلهة متعددة بعدد أيام السنة. وكذلك كان لكل جماعة، بطناً أو عش] رة أو قبيلة إلهها الخاص بها. فهناك آلهة السماء، وآلهة الخصب، وآلهة الأسلاف، والأبطال، والآلهة الأولمبية. أخلاق اليونانيِّين: كانت أثنيا تعترف بالبغاء رسمياً، وتفرض ضريبة على البغايا، وأصبح العُهر في أثينا كما أصبح في مدن اليونان مهنة كثير من الرواد. وكان في وسع الرجل أن يتخذ له فضلاً عن زوجته، خليلة يعاشرها معاشرة الأزواج. يقول أحد فلاسفتهم: "

إننا نتّخذ العاهرات للّذة، والخليلات لصحّة أجسامنا اليومية، والزوجات لِيَلِدْن لنا الأبناء الشرعيِّين ويعتنين ببيوتنا". وكانوا يرون عقم الزوجة كافياً لطلاقها. أمّا إذا كان الرجل عقيماً، فقد كان القانون والرأي العام يُجيزان أن يستعين الزوج بأحد أقربائه، وكان الطفل الذي كان يولد نتيجة هذا الاتصال يُنسب للزّوج نفسه. هذا، بجانب الشذوذ الجنسي، فلقد كانت علاقة الرجل بالغلام، أو الغلام بالغلام في بلادنا اليونان، تمثّل جميع مظاهر الغرام الروائي. فإذا تكلّم أفلاطون عن الحب الإنساني، فإنما يتكلّم عن الحب الجنسي بين الذّكران. ويتفق المتجادلون في محاوراته على نقطة واحدة: أن حب الرجل للرجل أنبل وأكثر روحانية من حب الرجل للمرأة. أما عن مسلكهم في الحروب، فيتّسم بالقسوة والفظاعة؛ فلقد كان من الأمور المألوفة حتى في الحروب الأهلية: أن تُنهب المدن المفتوحة، وأن يقتل جميع الجرحى، وأن يذبح جميع الأسرى، ومن يُقبض عليه من غير المحاربين أن يتخذوا عبيداً إذا لم يفتدوا، وأن تُحرق البيوت وتقلع أشجار الفاكهة والمحصولات الزراعية، وأن تباد الحيوانات وتُتلف البذور لكيلا تزرع. هذه الصورة من الانحراف الخُلُقي والسلوك الشهواني والطبيعة العدوانية هي التي تشكل الثقافة الأوروبية المعاصرة. الحضارة العلْمية اليونانية: بجانب هذه الأحوال الجاهلية في العقائد والعبادات، فإن التاريخ الإنساني قد وعى وحفظ أسماء بعض المفكّرين اليونانيين الذي كان لهم دور بارز في مضمار

الفكر، وميادين المعرفة في الفلسفة والمنطق، والرياضيات والطب والفلَك. وكان رواد هذا الفكر: 1 - سقراط المولود عام (476 ق. م). 2 - أفلاطون المولود عام (427 ق. م). 3 - أرسطو طاليس المولود (385 ق. م). 4 - الطبيب أبقراط المولود عام (430 ق. م). آثار الفكر اليوناني على الحضارة والثقافة الأوربية: انتقلت وثنية اليونان إلى النصرانية المحرّفة وأصبحت جزءاً من عقيدتها، ومن ذلك: - العقيدة القائلة بموت الابن المقدَّس لتخليص الجنس البشري، ثم بعثه من الموت -بزعمهم-. - ومن الطقوس اليونانية: المراكب الدِّينية، وحفلات التطهير، والتضحية المقدّسة، والطعام العام المقدس. ويذكر ول يورانت: أن ما عليه أوروبا الآن من مذاهب فكرية ترجع روافدها الأولى إلى الفكر اليوناني، حيث تتزاحم الأفكار والمذاهب. فنجد التثليث، ووحدة الوجود، والشرك، والشيوعية، والحركة النسائية، والبحث عن التحليل لكانت، واليأس لشوبنهور، والعودة للحياة البدائية التي يقول بها روسو، ومذهب نيتشة في التحلل من القيود الأخلاقية، ومذهب اسبنسر في التركيب، ومذهب فرويد في التحليل النفسي.

ثانياً: الحضارة الرومانية القديمة: ترتبط أوروبا الحديثة بالحضارة الرومانية القديمة، والتي يرجع تاريخها إلى القرن الخامس قبل الميلاد، حيث استطاعت روما أن تنتصر على ما جاورها من المدن. وقد ظهرت كقوّة عسكرية عام (230 ق. م)، وقد تعاظمت قوّتها وبسطت سلطانها على أمم كثيرة ضمّت معظم قارة أوروبا، ثم امتد نفوذها ليشمل آسيا الصغرى، والبلاد الواقعة على حوض البحر الأبيض، وشملت مصر وأجزاء من إفريقيا. واستمرت هذه الحضارة حتى القرن السابع الميلادي، حيث تقلّصت أمام الفتوحات الإسلامية. عقيدة الرومان وأخلاقهم: هي نفس عقيدة اليونان ونفس أخلاقهم. ممّا سبق تتّضح خصائص الحضارة اليونانية والرومانية، والتي نوجزها فيما يلي: 1 - الوثنيّة وتعدّد الآلهة. 2 - قلّة التديّن وانحراف الأخلاق. 3 - الإيمان بالمحسوس، وقلة التقدير بما لا يقع تحت الحواس. 4 - الميْل إلى النزعات الوطنية والقومية. 5 - استعباد الشعوب واستعمارها، ونهب خيراتها واستنزاف مواردها. وقد ورثت النصرانية كلّ ما لدى اليونان والرومان من عقائد امتزجت بالمسيحية وانحرفت بعقيدتها.

أثر الحضارة والثقافة الإسلامية على العالم.

هذه هي جذور الثقافة الأوربية التي تحاول فرض أجندتها على العالَم الإسلامي، وإحلالها محلّ الثقافة الإسلامية. وإننا إذ نضع معالم وملامح الحضارة والثقافة الأوربية بين أعين مَن يُروِّجون لحضارة أوروبا وثقافتها، نبيِّن لهم أن هناك فرقاً شاسعاً بين الحضارتيْن واختلافاً بين الثقافتيْن. فهل تستوي حضرة وثقافة وحي السماء ورسالات الأنبياء، مع الحضارة والثقافة المادية التي لا تقيم وزناً لِدِين ولا تحترم خُلُقاً أو فضيلة؟ أثر الحضارة والثّقافة الإسلاميّة على العالَم لقد اتّضح لنا أثَر الحضارتيْن اليونانية والرومانية على قارّة أوروبا في العنصر الثاني من هذه المحاضرة، وتبيّن لنا أنّ معظم ثقافتها وسلوكها امتدادٌ لهما، بجانب النصرانية التي عبثت بها الأيدي والعقول، فلم تصل إلى أوروبا بالصورة الحقيقية التي جاء بها عيسى -عليه السلام-، والتي لا تختلف في جوهرها عن كلّ رسالات السماء. وقبل أن نبيِّن أثَر الثقافة الإسلامية على العالَم، ينبغي أن نذْكر ما تتميّز به حضارة الإسلام وثقافته، ونحدِّد بإيجاز معالِمَها وملامحها، ومن خلال تلك المعالم تتّضح صورة الدّعاة إلى الله، وتكوين شخصيّتهم وإعدادهم الإعداد العلْمي والثقافي، الذي يعمّ خيره ويكثر نفعه -إن شاء الله تعالى-. خصائص الحضارة الإسلامية وثقافتها: تتميّز ثقافة الإسلام وتنفرد عن غيرها من الثقافات الأخرى بما يلي: أولاً: مرتبطة بوحي السماء من خلال القرآن الكريم الذي تكفّل الله بحفْظه، وتعهّد بصوْنه، وما زال عطاؤه متجدِّداً ومستمراً إلى قيام الساعة؛ هذا، بجانب

سُنّة الرسول -صلى الله عليه وسلم-. وكلاهما -القرآن والسُّنّة- عطاء حضاري وعقائدي وثقافي، يصوغ عقل الأمّة وفكْرها صياغة خاصة متميزة ومتفرّدة، في كلّ مجالات الحياة الفكرية، والسياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، وسائر النّظم التشريعية. ثانياً: الوجه الحضاري والثقافي للإسلام يقوم على طلَب المعرفة من كلّ وجه، واستخدام العقل في تحصيل العلوم والمعارف التي تقوم على البحث والنظر والتجارب العمليّة، على أن تُضبط هذه المعارف والثقافات بمعيار الخير والشر، وتوزن بميزان الإسلام. فما يفيد الإنسانية من أوجه الخير والنفع فالإسلام يباركه ويزكّيه، وما يعود على المجتمعات البشرية بالشر والفساد والإلحاد العقائدي والانحلال الخُلُقي، فإن الإسلام يقف له بالمرصاد، ويكشف زيف ثقافته ويحذّر من أسلوبه ووسائله. ثالثاً: الحضارة والثقافة في الإسلام توازن وتعادل بين مقوِّمات الروح ورغبات الجسد، بحيث لا يطغى جانبٌ على جانب آخَر. ويتساوى في إطار شرع الله العمل للدنيا والآخِرة على قدم المساواة، قال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}. رابعاً: إن الحضارة والثقافة الإسلامية حضارة وثقافة إنسانية عالمية، لا تقتصر على جنس معيّن، ولا تتوقّف عند زمان ومكان مُحدّد؛ بل هي كالغيث والرّزق، يسوقها الله للمؤمن والكافر، والصالح والطالح، والتّقيّ والفاجر؛ قال تعالى موضّحاً رحمة الرسول -صلى الله عليه وسلم- للعالمين: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}.

فلم يوصِد المسلمون أبواب حضارتهم وثقافتهم في وجْه أحَد، بدليل: أنّ النهضة الأوربية الحديثة أُقيم صرحُها على أساس من الحضارة والثقافة الإسلامية في بلاد الأندلس، ولكن أوروبا والعالَم الغربي لم يحفظ هذا الجميل، ولم يَصُن هذا المعروف، فأخذ الحضارة والثقافة الإسلامية بيدٍ، واعتدى على المسلمين وديارهم باليد الأخرى، وما زال العدوان مستمراً. خامساً: الحضارة والثقافة الإسلامية لها خصائصها المميّزة ومعالمها البارزة؛ فالمسلم في أي مكان حلّ فيه وارتحل منه معروفةٌ شخصيّته ومعلومة ثقافته، لا يذوب في أيّ حضارة ولا تحتويه أيُّ ثقافة، يعايش كل عصر بلُغته، ويأخذ من الآخرين بما يتلاءم مع دِينه. وهو سخي العطاء للآخّرين، يتعامل معهم على أساس الأصل الواحد في الخلْق والوحدة الإنسانية في النشأة والحياة والمصير. سادساً: الحضارة والثقافة الإسلامية تقوم على السّماحة واحترام إنسانية الآخَرين. فهي ثقافة تنبذ العنف، وتنأى عمّا يثير الحقد في النفوس. وقد حدد الإسلام الميادين التي يتسامح فيها المسلم، وتبرز فيها أخلاقه، ويسمو بها سلوكه؛ نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، ما يلي: أ- مبادرة الناس بالتحية والسلام، وحُسن الحديث، قال تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً}. ب- التعامل الإنساني بالمعروف والحسنى بين البشر جميعاً في شؤون الحياة، قال -صلى الله عليه وسلم-: ((رحِم الله رجلاً سمْحاً إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى))، رواه البخاري.

ج- أن لا تمتدّ يدُ مسلم إلى أخيه المسلم، أو إلى ذمِّيٍّ أو مُعاهَد بقتْل أو سلْب مال وانتهاك عِرض، قال تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ}. د- أنّ ثقافة الإسلام تقوم على السماحة واليُسر، وعدم التّشدّد والغلوّ في الدِّين من غير دليل شرعي؛ فعن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه-: قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إنّ الدِّين يُسْر لا عُسْر، ولن يُشادّ أحدٌ الدِّين إلاّ غلَبهُ؛ فسدِّدوا، وقاربوا، وأبشروا ... )) الحديث. وقد روى الإمام البخاري عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-، قالت: ((ما خُيِّر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أمريْن إلاّ اختار أيْسرَهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبْعدَ الناس منه. وما انتقم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لِنفسه في شيء قط، إلاّ أن تُنتَهَك حُرمةُ الله، فينتقم بها لله تعالى)). ففي هذا الحديث الشريف: تحديد لحدود السماحة واليُسر وضوابطهما، وتصحيح للاعتقاد الخاطئ الذي يُروِّج له البعض مِن أنّ السماحة والتيسير معناهما: الانفلاتُ من قيود الدِّين وحدود الشرع، والتكاسل على أداء الطاعات، والتساهل في القيام بالعبادات، والاندفاع نحو رغبات النفس، والأخذ من ثقافة الآخرين دون تمحيص لها، تحت مقولة: "إن الدِّين يُسرٌ لا عسر". هذه بعض معالم وملامح الثقافة الإسلامية. أثر الحضارة والثقافة الإسلامية على العالَم: أولاً: أعادت الإنسانيةَ إلى فِطرتها، وعرّفت البشرية بخالِقها.

ما يمكن أن تقدمه الحضارة والثقافة الإسلامية للعالم في هذا العصر.

ثانياً: ربطت بين الأديان السماوية برباط متين تحت مسمَّى "الإسلام"، الذي تتابع على ألسنة الأنبياء والمرسلين، من لدن آدم -عليه السلام- إلى محمد -صلى الله عليه وسلم-. ثالثاً: أنقذت العالَم ممّا كان يعيش فيه من انحراف في العقيدة وخلَل في السلوك، وأعطت للبشرية حضارة وثقافة تقوم على التوحيد في أسمى صُوَرها، وتجعل الناس جميعاً أمام الله على قَدَم المساواة وأقامت مجتمعاً يقوم على التعاون والحب والتسامح، والحرية المنضبطة بقواعد الدِّين والأخلاق والتعايش السلمي مع الآخرين، تحت مظلة قوله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}، وقوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}. ما يمكن أن تقدّمه الحضارة والثقافة الإسلامية للعالَم في هذا العصر من الملاحَظ: أنّ الحضارة الغربية المعاصرة قد سيطرتْ عليها النّزعات المادية، وطغت عليها شهوات الجسد، وأغرقت في البعد عن الجانب الروحي، وتميّزت ثقافتها بالتحرّر والعبثية والفوضى. وكان حصاد ذلك مؤلماً ومريراً، ونفقاً مظلماً أطبق على صدْر البشرية من خلال الحروب العالَمية والمنازعات الإقليمية، وضياع الحقوق الإنسانية، ممّا أشاع جواً من الفوضى العالمية، والتوتر العصبي، والقلق النفسي، واختلال المعايير والموازين، ليخدم مصالح القوى الكبرى والصهيونية العالمية؛ قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}. ولقد أفلست المنظمات الدولية، والمؤسسات التربوية، والأنظمة السياسية والاقتصادية، في تحقيق الأمن والسلام للبشرية، والتي ليس أمامها من نجاة ولا مخلصٍ إلاّ بالحضارة والثقافة الإسلامية. فهو يقدّم لها:

أولاً: الإسلام دين عالميٌّ ما زالت نصوصه ثابتة، تستوعب كلّ جوانب الحياة الإنسانية. ثانياً: الإسلام دين ينفتح على العالَم وغير مغلَق على نفسه، وإنه يتعامل مع الآخَرين من خلال القواسم المشتركة لبني البشر جميعاً. ثالثاً: يقدِّم الإسلام المعتقدات الصحيحة، والأخلاق الفاضلة، والسلوك المهذَّب الراقي الذي افتقدته الإنسانية رغم تقدّمها المادي. رابعاً: يقدِّم الإسلام للعالم الاستقرار النفسي، والأمن الاجتماعي، ويزيل أسباب التوتر النفسي، والقلق والاكتئاب، قال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ}. خامساً: يعطي الإسلام التصوّر الحقيقي للكون، ويضع للإنسان ضوابط استعماله الاستعمال الأفيد والأنفع له، ويحول دون العبث بسُنن الله في الخلْق والتكوين والفطرة. سادساً: يضع الإسلام كلّ ما أودعه الله في الأرض مِن ثروات كبيرة وموارد ضخمة، تحت يد البشرية جمعاء، لا تنفرد بها أمّة، ولا يُحبسُ خيرها عن إنسان، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}. هذا هو العطاء الذي يُمكن أن تُقدّمه الحضارة والثقافة والدّعوة إلى الله للإنسانية، دون تفريق بينها. وهذا هو المفهوم الحقيقي لمضمون الثقافة، وجوهرها الّذي يجب أن يتشكل منها عقل الدّاعي إلى الله، وفكرهُ، كما سنوضّحه في المحاضرة القادمة -إن شاء الله-. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 3 ثقافة الداعية.

الدرس: 3 ثقافة الداعية.

ضرورة الثقافة وأهميتها للدعاة إلى الله.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثالث (ثقافة الدّاعية) 1 - ثقافة الدّاعية ضرورة الثّقافة وأهمِّيّتها للدّعاة إلى الله الحمد لله الذي علّم بالقلم، علّم الإنسان ما لم يعلم. وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، يؤتي الحكمة من يشاء، ومن يُؤتَ الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً، وما يذّكّر إلاّ أولو الألباب. والصلاة والسلام على أشرف الخلْق وخاتم الرسل، آتاه الله مِن لدُنه علْماً، وكان فضل الله عليه عظيماً، وعلى آله وأصحابه، الذين تفقّهوا في دين الله، فكانوا هداةً صالحين، ولدعوة الله مُبلِّغين مُخلصين. أما بعد: الدّعوة إلى الله نظام حياة، ومنهج دِين، ورسالة أمّة، تقوم على الفهم الصحيح والفقه الدقيق، والفكر المستنير، والثقافة الواسعة، والبصيرة الوضاحة، والحِكمة والموعظة الحسنة؛ قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}. ولن يقوم بهذا الأمر العظيم والشّرف الرفيع إلاّ إنسان ذو ملكات خاصة، ومواهب متميّزة، وعلْم غزير، وثقافة متنوّعة، تُمكِّنه من استمالة القلوب، والتأثير على النفوس، وتحريك العواطف والمشاعر واستنهاض الهمم، وتقوية العزائم، وإنارة البصائر، والتعريف بأصول الدِّين وشرائعه ونُظمه؛ ولذلك فإنّ الإعداد العلْمي أحَد مقومات نجاح الدّعاة إلى الله. وهو إعداد ليس بالأمر السّهل أو الشيء الهيِّن، كما ينظر إليه البعض خطأً فيعتقد أنه يأتي في نهاية الأوْلويّات وفي مؤخّرة التّخصصّات، حيث يدفع إلى كلّيّات الدّعوة ومعاهدها مَن حال مجموعهم في الدرجات دون دخول ما يريدون مِن كلّيّات ومعاهد يُسمّونها: كلِّيّات القمّة، فتوصد أبوابها في وجه أصحاب المجاميع المتدنِّية، فيدخلون كلّية الدّعوة وأصول الدِّين مُرغَمين ولِتخصّصها مُكرَهين. وحينما يتخرّجون، يُدفع بهم إلى ميدان الدّعوة إلى الله وهم فيه زاهدون وعن القيام بالدّعوة إلى الله مُعرِضين، فتخلو الساحة من رجالات الدّعوة وفُرسانها. وينزل إلى الميدان كلّ شارد ووارد ممّن هم فقراء في الثقافة، قليلون في العلْم، لا يُحسنون استمالة القلوب ولا التّأثير على النفوس. وتصبح الدّعوة إلى الله بالنسبة لهم وظيفة لا رسالة، وعادة لا عبادة، ممّا تنعكس آثارُه

السّيِّئة على جمهور المسلمين، فيسعَوْن إليهم يوم الجمعة والمحافل وهم مُتثاقلو الخُطى، منصرفون عن الإنصات لكلامهم، يضيقون ذرعاً بإرشادهم. فيعمّ الجهل في الدِّين، ويقل الفهم لأحكامه، وتصبح الفرصة سانحة لأصحاب الفكر المتطرِّف وذوي الفهم الخاطئ لنصوصه وشرائعه، فتعمّ الفتن وتثور القلاقل ويحدث ما لا تُحمد عقباه. لهذه الأسباب، ينبغي إعداد الدّعاة إلى الله إعداداً علمياً دقيقاً، وتكوينهم تكويناً ثقافياً يُؤهِّلهم تأهيلاً جيّداً للقيام بأعباء الدّعوة، وتحمُّل تبِعاتها، ونيْل شرف أداء رسالتها. قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}. ولخطورة الإعداد العلْمي وأهمِّيّته، يأمر القرآن الكريم المسلمين بحَشْد طاقاتهم ورصْد مواردهم واختيار النّابهين من أبنائهم، من ذوي القُدرات الخاصة والمواهب المتميِّزة، ليكونوا دعاة إلى الله، قال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}. فقد أشارت الآية الكريمة إشارات توجيهيّة واضحة، لإعداد جماعة مؤهَّلة عقائدياً وأخلاقياً وثقافياً للدّعوة إلى الله. ويُمكن استنباطها من الآية على النحو التالي: أوّلاً: عبّرت الآية عن استنهاض الهمم وشحذ العزائم بكلمة {نَفَرَ}، وهي كلمة لا تُستعمل إلاّ في مجال الاستنفار العام في سبيل الله، والتعبئة والحشْد وحسن الاستعداد للجهاد. قال تعالى: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.

ثانياً: أشارت الآية إشارة لطيفة إلى وجوب تنوّع التّخصّصات وتوزيع الأعمال، وذلك بأن يُختار لكلِّ مجال من مجالات الحياة مَن يتخصّص فيه ويُبدع ويُنتج، فقال تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ}، أي: من بعضهم: فجماعة تتخصّص في الدعوة، وأخرى تتخصّص في فرع من فروع المعرفة الإنسانية. ثالثاً: أشارت الآية إلى أنّ الأمر لا يتوقّف على اختيار جماعة فقط، ولكن يجب أن يتبع الاختيارَ الإعدادُ الجيّد، والتّكوينُ الدّقيق، والتّفقّه في الدِّين؛ فقال تعالى: {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ}. وهذا معيار نجاح الدّاعية؛ فبجانب معرفته بأساليب الدّعوة ووسائلها، يجب عليه أن يكون فقيهاً بأحكام الشريعة الإسلامية، حتى يجمع بين فضيلتَي: الفتوى والدّعوة إلى الله. قال -صلى الله عليه وسلم-: ((مَن يُرد الله به خيراً يُفقِّهْهُ في الدِّين)). وكان من دعائه -صلى الله عليه وسلم- لابن عمّه عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- ((اللهمّ فَقِّهْهُ في الدِّين، وعلِّمْه التّأويل)). رابعاً: الآية تُلقي العبْء على الدّعاة بعدما تعلّموا وتفقّهوا، أن يبرحوا أماكن الدارسة ومواطن تلقِّي العلوم، ويرجعوا إلى ديارهم وعشيرتهم، ويُعلِّمونهم أمور الدِّين ويحذِّرونهم من عواقب مخالفة شرْع الله والتّجرؤ على معصيته، فخُتمت الآية بقوله تعالى: {وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}. والتّزوّد بالعلْم لا نهاية له، والتّوسّع في الثقافة والمعارف لا حدود لها، ولذلك أمَر الله رسولَه -صلى الله عليه وسلم- بالاستزادة من العلْم، فقال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً}. وإنّ رحلة موسى في طلَب العلْم، وتجشُّمه الصِّعاب في طول الأسفار وفي الحلّ والتّرحال، وشدّة عزْمه في طلَب المعرفة ولو طال به الزّمن ومرّت به الأحقاب

الطويلة، لم يَحُلْ دون تحقيق بُغْيته في تحصيل المعرفة. وإننا إذ نضع هذه القصة بين يدي الدّارسين للعلْم المُحبِّين للثقافة، فهي تحدّد منهج طلَب العلْم، وتضع الضوابط بين الأستاذ والطالب. وتدور أحداثها في سورة (الكهف) على النحو التالي: قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لاَ أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً * فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً * فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً * قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً * قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً * فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً * قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً * قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً * قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلاَ أَعْصِي لَكَ أَمْراً * قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً}. هذه عشْر آيات من سورة (الكهف) تضع القواعد والأسُس في طلَب العلْم والتّوسّع في المعرفة، نضع ما يُستفاد منها أمام الدّعاة وطلاب العلْم لتنبيه العقول، وشحْذ الهمم، وشدّ العزائم، لإعداد علماء ودعاة وفْق منهج وحْي السماء ورسالات الأنبياء. ومن هذه الدروس ما يلي: أوّلاً: أن العلْم بحر لا ساحل له، ومحيط لا نهاية له، قال تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً}. فلقد روى البخاري في سبب قصة موسى -عليه السلام-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إنّ موسى قام خطيباً في بني إسرائيل، فسئل: أيّ الناس

أعْلم؟ قال: أنا. فعَتَب الله عليه أنه لم يَرُدّ العلم إليه، فأوحى الله إليه: إنّ عبْداً بمجمَع البحريْن هو أعْلَم منك. قال موسى: يا ربّ، وكيف لي به؟)) الحديث. فهذا إشارة على العالِم أن لا يغترّ بما عنده من علوم، وأن لا يزهو ويفتخر بما لديه من معارف. ثانياً: مشروعيّة الرحلة في طلَب العلْم، والعزم والإصرار على تحصيله، وتكبّد المشاقّ والصعاب في سبيله، وأن يظلّ الإنسان طول عمره يتزوّد بالثقافة؛ يُؤخذ هذا من قول موسى: {لاَ أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً}، وقوله لغلامه: {آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً}. ثالثاً: على طالب العلْم أن يُدقِّق في اختيار من يتلقّى عليه العلْم، وإن كان هذا صعباً في هذا العصر، حيث المناهج والأساتذة تُفرض على الطّلاب، غير أنّ التدقيق وحُسن الاختيار يجِبان على مُحبِّي الثقافة وطالبي المعرفة من غير الطلاب أن يُحسنوا اختيار الكتاب الذي يقرؤونه، والكاتب الذي يقرؤون له، لأن تشكيل الفكر والثقافة من أهمّ الأشياء؛ ولذلك وجّه الله موسى لعبْد آتاه رحمة وعلماً خاصاً. وفيها أيضاً إشارة إلى رحمة العلماء وترفّقهم بطلاّب العلْم، وعدم القسْوة عليهم، قال تعالى: {فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا}؛ فالعالِم المتلقَّى عنه يجب أن يكون عبداً لله، فلا يكون عبداً لفكْر علْماني مُلحد أو لثقافة منتحلة تروِّج للفنّ الهابط والأدب الماجن، أو أن يتناول أحكام الشريعة ونصوصها بالهمز واللّمز. قال تعالى في وصف معالم شخصيّة عالِم موسى: {آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً}. رابعاً: على طالب العلْم أن يتلطّف في مخاطبة أستاذه؛ يُؤخذ ذلك من قول موسى: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً}.

قال ابن كثير: سؤال تلطّف ليس على وجْه الإلزام والإجبار؛ وهكذا ينبغي أن يكون سؤال المتعلِّم للعالِم. خامساً: لطالِب العلْم: أن يشترط على معلِّمه أن يعلّمه العلْم النّافع المفيد، الذي يرشده إلى الخير ويحثّه على الطاعة؛ فالعلْم وسيلة كلّ سُبل الخير في الدنيا والآخرة. سادساً: على العالِم أن يُبصِّر تلميذه بمنهجه في تدريس العلوم، ويضع الشروط التي يراها مناسبة لنجاح طلاّبه. قال تعالى على لسان الخضر -عليه السلام-: {قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً}. سابعاً: على طلاّب العلوم والمعارف: أن يتحلّوْا بالصّبر والطاعة، قال تعالى عن موسى -عليه السلام- قوله: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلاَ أَعْصِي لَكَ أَمْراً}. ثامناً: للعالِم أن يُبيِّن طريقته في الدّرس وأسلوبه في تلقِّي الأسئلة، والتوقيت الذي يجاوب فيه عليها؛ قال تعالى على لسان الخضر -عليه السلام-: {قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً}. هكذا يتبيّن من هذه الآيات الكريمة، أُسُس وقواعد طلَب العلوم والمعارف. وعن فضل تحصيل العلْم ما رُوي عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((مَن سلَك طريقاً يبتغي فيه علْماً، سهّل الله له طريقاً إلى الجنة. وإنّ الملائكة لَتَضَعُ أجنحتَها لطالِب العلْم رِضىً بما يَصنَع. وإنّ العالِم لَيستغفرُ له من في السماوات والأرض، حتى الحيتانُ في الماء. وفضْلُ العالِم على العابد كفضْل القمر على سائر الكواكب. وإنّ العلماء ورَثةُ الأنبياء. وإنّ الأنبياء لم يُورِّثوا ديناراً ولا درهماً، وإنّما ورَّثوا العلْم؛ فمَن أخَذه أخَذ بحظٍّ وافر))، رواه أبو داود والترمذي.

وقد بيّن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أصناف مَن تلقّى العلٍْم ونَشَره بين الناس، ومن أفاد غيرَه ولم يستفِدْ بالعلْم ولم يُفد غيره؛ فعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((مثَل ما بعثني الله به من الهدى والعلْم كمَثَل غيثٍ أصاب أرضاً، فكانت منها طائفة طيِّبة قبِلت الماء فأنبتَتِ الكلأ والعشبَ الكثير. وكان منها أجادب -أي: أرض لا تكاد تخصب- أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا منها وسقَوْا وزرعوا. وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تُمسك ماءً ولا تنبت كلأ. فذلك مَثَل مَن فقُه في دين الله ونفَعه ما بعثني الله به فعَلم وعلّم، ومَثَل مَن لم يرفَعْ بذلك رأساً، ولم يَقبلْ هدى الله الذي أُرسِلْتُ به))، متفق عليه. ممّا سبق، تتّضح مدى أهَمِّيّة الثقافة للدّاعية، وأنها مِن صُلب تكوينه وأهمّ وسائل نجاح دعْوته. فالثقافة في المفهوم المعاصر ُتطلَق على كلّ معرفة -عمليّة كانت أم نظرية- تقوم على التّجربة أو الفكْر وتهدف إلى رقيّ الإنسان وتقدّمه في أساليب الحياة العمليّة، أو في تقديم تصوّر حقيقي لأمور الكون النظرية، أو في تقويم سلوكه وتهذيب نفسه؛ فهي الوعاء والغاية لكلّ نشاط بشريّ يتمّ في المجتمع الإنساني. والمثقَّف هو الذي حصل على قدْر كاف من مُختلف علوم ومعارف عصره. والدّاعي إلى الله هو أوْلى الناس باتّساع الفكر وكثرة الثقافة، ويجب عليه أن يجدّد فكْره ويزيد من معلوماته، وأن يُكثر من اطّلاعاته وقراءاته ليكون محلّ ثقة مَن يستمعون إليه ومحطّ احترامهم، لأنه يحمل بين حنايا نفسه وخلجات قلبه وخلايا عقله أعظمَ رسالة وأشرف أمانة؛ قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}.

مصادر الثقافة الإسلامية.

مصادر الثّقافة الإسلاميّة إنّ مهمّة الدّعاة إلى الله مهمّة صعبة، ورسالة جليلة وعظيمة، توجب على مَن ينزل إلى ساحة الدّعوة: أن يكون واسعَ الاطّلاع، غزير الثقافة، مُحباً للقراءة، شغوفا بالمعرفة، يتنقل بين العلوم والمعارف مثْل النحلة التي تنتقل من زهرة إلى زهرة، ومن روضة إلى أخرى، تمتصّ الرحيق وترتشف العبير، لتخرجه عسلاً مصفىً فيه شفاء للناس. ونجد طعْم ورائحة العسل يحمل بين مذاقه نوعَ الزّهر والعبير الذي أخذت عصارته، وكذلك القارئ وطالب الثقافة، يظهر بين ثنايا عقله وأطراف لسانه، معالمُ وملامحُ ما قرأه وتثقّف به، ويصبح ذلك من مكوِّنات شخصيته. فإن سلامة الفكر، وصحة الاعتقاد، وحسْن المنطق، وروعة الأداء، هي دعائم الدّاعي إلى الله. فإنّ التأثير في جمهور المسلمين وغيرهم، واستمالتهم وإقناعهم، له أساليب متعدّدة من القول، وفنون مختلفة من البيان، وحُسن الاطلاع، ولا سيما في هذا العصر الذي تكاثرت وتضاربت فيه الآراء والأفكار، وتنوّعت فيه الحضارات والثقافات، وغدا كلّ صاحب فكْر يَبذل قصارى جهْده لنشْر معتقده ولو كان باطلاً أو منحرفاً. وأصبحت السيطرة على الرأي العام وتوجيهه لرأي معيّن من فوق المنابر، وفي المحافل وعبْر أجهزة الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، يحظى باهتمام علماء النفس والتربية والاجتماع. وصار فنّ التوجيه والإرشاد علْماً له أصول وقواعد، يتسلّح بالتقنية العلمية العالية، وبأحدث أساليب التكنولوجيا الحديثة، ممّا يجعل موقف الدّعاة إلى الله وسط هذه الأمواج العاتية من الأفكار، صعباً للغاية. فإن لم يُعدّوا أنفسهم علمياً وثقافياً، وإن لم يتمرّسوا على كلّ

وسائل الإقناع، وإن لم يتزوّدوا بشتّى أنواع العلوم والمعارف، فإنّ زمام التوجيه سيُفلت من أيديهم، ويتولاّه قومٌ تربّوْا على الثقافة والفكر الغربي، ورضعوا لِبان العلمانية والإلحاد، فأضاعوا البلاد وأفسدوا العباد. ولهذا قيل عن ثقافة الدّعاة، وعن جوب الاهتمام بتكوينهم لمواجهة كلّ ألوان الغزو الفكري: "إن الدّاعي يبدأ من حيث تنتهي كلّ التخصصات"؛ ولذا فإن تنمية عقله، وغذاء فكره، وتكوين شخصيته، وبلوغ الغاية المرجوّة من دعوته ترتكز وتؤسَّس على مصادر الثقافة الإسلامية التي تنفرد بالتكامل والإحاطة والشمول، وتتميّز بالاستقلال التام عن روافد الثقافات الأخرى التي انقطعت صِلتُها بوحي السماء ورسالات الأنبياء. وهذه المصادر هي: أوّلاً: القرآن الكريم. تعريفه لغة: "القرآن": مصدر على وزن "فعلان" -بالضّم- كغُفران وشُكران. تقول: قرأتُه قرْءاً، وقراءة، وقرآناً، بمعنى واحد، أي: تلوْتُه تلاوةً. وقد جاء استعمال "القرآن" الكريم بهذا المعنى المصدري في قوله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ}. تعريفه في الاصطلاح: هو كلام الله المُنزَل على رسوله -صلى الله عليه وسلم- المُتعبَّد بتلاوته، المُعجِز بآياته، المُتحدَّى به الإنس والجن. أسماء القرآن الكريم: وردت في القرآن الكريم أسماء كثيرة أطلقها الله -سبحانه وتعالى- عليه، غير أنّ أشهرها وممّا صار يُعرف به هو: {الْقُرْآن}. قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي

هِيَ أَقْوَمُ}. وقال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}. ومن الأسماء التي سمّى الله بها القرآن الكريم ما يلي: {الْكِتَاب}: قال تعالى: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}. {الْفُرْقَان}: قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً}. {الذِّكْر}: قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}. {تَنْزِيل}: قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. وقد جاء في كتاب "البرهان لعلوم القرآن" للزركشي: أنّ الله سمّى القرآن الكريم بخمسة وخمسين اسماً، وكثرة الأسماء تدل على شرف المسمَّى وعلوّ منزلته، وسمُوّ مكانته. أوصاف القرآن الكريم: وصف الحقّ -تبارك وتعالى- القرآن الكريم بأوصاف كثيرة، منها: {بُرْهَان} و {نُور}: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً}. {مَوْعِظَة} و {شِفَاء}، و {هُدىً}، و {رَحْمَة}: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}.

{مُبَارَك} و {مُصَدِّق}: قال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}، وقال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ}. {مُبِين}: قال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ}. {بُشْرَى}: قال تعالى: {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}. {عَزِيز}: قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ}. {مَجِيد} و {مَحْفُوظ}: قال تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ}. {بَشِير} و {نَذِير}: قال تعالى: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيراً وَنَذِيراً}. نزول القرآن الكريم: تنزّل القرآن الكريم مُفرّقاً على مدى ثلاثة وعشرين عاماً، وفْق الأحداث والأمور المتعلّقة بالدّعوة إلى الله، وحسب الحاجة التي تكون سببا للنّزول، ولِيُثبِّت به فؤاد النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولِيَكون أبلغَ في التّحدّي، وأوضح في بيان الحجّة، وأظهرَ لأوجه الإعجاز، وأسهل على حفْظه وتدبّر آياته وتفهّم معانيه؛ قال تعالى: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً}، وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً * وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً}.

تعريف السنة في اللغة والاصطلاح.

فيجب على الدّعاة أن يكونوا على معرفة بما يتعلّق بكتاب الله، ولو على سبيل الإجمال؛ إذ هو يُثري ثقافتَهم، ويوسِّع مداركهم، ويُحدِّد معالمَ شخصيّتهم العلْمية والفكريّة. أمّا عن بقية مصادر الثقافة الإسلامية التي يجب أن يتزود بها الدّعاة، فهذا موضوع المحاضرة التالية -إن شاء الله-. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. 2 - مصادر الثقافة الإسلامية (1) تعريف السُّنّة في اللّغة والاصطلاح الحمد لله الذي خلّق فسوّى، والذي قدّر فهدى. والصلاة والسلام على أشرف الخلْق وخاتم الرسل وقدوة الدّعاة، وعلى آله وأصحابه، ومَن بدَعوتهم اهتدى إلى يوم الدين. أما بعد: "السُّنّة" في اللغة: السِّيرة والطريقة، حسنة كانت أو قبيحة. وفي الحديث: ((مَن سَنَّ في الإسلام سُنَّةً حسَنة، فلَه أجْرها وأجْر مَن عمِل بها، مِن غير أن ينقص من أجورهم شيءٌ. ومَن سَنّ في الإسلام سُنّة سيِّئة، كان عليه وِزْرُها ووِزْر مَن عمِل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء))، رواه مسلم. وكلّ من ابتدأ أمراً عمِل به قوم بَعْده، قيل: هو سُنّة. وتُطلق على: الطريق والسَّيْر. وقد يكون لفظ "سُنّة" من سننتُ الإبلَ، إذا أحسنتُ رعْيَها والقيام عليها. "السُّنّة" في الاصطلاح: يختلف معنى "السّنّة" باختلاف العلوم التي لها بها صِلة: أ- فعلماء الحديث إنّما بحثوا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الإمام الهادي، الذي أخبر الله عنه أنه أسوة لنا وقدوة، فنقلوا كلّ ما يتّصل به -صلى الله عليه وسلم- مِن سيرة، وخُلُق، وشمائل، وأخبار، وأقوال، وأفعال، سواء أثْبت ذلك حُكماً شرعياً أم لا. ب- علماء الأصول إنّما بحثوا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المُشرِّع الذي يضَع القواعد للمجتهدين مِن بَعْده، ويُبيِّن للناس دستور الحياة، ولذلك عنوا بأقواله، وأفعاله، وتقريراته، التي تُثبت الأحكام وتُقرِّرها.

ج- علماء الفقه إنما بحثوا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي تدلّ أفعاله على حُكم شرعيّ، وهم يبحثون عن حُكم الشّرع في أفعال العباد، وُجوباً، أو حرمة، أو إباحة. ممّا سبق، تعدّدت تعريفات "السُّنّة النبوية" اصطلاحاً على النحو التالي: 1 - "السُّنّة" في اصطلاح المُحدِّثين هي: كلّ ما أُثِر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مِن قول، أو فعْل، أو تقرير، أو صِفة خَلْقية أو خُلُقية، أو سيرة، سواء أكان ذلك قبل البعثة، كتحنّثه في غار حراء، أم بعدها. والسُّنّة بهذا المعنى مرادفة للحديث النبوي. 2 - "السُّنّة" في اصطلاح علماء أصول الفقه هي: "كلّ ما صَدر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من غير القرآن، من قول، أو فعْل، أو تقرير، ممّا يَصلح أن يكون دليلاً لحُكم شرعي. 3 - "السُّنّة" في اصطلاح الفقهاء هي: كلّ ما ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يكن من باب الفرْض ولا الواجب؛ فهي الطريقة المُتّبعة في الدِّين من غير افتراض ولا وجوب، فيقال: "فلان على السُّنّة" إذا عمل على وفق ما جاء مِن عمَل عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، و"فلان على البدعة" إذا فعَل خلاف ذلك. 4 - وقد تُطلق "السُّنّة" عند الدّعاة في مقابلة "البدعة". و"البدعة" لغة: الأمر المُستحدَث، ثم أطلقت في الشّرع على كلّ ما أحدثه الناس من قول أو عمل في الدِّين وشعائره، ممّا لم يُؤثَر عنه -صلى الله عليه وسلم- وعن أصحابه. وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((مَن أحدث في أمْرنا هذا ما ليس منه، فهو رَدّ))، صحيح مسلم.

وتُطلق "السُّنّة" أحياناً على: ما عمِل به أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، سواء أكان ذلك في الكتاب الكريم، أم في المأثور عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. ويُحتجّ لذلك بقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((عليكُم بسُنّتي وسنّة الخلفاء الرّاشدين المهديِّين! عَضّوا عليها بالنواجذ! وإيّاكم ومُحدَثات الأمور! فإنّ كلّ مُحدَثة بِدْعة، وكلّ بدْعة ضلالة)). ومن المصطلحات التي لها صِلة بالسُّنّة ما يلي: "الحديث": لغة: الجديد من الأشياء. والحديث: الخبر يأتي على القليل والكثير، والجمع: أحاديث، قال تعالى: {إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً}، عني بالحديث: القرآن الكريم، وقوله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}، أي: بلِّغْ. و"الخبر" و"الأثر" مُرادفان لِـ"الحديث". الفرْق بين "السّنّة" و"الحديث القدسي": الحديث القدسيّ: كلّ حديث يضيف فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قولاً إلى الله -عز وجل- يُسمّى بالحديث القدسي أو الإلهي، وهي أكثر من مائة حديث. ونسبة الحديث إلى القُدس -وهو: الطهارة والتنزيه- وإلى الإله أو الرب، لأنه صادر عن الله -تبارك وتعالى-، من حيث إنه المتكلِّم به أولاً والمنشئ له. وأما كونه حديثاً، فلأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- هو الحاكي له عن ربه -عز وجل-؛ فاللفظ والمعنى من الله -سبحانه وتعالى-. أمّا الأحاديث النبوية، فالرسول -صلى الله عليه وسلم- هو قائلها والحاكي بها عن نفسه.

السنة النبوية ومكانتها في التشريع.

الفرْق بين القرآن الكريم والحديث القدسي: أولاً: ينفرد القرآن الكريم بالخصائص التالية: 1 - القرآن مُعجزة الله الخالدة إلى يوم القيامة، محفوظ من التغيير والتبديل، متواتر اللفظ في جميع الكلمات والحروف. 2 - حُرمة روايته بالمعنى، أما الحديث القدسي فتجوز روايته بالمعنى. 3 - حُرمة مسّه وتلاوته للجُنُب. 4 - تتعيّن قراءته في الصلاة، أمّا الحديث القدسي فلا تصحّ الصلاة به. 5 - تسميته "قرآناً"، ولا يُطلق على الحديث القدسي أنه قرآن. 6 - التّعبّد بقراءته، ولا يُتعبّد بقراءة الحديث القدسي. 7 - تسمية الجملة من القرآن الكريم: "آية"، ومقدار من الآيات مخصوص: "سُورة". 8 - القرآن الكريم ما كان لفظه ومعناه من عند الله بوحي جليّ ظاهر، بواسطة جبريل عليه السلام، أما الحديث فقد يكون بوحي جليّ أو غير جليّ. السُّنّة النّبويّة ومكانتها في التشريع السّنة النبويّة بما تشتمل عليه من أقوال الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وأفعاله، وتقريراته، وصفاته الخِلْقية، وشمائله الأخلاقية، وسيرته الشريفة، هي الأصل الثاني بعد كتاب الله تعالى في إثبات الأحكام الشرعية، وبيان الحلال من الحرام.

كما أن السّنّة النبوية هي المرجع العلْمي والثقافي الذي يصوغ عقل الأمّة صياغة فريدة متميّزة، وتزن أعمالها في شتّى المجالات بميزان دقيق. وإنّ حاجة المسلمين إلى سنّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ضرورية في كلّ زمان ومكان، كحاجتهم إلى القرآن الكريم؛ فالسُّنّة هي الترجمة العمليّة للقرآن، ماثلة تمام التماثل في شخص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قولاً وعملاً. والدّعاة إلى الله هم أحوج الناس إلى السّنّة، وأكثرهم برسول الله -صلى الله عليه وسلم- اقتداء. وهم في قيامهم بواجب الدّعوة إلى الله يتتبّعون خُطاه -صلى الله عليه وسلم-، ويقتفون أثَره في منهج الدّعوة إلى الله ووسائلها وأساليبها. ولا يَتصوّر عقل أو منطق: أن ينخرط إنسان في سلْك الدّعاة وهو لم يتزوّد بقبسات الهدْي النبوي، ولم يكوِّن عقله وفكره بأقواله -صلى الله عليه وسلم- وبأفعاله. قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}. وترجع أهمِّية السّنّة للأمّة الإسلامية عموماً، وللدّعاة إلى الله خصوصاً، للأسباب التالية: أولا: جاءت السّنّة موافقة للقرآن الكريم؛ فهي: تُفسِّر مُبهمَه، وتُفصِّل مُجملَه، وتُقيِّد مُطلَقَه، وتُخصِّص عامَّه، وتشرح أحكامه وأهدافه. كما جاءت بأحكام لم يَنصّ عليها القرآن الكريم؛ والأمثلة على ذلك كثيرة، منها -على سبيل المثال لا الحصر-: 1 - تفصيل المُجمَل: أجمع العلماء: أنه ما مِن مُجمَل في كتاب الله إلاّ جاء تفصيله في السّنّة، واستدلوا بقول الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}؛ فقد ترك البيان لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومن ذلك: قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}، وقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}.

فلم يُبيّن القرآن الكريم كيف ومتى نصلِّي؟ وما هي عدد الركعات، وأنواع الصلوات؟ ولو يوضِّح أنصبة الزكاة، وأنواعها، وكيفيّة إخراجها، وكذلك الصوم، وسائر العبادات؛ فجاءت أقوال الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأفعاله تفصِّل وتوضّح ما أجمله القرآن الكريم. 2 - تخصيص السّنّة لعموم القرآن، سواء في مجال العبادات أو المعاملات، ومن ذلك في الصلاة: قال تعالى في الوضوء لها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}؛ فأوجب النص غسْل تلك الأعضاء عند كلّ صلاة، فجاءت السّنّة وأجازت صلاة أكثر من فريضة بوضوء واحد ما لم يُحدِث الإنسان. وفي الأمر بقصْر الصلاة: قال تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ}؛ فالآية عامة في قصْر جميع الصلوات، فجاءت السّنّة النبوية فاستثْنَت صلاة الصبح والمغرب من القصْر، وعدم جمع صلاة الصبح. وفي الزكاة جاء النص مُطلقاً في زكاة النقديْن والزروع، فجات السُّنّة فخصّصت وحدّدت النِّصاب. وفي الصوم جاء النص عاماً في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}، ولم تُبيِّن الآية كيف كان مكتوباً عليهم، فجاءت السّنّة فبيّنت بداية الصوم ومنتهاه. وفي المطعومات جاء النص في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ ... } فشملت الآية تحريمَ كلِّ ميتة أو دم، فجاءت السُّنّة فخصّصت من الميتة: السمك والجراد. وخصّصت من عموم الدّم: الكبد والطحال.

3 - استقلال السّنّة بالتشريع: حيث جاءت أقوال الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأفعاله بالكثير من التشريعات التي استقلّت بها؛ وقد جاء ذلك في جميع مجالات الشريعة، من عبادات، ومعاملات، وأخلاق. ومن ذلك: ففي الصلاة، جاءت السّنّة بنوافل راتبة مع الصلوات الخمْس، كما جاءت بنوافل غير رواتب، كتحيّة المسجد، وصلاة العيديْن، والاستسقاء، والكسوف، وصلاة الجنازة، وقيام رمضان. وفيه جاء التنصيص باستقلالية السّنّة في تشريعه، قال -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الله فَرَض عليكم صيام رمضان، وسنَنْتُ لكم قيامَه)). وفي الزكاة، جاءت السّنّة بصدقة الفِطر وصدقة التّطوّع. وفي الصيام، شرع بالسّنة صوم يوم الاثنيْن، والخميس، وثلاثة أيام في كلّ شهر. كما نهى الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن صوم يوم العيديْن، وأيام التشريق، ويوم الشّكّ. وفي الأنكحة نصّ القرآن الكريم على المُحرّمات بقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ ... } الآية، ثم جاءت السّنّة ونصّت على تحريم الرضاع ما يَحرُم من النسب، ونهى عن الجمْع بين المرأة وعمّتها وخالتها. وفي الحدود جاء النص على حدّ الزاني للبِكر جَلْد مائة، فجاءت السُّنّة وجعلت مع الجلْد تغريب عام. ثانيا: أجمعت الأمّة: أنّ خصائص السُّنة في التشريع كخصائص القرآن الكريم، من حيث الثبوت؛ ففيها المتواتر الذي لا يُمكن ردّه، وهو ما يُسمَّى: "قطعيّ الثبوت"، أي: كثبوت القرآن الكريم، وكذلك من حيث الإيجاز. وتفرّد حديثه -صلى الله عليه وسلم- بجوامع الكلِم، وأيضاً من حيث الدلالة من عموم وخصوص، ومُطلَق ومُقيّد، وناسخ ومنسوخ.

وقد تقبّلت الأمّة عبر تاريخها سُنّة الرسول -صلى الله عليه وسلم- كما تقبّلوا القرآن الكريم، ولم يُنكر ذلك إلاّ جاهل أو جاحد أو علمانيّ ملحد. وقد ظهرت في كل عصر جماعة منحرِفة في الفكر تُنكر السّنّة، وتعترض على الأخذ منها، وتشكِّك في صحة الأحاديث النبوية؛ وهم بذلك يريدون هدْم المصدر الثاني للتشريع، ويُغلقون أهمّ باب من أبواب الثقافة الإسلامية. وقد تعالى نقيق هذه الضفادع البشرية، ووصل فحيحهم المسموم إلى العقول عبْر بعض وسائل الإعلام والقنوات الفضائية، حيث تجرّؤوا بوقاحة وتبجّح في إنكار السُّنّة. وعلى العلماء والدّعاة: أن يقفوا لهذه الفئة الضالة بالمرصاد، يُفنِّدون آراءهم، ويكشفون للأمّة زيف أفكارهم، ويوضِّحون للمسلمين عَمالة هؤلاء لأعداء الإسلام. ثالثاً: الأدلّة من القرآن والسُّنّة على حجِّيّة السّنّة، وأنها المصدر الثاني للشريعة والثقافة الإسلامية. جاءت النصوص من الكتاب والسُّنّة وأجمعت الأمّة سلَفاً وخلَفاً: على وجوب اعتبار سُنّة الرسول -صلى الله عليه وسلم- هي المكوِّن الثاني لعقل الأمّة ولِفكرها وثقافتها. وقد جاءت الأدلّة على النحو التالي: أ- ما جاء في القرآن الكريم، ومن ذلك: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}؛ فقد تضمنت هذه الآية ثلاث مسائل: الأولى: كوْن الرسول -صلى الله عليه وسلم- مبلِّغاً عن الله. الثانية: أنه -صلى الله عليه وسلم- لا يملك التّأخّر عن هذا التبليغ. الثالثة: أنّ الله حفِظَه وضمِن سلامته وعصَمه، حتى يبلِّغ الرسالة على الوجه الأكمل.

وقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}. وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ}. وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}. وقال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً}. وقد أمر القرآن الكريم بِرَدِّ ما ينشب من خلاف بين الأمّة إلى حُكم الله ورسوله، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}. فقد بيّنت الآية: أنّ الاحتكام إلى الله من خلال آيات القرآن الكريم، وإلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- عبْر سُنّته -صلى الله عليه وسلم- رُكن من أركان الإيمان. قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}، وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}. ب- ما جاء في السُّنّة من أدلّة تُؤكِّد على حجِّيّتها، وأنها المصدر الثاني للإسلام؛ ومن هذه الأحاديث: ما روي عن المقدام بن معديكرب، عن رسول -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((ألاَ إنّي أُوتيتُ الكتاب ومثله معه. ألا يوشك رجُل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن! فما وجدْتم فيه مِن حلال فأحِلّوه! وما وجدْتم فيه من حرام فحرِّموه!))، أخرجه أحمد، وأبو داود، والحاكم، بإسناد صحيح. وجاء في الصحيحيْن من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((مَن أطاعني فقد أطاع الله، ومَن عصاني فقد عصى الله)).

وعن الحسن بن جابر قال: سمعت المقدام بن معديكرب -رضي الله عنه- يقول: ((حرّم رسولُ الله يوم خيبر أشياءَ، ثم قال: يوشك أحدُكم أن يُكذِّبني وهو متّكئ يُحدِّث بحديثي فيقول: "بيننا وبينكم كتاب الله! فما وجدْنا فيه مِن حلال استحللْناه، وما وجدْنا فيه من حرام حرّمناه! ". ألا إنّ ما حرّم رسولُ الله مثْلُ ما حرّم الله))، أخرجه الحاكم، والترمذي، وابن ماجة. وهذا من معجزاته -صلى الله عليه وسلم-، حيث أخبر عن خروج جماعة على إجماع الأمّة يُنكرون حجِّيّة السُّنّة.

الدرس: 4 العلوم التي يحتاج إليها الداعية (1).

الدرس: 4 العلوم التي يحتاج إليها الداعية (1).

ما يجب على الدعاة معرفته مما يتعلق بسنته -صلى الله عليه وسلم-.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الرابع (العلوم التي يحتاج إليها الداعية (1)) 1 - مصادر الثقافة الإسلامية (1) ما يجب على الدّعاة معرفتُه ممّا يتعلّق بسُنّته -صلى الله عليه وسلم- بجانب ما ذكرناه عن أهمِّيّة السُّنّة، وأنها المصدر الثاني للشريعة والثقافة الإسلامية، فإنه يجب على الدّعاة -بجانب العلْم والمعرفة بأقوال الرسول -صلى الله عليه وسلم- وبأفعاله، وبالوقوف على سيرته وأحواله-: أن يكون لديْهم إلمام بعلْم الحديث الذي يتّصل بنقل ورواية ما أضيف إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- من قول أو فعْل أو تقرير، أو وصْف لأخلاقه وشمائله ومنهجه في الدّعوة إلى الله؛ وهو ما يُسمّى بـ"علْم الحديث روايةً". وفائدته: العناية بحفْظ سُنّته -صلى الله عليه وسلم-، ومعرفة أحكام الشريعة، وبيان لما جاء في القرآن الكريم، ووجوب الاقتداء به -صلى الله عليه وسلم-. وكذلك ينبغي على الدّعاة إلى الله: أن يكون لديْهم إدراك ومعرفة بالأمور التالية: أولاً: "علْم مصطلح الحديث"، وهو: علْم يتعلّق بالقواعد التي تُبيِّن أحوال الرّاوي والمروي؛ ويسمَّى هذا النوع من العلْم: "علْم الحديث درايةً". فالرّواة الناقلون للحديث يُطلق عليهم: "سنَد الحديث"، والألفاظ التي تحمل معنى الحديث هي: "متْن الحديث". فموضوع "علْم الحديث درايةً": البحث عن أحوال السّنَد والمتْن من حيث القبول فيُعمل به، أو الرّدّ فلا يُعمل به. وقد وضع علماء الحديث منهجاً فريداً ورائعاً، للتثبّت من صحّة الأحاديث، ونبْذ ما وضَعه الوضّاعون الكذّابون، ممّا نسبوه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كذباً وافتراءً، إما اتّباعاً للهوى أو غفلة وجهلاً. وقد اعتمدت أصول هذا المنهج للتّحقّق من صحة ورواية الأحاديث، على عِدّة نقاط، كلّ عنصر منها يتطلّب جهداً علمياً واسعاً. النقطة الأولى: النّظر الدقيق في رواة الأحاديث، والبحث عن أحوال عدالتهم وضبطهم، وأهليّتهم لتحمّل العلْم وأدائه.

وقد نشأ ما يسمّى عند المسلمين بـ"علْم الرجال"، ونشأ "علْم الجرح والتعديل"، وهو علْم لم يكن عند أحد قبل المسلمين. النقطة الثانية: النظر في لِقاء الراوي لِمَن روى عنه، وبالتّتبّع المُضني المستنِد إلى وسائل التّحقق التاريخية. تكون لدى محقّقي الأحاديث مستندات ذوات وزن علْمي، لنقد ما يرويه الرواة عمّن سبقهم، وبالنقد العلمي الدقيق يتمكن المحقِّق البصير من تقويم درجة رواية الحديث. النقطة الثالثة: النظر في اتصال سلسلة الرواة، راوياً فراوياً، إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. النقطة الرابعة: النظر في الطريق أو الطُّرق المختلفة التي روَتْ كل حديث. ونشأ من متابعة التحقيق العلمي بالاستناد إلى هذا العنصر: تصنيف الأحاديث مع ذكر عدد طُرُق الرواة. واتّخذ المحدِّثون لذلك عدّة ألقاب في مصطلحاتهم، وهي: المتواتر، المشهور، العزيز، الآحاد، الغريب ... النقطة الخامسة: النظر في متون الأحاديث المرويّة من طُرق مختلفة، بالمقارنة بينها، ولدى المقارنة لا بد أن تظهر وجوه اتّفاق ووجوه اختلاف. هذه القواعد والعناصر التي من خلالها يُحكم على درجة صحّة الحديث النبوي الشريف، ينبغي على مَن ينخرط في سلْك الدّعاة أن يكون مُلماً بها. ثانيا: وجوب تعرّف الدّعاة إلى الله على أئمّة الحديث وكُتُبهم، حيث لم تُعرف أمّة على وجه الأرض، ولم توجد حضارة من الحضارات القديمة أو الحديثة، مَن حشدتْ طاقاتها، وجيّشت علماءها، ورصدت كلّ قدراتها الفكرية والعملية، للمحافظة على ثوابتها العقائدية وكنوزها العلمية ومصادرها الثقافية، مثل أمّة الإسلام التي بذلت أقصى ما يستطيعه العقل البشري والفكر الإنساني من أجْل المحافظة على مصدرَيْها الأساسيَّيْن: القرآن الكريم، والسُّنّة النبوية.

فالقرآن الكريم قد تكفّل الله بحفْظه من الضياع والنسيان، وصانه من التحريف والتغيير، وسهّل للأمّة تلاوته وحفظه، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}. ومن أهمّ العوامل التي ساعدت على دوام حفْظه، وخلود آياته واستمرار تشريعاته: عناية الأمّة بسُنّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وذلك بالحفظ والرواية والتدوين والتنقيح، وذلك من خلال جهد علْميّ دقيق، ومنهج متميِّز فريد. وقد حثّ عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((نضّر الله امرأً سمِع مقالتي فوعاها، فأدّاها كما سمِعها. فرُب مبلَّغ أوعى من سامِع)). وفي خطبة الوداع لعشرات الآلاف التي وقفتْ تُنصت لكلامه يوم عرفة، فقال: ((ألاَ فَلْيُبَلِّغَنّ الشاهدُ منكم الغائب! اللهم قد بلغْتُ! اللهم فاشهدْ!)) ولقد توالى حفظ صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لتدوين الأحاديث ونقلها، حتى جاء القرن الثاني الهجري، وأصبح التدوين رسمياً ودعا إليه عمر بن عبد العزيز. وكان هذا بداية جهْد علميّ فريد انتهى -بتوفيق الله- إلى جمْع السّنّة وتدوينها وتبويبها وتصنيفها على أيدي أئمة الحديث، الذين أخلصوا النية لله، وعقدوا العزم وبذلوا الجهد في كتابة الأحاديث. وقد اشتهر منهم أئمة أعلام، وحُفّاظ ثقات، يجب على الدّعاة أن يتعرّفوا إليهم وأن يقفوا على مؤلّفاتهم، نذكرهم في إيجاز على النحو التالي: أولاً: الإمام مالك بن أنس: وُلد عام 95 هـ، وتوفّي عام 179هـ. هو: عبد الله مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي المدني، إمام دار الهجرة. وكتابه: "الموطأ" استغرق في تأليفه أربعين سَنة.

وسبب تسميته بهذا الاسم: ما روي عن مالك أنه قال: "عرضت كتابي هذا على سبعين فقيهاً من فقهاء المدينة، فكلّهم واطأني على كتابي هذا -أي: وافقني-، فسميته الموطأ. وكان أول من ألّف الحديث ورتبه على الأبواب هو: الإمام مالك. ثانيا: الإمام أحمد بن حنبل: وُلد عام 164هـ، وتوفّي عام 241هـ. هو الإمام الجليل أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، وُلد في بغداد، ودرس بها حتى عام 183هـ، ثم رحل لطلب العلْم في الكوفة، والبصرة، ومكة، والمدينة، واليمن، والشام، والجزيرة. وكان شديد العناية بالحديث، والتقى بأئمته في عصره، ثم عاد إلى بغداد والتقى بالإمام الشافعي، وحضر دروسه في الفقه والأصول عام 195هـ. وحينما رحل الإمام الشافعي إلى مصر، قال: "خرجت من بغداد وما خلّفتُ بها أفقه ولا أورع ولا أزهد ولا أعلم من أحمد". وقد جمع الله له بين إمامة الحديث والفقه، فكتب في الحديث كتابه "المسند"، وهو يحتوي على ثلاثين ألْف حديث، وقد انتقاه من أكثر من سبعمائة ألْف وخمسين ألْف حديث. ثالثاً: الإمام البخاري: وُلد عام 194هـ، وتوفّي عام 256هـ، عن عُمُر يناهز اثنين وستّين عاماً. هو: محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبة، الجعفيّ ولاء، البخاري مولداً. وبردزبة كلمة فارسية معناها بالعربية: الزارع أو البستاني.

والجعفيّ: نسبة إلى اليمان الجعفي الذي شرف الله المغيرة جدّ الإمام البخاري بالإسلام على يديه، فانتمى إليه بولاء الإسلام. وقد أراد الله لمدينة بخارى -بولاية أوزبكستان الآن، إحدى الجمهوريات التي كانت تابعة للاتحاد السوفياتي ثم استقلت بعد سقوط الاتحاد السوفياتي- أن يرفع ذِكْرها، ويخلّد اسمها بمولد ونشأة الإمام البخاري فيها. والإمام البخاري علَم الأعلام في الحديث، جَدّ في طلَبه وارتحل في سبيله، والتقى بحفّاظ عصره في خراسان، والعراق، والحجاز، والشام، ومصر. وتألّقت شخصيته في سماء المجد وشرف الانتساب لحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بكتابه "الجامع الصحيح المسنَد المختصر من أحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- وسننه وأيامه"، والذي اشتهر باسم: "صحيح البخاري". وهو الكتاب الذي قال فيه العلماء بحق أنّه أصحّ كتاب بعد كتاب الله تعالى. وقد ظل يعمل في جمْعه ستة عشر عاماً، وقد أخرجه من ستمائة ألْف حديث. وقد استنبط العلماء -كالحازمي وابن حجر- شروط البخاري التي وضعها في اختيار أحاديثه، ومنها: اتّصال السّند، إسلام الرّاوي، عدالته وضبطه، وأن يكون صادقاً غير مدلِّس، وأن يكون الراوي من الدرجة الأولى عادة، وقد يروي عن رجال الدرجة الثالثة في الغالب تعليقاً على حديث. رابعاً: الإمام مسلم: مولده عام 206هـ، وتوفّي عام 261هـ، عن عمر يُناهز خمسة وخمسين عاماً. وهو: أبو الحسن بن الحجّاج بن مسلم القشيري النيسابوري، نشأ شغوفاً في طلَب العلْم ورحل في سبيله إلى خراسان، والرّي، والعراق. والتقى بالإمام أحمد بن حنبل، ثم سافر إلى الحجاز، ومصر، وروى عنه خلْق كثير.

تعريف الشريعة وخصائصها.

ويأتي "صحيح مسلم" مكافِئاً أو مقارباً لصحيح البخاري. وله مؤلّفات كثيرة متعلّقة بالحديث وعلومه. وبجانب هذه الكتب وهؤلاء الأعلام، يوجد أصحاب السّنن مثل: أبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، والدارمي، والدارقطني، وغيرهم، الذين حفظ الله بهم سُنّة رسوله -صلى الله عليه وسلم-. وعلى الدّعاة إلى الله: أن يتعرّفوا عليهم، ويتزوّدوا من مؤلّفاتهم، ممّا يساعد على نمو معارفهم، واتّساع ثقافتهم، ونجاح دعْوتهم. أمّا عن مصادر الثقافة الأخرى، فهذا موضوع المحاضرة القادمة -إن شاء الله-. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. 2 - مصادر الثقافة الإسلامية (2) تعريف الشريعة وخصائصها الحمد لله، تفضّل على هذه الأمّة بدِين هو خير الأديان، وشرع لها من الأحكام ما يُحقِّق لها التّقدّم في كلّ زمان ومكان. والصلاة والسلام على أشرف الخلْق وخاتم الرسل، والمبعوث رحمة للإنس والجان، وعلى آله وأصحابه الذين فقهوا دين الله فكانوا أئمة الهدى وأعلام التّقى لجميع الأمم والأوطان. أما بعد: "الشريعة" في اللغة: المذهب والطريقة المستقيمة، وشرعة الماء أي: مورد الماء الذي يُقصد للشرب. وشرْع أي: نهج واضحٌ بين المسالك، وشرَع لهم يشرع شرعاً، أي: سنّ. وفي الاصطلاح: هي: ما شرعه الله لعباده من أحكام، وهذه الأحكام تُسمّى "شريعة" باعتبار وضعها وبيانها واستقامتها، وتُسمَّى "دِيناً" باعتبار الخضوع لها وعبادة الله بها، وتُسمَّى "مِلّة" باعتبار إملائها على الناس. ب- خصائص الشريعة الإسلامية: تنفرد الشريعة الإسلامية بخصائص تتميّز بها وأحكام لا نظير لها، وتتمتّع بالاستقلالية التامة، وتصوغ عقل الأمّة في العقائد والعبادات والمعاملات بفكر

واضح يتلاءم مع فطرة الإنسان، وبمنهج مستقلّ على الشرائع والنُّظم الأخرى. ويجب على الدعاة أن يتعرّفوا على خصائص الشريعة التالية: أولاً: مصدر الشريعة في الإسلام هو: الله -سبحانه وتعالى- الخبير ببواطن الأمور، الذي يعلَم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ}. وقال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ}. أحكام الشريعة مستمَدّة من وحي لله لفظاً ومعنى وهو: القرآن الكريم، أو معنى من عند الله ولفظاً من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهي: السُّنّة. وكون الشريعة من عند الله ورسوله، فهذا يحفظها من الخطإ، ويعصمها من الهوى، ويصونها من عبث العقول وتقلّبات الدّهر وحوادث الأيام؛ فإن نصوص القرآن والسّنّة تحمل بين ثناياها أموراً ثابتة لا تتغيّر بتغيّر الزمان والمكان، وهي: العقائد والعبادات والأخلاق، وتشتمل على قضايا وقواعد عامّة للبشر أن يجتهدوا في حدودها وفْق ما يُحقّق المصلحة الإنسانية ويدفع عنها الضرر. ثانياً: إن مبادئ الشريعة وأحكامها تتلاءم وتتوافق مع الفطرة الإنسانية، وتراعي دوافع الإنسان ورغباته، في إطار ما شرعه الله من حدود وأحكام. فهي لا تجنح للْجوْر، ولا تميل للظلم، ولا تكبت رغبة، ولا تصادر فطرة، بخلاف قوانين وشرائع البشَر التي تتلاعب بها الأهواء، وتعبث بها العقول، وتُصاغ وفْق رغبات واضعيها، وتتغيّر وتتبدّل مع شارد ووارد. أمّا أحكام الله فلا تتغير ولا تتبدّل، قال تعالى: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً}.

ثالثاً: الإنسانية أمام أحكام الشريعة سواء، فهي تطبّق الأحكام، وتنفّذ الشرائع، وتقيم الحدود، على أعلى الناس وأدناهم، وأفقرهم وأغناهم، ولا تمييز في إقامة دين الله وشرائعه بين جنس أو لون أو إنسان؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}. قال -صلى الله عليه وسلم-: ((يا أيها الناس، إن ربكم واحد، وإنّ أباكم واحد. ألا لا فضْلَ لعربيّ على أعجميّ، ولا لأعجميّ على عربيّ، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر إلاّ بالتقوى))، رواه البيهقي. والدليل على تلك المساواة المطلَقة: قضيّة المرأة من بني مخزوم التي سرقت، فجاء أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- يشفع لها عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال -عليه الصلاة والسلام-: ((أتشفع في حدٍّ من حدود الله؟))، ثم قال -عليه السلام-: ((إنما أهلَك من كان قبلكم: أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريفُ ترَكوه، وإذا سرق فيهم الضعيفُ أقاموا عليه الحدّ. وأيْمُ الله! لو أن فاطمة بنت محمد سرقتْ لقطعتُ يدها)). رابعاً: أحكام الشريعة لها هيبةٌ في القلوب واحترامٌ في نفوس المؤمنين، يتقبّلونها طواعية ويقيمونها عن رغبة صادقة، لأنها صادرة عن الله ورسوله. أمّا قوانين البشر الوضعية، فيُضرب بها عرض الحائط، ويُتحايل عليها، وتَفقد احترام وهيبة الناس لها. خامساً: من خصائص الشريعة الإسلامية: أنّ ثوابها وجزاءها في الدنيا والآخِرة، بخلاف الأحكام الوضعية فجزاؤها يتوقّف على الدنيا فقط، ممّا يجعل الناس يستهينون بها ويتهرّبون من تنفيذها. وبعض العقوبات تسقط بمُضيّ المدّة، بخلاف أحكام الشريعة فإنّ من يتهرّب منها في الدنيا يجد الجزاء والعقوبة له بالمرصاد في الآخِرة.

سادساً: عموم الشريعة وبقاؤها واستمرارها. الإسلام بما يحمله من تشريعات ونُظُم عامّ للبشر جميعاً، قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً}. وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً}. وهذه الشريعة قائمة، لا ينسخها دِين ولا تتوقّف أحكامها ولا تتعطّل حدودها إلى قيام الساعة. وعموم الشريعة وبقاؤها واستمرارها يستلزم عقلاً: أن تكون أحكامها على نحوٍ من الشمول والإحاطة بما يُحقِّق مصالح البشر في كل زمان ومكان،؛ فهي تقوم على جلب المصالح ودرء المفاسد. فمصالح العباد تقوم على أمور ضرورية، أو حاجيّة، أو تحسينيّة. فالأمور الضرورية التي لا قيام للإنسان إلا بها، وإذا انعدمت حلّ الفساد وعمت الفوضى وهي: حِفْظ الدِّين، والنفس، والعقل، والعِرض، والمال. والحاجيات هي التي يحتاج إليها الناس ليعيشوا بيُسر وسعادة، وإذا فاتَتْهم لم يختلّ نظام الحياة، ولكن يصيب الناسَ ضيقٌ وحرج. وأمّا التحسينات فهي ترجع إلى محاسن العادات، ومكارم الأخلاق، وإذا فاتت لم يختلّ نظام الحياة، ولا يصيب الناسَ حرج، ولكن يخرجون عن النهج القويم، ويتمرّدون على ما تُوجبه الفِطرة النّقيّة. فالشريعة جاءت أحكامُها لتحقيق وحفظ الضروريات والحاجيات والتسحينات. فالدِّين شَرع لإقامته العبادات، وشَرع لحِفْظه الجهاد والعقوبات. والنفس شُرع لإيجادها النكاح، وشُرع لحفْظها القصاص على من يعتدي عليها، وتحريم إلقاء النفس في التهلكة، ولزوم دفع الضرر عنها.

حاجة الدعاة إلى الله إلى الفقه في أحكام الشريعة.

والعقل شُرع لحفْظه تحريم الخمر وعقوبة شاربها. والنسل شُرع لإيجاده الزواج، وشُرع لحفْظه عقوبة الزنى والقذف، وحرمة إجهاض المرأة الحامل إلاّ لضرورة. والمال شُرع لتحصيله أنواع المعاملات، وشُرع لحفظه حرمة أكل الأموال بالباطل، وتحريم السرقة والغصب والربا. حاجة الدّعاة إلى الله إلى الفقه في أحكام الشريعة من العوامل التي تُساعد الدّعاة لأداء رسالتهم على النحو الأكمل والأنفع: أن يكونوا على علْم وبصيرة لأحكام العبادات والمعاملات، وعلى صلة وثيقة بالمذاهب الفقهية وأئمّتها، بحيث يجتمع لديهم روعةُ البيان، وحُسنُ الاستدلال من القرآن والسّنّة، مع التّفقه في الأحكام الشرعية. وهم بهذا ينالون الفضيلتيْن: الدعوة إلى الله، والتّفقّه في الدِّين، اللّذيْن أمَر الله بهما، قال تعالى: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}. وقال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}. وسوف يتضمّن هذا العنصر المباحث التالية: أولاً: تعريف الفقه الإسلامي، وبيان خصائصه: الفقه في اللغة: العلْم بالشيء والفهم له، كما يعني: إدراك غرض المتكلِّم من كلامه، ومنه قوله تعالى: {فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً}، وقوله تعالى على لسان شعيب -عليه السلام-: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ}.

وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((مَن يُرِد اللهُ به خيراً، يُفقِّهْهُ في الدِّين)). تعريف الفقه في الاصطلاح: أُطلِق لفظ "الفقه" في الاصطلاح الشرعي على: جميع الأحكام الدِّينية التي جاءت بها الشريعة الإسلامية، سواء أكانت هذه الأحكام متعلّقة بأمور العقيدة، أو بالعبادات، أو المعاملات. ثم تغيّر هذا المفهوم الاصطلاحي، وصار يُطلَق على: العلْم بالأحكام الشرعية الثابتة لأفعال المكلَّفين. وقيل في تعريفه: هو العلْم بالأحكام الشرعية العمليّة مِن أدلّتها التفصيلية بالاستدلال، والأحكام الشرعية العملية التي تثبت لأفعال المكلَّفين، أي تتعلّق بأفعالهم التي هي من العبادات والمعاملات هي: أ- الوجوب: ومعنى هذا: أن الفعل الذي تعلّق به هذا الحُكم يُلزم المكلّف القيامَ به على وجْه الإلزام، ويسمَّى هذا الفعل بـ"الواجب". فالواجب هو: ما طَلب الشّارعُ فعْلَه على وجْه الحتْم والإلزام، كالصلاة، والوفاء بالعقود. ب- الحُرمة: ومعنى هذا الحُكم: أن الفعل الذي تعلّق به يُلزم المكلَّف ترْكَه على وجه الحتْم والإلزام، ويُسمَّى هذا الفعل المطلوب ترْكه إلزاماً بـ"المحرّم". فالمُحرَّم إذاً هو: ما طَلب الشّارع تَرْكَه على وجْه الإلزام، كالزّنى والسّرقة. ج- النّدب: أي: طلَب الشّارع القيامَ بالفعل على وجْه التّفضيل والترجيح لا الإلزام، ويُسمَّى هذا الفعل الذي تعلّق به هذا الحكم بـ"المندوب". فالمندوب: ما يُطلب فعْله على وجه التفضيل لا الإلزام، مثل: كتابة الدَّيْن حِفظاً لحقوق الدّائن. د- الكراهة: طلَب الشارع ترْك الفعل على وجه الترجيح لا الإلزام، ويُسمَّى الفعل الذي تعلّق به هذا الحكم بـ"المكروه". فالمكروه: ما طلَب الشارعُ ترْكَه على وجه الترجيح لا الإلزام، مثل: إيقاع الطّلاق بلا مُبرِّر.

هـ- الإباحة: ويعني هذا الحُكم: تخيير المكلَّف بين القيام بالفعل الذي تعلّق به هذا الحُكم وبيْن ترْكه. والفعل المخيَّر بين ترْكه والقيام به يُسمّى بـ"المباح". إلى غير ذلك من الأحكام الشرعية. فالفقه في الإسلام يوضِّح للمسلمين كيفية أداء العبادات على الوجه المشروع، ويحمي حقوق العباد، ويؤمِّن لهم ضروريات الحياة، وينظِّم شؤون المجتمع. ولا يوجد على ظهر الأرض قانون جَمَع بين المصالح الدِّينية والدنيويّة كأحكام الفقه الإسلامي، لأنه تشريع سماويٌّ ربّانيّ؛ العملُ به طاعةٌ لله يترتّب عليه الثواب، ومخالفته معصية لله تستوجب العقاب. ثانياً: مصادر الفقه الإسلامي: يقوم الفقه في الإسلام على مصادر ثابتة تُستقى منها الأدلة الشرعية، ويُستند إليها في نوعيّة الأمر أو النهي الذي تضمّنه الدليل. ومصادر الفقه ترجع كلّها لِوحْي السماء، سواء أكان قرآناً أم سُنّة، أو إلى ما أشارت إليه نصوص الكتاب والسُّنّة كالإجماع والقياس. وسوف نشير إلى تلك المصادر والتعريف بها في إيجاز، ليتكوّن لدى الدّعاة ثقافة واسعة تُؤهِّلهم تأهيلاً حسناً للقيام بدور الإرشاد والتوجيه بجانب التعليم والتفقيه للمسلمين. وبذلك يُخلق رأي عام يَفهم أحكام الشريعة ويتذوّق حلاوة الإيمان، ممّا يعود أثَره على المجتمع المسلم خاصة والمجتمعات الإنسانية بصفة عامة. وهذه المصادر تأتي مرتّبة على النحو التالي: أولاً: القرآن الكريم: وهو: كتاب الله المنزّل على رسوله -صلى الله عليه وسلم-، المكتوب بين دفّتيِ المصحف المنقول نقلاً متواتراً بلا شبهة. والقرآن الكريم هو المصدر الأوّل للتشريع، والحجّة القائمة على الناس أجمعين ليوم الدِّين.

خصائص القرآن الكريم: للقرآن الكريم خصائص يتميّز بها وينفرد عن جميع الكتب المُنزَلة على الأنبياء السابقين. ومن هذه الخصائص: 1 - القرآن لفْظُه ومعناه من عند الله، وليس لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- سوى التبليغ، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}. 2 - القرآن الكريم وصَل إلى الأمّة عبر أجيالها بالتواتر. ومعنى التواتر: أنه نَقَله جمعٌ عن جمْع لا يحصى عددُهم، ولا يَتصوّر العقل تواطؤَهم على الكذب. وهذا الاستمرار والتواتر قائم إلى قيام السّاعة، ممّا يفيد اليقين والعلْم القطعي. 3 - القرآن الكريم وصل إلينا كاملاً، لم يُنقص منه حَرف ولن تضيع منه كلمة، كذلك لم تزد عليه جملة واحدة، لأن الله تكفل بِحفْظه، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}. 4 - القرآن مُعجز بلفظه ومعناه للإنس والجن، قال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً}. وقد جاء القرآن الكريم بأحكام تتعلّق بالعقائد، والعبادات، والأخلاق، والمعاملات. والفقه في الإسلام يتناول العبادات والمعاملات. وقد وردت هذه الأحكام على النحو التالي: أ- القواعد الكلية والمبادئ العامة التي تكوّن أساساً لتفريع الأحكام، ويُترك للعقل البشري أسلوب تطبيقها مع ظروف كلّ عصر. ومن هذا القواعد العامة: 1 - الأمر بالشّورى، قال تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}.

2 - الأمر بالعدل والحُكم به، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ}. 3 - لا يُسأل الإنسانُ عن ذنب غيره، قال تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}. 4 - حرمة مال الغير، قال تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}. 5 - التعاون على الخير، قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}. فهذه أسُس عامّة يُناط لوليّ الأمر ولأهل الحلّ والعقد سَنّ سُبُلَ ووسائلَ وآليّة التنفيذ. ب- بيان إجمالي يحتاج إلى تفصيل، مثال ذلك: 1 - وجوب الصلاة والزكاة، قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}. 2 - وجوب الحجّ والعمرة، قال تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}. 3 - وجوب القصاص، قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى}. 4 - حِلّ البيع وتحريم الربا، قال تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا}. فهذه أمور جاء بها القرآن الكريم على سبيل الإلزام، وتُرك الأمر لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- لِذِكْر التفصيلات لكلّ أمر من هذه الأمور. فالسّنّة حدّدت عدد الصلوات وهيئتها قال -صلى الله عليه وسلم-: ((صَلُّوا كما رأيْتموني أصلِّي)). وكذلك في سائر العبادات التي أوضحتْها السُّنّة غاية الإيضاح، ولا مجال فيها لاجتهاد مُجتهد ولا لرأي فقيه. ج- أحكام وتشريعات جاء بها القرآن الكريم بصورة تفصيليّة دقيقة ومحدّدة، ولا سيما ما يتعلق بالأسرة، من زواج، وطلاق، وأنصبة المواريث، والمُحرَّمات من النساء، والحدود. كذلك ما يتعلّق بأمور العقيدة، فقد جاءت على سبيل الإيضاح والتفصيل.

وقد ربط القرآن الكريم الأحكام -سواء ما جاءت على صورة قواعد عامة، أو إجمال، أو تفصيل- برباط العقيدة، وانخرطت في سلك أركان الإيمان، ممّا يُكسبها قداسةً وهيبةً وأهمية وسبباً رئيسياً بالفوز بالجنة عند أدائها، أو القذف في النار عند عدم الإتيان بها أو مخالفة الأمر الوارد فيها. ثانياً: سُنّة الرسول -صلى الله عليه وسلم-: وهي: المصدر الثاني من مصادر التشريع في الإسلام، وأجمعت الأمّة على حُجِّيّتها ومشروعية الاستدلال بها. وأصبح هذا معلوماً من الدِّين بالضرورة، لا يُنكره إلاّ زنديق ملحدٌ أو غبيّ جاهل. والأدلّة على حُجِّيّة السُّنة ما يلي: أ- التصريح بأنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- لا ينطق عن الهوى، قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى}. ب- الأمر بطاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، قال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}. ج- وجوب ردّ التنازع إلى الله -أي: إلى كتابه- وإلى الرسول -أي: لسنته-، قال تعالى {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}. د- وجوب تحكيم الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيما يحصل من خلاف بين الأمّة، قال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً}. ز- لا خيار للمسلم فيما قضى به الله أو قضى به رسوله -صلى الله عليه وسلم-، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً}.

هـ- أعطى الله الرسول -صلى الله عليه وسلم- سلطة تنفيذ الأحكام، قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}. فمرتبة السّنّة تلي القرآن الكريم في التشريع، ودلّ على هذا: ما رُوي عن معاذ -رضي الله عنه-: ((أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سألَه حين بعثه لليمن: كيف تقضي إن عرض عليك قضاء؟))، قلت: أقضي بما في كتاب الله. قال: فإن لم يكن في كتاب الله؟ قلت: أقضي بما قضى به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. قال: فإن لم يكن قضى به رسول الله؟ قلت: أجتهد رأيي ولا آلو -أي: لا أقصّر-. فضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صدري وقال: الحمد الله الذي وفّق رسولَ رسولِ الله لِما يُرضى رسولَ الله)). وعلى هذا المنهج، سار صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. ومِن ذلك: ما روي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: أنه كتب إلى القاضي شريح: "إذا أتاك أمر، فاقض بما في كتاب الله. فإن أتاك ما ليس في كتاب الله، فاقْضِ بما سَن فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-". بجانب هذيْن المصدريْن الرئيسيَّيْن: القرآن والسُّنّة، توجد مصادر أخرى تنبثق منهما، ولا تخرج عن حدودهما. من ذلك: 1 - الإجماع، ويُعرّف لدى علماء الفقه والأصول: "اتّفاق المجتهدين من الأمّة الإسلامية في عصر من العصور، بعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم-. ومستند الإجماع قد يكون من القرآن والسّنة. وقد يكون قياس ما ليس له دليل على نظير له دليل. وقد يستند الإجماع إلى العُرف المنضبطة ثقافته وفكره وسلوكه بثوابت الإسلام، وليس يراد به العرف المعاصر الذي فقَد هويّته وانقطعت صِلَته بثوابته الشرعية. وممّا أجمعت عليه الأمّة بعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم-: قتال المُرتدِّين، وجمع القرآن. والإجماع ممكن في هذا العصر من خلال المجامع الفقهية التي يشترك فيها فقهاء

المسلمين في مكان معيّن، وتُعرض عليهم الوقائع والقضايا المستحدَثة، وإذا أجمعوا على رأي يصير ملزِماً لجميع المسلمين. 2 - القياس: وهو في اللغة التقدير والمساواة. وفي الاصطلاح: إلحاق مسألة لا نصّ على حُكمها بمسألة ورَدَ النّصّ بحُكمها، وذلك بسبب تساوي المسألتيْن في علّة الحُكم. وهو مصدر هامّ من مصادر الأحكام في الشريعة الإسلامية، وبه قوامها، وتتمّ به صلاحيتها لكلّ زمان ومكان. 3 - الاستحسان: وهو في اللغة: عدّ الشيء حَسَناً. وفي الاصطلاح: هو العدول عن قياس جليّ -أي: ظاهر- إلى قياس خفيّ. 4 - المصالح المُرسَلة: وهي المصالح التي لم يُشرّع الشارع أحكاماً لتحقيقها، ولم يقُم دليل معيّن على اعتبارها أو إلغائها. وقد أجاز جمهور العلماء: أن كلّ واقعة ليس فيها نص ولا إجماع ولا قياس ولا استحسان، وفيها مصلحة محقّقة أو درء مفسدة، فللفقيه المجتهد إيجاد حُكم مناسب بما يُحقّق معه المصلحة. هذه هي مصادر الشريعة الإسلامية التي يُستدل من خلالها على نوعيّة الأحكام الفقهية ودرجة هذا الحُكم، وعلى الدّاعي إلى الله أن يكون عليماً بهذه المصادر، مطّلعاً على شروط استدلال كل منها؛ وبهذا يصبح داعياً مجتهداً فقيهاً عالماً، صاحب ثقافة واسعة تفي بحاجة من يسأله أو يستفتيه. وبذلك تتعمّق الصلة والثقة بين الدّاعي والمدعوِّين، حيث يشعر المسلمون بمدى حاجتهم إليه، فيفتقدونه إذا غاب، ويسألون عنه لحاجتهم إليه، ويفرحون بلقائه، ويستبشرون بحديثه، ويقتنعون بآرائه وفتاواه.

التعريف الموجز بأئمة الفقه.

التعريف الموجَز بأئمّة الفقه نشأ الفقه الإسلامي في حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ فلقد كان -عليه الصلاة والسلام- هو المرجع الأول في الفتوى، مستنداً إلى ما يتنزّل عليه من آيات الذّكْر الحكيم، وبما يبلّغه أصحابه من أقوال وأفعال. وكان -صلى الله عليه وسلم- يُقرّ بعض أصحابه على ما فهموه من أدلّة الكتاب والسُّنّة أو من خلال اجتهادهم في حدود ما شرعه الله. وقد برز من أصحابه -صلى الله عليه وسلم- مَن تفقّهوا في الدِّين وبأحكام الشريعة وكان لهم القدرة على الفهم والاستنباط، فكان يُرجع إليهم عند طلب الفتوى. ولقد توزع الصحابة مع الفتوحات وتفرّقوا في الأمصار، وأخذ عنهم العلْم كبارُ التابعين؛ فتكوّنت في الأمصار الإسلامية المدارس الفقهية التي تستند كل منها لصحابي أو أكثر. وقد عُرف بالفتيا في مسائل الفقه الإسلامي أعلامُ التابعين فكانوا نجوماً متلألئة في العواصم والمدن الإسلامية. ولقد اشتهر بالفقه عدد كبير من الصحابة، منهم الخلفاء الأربعة، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وزيد بن ثابت، والسيدة عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها-. كما اشتهر من التابعين: الفهقاء السبعة بالمدينة، وهم: أبو بكر بن عبد الرحمن، وعروة بن الزبير، وسعيد بن المسيب، وعبد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وخارجة بن زيد بن ثابت، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، وسلمان بن يسار. بعد عصر فقهاء التابعين، ظهر في العالَم الإسلامي تلاميذهم، وهم فقهاء تابعي التابعين. وقد بدأ في هذا العصر ظهور الأئمة المجتهدين الكبار الأربعة، وتكوّنت مذاهبهم الفقهية ومدارسهم الفكرية. وهم على الترتيب التالي:

أولاً: الإمام أبو حنيفة بن ثابت، والإمام مالك بن أنس، والإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، والإمام أبو عبد الله بن حنبل الشيباني. هؤلاء الأئمة قيّض الله على أيديهم حفْظ الفقه وتدوين أحكامه. وإنه يجب على مَن ينزل إلى ساحة الدّعوة إلى الله: أن يقف على آرائهم، وأن يكون على ثقافة واسعة بمذاهبهم، وأن يتخيّر من فتاويهم ما يناسب هذا العصر؛ وبذلك يصير الدّاعي إلى الله واسع الاطلاع، وافر الثقافة، غزير العلْم بأحكام الشريعة. هذا، وبالله التوفيق، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 5 العلوم التي يحتاج إليها الداعية (2).

الدرس: 5 العلوم التي يحتاج إليها الداعية (2).

التعريف باللغة العربية.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الخامس (العلوم التي يحتاج إليها الداعية (2)) 1 - الثقافة الإسلامية التعريف باللّغة العربية الحمد لله الرحمن، علّم القرآن، خلَق الإنسان، علّمه البيان، والصلاة والسلام على أشرف الخلْق وخاتم الرسُل الذي آتاه الله الحكمة وفصْل الخطاب، وعلى آله وأصحابه ومن دعا بدعوتهم إلى يوم الدِّين. أما بعد: اللّغة العربية إحدى اللّغات السّاميّة، انشعبت هي وهنّ من أرومةٍ واحدة، نبتت في أرض واحدة. فلمّا خرج السّاميّون من مهدهم لتكاثر عددهم، اختلفت لغتهم الأولى بالاشتقاق والاختلاط، حتى أصبحت كلّ لهجة منها لغة مستقلّة. والعلماء يردّون اللغات السامية إلى: الآرامية، والكنعانية، والعربية. ولغات العرب -على تعدّدها واختلافها- إنما ترجع إلى لغتيْن أصليّتيْن: لغة الشمال باليمن، ولغة الجنوب في الحجاز ونجد. على أنّ اللغتيْن -وإن اختلفتا- فلم تكن إحداهما بمعزل عن الأخرى؛ فقد تلاقتا وتلاقحتا من خلال اتّصال القحطانيِّين بالعدنانيِّين، ولا سيما بعد انهيار سدّ مأرب عام (447 ق. م)، ونزوح عرب الشمال "القحطانيّين" من اليمن إلى شمال شبه الجزيرة العربية. ولقد آلت إلى قريش ريادة اللغة العربية، وتجمّعت لديها أروع أساليب البلاغة والفصاحة التي سادت بهما على العرب جميعاً، لِما لِمكّة من مكانة تسمو بها عليهم، ولا سيما بعد بعثة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وهو من أشرفهم نسباً وأفصحهم بياناً. وقد تنزّل القرآن الكريم بلسانهم، فارتفعت منزلتُهم وسما قدْرُهم، وعلا شأنهم على غيرهم من القبائل. أهمّيّة اللغة العربية في ثقافة الدّعاة: اللغة العربية من اللغات الحيّة، فهي لغة القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، لها سلطانها على النفوس، وقوّة تأثيرها على الأفكار، وسحْر بيانها على العقول.

ويصف الدكتور محمد كامل الفقي عن أثر اللغة العربية على الدعاة ممّن تخرّجوا في رحاب الأزهر، وانساحوا إلى أقطار العالم الإسلامي وجامعاته ومعاهده، فتربّتْ على أيديهم أجيال وأجيال أصبحوا رواد الفكر في كلّ قطر، وزعماء اليقظة والنهضة في كلّ بلد، يقول: "فلقد كان الأزهر -ولا يزال- عكاظ الأمّة العربية، وميدان فرسان البلاغة. ولقد تهيّأ لكثير من الأزهريِّين مِن طول المراس، واعتياد القول، ومعاطاة الحوار والوعظ والجدل، رصانة في الأسلوب، ودقّة في التعبير، وسموّ في البيان، وطلاقة في اللسان، وفيض في الخواطر، وتدفّق في المشاعر، واقتدار على المباغتة والمفاجأة. وإنك لتسمع إلى خطبائهم البارعين فيخيّل إليك أنك تسمع في البادية عَربها الفصحاء، ومقاويلها البلغاء، يخطبون فيتسابقون، ويرتجلون فينافسون. يقف الخطيب منهم فتجده لا يتلكّأ ولا يتلعثم، ولا يعيد قولاً أو يكرّر جملة، أو يمسح عثنوناً، رصين الأداء، بليغ الحجة، سليم العبارة، مُحكَم الدليل. يزين خطابه درٌ من الكتاب المبين، ويُشرق في حديثه الأدب النبوي، ويلمح في جنباته روائع من أدب العرب وشعرهم". هذه الصورة المتألِّقة التي يصفها الدكتور الفقي للدّعاة ينبغي أن يتّصف بها كثير من العاملين في ميدان الدّعوة، ويمكن تحصيلها بالوسائل التالية: أولاً: حفظ القرآن الكريم، وتذوّق أساليبه، وتدبّر معانيه، والوقوف على وجوه إعجازه وشرائعه. ثانياً: تعميق الصّلة بالأدب النّبوي الكريم الذي له أثر على أداء الدّعاة، لما ينفرد به -صلى الله عليه وسلم- من فصاحة التّكلّم، وروعة المنطق، ودقّة التعبير. فقد أوتيَ -صلى الله عليه وسلم- جوامع الكلِم. ويتحدّث أديب العربية المرحوم أحمد حسن الزيات عن بلاغة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وما ينبغي على الدّعاة أن يحذوا حذْوه ويقتفوا أثره، في الفصاحة وحسن البيان،

فيقول -رحمه الله-: "إذا كان كلام الله كتاب البيان المعجِز، فإن كلام الرسول -صلى الله عليه وسلم- سُنّة هذا البيان". وإذا كان البلاغ صفة كلّ رسول، فإن البلاغة صفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، تجمّعت فيه -صلى الله عليه وسلم- خصائص البلاغة بالفطرة، وتهيأت له أسباب الفصاحة بالضرورة. فلقد وُلد في بني هاشم، واستُرضع في بني سعد، وتزوّج من بني أسد، وهاجر إلى بني عمرو -وهم الأوس والخزرج-. ثم كمّله الله برجاحة العقل، وسماحة الخلق، وصفاء النفس، وقوة الطبع، وثقوب الذهن، وتمكّن اللسان، ومحض السليقة، ليكون لساناً لكلمته، مُظهراً لكنوزه. كل ذلك قد مكّن للرسول -صلى الله عليه وسلم- من ناصية البلاغة، فأسلست له الألفاظ، وأسمت له المعاني، فلم ينِدّ في لسانه لفْظ، ولم يضطرب في أسلوبه عبارة، ولم يعزب عن علْمه لغة، ممّا جعل الصحابة يعجبون من تلك الفصاحة، فيقول لهم: ((أدّبني ربّي فأحسن تأديبي. ورُبِّيتُ في بني سعد)). ثالثاً: نشأة علوم اللّغة العربية: اشتهر العرب من بين الأمم بالفصاحة والبلاغة، وحُسن التعبير، وجمال التصوير. يجري كلامُهم على الطّبع ليس فيه تكلّف ولا زُخرف. يعبِّر أصدق تعبير عن البيئة الصحراوية، بما تحمل من خُلُق الشهامة والمروءة والنجدة. أمّة تتيه فخراً بفرسانها وشعرائها، وتدفع للصدارة حكماءها وخطباءها. وكانت اللغة العربية خالية من التنقيط والتشكيل، إذ إن العربي كان ينطق بالفطرة، ويراعي القواعد بالسليقة، ليست فيه كلمة نابية أو عبارة جافية. فأسلوبهم قويّ اللفظ، متين التركيب، يتّسم بنصاعة البيان، وطلاقة البديهة، ووضوح التعبير، وجلاء الفكرة. ولا يتعثّر لهم لسان، ولا يسقط من كلامهم حرف، ولا تشذّ عن النطق السليم كلمة، ولا تغيب عنهم قاعدة من قواعد الإعراب لحظة؛ فهم يراعونها بالفطرة، ويلتزمون مخارج الحروف بالسليقة.

وازدادت بلاغة العرب وتألّقت فصاحتهم -لا سيما قريش-، حينما نزل القرآن الكريم بلسان عربي مبين، أعجز البلغاء وحيّر الفصحاء، فعدّل مسار الفصاحة والبلاغة اللّتيْن كانتا يُتبارى بهما في المفاخرة والمنافرة، والمدح والهجاء، واستجاشة المشاعر وإثارة العواطف، لإيقاد نار الفتنة وتسعير لظى الحروب. نجد هذا كلّه يتغيّر بين ظلال الإسلام وعلى مائدة القرآن وهدي السّنّة، إلى الدعوة للإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وإلى الفضيلة ومكارم الأخلاق ومعالي الأمور. وتجاوبت فطرة العربي مع بلاغة القرآن الكريم وفصاحة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فأثمرت وأينعت خير أمّة أخرجت للناس، قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}. وكان اللسان العربي هو المعبّر عن عظمة الإسلام، والوسيلة التي يُشرح بها تعاليمه ويدعو الناس للدخول في دين الله. وكان نطق العربي، كما كان العهد به، مستقيماً خالياً من اللحن، سليماً من الخطإ. ومع انتشار الإسلام وخروج العرب فاتحين للفُرس والروم، ومع اختلاطهم بالأعاجم، بدأ اللّحن يتسرّب إلى اللغة العربية، وبدأت بعض الهفوات والسقطات تظهر بين ثنايا الكلام. وخشي صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يتسرّب اللّحن إلى القرآن الكريم، ووقعت بعض الألسنة في الخطإ أثناء التلاوة، فهبّ العلماء من المسلمين للمحافظة على اللغة العربية في تقويم مفرداتها وقواعد تصريفها، ولضبط حركات أواخر الكلمات باختلاف أحوال مواقعها من الجملة. وقد ذكَر المؤرِّخون عدّة روايات تاريخية حول دوافع تأسيس علْم النحو، منها: الراوية الأولى: جاء فيها: أنّ عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- مرّ على قوم يُسيئون الرّمي، فقرّعهم على ذلك، فقالوا له: "نحن قوم متعلِّمين". فساءه اللحن الذي وقع في

كلامهم، إذ لم يقولوا: "نحن قومٌ متعلِّمون"، أكثر ممّا إساءه خطؤُهم في الرمي، وأعرض عنهم مغضباً، وقال: "والله لَخطؤكم في لسانكم أشدُّ عليّ من خَطَئكم في رميكم". كما وقع خطأ قارئ القرآن الكريم حينما تلا قول الله تعالى: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ}، فقرأ كلمة {وَرَسُولُهُ} بكسر اللام، وهذا خطأ فاحش يُغيِّر المعنى تغييراً كبيراً، ويوقع في الإثم والمعصية. إزاء تسلّل اللّحن، خشي صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن ينتشر الخطأ في اللّغة العربية، وينتقل إلى القرآن الكريم، فكُلِّف أبو الأسود الدؤلي من قِبل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أو مِن قِبَل عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه-، على اختلاف في الروايتيْن. المهمّ أنه بدأ الاتّجاه لصَوْن اللغة العربية، فوُضعت النقاط فوق الحروف، وتمّ تقسيم الكلام إلى: اسم، وفعْل، وحَرْف. ووضعت قواعد الإعراب لضبط نهاية الجملة، وتمّ تأسيس علْم النحو والصرف. ثم تتابعت علوم البلاغة (المعاني، البيان، البديع). وكثرت مدارس النحو، وتوالت الجهود لحفْظ اللغة العربية وآدابها. وما زالت هذه المؤلَّفات والمصادر ومعاجم اللغة بين أيدي المسلمين علماء وطلاباً وباحثين. ثالثاً: كيف يتدرّب الدّعاة على اللّغة ومراعاة قواعدها؟ إنّ نعمة البيان من أجَلِّ النِّعم التي أنعم الله بها على الإنسان، قال تعالى: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}. فاللسان هو المعبِّر عمّا يجيش به الفؤاد، النّاطق عمّا يجول في القلب والوجدان. وبحُسن المنطق وسلامة التعبير يتمّ التفاهم بين بني الإنسان، وينشأ التعارف بين

الأمم والأوطان. وهو أداة لنقل العلوم والمعارف، وهو عنوان البلاغة وأمارة الفصاحة، به تُستمال القلوب، وتنقاد الأمم والشعوب. وهو لسان حال الدّعوة إلى الله، والأداة الفعّالة لتبليغها. والدّعاة إلى الله هم أحوج الناس لسلامة اللغة، ويجب مراعاتهم لقواعد الإعراب، وحُسن المنطق، وروعة البيان، ودقّة التعبير، والتّمكّن من توضيح فكرة ما يدعون إليه، ومدى تفهّم المستمع لِمَا يتحدثون به؛ إذ إن العلاقة بين المتكلِّم والمستمع كالعلاقة بين جهازَيِ الإرسال والاستقبال. فالمتكلِّم ينبغي أن يكون حَسَن الإرسال بحُسْن اللغة وسلامة المنطق، وصدْق العاطفة. والمستمع يجب أن يكون لديْه حُسن استقبال لِما يُلقى إليه، فيكون في يقظة وانتباه، ويُنصت بذهن صافٍ وصدرٍ منشرح. ولن يتسنّى للدّعاة تحقيق ذلك إلاّ بالأمور التالية: أولاً: معرفة قواعد الإعراب، ويتمّ هذا بدراسة علْم النحو وقواعده، وبجانب الدراسات يكون التدريب على النطق السليم، ومراعاة مخارج الحروف، والوقوف على الجمل المفيدة، مع ملاحظة حركة آخر الكلمة وموقعها من الإعراب. وفي البداية يلتزم الداعية أو طالب العلْم إذا قرأ في كتاب، أن يرفع صوته ويُسمع نفسه، فتشترك العين بالنظر، واللسان بالنطق، والأذن بالسمع، والعقل يضبط إيقاع الكلمة وسلامة حركتها. ثانياً: يجب على الدّاعي إلى الله: أن يكون شغوفاً بالعلْم نهِماً للقراءة، حَسن الاطلاع لكتب العلم والأدب؛ فكُتب العلْم تُزوِّد معارفه، وتُكثر ثقافته، فينمو عقله وتتّسع مداركه.

المصدر الخامس من مصادر الثقافة الإسلامية: علم التاريخ.

