أصول الدعوة وطرقها 1 - جامعة المدينة

جامعة المدينة العالمية

الدرس: 1 مدخل إلى علم الدعوة.

الدرس: 1 مدخل إلى علم الدعوة. بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الأول (مدخل إلى علم الدعوة) 1 - التعريف بالدّعوة إلى الله التّعريف بالدّعوة الحمد لله الذي بفضله تتمّ الصالحات، وبتوفيقه تُزكَّى الأعمال وبرحمته تُرفع الدرجات. قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}. (المجادلة:11) وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق:4، 5). وأشهد أنّ سيدنا محمداً عبده الله ورسوله، شرّفه الله بحَمْل رسالته، وتبليغ دعْوته، وخاطَبه بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} (الأحزاب:45، 46). اللهمّ صلِّ وسلِّم عليه وعلى آله وأصحابه، ومَن دعا بدعْوته إلى يوم الدِّين. وبعد: التّعريف بالدّعوة أولاً: التعريف بالدعوة إلى الله، في اللغة، وفي اصطلاح العلماء: ففي اللغة: جاء في "دائرة معارف القرن العشرين" ما يلي: "دَعاه" يَدْعوه دعاءً ودعوى: ناداه، وصاح به. و"دعا له": طلب له الخَير من الله تعالى. "دعا عَليه": طلب له الشَّر من الله تعالى. "تداعى الناس": دعا بعضُهم بعضاً. وجاء في "لسان العرب": "الدعوة": المَرة الواحدة من الدّعاء. و"الدُّعاة": قومٌ يدْعون إلى بَيعة هدىً أو ضلالةٍ، واحدُهم: داعٍ. ورجُل داعِيَة، إذا كان يدعو الناس إلى دِين أو بدعة، وأُدخِلت الهاء في "داعية" للمبالغة.

وبهذا يتّضح أن كلمة "دعا" ومشتقّاتها تدور في اللغة بين الداعي وما يَدعو إليه من خَير أو شَر. الدعوة في اصطلاح العلماء: عُرِّفت بعِدّة تَعريفات، منها ما يلي: التعريف الأوّل: حَثّ الناس على الخَير والهُدى، والأمْر بالمعروف والنّهي عن المنكر، ليَفوزوا بسعادة العاجل والآجل. التعريف الثاني: هي: قيام العلماء المُستنيرين في الدِّين بتعليم الجمهور من العامّة ما يُبصِّرهم بأمور دِينهم ودُنياهم، على قَدر الطاقة. التعريف الثالث: إنقاذ الناس من شرٍّ واقع، وتحذيرهم من أمر يُخشى عليهم من الوقوع في بأسه. ثانياً: حاجة البشر للدعوة إلى الله: لقد خلَق الله الإنسان في أحسن تقويم، واستخلفه في أرضه، وائْتَمَنَه على بعض أسرار كوْنه، وفضَّله على كثيرٍ مِن خَلْقه. قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} (الإسراء:70). هذا التكريم والتفضيل ليس لكوْن الإنسان يأكل، أو يشرب، أو يتناسل؛ فهذه أمور يَشترك فيها مع كثير من الكائنات، ولكنْ خَلقه الله لرسالة كريمة وغاية عُظمى، تَنحصر في الأمور التالية:

أولاً: استخلاف الله للإنسان في الأرض، وتسخير الكون لخدمته. قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} (إبراهيم:32 - 34). ثانياً: تحمُّل الأمانة التي شرَّفه الله بحَمْلها، واصطفاه للقيام بأعبائها، وتقبَّلها طَواعيةً، بينما اعتذرت السماوات والأرض والجِبال عنها، لِعِظم شأنها وخُطورة تبِعاتها. قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} (الأحزاب:72). ثالثاً: عبادة الله -سبحانه وتعالى- وطاعتُهُ، والتزام ما أمر به، واجتناب ما نهى عنه. قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (الذاريات:56 - 58). رابعاً: تَوطيد الرَّوابط الأُسَريّة من خِلال النَّسب والمُصاهرة. قال تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} (النحل:72). كما عمّق العلاقات الإنسانية بالتعارف والتعاون. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحُجُرات:13).

ولن يستطيع الإنسان أن يُحقِّق هذه الأمور بنفسه، أو أن يَمضيَ في الحياة مُعتمداً على عَقله فقط، أو أن يَسير وفْق رغباته ونَزواته وتَبَعاً لأهوائه؛ فكان من رَحمة الله بالبَشر أن أرسل لهم الأنبياء والمرسلين، وأيّدهم بالوحي والمعجزات، ليدْعُوا الناس إلى الطَّريق المُستقيم. قال تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} (النساء:165). هذا، ولقد ظهرت حاجةُ البشرية الشديدة للدّعوة إلى الله، التي تَرتكز على وحْي السماء، ورسالات الأنبياء، وسلوك الأتقياء، وذلك للأسباب التالية: أولاً: إن الصراع بين الإنسان والشيطان لن يَنطفئ لهيبُه، ولن تَخمد جَذوته. فمنذ أن خلَق الله آدم -عليه السلام- وأمَر الملائكة بالسجود له، -سجود تحية وتكريم، لا سجود عبادة-، فامتثلوا لأمْره -سبحانه وتعالى-، إلاّ إبليس الذي أنكر وأعرض، وأدبر واستكبر، وهدَّد وتوعّد، فأُخرِج من الجَنة صاغِراً ذليلاً. قال تعالى: {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ * قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ} (الأعراف:13 - 18). وبهذا أصبحت الكرة الأرضية مَيداناً فَسيحاً وساحةً رَحبة للنِّزال بين الإنسان والشيطان. ولو تُرك الإنسان في هذه المَعركة وَحْده دون وحيٍ من السماء يَحفظُه، ويُرسل الله الرسل لتُرشِده، والدعاة ليُحذِّرونَه، لتمكَّن الشيطان منه،

وأفسَدَ عَقيدتَه، وشوّه فِطرتَه؛ لذا كانت حاجة الإنسانية ماسةً للدّعوة إلى الله، لتَتخلّص من شَرّ الوسواس الخَناس الذي يُوسوس في صُدور الناس. ثانياً: لقد أودع الله بين حنايا النَّفس البَشرية العديدَ من الغَرائز. قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} (آل عمران:14). وهذه الغرائز تَغْلي داخل كيان الإنسان كالمِرْجل، وكلّ غَريزة تَتدَافع وتَتزاحَم لبَسْط إرادتها على سلوك الإنسان وتَصرّفاته. وهذه الغرائز إن لم تُحكم بميزان الشَّرع، وإن لم تُضبط بمقاييس وحْي السماء ورسالات الأنبياء، فإنها تَنطلق مَسعورة لإشباع حاجاتها دون تَدبّر ورَويّة، ودون التفات لأوامر الله، مُتجاهِلة الأحكام الشرعية، مُحطمةً للتَّقاليد والأعراف الاجتماعية، فيَنتَكس الإنسان إلى سلوك الحَيوان، بل أضلّ من الحيوان. قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (الأعراف:179). لذلك كانت الحاجة ضروريةً للدّعوة إلى الله، لتنظيم تلك الغَرائز البشريّة، وإشباعِها في إطار شَرْع الله الذي لا يَكبِتُها، ولا يَحرم الإنسان منها، ولا يَترك لها الحَبل على الغَارب، كالجَواد الجامِح؛ بل نَجد الإسلام العَظيم يُهذِّبها، ويَضبط دوافِعها. ولن يتمّ ذلك إلاّ من خِلال الدّعوة إلى الله على هدىً وبصيرة. ثالثاً: إنّ العَقل البشري، مع أنه مَركز التَّوجيه، ومحور التَّفكير، ومَناط التَّكليف، وهو الذي يُميِّز الإنسان عن الحَيوان، فإنه لا يُحقِّق سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، للأسباب التالية:

أولاً: قُصور العقل الإنساني، لأنه يَستقي المَعلومات من الحَواسّ، بواسطة الجِهاز العصبي الذي يَمتدّ بين خلايا الجسم وأنسجته وعظامه، ليتَّصل بالمخ في نظام عَجيب، وتناسُق مُعجِز مُبهر، يُنبئ عن قُدرة الخالِق، وعظَمة الصّانع -سبحانه وتعالى-. ومع ذلك، فالعَقل ليس مَعصوماً من الخطإ، وأحكامُهُ ليست صواباً على وجْه الإطلاق؛ فهو يَحكم على الشيء من خِلال ما تُقدِّمه الحَواسّ الخَمس من مَعلومات، فإذا فَقَدت إحدى الحواسّ عَملها بسبب مَرض أو عِلّة بها، تَوقَّف العَقل عن مَعرفة حَقيقة الجُزئية الخاصّة بتلك الحاسّة المُعطَّلة. ثانياً: تفاوت العَقل البَشري، فعقول البَشر تَختلف في الفَهم، وتَتفاوت في الإدراك، وتَتدرّج في الذكاء، ممّا يَجعل الحُكم على الأشياء يَختلف اختلافاً ظاهراً بين بني البشر، كما أنّ العقل يَخضع لمؤثِّرات كَثيرة، ولا سيما في هذا العصر الذي يحاصَر الإنسان بالغزو الفكري الذي تبُثّه أجهزة الإعلام المَرئية والمَسموعة والمَقروءة، ممّا أدّى إلى التفاوت العَقلي في شتّى المجالات، واختلفت النظرة والحُكم على الأشياء من دولة لدولة، ومن جماعة عن جماعة أخرى. ولقد صوّر القرآن الكريم اختلاف العقول في قوله تعالى: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (المؤمنون:53). ثالثاً: عَجْز العقل البشريّ عن مَعرفة ما وراء عالَم الحواسّ والمُشاهدة. إن العقل البَشري تقف حُدودُه عند عالَم الحِسِّ والمُشاهدة، أمّا ما عدا ذلك، كالبَعْث والحَشْر، وعالَم الغَيب، وما يتعلّق بالرُّوح، والمَلإ الأعلى، فلا طَريق لمعرفته من خِلال العَقل، وإنّما تتمّ المَعرفة عَبر الوحي الإلهي، ورسالات الأنبياء. ولقد حَدّد القرآن الكريم الأمور التي يقف العقل البشري قاصراً وعاجزاً ومستسلماً

أمامها، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (لقمان:34)، وكذلك ما يتعلّق بالروح وأسرارها، قال تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (الإسراء:85)، وكلّ ما يتّصل بعالَم الغيْب، قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} (الجن:26، 27). رابعاً: خُضوع العقل للْهوَى. "الهوى" في اللغة هو: مَيْل النفس وانحرافها عن الشيء، ثم استعمل في المَيل المَذموم، فيقال: "اتّبع هواه"، و"هو من أهل الأهواء". وقد حذَّر القرآن الكَريم مِن اتّباع الهوى، وانسياق الإنسان وراء نَزواته ونَزعاته التي قد تَطمس الحَقيقة. قال تعالى: {فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} (النساء:135). ولقد بيّن القرآن الكريم خُطورة اتّباع الهوى، وآثارَه السَّيئة على الإنسان، قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} (الجاثية:23). والعَالَم المُعاصر الآن يَشهد خَللاً في العَقيدة، واضطراباً في الفِكر، وانحرافاً في السُّلوك، بسبب الأهواء. نَجِد ذلك واضحاً في ميادين السِّياسة، والاجتماع، والثقافة، والاقتصاد. فاتّباع العُقول دون ضوابِط الشَّرع، يَفتَقد في كَثير من الأحيان للرؤية الصائبة، والفِكر السديد، والعَمل الرشيد.

خامساً: عَجْز العقل البَشري عن إدراك الحِكمة من التَّشريع؛ فهناك أمور قد يَعْرف العقل حِكمةَ تَشريعها، ويعرف الفوائد المُترتِّبة على هذا التَّشريع. وهناك أمور يَقف العقل البشري عاجزاً عن إدراك الحِكمة من تَشريعها، ويَظل حائِراً مُتسائلاً عن سِرّ تَحليلها أو تَحريمها. ممّا سَبق، يتَّضح أنّ العَقل البَشري لا يستطيع وحْده أن يوجِّه الإنسان إلى السعادة، وأن يُحقِّق له الطمأنينة والأمْن، وأنّ الدَّعوة إلى الله ضَرورة فِطرية يَحتاج إليها الإنسان لتَحقيق خَيرَيِ الدنيا والآخرة. سادساً: إنّ الدعوة إلى الله أثَرٌ من آثار رحمة الله بالعباد، وشفقته -سبحانه وتعالى- بهم، وتَعطّفه عَليهم؛ فهي تَحمل بين ثناياها ينابيع الخير للإنسان، حيث تَزْكو بعَقله، وتُطهِّرُ قَلْبَه، وتُنقِّي نَفسَه، وتُربِّي ضَميره، وتُوقِظ فيه معانيَ الفِطرة السّويّة التي فَطر الله الخَلْق عليها. ولقد شَملت الرحمةُ الإنسانية كلّها، بدعوة أشرف الخَلق وخاتم الرُّسل محمد -صلى الله عليه وسلم-. قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء:107). وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((إنّما أنا رَحمة مُهداة)). وبهذا، يتبيَّن مَدى حاجة الإنسانية إلى الدّعوة إلى الله، وشَوق العالَم وتَطلّعه وتلهّفه إلى دعاةٍ يأخذون بيده من الكهف المُظلم الذي يَختَنق فيه، وتَنعدم رؤية الطريق المُستقيم وَسْط العَواصف التي تَعصف به، حيث أفقدته آدميَّته، وأنْسَتْه إنسانيّته؛ فالأمل مَعقودٌ، والرجاء مقصودٌ، وأيدِي البشرية تَمتدّ لأمّة الدعوة، تَستغيث بها، وتُناشِدها أن تُنقِذها ممّا هي عليه الآن. قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (آل عمران:110).

حكم تبليغ الدعوة وآراء العلماء في هذا.

حُكم تبليغ الدّعوة وآراء العلماء في هذا الدّعوة إلى الإسلام من خَصائص هذه الأمّة، مِن أجْلها خُلقت، وبالانتساب إليها شَرُفت، وبتَبليغها وتَعريف البَشر بالإسلام بلَغَت ذُرى المَجْد، وارتَقت مراقيَ الكمال. والدّعوة إلى الله إحدى المَهام الرئيسيّة للمسلمين، ومَعلم بارزٌ يَنفردون به بين الأُمم. وهم مسؤولون أمام الله يوم القيامة عن قيامهم بالتَّبليغ، أو تَقاعسهم عنهم. قال تعالى: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ} (الزُّخرُف:43، 44). والأمّة الإسلامية في مَجموعها أمّةُ الدّعوة إلى الله، يَجب أن تتوافر جهودُها، وتتكاتَف كلمتُها، ويُرصد جزءٌ من مواردها لتبليغ الإسلام ونشْره، ودَفْع الشبهات عنه، وردّ كيْد كلّ مَن يَعتدي عليه. ولقد أوضح القرآن الكريم، وبيَّنت السُّنّة النبوية الشريفة، حُكمَ تَبليغ الدّعوة إلى الله؛ ومِن خِلال نُصوص الكتاب والسُّنة، قسَّم العلماء هذا الحُكم إلى قسميْن: القسم الأول: إنّ الدّعوة إلى الله فَرْض عَيْن على الأنبياء والمرسَلين، ثم العلماء الذين فقِهوا دين الله، ووقفوا على أحكامه، وتَعرَّفوا على شَرائعه. - ومن أدلّة الوجوب من القرآن الكريم: ما يلي: ما أمَر الله به رسوله -صلى الله عليه وسلم- في أوائل ما نَزل من الوحي، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} (المدَّثر:1 - 3). وقال تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (الحِجر:94). وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ

وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (المائدة:67). وقال تعالى: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدىً مُسْتَقِيمٍ} (الحج:67). وقال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل:125). ولقد أمَر الله المسلمين أن تَكون مِن بينهم جماعةٌ تَتَفرّغ للدّعوة والقيام بأمْرها. قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران:104). يقول الإمام ابن كثير في تفسير هذه الآية: "ولتكُن منكم أمة منتصِبة للقيام بأمْر الله في الدّعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر؛ وأولئك هم المفلحون". هذه الجماعة التي يُناط بها أمرُ الدّعوة إلى الله، يجب أن يَحْسُنَ اختيارها، وأن تُعدَّ إعداداً خاصاً يؤهِّلُها لهذا العمل الشريف، وأن تُنتَقَى من بين المَواهب المُتفرِّدة والقُدرات المُتميِّزة. قال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة:122). - والأدلّة من السنة النبوية الشريفة على وجوب تَبليغ الدعوة، وأنها فَرْض عَين على العُلماء، يشاركُهم في المَسؤولية ولاةُ الأمر من حُكَّام المسلمين وزُعمائهم، كَثيرة: فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((مَن رأى منكم مُنكراً فليُغيِّرْه بيَده، فإن لم يَستطع فبِلسانه، فإن لم يَستطع فبقَلبه؛ وذلك أضعفُ الإيمان))، رواه مسلم.

وعن حذيفة -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: ((والذي نفسي بيده! لتأمُرُنّ بالمَعروف ولتَنهوُنّ عن المُنكر، أو ليوشكنّ اللهُ أن يَبعث عَليكم عِقاباً منه، ثم تَدْعونه، فلا يُستجاب لكم))، رواه الترمذي بإسناد حسَن. وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((بلِّغوا عَنِّي ولو آية))، رواه البخاري. ومن فوق جبل عرفات، في حجّة الوداع، قال -صلى الله عليه وسلم- قوْلته الآمرة الخالدة: ((ألاَ فلْيُبلِّغ الشّاهدُ منكم الغَائب)). من خِلال هذه النصوص، انعَقد إجماع المسلمين على: وجوب تَبليغ الدّعوة إلى الله، وأنها فَرْض عَين على العُلماء والدُّعاة، وأنه يَجب على ولاة الأمر مؤازرتهم ومساندتهم، لتحقيق هذا الغَرض الدِّينيّ. القسم الثاني: تعاون جَميع أفراد الأمّة فيما بَينهم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو حقّ لدَى جَميع المسلمين، وفَرْض كِفاية إذا قام به البَعض سَقط الإثم عن الجَميع. أمّا إن تقاعست الأمّة عن التَّناصُح فيما بينها، فإنّ الجَميعَ مسؤولون ويأثمون عن هذا التقاعس. - والأدلّة من القرآن الكريم على: أنّ الأمّة الإسلامية مُتضامنة فيما بينها على الأمر بالمَعروف والنَّهي عن المُنكر، ومن ذلك: قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (آل عمران:110). قال ابن كثير: "هذه الآية عامّة في جَميع الأمّة كلّ قَرن بحَسَبه".

وقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (التوبة:71). وقال تعالى آمراً المسلمين جميعاً بالتعاون فيما بينهم على البِرِّ والتقوى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (المائدة:2). وقال تعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (العصر:1 - 3). يقول الإمام الشافعي: "لو لمْ يَنزل من القرآن غير هذه السورة، لكَفَتِ المسلمين". ويقول أيضاً: "إنّ الناس أو أكثرهم في غَفلة عن تَدبّر هذه السورة". - ومِن السُّنّة: عن أبي رُقيَّة تَميم بن أوس الدَّاري -رضي الله عنه-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((الدِّين النَّصيحة))، قلنا: لِمَن يا رسول الله؟ قال: ((للهِ، ولِكتابه، ولِرسوله، ولأئمّة المسلمين وعامّتهم))، رواه مسلم. وعن جَرير بن عبد الله، قال: ((بايعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنُّصحِ لكلِّ مسلم))، متفق عليه. ولقد بيّن الرسول -صلى الله عليه وسلم- مَسؤولية المُجتمع المسلم، ووجوب التَّناصح فيما بَينهم، وأثَرَ ذلك في نَجاة المُسلمين من الفِتن والأحداث؛ فعن النعمان بن بشير -رضي الله عنه-: أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((مَثل القائمِ على حُدود الله والواقع فيها كمثَلِ قومٍ استهموا على سفينة، فأصاب بعضُهم أعلاها وبعضُهم أسفلَها. فكان الذين في أسفلها إذا

ملكة البيان ووسائلها.

استقوْا من الماء مرّوا على مَن فَوقَهم، فقالوا: لو أنّا خَرقْنا في نَصيبنا خَرْقاً ولم نُؤذِ مَن فوقَنا. فإن يَتْركوهم وما أرادوا، هلكوا جَميعاً. وإن أخذوا على أيديهم، نَجَوْا، ونَجَوْا جَميعاً))، رواه البخاري. ممّا سبق، يتَّضح عِظم أمْر الدّعوة إلى الله، وشَرف القيام بتَبليغ الإسلام ونَشْره، وأنّ هذا فَرْض عَيْن على العُلماء والأمراء، وأنه فَرْض كِفاية على مَجموع الأفراد، يقومون به وفْق قُدرات كلّ فَرد وإمكاناته، وحَسب مسؤولياته تجاه أهله، كما قال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} (طه:132)، أو نحو العَشيرة والقَوم، قال تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (الشعراء:214)، أو تجاه جيرانه وأصدقائه، تَمسّكاً وتَنفيذاً للأسُس التي وضعها القرآن الكريم، بقوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل:125). 2 - علاقة علْم الدّعوة بالعلوم الأخرى ملَكة البيان ووسائلها أولاً: التمهيد للمحاضرة: لقد خَلق الله الإنسان في أحسن تقويم، وأنعم عليه بنِعمة البيان، وهي مِن أجلِّ النِّعم التي أنعم الله بها على الإنسان، قال تعالى: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} (الرحمن:1 - 4). فملَكَةُ البَيان تَحْصُلُ للإنسان بوسائل عِدّة، منها: أولاً: القِراءة والاطّلاع على سائر العلوم والمعارف. ولأهمية القِراءة في تَكوين عَقل وفِكر الإنسان، كان أوّلُ ما نَزل على الرسول -صلى الله عليه وسلم-: قولُ الله تعالى: {اقْرَأْ

بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذي عَلَّمَ بالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق:1 - 5). ثانياً: الكِتابة، وهي التي يُعبّر بها الإنسان عمّا يَجيش في فؤاده، وبما يَجول في قَلبه ووجْدانه، وبالكِتابة يتمّ التَّفاهم بين بني الإنسان، والتعارف بين الأمم والأوطان. وهي أداة لنقْل العُلوم والمَعارف، لذلك أقسم الله -تبارك وتعالى- بالحَرف الذي يُعبَّر به عن الفِكر، وبالقَلم الذي يُدوَّن به، وبالمادة العِلمية التي تُصاغ، قال تعالى: {نْ * وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} (القلم:1)، وقال تعالى: {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق:4، 5). ثالثاً: النَّظر والتأمّل في الأنفس والآفاق، قال تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} (الذاريات:21)، وقال تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لاَ يُؤْمِنُونَ} (يونس:101). وكذلك التّأمّل والتّفكّر في تكوين الخَلْق، وتَطوّر حياة الإنسان، قال تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} (الطارق:5، 6). رابعاً: الحِكمة، وهي: الإصابة في القَول والعَمل، ويَختص الله بها مَن يَشاء من عِباده، بخِلاف العِلْم، فهو مُتاح للإنسانية كلّها، ويَنتج عَنه الخَير والشَّر. أمّا الحِكمة فلَن يأتي منها إلاّ الخَير فقط. قال تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ} (البقرة:269). خامساً: التّقوى، وهي مِن أهمّ مفاتيح تحصيل العلوم والمعارف النافعة والمفيدة، قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} (البقرة:282).

هذه الوسائل وغَيرها: أدوات لتحصيل العُلوم والمَعارف، التي أمر الله رسوله -صلى الله عليه وسلم- بالتَّزود منها، قال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} (طه:114). وإنّ معيار نجاح الدّعاة إلى الله يتوقّف على مِقدار ما يُحصِّلونه من عُلوم وما يَتزوّدون به من مَعارف، تُربِّي عُقولهم، وتَسمو بأفكارِهم، وتُوقِظ في قُلوبِهم ينابيع الخَير. ولن يَتسنَّى لهم ذلك إلاّ بَكثرة الاطّلاع، واتّساع الثقافة، اللّذَيْن يُؤدِّيان إلى دِقّة الفَهْم، وعُمق الفِكر؛ وهذا يَتحقّق حينما يكون الدّاعي مُلماً بأطراف العُلوم النَّظريّة والتَّطبيقيّة، وكذلك سائر المَعارف الإنسانية وفْقَ كلّ عَصر وبيئة. ولذا قيل: إن عِلْم الدَّعوة يَبدأ من حَيث تَنتهي كلّ التَّخصصات؛ فالإنسان إذا أراد أن يَنخَرط في سِلك الدُّعاة إلى الله، فلْيَتَنقّل في رياض العُلوم والمَعارف، مَثَلُه كمَثَل النَّحلة تَنتَقل من غُصْن إلى غُصْنٍ، وتَتحوّل من زَهرة إلى زَهرة، تَرتشف الرَّحيق، وتَمْتَص العَبير، لِتُخْرِجَ عسلاً مُصفىً فيه شِفاء للناس. وكذلك الدّاعي إلى الله يَتريّض بين العُلوم المُختلفة، يَسبر أغوارها، ويَقِف على موضوعاتها، ويَتعرّف على فوائدها، فتَتّسع مَدارِكُه، وتَكثُر معارفه، ويكون لديه الدواء الناجِع والبَلسم الشافي لأمراض المُجتمع وعِلَلِه. لذا، فعلْم الدّعوة مُرتَبط بالعُلوم الأخرى ارتباطاً وثيقاً، كارتباط الرأس بالجَسد. فالعلوم المُختلفة والمَعارف المُتنوِّعة، هي روافِد للتَّعريف بالإسلام، وشَرْح أحكامه، ودَعوة الناس إليه؛ فهي وَسيلة لأسمى غَاية، وأشرف عَمل، قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (فُصِّلَت:33).

والدّاعي إلى دين الله، والآمر بالمَعروف والناهي عن المُنكر، لا بدَّ وأن يَكون عالِماً عِلْماً يَقينياً بما يَدعو إليه، أو يأمر به من مَعروفٍ، أو يَنهى عَنه من مُنكر، ولا بدَّ أن يكون عالِماً بالأسلوب الذي يَستَخدمه، وبالعلوم التي تُفيده في ميادين الدّعوة، وذلك لتلافي الأمور التالية: الأمر الأول: الحذر من أن يَدعوَ إلى باطِل وهو يَحسبه حقاً؛ فيكون ضَررُه على الدِّين أشدّ من ضَرر الصامتِين، وخَطرُه أعظمَ من خَطر أعداء الدِّين، ولا سيما إذا اتُّخذ قُدوةً فيما يَدعو إليه من باطل في سلوكه الخاص. الأمر الثاني: الحَذر إذْ لم يكن عَالِماً بَصيراً وداعياً حَكيماً، أن يَتخذَ أسلوباً مُنَفِّراً؛ وهذا ضَرره أكثر من نَفعه. الأمر الثالث: إن لم يَكن عَالِماً، فسوف يَستدلُّ على ما يَدعو إليه أو يَنصح به، بأدلّةٍ باطلةٍ، فيَحْصُلُ من دَعوته ضَررٌ أكثر من النَّفع، فيُسيء من حَيث يَتوقّع منه الإحسان. الأمر الرابع: خَشية أن يُسأل غير العالم عن مَسألة، فيُفتي فيها بغَير علْم، فيَضِلّ ويُضِلّ. ولقد حذَّر الرسول -صلى الله عليه وسلم- مِن اتّخاذ رُؤوس في العلْم جُهَّال، فيكونون وبالاً على الدِّين، ونَكبة للأمة.

العلوم التي لها ارتباط وثيق بعلم الدعوة.

فقد روى البخاري ومسلم: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إنَّ الله تعالى لا يَقبض العِلْم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يَقبض العلْم بقبض العلماء؛ حتى إذا لم يُبقِ عالماً، اتّخذ الناس رؤوساً جهالاً فسُئلوا، فأفتَوْا بغَير عِلْم، فضلُّوا وأضلّوا)). لهذه الأسباب ولغيرها، يتّضح ما ينبغي أن يكون عليه الداعية إلى الله، من وجوب الوقوف على شتَّى أنواع الثقافات، والإلمام ببعض العلوم التي يستفيد منها، ويُفيدُ غيره في ميادين الدّعوة. وسوف نوضِّح العلاقة الوطيدة والارتباط العميق بين علْم الدعوة والعلوم الأخرى. العلوم التي لها ارتباط وثيق بعِلْم الدّعوة إنّ علْم الدعوة إلى الله لن يُؤتي ثماره، ولن تتحقّق نتائجُه إلاّ إذا ارتبط ارتباطاً وثيقاً بالعُلوم والمَعارف حيث يَنهل منها الدَّاعية، ومن خِلال جِماع هذه العلوم، تَتولّد لديْه الثقافةُ الواسعة والإلمام بقضايا أمّتِه، ومشاكِل عَصره، وتكون عِنده القُدرة على استمالة المَشاعِر، واستِنهاض الهِمَم، وذلك بالحُجج الدامِغة، والبراهين الساطِعة، والأدلّة القوية، المُتسلِّحة بحُسن المَنطق، وسَلامة التَّعبير، ورَوعة الأداء. والعُلوم التي ترتبط بالدّعوة، ويجب على الدعاة تَحصيلها والإلمام بها، هي ما يلي: القسم الأول: علوم اللّغة العربيّة. لقد تَنزَّل القُرآن على قَلب الرسول -صلى الله عليه وسلم- بلسان عَربيّ مُبين، قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} (الشعراء:192 - 195).

فالرسول -صلى الله عليه وسلم- أفصَح فُصحاء العَربية، وأطلقُهم لِساناً، وأعذبُهم حديثاً، وأبلغُهم منطقاً. وقد أُوتيَ -صلى الله عليه وسلم- جَوامعَ الكَلِم. قال الإمام العلامة أبو سليمان الخطّابي -رحمه الله تعالى-: "اعلمْ: أن الله تعالى لمَّا وَضع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مَوضع البَلاغ من وَحْيه، ونصّبه مَنصب البيان لدِينه، اختار له من اللغات أعذَبَها، ومن الألسُن أفصحَها وأبْيَنها. ثم أمدّه بجَوامع الكَلِم، التي جعلها رِدءاً لنبوّته، وعَلَماً لرسالته، لِينتَظِم في القَليل منها عِلْم كَثير، يَسهُل على السامِعين حِفظُه، ولا يَؤودُهم حَملُه. فمَن تَتبّع جوامِع كلامه -صلى الله عليه وسلم- لم يُعْدَم بيانها". واللغة العربية كان يَنطقها العَربيّ بالسَّليقة، ويَتذوّق معانيها بالفِطرة، لا يَعرف نِقاطاً ولا علامات على الحروف، ولا تَشكيلاً للكَلمات. وكان يُعبِّر عمّا يَجيش في خاطِره شِعراً أو نَثراً، بلُغة فَصيحة، سليمة بليغة، لا تَعرف اللَحن، ولا يَفشو فيها الخَطأ، وتَرفَّعت عن عُجْمة الفُرس، وتَنزَّهت عن لُغة الروم. ولمّا جاء القرآن الكريم بلسانٍ عَربيّ مُبين، على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ازدادت مكانة اللّغة العربية، فارتفعت هامَتُها بين لغات الأمم، وأكسبها القرآن قُدسيّةً ومَهابةً، وأضفى عليها ثوباً قَشيباً من بَلاغة الأسلوب، وجَمال التَّصوير، وجَلال المَعاني، وموافقة الطَّبائع، ولمس السرائر، ورؤى المستقبل، وأحداث التاريخ، وإشارات العُلوم. وكذلك أضاف إليها الرسول -صلى الله عليه وسلم- ببلاغَته وفصاحَته، من خِلال أقواله -صلى الله عليه وسلم- مَنزلةً رَفيعة، ومَرتبة سامية. وهكذا تضافَرت على اللغة العربية تلك العَوامل التي حافظت على بقائِها ونقائِها، لارتباطِها بالقرآن الكريم، الذي تَعهَّد الله بحِفظه، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحِجر:9).

وقد استمرت اللغة العَربية يتحدّث العَرب بها دون قَواعد تُضبَط، والنُّطقَ بها قَبل بِعثة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وخِلال حياته -صلى الله عليه وسلم-، وإبّان نُزول القرآن الكريم، كان يُكْتب بدون تَشكيل ولا عَلامات إعراب. ومع انتشار الإسلام، واختِلاط العَرب بغيرهِم من الأمم، فشا اللحن، وكَثُر الخَطأ، وتخوّف المسلمون أن يَتسرَّب هذا إلى القرآن الكريم، فيَلحَق به ما لَحِق بالكُتب السماوية السابقة من تَحرِيف وتَغيير. وبَدأت أمارات اللّحن وبوادِر خَطره، حينما قَدِم أعرابي إلى المدينة في خِلافة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، فقال: مَن يُقرِئني شَيئاً ممّا أنزل الله تعالى على رسوله -صلى الله عليه وسلم-؟ فأقرأه رجل من بداية سورة (براءة)، حتى وصل إلى قوله تعالى: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} (التوبة:3)، فنَطق الرجلُ الذي يقرأ بها: "ورسولِهِ" -بكَسر اللام بدلَ ضَمِّها-، وهذا اللّحن يُفسِد المعنى إفساداً كبيراً. فلما سَمِع الأعرابي هذا، قال: وأنا أبرأ ممّا بَرئ الله منه، ورَجَع على عَقبيْه. فبلغت مقالتُه عمرَ بن الخطاب. فقال: رُدُّوا عليّ الرجُل! فقال: يا أعرابي، أتبرأ من رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فقصّ الرجل عليه قِصّتَه. فقال عمر: ليس هذا يا أعرابي، فقال: كيف هي يا أمير المؤمنين؟ فقال عمر -رضي الله عنه-: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} (التوبة:3) -برفع اللام-، فقال الأعرابي: وأنا والله أبرأ ممَن بَرِئ الله ورسوله منهم. فأمَر -رضي الله عنه- أبا الأسود الدؤلي المَولود عامَ واحد قَبل الهِجرة، أن يضع ضَوابط اللسان العربي. وقِيل: إن علياً بن أبي طالب -رضي الله عنه- هو الذي أمره بذلك. فقد روى أبو الأسود الدؤلي أنه قال: "دَخلتُ على أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- فوجدت بيده رُقعة، فقلت: ما هذا يا أمير المؤمنين؟ فقال: إني تأمّلت كلام العَرب فوجدتُه قد فَسد بمخالَطة هذه الحَمراء -يعني: الأعاجِم-،

فأردت أن أضع شيئاً يَرجعون إليه، ويَعتَمدون عَليه. ثم ألقى إليّ الرُّقعَة، ومنها: "الكلام كلّه: اسم، وفعل، وحَرف؛ فالاسم: ما أنبأ عن المُسمَّى. والفِعل: ما أُنبِئ به. والحرف: ما أفاد مَعنىً. وقال لي: اُنْحُ هذا النَّحو! وأضِفْ إليه ما وَقع إليك! ". ومنذ ذلك التاريخ، شمّر علماء المسلمين عن سواعِدهم، ووضعوا قَواعِد اللغة العربية لِضبط مُفرداتها، وتَصريف أفعالها، وتَشكيل أواخر الكَلمات باختلاف أحوال موقِعها. ولقد أثمر هذا الجُهد: أنْ ظَهرت في ميادين الفِكر الإسلامي: أولاً: علومُ العربيّة: ويتضمّن ما يلي: 1 - علْم النحو: الذي به يُضبَط الكَلام، وبمراعاة قَواعده يَسلَم اللسان من اللّحن. 2 - علْم الصَرف: الذي يَبحث في بنيَة الكَلمة، واشتقاقِها في الأفعال وتَصريفها، ممّا يَخلق في المُتحدِّث مَلكة التَّعبير عن الفِعل بكَثرة مُترادِفاته. 3 - علْم البلاغة: الذي وَضع قَواعد البلاغة وأساليب الفَصاحة من علْم المعاني، والبيان، والبديع، ممّا يُساعد على تَدبّر آيات القرآن الكريم، وتَذوّق روعة بلاغته، وإعجاز بيانه، وكذلك الوقوف على فَصاحة الرسول -صلى الله عليه وسلم-. 4 - علْم معاني مُفردات اللغة العربية، المدوّن في المعاجم اللغوية: كـ"لسان العرب"، و"القاموس المحيط"، وغَيرها ... فاللغة العَربية بعلومها وفُروعها، هي سلاح الدّاعية إلى الله، وأداة تَعبيره، ووسيلة التفاهم بينه وبين المَدعوِّين. فطلاقة اللسان، وحُسن المَنطق، وروعة

الأداء، وعُذوبة الحَديث، وتأدية المَعنى واضحاً بعِبارة فصَيحة وكلمات بَليغة تأسر النُّفوس وتَستَحوِذ على العُقول، وتُلهب العَواطف وتُثير المَشاعِر، ممّا يُساعد على نَجاح الدّعاة في دعوتهم إلى الله. ثانياً: علْم أصول الفقه: وهو علْم يُساعد على تَفهُّم النُّصوص الدِّينية، واستنباط الأحكام الشَّرعية على براهين وأدلّة مَقبولة شَرعاً، والتَّعرّف على مراتِب أدلّة الشَّرع، وبيان المَقبول مِنها وغير المَقبول، والتَّنبيه على ما هو صَحيح منها وعَدم صِحّة غيره، وتَرجيح ما يَقبل التَّرجيح وفْق دلالة الألفاظ الشرعية واللغوية، ونوعيّة الأمر الوَارد في القَضية حسب الأحكام التَّكليفية الخَمْس وهي: الوجوب، الندب، التحريم، الكراهة، الإباحة. وهذا العلْم يُؤسَّس على الفَهم العَميق للّغة العربية التي تُساعد على استنباط الأحكام الشرعية والحُكْم عليها؛ وهو من هذا الجانب وثيق الصِّلة بعلوم اللّغة، ولا غنىً للدّعاة عن الوقوف على قواعده، والتّعرّف على الأئمّة الفقهاء الذين وضعُوا أسُسه، وشيّدوا صَرحه، كالإمام أبي حنيفة -رحمه الله- الذي صنَّف كِتابه "كتاب الرأي"، وقد بيَّن فيه طُرق الاستنباط. وكذلك الإمام الشافعي -رحمه الله-، حيث صنَّف في هذا العلْم مؤلّفات عَديدة عُرف منها: كتاب "الرسالة"، وكتاب "أحكام القرآن"، و "اختلاف الحَديث"، و "إبطال الاستحسان"، وكتاب "جِماع العلْم"، وكتاب "القياس". يقول ابن حجَر عن الإمام الشافعي: "فكان بحقّ أوّلَ من أصّل الأصول وقعّد القواعد، وأذعَن له المُوافق والمُخالِف".

ثالثاً: علْم آداب البَحث والمُناظرة: يُعدُّ من العُلوم الوَثيقة الصِّلة بعِلْم الدَّعوة؛ فلَقد خَلق الله بني آدم مُتفاوتين في الفَهم والذَّكاء، مُختلِفين في اللّغات واللهجات، متمايزين في الإدراك، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ} (الروم:21، 22). وهذا الاختلاف يَستلزم تَنوّع طُرق الإقناع العَقليّ والتأثير القَلبيّ؛ لذا وَضع علماء المسلمين قواعِد البَحث والمُناظرة، وآداب المُحاورة والمُجادلة، وقعّدوا لها الأسُس والضَّوابِط، وأنشؤوا هذا العِلم حيث تَضمَّن الآداب التي يَنبغي أن يَلتزم بها المُتجادلون، وبيَّنوا من خِلاله الجَدل المَحمود والجدل المذموم. والدّعاة إلى الله في حاجة ضرورية للوقوف على قواعد هذا العلْم، لأنهم قد يتعرّضون من خِلال دَعْوتهم لبعض القضايا، ويُواجِهون بعض المُتناظرين ذوي التَّيارات العَلمانية والنَّزعات الإلحادية. وقد يُسْتَدْرَجون لموضوعات شائِكة، يَصطادُهم فيها شياطينُ الإنس. فإن لم يَكن الدَّاعية على دِراسة كافية ووعْي تام، فسوف تَهتزّ صورته أمام الحاضرين، ويَفقد مِصداقِيّته ولو كان على حق. رابعاً: علوم النَّفس، والاجتماع، والتربية: توصّل العُلماء إلى غَرائز النّفس ودوافعها وتقسيماتها، وأنشؤوا علْم الاجتماع وأصول العِمران. وكان رائدُ هذا العلْم ومؤسّسه: العالِم المسلم عبد الرحمن بن

العلوم التي تتناول أصول الدين وفروعه.

خلدون. كذلك وضَع العلماء أسُس التربية السَّليمة. وقد أصبح لهذه العُلوم مَوقعاً بين العلوم الإنسانية الأخرى، وبها يُضبط سلوك المُجتمع، وتُوزَن تصرّفاته. وبعض ما توصّلوا إليه لا يتعارض ولا يتنافى مع تعاليم الإسلام، ومعرفة هذه الأمور تُفيد الداعية، حيث تَجعله على وعْيٍ تامّ بقضايا الأمّة، كما تُمكِّنه أن يتصدّى لعلماء الغَرب الذي يَجنحون بهذه العلوم عن سُنن الفِطرة وهدى الوحي السماوي. العلوم التي تتناول أصول الدِّين وفروعَه أولاً: علْم العقيدة الإسلاميّة: وهو علْم يبحث في أسماء الله وصفاته، ويُقيم الأدلّة على وجوده ووحدانيته -سبحانه وتعالى-، وذلك من خلال الأدلّة الشرعية مِن القرآن والسُّنّة، والبراهين المنطقيّة العقلية. كما يوضِّح أركان الإيمان ودعائمه، ويقوم بدراسة الفِرَق الإسلامية دراسة مقارنة: يُبيِّن ما هو منها على نهج سلَف الأمّة، وما انحرف عن الجادّة. وقد اهتمّ علماء المسلمين على مدى التاريخ بهذا العلْم، وأطلقوا عليه اسم: "علم التوحيد" أو "الإلهيات". ويندرج تحته علْم "مقارنة الأديان". وموضوعات هذا العلْم لها وثيق الصلة بعلْم الدّعوة؛ فلا يُتصوّر أن ينزل الداعية إلى ساحة الدّعوة وهو مجرّد من أهمّ مكوّنات عقيدته ومقوّمات فِكْره وأصل دعوته. ثانياً: علْم الفقه: وهو في اللغة: العلْم بالشيء، والفهم له، قال تعالى: {فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} (النساء:78).