أمّا كتب الأدب من قصص هادفة، أو نثر بأسلوب راقٍ، أو شعر يحرك المشاعر ويستنهض الهمم، فهو ميدان فسيح يفيض بفنون وأساليب القول. فقرائح الخطباء والأدباء والشعراء، وحِكم الحكماء -ما قبل الإسلام وبعده- زاخرة بذلك. فإنّ التطوف في رياض الأدب، والتّريّض بين قطوفه وأثماره، والوقوف بين ظلاله وأفنانه، يُكوِّنان في الداعية رصيداً ضخماً من الكلمات الأدبية السامية، ويُنمي ثروةً كبيرة من الجمل الرفيعة العالية. ومن خلال التزود بالعلوم الشرعية، وتذوق الإحساس الأدبي الراقي الجميل، فإن هذا يولِّد في نفس الداعية ملَكة التعبير، وصدْق العاطفة، ونبْل المشاعر، وإخلاص النِّيّة، وسلامة الطّويّة. ممّا سبق، تتّضح أهميّة اللغة العربية وآدابها في تكوين عقل وفكر الدّعاة إلى الله. المصدر الخامس من مصادر الثقافة الإسلامية: علْم التّاريخ التاريخ مرآة الأمَم، وذاكرة الشعوب، والسّجلّ الحافل بالأحداث والوقائع. يكتب تقدّم الأمم وازدهارها، ويرصد أفول نجْمها وغروب شمسها. وتاريخ الإسلام عظيم مليء بالدروس، زاخرٌ بالعِبَر، ثريّ بالأحداث الجسام. سُطِّرت صفحاته بسيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام، وبمواقف رجاله الأشاوس وقادته الأماجد، في معظم فترات تاريخه. وتاريخ الإسلام هو تاريخ الإنسانية عبْر وحي السماء ورسالات الأنبياء، من خلال آيات القرآن الكريم الذي دَوّن الأحداث، وساق القصص، وسرد الوقائع، بصدق لا يأتيه الباطل ولا يتسرّب إليه الشّك، ولا تمتد يد لتزوير التاريخ والعبث به وطمْس معالمه، قال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ}.

فمنذ أن انطلقت دعوة التوحيد من مكة المكرمة، والتاريخ يرصد أحداث الإسلام، ويسجّل أحواله المتتابعة والمتلاحقة، ويرمق بعين الشاهد الأمين تقلّب أحوال المسلمين. وقد تعجّب المؤرِّخون والراصدون لمسيرة المسلمين عبر القرون والدهور، فيرون أحوالهم كأمواج البحر، أحياناً هادئة تعلوها سماء صافية وشمس مشرقة، وأحياناً أخرى تكون أحوالهم كالموج الثائر والشّلاّل الهادر والعواصف العاتية، وكالليل المظلم الذي طال سواده. ويرقبهم التاريخ عن كثب، فأحياناً يجدهم أمّة متّحدة تحت سقف الخلافة الراشدة، وحيناً يراهم ممزّقين في دويلات صغيرة متحاربة ومتنافرة. ويشاهد التاريخ المسلمين وهم يرتدون رداء العقيدة، ويتزيّنون بلباس التقوى، ويكتسون بكساء القوة والعزة، فعبؤوا قُواهم، وحشدوا طاقاتهم، وتحصّنوا بدينهم، فتقهقرت أمامهم جيوش، وطويت تحت أقدامهم ممالك وأمم ترى نور الإسلام في مقدمهم والرحمة تتقدّمهم. وفي مراحل أخرى، يأسف التاريخ لهم، ويحزن عليهم، ويسكب دموعه، حينما يرى الحقد الأسود والغلّ الدفين تنطق به عيون الدّول مِن حولهم، ويتنمرون بهم فيحتلّون أرضهم ويستعبدون شعوبهم، وينهبون خيراتهم. ولكن ما يلبث التاريخ والمؤرّخون الذين يرصدون حركة الإسلام ويراقبون أحوال المسلمين ويسجّلون أحداثهم، أن يفاجَؤوا بالحياة تدبّ في أوصال الشعوب الإسلامية، وتسري في عروقهم حرارة الإيمان، فتتعالى صيحات اليقظة وتتنادى أصوات الصحوة، ويستجيب المسلمون في المشارق والمغارب، فيهبّ الإسلام واقفاً على قدميْه، شامخ الرأس، يُعيد سالف مجْده وسابق عظمته، موثقاً الإنسانية بعُرَى وحي السماء ورسالات الأنبياء، وأحداث التاريخ خير شاهد على ذلك. والله -تبارك وتعالى- يقول عن حركة التاريخ الإسلامي، وعن حركة سيادة المسلمين: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ

الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عَابِدِينَ * وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}. إنّ تاريخ الإسلام، العظيم بأحداثه الهائلة، وأحواله المتغيِّرة بين قوّة وضعف، وارتفاع وانخفاض، وانتصارات وهزائم، ما ينبغي للدّعاة إلى الله أن يتجاهلوا وقائعه، أو أن يغمضوا الأعين عن نوازله؛ ولكن يجب عليهم أن يكونوا على بصيرة ووعْي بحركة التاريخ، يلِجون أبواب عصره، ويقرؤون ما بين سطوره، ليستلهموا منها الدروس والعِبَر، ولِيُبَصِّروا المسلمين بحقائق التاريخ الإسلامي. ويمكن للدّعاة أن يتتتّبعوا تاريخ الإنسانية عموماً والإسلام خصوصاً من خلال مناهج وأساليب البحث التالية: أولاً: قواعد المنهج العلّمي لدراسة التاريخ: المنهج في دراسة التاريخ يعني: القواعد والشروط التي يجب مراعاتها عند معالجة أي حدث تاريخي. وتتناول هذه الشروط: الكاتبَ -أو المتكلِّم نفسه-، والمصادرَ التي يَستمِدّ منها معلوماته. ويمكن استخلاص سمات، أو أصول، أو قواعد هذا المنهج في النقاط الآتية: 1 - استخدام الأدلّة والوثائق، بعد التأكّد من صحّتها. 2 - حُسن استخدام الأدلّة والوثائق، وذلك باتّباع التنظيم الملائم للأداة، مع تحرير المسائل وحُسن عرْضها. 3 - الإيمان بكلّ ما جاء في القرآن الكريم والسُّنة النبوية المطهّرة الصحيحة، ومن ذلك: الإيمان بالغيب، والجزاء، والقضاء والقَدَر، وردّ كل ما خالف ذلك.

4 - تحرِّي الصِّدق في استقصاء جميع الروايات والأدلّة حول الحدث الواحد، وإيرادها، ثم الجمْع بينها إن أمكن ذلك، أو الترجيح بين الروايات المختلفة، وفقاً للقواعد المقرّرة في التحقيق، مع الاستعانة بأقوال العلماء الثقات. 5 - بيان المصادر والمراجع التي استمدّ منها معلوماته، مع الضبط المتقَن في نقل الأقوال ونِسبتها لأصحابها. 6 - الاعتماد على النصوص الشرعية والحقائق العلْمية، ونبْذ الخرافات. 7 - الالتزام بقواعد اللغة العربية، وعدم إخراج اللفظ عن دلالته، إلاّ إذا وُجدت قرينة صارفة له عن دلالته المباشرة. 8 - استعمال المصطلحات الشرعية في الكتابة التاريخية، مثل: المؤمن، الكافر، والمنافق، إذ لكلٍ من هذه المصطلحات صفات محدّدة ثاتبة وردت في القرآن الكريم، وأحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ ولذا لا ينبغي العدول عن هذه المصطلحات إلى مصطلحات نبتت في أوساط غير إسلامية. كذلك فإنّ الحُكم على الأعمال والمنجزات الحضارية ينبغي أن تُستخدم فيه المصطلحات الشرعية، كالخير والشر، والحق والباطل، والعدل. 9 - اعتبار المصادر الشرعية والأصلية، وتقديمها على كلّ المصادر؛ إذ يجب على الباحث المسلم: أن يعتمد على القرآن الكريم، ويعتبره مصدراً أساسياً في استيفاء معلوماته عن الأنبياء والأمم السابقة، لأن القرآن الكريم قطعيّ الثبوت، ويأتي بعده الحديث النبوي في قوة الثبوت. 10 - التّجرّد من الأهواء المذهبية، أو العنصرية، أو القومية، أو السياسية. 11 - معرفة مناهج الإخباريِّين والمؤرِّخين القدماء. ونجعل الطبري مثالاً في هذا الجانب، بوصفه مصدراً من أبرز مصادر التاريخ الإسلامي في صدر الإسلام

وقبْله. فعلى المؤرِّخ الحديث بصفة خاصة: أن يَعْرف أنّ الطبري قد استخدم في تاريخه نفس منهج علماء الحديث في نقل الأخبار، أي: الإسناد، إلا أنه يختلف معهم في أمر مهمّ، إذ لم يقم بتخريج أو تعديل رواة الأخبار، ولذلك لم يتشدّد فيها تشدّد رجال الحديث. 12 - معرفة حق الصحابة -رضوان الله عليهم- وعدالتهم، فالصحابة عدولٌ بتعديل الله تعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، وهو اعتقاد أهل السّنّة والجماعة؛ فقد قال الله فيهم: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}. وقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}. هذا المنهج يجب أن يضعه الباحثون والدّعاة نصْب أعينهم في استقراء التاريخ، وتفهّم أحداثه وأخباره. ثانياً: السّيْر في الأرض، والتنقيب على آثار الأقدمين، وقراءة ما كُتب على حفريّاتهم، فهي لسان صدْق وتاريخ حق لمعرفة أحوالهم، والوقوف على أخبارهم، واستجلاء العبَر ممّا حلّ بهم ونزل بديارهم. وقد تحدّث القرآن الكريم في أكثر من آية، على قانون السّيْر في الأرض، والنظر في سِيَر الغابرين، قال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}. وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}.

وقال تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ}. وقال تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}. وقال تعالى: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ}. وتحدّث القرآن الكريم عن هلاك فرعون، ولفْظ البحر لجسده لِيُحفظ ويُحنَّط، ليكون عبرة لكلّ جبّار عنيد في كل زمان ومكان، قال تعالى: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ}. ثالثاً: قَصص القرآن الكريم: يجب على الدّعاة أن يكونوا على علْم وبصيرة بقصص القرآن الكريم؛ فهو قَصص حقّ وشاهد صدْق على تاريخ وأخبار الأمم السابقة، وموقفهم من أنبيائهم، قال تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ}. وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}. وقد أمَر القرآن الكريم الرسول -صلى الله عليه وسلم-: أن يقرأ عليهم قصص السابقين، وأخبار الماضين، فقال تعالى: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}. رابعاً: دراسة سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- دراسة مستفيضة، وأن يقتبس منها الدّعاة العظات والعِبَر؛ فهي تتناول مراحل الدّعوة، وأساليبها، ووسائلها، ونتائجها، في مكة

العلوم الاجتماعية.

والمدينة. وبجانب ذلك، فيجب على الدّاعية أن يدرس الغزوات والفتوحات خلال تاريخ الإسلام، وأن يقف على أسباب انتصارات المسلمين، وأسباب هزيمتهم. هذه بعض المصادر الأصلية، والعلوم الشرعية، التي ينبغي أن يتزوّد بها الدّعاة إلى الله، لكي تتّسع معارفُهم وتنمو ثقافتهم؛ وبهذا ينفسح أمامهم ميدان الدّعوة وتكثر موضوعاتها، ويخرجون من دائرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى دائرة أشمل وأوسع. أمّا عن ثقافة العصر، ودراسة المذاهب والتيارات المعاصرة، فهذا موضوع المحاضرة القادمة -إن شاء الله-. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. 2 - ثقافة الدّعاة إلى الله العلوم الاجتماعيّة الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ * يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ}. والصلاة والسلام على أشرف الخلْق وخاتم الرسل، الذي علّمه الله ما لم يكن يعلم، وكان فضل الله عليه عظيماً. وبعد: هذا، وما يجب ملاحظته: أن الدّعاة إلى الله ليس لهم حدّ من الثقافة يقفون عنده، ولا يقتصرون على نوع من العلوم والمعارف لا يتجاوزونه؛ وإنّما هم بِحُكم عملهم، وبحجم الرسالة التي يقومون ويتشرّفون بحمل أعبائها ويتحمّلون تبعاتها، يجب عليهم أن يكونوا دائرة معارف واسعة متحرّكة، ومكتبةً علمية ثقافية متنقّلة، يجد كلّ شخص عندهم ما يحتاجه من أجوبة لما يدور في عقله من أسئلة عن الدِّين والدنيا، وأن يكونوا كماء النهر العذب الذي يروي ظمأ كلّ من يغترف منه. والأمر لا يقتصر على علوم الشريعة الإسلامية فقط، ولكن ينبغي أن يتّسع عقله وفكره وثقافته لِيشمل العلوم الإنسانية التي لها عميق الصّلة بجوانب الحياة الاجتماعية، ولا سيما في هذا العصر الذي تقدّمت فيه وسائل المواصلات والاتصالات، وأصبح العالَم قرية صغيرة يُسمع ويُشاهد ما يدور من أحداث في أنحاء المعموة لحظة وقوعه، وغدَتْ حدود الدّول وسماؤها مفتوحة على كلّ الثقافات والحضارات. ولم يَعُد في مقدور أيّ دولة مهما كانت قوّتها، أن توصد الحدود وتغلق الأبواب في وجه الغزو الفكري؛ فالقنوات الفضائية والبثّ الإعلامي المباشر يقتحم على

الناس بيوتهم، ويصل إلى مخادعهم، فضلاً عن التقنية العلْمية العالية، واستعمال كلّ وسائل التأثير على العقل، وكلّ عوامل الإغراء لتغيير السلوك. كل هذه الأمور تزيد مِن عبء الدّعاة، وتُلقي على عاتقهم مهمّة صيانة معتقدات الأمّة، والمحافظة على خصائصها الدينية وثوابتها الثقافية. والمعارف الإنسانية التي ينبغي للدّعاة أن يطّلعوا عليها وتكون لهم صلة وثيقة بها هي على النحو التالي: إنّ ممّا ينفرد به الإسلام، وتتميّز به شرائعه: أنه دين اجتماعي، يهتمّ بشؤون الناس، وينظّم كلّ أمور حياتهم، ويضع الضوابط الشرعية في شتّى مجالات الحياة، ومن ذلك: أ- مجال الأسْرة: اعتنى الإسلام بالأسْرة عناية خاصّة، وأوْلاها بالتشريعات والأحكام التي تحافظ على تماسُكها، وتصون روابطها. وجاءت النصوص من القرآن الكريم والسُّنّة تعالج ما يطرأ عليها من مشاكل. وقد أفاض الحق -تبارك وتعالى- والرسول -صلى الله عليه وسلم- في بيان وتوضيح الأمور التالية: - الأسْرة ضرورة فِطْرية وحاجة إنسانية لا يستغني بشرٌ سويّ عنها، وهي سُنّة من سُنن الأنبياء والمرسلين، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً}.

وقال تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ}. 2 - حدّد الإسلام طبيعة العلاقة بين الرجُل والمرأة، وأنها لا تقف على مجرّد العلاقات الجنسية فقط، كشأن الذكورة والأنوثة في عالَم الكائنات الأخرى التي تقتصر العلاقة على لحظة مباشرة التلقيح فقط، ثم يمضي الذّكر والأنثى كلّ إلى حال سبيله، وقد يلتقيان في مرعىً واحدٍ أو على مورد ماء مشترَك فيتلاطمان ويتصارعان، وقد يركل ذكر الحيوان الأنثى التي لقّحها وحملت منه، فيُسقط ما في بطنها وهو لا يدري أن ما في أحشائها هو ابنه؛ وهذا ما آلت إليه العلاقة بين المرأة والرجل في الحضارة الغربية، حيث اقتصرت العلاقة بينهما على إرواء الشهوة الجنسية، ولو بعيدة عن أُطُر الزواج، ولو تعدّدت العلاقة مع أكثر من رجُل في وقت واحد، ممّا أدّى إلى اختلاط الأنساب، وإضعاف الصِّلات، وجعلها تتوقّف على مرحلة القوّة والفحولة للّرجل والأنوثة والجاذبية للأنثى. أمّا ما وراء ذلك من مراحل العمر المتقدّمة، فقد تنقطع صِلة كلّ منهما بالآخر، وأحياناً كثيرةً لا يعرف الرّجل أين مصير ابنه من ثمرة اللقاء المحرّم، وقد يتزوج من ابنته وهو لا يدري. أمّا الإسلام العظيم، فقد حدد الهدف من تكوين الأسرة، فقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}. وقد حدّد الإسلام العلاقة الفِطرية بين الرجل والمرأة، وجعَلها لا تتمّ إلاّ داخل إطار زواجٍ مشروع، مكتملٍ الأركان والشروط قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}.

ومن أجْل هذا، حرّم الإسلام تحريماً شديداً، ونهى نهياً قاطعاً عن أيّ علاقة قبل الزواج تحت أيّ مسمّى تعارفت عليه النظم الأوربية. ولكي يقطع الإسلام أي علاقة غير شرعية، حرّم الدوافع والأسباب التي تُؤدِّي إلى هذه الصِّلات الآثمة؛ فحرّم التّبرج والاختلاط، وأمَر بستْر العورة، وغضّ البصر، وعدم إبداء الزينة، إلا للزّوج ومحارم المرأة. 3 - وضَع الإسلام قواعد الاختيار، وشروط كلّ من الزوج المحمود والزوجة المحمودة، فقال تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}. وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((تُنكح المرأة لأرْبع: لِمالِها، ولِحسبِها، ولِجمالِها، ولِدينِها. فاظفر بذات الدِّين تَرِبَتْ يداك))، رواه البخاري. وعن الزوج، قال -صلى الله عليه وسلم-: ((إذا أتاكم مَن تَرضَوْن دِينه وخُلُقه فأنكِحوه. إلاّ تفعلوا تَكُنْ فتنةٌ في الأرض وفسادٌ كبير))، رواه الترمذي وقال: "حديث حسَن". وقد حذّر الرسول -صلى الله عليه وسلم- من عواقب سوء الاختيار، أو التغاضي عن شرط الدِّين فقال: ((لا تَزوَّجوا النّساء لِحُسنِهنّ، فعسى حُسنُهن أنْ يُرْديَهنّ. ولا تزوّجوهنّ لأموالهنّ، فعسى أموالهنّ أن تُطغيَهنّ. ولكن تَزوَّجوهنّ على الدِّين؛ ولأمَة خرقاء سوداء ذات دين أفْضل))، رواه ابن ماجة. 4 - وضَع الإسلام التشريعات والضوابط التي تضمن استقرار الأسْرة واستمرارها، فشرع ما يلي: أ- جواز نظَر كلٍّ منهما للآخَر، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((إذا خطَب أحدُكم المرأة، فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه لِنكاحها فلْيفْعلْ!)).

وقال -صلى الله عليه وسلم- للمغيرة بن شعبة: ((انظرْ إليها، فإن هذا حريٌّ أن يُؤدَم بينكما)). ب- وجوب الصّداق، قال تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً}. ج- وجوب استكمال أركان الزواج، وذلك بتحقّق الشروط التي وصَفَها الإسلام وهي: المهر، وليّ الزوجة الذي يتولّى عقد النكاح، شاهدا عدْل، الإيجاب والقبول، الإعلان. وله مظاهر شرعية حدّدها الإسلام، ومنها: إعلامه، وعقده في المساجد، اللهو البريء البعيد عن مظاهر الموسيقى والغناء الذي يثير الغرائز ويُحرّك كوامن الشهوات، إقامة وليمة للأهل والأصدقاء دون سرف أو خيلاء. 5 - حدّد الإسلام حقوق وواجبات كلّ من الزوج والزوجة على الآخَر. فللزوجة: أ- حقّ النفقة وفْق إمكانات الزوج، قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا}. ب- حُسْن المعاشرة، قال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً}. ج- عدم تتبّع العثرات، والتغاضي عن الهفوات، إلاّ عن شيء قد حرّمه الله، أو أتتْ من الأفعال القبيحة التي تتنافى وحرمة الأعراض، قال -صلى الله عليه وسلم-: ((لا يفرك -أي: يبغض- مؤمن مؤمنة، إن كَرِه منها خُلُقاً، رضي منها آخَر)). 6 - وضَع الإسلام التشريعات التي تصون الأسرة، وتحميها من التّصدّع، ومن ذلك:

أ- النهي عن سوء معاملة كلّ منها للآخَر. ج- حُسن رعاية كلّ منهما للآخَر. د- أن لا يترك الزوج لزوجته الحبْل على الغارب، ولا يمنحها الحُرّية المُطلَقة، وفي نفس الوقت لا يضيِّق عليها الخناق، وأن لا يسيء بها الظن وتتملّكه الشكوك. هـ- حرمة دخول غير ذوي المحارم على النساء. وحرمة مصادقة الرجال الأجانب، والاختلاط المثير للفتنة والشّبهة. ز- حرمة إبداء الزينة إلاّ للزوج. ح- يجب على وليّ الأمر والمجتمع مَنْع كلّ ما يسيء للعلاقة بين الزوجيْن، وأن يَمْنع التحريض على إفساد العلاقة بينهما، تحت دعاوى حُرّية المرأة وحقوقها ومساواتها بالرجل؛ فهذه أمور لا يراد منها إلاّ إفساد العلاقة الفطرية بينهما، وتحطيم الأسرة وانهيارها، فينشأ جيل فاقد الحنان، ضعيف الانتماء، فيسهل السّيطرة عليه وعلى وطنه. 7 - عالج الإسلام تصدّع الأسرة بما جاء في القرآن الكريم، بتدرّج وسائل الإصلاح على النحو التالي: قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ}. وهؤلاء لا مشاكل بينهم ولا خوف عليهم، إذ كلّ من الزوجين يعرف ما له من حقوق وما عليه من واجبات.

أمّا من ساءت العلاقة بينهما وبدت بوادر تصدع الأسرة وانهيارها، فقد وضحت الآية وسائل العلاج، فقال تعالى: {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً * وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً}. فإذا فشلت كلّ المحاولات، وأصبحت الحياة جحيماً لا يُطاق، وأصبح لا مفرّ من الفُرقة، فشرَع الإسلام الطّلاق، ووضع له الضوابط التي تصون حقوق الزوجية، وأتاح فُرص الرجعة في الطلاق خلال مرتيْن أثناء العدّة، وبعدها بعقد ومهر جديد. هذا عرْض موجَز لصيانة الإسلام للأسرة، وفي ذلك حفْظ للمجتمع، وتوثيق لعُرى التّواصل والتراحم. وعلى الدّعاة: وجوب الاهتمام بحقوق الأسْرة وواجباتها، وأن يكونوا على فقه بأحكام الزواج والطلاق، وعلى بصيرة وثقافة بكلّ ما يتعلّق بأحوال الأسرة في الإسلام في كل جوانبها من علاقة الأبناء بالآباء، ووجوب مراعاة صِلة الرّحِم، وكذلك العلاقات الاجتماعية وما ينتج عن هذه العلاقات من قضايا وأمور يجب على الدّاعية أن يعالجها على ضوء القرآن الكريم والسّنّة النبوية، والأحكام الشرعية التي تُنظّم ذلك. ولن يتسنّى هذا إلاّ بمزيد من العلْم والاطّلاع والثقافة، والانفعال والاهتمام بشؤون الأسْرة في الإسلام. وإنّ ما ذكرناه من ذلك ما هو إلاّ تعريف مُجمَل وبيان عامّ يضيق المقام عن بسْطه، وتوجيه للدّعاة أن يُولوا اهتمامهم بقضايا الأسْرة، لا سيما هذه الأيام التي تُوجَّه فيها سهام الأعداء للأسرة المسلمة لهَدْم خصائصها التي تنفرد بها وتتميّز عن الأمم الأخرى.

ب- مجال الاقتصاد: الجوانب الاقتصادية من الأمور الضرورية في حياة المجتمعات، وهي من أكبر عوامل الصّراع بين الأمم؛ فمن أجل الاقتصاد نشأت حروب، ودُمِّرت دُوَل، واندثرت حضارات. الاقتصاد يُثير قلق السّاسة والزعماء، ويؤرّق عقول العلماء والمفكِّرين، وهذا أحد أسباب التّوتر والقلق في الأمم، ومن عوامل الثورات والفتن بين الشعوب. والاقتصاد في الفكر الإسلامي له مكانة متميّزة، وله بين أحكام الشريعة الإسلامية فرائض وواجبات ونظم مقنّنة من خلال ما جاء في الكتاب والسُّنّة، وفِكر سلَف الأمّة وخلَفِها. وسوف يتناول هذا المبحث النقاط التالية: أولاً: تعريف الاقتصاد: "الاقتصاد" في اللغة معناه: القصد، أي التّوسّط والاعتدال، ومنه قوله تعالى: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ}، وقوله تعالى: {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ}. وقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (( ... ولا عالَ من اقتصد))، رواه الطبراني في الأوسط. وعرّفه العزّ بن عبد السّلام بأنه: "رتبهٌ بين رُتبتيْن، ومنزلة بيْن منزلتيْن". الأولى: هي التّفريط -التقصير-، والثانية هي الإفراط -الإسراف-. وللاقتصاد في الإسلام أمثلة كثيرة، منها: عدم الإسراف في استعمال المياه والاقتصاد فيها، ولو كان الإنسان على نهر جارٍ، والاقتصاد في العبادة، وفي الموعظة، والأكل والشرب، والنّفقة؛ والأدلة على ذلك من القرآن والسُّنّة كثيرة.

وقد ربَط الله بين الجانب الاقتصادي في الإسلام -من خلال فريضة الزّكاة- وبين العقيدة الإسلامية، وهذا يمثل جانباً هاماً من مكوّنات الإسلام وخصائصه العقائدية والتشريعية. ويمكن توضيح الأسُس العقائدية للإسلام فيما يلي: أولاً: الإنسان بوجه عام مستخلَف في الأرض، لعمارتها واستثمار خيراتها، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ}. وقال تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ}. ثانياً: إن الأرض خاصّة والكون عامّة مُسخّر للإنسان ومُذلَّل له، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}. وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً}. ثالثاً: إنّ تسخير الأرض للإنسان يقتضي انتفاع البشَر بما خلَق الله في الكون، قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}. رابعاً: إنّ السّعي في طلب الرزق، والانتفاع بما خلَق الله، ليس غاية في حق ذاته، وإنما هو وسيلة ضرورية تقتضيها طبيعة الإنسان وفِطْرته، وأنّ الغاية: إرضاء الله بعمل الخير، وشكْره على نِعَمه، ومراعاة حقوقه، قال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْض ِ}.

وفي الحديث قال -صلى الله عليه وسلم-: ((نِعْم المالُ الصّالح للرّجُل الصّالح!)). وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((تعِس عبْدُ الدِّينار، تعِس عبْدُ الدِّرهم، تَعِس عبْدُ القطيفة)). خامساً: استخلاف الله للإنسان عامّ لبني البشر جميعاً، وتسخير الأرض للإنسانية كلّها دون تخصيص. سادساً: ما يقتنيه الإنسان نتيجة للكسب الماليّ لا يعطي صاحبَه امتيازاً خاصاً، كما أن فقدانه لا ينقص من قَدْر الإنسان، قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}. سابعاً: يتحمّل كلّ إنسان نتيجة عملِه ونشاطه، وهو مسؤول أمام الله، كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (( ... وعن ماله مِن أين اكتسبه وفيما أنفَقَه)). وهناك مسؤولية مدنيّة في العقود والمعاملات، يتولى تنظيمها وليّ الأمر، بشرط أن يكون هذا التنظيم في حدود ما شرَعه الله، وأن لا يُباح من المعاملات ما أجمعت الأدلّة على تحريمه، كالربا، والغش، والاحتكار، وأكْل أموال الناس بالباطل. هذه الأسس تجعل النشاط الاقتصادي في المجتمع المسلم مرتبطاً بعقيدة الإسلام. الأسس الأخلاقية للاقتصاد في الإسلام: ينضبط الاقتصاد في الإسلام بضوابط أخلاقية يتفرّد بها ويتميّز عن غيره. ومن هذه الأسس: أولاً: الاستغناء عن الغير، وكفّ الإنسان نفسه وأسْرته عن الحاجة وذلّ المسالة، أمْر شرعيّ وواجب دينيّ؛ فعن حكيم بن حزام -رضي الله عنه-، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((اليدُ العُليا خيرٌ من اليد السفلَى. وابدأ بِمن تعول. وخير الصّدقة عن ظهر غنىً. ومن يسعفِفْ يُعفّه الله، ومن يستغْنِ يُغْنِه الله))، رواه الشيخان.

وعن أبي عبد الله الزبير بن العوام -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لأنْ يأخُذَ أحدُكم أُحبُلَه ثم يأتي الجبَل، فيأتي بحزمة من حطب على ظهره فيبيعها، فيكُفَّ الله بها وجْهَه، خيْرٌ له من أن يسأل الناس، أعطَوْه أو مَنَعوه))، رواه البخاري. ثانياً: نفْع العباد بعضهم لبعض هدفٌ إسلاميّ نبيل، قال -صلى الله عليه وسلم-: ((ما مِن مسلمٍ يَغرس غرساً أو يَزرع زرعاً، فيأكل منه إنسان أو دابّة أو طير، إلاّ كان له به أجْر)). ثالثاً: أن يكون العمل مشروعاً غير مُحرّم، كالتنجيم، والسّحر، وبيع الخمر ... إلخ. رابعاً: أن لا يكون في العمَل أو السِّلعة إضرار بالناس، كالمخدّرات وغيرها ... ومن خلال هذه الأسس العقائدية والأخلاقية للاقتصاد الإسلامي، تتضح النتائج التالية: 1 - أنّ الإسلام يقف من النشاط الاقتصادي النّافع موقف الحارس له، والحاثّ والمُحرِّض على تفعيله في المجتمع. 2 - يعتبر الإسلام الفقر مصيبةً يجب التّخلّص منه؛ ومِن دعاء الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ((اللهمّ إني أعوذ بك من الكُفر والفقْر))، ومن دعائه -صلى الله عليه وسلم: ((اللهم إني أعوذ بك من الجوع، فإنّه بئْس الضّجيع)). 3 - إن الأسس الاعتقادية والأخلاقية تولِّد في النفس دوافع أخلاقية إنسانية، وتجعل الحياة الاقتصادية منسجمة ومتوافقة مع الحياة الدينية، وتُشعر الإنسان بالرِّضى والشكر في حالة الكسب، وبالحمد والصبر في حالة الخسارة.

وبجانب ما ذكرناه، فهناك موضوعات هامّة في الفكر الإسلامي المتعلّق بالاقتصاد، على الدّعاة أن يكونوا على إلمام بها، وأبواب الفقه الإسلامي زاخرة بما يفي بحاجة المسلمين في هذا الجانب. ولقد ظهرت في هذا العصر ما يُعرف بالاقتصاد الإسلامي، وقد قيّض الله له العلماء والمفكِّرين الذين وضعوا قواعده وفْق الشريعة الإسلامية، ونظّموا له اللوائح التي تساعد على إظهار النشاط الاقتصادي من خلال الإسلام، وأقيمت المصارف الإسلامية، وأنشئت البنوك التي تنأى عن الربا ولا تتعامل به، وتبني قواعد الاستثمار على أسُس إسلامية. وقد لقي هذا التوجّه للاقتصاد الإسلامي حرباً شعواء من أعداء الإسلام، وحاكوا من حوله المؤامرات، وأثاروا الشكوك والشبهات، وأطيح برجاله، وجُمّدت أنشطته في كثير من الأقطار بدعوى أنه يُموِّل الإرهاب. هذا الجانب الهام في حياة الأمّة، ينبغي على الدّعاة إلى الله أن يكونوا على علْم بأصوله، عارفين بنُظمه وقوانينه، لكي يستطيعوا بالثقافة الواسعة أن يصبغوا النشاط المالي والاقتصادي في المجتمع بصبغة الإسلام، وأن يعرِف رجالُ المال والتجارة من خلال الدّعاة كيف يُنظِّم الإسلام موارد الأمّة، وأنه يحضّ على العمل والإنتاج، ويُحرِّم البطالة والكسل، وينهى نهياً شديداً عن التربّح من طريق حرام، وأنّ الإسلام يقيم علاقات متوازنة بين صاحب العمل والعاملين لديْه، وأنّ لكلّ من الطرفين حقوقاً وواجبات تجاه كلٍّ منهما للآخَر نظّمتْها الشريعة. كما أنّ النظام الاقتصادي في الإسلام، وفي مقدّمته فريضة الزكاة، تكفي بحاجة المعوزين في المجتمع، وتُزيل الحقد الاجتماعي بين الأغنياء والفقراء، وتذيب الفوارق بين طبقات الأمّة.

ومن خلال ميادين الدّعوة إلى الله، يستطيع الدّعاة أن يحملوا أصحاب المال ورجال الأعمال على استثمار أموال الزكاة وصدقات التطوع في مشاريع يعود خيرُها ونفعُها على الجهات المستحقّة للزكاة، والتي ذكَرها القرآن الكريم: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}. إنّ على الدّعاة واجباً شرعياً وفرْضاً دينياً لإبراز الفكر الإسلامي في مجال النشاط الاقتصادي، وسوف يُسألون أمام الله إن هم قصّروا أو تقاعسوا عن هذا الميدان. ج- النظام السياسي في الإسلام: الإسلام نظام يشمل كلّ ما يتعلّق بالإنسان، ولا يوجد جانب من جوانب الحياة البشرية ليس للإسلام فيه رأي، ولا تخلو نصوص القرآن والسُّنة من تشريع يحفظه ويصونه وفْق شرْع الله. وإنّ النظام السياسي في الإسلام له مكانة متميّزة؛ فقيام الدولة بسلطاتها: التشريعية، والقضائية، والتنفيذية، تحظى بين ظلاله بالعناية والرعاية، وكمال التشريع الذي يتلاءم مع الفِطرة، ويتوافق مع سُنن الله في العلاقات الاجتماعية التي توجب قيام نظام يصون العقيدة ويحمي الحريات في إطار ما شرَعه الله، ويُحقِّق العدل والأمن للأمة. ولا يمكن بحال من الأحوال فصْلُ الدِين عن الدولة، ولا إبعادُ نُظُم الله عن توجيه دفّة الأمور. والحُكم في الإسلام ليس غاية في حدِّ ذاته، ولا مطمعاً يتنافس الناس عليه، ويتصارعون ويتقاتلون للوصول لسدّتِه، وإنّما هو وسيلة لتحقيق الأهداف التالية:

- أولاً: إقامة العدل بين الناس، قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ}. وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ}. وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}. ثانياً: حماية الضعفاء، وكفاية العاجزين، ونُصرة المستضعَفين، وردْع الظالمين، قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً}. ثالثاً: حماية عقيدة الإسلام، وتحرير الإنسانية مِن كلِّ مظاهر العبوديّة لغير الله. رابعاً: تأمين الوطن والمواطن من العدوان العسكريّ والغزو الفكري، يقول -صلى الله عليه وسلم-: ((كلّكُم راعٍ وكلّكُم مسؤول عن رعيَّتِه. الإمام راعٍ ومسؤول عن رعيّته. والرّجُل راعٍ في أهله ومسؤول عن رعيّته ... )) الحديث، متفق عليه. ويقول -صلى الله عليه وسلم-: ((إنّ الله سائل كلِّ راعٍ عمّا استرعاه، حفِظ أمْ ضيَّع)). خامساً: تنظيم موارد الدولة، وتحقيق تكافؤ الفُرص بين أبناء الوطن، وتحقيق التكافل الاجتماعي. سادساً: المحافظة على ضروريات الإنسان الخمْس: الدِّين، النّفْس، العقل، النّسل، المال. وقد وضع الإسلام الأسس التي يُختار عليها الحاكم وهي:

1 - العقيدة. 2 - العلْم. 3 - الأخلاق. 4 - الخِبرة السياسية. 5 - مشاورة أهل الحلّ والعقد. وقد وضَع الإسلام واجباتِ وحقوقَ كلٍّ من الرّاعي والرّعية، وفْق ما جاء في الكتاب والسُّنّة وفِقْه سلف الأمّة. وعلى الدّعاة أن يكونوا على علْم بالجانب السياسيّ في الإسلام، وأن يقفوا على أركانه وقواعده ونُظُمه، فالدعاة هم مرآة الأمّة التي يُرى فيهم آمالها وطموحاتها. وإنّ دوْرهم لا يقف على كلمات الوعظ والإرشاد فحسب، ولكن هم أوْلى الناس بالشعور بنبضها وخفقان قلبها بما تحْمله من مشاكل وهموم، حيث تجد في الدّعاة الملاذ والأمن والبلسم الشافي لآلامهم وقضاياهم. ولن يتسنّى لهم ذلك إلاّ بالاطّلاع والتزوّد بالعلوم والمعارف. أنواع الثقافات الأخرى: بجانب ما ذكرناه في المحاضرات السابقة عن مصادر الثقافة في الإسلام، ووجوب أن يجدّ الدّعاة في تنمية عقولهم وتوسعة مداركهم من العلوم الشرعية وغيرها من العلوم الإنسانية، فإن ممّا ينبغي أن يطّلع عليه الدّاعية ويجهد نفسه في تحصيله: الموضوعات التالية:

أولاً: دراسة المذاهب الفكريّة المعاصرة والتيارات الثقافية الواردة، والتّعرّف على أسسها ومبادئها وأخطارها على الإسلام. ثانياً: دراسة واعية للثقافة الغربية، وما تحمل بين ثناياها من معاول الهدم لخصائص الإسلام وثوابته. ثالثاً: رصْد حركة الإعلام العالمي، وتوجّهاته، ومكامن الخطر في برامجه. رابعاً: الوقوف على أسباب نزعات الغلوّ والتّطرّف بين بعض أبناء المسلمين. خامساً: دراسة أحوال المجتمعات، والوقوف على عاداتها وتقاليدها، وأن توزن بميزان الإسلام. سادساً: دراسة قضايا الشباب والمرأة، في ظلال الإسلام وهدْيه، ودرء الشبهات التي تُثار حول المرأة في الإسلام. سابعاً: الوقوف على الشّبُهات والافتراءات والمزاعم التي تُطلَقُ على الإسلام وعقائده ونُظمه، للرّدّ عليها وتفنيدها. بهذا التكوين العلْمي، والإعداد الفكري، والثراء الثقافي، يستطيع الدّعاة أن يُؤدّوا دوْرَهم على الوجه الأكمل، ويشعر الناس بهم، ويلتفّون حولهم، ويتّبعون إرشاداتهم. وبذلك تنهض الأمّة، وتستيقظ على دعوة الدّعاة، قال تعالى: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَاب ٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 6 قواعد الإفتاء، وشروط إصدار الفتوى.

الدرس: 6 قواعد الإفتاء، وشروط إصدار الفتوى.

تعريف الإفتاء في اللغة والاصطلاح.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السادس (قواعد الإفتاء، وشروط إصدار الفتوى) 1 - قواعد الإفتاء، وشروط إصدار الفتوى تعريف الإفتاء في اللغة والاصطلاح بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله الذي بفضله تَتمّ الصالحات، وبتَوفيقه تُزكَّى الأعمال وتُرفَع الدرجات، قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}. وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، يُؤتي الحِكمة من يَشاء، ومَن يُؤت الحِكمة فقد أوتي خَيراً كثيراً وما يذَّكر إلاّ أولو الألباب. والصلاة والسلام على أشرف الخلْق وخاتم الرسل، وعلى آله وأصحابه الذين تفقّهوا في دين الله، وبلَّغوا دَعوته، فكانوا خَير دُعاة لها وأمناء عليها. أما بعد: فهذه المحاضرة الثلاثون، نختم بها -إن شاء الله- محاضرات المستوى الأول لِمادة "أصول الدّعوة وطُرقها"، وقد تقدّمتها محاضرات عن التعريف بالدّعوة إلى الله، وعن مَدى حاجة الإنسانية إليها. ثم تناولت قواعد الأمر بالمَعروف والنّهي عن المُنكر، ثم عرَّجت المحاضرات على أخلاق الدّعاة وما يَجب أن يتحلّوا به من فضائل، وما ينبغي أن يتزوّدوا به من علوم شرعيّة ومعارف إنسانية، وثقافة واسعة تَشمل كلّ ما يتعلّق بالأمّة الإسلامية. ووجوب وجود الدّاعية المُفتي الغَرض من هذه المحاضرة: - الانتقال بالدّاعية من دائرة الوعْظ والإرشاد والأمر بالمَعروف والنهي عن المُنكر فقط، إلى دَائرة أوسع وأشمل، وهي: دائرة الدّاعية الفَقيه المُجتهد، الذي يُفتي الناس على عِلْم وتَمكّن من أحكام الشريعة، والذي يَجمع بين فضيلتَيِ الدّعوة والفتوى، حيث يُحرِّك عواطف الناس بحُسن بيانِه ورَوعة أدائه، وفي نَفس الوَقت يُفقِّهُهم في أمور دِينهم، ويُجيب على تساؤلاتهم، ويُساهِم مساهمة فعّالة بربط الموضوعات الدّعويّة بالقضايا الفِقهية. وبهذا ينال شرَف القيام بأحسن عمل، قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}. - وأن يَتحقّق له ما أخبر به الرسول -صلى الله عليه وسلم- من خَير يناله بالتَّفقه في دين الله، حَيث قال: ((مَن يُردِ الله به خَيراً يُفقِّهْهُ في الدِّين)). - وليَسير الدّعاة على نَهج عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-، حينما دعا له -صلى الله عليه وسلم-: ((اللهمّ فَقِّهْهُ في الدِّين، وعَلِّمْهُ التّأويل)). تعريف "الإفتاء" في اللغة والاصطلاح: جاء في "لسان العرب" لابن منظور: أفتاه في الأمر، أي: أبانه له، وأفتاه في المسألة، يُفتيه: إذا أجابه. والاسم: "الفَتوى". واستفتيْتُه فأفتاني إفتاءً. و"الفَتوى": اسم يُوضع مَوضع الإفتاء. و"الفَتوى" و"الفُتيا": ما أفتى به الفَقيه.

وممّا تقدّم، نَعلم أنّ "الاستفتاء" في اللغة يَعني: السّؤال عن أمْر، أو عن حُكم مسألة. وهذا السائل يُسمى: "المُستفتي"، والمَسؤول الذي يُجيب هو: "المُفتي"، وقيامه بالجَواب هو: "الإفتاء"، وما يُجيب به هو: "الفَتوى". فالإفتاء يَتضمن وجود: المُستفتِي، والمُفتِي، والإفتاء نَفسه، والفَتوى. أما تَعريف "الإفتاء" في الاصطلاح، فلا يَخرج عن التَّعريف اللّغوي. أهمِّيّة الإفتاء: إن القِيام بالدِّين، وأداءَ شعائره، وتَطبيق أحكامه، يَنبغي أن يكون على عِلْم وبَصيرة وفَهْم، قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}. فالعِلم والبَصيرة يُؤدِّيان إلى الفَهْم العَميق لأحكام الإسلام، وتَذوُّق حَلاوة الإيمان، والاقتناع التام بما يقوم به من عِبادات، والرِّضى بما أمر الله به ونهى عنه. قال -صلى الله عليه وسلم-: ((ذاق طعْمَ الإيمان: مَن رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمّدٍ -صلى الله عليه وسلم- نبياً ورسولاً)). فالرضى لا يتأتّى إلاّ من خِلال الفَهْم الدَّقيق، والتّعرُّف على حِكمة التَّشريع. وإذا تمَّ هذا، فإنّ المُسلم الحَق هو الذي يُؤدِّي الشعائر الدِّينية على أنها طاعة وعِبادة، تَتّسم بصِدق النِّية والإخلاص في العَمل، وعلى أنّ ما يَقوم به هو عِبادة لا عادة. أما حينما يَجهل بعضُ المُسلمين أحكامَ الدِّين، ويُقلِّدون غَيرهم دون تَدبّر وتَفقّه، حَيث تُؤدّى العِبادات على أنها عادة مَوروثة وتَقليدٌ مُتَّبع، ممّا يُفقِدها حرارة الإيمان، وصِدق العاطفة، وحلاوة الطاعة، وتُصبح غير ذات تأثير، لافتقارها للفَهْم الصحيح. وإنّ أحد أسباب جُمود الأمّة وتَقهقرها الحضاري: فقدانها لِروح الجِهاد في سبيل الله لتحقيق عِزّتها وكَرامتها بين الأمم، وتوقّف وغَلْق باب الاجتهاد لحلّ قضاياها، وسَيطرة التَّقليد عَليها.

ولكي نقف على أهمّيّة وجود الدّاعية المفتي، والعالِم المُجتهد، فينبغي أن نقف على حقيقة التقليد وموقف الإسلام منه. تعريف "التقليد" في اللغة: مأخوذ من قولهم: "قلّد الرجُل المَرأة تَقليداً"، أي: جَعل القِلادة من عُنقها. ومنه قول الشاعر: قلَّدوها تمائِماً ... خَوْف واشٍ وحاسِد ومنه تَقْليد الهَدي، إذَا جَعل له شعاراً يُعْرف به أنه هَدي، فيَمتَنع الناس عَنه. ويقال: "قلَّد السلطانُ فُلاناً للعَمل"، أي: فوضه إليه، فكأنه جَعله قِلادة في عُنقه. ويقال: "قلَّد البَعير" إذا جعل في عُنقه حَبلاً يُقاد به. ويقال: "قلَّد القِردُ الإنسانَ" إذا حاكاه في حَركاته وتَشبّه به. وممّا تقدّم، يتَّضح أنّ المَعنى اللّغوي للتَّقليد، يُستَعمل في عِدّة معانٍ: منها: الإحاطة بالعُنق، ومنها: الشِعار والعَلامة، ومنها: التَّفويض، ومنها: المُحاكاة والمُشابهة. تعريف "التَّقليد" اصطلاحاً: عُرّف بعِدّة تَعريفات، منها: 1 - اتّباع الإنسان لغَيره فيما يقول أو يفعل، مُعتقداً للحَقِّية فيه، من غير نَظر وتأمّل في الدليل، كأنّ هذا المُتتبِّع جعل قَول الغَير أو فِعلَه قِلادة في عُنقه. 2 - قَبول قول الغَير بلا حُجَّة ولا دَليل.

3 - قَبول قَول الغَير من غير حُجَّة مُلزِمة. 4 - أخْذ قَول الغَير من غير مَعرفة دَليله. وهذه التَّعريفات الاصطلاحية -على تَعدّدها- تتّفق على أنّ التَّقليد: أخْذ القَول والعَمل به، ومتابَعة صاحبه فيه، وتَقلّده كما تتقلَّد القِلادة في العُنق، أو السَّيف أو الوشاح، من غير اهتمام بالدليل الذي دلَّ عليه. الفَرْق بين الاتّباع والتَّقليد: يَرى البَعض أنه ليس ثَمَّة فَرْق بين كلٍّ من الاتّباع والتَّقليد، ويَخلط بين مَفهومَيْهِما؛ ولكن في الحَقيقة هناك فَرْق بينهما يتَّضح من خِلال التَّعريف اللّغوي والاصطلاحي لِـ"الاتّباع". "الاتّباع" لغة: مأخوذ من "تَبِع يتْبَع"، إذا مَشى خَلْفه، أو مرَّ به فمضى مَعه. والمُصلِّي يتْبع إمامَه، أي: تالٍ له في أفعاله. وتتابعت الأخبار: جاء بعضها إثْر بعْض. وتتبعت أحواله: طَلبْتها شَيئاً بعد شيء في مُهلة. ويقال: تَبِعه واتّبعه: قفا أثَرَه وسار وراءه، سواء كان السّيْر حِسِّياً أو مَعنوياً. فالمعنويّ يكون بالائتمار، يقول تعالى: {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}، {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لاَ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً}. والحِسّ بمعنى: اللّحَاق، ومنه قوله تعالى: {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ}، وقوله تعالى: {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً}. وأكثر ما ورد في القرآن الكريم: استعمالُه في المعنى المَعنويّ.

و"الاتّباع" في الاصطلاح: الائتمار بما أمّر الله تعالى به ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، وتَرَسُّم أفعاله وأحواله -صلى الله عليه وسلم-، للاقتداء به. وقد قيل في الفَرْق بين "التَّقليد" و"الاتّباع": أنّ التَّقليد معناه في الشّرع: الرُّجوع إلى قَولٍ لا حُجّة لقائله عليه؛ وذلك ممنوع في الشريعة. والاتِّباع: ما ثَبت عليه حُجّة. وقيل في الفَرق أيضاً: كلّ من اتّبعْتَ قولَه من غير أن يَجب عليك قَبولُه لدليل يُوجب ذلك، فأنت مُقلِّده؛ والتَّقليد في دين الله غير صحيح. وكلّ مَن أوجب عليك الدليل حين اتّباع قوله، فأنت مُتّبعُه؛ والاتّباع في الدِّين مُسوَّغ، والتَّقليد مَمنوع. موقف الإسلام من التَّقليد: ورَد النّهي عن التَّقليد في أكثر من مَوضع في القرآن الكريم، قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ}. وقال تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ}. وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ}. وقد أمَر القرآن الكريم بالابتعاد عن التقليد، ووجوب الرجوع إلى الدّليل من القرآن والسُّنّة، قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ}. وقد نهى الأئمة عن التَّقليد. يقول الإمام الشافعي -رضي الله عنه-: "مَثَل الذي يَطلُب العِلْم بلا حُجّة كمَثل حاطِب ليْلٍ، يَحمل حِزمة حَطب وفيه أفعى، تَلْدغه ولا يَدري".

وقال أبو داود: "لا تُقلِّدْني، ولا تُقلِّد مَالكاً، ولا الثَّوري، ولا الأوزاعي، وخُذ من حَيث أخذوا". وقد قيل لأبي حنيفة: "إذا قُلتَ قَولاً وكتابُ الله يُخالِفه؟ قال: اتركوا قَولي لكتاب الله. فقيل له: إذا كان خَبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُخالفه؟ قال: اتركوا قَولي لِخَبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. فقيل له: إذا كان قول الصحابة يُخالِفه؟ فقال: اتركوا قَولي لِقول الصحابي". وروي عن الإمام مالك -رحمه الله- قوله: "إنما أنا بَشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي: فما وافق الكتاب والسّنّة فخُذوا به، وما لم يُوافِق الكتاب والسّنة فاتركوه". وقال أبو الفَرج ابن الجَوزي: "في التقليد إبطال لمَنفعة العَقل، لأنه خُلِق للتّأمّل والتَّدبّر. وقَبيح بمَن أُعطِيَ شَمعة يَستضئ بها، أن يُطْفئها ويَمشي في الظُلمة". وهكذا حينما تخلّص علماء السّلف ومَن اقتفى أثَرهم عَبر تاريخ الأمّة، من رِبقة التَّقليد، وتحرروا من قَيْد التَّبعيّة، وانطلقوا في رياض الكتاب والسُّنّة وأقوال صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وتتّبعوا الأدلّة ووازنوا بينها، فرجّحوا أقواها وردُّوا ضعيفها، فاستطاعوا أن يَستَنبطوا الأحكام الشَّرعية، ويَضعوا أُسُس وقَواعِد عِلْم الفِقه وأصوله، ودُوِّنت مُؤلَّفاتهم وآراؤهم التي كانت شَمساً ساطِعة في سماء الحضارة الإسلامية. ونظراً لانتشار الأمِّيّة الدِّينيّة بين المُسلمين، وشيوع الجَهل بأحكام الدِّين، وانشغال عُموم الأمّة بدنياها وأحوال مَعيشتها أكثر من انشغالِها بأمور دِينها، فاستسهلوا التَّقليد واستصعبوا التَّفكير؛ لِذا يَجب على الدُّعاة أن يَستجمعوا شُروط الإفتاء، فهم الآن أهلُ الذِّكر الذين أمَر القرآن بالتّوجّه إليهم والاستفسار منهم، كما قال تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}.

شروط إصدار الفتوى وآداب المفتي والمستفتي.

شروط إصدار الفَتوى وآداب المُفتي والمُسْتفتي وقد وَضع الفقهاء شُروط المُفتي، وهو: الشَّخص الذي يَتولّى الإفتاء. والشروط التي يَجب أن تَتوافر فيه هي: الشرط الأوّل: الإسلام: وهذا شرْط جَوهريّ وأساسيّ ومَنطقيّ؛ فإن غير المسلم، أياً كان عِلْمه، فلا يُؤتمَن على الإسلام. ويَتحقّق الإسلام بالإقرار بأركان الإسلام والإيمان، كما جاء في حديث جبريل -عليه السلام-، وأن لا يَقوم مَن يَطلب الإفتاء بأعمال تُخلّ بالإسلام، أو تُنقص من المُروءة، وأن لا يُشتَهر عَنه أنه من أرباب البِدع والخُرافات، أو ممَّن يُشاع عن فِكره: الزَّندقة، والعلمانية، والإلحاد. الشرط الثاني: البُلوغ والعَقل: يَجب أن يَكون المُتصدِي لرسالة الإفتاء ذا عَقل ناضِج، وفِكر ثاقِب، ورأي حَصيف، يَستطيع من خِلاله أن يَجمع الأدلّة، ويُرجّح بين الآراء، ويستنبط الأحكام؛ ولذلك كان مِن شرط التكليف: أن يكون المسلم بالغاً عاقلاً، ولا يكفي أحدُهما بدون الآخَر. وما عُلم عن أحد جلَس للإفتاء قبل البلوغ. قد يروى الحديث وهو دون البلوغ، لأن هذا يعتمد على الحفظ وقوّة الذاكرة، كمن يجيد حفْظ القرآن وهو دون العاشرة، أمّا الإفتاء، فيقوم على الفهم الدقيق، وإدراك معاني الشريعة، والوقوف على حِكمها.