وقوله تعالى على لسان قوم شعيب -عليه السلام-: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ} (هود:91). وفي الاصطلاح: العلْم بالأحكام الشرعية العمليّة المستمَدّة من أدلّتها التفصيليّة. وقد أطلق العلماء لفظ "الفقه" على جميع الأحكام الدِّينيّة التي جاءت بها الشريعة الإسلامية، سواء كانت هذه الأحكام متعلّقة بأمور العقيدة، أو العبادات، أو الأخلاق، أو المعاملات. وعلْم الفقه من ألزم ما يحتاج إليه الدّعاة، وهو جوهر دعْوتهم وصُلْب رسالتهم، لا غنىً لهم عن التفقه فيه والوقوف على أحكامه. وهو فرْض عيْن عليهم، قال تعالى: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة:122). ويقول -صلى الله عليه وسلم-: ((مَن يُرِدِ اللهُ به خيراً يُفقِّهْهُ في الدِّين)). فعلْم الفقه ذو علاقة وثيقة بعلْم الدّعوة وبعمل الدّعاة، إذ إنّ رسالتهم لا تتوقف على مجرّد الوعظ والإرشاد، وإنّما مِن أسُس دعْوتِهم إلى الله: أن يُبصِّروا المسلمين بالأحكام الشرعية في العبادات والمعاملات. ثالثاً: القرآن الكريم وعلومه: من أهم مقوِّمات الدّعوة إلى الله: حفْظ القرآن الكريم، وإتقان تلاوته، وتدبّر آياته، واستيعاب أحكامه. ولا يتصوّر ذو عقل ولبّ أن يُعدّ الدعاة بعيداً عن ساحة القرآن الكريم، ويتأهّلون على غير موائده. وعلى الداعية بجانب وجوب حفْظه للقرآن، أن يكون على صلة دائمة بعلومه وارتباط بتفسيره، وأنْ يكون على دراية بالموضوعات التالية:

1 - معرفة بعض أحكام التجويد لإتقان القراءة وإحكام التلاوة. 2 - معرفة أسباب النزول، والتعرف على المحكَم والمتشابِه، والناسخ والمنسوخ. 3 - الوقوف على أوجه الإعجاز في القرآن الكريم. 4 - دراسة أساليب الدّعوة من خلال قصص القرآن الكريم. 5 - دراسة النفس البشرية ورغباتها وطُرق إصلاحها. 6 - الوقوف على التشريعات والأحكام التي جاء بها. رابعاً: السُّنّة النّبويّة وعلومها: "السُّنّة" هي: ما أُثِر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مِن قوْلٍ، أو فعْل، أو تقرير، أو صفة خَلقية أو خُلقية، أو سيرة، سواء أكان ذلك قبل البعثة أم بعدها. والسّنة النبوية هي المصدر الثاني للمسائل العقائدية والأحكام الشرعية. وقد جاءت في الجملة موافقة للقرآن الكريم: تُفسِّر مُبهَمَه، وتُفصِّل مُجمَله، وتقيّد مُطلقَه، وتخصِّص عامَّه، وتشرح أحكامه وأهدافه. كما جاءت بأحكام لم ينصّ عليها القرآن الكريم. ولقد التفّ الصحابة حول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقرأ عليهم القرآن، ويُقبِلون على أفعاله وأقواله بتطلّع شديد وحبّ عميق، يتسابقون للجلوس على مقربة منه، ويتشوّقون لسماع حديثه وحفْظه ونقله، يُساعدهم على ذلك تغلغل الإيمان في قلوبهم، وتمكّنه من مشاعرهم وعواطفهم. هذا بجانب قدرات فطريّة على الحفظ، وملكات ذهنية طبيعية فائقة على الاستيعاب، يصاحب ذلك حسنُ الاقتداء به -صلى الله عليه وسلم-. وكان ثمار هذا كلّه: السنة النبوية

وعلومها التي تضافرت الأمّة خلال القرن الأوّل والثاني على جمْعها وتدوينها من خلال ضبط المتْن والسّنَد، والنقل عن الرواة العدول الثقات. وأصبح لدى الأمّة موسوعة ضخمة من أحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأفعاله وأقواله، تمّ تصنيفها وتبويبها، ووُضع لها علْم "مصطلح الحديث" ليُعرف من خلاله درجة صحة الحديث، ومدى قوّة السند وعدالة الرواة، ويتميّز الصحيح من الضعيف والموضوع. هذا العلْم الشريف عميق الصّلة بعلوم الدعوة وجوهر تكوين عقليّة الدعاة. ولكي يتمّ عميق الصلة بين علْم الحديث وعلْم الدعوة، فينبغي على الدّعاة أن يلتزموا بالأمور التالية: 1 - الاطّلاع على أمّهات المصنّفات التي دُوِّنت فيها الأحاديث النبوية ومنها: "صحيح البخاري"، "صحيح مسلم"، "سنن أبي داود"، "سنن الترمذي"، "سنن النسائي"، "سنن ابن ماجة"، "مسند الإمام أحمد". 2 - دراسة علوم الحديث مع ما يتعلّق بتدويه، مع بيان شُبهات المستشرقين التي أثاروها ضد السُّنّة. 3 - أن يتجنّب الدعاة رواية الأحاديث الضعيفة والموضوعات، وأن يتثبّتوا في النقل عنه -صلى الله عليه وسلم-. 4 - معالجة قضايا الأمّة ومشاكلها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، في ضوء القرآن والسّنة. هذا، وبالله التوفيق.

المواد العلمية الكونية.

3 - المَواد العِلْميّة الكَونيّة المَوادّ العِلْميّة الكَونيّة القرآن الكريم هو حُجّة الله البَالِغة على عِباده، ومَوضع الحُجّة القاهِرة فيه: إعجاز الخَلق عن الإتيان بسورة مِن مِثْله. ويَنبغي ألاّ يَكون إدراك إعجازِه مَوقوفاً على فُصحاء العرب فَقط؛ فالإنسانية كلّها مُخاطَبة به، مُطالبة بالتَّسلِيم له، لأنه كَلام الله للبَشر جَميعاً، فكان لا بدّ من إعجاز يَشترك في إدراكه العربيّ والأعجميّ. والإعجاز العلمي في القران الكريم هو أحد أوجُه الإعجاز الذي يَعجز المُلحدون أن يَجدوا مَوضعاً للتَّشكيك فيه، إلاّ أن يتبرؤوا من العَقل ويُلقون التفكير. وقبل أن نُبيِّن مَدى ارتباط العُلوم الكَونيّة بعِلم الدّعوة، يَنبغي أن نُوضِّح الحقائق التالية: أولاً: إن القرآن الكريم هو كتاب الله المُحكَم المُفصّل، قال تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} (هود:1). وهذا التَّفصيل والإحكام لا يتوقّف عند زمنٍ معيَّن ولا أقوام بعَيْنهم، وإنما هو مُتجدِّد العَطاء، دائم التَّحدّي والإعجاز، حتى يَرث الله الأرض ومَن عليها. ثانياً: هناك تَوافق بين آيات القرآن الكريم وسُنن الله تعالى في الكون، وليس ثمّت تَعارض بين آيات الذِّكر الحكيم والقوانين العِلميّة والسُّنن الكونيّة الثابتة. فالقرآن كلام الله، والكون خلْق الله، فلا اختلاف بينهما؛ ولهذا قيل: "القرآن كون الله المَقروء، والكَون قرآن الله المَنظور".

ثالثاً: يَنبغي أن لا يُفسّر القرآن، ولا يُستدلّ به على نَظريّات لا تَزال محلّ بحث وفَحص، ولم تَرْقَ إلى مرتبة القوانين العلميّة الثابتة، كقانون الجاذبيّة، وكقوانِين طفو الأجسام وغوْصها ... رابعاً: يَنبغي ألاّ يُستدلّ بالحقائق العلميّة على صدْق القرآن، ولكن يَجب أن يُستدل بالقرآن على صِحّة الحَقيقة العِلميّة، وإذا ما حدث تعارضٌ ما فيجب أن يُعاد النَّظر في القانون العِلميّ، أو مُعاودة دِراسة الظاهِرة الكَونيّة في ضوء البحث العلمي، بأدوات بحثه المُتقدّمة وفي ضوء تفسير الآية، وفق مَدلولات اللغة العربية. خامساً: إنّ الإعجاز العِلمي للقرآن الكريم ليس في اشتماله على النَّظريات العِلميّة التي تَتجدّد وتَتبدّل، وتكون ثَمرة للجُهد البشري الذي يُخطِئ ويُصيب؛ وإنما الإعجاز العلميّ يهدف إلى توجيه العقول إلى التفكّر فيما يحيط بالإنسان في هذا الكون، قال تعالى: {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} (الذاريات:20، 21). سادساً: يَنبغي ألاّ يُتعسّف في التأويل، ولا يُشتَطّ في التفسير، لإخضاع كلّ القوانين العلْميّة للقرآن الكريم؛ فمِن الخَطإ الاعتقاد أن يتضمّن القرآن كلّ نظريّة علْميّة، وكلّما ظَهر سِرّ نظريّة جَديدة، سارع البعض يلتمس لها تأويلاً وتفسيراً في القرآن الكريم. وبعد هذه التَّوضيحات، فإن عِلْم الكَونيات وغيرها من العلوم التطبيقية، لَذو صِلة وثيقة بعلْم الدّعوة، وعلى الداعية أن يَتعرّف على الآيات التي تتناول سُنناً كَونية، أو ظاهرة فَلكيّة، لتكون من مَوضوعات دَعْوته، يَدعم بها حَديثه، ويُوطِّد بها استدلالاته. ومن ذلك ما يلي:

أولاً: يَجمع الله علوم الفلَك، والنّبات، وطبقات الأرض، والحيوان، في آيتيْن، ويَجعل ذلك من بواعِث خَشْيته -سبحانه وتعالى-، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (فاطر:27، 28). ثانياً: الذكورة والأنوثة، أشار إليها القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (الذاريات:49). وقال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ} (يس:36). ثالثاً: أشار القرآن الكريم إلى انشطار الذَّرة وتَجزئتها في قوله تعالى: {عَالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (سبأ:3). فالذَّرة عرّفها العلماء بأنها الجُزء الذي لا يَتجزّأ، وأنها أصغر شيء في الوجود، وأنها رغم صِغرها يتوقّف عليها شقاء العالَم أو سعادته، وأنّ القوة الكامِنة فيها قُوّة مُخيفة، إن استُعمِلت في الحَرب أفنَتْ كلّ شيء، كما حدث في اليابان في الحرب العالمية الثانية، وإن استُعمِلت في الأغراض السِّلميّة حَقّقت الخير للإنسانية. رابعاً: أشار القرآن الكريم إلى الظواهر الجَوِّيّة في آيات كَثيرة، منها: قوله الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ

عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ * يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} (النور:43، 44). فقد أشارت هذه الآيات إلى الظواهر الكونيّة التّالية: 1 - السّحاب. 2 - المطر. 3 - البََرَد. 4 - الصّواعق. 5 - تقلُّب الليل والنهار. وما يَحمل ذلك عَبر هذه الآيات وغيرها، ممّا ينبغي على الدّعاة أن يقفوا على أسرارها، ويسبرون أغوارها؛ وبهذا يتملّكون نواصي العُقول والقُلوب. وبذلك يَتّضح مَدى ارتباط العُلوم الكونيّة وغيرها كطبقات الأرض، والزراعة، والفلَك، بعلْم الدّعوة إلى الله. القسم الرابع من العلوم التي لها صِلة بعلْم الدعوة: علْم التّاريخ والمَغازي والسِّيَر: إنّ علْم التاريخ مرآة لأحداث الماضي ووقائعه، سطّرته الأمّة بدماء شهدائها، ومداد علمائها. وهو الذَّاكِرة الجَيِّدة التي تَحمل بين ثناياها عَبَق الماضي من أمجاد وانتصارات أحياناً، وفتنٍ ومحنٍ وهزائم أحياناً أخرى. وحلقات التاريخ ممتابعة، ومتواصلة عبر القرون، ولا تستطيع أمّة أن تتنكّر لتاريخها أو تتوارى خجلاً من أحداثه. وتاريخ الإسلام يفيض بالدروس ويزخَر بالعِبر، ولا سيما في القرون الأولى لدعوة الإسلام. والدّاعي إلى الله يحتاج إلى أن يَدخل مِحراب التاريخ

ويَدرس عوامل نُهوض الأمّة، ويَقف على أسباب انكسارها، كما يَرقُب عن كثب وهو يقلِّب صفحاته أمجادَ المسلمين في صدر الإسلام، من خلال الفتوحات والغزوات، ينقل ذلك بأمانة وصدْق عاطفة، فيُحرِّك السّاكن، ويُوقظ الكَسلان ويُنبِّه الغافِل، فتَتحرّك القُلوب وتَستَيقِظ المَشاعر، وتهبّ الأمّة من كبْوَتها، حيث حرّكتْها ذكريات الماضي. كما على الدّعاة أن يَدرسوا تاريخ الأمَم من خِلال قَصص القرآن الكريم الذي يَجلو حَقيقة مواقف المُعاندين ونهايتهم، ويُرشد إلى جِهاد الرُّسُل ومَن مَعهم. بجانب هذه العلوم التي ذَكرناها، فإنه يَجب على الدّعاة أن يكونوا مُلمِّين بثقافة العصر، دارسين للمذاهب الفكريّة، والتيارات المعاصرة، لأن العداء بين الإسلام وأعدائه ليس وليدَ اليوم ولا الأمس القريب، ولكنها أحقاد كامنة وثأر قديم وغلّ دفين؛ يتفنّنون في التآمر على المسلمين، يرقبون حركة المسلمين عبر العصور، ويقفون على مواقف القوة فيُضعفونها، ويقفون على مواضع الضّعف فيزيدون منها، نكاية للإسلام ومحاولة للنَّيْل منه. كما سبق، يتّضح أنّ جميع العلوم النظرية والتَّطبيقية، وشتّى المعارف الإنسانية، هي عبارة عن شرايين تتدفّق منها العلوم لتُغذّي علْم الدعوة، فيَنهل منها الدعاة، ويتكوّن لديْهم كمٌّ هائل من المعرفة، ورصيدٌ ضخمٌ في شتّى الثقافات، فيكونون بذلك أقدر على الإقناع، وأقوى على سَوْق الحُجج والبراهين.

الدرس: 2 الدعوة إلى الله من أشرف الأعمال وأعظمها.

الدرس: 2 الدعوة إلى الله من أشرف الأعمال وأعظمها.

الدعوة إلى الله مهمة الرسل.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثاني (الدعوة إلى الله من أشرف الأعمال وأعظمها) 1 - المَواد العِلْميّة الكَونيّة الدَّعوة إلى الله مُهمّة الرُّسُل لقد بيَّنَّا علاقة علْم الدَّعوة بالعلوم الأخرى التي تربط الدّاعية بالعلوم الشرعية والعلْمية، ومِن ثمّ يكون مؤهَّلاً لشرف حمْل رسالات الأنبياء ووحي السماء، إذ إنّ الدَّعوة إلى الله هي وظيفة الرُّسُل. وسوف يتناول هذا العنصر المباحث التالية: المبحث الأول: التعريف بكلٍّ من "النَّبيّ" و"الرَّسول"، وبيان الفَرق بينهما: "النّبيّ" لغة: إمّا أن يكون مُشتقاً من "النَّبإ" وهو: الخَبر، قال تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الحِجر:49)، وقال تعالى: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} (التحريم:3). فأصْلُه: "النبيء"، فتَحرّكت الهَمزة للتخفيف، لكَثرة الاستعمال، حيث قُلِبت الهمزة المتطرِّفة ياءً، ثم أُدغِمت الياء في الياء. ويُجمع "النّبيّ" على: نبيِّين، وأنبياء، وأنبئاء، ونُبآء. أما لفظ "النّبيّ" فيُشتَق أيضاً من النّبوّة، والنباوة، وهي: الارتفاع عن الأرض، وذلك لارتفاع قَدْر النّبيّ -صلى الله عليه وسلم-، لأنه شَرُف على سائر الخَلْق، فأصله من غَير همزة. تعريف "النّبيّ" في الاصطلاح: هو إنسان ذَكَر حُرّ من بني آدم، سليم عمَّا يُنَفِّر طَبعاً، أوحى الله إليه بشرْع يَعمل به، وإنْ لمْ يُؤمَر بتَبليغه. تعريف "الرَّسول": "الرَّسول" لغةً: هو الذي يُتابع أخبار الذي بَعثه، أخذاً من قَولهم: "جاءت الإبل رَسلاً" أي: متتابعة.

وتُطلَق كَلمة "الرَّسول" على المُبلِّغ، كقوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} (التوبة:128). وتارة تُطلق على القَول المُتَحمَّل كقول الشاعر: ألاَ بلِّغْ أبا حفصٍ رسولاَ ... ................... أي: قولاً. وتُطلَق على رُسُل الله من البَشر، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} (المؤمنون:51). ويُراد بها الملائكة، قال تعالى: {قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} (هود:81). تَعريف "الرَّسول" في الاصطلاح: يُعرف "الرَّسول" بما يُعرَّف به "النَّبيّ" غَير أنّ الرَّسول هو: مَن أَوْحى الله إليه بشرْع وأمَره بتَبليغه. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (المائدة:67). فالنُّبوّة والرِّسالة سِفارة بين الله وبين ذَوي العُقول، لإزاحة عِلَلهم في أمر معادِهم ومعاشِهم. الفَرق بين "النَّبيّ" و"الرَّسول": فرّق عُلماء التَّوحيد بين "النَّبيّ" و"الرَّسول"، وهذه المُغايَرة تَرجِع إلى قَوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} (الحج:52).

فذكرت الآية إرسالاً يُقِرّ النَّوعيْن، وعَطَفت النَّبيّ على الرَّسول، والعَطْف يَقتضي المُغايرة. ويُستَدلّ على الفَرْق بين النَّبيّ والرَّسول (ما أخرجه الحاكم عن أبي ذر -رضي الله تعالى عنه- قال: قُلت: يا رسول الله. كم الأنبياء؟ قال: ((مائة ألْف وأربعةٌ وعشرون ألْفاً)). قال: قُلت: يا رسول الله. كم الرُّسُل من ذلك؟ قال: ((ثلاثمائة وثلاثة عشر. جمٌ غَفير كَثير طيِّب)). فلقد أخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن عدد الأنبياء والمرسلين، ومن ثَمَّ اتّجه أهل السُّنّة والجَماعة إلى التَّفرقة بين النَّبي والرَّسول في الأمور التالية: أولاً: النَّبيّ: مَن أُوحيَ إليه بشَرْع يَعمل به واختُصّ به. والرَّسول فقط هو: مَن أوحِي إليه بشَرْع يَعمل به ويُبلِّغه، ولم يَختَص بشيء منه. فإن اختصَّ بالبَعض وبلَّغ البَعض فهو نَبيّ ورَسول، كرسول الله محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-. ثانياً: النّبيّ: هو الذي يُنبِئه الله، وهو يُنبِئ بما أنبأه الله به. فإن أُرسِل مع ذَلك إلى مَن خالَفه ليُبلِّغه رسالة من الله، فهو رَسول. ثالثاً: النَّبيّ يكون مقرِّرِاً لمَن سَبق تَبليغُهم، أمّا الرَّسول فهو مُبلِّغ للأحكام. رابعاً: الرَّسول يكون مَعه كتاب، بخِلاف النَّبيّ فإنه قد لا يَكون معه كتاب أحياناً، كهارون مع موسى، وإسماعيل وإسحاق ويعقوب من إبراهيم. خامساً: أن الرَّسول من الأنبياء هو: مَن جَمع إلى المُعجزة الكتاب المنزّل عليه. والنَّبي غير الرَّسول هو: مَن لم ينزّل عليه كتاب، وإنما يَدعو الناس إلى شَريعة مَن قَبْله. سادساً: أنّ كلمة "النَّبيّ" إذا ما أطلِقت فإنها تَنصَرف على مَن بعَثَه الله من البَشر. أمّا كلمة "رَسول" فتُطلَق على ما يلي:

1 - الملائكة، قال تعالى: {قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ} (هود:81). 2 - الرياح، قال تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} (الحِجر:22)، وقال تعالى: {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً * فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً * وَالنَّاشِرَاتِ نَشْراً} (المرسلات:1 - 3). قال ابن كثير -رحمه الله-: "فيما روي عن ابن مسعود -رضي الله عنه-: أنها الريح، يؤيّد ذلك: قول الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} (الفرقان:48). وقيل: "المرسلات" هي: الملائكة، إذا أرسلت بالعُرف أو كعُرف الفَرس يتبعُ بعْضهم بعضاً". 3 - الشياطين، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً} (مريم:83). قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "تغويهم إغواء". وقيل: تحرّضهم على محمد -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه. وقال قتادة: تزعجهم إزعاجاً إلى معاصي الله. 4 - تُطلق على الرُّسُل من غَير الأنبياء من البَشر، وهم السُّفراء وحامِلو الرسالات بين الدول، قال تعالى: على لسان بلقيس ملكة سبإ: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} (النمل:35). أمّا المعتزلة وبعض الأشاعرة، فهم لا يفرِّقون بين النَّبي والرَّسول، ويَستدلّون على ما جاء في القرآن الكريم من إطلاق كلّ منهما على الآخر، غير أنَّ الأوْلى هو اتباع منهج السُّنّة والجماعة في التَّفرِقة بين النَّبيّ والرسول. المبحث الثاني: اصطفاء الله للأنبياء والمرسلين: إن رسالات السماء لا ينالها البشر بالاكتساب، ولن تتحقّق لهم بالممارسات الرّوحية والتّريّض الذهني أو العقلي، أو بمجاهَدة النَّفس والتَّعمّق في الفِكر،

وإنما هي اصطفاء واختيار من الحَّق -سبحانه وتعالى- لصَفوة من الخَلْق، وجماعة من البَشر اختصّهم الله بعنايَته، وشَملَهُم برعايته، وكلأهم بحفْظه، وعصَمَهم ممّا يقع فيه الناس مِن هفوات، وأيّدهم بالمعجزات الدالة على صدْقهم، وأنزل عليهم الكتب المُوضحة لشرائعهم. ولقد تحدّث القرآن الكريم عن هذا الاصطفاء، قال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} (الحج:75). وقال تعالى عن إبراهيم -عليه السلام-: {وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} (البقرة:130). وذَكَر القرآن الكريم اصطفاء الله للأنبياء من لدُن آدم إلى محمد -صلى الله عليه وسلم-، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (آل عمران:33، 34). يقول ابن كثير في "تفسيره": "يُخبر الله تعالى أنه اختار هذه البيوت على سائر أهل الأرض؛ فاصطفى آدم -عليه السلام-، خَلقَه بيده، ونَفخ فيه من روحه، وأسجَد له ملائكته، وعلّمه أسماء كلّ شيء، وأسكنه الجنة، ثم أهبطه منها لِما له في ذلك من الحكمة. واصطفى نوحاً -عليه السلام-، وجعَله أوّل رسول بعَثه الله إلى أهل الأرض. واصطفى آل إبراهيم، ومنهم سيّد البشر، خاتم الأنبياء على الإطلاق: محمد -صلى الله عليه وسلم-، وآل عمران، والمراد به: والدة مريم -عليها السلام-. وموسى -عليه السلام-، ذَكَر القرآن الكريم اصطفاء الله له ونعَمه عليه، قال تعالى: {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} (الأعراف:144).

وعن هذا الاجتباء والاختيار، يقول تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرائيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً} (مريم:58). ولقد ظن كُفَّار مَكة أنّ الرسالة تتوزّعُ على البشَر، وأنّها تتحقّق بالرغبة، قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} (الزُّخرُف:31)، يَعْنُون بذلك أحد عظماء قريش. وقال تعالى: {قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} (الأنعام:124)، أي: حتى تأتينا المَلائكة من الله بالرسالة، كما تأتي الرُّسُل. فردّ الله عليهم قائلاً: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (الأنعام:124). ويتحدث الرَّسول -صلى الله عليه وسلم- عن اصطفاء الله له: فقد روي عن واثلة بن الأسقع -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إنّ الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من بني إسماعيل بني كِنانة، واصطفى من بني كِنانة قُريشاً، واصطفى من قُريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم))، رواه مسلم. وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((بُعثْتُ من خَير قرون بني آدم، قرناً فقَرناً، حتى بُعثت من القَرن الذي كُنت فيه))، رواه البخاري. وهذا الاصطفاء امتدّ شَرفه إلى أمّة محمد -صلى الله عليه وسلم-، قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (آل عمران:110). وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: ((إنّ الله نظَر في قلوب عباده فوجَد قَلْب محمد -صلى الله عليه وسلم- خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته. ثم نَظر في قلوب العباد بعد قلب محمد -صلى الله عليه وسلم- فوجد قُلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نَبيِّه،

يقاتلون على دِينه. فما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسَن، وما رآه المسلمون سيِّئاً فهو عند الله سيّئٌ))، رواه أحمد في "مسنده". ومع كلّ نَبيّ ورسول يَصطفي الله أتباعه من المؤمنين الصادقين، قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} (فاطر:32). يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: يقول الله تعالى: "ثم جعلنا القائمين بالكتاب العظيم المُصدِّق لِما بين يديه من الكتب، الذين اصطفيْنا من عبادنا، وهم هذه الأمّة". وأمْر الأنبياء وشأنهم لم يَتوقف عند الاصطفاء والاجتباء فقط، ولكنه امتدّ إلى التربية والتعليم وحُسن الإعداد منذ طفولتهم. فإبراهيم -عليه السلام- يَدعو ربه أن يَبعث لهذه الأمّة رسولاً له منهج يتميّزون به عن سائر الأمم، قال تعالى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (البقرة:129). ويوسف -عليه السلام- كانت عِناية الله تَحفظه، وقد شَعر والده يعقوب -عليه السلام- بهذا وذَكَر الله قولَه لابنه، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} (يوسف:6). وذَكَر القرآن الكريم فضْل الله على يوسف، قال تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (يوسف:22).

وأخبر الله تعالى موسى أنه أُعِدّ وصُنِع وعَينُ الله ترعاه منذ أن وُلد، وأُلقيَ به في النهر، قال تعالى: {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى * وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} (طه:40، 41). وتحدَّث القرآن الكريم عن يحيى -عليه السلام- وعن اصطفائه واختياره وهو مازال غلاماً، فقال: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً * وَحَنَاناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيّاً} (مريم:12، 13). وعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال تعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} (الطور:48، 49). وعن عِصمته لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحِفْظه إيّاه، قال تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (المائدة:67)، أي: يا محمد، بلِّغْ أنت رسالتي، وأنا حافِظك وناصرك ومؤيِّدك على أعدائك؛ فلا تَخفْ ولا تَحزنْ! فلن يَصل أحدٌ منهم إليك يسوؤك بشيء. وقد وقعت وقائع عديدة للنَّيل منه -صلى الله عليه وسلم-، وجَرتْ محاولات لقَتْله أكثر من مَرةٍ، ولكن الله حَفظه، قال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} (الشعراء:217 - 219). وبجانب الاصطفاء والانتقاء والرعاية، فقد رَفع الله قَدْر الأنبياء والمرسلين وأعْلَى مكانَتَهم، قال تعالى لرسوله -صلى الله عليه وسلم-: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} (الشَّرح:4). وقد أوجب الله لرُسله وأنبيائه صفاتِ الكَمال، كالصِّدق، والأمانة، والتبليغ، والفَطانة، وسائر الأخلاق الفاضلة. وحرَّم عليهم الرذائل، والنقائص التي تُخِلّ بالرسالة وتتنافى مع النبوة، مثل: الكَذب، والخِيانة، والكِتمان، والغَفلة.

والأدلّة على ما يَجب، وما يَجوز، وما يَستحيل في حَقّهم، مَذكورة في القرآن الكريم. فالأنبياء والمرسلون هم صفوة الخَلْق، وخُلاصة البشَر، فضلاً عن أنّ الله -سبحانه وتعالى- اختصّهم بالوحي، وشرّفهم بالرسالة، وأيّدهم بالمعجزات؛ فالإيمان بهم أصْل من أصول العقيدة، وجزءٌ مكمِّل للإيمان بالله، قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (البقرة:285). والإيمان بهم يَستوجِب الإيمان بكلِّ ما جاؤوا به من عند الله مِن تشريعات، والتصديق بما أجرى الله على أيديهم من معجزات، ومن وجوب اتّصافهم بأسمى صفات الكمال، وتَنزيههم عن النَّقائص، وعَدم التَّفرقة بينهم، وحُرمَة التَّطاول على سِيرتهم، أو التَّشهير بهم، أو القيام بتمثيل أشخاصِهم المُقدّسة في وسائل الإعلام. والمُراد من الأنبياء والمرسَلين: الذين جاء ذِكْرهم في القرآن الكريم، وهم: خمسة وعشرون نبياً ورسولاً، جاء اسم ثمانية عَشر منهم في سورة (الأنعام)، في قوله تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلّاً هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلّاً فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} (الأنعام:83 - 86). وسبعة ذُكِروا في الآيات التالية: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ} (آل عمران:33).

{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً} (الأعراف:65). {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً} (الأعراف:73). {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً} (الأعراف:85). { ... وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ} (الأنبياء:85). {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ... } (الفتح:29). هذا، فضلاً عن الذين لم يَرِدْ ذِكْرهم في القرآن الكريم، قال تعالى: {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} (النساء:164)، وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} (غافر:78). فالأنبياء والمرسلون هم خلاصة الإنسانية وصفْوتُها، من لَدُن آدم -عليه السلام- إلى خاتم النبيِّين محمد -صلى الله عليه وسلم-. وهم يُمثِّلون وحدة العقيدة عبر مسيرة الجنس البشري. كما أنّ رسالتهم تشكِّل النسيج الحضاري والسّموّ الأخلاقي للإنسانية بهم، تفصيلاً فيما فصّله وإجمالاً فيما أجمله. ويجب الاعتقاد الصادق أنهم جميعاً بلّغوا كلّ ما أوحى الله به على الوجه الأكمل؛ وهذا من أمارات الإيمان وعلامات الصادقين، قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} (الحديد:19). قال تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً} (النساء:136). ومن موجبات الإيمان بالرُّسُل: عدَم تفضيل أحدٍ منهم على الآخَر، وأنّ أمر التفضيل من شأن الله تعالى، قال -سبحانه جلّ شأنه-: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} (البقرة:253)، وقال تعالى: {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً} (الإسراء:55).

تعدد أسماء الدعوة إلى الله مما يدل على شرفها.

ولقد جاء في القرآن الكريم ووَرَد في السُّنّة الشريفة بعض ما تفضل الله به على أنبيائه ورسُله من فضائل، وما اختصّ كلاً منهم بالمعجزات. فهم عند الله متفاوتون، أمّا عند البشَر فهم متساوون؛ فيَحرُم التّفرقة بينهم أو التطاول على أحد منهم، كما يفعل غير المسلمين مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ... } (البقرة:285). قال ابن كثير: "فالمؤمنون يؤمنون بأنّ الله واحدٌ فردٌ صمد، لا إله غيره ولا ربّ سواه، ويصدِّقون بجميع الأنبياء والرُّسُل، وبالكتب المُنزَلة من السماء عليهم، لا يفرِّقون بين أحد منهم فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، بل الجميع عندهم صادقون بارّون راشدون مهديُّون هادون إلى سبل الخير، وإن كان بعضهم نسخ شريعة البعض بإذن الله، حتى نسخ بشرع محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- خاتم الأنبياء والمرسلين الذي تقوم الساعة على شريعته. ولا تزال طائفة من أمّته على الحق ظاهرين". 2 - الدّعوة إلى الله من أشرف الأعمال وأعظمها تعدّد أسماء الدّعوة إلى الله ممّا يَدلّ على شَرفها لقد تَعدّدت أسماء الدّعوة إلى الله في القرآن الكريم، وتنوّعت أغراضها ونتائجها، ممّا يُنبئ عن رِفعة قَدْرها، وعلوِّ منزلة مَن يَعمل في مَيدانها، وذلك على النحو التالي: أولاً: هي دعوة إلى الإيمان بالله، قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (الحديد:8).

ثانيا: هي دعوة إلى سبيل الله وإلى الطريق المستقيم، قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل:125). وقال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (المؤمنون:73). ثالثاً: دعوة إلى الحياة المستقيمة الآمنة بين ظلال الإسلام، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (الأنفال:24). رابعاً: هي دعوة إلى الخير والمعروف والفلاح، قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران:104). فالخَير: هو جِماع الفَضائل والمَكارم، واسم شامل لصِفات الكَمال المُشتَملة على محاسِن الخِلال وفضائل الأعمال. والمعروف: اسم جامع لكلّ ما عُرف من طاعة الله والتَّقرب إليه، والإحسان إلى الناس، وكلّ ما نَدب إليه الشّرع أو نهى عنه، من المُحسِّنات والمُقبَّحات. والفَلاح هو: الفَوز والنَّجاة في الآخِرة. خامساً: هي دعوة الحقّ وإلى الحقّ، قال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَل الٍ} (الرعد:14). ففي هذه الآية الكريمة بيان وتَوضيح على أنّ دعوة الله هي الحق. والحق: هو الأمر الثابت الواضِح الجَليّ، الذي لا تعتريه شُبهةٌ ولا يَلحق به زورٌ أو بهتان.

وقد ذَكرت الآية أنّ الدعوات البعيدة عن وحي السماء ورسالات الأنبياء، هي دعوات خاسرة باطلة، لا تُفيد الإنسان، ولا تُحقّق ما يصبو إليه من آمال، وأنها سراب خادع. وقد شبَّه القرآن الكريم مَن يَتعلّق بها بمَن يَملأ كَفّيْه من الماء ليَبلغ فاه لِيروي ظمأه وعَطشه، ولكنه لا يَبلغه ولا يَستطيع أن يَتناوله؛ وهذا يصْدُق على الدعوات المعاصرة التي تُروِّج وتُزيِّن للعَلمانية والإلحاد، وتَدعو إلى المنكرات، ولم تَحصد الإنسانية منها إلاّ التّعاسة والشذقاء. سادساً: هي دعوةٌ للعباد إلى الجَنة والمَغفرة، قال تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ} (البقرة:221)، وقال تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (يونس:25). سابعاً: هي دعوةٌ للنجاة من النار، قال تعالى: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ * تَدْعُونَنِي لأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ} (غافر:41، 42). هذه هي مكارم الدعوة إلى الله وفضائل ما تدعو إليه. أمّا عن منزلة ومكانة الدّعوة إلى الله، فهي مكانة ومنزلة تَشرئبّ إليها الأعناق، وتشخص لها الأبصار. وقد أسبغ القرآن الكريم على الدّعاة إلى الله من الأنبياء المرسلين ومن سار على نهجهم وبلّغ رسالتهم، صفات الجلال والكمال، وأعلى قَدْرَهم ورفَع مكانتهم، وأطلق عليهم من الأسماء والصفات ما يدلّ على ما حباهم الله به من فضلٍ وما أسبغ عليهم من نِعم، ومِن ذلك:

أولاً: تعدّد أسماء الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصفاته، ممّا يُنبئ عن رِفعة قَدْره وشَرف ما يَدعو إليه، قال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (المائدة:15، 16). {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} (الأحزاب:45، 46). {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} (البقرة:87). ثانياً: وصف القرآن الكريم الرُّسُل بأنهم دعاة إلى الله، فلا سلطان لبشَر عليهم؛ فهم يَستمدّون قُوّتهم من وحي الله المنزّل عليهم، وبالمعجزات المؤيِّدة لهم، قال تعالى: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لاَ يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (الأحقاف:31، 32). والدّعاة إلى الله يَستمدّون دَعْوَتهم من القرآن والسُّنّة، ويَعيشون بين رياض العِلْم وقُطوف المَعرفة؛ وهذا ممّا يُعلي شَأنهم ويَرفع قَدْرهم، قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (المجادلة:11)، وقال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (فاطر:28). فقد قَصر الحَّقُّ -سبحانه وتعالى- خَشيتَه وحصَرها في العلماء، لأنه كلّما ازدادت معرفة الإنسان ازدادت خَشيته لله وخوفُه منه، وكلما ارتبط الداعي بالقرآن زادت

مكانتُه عند الله. فعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: ((يُقال لصاحب القرآن: "اقرأْ وارْتَقِ، ورتِّلْ كما كُنت تُرتِّل في الدنيا؛ فإنّ مَنزلتَك عند آخِر آية تَقرؤها"))، رواه أبو داود والترمذي. والدّاعي لا يكون إلاّ عالِماً فقيهاً بأحوال الناس، عليماً بما يَدعوهم إليه، خَبيراً بما يَنهاهم عنه، وبقَدْر تفانيه وإخلاصه تكون مَنزلتُه وثوابه عند الله. فعن ابن مسعود -رضي الله عنه-، قال: سَمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((نضّر الله امرءاً سَمِع منّي شَيئاً فبلَّغه كما سَمِعه؛ فرُبَّ مبلَّغ أوعَى من سامِع))، رواه الترمذي وقال: "حديث حسن صحيح". وعن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه-، أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((مَن دعا إلى هدىً كان له من الأجر مثل أجور مَن تَبِعه، لا يَنقُص ذلك من أجورِهم شَيئاً. ومَن دعا إلى ضَلالة كان عَليه من الإثم مثلُ آثام مَن تَبِعه، لا يَنقص ذلك من آثامِهم شيئاً))، رواه مسلم. وقد بيّن الرسول -صلى الله عليه وسلم-: أنّ مِن أفضل الجِهاد ما يقوم به الدّعاة من قول الحق، ولا سيما حينما يَصْدعون به لدى سلطان جائرٍ وحاكِم مُستبدّ. فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم، قال: ((أفضلُ الجِهاد: كلمةُ عدلٍ عند سلطان جائر))، رواه أبو داود، والترمذي وقال: "حديث حسن". وهكذا تَتوافر الأدلّة من القرآن والسُّنّة على مكانة الدعاة، وأنَّ الدعوة إلى الله هي أحسن عَمل وأشرف وَظيفة. وليس مِن عمل أرفع قدراً وأعلى مكانة من عَملٍ مستمدٍ من وحي السماء ورسالات الأنبياء. وليس من ثَواب عند الله أفضل من ثَواب مَن يدعو إلى الله،

الدعوة إلى الله ماضية إلى يوم القيامة.

قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (آل عمران:110). الدّعوة إلى الله ماضِية إلى يوم القيامة تمهيد: نوضِّح في هذا العنصر أنّ الدعوة إلى الله ماضِية ليوم القيامة، إذ التَّدافُع والتصارُع بين الإيمان والكُفر، والخَير والشَّر، والعَدل والظُلم، والحَقّ والباطِل، لن يَنطفئ لَهيبه ولنْ تَخمُد جَذوته، فهو سُنَّة من سُنن الله في الكون منذ أن خَلق الله آدم -عليه السلام-، وإلى أن يَرث الله الأرض ومَن عَليها، قال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} (البقرة:251). وقال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج:40). ولقد شاءت إرادة الله أن تَكون الكُرة الأرضية مَيداناً رَحباً للتَّدافُع والصِّراع الذي أثخَن الإنسانية بالجِراح. ولقد تَعدّدت أطراف التَّقاتل والتَّنازع عَبر تاريخ البشرية وحتى قيام الساعة، ممّا يوجب استمرار الدّعوة إلى الله، ووجوب وجود أمّة الدعوة التي تقوم بها، وتَتشَرَّف بتَحمُّل تَبِعاتها حتى يَرث الله الأرض ومَن عليها.

ولقد تَعدّد أطراف التَّقاتُل والتَّنازُع عَبر تاريخ البشرية على النحو الموضَّح في العناصر الآتية: العنصر الأول: أطراف التَّصّارُع والتَّنازُع في هذا الكون: أولاً: الصِّراع بين الشيطان والإنسان: لقد كان خَلْق الله لآدم -عليه السلام- في أحسن تَقويم، وأمْره سبحانه وتعالى الملائكة بالسُّجود له -سُجود تَحية وتَكريم-، ثم إسكانه وزَوجه الجنّة، واستخلافه في الأرض بعد ذلك، هو الشَّرارة الأولى التي أشعلت نيران الحِقد الأسود والغِلّ الدَّفين في قلب إبليس اللّعين، حيث اعترض على خَلق آدم، وامتنع عن أمْر السجود له، لاعتقاده الخاطِئ أنه في مَنزلة أعلى منه خَلْقاً، وأفضل عُنصراً. ولقد ذَكَر القرآن الكريم هذا في قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} (الأعراف:11، 12). ثم أردف ذلك بالتَّهديد والوَعيد مُعلِناً ذلك في جُرأة ووَقاحة. وقد أخبر القرآن الكريم عن ذلك في قوله تعالى: {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً} (الإسراء:62)، أي: لأستَوليَنّ عَليها ولأحتوينّها ولأضِلّنّها. وقد كَشف القرآن الكريم خُطَّته لاحتواء الإنسان وغِوايته، قال تعالى: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} (الأعراف:16، 17).

ولحِكمة يَعْلمها الله -سبحانه وتعالى-، استجاب لِطَلب إبليس بتَمكِينه ممَّن ضَعُف الإيمان في قُلوبِهم، قال تعالى: {قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُوراً * وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً} (الإسراء:63،64). ولقد بيّن الحقّ -سبحانه وتعالى- أنه عَصم أولياءَه المُتّقين من مَكْره، وحَفِظ عباده المُؤمنين من سَيْطرته ووَسْوسته إليهم، قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً} (الإسراء:65). وهكذا انحَصر مَكر إبليس في مَن ضَعُف إيمانُهم، ووَهنت عَقيدتُهم. ولقد حذَّر الله آدم -عليه السلام- وزَوجَه ممّا أضمَره لهما الشيطان، وبيّن لهما عاقِبة الانصياع لوساوسِه والوقوع في حبائل إغوائه. وكان أمر الله لآدم وزَوجه بعَدم الاقتراب من الشَّجرة والأكل منها واضحاً، وأبان لهما في جَلاء تام مَغبَّة مُخالَفة أمره سبحانه، قال تعالى: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} (البقرة:35). ولأمور قدَّرها الله، ولِحِكمةٍ لا تُدرك العُقول كُنْهَها، مُكِّن للشيطان في أن يَتسلَّل إلى الجَنة ويَلبَس ثوب النّاصِح الأمين لآدم وزَوجه، وأقسَم لهما على ما يُحقِّقه الأكل من الشجرة من الانتقال من البَشرية إلى المَلائكيّة، وتَحقّق الخُلود وعَدم الفَناء؛ فضعُفا أمام وسوَسته واستجابا لإغوائه، وأكلا من الشجرة المَنهيّ عنها، قال تعالى: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} (الأعراف:20، 21).

وقد عاتَبهما الله على مُخالفة أمْره، بالنَّهي عن الاقتراب أو الأكل من الشجرة، قال تعالى: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} (الأعراف:22). فاعترفا بتَقصيرهِما، وأقرّا بخَطئهما، وطَلبا من الله المَغفرة والرَّحمة، قال تعالى: {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (الأعراف:23). لقد استوعب آدم وزَوجه الدَّرس جَيداً، وأيقنا بالتَّجربة والواقع مَدى الحِقد الذي يُضمره الشيطان عليهما. ثم أهبِط بثلاثتهم إلى الأرض، لتكون ساحة للصِّراع والنِّزال بين بني آدم وإبليس وحِزبه إلى يوم القيامة، قال تعالى: {قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} (الأعراف:24). وتوالى تَحذِير الله لبني آدم على ألسنة رُسُله، ومن خِلال كُتبه المُنزلة عَليهم من فِتن الشيطان ومكائِده. ونبّه -سبحانه وتعالى- على أنّ ما حلّ بأبيهم وأمّهم بسبب وساوسه، قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف:27). هذا الحِقد الأسود والغِل الدَّفين الذي يَحمله الشيطان لبني آدم، لن تَنطَفئ ناره ولن يَخمد لَهيبه، بل هو مُستمرّ على مَدى تاريخ الإنسانية، وسيَظل هذا الصِّراع ما دام الإنسان يَحيا في هذا الكون. وإنّ من رَحمة الله بعباده، وشَفقته عليهم ورأفته بهم، أنه لم يَدعْهم للشيطان يستحوذ عليهم ويَفتَرسهم، ولكن أرسَل الرُّسل، وأنزل الكُتب، وفَتح أبواب

التَّوبة والمَغفرة، وحصّن الإنسان بأنواع العِبادات، وصُنوف الطاعات والقُربات، التي تَحول بَينه وبين الشيطان. واختَص الحق -تبارك وتعالى- أمّة الإسلام من بين الأمم لتتولّى مُنازَلة الشيطان وحِزبه، وذلك من خِِلال آيات الله وسُنّة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وبجِهود الدّعاة إلى الله الذين لا يَخلو منهم زمان ولا مكان، حتى يَرِث الله الأرض ومَن عليها. وهذا ما يُؤكِّده قول الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران:104). فالدّعوة إلى الله سُنَّة فِطريّة، وحاجة ضَروريّة للإنسانية، ما دام الشيطان وحِزبه يَعيثون في الأرض فساداً. ولنْ يُلجِم الشيطان عن إغوائه، ولنْ يُفسِد وساوسَه، إلاّ الدّعاة إلى الله، حينما يُخلِصون النِّية والعَمل، ويتسلّحون بالكتاب والسُّنّة، ولا يَكفُّون عن مُقاومة الشيطان وحِزبه، ولا يتوانَوْن عن كَشف أساليب مَكْره، ويَظلّون يُحذِّرون البَشر من كَيْده؛ وهذا أمر باقٍ ما دام الإنسان والشيطان، وما بَقيت السماوات والأرض. ثانيا: الصِّراع بين الإنسان ونَفْسه: لقد خَلَق الله الإنسان في أحسن تَقويم، وأسبَغ عَليه نِعمَه ظاهِرة وباطنة، وأودع بين جَوانب نَفسه وثنايا قلبه وجَسده أسرار الخَلق، وعَظمة التَّكوين، ودِقّة الإبداع، وآيات الإعجاز، ودَلائل القُدرة، قال تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} (الذاريات:21). فالإنسان تَتكوّن هَيئتُة وحَقيقتُه من جَسد ونَفْس؛ فالجَسد عِبارة عن الهَيكل المَكسوّ لحماً وشَحماً، ودَماً وأجهزة وأعصاباً، وعُروقاً بعضها يُرى بالعَين المُجرّدة أو بوسائل العِلْم الحَديث، والبَعض ما زال العِلْم عاجزاً عن سَبر أغواره واكتشاف بعْض حَقائقه، ممّا يُنبئ عمّا يَحتويه الجِسم من أسرار تَدلُّ على قُدرة

الخَالق وعَظمة الصانِع -سبحانه وتعالى-، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} (الانفطار:6 - 8). أمّا النَّفْس، ويُراد بها: الرُّوح التي بها الحَياة وإذا زايلت الجسم نَزل به المَوت، وهي باقِية فيه ما بَقي في الحيّ نَفَس، فهي: الجَوهر اللَّطيف الحامِل لقوّة الحياة والحِسِّ والحَركة والإرادة. وهي: مُجرّدة عن المَادة، قائمة بنَفسها، غير مُتميّزة، مُشتبكة بالبَدن اشتباك الماء بالعُود الأخضر، ومُتعلّقة به للتَّدبير والتَّحريك. وتَرِد "النَّفس" في اللغة العربية على مَعانٍ كَثيرة، منها: 1 - النفس: معنىً في الإنسان يوجِّهُه إلى أفعاله من الخَير والشَّر. تقول: "أمرتْني نَفْسي"، و"سوّلتْ لي نَفسي". قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} (الشمس:7 - 10). 2 - "النفس" تُطلق على مَعنىً في الإنسان به التَّمييز والإدراك والإحساس لِما يُحيط به، وهذا المَعنى يُفارقه في النّوم حيث يَغيب وَعيه، قال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} (الزُّمَر:42). وقد سمَّى القرآن الكريم غِياب الوعْي عن النائم: "وفاة"، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمّىً} (الأنعام:60). و"الرُّوح" -بضَمّ الراء-: ما به حياة الأجسام. وقد يُضاف إلى الله للملْك أو التَّشريف، قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} (مريم:17). و"الرّوح" يُطلق على كلِّ أمْر خَفيّ لَطيف، كالوحي، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا} (الشورى:52).

ويُطلق على جِبريل، قال تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} (القدْر:4)، وقال تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً} (النبأ:38). ويُطلق على أمْر الله -سبحانه وتعالى-، قال تعالى: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} (غافر:15). ويُطلق لَفظ الروح على ما هو داخل الإنسان، وهو كالنَّفس، وتكون به الحياة. وحَقيقة الرُّوح أمرٌ اختُصّ الله به، واستأثر بعلْمه، وجعلَه سراً من أسرار الحياة، ليس لأحد من الخَلق إدراك كُنهه، أو البَحث عن حَقيقته، وإنما يُعْرف بآثاره. قال تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (الإسراء:85). فالإنسان يَكوَّن من جَسد ونَفْس ورُوح، ولقد أودع الله بين ثنايا قَلْبه وجوانب نَفسه أنواعاً من الغَرائز والدَّوافِع تَتَفاعل داخل كيانه، وتَتَدافع في تَعادل إلهي دَقيق وتَوازن مُعْجز. ومن هذه الغرائز: 1 - غَريزَة حُبّ النَّفس، والحِرص على الحَياة. 2 - غَريزة حُبّ التَّملك والاقتِناء. 3 - غَريزة الخَوف والغَضب والهَرب. 4 - غَريزة المَأكل والمَشرب. 5 - الغَريزة الجِنسيّة. هذا الغَرائز وغيرها تَغلي كالمِرجَل داخل كَيان الإنسان، وكل غَريزة تَتَزاحَم لِبسْط سُلطانها على سُلوكه وتَصرّفاته. هذه الغَرائز ليست غاية في ذَاتها، وإنما هي بأعراضِها ومُؤثّراتِها وسائل لغايات أخرى تُعين الإنسان وتُمكّنه على تَحمُّل أمانة الله في هذا الكون.

والإنسان بفِطرته وعَوامل خَلْقه وتَكوينه، يَميل لإشباع تلك الغَرائز، فيَحدُث الصِّراع داخِل كيانه حَيث تُحاول كلّ غَريزة أن تَجذبه إليها، وتَدفعه بقوّة لإشباعها؛ ولو تُرك الشخص دون ضوابِط الدِّين وأحكام الشَّرع وتقاليد المُجتمع المُسلم التي تتلاءم مع الفِطرة النَّقية، لانطلق الإنسان كالجواد الجَامِح الذي لا يُوقفه شيء. ومن رحمة الله بالإنسان: أنه لم يَدعه للغَرائز تَفترسه، ويَنساق معها دون ضوابط أو روابط، بل أودع بين حنايا نَفْسه مقاييس ومَوازين اعتدال السلوك وسَلامة التَّصرف، قال تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} (البلد:10)، أي: طَريق الخَير، وطَريق الشَّر. وقال تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} (الإنسان:2، 3). وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((البِرُّ ما اطمأنّتْ إليه النّفسُ. والإثمُ ما حَاك في صَدرك، وكَرهتَ أن يَطَّلعَ عَليه النّاس)). هذا بجانب دعوات الأنبياء والمرسلين، عَبر تاريخ الإنسانية التي تُنظِّم غَرائز الإنسان وتمنعُها من التصادم والتصارع. فالدّعوة إلى الله ضرورة إنسانية، يحتاج إليها الإنسان لإصلاح ذاته، ولتحقيق التناسق والتوازن بين رغباته وشهواته، وحَسم الصِّراع داخل نَفسه، وذلك من خِلال تَوجيه الدّعاة للناسَ إلى الله، وبيانهم للحَلال والحَرام وفْق أحكام الدِّين وشَرائعه. وسوف تَظل الدّعوة -بإذن الله- قائمة، والدّعاة يُؤدّون رسالتهم ما بَقي الإنسان على ظَهر هذه الأرض يَحمل بين جَسده ونَفْسه غَرائزه وشَهواته. أما عن مبررات ووجوب استمرار الدعوة إلى الله ليوم القيامة فهذا موضوع المحاضرة القادمة إن شاء الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 3 أسباب استمرار الدعوة وبقائها.

الدرس: 3 أسباب استمرار الدعوة وبقائها.

الصراع بين الإنسان وأخيه الإنسان.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثالث (أسباب استمرار الدعوة وبقائها) 1 - أسباب استمرار الدّعوة وبقائها الصِّراع بين الإنسان وأخيه الإنسان الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين، وعلى آله وأصحابه مَن اهتدى بهدْيه إلى يوم الدِّين. وبعد: كلّ شيء في جِسم الإنسان له طَاقة تَتحرّك بقَدر، ولا تَستوعب أكثر من قُدراتها، ولا تَتجاوز المَوازين الدَّقيقة التي خَلقها الله لأداء مَهامِّها في الجسم. فالأكل والشّرب والتّنفس له حُدود لا يتعدّاها. والكُرات الدموية والخلايا، والأنسجة والأعصاب، ومُعدّلات السُّكر والضَّغط ودقّات القلب، لها نِسب مُعيّنة مُنضبطة لا تَزيد ولا تَنقص. أمّا آمال الإنسان وطُموحاته وأحلامه فليس لها حدٌّ تَقف عِنده. ولقد وصف الرسول -صلى الله عليه وسلم- طَبيعة النفس البشرية، في الحِرص على المال وجَمْعه والاستزادة منه، فقال ما معناه: "لو أنّ لابن آدم وادياً من ذهبٍ لتمنى ثانياً، ولو كان له ثان لتمنّى ثالثاً. ولن يَملأ جَوف ابن آدم إلاّ التراب. ويَتوب الله على مَن تاب"، رواه البخاري. قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} (آل عمران:14). وقال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} (الحديد:20). فالدنيا تَتزيّن للناس بمباهِجها، وتَستثيرهم بزخارفها، وتَحثّهم على التَّكالُب عليها والتَّنافس والتَّصارع في الاستحواذ عَليها. وكلّما شَعر الإنسان أنّ حَياته في هذا الكَون قَصيرة، وأنَّ عُمره في الدنيا محدود، وأنّ آماله وأطماعه ليس لها حَدّ، اشتد لَهيب العِراك والتقاتل بين البَشر.

ولقد كانت قَطرات الدّم الأولى في تاريخ البشرية، حينما امتدت يَد قابيل لِقتل أخيه هابيل حَسداً وبَغياً وظلماً، هي بداية النَّزيف الدَّموي بين بني الإنسان من خلال التنافس على الدنيا، واستغلال الإنسان لأخيه الإنسان، واستعباده وانتهاك عِرضه وسَلب وأمواله. وأصبح هذا سِمةً من سِمات الدنيا، ومَعلَماً واضحاً في تاريخ البشرية، ولا سيما حينما تَبتعد عن وحي السماء، ورسالات الأنبياء، وسلوك عباد الله الأتقياء. وإنّ ما شَهده العالَم في القرن الماضي من حَربيْن عالَميّتيْن أزهقتا أرواح ما يزيد عن الخَمسين مليوناً من البَشر، وما تَشهده البَشرية مَطلع هذا القَرن من افتراس الدّول القَويّة الكُبرى للدّول والشُّعوب الضَعيفة، ما هو إلاّ بسبب تَخلِّي أمّة الدَّعوة إلى الله عن رسالتها، وتهاونها فيما شرّفها الله به وكرّمها بحَمْله. فالمسلمون وحْدهم دون غَيرهم من أمم الأرض وشعوب الدنيا، مطالبون شرعاً وعقلاً أن يَمسحوا آلام البشريّة، وأن يُوقفوا نَزيف الدماء المستمر، وأن يَهْدوا العُقول الحائرة، والقُلوب الضالة، وأن يرُدّوا النفوس التائهة والشاردة إلى فطرة الله التي فطر الناس عليها، كما قال الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (الروم:30). وإنّ المستضعَفين في العالَم والمُضطهَدين من الأفراد والجَماعات، ليتطلّعون إلى أمّة الدّعوة أن تدعُوَهم إلى الإيمان، وتبلّغ إليهم الإسلام، وتَشرح لهم عقائده وعباداته وأخلاقه، وأن تخلِّص العالَم من كابوس الكُفر والجَهل. قال تعالى مُخاطباً أمّة الدعوة ومعاتباً لها الرّكونَ إلى الأرض، والتخاذلّ عن نجدة المقهورين والمغلوبين: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ

لم كانت أمة الإسلام هي المكلفة شرعا بالدعوة إلى الله دون غيرها من الأمم؟.

وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً} (النساء:75). فصراع الإنسان مع الشيطان، ومع نَفسه، وبينه وبين غيره من بني جنسه، يَستوجب ضَرورة وبقاء الدّعوة إلى الله، ويُلزم الدّعاة أن يَبلِّغوا دين الله، ويَدْعُوا إليه مهما كانت الصِّعاب والمَوانِع والعوائِق؛ وهذا أمْر لم يَخْلُ مِنه عَصرٌ من العُصور، ولم يَتوقف إلى قيام الساعة، قال تعالى: {فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود:116، 117). فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أولى دعائم الإصلاح، والقاعدة التي يُبنى عليها إلى يوم القيامة. لِمَ كانت أمّة الإسلام هي المُكلَّفة شرعاً بالدّعوة إلى الله دون غَيرها من الأمم؟ إنّ أمّة الإسلام اختصّها الله من بين أُمَم الأرض بواجب الدّعوة إلى الله، وشرَّفها دون غَيرها بحَمْل الأمانة، وتَبليغ الرسالة، وتَقديم النُّصح لشعوب العالَم؛ وذلك للأسباب التالية: أولاً: هي الأمة الوَحيدة التي تَحمل على عاتِقها وَحْيَ السماء، ورسالات الأنبياء، من لَدُن آدم إلى أن يَرث الله الأرض ومَن عليها. فبعد أنِ اندثرت الكُتب السابقة، وحُرّف ما بَقي منها إثر انتهاء حياة النبي أو الرسول، أصبحت الأمّة الإسلامية هي الآن الأمينة على شَرع الله، والمُؤتَمَنة على عقائد البَشر، المُصحِّحة لِمَا انحرف منها، الدّالّة على المَنهج القَويم والسلوك المستقيم في شتّى جَوانب الحياة، عقائدياً وأخلاقياً وسياسياً واقتصادياً.

قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (آل عمران:110). ثانياً: هذه الأمّة صاغَها القرآن الكريم صياغة فَريدة، وربّاها الرسول -صلى الله عليه وسلم- تَربية مُميّزة، تؤهِّلها لهداية البشَر. ولقد كانت دَعوة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في مَكة المُكرّمة والمَدينة المُنوّرة على مدى ثلاثة وعشرين عاماً، وتَنزّل القرآن الكريم وفْقَ الوقائع والأحداث، كَفيلاً أن يُعِدّ المسلمين إعداداً خاصاً لِحَمْل رسالة الإسلام. وإنّ حِفظ الله سبحانه للقُرآن الكريم، وصوْنَه لسُنّة الرسول -صلى الله عليه وسلم- أوجَبَ استمراريّة الدّعوة وبقاءَها، ومكَّن المسلمين عَبر التاريخ من القيام بما فُرض عليهم، قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران:104). ثالثاً: هذه الأمّة بما تَحْمله من دِين الله، وبما أوجبه الله عليها مِن تَبليغه ونَشْره، هي اليد الحارسة الأمينة على كلّ مَعروف وخَير وبِرّ، والعَين الساهرة على حُرمات الله وحُدودِه، تَرصد كلّ مُنكر وتَتعقّبُه، وتَنهَى عنه وتُجْهِز عَليه، وتَتصدّى للظّلم والبَغي وتَقضي عليه. وهي بهذا التَّفويض الإلهي شاهِدةُ صدقٍ وحقٍ على الأمم السابقة ومَواقفها من أنبيائها، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} (البقرة:143). وهي أيضاً مَسؤولة عن صلاح البشَر وإصلاحهم إلى يوم القيامة، قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ} (الزُّخرُف:44). رابعاً: إنّ هذه الأمّة أمّة راكعةٌ ساجدةٌ عابدةٌ، مجاهدةٌ في سبيل الله، ومُختارة من بيْن أمم الدنيا، لتَنال شَرف اجتباء الله لها، وشهادة الأنبياء بأحقِّيّتها، قال

تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (الحج:77، 78). خامساً: حينما يتلفّت الإنسان حَوله ويُبصِر أحوال العالَم بأسرِه، يجِد دُوَلاً قَويّةً تدَّعي العَدل وتزعُم الحُرية والديمقراطية ونُصرة الشُّعوب، وهي في الحَقيقة والواقع مصدرُ الخَوف والاضطراب في العالَم. أيدي هذه الدول مُلطَّخة بدماء الشُّعوب، وتاريخها تاريخ أسود، سوَّدتْه بما ارتَكبتْه في حَقّ الأمم من نَهب خيراتها وثَرواتها، والقضاء على آمالها في أن تحيا حياة آمنة كريمة. وقد اصطنعت هذه الدّول مؤسسات عالَميّة وهيئات دوليّة، كالأمم المتحدة، ومجلس الأمن، وغيرهما، تُحرِّكِها كالدُّمى وتُسخِّرها لأغراضها، والوَيل لمَن يَرفع يَده مُعتَرضاً، أو يَعلو صوته مُحتجاً. وكان حصاد الإنسانية -ولا سيما العالَم الإسلامي- مُؤلماً ومَريراً؛ فاختلَّت القِيم الإنسانية، ومُسِخت الفِطرة البشرية، وعمَّ الظُّلم وفَسدت الأخلاق، قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (الروم:41). هذا كلّه يُلقِي العِبء على أمّة الإسلام، ويُلزِمها أن تَتصدّى لِكلّ عوامِل الفَساد والانحراف. وهي مُهيّئة تماماً لهذا الأمْر بما تَحمِله من خصائص وثوابت شرَّفها الله بها، وإمكانات وموارد حباها الله بها، لِتُسخِّر جزءاً منها للدّعوة إلى الله. والظروف العالمية والتهيؤ النفسي والاستعداد القلبي صالح تماماً لنجاح الدعوة إلى الله واستمرارها.

وعوامل الفَوز والفَلاح للدّعاة مُتحقّقة بما يلي: أولاً: إنّ دفاع الله عن عباده، وتأييده لهم، وتَمكِينهم في الأرض، سُنَّة من سُنن الله في هذا الكون لا تَتخلّف، قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (النور:55، 56). وقال تعالى: {أَلاَ إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَلاَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} (يونس:55). وقال تعالى: {يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} (الروم:5 - 7). وقال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عَابِدِينَ * وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء:105 - 107). وما على أمّة الدّعوة إلاّ أن تَستَشعر حَقيقة هذا التأييد والوَعد، وأن تَعمل بكلّ طاقاتها لتحصيل أسبابه، وأن يَتعمَّق في مشاعِرها وعُقولها أنّ هذا وعْد من الله مُحقّق لا يَتخلّف، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} (محمد:7، 8).

ثانياً: إنّ عُلوّ كلمة الحق وغَلبة أهله، وإزهاق الباطل وهَزيمة حِزبه، عَدلٌ إلهي مُتحقَّقٌ، وسُنّة كَونيّة لا تَتخلّف. قد يَتعثَّر الحَق أحياناً لضَعف يعْتري أصحابه، قد يَتخلَّف أحياناً لابتلاء أعوانِه واكتشاف معادن إيمانهم وقُوة عَقيدَتهم، وقد يتأخّر لأن قَومه لا يَملكون مُقوِّمات إظهاره ... ولكن في النهاية لا بدَّ للحق أن تَعلو رايتُه، وتَخفِق أعلامُهُ، ويَسودَ أهلُهُ، وأن الباطل مهما عَلا صَوته سيأتي وقتٌ يأذن الله فيه بانكسار شَوكتِه، واندحار جُنده، وفَضيحة حِزبه، قال تعالى: {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} (الأنفال:7، 8). وقال تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} (الإسراء:81). وقال تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} (الأنبياء:18). وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (الحج:62). وقال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ} (الروم:60). فشأن الحَق في ارتفاع، وأمْر الدعوة إلى الله في انتشار، وجُند الله ودُعاته سيُكتب لهم الانتصار، قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} (فُصِّلَت:53)، أي: الإسلام. {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (فُصِّلَت:53).

قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ * يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} (غافر:51، 52). ثالثاً: إنّ أمم الكُفر ودوَل الظُلم والبَغْي قد انفضَح أمْرها، وانكشفت سَوْءتها أمام العالَم؛ فشعوبُهم، وإن تَقدَّمت عِلمياً ومادياً، وتَفنّنت في أساليب التَّرف والانغماس في الشَّهوات، إلاّ أنهم فقدوا طمأنينة القَلب، وانشراح الصَدر، واستقرار النَّفس، فانتشرت عوامِل القَلق والتَّوتر والاكتئاب، وكَثُرت حوادث الانتحار، وزادت مُعدَّلات الجَريمة، وغدا الناس غَير آمنِين على أموالِهم وأعراضِهم. وفي أقطار العالم الإسلامي ودوَله، تحقّق لكل ذي عَقل وفِكر، وتبيَّن لكل ذي نظر ثاقب ورأي سديد، ما جناه المسلمون في تاريخهم الحديث من جرّاء ترْك دِينهم وراء ظهورهم، ووضْع أصابعهم في آذانهم عند نصيحة العلماء ودعوة الدّعاة. وانطلق الكَثير من أبناء المسلمين في رُعونة وعَدم رَويَّة نحو الثقافة الغَربية، والتي هي مَزيج من الحضارتيْن الرُّومانية واليونانية الوثنية، وبقايا النصرانية المُحرّفة، يقلِّدون أوربا، ويقْتبسون أنظمتها، ويَصبغون المُجتمعات الإسلامية بصِبغة التَّحلّل من الدِّين، والتخفّف من أوامر الشّرع، مُعتقدين اعتقاداً خاطئاً أنّ هذا يُحَقّق لهم التَّقدُّم، ويأتي لهم بالازدهار، فلم يَجنوا من ذلك سِوى خَيبة الأمَل، وضياع الأمّة، واستعباد واحتلال الأوطان، ونَهْب الثروات، واستشراء الفِتن، وتفاقُم الخُطوب، وتعاظُم الظُّلم والاستبداد. وقد مُزِّقت أوصال الأمّة الإسلامية شرَّ مُمزَّق، وانفرد أهلها إلى دويلات ليس لها من مظاهر السيادة إلاّ عَلَم يُرفرف في خَجل واستحياء، واستقلال يَرتدي ثَوب التَّبعيّة طَوعاً أو كَرهاً. هذه الظواهر ألْقت بالوَهن في القلوب، واليأس في الصُدور، وفقدان المُسلم معالم الرُّؤية.

مع العلْم أن نور الله بأيديهم، وسُنّة رسوله -صلى الله عليه وسلم- أمام أعينهم، وعلى مَقربة منهم. وتاريخ الإسلام بحضارته المُتألِّقة، وشمس شرائعه المُشرقة، تَحوط بِهم، تَصونُهم وتَحفظهم وتَرعاهم. إنّ إفلاس الحضارة الغَربيّة وانفضاح أمْرها، ومن قبْل ذلك سقوط الشيوعية وانهيار نظامِها في الاتحاد السوفيتي، عام 1991م، بعد أربعة وسبعين عاماً من الحُكم الشيوعي، والذي كان يرزح تحت وطأة اسبتداده وقهره قرابة المائة مليون مسلم تعرّضوا لشتّى أنواع القهر والإبادة منذ عام 1917م، لَدليلٌ على فساد الحضارة المعاصرة. ولقد شاءت إرادة الله، وفْق سُننه الكَونية التي لا تَتخلّف، أن ينهار الاتحاد السوفيتي انهياراً فاجأ الدنيا بأسْرها، وتساقَطت نُظمه التي كانت تَقوم على الوجودية والإلحاد، وإنكار وجود الله، كما تَتساقط أوراق الخَريف الجافّة. وكان أحد أسباب سقوطه الرئيسية: تلك الهَزيمة النَّكراء في أفغانستان، وانسحابه منها، مَهزوماً يَلعَق جِراحه بعد حَروب دامت عشر سنوات من عام 1979 إلى 1989م. ولقد كان انهيار الشيوعية في الاتحاد السوفيتي وأوربا الشرقية انهياراً سَريعاً مُدوياً صكّ سَمع العالم أجمع، وسَط الذُّهول والحَسرة التي انتابت مَن كانوا يَتَّخِذون من الماركسية عَقيدة والشيوعية مَذهباً. وسوف تَلحقها -بإذن الله- الحضارة الغَربية التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية؛ فقد حفرت بيدها نَفقاً مُظلماً بعُدوانِها على أقطار المُسلمين، وانحيازِها الأعمى لإسرائيل.

هذه الأحداث السريعة والمُتلاحقة، وذلك الخواء الروحي، والإفلاس الفِكري، والانهيار الخلُقي، والفوضى التي انتابت العالَم، والفِتن التي تَعْصف بشعوبه، يُلقي عِبئاً ثَقيلاً على أمّة الإسلام، ويَضع على عاتِقها -إن طَوعاً أو كَرهاً- إصلاح الفِطرة الإنسانية التي فَسدت؛ فهي الأمّة المُهيّئَة لذلك، والمَسؤولة أمام الله عن هداية الأمم للنور المُبين، والصراط المستقيم. قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (الفتح:28). فالدّعوة إلى الله باقية ما دامت السماوات والأرض، مُستمرّة ما تعاقَب الليل والنهار، وسوف يُمكِّن الله للدّعاة في الأرض إذا ما خَلُصت النِّيّة، وتَحرّر المسلمون من التَّبعيّة، ووحّدوا جُهودهم، واستغلّوا مَواردهم، ونظّموا شُؤونهم وفق شرْع الله وأحكامه، قال تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج:40).

الدرس: 4 الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, تعريفهما وأهميتهما وصلتهما بالدعوة.

الدرس: 4 الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, تعريفهما وأهميتهما وصلتهما بالدعوة.

المعروف والمنكر بين اللغة والاصطلاح.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الرابع (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, تعريفهما وأهميتهما وصلتهما بالدعوة) 1 - الأمر بالمَعروف، وصِلتُه بالدّعوة المَعروف والمُنْكر بين اللغة والاصطلاح الحمد لله الهادي لدَعوة الحق وإلى الطريق المستقيم، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين، الذي أرسله الله بالهدى ودين الحق ليُظهره على الدِّين كلّه ولو كره المشركون. وبعد: "المعروف" في اللغة: ضدّ المُنْكر، والعُرف: ضدّ النُّكر، والمَعروف والعارِفة: خِلاف المُنْكر. والمعرفةُ والعِرْفانُ: إدراك الشيء بتَفكّر وتَدبّر لأثره، فهي أخصُّ من العِلْم، ويُضادّه: الإنكار. ويقال: "فلان يَعرف الله ورسولَه"، ولا يقال: "يَعْلم الله"، لمّا كانت مَعرفة البشر لله: تَدبُّر آثاره دون إدراك ذاته. ويقال: "الله يعلَم كذا"، ولا يقال: "إن الله يعرف كذا"، لمّا كانت المعرفة تُستعمل في العلْم القاصر المتوصَّل إليه بتفكير. وأصْلُه مِن: عَرَفتُ الشيء أي: أصبتُ عَرْفَهُ، أي: رَائحته، أو مِن: أصبْت عَرْفَهُ، أي: حَدّه. "المعروف" في الاصطلاح: "المعروف": اسم جامع لكلّ ما عُرف من طَاعة الله والتَّقرب إليه، والإحسان إلى الناس، وهو: كلّ ما نَدب إليه الشَّرعُ ونهى عنه، مِن المحسّنات والمقبّحات. قال الإمام الطبري: "والمعروف هو: الإيمان بالله ورسوله، والعمل بشرائعه. وأصل المعروف: كلّ ما كان مَعروفاً فعْله، مُستَحسناً غير مُستَقبح في أهل الإيمان ولا يستنكرون فعْله". وذكَر ابن حجر عن أبي جمرة: "يُطلق اسم المَعروف على: ما عُرف بأدلّة الشّرع من أعمال البِرّ، سواء جَرت به العَادة أم لا.

تعريف "النهي عن المُنْكر" في اللغة: - "النهي": (ن هـ ي): أصل صحيح يَدلّ على غاية وبلوغ، ومنه: "أنهيْتُ له الخير": بلَّغْتُه إيّاه، و"نهاية كل شَيء": غايته. ومِنه: "نهيْتهُ عن"، وذلك لأمر يَفعلُه، فإذا نَهيْتُه فانتهى عنه، فتلك غاية ما كان وآخِره. وجاء في "لسان العرب": "والنّهي: خلاف الأمْر، نَهاه يَنهاه نَهياً فانتهى، وتناهى: كفّ، ونفسٌ نهاةٌ: مُنتهية عن الشيء. وتناهَوْا عن الأمْر وعن المُنْكر: نَهى بعضُهم بعضاً. وفي التنزيل قال تعالى: {كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} (المائدة:79). - تعريف "المُنْكر" في اللغة: جاء في "القاموس المحيط" للفيروزآبادي: "المُنْكر: ضد المَعروف، والنَّكراء: الدَّاهية، والاستنكار: استفهامُك أمراً تُنْكِره". وقال الجوهري: "المُنْكَر: واحد المَناكير. والنَّكير والإنكار: تَغيير المُنْكر. والنُّكْر: المُنْكَر، قال تعالى: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً} (الكهف:74). وأنكر الشيء: جَهلَه، وفي التَّنزيل قال تعالى: {فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} (يوسف:58). واستنكر الأمر: استقبحه". ونكّر الأمْر: غيَّره بحيث لا يُعْرف، قال تعالى على لسان سليمان -عليه السلام-: {قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا} (النمل:41). - تعريف "المُنْكر" في الاصطلاح: "المُنْكر": كلّ ما قبّحه الشّرْع وحرّمه وكرِهه، فهو مُنكَر.

أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأدلة على وجوبه.

وقال الطبري: "المُنْكر: ما أنكره الله، ورآه أهل الإيمان قَبيحاً فعْله؛ ولذلك سُمِّيتِ مَعصية الله مُنكراً، لأن أهل الإيمان بالله يَستنكرون فِعلها، ويَستعظمون رُكوبها". وقيل: "المُنْكر" هو: كل ما يُنْكره الشَّرع ويَنْفِر منه الطَّبع، صَغيرة كانت أو كبيرة. والمعاصي كلّها مُنكَرات، لأن العُقول السَّليمة تُنكِرها. وقال ابن الأثير: "المُنْكر: ضد المَعروف، وهو: كلّ ما قبّحه الشَّرع وحرّمه وكَرِهَه، فهو مُنْكر". أهمِّيّة الأمر بالمَعْروف والنّهي عن المُنْكر والأدلّة على وجوبه الأمر بالمَعْروف والنهي عن المُنْكر أصْل عظيم من أصول الإسلام، وتَرجع أهمِّيّتُه للأسباب التالية: أولاً: إنّ صلاح العباد في الدنيا والآخِرة متوقف على الإيمان بوجود الله ووحدانيّته وطاعته، والتصديق بكلّ ما جاء به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وتمام الطاعة مُتوقّف على الأمر بالمَعْروف والنّهي عن المُنْكر، وبه يتمّ معرفة كلّ منهما، قال تعالى: {لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} (النساء:114). ثانياً: إنّ خَيرية هذه الأمّة وفضْلَها، وتَحقيق النَّصر والفَلاح لها، يتوقّف على الأمر بالمَعْروف والنّهي عن المُنْكر، قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران:104).

يقول الإمام أبو حامد الغزالي -رحمه الله-: "ففي الآية بيان بالإيجاب؛ فإنّ في قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ} أمرٌ، وظاهر الأمْر الإيجاب. وفيها: بيان أنّ الفَلاح مَنوط به، إذ حصر وقال: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. وفيها: أنه فرْض كِفاية لا فرْض عيْن: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ}؛ فإذا ما قام به واحد أو جماعة، سَقط الفرْض عن الآخَرين". ويُبيِّن القرآن الكريم: أنه لا يَخلو الزمان من أمّة مُؤمنة عابِدة تَقوم بالدَّعوة إلى الله، وتأمر بالمَعْروف وتنهى عن المُنْكر، وتُسارع إلى فِعل الخَيرات؛ قال تعالى: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} (آل عمران:113، 114). ثالثاً: بالأمر بالمَعْروف والنّهي عن المُنْكر تَتحقّق الولاية والمُناصَحة بين المؤمنين، قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (التوبة:71). رابعاً: إنّ الأمر بالمَعْروف والنّهي عن المُنْكر سَببٌ من أسباب النَّصر، وثَمرة من ثِمار التَّمكين في الأرض، قال تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (الحج:40، 41). ولقد ذكَر القرآن الكريم في صفة الشهادة والقِتال في سبيل الله في سورة (التوبة) شروط مَن يَستحقّ نَصر الله، في قوله: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ} (التوبة:112).

خامساً: في الأمر بالمَعْروف والنّهي عن المُنْكر النّجاة من الهَلاك، والمُحافظة على سلامة المُجتمع وأمْنه؛ فعَن النعمان بن بشير -رضي الله عنه- قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: ((مَثَل القائم على حدود الله والواقع فيها كمَثَل قومٍ استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبَعضهم أسفلها. فكان الذين في أسفلها إذا استقَوْا من الماء مَرّوا على مَن فَوقهم، فقالوا: لو أنّا خَرقْنا في نَصيبنا خَرقاً ولم نُؤذ مَن فَوْقنا. فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجَوْا، ونجَوْا جميعاً)). ولقد بيَّن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنّ الدَّعوة للحق ومُواجَهة الباطل من أفضل الجِهاد مَنزلةً عِند الله، لا سيما حينما يُصْدعُ بها أمام الحُكَّام الجَبابِرة، والرُّؤساء الظَّالمين المُّستبِدِّين؛ فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-، عن النبي النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: ((أفضل الجِهاد: كلمةُ عَدلٍ عند سُلطان جائِر))، رواه النسائي بإسناد حسَن. فالنصيحة للمسلمين، وتعاونهم على البر والتقوى، وعَدم التعاون على الإثم والعدوان، فَرْض دينيّ وواجب شرعيّ يحافظ على ثوابت المجتمع، ويُحْكِمُ التَّرابط بين أفراده. قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (المائدة:2). يقول الإمام ابن كثير في تفسير هذه الآية: "يأمر الله عِباده المُؤمنين بالمُعاونة على فِعل الخَيرات وهو البِرّ، وتَرْك المُنْكرات وهو التَّقوى، وينهاهم عن التَّناصُر على الباطل والتَّعاون على المآثِم والمَحارم". وقد بيّن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنّ من الأمر بالمَعْروف والنهي عن المُنْكر: مَنع الظالِم وردْعه عن ظُلمه وعُدوانه، والوقوف بجانب المَظلوم وحمايته؛ فعَن أنس بن مالك قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((اُنْصُرْ أخاك ظالِماً أو مَظلوماً)). قيل: يا

رسول الله. هذا نصرته مَظلوماً، فكيف أنصره إذا كان ظالِماً؟ قال: ((تَحجُزه وتَمْنعه من الظُّلم، فذاك نَصْره))، رواه البخاري. وعن أبي رُقيّة تَميم بن أوس الداري -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: ((الدِّينُ النصيحة)). قُلنا: لِمَن؟ قال: ((للهِ، ولِكتابه، ولِرسوله، ولأئمّة المسلمين وعامّتهم))، رواه مسلم. ولقد كان -صلى الله عليه وسلم- يُبايع أصحابه على النَّصيحة، ويَذْكرها في سياق أركان الإسلام؛ فعَن جرير بن عبد الله -رضي الله عنه-، قال: ((بايَعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على إقام الصّلاة، وإيتاء الزكاة، والنُّصحِ لِكلِّ مسلم))، رواه مسلم. وعن عُبادة بن الصامت -رضي الله تعالى عنه-، قال: ((بايَعْنا رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- على السَّمْع والطاعَة، في العُسر واليُسر، والمَنْشَط والمَكْره -أي: في السَّهل والصَّعب- وعلى أثَرَة عَلينا -الأثَرة: الاختصاص بالأمْر المُشترك-، وعلى ألاّ نُنازع الأمْرَ أهلَه، إلاّ أنْ تَروْا كُفراً بواحاً عِندكم من الله تعالى فيه بُرهان -أي: ظاهِر لا يَحتمل تأويلاً-، وعلى أن نقول بالحق أينما كُنَّا، لا نخاف في الله لومةَ لائم))، متفق عليه. ولقد بيّن -صلى الله عليه وسلم-: أنّ مِن آداب المجالس والطرقات: الأمر بالمَعْروف والنّهي عن المُنْكر؛ فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: ((إيّاكم والجُلوسَ في الطّرقات!))، فقالوا: يا رسول الله. ما لنا من مجالِسنا بدٌّ، نتحدث فيها! فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((فإذا أبَيْتُم إلاّ المَجلس، فأعْطوا الطريقَ حَقّه)). قالوا: وما حق الطريق، يا رسول الله؟ قال: ((غَضُّ البََصر، وكفُّ الأذى، وردُّ السلام، والأمر بالمَعْروف، والنَّهي عن المُنْكر))، متفق عليه. سادساً: إنّ تقاعُس الأمّة عن واجب الأمْر بالمَعْروف والنّهي عن المُنْكر تَنجُم عَنه الأضرار التالية:

أ- استحقاق غَضب الله وسَخَطه ولعْنَته، كما حَدَثَ لبني إسرائيل، قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (المائدة:78، 79). وعن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: ((والذي نَفسي بيده! لتأمُرُنَّ بالمَعْروف ولتنهَوُنَّ عن المُنْكر، أو ليوشِكَنّ الله أن يَبعث عَليكم عِقاباً منه، ثم تَدْعونه، فلا يُستجاب لكم))، رواه الترمذي. وقد ساق القرآن الكريم قصّة قوم لوط، الذين فشا فيهم المُنْكر، وانتشَر بينهم الشُّذوذ، وعمَّت الفاحِشة في أندِيَتهم، فحلّت عليهم اللّعنة، ونزل بهم العذاب؛ قال تعالى: {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ * أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} (العنكبوت:28، 29). ولقد كان من طَبيعة هؤلاء القَوم: أنَّ الفاحِشة تُرتَكب عَلناً أمام أعينهم، دون إنكار أو اعتِراض، قال تعالى: {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} (النمل:54). ولقد عاتَبهم لوط -عليه السلام- على تقاعُس العُقلاء في عَدم استنكار سلوكهم الفاضِح وأعمالهم القَبيحة، فقال تعالى: {وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} (هود:78). وكان عاقِبة التَّخاذل والتهاون في الأمر بالمَعْروف والنهي عن المُنْكر: أنْ حلّ بهم عذاب أليم بطَريقة انفردوا بها عن الأمم السابقة واللاحِقة، قال تعالى: {فَلَمَّا

جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} (هود:82، 83). وإنّ انتشار الفاحِشة والشُّذوذ في الحَضارة الغَربية الحَديثة، والتَّشجيع عليه، وتَقنِينه، وحَمْل المُجتمعات الإسلامية على السَّير في رِكابِها بدعوى لقاء الحَضارات والثَّقافات، لأمْرٌ يُؤذِن بالخَطر. ولقد بَدت بوادِره في الأوبئة الفتَّاكَة والأمراض القاتِلة، كـ"الإيدز" وغيره من الأمراض الخَبيثة. وظَهرت أعراض انهيار تلك الحضارة بما يُشاهَد من الحُروب الدَّامية الدائرة في أرجاء العالَم، والتفكك الاجتماعي، والانهيار الأخلاقي؛ ما ذلك إلاّ بسبب انهيار قاعدة الأمر بالمَعْروف والنّهي عن المُنْكر، قال تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (التوبة:67). وإنّ إصرار بَعض أبناء المُسلمين ممَّن تَربّوْا على مَوائد الثقافة والأخلاق الغَرْبية، لِلعمل على انتشار المُنْكر وحبّ الفاحشة من خلال الفَنّ الساقط والأدب المَاجِن عَبر وسائل الإعلام، لأمْر يُنذر بالعَذاب الأليم في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (النور:19). ولقد حذّر القرآن الكريم المؤمنين من اتّباع خُطوات الشيطان، لأنها تؤدِّي إلى الأمْر بالفَحشاء والمُنْكر، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} (النور:21). سابعاً: القيام بالأمر بالمَعْروف والنّهي عن المُنْكر مِن مُكفِّرات الذنوب والخطايا؛ فعَن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه-، قال: سَمِعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((فِتنة الرّجُل

صلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالدعوة إلى الله.