الشرط الثالث: العدالة: وهي هيئة يكون عليها المسلم، ومِن لوازمها: - فعْل ما أمَر به الشارع الحكيم، وترْك ما نهى عنه، واجتناب ما يُخلّ بالمروءة ويوقع الظنون والشكوك به. - وأن تكون أخلاقُه وسلوكه صورةً لما عليه علماء الإسلام؛ فلا يُشتهر عنه أنه مُرتكب لكبيرة، أو مصرٌ على صغيرة، أو يُجالس ساقطي المروءة، أو يُصادق ناقصي العدالة. - وأن لا يكون من أصحاب التأويلات الفاسدة، والآراء التي تتصادم مع معتقدات الشريعة وثوابتها المقدّسة. ويُلحق بساقطي المروءة والعدالة: أولئك البعض الذين يزعمون أنهم مفكِّرون إسلاميّون، وتتبارى القنوات الفضائية في استضافتهم لبثّ أفكارهم السمومة ... فمنهم من ينال من النص القرآني، ويزعم -افتراء وبهتاناً- أنّ بعض أحكامه وتشريعاته تُمثِّل مرحلة زمنيّة انقضتْ ولا تصلح لهذا الزمان. ومِن طاعنٍ في السنة النبوية وأدلّتها. ومِن لامز وغامز في صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بدعوى انطلاقة الفكر، وحُرية البحث. وهم بهذا يهدمون ثوابت الأمّة، ويُشكِّكون في خصائصها، ويطعنون في ثقافتها. وللأسف، يُطلق عليهم: أنهم مفكِّرون إسلاميّون. والأوْلى أن يُطلَق عليهم: أنهم مخرِّبون إسلاميّون، وأن خطرهم لا يقل خطراً على مَن جعل الغلوّ ديدَنه والتّطرّف طبيعته.

الشرط الرابع: الاجتهاد: تعريف "الاجتهاد" في اللغة: بذل الجهد، واستفراغ الوسع، في تحقيق أمْر من الأمور الشّاقّة، سواء كان في الأمور الحِسّية كالمشي والعمل، أم في الأمور المعنوية كاستخراج حُكم أو نظريّة عقلية أو شرعية أو لغوية. تعريف "الاجتهاد" في الاصطلاح: هو: ملَكة يُقتدر بها على استنباط الأحكام الشرعية العملية من أدلّتها التفصيلية. حِكمة مشروعية الاجتهاد: من خصائص الشريعة الإسلامية: أنها خاتِمة الشرائع السماوية، وأنّ أحكامها شاملة وعامّة، صالحة لكلّ زمان ومكان، وأنها تحمل بين ثناياها ما يجعلها تُساير الزمن وتلاحق الأحداث. وهي تجمع ما بين الأصول الثابتة، وبين القواعد العامة، والتي تصلح لكل زمان ومكان. وممّا تجدر ملاحظته: أن نصوص الشريعة من القرآن والسُّنّة محدودة ومتناهية، وأن الوقائع والحوادث لا نهاية لها، تتجدّد بتجدّد الزمان والمكان، ممّا يجعل الاجتهاد مشروعاً وبابه مفتوحاً. الأدلّة على مشروعية الاجتهاد: أولاً: القرآن الكريم: تعدّدت الآيات التي جاءت في القرآن الكريم تحثّ على إعمال الفكْر والعقل، مثل قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}.

وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ}. ومن الآيات الصريحة في مشروعيّته: قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ}، {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}. والشّورى تعني: البحث والصواب فيما يعرض من أمور، وفْق أدلّة الشّرع ونصوصه؛ وهذا لا يكون إلاّ من خلال الاجتهاد من أهل الرأي. ثانياً: من السُّنّة: ما روي عن عمرو بن العاص، أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إذا حَكم الحاكم فاجْتهد فأصاب، فله أجْران. وإذا حَكم فاجتهد ثم أخطأ، فله أجْر))، رواه الشيخان. ومنه: حديث معاذ بن جبل -رضي الله عنه- الذي أقرّه فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الاجتهاد. ثالثاً: إجماع الأمّة على مشروعية الاجتهاد، وممارسته بالفعل الذي كان من ثماره هذه الثروة الفقهية التي تتميّز بها أمّة الإسلام، وتنفرد بذلك عن غيرها من الأمم. رابعاً: العقل والنّظر: دلّت الأدلة العقلية على مشروعية الاجتهاد، وليتحقق به استمراريه الشريعة الإسلامية وخلودها. أقسام المُجتهدين: أوّلاً: المجتهد المُطلق: وهو: مَن حفِظ وفهِم أكثر الفقه وأصوله وأدلّته في مسائله، إذا كانت له أهليّة تامّة يُمكنه بها معرفة أحكام الشّرع بالدليل وسائر الوقائع، فإن كثرت إصابتُه صلح -مع بقية الشروط- أن يُفتي ويَقضي.

قالوا: إنّ الاجتهاد المُطلَق لا بدّ لتحصيله من توافر المعرفة الجيّدة بالكتاب والسّنّة، وما ورد فيهما ممّا يتعلّق بالأحكام، وأن يَعرف الأمر والنهي، والمُجمَل والمُبيّن، والمحكَم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، والعامّ والخاصّ، والمُطلَق والمقيّد، والمُستثنَى والمُستثنَى منه. وكذلك تتوافر المعرفة الجيّدة بالسّنّة النبوية الشريفة، بحيث يستطيع المجتهد أن يميِّز بين صحيح السّنة وسقيمها، ومراتب ما وروي منها، وطُرق الاحتجاج بها، وغير ذلك ممّا هو ضروري ولازم لمعرفة الحُكم الشرعي من القرآن الكريم والسُّنّة المطهّرة. وقالوا أيضاً: لا بدّ للمجتهد المُطلَق: أن يعرف ما أجمع عليه الفقهاء، وما اختلفوا فيه، وأن يعرف القياس وشروطه، وأن يكون على قَدْر كافٍ من المعرفة باللّغة العربية، وآدابها، وأساليبها. ولا خلاف بين العلماء في: أنّ المجتهد المُطلق أهل للإفتاء ويصلح أن يكون مفتياً. ومن هذا القسم: فقهاء الصحابة والتابعين، والأئمة الأربعة، وغيرهم ... ثانياً: المجتهد في مذهب إمِامِه: وهو ما يُسمَّى بـ"المجتهد المُقيّد". وينقسم إلى أربعة أقسام: الأوّل: مجتهد غير مقلِّدٍ لإمامه في الحُكم والدليل، ولكن سلك طريقه في الاجتهاد والفتوى ودعا إلى مذهبه. وفتوى أصحاب هذا النوع كفتوى المجتهد المطلَق في العمل بها، والاعتداد بها في الإجماع والخلاف. والثاني: مجتهد مقيّد بمذهب إمامِه يستقلّ بتقريره بالدّليل، لكن لا يتعدّى أصوله وقواعده. وهذا المجتهد يكون قادراً على التخريج والاستنباط، وإلحاق الفروع بالأصول والقواعد التي قرّرها إمامُه.

الثالث: مجتهد التّرجيح، وهو الذي لم يَبلغ رتبة المتقدِّميْن، إلاّ أنه فقيه حافظ لِمذهب إمامه، عارف بأدلّته، قائم بتقريره ونصْرته. فهو من أهل الترجيح، لكنه لم يبلغ درجة الذين سبق ذكْرهم. الرابع: مجتهد الفتيا، أو الحافظ للمذهب، وهو الذي يقوم بحفظ أكثر المذهب ونقْله وفهْمه. وهذا تُعتمد فتواه ونقله فيما يَحكيه من مسطورات مذهبه ومن نصوص إمامِه. واجبات المُفتي وآدابه: وعلى المفتي: - أن يعلم أنّ ما يقوله ويُفتي به دِين يحاسَب عليه أمام الله تعالى؛ ولهذا يجب عليه: أن يطيل النّظر والفكْر، ولا يتسرّع في الإجابة، وإذا لم يعرف الجواب يقول: "لا أدري". - وينبغي للمفتي: أن يلاحظ عُرف البلد وعاداته، ليعرف مقصود المستفتي، وإذا لم يفهم من السؤال استَفْهَم من السائل عن مراده. وإذا جهل لغةً، كفاه ترجمة واحدٍ ثقة. - كما ينبغي للمُفتي: أن يشاور الفقهاء الحاضرين في موضوع الاستفتاء، إذا رأى حاجة لذلك. - وعلى المفتي: أن يبتعد عن مظانّ التّهم والرّيب، ليكون قوله مقبولاً عند المستفتي وغيره، وأن لا يَقبل هديةً ممّن يستفتيه. - وعلى المفتي: أن يكون ليِّناً متواضعاً، لا فظاً غليظاً، وأن يُقبل على المستفتي بلطف وبشاشة، وإذا رآه بطيء الفهم فلْيترفّق به حتى يفهمه.

آداب المستفتي: عليه: - أن يلتزم بآداب الإسلام في الكلام والخطاب. - وأن يلتزم آداب الإسلام في الحديث مع العلماء. - وأن يُظهر تواضعَه نحو المفتي واحترامه له؛ فلا يُعلي صوته عليه، ولا يومئ بيده في وجهه، ولا يُكلِّمه بلهجة قاسية. - وأن يستأذن بالسؤال والجلوس. - وأن يتخيّر الوقت المناسب والمكان المناسب لسؤاله، فلا يستفتيه وهو مشغول بغيره، ولا أن يطرق بابه في وقت القيلولة، إلى غير ذلك من مظاهر الاحترام ... - كما يجب على المستفتي أن لا يسأل أسئلة غير منطقيّة، أو يسأل عن أمور العلْم بها لا ينفع والجهل بها لا يضرّ، أو يسأل أسئلة يقصد بها إحراج المُفتى أمام الناس. ممّا سبَق، يتّضح أن أحوال المسلمين في هذا العصر تستوجب وجود الدّاعية الذي يجمع بين وسائل الدّعوة وأساليبها في الاستحواذ على المشاعر والعواطف بالكلمة الطيبة والموعظة الحسنة، كما قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}. وفي نفس الوقت، يكون الداعية عالماً بأمور الدِّين، فقيهاً بأحكام الشريعة، كما قال تعالى: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}. وبذلك يجمع الدّاعية بين فضيلتَيِ الدّعوة والإفتاء، فيطمئنّ الناس إلى حديثه، ويأمنون لفتواه، ويتتبّعون دعوته. وهذه أمور تتمّ إذا صدقت النّيّة، وتحقّق الإخلاص، وتخلّق الدّعاة بالفضائل، وتزوّدوا بالعلوم والمعارف التي أشرنا إليها بين ثنايا هذه المحاضرات، خلال المستوى الأول لمادّة "أصول الدعوة وطُرقها". والله وليّ التوفيق. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 7 أحوال العرب والعالم قبل الإسلام.

الدرس: 7 أحوال العرب والعالم قبل الإسلام.

التعريف بالعرب.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السابع (أحوال العرب والعالم قبل الإسلام) 1 - العربُ والعالم قبل الإسلام التَّعريف بالعرب بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الَّذي بفضله تتمُّ الصَّالحات، وبتوفيقه تستقيمُ الأقوالُ والأفعالُ، وبرحمته تُرفع الدَّرجات، قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}، والصلاة والسلام على أشرف الخلق وخاتم الرُّسل، الدَّاعي إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وعلى آله وأصحابه، ومن دعا بدعوته إلى يوم الدِّين، ... وبعد: تمهيد: فبحمد الله وتوفيقه، قد أنهينا محاضرات المستوى الأول، تناولنا فيها موضوعات تضمنت التَّعريف بالدَّعوة إلى الله، وصلة علم الدَّعوة بالعلوم الأخرى، وأنَّ الدَّعوة وظيفة الرُّسل، وهي من أشرف المهام وأعظمها، وأنَّها ماضيةٌ إلى قيام الساعة. ثم تناولنا في ثنايا هذه المحاضرات، قضيَّة الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، وارتباطهما بالدَّعوة إلى الله، وأوضحنا بشيء من التَّفصيل التَّعريف بهما وبأركانهما، وضوابط وضمانات وشروط الأمر بالمعروف والنَّهي، ودرجاته، ثم ذكرنا الأضرار السيئة النَّاجمة عن تقاعس الأمة عن الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر. ولقد اشتملت محاضرات المستوى الأول أيضاً، على خصائصِ دعوة الإسلام، وتفرُّدها وتميُّزها عن الرِّسالات السَّماويَّة السَّابقة، والشَّرائع والنُّظم الحديثة، كذلك ذكرنا ما ينبغي أن يتَّصف به الدُّعاة من أخلاق فاضلة، وسلوكٍ مهذَّب وإعدادٍ علميٍّ وثقافيٍّ واسع. ولقد عدَّدنا المصادر الأصليَّة للثَّقافة الإسلاميَّة. وخُتمت محاضرات المستوى الأول، ببيانِ قواعد الإفتاء وشروط المفتي، ووجوبِ أن يجمع الدُّعاة إلى الله بين فضيلتي الدَّعوة والفتوى، من خلال الفهم الصَّحيح لقواعد الإسلام وأُسُسِه، والتَّفقُّه في الدِّين، والتَّعرُّف على أحكامه. ونحمد الله تعالى، على ما وفقنا إليه وهدانا، ... ، وها نحن اليوم، نبدأ مستعينين بالله ومعتمدين عليه -سبحانه وتعالى- في أولى محاضرات المستوى الثَّاني، لمادَّة أصول الدَّعوة وطرقها، والَّتي سنتناولُ فيها: منهج الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- في الدَّعوة إلى الله، ونوضح الأسس الَّتي قامت عليها -أي الدَّعوة إلى الله-، والوسائل الَّتي اتبعتها، ونبيِّن أحوال المدعوِّين، واختلاف موقفهم من الدَّعوة، وسوف تشمل -إن شاء الله- كيف تتمُّ الدَّعوة للمجتمعات غير الإسلاميَّة، وما هي المقوِّمات النَّظريَّة والتَّدريبات العمليَّة لوسائل الإقناع، كالخطابة والمحاضرة، والمناظرة ... إلخ. هذه في إيجاز رؤوس الموضوعات، الَّتي سنوضحها بين ثنايا المحاضرات، وستكون أولى هذه المحاضرات اليومَ تعريفاً بالعرب والعالم، قبل دعوة الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- لنقفَ من خلالها على البيئة الَّتي نشأت في أحضانها الدَّعوةُ إلى الإسلام، واستطاعت بالمنهج القويم إخراجَ النَّاس من الظُّلُمات إلى النُّور، وسوف تتضمَّن المحاضراتُ العناصرَ التَّالية: 1 - الموقعُ الجغرافيُّ: يقطن العرب مناطق شبه الجزيرة العربيَّة، وهي أرض صحراويَّة شاسعة، تقع في جنوبيِّ غربيِّ آسيا، ويفصلها البحر الأحمر عن قارة إفريقيا، وتشغل المملكة العربيَّة السُّعوديَّة معظمَها، وتشمل الأجزاءَ الأخرى كلٌّ من اليمن وعمان والإمارات العربيَّة والكويت وقطر، كما تشغل البحرين جزيرةً تقع بالقرب من ساحل شبه الجزيرة الشَّرقيِّ. ومساحة شبه الجزيرة العربيَّة واسعة، وتغطي الأراضي القاحلة معظم أرجائها، كما يندر هطول المطر في بعض أجزائها، وقد تبلغ حرارتها الداخليَّة قُرابة (54 درجة) في فصل الصَّيف. وإنَّما غلب عليها اسمُ الجزيرة العربيَّة؛ لأنَّ خطَّاً من المياه النَّهريَّة يبدأ بشط العرب، فالفرات فنهر العاص فبحيرة لوط، وينتهي بخليج العقبة، يؤلف حدَّها الشماليَّ، ويكمل الإطار المائي الَّذي يحيط بها من جهاتها الأخرى: خليج البصرة وعمان من الشرق، والبحر العربي وخليج عدن من الجنوب، والبحر الأحمر من الغرب. هذا على أنَّ الهلال الخصيب -وهو القوس الممتدُّ من رأس الخليج الفارسيِّ، إلى زاوية البحر المتوسط الشرقيَّة والجنوبيَّة- يشكل كتلة الجزيرة العربيَّة الأصليَّة،

فإذا اقتصر مدلول الجزيرة على كتلتها الأصليَّة دون احتساب منطقة ما بين النَّهرين والمنطقة المطلَّة على البحر المتوسِّط منها، كان حدُّ الجزيرة الرَّملي الرَّابع مُكمِّلاً لحدودها المائيَّة الثَّلاثة. وهي إحدى ثلاثة أشباه جزر في جنوب آسيا: شبه جزيرة العرب، وشبه جزيرة الهند، والهند الصينيَّة، ولكنَّها تمتاز عنهنَّ جميعاً، دون أشباه الجزر في القارات الأخرى، بأنَّها أكبرُهنَّ مساحةً (حوالي مليون ميل مربع)، أو (ثلاثة ملايين ك. م تقريباً). فهي أكبر من شبه جزيرة الهند، وهي أربعةُ أضعاف شبه جزيرة فرنسا، وثمانيةُ أضعاف مجموعة الجزر البريطانيَّة. ويقابل هذا التَّفردَ في السَّعة تفرُّدٌ في الموقع، فالجزيرة العربيَّة تقع في العالم القديم موقع القلب، ففي الشَّرق لا يتجاوز المدى بين أقصى طرفها الشَّرقيِّ في ساحل عمان، وبين الهند (900 ك. م) تقريباً، وبينها وبين بلاد إيران تقابُلٌ وتجاوُرٌ وتلاصُق؛ تجاور في مضيق هرمز، وتقابل على شاطئ خليج البصرة، وتلاصق في الطرفين العربيِّ والعجميِّ. أما حدودها في الشَّمال، والشَّمالِ الشَّرقيِّ، والشَّمالِ الغربيِّ، فمع سوريَّة والعراق ومصر، فهي حدود متَّصلة مَرَّةً، وعسيرةٌ على التَّحديد مرَّةً أخرى؛ ذلك لأنَّ صحارى الشَّام والعراق وسيناء، كلُّها جزءٌ من الجزيرة العربيَّة؛ ولأنَّ ما وراءها -أي الجزيرة العربيَّة- من سهول العراق والشام، وهو هذا الهلال الَّذي يُحيط ببادية الشام، متألِّفاً من سهول الرَّافدين، فسهول الجزيرة السوريَّة، فسهول حلب وحماة وحمص والغوطة وفلسطين حتى خليج العقبة، إنَّما هي صلة مستمرة لسهول الجزيرة الساحليَّة الضيقة، وامتدادٌ خصب لها. وكذلك نرى أنَّ بلاد العرب، بهذا الموقع الفريد، الَّذي تلاصق فيه أكثر مراكز الحضارة القديمة، لم تكن جزيرةً من النَّحو الجغرافي فحسب، ولكنها كانت

جزيرة كذلك من نحو حضاري تأخذُها المدنيَّات من أطرافها حيناً، وتتفشَّى هي في هذه المدنيَّات حيناً آخر، سواء في الشَّام أو العراق أو مصر. وتلقى ما تلقاه عادةً من مدِّ الحضارات وجذرها، ومن تيَّاراتها وأمواجها، وبعضُ هذه الَّتياراتِ شديدةُ العمق، وبعضُها سطحيٌّ ظاهر، وبعضها صادرٌ عنها متأثِّرٌ بها، وبعضُها طارئ عليها مؤثِّر فيها، وعلى الجملة فهي في عزلتها عن العالم تحمل معاني صلتها به، وعلى أطراف إطارها المائي والرَّملي تنساب أسبابُ قراباتها وعلاقاتها. وهذا الموقع المتميِّز الفريد، هو ما أشار إليه قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة:143]. ثانياً: أصل العرب ونشأتهم: وصف المؤرِّخون العربَ بأنَّهم شعبٌ ساميٌّ -أي ينتمي إلى سام بن نوح-، وذكروا أنَّهم ربَّما نزحوا من حوض البحر الأبيض المتوسط، أو بلاد ما وراء النَّهرين منذ تاريخٍ بعيد، ثم استقرُّوا في شبه الجزيرة العربيَّة، وانتشروا بعد ذلك في ربوعها شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً ووسطاً، وأصبحت الجزيرة العربيَّة منذ ذلك العهد وطناً لهم استقرُّوا فيه طوال الحقب، حتى جاء الإسلام فنزحوا إلى كثير من بلدان آسيا وأفريقيا. وقد ورد ذكر العرب للمرة الأولى في الوثائق التَّاريخيَّة، من بين ما ورد في كتابات الملك الآشوري شالمنصر الثَّالث. حيث أفادت الألواح الَّتي عُثر عليها في بلاد ما بين النَّهرين، أنه كانت هناك جماعات من القبائل اليهوديَّة تعيش في أطراف مملكته المتاخمة لصحراء الجزيرة

العربيَّة، وكانت هذه الجماعات تُغير على أطراف مملكته الغنيَّة الفَينة بعد الأخرى، وعُرفت هذه الجماعات باسم العرب، دون تحديد دقيق لنطق الكلمة أو شكلها، وذلك لعدم وجود الحركات والشكل في لغة الأشوريين القدماء. عاش العرب في شبه الجزيرة في جماعات قبلية صغيرة، وكانوا يتبعون الكلأ والمرعى والمياه في شيء من عدم الاستقرار، رغم أنَّ لكل قبيلة أرضها الَّتي فَرضت عليها سلطانها، وبالإضافة إلى أن العرب عُرفوا بهذا الاسم لدى الآشوريين، فإنهم عُرفوا به أيضاً لدى اليونانيين والرومان. فقد ذكرهم "سترابو" الَّذي عاش بين عامي (63 ق. م و 24م) في كتابه "الجغرافيا" فذكر شيئاً عن زيارته لبلاد العرب، كما ذكر أنهم كانوا يستخدمون جِمالهم، في نقل السلع التجاريَّة على الساحل الغربي للبحر الأحمر، مروراً بـ "سِيْنَا" ووصولاً إلى موانئ البحر الأبيض المتوسط الشرقيَّة، ممَّا يؤكِّد على النَّشاط التِّجاريِّ العربيِّ منذ فجر التَّاريخ. ثالثاً: أقسام العرب: قسم مؤرِّخو العرب الأوائل، العربَ إلى ثلاثة أقسام، هي: العرب البائدة، والعرب العاربة، والعرب المستعربة. 1: العرب البائدة: يُراد بهم تلك القبائل العربيَّة الَّتي كانت تعيش في الجزيرة العربيَّة منذ أقدم العصور، ثم اندثرت لسبب من الأسباب، وقد اشتهرت من بينها أُمَّتان جاء ذكرهما في القرآن الكريم عدَّة مرَّات، وقصَّ علينا القرآن الكريم أنَّ هاتين الأُمَّتين -وهما عاد وثمود- قد أهلكهما الله -سبحانه وتعالى- فاندثرت عاد، بعد أن أرسل الله -عز وجل- عليها

ريحاً صرصراً عاتية استمرت سبع ليال وثمانية أيام حسوماً، وبذلك فنى معظمهم بسبب كفرهم وعنادهم وطويت أيامهم. أما ثمود، فقد أرسل الله -سبحانه وتعالى- إليهم رسوله صالحاً -عليه السلام- ولكنهم كفروا؛ فأهلكهم الله بالطاغية، قال تعالى: {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ * وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} [الحاقة:4 - 8]. بالإضافة إلى عاد وثمود، هناك قبائل أخرى من العرب البائدة، وهي طسم وجديس والعماليق وجُرهم الأولى وغيرها، وكلُّ هذه القبائل لم تبق منها بقيَّة في الجزيرة العربيَّة، ومن بقي منها انتشر في البلاد دون أن يبقى له أثر. 2: العرب العاربة: وهي تنتمي إلى يعرب بن قحطان، وهؤلاء أطلق عليهم مؤرخو العرب اسم القحطانيِّين، كما سمَّوهم أيضاً اليمنيِّين أو عربَ الجنوب، وكان موطنُهم الأصليُّ في جنوبيِّ الجزيرة العربيَّة، ولكن لظروف مختلفة منها الجفاف وانهيارُ سد مأرب، والبحث عن مكان أفضل، هاجر كثيرٌ منهم إلى أنحاء متفرقة من شبه الجزيرة، ومن أهم فروعهم الرئيسيَّة حمير وكهلان، وهما أبناء يعرب بن قحطان، ومنها تفرَّعت سائر القبائل اليمنيَّة. 3: العرب المستعربة: ويُطلق عليهم العدنانيُّون والنِّزاريُّون والمعدِّيُّون، وهم الَّذين نشأوا حول بيت الله الحرام، وكانت قبيلة جُرهم أوَّلَ قبيلة حلَّت بمكة، واستأنست بهم هاجَر أم

إسماعيل -عليهما السلام- ونشأ إسماعيل وترعرع بجوارهم وتزوَّج منهم، وقد تحدَّث المؤرخون أنَّ قبيلة جرهم وهم أخوال بني إسماعيل، تولَّوا أمر البيت وملأوا فجاج مكة، حتى ضاقت على أصحابها الأولين من بني إسماعيل، فتركوها دون أن ينازعوا جرهماً في ولايتهم؛ رعاية لقرابتهم وإعظاماً لحرمة مكة أن يكون بها بغي أو قتال، فلما خلا الجو لجرهم بغوا وظلموا وأكلوا مال الكعبة الَّذي يُهدى إليها، حتى جاءت قبيلة خزاعة وحاربت جرهما حتى أخرجتها من مكة، وظلت ولاية البيت في خزاعة يتوارثها بنوها كابراً عن كابر، حتى انتزعها منهم قُصيُّ بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النَّضر. ويقول مؤرخو العرب: "إنَّ مكَّة قد بدأت بقُصَيٍّ عهداً تضاءلت إلى جانب مجده عهودُ خزاعة وجُرهم، وجدَّت فيها وظائف دينيَّة أُضيفت إلى ما كان لها من قبل، فكانت إلى قُصي الحِجابة والسِّقاية والرِّفادة والنَّدوة واللِّواء، وبها حاز شرف مكة كلَّه، وأبقاه في ولده من بعده، ما يُعرف أنَّ أحداً نازعهم فيه قط". فلمَّا أدرك قصيَّ الكِبَر؛ عزَّ عليه ألا يدرك ولدُه البكر عبدُ الدار ما بلغه أخوه عبد مناف في زمان أبيه من شرف، فقال قُصيٌّ لولده عبد الدَّار: أما والله يا بني لأُلحقنك بالقوم، وإن كانوا قد شرفوا عليك، ثم جعل إليه ما كان بيده من أمر قومه". قال المؤرِّخون: "وهلك قصيُّ، ولبثت قريشُ على ما أراد لها زمناً، حتى قام بنو عبد مناف بن قصي، وهم عبد شمس وهاشم والمطلب ونوفل، فأجمعوا أن يأخذوا ما بأيدي بني عمِّهم "عبد الدار" ممَّا كان جدُّهم قصي قد جعله إليه من النَّدوة والحجابة واللِّواء والسِّقاية والرِّفادة، إذ رأوا أنَّهم أولى بذلك منهم

لشرفهم عليهم وفضلهم فيهم، فتفرَّقت عن ذلك قريش واجتمعوا للحرب، ثم تصالحوا على أن يقتسموا الميراث الجليل لبني عبد الدار: الحجابة واللِّواء والنَّدوة، ولبني عبد مناف السِّقاية والرِّفادة. سبب تسمية قبيلة قريش: لسبب تلك التَّسمية أقوال كثيرة، ومنها: 1 - سُمُّوا قريشاً لتجمعهم إلى الحرم بعد تفرقهم في البلاد، وقد جمَّعهم قصي، فالقرش في اللغة الجمع. 2 - أو لأنَّهم كانوا أهل تجارة وتكسب وضرب في البلاد، يتقرَّشون البياعات فيشترونها من قولهم: فلان يتقرَّش المال -أي يجمعه-. 3 - أنَّ لقب قريش أطلق على النَّضر بن كنانة؛ لأنَّه اجتمع في ثوبه يوماً، فقيل له: تقرَّش، فكل من كان من ولده فهو قُريش". وقد ازدهر مجد قريش، وبلغت المكانة المرموقة بهاشم بن عبد مناف، وكانت له الرِّفادة والسقاية، وكان اسمه عَمراً فأصابت قريشاً سنوات عجاف؛ فخرج هاشم إلى الشام فأمر بخبز كثير فخُبز له فحمله على الإبل إلى مكة فهشَم ذلك الخبز يعني كسّره وأطعم قومه، فسمي هاشماً، ومات في غزَّة وهو في رحلةٍ تجارية، وقبل موته وُلد له عبد المطلب، وكان يلقب بشيبة لشيبة في رأسه، وهو جدُّ المصطفى -صلَّى الله عليه وسلَّم- وهو الَّذي أعاد حفر زمزم، وفي حياته جرت حادثة الفيل الَّتي جاء ذكرها في القرآن الكريم. وهكذا تجمعت لقريش كلُّ جوانب المجد، وسادت على القبائل العربيَّة كلها، وقد تحدث القرآن الكريم عن هذه المكانة في أكثر من موضع وقد تهيأت لاستقبال خير مبعوث -صلَّى الله عليه وسلَّم-. ممَّا سبق يتبيَّن لنا في إيجاز أصلُ العرب ونشأتُهم.

رابعاً: أديان العرب: على الرَّغم من المكانة الَّتي كانت تحظى بها مكة المكرمة في نفوس قريش خاصة والعرب عامة، إلا أنَّهم انحرفوا بعقائدهم، فعبدوا الأصنام وقدَّسوها، واتخذوها آلهة تعبد من دون الله، وقد بالغوا في ذلك فأحاطوا الكعبة بثلاثمائة وستين صنماً. ومن أصنامهم "هبل" وهو أول صنم أقيم في الكعبة، بعد أن أحضره عمرو بن لُحي من "مآب"، ونصبه على البئر الَّذي حفره إبراهيم -عليه السلام- في جوف الكعبة، وأمر النَّاس بعبادته وكانوا ينادونه "يا إلهنا". هذا بجانب تعظيمهم "لمناة"، وهي منصوبة ناحية البحر عند المشلَّل، وكان الأوس والخزرج أكثرَ النَّاس تقديساً لها، وكذلك صنم اللات هو محلُّ تقديس وعبادة أهل الطَّائف، أما العُزَّى فهي شجرةٌ بوادي نخلةَ بين مكَّة والطَّائف، وقد اتَّخذت كلُّ قبيلة صنماً تختصُّ به وتعبده، فاتَّخذت هُذيل سواعاً، وكلبٌ وداً، وأنعم أهل جرش اتَّخذت يغوث، وحمير اتَّخذت نسراً ... إلخ ما ذكره ابن هشام. وقد عاب القرآن انحراف عقولهم وفساد عقائدهم، فقال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى * إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم:19 - 23]. وأشار القرآن الكريم إلى أنَّ عبادة الأصنام لم تكن حدثاً أحدثه العرب وحدهم، بل إنَّ عبادتها وتعظيمَها ضاربٌ في أعماق الزَّمن، ممتدٌّ إلى جذور التَّاريخ، منذ عهد نوح -عليه السَّلام-، حيث ارتبط قومُه بعبادتها، وكانت سببَ هلاكهم، فذكر القرآن

الكريم عن نوح: {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلا خَسَاراً * وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً * وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلا ضَلالاً} [نوح:21 - 24]. وهكذا كان فسادُ العقيدة وضلالُ العقل مَعلماً بارزاً، وسمةً من سمات القبائل العربيَّة، ومع ذلك فقد وُجِدت جماعةٌ قليلة لم تفسد فطرتها، ولم ينحرف فكرُها كما انحرف قومهم، فبعضهم عَبَدَ اللهَ على دين إبراهيم، وبعضٌ منهم تديَّن بدين أهل الكتاب، وبعضُهم اشتهر بالحكمة، وقد ذاع منهم: ورقة بن نوفل، وعبيد الله بن جحش، وعثمان بن الحويرث، وزيد بن عمرو بن نفيل: فقد حكى ابن هشام، أنهم اجتمعوا في عيدٍ لهم عند صنمٍ من أصنامهم، فقال بعضهم لبعض: تعلموا والله ما قومكم على شيء لقد أخطأوا دين أبيهم إبراهيم، ما حجرٌ نطيف به لا يسمع ولا يبصر ولا يضرُّ ولا ينفع!؟ يا قوم، التمسوا لأنفسكم، والله ما أنتم على شيء! ". ومن الحكماء قسُّ بن ساعدةَ الإياديُّ، وعامر بن الطرب الحكيم، ومن حكماء العرب عبد المطلب جدُّ الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم-. كما انتشر بين القبائل العربيَّة عبادات أخرى، وفدت إليهم من الأمم المجاورة كمجوسيَّة الفرس، ومنهم من عبد الكواكب والجنَّ والطيور والشَّجر، ومنهم الدَّهريُّون الَّذين أنكروا الخالق -سبحانه- وأنكروا البعث والقِيامة، قال تعالى عنهم: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ} [الجاثية:24].

معتقدات العالم وأديانه قبل بعثة الرسول -صلى الله عليه وسلم-.

معتقدات العالم وأديانه قبل بعثة الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- تمهيد: لم يكن العربُ وحدَهم، الَّذين انحرفت عقائدُهم وضلَّت عقولهم وفسدت أخلاقُهم، ولكنَّ العالم من حولهم، كان يموج في ظلمات العقائد والنِّحَل الباطلة، وقد كادت عقيدةُ التوحيد أن تتلاشى من على وجه الأرض، إلا من بعض أفرادٍ قلائلَ ممَّن سلمت فطرتهم، لم يخلُ منهم مجتمعٌ من المجتمعات، ولقد كانت أحوال العالم الدِّينيَّة على النَّحو التَّالي: أولاً: الإمبراطوريَّة الرُّومانيَّة: ورث الرُّومان الحضارة اليونانيَّة القديمة، الَّتي كانت تُعدِّد الآلهة، فهناك آلهةٌ للحصاد، وآلهة للنار، وآلهة لحراسة الأبواب والأسرة والبيت ... الخ، ثم انتقلت هذه الوثنيَّة اليونانيَّة إلى الرُّومان، في القرن الرابع قبل الميلاد، ومن ثم أخذوا يعبدون الآلهة الإغريقيَّة، وسمَّوها أسماءً رومانيَّة وبَنَوا المعابد والمزارات لتكريمها. ولقد عرفت هذه الإمبراطوريَّة الدِّيانة النَّصرانيَّة، في النِّصف الثاني من القرن الأول الميلادي، غير أنَّها لم تعرف الدِّين الحقَّ المنزل على عيسى -عليه السلام-، ولكنَّها عرفت النَّصرانيَّة الَّتي جاء بها بولس الرَّسول، الَّذي كان يهوديَّاً متعصِّباً يُدعى شاول أو شاؤل، وكان من أشَدِّ أعداء عيسى -عليه السَّلام- وأتباعه، ثم انقلبَ فجأةً إلى النَّصرانيَّة، ونجح في أن يمزج بين وثنيَّة الروم وبين الدِّين النَّصرانيِّ، وبذلك نجح في تشويه وتحريف ما جاء به عيسى -عليه السَّلام-، كما تساهل في بعض التَّشريعات والطًّقوس؛ سعياً لكسب الوثنيِّين الرُّومان، وهكذا جاء بولس بنصرانيَّة جديدة

خالف بها دعوة عيسى -عليه السلام-، واستطاع أن ينتصر على النَّصرانيَّة المحافظة الَّتي تترسَّم خُطى المسيح -عليه السَّلام-، وقد استمرَّ هذا الصراع خلال الثَّلاثة قرون الأولى، الَّتي لقي فيها أتباع عيسى الحقيقيُّون أشدَّ أنواع الاضطهاد على أيدي اليهود والرُّومان، وقد سجل القرآن الكريم وقائع هذا الاضطهاد في سورة البروح، قال تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ* وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ *قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:1 - 8]. وهذه الآيات إشارةٌ إلى ما كان يلقاه المؤمنون الموحِّدون، خلال الفترة بين رسالة عيسى -عليه السلام- وبِعثة محمَّد -صلَّى الله عليه وسلَّم-، ولقد تمكَّن الَّتيار الَّذي كان يتصدَّره أتباعُ بولس، من أن تكون لهم اليد الطُّولى والكلمة العليا على مخالفيهم، لا سيَّما بعد اعتناق الإمبراطور الرُّوماني قسطنطين النَّصرانيَّة، الَّذي انحاز لآراء وأفكار وأنصار بولس ومنحهم حرية العبادة، وطارد الموحِّدين والمخالفين للكنيسة. وعقد عام 325م المجمع الكنسي الأول، الَّذي عُرف بمجمع "نيقية" الَّذي تبنى ما يُعرف بمعتقد "نيقية"، الَّذي قرَّر "أن يسوع هو الإله المتجسِّد" ورفض آراء آريوس، الَّتي كانت تقوم على فكرة إنكار ألوهية المسيح -عليه السلام-. ولقد تشعَّبت عقائدُ النَّصارَى، فشمِلت عقيدةَ التَّثليث والدَّينونة، والصَّلب والتَّعميد، والعشاء الربانيَّ، والاستحالة. وحوربت معتقداتُ من يُخالف هذه المعتقدات الباطلة، فنشأت محاكم التَّفتيش، تُصادر كلَّ رأيٍ يخالف رأي الكنيسة، ومارست الكنيسة ألواناً من الطُّغيان المادِّيِّ والرُّوحيِّ، ممَّا هو معروف في المراجع والمصادر العالميَّة.

ثانياً: أديان الفرس قبل الإسلام: بلاد فارس القديمة، كانت تشمل أجزاءً من كلٍّ من إيران وأفغانستان الحالِيَّيْن، وفي القرن السَّادس قبل الميلاد أصبحت فارس مركزاً لإمبراطورية واسعة، شمِلت معظم العالم المعروف آنذاك، وكانت عاصمتها المدائن، وامتدت من شماليِّ أفريقيا وجنوبيِّ شرقيِّ أوربا غرباً، إلى الهند شرقاً، ومن خليج عمان جنوباً، إلى جنوبيِّ تركستان وروسيا شمالاً. وفي بداية القرن الخامس قبل الميلاد، غزا الفرسُ بلاد اليونان، إلا أنَّ اليونانيين تمكنوا من طردهم خارج أوربا، ثم ألحق بهم الإسكندر هزيمةً ساحقة عام 331 قبل الميلاد، وبعد ذلك سيطر الفريسيُّون والسَّاسانيون الفرس على بلاد الفرس، قبل أن يفتحَها العرب المسلمون عام 15هـ، 637م. معتقدات الفرس: اعتقد قدامى الفرس بآلهة من الطَّبيعة، كالشَّمس والسَّماء، كما كانوا يعتقدون بإلهين: أحدُهما أصلُ الخير والثَّاني أصلُ الشَّرِّ. ولقد كان الفرس قبيل ظهور الإسلام، يعبدون النار ويقدِّسونها، مؤمنين بقوتها وشرفها، حتى لا يُعذَّبوا بها في الآخرة. هذه هي أحوال العالم الدِّينيَّة، قبل بعثة الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- ولم تكن أحوالهم الاجتماعيَّة بأفضلَ من حالتهم الدِّينية. فكانت الحروب والخلافات وارتكابُ المنكرات، ممَّا جعل العالم تشرئبُّ أعناقُه، وينظر إلى السَّماء، ينتظر الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم-

وإنَّ أدقَّ وصف وأشمله وأوجزه لحالة العرب والعالم، هو قول الله تعالى: {هُوَ الَّذي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2]. فالضَّلال المبين كان يلفُّ العالم بأسره، ولم ينقشع إلا بالدَّعوة إلى الله، الَّتي اتَّخذت المناهج والأساليب الَّتي جعلت من هذه الأمم الضَّالَّة خيرَ أمَّة أُخرجت للنَّاس، قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بالله}. أما عن قواعد هذا المنهج، فهذا هو موضوع المحاضرة التالية -إن شاء الله-. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 8 منهج الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأسلوبه في الدعوة إلى الله.

الدرس: 8 منهج الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأسلوبه في الدعوة إلى الله.

التعريف بالمنهج وبيان الفرق بينه وبين الأسلوب.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثامن (منهج الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأسلوبه في الدعوة إلى الله) التَّعريف بمنهج الدَّعوة إلى الله التَّعريف بالمنهج وبيانُ الفرق بينه وبين الأسلوب بسم الله الرَّحمن الرَّحيم الحمد لله، هدانا إلى أفضل منهج وأقوم سبيل وأرشدِ طريق، والصَّلاة والسَّلام على السِّراج المنير، البشير النَّذير، الدَّاعي إلى الحقِّ، وإلى الصِّراط المستقيم، وعلى آله وأصحابه، ومن دعا بدعوتهم إلى يوم الدِّين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد تمهيد: فقد تناولنا في المحاضرة السَّابقة، أحوال العرب والعالم قبل بعثة الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم-، ورأينا ما كانت تُعانيه البشريَّة من جاهليَّةٍ جهلاء وضلالةٍ عمياء وظُلمات بعضها فوق بعض، استمرَّت ردحاً من الزَّمن، اكتوت الإنسانيَّةُ بنيرانها قروناً عديدة، حتى أذن الله لليل الكفر أن يتبدَّدَ ولصبح الإيمان أن يتنفَّسَ ولشمس الإسلام أن تشرق على العالم، تبعثُ فيه الحياة، وتجدِّد لديه الأمل، وتوقظ فيه سنن الفطرة، ولتعيد شريعتُه صياغةَ الإنسان من جديد، عبر وحي السماء ورسالات الأنبياء، وقبل أن نوضح منهج الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- وأسلوبه في الدَّعوة إلى الله، سنذكر في هذه الدرس الثامن من محاضرات أصول الدَّعوة وطرقها للمستوى الثاني، التعريف اللُّغويَّ لكلمة منهج، وما هي أنواع المناهج التي قامت عليها دعوة الإسلام، وذلك وفق العناصر التَّالية: أولاً: تعريف المنهج: لغةً: المَنهج، والمِنهج، والمِنهاج: هو الطَّريق الواضح البيِّن للغاية المقصودة أو المرادة. ونهَج كمنع، ووضَح وأوضح، ونهج الطريق بمعنى سلكه، واستنهجَ الطريقُ صار نهجاً، وفلانُ يستنهج سبيلَ فلان، أي يسلُك مسلكه. ونَهج طريقٌ نََهْجٌ بيِّن واضح، وهو النَّهج، ومنهج الطريق: وَضَحه، والمنهاج كالمِنهج، وفي التَّنزيل: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة:48]. وأنهج الطريق: وضح واستبان، وصار نهجاً واضحاً بيِّناً. فالمنهاج: الطريق الواضح، واستنهج الطريق: صار نهجاً. ونهج الأمر، وأنهج لغتان إذا وضح. ممَّا سبق يتبين أنَّ كل تصاريف كلمة "منهج" تدور حول معنى واحد، وهو الطريق الواضح المستبان. ومن هذا المعنى اللُّغويِّ، استُخدمت كلمة "منهاج" بمعنى الخطة المرسومة، ومنها: منهاج الدِّراسة، ومنهاج التَّعليم ونحوها، والجمع مناهج. كما لا يخفى التَّقاربُ اللُّغويُّ، بين كلمتي منهاج وسنَّة، فكلاهما بمعنى الطَّريق، وإن زادت كلمةُ المنهج على كلمة سنة، باشتمالها على الموضوعات التي تضمَّنتها الدَّعوة إلى الله.

اصطلاحاً: هو الطريق المؤدِّي إلى الكشف عن الحقيقة في العلوم، بواسطة طائفة من القواعد العامة، التي تُهيمن على سير العقل، وتُحَدَِّد عمليَّاته، حتى يصل إلى نتيجة معلومة. فمنهج الدَّعوة: "هو الخطة الكلية، والنظام العام، الذي يحدِّد الإطار العام لكلِّ جوانب الدَّعوة، وهو الَّذي يجمع كافة جزئيَّات قضاياها، ويُنسِّق بينها لتتكامل ولتحقِّقَ ما يُراد منها على الوجه الصَّحيح". فمن خلال التَّعريف اللُّغويِّ والاصطلاحيِّ لكلمة "المنهج"، يتضح أنَّ الدَّعوة إلى الله، بما تحمل بين ثناياها من العقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق، وما تضمَّنته من أخبار الرُّسل والأمم السابقة وأحوال الآخرة، هي ذات طريق واضح ومنهج مبين، تدركه الفطر النقيَّة والعقول الواعية والنفوس المستقيمة والبصائر المستنيرة، فالدَّعوة إلى الله ليس فيها غموض الفلاسفة ولا ألغاز الكهَّان ولا هرطقة المشعوذين ولا تمتمة السحرة ولا تقعُّر المتفيهقين، إنَّما هو منهجٌ ظاهر وطريق بارز يلامس قلوب البشر جميعاً، وقد أخبر القرآن الكريم عن وضوح هذا المنهج، قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153]. وقال تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 161 - 163]. وعن جلاء هذا المنهج وظهوره، قال جلَّ شأنه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108].

وهذا السبيل البيِّن الواضح، هو ما أمر الله المسلمين بالدُّعاء به، كلَّما توجَّهوا إلى الله بالصَّلاة، فقال تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]. ثم حدَّدت الآية: من هم أصحاب المنهج القويم والصراط المستقيم، فقال تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:6]، وهم الأنبياء والمرسلون، ومن سار على منهجهم، وممن جاءوا في قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسول فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً} [النساء:69 - 70]. أما الطُّرق الأخرى والمناهج المختلفة، التي لا يأمن المسلمون عواقبَها، ويُخشى عليهم من آثارها السيئة ونتائجها الوخيمة، فقد تضمَّنت سورة الفاتحة وجوبَ دعاء المسلم في صلواته: أن يُجنِّبه الله تعالى طريق الضالين ومنهج المفسدين فقال تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7]. ثم أُمِرَ المسلمون بالتَّأمين بقولهم "آمين". ولقد حدَّد الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- أصحاب الطرق المنحرفة والعقائد الباطلة والمناهج الفاسدة، فسمَّاهم الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- بالاسم: أنَّهم اليهود والنَّصارى. فقد روي عن أبي ذر -رضي الله عنه-: سألتُ رسولَ الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- عن المغضوب عليهم، قال: ((اليهود)) قلت: الضَّالين، قال: ((النصارى)). وجاء عن ابن عباس، وابن مسعود، وعن أُناسٍ من صحابة رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: (({غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} اليهود، {وَلا الضَّالِّينَ} النصارى)). وهذا ما تخوَّف منه -صلَّى الله عليه وسلَّم- وخشيه على أمته منهم، وحذَّر من اتِّباع مناهجهم الضَّالَّة، فقال -صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((لتَتَبعُنَّ سَنَنَ مَن قبلكم، شبراً بشبرٍ، وذراعاً بذراع، حتَّى

لو دخلوا جُحر ضبٍّ خربٍ لدخلتم فيه، فقالوا: اليهود والنَّصارى؟ فقال -صلَّى الله عليه وسلَّم-: ومَن غيرُهم؟!)). وهذا ما ينطق به حالُ المسلمين في هذه الأيَّام، من إعراضهم عن منهج الله وإقبالهم واندفاعهم وهرولتهم، دون تدبُّر إلى مناهج الغرب في تقليد أعمى وغباء مستحكم، حتى غدت حياتهم ضنكاً وأمرهم بؤساً وأحوالهم هواناً وذلاً، وقد بين القرآن الكريم عاقبة الذين يُعرضون عن منهج الله، فقال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه:123 - 127]. هذا تعريف بمنهج الدَّعوة القويم والحضِّ عليه، والتَّبصير بمنهج الضَّالِّين والتَّحذير منه. ثانياً: الفرق بين منهج الدَّعوة وأساليب الدَّعوة: بعض الباحثين لا يفرق بين المنهج والأسلوب، أو قد يضعُ أحدَهما مكان الآخر، وفي الحقيقة إنَّ بينهما اشتراكاً في المعنى اللُّغويِّ، وقد سبق بيان المعنى اللُّغوي لكلمة منهج. أما تعريف الأسلوب لغةً: الأساليب جمع أسلوب، وهو في اللغة الطريق، يقال: سلكت أسلوبَ فلان أي طريقته ومذهبه، وأسلوبُ الكاتب طريقته في الكتابة، يقال: أخذ فلان في أساليب القول، أي أفانينه. تعريف الأسلوب في الاصطلاح: طريقة الدَّاعي في دعوته، أو كيفية تطبيق المنهج.

فمن خلال التَّعريف اللُّغوي لكلٍّ منهما، نجد اشتراك كلٍّ من المنهج والأسلوب في المعنى اللغوي وهو الطريق، ويبدو الفرق واضحاً والمفهوم متغايراً، من خلال التعريف الاصطلاحي، كما يلي: أولاً: المناهج الدعوية، هي قضايا وموضوعات الدَّعوة التي جاءت في قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً} [النساء:36]. وجاء هذا المنهج الرَّبَّانيُّ، في قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأنعام:151 - 152]. هذه هي مناهج الدَّعوة وموضوعاتها، التي جاءت بها الرِّسالات السَّماويَّة من لدن آدم -عليه السلام- إلى سيِّدنا محمَّد -صلَّى الله عليه وسلَّم-. أمَّا الأساليب، فهي كيفية وطرق تطبيق قضايا المنهج. والمثال على ذلك: "إذا كانت العبادة في الإسلام منهجاً ونظاماً؛ فإنَّ من أساليبها الصلاة والصيام والحج والزَّكاة ... إلخ".

ثانياً: إنَّ منهج الدَّعوة ربَّانيٌّ، كلُّه من عند الله تعالى، وقد جاء مفصَّلاً في الكتاب والسنة، ولا مجال فيه لاجتهاد مجتهد أو رأي بشر. أمَّا الوسائل والأساليب، فقد جاءت في صورة قواعد كلية وأسس عامة، لكي يتَّخذ المسلمون من الوسائل والأساليب، لتوضيح منهج الإسلام وقضاياه، بما يتلاءم مع ظروف الزمان والمكان. والمثال على ذلك قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125]. فهذه الآية، توضح أنَّ من يسلك سبيل الدَّعوة إلى الله، فينبغي عليه أن يأخذ بالأساليب التالية: الحكمة، والموعظة الحسنة، والمجادلة بالَّتي هي أحسن. هذه الأساليب التي أشار إليها القرآن الكريم، إشارةً موجزةً دون تفصيل. فيأتي العلماء ويوضحون مفهوم الحكمة، والفرق بينها وبين العلم، وما هي ضوابط الحكمة؟ وما هو الإطار الذي يتحرك فيه الدَّاعية بالحِكمة والفطانة وحسن الوعي؟ ومدى الحكمة في ترتيب أولويَّات موضوعات الدَّعوة ومنهجها. ثم يوضِّحون أساليبَ الموعظة الحسنة: هل بالوعظ والإرشاد؟ أم بالوعد والوعيد؟ وهل تشملُ الكتابة، أو استخدام أجهزة الإعلام المرئية والمسموعة، أم تتضمَّن التربية والتعليم؟ وكذلك المجادلة بالتي هي أحسن: ما ضوابطها؟ ما أصناف المدعوين الذين يتوجه إليهم الدُّعاة بالمجادلة؟ ومتى يتوقف الإنسان عن الجدال. كلُّ هذه الأمور وغيرُها تدخل في مجال أساليب الدَّعوة، مما سنوضحه في ثنايا هذه المحاضرات. ومن هنا يتضح الفرق بين مناهج الدَّعوة وأساليبها.