في أهله وماله ونَفسه وولده وجاره، يُكفِّرها الصيامُ والصلاة والصّدقة، والأمر بالمَعْروف والنّهي عن المُنْكر))، رواه الشيخان. والأمْر بالمَعْروف والنّهي عن المُنْكر ليس قاصراً على الرّجَال فحسب، بل إنّ النساء يَشتركن في الأمر به، ويُكلّفنَّ به كما يُكلّف الرّجال. ويكون ذلك بالتَّناصُح فيما بينهنَّ، قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (التوبة:71، 72). ممّا سبق، تتّضح أهميّة الأمر بالمَعْروف والنهي عن المُنْكر، وأنّ السياق القرآني والأحاديث النبوية يَذْكُرانه ضِمن أركان الإسلام وقَواعد الدِّين. صِلة الأمْر بالمَعْروف والنّهي عن المُنْكر بالدّعوة إلى الله إنّ العلاقة بين الدّعوة إلى الله، والأمر بالمَعْروف والنهي عن المُنْكر علاقةٌ وثيقةٌ، وإنّ الارتباط بينهما ارتباط قَويّ؛ فكلاهما وجهان لشيء واحد، هو: الإسلام. فالدّعوة إلى الله هي: حثُّ الناس على الدُّخول في دين الإسلام طَوْعاً، والإيمان بشرائعه، وتَطبيقها اعتقاداً وقولاً وعملاً ظاهراً وباطناً. ولقد شَرع الإسلام الوسائل والأساليب التي تُحقِّق هَدف الدّعوة إلى الله، وهي: ثُبوت العُبوديّة الخَالِصة للخَالِق -سبحانه وتعالى-، وتَحقيق كمال الطاعَة لله ولرسوله، والعَمل على تَوثيق العَلاقات الإنسانية بين بني البَشَر.

فمفهوم الدّعوة إلى الله مفهومٌ شامل واسعٌ يقوم على أمريْن: الأوّل: الإخبار عن ذات الله وصِفاته وكلّ ما يتعلّق بتَوحِيده، والإخبار عن رُسل الله من خِلال قَصص القرآن الكريم، وذِكْر أحوال البَعث والحَشر والنُّشور، ممّا يُطلِق عليه عُلماء البلاغة: "الجُملة الخَبرية" التي تُفيد حُصول الشيء أو عَدم حصوله. وكلّ ما أخبر الله ورسوله عنه، فهو يَقينيّ وصادق، ولا يَتعلّق به الأمر بالمَعْروف والنهي عن المُنْكر. الأمْر الثاني: "الإنشاء" الذي يُعبّر عَنه بـ"الجُملة الطَّلبية" التي تَتضمّن الأمْر والنَّهي؛ وهذا هو مَيدان الأمر بالمَعْروف والنّهي عن المُنْكر. فـ"المَعْروف" في الاصطلاح الإسلامي يُطْلَق على كلّ ما أمَر الشارع بفِعْله إلزامَاً أو تَرغِيباً. فهو: كلّ ما يُستَحسَن فِعْله في الإسلام. ويَدخل فيما هو مُستحسنٌ في الإسلام: كلّ ما هو حَسنٌ في العُقول السَّليمة الصَّحيحة الرَّشيدة، والفِطَر النَّقية. وأمّا "المُنْكر" في الاصطلاح الإسلامي فهو يُطلق على: كلّ ما نَهى الشارع عن فِعْله نَهياً إلزامياً تَحريمياً. فهو: كل مُستقبَح في الإسلام. ويَدخل فيما هو مُستقبحٌ في الإسلام: ما هو قَبيح في العُقول السَّليمة الصَّحيحة الرَّشيدة. فالأمر بالمَعْروف والنّهي عن المُنْكر هو من أعظم وسائل الدّعوة إلى الله، وبدونه تَتجمّد الدّعوة وتَنسحِب من ميادين الحَياة، كما حَدث للأديان الأخرى. وهو صمام أمْن المُجتمعات الإسلامية، وبتعْطيله والتَّقاعُس عَنه يَضمحلّ الدِّين ويَضعف في قلوب العباد، وتعمّ الفتنُ، وتموت الفضائل وتنتشر الرذائل، ويستشري الفساد في الأرض. ولأهمِّيّة الأمر بالمَعْروف والنّهي عن المُنْكر وعُمق

ارتباطه وصِلته بالدعوة إلى الله، وضّع القرآن الكريم والسُّنّة النبوية الشريفة الأسُس والقَواعد التي تُنظِّم القيام به. وقام علماء الأمّة -سَلفُها وخَلفُها- بتقنين هذا العمل العَظيم، وضَبطه فيما يُعْرف بـ"نِظام الحِسْبة في الإسلام"، وهي كما عرّفها الماوردي: "أمرٌ بالمَعْروف إذا ظَهر تَرْكُه، ونهيٌ عن منكر إذا ظَهر فِعْله". والمحتسِب هو: الشخص المعيّن من قِبل الحاكِم للأمر بالمَعْروف والنّهي عن المُنْكر. ويُخوَّل له سُلطَة إيقاع العُقوبة على العُصاة. وقد عدّد الإمام أبو حامد الغزالي دَرجات العُقوبة وتَدرّجَها، وذلك بالوَعظ والنُّصح، ثم بالتَّعنيف، ثم التّغيير باليد، ثم بالتَّهديد بالضَّرب وتَحقّقه، ثم الاستظهار بالأعوان والجُنود. والحِسبة نِظام عُرِف منذ فَجر الإسلام؛ فلقد تَولاّها الرسول -صلى الله عليه وسلم- بنفسه، حيث كانت دعوته -صلى الله عليه وسلم- تَتضمّن الأمْر بالمَعْروف والنّهي عن المُنْكر قَولاً وعَملاً. ((ولقد ولّى الرسول -صلى الله عليه وسلم- سعيد بن سعيد بن العاص بن أمية على سوق المدينة)). وولّى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- السائب بن يزيد مع عبد الله بن عقبة بن مسعود على سوق المدينة. ولقد تَطوّر أداء الأمر بالمَعْروف والنهي عن المُنْكر من خِلال نظام الحِسبة، ليَشمل جَميع مظاهر الحياة الدِّينية والدُّنيوية. وتَتولاه الآن هيئة الأمْر بالمَعْروف والنهي عن المُنْكر. ولارتباط الدّعوة إلى الله بالأمر بالمَعْروف والنّهي عن المُنْكر، يقول الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران:104). فحمّل الله هذه الأمّة واجبَ الدّعوة إلى الخَير، نَظراً لأنّ الدِّين قد اشتَمل على الخير الذي تُدْركه العُقول السَّليمة، وتَشعر به النُّفوس والوجدانات التي لم تَفسد

فِطَرها التي فَطرها الله عليها. وحمّلها أيضاً واجب الأمْر بالمَعْروف والنهي عن المُنْكر داخل جماعات المسلمين، الذين عَرفوا أوامر الدِّين وعَرفوا حُسنها. وإنّ خَيريّة هذه الأمّة وعلوّ مَنزلتها وشَرف مكانتها، لم تُحقَّق إلاّ من خِلال القيام بواجب الدّعوة إلى الله للإنسانية جَمعاء، وبسبب الأمْر بالمَعْروف والنّهي عن المُنْكر، قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (آل عمران:110). وممّا يُؤكد هذا الارتباط بين الدّعوة إلى الله والأمر بالمَعْروف والنّهي عن المُنْكر، ويُوثِّقه: ما روي عن ثَوبان -رضي الله عنه-، أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا تَزال طائفة مِن أمّتي ظاهِريِن على الحقّ لا يَضُرّهم مَن خَذلَهم، حتى يأتيَ أمْرُ الله وهم كذلك))، رواه مسلم. وروى الشيخان عن معاوية -رضي الله عنه-، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا تزال طائفة من أمّتي قائمةً بأمْر الله، لا يضُرّهم مَن خَذَلهم ولا مَن خَالَفَهم، حتى يأتيّ أمْرُ الله وهم ظاهرون على النّاس)). ممّا سبق، يَتَّضح عُمقُ الصِّلة والعَلاقة بين الدّعوة إلى الله والأمْر بالمَعْروف والنّهي عن المُنْكر، وأنّ الارتباط بينهما مِن أعظم أسباب قُوّة الإسلام في القُلوب، واستقراره في العُقول، وتَطبيق شَرائعه وحُدوده في دنيا المسلمين وواقع حياتهم. هذا، وبالله التوفيق, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 5 تحديد المعنيين بخطاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وأسباب المعصية, وشروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

الدرس: 5 تحديد المعنيين بخطاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وأسباب المعصية, وشروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

تحديد المعنيين بخطاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. أ- تحديد الظالمين لأنفسهم.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الخامس (تحديد المعنيين بخطاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وأسباب المعصية, وشروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) 1 - تَحديد المَعْنِيِّين بخِطاب الأمر بالمَعْروف والنّهي عن المُنْكر، وبيان أسباب المعاصي تَحديد المَعْنِيِّين بخِطاب الأمر بالمَعْروف والنّهي عن المُنْكر. أـ تحديد الظالمين لأنفسهم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: لقد خَلق الله البشَر مُختلِفين في العُقول، متعاوِنين في الإيمان، متمايِزين في السلوك. وقد قسّم -سبحانه وتعالى- في أوّل سورة (البقرة) الناس إلى ثلاثة أقسام: مُؤمن، وكافر، ومُنافق. وتَوجّهت الدّعوة لكلّ منهم بخِطاب معيّن وأسلوب في الإقناع مُميّز. ثم تَنوَّع المؤمنون إلى ثلاثة أنواع جاءت في قول الله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} (فاطر:32). يقول الإمام ابن كثير في تفسير هذه الآية: "يقول الله تعالى: ثم جَعلنا القائمين بالكتاب العَظيم، المُصدِّق لما بين يَديْه من الكُتب، الذين اصطفينا من عِبادنا، وهم هذه الأمّة. ثم قسّمناها إلى ثلاثة أنواع، فقال: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} وهو: المُفرّط في فِعل بعض الواجبات، المُرتَكب لبعض المُحرّمات. {وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} وهو: المُؤدّي للواجبات، التَّارك للمُحرّمات. ومنهم {سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} وهو: الفاعل للواجبات والمُستحبَّات، التّارِك للمُحرّمات والمَكروهات وبعض المُباحات". فعَن أبي الدرداء -رضي الله تعالى عنه- قال: سَمِعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((قال الله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ... } الآية. فأما الذين سَبقوا فأولئك الذين يَدخلون الجنة بغَير حِساب. وأما الذين اقتَصدوا فأولئك الذين يُحاسَبون حِساباً يَسيراً. وأمّا الذين ظَلموا أنفسهم، فأولئك الذين يُحبسون في طول المَحشر، ثم تلافاهم الله برحمته. فهم الذي يقولون: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ

فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} (فاطر:34، 35)))، مسند الإمام أحمد. ويَتنوّع الخِطاب الدَّعويّ لكلّ جماعة من هذه الجماعات الثلاث، بأسلوب مُميّز ونَسق خاصّ من الإقناع. فالأمر بالمَعْروف والنّهي عن المُنْكر يتوجّه في الجانب الرئيسي إلى بعض المؤمنين الذين ظَلموا أنفسهم بارتكابِهم المَعاصي، وتَفريطِهم في أداء العِبادات، وتَقصيرهم عن القِيام بالطاعات، وتهاونهم في أمر الإسلام. وهؤلاء يُمثّلون غَالبية المُسلمين، ولا سيما في هذا العَصر، الذي يَخنق أقطار العالَم الإسلامي ويَكتُم أنفاسه، ويكاد أن يُزهق روحه بسبب العدوان الشَّرس، والتآمر المُستمر على ثَوابت الأمّة الإسلامية وهويّتها. وهذا الجانب الأكبر من المُسلمين هم الذين يَنبغي أن يَهتمّ بهم الدُّعاة إلى الله، لأنهم مَرضى المَعاصي، ويَحتاجون لحِكمة في القول، ولِين في المَوعظة، لإيقاظ ينابيع الخَير في القُلوب، واستمالة العُقول. ويَنبغي أن يَسبق مواجهتَهم بالأمر بالمَعْروف والنَّهي عن المُنْكر دِراسةُ القضايا التالية: أ- تَحديد الظالمين لأنفسهم، وهم: العُصاة المُفرِّطون، والمُسيئون لأنفسهم بارتكاب المَعاصي والذنوب، والفُسّاق من المسلمين. فالعُصاة مهما فرّطوا في جَنب الله، ما يَزالون مُسلمين طالما لمْ تَصل مَعصيتُهم إلى كَبيرة الشِّرك والكُفر بالله، ولم يَرتكبوا كفراً بواحاً. وهؤلاء يَختلف خِطابُهم عن غَيرهم من المؤمنين. قال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلاَ الْمُسِيءُ قَلِيلاً مَا تَتَذَكَّرُونَ} (غافر:58).

ب- تحديد أسباب المعصية.

وقال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} (ص:28). وقال تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ * يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ} (الانفطار:13 - 15). فقد حَدّد القرآن الكريم سِمات العاصين والطائعين، وبَيَّن معالِم كلّ منهم وجزاءهم. وإن إبراز سلوك العُصاة وإفراز أعمالهم يُسهِّل مُهمة الدّعاة إلى الله، ويَجعل الخِطاب الدَّعوي مُوجَّهاً إلى كل جماعة بما يُناسبها من أسلوب، وبما يُؤثِّر فيها من مَوعِظة وتَذكير ووَعْد ووَعيد. ب- تَحديد أسباب المَعصية إن التَّشخيص السَّليم والفَحص الدَّقيق للدَّاء يُعين على تَحديد الدَّواء وتَحقيق الشِّفاء -بإذن الله-، وكذلك حينما يَعْرف الداعية أسباب المَعاصي ودوافعها، ويَقف على شَخصيّة العُصاة وأثر المَعصية على صاحبها وعلى المجتمع، فإنّ الأمر بالمَعْروف والنهي عن المُنْكر يُؤتي ثِماره ويُحقِّق القَصد منه. وإن أسباب انحراف السُّلوك وارتكاب الفَواحش والآثام، يَرجع للأسباب التالية: 1 - ضَعف الإيمان بالله: إن قُوّة الإيمان ونَقاء العَقيدة والتزام الطاعة هي خَير وقاية من المعاصي، وأعظم حافِظٍ للسلوك من الانحراف. فكلّما قَوِيَ الإيمان وازدادت الخَشية والخَوف من الله، تولّدت في الإنسان مَلكة المُراقبة والمُحاسبة، فإذا ما تَعثَّر ووَقع في المَعصية، بادر بالتَّوبة والرُّجوع إلى الله.

قال تعالى في صِفات المُتّقين: {والّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} (آل عمران:135، 136). أمّا ضَعْف الإيمان، فهو يُجرِّئ على ارتكاب المَعصية، ويُشجِّع على الانحراف؛ فعَن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: ((لا يَزني الزَّاني حين يَزني وهو مُؤمن، ولا يَشرب الخَمر حين يَشربها وهو مُؤمن، ولا يَسرق حين يَسرق وهو مُؤمن، ولا يَنتهب نهبةً يَرفع الناس فيها أبصارهم حين يَنْتَهبها وهو مُؤمن))، متفق عليه. ومذْهب أهل السُّنّة والجماعة: أنّ الإيمان يَزيد ويَقوى بالطاعة، ويَنقُص ويَضعُف بالمَعصية، ويُستَدل على ذلك بقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (الأنفال:2). ثم أعقب هذه الآية بيان بعْض العِبادات البَدنية والمَالية التي تُساهِم في زيادة الإيمان، فقال تعالى: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (الأنفال:3، 4). وممّا يَدلّ أيضاًَ على قُوّة الإيمان وزيادته بالطَّاعة، وضَعْفه ونُقصانه بالمَعصية: قول الله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} (التوبة:124). فضَعْف الإيمان أَحَد الأسباب الرئيسة في ارتكاب المعاصي.

2 - الغَفلة عن ذِكر الله، وعن يوم الحِساب: إنّ الغَفلة عن ذِكر الله وعن يوم الحِساب وأهواله، يُولِّد تَبلُّداً في القَلب وصَدأً في النُّفوس وصُدوداً عن الطَّاعة، وإقبالاً على المَعصية، قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً} (الكهف:57). وإنّ من أسباب الغَفلة والنِّسيان: الإقبال على الدنيا بكلّ المَشاعِر والعَواطِف، والانغماس في أنواع الشَّهوات والمَلذَّات، والإعراض عن الآخرة؛ فلا يُفكّر الإنسان فيها إلاّ عَرضاً، قال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} (الأنعام:44). ولهذا حذَّر القُرآن الكريم من نِسيان الله وإغفال ذِكْره، لِما يَعقُب ذلك من نِسيان النَّفس وضياعها. وما انتشار الأمراض النَّفسية، وظُهور أعراض التَّوتّر العَصبيّ والقَلق القَلبيْ، وعَدم الاستقرار الاجتماعيّ، رَغم التَّقدم العِلْمي والتَّرف الدُّنيوي، إلاّ بسبب نِسيان الأمم والشُّعوب للخَالق سبحانه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لاَ يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} (الحشر:18 - 20). ولهذا كان ذِكْر الله عاصِماً للإنسان من المَعاصي، وصوناً له من الوقوع في حبائل الشيطان، قال تعالى مُبيِّناً صِفات المؤمنين ذوي العُقول السليمة والفِطْرة النَّقية: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ ... } (آل عمران:191) الآية.

وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} (الأعراف:201). ولقد كان إرسال الرُّسل، وإنزال الكُتب، ووجود الدُّعاة إلى الله في كلّ زمان ومكان تذكيراً بالله واستِمراراً لصِلة العِباد به، لِتُفتح أبواب الطاعة وتُغلَق منافذ المَعصية. 3 - الجَهل بالدين وعَدم العِلم بأحكام الشرع: إن الجَهل بالدِّين وأحكامه وعَدم الوقوف على ما أمَر الله به وبما نَهى عنه، من أسباب الوقوع في المعاصي؛ فالجَهل ضِدّ العِلْم، وهو أحد أسباب انحراف الأمم عبر مَسيرة التاريخ البشري. وقد بيّن القرآن الكريم أنّ من أسباب انحراف قَوم لوط ونُزوعِهم لارتكاب فاحِشة إتيان الذُّكران، وعدم الوقوف على الأضرار الناجِمة عن ذلك هو: الجَهل، قال تعالى: {أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} (النمل:55). وحينما أعلن بنو إسرائيل لموسى عن رَغبتهم في اتخاذ آلهة كغَيرهم من الشعوب الأخرى، وصَفهم -عليه السلام- بالجَهل، قال تعالى: {قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} (الأعراف:138). ولهذا أُطْلِقَ لفظ "الجاهِلية" على الأمم التي انحرفت عقائدها، وساءت أعمالها، سواءٌ كان هذا في التاريخ القديم أو المعاصر. وقد أنكر القرآن الكريم على مَن يَعترض على حُكم الله وإقامة الحُدود الشرعية، بأنه جاهل، يُمثِّل الجاهِلية الوَثنيّة الكَافِرة، وإن اختَلفت صُوَرها وأساليبها في كلّ زَمان ومَكان، ومهما تدثَّرت بدِثار الحَضارة، أو تَقنّعت بقِناع التَّقدّم؛ قال

تعالى: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} (آل عمران:154)، وقال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (المائدة:50). وإنّ من رحمة الله بعِباده: أنه لا يُؤاخِذ العَبد على جَهله إذا ما عَلِم بعد ذلك، وتاب لله واستغفر، قال تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} (النساء:17). وقال تعالى: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (الأنعام:54). 4 - اتّباع الهَوى: "الهوى" في اللغة هو: "مَيْل النَّفس وانحرافها عن الشيء، ثم استُعمل في المَيل المَذموم، فيُقال: "اتّبع هواه"، و"هو من أهل الأهواء". وإنّ اتّباع الهَوى أحد الأبواب الواسعة التي يَلِجها الإنسان لارتكاب المعاصي، وهو سبب رئيسي لانعدام العَدل في المُجتمع، وانتشار الفَساد في الأمّة، حيث تَسوء الأخلاق، ويَنحرف السُّلوك، وتَخْتَل المَوازين بالجَري خَلف الشَّهوات والمَلذّات، دون احترام للدِّين، أو مراعاة للعُرف، قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (القصص:50). وقد بيّن القرآن الكريم خُطورة اتباع الهَوى، وآثاره السَّيئة على الإنسان، بسبب اقترافه الفَواحش والمُنْكرات التي يَحمِلها عليه هواه، قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ

اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} (الجاثية:23). ولقد نهى القرآن الكريم عن اتّباع الهوى في الحُكم بين المُتخاصمِين، لِما يَنتج عن ذلك من ضَياع للحقوق، وتَبرئة الظالِم وإدانة المظلوم، قال تعالى: {فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} (النساء:135). وقال تعالى لداود -عليه السلام-: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} (ص:26). وقد حذَّر القرآن الكريم من مُصادقة الغافِلين عن ذِكْر الله، والتّابعين للأهواء، فقال تعالى: {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} (الكهف:28). وبيّن القرآن الكريم الفَرق الشاسِع بين مَن يَضع مَنهج الله نصْب عَينيْه ويَجْعله وِجْهته وقِبلته، وبيْن مَن يَسير في الحَياة وفْقَ أهوائه وشَهواته، قال تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} (محمد:14). واتّباع الأهواء يَحجُب موالاة الله ونُصرته، قال تعالى لرسوله -صلى الله عليه وسلم-، والأمّة يَشملها النَّهي إلى يوم القيامة: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ} (البقرة:145). وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا وَاقٍ} (الرعد:37). قال -صلى الله عليه وسلم-: ((لا يُؤمنُ أحدُكم حتى يَكونَ هواه تَبَعاً لِما جِئتُ به)).

وقال -عليه الصلاة والسلام-: ((الكَيِّس مَن دان نَفسه وعَمِل لِما بعد المَوت، والعاجِز مَن أتْبع نَفسَه هَواها وتَمنّى على الله الأمانيّ))، رواه الترمذي وابن ماجة. وعن أبي بَرزة -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: ((إنّما أخشى عَليكم شَهواتِ الغَيّ في بُطونِكم وفُروجِكم، ومُضِلاّتِ الهوى))، رواه أحمد، والبزار، والطبراني. فمِن خِلال تلك النُّصوص من الكِتاب والسُّنّة، يتَّضح أن اتِّباع الهوى هو أحد أسباب ارتكاب المَعاصي. 5 - النَّفس الأمّارة بالسُّوء: قسّم القرآن الكريم النَّفس الإنسانية إلى ثلاثة أقسام: 1 - النَّفس المُطمئنّة، وهي: التي استقرّ الإيمان في أعماقِها، فاطمأنت إلى جَنب الله، واعتمدت عليه، واتّجهت إليه بكلّ مشاعِرها وعواطِفها؛ فكان أجْرها كبيراً، وثوابها عظيماً، قال تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} (الفجر:27 - 30). 2 - النَّفس اللّوّامة، وهي: النَّفس التي يتصارع في داخلها نوازِع الخَير ودوافع الشّر، ولكنها ذات ضَمير حيٍّ وقلبٍ يقِظ، ما تَكاد تَقْترف سيئةً إلاّ ويستيقظ فيها الخَوفُ من الله والنّدم على ما اقترفتْه، واللّوم والتَّقريع على ما ارتكبتْه، فتُبادر بالتَّوبة إلى الله والاستغفار من الذنب. هذه النَّفس يُقْسم الله بها تَقديراً لمجاهدتها، ويَمسح عنها تلك الجِراح الدَّامية، والآلام المُبرحة الناتِجة عن مَعركتها مع الشّهوات. ويَجعل القَسَم بها عَقِب القَسَم بيوم القِيامة، للاشتراك في تَدافع الخَلْق وتَزاحمهم يوم الفزع الأكبر،

وتَدافع النفس ومُغالبتها للسيئات ولوم ذاتها عمّا فَعلت، قال تعالى: {لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} (القيامة:2). 3 - النَّفس الأمّارة بالسوء، وهي: النَّفس التي تَمكّن الشَّيطان مِنها، وغَلبتْها الشَّهوات على أمْرها، فوجَّهت حواسّ الإنسان وعَقله ومشاعِره نحو اقتراف السيئات، فأتمَرت بها وأطاعتها وانساقت إلى ما تُريد. هذه النفس الأمّارة بالسوء هي وراء الكَثير من كبائر الذنوب وصغائِرها، خِلال تاريخ البَّشرية. وقد ساق القُرآن الكريم بعضاً منها؛ ومن ذلك ما يلي: 1) كانت النفس الأمارة بالسوء وراء قَتل قَابيل لأخيه هَابيل، قال تعالى: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (المائدة:30). 2) وهي السبب في إقدام إخْوة يوسف على التَّخلّص منه. وشَعر يَعقوب -عليه السلام- بما سوَّلته لهم أنفسهم، وقد حكى القرآن الكريم ذلك في قوله تعالى: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} (يوسف:18). 3) وهي وراء مُراودة امرأة العزيز ليوسف -عليه السلام-، قال تعالى: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ} (يوسف:23). وقد كانت النَّفس الأمارة بالسوء هي الدَّافِع لامرأة العَزيز لاستدعاء نِسوة المَدينة ورُؤيتهنّ ليوسف -عليه السلام-، لحَمْلِهنّ على الاعتذار لها والإقرار لها بتلك المُراودة، قال تعالى: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (يوسف:30). ولقد كان إقرار النِّسوة وإعجابهنّ من فَرط جَمالِه دافعاً قَوياً لنفس امرأة العَزيز للإصرار على ما تُريد، قال تعالى: {قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلِيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ} (يوسف:32).

تابع: أسباب المعصية.

وحينما تَبيَّنتْ عِفَّة يوسف -عليه السلام-، وصِدقه وطهارَته بعد رِحلة السِّجن، كان الإقرار والاعتراف والنَّدم من زَوجة العَزيز، وإعلانها أنّ هذا بسبب النَّفس الأمّارة بالسوء، قال تعالى على لسانِها: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} (يوسف:53). ولقد كانت النفس الأمّارة بالسوء هي المُحرِّكة للسامريّ لفِتنة بني إسرائيل واتّخاذِهم العجل إلهاً، قال تعالى على لسان موسى -عليه السلام-: {قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ * قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} (طه:95، 96). وهي أيضاً وراء الاستكبار في الأرض، والظُّلم والعُتو والاستبداد والكُفر عَبر تاريخ البشرية، قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً} (الفرقان:21). وهكذا تظل النّفس الأمّارة بالسوء هي الدافع لارتِكاب المَعاصي واقتراف السيئات؛ ولهذا كان حديث القرآن على النَّفس البَشرية حديثاً مُستفيضاً شَمل كلّ جَوانبها، والعَوامِل المؤثرة فيها، وسُبل إصلاحها وتقويمها، قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} (الشمس:7 - 10). 2 - أركان الأمْر بالمَعْروف والنّهي عن المُنْكر تابع: أسباب المَعْصية 6 - البِيئة الاجتماعية: إنّ من سُنن الله في خَلْق الإنسان أنّ الطِّفل حينما يَستقبل الحَياة وتَنفَتِح عَيناه في الدنيا، يكون على الفِطْرة النَّقية، قَلبه أبيض كاللّبن، ونَفْسه صافية صفاء الماء العَذب، وصَدره الصَغير كتاب مَفتوح تُسطِّره الأسرة والمَدرسة والمُجتمع؛ فعَن

أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: ((ما مِن مَولود إلاّ يُولد على الفِطْرة، فأبواه يُهوِّدانه أو يُنصِّرانه أو يُمجِّسانِه))، رواه البخاري. فالرسول -صلى الله عليه وسلم- يُبيِّن أثَر الأسرة والمُجتمع في صَلاح الأبناء أو انحراف سلوكهم؛ حيث تُوجد عوامل كَثيرة تَدفع الإنسان إلى المَيل للطَّاعة أو الجُنوح للمَعصية. فهناك دائرة الأسرة وما تقوم به من حُسن تَربية وكمال رِعاية وأدب، أو ما يَلقاه الطفل من الإهمال أو التَّدليل وعَدم المُراقبة والتَّوجيه. والمَدرسة ومنهجها في التَّعليم، أهو رسالة أم وَظيفة وتَلقين؟ ومَدى العلاقة بين الطالب والأستاذ؟ وهل المَدرسة تَعليم فقط، أم تَربية وتَعلِيم؟ ومَدى ارتباط المناهج بتقويم النفوس وتَهذيب السلوك. ثم يأتي بعد ذلك دور المُجتمع ذو الدائرة الأوسع، حيث تَشمل مُحيط الأصدقاء والجِيران، وتَتضمّن وسائل الإعلام، وأجهزة الدولة بسلطاتها التَّشريعية والقَضائية والتَّنفيذية. كل هذه الأمور إن لم تُوضع لها الضَّوابط الشَّرعية التي تَصون الفَرد والجَماعة من عوامِل الانحراف والفَساد، فإنها تَكون مَدخلاً واسِعاً لارتكاب المعاصي والتَّشجيع عَليها. وإنّ ما يُشاهده العالَم ويَسمعه من أنواع الفَن الهابِط، والأدب الماجِن، والإعلام المُبتَذَل، الذي يُروِّج للعُنف ويَحضّ على ارتكاب الفَواحِش، ويُغمِض عَينيْه عن آداب الإسلام، ويُصِمُّ أذنيْه عن توجيه الدعاة، لأَحدُ الأسباب الخَطيرة التي تَدفع لارتكاب المعاصي. وقد بيَّن القرآن الكريم: أنّ انحراف الأبناء وفساد سُلوكهم وارتكابهم الفَواحش، بسبب رؤيتهم للآباء وهم يقترفونها، قال تعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (الأعراف:28).

ولقد كانت دعوات الأنبياء والمُرسلين عَبر التاريخ تصطدم دائماً بالمُعتقدات الفاسدة التي تتوارثها الأجيال، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} (الزُّخرُف:23، 24). وكذلك لا يُجهَل مُحيط الصَّداقة، إنْ لمْ يُحسن الإنسان اختيار الأصدقاء؛ فالتَّشجِيع على المعاصي وارتكاب المُنْكرات، ذلك يكون بسبب سوء تَربية الأهل وضَعْف رقابة المُجتمع. ولقد حذَّر القرآن الكريم من عواقِب أصدقاء السوء، فقال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً} (الفرقان:27 - 29). كما ساق القرآن الكريم مشاهِد وحوارات كَثيرة يوم القيامة لأصدقاء الإنسان من الإنس وقُرنائه من الجن، يتلاومون ويتقاتَلون ويتخاصَمون، ويَندمون على ما فرّطوا في جَنب الله بارتكابهم المعاصي، ودفْع بعضهم بعضاً لاقتراف السيئات. ومن ذلك: 1 - قول الله تعالى: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ * قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ * قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} (الصافات:50 - 57). 2 - وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} (الزُّخرُف:36 - 38).

فـ"القَرين": المُقارِن، والجَمع: قُرناء. وهو: المُصاحِب، ويُطلق على الشَّيطان المَقرون بالإنسان لا يُفارقه. قال تعالى: {الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} (الزُّخرُف:67). و"الخِلُّ" و"الخُلّة": المُصادَقة والإخاء. والخُِلُّ -بالكَسر والضَّم-: الصَّديق المُخلِص. والخَليل: الصادق، أو مَنْ أصفى المَودّة وأصحّها. قال تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} (النساء:125). فالخُلّة أعلى دَرجات المَحبة وأرفعها. وقد بيّن القرآن الكريم: أن يوم القيامة لا تَنفع فيه خُلّة الأصدقاء، ولا شفاعةُ الشفعاء، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (البقرة:254). قال تعالى مُصوِّراً ومُوضِّحاً مشاهِد يوم القيامة: {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} (عبس:33 - 37). وهكذا يتّضح من خلال هذه الآيات الكريمة، مدى تأثير البِيئة الاجتماعية التي تَشمل دائرة الأسرة، والمدرسة، والأصدقاء، وكلّ مظاهر الحياة في المجتمع، على سلوك الإنسان؛ وذلك بأخذه إلى الطَّاعة، أو دفْعه إلى المَعصية. مما سَبق، تتبيَّن أسبابُ ارتكاب المَعاصي، ودوافِعُ اقتراف السيئات. ويَنبغي على مَن يتصدَّى للأمر بالمَعْروف والنّهي عن المُنْكر أن يَكون على عِلْم وبَصيرة بهذه الأسباب والدَّوافِع، لِيضع لكل حالةٍ ما يناسبها من التوجيه السليم، والموعظة الحسنة، أو بإحدى وسائل تَغيير المُنْكر

شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

والتي سوف نتناولها بين ثنايا هذه المحاضرات -إن شاء الله-. شُروط الأمْر بالمَعْروف والنّهي عن المُنْكر لقد وضع الإسلام صِفات ومعالِم الشخص الذي يُناط به القِيام بواجِب الأمر بالمَعْروف والنهي عن المُنْكر، ويَجب أن تَتوافر فيه الشُّروط التالية: أولاً: أن يَكون القائِمُ بهذا الأمْر مُكلّفاً شَرعاً، والتَّكليف يَتحقق بالبُلوغ والعَقل؛ فغَير البالِغ لا يُسند إليه ولا يُطْلب منه، لأنه لم تَتوفّر فيه الأهلية الشرعية التي من خِلالها يكون مَسؤولاً وواعِياً لِما يأمر به أو يَنهى عنه. أما إذا قام المُميّز بهذا الأمر تَطوعاً، كبعض الحَفظة للقرآن الكريم، أو مِن طُلاّب العِلم الشرعي، فيُقبل منهم تَشجيعاً لهم وتَدريباً على ممارسته، على أن يتمّ ذلك تَحت المُراقبة والمُتابعة، وفي حُدود الوَعظ والإرشاد بالقول، دون مراتب التغيير الأخرى، لأنَّ المُميز ليس أهلاً لها ولا مُكلّفاً بها. وكذلك العقْل، فالمَجنون والمَعتوه والأبله لا يُكلّفون بالأمر والنّهي، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((رُفِع القَلمُ عن ثلاثة: عن المَجنون حتى يُفيق، وعن النائم حتى يَستيقظ، وعن الصَّبيِّ حتى يَحتلم))، رواه أبو داود، وأحمد، والترمذي. ثانياً: الإسلام، لقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (آل عمران:85). ولأن الأمر بالمَعْروف والنهي عن المُنْكر نُصرةٌ للدِّين وإقامَة لحُدوده، فكيف يقوم به ويَنصُره الكافر به والجاحد له.

ولذلك فإنّ ما دَرجت عليه بعضُ الدول الإسلامية من الاستعانة بغير المُسلمين في وضْع المناهج التَّعليمية والتَّربوية لأبنائها، حيث يعْمَدون فيها إلى تَهميش الدِّين وإضعافه في النفوس. وأوضح مثالٍ سيِّئ على ذلك: ما فَعله المِستر دنلوب القِسيس الإنجليزي الذي عيَّنه "كرومر" المندوب السامي لإنجلترا في مصر في مطلع القرن العشرين مستشاراً لوزارة المعارف المصرية، فعمل على تخريب التعليم الدِّينيّ وإضعاف اللغة العربية، وما زالت بصماتُه الخبيثة على التعليم باقية حتى الآن. فمن غير المنطق والمعقول: أن يكون غير المسلم أميناً على دِين الأمّة المسلمة وثقافتها. وهل يُعقل أن يُؤتى بالذئب حارساً؟ أو أن يكون اللص أميناً؟ ثالثاً: العدالة، وهي: التوافق والتوازن بين القول والعمل؛ فليس لِفاقد العدالة أو ناقص المروءة أن يقوم بواجب الأمر بالمَعْروف والنّهي عن المُنْكر، ففاقد الشيء لا يُعطيه. قال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} (البقرة:44). وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ} (الصف:2، 3). فمَن ليس بصالح في نفسه، فكيف يُصلِح غيره؟ ومتى يستقيمُ الظلُّ والعودُ أعْوج؟ ولكون الإنسان غير معصوم، ولكي لا تضيق دائرة الأمر بالمَعْروف والنهي عن المُنْكر، فقد يُقبل من الإنسان الذي قد يقترف بعضَ الصغائر والتي أطلق عليها

القرآن الكريم لفظ: {اللَّمَم} (النجم:32) في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} (النجم:32)، فأمثال هؤلاء يُقبل منهم القيام بالأمر بالمَعْروف، لا سيما في الأشياء التي لا يرتكبونها. قال سعيد بن جبير: "إنْ لم يأمُر بالمَعْروف ولم يَنْهَ عن المُنْكر إلاّ مَن لا يكون فيه شيء، لم يَأْمُرْ أحدٌ بشيء". يقول الإمام أبو حامد الغزالي: "إنّ الحسبة تارة تكون بالنّهي بالوعظ، وتارة بالقهْر، ولا ينجع وعظُ من لا يتّعظ أولاً. ونحن نقول: مَن عَلِم أنّ قولَه لا يُقبل في الحسبة لِعلْم الناس بفِسْقه، فليس عليه الحسبة بالوعظ، إذ لا فائدة في وعْظه؛ فالفسْق يؤثِّر في إسقاط فائدة كلامه، ثم إذا سقطت فائدة كلامه سقط وجوب الكلام. أمّا إذا كان الحسبة بالمنع، فالمراد منه القهر، فلا حرج على الفاسق في إراقة الخمور وكسْر الملاهي وغيرها، إذا قدر على ذلك". وما ذكَره الغزالي ينطبق على مَن كُلِّفوا من قِبل وليِّ الأمر بإزالة المُنْكرات الشرعية والمخالفات القانونية، بحكم وظائفهم فقط؛ فهم يقومون بالأمر بالمَعْروف والنّهي عن المُنْكر كعمل وظيفيّ، لا كرسالة تعبّديّة، ويأخذون لها راتباً مالياً نظير قيامهم بما كُلِّفوا به من الدولة، غير أنهم سيُحاسَبون أمام الله على تقصيرهم في عدم الالتزام السلوكي، كمن يحث الناس ويأمُرهم بالصلاة وقد يتكاسل عنها، أو كمن كُلِّف بجمع الزكاة وهو لا يدفع زكاة مالِه. فهؤلاء وأمثالهم يُقبل منهم ما يقومون به من أعمال، بحسب الوظيفة لا بحسب رسالة الدّعوة إلى الإسلام، وطلب الثواب والأجر من الله -سبحانه وتعالى-.

رابعاً: العلْم والبصيرة بحقيقة الأمر بالمَعْروف والنّهي عن المُنْكر؛ فإنّ من القواعد والأركان التي يقوم عليها الأمر بالمَعْروف والنّهي عن المُنْكر: أن يكون القائمُ به عالِماً بالحُكم الشّرعي للمأمور به أو المنهيّ عنه، وهل هو للوجوب، أم للنّدب، أم للتحريم، أو للكراهة، أو التخيير؟ هذا بجانب الوقوف على الأدلة الشرعية من الكتاب والسُّنة التي تعضد الحُكم وتوضِّحه. فإنّ مَن يأمر وينهى من غير علمٍ يكون ضررُه أكبر من نفعه، لأنه قد يأمر بما ليس مشروعاً، وينهى عمّا كان مشروعاً. فقد يُحِلُّ حراماً أو يحرّم حلالاً وهو لا يدري؛ ولذلك كان تأكيد الإسلام على طلب العلْم والتّفقّه في الدِّين أمراً معلوماً من الدِّين بالضرورة، قال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة:122). وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((مَن يُردِ اللهُ به خيْراً يُفقِّهْهُ في الدِّين)). وقال تعالى لرسوله -صلى الله عليه وسلم-، وأمَره أن يُخبر الأمّة بذلك، وأن تلتزم بها: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (يوسف:108). فالبصيرة تقوم على اليقين والبرهان العقليّ والشرعيّ.

وإن نزل بعض الدعاة ميدان الأمْر بالمَعْروف والنهي عن المُنْكر دون علْم يتحصّنون به وفِقْه بأوامر الشرع ونواهيه، قد يوقعهم في الضلال وينتج عن ذلك ظهور الفتن بين المسلمين، حيث تتضارب الفتوى، وتتنازع الآراء، وتتباين الأفعال، قال تعالى: {وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} (الأنعام:119). وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} (القصص:50). قال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-: "من عمِلَ في غير علمٍ، كان ما يُفسده أكثر ممّا يُصلحه". يقول ابن تيمية -رحمه الله-: "ولا يكون العمل صالحاً إن لم يكن بعلْمٍ وفقه". خامساً: أن يكون الداعي رفيقاً في أمْره ونهْيه، حليماً على مَن يخاطبهم؛ فإن اللّوم والتعنيف والتقريع يُخيف الناس منه ويَصرفهم عنه، قال تعالى مادحاً رسوله -صلى الله عليه وسلم- لاتّصافه بالسماحة ولين الجانب: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (آل عمران:159). وقد أمَر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالرّفق في كلّ الأمور، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إنّ الرِّفقَ لا يكون في شيء إلاّ زانه، ولا كان العنف في شيء إلاّ شانَه))، أخرجه مسلم. وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((إنّ الله رفيقٌ يُحبّ الرِّفقَ في الأمْر كلِّه، ويُعطي عليه ما لا يُعطي على العنف))، رواه البخاري.

وممّا يجب أن يتّصف به الآمر بالمَعْروف والناهي عن المُنْكر: أن يكون حليماً واسع الصدر، يعِظ في لطف، ويناقش في هدوء، ويتجادل بأدب، وفْق ما أمَر الله به في قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (النحل:125). ومع الرِّفق والحِلم، فإنه ينبغي لِمن يأمر بالمَعْروف ويَنهى عن المُنْكر أن يتحلّى بالصبر، لأن النفوس المريضة تضيق بالموعظة، وتنفر من الانصياع للأمر والنّهي. وقد ينزل الأذى بالداعي ويلحق به الضرر، ولا سيما حينما يواجِه الجبابرة من العصاة والطغاة؛ ولهذا أمر الله الرسُل -وهم أئمةُ الأمر بالمَعْروف والنهي عن المُنْكر- بالصبر، فقال تعالى على لسان لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} (لقمان:17)، وخاطب الحق -تبارك وتعالى- الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وأمَره بالصبر، كشأن أولي العزم من الرّسُل، فقال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} (الأحقاف:35). وقال تعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} (النحل:127، 128). قال بعض أئمة السلف: "لا يأمر بالمَعْروف وينهى عن المُنْكر إلاّ من كان فقيهاً فيما يأمُر به، فقيهاً فيما يَنهى عنه، رفيقاً فيما يأمر به، رفيقاً فيما ينهى عنه، حليماً فيما يأمر به، حليماً فيما ينهى عنه". وقال سفيان الثوري: "لا يأمر بالمَعْروف ولا ينهى عن المُنْكر إلاّ مَن كان فيه خصال ثلاث: رفيقٌ بما يأمر رفيقٌ بما يَنهَى، عدلٌ بما يأمر عدلٌ بما ينهى، عالِمٌ بما يأمر عالِم بما ينهى".

سادساً: أن يكون مأذوناً من جهة وليّ الأمْر، أو مِن قِبَلِ مَن يقوم على أمْر الدّعوة وتنظيمها؛ إذ إنّ أساليب الدعوة إلى الله تنقسم إلى قسميْن: القسم الأول: يطالَب به المسلمون جميعاً، ويُؤجَرون على فعْله ويأثمون على ترْكه، وهو فرض كفاية إذا قام به البعض سقط الإثم عن الجميع. وهو أحد المهام الرئيسة لضبط سلوك المسلم، ولبقاء الإسلام حياً في الضمائر، يقظاً في الأفئدة. هذا القسم يشمل: التناصح بين المسلمين، والتّواصي فيما بينهم؛ قال تعالى: {والْعصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (العصر:1 - 3)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((الدِّينُ النّصيحة)) قلنا لِمَن؟ قال: ((لله، ولِكتابه، ولِرسوله، ولأئمّة المسلمين وعامّتهم))، رواه المسلم. فالنصيحة أمر يشترك فيه المسلمون جميعاً، يتنافسون عليه ويتسابقون إليه، ولا سيما فيما عُلِم من الدِّين بالضرورة ولا يحتاج النصح فيه إلى بذل جُهد أو إعمال فكْر وقدْح ذهن. وهذا هو المراد من قول الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (آل عمران:110). فالتعبير بلفظ المضارع: {تَأْمُرُونَ}، و {تَنْهَوْن}، و {تُؤْمِنُونَ} الذي يفيد الحال والاستقبال، هذا دليل على استمرارية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى يوم القيامة.

وهذا الأمر المشترك هو ما يشير إليه قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (التوبة:71). هذ التذكرة بالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر تتمّ حينما يجِد المذكِّر آذاناً صاغية، وقبولاً للموعظة، واستحساناً للتوجيه، قال تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} (الأعلى:9 - 12). أما إذا وجد المذكِّر تبرّماً وضيقاً، وصدوداً وإعراضاً، وقد يلحق به أذىً من جراء موعظته، فلْيمنعْ عن إبداء النصح، ولينسحب في هدوء؛ فكثيرٌ من الناس يتأفّفون من النصيحة ويضيقون ذرعاً بالتذكرة. وقد اشتكى نوح -عليه السلام- من ذلك الصنف من الناس، قال تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلاَّ فِرَاراً * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً} (نوح:5 - 9). هذا النوع من الدعوة إلى الله، الذي يشمل الأمّة كلها، والأمّة مطالَبة به، لا يحتاج لإذنٍ من أحد، ولا يتوقّف على تصريح من هيئة أو جهة طالما وجَد الشخصُ في نفسه الكفاءة العلْمية، والقدرة على الإقناع، والشجاعة في إبداء الرأي، وتيقّن أنّ توجيهه وإرشاده لن يجرَّ عليه من العواقب السّيِّئة ما يفوق ما ترتّب على نصيحته من مصلحة. وعلى من يقوم بهذا الأمر: أن لا يتعاطى في مقابل دعْوته أجراً مادياً أو يطلب مكانة أدبية، فهو متطوِّع لوجْه الله تعالى،

انطلاقاً من أمْر الله لعباده جميعاً: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (المائدة:2). فعن أبي مسعود عُقْبة بن عمرو الأنصاري البدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((مَن دلّ على خيرٍ، فَلَه مثلُ أجْر فاعِله)). وقال -صلى الله عليه وسلم- لأحد أصحابه: ((لأنْ يهدي الله بك رجُلاً أحبُّ إليك من حُمْر النّعَم)). هذا الصنف من الدّعاة لا يجب عليهم تتبّع عورات الآخَرين لزجْرهم، ولا التفتيش ولا التنقيب ولا التّحرِّي عمّن تستّر بالمعصية لنهيهم. وليس لهم حقّ المنْع باليد إلاّ لِمَن تحت إمْرتهم، كالزوجة والأبناء والخدم. أمّا غير ذلك فليس عليهم إلاّ إبداءُ النصح، والتّذكرة بعظم الذنب، وبيان مآثر الطاعة وعواقب المعصية. قال تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} (الغاشية:21، 22). وسورة (الغاشية) التي جاءت فيها هذه الآية، مِن السوَر المكية التي أمرت الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالتّذكرة فحسب، إذ إنه -صلى الله عليه وسلم- خلال دعوته بمكة لم يكن يَملك سوى سلاح الكلمة فقط. أمّا حينما انتقلت الدعوة إلى المدينة، وتأسّست الدولة الإسلامية، وبرزت عوامل التمكين والقوّة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، اتجهت الدعوة إلى وسائل التغيير باليد. وسوف نسوق أمثلة لذلك بين ثنايا هذه المحاضرات -إن شاء الله-. القسم الثاني: أن يكون الأمر بالمَعْروف والنهي عن المُنْكر من مهامّ الدولة في الإسلام، تُكلَّف به وجوباً شرعياً، وتعمل على وضْع القوانين واللوائح التي تُنظِّم القيام به، وتُعيِّن الدعاة الأكفاء من العلماء والفقهاء، لأداء هذا الواجب

الدِّيني، وتمنحهم من الصلاحيات والإمكانات ما يُعنيهم على إزالة المُنْكرات، وهو ما يُعرف في الإسلام باسم: "الحِسبة". فـ"المُحتسِب" هو: الشخص المعيَّن من قِبل وليّ الأمر، للأمر بالمَعْروف والنّهي عن المُنْكر. ويُعْطى من القوّة والتّمكين ما يساعده على ردْع العصاة وزجْرهم. قال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (الحج:41). والحِسبة كما عرّفها الإمام الماوردي: "أمْر بالمَعْروف إذا ظهَر ترْكُه، ونهْي عن المُنْكر إذا ظهر فعْله". وعرّفها الإمام الغزالي: "كلّ مُنكرٍ موجود في الحال، ظاهر للمُحتسِب بغير تجسّس، معلوم كونُه منكراً بغير اجتهاد". ولقد ذكر صاحب "الإحياء" مهامّ عمَل المُحتسِب، وهو المُعيّن من قِبَل الدولة، قال: "للوعظ والنّصح، ثم بالتعنيف، ثم التغيير باليد، ثم التهديد بالضرب، وتحقيقه، ثم الاستظهار بالأعوان والجُند". ولقد جاء في كتاب "الحسبة في الإسلام" للدكتور إسحاق الحسيني ما يُحدِّد ميادين عمَل المُحتسِب فيقول: "فعلى المُحتسِب أن يأمُر العامّة بالصلوات الخمْس في مواعيدها، ويعاقب من لم يُصلِّ بالضرب أو الحبس. أما القتل إلى غيره -أي: لا يُخوَّل للمحتسب إقامة الحدود-. ويتعاهد المُحتسب الأئمة والمؤذِّنين؛ فمَن فرّط منهم فيما يجب من حقوق الإمامة، أو خرج عن الأذان المشروع، ألزمه بذلك. ويستعين فيما يعجز عنه بوالي الحرب -أي: بالشرطة- وبكلِّ مطاع يُعين على ذلك. والمُحتسِب يُفرض له أجرٌ لنظير عملِه من بيت المال".

ولقد توسّعت دائرة الحسبة في الإسلام، فلم تقتصر على العبادات فقط، بل اشتملت كلّ أوجه النشاط الاجتماعي. وقام المحتسِب بإذنٍ وتكليف من وليّ الأمر بمراقبة الأسواق، ومنْع الغشّ في المعاملات، والتلاعب في الموازين والأسعار، ومنع الاحتكار. ولقد كان نظام المُحتسِب وجهاً حضارياً عبر تاريخ الإسلام، وقد شرُف بمباشرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- له. فقد مرّ -صلى الله عليه وسلم- بالسوق على صُبرة طعام، فوضع -صلى الله عليه وسلم- يده في الإناء، فأصابت يدُه بلَلاً، فقال: ((ما هذا، يا صاحب الطعام؟)). فقال الرجل: لقد أصابته السماء -أي: نزل عليه المطر-. فقال -صلى الله عليه وسلم- ((هلاّ وضَعْتَه في أعلى كي يراه الناس؟ مَن غشّنا فليس منا)). الفرْق بين المُتطوِّع والمُحتسِب في الدّعوة إلى الله: لقد وضع الفقهاء فروقاً بين المُتطوِّع في الدّعوة إلى الله والمُحتسِب المُعيَّن مِن قِبَل ولِيِّ الأمر، ومن هذه الفروق ما يلي: 1 - الدّعوة إلى الله فرْض عيْن على المُحتسِب، وفرْض كفاية على غيره. 2 - إن قيام المحتسِب به من حقوق تصرّفه لا يجوز أن يتشاغل عنها -أي: بعمل آخَر يَصرفه عن عمله الأصلي وهو: الدعوة-. وقيام المتطوِّع به من نوافل عملِه الذي لا يجوز أن يتشاغل عنه لغيره -أي: لا يَصرفه التّطوّع بالدعوة إلى الله عن عمله الأصلي الذي يسترزق منه ويعيش على موارده-.

تابع: شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

3 - إن المُحتسِب منصوب للاستعداء فيما يجب إنكاره، وليس المتطوع منصوباً للاستعداء. ومعنى ذلك: أنّ المُحتسِب يستعدي بالشرطة، ويطلب عونها في إزالة المُنْكر، أمّا المتطوِّع فلا يُخوّل له الاستنجاد أو استدعاء القوّة لمؤازرته. إنه يكتفي بالكلمة فحسب. 4 - على المحتسِب أن يبحث عن المُنْكرات الظاهرة ليصل إلى إنكارها، ويفحص عمّا تُرك من المَعْروف الظاهر ليأمر بإقامته. وليس على غيره من المتطوِّعة بحث ولا فحص ولا تنقيب. 5 - للمحتسب أن يُعزِّر في المُنْكرات الظاهرة لا يتجاوز الحدود، وليس للمتطوِّع أن يُعزِّر على منكر. 6 - للمحتسب أن يرتزق على حِسبته من بيت المال، ولا يجوز للمُتطوِّع أن يرتزق على إنكار المُنْكر. أما الشرط السابع فهو موضوع المحاضرة القادمة -إن شاء الله-. 3 - أركان الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر: معرفة أنواع البشَر تابع: شروط الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: سابعاً: أنْ يكون الآمر بالمعروف والنّاهي عن المنكر قادراً على القيام بواجب الأمْر والنّهي: والقدرة تشمل أمريْن: الأول: القدرة العلْمية من حيث سَوْق الأدلّة وإقامة البراهين، وأن يتميّز بالفصاحة والبلاغة وسلامة اللّغة وحُسن البيان؛ ولهذا نجد موسى -عليه السلام- لمّا كانت في لسانه لَكنة تحُول بينه وبين القيام بأمْر فرعون ونهْيه، دعا الله تعالى أن يَحُلّ لسانه ويرسل معه هارون -عليه السلام- لفصاحته، قال تعالى: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} (طه:25 - 32).

فالخوف وعدم الفصاحة قد يكون حائلاً دون القيام بواجب الدعوة؛ وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم في قصة موسى مع فرعون، قال تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ * وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآياتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} (القصص:33 - 35). ولقد كان -صلى الله عليه وسلم- يبايع أصحابه على أن يصْدعوا بكلمة الحق، ولا يخشون إلاّ الله. فعن عبادة بن الصامت، قال: ((بايعْنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على السمع والطاعة ... -إلى أن قال:- وعلى أن نقول الحقّ أينما كنّا، لا نخشى في الله لومة لائم))، متفق عليه. الأمر الثاني: القدرة البدنية المقترنة بقوّة الشخصية التي تُمكِّنه من الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر. يقول الإمام أبو حامد الغزالي: "العاجز ليس عليه حسبةٌ إلاّ بقلْبه، إذ إنّ كلّ من أحب الله يكره معاصيه ويُنكرها". وذكر أنه لا يقف سقوط الوجوب على العجز الحسِّي، بل يلتحق به ما يُخاف عليه مكروهاً يناله، فذلك في معنى العجز. وكذلك إذا لم يَخَفْ مكروهاً، ولكن علِم أنّ إنكاره لا ينفع، فلْيلْتفت إلى معنييْن: أحدهما: عدم إفادة الإنكار امتناعاً -أي: لعجزه-. والآخَر: خوف مكروه.

ويحصل من اعتبار المعنييْن أربعة أحوال: إحداها: أن يجتمع المعنيان: بأن يعلم أنه لا ينفع كلامُه، ويُضربُ إن تكلّم؛ فلا تجب عليه الحِسبة، بل قد يَحْرُمُ في بعض المواضع. نعم، يلزمه أن لا يحضر مواضع المُنكر، ويعتزل في بيته حتى لا يشاهد، ولا يخرج إلاّ لحاجة مهمّة أو واجب. الحالة الثانية: أن ينتفي المعنيان جميعاً: بأن يعلم أنّ المنكر يزول بقوله وفعْله، ولا يقدَّر له مكروه؛ فيجب عليه الإنكار، وهذه هي القدرة المُطلقة. الحالة الثالثة: أن يعلم أنه لا يفيد إنكاره، لكنه لا يخاف مكروهاً؛ فلا تجب عليه الحسبة لعدم فائدتها، ولكن تُستحبّ لإظهار شعائر الإسلام، وتذكير الناس بأمْر الدِّين. الحالة الرابعة: عكس ذلك، وهو: أن يعلم أنه يُصاب بمكروه، ولكن يَبطل المُنكرُ بفعله، كمن يَقدِر على أن يرمي زجاجة الفاسق بحجَر فيكسرها ويريق الخمر، ويتعطّل عليه هذا المنكر. ولكن يعلم أنه يرجع إليه، فيضرب رأسه. فهذا ليس بواجب وليس بحرام، بل هو مُستحب، ويدل عليه قولُ الرسول -صلى الله عليه وسلم- عندما سئل عن أي الجهاد أفضل؟ قال: ((كلمة حقّ عند سلطان جائر))، رواه النسائي بإسناد صحيح. فإن غلب الظّنّ على مُنْكِر أنه يُؤذَى ويُصاب، لم يجب الإنكار. وإن غلب على الظّنّ أنه لا يصاب، وجب الإنكار. وتوقّع المكروه بسبب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يختلف من شخص لآخَر، بحسب الضعف والقوة، والجبن والشجاعة.

لذلك ينبغي لمن يتصدّى للأمر أو النّهي أن يكون عاقلاً حصيفاً، يزنُ الأمور بميزان دقيق، فيدرس حالة مَن يريد أن يتصدّى له، فيعرف حالته النفسية، وظروفه الاجتماعية، ويقف على الدوافع، والأسباب التي حملتْه على ارتكاب المنكرات وعدم الإقبال على الطاعات، ويبصر بعين ثاقبةٍ مدى تحمّل هذا الشخص للتوجيه، ومدى تقبّله للّوم أو التعنيف أو التغيير بالقوة، ويسأل الداعي نفسه: هل إذا تصدّى للمنكَر سيجد الأعوان والأنصار الذين يؤازرونه ويناصرونه، أم سيواجه الأمر وحده؟ كما يجب أن يكون ذا نظرة بعيدة، فيرى ويقدِّر: هل إذا أقدم على أمرٍ أو نهْي أحدث من العواقب السيئة ما هو أشدّ وقعاً من إزالة المُنكر، كحدوث فتنة أشد؟ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "فحيث كانت مفسدة الأمْر والنهي أعظم من مصلحته، لم يكن ممّا أمر الله به، وإن كان قد تُرك واجبٌ وفُعِلَ محرَّمٌ؛ إذ المؤمن عليه أن يتّقي الله في عباد الله، وليس عليه هداهم". ولقد وضع الفقهاء قاعدة عظيمة في درء المفاسد وجلب المصالح، فقالوا: "درء المفسدة مقدَّم على جلْب المصلحة". وقد فصّلها الإمام ابن القيم فقال: "شَرَعَ النبي -صلى الله عليه وسلم- إيجابَ إنكار المنكَر ليحصُل من إنكاره من المعروف ما يُحبّه الله ورسولُه. فإذا كان إنكارُ المُنكَر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله فإنه لا يسوغُ إنكارُه، وإن كان الله يبغضه ويمقتُ أهله. وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم؛ فإنه أساس كلِّ شرٍّ وبليّة.

ومَن تأمّل ما جرى على الإسلام من الفتن الكبار والصغار، رآها من إضاعة هذا الأصل، وعدم الصبر على مُنكَر، فَطَلَبَ إزالتَه، فتولّد منه ما هو أكبر منه. ولقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها. فلمّا فتح الله مكة وصارت دار إسلام، عزم -صلى الله عليه وسلم- على تغيير البيت وعلى ردّه على قواعد إبراهيم، ومنعه من ذلك -مع قدرته عليه- خشية وقوع ما هو أعظم منه فتنة من عدم احتمال قريش لذلك، لقُرب عهدهم بالإسلام، وكونهم حديثي عهد بكفر؛ ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد، لِما يترتّب عليه من وقوع ما هو أعظم منه. فإنكار المنكر له أربع درجات: الأولى: أن يزول ويَخْلُفُه ضدُّه. الثانية: أن يقِلّ وإن لم يُزَلْ جُملة. الثالثة: أن يَخلُفه ما هو مثْلُه. الرابعة: أن يَخْلُفه ما هو شرّ منه. فالدرجتان الأوليان مشروعتان، والثالثة موضع اجتهاد، والرابعة مُحرّمة. فإذا رأيت أهل الفجور والفسوق يلعبون بالشطرنج، كان إنكارك عليهم مِن عدم الفقه والبصيرة، إلاّ إذا نقلْتَهم منها إلى ما هو أحب إلى الله ورسوله، كرمي النُشّاب وسباق ونحو ذلك ... وإذا رأيت الفسّاق قد اجتمعوا على لعبٍ ولهو أو سماع، فإن نقلتَهم عنه إلى طاعة الله فهو المراد، وإلاّ كان تركُهم على ذلك خيراً من أن يتفرّغوا لِما هو أعظم من ذلك ... وإذا كان الرجل مشتغلاً بكتب المجون

ونحوها، وخفْتَ من نقله عنها إلى انتقاله إلى كتب البدع والضلال والسحر، فدعْه وكتبه الأولى. وهذا باب واسع. وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: "مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي. فأنكرت عليه وقلت له: إنما حرّم الله الخمر لأنها تصدّ عن ذكْر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدّهم الخمر عن قتْل النفوس وسبْي الذرية، وأخذ الأموال. فدَعْهُم! ". بهذه الشروط التي يجب أن تتوافر فيمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وبهذا الفهم الدقيق والحسابات المدروسة، وتقديم قضايا الأمر والنهي وما يترتب عليهما من آثار صالحة أو سيئة، يصبح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مِن أهمّ عوامل إصلاح النفوس وتقويم المجتمعات. وإنّ ما يعانيه العالَم الإسلامي مِن فتن هوجاء، وعواصف مدمِّرة، واضطرابات دامية، إنما هو بسبب بعض مَن يتصدَّوْن للأمر والنهي بانفعال غير مدروس، والقيام بأعمال طائشة لا تزن الأمور بميزان الفهم الصحيح لقضايا الدعوة وفِقْه الأولويّات، ممّا أثار الفتنة، وأضعف الأمّة، وفرّق الكلمة، فوهنت القوة، وغدا المسلمون لقمة سائغة وفريسةً سهلة انقضّ عليها الأعداء من كلّ حَدَبٍ وصوب، وأصبحت كلأً مستباحاً لشرار الخلْق من الكفرة وفسّاق الآفاق، يسرحون ويمرحون في ديار الإسلام كيفما شاؤوا. وما ذلك إلا بسبب التضارب والتناقض في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واشتراط الشروط التي ذكرناها فيما مضى من حديث.

الدرس: 6 أنواع البشر الذين يوجه إليهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وكيفية علاجهم, ومراتب إنكار المنكر.

الدرس: 6 أنواع البشر الذين يوجه إليهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وكيفية علاجهم, ومراتب إنكار المنكر.

أنواع البشر الذين يوجه إليهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكيفية علاجهم.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السادس (أنواع البشر الذين يوجه إليهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وكيفية علاجهم, ومراتب إنكار المنكر) 1 - أركان الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر: معرفة أنواع البشَر أنواع البشَر الذين يُوجَّه إليهم الأمر بالمعروف والنّهي عن المُنكَر وكيفيّة علاجهم لقد خلَق الله البشَر مختلِفين في الإيمان والكفر، والطاعة والمعصية، متفاوتين في الذكاء والإدراك، متمايزين في النظرة للأمور والحُكم على الأشياء، قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} (هود:118، 119). هذا التباين والاختلاف يوجب على مَن يقوم بواجب الدّعوة إلى الله ويباشر مهامّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: أن يتعرّف على أنواع البشر، ومدى إقبالهم على فعل الطاعات، ومدى إقدامهم على اقتراف السيئات. وهل ما يرتكبونه من المعاصي يدخل في نطاق الكبائر أم الصغائر؟ وهل يوجد عناد وإصرار على إتيان الفواحش، أم هم من الذين قال الله تعالى فيهم: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (التوبة:102). فإذا ما درس الدّاعي أحوال مَن يأمرهم وينهاهم، استطاع أن يوجّه لكلّ نوع ما يناسبه من التذكرة والموعظة، ودرجة ما يخاطبهم به من الوعد والوعيد، ونجح في استمالة القلوب والتأثير على العقول، وإصلاح النفوس وتهذيب السلوك. وسوف نتناول في هذه المحاضرة: أصناف البشَر وأنواع الخلائق، ومدى درجة كلّ نوع في القرب والبعد عن الطاعة أو المعصية، وذلك وَفْق العناصر التالية:

الصنف الأول: صنف لا يعرف شيئاً عن دينه، وذهنهُ خالٍ عن كلّ ما أمَر الله به أو نهى عنه، كمن نشأ في بيئة جاهلية، أو تربى في مجتمع بعيد عن دار الإسلام، كبعض المسلمين الذين وُلدوا ونشؤوا في دول الغرب، أو كشأن الكثير من عوام المسلمين الذي يُعتبرُ دينُهم عادة لا عبادة، لأنهم لا يعرفون عن الإسلام إلاّ اسمه، ومع ذلك فهم متطلِّعون لِمن يأخذ بأيديهم ويرشدهم إلى الصراط المستقيم، ويبيّن لهم الحلال من الحرام، ويفقِّههم في أمور دينهم. ويتم ذلك معهم بأناةٍ ورِفْق وحِلم وصبر؛ فيجب على الداعي إلى الله الآمِر بالمعروف والناهي عن المنكر: أن يتعرّف على هذا الصنف من البشر، فيسعى إليهم ويتقرب منهم، ويُفسح صدره فيشرح أحكام الإٍسلام شرحاً مُبسّطاً مُيسّراً، ويجمعهم على الطاعة بالترغيب فيها وبيان آثارها في الدنيا وثوابها في الآخرة، وينفِّرهم من المعصية، ويبيِّن عواقبها في الدنيا والآخرة. هذا الصنف من الناس يكثر تواجده في عوام المسلمين من الفقراء والكادحين الذين شغَلهم السعْي على المعاش وطلب الرزق لإعالة الأهل والأبناء عن معرفة الإسلام معرفة حقة. ويُلحق بهؤلاء الكثير من الناشئين من الفتيان والفتيات الذين أهمل الوالدان تربيتهم تربية إسلامية صحيحة، وتأثّروا بما حولهم من إعلام فاسد يدعو للرذيلة ويُشجِّع على الفاحشة ويحثّ على العنف. هذا بجانب إهمال المجتمع بهيئاته ومؤسّساته لواجب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، والانصراف عن ذلك بتشجيع مظاهر اللهو والعبث والترف، ممّا جعَل الدِّين عند هؤلاء أمراً ثانوياً وشعوراً هامشياً؛ فهُم قد حُرموا من لذّة الطاعة، ولم يشعروا بنعمة

الإسلام. هؤلاء الفتيان والفتيات تشملهم شريحة كبيرة من شرائح المجتمع، وهُمُ الذين ينبغي أن تتوجّه إليهم جهودُ الدّعاة، كما أمَر الله في قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هَِيَ أَحْسَنُ} (النحل:125). فهُم تربة صالحة ومناخ ملائمن يتقبّل التوجيه ويُسرع إلى الإذعان. ولقد كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يُعالج هذا الصّنف من الناس معالجة طيِّبة تَحملهم على ترْك المعاصي وتحبِّب إليهم الطاعة. فقد روى أبو أمامة -رضي الله عنه-: أنّ غلاماً شاباً أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا نبي الله. تأذن لي في الزِّنى؟ فصاح الناس به. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((أتُحبُّه لأمِّك؟)). قال: لا. جعلني الله فداك. قال -صلى الله عليه وسلم-: ((كذَلِك الناسُ لا يُحبّونه لأمَّهاتِهم. أتُحِبّه لابنتِك؟)). قال: لا. جعلني الله فداك. قال: ((كذلك الناسُ لا يُحبّونه لبَناتِهم. أتُحِبّه لأختك؟)). قال: لا. جعلني الله فداك. وزاد ابن عوف، حتى ذكَر العمّة والخالة، وهو يقول: في كلّ واحدة لا، جعلني الله فداك، وهو -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((كذلك الناس لا يُحبونه)). وقالا جيمعاً في حديثيهما -أعني: ابن عوف وأبو أمامة-: ((فوضع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يده على صدره وقال: اللهم طهِّرْ قلبَه، واغفرْ ذنبه، وحصِّن فرْجَه. فلم يكن شيء أبغض إليه منه -يعني: الزنى-)). رواه أحمد بإسناد جيد. وهؤلاء الذين ارتكبوا المعاصي عن جهل، أو تقاعسوا عن أداء العبادات كسلاً، يجب أن تُفتح لهم أبواب الأمل في رحمة الله، وأن يُدفع عن قلوبهم اليأس والقنوط. قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الزُّمَر:53).

الصنف الثاني: أناس جمعوا مع الجهل بالدِّين: قسوة القلب، وظلمة النفس، وضلال العقل، وضعف العقيدة. لا يعرفون عن دينهم شيئاً، ولا يريدون أن يتعلّموا. قد جرفتْهم الحياة الدنيا بلهْوها ولعبها، وكدِّها وتعبها، وتكاثرها والاشتغال بها. فهم لا يفكِّرون في الخالِق، ولا يلتفتون لشؤون الآخِرة، ولا يهتمّون بمسائل البعث والحشر والثواب والعقاب. وهؤلاء تحدّث القرآن عنهم كثيراً. وأوجزُ وصف وأشملُه: قول الله تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (الحشر:19). فإنّ أخطر شيء على الإنسان: أن ينسى الله في كلّ أحواله، فيُنسيه الله نفسَه، فيهيم على وجهه في هذا الحياة، بلا هدف يُرجى، ولا أمل يُطلب. قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (الأعراف:179). وأمثال هؤلاء يتأفّفون من الموعظة، ويضيقون ذرعاً بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وربما يُلْحِقون الأذى بمَن يدْعونهم، ولا سيما إذا كانوا من أصحاب السطوة والنفوذ، الذين تتمعّر وجوههم غضباً، وتُلوى أعناقهم علواً واستكباراً لِمجرّد النصيحة: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} (البقرة:204 - 26).

وقال تعالى عنهم: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} (الفرقان:43، 44). وهؤلاء نفر قليل من جماعة المسلمين، إلاّ أن صوتهم عالٍ وكلمتهم مسموعةٌ، وذلك لسيطرة البعض منهم على وسائل الإعلام، وتقديمهم إلى المجتمعات الإسلامية على أنّهم رواد النهضة وزعماء الإصلاح، مع أنهم في كتاباتهم وأحاديثهم يمرُقون من الدِّين كما يمرق السهم من الرمية، ويستخفُّون بأحكامه ويسخرون من ثوابته. وهم يمكن حصرهم في الفئات التالية: أولاً: العلمانيّون: الذين تربوا على موائد الاستشراق والتبشير والاحتلال، وانبهروا بحضارة الغرب العلميّة والمادية، وأعجِبوا بموقف أوروبا من الدِّين الذي يقوم على تجاهله وإغفاله وفصْله عن الحياة الاجتماعية سياسياً واقتصادياً وتربوياً. واعتقدوا -ألا ساء ما يعتقدون- أنّ ما وصلت إليه دولُ الغرب وشعوبه مِن تقدّم في العلوم والمخترعات، وترف مادي وأنظمة اجتماعية تُحقّق العدل والمساواة لشعوبهم، هو بسبب هجْر الدِّين، ولن يستطيع العالَم الإسلامي السّير على منوالهم واقتباس نظمهم وشرائعهم وقوانينهم إلاّ بإبعاد الإسلام عقيدة وشريعة عن توجيه المجتمع، ودفْعه إلى دائرة العبادات لا يتعدّاها إلى غيرها؛ فانطلقت أفئدتهم وألسنتهم تهمز الإسلام وتلمز شرائعه، واستخفوا بما أمَر الله به أو نهى عنه. وقد انكشفت سوأتهم وفُضحتْ نواياهم، وتبيّن حقدهم الأسود وغلّهم الدّفين في هذه الأيام التي ظهرت فيها هيمنة غير المسلمين على ديار الإسلام وغطرستهم على شعوبه، ولقد بسطوا حمايتهم لهؤلاء البوم والغربان

الذين ينعقون باسم الاحتلال صباح مساء، ويطلّون بوجوههم القبيحة عبر وسائل الإعلام والقنوات والفضائية، يسبِّحون باسم المستعمرين ويحمدون فعلهم ويهتفون لمقدمهم ويستبشرون بغزوهم لديار الإسلام. فنراهم الآن ينكرون ما عُلم من الدِّين بالضرورة كالجهاد، ويستخفُّون بثوابت الأمّة في العقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق. وُجهتهم: دهاليز المخابرات الأجنبية، وقِبلتهم: مواخير الخنا والفسق ودور الفساد. قال تعالى مخاطباً هؤلاء ومَن كان على شاكلتهم من العصاة مُقترفي السّيّئات: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج:46). ثانياً: بعض المترفين من أبناء هذه الأمّة، الذين فتح الله عليهم الدنيا، ومكّن لهم بالثراء في الأرض، فانتفخت جيوبهم وتضخّمت ثرواتهم، وكثرت عقاراتهم وأموالهم. وقد كان من الواجب عليهم أن يتوجهوا إلى الله بالحمد، وتلهج ألسنتهم بالشّكر على النعماء، وينفقون من هذا المال في مصارفه الشرعية على أنفسهم وعلى ذويهم ثم على المجتمع. قال تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (النحل:114). غير أنّ هؤلاء المُترفين قد أبطرتهم النِّعم، وأفسدهم كثرة المال، فطغَوْا وبغًوْا، كما قال تعالى: {كَلاَّ إِنَّ الأِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} (العلق:6). فاتّجهوا نحو الملذّات ينغمسون فيها، ويتفنّنون في تحصيل سبل التّلذّذ بها، فتشرّبت قلوبهم المعصية، وغرقت نفوسهم في الشهوات فاقترفوها، وغفلت عن الطاعة فابتعدوا عنها.

وأصبح إتيان المُنكَر جزءاً من حياتهم وجوهر سلوكهم، وتحالف معهم الشيطان يزيِّن لهم الكبائر ويحثهم على اقتراف الرذائل، فأشاعوا الفاحشة في المجتمع، كبعض الفنّانين من الممثِّلين والممثِّلات والمطربين والمطربات. وهؤلاء وأمثالهم أطلق عليهم القرآن الكريم: {أَصْحَاب الشِّمَال}، قال تعالى: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لاَ بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ * إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} (الواقعة:41 - 45). وهم بأفعالهم القبيحة قد دمّروا ثوابت المجتمع، قال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} (الإسراء:16). هؤلاء وأمثالهم لا يُتركون للشيطان يُغويهم، ولا للمعاصي تُغريهم، ولا للمنكرات تستحوذ عليهم، بل ينبغي أن يسارع لهم الدّعاة لأمْرهم بالمعروف ونهْيهم عن المنكر، ولا يسأمون من دعْوتهم، ولا يقنطون من إصلاحهم، ولا يكُفّون عن إبداء النّصح لهم. ومعالجة هؤلاء وغيرهم من العلمانيِّين تكون على النحو التالي: أ- العلمانيّون: تجب ملاحقة أفكارهم، وتفنيدُ مزاعمِهم، وفضْح عمالتهم لأعداء الدِّين، وكشف خيانتهم لعقيدة الأمّة وثوابتها، وذلك بالوسائل التالية: 1 - بالكلمة المسموعة والمرئيّة. 2 - بالمقالات الصحفية. 3 - بنشر مواقع على "الإنترنت" لكشْف حقيقتهم.

4 - بالكتاب المطبوع والنشرات المطوية الموجزة. 5 - بإقامة المناظرات معهم لتعْريَتهم أمام الأمّة، وإلقاء المحاضرات والندوات في الأندية الأدبية والمنتديات الثقافية. 6 - إقامة المؤتمرات بين الحين والحين لِرصْد أعمالهم ومناقشة سموم أفكارهم. 7 - على وليِّ الأمر أن يحظر نشر سمومهم وأفكارهم على الأمّة، إذ إنّ من واجبه أن يحافظ على معتقداتها، ويصون ثوابتها؛ وليس هذا مصادرة لحريّة الفكر، ولا حَجْراً على الرأي، ولكن حماية للمسلمين من بذور الفتنة وعوامل الانحراف. ب- المترفون الذين أبطرتْهم النِّعم وتمكّنتْ منهم السيئات: فيتم أمْرهم بالمعروف ونهْيهم عن المنكر بالأساليب التالية: 1 - استغلال أوقات فراغهم من شواغل الدنيا، وبثّ الموعظة إليهم برفْق ولين، كما أمر الله موسى وهارون بكيفية خطاب فرعون رغم عتوِّه واستبداده وعناده، قال تعالى: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (طه:43، 44). 2 - تذكير هؤلاء العصاة بأمور الآخِرة من أهوال البعث والحشر، والثواب والعقاب، والجنّة وما فيها من نعيم، والنار وما فيها من جحيم. 3 - استغلال ما يقع فيه هؤلاء المُترفون المفسدون في الأرض لِما يحلّ بهم من كوارث مالية، أو أمراض بدنيّة، أو ظروف نفسيّة، ممّا يتعرض له الإنسان في حياته كموت عزيزٍ أو فقدان صاحب أو ضياع مال ... إلخ.