الأسس المنهجية التي تقوم عليها الدعوة إلى الله.

الأسس المنهجية التي تقوم عليها الدَّعوة إلى الله تمهيد: إنَّ الدَّعوة إلى الله أمرٌ إلهيٌّ، وشأنٌ ربَّانيٌّ، صاغته يدُ القدرة صياغةً فريدةً متميِّزةُ: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} [النمل:88]. فالإنسان أثرٌ من آثار قدرة الله، وأحدُ دلائل الإحكام والإبداع والإتقان، قال تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ}. وقال جل شأنه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16]. هذا الإنسان، قد أودع الله بين حنايا جسده وثنايا قلبه ونفسه، دوافع الخير ونوازع الشر، ومتطلَّبات الرُّوح ورغبات الجسد، كما أنَّه من دلائل الإعجاز وآيات الخلق والتَّكوين ممَّا تخفى حكمته عن الخلق، ويستعصى سرُّه عن الفهم أنَّ الله جلت حكمته، قد جعل للشيطان طريقاً إلى بني آدم، يُزيِّن لهم المعاصي ويوسوس لهم بالمحرَّمات، فلا ينجو أحدٌ من كيده، ولا يفرُّ إنسانٌ من مكره، إلا المتَّقين من عباد الرَّحمن. هذا الإنسان، بهذا التَّكوين، وبما يحمله داخل جسده ونفسه، لم يتركه الله في هذه الحياة وحيداً فريداً، تتخطَّفه شياطين الإنس والجنِّ، ولم يدفع به إلى الأرض تائهاً حيرانَ، تتخبَّطُه العقائد الباطلة والنِّحَلُ الفاسدة، وإنَّما وُضع له من خلال الرُّسل المرسلة، والكتب المنزلة، المنهجُ الذي يصونه ويحفظه ويرعاه ويحول بينه

وبين وساوس الشيطان ورغبات النفس وشهواتها، هذا المنهج الدَّعويُّ، يقوم على ثلاثة أسس: المنهج الحسيِّ، المنهج العقليِّ، المنهج العاطفيِّ. أولاً: المنهج الحسي: تعريفه: هو النظام الدعوي الذي يرتكز على الحواس، ويعتمد على المشاهدات والتَّجارب. وقيل في تعريفه أيضاً: هو مجموعة الأساليب الدعوية، التي ترتكز على الحواس، وتعتمد على المشاهدات والتجارب. فقد أودع الله في الإنسان قوةَ إدراكات كبيرة، تطَّلع على الكون، ولها منافذُ تُطِلُّ منها على العالم من حولها، وهي الحواسُّ الخمس: السَّمع، والبصر، والشَّمُّ، والتَّذوُّق، واللَّمس. ومن خلال ما تشاهده تلك الحواس، وتنقله إلى عقل الإنسان وفكره، ممَّا هو حوله، حيث يقف على الحقيقة بيضاء ناصعة. وقد وجه القرآن الكريم أهمَّ حاستين في الإنسان، وهما السمع والبصر، إلى استجلاء حقيقة الإيمان بالله والوقوف على دلائل القدرة وآيات عظمة الله في الخلق والتكوين والإبداع والإتقان، حيث تلامس تلك الحواس هذه الحقائق، فتؤمن عن يقين وتصدق عن اقتناع، قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:78]. وعن مسؤولية الحواس، قال تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36]. وقال -جلَّ شأنه-: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} [المؤمنون:78]. وقال تعالى: {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الأِنْسَانِ مِنْ

طِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} [السجدة:6 - 9]. ويُلاحظ في هذه الآيات، الترابطُ الوثيقُ، والتلازم الوطيد، بين كلٍّ من السمع والبصر والعقل والقلب؛ لأنَّ العقل يحكم على الأشياء، من خلال ما تنقله الحواس، ولا يستطيع أن يعمل بدونها، فإذا فقد الإنسان حاسَّة البصر حكم العقلُ على أنَّ كلَّ شيءٍ أسود، وإذا فقد حاسة السمع توقف العقل عن التمييز بين الأصوات، ولذلك فإنَّ من أسباب الكفر وانحراف الفكر تعطيل الحواس عن إدراك عظمة الخالق -سبحانه وتعالى- في الأنفس والآفاق، قال -تعالى- في شأن الكافرين: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:7]. وقد جمع القرآن الكريم بين الكافرين والمنافقين في فساد حواسِّهم، قال تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [البقرة:18]. وقال تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [البقرة:171]. ولقد نقل القرآن الكريم صورة حسِّيَّةً حيَّة ومشاهدة، لتعمُّد تعطيل عمل الحواس، وذلك فيما حكاه عن نوح -عليه السلام- قال تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلا فِرَاراً * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ -أي وضعوا ثيابهم على أعينهم- وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً} [نوح:5 - 7]. هذا، ولقد راعى الإسلام في المنهج الحسي، حاسَّة التَّذوُّق، وهي اختبار طعم الشيء وتذوقه، ويطلق على المطعومات التي يتذوقها اللسان، وقد استعملها القرآن الكريم مع حاسة اللمس، ليستدلَّ من خلالها على نعيم المؤمنين وعلى عذاب الكافرين.

فعن تذوُّق العذاب وتجرُّع آلامه، قال تعالى: {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} [ص:57]. وقال تعالى: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباً * إِلا حَمِيماً وَغَسَّاقاً * جَزَاءً وِفَاقاً} [النبأ:24 - 26]. وقال تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56]. وكذلك للرحمة مذاق، يتجلى في هدوء النفس وانشراح الصدر وصدق النية وإخلاص العمل، قال تعالى: {وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الأِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا} [الشورى:48]. وقال تعالى: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا} [الروم:36]. وقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الروم:46]. وقال -صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((ثلاثٌ من كنَّ فيه وجدَ حلاوةَ الإيمان: أن يكونَ اللهُ ورسولُه أحبََّ أليه ممَّا سواهُما، وأن يُحبَّ المرءَ لا يُحبُّه إلا لله، وأن يكرَه أن يعودَ في الكفر، كراهة أن يُلقى به في النار)). وقال -صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((ذاق طعمَ الإيمان: مَن رضِي بالله ربَّاً، وبالإسلام ديناً، وبمحمَّد -صلَّى الله عليه وسلَّم- نبيَّاً ورسولاً.)). فالقرآن الكريم، بما اشتمل عليه من الحقائق حول الإنسان والكون، يقوم على المنهج الحسي الذي يعتمد على الملاحظة، من خلال البرهان الساطع والدليل القاطع الذي تدركه الحواس. وقد بين الحق -سبحانه وتعالى-، أن تعطيل الحواس وصرفها عن مشاهدة عظمة الله في الأنفس والآفاق، إفساد للفطرة وانحدارٌ بها إلى أقل من الحيوانات مرتبةً، قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُون} [الأعراف:19].

ومن أبرز أساليب المنهج الحسي، في ميدان الدَّعوة إلى الله، ما يلي: 1 - لفت الحواس إلى المشاهدات الكونية: وذلك بالنظر إليها والتأمل فيها، للتوصل للإيمان بوجود الله ووحدانيته، قال تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ * وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق:6 - 11]. وقال تعالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ * فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية:17 - 21]، هذا منهج حسي، يُوجِّهُ البشر إلى النَّظر والتَّأمُّل في ملكوت الله. 2 - أسلوب التَّعليم التَّطبيقيّ: وذلك بأن يشاهد المدعوُّون الدَّاعيَ بأبصارهم، أو يتلقَّون بالسماع عنه، وهذا منهج حسي وضع رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- أسسه وقواعده، فقال لأصحابه: ((صَلُّوا كما رأيتُمُوني أُصلِّي)) رواه البخاري. وقال: ((خُذوا عنِّي مناسكَكُم)). والسنة النبوية تحمل بين ثناياها حشداً هائلاً، لكلِّ أحوال الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- التي كانت تتبعها الصَّحابة، ويُبصرونها بأعينهم، ويتعبَّدون بالاقتداء بها، امتثالاً

لقول الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21]. وقد كانت أفعاله -صلَّى الله عليه وسلَّم- تطابق أقوالَه، وظلَّت حياته -صلَّى الله عليه وسلَّم- كتاباً منظوراً يشاهده المسلمون بحواسهم ويرصدونه بأفئدتهم، ويروون هذه الأخبار والأحوال؛ فتلقاها الرواة الثقات العدول، حتى تم تدوين ذلك، في أوائل القرن الثَّاني الهجري، مما يؤصِّل المنهج الحسي للدَّعوة إلى الله. 3 - تأييد الله للأنبياء والمرسلين بالمعجزات الحسية: كعصا موسى، وناقة صالح، وكنزع خاصية الإحراق من النار التي أُُلقي فيها إبراهيم -عليه السلام-، وكمعجزات عيسى -عليه السلام-، كانت معجزات حسِّيَّة. هذا بجانب معجزات الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- فقد أيَّده الله بمعجزات حسية، شاهدها الصحابة، كانشقاق القمر، وتسبيح الحصى، والبركة في الطعام، ونبع الماء من بين أصابعه -صلَّى الله عليه وسلَّم- وردِّ عين أبي قتادة -رضي الله عنه- وغير ذلك من المعجزات الحسِّيَّة، بجانب المعجزة المعنويَّة الكبرى: القرآن الكريم. ممَّا يؤكد على أهمية المنهج الحسي، في الدَّعوة إلى الله. رابعاً: اعتبر الإسلام درء المنكرات ودفع المعاصي باليد أو باللسان أو بالقلب، من الأمور المقرَّرة شرعاً، وينبغي على الأمة أن تقوم بهذا الأمر، قال -صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((مَنْ رأى منكم منكراً؛ فليُغَيِّرْه بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) رواه البخاري. فاشتراك حاسة اللسان مع جارحة اليد مع مشاعر القلب بالكراهية لمرتكبي المنكر وفي هذا إبراز لفاعلية المنهج الحسي.

ثانياً: ضوابط المنهج الحِسِّي: وضع الإسلام ضوابط المنهج الحسي،، وجعله في إطار ما أمر الله به ونهى عنه، وقد بيَّن القرآن الكريم والسنة النبوية وجوب صون الحواس وكفِّها عمَّا حرَّم الله، ومن هذه الضوابط: 1 - الالتزام بالنصوص الشرعية، التي توضِّح حدود السَّمع والبصر: ومن ذلك عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: ((إذا أصبحَ ابنُ آدم؛ فإنَّ الأعضاءَ كلَّها تُكفِّر اللسان -أي تذلُّ له وتخضع- تقول: اتَّقِ الله فينا، فإنَّما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوجَحْت اعوججنا)) رواه الترمذي. وعن أبي موسى -رضي الله عنه- قال: قلت يا رسول الله: أيُّ المسلمين أفضل؟ قال: ((مَن سلِم المُسلمون، مِن لسانه ويده)) متفق عليه. 2 - عدم النظر فيما لا يستطيع الإنسان الإحاطةَ به، أو لم يُكَلَّف بالنظر فيه: قال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولا} [الإسراء:36]. وقال -صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((مِن حُسن إسلام المرء، تركُه ما لا يعنيه)). قال تعالى موضحاً صفات المؤمنين: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:3]. وقال تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} [الفرقان:72].

وقال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:55]. 3 - اتباع المنهج الصحيح للنَّظر في الأنفس والآفاق: وقد وضع القرآن الكريم أسسه وقواعده وفصَّل ضوابطه، ومن ذلك: أ- النظر في عاقبة المكذبين، قال تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [الأنعام:11]. ب- وجوب النَّظر والتأمل، فيما أنعم الله على عباده من نعم، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام:11]. ج- النظر في السماوات والأرض، وما فيهما من دلائل العظمة وآيات القدرة، قال تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس:101]. د- النظر في عواقب الأمور، والتفكر فيما يقدمه الإنسان يوم القيامة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18]. والنظر فيما يأكله الإنسان، نظرة تدبُّر وتفكُّر، ومشاهدة جمال الخلق وبديع الصنع، قال تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الأِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقّاً * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً * وَعِنَباً وَقَضْباً * وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً * وَحَدَائِقَ غُلْباً * وَفَاكِهَةً وَأَبّاً * مَتَاعاً لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} [عبس:224 - 32].

فهذه الآيات تَلفتُ نظر البشر وحواسَّهم، إلى مشاهد الجمال في الكون، ممَّا يُعمِّق مشاعر الإيمان، ويوسِّع مدارك الحواس، فلقد انتكست الإنسانيَّة في هذا العصر، بسبب وسائل الإعلام، حيث جعلت الجمال يقتصر على توجُّه الحواس للمرأة دون غيرها، وإلى إثارة غرائزها وعرض مفاتنها، وأغمض الناس أعينهم عن رؤى الجمال في كل مظاهر الحياة من حولهم، سواء كان جمالاً حسياً فيما يرون ويسمعون، أو جمالاً معنوياً في فضائل الخير ... قال -تعالى- مشيراً إلى حركة الكون وحسن مشاهده: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الروم:50]. ثالثاً: آثار المنهج الحسي في الدَّعوة إلى الله: للمنهج الحسي أثرٌ عميق وتأثيرٌ ملموس على المدعُوِّين، حيث يحملهم على الإيمان بالله إيماناً صادقاً، يتَّضح ذلك للأسباب التالية: 1 - سرعة التأثير على الإنسان؛ لاعتماده على الحواس التي تتصل بالمظاهر من حوله اتصالاً مباشراً، وتنقل تلك المشاهدات للعقل مباشرة، حيث يقتنع ويُصَدِّقُ ويسلم بقدرة الله في الأنفس والآفاق. 2 - عمق التَّأثير في النَّفس، لمعاينتها الشيءَ المحسوس، فتتفاعلَ معه، فإنَّ اشتراك الحواسِّ في تلقِّي أمرٍ من الأمور الدِّينيَّة أو الدُّنيويَّة ومعاينته، يُوَلِّد في النَّفس القَبول، وفي الصدر الانشراح، وفي العقل الاقتناع. 3 - اتساع دائرة المنهج الحسي، لاشتراك البشر جميعاً. فالحواس الخمس تجتمع وتتواجد بصورة متماثلة في الناس أجمعين، قال -تعالى- عن هذا الخلق البديع: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:8 - 10].

فالحواسُّ، مصدر من مصادر المعرفة، ووسيلةٌ للتَّعرُّف على آثار قدرة الله. ويجب على الدُّعاة إلى الله، أن يُرَشِّدوا عملها، وأن يوجِّهوها الوجهة التي خلقها الله من أجلها، وأن لا يحصروها في دوائر ضيِّقة محدودة، وأن ينطلقوا بها إلى أرجاء الكون الرَّحب الفسيح، لتتأمَّل ولتنظر في ملكوت السماوات والأرض، قال -تعالى-: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} [الملك:23]. هذا هو المنهجُ الحِسِّيُّ في الدَّعوة إلى الله، وهذه هي قواعدُه وضوابطُه وآثاره، أمَّا عن المنهج العقليِّ والعاطفيِّ، فهذا موضوع المحاضرة القادمة، إن شاء الله.

الدرس: 9 المنهج العقلي للدعوة إلى الله.

الدرس: 9 المنهج العقلي للدعوة إلى الله.

أولا: تعريف العقل في اللغة والاصطلاح.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس التاسع (المنهج العقلي للدَّعوة إلى الله) 1 - المنهج العقلي للدَّعوة إلى الله أولاً: تعريف العقل في اللغة والاصطلاح بسم الله الرَّحمن الرَّحيم الحمد لله الَّذي خلق الإنسان في أحسن تقويم، وكرَّمه بالعقل، وميَّزه بالفكر، وأنعم عليه بنطق اللِّسان ومَلَكة البيان، وفضَّله على كثيرٍ من الخلق في هذه الأكوان، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الخلق وخاتم الرُّسل، الذي هدى الله ببعثته العقول الضَّالَّة، وصحَّح برسالته الأفكار المنحرفة، وردّ بدعوته النُّفوس التائهة، وعلى آله وأصحابه أولي الفضل والألباب ... السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد تمهيد: فقد تناولنا في المحاضرة السَّابقة، لمادة أصول الدَّعوة وطرقها، المستوى الثاني، التَّعريف اللُّغويَّ والاصطلاحيَّ لمناهج الدَّعوة، ووضَّحنا الفرق بينها وبين الأساليب، وذكرنا من أنواعها المنهجَ الحِسِّيَّ. وفي هذه المحاضرة الثالثة، نوضح -إن شاء الله- المنهج العقليَّ للدَّعوة إلى الله، وسوف تتضمَّن هذه المحاضرة عنصراً واحداً يشتمل على عدَّة أبحاث. لقد أنعم الله على الإنسان بنعمة العقل والفكر، وبهما كرَّم -سبحانه- بني آدم على كثير من الكائنات، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء:70]. ومن أعظم معالم هذا التَّكريم والتَّفضيل، ما اختصَّ الله به البشر من عقولٍ هي مركز التَّوجيه، ومحور التَّفكير، ومناط التَّكليف، وبها يتميَّز الإنسان عن الحيوان، فالعقل يستقي المعلومات من الحواسِّ بواسطة الجهاز العصبيِّ الذي يمتدُّ من خلايا الجسم وأنسجته؛ ليصل إلى الدِّماغ في نظام مُحكم بديع، وصُنعٍ إلهيٍّ معجزٍ للعقول مبهرٍ للنُّفوس، وما زال العلم رغم تقدُّم إمكاناته، والعلماء وما توصلوا إليه من حقائق، يقفون عاجزين عن إدراك حقيقة العقل وأسرار تكوينه. والإسلام والعقل وجهان لعملة واحدة، صنعتها يدُ القدرة، وكلاهما يهدفان لغاية واحدة: هي البحث عن الحقيقة والوصول إليها، ومن أجَلِّ هذه الحقائق وأعظمِها على الإطلاق: الإيمانُ بالله -سبحانه وتعالى- والتَّصديق بوجوده ووحدانيَّته، تصديقاً يقوم على الحجة الواضحة، والبرهان الساطع، والدَّليل القاطع، والسبيل إلى هذا هو الدَّليل النَّقليُّ من الكتاب والسنة، والدليلُ العقليُّ لأصحاب الفكر المستقيم والفطر النقية. وقبل أن نبيِّن المنهج العقلي للدعوة إلى الله، نلقي بعض الضوء على ماهية العقل وحقيقته.

1 - تعريف العقل في اللغة: جاء في "القاموس المحيط" مادة "عقل": عَقَلَ يعقِل عقلاً ومعقولاً وعقّل فهو عاقل، والجمع عقول، وعقل الدواءُ بطنَه يعْقِلُهُ ويَعْقَلُهُ: أمسكه، وعَقَلَ الشي: فهمه فهو عقولُ. وعَقَلَ البعير: شدّ وظيفَه إلى ذراعه -أي قوائمه- يقال: "ظفّ قوائم البعير شدَّها كلَّها وجمعها". ويقال: اُعتُقِلَ لسانُهُ: لم يقدر على الكلام. فأصل مادة كلمة "عقل" تدور حول معنى الإمساك بالشَّيء وحبسه وربطه. وسُمِّي العقل عقلاً؛ لأنَّه يعقل صاحبَه ويحبسه، ويحول بينه وبين التورط في المهالك. ومن مُسميات العقل: 1 - الحِجر، قال تعالى: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ * هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} [الفجر:1 - 5]. يقول الإمام ابن كثير: "أي لذي عقلٍ ولُبٍّ وحجاً، وإنَّما سُمِّي العقل حجراً؛ لأنَّه يمنع الإنسان من تعاطي ما لا يليق من الأفعال والأقوال، ومنه حجر البيت الحرام؛ لأنَّه يمنع الطائف من اللُّصوق بجداره، وحجر الحاكم على فلان إذا منعه من التصرف.

ثانيا: مستقر العقل.

2 - النُّهَى، وهو جمع نُهْيَةٍ، قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لأُولِي النُّهَى} [طه:128]. 3 - اللُّبُّ: من أسماء العقل يجمع على ألبابٍ، وألُبٍّ، وأَلبُبٍ، ورجل لبٌّ، ولبيب وملبوب، فاللبيب العاقل، والجمع ألبَّاء. فاللبيب هو الموصوف بالعقل. فاللب هو الدائرة الواقعة في عمق مركز التَّفكير، وهو مركز استقرار المعرفة العلميَّة، ومركز التذكر والاعتبار والاتِّعاظ والذكرى، وعنه تصدر النتائج الفكرية، إلى الفؤادِ والقلبِ والصدرِ لتحريك العواطف، قال تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ} [البقرة:269]. 2 - تعريف العقل في الاصطلاح: ذُكرت تعاريف كثيرة للعقل، غير أنَّ أقربَها إلى الوضوح، ما ذكره صاحب "القاموس" بقوله: "العقلُ العلمُ بصفات الأشياء، من حسنها وقبحها وكمالها ونقصانها، أو العلمُ بخير الخيرين وشرّ الشرين، أو مطلقٌ لأمور أو لقوَّةٍ بها يكون التَّمييزُ بين القبح والحسن، أو لِمَعانٍ مجتمعة في الذِّهن، يكون بمقدمات يُستتبُّ بها الأغراض والمصالح، ولهيئةٍ محمودة للإنسان في حركاته وكلامه. والحقُّ أنَّ العقلَ نورٌ روحانيٌّ، به تدرك النَّفسُ العلومَ الضَّروريَّة والنَّظريَّة، وابتداءُ وجوده عند اجتنان الإنسان -أي عند صيرورته جنيناً- ثم لا يزال ينمو إلى أن يكمل عند البلوغ". ثانياً: مستقر العقل يذكرُ علماءُ الطِّبِّ والتَّشريح، أنَّ العقل هو المخُّ الذي يستقرُّ في الدماغ، الَّذي يحتوي على عددٍ يتراوح ما بين "10" بلايين و "100" بليون عصبون، وكل هذه العصبونات، تكون موجودة خلال الأشهر القليلة الأولى للولادة.

وأنَّ الدماغ مركز التَّحكُّم الرئيسيّ في الجسم، حيث يستقبل المعلوماتِ الواردةَ من أعضاء الحسِّ، عمَّا يجري داخل الجسم وخارجه، ويُحلِّلها بسرعة، ويُرسل الرَّسائل الملائمة، الَّتي تنظم حركة الجسم ووظائفه. ويقوم الدِّماغ -أيضاً- يتخزين المعلومات الخاصَّة بالخبرات السَّابقة، مما يُساعد الشَّخص على التَّعلُّم والتَّذكر، كما أنَّه يُعَدُّ مصدراً للأفكار والأمزجة والانفعالات، هذا هو تعريف أو تقرير الأطبَّاء عن مستقرِّ العقل، وأنه في الدِّماغ. غير أنَّ القرآن الكريم -وهو كلامُ الله المعجز، الذي لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلفه- يذكر أنَّ القوة العاقلة في الإنسان، تستقرُّ في القلب، ومستقرُّه الصَّدر، قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف:179]. فقد أسندت الآيةُ الفقه والفهم والتَّدبر للقلوب. قال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46]. فقد أشارت الآية إلى أنَّ القلوب هي الَّتي تعقل، وأنَّ مكانها في الصَّدر. وقال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]. ففي هذه الآية، توضيحٌ: أنَّ عدم التَّدبر والتَّفكر، يكون بسبب ما يرينُ على القلوب، ويجعلُها مغلقةً كأنَّ عليها أقفالاً تحول دون تفهُّم القرآن الكريم وتدبُّر آياته، قال تعالى: {كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14]. وذكر الحق -تبارك وتعالى- أنَّ الختم بالكفر يكون على القلب، قال تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:7]. كذلك من أعمال القلب الخطأ والصواب، قال تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب:5].

كما أشار الرَّسول -صلى الله عليه وسلم- إلى أنَّ القلب عليه مدار سعادة الإنسان أو شقاؤه، فقال: ((أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ)) رواه البخاري. ممَّا سبق من هذه الآيات، يتبيَّن أنَّ العقل غريزة فطريَّة، يولد الإنسان مزوَّداً بها تنمو شيئاً فشيئاً، ومحل هذه الغريزة الفطرية إنَّما هو القلب. فمن مفهوم الآيات السابقة، يتَّضح أنَّ العقل مكانُه القلب، بينما الطِّبُّ يذكر أنَّ العقل مركزُه الدِّماغ. وحينما يستخدم القرآنُ الكريمُ القلبَ في أداء وظيفة العقل، وهي التَّفقُّه أو التَّدبُّر، أو يذكر العقل فيما يمتاز به القلب، فهو استخدامٌ مجازيٌّ لغرضٍ بلاغيٍّ، يعكس وجهاً من وجوه الإعجاز القرآنيِّ، ويوضح مدى الارتباط الوثيق بين ما يحتويه الدِّماغ من المخ، وبين ما يضمُّه الصدر من القلب، حيث إنَّ القلب يضخُّ الدَّمَ الذي يُغذِّي المخَّ عن طريق الأوردة والشَّرايين، وهذا هو الظاهر الملموس لبني البشر، من خلال وسائل الاكتشافات العلمية الحديثة، في مجال التَّشريح والطب، أمَّا عن خصائص كلٍّ منهما، وما ينفرد به أحدُهما عن الآخر، وهل العقل مركزه المخُّ أو القلب؟ فهذا سرٌّ من أسرار القدرة الإلهية، التي أودعها الخالق -سبحانه وتعالى- في جسم الإنسان، كما هو الأمر في شأن الرُّوح، قال تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوح قُلِ الرُّوح مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلاً} [الإسراء:85]. فكما أنَّ الرُّوح َ سرٌّ إلهيٌّ في الجسد، لم يستطِع العلم الحديث، رغم إمكاناته الهائلة، أن يرصد حركتها، ولن يستطيع ذلك، فكذلك ما يتعلَّق بمكان تواجد العقل، فهذا من آيات الخلق المُبهرة، ودلائل التَّكوين المعجزة، قال تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21].

ثالثا: تعريف المنهج العقلي للدعوة إلى الله وارتباطه بالحواس.

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الطارق:6 - 8]. ثالثاً: تعريف المنهج العقلي للدَّعوة إلى الله وارتباطه بالحواس المنهجُ العقليُّ في الدَّعوة إلى الله، هو النِّظام الدَّعويُّ الذي يرتكز على العقل، ويدعو للتفكر والتدبر والاعتبار، ويعتمد العقلَ في النتائج التي يتوَصَّل إليها، أو الحكم على الأشياء بما تنقله الحواسُّ، التي ترسل إشارتها إلى مركز القلب والعقل في الإنسان، ولقد أشار القرآن الكريم للارتباط الوثيق بين الحواس والقلوب، قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:78]. وقال جل شأنه: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} [المؤمنون:78]. وقد أعلن القرآن الكريم، عن المسؤوليَّة المشتركة بين الحواس والأفئدة، قال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:31]. وقد بين القرآن الكريم أنَّ من أهم أسباب القوة والتَّمكين في الأرض، أن يعتمد الخلقُ على المنهج العقليِّ، المرتبط بحسن السمع والنَّظر، اللذان يؤديان إلى الفكر المستقيم، والرأي السديد، وأنَّ من أسباب هلاك الأمم وضعف الشعوب وهوانها، أن تُغمض أعينَها عمَّّا أنعم الله به عليها من نعم السمع والبصر والعقل، أو تصرفها بعيداً عما خلقها الخالق -سبحانه- من أجله، إلى ما لا فائدة منه ولا

رابعا: مكانة العقل في الإسلام.

ثمرة فيه، كما هو شأن العالَم المعاصر، الذي فقد اتِّزانه وأفسد حواسه وعقله، بالفن الهابط والأدب الساقط والقول المبتذل، قال -تعالى- عن عناصر التمكين في الأرض ونتائج إفسادها: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأحقاف:-26 - 27]. وقد تحدَّث القرآن الكريم عن مشاهد الخزي والذل والهوان يوم القيامة، لمن ضلَّت قلوبهم وعقولهم، قال تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} [إبراهيم:42 - 43]. واستكمالاً لمشهد الحواس والقلوب يوم القيامة، يقول الله تعالى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ * يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:18 - 19]. ممَّا سبق من هذه الآيات، يتَّضح مدى الارتباط الوثيق، وتبعة المسؤولية، وتحمُّل الثَّواب والعقاب، لكلٍّ من الحواس ومراكز التفكر والتدبر في الإنسان. رابعاً: مكانة العقل في الإسلام يحظَى العقلُ في رحاب الإسلام، بمنزلة كريمةٍ ومرتبةٍ عالية، فبسببه كرَّم اللهُ الإنسان واستخلفه في أرضه وائتمنه على بعض أسرار كونه، وفضَّله على كثيرٍ من خلقه، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء:70].

هذا التَّفضيل وذلكم التَّكريم، ليس لكون الإنسان يأكل أو يشرب أو يتناسل، فهذه صفات يشترك فيها مع ما يدبُّ معه على هذه الأرض، بل هو أقلُّ تزوُّداً وأضعفُ نسلاً من كثير من هذه الدَّوابِّ، وإنَّما شرف بما وهبه الله من عقل يفكر به، ولسانٍ ينطق به، وبما أودعه بين حنايا نفسه من مَلَكَاتٍ جعلته أهلاً وجديراً بما خلقه الله من أجله وكلَّفه به، وتتَّضح مكانة العقل في الإسلام، من خلال الأمور التالية: 1 - جعل الإسلامُ العقلَ من ضروريات الإنسان الخمسة، التي يجب المحافظة عليها، وهي: الدِّين، النَّفس، العقل، النَّسل، المال. وشرع من الأحكام والحدود، ما يحمي العقل ويصونُه من التَّلَف، فحرمت الخمر وكل مسكر من مشروب أو مأكول يخامر العقل ويغطيه، وشرع الإسلام حدَّ شارب الخمر، صيانةً له وحفظاً. 2 - العقل يسمو بالإنسان على الملائكة: إذ إنَّ الله خلق الملائكة بعقل دون شهوة، وخلق الدَّوابَّ بشهوة من غير عقل، أمَّا الإنسان فهو مُرَكَّبٌ من عقل وشهوة، فمَن ارتقى مِن البشر بعقله وتغلَّب على شهواته، كان عند الله أفضلَ من الملائكة، بدليل أنَّ الله يباهي بعبده الصَّائم الملائكةَ، كما ذكر رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-، أمَّا من تغلَّبت شهوتُه على عقله، فإنَّه ينزل إلى مرتبةٍ أقلَّ من الحيوان. 3 - الأحكام الشرعيَّة في الإسلام، مرتبطةٌ ببلوغ الإنسان واكتمال عقله، وتسقُط عنه التكاليف الشرعيَّة، إذا ما زال عقله بمرض أو جنون أو إغماء أو نوم، قال -صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ)).

4 - أمر اللهُ الإنسان، أن ينشط عقله ويوقظ ذاكرته، كلَّما اعتراهما الغفلة والنسيان، يذكرهما بالعبادة وذكر الله، ليظلَّ العقلُ يقظاً، قال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً} [الكهف:24]. ولهذا كان من دعاء المؤمنين، أن يحفظ الله عقولَهم من النِّسيان والخطأ، فذكر الله تبارك وتعالى دعاءهم: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:226]. 5 - بين الحق -تبارك وتعالى- أنَّ الكفر والإلحاد وفساد العقيدة وانحراف السلوك، سببُه غشاوة العقول واضطراب الفكر واعتلال النظر، قال تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} [الأنفال:22]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} [يس:62]. قال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:42 - 43]. قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179]. فهذه الآيات تشير بوضوح، إلى أنَّ انحراف العقل عن الفكر الصحيح، وتعطيل الحواسِّ عَمَّا حولَها في الأنفس والآفاق، من آيات القدرة ودلائل العظمة، هو انتكاسٌ للفطرة، وتمرُّدٌ على رسالة الإنسان في هذا الكون، والانحدار إلى مرتبة الحيوانيَّة، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} [محمد:12].

خامسا: الدعوة إلى الله تقوم على الإقناع العقلي.

خامساً: الدَّعوة إلى الله تقوم على الإقناع العقليِّ إنَّ قواعدَ الإسلام وأركانَ الإيمان، يقومان على أسسٍ من الإقناع العقليِّ والبراهين السَّاطعة والأدلة اليقينيَّة الواضحة والمحجَّة البيضاء الناصعة، فالدعوة إلى الله، لا تعرف التقليد الأعمى، ولا تحمل الناس بالقهر والإكراه على اعتناق عقائدها، ولا تسوق البشر لتشريعاتها وأحكامها كما يُساق القطيع دون فكر أو إرادة، كما أنَّ الدَّعوة إلى الله لا تتطلب من الشخص أن يُبادر باعتناق الإسلام، من خلال عاطفة جيَّاشة أو تأثُّر بموقف معيَّن، وإنَّما تأمره بأن يتريَّث في الأمر، وأن يتعمَّق في البحث، حتى يطمئنَّ قلبُه، وينشرحَ صدره، ويثبت عقله، وتصدق نيته، وتصحَّ عزيمته. والقرآن الكريم كتاب الدعوة إلى الله، تتلألأ آياتُه، وتسطع شمسُ توجيهاته للإنسانيَّة كلِّها، بالدَّعوة إلى الحوار الهادئ، والنقاش المهذب، والجدال بالتي هي أحسن. فالإسلام العظيم لا يضيق ذرعاً بآراء الغير، وإنَّما يردُّ عليها بالصدق، ويُزيل ما علق بالذِّهن من شبهات، بالإقناع العقلي، بل يتحدَّى الخصم ويطلب منه أن يأتي بما عنده من حجج، وبما لديه من براهين، قال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:24]. وقال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون:117]. فالبرهان الحجة، وبرهن عليه أقام البرهان.

وقد ذكر الحق -تبارك- أن القرآن الكريم، قد جاء بالبرهان الساطع والنور المبين، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} [النساء:175]. يقول الإمام ابن كثير، في تفسير هذه الآية: "يقولُ الله مخاطباً جميع الناس، ومخبراً بأنه قد جاءهم منه برهانٌ عظيم، وهو الدَّليل القاطع للعذر والحجَّة، والمُزيل للشُّبهة، ولهذا قال -تعالى-: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً}، أي ضياءً واضحاً على الحقِّ". ولقد وضع القرآن الكريم، قواعد الإقناع وأصول المحاجَّة الفكرية والمجادلة، كما يلي: 1 - أن لا يجادل الإنسانُ إلا في الحقِّ، وألا يُحاجج إلا عن علم ويقين، فقد زعم اليهود والنصارى انتساب إبراهيم -عليه السلام- لكلٍّ منهما، وهذا جهل منهم بحقائق العلم والتاريخ، فإنَّ زمنه -عليه السلام- كان قبل نزول التوراة على موسى والإنجيل على عيسى -عليهما السلام-، فكيف يتجادلون ويتحاجُّون في أمر يتصادمُ مع العقل، قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالأِنْجِيلُ إِلا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [آل عمران:65 - 66]. 2 - نهى القرآنُ الكريم العقلَ، عن أن يحاجج في الأمور البديهية والمسلَّم بها، ومن ذلك طلبُ الحجة على وجود الله، فهذا أمر ثابت بالفطرة وبالآيات الكونية وببعثة الرسل وإنزال الكتب، وتصريف شؤون الكون وتدبير أحوال الخلق، ورغم هذا كلِّه يطلبون مزيداً من الحجج تعسُّفاً، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [الشورى:16].

قال تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت:46]. 3 - القرآن الكريم، دعا إلى التَّفكير العقليِّ الجماعيِّ؛ لأنَّ التقاء العقول وتلاقي الأفكار يؤدِّيان إلى الوقوف على الحقيقة، وتبيُّن وجه الصَّواب، قال -تعالى- مخاطباً المشركين وداعياً لهم للاجتماع والنَّظر بصدق وموضوعيَّة، فيما نسبوه لرسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- زوراً وبهتاناً؛ فأمر الله رسوله -صلَّى الله عليه وسلَّم- أن يُقدِّم لهم موعظةً في كيفيَّة التفكير واتِّخاذ القرار والحكم على الأمور، فقال -جلَّ شأنه-: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيد} [سبأ:46] ولهذا شرع الإسلام الشُّورى، في قوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38]. وفي قوله تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران:159]. 4 - أمر اللهُ البشر أن يزيلوا غشاوةَ العقول، ويتفكَّروا في الكون من حولهم، ويتدبَّروا في صنع الله المتقن، وبديع خلقه المبهر، ليكون ذلك دافعاً للإقناع، حاملاً على الإيمان، قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ} [آل عمران:190 - 191]. وقال تعالى: {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة:126]. وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ} [الروم:8].

سادسا: آثار المنهج العقلي على المدعوين.

وقال تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [النحل:17]. 5 - وضع القرآن الكريم، القواعد الكلية للمنهج العقليِّ للدَّعوة الإسلاميَّة، وقد فصل الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- هذا المنهج وأمر به أصحابه، ومن ذلك ما رُوي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((تَفكَّرُوا في خَلقِ اللهِ، ولا تتفَكَّروا في الخالق، فإنَّكم لا تقدُرون قَدْره)). كذلك نهى الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- عن أن يتحدَّث الإنسانُ فيما لا يعلم، أو أن يُمعن التفكر فيما ليس فيه مصلحة، فعن عمر -رضي الله عنه- قال: "نُهينا عن التَّكلُّف" رواه البخاري. كذلك نهى الإسلام عن أن يبنيَ المسلم أفكاره ومعتقداته على الظن، أو أن يُخضعَ عقله للهوى، أو مؤثراتٍ اجتماعية، تقوم على التقليد. وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} [القصص:50]. وقال جل شأنه: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ} [النجم:23]. وقال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((إيَّاكم والظَّنَّ، فإنَّ الظَّنَّ أكذبُ الحديث)) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. سادساً: آثار المنهج العقليِّ على المدعُوِّين 1 - تظهر آثار المنهج العقليِّ للدَّعوة إلى الله، من خلال الانتشار السريع والمستمرِّ للإسلام، فما يكاد الشَّخص تُلامسُ تعاليمُ الإسلام قلبَه وعقلَه، إلا ويستجيبُ لداعي العقلِ والفطرة.

2 - نجح الإسلامُ -وما زال النجاحُ حليفَه- في إفحام الخصم، حيث لا يستطيعُ أمام الآيات القرآنيَّة والأحاديث النبويَّة والحجج العقليَّة، إلا الإذعانُ والتَّسليمَ والرِّضا بالإسلام. 3 - المنهجُ العقليُّ، دائرته محدودة ونطاقه ضيِّق؛ لأنَّه وَقْفٌ على خواصِّ الأمة من العلماء والفقهاء والمفكِّرين والولاة، وبصلاح هؤلاء واستقامة عقولهم وأفكارهم صلاحٌ واستقامة للأمة، بخلاف المنهج الحسي، فهو يقوم على الحواس، وهذا أمرٌ مشترك، ومتاحٌ للناس جميعاً، ولا يحتاج إلى إجهادِ ذهنٍ أو إعمالِ فكر. أمَّا عن المنهج العاطفيِّ للدَّعوة إلى الله، فهذا موضوعُ المحاضرة القادمة، إن شاء الله.

الدرس: 10 المنهج العاطفي في الدعوة إلى الله.

الدرس: 10 المنهج العاطفي في الدعوة إلى الله.

التعريف بالمنهج العاطفي.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس العاشر (المنهج العاطفيُّ في الدَّعوة إلى الله) 1 - المنهج العاطفيُّ للدَّعوة إلى الله التَّعريف بالمنهجِ العاطفِيِّ الحمد لله، خلقَ الإنسانَ في أحسن تقويم، وأودعَ بين ثنايا نفسه وخَلَجَات قلبه المشاعر والعواطف الَّتي تسمو به، على كثيرٍ من المخلوقات، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الخلق وخاتم الرُّسل، هادي العقولِ إلى الخير، ومطهِّرِ النُّفوسِ من الشَّرِّ، وعلى آله وأصحابه الَّذين صحَّت عقيدتُهم، وسلمت عقولهم، وطهُرت قلوبهم، فرضيَ الله عنهم ورضُوا عنه، وأولئك هم المفلحون ... السلام عليكم ورحمة الله، فقد تناولنا في اللِّقاءَين السَّابقين، تعريف وتوضيح المنهج الحِسِّيّ والعقليِّ، للدَّعوة إلى الله. وفي هذه المحاضرة الرابعة، لمادة أصول الدعوة وطرقها، "المستوى الثاني"، نلقي الضوء على المنهج العاطفيِّ للدَّعوة إلى الله، وَفق العناصر التالية: 1 - العطفُ لغةً: يُقال: عَطِفَ وعَطَف يَعْطِفُ مَالَ، وعَطَفَ عليه أشفَقَ، وتعاطَفوا، أي عطف بعضُهم على بعض، أي: مال كلٌّ منهم للآخر وانحنى عليه، واستعطفه سأله أن يعطف عليه. "القاموس المحيط: مادة عطف" 2 - العاطفة اصطلاحاً: عُرِّفت العاطفة بعدة تعريفات، منها: 1 - العواطف هي الانفعالات النَّفسيَّة المنظَّمة والموجَّهة إلى مؤثِّر خاصٍّ، وتنشأ عن الوِجدان الفرديِّ أو الاجتماعيِّ، فتكوِّنُ عواطف فردية أو جماعيَّة. 2 - العاطفة هي ذلك الشيء الموجود في داخل النَّفس الإنسانيَّة، والتي تظهر واضحةً جليةً؛ إذا عُرض للإنسان موقفٌ ما أثار فيه هذه النَّزعة. 3 - تعريف المنهج العاطفيِّ للدَّعوة إلى الله: هو النِّظام الدَّعويُّ الَّذي يرتكز على القلب، ويحرِّك المشاعر في النَّفس، لكلِّ جوانب الخير، ويدفع بالعواطف والأحاسيس، إلى الصدق وحسن التوجه إلى الله، وتعميق أواصر المحبة للهِ ولرسوله وللمؤمنين، وهذا المنهجُ عميقُ الصلة، وثيق الترابط بكلٍّ من المنهج الحسِّيِّ والعقليِّ، قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:78]. فالأفئدة هي القلوب، مركِزُ المشاعر، ومنبع العواطف، ومستقرُّ الأحاسيس. ويصف الإمام أبو حامدٍ الغزاليُّ القلبَ وما يحتويه من أسرار، فيقول: "القلب هو المقبول عند الله؛ إذا سلم من غير الله، وهو المحجوب عن الله؛ إذا صار مستغرَقاً بغير الله، وهو المطالب، وهو المخاطب، وهو المعاتَب، وهو الذي

يسعد بالقرب من الله، فيُفلح إذا زكَّاه، وهو الَّذي يخيب ويشقى إذا دنَّسه ودسَّاه، وهو المُطيع بالحقيقة لله، وإنَّما الَّذي ينتشرُ على الجوارح من العبادات أنوارُه، وهو العاصي المتمرِّد على الله. وإنَّما السَّاري إلى الأعضاءِ من الفواحش آثارُه، وبإظلامِه واستنارتِه تظهر محاسنُ الظَّاهر ومساوِؤه، إذ إنَّ كلَّ إناءٍ ينضح بما فيه، وهو الَّذي إذا عرفه الإنسانُ فقد عرف نفسَه، وإذا عرف نفسه فقد عرف ربَّه، وهو الذي إذا جهله الإنسان فقد جهل نفسَه، ومن جَهِلَ نفسَه فقد جهل ربه". وإنَّ من أسرار الخلقِ وبديع الصُّنع، أنَّ الله -سبحانه وتعالى- أودع في الإنسان قوَّتَين مدرِكتين: الأولى: قوَّةٌ مدركةٌ ظاهرةٌ واعيةٌ واضحةٌ. والثانية: قوَّةٌ مدركةُ باطنةٌ مُبْهَمة. فالقوَّة الأولى: العقلُ الَّذي يُدرك ما تنقلُه إليه الحواسُّ من العالم الخارجيِّ المُحيط بالإنسان، ويتأثَّر بعوامل كثيرة، كالعلم والتَّجارب والعادات والتَّقاليد وشتَّى جوانب الحياة، وقد أشرنا إلى ذلك في المحاضرة السابقة عن المنهج العقليِّ. أمَّا القوَّة الثانية المدركة: فهي قوَّة الإدراك الشُّعوريَّة الوجدانيَّة داخل النَّفس البشريَّة، التي تُدرَك بها الأمور الباطنة، كالألم والجوع والعطش والفرح والحزن، وندرك بها الرِّضا والقَبول، والارتياح لشيءٍ ما، وندرك بها النُّفور والرَّفض لشيءٍ آخر، وهذا إدراكٌ باطنيٌّ مبهم، نَقبل به الشيء أو نرفضه وجداناً وشعوراً، وقد لا يكون لدينا مسوِّغٌ واضح لهذا القَبول أو الرفض، سوى الشعور بالارتياح أو الاستياء. ثانياً: اختلاف العواطف والتفاوت بينها: إنَّ من سنن الله في الخلق، اختلافَهم في العقول، وتفاوتَهم في المشاعر والعواطف، قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:117 - 118].

وقد بيَّن الرَّسولُ -صلَّى الله عليه وسلَّم- اختلافَ القلوب والمشاعر، في الإيمان والكفر والنفاق، وقسم البشر إلى أنواعٍ تتباعد عواطفُهم وتتنافر أحاسيسهم، فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- ((القلوبُ أربعةٌ: قلبٌ أجردُ فيه مثلُ السِّراج يُزهر، وقلب أغلفُ مربوطٌ على غلافه، وقلبٌ منكوسٌ، وقلبٌ مُصفَّحٌ. فأمَّا القلبُ الأجرَد، فقلبُ المؤمنِ سراجُه فيه نورٌ. وأمَّا القلب الأغلف فقلب الكافر. وأما القلب المنكوس فقلب المنافق، عَرَفَ ثم أنكر. وأما القلب المُصْفَح، فقلبٌ فيه إيمانٌ ونفاق فمثل الإيمان كمثل البقلة يمدُّها الماء الطيب، ومثل النفاق فيه كمثل القُرحة يمدُّها القيح والدَّم، فأيُّ المادتين غلبت على الأخرى غلبت عليه)). مسند الإمام أحمد. وقد بيَّن القرآن الكريم، أنَّ انشراح الصدر بمشاعر الإسلام، وأنَّ صدق العواطف بالإيمان، إنَّما هو بتوفيق الله، وأنَّ انقباضَ الصَّدر وتوتُّرَ النَّفس واضطرابَ الأحساسيس، إنَّما هو عقابٌ وغضبٌ من الله، بسبب انصراف القلوب عن طاعته، قال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام:125]. ولقد صوَّر القرآن الكريم المؤمنين بأنَّهم أصحابُ مشاعر حسَّاسة وعواطف صادقة، تقشعرُّ جلودهم، وتلينُ قلوبُهم لسماعهم للذِّكر الحكيم، وأنَّ الكافرين ذوو عواطف متبلِّدة، وقلوب قاسية مُتَحَجِّرة، قال تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر:22 - 23].

فانشراحُ الصدر ثمرةٌ من ثمار الإيمان، فإذا ما انشرح صدرُ الإنسان؛ لان قلبُه، ورقَّت عواطفُه، وارتقت مشاعرُه، وصدقت أحاسيسُه، ولقد امتنَّ الله على رسوله -صلَّى الله عليه وسلَّم- بانشراح الصَّدر، قال تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1]. ولقد دعا موسى ربَّه قائلاً: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} [طه:25 - 26]. ولقد أفاض القرآنُ الكريم، في إبراز عواطف المؤمنين، وصدق أحاسيسهم، ورقَّة مشاعرهم، ونبل عواطفهم؛ ممَّا انعكست آثار ذلك على الإنسانيَّة رأفةً ورحمةً وشفقة. كما أبرز القرآن الكريم تحجُّر المشاعر للكافرين، وأبرز تبلُّد عواطفهم، وقسوة قلوبهم، وموت ضمائرهم، وفقدان الأحاسيس بمشاعر الآخرين، ممَّا كان له الأثر السيئ على الأفراد والجماعات قديماً وحديثاً. وسوف نسوق بعض الآيات، التي تتحدَّث عن عواطف المسلمين، ومن ذلك قول الله تعالى:: 1 - {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4]. 2 - {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح:4]. 3 - بيَّن القرآنُ الكريم أنَّ رقَّة المشاعر ونبل الأحاسيس، هي سماتُ وصفاتُ العلماءِ المؤمنين، الَّذين اتَّقَوُا الله وتدبَّروا آياته، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} [الإسراء:107 - 109]. 4 - ذكر القرآنُ الكريمُ أنَّ رقيَّ المشاعر وصدق العواطف، أمرٌ يقتصرُ على مناهج الأنبياء والمرسلين، من لدن آدم -عليه السَّلام- إلى خاتم الرُّسل محمد -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال تعالى:

{أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرائيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً} [مريم:58]. 5 - وصفَ القرآنُ الكريم صدق عاطفة الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- ولين قلبه، فقال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران:159]. وقال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]. قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]. وكما أشار القرآنُ الكريم، إلى ما اتَّصف به الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- وصحابتُه، وكذلك المؤمنون في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، من سلامة القلب وطهارة النَّفس وسموِّ العواطف ونُبل المشاعر وصدق الأحاسيس، ممَّا كان له عميقُ الأثر في الدَّعوة إلى الله، وانتشار الإسلام، ودخول الناس في دين الله أفواجاً. كذلك أشار القرآنُ الكريمُ في مواضع كثيرةٍ، إلى قسوة قلوب الكافرين، وفساد مشاعرهم، وتبلُّد عواطفهم، وموت أحاسيسهم، ومن ذلك ما يلي: 1 - تحدَّث القرآن الكريم، عن قسوة قلوب بني إسرائيل، قسوةً لم توصف بها أمة من الأمم سواهم، وإنَّ واقعَ ما يحدث في فلسطين الآن، من قتل واغتيال وحرق للأخضر واليابس، وإبادة جماعيَّةٌ للمسلمين على أيدي إسرائيل، لأكثرَ من ثمانين عاماً، صورةٌ حيَّةٌ لما أخبر عنه القرآن الكريم، قال تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:74].

2 - أشار القرآن الكريم إلى أسباب قسوة قلوب اليهود والنصارى، وهي: أ- نقض ما أخذه الله عليهم من مواثيق، لا سيَّما ما يتعلَّق بدعوة الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم-. ب- تحريف الكلم عن مواضعه. ج- نسيانُ جزءٍ كبيرٍ ممَّا شرعه الله لهم، وذَكَّرَتهم به أنبياؤهم. د- الخيانة التي تسري في عروقهمـ وشواهد التاريخ قديماً وحديثاً، تنطق بذلك. وكان حصادُ ذلك ما بين بعض المذاهب النَّصرانيَّة وبعضها الآخر من عداء، وما بين اليهود والنَّصارى، من خلاف عميق واتِّهامات متبادلة بين الفريقين، وإن بدا في هذا العصر اتِّفاقُهم على ما به القضاءُ على الإسلام والمسلمين، قال تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة:13 - 14]. 3 - ذكر القرآن الكريم، أنَّ من أسباب تَحَجُّر العواطف، وقسوة القلوب وموت المشاعر: انقطاعَ الصلة بالله، والتَّوقُّفَ عن التَّضرُّع والدُّعاء، خاصَّةً في أوقات الشَّدائد والمحن، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:43 - 45].

فالآية من دلائل إعجاز القرآن الكريم، وهي إشارةٌ إلى سُنَّة من سنن الله في الكون، بخصوص الأمم الظَّالمة والحضارات المتجبِّرة في الأرض قديماً وحديثاً، وكذلك الطُّغاة، حيث ابتلاهم الله مع ما هم فيه من قسوة القلوب بانفتاح الدنيا من كل جوانبها، وتملُّكُهم لكلِّ وسائل القوَّة والبطش والجبروت، حتى خُيِّل لهم أنَّه لا غالب لهم من النَّاس، وليس على سطح الأرض قوةٌ يخشَون بأسها، أو شعبٌ يخرج عن طوع إرادتهم، وتاهوا بذلك زَهواً وخُيَلاءً واستعلاءً، وحينما بلغوا الغاية من ذلك، وافتُتن الناس بهم، وتزلَّفوا إليهم نفاقاً وخوفا، ً وإذا بالقصاص الإلهيِّ العادل يأتي بغتةً؛ فيبدد تلك القوى الظَّالمة، كما أشارت الآية السابقة: {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. 4 - بَيَّنَ القرآن الكريم، أنَّ الشيطان لا يتمكَّنُ بفتنه ووساوسه، إلا من القلوب المريضة والنفوس القاسية الظالمة، وأنَّ اطمئنانَ القلوب وصدق المشاعر، قاصرٌ على أولي العلم، الَّذين جمعوا بين العلم ومعرفة الحقِّ، فهداهم الله إلى الصِّراط المستقيم، قال تعالى: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} [الحج:53 - 55]. 5 - ذكر القرآنُ الكريم أنَّ من أسبابِ قسوة القلوب وظلام النُّفوس وظلمِها: كثرةَ أمَد الناس بالكفر، وطولَ عهدهم بالمعاصي، وانغماسَ حياتهم في الشَّهوات، قال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16].

الأسس التي يقوم عليها المنهج العاطفي للدعوة إلى الله.

من خلال هذه الآيات، يتَّضح في ظهور وجلاء: ما يتََّّصفُ به المؤمنون من رقَّة المشاعر، ورحمة القلوب، ونُبل العواطف، وما عليه الكافرون والعُصاة والطُّغاة، من قسوة القلوب، وتحجُّر النفوس، وموت الأحاسيس. الأسس التي يقوم عليها المنهجُ العاطفيٌّ للدَّعوة إلى الله المنهج العاطفيُّ للدَّعوة إلى الله، يقوم على: تحريك الشُّعور والأحاسيس، وعلى التَّأثير والانفعال، وإثارة كوامن الحِسِّ وخبايا النَّفس، من غضب ورضا ورحمة وشفقة وغلظة ولين وسرور وأحزان. وهذا يتطلَّبُ من الدَّاعية: أن يعرفَ طبيعةَ الشَّخص الَّذي يدعوه، وأن يدرس أحواله العقليَّة والنَّفسيَّة، وظروفَه الاجتماعيَّة، وأن يقف على أمثل أساليب الإقناع. ونظراً لأهمِّيَّة المنهج العاطفيِّ، وعمق تأثيره على النُّفوس، وأثره في إصلاح القلوب، ودوره في رُقِيِّ المشاعر، وسموِّ العواطف، ونُبل الأحاسيس؛ فلقد وضع الإسلامُ من خلال الكتاب والسُّنة، الأسسَ التي يقومُ عليها المنهجُ العاطفيُّ للدَّعوة إلى الله، وهذه القواعد والأسس سنذكرها -إن شاء الله- على النَّحو التالي: 1 - محبَّة الله ورسوله: إنَّ محبة الله ورسوله، هي جوهرُ عقيدة المسلم، وأصلُ إيمانه، وهي أعلى مراتبِ الإيمان. بهذه المحبَّة تسمو العواطف، وتترقرق المشاعر، وتلين الأفئدة، وتطهر النفوس، وتصفو الأرواح.

هذا الحُبُّ لله ولرسوله -صلَّى الله عليه وسلم-، يجبُ أن يكونَ في مقدِّمة كل أنواع المحبوبات، وأن لا يُزاحمَه في قلب المسلم مُزاحمٌ من أعراض الدنيا، وكلِّ صنوف متاعها، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24]. وحُبُّ الله ورسوله، يُزيل أغلفة القلوب، ويُذيب صدأ النُّفوس. ومن خلال الحبِّ الصادق المرتبط بصدق النِّيَّة وإخلاص العبادة، يشعر المسلم بحسن مذاق الإيمان وحلاوة الطاعة، وهو مذاقٌ وحلاوة معنوية، لا يعرف قدرَها ولا يستشعر سعادتَها، إلا من عاش في ظلال الإسلام، جاء في الصَّحيحين، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ثلاثٌ من كنَّ فيه وجدَ حلاوةَ الإيمان: أن يكون اللهُ ورسولُه أحبَّ إليه ممَّا سواهما، وأن يُحبَّ المرءَ لا يحبُّه إلا لله، وأن يكرهَ أن يعودَ في الكفر، كما يكرهُ أن يُقذف في النار)). قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:21 - 22]. وقد عبَّر القرآنُ الكريم عن شدَّة حبِّ المؤمنين لله، فقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة:165]. هذا الحبُّ، إذا استقرَّ في وجدان المسلم وقلبه؛ فإنَّ الله يبادله حبَّاً بحبٍّ، وإنَّ حبَّ الله تهفو إليه القلوب، وتَتَطَّلعُ إليه النَّفوس، وينشرح به الصدر.

وقد عدَّد القرآن الكريم المجالات التي ينال العبد فيها حبَّ الله، ومن ذلك: أ- الإحسانُ إلى الغير، سواء كان إحساناً ماديَّاً أو معنويَّاً، قال تعالى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195]. ب- التَّطهُّر الحِسِّيُّ بإزالة النَّجاسات، أو المعنويُّ بخلوِّ القلب من الشِّرك والرِّياء والنِّفاق، قال تعالى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108]. وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222]. ج- التَّقوى والوفاء بالعهود: قال تعالى: {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 76]. د- الصَّبر في ميادين القتال. كما ذكر القرآن الكريم الأمورَ التي يُبغضها الله، ويكرهُ من يرتكبُها، ومن ذلك: أ-الاعتداء على الغير: قال تعالى: {وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190]. ب-الكبر والخيلاء: قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً} [النِّساء: 36]. ج-الخيانة: قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً} [النِّساء: 107]. د-الجهر بالسوء، إلا من ظُلم ودافع عن نفسه: قال تعالى: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النِّساء: 148].

هذه الأمور وغيرُها تحجب القلوبَ عن محبَّة الله، فكان جزاؤها غضبَ الله على من اتّصف بهذه الصِّفات، وقد ذكرت سورةُ الإسراء من الآية الثانية والعشرين، إلى الآية السابعة والثلاثين الأمورَ التي حرَّمها الله وتُسبّب فسادَ القلب، وفقدانَ المشاعر، وفي نهاية الآيات قال تعالى: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} [الإسراء: 38]. 2 - تلاوة القرآن الكريم: تُرقِّقُ المشاعر، وتُهذِّب العواطف، كذلك نجدٌ القرآن الكريم، يذكر صفات المؤمنين بما يسمو بالعواطف، قال تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ} [محمد:15]. وبنفس الأسلوب المعجز، والبيان البلاغيِّ المُبهر، ينقل القرآنُ الكريم للحواسِّ والعقول والقلوبِ، مشاهدَ الكافرين والطُّغاة والظَّالمين، الذين قست قلوبُهم وتحجَّرت مشاعرُهم، كما جاء في سورة الحاقَّة، وفي سورة القلم، وفي كثيرٍ من السُّور. 3 - ذكر الله تبارك وتعالى: وقد حفل القرآنُ الكريم بالآيات الكثيرة، الَّتي تُبيِّن اطمئنانَ القلوب بذكر الله تعالى، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2]. وقال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].

آثار المنهجُ العاطفيُّ في ميدان الدَّعوة: هذا المنهجُ العاطفيُّ، له آثارٌ كثيرة، في ميدان الدَّعوة إلى الله، ومن ذلك: أ- صدق العاطفة. ب- الحثُّ على بذل الرَّحمة، خاصَّةً للكبار والصغار. ج- الحثُّ على استخدام الأساليب العاطفيَّة، كما تحدَّث القرآنُ الكريم: {يَا أَبَتِ}، {يا بُنَيَّ}، {يا بَنِيَّ}، {يا قَومِ}. د- إظهار الرحمة والرأفة على المدعُوِّين، وتجنُّب التَّعنيف والشَّدة في الموعظة. هـ- تليين العواطف وتذويب قسوة القلوب، عند مخاطبة عواطف النَّاس. وسرعةُ استجابة المسلم، من خلال تفجير ينابيع الإيمان في قلبه، وحثِّه على التَّأثُّر بمن حوله من ذوي الحاجات، وكذلك التَّأثّر بقضايا أمَّته. واجب الدُّعاة، نحو هذه المناهج الحسِّية والعقليَّة والعاطفيَّة: يجبُ على الدعاة إلى الله، أن يتَّجهوا بالمنهج الحسِّيِّ والعقليِّ والعاطفيِّ، وجهةً إسلاميَّةً خالصةً، وأن يبذلوا في ذلك غاية الجهد، ولا سيَّما في هذا العصر الذي انحرفت فيه هذه الأمور، بما يتصادم مع قواعد الإسلام، ويتنافى مع الفطرة، وذلك بسبب التَّقدُّم العلميِّ والمادِّيِّ البعيدِ عن ضوابط الشَّرع وموازينه، وبفعل وسائل الإعلام التي أفسدت الفطرة السليمة، بالفن الهابط والأدب الفاحش،

حيث اختزلت العواطف واقتصرت على عاطفة الجنس بين الرَّجل والمرأة، وتغافلت وتجاهلت عواطفَ الدِّين والأرحام والوطن وعواطف الخير والحقِّ والجمال، الذي بثَّه الله في أرجاء الكون، فضَلَّت الأفكار، وفَسَدت الأذواقُ، وتبلَّدت المشاعر، وماتت الضَّمائر. فعلى الدعاة: أن يوقظوا في النفس عواطفَ الحبِّ الحقيقيِّ ومجالاته، وأن يُحرِّكوا في القلوبِ الهممَ العاليةَ والفضائلَ النبيلة والسلوك المهذَّب الرَّاقي. وينبغي عليهم أن يتصدَّوا لتلك الهجمة الشرسة التي تفسد العواطف والعقول. وإلى محاضرة أخرى إن شاء الله. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

من دعائم وأسس دعوة الرسل.

من دعائم وأسس دعوة الرسل.

2 - الأسس التَّي تقوم عليها الدَّعوة إلى الله من دعائم وأسس دعوة الرُّسل الحمد لله، الَّذي أرسل رسوله بالهُدى ودين الحقِّ، لِيُظهرَه على الدِّين كلِّه، ولو كره المشركون، والصَّلاة والسَّلام على الهادي البشير، والسِّراج المنير، وعلى آله وأصحابه، ومن دعا بدعوته إلى يوم الدِّين. السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته، تمهيد: لقد تناولنا في اللِّقاءات السَّابقة تعريفَ وتحديدَ مفهوم المنهج في اللُّغة والاصطلاح، ووضَّحنا الفرق بين المنهج والأسلوب، وذكرنا أنَّ منهج الدَّعوة إلى الله يقومُ على الحواسِّ والعقلِ والعاطفة، وهي أمورٌ أودع الله فيها من أسرار الخلق ودلائل الإعجاز ومشاهدِ القدرة، ما تخفى على كثير من خلقه، قال تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ} [البقرة:255]. وفي هذه المحاضرة، نبين القضايا والموضوعات التَّي قامت عليها دعوة الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم-، والتَّي هي في جوهرها وأسسها دعوات الأنبياء والمرسلين، من لدن آدمَ إلى بعثته -صلَّى الله عليه وسلَّم-، قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّين مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّين وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشورى:13]. والأنبياء المذكورون في هذه الآية، هم أولو العزم من الرُّسل، الَّذين أفاض القرآن الكريم في عرض دعواتهم، وتوضيح الأسس التَّي قامت عليها رسالتَّهم، وهي في نفس الوقت أصلُ وجوهرُ كلِّ الرسالتَّ، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً * لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً} [الأحزاب:7،8]. وسوف تتضمن هذه المحاضرةُ العناصر التَّالية: 1 - الإيمان بوجود الله: وهو الاعتقاد القلبيُّ الجازم، والتَّصديق العقليُّ القاطع، والإيمانُ اليقينيُّ الخالص، بوجوده -سبحانه وتعالى- وجوداً لا يعتريه شكٌّ أو تشوبُه شبهة أو ظنٌّ، وهو وجودٌ يليق بذاته تعالى، ومنزَّه عن التَّميُّز والتَّحيُّز في الزَّمان أو المكان. والأدلَّة والشَّواهد على وجود الله كثيرةٌ، ومنها: أ-الدَّليل الفطريُّ: فوجود الله -سبحانه وتعالى- من الأمور البديهيَّة، التَّي يدركها الإنسان بفطرته، وتهتدي إليها العقولُ بما أودعه الله في مشاعر البشر ووجدانهم، ولهذا بُعث الأنبياء والمرسلون

لدعوة الخلق إلى التَّوحيد، ليقولوا: "لا إله إلا الله"، وما أُمروا أن يقولوا: "الله موجود"؛ فإنَّ هذا مجبولٌ في الفِطَر والعقول، ولذلك قال تعالى: {وَلَئِنْ سَالتَّهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:9]. فلا يكاد يخلو عقلُ وقلبُ مخلوقٍ من الاعتقاد بوجود إلهٍ خالقٍ لهذا الكون ومدبِّر لحركته، حتَّى أولئك الَّذين عبدوا الآلهة أو مظاهر الطَّبيعة، فإنَّ هذا من منطلقٍ فطريٍّ بوجود قوَّة قاهرة وخالقة لهذه الأنفس والآثار، وإنْ ضلَّت عقولهم فيما يعتقدون، حتَّى الملحدون الَّذين أنكروا الله وكفروا به، لم يسعْهُم إلا أن يقولوا بأنَّ المادة هي التَّي تكوَّن منها هذا العالم، فهي عندهم كلُّ شيٍء، منها يبدأ كلُّ شيء، وإليها ينتهي؛ فهي الفاعلة وهي الصَّادقة، وهي مصدر الوجود والحياة، وكذلك هي مصدر العدم والفناء، وقد عبَّر عن هؤلاء -في بيان عقيدتهم المادِّيَّة تلك، وإنكارهم الألوهيَّة "ماركس" مؤسِّس الشُّيوعيَّة، حينما قال قولته الخبيثة: "لا إله، والحياة مادَّة". فقد أسند هؤلاء الملحدون للمادة، ما يجب أن يُسندوه لله؛ لأنَّهم لم يستطيعوا إنكارَ أنَّ لهذا الكون قوَّةً فاعلةً دائمةَ الوجود، وهم بذلك استجابوا لنداء الفطرة، غيرَ أنَّهم قد ضلَّت عقولُهم وطُمست بصائرهم عن معرفة الخالق َلهذا الكون، وهو الله -سبحانه وتعالى-. فالإنسانيَّة، منذ أن خلق اللهُ آدم -عليه السلام- قد انطبع في عقلها وانغرس في أفئدتها ومشاعرها، الإحساسُ بوجود الخالق، وذلك من خلال العهد والميثاق الَّذي أخذه الله على البشر، وهم ما يزالون في عالم الرُّوح، بأنَّه الرَّبُّ الخالق، وأشهدهم على ذلك، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا

غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} الأعراف:172 - 173]. وهذه هي الفطرة التَّي فطر الله الخلقَ عليها، قال تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ التَّي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّين الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:30]. وقال -صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((كلُّ مولودٍ يولد على الفِطرة، فأبواه يهوِّدانه أو يُنصِّرانِه أو يمجِّسانِه))، وقد بَيَّن الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- في هذا الحديث، أنَّ الله قد خلق العباد على الفطرة النقيَّة، التَّي لو تُرِكت وشأنها؛ لآذنت بوجود الحق -تبارك وتعالى-. ولقد جاء القرآن الكريم يصوِّر المشاعر الوجدانيَّة والأحاسيس الفطريَّة، التَّي تعبر عن الإيمان بوجود الخالق، ويَظهر هذا الإحساس الفطري، حينما يعتري الإنسان شدٌّةٌ أو تفاجئُه مُلمَّة، أو يُواجَه بسؤالٍ عن خالق الكون، والأدلَّة من القرآن الكريم عديدة وكثيرة، ومن ذلك قوله تعالى: {هُوَ الَّذي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [يونس:22 - 23]. وقال تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} [لقمان:32]. وقد بيَّن القرآنُ الكريم أنَّ مشركي العرب، ما كانوا يُنكرون وجود الله؛ لأنَّ لديهم إحساساً فطريَّاً بهذا، يَظهرُ ذلك من خلال الأسئلة، التَّي كانت تُلقى

عليهم، والإجابة التَّي يُجيبون بها، ومن ذلك قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَالتَّهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ * اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * وَلَئِنْ سَالتَّهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [العنكبوت:61 - 63]. لهذا، لم يلتفت القرآنُ الكريم إلى قضيَّة إثبات وجود الله، فهذا أمرٌ فطريٌّ لا يملك أيُّ عاقلٍ إنكارَه، وإنَّما ساق من الأدلَّة والشَّواهد ما تراه الحواسُّ وتدركه العقول وتلمسه القلوب، على وجوده المستمر الدائم، وقدرته -سبحانه وتعالى- قال تعالى: {يعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ * وَقَالَ الَّذينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}. ممَّا سبق من الأدلة القرآنيَّة، يتبين أنَّ أولى الأسس التَّي قامت عليها دعواتُ جميع الأنبياء والمرسلين، إعادةُ البشر إلى الفطرة التَّي تُشعرهم بوجود الله، وتُوقظ في عقولهم وقلوبهم مظاهرَ هذا الوجود، من خِلال لفت البصر والبصائر، إلى آيات الله في الأنفس والآفاق. ب- الأدلةُ المبثوثة في الكون: بجانب المشاعر الفطريَّة، في داخل كيان الإنسان، والتَّي تنطق بوجود الله، أقام -سبحانه وتعالى- الشواهد والأدلة على وجوده من خلال آياته في الكون، فقد خلق الله الكون بنظام فريد وتناسق عجيب، فأنّى قلّب الإنسان بصره في صفحات الكون، يرى صنعَ الله الَّذي أتقن كلَّ شيء، ويرى آياتِه في الأنفس والآفاق، تَشهد بوجوده وتنطق بقدرته -سبحانه وتعالى-، مما

يدفع بالنَّفس البشريَّة لتهتفَ من أعماقها، مردِّدة قول الله تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [لقمان:11]. فهذا الكون بنظامه البديع، وإحكامه المتقن، وتناسُقه المبهر، لا يُمكن أن يتصوَّر العقلُ والفكرُ أنَّه وُجد بدون خالق، فالعدم لا يخلق شيئاً، فمن المستحيل عقلاً، أن يوجد فعلٌ بدون فاعل أو أثرٌ بدون مؤثر، فهذا الإبداع المعجز في الكون والتَّآلف والتَّزاوج بين جزئيَّاته، والتَّرتيب والتَّناسق بين عناصره، والتَّعادل والتَّوازن الدقيق بين ذرَّاته، كلُّ هذا محكومٌ بقوانين إلهيَّة منضبطة ومحكمة، وسننٍ إلهيَّة لا تتخلَّف، ولا يتصوَّر عاقل أن ذلك الخلق والإبداع والتَّدبير قد تم عن طريق الصدفة العشوائيَّة، أو عن طريق مادة سابحة تنقسم جزئيَّاتُها، لتتولَّد منها الأشياء، كما يزعم الملحدون. فالمصادفة لا يُعقل أن يتولَّد عنها نظامٌ، إذن فلم يبق إلا أن يُذعِنَ الإنسان بعقله، ويستجيبَ لنداء الفطرة بوجود الخالق -سبحانه وتعالى-. قال -جلَّ شأنه-: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ} [الطور:35 - 36]. وإمعاناً في إقامة الأدلَّة، ومنعاً لكلِّ شبهة ومَظَنَّة، فقد احتوى القرآن الكريم على كثيرٍ من آيات الله في الأنفس والآفاق، فحينما يشاهدُ الإنسان صفحةَ الكون، ويرى آيات الله في أرجائه، فكأنَّه يقرأ القرآن الكريم، وحينما يقرأ القرآن الكريم ويتدبَّر في آياته؛ فكأنَّه يُبصر الكون أمامه، ويشاهد عن قربٍ حقائقه، فالكون والقرآن كلاهما يشهدان على وجود الله، وقد قيل: "القرآن كونُ الله المقروء، والكون قرآنُ الله المنظور". وقد أدرك أعرابيٌّ بفطرته وجودَ الله، وعبَّر عن ذلك بما شاهده من حوله فقال: "البَعرةُ تدلُّ على البعير، وأثرُ الأقدامِ يدلُّ على المسير، فسماءٌ ذات أبراجٍ، وأرضٌ ذاتُ فجاجٍ؛ أفلا يدلُّ ذلك على اللَّطيف الخبير؟! ".

هذا هو الأساسُ الأول، من الأسس التَّي قامت عليها الدَّعوة إلى الله. 2 - توحيد الله -سبحانه وتعالى-: إنَّ الإيمان بوجود الله -عز وجل- يقتضي العلم والاعتراف والإقرار، بأنَّ الله إلهٌ واحد في ذاته، لا شريكَ له في صفاته وأفعاله، قال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4]. فتوحيد الخالق -سبحانه وتعالى- هو القضيَّة الجوهريَّة، والرَّكيزة الأساسيَّة، لرسالتَّ الأنبياء جميعاً، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [النَّحل:36]. وتوحيد الله يتحقَّق بأمرين: الأمر الأول: نفيُ الألوهيَّة عن غير الله، وذلك بأن يعتقدَ العبدُ بأنَّه لا يستحق الألوهيَّة ولا شيئاً من العبوديَّة أحدٌ من الخلق، لا نبيٌّ مرسل ولا ملك مقرب، ولا كائن من كان. الأمر الثاني: إثبات الألوهيَّة لله تعالى، وتفرُّده بالوحدانيَّة واختصاصه بالعبوديَّة، وعدم مشاركة أحد في أسمائه وصفاته، ولقد ذكر القرآن الكريم الآيات الدالة على وحدانيته، وساق ذلك في استدلالٍ عقليٍّ ومنطقيٍّ مقنع بالحجة والبرهان، ومن ذلك: أ- أخبر الحقُّ -سبحانه وتعالى- أنَّه لو وُجد شريكٌ معه في الألوهيَّة؛ لبطل نظامُ هذا الكون. قال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ * لَوْ كَانَ فِيهِمَا

آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ * لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:21 - 22]. وقال تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون:91]. فقد تضمنت الآية ما يلي: 1 - أن الله -سبحانه وتعالى- لو اتخذ ولداً؛ لاستلزم ذلك انفصال الولد عن أبيه، مما يقتضي التَّركيب المحال على الله؛ لأنَّ الولد يجانس أباه ويماثله، والله تعالى لا نظيرَ ولا شبيه ولا مثيل ولا ندَّ ولا قرين له، قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11]. 2 - لا ينبغي لعاقل أن يتصوَّر أن يكون مع الله إلهٌ آخر؛ لأنَّه لو كان معه إله؛ لشاركه في الألوهيَّة، ولخلق معه، ولذهب كلُّ إلهٍ بما خلق، ولعلا بعضهم على بعض وتصارعوا، مما يؤدي إلى فساد الكون واختلال نظامه قال تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً * سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً} [الإسراء:42 - 43]. أقسام التَّوحيد: جاء الأنبياء والمرسلون بعقيدة التَّوحيد، وهذه العقيدة كما ذكرنا هي جوهر رسالتَّهم، ومحور دعوتهم، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25].

وقد استنبط أئمَّة السلف من النُّصوص القرآنيَّة، التَّي تناولت مسائل العقيدة: أنَّ توحيد الله يَرِدُ على ثلاثة أنواع: النَّوع الأول: توحيد الرُّبوبيَّة: فالرَّبُّ في اللُّغة: المالك، المدبر، وربُّ كلِّ شيءٍ، مالكه ومستحقُّه أو صاحبه، والربوبيَّة مشتقة من الرب، ومعناه السيد والمالك والمربي. ومعنى توحيد الربوبيَّة هو: الإقرار بأنه -سبحانه وتعالى- هو خالق الخلق ومالكهم ومحييهم ومميتهم ومعطيهم ومانعهم، وله الخلق والأمر كلُّه، قال -سبحانه- عن نفسه: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54]. ويدخل في هذا التَّوحيد، الإيمانُ بقدر الله -سبحانه-، أي الإيمان بأنَّ كل محدَث هو صادرٌ عن علم الله -عز وجل- وعن إرادته وقدرته. ولقد أفاض القرآن الكريم عن هذا النَّوع من التَّوحيد، ولم تخلُ سورةٌ من سوره منه، فآيات الذكر الحكيم تذكره في مقام الحمد لله، وعبادته والانقياد له والاستسلام، ففي مقام الحمد يتلو المسلم في كل ركعة يصليها: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]. ويقول -سبحانه-: {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الجاثية:36]. وفي مقام الاستسلام لله، والانقياد له، قال -عز وجل-: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:71]. وفي مقام التَّوجُّه إلى الله -عز وجل- وإخلاصِ القصد إليه، قال -تعالى-: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162].

وفي مقام الدُّعاء، قال -عزَّ وجلَّ-: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْية إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف:54 - 55]. وفي مقام العبادة، قال -تعالى-: {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس:22]. فالإنسانُ بتوحيد الرُّبوبيَّة يدرك عجزه أمام قوى الكون المختلفة، ولا يعلم تفسيراً لها، ولذلك سلَّم بوجود الخالق، وقد آمن العرب بوجود الرب الخالق، غير أنَّ هذا الإيمان غيرُ مُنجٍ لهم؛ لأنَّهم اتَّخذوا أصناماً آلهة، وقد ذكر القرآن الكريم أنَّ العرب كانوا يُقرُّون بوجود الخالق، قال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ * بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [المؤمنون:84 - 90]. وقد أنكر الله عليهم ما اتَّخذوه من آلهة، واستغربَ القرآنُ من ضلال عقولهم، فكيف يؤمنون بالخالق، وفي نفس الوقت يجعلون معه آلهةً أخرى، فقال -تعالى- بعدَ هذه الآيات مباشرةً-: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون:91]. وهكذا، فإنه ليس مَن أقرَّ بأنَّ الله تعالى هو ربُّ كلِّ شيءٍ، يكون موحداً في ألوهيته وأسمائه وصفاته. النَّوع الثَّاني: توحيد الألوهيَّة: قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "الإله هو المعبود المطاع، فإنَّ الإله هو المألوه، والمألوه هو الَّذي يستحقُّ أن يعبد".

وقال العلامة ابن القيم: "الإلَّه هو الَّذي تألهه القلوب، محبةً وإجلالاً وإنابةً، وإكراماً وتعظيماً، وذلاً وخضوعاً، وخوفاً ورجاءً وتوكُّلاً". فتوحيد الألوهيَّة، يقوم على نفي الألوهيَّة، عن كلِّ ما سوى الله -تعالى- كائناً من كان، ويقوم على إثبات الألوهيَّة لله وحده، دون كلِّ ما سواه. يقول الإمام ابن تيمية -رحمه الله-: وهذا التَّوحيد هو الفارق بين الموحِّدين والمشركين، وعليه يقع الجزاء والثَّواب، في الأولى والآخرة، فمن لم يأتِ به كان من المشركين. وتوحيد الألوهيَّة، هو الَّذي بعث الله به الأنبياء والمرسلين، وتنزَّلت به الكتب، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:26]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النَّحل:26]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} [المؤمنون:23]. {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ} [هود:50]. وهكذا، كانت دعواتُ جميع الأنبياء والمرسلين، من لدن آدم إلى محمد -صلَّى الله عليه وسلَّم- تقوم على توحيد الألوهيَّة، الَّذي يستوجب ما يلي: 1 - وجوب إخلاص العبادة والمحبة لله، فلا يتَّخذٌ العبد ندَّاً لله في العبادة والحبِّ، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ

كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة:165]. وقال تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّين * أَلا لِلَّهِ الدِّين الْخَالِصُ} [الزمر:2 - 3]. 2 - وجوب إفراد الله بالدُّعاء والتَّوكُّل والرَّجاء، فيما لا يقدر عليه ولا يتحقَّق إلا منه -سبحانه وتعالى- قال تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس:106]. 3 - وجوب إفراد الله بالخوف منه، قال تعالى: {فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [النَّحل:51]. وقال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النُّور:52]. 4 - وجوبُ إفراد الله -سبحانه وتعالى- بجميع أنواع العبادات البدنيَّة والقوليَّة، فجميعُ أنواعات الطَّاعات يجبُ أن تتوجَّه لله وحده، قال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]. وإنَّ إشراك غير الله معه في العبادة أو الطَّاعة، هو شرك أكبر، وذنب لا يُغتفر، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} [النساء:48]. النَّوع الثَّالث: توحيد الأسماء والصفات: ومعناه الاعتقاد الجازم بأنَّ الله - عز وجل- متَّصف بجميع صفات الكمال، ومنزَّه عن جميع صفات النَّقائص، وأنه متفرد عن جميع الكائنات، وذلك بإثبات ما أثبته لنفسه، أو أثبته له رسوله -صلَّى الله عليه وسلَّم- من الأسماء والصفات الواردة في الكتاب والسنة، من غير تحريف لألفاظها أو معانيها، ولا تعطيلها بنفيها أو نفي بعضها عن الله - عز وجل- ولا تكييفها بتحديد كنهها، أو إثبات كيفيَّة معينة لها، ولا تشبيهها بصفات المخلوقين.

وواضحٌ من هذا أنَّ توحيد الأسماء والصفات، يقوم على ثلاثة أسس، مَن حاد عنها لم يكن موحداً بالله -سبحانه- في أسمائه وصفاته: الأساس الأول: تنزيه الله -عز وجل- عن مشابهة الخلق، وعن أيِّ نقص، قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]. وقوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:4]. وقوله تعالى: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النَّحل:74]. الأساس الثَّاني: الإيمان بالأسماء والصفات الثابتة في الكتاب والسنة، فهي تُعرف عن طريق التَّلقِّي منها؛ فلا يوصف الله - عز وجل- إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله -صلَّى الله عليه وسلَّم- ولا يُسمَّى إلا بما سمَّى الله به نفسه أو سمَّاه به رسوله -صلَّى الله عليه وسلَّم-؛ لأنَّ الله -عز وجل- أعلم بنفسه وصفاته وأسمائه، قال تعالى: {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة:140]. قال الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله-: "لا يُوصفُ اللهُ إلا بما وصف به نفسَه، أو وصفه به رسولُه، لا يتجاوز القرآن والحديث". الأساس الثَّالث: قطع الطمع عن إدراك كيفيَّة هذه الصفات، وقد أجمع السلف على ذلك، فقالوا ما قاله الإمام مالك: "الاستواءُ معلومٌ، والكيفُ غيرُ معقول، والإِيمانُ به واجبٌ، والسُّؤالُ عنهُ بدعة ". مما سبق يتبيَّنُ أنَّ توحيد الأسماء والصِّفات، يقدحُ فيه عدَّةُ أمورٍ، يجب على المسلم أن لا يقع فيها، وهي: أولاً: التَّشبيه -أي تشبيه الخالق بصفات المخلوقين، كتشبيه النَّصارى عيسى بن مريم بالله -سبحانه-.

ثانياً: التَّحريف، كتحريف ألفاظ الأسماء والصفات، بزيادةِ أو نقصِ أو تغييرِ الحركات الإعرابيَّة، كما يفعلُه بعضُ المتصوِّفة، بتقطيع لفظ الجلالة أو تحريفه عند الذِّكر، أو حمل اللَّفظ على معنىً فاسدٍ، لم يُعهد به استعمالٌ في اللُّغة العربيَّة. ثالثاً: تعطيل بعض الصِّفات، أو إنكارُ قيامِها بذات الله -عز وجل-، وذلك بجحد أسمائه وصفاته، كتعطيل معاملة الله -عز وجل- بترك عبادة، وكتعطيل المصنوع من صانعه، كمن قال بقدم المخلوقات، وجحد أنَّ الله خلقها. رابعاً: التَّكييف، وهو تعيينُ كيفيَّة الصِّفات وإثباتُ كنهها. يقول الإمام الشَّوكاني -رحمه الله-: "إنَّ مذهب السلف من الصَّحابة والتَّابعين، هو إيراد أدلة الصفات على ظاهرها، من دون تحريفٍ لها ولا تأويل متعسف لشيء منها، ولا تشبيه ولا تعطيل يفضي إلى التَّأويل". ولقد حدَّد الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- أسماءَ الله تعالى، فجاء في "الصَّحيحين" عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: ((إنَّ لله تسعةً وتسعين اسماً، مائةً إلا واحداً، من أحصاها دخل الجنَّة، إنَّه وِِترٌ يُحبُّ الوِتر)). أمَّا الصفات التَّي وردت في الكتاب والسنة، فهي نوعان: الأولى: صفات ذاتيَّة، التَّي لا تنفك عن الذَّات، كالنَّفس والعلم والحياة والقدرة والسمع والبصر والوجه والكلام والقدم والملك والعظمة والعلو والغِنى والرحمة. الثانية: صفات فعل، وهي ما يتعلق بمشيئة الله وقدرته، كالاستواء والنُّزول والمجيء والعجب والضَّحك والرِّضا والحبِّ والكره والسُّخط، والفرح والغضب والمكر والكيد والمقت.

الدرس: 11 الأسس والدعائم التي تقوم عليها الدعوة إلى الله (1).

والواجب في هذه الصفات بنوعيها: إثباتُها لله -عز وجل- على حسب المعنى الَّذي يليق بكماله -سبحانه وتعالى- وهو المعنى الحقيقيُّ لها، الَّذي الَّذي ليس فيه تمثيلٌ ولا تعطيلٌ ولا تحريفٌ ولا تكييف، وأن نقول ما قاله الإمام الشَّافعيُّ -رضي الله عنه-: "آمنتُ بالله، وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنت برسول الله، وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-". وهكذا، فقد ألقينا الضوء على الرُّكنين الأساسيَّين، والرَّكيزتين من الأسس والرَّكائز التَّي تقوم عليها الدَّعوة إلى الله، وهما الإيمان بوجود الله وتوحيده، أما عن بقية أسس الدَّعوة وركائزها، فهذا موضوع المحاضرة القادمة -إن شاء الله-. الدرس: 11 الأسس والدعائم التي تقوم عليها الدعوة إلى الله (1). بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الحادي عشر (الأسس والدعائم التَّي تقوم عليها الدَّعوة إلى الله (1)) 1 - تابع الأسس والدعائم الَّتي قامت عليها دعوة الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- الإيمان بالغيب الحمدُ لله، هدانا إلى الإيمان، وأنعم علينا بنعمة الإسلام، والصَّلاة والسَّلام على خير الأنام، الَّذي أرسله للنَّاس كافَّةً بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، وعلى آله وأصحابه الَّذين آمنوا برسالته وصدَّقوا بدعوته، فأجرى اللهُ الخيرَ على أيديهم للخلق أجمعين. السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ... تمهيد: فقد تناولنا في اللِّقاء السَّابق من ركائز وأسس الدَّعوة إلى الله، الإيمان بوجود الله ووحدانيته، وفي هذه المحاضرة نتابع الحديث -إن شاء الله- حول تلك الأسس، والَّتي جاءت في قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسول بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285]. من الأسس والدَّعائم الَّتي قامت عليها الرِّسالات السَّماويَّة منذ أن خلق الله آدم -عليه السَّلام-، وإلى بِعثة الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- وستظلُّ قائمةً وساريةً -إن شاء الله- إلى يوم القيامة: الإيمان بالغيب؛ وهو كلُّ ما لا يدركه العقل والحواسُّ، ولا يُعرف حقيقته إلا عن طريق الرُّسل المرسلة والكتب المُنزلة. والإيمان بالغيب دعامة كل دين، وأساس كل ملة وشريعة، وهو الفيصل بين المؤمن والكافر، والمتدين والملحد، وهو المميز للإنسان عن سائر المخلوقات الَّتي تشاركه الحياةَ على ظهر هذه الأرض، فهو يسمو بالإنسان عن الحيوان، ويغرس في نفسه الأمل، فلا يتسرب اليأس إلى قلبه والقنوط في نفسه، إن أخفقت آماله في الدنيا، وتعثرت خطى أمانيه في الحياة؛ لاعتقاده الصادق ويقينه القاطع: أن ما عند الله في الآخرة خير وأبقى. والإيمان بالغيب، يولِّد في قلب الإنسان المسلم معانيَ كثيرةً، كالخوف من الله ومراقبته في السِّرِّ والعلن، والإيمان بالقضاء والقدر، والعزة وإباء الضيم، والتَّرفع عن الدَّنايا، والشجاعة والإقدام، والصُّمود في مواجهة ما يعتري الإنسانَ خلال مسيرة

حياته، من مصائب أو شدائد أو محن؛ لأنَّه موقنٌ ومعتقدٌ تمام الاعتقاد في الجزاء العادل والنَّعيم المقيم يوم القيامة، ولقد ذكر القرآن الكريم في صدر سورة البقرة، أنَّ الإيمان بالغيب من الصِّفات الملازمة للمؤمنين، قال تعالى: {المِ * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ * الَّذينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:1 - 5]. قال الإمام ابن كثير: "إنَّ المؤمنين موصوفون بالإيمان بالغيب قولاً واعتقاداً وعملاً، وقد تدخل الخشية لله في معنى الإيمان الَّذي هو تصديقُ القول بالعمل، والإيمان كلمة جامعة للإيمان بالله وكتبه ورسله وباليوم الآخر". ويقول ابن كثير -رحمه الله-: " {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وجنته وناره، ولقائه، ويؤمنون بالحياة بعد الموت، وبالبعث، فهذا غيب كله. وعن ابن عباس وابن مسعود وعن ناس من صحابة النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم-: أما الغيب فما غاب عن العباد من أمر الجنة والنار، مما ذكر في القرآن". وعن أهميَّة الإيمان بالغيب، ومكانة من يؤمنون به، ورد هذا الحديثُ عن رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- بطرق متعدِّدة، نذكر منها ما رواه الإمام أحمد في "مسنده" عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه، قال: قال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((أيُّ الخلقِ أعجبُ إليكم إيماناً؟)) قالوا: الملائكة، قال: ((وما لَهم لا يؤمنون، وهم عند ربهم؟)) قالوا: فالنَّبيُّون. قال: ((وما لَهم لا يؤمنون، والوحيُ ينزل عليهم؟)) قالوا: فنحن. قال: ((وما لكم لا تؤمنون، وأنا بين أظهركم؟)) قال: فقال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((إنَّ أعجبَ الخلقِ إليَّ إيماناً: لَقومٌ يكونون بعدكم، يجدون صُحُفاً فيها كِتاب، يؤمنون بما فيها)).

ولأهميَّة قضيَّة الإيمان بالغيب، في عقيدة المسلم؛ فقد ذكرت في القرآن الكريم كلمة الغيب ومشتقاتُها في ستة وخمسين موضعاً. والإيمان بالغيب يشمل الأمور التَّالية: 1 - الإيمان بالملائكة: من دعائم الإيمان وأركانه: التَّصديق بوجود الملائكة، والمقصود به الاعتقاد الجازم بأنَّ لله ملائكة، وهم موجودون ومخلوقون من نور، وأنهم لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون به، وأنهم قائمون بوظائفهم الَّتي أمرهم الله بالقيام بها، فهم نوع من مخلوقات الله، يجب الإيمان بهم، وبالاعتقاد في وجودهم، وبما ورد في حقِّهم من صفات وأعمال، في كتاب الله -سبحانه وتعالى- وفي سنة رسوله -صلَّى الله عليه وسلَّم- من غير زيادة ولا نقصانٍ ولا تحريف". قال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة:177]. وفي الحديث الَّذي أخرجه الإمامان البخاري ومسلم، عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في حديث جبريل، حينما سأل الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- عن الإيمان، فقال -صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((أَنْ تُؤْمِنَ: بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِر، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ)). فوجود الملائكة ثابت بالأدلة القطعيَّة، من الكتاب والسنة فمن ينتقص قدرهم أو ينكر وجودهم كافر بإجماع الأمة، قال تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:98]. قال تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيداً}

صفاتهم الخِلقيَّة: إنَّ المُتتبِّع لآيات القرآن الكريم، يلاحظ أنَّ الحديث عنهم لم يتعرض بالتَّفصيل لتكوينهم الخلقي، إلا على سبيل الإجمال، قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} [فاطر:1]. وقال تعالى: {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً * فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً * وَالنَّاشِرَاتِ نَشْراً * فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً * فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً * عُذْراً أَوْ نُذْراً} [المرسلات:1 - 6]. فقد جاء في تفسيرها أنَّهم الملائكة، وقيل: الريح. وقد أخرج البخاريُّ ومسلم، عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- ((أنَّ رسولَ الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- رأى جبريلَ -عليه السلام- له ستمائة جناح)) البخاري. ولقد بيَّن الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- المادَّة الَّتي خُلقت منها الملائكة، فعن أمِّ المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أنَّ رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: ((خُلِقَتْ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ، وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ)). وقد وصفهم الله تبارك وتعالى في سورة النازعات فقال تعالى: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً * وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً * فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً * فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً} [النَّازعات:1 - 5]. ومن خصائص الملائكة، القدرةُ على التَّشكل بصورة البشر، كما جاء في قوله تعالى في شأن مريم -عليها السلام-: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً} [مريم،16،17].

وكما جاء في حديث عمر -رضي الله عنه- حين جاء جبريل في صورة رجل يعلم الصحابة معنى الإسلام والإيمان والإحسان، وكان يأتي أحياناً في صورة دحية الكلبي، الَّذي كان رائع الجمال وحَسَنَ الهيئة. أعمالهم: تحدَّث القرآن الكريم عن كثرة أعمال الملائكة، وتنوُّع وتعدُّد ما يقومون به من أمورٍ يكلِّفهم بها الله، كما أنَّهم وثيقو الصِّلة بالعباد، وممَّا أشار إليه القرآنُ الكريمُ في هذا الشأن، ما يلي: أولاً: النُّزول بالوحي: ولقد اختُصَّ به جبريل -عليه السَّلام- قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [النمل:193 - 195]. وقال تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} [النحل:2]. وقال تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل:102]. فروح القدس، هو جبريل -عليه السلام-. ثانياً: التَّسبيح والسجود لله: قال تعالى: {إِنَّ الَّذينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف:206]. وقال تعالى: {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ} [الرعد:13]. وقال تعالى: {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [الزمر:75].

وقال عزَّ شأنه: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:19 - 20]. وقد ذكر القرآن الكريم قصة خلق آدم، وامتثال الملائكة وطاعتهم المطلقة، حينما أمرهم الله بالسجود، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر:28 - 30]. وقال تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل:49 - 50]. ثالثاً: حملة العرش: بالهيئة الَّتي ذكرها الحق تبارك وتعالى في قوله: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة:17]. وعن جابر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((أُذِنَ لِي أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ مَلَكٍ مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ: مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ وعنقه، مخفقُ الطَّير سَبْعِ مِائَةِ عَامٍ)).)) رواه أبو داود بإسناد جيد، ورجاله رجال ثقاة. وقال تعالى: {الَّذينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} [غافر:7]. رابعاً: خزنة النار والجنة: لقد وصف الله خزنة النار وحرَّاسَها من الملائكة بأنَّهم غلاظ شداد، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التَّحريم:6]. وقد سُمِّي خازن النار باسم مالك. وقد ذكر القرآنُ استغاثة الكافرين به، قال تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77]. وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذَابِ * قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ} [غافر:49 - 50].

صلة الملائكة بالبشر.

أمَّا بالنسبة للمؤمنين، فإنَّ الملائكة تتلقَّاهم وتهنِّئهم بالسَّلامة من النار، وترحب بهم في الجنة، قال تعالى: {إِنَّ الَّذينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء:103]. وقال -تعالى- عن صفات المؤمنين، الَّذين استحقُّوا بها الجنَّة، واحتفت بهم الملائكة: {الَّذينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ * وَالَّذينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:20 - 24]. وقال -تعالى- عن عباد الرَّحمن: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً * خَالدِّين فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً.} [الفرقان:76،75]. صلة الملائكة بالبشر للملائكة صلةٌ وثيقةٌ بالبشر، وارتباطٌ عميق بحياتهم، فهم مُلازمون للنَّاس خلال تواجُدهم على ظهر الأرض وفي بطنها، وقد أخبر الكتاب والسُّنَّة عن هذه الصِّلة الوطيدة، في كل مجالات الإنسان، وعبر مراحل عمره، ومن هذه الأعمال على سبيل المثال لا الحصر، ما يلي:

1 - حفظُ البشر وتسجيلُ الأعمال: قال تعالى: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:17 - 18]. وقال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:10 - 12]. وقال تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: 11]. 2 - الاستغفار للبشر والدعاء لهم: قال تعالى: {الَّذينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [غافر:7 - 9]. وروى الإمام البخاري، أنَّ رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: ((ما من يومٍ يصبحُ العباد فيه؛ إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدٌهما: اللَّهمَّ أعطِ منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللَّهمَّ أعطِ ممسكاً تلفاً)). وقال تعالى: {هُوَ الَّذي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} [الأحزاب:43]. والصلاة هي الدعاء.

الثَّالث: التَّشجيع على الطاعة والعبادة وحضور مجالس العلم وقراءة القرآن: والأحاديث في هذا كثيرةٌ، نذكر منها على سبيل المثال: 1 - عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- عن النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: ((الْمَلَائِكَةُ يَتَعَاقَبُونَ، مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَفي صَلَاةِ الْعَصْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ الَّذينَ بَاتُوا فِيكُمْ، فَيَسْأَلُهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بهم: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وهم يُصَلُّونَ، وَأَتَيْنَاهُمْ وهم يُصَلُّونَ)). 2 - عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((لَا يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا حَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ)) رواه مسلم. 3 - صلة الملائكة بالعلماء وطلاب العلم: يشترك الملائكة مع العلماء، في الشهادة والإقرار بتوحيد الله، قال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18]. كذلك الدُّعاء لكلِّ من يعلم النَّاس الخير: فعن أبي أمامة -رضي الله تعالى عنه- أنَّ رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: ((إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرَضِينَ، حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا، وَحَتَّى الْحُوتَ، لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ))، وعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يبتغي فِيهِ عِلْمًا؛ سهَّل اللَّهُ لِهِ طَرِيقًا إلى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْم، ِرِضًا بما صنعِ)).

4 - التَّكليف بنزع أرواح الكائنات، إذا ما دنا الأجل، مع شدَّة العذاب على الكافرين: قال تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [السجدة:11]. وقال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [الأنفال:50 - 51]. وقال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام:93]. وقال عزَّ شأنُه: {الَّذينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النَّحل:28]. وقال تعالى، في شأن الكافرين عند خروج أرواحهم: {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:27 - 28]. أمَّا المؤمنون، فإنَّ الملائكة تَحُفُّ بهم عند الوفاة، وتستبشرُ بهم، وتُحيِّيهِم، قال تعالى: {الَّذينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:32]. وقال تعالى: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة:83 - 91].

5 - تثبيت قلوب المؤمنين في ميادين الجهاد: إنَّ الصِّراع بين الإيمان والكفر، وبين العدل والظُّلم، وبين الحقِّ والباطل لا ينطفئ لهيبُه، ولن تخمد جذوته، ونظراً لضعف الكفر والظلم والباطل في حقيقتهم؛ فإنهم يتدرَّعون بالقوة، ويَفرضون سطوتهم وبطشهم، بأعتى سلاح ليحموا بذلك ما يخفونه من معتقدات فاسدة، لا تصمد أمام الحجَّة ولا تقف أمام الدَّليل. وهذا هو المُشاهد في الصِّراعات المعاصرة، لذلك فإنَّ من سنَّة الله في إدارة الصراع بين الإيمان والكفر، أنَّه إذا صدَقت النيَّة، وخلَص التَّوجه إلى الله، واستجمع المسلمون شروط النصر، فإنَّ الله -سبحانه وتعالى- يمدُّهم بنصرٍ من عنده، ويوحي إلى الملائكة بتثبيت قلوبهم، والمساهمة بالقتال بجانبهم، كما حدث في معركة بدر قال تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةُ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران:123 - 125]. وكما حدث في غزوة الأحزاب، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} [الأحزاب:9]. قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ وَمَا هِيَ إِلا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} [المدثر:31]. هذه بعض أعمال الملائكة وعمق صلتهم بالبشر، والله -سبحانه وتعالى- أعلم بحقيقتهم ودرجاتهم عنده، قال تعالى: {وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} [الصافات:164 - 166].

تصحيح عقيدة البشر عن الملائكة.

تصحيح عقيدة البشر عن الملائكة جاء الإسلامُ، وقد سادت لدى بعضِ العربِ وغيرهم، معتقداتٌ فاسدةٌ عن الملائكة، وألصقوا بهم الافتراءات، ما هم منها براء، وقد طلبوا من رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- أن يطلبَ من الله أن يُكلِّف الملائكة ببعض الأعمال والمهامِّ، التي ليست من طبيعة خلقهم. ولقد أورد القرآن الكريم تلك الشُّبهات عنهم، وقام بالرَّدِّ عليها، ومن هذه الشبهات ما يلي: أولاً: الزَّعم بأنَّ الملائكة إناثٌ، وأنَّ الله اصطفاهم له دون الأولاد، وهذا افتراءٌ عظيم على الله، وانتقاص لوحدانيته، -سبحانه وتعالى- وقد ساق القرآن العظيم هذه الفرية وفندها، قال تعالى: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً} [الإسراء:40] وقال تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلونَ * وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الزُّخرُف:20،19] فقد أبطل الله مزاعمهم الكاذبة، فيما ادَّعَوه على الملائكة، وبما نسبوه إلى الله، تنزَّهت ذاته وتعالى عما يصفون وعما يقولون علوَّاً كبيراً. قال الإمام ابن كثير في تفسير تلك الآيات: "أي اعتقدوا فيهم ذلك -أي الأنوثة- فأنكر الله عليهم قولهم، بقوله: {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} أي أشاهدوا وقد خلقهم إناثاً، {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ} أي بذلك، ويسألون يوم القيامة". ويقول -رحمه الله- فيما ادَّعاه المشركون حول الملائكة: "فجمعوا بين أنواع كثيرة من الأخطاء:

أحدها: جعلوا لله تعالى ولداً، تعالى وتقدَّس وتنزَّه عن ذلك علواً كبيراً. الثاني: ادَّعَوا أنَّ الله اصطفى البنات على البنين، فجعلوا الملائكة الَّذين هم عبادُ الرَّحمن إناثاً. الثالث: عبادتهم لهم مع ذلك كلِّه، بلا دليل ولا برهانٍ ولا إذنٍ من الله -عز وجلَّ-، بل بمجرد الافتراء والأهواء والتَّقليد للأسلاف والكبراء، والتَّخبط في الجاهليَّة الجهلاء". الآثار المترتبة على الإيمان بالملائكة: الإيمان بالملائكة جزءٌ من عقيدة المسلم، وركن من أركان إيمانه، ليس في وسع إنسان أن ينكر وجودهم، أو يشكِّك فيهم أو ينتقص من قدرهم أو أن ينسب إليهم ما يجب أن يتنزَّهوا عنه. وللإيمان بهم آثار عظيمة، وفوائد جليلة، نوجزها فيما يلي: أولاً: ما ذكره القرآن الكريم عن حقيقة الملائكة وطبيعة أعمالهم، قد أزال ما يعلق بهم من أوهام وافتراءات: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء:26 - 27]. ثانياً: الاستقامة على أمر الله، فحينما يشعر الإنسان أنَّ الملائكة تراقبه وتسجل عليه أعماله؛ فإنَّ هذا أدعى إلى لزوم الطَّاعة. ثالثاً: تدفع الإنسانَ إلى الأماكن الطَّيِّبة، التَّي تشهدُها الملائكة، وتشهدُ على الإنسان بالمواظبة عليها، كالمساجد وحلقات الذِّكر والعلم وقراءة القرآن، وغيرِ ذلك من أعمال البِرِّ، ممَّا يدفع المجتمعَ المسلم إلى النُّهوض والتَّحرك، نحو الطَّريق المستقيم والإصلاح المفيد، الذي يتعثَّر المسلمون في خطاه، وتتيه عليهم رؤيته الحقَّة.