فهذه الأزمات والكوارث توقظ الإنسان من غفلته، وتعيده إلى فطرته، وتُذكِّره بخالِقه. فإذا ما أحسن الداعية استغلال هذا الظرف الصعب الذي يحيط بهذا العاصي، وانتهز ما يعانيه من آلام نفسية وبدنية، وبيّن له نتائج الطاعة وما أعدّه الله للطائعين من نعيم مقيم وجنة خالدة، وذكَر له عواقب المعصية وما ينتظر العاصين من نار تلظّى لا يصلاها إلا الأشقياء العصاة مرتكبو الكبائر والمصرّون عليها حتى الموت ... وهكذا تتضمّن موعظة هذا الصنف الوعد والوعيد، والأمر والنهي، والترغيب والترهيب. 3 - يجب على الدّعاة أن يكتبوا لهؤلاء العصاة على مؤسّساتهم أو منازلهم بالبريد أو بالفاكس، خطابات يتناولون فيها ما يرتكبه كلّ إنسان منهم من معصية، وما يقترفه من منكرات. وتتّسم تلك الخطابات بمخاطبة العاصي برفق، وأدب حديث وحسن بيان، شارحاً له بالأدلة الشرعية عواقب ما يرتكبه من أفعال، ويخاطب نفسه، ويحرّك مشاعره نحو التزام الطاعة، والخوف من عقاب الله. ويذكر له أنّ ما حَمَله على الكتابة هو: حبُّه له، وحرْصُهُ عليه، وإبراءٌ للذِّمة، ووفاء وامتثال لقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (التوبة:71). والآيات والأحاديث في هذا الشأن كثيرة جداً. 4 - إن لم تُجْدِ أيُ وسيلة من الوسائل الآنفة الذِّكْر، ولم ينفع الوعد والوعيد والترغيب والترهيب، وأصرّ العاصي على اقتراف المعاصي والجهْر بها

تابع: أصناف الناس الذين يوجه إليهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

على الملإ دون استحياء، كمن يشرب الخمر على قارعة الطريق، أو يؤذي النساء ويطاردهنّ ويلاحقهنّ لحمْلِهنّ على الفاحشة، أو من يتعاطى الربا ويتعامل به عطاءً أو أخذاً واشتهر ذلك عنه، فعلى المحتسِب أن يستنجد بوليّ الأمر لِمنْعه عن ارتكاب المنكرات بوسائل المنع التي سنذكرها في موضعها -إن شاء الله-. وهذا واجب شرعيّ على الولاة، وفرضٌ دينيّ عليهم، لا يتقاعسون عنه ولا يُهملون مواجهته لقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ((كلّكم راعٍ وكلّكم مسؤول عن رعيّته: فالحاكم راعٍ وهو مسؤول عن رعيته ... )) الحديث. وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((إنّ الله سائلٌ كلَّ راعٍ عمّا استرعاه، أحفِظ أم ضيَّع)). وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (النحل:90). وقال عثمان بن عفان -رضي الله عنه-: "إنّ الله يَزَعُ بالسلطان ما لا يَزَع بالقرآن". والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. 2 - المأمورات والمَنهيّات تابع: أصناف الناس الذين يُوجّه إليهم الأمْر بالمعروف والنّهي عن المنكر الصنف الثالث: جماعة من المسلمين على علْم بالعقائد الإسلامية، غير أنّ عندهم وعياً غير كامل ومعرفة ناقصة، لأحكام الشّرع وأوامر الله ونواهيه. ونتيجة لهذا الجهل تغلبهم أهواؤهم وشهواتهم، فيجنحون لارتكاب المعاصي. وأمثال هؤلاء ينبغي على الدّعاة تثبيتُ عقائدهم وتعميقها، وتكميل معارفهم بالإسلام وأحكامه وشرائعه، والانتقال بهم من تديّن العادة إلى تديّن العبادة، ليستشعروا حلاوة الإيمان ولذّة الطاعة، بعدما ذاقوا مرارة المعاصي وآثارها السّيِّئة؛ فتؤثّر فيهم الموعظة الحسنة، وتستميلهم الكلمةُ الطّيبة، حيثما يتمّ فتح أبواب الأمل في

رحمة الله ومغفرته بإيقاظ دواعي الخير عندهم، وتحريك الفطرة النّقيّة في قلوبهم، ومخاطبتهم برفق، وتبصيرهم في حلمٍ ولينٍ، لأنهم ينطبق عليهم قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (آل عمران:135). هؤلاء المنحرفون والعصاة من المؤمنين، توجيههم وإصلاحهم واجب شرعيّ على علماء الأمّة، وفرض دينيٌّ على ولاة الأمْر فيها، ومسؤولية المجتمع بشتّى هيئاته ومؤسّساته الدِّينيّة والتربوية والثقافية والإعلامية، وسلطاته التشريعية والقضائية والتنفيذية. ثم إن هذا الإصلاح الدّينيّ والتقويم الاجتماعي يقي الأمّة من الفتن، ويحفظها من العواصف الأمنيّة واضطراب الأمور، قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود:117). وعن حذيفة بن اليمان، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((والذي نفسي بيده! لتأمُرُنّ بالمعروف، ولتنْهَوُنّ عن المنكر، أو ليوشكَنّ الله أن يبعث عليكم عقاباً من عنده، ثم لتدْعُنّه فلا يُستجاب لكم))، رواه الترمذي وابن ماجة، وقال الترمذي: "حديث حسن". إن انصراف الأمّة عن الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، واستشراء حالة السلبيّة واللا مسؤولية بين الأفراد والجماعات، يُنذرُ بعواقب سيِّئة ونتائج وخيمة. وإنّ ما حدث ويحدث في أرجاء العالَم الإسلامي مِن فِتن هُوج وأنواء عاتية، وعواصف من الشرق والغرب مدمِّرة، ما هو إلاّ بسبب غياب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر. وهو، وإن قام به البعض الآن، إلا أنه قيام ضعيف غير قويّ، متعارضٌ غير منظّم، يؤدَّى على أنّه وظيفة لا رسالة؛ فيضعف تأثيره، وتسقط هيبة القائمين على شؤونه. وقد يحتجّ البعض لانصرافه عن الأمر والنهي بقوله تعالى:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (المائدة:105). فاستدلّوا بهذه الآية على تجنّب المجتمعات، واللّوذ بالصّمت، وعدم الاهتمام بحدود الله وأمْره ونواهيه. وهذا فهم خاطئ قام بتصحيحه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبيّن وجْه الفهم الصحيح للآية. فعن أبي أمية الشعباني قال: أتيتُ أبا ثعلبة الخشني، فقلت له: كيف تصنع بهذه الآية؟ قال: أية آية؟ قلت: قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمَْ} (المائدة:105). قال: أما والله لقد سألتَ عنها خبيراً. سألت عنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((بل ائتمِروا بالمعروف، وتناهَوْا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوىً متّبَعاً، ودنيا مُؤْثَرةً، وإعجابَ كلِّ ذي رأي برأيه، فعليك بخاصّة نفسك، ودعِ العوامّ. فإنّ من ورائكم أياماً الصابرُ فيهن مثلُ القابض على الجمر. للعامل فيهن مثلُ أجْر خمسين رجلاً يعملون كعملِكم)). قال عبد الله بن المبارك: وزاد غير عتبة: قيل: يا رسول الله. أجر خمسين رجلاً منا أو منهم؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: ((بل أجْر خمسين منكم))، رواه أبو داود، وابن ماجة، والترمذي وقال: "حديث حسن غريب صحيح". وفهِم تأويلَها أبو بكر الصديق -رضي الله تعالى عنه-: روى الإمام أحمد في "مسنده": قام أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- فحمِد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أيها الناس. إنكم تقرؤون هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} (المائدة:105)، وإنكم لتضعونها على غير موْضعها. وإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إنّ الناس إذا رأوا المُنكَر ولا يغيِّرونه، يوشِك الله -عز وجل- أن يَعُمّهم بعقابه)). وفي رواية أخرى لأبي داود، والترمذي، والنسائي، بأسانيد صحيحة، قال أبو بكر الصديق: وإني سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إنّ الناس إذا رأوا الظالم فلَمْ يأخذوا على يديْه، أوشك أنْ يَعُمّهم الله بعقاب منه)).

وهذا الفهم الدقيق أشار إليه عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-؛ فعن أبي العالية، عن ابن مسعود، في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} (المائدة:105)، قال: "كانوا عند عبد الله بن مسعود جلوساً، فكان بين رجليْن بعض ما يكون بين الناس -أي: من التخاصم والشِّجار-، حتى قام كلّ واحد منهما إلى صاحبه. فقال رجل من جلساء عبد الله بن مسعود: ألا أقوم فآمرهما بالمعروف وأنهاهما عن المنكر؟ فقال آخر إلى جنبه: عليك بنفسك، فإن الله يقول: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ... } الآية. قال، فسمعها ابن مسعود قال: "مهْ! لم يجئ تأويل هذه بَعْد. إن القرآن حيث أنزل ومنه آي قد مضى تأويلهنّ قبل أن ينزلن، ومنه آيٌ قد وقع تأويلهنّ بعد اليوم، ومنه آي تأويلهنّ عند الساعة ما ذكر من الساعة، ومنه آي يقع تأويلهن يوم الحساب ما ذكر من الحساب والجنة والنار. فما دامت قلوبكم واحدة، وأهواؤكم واحدة، ولم تلبسوا شِيعاً، ولم يُذق بعضكم بأس بعض، فأْمُروا وانهَوْا. وإذا اختلفت القلوب والأهواء، وأُلبِستم شِيعاً، وذاق بعضكم بأس بعض، فامرؤٌ ونفسه. وعند ذلك جاءنا تأويل الآية"، رواه ابن جرير، وذكره ابن كثير في "تفسيره". فقد ذكر -رحمه الله- المناخ الملائم الذي يثمر فيه الأمر بالطاعة والنّهي عن المعصية، ويؤتي ثماره. وهذه ما أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (آل عمران:110). كما يُبيّن -رضي الله عنه- الأحوال التي تعمّ فيها الفتن، وتكثر الفوضى، ويصير الأمر والنهي بدون إدراك للعواقب ودون رويّة وتدبّر وحكمة، يَجُرُّ من المفاسد أكثر ممّا يحقِّق من المصالح.

المأمورات والمنهيات التي يجب أن يتناولها الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر.

ممّا سبق، يتضح لنا تنوّع أصناف مَن تتوجّه إليهم النصيحة، وعلى القائمين على شأن الدّعوة أن يقدّروا لكلّ جماعة من العصاة ما يناسبها وما تُطيقه من الأمر والنهي والترغيب والترهيب، وأن تكون لديهم النظرة الثاقبة لِردّ الفعل الذي يحدث في نفوس مَن يُلقَى إليهم بالأمر أو النهي؛ وهذه هي الدّعوة إلى الله بالبصيرة المستنيرة، والحكمة والموعظة الحسنة. المأمورات والمنهيّات التي يجب أن يتناولها الآمِر بالمعروف والنّاهي عن المنكَر التمهيد للمحاضرة: إنّ الشريعة تقوم على أصل عظيم وقاعدة هامّة، وهي: جلْب المصالح ودَرْء المفاسد. ومصالح العباد تتعلّق بأمور ضروريّة أو حاجيّة أو تحسينيّة. فالأولى: وهي التي لا قيام لحياة الناس بدونها، وإذا فاتت حلّ الفسادُ، وعمّت الفوضى، واختلّ نظام الحياة. وهذه الضروريات هي: حفظ الدِّين، والنّفْس، والعقل، والعِرض، والمال. وبعضهم يجعل مع العِرض: النّسل. الثانية: الحاجيات، وهي التي يحتاج إليها الناس ليعيشوا بيُسر وسَعة، وإذا فاتتهم لم يخِلّ نظام الحياة، ولكن يصيب الناسَ ضيقٌ وحرَج. الثالثة: التحسينات، وهي ترجع إلى مكارم الأخلاق ومحاسن العادات. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الحارس الأمين والعين الساهرة، لحفظ الشريعة وصون أحكامها، وهو الأداة التنفيذية التي تقوم على تطبيق ما أمر الله به أو ما نهى عنه. وأوامر الشرع الحكيم ونواهيه تختلف وتتفاوت على النحو التالي:

أ- الوجوب: ومعنى هذا: أن الفعل الذي تعلّق به هذا الحُكم يلزم المكلَّف القيام به على وجه الإلزام، ويُسمّى هذا الفعل بـ"الواجب". فالواجب هو: ما طلَب الشارعُ من المكلَّف فعْلَه على وجه الحتْم والإلزام، كالصلاة، والزكاة، والصوم، والوفاء بالعقود ... ب- الحُرمة: ومعنى هذا الحُكم: أن الفعل الذي تعلّق به يُلزم المكلَّف تركَه على وجه الحتم والإلزام، ويسمَّى هذا الفعل المطلوب ترْكه إلزاماً بـ"المُحرَّم". فالمُحرَّم إذاً هو: ما طلَب الشارع ترْكَه على وجه الإلزام، كالزِّنى والسرقة ... ج- النّدب: أي: طلَب الشارع القيام بالفعل على وجه التفضيل والترجيح لا الإلزام، ويُسمَّى الفعل الذي تعلّق به هذا الحُكم بـ"المندوب". فالمندوب: ما طلَب الشارعُ فعْلَه على وجه التفضيل لا الإلزام، مثل: كتابة الدّيْن حفظاً لحقوق الدائن. د- الكراهة: طلَب الشارع ترْك الفعل على وجه الترجيح لا الإلزام، ويسمَّى الفعْل الذي تعلّق به هذا الحُكم بـ"المكروه". فالمكروه: ما طلَب الشارعُ ترْكه على وجه الترجيح لا الإلزام، مثل: إيقاع الطلاق بلا مبررٍ كافٍ. هـ- الإباحة: ويعني هذا الحُكم: تخيير المكلَّف بين القيام بالفعل الذي تعلّق به هذا الحُكم وترْكه. والفعل المخيَّر بين ترْكه والقيام به يسمَّى بـ"المباح"، مثل: الأكل، والشرب، والقيام، والقعود، ومباشرة سائر التّصرّفات الشرعيّة. والصّحّة: حُكم شرعيّ يتعلّق بالأفعال التي يقوم بها المكلّف على الوجه الذي قرّرتْه الشريعة الإسلامية، ويسمَّى الفعل في هذه الحالة: "الصحيح". والصحيح تترتّب عليه آثاره الشرعية، سواء أكان من العبادات، أو العقود، والتّصرّفات.

ز- البطلان: حُكم شرعيّ يلحق أفعال المكلَّفين إذا جاؤوا بها على غير الوجه المشروع، ويسمَّى الفعل في هذا الحالة: "باطل". والباطل لا تترتّب عليه الآثار التي تترتّب على الصحيح. هذه الأحكام باختلاف نوعية الأمر فيها أو النهي عنها، ينبغي أن توضع أمام أعيُن الدّعاة ليقدروا لكلّ حُكم قدْره في الترغيب والترهيب والوعد والوعيد؛ وهذا ما سوف نتناوله من خلال العناصر التالية: ما يجب على الإنسان أن يفعله ويحرم عليه ترْكه. وهذه الواجبات هي أركان الإسلام، وقواعد الدِّين، وصلب العقيدة، وجوهر الشريعة، ولا قيام للملّة إلا من خلالها، ولا نجاة للعبد يوم القيامة إلاّ بالإيمان بها، والمحافظة عليها، وأدائها بالكيفية التي أمر الله -سبحانه وتعالى- بها وفرَضها على عباده، وبيّنها الرسول -صلى الله عليه وسلم- ووضّحها لأمّته على الوجه الأمثل والأفضل. هذه الواجبات التي فرَضها الله -تبارك وتعالى- يُطلَق عليها: "ما عُلِم من الدِّين بالضّرورة". وهذه الواجبات والفرائض تكون على النحو التالي: أولاً: ما يتعلّق بالعقيدة: "العقيدة" في اللغة: العقد نقيض الحَلّ، يقال: عقَد الحَبْل والبيع، يعقده: شدّه ووثّقه. والعقْد: الضّمان والعهد، ويُستعمل في أنواع من البيوعات والعقود وغيرها. ثم استُعمل في: التصميم والاعتقاد الجازم. وتعاقدوا: تعاهدوا. والعقيد والمعاقِد: المُعاهِد. فـ"العقيدة" هي: كلّ ما يعتقده الإنسان اعتقاداً جازماً، ويقيناً صادقاً موثقاً، لا ريب فيه، يطمئن له القلب، وينشرح له الصدر، ويؤمن به العقل، سواء كان هذا المعتقَد إيماناً أو كفراً، خيراً أو شراً.

فالبشَر أنواع شتّى تختلف عقائدُهم وتتباين أفكارهم ومذاهبهم، وكلّ منهم يؤمن بما يعتقده، سواء كان صواباً أو خطأً. والمؤمنون بالله حقّ الإيمان يعتقدون عن علمٍ ويقينٍ اعتقاداً جازماً، بأن الله ربّ كلّ شيء ومليكه، وخالقه والقائم على حفظه، والمتصرّف فيه، وأنه -سبحانه وتعالى- الذي يستحقّ وحْده أن يُفرَد بالعبادة، من صلاة وصوم ودعاء، ورجاء وخوف، وذل وخضوع، وأنه سبحانه مُتّصف بصفات الجلال والكمال، ومُنزّه عن كلّ ما لا يليق بذاته. وتوحيد الله -تبارك وتعالى- وطاعته، والتزام أوامره واجتناب نواهيه، هو جوهر دعوات الأنبياء والمرسلين، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلاَلَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} (النحل:36). وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء:25). والإيمان بالله يتضمّن: "توحيده في ثلاثة: في ربوبيّته، وفي ألوهيّته، وفي أسمائه وصفاته. ومعنى توحيده في هذه الأمور: اعتقاد تفرّده سبحانه بالرّبوبية، والألوهية، وصفات الكمال وأسماء الجلال؛ فلا يكون العبد مؤمناً بالله حتى يعتقد أنّ الله ربّ كلّ شيء ولا ربّ غيره، وإله كلّ شيء ولا إله غيره، وأنه الكامل في صفاته وأسمائه ولا كامل غيره". ولقد جاء القرآن الكريم متضمِّناً أركان الإيمان وأسُس العقيدة في مواضع كثيرة في الذِّكر الحكيم، ومن ذلك قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (البقرة:285).

فقد اشتملت هذه الآية على أركان الإيمان، وهي: الإيمان بالله، الإيمان بالملائكة، الإيمان بالكتب السماوية، الإيمان بالرّسُل، الإيمان بالبعث. وتضمّنت الآية: الإيمان بوجوب السّمع والطاعة، وطلب المغفرة. كما أنه من أركان الإيمان: عدم التفرقة بين الأنبياء والمرسلين. وجاءت بالإيمان أحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ووضّحتْه غاية الإيضاح؛ ومن ذلك ما روي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم، إذ طلع علينا رجلٌ شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثرُ السفر، ولا يعرفه منا أحد، فجلس إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأسند ركبتيْه إلى ركبتيْه، ووضع يديْه على فخِذيْه، وقال: يا محمد. أخبرْني عن الإسلام. فقال -صلى الله عليه وسلم-: ((الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً رسول الله، وتقيمَ الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحجّ البيت إن استطعت إليه سبيلاً)). قال: صدقتَ. فعجبْنا منه، يسأله ويصدِّقه. قال: فأخبرني عن الإيمان. قال -صلى الله عليه وسلم-: ((أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتُبه، ورسُله، واليوم الآخِر. وأن تؤمن بالقضاء والقدَر، خيْرِه وشرّه)). فقال: صدقت. قال: فأخبرني عن الإحسان. قال: ((أن تعبُدَ الله كأنك تراه. فإن لم تكن تراه فإنه يراك)) ... إلخ الحديث، رواه مسلم. فهذا حديث شامل لأسُس العقيدة الإسلامية، جامع لأركان الإسلام والإيمان بشِقَّيْه: العقيدة، والشريعة. فلا تصحّ عقيدة المؤمن، ولا يكتمل إيمانه، إلاّ بالإيمان بالإسلام عقيدة وشريعة، قولاً وعملاً. ولقد جمَع القرآن الكريم بين جوانب العقيدة والشريعة، والسلوك والمعاملات، في الوصايا العشْر التي جاءت في سورة (الأنعام)، قال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ

وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (الأنعام:151 - 153). فهذه الآيات تضمّنت الإسلام بكلّ عقائده وتشريعاته. يقول عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "من أراد أن ينظر إلى وصيّة محمد -صلى الله عليه وسلم- التي عليها خاتَمه -أي: كأنها كُتبتْ وخُتم عليها، فلم تُغيّرْ ولم تُبدّلْ- فلْيقرأْ قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ... } الآية"، رواه الترمذي وحسّنه، وابن المنذر، والطبراني. وقد روى عُبادة بن الصامت -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أيّكم يبايعُني على هؤلاء الآيات الثلاث؟ ثم تلا: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} حتى فرغ من الثلاث آيات. -ثم قال:- مَن وفّى بهن فأجْره على الله. ومَن انتقص منهن شيئاً فأدركه الله به في الدنيا كانت عقوبته. ومَنْ أخّره إلى الآخرة كان أمْره إلى الله، إن شاء أخَذه، وإن شاء عفا عنه))، رواه ابن أبي حاتم، والحاكم وصححه. فالأمر بالمعروف يتّجه لتعريف وتوضيح كلّ ما فرَضه الله -سبحانه وتعالى- وسَنّهُ الرسول -صلى الله عليه وسلم- من أنواع العبادات، وصنوف الطاعات، ومختلف القربات، ممّا جاء في القرآن والسُّنّة، وأجمعت عليه الأمّة، وأصبح معلوماً من الدِّين بالضرورة، لا يتغيّر ولا يتخلّف باختلاف الزمان والمكان.

نوعان من الناس يتوجه إليهما النهي.

فالاعتقاد القلبيّ اليقينيّ الصادق للعقيدة، والقيام بأداء العبادات، فرْض على كلّ مسلم بالغ عاقل، مع شروط التكليف لكلّ عبادة. ولقد شرع الله الحدود في الدنيا والعقوبات في الآخرة، صيانةً للعقيدة وحفظاً للشريعة، وأمناً للمجتمع، واستمراراً للإسلام. وجعل من واجب الأمّة -ولا سيما علماؤها ودُعاتها-: الحرص على أداء الشعائر، وذلك بتثبيت المؤمنين الطائعين على إيمانهم، وتبشيرهم بما أعدّه الله لهم في الآخرة، ليزدادوا إيماناً على إيمانهم، ويقيناً صادقاً لا يُخالجه أدنى شكّ أو ريْب في وعْد الله لهم بالجنة. قال تعالى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَرَدّاً} (مريم:76). والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. 3 - مراتب إنكار المُنكَر نوعان من الناس يتوجّه إليهما النّهي الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: فلقد تناولنا الأوامر والنواهي في الشريعة الإسلامية، وانتهينا إلى القول فيما يتعلّق بالواجبات. وفي هذه المحاضرة نتناول: النهي عن المنكر، حيث يتّجه النهي إلى نوعيْن من الناس: النوع الأول: المقصِّرون في العبادة، المتكاسلون عنها، دون جحود أو إنكار، المتشاغلون في الدنيا عن بعض الفرائض والواجبات؛ فهؤلاء يحتاجون لِمَن يوقظهم من غفلتهم، وأن يجلُوا ما ران على قلوبهم من غشاوة، وأن يزيلوا ما في عقولهم من حُجب النسيان، قال تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} (الغاشية:21). وقال تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} (الأعلى:9). وهؤلاء هم الأوّابون إلى الله، المبادرون بالتّوبة، المتسابقون إلى الطاعة. فبمجرّد سماع التذكرة والنصيحة، تقشعرّ قلوبُهم لأقلّ معصية، وترتعش أبدانهم لأدنى تقصير، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} (الأعراف:201).

يقول الإمام ابن كثير: "تذكروا عقاب الله وجزيل ثوابه ووعْده، فتابوا وأنابوا، واستعاذوا بالله، ورجعوا من قريب". وهؤلاء لا يُقسَى عليهم بالموعظة، ولا يُعنّفون أثناء النصيحة، ولا يُتهدّدون بالعقوبة؛ فالكلمة الحسنة توقظهم من غفلتهم، والتّوجيه الحليم الرفيق يفجّر ينابيع الخير في نفوسهم، فيتخلّصون من ذلّ المعصية، وينتقلون إلى عزّ الطاعة. فهم يَصدُق عليهم قولُ الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} (الشورى:25، 26). النوع الثاني: جماعة من المؤمنين غرّتْهم الحياة الدنيا وزينتُها، فاندفعوا في طلَبها، وركضوا في تحصيلها كما يركض الوحش في البرية، وزيِّن لهم الشيطان سوء أعمالهم، فارتكبوا المعاصي وانغمسوا في الشهوات، حتى قستْ قلوبهم، فأصبحوا يعيشون في دائرة المعصية لا يخرجون منها، وتنكّبوا الطريق المستقيم، وصرفتهم رياح الفسوق فوقعت بهم إلى هاوية الذنوب، ومنحدَر الخطيئة، وإثم الفجور والعدوان. هؤلاء العصاة كالوباء، يجب محاصرتهم وعلاجهم، وتوخّي الحِكمة والحيطة والحذر في نهْيهم عن المنكر. ويكون ذلك بما يلي: أولاً: دراسة أسباب المعاصي، وقد سبق أن تناولناها في المحاضرة السادسة. ثانياً: التّعرّف على حقيقة ما يُرتكب من المُنكرَات؛ فقد قسّم الشرع المعاصي إلى كبائر وصغائر، فالكبيرة هي: "كلّ معصية يترتّب عليها حدّ، أو توعّد بالنار، أو اللعنة، أو الغضب".

وهذا التعريف مرويّ عن ابن عباس -رضي الله عنهما- والحسن البصري. قال تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً} (النساء:31). وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} (الشورى:37). وقال تعالى شأنه: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ} (النجم:32). ففي هذه الآيات توضيح على أنّ الذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر. ولقد جاءت سورة (الإسراء) تفصل هذه الكبائر قال تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً * وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً * وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً * وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً * وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً * وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً * وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً * كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوها} (الإسراء:31 - 38). ولقد جاءت السُّنّة النبوية الشريفة تُحدِّد الكبائر وتُحذِّر منها، فعن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((اجتنِبوا السَّبْع الموبقات!)). قيل: يا رسول الله. وما هن؟ قال: ((الشِّركُ بالله، وقتْلُ النّفْس التي حرَّم الله إلاّ بالحق، والسّحر، وأكْل الرِّبا، وأكْل مال اليتيم، والتّولِّي يوم الزّحْف، وقذْف المحصنات الغافلات المؤمنات))، رواه الشيخان. وهناك أحاديث أخرى تُضيف إلى تلك الكبائر السّبْع كبائرَ أخرى، كعقوق الوالديْن، واستحلال البيت الحرام، والإلحاد فيه بظلم، قال تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ

فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (الحج:25)، كذلك شهادة الزور، قال تعالى: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} (الحج:30). وعن أبي بكرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى، يا رسول الله. قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالديْن. وكان مُتّكئاً فجلس فقال: ألاَ وقوْل الزُّور! فما زال يُكرِّرها حتى قلنا: لَيْتَه سكت!)). متفق عليه. وقد أورد ابن كثير الكثير من الأحاديث التي تُحدِّد الكبائر، فلْيرجع إليها في تفسير قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} (النساء:31)، لمن يريد أن يستزيد في هذا الموضوع. ولقد ذكَر الكبائر وحصَرها ابن حجر الهيثمي في كتابه القيِّم: "الزّواجر في اقتراف الكبائر"، فلْيراجَع. وفي التمييز بين الصغائر والكبائر، يقول شيخ الإسلام العزّ بن عبد السلام -رحمه الله- في كتابه "القواعد": "إذا أردتَ معرفة الفرْق بين الصغائر والكبائر، فاعْرضْ مفسدةَ الذّنب على مفاسد الكبائر المنصوص عليها، فإن نقصت عن أقلّ مفاسد الكبائر -أي: المنصوص عليها-، فهي من الصغائر، وإن ساوت أدنى مفاسد الكبائر أو أربَتْ عليها، فهي من الكبائر". وقد ذكَر الإمام أبو حامد الغزالي حالات وقوع المعاصي: الحالة الأولى: أن تكون مُنصرِمة، أي: ارتُكِبتْ وانتهى أمْرها. فالعقوبة على ما تصرّم منها: حدٌّ أو تعزير؛ وهو إلى الوُلاة لا إلى الآحاد. أي: أن إقامة الحد الشرعي أو التعزير فيما ليس فيه حد أمْر يخصّ وليّ الأمر أو من

ينوب عنه بنفسه، ولا يجوز لأحد من الأفراد عالِم أو غير عالِم أن يوقع العقوبة بنفسه، وإلا تنقلب الأمور إلى فوضى. الحالة الثانية: أن تكون المعصية راهنة، وصاحبها مباشِر لها، كلبسه الحرير، أو إمساكه العود، أو تختّمه بالذهب؛ فإبطال هذه المعصية واجب بكلّ ما يمكن، ما لم تُؤدِّ إلى معصية أفحش منها أو مثلها. وذلك يثبت للآحاد من الرّعيّة. أي: أن الأفراد والمجتمع ووليّ الأمر مطالبون شرعاً بالحيلولة دون وقوع المُنكر، بشرط ألاّ يؤدِّيَ النهي والمنع إلى معصية مثلها أو أشدّ منها. الحالة الثالثة: أن يكون المُنكَر متوقَّعاً، كالذي يستعدّ بكنس المجلس وتزيينه وجمع الرياحين، لِشُرب الخمر؛ فهو مؤهَّل لارتكاب المعصية، ولم يرتكبها بَعْد. فهذا مشكوك فيه؛ إذ ربما يعوقه عائق. فلا يثبت للآحاد سلطةٌ على العازم على الشرب إلاّ بطريق الوعظ أو النصح، فأمّا التعنيف والضرب فلا يجوز للآحاد ولا للسلطان، إلاّ إذا كانت تلك المعصية عُلمت منه بالعادة المستمرّة، وقد أقدم على السبب المؤدِّي إليها، ولم يبق لحصول المعصية إلاّ ما ليس له فيه إلاّ الانتظار. فدرء هذه المفاسد والمُنكَرات لا يتمّ بالانفعال الموقوت، والعاطفة الجيّاشة، والحماس الأرعن، الذي قد يُفسد أكثر ممّا يصلح، ويضرّ أكثر من أن ينفع. وإنّما الأمر يتطلب الرّوية وعدمَ الاندفاع. وينبغي دراسة ما يترتّب على الأمْر والنّهي، ومدى ردّ فعل العاصي: هل سيتسجيب من فوْره ويكفّ عن ارتكاب المعصية، ويُبدي أسفه وندمَه، أم سيُعاند ويُكابر وينتقل إلى فاحشة أشدّ؟ أم سيقاوم وسيعتدي على مَن يريد منْعَه، وقد يُلحق به الأذى.

وقد ساق القرآن الكريم قصة بني إسرائيل مع هارون -عليه السلام-، حينما ذهب موسى -عليه السلام- لمناجاة ربّه واستخلف أخاه هارون على بني إسرائيل، فاتّخذوا العجل بحيلة صنَعها السّامريّ. فلمّا رجع موسى -عليه السلام- ووجَد تغيّر قومه وانحرافهم، عَتب على أخيه وعنّفه لِعدم التّصدّي لِهذا المُنكر، فكان جواب هارون -عليه السلام- هو خشيته أن يؤدِّي الإنكار إلى ضرر أشدّ، وهو: وقوع الفرقة والانقسام وإحداث الفتنة بين قومه. قال تعالى: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (الأعراف:150، 151). ولقد جاءت سورة (طه) لتُكمل مشهد موسى -عليه السلام- مع أخيه، وتعنيفه لِعدم مقاومة المُنكَر، وكيف أبدى هارون -عليه السلام- وجهة نظَره في السّكوت. قال تعالى: {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي * قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى * قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي * قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} (طه:90 - 94). ففي هذه الآيات من سورة (الأعراف) و (طه) قواعد هامّة في الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر. ومن هذه القواعد والتوجيهات ما يلي: أولاً: للدّاعية أن يُبدي غيرته وغضبه وأسَفه على ما يُرتكَب من المُنكَرات؛ وهذا ما فعَله موسى -عليه السلام-. ثانياً: عدم التّصدّي للمُنكَر إذا كان سيؤدِّي إلى ما هو أشدّ منه مُنكراً؛ وقد برّر هارون -عليه السلام- ذلك لسببيْن:

السبب الأول: أنّ القوم استضعفوه وكادوا يقتلونه. السبب الثاني: خشيته تفرّق بني إسرائيل، وحدوث شقاق وفتنة بينهم. ثالثاً: أنه لا ينبغي للدّاعية أن يغمض عينه عمّا يدور حوله من المنكَرات، بل يجب عليه أن يكشف عن أضرارها وأخطارها؛ وهذا ما فعَله هارون -عليه السلام- بالموعظة. قال تعالى: {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي} (طه:90). رابعاً: أنه في حالة خروج إزالة المُنكَرات عن قدرات الدّاعي وسلطاته، فلينتظرْ حتّى يأتي مَن هو أقدر منه ليتولّى الأمْر من واقع إمكاناته؛ وهذا ما فعَله هارون -عليه السلام- حينما وجَد أنّ قدراته لا تمكِّنه من إزالة العِجل الذي اتّخذوه إلهاً، فانتظر حتى رجع موسى -عليه السلام- من مناجاة ربه. خامساً: عدم التّسرّع في إلقاء اللّوم على الدعاة لتقصيرهم، دون الوقوف على أسباب هذا التقصير؛ فحينما استمع موسى -عليه السلام- لأخيه هارون، وتبيّن له وجهة نظره، دعا الله له ولأخيه أن يغفر لهما قال تعالى: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (الأعراف:151). سادساً: ينبغي أن يُحافَظ على هيبة الدّعاة وعدم النيْل منهم أمام الناس أو عبر وسائل الإعلام، حتى لا تسقط مكانتهم في المجتمع؛ وهذا ما أشار إليه هارون -عليه السلام- بقوله لموسى -عليه السلام- {فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (الأعراف:150). سابعاً: عدم القيام بالدعوة في حالة الانفعال والغضب والثورة؛ وهذا ما فعَله موسى -عليه السلام-. قال تعالى: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} (الأعراف:154).

مراتب إنكار المنكر. ما فيه الاحتساب.

بهذه التوجيهات المستخلَصة من الكتاب والسُّنّة وفِقْه السّلف من الأمّة، يستقيم الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، ويتمّ تحديد نوع المعصية، ومدى الآثار المترتّبة على الوقوع فيها، وهل هي أضرار فردية أم اجتماعية؟ وهل الضرر يقع على الدِّين أو على أمور الدنيا وسلامة المجتمع؟ حتى تتمّ المعالجة بالترتيب والتّدرّج. إن قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من القضايا الجوهرية المتعلِّقة بالدّعوة إلى الله، وإن لم يحسن الدّعاة معالجة هذه الأمور برويّة وتعقّل وتقدير للأمور، بميزان الشرع الحكيم، والتّفقّه في الدّين، والتّبصّر بأحوال المخاطَبين، والوقوف على حقيقة المعصية والدوافع التي تكمن وراء ارتكابها، فقد تحدث من الفتن التي قد تعصف بالمجتمع نتيجة المعالجة الخاطئة. مراتب إنكار المنكر. ما فيه الاحتساب لقد حدّد الإمام أبو حامد الغزالي حقيقة الفعل الذي يستوجب الإنكار، والشروط التي ينبغي توافرها فيه ليحكم عليه، وسوف نورد ما ذكره في إيجاز: ما فيه الحِسبة: هو كلّ منكر في الحال، ظاهر للمحتسِب -المعيّن من قِبَلِ وليّ الأمر-، بغير تجسّس، معلوم كونه منكراً بغير اجتهاد. وقد فصّل هذا التعريف متضمناً الشروط التالية: الأول: كونه مُنكَراً، ونعني به: أن يكون محذور الوقوع في الشّرع. وعَدَلَ الشيخ أبو حامد عن لفظ "المعصية"، لأن المُنكَر أعمّ من المعصية لأنه يشمل الصغائر والكبائر. الشرط الثاني: أن يكون المنكر موجوداً في الحال، وهو احترازٌ أيضاً عن الحسبة عمّن فرغ من شرب الخمر، فإن الإنكار لا يقوم به الآحاد من الناس، بل يقوم به المحتسب أو الداعي المعيّن من قِبَلِ الحاكم لأن المنكر قد انقضى وانتهى.

واحتُرز أيضاً عمّا سيوجد في ثاني الحال، كمن يعلم بقرينة حال أنّ الشخص عازم على الشّرب ليلته ولم يشرب بَعد، فالمحتسِب ليس له عليه إلاّ الوعظ. وإن أنكر هذا الشخص عزْمه على ارتكاب المنكَر، لم يجُز وعظه أيضاً؛ فإن فيه إساءة ظنٍّ بالمسلم، وربما صدق في قوله، وربما لا يقوم على ما عزم عليه لعائق مَنَعه. الشرط الثالث: أن يكون المُنكَر ظاهراً للمحتسِب بغير تجسّس؛ فكلّ مَن ستَر معصية في داره وأغلق بابه، لا يجوز التّجسّس عليه. ولقد نهى الله عن التّجسّس فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا} (الحُجُرات:12). وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} (النور:27). يقول الإمام أبو حامد -رحمه الله-: "فاعلمْ: أن مَن أغلق باب داره وتستّر بحيطانه، فلا يجوز الدخول عليه بغير إذنه لِتعرّف المعصية، إلاّ أن يُظهر المعصية في الدار ظهوراً يَعرفه من هو خارج الدار، كأصوات المزامير، أو صيحات السكارى؛ فهذا إظهار يوجب الإنكار والاحتساب فيه". ثم يذكر أنه إذا وجدنا فاسقاً يحمل قارورة خمر بين طيات ملابسه، فلا يجوز كشف ما تحته ثيابه. وقد أُمرنا أن نستر ما ستر الله، وننكر على من أبدى لنا صفْحته، لورود حديث شريف في هذا المعنى. الشرط الرابع: أن يكون منكَراً معلوماً بغير اجتهاد؛ فكلّ ما هو في محلّ الاجتهاد فلا إنكار عليه ولا حسبة فيه. فليس للحنفي أن يُنكر على الشافعي أكْله الضب، والضبع، ومتروكَ التسمية، ولا على الشافعي أن يُنكر على الحنفي شُربه النبيذ الذي لا يُسكر، وتناوله ميراث ذوي الأرحام.

الدرس: 7 الصغائر والكبائر, ومراتب إنكار المنكر, وإزالته وضوابطه.

الدرس: 7 الصغائر والكبائر, ومراتب إنكار المنكر, وإزالته وضوابطه.

وجوب معرفة الفرق بين الكبيرة والصغيرة.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السابع (الصغائر والكبائر, ومراتب إنكار المنكر, وإزالته وضوابطه) 1 - مراتب إنكار المُنكَر وجوب معرفة الفرْق بين الكبيرة والصغيرة إنّ التّعرّف على حقيقة الذنب وحجْمه ودوافعه يُسهِّل الطريق للتّصدّي له ولإنكاره، بحيث يوجِّه الدّعاة لِكلّ مُنكَر ما يناسبه من طُرق الإنكار. وإنّ ممّا يعاني منه ميدان الدّعوة: التفرقة بين الصغيرة والكبيرة، وبين البدع الحقيقية والبدع الإضافية. وسوف نحاول في هذا العنصر توضيح دوافع المعصية. وقد قسّمها صاحب "الإحياء" إلى أربع صفات: الأولى: النزوع لصفات الربوبية -أي: الصفات التي يختص الله بها- مثل: الكِبْر، والفخر، وحب المدح، والثناء، والغنى، وحب دوام الثناء، وطلب الاستعلاء، حتى كأنه يريد أن يقول كما قال فرعون: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} (النازعات:24). وهذا يتشعّب منه جملة من كبائر الذنوب. الثانية: الصفات الشيطانية التي يتشعّب منها الحسد، والبغي، والحيلة، والخداع، والأمْر بالفسا، والمنكَر، ويدخل فيها: الفسق، والنفاق، والغش، والدعوة للبدع والضلالات. الثالثة: الصفات البهيمية، ومنها يتشعب: الشّره، والتكالب، والحرص على قضاء شهوة البطن والفرح. ومنه يتشعب: الزنى، والشذوذ، والسرقة، وأكل مال اليتيم، وجمع الحطام لأجل الشهوات. الرابعة: الصفات السّبُعيّة، ومنها يتشعب: الغضب، والحقد، والتهجم على الناس بالضرب، أو الشتم، أو القتل.

ولكل معصية من تلك المعاصي وضَع الإسلام العلاج الناجع لها، إمّا بالوعظ والوعد والوعيد، أو بإقامة الحدود في مستوجب الحدّ، أو التعزير فيما ليس فيه حدّ شرعي. وتحديد الكبائر وحصْرها أمْر مختلَف فيه، لورود الآيات والأحاديث الكثيرة التي توضّح الأمور المنهيّ عنها. وموضع الاختلاف: نوعية النهي هل هو للحرمة أم للكراهة؟ هل فيه حدّ شرعي أم لا؟ وقد حصَرها بعض العلماء من خلال النصوص الدِّينيّة، وأقوال ابن عباس، وابن مسعود، وابن عمر، وغيرهم -رضي الله عنهم أجمعين-، في سبع عشرة كبيرة، وهنّ: 1 - الشِّرك بالله. 2 - الإصرار على المعصية. 3 - القنوط من رحمة الله. 4 - الأمن مِن مَكْرِه. 5 - شهادة الزور. 6 - قذف المُحصَنات. 7 - اليمين الغموس. 8 - السِّحر. 9 - شرب الخمر. 10 - المكر. 11 - أكْل مال اليتيم ظلماً. 12 - أكْل الرّبا. 13 - الزنى واللواط. 14 - القتل. 15 - السرقة. 16 - الفرار من الزحف. 17 - عقوق الوالديْن. فلقد جاءت بهذه الكبائر الآيات والأحاديث، وما عدا ذلك من الذنوب يُعتبر صغائر أو ما أطلق عليها القرآن الكريم "اللمم" قال تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} (النجم:32).

أسباب انتقال الصغائر إلى كبائر.

2 - الأمور التي تتحوّل بها الصغائر إلى كبائر أسباب انتقال الصغائر إلى كبائر كيف أن الصغائر قد تأخذ حُكم الكبائر إذا توفّرت فيها الأسباب التالية: أولاً: الإصرار والمواظبة على ارتكابها ولذلك قيل: "لا صغيرة مع إصرار ولا كبيرة مع استغفار قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (آل عمران:135). ثانياً: استصغار الذّنب، فإنّ الذنب كلّما استعظمه العبد من نفسه صغُر عند الله، لأن استعظامه يَصدر عن نفور القلب عنه وكراهيته له. وذلك النفور يمنع من شدّة تأثّره به، واستصغاره يصدر عن الأُلْف به؛ فعن ابن مسعود -رضي الله عنه قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: ((إنّ المؤمن يرى ذُنوبَه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه. وإنّ الفاجر يرى ذنوبَه كذباب مرّ على أنفه، فقال به هكذا))، رواه البخاري. ثالثاً: السّرور والفرح بالصغيرة، والتظاهر بها، والتّبجّح في اقترافها؛ فكلّما سُرّ العبدُ بالصغيرة، كبُرت وعظُم أثرُها في تسويد القلب. قال تعالى: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (المطفِّفين:14). وإنّ بعض العصاة يتبجّح بذنْبه ويفتخر به، كما يُسمَع ويُرى ويُقرأ في وسائل الإعلام عن عدم استحياء الفجَرة والفسَقة من الإعلان عن معاصيهم تحت شعارات كاذبة، كحُرّيّة الرأي أو الحُرِّيّة الشخصية. رابعاً: أن يتهاون المُذنب بستر الله عليه، وحِلمه عنه، وإمهاله إيّاه، وهو لا يدري أنه إنما يُمهَل مَقتاً لِيزداد بالإمهال إثماً، فيظنّ أنّ تمكّنه من المعاصي عناية

من الله تعالى، فيكون ذلك إثماً لأمْنه مكْر الله وجهْله بمكامن الغرور بالله. قال تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (الأنفال:30). قال تعالى موضحاً حال المتهاونين الذين انتابهم الغرور: {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} (الحديد:14). وقد حذّر القرآن الكريم من تغرير الشيطان للإنسان وإغوائه، قال تعالى: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً} (النساء:120). خامساً: أن يأتي الإنسان الذّنب ويستره الله، فيُظهره بأن يَذْكُره بعد إتيانه، أو يكرّر الذنب في موقع آخَر؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال ما معناه: "كلّ أمّتي معافىً إلاّ المجاهِرين، يبيت أحدُهم على ذنب قد ستره الله، فيصبح فيكشف ستْر الله، ويتحدث عن ذنبه"، متفق عليه. سادساً: أن يكون المذنب عالِماً يُقتدى به؛ فإذا فعَله بحيث يُرى، كبُر ذنبُه وعظُمت معصيتُه، كمن يشترك من العلماء والدّعاة في بعض البدع والمنكرات، كموالد الأولياء، والطواف حول الأضرحة والقبور، وتقديم النذور لغير الله، فإذا كان حدوث ذلك من العوام والجهال يُتسامح فيه لسذاجتهم وجهلهم، فإنه لا يُتسامح في حقّ العلماء. قال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} (البقرة:44). بهذا التّحديد الدقيق لكلٍّ من الكبيرة والصغيرة، وبالوقوف على الأسباب والدوافع، تأتي المرحلة التالية وهي: إقدام الدعاة والمحتسبين على الجانب القولي والفعلي للتّصدّي للمنكرات وإزالتها.

مراتب التصدي للمنكر وإزالته.

مراتب التّصدّي للمُنكَر وإزالته من الأسُس والقواعد التي يقوم عليها إنكار المُنكر وإزالته: وقوفُ الدّعاة على مراتب التّصدّي له حسب إمكاناتهم وقُدراتهم، وأن يستطلعوا أو يعرفوا حالة مَن يقترف السيئات، ومدى تقبّله للتّوجيه والنّصح، وأن يتحسّب الداعية مدَى ردِّ فعْله: هل سيقبل الوعظ؟ أم سيُكابر ويعاند ويتبجّح بالمعصية؟ هل سيَردعه التّصدّي باليد؟ أم سيؤدِّي ذلك لفِتن قد تكون أسوأ من ردْعه؟ ولقد وضع الرسول -صلى الله عليه وسلم- مراتب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وبدأ -صلى الله عليه وسلم- بأعلى الدرجات وأقواها، ثم تدرّج إلى الأدنى حسب الاستطاعة والتمكّن؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((مَن رأى منكم مُنكراً فلْيُغيِّرْه بيده. فإن لم يستطِعْ، فبلِسانه. فإن لم يستطعْ، فبقلْبه؛ وذلك أضعف الإيمان))، رواه مسلم. وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((ما من نبيٍّ بعَثَه الله في أمّة قبْلي إلاّ كان له مِن أمّته حواريّون وأصحاب يأخذون بسُنّته ويقتدون بأمْره. ثم إنها تَخلُف مِن بَعْدهم خُلوفٌ، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يُؤمَرون. فمَن جاهَدَهم بيده فهو مؤمن، ومَن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن؛ وليس وراء ذلك من الإيمان حبّةُ خردل))، رواه مسلم. فمِن هذيْن الحديثيْن الشريفيْن، يضع الرسول -صلى الله عليه وسلم- مراتب إنكار المنكر والتصدي له على النحو التالي:

المرتبة الأولى: التّغيير باليد: وهي أقوى المراتب وأعلاها، وهذه لا تتيسّر لآحاد الأمّة على وجه العموم. ولا بدّ من بيان التفصيل في هذا الأمر، لما له من أهمية في ميدان الدّعوة، ولِما ينتج عن عدم مراعاة ما أشار إليه -صلى الله عليه وسلم- مِن فتن؛ ولذلك كان البدء بالتّغيير باليد لِمن يَقدر عليه وهم كالآتي: أولاً: في محيط الأسرة، يتولّى التّغيير باليد: - الوالدان على أبنائهما، إذا وجدا في الأولاد انحرافاً في السلوك، وانصرافاً عن الواجبات، وارتكاباً للمُحرّمات، ولم يُجْدِ معهم الترغيب والترهيب أو الوعد والوعيد. وهذا واجب عليهما، كقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((كلّكم راعٍ وكلّكم مسؤول عن رعيّته: فالحاكم راعٍ وهو مسؤول عن رعيته. والمرأة في بيت زوجها راعية، وهي مسؤولة عنه ... ))، متفق عليه. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((كفَى بالمرء إثماً أن يُضيِّع من يقوت))، رواه أبو داود وغيره، بإسناد صحيح. - وكذلك للأخ الأكبر على أخيه الأصغر حقّ ممارسة التغيير باليد، ولكن لا يجب اللجوء للتغيير باليد إلاّ بعد استنفاد الطُرق الأخرى. وهذا التغيير إمّا أن يُوجّه إلى أداة المعصية، كآلة الملاهي، أو كأس الخمر، أو غلْق التلفاز على من يشاهد مُنكراً، أو يتّجه إلى الفاعل نفسه، فيتم إبعاده

بالحسنى، أو بالتهديد، أو بالضرب، حسب واقع الحال، ووفْق مروءة العاصي أو عدم مروءته، ومدى درجة استجابته. ثانياً: التغيير باليد حقّ لوليّ الأمْر، أو لِمن ينوب عنه، كالشّرطة أو المحتسِب. فمِن التّغيير باليد: إقامة الحدود على مَن خرج من شريعة الله، أو ارتكب معصية تستوجب حداً كالزنى، والسرقة، والغصب، وقطْع الطريق، وشُرب الخمر ... إلخ. وهذه إحدى المهام الرئيسة للحاكم: أن يحافظ على المجتمع ويؤمِّنه بإزالة المنكرات والتّصدي للمعاصي، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (النحل:90). ولقد مارس الأنبياء والمرسلون التغيير باليد حيثما تمكّنوا من ذلك، وحسب الجهد والطاقة. والأمثلة على ذلك كثيرة، منها: 1 - إبراهيم -عليه السلام- حطّم الأصنام بحيلة تَكشف سوأة القوم، وتفضح عبادتهم للأصنام. ونرى حِكمته -عليه الصلاة والسلام- في إزالة المُنكَر؛ فهو لم يُعلن أنه عازمٌ على فِعْله، ولم يتحرّك أمام أعينهم، لأنه ليس معه من الجند والأعوان مَن يَحمونَه أثناء التنفيذ، بل اتّجه لتحطيمها بعد انصرافهم عنها، ووضَع الفأس على عاتق أكبر الأصنام تمويهاً واستهزاءً لهم. قال تعالى مبيِّناً ما فعَله إبراهيم -عليه السلام-: {وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ * فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ * قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ * قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا

بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} (الأنبياء:57 - 63). فيُؤخذ من هذه الآيات جواز الاحتيال في إزالة المُنكر وفْق مقتضى الحال، وحسب الظروف التي تقدّر مدى التّصدّي وحجْمه. 2 - إقدام موسى -عليه السلام- على إحراق العِجل الذي عبَده بنو إسرائيل، ونسْفه في اليم نسْفاً. قال تعالى: {قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لاَ مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً} (طه:97). "اليم": البحر. 3 - الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعد ما استتبّ له الأمر في المدينة المنورة بعد الهجرة، وتأسّست الدولة الإسلامية التي قامت على أسس ثلاثة: علاقة المسلم بالخالق -سبحانه وتعالى-، وتمّ ذلك من خلال بناء مسجدَيْ قباء ومسجد الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة، ثم علاقة المسلمين بعضهم ببعض، وتم ذلك بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، ثم إرساء العلاقة بين المسلمين وغيرهم، كالمعاهدة مع اليهود، ونصارى نجران، وغيرهم ... وتمّ ضرْب الكفْر ضربات موجعة قاتلة في أنحاء الجزيرة العربية وأطرافها، وانكسرت شوكة الكافرين واليهود والمنافقين. وأصبح للإسلام قوّة ودولة وصوْلة وجوْلة. حينذاك تحوّل الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر والذي استمر بالقول فقط خلال مرحلة الدعوة في مكة، إلى التغيير باليد والإزالة بالقوة، ولم يكن

ذلك أمراً مأذوناً به ومباحاً مِن قِبل أفراد المسلمين، ولكن كان يتمّ بأمْر الرسول -صلى الله عليه وسلم- وبتوجيهاته، حتى لا تنقلب الأمور إلى فوضى. والأمثلة على ذلك كثيرة نقتطف منها النماذج التالية: 1 - بعد فتح مكّة المكرّمة، اتّجه -صلى الله عليه وسلم- إلى الأصنام المحيطة بالكعبة المشرّفة وحطّمها بقضيب في يده قائلاً: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} (الإسراء:81). ودخل الكعبة المطهّرة وأزال ما فيها من تصاوير، وأرسل فرسان الصحابة -رضوان الله عنهم- لإزالة الأصنام في أنحاء الجزيرة العربية. فأرسل المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- إلى الطائف لهدْم صنم اللات، وكانت صخرة كبيرة بيضاء منقوش عليها، فهدمها وحرّقها. وبعث خالد بن الوليد -رضي الله عنه- إلى نخلة بين مكة والطائف، حيث صنم العزّى الذي كانت قريش تعظِّمه وتقدِّسه من دون الله. أما مناة فكانت بين مكان اسمه القديد بين مكة والمدينة، فبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- علياً -رضي الله عنه- فهدَمها. كما أرسله -صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن لإزالة ما بها من منكرات. فقد روى مسلم عن أبي الهيّاج، قال: قال لي عليٌّ: "ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ ألاّ تَدَعَ صورةً إلاّ طمَسْتَها، ولا قبراً مُشرفاً إلاّ سَوّيتَه". ولقد تضمّن تغيير المُنكر وإزالته بالقوّة للأمور المتوقَّع خطرُها، درءاً للمفسدة وغلقاً لأبواب الفتن. ومن ذلك إقدام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- على قطع شجرة بيعة الرضوان التي ذكَرها الله في قوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} (الفتح:18). وقد قطَعها لمّا رأى الناس ينزلون عندها ويتبرّكون بها.

ولقد كان -صلى الله عليه وسلم- إذا رأى أمراً مُنافياً للعقيدة، نهى عنه بشدّة، وأمَر بتَرْكه، أو نزَعه بيده؛ ومن ذلك ما روي عن عمران بن الحصين -رضي الله عنه-: ((أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى رجلاً في يده حَلَقة من صفْر، فقال: ما هذا؟ قال: من الواهنة. فقال -صلى الله عليه وسلم-: انزعْها! فإنها لا تزيدك إلاّ وهناً؛ فإنك لو متّ عليها ما أفلحتَ أبداً))، رواه الإمام أحمد بإسناد لا بأس به. الواهنة: عِرْقٌ يأخذ في المنكب وفي اليد كلّها فيؤلمها، وقيل: هو مرض يأخذ في العضد. وإنما نُهي عن الحلقة لأنه تميمة، ولأنه إنّما اتخذها على أنها تعصمه من الألم. وعن أبي بشير الأنصاري أنه كان مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في بعض أسفاره، فأرسل رسولاً: ((أن لا يُبْقِيَنَّ في رقَبة بعير قلادةً من وتَر إلاّ قُطِعتْ))، رواه الشيخان. والوتر: واحد الأوتار القوس، وكان أهل الجاهلية إذا اخلوْلق الوتر أبدلوه بغيْره، وقلّدوا به الدواب اعتقاداً منهم أنه يدفع العيْن عن الدابة. وعن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-: ((أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأى خاتَماً من ذهبٍ في يد رجل، فنزعه فطرَحه، وقال: يعمد أحدُكم إلى جمرة من نار، فيجعلها في يده)). "فقيل للرجُل بعد ما ذهب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: خُذْ خاتَمك انتفِعْ به! قال: لا والله! لا آخذه أبداً، وقد طرَحه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" رواه مسلم. فهذه الأمثلة وغيرها تفيد: أنّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يغيّر المنكر بيده حينما تمكّن من ذلك خلال المرحلة المدنية، وقد كان يرسل من أصحابه لإزالة المنكرات، وأن الصحابة -رضوان الله عليهم- ما كانوا يقدمون على أمْر أو نهْي إلاّ بإذن لهم من الرسول -صلى الله عليه وسلم- يأمرهم به؛ وهذا أكبر ضمان لمرتبة التغيير باليد، وحتى لا

تنقلب حياة الأمن إلى فوضى تؤدي إلى الفتن بسبب إقدام آحاد الأمّة غير المكلَّفين من قِبَلِ وليّ الأمر بالتصدي للمنكرات وإزالتها بالقوة، فهذا تكليف بما لم يكلَّفوا به، وتحميل للنفس فوق طاقتها. وقد يوردها موارد التّهلكة إذا تصدّى الإنسان للمنكرات والمعاصي دون قوة تحميه، أو قانون يُسنده، أو هيئة تشدّ من أزره. ثانياً: التّغيير بالقول: قال -صلى الله عليه وسلم-: (( ... فمَن لم يستطعْ فبِلِسانه)). إن التّغيير بالقول هو جوهر الدّعوة إلى الله والتي تقوم على: 1 - التبليغ، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} (المائدة:67). 2 - التذكرة، قال تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} (الغاشية:21،22). 3 - النصيحة، قال تعالى على لسان هود -عليه السلام- لقومه: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} (الأعراف:68). 4 - الوعظ، قال تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} (البقرة:275)، وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} (سبأ:46). كلّ هذه الألفاظ تنطلق من قول الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل:125).

والتغيير باللسان له مراتب، ينبغي على الدعاة مراعاتها، وترتيب الأولويات؛ وهذه المراتب هي: الدّرجة الأولى: التّعرّف، والمراد به: أن يعرف الدّاعي المُنكَر ويُحدّد موقعه وفاعلَه، دون تجسّس أو تتبّع؛ فلا ينبغي أن يسترق السّمع على دار غيره لِيعْلم ما يجري فيها من المنكرات، ولا أن يستخبر من جيرانه ليخبروه، فهذا ليس شأن آحاد الأمّة، إنما هذا يخصّ وليّ الأمر الذي يُخوِّل له الشّرع والقانون أن يتابع المنكرات ويتعرّف عليها بالتّتبع ونحوه. الدرجة الثانية من درجات التغيير باللسان: التعريف، ويُقصد منه: تعريف مرتكِب المنكر بحقيقة جُرم ما ارتكبه، في أدب ولطف لاحتمال أنه فعَلَه لِجهل به، أو لكونه حديث عهد بإسلام، أو نشأ في قوم فشتْ فيهم البدع والخرافات. وإنما يجب على الداعية: أن يوضِّح الحُكم الشرعي فيما فعَله، ويُرشده بالحسنى. الدرجة الثالثة: النهْي بالوعظ والنصح والتخويف من الله تعالى؛ وهذا يتمّ في شأن مَن يعلم أن هذا منكَر، وأن فعْله إثم. ويذكر له آيات الوعد والوعيد، وينقل له مشاهد يوم القيامة وما فيه من أهوال للعصاة. وفي هذا المقام يُبدي الإمام أبو حامد الغزالي ملاحظة دقيقة يقول عنها: "وها هنا آفة عظيمة ينبغي على -مُنكر المُنكَر- أن يتوقّاها؛ فإنها مُهلِكة، وهي: أنّ العالِم يرى -عند التّعريف- عزّ نفسه بالعلْم وذلّ غيره بالجهل، فربما يقصد بالتعريف الإدلال وإظهار التمييز بشرَف العلْم، وإذلال صاحبه -أي: صاحب المنكَر- بالنسبة إلى خِسّة الجهل. فإذا كان الباعث هذا، فهذا المنكَر أقبح في نفسه مِن المُنكَر الذي يعترض عليه. ومثال هذا المُحتسِب مِثال مَن يخلِّص غيره من النار بإحراق نفْسه، وهو غاية في الجهل. وهذه مزلّة عظيمة، وغائلة هائلة، وغرور

للشيطان يتدلّى بحبله كلّ إنسان، إلاّ من عرّفه الله عيوب نفسه، وفتح بصيرته بنور هدايته". الدرجة الرابعة: التعنيف بالقول الغليظ واللفظ الحاد، دون تجريح وتفحّش في القول، أو تلاعن وسبّ بالكفر. ولقد ساق القرآن الكريم أدب الأنبياء حتى في شدّة حِدّتهم، وبيّن عفّة لسانهم وهم في قمة ثورتهم، فحكى عن إبراهيم -عليه السلام- صورة تعنيفه بالقول، قال تعالى: {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ} (الأنبياء:66). ولهذه المرتبة أدبان: أحدهما: ألاّ يُقدم عليها إلا عند الضرورة، والعجز عن اللطف. الثاني: أن لا ينطق إلاّ بالصدق، ولا يقول في المخالف إلاّ حقاً، ولا يدفعه إنكار المُنكَر أن يصفه بما ليس فيه. بهذا النهج الإسلامي الراقي، وهذا الأسلوب المهذّب الفريد الرائد، يتناصح الناس فيما بينهم ويصبح كل مسلم مرآة لأخيه؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: ((المسلم مرآة أخيه)). يعظ كلّ منهم الآخَر في مودّة، وينبّهه إلى الأخطاء من غير عنف، ويُرشده بدون قسوة. وإنه ممّا يجدر ملاحظته: أن كلمة {قُلْ}، والمكوّنة من حرفيْن فقط، وردت في القرآن الكريم في أكثر من ثلائمائة مرة، ممّا يشير إلى اعتماد الدعوة إلى الله على القول باللسان. ولقد كانت فصاحة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وبلاغته وروعة بيانه، وحسن حديثه، لها الجانب الأكبر في الدعوة إلى الإسلام.

حكم التغيير بالقلب وبيان مظاهره.

أما عن المرتبة الثالثة من مراتب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وهي: الإنكار بالقلب، فهذا موضوع المحاضرة القادمة -إن شاء الله-. هذا، وبالله التوفيق، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. 3 - مِن أركان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , مراتب إنكار المُنكَر حُكم التغيير بالقلب وبيان مظاهره فما زال الحديث يتواصل عن أركان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد تناولنا درجات تغيير المنكَر كما حدّدها ووضّع ضوابطها الرسول -صلى الله عليه وسلم-. ولقد ذكرنا في المحاضرتيْن السابقتيْن التغيير باليد، ثم باللسان. وفي هذه المحاضرة نتعرّض للمرتبة الثالثة، وهي: التّغيير بالقلب: كما قال -صلى الله عليه وسلم- (( ... فإن لمْ يستطِعْ فبقلْبه، وذلك أضعف الإيمان)). التمهيد للمحاضرة: القلب في الإنسان هو مركز المشاعر والعواطف، ومستودع الإيمان والكفر، والحبّ والبغض، وبتوقّفه تتوقّف الحياة وينتهي العمر. ولقد ذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أنّ صلاح القلب هو صلاح للجسد كلّه، وأن فساده فسادٌ للجسد كلّه، فقال -صلى الله عليه وسلم-: ((ألاَ إنّ في الجسد مضغة، إذا صلحتْ صلح الجسد كلّه، وإذا فسدتْ فسَد الجسدُ كلّه؛ ألا وهي القلب)). والقلب يجلو بالطاعة ويصدأ بالمعصية؛ فإذا ما التزم بالطاعة واستشعر حلاوة الإيمان وعظمة الإسلام، ظلّ يقظاً وحارساً أميناً على كلّ ما يمتّ إلى الدِّين بِصِلة، وينفعل ويغضب إذا ما انتُهِكت حرُمات الله، ويُصدر أوامره للحواس لتغيير المنكرات، إما باليد، أو اللسان. فإن لم يستطيعا المقاومة، لضعف منهما أو لغلبة الباطل وكثرة جُنده، وجب على القلب أن يشارك في معركة التغيير. فالمسلم لا ينسحب من ميدان الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر مهزوماً، ويتركه للعصاة والفسقة يعيثون في الأرض فساداً، بعد ما لم يجد التغيير باللسان أو باليد؛ بل يجب عليه أن يظلّ يقاوم. وآخِر حصون هذه المقاومة هو: القلب، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: (( ... فإن لمْ يستطِع فبِقلْبه، وذلك أضعف الإيمان)). فلقد أسند الرسول -صلى الله عليه وسلم- التغيير إلى القلب كتغيير اللسان واليد؛ فالمسلم مطالبٌ شرعاً أن يتتبّع المُنكَرات ويكشف للمسلمين سوءاتها، ويظل يطارد المعاصي ويحافظ على حدود الله، لا تفتر عزيمته، ولا توهن قوّته، ويستمر كذلك حتى آخِر رمق في حياته. ولا ينبغي للمسلم أن يستهين بمقاومة القلب للمنكَرات؛ فهو سلاح فعالٌ ومؤثِّر في التصدي لها والقضاء عليها، إو إضعافها، إن أحسن استخدامه، وأخلص الإنسان النية في الإنكار؛ فإنه يحصل على فائدتيْن عظيمتيْن:

الفائدة الأولى: نيْل الثواب والأجْر من الله، على إخلاص النية في التّصدِّي للمنكَرات، قال -صلى الله عليه وسلم-: ((إنّما الأعمال بالنِّيّات، وإنّما لِكلّ امرئٍ ما نوى. فمَن كانت هجْرتُه إلى الله ورسوله، فهجْرته إلى الله ورسوله. ومَن كانت هجْرتُه لِدنيا يُصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه))، رواه الشيخان. الفائدة الثانية: استمرار مقاومة المسلم للمنكَرات، وعدم تسرّب اليأس والقنوط من انتشار المفاسد وكثرة المعاصي، وملاحقة المنحرفين عقائدياً وأخلاقياً، وتضييق الخناق عليهم، فيتوبون إلى الله، ويكفّون عن ارتكاب السيئات. فيتطهّر المجتمع من الدّنس، وتطهر القلوب والنفوس من الفواحش؛ فيعمّ الأمن والرخاء في المجتمع. قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (الأعراف:96). حُكم التغيير بالقلب، وبيان مظاهره معنى التغيير بالقلب: هو: إظهار المسلم عدم رضاه عن المعاصي. والقلب خير وسيلة للتعبير عن ذلك. وإن إبداء التأفّف والحنق والغضب على العصاة، الذي يكمن في القلب، ويضيق به الصدر، وتظهر آثاره على ملامح الإنسان وقَسمات وجهه، لهو اعتراض صامت، ولكنه يُشْعِرُ بعدم الرضى والارتياح من الشخص الذي يرتكب المُحرّمات، أو يهمل في أداء الواجبات. ويكون هذا شعوراً عاماً ومظهراً جماعياً، فتضيق الأرض بما رحبت على العصاة، ويشعرون بامتهان الناس لهم، وامتعاضهم من تصرفاتهم؛ فإمّا يتوبون إلى الله، أو يجدون ملجأ آخَر يمارسون فيه منكَراتهم بعيداً عن ديار الإسلام.

حكم التغيير بالقلب: التغيير بالقلب فرْض عيْن على كلّ مسلم ومسلمة، بخلاف حكْم اليد واللسان، فإنه يتفاوت بين فرْض العين وفرْض الكفاية، حسب مكانة وقدرات وصلاحيات القائم بذلك -كما سبق توضيحه-. والقلب لا سلطان لأحدٍ عليه، إلاّ الله -سبحانه وتعالى-، ولا يطلِّع على ما يُضمره من حُبّ أو كُرْه إلاّ الخالقُ -عز وجل-. قال تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} (غافر:19)، وقال تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (المُلك:13). فليس لكائن بشريٍّ -مهما كان سلطانه وسطْوته وجبروته- القدرة على البحث عن النوايا، والتنقيب عمّا تحتويه القلوب وما تُضمره الصدور. لهذا كلّه، تصبح إرادة التغيير بالقلب أمراً مُستطاعاً، وفرضاً واجباً على كلّ مسلم ومسلمة. مظاهر التغيير بالقلب: إن إنكار القلب للمنكرات له ملامح ومظاهر لا تخفى على كلّ ذي عقل سليم وفكر مستقيم؛ ومن هذه المظاهر ما يلي: أولاً: أن يحول المرء بين قلبه وبين حبّ المعصية والرضى بها. ويتم ذلك بأداء العبادات، والحرص على الطاعات، والمداومة على الذِّكر والاستغفار؛ فإنّ هذا يولِّد نفوراً من المعاصي، وكُرهاً للمنكرات؛ فتُسدُّ منافذُ الشيطان إلى القلب. فإذا حدث هذا، أصبح القلب أشدّ كرهاً وبغضاً للذنوب والآثام.

ويظهر هذا الغضب على قسمات وجْه المسلم، فيتأفّف ويتجهّم لرؤية العصاة، ويتجنّب اللقاء بهم والحديث إليهم؛ فيشعرون بنظرات الغضب تُلاحقهم، ويُحسّون بالوحدة والانعزال؛ فيكون هذا دافعاً قوياً للتّوبة إلى الله والكفّ عن المُنكَرات. ثانياً: قطْع روابط الصِّلة والمحبّة بين المؤمنين وبيْن مُرتكِبي المُنكَرات. قال تعالى: {لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} (المجادلة:22). وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} (الممتحنة:1). فمصاحبة العصاة، وإلقاء المودّة إليهم، وإظهار الحبّ لهم، يُشجِّعهم على مواصلة الفواحش والمنكَرات. وإنّ مِن أكبر عوامل الفساد في المجتمعات: إظهارُ الحفاوة والإعجاب بالفنّانين والفنّانات والمُمثِّلين والمُمثِّلات، الذين اشتهر عن الكثير منهم سوء الأخلاق وفساد السلوك. وإنّ إبراز مظاهر حياتهم المترفة اللاهية الماجنة عبر وسائل الإعلام، جعَل الكثير من الشباب والفتيات يحذون حذوهم، ويتمنّون أن يكونوا على شاكلتهم. أمّا لو شعر هؤلاء أنّ الناس يمقتون أعمالهم، ويتأفّفون من سلوكهم، فتحنق عليهم القلوب، وتضيق بأعمالهم الصدور، لفكّروا كثيراً في أحوالهم، ولأصلحوا أمورهم؛ ويكون هذا أجدى نفعاً مِن التّصدِّي لهم بالقول أو باليد، وأبعد عن إثارة الفتن.

ثالثاً: عدم الجلوس إليهم، ومقاطعة مجالسهم، والإعراض عن أنديتهم، قال تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لاَ تُنْصَرُونَ} (هود:113). ولقد بيّن القرآن الكريم: أنّ من أمارات عباد الرحمن: تجنّبهم لملاقاة العصاة، فقال تعالى: {وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} (الفرقان:72). وقال تعالى في صفات المؤمنين: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} (المؤمنون:3). فالإعراض والابتعاد عن مجالِس السوء: تعبيرٌ حيٌّ ومُشاهَدٌ وملموسٌ عمّا يُبديه القلب من أمارات إنكار المُنكَر. ولقد ذكَر القرآن الكريم أنّ سبب إنزال اللّعنة ببني إسرائيل: سكوتهم ورضاهم عمّا كان يدور في مجتمعاتهم من منكرات، قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (المائدة:78، 79). رابعاً: الشعور الاجتماعي العامّ بإنكار المُنكَر. إنّ التغيير باللّسان أو اليد أمْر لا يتسنّى لكثير من الناس، لاختلاف ظروفهم، وتبايُن قُدراتهم العلْميّة والفقهية، ومدى ما منح لهم من اختصاصات وصلاحيات لإزالة المنكرات. أمّا الإنكار القلبي فأمْر مشترَك بين المسلمين جميعاً، لا يحتاج إلى تفقّهٍ في الدِّين، أو إمعان النظر في الأدلّة الشرعية. فالقلب ميزان دقيق وضَعه الله في صدر الإنسان، ليقوم بعمل مادِّيّ ملموس هو: ضخّ الدم إلى شرايين الجسد، ومدّه بالحياة والحركة. وبجانب هذا، أودع الله فيه ما يفرز الخير من الشر، والطاعة من المعصية، وهذا ما يسمَّى بـ"الشعور الفطريّ

السليم"، وهذا ما ذكَره الرسول -صلى الله عليه وسلم- لِمَن سأله عن البِرّ؛ فعن وابصة بن معبد -رضي الله عنه-، قال: أتيتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: ((جئتَ تسأل عن البِرّ والإثْم؟))، قلت: نعم. فقال: ((استفْتِ قلبَك. البِرُّ: ما اطمأنّتْ إليه النفْسُ واطمأنّ إليه القلب. والإثمُ: ما حاك في النّفْس وتردّد في الصدر، وإن أفتاك الناسُ وأفْتَوْك))، رواه أحمد والدارمي. وفي رواية أخرى عن النواس بن سمعان -رضي الله تعالى عنه- قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: ((البِرُّ: حُسْن الخُلُق. والإثم: ما حاك في نفْسك، وكرهْتَ أن يطّلعَ عليه الناس))، رواه مسلم. فقلوب عباد الرحمن تتّحد في حُكمها على المُنكَرات، وتُجمع على بُغضها وكراهتها للفواحش، وإن لم تُعبِّر الأيدي والألْسنة على هذا؛ إذ إنّ واقع الحال والمشاهدة يُؤكِّده؛ ولذلك عُدّ إجماع الأمّة على أمرٍ ما هو اجتماع حقٍ، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تجتمع أمّتي على ضلالة)). ولذا، فإنّ توحُّد القلوب على بُغض المنكرات وكُرْه فاعِلها، وإشعاره باحتقار المجتمع له وازدرائه به، لدافعٌ قويّ ومؤثِّر في تغيير المُنكَر. ويصبح هذا شعوراً عاماً ومَظهراً اجتماعياً ذا أثَر فعّال في التغيير بالقلب، لا يقلّ أهمّيّة عن التغيير باليد واللسان. ولهذا أضاف -صلى الله عليه وسلم- الأمْر بالتغيير إلى الثلاث غير أنه -صلى الله عليه وسلم- أضاف: أنّ الاكتفاء بالقلب دون الوسائل الأخرى يُنبئ أحياناً عن ضعف الإيمان الذي يفِرّ من المواجهة، ويخشى من التّصدِّي باليد واللسان. وإن الإنكار بالقلب لا يُعفي من المساءلة إذا كان لدى الإنسان القدرة على المواجهة باليد أو اللسان. وفي نفس الوقت لم يُحْرم من ثواب الله، لبُغْضه المنكر وعجزه عن مقاومته، لأن هذا فوق طاقته وأكبر مِن قدراته. فعن ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه-، أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((ما من نبيٍّ بعَثه الله في أمةٍ قبْلي إلاّ كان مِن أمّته حواريّون وأصحابٌ يأخذون بسنّته ويقتدون بأمْره. ثم إنها تَخلُف مِن بعْدِهم خُلُوفٌ يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يُؤمرون؛ فمَن

ضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للحاكم المسلم.

جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبّةُ خردل))، رواه مسلم. بهذا البيان النبوي المُعجز والمُبهر، يوجِّه الرسول -صلى الله عليه وسلم- الأمّة إلى مكامن الداء وموضع المرض الذي يكمن في: 1 - قول بلا عمل. 2 - فعْل ما لا يؤمرون به. ثم بيّن -صلى الله عليه وسلم- أنّ الدواء لِعِلَل المجتمعات وأمراضها، يكون ذلك بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ثم وضع ضوابطه ودرجاته ومراتبه ليتمّ ذلك كما أمر الله تعالى في قوله -عز وجل-: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (يوسف:108). ضوابط الأمر بالمعروف والنّهي عن المُنكر للحاكِم المسلم إن قضيّة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر لِوُلاة الأمر، من الأمور الهامّة التي تشغل عقل وفكر المجتمعات الإسلامية، والتي ينبغي بيانُ حدودها وضوابطها في إطار الأدلّة الدِّينية والأحكام الشرعية. وإنّ فقدان الموازين الشرعية في هذا الموضوع، يُؤدِّي إلى فتن تُضعف الأمّة، وإلى انقسامات تعصف بأمْنها، ولا سيما في هذا العصر الذي ابتعد فيه بعض الحكام من المسلمين عن توجيهات الإسلام في الحُكم، ووَلَّوْا وجوههم شطر الأنظمة الغربية. وممّا زاد الأمر نفوراً بين الرّاعي والرّعية، وزرع بذور انعدام الثقة بين العلماء والأمراء: التّوجّه العلماني لبعض المفكِّرين والمثقَّفين الذين تَربَّوْا على موائد التبشير والاستشراق والاستعمار، وشربوا من مستنقع الثقافة الغربية الإلحادية المادية حتى ثملوا، فترنّحت عقولهم؛ حيث أخذوا يحادّون الله ورسوله، وينالون من الحضارة والنظم الإسلامية، ولا سيما فيما يخصّ جانب

الحُكم في الإسلام. وقد مكّن لهم النفوذ الأمريكي والأوروبي على العالَم الإسلامي بالاحتلال العسكري لبعض أقطاره، والسيطرة الاقتصادية على مُعظمه، ومحاولة زعزعة الثوابت الإٍسلامية وإحلال الثقافة والأخلاق الغربية محلّها، فأخذ هؤلاء البوم والغربان يُطِلُّون على الأمّة عبْر وسائل الإعلام، يثيرون الفِتن، ويشعلون نار الفرقة بين الأمّة وحُكّامها، مُنكرين في جهل وغباء أن يكون للإسلام دولة ذات نظامٍ مرتبطٍ بوحي السماء ورسالات الأنبياء، تُحقِّق للأمّة صلاح الدِّين وإصلاح الدنيا. وضاق بعض الحُكّام بنصيحة العلماء والعقلاء من الأمّة. وغالى بعض الدعاة وقسَوْا في نُصحهم لوُلاة الأمْر، وتطاولوا عليهم، ونالوا منهم؛ فعظم الأمر، وجلّ الخطب، وتأجّجت نيران الفتن بخروج البعض، والنزوع للقتْل والتّخريب وترويع الآمِنين، وإهدار طاقات الأمّة. وما هذه الأحداث الدامية والمفجعة والمحزنة، التي روّعت أقطار العالَم الإسلامي، ومزّقت شعوبَه، وعصفت باستقلاله، وأهدرت قُدراته وثرواته، إلا بسبب الارتجال والتخبّط في قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لِحكّام الأمّة، وعدم وضع الضوابط الشرعية لها. وهذا ما يجب علينا توضيحه في هذه المحاضرات، إبراءً للذّمّة ونصحاً للأمة، وفقأً لأعْيُن كلِّ مَن يتطاول على الإسلام وشرائعه ونُظمه. وسوف يتناول هذا العنصر الموضوعات التالية: أوّلاً: الإسلام دين ودولة: وهذا أمْر يَفْرضه الدِّين، ويوجبه العقل والمنطق، للأسباب التالية: 1 - تنظيم العلاقات بين البشَر، ووضْع الأُطُر الشرعية والقانونية للحقوق والواجبات، والمحافظة على قواعد الدِّين، وإقامة الحدود، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، يوجب وجود دولةٍ قويّة على رأسها حاكم مرهوب الجانب، ليِّناً في غير ضعفٍ، قوياً من غير قسوة وغلظة.

2 - حماية الثغور، والمحافظة على سلامة الوطن وأمنه، وتدبير المسكن والمأكل والمشرب من خلال عملٍ شريف تُدبِّره الدولة لأبنائها، يوجب قيامَ حكومة قويّة على رأسها حاكم أمِين على رعيّته، يحكم بالحق، ويقيم العدل. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} (النساء:58). 3 - تنمية موارد الأمّة، والمحافظة على ثرواتها بإقامة المصانع واستصلاح الأراضي، وتعبيد الطّرُق وتوفير الخدمات التعليمية والعلاجية، والقضاء على الثالوث البغيض -الجهل، الفقر، المرض-، يوجب وجودَ دولة موطّدة الأركان، قويّة الدعائم. 4 - إقامة العدل بين الرعيّة، وإعطاء كلّ ذي حق حقّه، وذلك بإنصاف المظلوم وردْع الظالم كما قال أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- حين تولّى الخلافة: "القوي فيكم ضعيف عندي حتى آخُذ الحقّ منه، والضعيف فيكم قويّ عندي حتى آخُذ الحقّ له". 5 - إقامة أركان الإسلام الخمْس والتي حدّدها -صلى الله عليه وسلم- في حديث ((بُني الإسلام على خَمْس))، وذلك بتوفير أماكن للعبادة، وتأمين المسلمين في أدائها، وردْع المُقصِّرين والمتكاسلين عنها، وجمع الزكاة وتنظيم مواردها ومصارفها، ممّا يوجب جهازاً حكومياً يُديره خبراءُ أمناء ثقات، كما قال يوسف -عليه السلام- لعزيز مصر: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} (يوسف:55).

وكما وصفت ابنة الرّجل الصالح موسى -عليه السلام- في قوله تعالى: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} (القصص:26). 6 - صيانة وحماية ضروريّات الإسلام الخمْس -الدِّين، النّفْس، العقل، النّسل، المال-، ووضْع التشريعات والنّظم التي تكفل ذلك وتحقّقه. هذه الأمور مجتمعة تستوجب وجودَ حاكم يترأّس جهازاً حكومياً يحقّق ذلك، في إطار المحافظة على ثوابت الأمّة عقيدة وشريعة، مع الأخذ بالأساليب العلّميّة والتقنية التي تساعد على ذلك. ثانياً: كيفيّة اختيار الحاكِم في الإسلام: لم يضع الشّرع الإسلامي طريقةً مُعيّنةً ومُحدّدة يتمّ من خلالها اختيار الحاكم، ولكن تُركت لِما يتّفق عليه المسلمون حسب ظروف كلّ عصر وبيئته. فلقد تمّ اختيار أبو بكر الصدّيق -رضي الله عنه- من خلال بيْعة عامّة في مسجد الرسول -صلى الله عليه وسلم-، بعدما حُسم الأمر في سقيفة بني ساعدة. وعَيّن -رضي الله عنه- عمرَ بن الخطاب -رضي الله عنه-، بعد مشورة كبار الصحابة. وقد جعَل عمرُ الخلافة من بعدُ في سِتّة نفَر مِن صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، على أن يختاروا أحدَهم، ووضَع لهم ضوابط دقيقة للاختيار. ولقد تمّ اختيارُ عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، وتمّت بيْعة عامّة بعده لعليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه-. ثم حدث ما حدث مِن تحوّل الحُكم بعده مُلكاً يُتوارث خلال الدولة الأموية والعباسية. ثم انقلب الأمْر أحياناً، فوثب على سدّة الحُكم بالقوة كما كان يحدث خلال حُكم المماليك قديماً والانقلابات العسكرية حديثاً. ولقد رضيت الأمة إن طوعاً أو كرهاً بهذه الأنواع، إذ إن المقصد والهدف والغاية: أن يتحقّق العدل،

كما قال تعالى: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} (الرحمن:7 - 9). ولقد وضع الإسلام الشروط التي يجب توافرها في وليّ الأمر، وعلى أساسها يكون تعيِينه واختياره. ومن هذه الشروط: 1 - الإسلام. 2 - العلْم. 3 - الخبرة السياسية. 4 - العدالة. 5 - الشجاعة. 6 - سلامة الحواس والأعضاء. 7 - الذّكورة. 8 - أن يتعهّد بمشورة أولي الرأي، أو ما يُطلق عليهم: "أهل الحَلّ والعقْد". ولم يُحدِّد الإسلام طُرق اختيارهم، فقد ترَكها حسب ظروف الزمان والمكان، ولكن وضع شروط اختيارهم وهي: أن يكونوا من أهل العلْم والخبرة، ومشهود لهم بالاستقامة وحسْن الرأي. فإذا ما تمّ الاختيار والبيْعة، أصبح للراعي والرعية حقوق وواجبات. ثالثاً: حقوق وليّ الأمْر في الإٍسلام: وضَع الإسلام لولِيّ الأمر حقوقاً يجب على الأمّة الالتزام بها، وعدم الخروج عليه، إلاّ في حالة قيامه بأمْر يُنافي العقيدة، أو يضرّ بمصالح الأمّة. ومن هذه الحقوق ما يلي:

1 - وجوب طاعته فيما ليس بمعصية، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} (النساء:59). وروي عن ابن عمر -رضي الله عنهما-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((على المرء المسلمِ السّمْعُ والطّاعة فيما أحبّ وكَرِهَ، إلاّ أن يُؤمر بمعصية، فإذا أمِرَ بمعصية فلا سمْعَ ولا طاعة))، متفق عليه. وعن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((اسمَعُوا وأطيعوا، وإن استُعمِل عليكم عبْدٌ حبشيّ كأنّ رأسَه زبيبة))، رواه البخاري. 2 - حرمة نقض بيْعته أو العمل على خلْعه. فعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((مَن خلع يداً من طاعة، لقِي الله يوم القيامة ولا حجّة له. ومن مات وليس في عُنقه بيْعة، مات ميتة جاهلية. ومن مات وهو مفارق للجماعة، مات ميتة جاهلية))، رواه مسلم. 3 - عدَم إهانته بالقول أو الفعل. فعن أبي بكرة -رضي الله تعالى عنه- قال: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((مَن أهان السلطان، أهانَه الله))، رواه الترمذي وقال: "حديث حسن". 4 - أن يختار الوزراء الصالحين من أهل الخير، كما ينبغي أن يحوط نفسَه بالرِّجال المخلصين ذوي الحكمة، والرأي السديد، والخبرة الفائقة. فعن أبي سعيد وأبي هريرة -رضي الله تعالى عنهما-، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((ما بعث الله من نبيّ ولا خليفة، إلاّ كانت له بطانتان: بطانة تأمُره بالمعروف وتحضّه عليه، وبطانة تأمُره بالشر وتحضّه عليه؛ والمعصوم من عصمه الله))، رواه البخاري. إلى غير ذلك من الحقوق التي بسطتْها كتبُ الفقه.