رابعاً: يشعر الإنسان بالخجل، حينما ترصد الملائكة أعماله السَّيِّئة، وحينما تُفتح صحيفةُ أعماله التَّي دوَّنَتها الملائكة، فيكفَّ عن انحرافه ويُسرعَ بالمبادرة بالرجوع إلى الله والتَّوبة من الذنوب. خامساً: شعور المسلم بأنَّ مواكب الخير في هذه الحياة، ومواسم الطاعة، الملائكة تشاركه فيها وتغبطه عليها، مما يُقوِّي عزيمته، وتصدق بذلك نيته. وهكذا يتضح مدى أهميَّة ووجوب الإيمان بالغيب، والذي تُشكِّل الملائكة أحدَ أركانه ودعائمه. أما عن بقيَّة أركان الإيمان بالغيب، فهذا موضوع المحاضرة القادمة إن شاء الله.

وجوب الإيمان بجميع الأنبياء والرسل.

وجوب الإيمان بجميع الأنبياء والرسل.

2 - من دعائم وأسس الدَّعوة إلى الله وجوب الإيمان بجميع الأنبياء والمرسلين وجوب الإيمان بجميع الأنبياء والرسل الحمد لله ربِّ العالمين، أرسل الأنبياء والمرسلين هداةً مصلحين، مبشِّرين ومنذرين لجميع الخلق أجمعين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الخلق وخاتم الرُّسل، أرسله الله للنَّاس كافَّةً بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً. السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ... تمهيد: نواصل الحديث عن الأسس والدَّعائم الَّتي تقوم عليها دعوة الإسلام العظيم، ولقد ذكرنا في اللقاء الماضي: أنَّ الإيمان بالغيب هو جوهر عقيدة المسلم، وأنه يتضمَّن أموراً يجب الاعتقاد الصادق بها، والإيمان الخالص بما ورد بشأنها في الكتاب والسنة، وقد أوردنا من ذلك الإيمان بالملائكة، وبيَّنَّا حقيقتهم وطبيعة أعمالهم، وصلتهم الدَّائمة بالبشر، واليوم نتابع ما يتعلق بقضايا الإيمان بالغيب، ومن ذلك الإيمان بجميع الأنبياء والمرسلين. الأنبياء والمرسلون، جماعة من البشر، اصطفاهم الله، لتبليغ رسالته للناس، وأنزل عليهم الكتب، وأيدهم بالمعجزات والآيات الدالة على صدقهم، قال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج:75]. وهم -صلوات الله عليهم- متَّصفون بكلِّ صفات الكمال الإنسانيِّ الأخلاقيِّ الجسمانيِّ، ومنزَّهون عن النَّقائص والعيوب، قال تعالى: {وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ} [ص:47]. وقد أوجب الحقُّ -تبارك وتعالى- الإيمان بجميع الأنبياء والمرسلين، المذكورين في القرآن الكريم، إيماناً صادقاً لا يخالطه شكٌّ أو ظنٌّ، قال تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:136]. قال الإمام ابن كثير في تفسير هذه الآية: "أرشد الله تعالى عباده المؤمنين، إلى الإيمان بما أنزل إليهم، بواسطة رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم-، وبما أنزل على الأنبياء المتقدمين مجملاً، ونصَّ على أعيان من الرُّسل، وأجمل ذكر بقيَّة الأنبياء، وأن لا يفرقوا بين أحدٍ منهم، بل يؤمنوا بهم كلِّهم. والأنبياء الَّذين يجب الإيمان بهم، والتَّصديق برسالتهم، هم المذكورون في القرآن الكريم، وعددهم خمسة وعشرون، ذُكر منهم ثمانية عشر نبيَّاً ورسولاً في قوله تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاً هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ

قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلّاً فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأنعام:83 - 86]. وورد ذكر السبعة الآخرين، في مواضع متفرِّقة من القرآن الكريم، وهم: 1 - آدم -عليه السلام-، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ} [آل عمران:33]. 2 - هود، قال تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً} [هود:50]. 3 - صالح، قال تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً} [هود:61]. 4 - شعيب قال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً} [هود:84]. 5، 6 - إدريس وذا الكفل -عليهما السَّلام- قال تعالى: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الأنبياء:85]. 7 - خاتم الأنبياء محمد -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29]. ولقد أرسل الله أنبياءَ ورسلاً كثيرين، لا يعلمهم إلا هو سبحانه وتعالى- قال تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [يونس:47]. وقال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر:24]. وقال جلَّ شأنه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [غافر:78]. مقوِّمات الإيمان بالرُّسل: وأنَّ الإيمان بالرُّسل، والتَّصديق برسالاتهم، لن يكون إيماناً حقَّاً، واعتقاداً صادقاً، ويقيناً خالصاً، إلا بالتَّسليم والإذعان بالأمور التَّالية:

الإسلام هو الكلمة الجامعة التي انضوت تحتها الرسالات السماوية جميعها.

1 - الاعتقاد والتَّسليم بأنَّهم جميعاً قد بعثهم الله لغرض أساسي واحد، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، والتَّصديق بالبعث والحشر والثواب والعقاب والجنة والنار، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [النحل:36]. وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]. الإسلام هو الكلمة الجامعة التي انضوت تحتها الرِّسالات السَّماوية جميعها وأنَّ الانحراف عن هذا الاسم، بغيٌ وظلمٌ وكفرٌ بآيات الله، قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الأِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [آل عمران:19]. وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85]. وقد جرت كلمةُ الإسلام، على ألسنة الأنبياء جميعاً. الدرس: 12 الأسس والدعائم التي تقوم عليها الدعوة إلى الله (2). بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثاني عشر (الأسس والدعائم التَّي تقوم عليها الدَّعوة إلى الله (2)) 1 - من دعائم وأسس الدَّعوة إلى الله وجوب الإيمان بجميع الأنبياء والمرسلين وجوب الاعتقاد بأنَّهم أكمل الخلق علماً وعملاً، وأصدقهم عقيدة وقولاً، وأعظم الناس أخلاقاً وفضلاً وأنَّ الله خصَّهم بمكانة لا يرقى إليها غيرُهم من البشر، ومنحهم من الفضائل ما لا يصل إليها أحدٌ، وقد عصمهم المولى -سبحانه وتعالى- ونَزَّههم عن الكذب والخيانة والكتمان والتقصير في التبليغ، وصانهم عن الكبائر والصغائر.

النبوة والرسالة قاصرة على الرجال فقط.

النُّبوَّة والرِّسالة قاصرةٌ على الرِّجال فقط لم يبعث الله أُنثى؛ لأنَّها لا تُطيق ما يلقاه الأنبياء، من آلام ومحن وتعذيب وهجرة وقتال، قال تعالى: {ومَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} النحل:43]. وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [يوسف:109]. فالرسالة والإمامة في الدِّين، اقتصرت على الرجال دون النِّساء، وعلى هذا فإنَّ البدعة التي استُحدثت في الغرب، وبتشجيع منه وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث قامت امرأةٌ -لأول مرَّة في تاريخ الإسلام- بأداء خطبة الجمعة وإمامة النَّاس في الصَّلاة، وإعلان الأذان والإقامة بصوت امرأة، وذلك في يوم الجمعة الثامن من صفر لعام 1426هـ الثامن عشر من مارس 2005م، لهي بدعة مُنكرة، ومخالفة شنيعة لله ولرسوله وللمؤمنين، وانتهاكٌ لخصوصيات الإسلام، وتطاولٌ على مُقدَّساته وثوابته، وخروجٌ على إجماع الأمة، قال تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} [الأحزاب:36]. وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63]. وعن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-، قالت: قال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ؛ فَهُوَ رَدٌّ)) رواه البخاري.

الإيمان بأن الله سبحانه وتعالى لم يخص الأنبياء والمرسلين بطبائع غير الطبائع البشرية.

وقد حذَّر -صلَّى الله عليه وسلَّم- من مثل هذه الضَّلالات، وأنذر كلَّ من يُحدِث في الدين ما ليس منه، بسوء العاقبة. فعن أبي نجيح العرباض بن سارية -رضي الله عنه- قال: ((وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَوْعِظَةً بليغةً، وَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، وَذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كأنَّها مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فأوصنا، قَالَ أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ تأمَّر عليكم عَبْدٌ، وإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فسيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ)) رواه أبو داود والترمذي. الإيمان بأنَّ الله سبحانه وتعالى لم يخصَّ الأنبياء والمرسلين بطبائع غيرِ الطَّبائع البشريَّة وإنَّما اختارهم الله من الرِّجال الَّذين يأكلون ويشربون ويمشون في الأسواق، ولهم أزواجٌ وذريَّةٌ، ويُُصيبُهم ما يصيب البشرَ من أفراح وأحزانٍ وغضبٍ وسرور، إلى آخر ما يَلحق البشر من أعراض سوى الأمور المُنفِّرة، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً} [الفرقان:20]. وقال تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً} [الرعد:38]. ولقد أكَّد القرآن الكريم، على بشريَّة عيسى -عليه السلام-، ونفى نفياً قاطعاً ما يعتقده النصارى في بنوَّته لله أو ألوهيَّته، سبحانَه وتعالى عمَّا يقولون علوَّاً كبيراً. قال تعالى: {مَا

الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المائدة:75]. بأيِّ دعوى يخرج الأنبياء والمرسلين عن فطرتهم البشريَّة، أو وصفهم بما لا يليق بهم، هو انحرافٌ عن دعائم وجوهر رسالات الأنبياء جميعاً، فهم -صلوات الله وسلامه عليهم جميعاً- لا يملكون شيئاً من خصائص الألوهيَّة، وليس من شأنهم التَّصرفُ في بعض أمور الكون، ولا يملكون الضرَّ أو النَّفع لأنفسهم أو لغيرهم، ولا يعلمون الغيب، إلا من خلال ما أطلعهم الله عليه، قال تعالى: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:188]. وقد أفاض القرآن الكريم، في بيان وتوضيح بشريَّة الأنبياء، ليُدحض بذلك افتراض ومزاعم كلِّ من يعتقد فيهم ما ليس في طبيعتهم، ولا من خصائصهم، ولا سيَّما ما اعتقده النصارى في عيسى ابن مريم، حيث نسبوا إليه ما تبرَّأ منه، وسجَّل القرآنُ الكريم إنكارَه -عليه السلام- لما ألحقوه به بهتاناً وزوراً، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:116 - 118].

وجوب الإيمان بجميع الأنبياء والمرسلين الوارد ذكرهم في القرآن الكريم وعدم التفرقة بينهم.

وجوب الإيمان بجميع الأنبياء والمرسلين، الوارد ذكرهم في القرآن الكريم، وعدم التَّفرقة بينهم فمن ركائز الإيمان، ومن الأسس الَّتي تقوم عليها الدَّعوة إلى الله، وجوبُ الاعتقاد والتَّصديقِ بجميع الأنبياء والمرسلين، الَّذين جاءت أسماؤهم في كتاب الله، وإنزالهم منزلةً واحدة في مقام النُّبوة والرِّسالة، وعدم التَّفرقة بينهم، أو النَّيل من بعضهم، قال تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:136]. فهذا أمرٌ صريح بوجوب الإيمان وعدم التَّفرقة بينهم -صلوات اله عليهم جميعاً-، وقد ذكر القرآن الكريم ذلك أيضاً في قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسول بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285]. قال الإمام ابن كثير: "فالمؤمنون يؤمنون بأنَّ الله واحدٌ أحدٌ فردٌ صمد، لا إله غيرُه، ولا ربَّ سواه، ويُصدِّقون بجميع الأنبياء والرُّسل، والكتب المنزلة من السَّماء على عباد الله المرسلين والأنبياء، لا يُفرِّقون بين أحدٍ منهم، فيؤمنون ببعضٍ ويكفرون ببعضٍ، بل الجميع عندهم صادقون بارُّون راشدون مهديُّون هادون إلى سبيل الخير، وإن كان بعضُهم ينسخ شريعةَ بعضٍ بإذن الله، حتّّى يُنسخ الجميعُ بشرع محمَّد -صلَّى الله عليه وسلَّم- خاتم الأنبياء والمرسلين، الَّذي تقوم الساعة على شريعته، ولا تزال طائفة من أمَّته على الحقِّ ظاهرين".

وبَيَّنَ القرآن الكريم أنَّ الله توعَّد كلَّ من يكفر بالله ورسله، ويفرق بينه -سبحانه- وبينهم في الإيمان ببعض والكفر ببعض، كما فعل اليهود -عليهم لعنة الله- حينما آمنوا بجميع الأنبياء إلا عيسى ومحمداً -عليهما السلام- وكإيمان النَّصارى بجميع الأنبياء إلا محمَّداً -صلَّى الله عليه وسلَّم- ويتَّخذون في هذا عقيدةً ومنهجاً وسبيلاً، فأولئك وغيرهم ممَّن يؤمنون بالبعض ويكفرون بالبعض، قد حكم الله عليهم بالكفر، وأعدَّ لهم عذاباً مُّهيناً. قال تعالى: {إِنَّ الَّذينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً} [النساء:150 - 151] أمَّا المؤمنون الَّذين أكرمهم الله بالإيمان بجميع الأنبياء والمرسلين، فقد أخبر الله بشأنهم في نفس الآيات: {وَالَّذينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [النساء:152] وينبغي على أتباع الدِّيانات، وخاصَّةً اليهود والنَّصارى: أن يكُفُّوا ألسنتهم عن الخوض في التَّفرقة بين النَّبِيِّين، والنَّيل منهم ووصفهم بصفات لا تَليق بآحاد الناس، فضلاً عن المرسلين، كما ذُكر ذلك فيما يزعمون أنَّه الكتابُ المقدَّس، سواء في أسفار "العهد القديم"، "التَّوراة" أو "العهد الجديد": الأناجيل، حيث ألصقوا ببعض الأنبياء -زوراً وبهتاناً- تهمة ارتكاب الكبائر، مما يتنافى وعصمتهم وحفظ الله لهم، وتفضيلَهم على الخلق جميعاً، قال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة:253]. فالتَّفاضل بينهم شأنٌ يخصُّ الله تعالى، فهو -سبحانه- يعلم قدر كلٍّ منهم ومنزلته وفضله، قال تعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً} [الإسراء:55].

وقد نهى -صلَّى الله عليه وسلَّم- عن التَّفاضل الَّذي تمليه العصبيَّة الحمقاء والخصومة الحاقدة، فقد جاء في "الصحيحين" عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: استبَّ رجلٌ من المسلمين، ورجلٌ من اليهود، فقال اليهوديُّ في قَسم يُقسمه: لا، والَّذي اصطفى موسى على العالمين! فرفع المسلمُ يده فلطم بها وجهَ اليهوديِّ، فقال: أيْ خبيثُ، وعلى محمد -صلَّى الله عليه وسلَّم-؟ فجاء اليهوديُّ إلى النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- فاشتكى على المسلم، فقال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((لا تفضلوني على الأنبياء ... الحديث)) رواه الشَّيخان. فالمراد بذلك النَّهيُ الَّذي يمليه التَّعصب المذموم، ولقد ذكر القرآن الكريم أنَّ الرسل هم أفضل الخلق، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران:33 - 34]. وأنَّ الله -سبحانه وتعالى- فضَّل أولي العزم من الرُّسل، على سائر الأنبياء والمرسلين، قال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35]. وهم المذكورون في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} [الأحزاب:7]. ومحمد -صلَّى الله عليه وسلَّم- أفضلُ أولي العزم، قال تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} [النساء:113]. وقد ذكر -صلَّى الله عليه وسلَّم- الأمورَ الَّتي اختصه اللهُ بها، وفُضِّل من خلالها على جميع الأنبياء والمُرسلين، ممَّا سنوضِّحه في الأدلَّة التَّالية: أ- روي عن جابر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ وَلَمْ تُحَلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ كلُّ نبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عامَّةً)) رواه الشيخان.

ب- روي عن أنس -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((أنا أكرمُ وَلَدِ آدَمَ على رَبِّي، ولا فخرَ))، وفي روايةٍ أخرى لابن عبَّاس -رضي الله عنهما-: ((أَنَا أكرمُ الأوَّلينَ والآخِرينَ، ولا فَخر)). وروي عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- أنَّ رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: ((أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ، وَأَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ)) أخرجه الإمام مسلم. ج- روي عن واثلة بن الأسقع -رضي الله تعالى عنه- قال: سمعت رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- يقول: ((إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَعِيلَ، وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ)) أخرجه الشَّيخان. فهذه الأحاديث الصَّحيحة، تنبئ عن مكانة الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- وعن فضله على سائر الأنبياء والمرسلين، وعلى كافَّة الخلق أجمعين، ومن أراد المزيد فليرجع إلى "الشفا بتعريف حقوق المصطفى، للقاضي عياض"، ومع هذه المكانة العالية والمنزلة الرَّفيعة؛ فإنَّ أدب الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- وتواضعَه، جعله يأمر المسلمين، أن لا يرفعوا منزلته على منزلة أحدٍ من الأنبياء غيرِه، فقال -صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((لا تُفضِّلوني على يُونُسَ بن متّى، ولا تُفَضِّلوا بينَ الأنبياءِ، ولا تُخَيِّروُني عَلَى مُوسَى)). فالنهي عن التَّفاضل موجَّهٌ في حقِّ النُّبوَّة والرِّسالة، إذ إنَّ مقام الأنبياء والمرسلين في النُّبوَّة واحدٌ، وإنَّما التَّفاضل بأمورٍ أخرى زائدةٍ عليها، يمنحها الله لأنبيائه ورسله، حيث يخُصُّ -سبحانه وتعالى- بها نبيَّاً دون آخر. ولقد ذكر القرآنُ الكريمُ، ما اختصَّ به اللهُ كلَّ نبيٍّ ورسولٍ من معجزات ومقامات وأحوالٍ، يُفاضل اللهُ بها بينهم.

وجوب الاعتقاد والإيمان أنهم جميعا -عليهم الصلاة والسلام- قد بلغوا رسالات الله على الوجه الأكمل.

وجوب الاعتقاد والإيمان أنهم جميعا -عليهم الصلاة والسلام- قد بلغوا رسالات الله على الوجه الأكمل. ممَّا يجبُ على المسلم التَّصديقُ به، والاطمئنان القلبيُّ له: أنَّ جميع الأنبياء والمرسلين، قد أبلغوا رسالاتِ ربِّهم، على الوجه الأكمل، وأنَّهم وقفوا حياتهم للدَّعوة إلى الله، وما فرَّطوا لحظةً فيها، وما عُلم أنَّ أحداً منهم تقاعس أو تكاسل لحظةً في حياته، أو أصابه وَهنٌ ممَّا يلقاه من قومه، وأنَّ الله حفظهم، وأمر الملائكة بترصُّد كلِّ من يحول بينهم وبين ما يدعون إليه، قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً * لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} [الجن:26 - 28]. قال -تعالى- مخاطباً حبيبه ورسوله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: {يَا أَيُّهَا الرَّسول بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67]. وقد بيَّن القرآن الكريم، أنَّه ما يجرؤ نبيٌّ من الأنبياء، على كتمان بعض ما أمر الله به، أو الزِّيادة فيه أو النُّقصان منه، قال -تعالى- عن رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ * وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ * وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الحاقة:44 - 52]. وهذا هو شأنُ الأنبياء جميعاً: كمالُ الإبلاغ، وكمالُ إرسال أمانة الدَّعوة إلى الله، على أحسن وجه، قال -تعالى- عن نوح -عليه السلام-: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالةٌ وَلَكِنِّي

رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:59 - 62]. وهذا هو حال هود -عليه السلام-، قال تعالى: {وإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ * قَالَ الْمَلَأُ الَّذينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} [الأعراف:65 - 68]. قال تعالى: {الَّذينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} [الأحزاب:39]. وإنَّ هذه الرِّسالاتِ ظاهرةٌ واضحة، لا لَبسٌ فيها ولا غموضٌ، وليس فيها حقيقةٌ وشريعةٌ وظاهرٌ وباطن، كما يزعمه بعضُ من ضلَّ بهم العقل وانحرف بهم الفكر، قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:109].

الاقتصار على ما جاء في القرآن الكريم أو السنة الشريفة بشأن الأنبياء والمرسلين.

الاقتصار على ما جاء في القرآن الكريم أو السنة الشريفة بشأن الأنبياء والمرسلين.

الاقتصارُ على ما جاء في القرآن الكريم أو السُّنَّة الشَّريفة بشأن الأنبياء والمرسلين من قواعدِ الإيمان وأسسِ العقيدة في الإسلام، ومن وجوبِ الاعتقاد فيمن أرسله الله من الأنبياء والمرسلين، الَّذين ورد ذكرُهم في القرآن الكريم، كما قال تعالى: {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء:164]. فلا يصحُّ أن يُنسب لأحدٍ من البشر، أنَّه رسولٌ من غير من ذكره الله. قال تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124]. ولقد حدَّد القرآنُ الكريم طرقَ إثبات الرِّسالة، فقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ * وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:51 - 52]. لقد حدَّدت هذه الآيةُ الوسائلَ الَّتي يتَّصل الله بها برسله، هذا بجانب المعجزات والآيات الَّتي يؤيِّدُهم الله بها، ويتحدَّى قومَهم على أن يأتوا بمثلها، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ} [غافر:78]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [الإسراء:101].

الآثار المترتبة على وجوب الإيمان بالأنبياء والمرسلين.

فلا يحقُّ لأحدٍ، أن يُسبغ صفة الرِّسالة على إنسانٍ لم يوحِ الله إليه، ولم يؤيِّده بمعجزة. وعلى هذا، فإنَّ ما يزعمه البعض، عن بعض الفراعنة، أنَّهم أنبياء، أو ما يزعُمه النَّصارى عن بعض الحواريِّين أو القدِّيسين أنَّه يُوحَى إليهم، أو ما يعتقدُه بعضُ الشِّيعة من عصمة الأئمَّة، وتنزيلهم منزلة النُّبٌوَّة، وكذلك ما يزعمه البعض من أنَّ بعض أديان الهند، أصحابُها كانوا أنبياء؛، فكلُّ هذا افتراءٌ على الله، وكذبٌ على الأنبياء، وتزييف للتاريخ، فلا يجب الإيمان والتَّصديق إلا لمن ورد ذكرهم في القرآن الكريم، وأنَّ البشريَّة خلال تاريخها لم تعرف إلا ديناً واحداً، هو الإسلام، وقد جرى على ألسنتهم جميعاً، من لدن آدم، إلى محمَّد -صلَّى الله عليه وسلَّم-. الآثار المترتبة على وجوب الإيمان بالأنبياء والمرسلين 1 - وحدة الرِّسالات السَّماويَّة في قواعدها وأُسسها، وإن اختلفت في بعض تشريعاتها. 2 - بيانُ رحمة الله بالخلق، بأن أرسل إليهمُ الرُّسلَ مبشِّرين ومُنذرين. 3 - التَّأكيد على صلة البشريَّة، بوحي السَّماء ورسالات الأنبياء. 4 - الإسلام يُفسح صدره لأهل الكتاب، على الرَّغم من ابتعادهم عن الإسلام الحقِِّ الَّذي تنزَّل على أنبيائهم، وذلك لمجرد صلتهم بأنبيائهم وانتسابهم للكتب المنزَّلة، ولو انتساباً اسميَّاً. 5 - العبرة والعظة من قصص الأنبياء، كما قال تعالى: {لقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111]. 6 - تثبيت فؤاد الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- وتسليته، فيما نزل به وبالمؤمنين، وعبرةً لجميع المسلمين عبر السنين، قال تعالى: {وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود: 120].

الدرس: 13 الأسس والدعائم التي تقوم عليها الدعوة إلى الله (3).

7 - استتمام أركان الإيمان، الَّتي لا يتمُّ إيمانُ المؤمن إلا بها، قال تعالى: {وَالَّذينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 4]. 8 - الاقتداء بهم جميعاً، قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ * أُولَئِكَ الَّذينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} [الأنعام: 90،89]. ممَّا سبق يتَّضحُ لنا: أنَّ الإيمان بجميع الأنبياء والمرسلين، هو من أسس ودعائم الدَّعوة إلى الله، وأحد أركان الإيمان بالغيب، قال تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} [البقرة: 136 - 138]. وإلى اللقاء، والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الدرس: 13 الأسس والدعائم التي تقوم عليها الدعوة إلى الله (3). بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثالث عشر (الأسس والدعائم التَّي تقوم عليها الدَّعوة إلى الله (3)) 1 - من دعائم وأسس الدَّعوة إلى الله وجوب الإيمان بجميع الكتب المنزلة تمهيد حول الإيمان بالكتب المنزلة الحمد لله، أرسل رسوله بالهدى ودين الحقِّ، لِيُظهرَه على الدِّين كلِّه، ولو كره الكافرون، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الخلق وخاتَم الرُّسل، المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن دعا بدعوته إلى يوم الدِّين. السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد تمهيد: فما زال اللِّقاء يتواصل -بتوفيق الله- حول الدَّعائم والأسس، الَّتي تقوم عليها دعوة الإسلام، وفي هذه المحاضرة نتناول -إن شاء الله- من هذه الدَّعائم: الإيمان بالكتب المنزلة. إنَّ من رحمة الله بالخلق، وشفقته عليهم، ورأفته بهم: أن اصطفى من بينهم أشرفَهم نسباً، وأعرقهم أصلاً، وأطهرهم خلقاً، وأحسنهم عملاً، ليُبلِّغوا رسالته، وليرشدوا عباده إلى الصراط المستقيم والمنهج القويم، والدِّين الحق والنور المبين؛ لكي تنقطع الحجة، وتقوم على البشر المحجة، قال تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} [النساء:165].

ولقد رفع الله العتاب والحساب والعقاب على النَّاس، قبل إرسال الرُّسل وإنزال الكتب، قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء:15]. قال الإمام ابن كثير: "إخبارٌ عن عدله تعالى، وأنه لا يعذب أحداً، إلا بعد قيام الحجة عليه، بإرسال الرسل إليه، كقوله تعالى: {وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ * وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لأَصْحَابِ السَّعِيرِ * إِنَّ الَّذينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [الملك:6 - 11] ". وإنَّه ممَّا ينبغي ملاحظته: أنَّ دين الله المنزل على جميع رسله، من لدن آدم -عليه السلام- إلى محمَّد -صلَّى الله عليه وسلَّم- هو الإسلام، الَّذي جرى على ألسنتهم جميعاً، وإن تعدَّدت الكتب واختلفت الشرائع من نبيٍّ لآخر، فالإطار الَّذي يضمُّهم ويجمع بينهم جميعاً، هو الإسلام وأنَّ القاسم المشترك لجميع الكتب السماويَّة، أنَّها وحيٌ من عند الله، قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الأِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [آل عمران:19]. فاليهوديَّة والنصرانيَّة ليستا بدينٍ سماويٍّ، ولا يصحُّ أن يُطلق عليهما هذا الاسم؛ لأنَّ الدِّين السَّماويَّ الَّذي عرفه البشر، ونزلت به الكتب، وأُرسل عليه الرُّسل هو الإسلام، فالديانات اليهوديَّة والنصرانيَّة أوالمسيحيَّة، لم يُسمِّها الله بهذه الأسماء، ولم يطلق هذه الأسماءَ أيٌّ من موسى وعيسى -عليهما السلام-، وإنما أطلقا كلمة الإسلام، قال -تعالى- على لسان موسى -عليه السلام-: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [يونس:84].

فجحد بنو إسرائيل اسم الإسلام، وأطلقوا على ما صنعته أيديهم كلمة اليهوديَّة، وكذلك عيسى -عليه السلام-، جاء بالإسلام كشأن سائر النّبِيِّين، وأقرَّه الحواريُّون وتابعوه على ذلك، قال تعالى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} [المائدة:111]. فجاء بنو إسرائيل، كما هو شأنهم في الَّتحريف والتَّغيير؛ فأطلقوا على أنفسهم نصارى، وعلى دينهم النصرانيَّة والمسحيَّة. ولقد أنكر القرآن الكريم ما اختلقوه من أسماء، وأمرهم أن يرجعوا إلى الاسم الَّذي اختاره الله وهو الإسلام، قال تعالى: {وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:125 - 126]. وقد نفى القرآن الكريم إلصاقَ كلمة اليهوديَّة والنصرانيَّة، بأبي الأنبياء إبراهيم -عليه السلام- قال تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:67 - 68]. فالآيتان تُفيدان أنَّه -عليه السلام- ما كان يهوديَّاً ولا نصرانيَّاً، وما كان من المشركين الَّذين زعموا ذلك، وأوضح السياق القرآني الكريم أنَّ أحقَّ النَّاس بإبراهيم -عليه السلام- هم الَّذين اتَّبعوا ملَّته من البشر، عقب تتابع القرون، ثم جاءت الإشارة الواضحة للرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- ولأمَّة الإسلام، وهذا النَّبيّ، وهذا ما دعا به إبراهيمُ وإسماعيلُ -عليهما الصَّلاة والسَّلام- واستجاب الله دعاءهما، في قوله -تعالى-: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ *

رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:127 - 128]. كذلك نفى القرآن الكريم نفياً قاطعاً، أن يكون أيُّ أحدٍ من أنبياء بني إسرائيل يهوديَّاً أو نصرانيَّاً، قال تعالى: {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:140]. وقد حاول اليهود والنصارى حصر الجنَّة فيهم، فقطع الله آمالَهم ورجاءهم، وطلب منهم الحجَّة على مزاعمهم، فقال تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:111 - 112]. ولكي يتأكَّد العباد، من أنَّ المبعوثين بالإسلام هم رسل الله، وحتى تطمئنَّ القلوب إليهم، أيَّدهم الله -سبحانه وتعالى- بثلاثة أمور: الأمر الأول: المعجزات الدَّالَّة على صدق نبوَّتهم، والمعجزة أمر خارق للعادة، يُظهره الله على يد النبي أو الرَّسول، تأييداً له، وتحدِّياً للمعاندين. الأمر الثَّاني: الكتب المنزلة، الَّتي تحمل بين ثناياها تعاليمَ الإسلام، وبيانَ أحكامه وشرائعه، بما يُناسب كلَّ أمة وكلَّ عصر. الأمر الثالث: إنزالُ العذاب على الأمم الَّتي كذَّبت المرسلين، كقوم نوح وفرعون وهود وصالح وشعيب وغيرهم، واستثنى الحقُّ -تبارك وتعالى- من عذاب الاستئصال أمَّة محمَّد -صلَّى الله عليه وسلَّم-، وكما أثبتنا أنَّ ما بين يدي أهل الكتاب ليس بدينٍ أصلاً، فكذلك نُبيِّن ونؤكِّد ونوضِّح أنَّ ما بين أيديهم من التَّوراة والإنجيل،

يجب الإيمان والتصديق بالكتب التي أنزلها الله على أنبيائه ورسله.

ليسا بالتَّوراة والإنجيل المنزَّلين على موسى وعيسى -عليهما السَّلام-، واللذان لا يختلفان عمَّا جاء في القرآن الكريم، وأنَّ ما تحت أيدي اليهود والَّنصارى لا صلةَ له بوحي السماء ورسالات الأنبياء. يجب الإيمان والتَّصديق بالكتب الَّتي أنزلها الله على أنبيائه ورسله وهذا جزءٌ أساسٌ في عقيدة المسلم، ونعني بهذه الكتب، الَّتي تنزَّلت حقيقةً على الأنبياء والمرسلين، وليس تلك الكتبُ الَّتي سطَّرتها عقول البشر، وتناولتها الأيدي بالوضع وفق الأهواء، فلا يصحُّ إيمان المؤمن إلا بالتَّصديق بما أنزله الله فعلاً، قال تعالى: {وَالَّذينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} [البقرة:4]. وقال تعالى: {آمَنَ الرَّسول بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة:285]. وفي حديث جبريل -عليه السلام- حينما سألَ رسولَ الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- عن الإيمان، قال: ((أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ)). فالإيمان بالكتب المنزلة، جزءٌ من عقيدة المسلم، فكما أنَّ الله -سبحانه وتعالى- أنزل القرآن على رسوله -صلَّى الله عليه وسلَّم-، فقد أنزل الكتب على من سبقه، وقد ذُكِر في كتاب الله بعضٌ منها، فيجب الإيمانُ بها، وما لم يذكره اللهُ في كتابه العزيز، فليس بواجبٍ على المسلم التَّصديقُ به، وقد عدّ -سبحانه- أنَّ إنكار نزول الكتب كفرٌ، قال تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيداً} [النساء:136]. وممَّا جاء ذكره من الكتب السماويَّة في القرآن الكريم، ما يلي: 1 - صحف إبراهيم -عليه السلام-، وقد أشار الحق -سبحانه وتعالى- إليها، وإلى ما نزل على موسى، قال تعالى: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذي وَفَّى}

[النجم:26 - 27]. وقال تعالى: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى:18 - 19]. 2 - التَّوراة الَّتي نزلت على موسى -عليه السلام-، قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} [المائدة:44]. 3 - الزَّبور، الَّذي أُنزل على داود -عليه السَّلام- قال تعالى: {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً} -أي كتاباً-[الإسراء:55]. 4 - الإنجيل الَّذي نزل على عيسى -عليه السلام- قال تعالى: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الأِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ * وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْأِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47،46]. هذه الكتب السَّماويَّة، الَّتي ورد ذكرُها في القرآن الكريم، يجب الإيمانُ بما أخبر الله عنها، ونسكت عمَّا لم يذكره الله، قال تعالى: {كَانَ النَّاس أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاس فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة:213]. وفي إشارةٍ صريحةٍ إلى أنَّ إنزال الكتب، هو أساسٌ جوهريٌّ لرسالات الأنبياء والمرسلين، تأييداً لهم وشرحاً للشَّريعة والأحكام، سواءً ما ذُكر من الأنبياء والكتب، وما لم يذكر منهما، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} {الحديد:26].

ولقد ورد مصطلح أهل الكتاب، في القرآن الكريم، إحدى وثلاثين مرَّةً، على سبيل الخبر والطَّلب، وورد نفسُ الإيتاء بتصرفاته المختلفة مثل: {أُوتُوا الْكِتَابَ} {آتيناهم} ونحوها، وجاء في أربعة مواضع بلفظ: "الميراث" مثل: {أُورِثُوا الْكِتَابَ}، (راجع المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم). فأهلُ الكتاب هم اليهود والنَّصارى، وهم المخاطبون في القرآن الكريم، منذ بعثة الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- إلى يوم القيامة، وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} [الأنعام:156]. قال عليُّ بن أبي أبي طلحة، عن ابن عباس، وذكره مجاهدٌ وغيرُه: هم اليهود والنصارى. وكذلك حدَّد الرَّسولُ -صلَّى الله عليه وسلَّم- أهلَ الكتاب بأنَّهم اليهود والنصارى، فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا فِي جُحْرِ ضَبٍّ لَاتَّبَعْتُمُوهُمْ.)) قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، آلْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: ((فَمَنْ؟)) رواه الشَّيخان. وجاء في "صحيح مسلم"، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، عن رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- أنه قال: ((أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ مِنْ قَبْلِكُمْ: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا، بَلْ قُولُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.)) قَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِير. ولقد سمَّى الله -تبارك وتعالى- اليهود والنَّصارى أهلَ الكتاب، ولم يُسَمِّهم "مسلمين"؛ وذلك لبعدهم عن ملة إبراهيم -عليه السلام- ولعدم تصديقهم برسالة محمَّد -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [البقرة:130].

حقيقة ما بين يدي أهل الكتاب -اليهود والنصارى- من التوراة والإنجيل الآن وما ينبغي أن يكون عليه موقف المسلمين من كل منهما.

وقال تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران:67]. وقد نفى القرآنُ الكريمُ نفياً قاطعاً، صلةَ أبي الأنبياء إبراهيم -عليه السَّلام- باليهوديَّة أو النَّصرانيَّة، وساق حُجَّة ودليلاً عقلياً على ذلك، وهو نزول التَّوراة والإنجيل من بعده -عليه الصَّلاة والسَّلام- قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالأِنْجِيلُ إِلا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [آل عمران:65]. حقيقة ما بين يدي أهل الكتاب -اليهود والنصارى- من التوراة والإنجيل الآن وما ينبغي أن يكون عليه موقف المسلمين من كل منهما. تحدَّث القرآن الكريم باستفاضةٍ عن أهل الكتاب، وعمَّا بين أيديهم من الكتب، ونتناول في هذا المبحث ثلاثَ مراحل تتابعت وتطوَّرت، على الكتب السَّماويَّة، وذلك على النَّحو التَّالي: المرحلة الأولى: تلك المرحلة الَّتي تلقَّى فيها نبيَّا الله موسى وعيسى -عليهما السَّلام- الوحيَ من الله، فتنزلت التَّوراةُ على موسى، والإنجيلُ على عيسى، وكانا كلاماً من الله خالصاً، لم يُخالطْه كلامٌ من أيِّ الرَّسولين، ولم تمتدَّ إليهما يدٌ بالتَّغيير أو التَّحريف، وظلَّ ذلك في حياتهما، وإبَّانَ بِعثتهما وردحاً من الزَّمن، وقد ذكر القرآن الكريم أنَّ التَّوراة والإنجيل، كشأن الكتب السماويَّة، هي كلام الله المنزل على رسله، تأييداً لهم وتأكيداً على رسالتهم، قال تعالى: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ

يُؤْمِنُونَ} [الأنعام:184]. وقال تعالى: {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [البقرة:53]. فالكتاب هو التَّوراة، وسمَّاه الله فرقاناً؛ لأنَّه فرق بين الحقِّ والباطل، فاجتمع مع القرآن الكريم في هذا الاسم، قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان:1]. قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} [المائدة:144]. فهذا وصفٌ للتَّوراة، وبيان: أنَّ الرَّبَّانيِّين والأحبار قد أُمروا بالمحافظة عليها، وكانوا شهداء أنَّها من كلام الله، وليست من كلام موسى -عليه السلام-، وكذلك الشَّأنُ في الإنجيل المنزَّل على عيسى -عليه السلام-؛ فهو كلامُ الله، لا دخل له فيه بزيادة حرف أو نقصانه، قال تعالى: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْأِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ * وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْأِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:46 - 47]. وبَيَّنَ القرآن الكريم أنَّ عيسى -عليه السلام- بجانب نزول الإنجيل عليه، كان على علم بالتَّوراة الَّتي أنزلت على موسى، قال تعالى: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالأِنْجِيلَ} [آل عمران:48]. ولقد امتنَّ الله وتفضل عليه واختصَّه بما جاء في قوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاس فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالأِنْجِيلَ} [آل عمران:110].

فهذه بعضٌ من آياتٍ كثيرة، توضِّحُ أنَّ التَّوراة والإنجيل المنزَّلين على موسى وعيسى -عليهما السَّلام- هما من كلام الله، ولا دخلَ لهما فيهما إلا بالبلاغ والبيان. وقد بيَّن القرآنُ الكريم أنَّ أهل الكتاب، لو حافظوا على ما تَحتَ أيديهم من كلام الله، وآمنوا بما أُنزل على محمَّد -صلَّى الله عليه وسلَّم-؛ لتبدَّلت أحوالُهم ولعمَّ البِشرُ والخيرُ الإنسانيَّةَ كلَّها، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} [المائدة:65 - 66]. وقد أنصف القرآن الكريم بعضاً من أهل الكتاب، ظلُّوا على الحقِّ وتمسَّكوا به وعرفوا الحقيقة، فالتزموا بها ولم يتناولوا ما أُُنزل على موسى وعيسى -عليهما السلام- بما تناوله غيرهم، وهؤلاءِ وإن كانوا قلَّةً من بين أهل الكتاب، إلا أنَّه لا يخلو منهم عصرٌ من العصور، قال تعالى عن بعض أهل الكتاب الَّذين ظلُّوا على الحقِّ: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} [آل عمران:113 - 115]. هذه هي المرحلة الأولى الَّتي نزلت فيها التَّوراة والإنجيل، وقد وضَّح القرآنُ الكريم معالمَ وملامح هذه المرحلة، ونوجزها في النقاط التَّالية: أولاً: إنَّ التَّوراة والإنجيل في هذه الفترة، ولا سيما في حياة الرَّسولين كانتا وحياً وكلاماً من الله، شأنها شأن جميع الكتب المنزلة ومنها القرآن الكريم. ثانياً: لم يدَّعِ أحدٌ من النَّبيِّين أنَّ ما بين أيديهما من التَّوراة والإنجيل، هو من كلامهما.

ثالثاً: أنَّ أتباع الرَّسولين من الحواريِّين كانوا يعرفون حقَّ المعرفة أنَّ التَّوراة والإنجيل، من كلام الله، وأُخذ عليهم الميثاق بذلك، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:187]. رابعاً: أنَّه في هذه المرحلة، كان الإسلام هو الصبغةُ الَّتي اصطبغ بها أهلُ الكتاب، قال تعالى: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:52 - 53]. خامساً: خلت التَّوراة والإنجيل في هذه الفترة، من كل ما يُسيءُ إلى ذات الله -سبحانه وتعالى- أو الانتقاص من قدر الأنبياء والمرسلين أو الافتراء عليهم. سادساً: تضمَّنت التَّوراة والإنجيل بين ثناياهما، بيانَ صفاتِ الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- والتَّبشير ببعثته، وأخذ الله العهد على أتباعهما، قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسول النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ ... } اليَّة [الأعراف:156 - 157]. وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الصف:6]. سابعاً: هذه المرحلةُ لم تدم طويلاً، إذ إنَّها انتهت بانتهاء حياة موسى ورفع عيسى -عليهما السلام-، هذا بجانب أنَّ الله تعالى لم يتكفَّل بحفظ التَّوراة والإنجيل، كما تكفَّل بحفظ القرآن الكريم، وكلِّ ما يتصل به من السُّنَّة النَّبويَّة واللُّغة العربيَّة. فامتدت الأيدي للتَّوراة والإنجيل بالتَّغيير والتَّحريف، كما سنوضحه في المبحث التَّالي.

مراحل الكتابين (التوراة والإنجيل) أولا اليهود.

مراحل الكتابين (التوراة والإنجيل) أولا اليهود.

مراحل الكتابين (التَّوراة والإنجيل) أولاُ اليهود أولاً: اليهود: لقد منَّ الله على اليهود برسالة موسى -عليه السلام- حتى أنقذهم المولى -سبحانه وتعالى- على يده من بطش فرعون وظلمه، قال تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [الأعراف:137]. وأجرى الله لهم، على يد موسى -عليه السلام- الكثيرَ من النِّعَم، ومنحهم من الفضل، ما لم يعطه -سبحانه وتعالى- لأمَّةٍ من قبلهم، قال تعالى: {يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة:40]. غير أنَّ أسباطَ بني إسرائيل، لم يكونوا أوفياءَ للعهد، وهذه طبيعتُهم منذ غدرهم بأخيهم يوسُف بن يعقوب بن إبراهيم -عليهم جميعاً الصَّلاة والسَّلام-، ظهر هذا واضحاً، خلال مواقفهم التَّالية، من موسى -عليه السلام-: 1 - طلبوا منه -عليه السلام- بمجرَّد تجاوزهم البحر ونجاتهم من فرعون، أن يجعل لهم آلهةً، كآلهة الأمم الوثنيَّة من حولهم، وقد أخبر القرآن الكريم عن ذلك. 2 - طلبوا من موسى -عليه السلام- أن يُرِيَهُم اللهَ جهرةً. 3 - انتهزوا َفترة ذهاب موسى لمناجاة ربِّه، والَّتي دامت أربعين يوماً، فأضلَّهم السامريُّ، واتخذ من حُلِيِّهِم عجلاً جسداً، انكبُّوا على تأليهه وعلى عبادته.

اليهود والتوراة.

4 - تنكَّروا لموسى -عليه السَّلام- وجحدوا نجاتهم على يديه، وزعموا أنهم أوذوا من قبله ومن بعده. 5 - خِذلانهم له -عليه السلام- وقعودُهم عن نصرته في دخول الأرض المقدَّسة، وقد وصفهم الله بقسوة القلوب، وظمئهم إلى القتل وسفك الدِّماء، قال تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة:74] ولقد امتدت تلك القسوة لتنال أنبياءهم، فقتلوا كثيراً من الرُّسل، منهم زكريَّا ويحيى، وحاولوا قتل عيسى -عليه السلام- كما حاولوا أكثر من مرة قتلَ رسولِ الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال تعالى عنهم: {إِنَّ الَّذينَ يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاس فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران:21]. هذا هو حالُ اليهود مع موسى -عليه السلام، ومع العديد من أنبيائهم. اليهود والتَّوراة إنَّ التَّوراة الَّتي أنزلها الله على موسى -عليه السلام- قد ضاعت أصولُها، وفُقدت نصوصُها، لعوامل كثيرةٍ، منها: 1 - أنَّ الله تعالى لم يتكفَّل بحفظها، كما تكفَّل بحفظ القرآن الكريم، فتُركت لعوادي الزمن ولتقلبات الأيام، فطواها النسيان، وأزيلت معالمها. 2 - أنَّ اليهود بعد طول العهد بموسى -عليه السلام- وانقطاعِ صلتهم بالتَّوراة وتوافقاً مع طبائعهم المنحرفة؛ قاموا بوضع كتاب لهم نسبوه إلى موسى -عليه السلام- وأخذوا يزيدون فيه وينقصون حسب ما تمليه عليهم عقولُهم الضَّالَّة، قال تعالى: {مِنَ الَّذينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [النساء:46].

3 - كان للأحداث التَّاريخيَّة الَّتي عصفت باليهود ومزَّقتهم شرَّ ممزق، حيث سُلِّط عليهم خلال التَّاريخ مَن أذاقهم الذُّلَّ والهوان، مصداقاً لقوله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف:167 - 168]. ولقد كان لتلك الأحداث المتعاقبة، أثرٌ بالغٌ في ضياع التَّوراة، وفقدان أصولها ونصوصها المنزلة من عند الله، ولا سِيَّما في أعقاب الأسر البابليِّ لهم عام (586 ق. م)، في عهد ملك بابل بختنصر. وظهر خلال فترة الأسر، في بابل، كاهنٌ وكاتبٌ يهوديٌّ يُسمى عزرا الَّذي عاصر عفوَ الملك الفارسي (قورش) عن اليهود، وقد أذن لهم بالعودة إلى فلسطين، فلما رأى عزرا أنَّ القوم أُحرِق هيكلُهم، وزالت دولتهم، وتفرَّق جمعُهم، ورفع كتابهم؛ جمع من محفوظاته، ومن الفصول الَّتي يحفظها الكهنةُ ما لفَّق منه هذه التَّوراة التَّي بأيديهم الآن، فهذه التَّوراة الَّتي بأيديهم على الحقيقة كتابُ عزرا، وليس كتاب الله. هذا التَّوضيح عن ضياع التَّوراة، ذكره السموأل بن يحيى، الَّذي كان من أحبار اليهود في القرن السادس الهجري، ثم أسلم وحَسُنَ إسلامه. وأكدت الدراسات الحديثة هذا، خاصةً ما ذكره موريس بوكاي، في كتابه: "دراسة الكتب المقدسة، في ضوء المعارف الحديثة"، وهكذا امتدَّت الأيدي لتصنع ما يروقُ لها، وابتدأت فئةٌ من الكتبة الَّذين كانوا يُعرَفون بالفريسيين، وهم الَّذين حملوا بعد ذلك اسم الحاخامات، أي معلمو الشَّريعة، ولقد تتابع هؤلاء الكتبة على الإضافة إلى التَّوراة، وإلحاق أسفار جديدة، حتى تكوَّن

لديهم ما يُسمى بالعهد القديم، وصار يبلغُ خمسة أضعافِ الأسفارِ الخمسة، المنسوبة إلى موسى -عليه السلام-: التَّلمود: وإلى جانب العهد القديم، طوَّر حاخاماتُ اليهود عبر القرون، تراثاً دينياً ضخماً، يعدُّونه الأصل الثاني في ديانتهم، وهو "التَّلمود" ويعني بالعبريَّة التَّعليم، ويتكون التَّلمود -حسب ما جاء في دائرة المعارف اليهوديَّة من جزئين أساسِيَّين: أحدهما: "المشناة" وهي مجموع المرويَّات الشَّفهيَّة المنسوبة إلى موسى -عليه السلام-، والَّتي يزعم الحاخاماتُ أنَّهم تناقلوها جيلاً بعد جيل، وقد شرع في تدوينها الحاخام "يوضاض" عام (150م)، ثم ضمَّها مع زياداتٍ أخرى أُلحقت بها الحاخام "يهوذا هاناس" عام (200م) تقريباً. الثاني: "جمارا" وهي شرحٌ لما استغلق فهمُه من المشناة، مع زيادات وتعليقات ابتدأها ابنا الحاخام "هاناس"، وتابعهم آخرون، وقد تنوَّعت "جمارا" إلى نوعين: -"جمارا أورشليم" أو فلسطين، صُنِّفَت في حدود (400م)، وقيل: (320م). -و "جمارا" بابل، صُنِّفت في حدود عام (500م) نسبةً إلى مواطن الشُّرَّاح. ومن ثم تنوَّع التَّلمود، إلى: تلمود أورشليم، وتلمود بابل. هذه نظرة شاملة، على مصادر الدِّيانة اليهوديَّة، وكتبها المقدَّسة لديهم، والَّتي تكشف بوضوح، عن انقطاع الصِّلة بين التَّوراة الَّتي أنزلها الله على موسى، وبين ما تحت أيدي اليهود من التَّوراة: "العهد القديم" والتَّلمود، وأنَّ ما بين

الدرس: 14 الأسس والدعائم التي تقوم عليها الدعوة إلى الله (4).

أيديهم الآن، لا يمُتُّ بصلةٍ إلى الوحي المنزل على موسى -عليه السَّلام-؛ إذ إنَّها تحتوي على أمورٍ تُناقض ما أنزله الله، وتضمُّ بين دفَّاتها أشياءً لا تليقُ بالذَّات الإلهيَّة، وتُسيء للأنبياء، ممَّا سنوضحه في المحاضرة القادمة، إن شاء الله. الدرس: 14 الأسس والدعائم التي تقوم عليها الدعوة إلى الله (4). بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الرابع عشر (الأسس والدعائم التَّي تقوم عليها الدَّعوة إلى الله (4)) 1 - تابع الأسس والدَّعائم الَّتي تقوم عليها الدَّعوة ما جاء في عقائد اليهود في حقِّ الله -تعالى- الحمدُ لله، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الخلق وخاتم الرسل، الَّذي حفظ الله دينه، وعصم حياته، وصان شريعته من التَّغيير والتَّحريف، وعلى آله وأصحابه والتَّابعين، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدِّين، السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: تمهيد: نُكمل ما بدأناه حول الأسس والدَّعائم، الَّتي تقوم عليها الدَّعوة إلى الله، ومن ذلك الإيمانُ بالكتب السَّابقة، حيث انتهى الحديثُ السَّابق عن التَّعريف بالتَّوراة الَّتي أُنزلت على موسى -عليه السلام-. وقد تبيَّن بما لا يدعُ مجالاً للشَّكِّ: أنَّ ما تحت يد اليهود، من نصوص العهد القديم، لا يمتُّ بصلةٍ إلى ما أنزله الله على موسى -عليه السلام-، وأنَّها كُتِبت أثناء الأسر البابلي لليهود (عام 586 ق. م) والقرون الَّتي بعد ذلك، وفي هذه المحاضرة -إن شاء الله- نُبيِّن ما يحمله "العهد القديم" من أمورٍ لا تليق بالذَّات الإلهيَّة، وتُسيء إلى أنبياء بني إسرائيل جميعاً، ولا يُعقل أن يصدُرَ ذلك في كتابٍ يزعم أصحابُهُ أنَّه مُقدَّس، وسوف نورد بعضَ النُّصوص ممَّا تحت أيديهم، وذلك على النَّحو التَّالي: لقد حفل "العهدُ القديمُ" و"التَّلمودُ"، بأمورٍ لا تَليق بالذَّات الإلهيَّة، وتتنافى مع ما يجبُ لله من صفاتِ الجلالِ والكمال، ومن ذلك: 1 - أكذوبةُ رؤية الله في الدُّنيا: لقد تحدَّث القرآن الكريم، عن طلب موسى -عليه السلام- من الله -سبحانه وتعالى- أن يراه، فلم ينلها، ولم يُطق تجلِّي الحق -تبارك وتعالى- للجبل، وخرّ مغشياً عليه، قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ * قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاس بِرِسَالَّتي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف:143 - 144]. مع هذا، فقد تجرَّأ اليهود في حياة موسى -عليه السلام-، وطلبوا منه رؤية الله؛ فأخذتهم الصاعقة، قال تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [البقرة:55].

ورغم ذلك، فقد جاء في سفر الخروج، من "العهد القديم": "ثم صعد موسى وهارون وناداب، و .. وسبعون من شيوخ بني إسرائيل، فرأَوا إلهَ إسرائيل، وتحت رجليه صنع بلاط سفير أشبه بالسماء نفسِها نقاءً، وعلى أعيان بني إسرائيل هؤلاء، لم يمدَّ يدَه، فرأوا الله وأكلوا وشربوا -تعالى الله عما يفترون علوَّاً كبيراً-". وكذلك الشَّأن فيما نسبوه ليعقوب -عليه السلام-، ولرؤيته لله والإمساك به، فلم يَدعه حتى سمَّاه إسرائيل وأعطاه النُّبوَّة والرِّسالة. 2 - فرية وأكذوبة وصفه -سبحانه وتعالى- بالنَّدم، تعالى الله عما يقولون علوَّاً كبيراً: جاء في "سفر التَّكوين": "فندم الرَّبُّ، على أنه صنع الإنسانَ على الأرض، وتأسَّف من قلبه، فقال الرَّبُّ: أمحو عن وجه الأرض الإنسانَ الَّذي خلقتُ، الإنسان مع البهائم والزِّحافات وطيور السَّماء؛ لأنّي ندمت على صنعتهم". (سفر التَّكوين 6/ 6،العهد القديم ص77،78) أما التَّلمود فيُفرِق كاتبه في الإسفاف والتَّفريط في وصف الله -تعالى- بما لا يليق، فيقول: "يتندَّم الله على تركه اليهود، في حالة من التَّعاسة، حتى إنَّه ليلطم ويبكي كلَّ يوم؛ فتسقط من عينيه دمعتان في البحر، فيٌسمع دويُّهما من بدء العالم إلى أقصاه، وتضطرب المياه، وترتجف الأرضُ في أغلب الأحيان، فتحصل الزَّلازل". 3 - فريةُ وصف الله -سبحانه وتعالى- بالتَّعب -تعالى وتنزَّه عمَّا يقولون-: جاء في "سفر التَّكوين": "وانتهى الله في اليوم السَّابع، من عمله الَّذي عمله، واستراح في اليوم السَّابع".

افتراؤهم على أنبياء الله ورسله.

وقد كشف الله وفضحَ افتراءاتِهم وأكاذيبَهم؛ فقال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38] أي: تعب ومشقة. وهذا قليلٌ من كثيرٍ، طَفَحَ به ما يُسَمَّى بالكتاب المُقدَّس، وبينه وبين القداسة بون شاسع وفرق كبير، كالفرق بين الثَّرى والثُّرَيَّا. افتراؤهم على أنبياء الله ورسله لم يَسلم الأنبياءُ والمرسَلون من ألسنة اليهود، وافترائها عليهم، وذلك بإلصاق أشنع الأفعال بهم، ممَّا يتنافى مع عصمة الأنبياء وكمال أخلاقهم، وممَّا جاء في ذلك: 1 - ما نُسب إلى نوح -عليه السلام- فقد جاء في "سفر التَّكوين": "وابتدأ نوحٌ حارث الأرض يغرس الكرم، وشربَ الخمر، فَسَكِرَ، وتكشَّف داخل خيمته". وصدق الله وكذب اليهود، قال -تعالى- عن نوح: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً} [الإسراء:3]. 2 - إبراهيم -عليه السلام- يُصوِّرُه "سفر التَّكوين" باذلاً عرض زوجته "سارة" لرؤساء الفراعنة، حين قدومه إلى مصر، لتحقيق مطامع دنيويَّة، فممَّا جاء في "العهد القديم": "فلمَّا قاربَ أن يدخل مصر، قال لسارا امرأته: أنا أعلمُ أنَّكِ امرأةٌ جميلةُ المنظر، فيكون إذا رآك المصريُّون أنَّهم يقولون: هذه امرأتُه؛ فيقتلونني ويُبقونَك على قيد الحياة، فقولي: إنَّك أختي، حتى يُحسَنَ إليّ بسببك، وتحيا نفسي بفضلك،

فأُحسِن إلى أبرام بسببها، فصار له غنمٌ وبقرٌ وحمير وخدام وخادمات وحمائر وجمال". فحاشا لنبيِّ الله إبراهيم، خليلِ الرَّحمن، والَّذي لم يخشَ إلقاءه في النّار، أن يحتميَ بزوجته أو أن يرضى السُّوءَ في أهله. 3 - لوط -عليه السلام- وأهلُ بيته المؤمنون، يقلب "الكتابُ المقدَّس" الحقائق رأساً على عقب، فلا يتناول بكلمة واحدة قدحاً أو ذمَّاً في شأن زوجته، الَّتي تابعت قومها وتركت لوطاً، وإنَّما يقلب الحقائق، ويصف لوطاً -عليه السَّلام- بما يستحيلُ، عقلاً ومنطقاً وديناً، أن يصدُر عن الأنبياء. يُصوِّر "سِفر التَّكوين" من "العهد القديم" لوطاً -عليه السَّلام- بأنَّه -والعياذُ بالله- ارتكبَ جريمة الزِّنا بابنتيه، وجاء في ذلك ما يعفُّ اللِّسانُ عن ذكره، ويُمسك القلم عن تناوله، وقد شهد أعداءُ لوط له ولآل بيته بالطُّهر، كما ذكر ذلك القرآنُ الكريم في قوله تعالى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل:56]، فإذا كان قومُ لوط قد وصفوه بالتَّطهُّر والعفاف، فكيف يأتي اليهود ويصفونه بهذه الصفة القبيحة!؟ 4 - موسى -عليه السلام- لم يسلم من سوء ألسنتهم، فمع ما أجراه الله لهم على يديه، من فضلٍ عميم وخيرٍ كثير، فقد تذمَّروا عليه، وضاقوا به ذرعاً، فجاء في "سفر الخروج" من "العهد القديم": "فتذمَّرت جماعةُ بني إسرائيل كلِّها، على موسى وهارون في البرِّيَّة، وقال لهما بنو إسرائيل: ليتنا متنا بيد الرَّبِّ في أرضِ مِصرَ، حيثُ كُنَّا نجلس عند قدور اللَّحم، ونأكل من الطَّعام شِبعانَ، في حين أنَّكما أخرجتمانِنا إلى هذه البرِّيَّة؛ لتُميتا هذا الجمهور كلَّه بالجوع".

5 - هارون -عليه السلام- نَسب إليه "سفرُ الخروج" الضلوع في صناعة العجل الَّذي عبدته بنو إسرائيل، فقد جاء: "ورأى الشعبُ أنَّ موسى قد تأخَّر في النُّزول من الجبل؛ فاجتمع الشعبُ على هارون، وقالوا: قم فاصنع لنا آلهةً تسير أمامنا؛ فإنَّ موسى ذلك الرجل الَّذي أصعدنا من أرض مصر، لا نعلم ماذا أصابه، فقال هارون: انزَعوا حلقات الذَّهب الَّتي في آذان نسائكم وبنيكم وبناتكم وآتوني بها؛ فنزع كلُّ الشعب حلقاتِ الذَّهب الَّتي في آذانهم، وأتَوا بها هارونَ فأخذها وصبَّها في قالَب وصنعها عجلاً مسبوكاً، فقالوا: هذه آلهتك يا إسرائيل الَّتي أصعدتك من أرض مصر، فلما رأى هارون ذلك، بنى مذبحاً أمام العجل، ونادى قائلاً: غداً عيدٌ للرَّبِّ، فبكِّروا في الغدوِّ، وأصعدوا محرقات وقربوا ذبائح سَلاميَّة، وجلس الشعب يأكل ويشرب ثم قام يلعب". ولقد برَّأ القرآن الكريم هارونَ مما افترَوه عليه، قال تعالى: {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي} [طه:90]. 6 - داود -عليه السلام- يصفُه سفر صموئيل الثاني بوصفةٍ شنيعةٍ وعملٍ منحطٍّ: أنَّه تآمر على قائده "أوريا" الحيثيِّ؛ ليتزوَّج بزوجته؛ فأرسل به إلى جبهة القتال، وحمّله كتاباً فيه "ضعوا" أوريا حيث يكون القتال شديداً وانصرفوا من ورائه، فيضرب ويموت". فهل هذا يليق بنبيِّ الله داود الَّذي وصفه القرآن الكريم بقوله تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالأِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ * وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص:17 - 20]. هذا هو نبيُّ اللهِ داود في القرآن الكريم، فأين ذلك ممَّا ذكرته التَّوراة المزعومة؟

ما يتعلق بحقيقة الأناجيل التي بين يدي النصارى.

كذلك لم يسلم عيسى عليه السلام وأمُّه من ذلك، قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة:79]، ممَّا سبق يتَّضح تمام الإيضاح، أنَّ التَّوراة الموجودة بين أيدي اليهود، قد أملاها انحراف الفكر، وضلال العقيدة، واتِّباع الهوى: قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية:23]. ما يتعلق بحقيقة الأناجيل التي بين يدي النصارى أرسل اللهُ عيسى -عليه السَّلام- برسالة التَّوحيد، شأنُه شأنُ جميع الأنبياء والمرسلين، وكان -عليه السلام- آخرَ حلقةٍ في سلسلةِ أنبياء بني إسرائيل، قال تعالى: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الأِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ * وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الأِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:46 - 47]. وقال تعالى عنه -عليه السلام-: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالأِنْجِيلَ * وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُمْ

بَعْضَ الَّذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [آل عمران:48 - 51]. فهذه الآياتُ والَّتي قبلها، وكذلك كلُّ ما جاء في القرآن عن عيسى -عليه السلام- يوضح ويُبرز الحقائقَ التَّالية: 1 - أنَّه -عليه السلام- أُرسل لبني إسرائيل خاصَّةً، لتصحيح ما انحرف في عقائدهم، ولتقويم ما ابتعدوا عنه من شريعة موسى -عليه السلام-. 2 - أنَّ الله -سبحانه وتعالى- أنزل على عيسى -عليه السَّلام- الإنجيلَ، وهو كلامُ الله كشأن كلِّ الكتب المُنزلة على رسله، وبجانب نزول الإنجيل فقد علَّمه اللهُ التَّوراةَ الَّتي أُنزلت على موسى، لكي يُبَيِّنَ لليهود أنَّ ما بين أيديهم لا يمُتُّ بصلةٍ لكلام الله، وإنَّما هو من وضع أحبارهم. 3 - أنَّ الدِّين الَّذي جاء به عيسى -عليه السَّلام- هو الإسلامُ الَّذي يقومُ على نفس الأسس والقواعد الَّتي جاءت بها رسلُ الله وأنبياؤه من لدن آدم -عليه السَّلام-. 4 - أنَّ عيسى -عليه السَّلام- لم يدَّعِ لنفسه وضعاً مميَّزاً أو مكانةً خاصَّة، تختلف عن مكانة إخوانه من الأنبياء والمرسلين، وإنَّما هو عبدُ الله ورسولُه. 5 - أنَّ الإنجيل الحقَّ المُنزل على عيسى -عليه السَّلام- قد حمل بين ثناياه، كما حملت التَّوراةُ التَّبشيرَ برسالة محمَّد -صلَّى الله عليه وسلَّم-. 6 - وصف اللهُ الإنجيلَ بأنَّه هدىً ونورٌ، كشأن كلِّ الكتب المنزلة على الأنبياء السَّابقين. 7 - أمر اللهُ بني إسرائيل أن يحكموا وفق ما أنزله الله على موسى وعيسى -عليهما السلام-.

موقف الناس من عيسى -عليه السلام-.

8 - أنَّ عيسى -عليه السلام- نفى نفياً قاطعاً ما اعتقده النَّصارى في بُنوَّته لله أو ألوهيَّته، وتَبرَّأ من ذلك، وجعل الله -تبارك وتعالى- من أمارات السَّاعة الكبرى أن ينزل -عليه السلام- فيكسرَ الصَّليب ويقتلَ الخنزير، وهذا ما أخبر به الصَّادق المصدوق محمَّدٌ -صلَّى الله عليه وسلَّم- فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدلَاً، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ، وَيَفِيضَ الْمَالُ حَتَّى لَا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ، وتكون السَّجدة واحدةً لله ربِّ العالمين)). قال أبو هريرة: "اقرؤوا إن شئتم: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} [النِّساء:159] " رواه الشَّيخان. موقف النَّاس من عيسى -عليه السلام انقسم النَّاس في شأن عيسى -عليه السلام- إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: قومٌ كفروا به وناصبوه العداء، وهم عتاةُ اليهود الَّذين عادَوه وكذَّبوه ورمَوه وأمَّه بالبهتان العظيم، ووشَوا به إلى الحاكم الرُّومانيِّ، وعمدوا إلى محاولة قتله وصلبه، ولكنَّ الله أنقذه من أيديهم، قال تعالى: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً * وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً * وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} [النساء:156 - 159].

وقد استمرَّ عداءُ هذه الفئة، ويؤازرهم في العدوان الرُّومان، حتى اعتناق الإمبراطور الرُّوماني "قسطنطين" الدِّيانةَ النَّصرانيَّة عام 317م. القسم الثَّاني: جماعةٌ آمنوا به -عليه السَّلام- وصدَّقوا بما أنزله اللهُ عليه، واحتملوا صنوف الأذى الَّتي لحقت بهم، سواء من الرُّومان أو من الَّذين انحرفوا عن الدِّين الحقِّ، وغيّروا وبدلوا، قال الله -تعالى- عن أولئك المؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف:14]. ويصف "سفر أعمالِ الرُّسُل" من "إنجيل لوقا" أحوالَ الحواريِّين، فقال: "وكانوا يواظبون على تعاليم الرُّسل، والمشاركة، وكسر الخبز، والصَّلوات، وكان جميعُ الَّذين آمنوا جماعةً واحدة، يجعلون كلَّ شيءٍ مشتركاً بينهم، يبيعون أملاكهم وأموالهم، ويتقاسمون الثَّمنَ على قدر احتياج كلٍّ منهم، يُلازمون الهيكلَ كلَّ يومٍ بقلبٍ واحد". وهؤلاء هم الَّذين تحدَّث عنهم القرآن الكريم، في قوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * فَأَمَّا الَّذينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ * وَأَمَّا الَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * َذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ * إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [آل عمران:55 - 59].

غير أنَّ هذه الفئة الَّتي آمنت بعيسى -عليه السلام- وصدَّقت بما أُنزِل عليه من الله، ولم تغلُ غلوَّ غيرهم، لم تصمد أمام تلك الجماعة الَّتي تزعمها بولس "شاول" اليهوديُّ، الَّذي تحالف مع الوثنيَّة الرُّومانيَّة، الَّتي استأصلت هؤلاء الموحِّدين، ونبذتهم المجامعُ النصرانيَّة، وقضى عليهم الاضطهادُ الكَنَسيُّ، ولم يبقَ منهم سوى أفرادٍ قلائل، كانوا يمثِّلون حقيقةَ رسالة عيسى -عليه السلام-، إلا أنَّ صوتهم كان خافتاً ضعيفاً، وضاع وسط الأعاصير والعواصف. القسم الثالث: الَّذين غلَوا فيه ورفعوه فوق منزلته الَّتي أنزله الله إياها، وهي العبوديَّة والرِّسالة، وبالغوا في إطرائه، حتى انتقلوا به من مصاف البشريَّة إلى مرتبة الألوهيَّة، -والعياذ بالله- وذلك إمَّا بسبب الانبهار بما أجرى الله على يديه من معجزات خارقة، (كولادته -عليه السلام- من غير أبٍ، وكالآيات الأُخرى الَّتي جاء ذكرُ بعضها في القرآن الكريم)، وإمَّا بسبب دسائس اليهود الكافرين الحاقدين، ليُفسدوا ما جاء به عيسى -عليه السَّلام- كما أفسدوا ديانة موسى وديانة أنبياء بني إسرائيل جميعاً، ولقد تولَّى كبر هذا الانحراف والإفساد "بولس الرَّسول" وكان من عتاة اليهود، عاصر عيسى -عليه السلام- غير أنَّه لم يلتقِ به، وكان خصماً عنيداً لرسالته -عليه السلام-، وأنزل بالحواريِّين ويلاتِ الاضطهاد والعذاب، وفجأةً تحوَّل إلى النَّصرانيَّة، وصار من أشدِّ المتحمسين لها، غير أنَّه انتهج خَطَّاً مخالفاً للدِّين الحقِّ، وأحدث شرخاً عظيماً في الدِّين النَّصرانيِّ، فزلزل أركانه، وقلبَ عقائده رأساً على عقب، وانتقل به من دينٍ خاصٍّ لبني إسرائيل، وعلى شريعة موسى، إلى ديانةٍ ممتزجةٍ بالوثنَّات والثَّقافات الأمميَّة المعاصرة؛ فدبَّ الشِّرك في أوصالها، وسرت في جنباتها فلسفاتٌ قديمة، وديانات ومعتقدات وثنيَّة، كان من معالمها وملامحها القضايا التَّالية:

أولاً: التَّثليث: وهو يمثل جوهر عقيدة النَّصارى في الألوهيَّة، ويُصوِّرون هذا المعتقد بقولهم: طبيعةُ الله ثلاثةُ أقانيم متساوية: اللهُ الأب، والله الابن، والله الرُّوح القدس، فإلى الأب ينتمي الخلق بواسطة الابن، وإلى الابن ينتمي الفداء، وإلى الرُّوح القدس ينتمي التَّطهير، وقد أشار القرآن الكريم إلى بطلان هذا المعتقد، قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة:73]. ث انياً: الدَّينونة: يعتقد النصارى أنَّ المسيح -عليه السلام- هو الله الابن، ويُحاسب النَّاس على خطاياهم. ثالثاً: الصَّلب: يعتقد النَّصارى أنَّ المسيح -عليه السلام- قد صُلب فداءً للخليقة، وتكفيراً عن الخطيئة الَّتي ارتكبها آدم أبو البشر وورثها لأبنائه من بعده. والنَّصارى مختلفون في الطَّريقة الَّتي تم بها الصَّلب، والقرآنُ الكريم يدحض هذا الزَّعم كليَّةً، فيقول: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} [النساء:157 - 158]. رابعاً: التَّعميد: هو الانغماس في الماء، أو رش الشَّخص باسم الأب والابن وروح القدس؛ تعبيراً عن تطهير النَّفس من الخطايا والذُّنوب. خامساً: الاعتراف: وهو البَوح بكل ما يقترفه الإنسان من ذنوب وآثام، إلى رجل الدِّين، ويدَّعون أنَّ ذلك يُسقط العقوبة، ويطهر الذُّنوب.

حقيقة الأناجيل التي بين يدي النصارى.

سادساً: العشاء الرَّبَّانيُّ: يدَّعي النَّصارى أنَّ المسيح -عليه السلام- جمعَ الحواريِّين في اللّيلة الَّتي سبقت صلبه، وأنَّه وزَّع عليهم خبزاً كسره بينهم وخمراً، وأنَّ الخمر يُشير إلى دمه، والخبز إلى جسده. سابعاً: الاستحالة: يعتقد النصارى أنَّ من أكل الخبزَ وشربَ الخمرَ في يوم عيد الفصح؛ استحالَ فيه، وأصبح كأنَّه أدخل في جوفه لحمَ المسيح ودمه، وأنَّه بذلك امتزج بتعاليم المسيح. حقيقة الأناجيل التي بين يدي النصارى. هذه المعتقداتُ لم تردْ في دينٍ من الأديان السَّماويَّة، ولم يتحدَّث بها نبيٌّ من الأنبياء، ولم يوحِ الله -سبحانه وتعالى- في كتبه المنزلة، وإنَّما حفلت بها عدة أناجيل تمَّ وضعُها فيها بأيدٍ بشريَّة، كما سنوضِّحه: من الأمور الَّتي قرَّرها القرآن الكريم، أنَّ اللهَ قد أنزل على عيسى -عليه السلام- "الإنجيل"، ووصفه الحقُّ -تبارك وتعالى- بما وصف به الكتب المنزلة. هذا الإنجيل، وهو كلام الله المنزل على عيسى -عليه السَّلام- فُقد بعد رفعه -عليه السَّلام- وضاعت معالمُه، واندثرت آثاره، ولحقَ به ما لحق بالتَّوراة؛ لأنَّ الله لم يتكفَّل بحفظ أيٍَّ منهما، هذا بجانب ملاحقة اليهود والرُّومان للحواريِّين، والتَّنكيل بهم ومطاردتهم، ممَّا كان عاملاً على فقدان الإنجيل الحقِّ، وأن الَّذي بين أيدي النَّصارى الآن من الاناجيل المتعدِّدة، والَّتي وصلت إلى سبعين إنجيلاً، اتُّفِق على أربعةٍ منها في مؤتمر "نيقيَّة" (عام 317م)، وهذه الأناجيل الأربعة لا تمت بصلَةٍ إلى وحي السَّماء، الَّذي أنزله الله على عيسى -عليه السلام-.

ويُلاحظ على هذه الأناجيل ما يلي: أولاً: أنَّ هذه الأناجيل، ليست من كلام الله، لا حقيقةً ولا مجازاً، وأنَّ عيسى -عليه السَّلام- لم يقم بإملاء نص مكتوب هو "الإنجيل"، بل تمَّ حفظُ تعاليمه وأقواله عن طريق الحفظ في صدور الحواريِّين فقط، وقد بدأ التَّدوينُ كسيرة، لا كوحيٍ سماويٍّ، بعد النِّصف الثَّاني من القرن الأول الميلاديِّ. ثانياً: باعتراف علماء النَّصارى، أنَّ واضعي هذه الأناجيل، ليسوا جميعاً من تلاميذ المسيح الَّذين لازموه وتلقَّوا منه مباشرةً، ونقلوا عنه بالسند المتَّصل، فأهمُّ هذه الأناجيل وأوَّلُها في التَّرتيب لدى الكنيسة "إنجيل متَّى" المنسوب إلى أحد الحواريين، وقد دار جدلٌ حول صحة نسبة الإنجيل إليه. يقول موريس بوكاي: "لنقل صراحةً: إنَّه لم يعد مقبولاً اليوم، القولُ: إنَّه أحدُ حَواريِّي المسيح". كما يدورُ جدلٌ حول تاريخ تدوينه. يقول الشيخ محمَّد أبو زهرة -رحمه الله-: "والحقُّ أنَّ باب الاختلاف في شأن التَّاريخ، لا يُمكنُ سدُّه، كما أنَّ مترجمه من العبرانيَّة إلى اليونانيَّة مجهولٌ تماماً". أمَّا إنجيلُ مرقص، وهو أقدمُها من حيث الظُّهورُ التَّاريخيُّ، وذلك بعد منتصف القرن الأول ما بين (عام 65 - 70م) فليس مؤلِّفُه من الحواريِّين، ولكنَّه تتلمذ لخاله "برنابا"، ورافقه في رحلته مع بولس إلى أنطاكيَّة، وثَمَّ خلافٌ بين مؤرخي النَّصارى، حول كاتبه الحقيقي: أهو بطرس عن مرقص؟ أم هو مرقص بتوجيه من بطرس؟ أم هو مرقص بغير توجيه من بطرس؟

وهذا الاضطراب يوهن النسبة، فضلاً عن العيوب المتعلِّقة بالتَّحرير والسرد القصصيِّ المضطرب. أمَّا إنجيل لوقا، فهو لطبيبٍ أنطاكيٍّ، وليس من الحواريين ولا من تلاميذهم، بل هو تلميذٌ "لبولس" صحبه في بعض أسفاره. أمَّا إنجيل يوحنا؛ فآخر الأناجيل ظهوراً، ويختلف عن الثلاثة الأخرى اختلافاً بيناً، في ترتيبه وأسلوبه وما تضمنه من عقائد، حيث إنَّه الإنجيل الوحيد الَّذي صرَّح بألوهيَّة عيسى -عليه السَّلام-. ثالثاً: الاختلاف البيِّن والواضح بين هذه الأناجيل، حول طبيعة عيسى -عليه السلام- وحول العقائد الأخرى، مما أدى إلى انقسام الكنائس والطوائف النَّصرانيَّة إلى طوائف كثيرة متناصرة. وصدق الله العظيم: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82]. مما سبق تتَّضح الأمور التَّالية: 1 - إنَّ وجوب الإيمانِ بالكتب المنزلة، ينحصر فيما أنزله الله على أنبيائه ورسله، دون غيرها ممَّا هو موجودٌ بين يدي أهل الكتاب الآن. 2 - أنَّ التَّوراة والإنجيل، واللذان يضمُّهما كتابا "العهد القديم" لليهود، و"العهد الجديد" للنَّصارى، لا يمُتَّان بصلة إلى كلام الله المنزل على موسى وعيسى -عليهما السلام-. 3 - أنَّ ما في العهدين القديم والجديد، يتنافى تماماً مع قضيَّة التَّوحيد وتنزيه الله _سبحانه وتعالى- وعصمة الأنبياء، وأنَّ فيها من التَّضارب والخيال والاختلافات ما يُسقطها.

4 - أنَّ القرآن الكريم هو الفيصل والحكم على هذه الكتب، قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَكْثَرَ الَّذي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [النَّمل:76 - 78]. 5 - حكم الإسلام في أهل الكتاب بحكمين: أحدهما: حكمٌ اعتقاديٌّ: وهو الحكم على معتقداتهم بالكفر، وإنكار ما هم عليه من أعمال شركيَّة، وعدم إقرارهم على شيء مما هو تحت أيديهم، ونفي الإيمان عنهم، وقد وردت آيات كثيرة في القرآن الكريم تنصُّ في صراحةٍ ووضوح بكفر ما يعتقده اليهود والنَّصارى. الثَّاني: حكمٌ عمليٌّ: وهو يصف ما يجبُ على المسلمين، نحو معاملة أهل الكتاب والوفاء بعهدهم، ما داموا مسالمين ولم يُنابذوا المسلمين العداء، ولم ينالوا من القرآن ولا من سنة الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- بذمٍّ أو قدح، ولم يعتدوا على المسلمين، قال تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة:8 - 9]. 6 - يجب أن يحتاط المسلمون لما بين أيدي أهل الكتاب من عقائد أو كتب، قال -صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((إِذَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ فَإِنْ كَانَ حَقًّا لَمْ تُكَذِّبُوهُمْ وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا لَمْ تُصَدِّقُوهُمْ)) رواه الإمام أحمد وأبو داود.

لأنَّ ما بين أيديهم لا يخرج عن ثلاثة أمور: الأمر الأول: ما علمنا صحته ممَّا بأيدينا من القرآن والسُّنَّة، ممَّا يشهد له بالصدق، فذاك صحيح. الأمر الثاني: ما علمنا كذبه بما جاء عنه في الكتاب والسنة، فيجب إنكار ما أنكره الله ورسوله. الأمر الثالث: ما هو مسكوتٌ عنه، فلا نؤمن به، ولا نكذَِّبه. 7 - دعاوى التَّقريب بين الأديان الَّتي تتعالى الأصوات بها، في هذا العصر، هي دعوة حقٍّ يُراد بها باطل، فكيف يتمُّ التَّقريب بين دينٍ يقوم على التَّوحيد، وكتابُه موجود ومحفوظ، وسيرة رسوله -صلَّى الله عليه وسلَّم- مصانةٌ وموثقةٌ توثيقاً نادراً، بدينٍ يقومُ على الشرك، ولا أثر لكتابه ولا توثيقَ لمصادره. إنَّ اليهوديَّة والنَّصرانيَّة، فقدتا مصداقيَّتهما بعد موسى وعيسى -عليهما السلام-. ودعوى الحوار هي محاولةٌ يائسة لعودة المصداقيَّة إليهما، وانتشالهما من أعماق الثَّرى، وعواصف التَّخبط الفكريِّ والعقائديِّ، ليتشرَّفا بالجوار والحوار مع الإسلام العظيم. 8 - من الخطأ البيِّن، ومن الانحراف العقائديِّ والفكريِّ الواضح، أن يُطلق على ما بين أيدي أهل الكتاب عنوان "الكتب المقدسة"، ويُريدون بمكر ودهاء أن يلحقوها بالقرآن الكريم، وللأسف يُردِّد بعضُ الجهلاء من أبناء المسلمين الَّذين تربَّوا على موائد الاستشراق والتَّبشير والاستعمار، يُرَدِّدُون مقولاتهم، فيقولون -وبئس ما قالوا-: الأديان السماويَّة الثلاثة، والكتب السماويَّة المقدسة، وقد انساقُوا إلى هذا طوعاً أو كرهاً.

حكم الإيمان باليوم الآخر وأهميته.

ممَّا سبق يتَّضحُ: أنَّ الإيمان بالكتب المنزلة من الله على الأنبياء والمرسلين، جزءٌ من الإيمان بالغيب، الَّذي هو جوهر عقيدة المسلم، وأساسُ الدَّعوة إلى الله، قال تعالى: {وَالَّذينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:4 - 5]. أمَّا عن بقيَّة أركان الإيمان، ومعالم التَّصديق بالغيب؛ فهذا موضوعُ المحاضرة القادمة -إن شاء الله-. 2 - من دعائم وأسس الدَّعوة إلى الله الإيمانُ باليوم الآخر حكم الإيمان باليوم الآخر وأهمِّيَّته الحمد لله، له الحمدُ في الأولى والآخرة، وله الحكم وإليه تُرجعون، والصَّلاة والسَّلام على صاحب اللِّواء المحمود، والحوض المورود، والشفاعة العظمى، يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون، إلا من أتى الله بقلبٍ سليم، وعلى آله وأصحابه، ومن سار على منهجهم إلى يوم الدين، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد،: تمهيد: فما زال الحديث -بإذن الله- يتجدَّد، واللِّقاء يتواصل، حول دعائم وأسس الدَّعوة إلى الله. نتناول موضوعَ الإيمانِ باليوم الآخر، وما يتضمَّنُه من أمورٍ، يجب التَّصديقُ بها، والتَّسليم المطلقُ بما جاء بشأنها في القرآن الكريم والسُّنَّة النَّبويَّة الشَّريفة. الإيمانُ باليوم الآخر، وما يشتمل عليه من أحوال، تبدأ معالمُها وحقائقُها ومشاهدُها بعد الموت مباشرةً، من فتنة القبر وعذابه ونعيمه، بما يسمى حياة البرزخ، ثم ما يتبعُ ذلك من أحداثِ وأهوالِ يوم القيامة، من البعث والحشر والصُّحف والحساب والميزان والحوض والصراط والشفاعة، والجنَّة وما أُعِدَّ فيها للمؤمنين، ممَّا لا عينٌ رأت، ولا أذن سمعت، ولا خَطَر على قلب بَشر، من أنواع النَّعيم، والنَّار الَّتي تُسعَّر بكلِّ ألوان العذاب للكافرين، فالتَّصديق والاعتقاد بهذا اليوم، ركنٌ من أركان الدَّعوة إلى الله، ومن الأسس والدَّعائم الَّتي قامت عليها رسالاتُ الأنبياء والمرسلين. فالإيمانُ بالله واليوم الآخر، هو صلب عقيدة المسلم، ومعلم بارز من معالم شخصيَّته، وبه يكون الفرقُ بين المؤمنين والكافرين، ولأهميته الكبرى ومكانته العظمى؛ فقد جاء في القرآن الكريم مقترناً بالإيمان بالله، قال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ

وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177]. فهذه الآية، رسمت في إعجازٍ بلاغيٍّ، معالمَ وملامح شخصيَّة المسلم، في العقائد والعبادات والسلوك. وكما قال ابنُ كثير: "واشتملت على جملٍ عظيمة، وقواعد عميمة، وعقيدة مستقيمة". وقد ذكر القرآنُ الكريم أنَّ إنكار اليوم الآخر كفرٌ وضلالٌ مبين، قال تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيداً} [النِّساء:136]. فالكافر لا يتجاوز حدود الدُّنيا، ولا يؤمن بالبعث، ولا يعتقد في اليوم الآخر، وقد كشف القرآنُ عن هذه المعتقدات الفاسدة، قال تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ} [الجاثية:24]. والإيمانُ باليوم الآخر يستوجبُ الاعتقادَ والتَّصديقَ بالأمور التَّالية: 1 - الإيمانُ بالبعث بعد الموت، قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج:6 - 7]. وقال تعالى: {فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الشَّورى:9]. وقد ساق القرآنُ العشرات من الآيات، الَّتي تُبرهن على قدرة الله على البعث، وأنَّه أهونُ من خلق السَّماوات والأرض، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأحقاف:33]. فقضيَّةُ البعث، حفلتْ في القرآنِ الكريم، بعنايةٍ خاصَّة واهتمامٍ كبير.

فتنة القبر وسؤال الملكين.

2 - الإيمانُ والتَّصديق بما سيقع يوم القيامة من أهوال وأحوال: ولن يتحقَّق ذلك إلا بأحد أمرين: أ- أن يؤمن العبدُ باليوم الآخر، بصورة إجماليَّة، وهذا هو الحدُّ الأدنى لتحصيل هذا الرُّكن من أركان الإسلام، قال تعالى: {الَّذينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة:4،3] ب- أن يؤمن المسلمُ بكلِّ ما أَخبر به القرآنُ الكريم، وتحدَّث عنه -صلَّى الله عليه وسلَّم- إيماناً صادقاً، لا يُخالطه شكٌّ أو ريب، أو يعتريه ظنٌّ أو وهمٌ، غير منكرٍ لأمر من الأمور، وأن لا يُخضع الإنسانُ أمورَ الغيب من أحوال ما بعد الموت، ومشاهد البعث، وأحوال يوم القيامة؛ لمقاييس العقل، فهي أمورٌ يعجز العقلُ عن معرفتها، ولا يستطيع أن يُدرك مشاهدَها؛ لأنَّها بعيدةٌ عن إدراك الحواسِّ، الَّتي يتعرف العقل من خلالها على الحقائق والأشياء. ومن أمور الغيب الَّتي يجب التَّصديقُ بكلِّ ما جاء بشأنها في القرآن والسنة، ما يلي: فتنة القبر وسؤال الملكين فمنذُ أن تبدأََ لحظاتُ الاحتضار، وتتأهَّب الرُّوح للصُّعود لخالقها، ويقف الإنسانُ على آخرِ عتبات الدنيا وأولى عتبات الآخرة، تنتقل حياتُه إلى طورٍ جديد، وعالمٍ من المشاهد والأحداث، لا يراه من حوله، قال تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيد ُ -أي تبتعد عنه وتتناءى وتفرُّ منه- * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:19 - 22].

عذاب القبر ونعيمه.

وتُصوِّر سورةُ الواقعة، وسورةُ القيامةِ هذه المشاهدَ، ما يُرى منها وما لا يُرى، وهي آخرُ عهدِ الإنسان بالدُّنيا، وأول عهده بالآخرة، ويزيدُ القرآنُ الكريمُ صورةً أخرى من صور الاحتضار، مرئيَّة وواقعيَّة، وهي خاصَّةٌ بالكافرين عموماً، وبكلِّ من أشرك بالله، أو اتَّخذ له ندَّاً أو شريكاً: أنَّ هؤلاء في حالة الاحتضار، وبعد الموت مباشرةً، تنهال الملائكة بالضرب على وجوههم وأدبارهم، قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [الأنفال:50 - 51]. فالتَّعبير بالرُّؤية، واستخدام الفعل المضارع، الَّذي يدلُّ على الحال والاستقبال، يُشير إلى أنَّها رؤيا واقعةٌ ومستمرةٌ في كلِّ أحوال الكافرين عند الاحتضار، وتزداد هذه الصورة وضوحاً وجلاءً، في قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام:93]. هذا يُبدِّدُ ما يعتقدُه البعضُ، خطأً وجهلاً أو نفاقاً، عن نجاةِ المشركين والكافرين، وعدمِ إلحاق العذاب بهم، وقد وردت أحاديثُ كثيرة، تُبيِّن أحوال المؤمنين والكافرين، عند الموت والاحتضار: (انظر صحيح البخاري، مع فتح الباري ج 3، ص 184. وانظر صحيح مسلم بشرح النووي ج 17 ص 203). عذابُ القبر ونعيمه وهو من أمور الغيب، التي يجبُ الإيمانٌ بوقوعها، كما أخبر القرآن الكريم، وتحدَّث به الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم-.

أشراط الساعة وأماراتها.

فمن القرآن الكريم، قوله تعالى: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:45 - 46]. وهذه الآيةُ أصلٌ كبيرٌ، في استدلال أهل السنة، على عذاب القبر. وعن عذاب القبرـ ورد ما أخرجه البخاري ومسلم، ممَّا رُوي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: مرَّ النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- على قبرين، فقال: ((إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ في كَبِيرٍ،-ثُمَّ قَالَ:- بَلَى، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ يَسْعَى بِالنَّمِيمَةِ، وَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ)). أشراط الساعة وأماراتها من الأمور الَّتي يجبُ الإيمانُ بها، وهي جزءٌ من عقيدة المسلم، تحقُّقُ وقوعِ السَّاعة، قال تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاس لا يُؤْمِنُونَ} [غافر:59]. وأنَّ هذا اليومَ مُغيَّبٌ عن الخلق جميعاً، لا يعرفُه إلا الله -سبحانه وتعالى- وحده، قال تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً يَسْأَلونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاس لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:187]. ولكي يأخذَ النَّاس حِذرَهم، من فجأة هذا اليوم وهوله وشدَّته، وحتَّى يظلُّوا يترقَّبونه ويستعدون ليوم العرض والحساب، وذلك يكون بالإيمان الخالص بالله والمداومة على فعل الطاعات، في الأقوال والأفعال، فقد وضع الحقُّ -تبارك وتعالى- لهذا اليوم أماراتٍ وعلاماتٍ، قال تعالى: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ * فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} [محمَّد:18 - 19].

وأشراطُ السَّاعة وعلاماتها، في القرآن والسنة، كثيرةٌ جدَّاً، بعضُها علاماتٌ صغرى، وبعضها أماراتٌّ كبرى، ومنها ما وقع وتحقَّق، ومنها ما لم يقع بعد، وسوف نعرض -إن شاء الله- لبعض هذه الأشراط، الَّتي جاءت في القرآن الكريم، ووردت بها الأحاديثُ النَّبويَّة الصحيحة؛ لكي يكتمل إيمانُ المؤمن على قواعد ثابتة ودعائم متينة، وسنذكر بعضاً منها على سبيل المثال لا الحصر،: أولاً: العلاماتُ الَّتي وقعت وانقضت، ولن يتكرَّر وقوعها: وهي كثيرةٌ، سنذكر بعضاً منها، ومن ذلك: 1 - بعثة الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- وهي من أمارات الساعة، أخرج البخاري ومسلم عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ، وَأشار بالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى)) -أي بإصبعيه-. ففي هذا الحديث دليلٌ، على أنَّ بعثته -صلَّى الله عليه وسلَّم- وختم النُّبوة والرسالة برسالته، علامةٌ على قُرب قيام السَّاعة، كما أشار الحديثُ إلى أنَّه -صلَّى الله عليه وسلَّم- ليس بينه وبين وقوعها نبيٌّ أو رسولٌ، فهي تلي بعثته. 2 - انشقاق القمر، وهو إحدى المعجزات الباهرات الَّتي وقعت في حياته -صلَّى الله عليه وسلَّم-، وتُؤذن بقرب السَّاعة، قال تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر:1 - 2]. وقد ساق ابنُ كثير الأحاديثَ الواردةَ في انشقاق القمر، عند تعرُّضه لتفسير سورة القمر، ومن ذلك ما رواه الإمام مسلم في "صحيحه": عن أنس -رضي الله عنه- أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يُرِيَهُمْ آيَةً؛ فَأَرَاهُمْ انْشِقَاقَ الْقَمَرِ مَرَّتَيْنِ، وقال:

فبَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِمِنًى إِذ انْفَلَقَ الْقَمَرُ فِلْقَتَيْنِ، فَكَانَتْ فِلْقَةٌ وَرَاءَ الْجَبَلِ، وَفِلْقَةٌ دُونَهُ، فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((اشْهَدُوا)) رواه مسلم. 3 - نارٌ تخرج من الحجاز، تضاء لها أعناق الإبل ببُصرى بالشام. عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- عن النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: ((لَا تَقُومُ السَّاعَةُ، حَتَّى تَخْرُجَ نَارٌ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ، تُضِيءُ أَعْنَاقَ الْإِبِلِ بِبُصْرَى)). "رواه البخاري ومسلم"، وبُصرى مدينة معروفة بالشام. وهذه الآيةُ الَّتي أخبر بها الصَّادق -صلَّى الله عليه وسلَّم- وقعت على وجه التَّحديد عام 654هـ. وقد تحدَّث عن ذلك ابنُ كثير في كتابه "البداية والنِّهاية" وكذلك ذكرها الإمام الحافظ شهاب الدين أبو شامة المقدسي، وكان معاصراً لهذه الحادثة. وممن كان معاصراً لهذه النَّار في الخروج، الإمامُ النَّووي -رحمه الله- وقد ذكرها في شرحه لصحيح مسلم. 4 - توقف الجزية والخراج: ممَّا أخبر به الصَّادق -صلَّى الله عليه وسلَّم- من أمارات يوم القيامة، والَّتي تحققت في هذا العصر، توقفُ أهل الذمة عن دفع الجزية للمسلمين. ففي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((مَنَعَتْ الْعِرَاقُ دِرْهَمَهَا وَقَفِيزَهَا، وَمَنَعَتْ الشَّأْمُ مُدْيَهَا وَدِينَارَهَا، وَمَنَعَتْ مِصْرُ إِرْدَبَّهَا وَدِينَارَهَا، وَعُدْتُمْ مِنْ حَيْثُ بَدَأْتُمْ، وَعُدْتُمْ مِنْ حَيْثُ بَدَأْتُمْ، وَعُدْتُمْ مِنْ حَيْثُ بَدَأْتُمْ)) شَهِدَ عَلَى ذَلِكَ لَحْمُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَدَمُهُ. ففي هذا الحديث الشريف، أخبر -صلَّى الله عليه وسلَّم- عن أمرين لم يقعا في حياته -صلى الله عليه وسلم-: الأول: فتح العراق والشام ومصر، وهذا من أخبار الغيب الَّتي أطلعه الله عليها.

الثاني: الإخبار عن امتناع أهل الذمة عن الجزية، وقيل عن سبب ذلك: أنه قوة شوكتهم في آخر الزمان. ثانياً: العلامات الصُّغرى، الَّتي وقعت وما زالت مستمرة وقد تتكرَّر: أخبر الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- عن بعض أمارات الساعة الَّتي وقعت، وما زالت مستمرة، ومن ذلك: 1 - الفتوحات الإسلاميَّة: فلقد أنبأ -صلَّى الله عليه وسلَّم- عن زوال ملك كسرى وقيصر، وقد حدث هذا بعد وفاته -صلَّى الله عليه وسلَّم-، ومن ذلك ما رواه البخاري عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((إِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلَا كِسْرَى بَعْدَهُ، وَإِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلَا قَيْصَرَ بَعْدَهُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُنْفَقَنَّ كُنُوزُهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ)) البخاري. وقد أخبر -صلَّى الله عليه وسلَّم- عن فتح الهند، وقد حدث: فعن ثوبانَ -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((عِصَابَتَانِ مِنْ أُمَّتِي أَحْرَزَهُمَا اللَّهُ مِنْ النَّارِ: عِصَابَةٌ تَغْزُو الْهِنْدَ، وَعِصَابَةٌ تَكُونُ مَعَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ -عَلَيْهِمَا السَّلَام-)) أخرجه النَّسائي وأحمد وغيرهما. كذلك تحدَّث النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- عن فتح القسطنطينيَّة، ثم فتح روما، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: بَيْنَمَا نَحْنُ حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَكْتُبُ، إِذْ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَيُّ الْمَدِينَتَيْنِ تُفْتَحُ أَوَّلًا: قُسْطَنْطِينِيَّةُ أَوْ رُومِيَّةُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((مَدِينَةُ هِرَقْلَ تُفْتَحُ أَوَّلًا)) يَعْنِي قُسْطَنْطِينِيَّةَ وقد كان فتح القسطنطينية على يد محمد الفاتح، وسيصدق قوله -صلَّى الله عليه وسلَّم- على روما إن شاء الله، رواه أحمد والدارمي والحاكم. وذكر -صلَّى الله عليه وسلَّم-: أنَّه لن تقومَّ الساعة حتى تقاتلوا اليهود، حتى يقول الحجر والشجر: يا عبد الله المسلم، هذا يهودي فاقتله.

2 - خروجُ كثيرٍ من الدَّجَّالين ومدََّعي النُّبُوَّة: جاء في "صحيحي البخاري ومسلم" عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: ((لَا تَقُومُ السَّاعَةُ، حَتَّى يُبْعَثَ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ، قَرِيبًا مِنْ ثَلَاثِينَ، كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ)). وقد تحدَّث التَّاريخ عن خروج عددٍ منهم في صدر الإسلام، كمسيلمة الكذَّاب، والأسود العنسيِّ، وسجاح وغيرهم، ومنذ أكثر من قرن قام حسين مرزا عباس مدَّعياً النُّبُوَّة في إيران، ولقب نفسه بالبهاء، وإليه تنسب طائفة البهائيَّة. 3 - وقوع الفتن: تحدَّث الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- وهو الصادق الَّذي لا ينطق عن الهوى، عن استشراء الفتن وتجدُّدها، غيرَ أنَّها في آخر الزَّمان يشتدُّ أوارها ويتعالى لهيبها، وقد ورد في ذلك أحاديثُ صحيحةٌ، نذكر منها على سبيل المثال ما يلي: 1 - عن عبد الله بن مسعود، وأبي موسى الأشعري -رضي الله عنهما- قالا: قال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((إِنَّ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ أَيَّامًا: يَنْزِلُ فِيهَا الْجَهْلُ، وَيُرْفَعُ فِيهَا الْعِلْمُ، وَيَكْثُرُ فِيهَا الْهَرْجُ)). قَالَ: قُلْنَا وَمَا الْهَرْجُ قَالَ: ((الْقَتْلُ)). 2 - عن أبي موسى الأشعري أن النَّبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: ((إِنَّ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ الْهَرْجَ)) قَالُوا: وَمَا الْهَرْجُ؟ قَالَ: ((الْقَتْلُ)) قَالُوا: أَكْثَرُ مِمَّا نَقْتُلُ، إِنَّا لَنَقْتُلُ فِي الْعَامِ الْوَاحِدِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ أَلْفًا. قَالَ: ((إِنَّهُ لَيْسَ بِقَتْلِكُمْ الْمُشْرِكِينَ، وَلَكِنْ قَتْلُ بَعْضِكُمْ بَعْضًا، حتَّى يقتُلَ الرَّجلُ جارَه، ويقتل أخاه، ويقتل عمَّه، ويقتل ابن عمِّه. قَالُوا: وَمَعَنَا عُقُولُنَا يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: إِنَّهُ لَيُنْزَعُ عُقُولُ أَكْثَرِ أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَيُخَلَّفُ لَهُ هَبَاءٌ مِنْ النَّاسِ يَحْسَبُ أَكْثَرُهُمْ أَنَّهُ عَلَى شَيْءٍ، وَلَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ)) رواه الإمام أحمد.

3 - وروي عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- أنه قال: قال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ: لَا يَدْرِي الْقَاتِلُ فِي أَيِّ شَيْءٍ قَتَلَ! وَلَا يَدْرِي الْمَقْتُولُ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ قُتِلَ!)) رواه مسلم. 4 - التَّطاول في البنيان، كما جاء في حديث جبريل قال: ((يا محمََّدُ، أخبرني عن السَّاعة؟ فقال -صلَّى الله عليه وسلَّم-: ما المسؤول عنها بأعلمَ من السائل. قال: فأخبرني عن أماراتها؟ قال: أنْ تلدَ الأمةُ ربَّتَها، وأنْ تَرَى الحُفاةَ العُراةَ العَالَةَ رِعَاء الشَّاة يتطاولونَ في البُنيان)) متفق عليه. كذلك، من أمارات السَّاعة الَّتي تتجدَّد كلَّ وقتٍ، وكلَّ عصرٍ، فسادُ المسلمين، واستفاضةُ المال وكثرته، وظلم الرَّعيَّة والقسوة عليها، هذه هي أمارات الساعة الصُّغرى، أمَّا علامات السَّاعة وأشراطها الكُبرى، فهي كما يلي: علامات السَّاعة وأشراطها الكُبرى: أخبر القرآن الكريم والسنة النَّبويَّة الشريفة، عن أمارات الساعة وعلاماتها الكبرى، فعن حذيفة بن أسيد الغفاري، قال: اطَّلَعَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَيْنَا، وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ، فَقَالَ: ((مَا تَذَاكَرُونَ؟)) قَالُوا: نَذْكُرُ السَّاعَةَ. قَالَ: ((إِنَّهَا لَنْ تَقُومَ حَتَّى تَرَوْنَ قَبْلَهَا عَشْرَ آيَاتٍ: فَذَكَرَ الدُّخَانَ، وَالدَّجَّالَ، وَالدَّابَّةَ، وَطُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَنُزُولَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَيَأَجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَثَلَاثَةَ خُسُوفٍ: خَسْفٌ بِالْمَشْرِقِ، وَخَسْفٌ بِالْمَغْرِبِ، وَخَسْفٌ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ. وَآخِرُ ذَلِكَ نَارٌ تَخْرُجُ مِنْ الْيَمَنِ، تَطْرُدُ النَّاسَ إِلَى مَحْشَرِهِمْ)). مسلم. هذه الآيات العشر، جاءت الأحاديث والآيات تبيِّن يقين وقوعها، والإيمانُ بالعلامات الصغرى والكبرى جزءٌ من عقيدة المسلم، يجب التَّصديق بما أخبر به

القرآن الكريم، ونبَّأ به الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- وقد صدق الله ورسوله فيما وقع أو سيقع، من أشراط وعلامات يوم القيامة. وهي تمهيدٌ لأحداثِ وأهوالِ ذلك اليوم، وقد ذكرها القرآنُ الكريم، وتحدَّث عنها -صلَّى الله عليه وسلَّم-. ويبدأ هذا اليوم العظيم بتغيُّر مظاهر الكون، وتبدُّل سننه، كما جاء في سور الانشقاق والتَّكوير والانفطار، وما يستتبع ذلك من: النَّفخ في الصور، والبعث، والحشر، والعرض، والحساب، والحوض والميزان، والصِّراط والجنَّة والنَّار. هذه القضايا الغيبيَّة، لا يُقبل إيمانُ العبد، إلا بالتَّصديق بها، والتَّسليم والإذعان بما ورد بشأنها في القرآن والسنة، وهي جوهر الرِّسالات السَّماويَّة كلها، وإلى يوم القيامة تتوجَّه أعمال المسلم؛ لينالَ رضاء الله والفوز بالجنة، كما أنَّ الإيمان باليوم الآخر، يضع في النَّفس والعقل الضوابطَ الَّتي تصون الأفراد والجماعات، خوفاً من يوم الحساب، كما أنَّ التَّصديق بيوم الحساب يغرسُ في قلبِ المؤمنِ الأملَ بأنَّ ما فاته من حظوظ الدنيا؛ سيجد ما عند الله خير وأبقى منه، وأنَّ من ظَلَم العباد، وسعى في الأرض فساداً؛ سيلقى جزاء ما قدمت يداه. قال تعالى: {قال أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُكْراً * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً} [الكهف:87 - 88].

§1/1