رابعاً: ما يجب على وليّ الأمر نحو رعيّته: 1 - الحُكم بالعدل قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (النساء:58). 2 - الرِّفق بالرّعيّة وبذل غاية الجهد لتحقيق ضروريات الحياة لها؛ فعن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالت: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول في بيتي هذا: ((اللهم من ولِيَ مِن أمْر أمّتي شيئاً فشقّ عليهم فاشقُقْ عليه، ومَن وَلِيَ مِن أمْر أمّتي شيئاً فرَفق بهم فارفُق به))، رواه مسلم. 3 - عدم التّعالي والاستبداد والاحتجاب عن الرعية، قال -صلى الله عليه وسلم-: ((من ولاّه الله شيئاً من أمور المسلمين، فاحتجب دون حاجتهم وخلّتهم وفقرهم، احتجب الله عنه دون حاجته وخلّته وفقره يوم القيامة))، رواه أبو داود والترمذي. 4 - أن يعمل بالشّورى، ويأخذ برأي أهل الحلّ والعقد، قال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} (آل عمران:159)، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (الشورى:38). فقد ذكر الله -سبحانه وتعالى- الشورى في سياق الآية بين ركنيْن من أركان الإسلام: الصلاة والزكاة، ممّا يدل على أهميّتها ووجوب الالتزام بها. 5 - أن يتقبّل النصيحة، وأن يعمل بها إذا كانت لصالح الدِّين والدنيا، قال -صلى الله عليه وسلم-: ((الدِّين النّصيحة))، فقال أصحابه: لِمَن يا رسول الله؟ قال: ((للهِ، ولِكتابه، ولِرسوله، ولأئمّة المسلمين وعامّتهم))، رواه مسلم. وهذا ما وضعه أبو بكر -رضي الله عنه- في أوّل خطبة له حيث قال: "أيها الناس. إني قد وُليتُ عليكم ولستُ بخيركم؛ فإن أحسنتُ فأعينوني، وإن أسأت فقَوِّموني ... " إلى آخر الخطبة.

حتى قال: "أطيعوني ما أطعتُ اللهَ ورسوله، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم". وبهذه الخطبة الرائعة العظيمة، وضع أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- المعالم الواضحة للحُكم في الإسلام. 6 - على الرعية -ولا سيما العلماء-: أن يقوموا بالنّصح بالقول أو بالكتابة لوليّ الأمْر، حسبما أمر به الله في قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل:125). ولقد بيّن الرسول -صلى الله عليه وسلم- الحدود والإطار التي ينبغي أن يتحرّك فيها العلماء والدّعاة للتعامل مع أُولي الأمر؛ فعن أم المؤمنين أم سلمة -رضي الله عنها-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إنه يُستعمَل عليكم أمراء، فتعرفون وتُنكرون. فمَن كره فقد برئ، ومَن أنكر فقد سَلِمَ، ولكن مَن رضي وتابع)). قالوا: أنقاتلهم، يا رسول الله؟ قال: ((لا، ما أقاموا فيكم الصلاة))، رواه مسلم. ومعنى الحديث الشريف: مَن كَرِه بقلبه ولم يستطع إنكاراً بيدٍ ولا لسان، فقد برئ من الإثم. ومَن أنكر بحسب طاقته، فقد سلِم من المعصية. ومن رضي بفعلهم وتابعهم فهو العاصي. ولقد نهى -صلى الله عليه وسلم- عن منازعة الحاكم، والخروج عليه، فقال -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه عبادة بن الصامت: ((بايعَنا رسولُ الله على السمع والطاعة، في العُسر واليُسر، والمنشط والمكره، وعلى أثَرة علينا، وعلى ألاّ نُنازع الأمْرَ أهلَه، إلاّ أن ترَوْا كُفراً بواحاً عندكم من الله تعالى فيه برهان، وعلى أن نقول بالحق أينما كنّا، لا نخاف في الله لومةَ لائم))، متفق عليه.

7 - يجب على الحاكم أن لا يضيق ذرعاً بحرية الرأي ما دامت في إطار الشّرع وحدوده، وطالما كان المقصد منها الصالح العامّ، وأن يتّسع صدرُه للنّقد البنّاء والتوجيه السديد والرأي الرشيد. بهذا التوافق والتعاون، والاحترام المتبادل بين الرّاعي والرّعيّة، وسعة الصدر والحِلم في الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، تستقيم سفينة المجتمع المسلم، وتنجو من العواصف والأنواء والأحداث التي تكاد تفرّقها. ويتمّ التلاحم والترابط والرضى بين الحاكم والمحكومين؛ فعن عوف بن مالك -رضي الله تعالى عنه- قال: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((خيار أئمّتِكم الذين تُحبّونهم ويُحبّونكم، وتُصلّون عليهم ويُصلّون عليكم. وشرار أئمَّتِكم الذين تُبغضونهم ويُبغضونكم، وتلعَنونهم ويلْعَنونكم)). قال: قلنا: يا رسول الله. أفلا نُنابِذهم بالسيف؟ قال: ((لا، ما أقاموا فيكم الصلاة. لا، ما أقاموا فيكم الصلاة. وإذا رأيتم مِن وُلاتكم شيئاً تكرهونه، فاكرهوا عملَه ولا تنزعوا يداً من طاعة))، رواه مسلم. بهذه، نُنهي القول في أركان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد فصّلنا ضوابطه وحدوده ومحظوراته. هذا، وبالله التوفيق. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 8 أساليب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

الدرس: 8 أساليب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

أولا: أسلوب التعليم والتفقيه.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثامن (أساليب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) 1 - أساليب الأمْر بالمعروف والنّهي عن المنكر أولاً: أسلوب التعليم والتّفقيه الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين، الدّاعي إلى الهدى والحق والصراط المستقيم، وعلى آله ومَن دعا بدعوته إلى يوم الدِّين. أما بعد: إنّ الإنسان بفطرته ينزع إلى العلْم ويميل إلى المعرفة، وكلّما زاد الإنسان علْماً اتّسعتْ أمامه سُبلُ الطاعة، وضاقت أمامه فُرص المعصية. قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (فاطر:28). وقال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (المجادلة:11). وإن كثيراً ممّن ضلّ بهم الطريق المستقيم، أو تهاونوا في القيام بالطاعات والتزام العبادات، يكون بسبب الجهل بالدِّين وعدم التقدير لجُرم المعصية وعظم عقابها؛ ويكون ذلك بسبب الأمور التالية: 1 - إهمال الأسرة لِغرس ينابيع الخير ونزْع بذور الشر في الأبناء. 2 - النظام التعليمي في كثير من أقطار العالَم الإسلامي الذي يهتمّ بالعلوم العلْمية عن العلوم الشرعية. وما بقي من أقطار تُولي اهتماماتها بعلوم الشريعة والثقافة الإسلامية تواجه من دوَل الغرب والشرق ضغوطاً رهيبة لتغيير مناهجها الدّينيّة تحت مزاعم مكافحة الإرهاب. 3 - المناخ الاجتماعي الذي بدأ ينحو ناحية السلبية والأنانية والأثرة بأفراده، حتى أصبحت الترابط الاجتماعي من خلال الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر قد خفَتَ صوته وضعف توجيهه تحت مُسمّى الحرية الشخصية، ممّا أفقد المجتمع المسلم أكبر عوامل انضباطه وصوْنه عن المنكَرات؛ فأصبح الجهل بالدِّين ليس جهل أفراد، ولكن أصبح جهل شعوب، تشاغلت عن تفيهم دينها والتفقه في أحكامه، بسبب ظروف الحياة الاقتصادية والسياسية وغيرها من القضايا التي صَرفت الناس عن العلْم وتعليم الدِّين، فعمّت المعصية مع تفشِّي الجهل بالدِّين.

4 - أجهزة الإعلام ودوْرها الترفيهي والعبَثي الذي كاد يُنسي الناس دِينَهم، هذا بجانب التّوجّه العامّ نحو التّرف والتّمتّع بلذائذ الحياة وشهواتها، حتى أصبح شاغل الجمّ الغفير من المسلمين هو الحصول على شهوتَي الأكل والجنس. وأصبح هذا التوجيه الخطير يأخذ جانباً كبيراً من حياة المسلمين، وجزءاً ضخماً بين مواردهم المالية؛ فلم يعد لديهم الوقت للجلوس إلى كتاب من كُتب الدِّين أو تدبّر آية من كتاب الله، أو حديث من أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. إلى غير ذلك من الأسباب والعوامل التي عملت على تفشّي الجهل الدِّيني، ممّا ساعد على ارتكاب المعاصي. لذا، يجب على الدّعاة قبل أن يَقسوا في الموعظة، ويعنّفوا المقصِّرين، ويحملوا بغلظة على العاصين: أن يبدؤوا بالتعليم، وتبصير الناس بأحكام الشرع، وبالعقوبات في الدنيا والجزاء الأليم في الآخرة، لِمن قصّر وأهمل أو عاند واستكبر. ويتمّ ذلك على مستوى اللقاء الفردي، بحيث يتّجه الدّاعي إلى الفرد الذي يرى فيه عدم التّقيّد بالدِّين والتغافل عن أداء العبادات، بالتقرب إليه والتّعرّف عليه. ثم يعلّمه في لين ورفْق، وصبر وأناة. يُبيِّن له عظم ثواب الطاعة وآثارها في الدنيا والآخرة، ويكشف له عن خطر المعصية، وجزاءها الأليم، وعواقبها في الدنيا والآخرة. وعليه أن يقتفي أثر الرسول -صلى الله عليه وسلم- في دعوته إلى الناس أفراداً وجماعات، بالرسائل أو بالكتب. ويكون التعريف والتعليم على مستوى جماعة المسلمين، من خلال خُطب الجمعة أو الدروس في المساجد. وهناك ميدان كبير يغفل عنه الدّعاة ولا يلتفتون لأهمِّيّته، وهي أماكن تجمّع الشباب في الأندية الرياضية، والمنتديات الثقافية، والتّجمّعات العُمّالية في

ثانيا: تقوية الإيمان، واستثمار الوازع الديني.

المصانع؛ فينبغي على الدّعاة أن يذهبوا إلى تلك الأماكن، ويُبصّروا العاملين فيها بأحكام الإسلام وحدود الدِّين، ويَدْعونهم إلى المعروف وينهَوْنَهم عن المنكر، ويكشفون لهم عمّا ابتُدِع في الدِّين من أمور قد يظنّها البعض عبادات وهي ليست منه. وهذا هو الخير الذي وجّه إليه -صلى الله عليه وسلم- حيثما قال: ((مَن يُرِدِ اللهُ به خيراً يُفقِّهْهُ في الدِّين)). ثانياً: تقوية الإيمان، واستثمار الوازع الدِّيني الإنسان يحمل بين حنايا صدره وجوانب نفْسه دوافعَ الخير ونوازع الشّرّ، قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} (الشمس:7،8)، وقال تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} (البلد:10). فلا يوجد شخص على خير مطلقاً، أو في شرٍ مطلقاً. ولقد أودع الله في قلب الإنسان ميزاناً يَزِن به الخير من الشر، قال -صلى الله عليه وسلم-: ((البِرُّ: ما اطمأنّت إليه النّفْس. والإثم: ما حاك في صدرك، وكرِهتَ أن يطّلع عليه الناس)). فيجب على الدّعاة أن يستثمروا جوانب الفطرة النّقيّة في الإنسان، والتي يولد كلّ إنسان مجبول عليها، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: ((كلّ مولودٍ يولَد على الفطرة؛ فأبواه يُهوِّدانه، أو يُنصِّرانه، أو يُمجِّسانِه)). يجب أن يعمل الدّاعية على تقوية الوازع الدِّيني في الشخص الذي أمامه، ويتعهد ما لديْه من بقية صلاح أو مروءة بالعناية والرعاية، كما يتعهّد الإنسان الزرع الأخضر الصغير لِينمو ويكبر، ويقضي على ما حوله من شجر خبيث. ولْيبدأْ بمَنْحه الثقة والاعتزاز بما لديْه من بعض صفات الخير فيُقوِّيها، فكلّما قويت تضاءلت في نفسه نوازعُ الشّرّ، وضمرت مسالك المعصية، وسُدّت منافذُ الشيطان.

ثالثا: الموعظة الحسنة.

فإذا ما أحسّ ببرْد الطاعة في نفسه، وحلاوة الإيمان في قلبه، ووازن بين ما كان عليه من حياة قلِقة، وتردّد بين الطاعة والمعصية، وتجاذب بين الخير والشر، وبين ما هو عليه الآن بعد تثبيت وتقوية ما عنده من ينابيع البِرّ في نفسه، وإشعاره بأنّ التوبة تجُبُّ ما قبلها، وأنّ الله يفرح بتوبة عبده المؤمن، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: ((للهُ أفرحُ بتوبة عبْدِه حين يتوب إليه مِن أحدِكم كان على راحلته بأرض فلاةٍ، فانفلتتْ منه وعليها طعامه وشرابه، فأيِس منها. فأتى إلى شجرة فاضطجع في ظلّها، وقد أيس من راحلته. فبينما هو كذلك، إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح: "اللهم أنت عبدي، وأنا ربك". أخطأ من شدّة الفرح))، رواه مسلم. وممّا يقوِّي الإيمان ويُثبِّته في القلوب، ويضعف الشر وينزعه من النّفْس: الأمور التالية: 1 - الحرص على أداء العبادات، والتوبة والاستغفار على ما فرّط في جنب الله. 2 - كثرة الدعاء، ولا سيما أدعية الرسول -صلى الله عليه وسلم-. وفي "كتاب الأذكار" للإمام النووي ما يفي بالغرض. 3 - التّأمّل والنظر والتّفكّر في آيات الله في الأنفس والآفاق، ليشعر بعظمة الله، ويخشى من عقابه فيفرّ من المعاصي ويلجأ إلى الله. قال تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} (الذاريات:50). ثالثاً: الموعظة الحسَنة الوعظ هو أحَد أساليب الدّعوة إلى الله الرئيسة، قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (النحل:125).

فهذه الآية الكريمة أصْل عظيم من أصول الدّعوة إلى الله؛ فهي تدْعوه إلى الحِكمة في القول، واللِّين في الخطاب، وأدب المجادلة، وسعة الصدر، والإنصات إلى آراء الآخَرين من غير ذمّ وتقريع وتوبيخ، والتوجيه والإرشاد والتذكرة، مستعيناً بالله، وبأساليب خير الكلام من القرآن الكريم وهدْي الرسول -صلى الله عليه وسلم-. ويتخلّله قصص الأمم البائدة، وأحوال الشعوب المعاصرة. يتنقّل به من موعظة إلى أخرى، ويسوق له الدليل تلو الدليل، يُرغِّب ويُبشِّر إذا كان يُجدي، ويُنذر ويُحذّر إذا كان ينفع. يصف الجنّة ونعيمها، والنار وأهوالها. ويكون لدى الدّاعي من روعة الحديث، وحسْن البيان، ودقّة التعبير، ما يحمل السامع على الاقتناع بالموعظة، والانتفاع بالتّذكرة. ولقد كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- المَثَل الأعلى في استمالة النفوس والتأثير على القلوب، والوصول إلى المشاعر والعواطف، بحُسْن الحديث وأدب الموعظة. وعلّم أصحابه كيف تكون الدّعوة إلى الله. روى ابن الجوزي -رحمه الله- قال: "مرّ أبو الدرداء -رضي الله عنه- على رجل قد أصاب ذنباً، فكانوا يسبّونه، فقال: أرأيتم لو وجدتموه في قليب، ألم تكونوا مُستخرجيه؟ قالوا: بلى، قال: فلا تسُبّوا أخاكم، واحمدوا الله -عز وجل- الذي عافاكم. قالوا: أفلا تُبغضه؟ قال: إنما أبغض عمله، فإذا تركه فهو أخي". وعلى الدّاعية أن لا يُثقل بالموعظة، حتى لا يَسأم الناس مِن كلامه، ويَثقل عليهم حديثُه. وهذا من أدب الرسول -صلى الله عليه وسلم-، كما جاء في قول أصحابه: ((كان -صلى الله عليه وسلم- يتخوّلنا بالموعظة، مخافة السآمة علينا)، -أي يُخفّف فيها-.

رابعا: التآلف والستر.

ولذا، فإن أكبر خطبة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- هي: خطبته في حجة الوداع، لا تتجاوز عدّة دقائق، ولكنها خرجت من أطيب فم وأطهر لسان، وأحسن حديث وأروعه، فتشربها النفوس كما تروى من الظمإ، واستقرت في عقلها وقلبها تُردِّدها الأجيال ويرويها التاريخ. قال تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} (الأعلى:9،10). وقال تعالى: {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلا مَنْ يُنِيبُ} (غافر:13). رابعاً: التآلف والسِّتْر على الدّاعية أن يجذب إليه النفوس، بطلاقة الوجْه، وحُسْن المظهر، وجمال الخُلُق، وأن يكون في دعوته مِن دُعاة التآلف والوحدة: يتألّف الناس بالكلمة الطيبة، وبالعطاء إن أمكن ولو قليلاً. ولقد تألّف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صناديد قريش وقُساتها؛ فحينما أشار عليه عمه العباس بن عبد المطلب أثناء فتح مكة، وقال له: "إن أبا سفيان رجل يحبّ الفخر، فأعْطه شيئاً". فقال -صلى الله عليه وسلم-: ((مَن دخل دار أبي سفيان فهو آمِن))، فتألّفه بهذا. وحينما أعطى المؤلَّفَة قلوبهم عقِب فتح مكة عطاءً سخياً، ممّا جعلَهم يخلعون كلّ صلة لهم بالكفر، ويصبحون حماةً للإسلام. ومن صوَر التآلف التي نضعها أمام أعين الدارسين والدّعاة: ما روي عن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- قال: ((أعطى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رهطاً، وسعد جالسٌ. فترك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلاً هو أعجبهم إليّ، فقلت: يا رسول الله. ما لَك عن فلان؟ فوالله إني لأراه مؤمناً، فقال: أوْ مسلماً؟. ثم غلبني ما أعلم منه، فعُدتُ لمقالتي: فقلت: ما لك عن فلان؟

فوالله إني لأراه مؤمناً، فقال: أو مسلماً. وظلّ يُردِّد ذلك. ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يا سعد. إني لأعطي الرجلَ وغيرُه أحبّ إليّ منه، خشية أن يُكبَّه الله في النار))، متفق عليه. وعن أنس -رضي الله عنه-، قال: ((كان الرّجُل يأتي النبي -صلى الله عليه وسلم-، فيُسلِم لشيء يُعطاه من الدنيا، فلا يُمسي حتى يكونَ الإسلام أحبّ إليه وأعزّ عليه من الدنيا وما فيها))، رواه الإمام أحمد في "مسنده". وصوَر تآلف الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه تعطّر سيرته الحميدة. أمّا السِّتْر: فهذا خُلُق إسلامي رفيع، يصون الأعراض، ويحفظ المجتمعات، ويقطع ألْسنة الفتن، ويرأب صدع المجتمع، ويسدل على المعصية غطاءً، فلا تنكشف سوأتها، ولا تفوح رائحتها الخبيثة في المجتمع. وهناك فرق كبير بين السّتْر على الجريمة، وبذْل الوسائل لعدم اكتشافها، وتمكين مُرتكبيها من الفرار من وجه العدالة، وبين السِّتْر على هفوات البعض الذين يرتكبون الذّنْب لأوّل مرة، وقد يقعون في أخطاء لظروف أحيطت بهم أو فُرضت عليهم؛ فهذه أحوال تُترك لوجهة نظر الدّاعية حيث يُقدّر الظرف الذي ارتُكِب فيه الذّنب، ويرى أيهما أفضل: السِّتر أم الإعلان والتشهير؟ ولقد كان السِّتر أسلوباً من أساليب الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر. والأمثلة كثيرة وعديدة، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي: 1 - ما روي عن أنس بن مالك -رضي الله تعالى عنه- قال: ((كنتُ عند النبي -صلى الله عليه وسلم- يوماً فجاءه رجل فقال: يا رسول الله. إني أصبتُ حداً فأقِمْه عليّ! قال: ولم يسأله عنه. قال: وحضرت الصلاة فصلّى مع النبي -صلى الله عليه وسلم-. فلما قضى النبي -صلى الله عليه وسلم- الصلاة، قام إليه

خامسا: استثارة العواطف والمشاعر، وإيقاظ دوافع الحمية والغيرة.

فقال: يا رسول الله. أصبتُ حداً فأقِمْ فيّ كتاب الله! قال -صلى الله عليه وسلم-: أليس قد صلّيتَ معنا؟ قال: نعم. قال: فإنّ الله قد غفر لك ذنبك -أو قال:- حدّك))، متفق عليه. ولقد أشار -صلى الله عليه وسلم- على السّتر على ذوي المروءات هناتهم، فقال: ((أقيلوا ذوي الهيئات عثَراتهم، إلاّ الحدود))، رواه الإمام أحمد. وللتّستّر ضوابط وأمور يجب أن تُراعى، ومن ذلك: 1 - أن يترجّح في الظّن إقلاعه عن المعصية بعد انكشاف أمْره والتستر عليه. 2 - أن لا يترتّب على السّتر مفسدة شرعيّة. 3 - أن لا يكون السّتر خشية مِن جاهه أو منصبه. 4 - أن يكون كشْفه سبباً في فتن يبلغ ضررها أشدّ من فضْح أمْره. 5 - أن لا يكون الأمر قد وصل إلى الحاكم، فإذا ما وصل فلا شفاعة ولا ستْر، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((تعافَوا الحدود فيما بينكم، فمن بلغني حدّه فقد وجب)). خامساً: استثارة العواطف والمشاعر، وإيقاظ دوافع الحميّة والغيرة كثير من الناس حينما يفعلون المنكَرات ينسوْن أنفسهم، ولو فعَل ما فعَله من منكر أحدُ أبنائه أو زوجتُه لغضب وثار، وربما أوقع الأذى بمن فعَل ما يرتكبه هو، لأن الغفلة والنسيان سبب من أسباب ارتكاب المعاصي، قال تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (الحشر:19). ولذلك، فإنّ من واجب الدّعاة أن يستثيروا المشاعر، ويستجيشوا العواطف، ويوقظوا دوافع الغيرة والحميّة والمروءة؛ فهذه أمور نظرية في الإنسان تحتاج إلى مَن يوقظها مِن غفْلتها ويحرّكها من سباتها العميق.

وتاريخ الدعوة الإسلامية يشهد بأن إثارة العواطف وبثّ الحماس والغيرة ينقل الإنسان من الضد إلى الضد؛ ومن ذلك: ما حدث في إسلام حمزة بن عبد المطلب. فقد كان على دين قومه، وفي عودته من رحلة الصيد، قالت امرأة له ما فعله أبو جهل بالرسول -صلى الله عليه وسلم-، فأخذتْه الغيرة والحماس، وذهب إلى أبي جهل وهو في وسط أكابر قريش، فضربه بالقوس فشجّه، وقال: أتسبّه وأنا على دينه؟ وكان هذا سبباً في إسلامه. ومن ذلك: ما كان من عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حينما أخذ سيفَه قاصداً قتْل الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وقابَله رجُل وقال: إلى أين يا ابن الخطاب؟ قال: أقْتُل مَن عاب ديننا وسبّ آلهتنا. فقال: ارجعْ إلى أختك فاطمة وزوجها، فقد أسلما. فتحرّك الغضبُ في نفسه، وعاد إلى بيت أخته. وحدث ما حدث؛ وكان هذا سبباً في إسلامه. ونلحظ أسلوب الاستثارة في القرآن الكريم؛ ومن ذلك: قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} (الحديد:16). وقوله تعالى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً} (النساء:147). ولقد أقرّ -صلى الله عليه وسلم- غيرة سعد -رضي الله عنه- حينما قال: "والله لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربتُه بالسيف غير مصفح". فبلغ ذلك رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- ((أتعجبون من غيرة سعد؟ والله لأنا أغير منه، والله أغير مني. ومن أجل غيرة الله حرّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن. ولا أحدَ أحبّ إليه العذر من الله، ومن أجل ذلك بعث المبشِّرين والمنذرين. ولا أحدّ أحبّ إليه المدحة من الله، ومن أجل ذلك وعَد الله الجنة))، متفق عليه.

الدرس: 9 تابع: أساليب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

الدرس: 9 تابع: أساليب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

سادسا: الحث على التوبة، وقبولها من المذنبين. سابعا: الزجر بالإغلاظ في القول، والضرب.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس التاسع (تابع: أساليب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) 1 - أساليب الأمْر بالمعروف والنّهي عن المنكر سادساً: الحثّ على التوبة، وقبولها من المذنبين. سابعاً: الزّجر بالإغلاظ في القول، والضرب سادساً: الحث على التوبة، وقبولها من المذنبين: لقد أودع الله بين حنايا الإنسان الكثيرَ من الغرائز التي تُسيطر على سلوكه، وقد تدفعه إلى ارتكاب بعض الآثام، تحت ضغط غرائزه، وضعف تديُّنه، وكثرة الإغراءات مِن حوْله؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: ((كلّ بني آدم خطّاء، وخيرُ الخَطّائِين: التّوّابون))، رواه ابن ماجة وقال: "حديث حسَن". ومن رحمة الله بعباده: أنه لم يترُكهم للذنوب تفترسهم، ولم يَدَعْهم لليأس والقنوط من رحمته، ولكن فتح لهم أبواب التوبة، ويسّر لهم سبُلَ الرجوع إليه، قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنْصَرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (الزُّمَر:53 - 57). وقال تعالى: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (المائدة:39). وآيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- ترِدُ بكثرة عن التوبة وشروطها وقبولها عند الله. وإنّ ممّا ينبغي أن يسلكه الدّعاة في أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر: أن يستثمروا رحمة الله الواسعة، ويأخذوا بأيدي العصاة في رفْق، ويَمدّون لهم حبال التوبة، فيستمسكون بها ليخرجوا من مستنقع الرذيلة وهاوية

المعصية، ويفتحون لهم باب الأمل والرجاء في عفو الله. وحينما يُقلعون عن الذنب ويكفّون عن المعصية، يبيِّن لهم الدّعاة شروط التوبة، وهي: 1 - الإقلاع عن الذنْب. 2 - النّدم القلبيّ. 3 - العزم على عدم العَوْد. 4 - ردّ المظالم والحقوق لأصحابها، سواء كان حقاً لله أمْ للبشَر. ولقد ذكَر شيخ الإسلام ابن تيمية أموراً بجانب التوبة، يكفِّر الله بها الخطايا؛ ومنها: 1 - التوبة، باتّفاق جميع المسلمين. 2 - الاستغفار. 3 - الحسنات الماحية للذنوب. 4 - دعاء المؤمن للمؤمن، كصلاة الجنازة. 5 - ما يُعمل للميِّت من أعمال البِرّ. 6 - شفاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم-. 7 - المصائب التي تُكفَّر بها الخطايا في الدّنيا. 8 - ما يحصل في القبر من الفتنة والضّغطة. 9 - أهوال يوم القيامة وشدائدها. 10 - رحمة الله ومغفرته بلا سبب من العباد.

ثامنا: ردع العصاة بإقامة الحدود الشرعية.

والاستتابة مطلوبة شرعاً في الكبائر التي تستوجب الحدّ، ولا سيما ممّن يُقدم على جريمة الرّدّة -والعياذ بالله-. فالواجب مناقشة المرتدّ في أسباب خروجه عن الدِّين، وإزالة ما لديْه من شبهات، ثم تترك له فرصة يراجع فيها نفسه؛ فإن تاب وإلاّ أقيم عليه الحدّ. سابعاً: الزّجر بالإغلاظ في القول، أو الضّرب: وقد تعرّضنا له بالتفصيل في أركان الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكَر. ثامناً: ردْع العصاة بإقامة الحدود الشرعيّة لقد شرع الإسلام حدوداً لبعض الجرائم، كَـ: 1 - حدّ القتل العمْد. 2 - حدّ الردة. 3 - حدّ الحرابة وقطع الطريق. 4 - حدّ الزنى. 5 - حدّ القذف. 6 - حدّ شرب الخمر. 7 - حدّ القصاص في الأطراف. والتعزير فيما ليس فيه حدٌ، أو ما دون الحد. وكل هذه الحدود جاءت في القرآن والسُّنّة، وأجمعت عليها الأمة.

تاسعا: تغيير البيئة.

تاسعاً: تغيير البيئة قد يرتكب الإنسان الذّنْب لظروف اجتماعية تُسهِّل له المُنكَر، أو بسبب قُرَناء السّوء الذين يعيشون معه، أو أن البيئة التي نشأ فيها تدفع إلى ارتكاب المُحرّمات. وعلاج أمثال هؤلاء يكون بانتشالهم من هذا الوسط الاجتماعي الموبوء، إلى وسط اجتماعي آخَر، تُصان فيه الحُرُمات ولا ترتكب فيه المنكرات. وإنّ في حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الرجل الذي قتَل تسعاً وتسعين نفْساً لَخَيْرُ دليل على وجوب تغيير البيئة. ولقد شُرِع مع الحدّ: تغريبُ عامٍ، حتى ينسى الناس جريمتَه، ولا يظلّ أثرُها يُلاحقه؛ وهذا من عظمة الإسلام وسموّ تشريعاته التي تعالج الآثار النفسية للجريمة. عاشراً: إيجاد البدائل من الأساليب التي يُقضَى بها على المنكَرات: إيجاد البدائل: فمثلاً: مواجهة الانحراف الجنسيّ للشباب يكون بتيسير أمور الزواج، وتقديم العوْن من الدولة وأغنياء الأمّة لتسهيله. ولقد قصّ القرآن الكريم أنّ لوطاً -عليه السلام- عرَض بناته على قومه للزواج منهن، بديلاً عن إتيان الذكور، قال تعالى عنه -عليه السلام-: {قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} (هود:78).

وفي تحريم الزنى وتوابعه، كان البديل هو تيسير الزواج، قال تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} (الإسراء:32). وفي المقابل لذلك، ذكَر النكاح وحث عليه، قال تعالى: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (النور:32). ولمّا حرّم الله الميتة والدم ولحم الخنزير، جعل البديل: الأكل من الطيبات. هذه هي الأساليب والوسائل التي شرعها الإسلام لمحاربة المنكَرات والقضاء عليها، وتطهير المجتمع من رجْس المعصية ودوافع الانحراف. ولن يتم هذا إلا بإعداد دُعاة يفهمون الإسلام فهماً عميقاً، وتتعاون معهم كافّة الأجهزة الإعلامية والسلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية في المجتمعات الإسلامية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو الوجه الحضاريّ للمسلمين في كلّ زمان ومكان. هذا، وبالله التوفيق. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 10 الآثار السيئة الناتجة عن تقاعس المسلمين في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحقيقة الدعوة الإسلامية.

الدرس: 10 الآثار السيئة الناتجة عن تقاعس المسلمين في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحقيقة الدعوة الإسلامية.

الآثار السيئة التي أدى إليها التخاذل عن تبليغ الإسلام ونشره.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس العاشر (الآثار السيئة الناتجة عن تقاعس المسلمين في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحقيقة الدعوة الإسلامية) 1 - الآثار السيئة التي أدى إليها التخاذل عن تبليغ الإسلام ونشره الآثار السيئة التي أدّى إليها التخاذل عن تبليغ الإسلام ونشْره إن التهاون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتخاذل عن تبليغ الإسلام ونشْره، قد أدّى إلى آثار سيِّئة وعواقب وخيمة، على المسلمين وعلى العالَم بأسره. ومن هذه العواقب ما يلي: أولاً: حينما خفَتَ صوت الحق وأقلع المسلمون عن التناصح فيما بينهم، وآثر كلّ منهم الصمت وغضّ الطرف عمّا حوله من عوامل الفساد ومعالم الانحراف، وانزوى الإنسان داخل نفسه وانشغل بأموره عن أمور المسلمين وأحوالهم، استشرى الفساد، وعظُم الظّلم، وكثرت الفتن؛ قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (الروم:41). ولقد بيّن القرآن الكريم: أنّ من أسباب استحقاق بني إسرائيل اللّعن والطّرد من رحمة الله، وإنزال العقاب بهم: أنهم تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إنّ أوّل ما دخَل النّقصُ على بني إسرائيل: أنه كان الرجل يَلْقى الرجل فيقول: يا هذا، اتّقِ الله، ودَعْ ما تصنع؛ فإنه لا يحلّ لك! ثم يلقاه من الغد وهو على حاله، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيلَه وشريبَه وقعيدَه. فلما فعَلوا ذلك، ضرَب الله قلوبَ بعضهم ببعض، ثم قال: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (المائدة:78، 79).

ثم قال: كلاّ والله! لتأمرُنّ بالمعروف، ولَتَنهوُنّ عن المنكر، ولتأخذُنّ على يد الظالم، ولتأطرُنّه على الحق أطراً، ولتقصُرُنّه على الحق قصراً، أو ليضربَنّ اللهُ بقلوب بعضكم على بعض، ثم ليلْعَنكم كما لعَنَهم))، رواه أبو داود، والترمذي وقال: "حديث حسن". ثانيًا: إن التخاذل عن إبداء النصح، والتهاون في التّصدي لفواحش القول والعمل، جعل ساحة الدّعوة شاغرة، وقلوب العباد فارغة، ممّا جعل الشيطان وحزبَه يعيثون في الأرض فساداً، ويتلاعبون بالعقول والقلوب إضلالاً وانحرافاً. وتعدّدت ميادين أنشطة الشياطين في المجالات التالية: أولاً: إفساد عقيدة التوحيد، وقد اتّخذ في سبيل ذلك صُوراً عِدّة، منها: 1 - الدعوة إلى إنكار وجود الخالِق -سبحانه وتعالى-. 2 - الدعوة إلى عبادة مظاهر الطبيعة. 3 - ادّعاء الألوهيّة، والتّكبّر والاستعلاء في الأرض. 4 - اتّخاذ أنداد وشركاء من دون الله، يتوجّه الناس إليهم بالدعاء والاستغاثة. ثانيًا: الإفساد بين بني الإنسان: فكلّما تذكّر الشيطان أنه طُرد من الجنة وأُبعِد من رحمة الله بسبب خلْق آدم -عليه السلام- وتكريم بني جنْسه واستخلافهم في الأرض، اشتعل وميض الحقد في قلبه، وتوهّجت نار العداوة في صدره، فيقدح زناد فكره الخبيث ومكره اللئيم، وصبّ جام غضبه على الإنسان، فأوغر الصدور، وفرّق القلوب، ومزّق الروابط. فأصبحت الكرة الأرضية ميداناً فسيحاً للصراعات، وساحةً تشتعل فيها الحروب

والفتن. وصمَتَ صوتُ العقل والحِكمة، وعلا زئير جند الباطل وحزبه؛ وما ذلك إلاّ بسبب تخلِّي المسلمين عن واجب الدّعوة إلى الله لإصلاح ذات بينهم وهداية غيرهم إلى الطريق المستقيم. قال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة:257). ثالثًا: الإفساد المادي: لقد جُبل الإنسان على حبّ المال وجمْعه قال تعالى: {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمّاً * وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً} (الفجر:19، 20). ومن خلال حبّ الإنسان للمال، فإن الشيطان يُزيِّن لابن آدم جمْعه بكافة الطُرق غير المشروعة، كالربا، والسرقة، والغصب، وأكل مال اليتيم، والاحتكار، والاستغلال، إلى غير ذلك من الوسائل المحرّمة. ولقد أصبح ميدان المال ميداناً فسيحاً للشيطان يعيث فيه فساداً. ولم يكن العالَم الإسلامي بمنأى عن هذا الفساد، فقد أصابته العدوى، وحلّ بدياره الأنظمة المالية والرّبوية ممّا هدد استقلالها. قال تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (البقرة:268). رابعًا: الإفساد عن طريق المرأة: لقد كان من آثار عدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: أن استطاع الشيطان وحزبه من شياطين الإنس، الاستحواذ على قلْب المرأة وعقلها، فانحرفوا بأنوثتها، وأفسدوا فطْرتها وما جُبلت عليه من حياء؛ فزيّنوا لها التبرج والسفور،

والخروج عن آداب الإسلام، ولا سيما في هذا العصر الذي خرجت فيه المرأة إلى الحياة العامة تَعرض أنوثتها بطريقة فجّة ومُثيرة، يساعد على ذلك أجهزة الإعلام، وبخاصة القنوات الفضائية التي ينفث الشيطان في روعها إغواء المرأة وإخراجها من مملكتها، وهو منزلها وعالَم أسرتها. فأفقدوها حنان الأمومة، وحرموها من وجوب احترام الزوج لها؛ فاضطرب أمر الأسرة، وانفرط عِقدها. ودفعت الأرحام بأجيال فقدوا حنان الأم ورعاية الأب، فلم يحرزوا هدفاً ولم يحققوا نصراً، ولم يصونوا ديناً أو يَحموا عرضاً. وقد استغلّت بعض أجهزة الإعلام المرئيّة أنوثة المرأة أسوأ استغلال، فجعلوا منها ممثّلة متبرّجة تعرض جسدها باسم الفن والدعاية والإعلان. هذا، ولقد اشتدّت الهجمة الشرسة على المرأة المسلمة في هذه الأيام، للقضاء على ما بقي من الإسلام في عقلها وقلبها؛ فالأسلحة كلّها مصوّبة نحو المرأة المسلمة، تتدرّع بكل وسائل الشيطان وحزبه من تقنيات حديثة تدعو إلى الانحراف وتزيِّن له. وقد خفَتَ صوت الدعاة إلى الفضيلة، بل كاد يختفي وسط صخَب وضجيج وسائل الإعلام الحديثة، إلاّ من بعض الأصوات الصادقة التي تنبعث من هنا أو من هناك، تذكّر بالإسلام وتدعو إلى الفضيلة، وتحذِّر من شياطين الإنس والجن. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (النور:21). هذه بعض الآثار السيئة التي نجمت عن خفوت صوت الدّعاة إلى الله، وضعف أداء البعض منهم، والارتجال في ميادين العمل الدّعوي، وعدم التخطيط السليم

هل الدعوة إلى الله رسالة أم وظيفة؟.

للدّعوة، وعدم الإعداد الجيّد للدّعاة، وافتقار الكثير منهم للوقوف على أصول الدعوة إلى الله وأساليبها، وخلوّ ذهن الكثيرين من الدّعاة عن: فقه الأولويّات في ميدان الدّعوة، وتنظيم العمل الدعوي، والتنسيق بين العاملين في حقل الدّعوة إلى الله. ممّا سنوضحه بين ثنايا هذه المحاضرات -إن شاء الله-. هل الدّعوة إلى الله رسالة أم وظيفة؟ الدّعوة إلى الله رسالة هذه الأمّة التي اصطفاها من بين الأمم، لحمْل أمانة الدّعوة ونيل شرف التبليغ. والقائمون على شؤونها هم أصحاب رسالة سامية، ورُسُل دعْوة نبيلة، قبل أن يكونوا موظّفين يتعاطَوْن على هذا أجراً ويتقاضَوْن راتباً. وإنّ في رسُل الله وأنبيائه -عليهم السلام- لَقُدوةٌ حسَنة وأسوةٌ طيِّبة، فما كانوا يريدون بدَعْوتهم إلى الله من البشر أجراً ولا يبتغون من ورائها جاهاً. وقد تحدّث القرآن عنهم، فقال تعالى عن نوح -عليه السلام-: {وَيَا قَوْمِ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ} (هود:29). وعن هود -عليه السلام-، يقول الله تعالى: {يَا قَوْمِ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ} (هود:51). وقد استشعر أتباع المرسلين أنهم لا يتعاطَوْن من أتباعهم مالاً، وأنهم جرّدوا دعوتهم من متاع الدنيا، فدعَوْا الآخَرين للإيمان بهم. قال تعالى: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لاَ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (يس:20، 21). وأمَر الله رسوله -صلى الله عليه وسلم-: أن يُعلن على أهل مكة بهذا الأمر، قال تعالى: {قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} (الشورى:23).

ولقد ذكَر القرآن الكريم والسُّنّة النبوية الشريفة: أنّ الأنبياء والمرسلين كانوا ذوي حِرَف وأعمال يتكسّبون بها ويعيشون على مواردها؛ فداود -عليه السلام- كان حداداً، قال تعالى: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً} (سبأ:10). ونوح -عليه السلام- كان نجاراً، قال تعالى: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} (هود:37). وروى مسلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((كان زكريّا نجّاراً)). وعن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((ما بَعث الله نبياً إلاَّ ورعَى الغنَم))، قال الصحابة: وأنت؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: ((نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة))، رواه البخاري. وعلى هذا الدّرب سار سلَف هذه الأمّة وخلَفُها من العلماء والدّعاة، لا يطلبون أجراً ولا يستَجْدون ولا يتكسّبون بالدّعوة إلى الله. يقول الحسن البصري: "لا يزال الرجُل كريماً على الناس حتى يطمع في دينارهم ودرهمهم، فإذا فعَل ذلك استخفّوا به وكرهوا حديثه". هذا، وقد اختلف الفقهاء على حُكم تعاطي الأجْر على عمل الطاعات، وقد انقسموا إلى فريقيْن: الأوّل: يرى عدم جواز أخْذ الأجر، بل يُحرِّم ذلك، واستدلّوا بقوله -سبحانه وتعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ} (البقرة:159). قال الفخر الرازي في "تفسيره": "احتجّوا بهذه الآية على: أنه لا يجوز أخْذ الأجر على التعليم، لأن الآية لمّا دلت على وجوب التعليم فكان أخذ الأجر أخذاً على أداء الواجب، وأنه غير جائز".

وذهب الأحناف إلى هذا الرأي أيضاً فقالوا: "إن الإجارة على الطاعات لا تجوز، ويحرم اتّخاذ الأجر"، واستدلوا بقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ((اقرؤوا القرآن، ولا تأكلوا به)). وبقوله -صلى الله عليه وسلم- لِعمرو بن العاص: ((وإنِ اتُّخذْت مُؤذِّناً، فلا تأخُذْ على الأذان أجراً)). وقال الحنابلة: "لا تصحّ الإجارة لأذان وإمامة، وتعليم وفقه وحديث، ولا يقع إلاّ قُربة لفاعله، ويحرُم أخذُ الأجْر عليه". وجوّزوا أخذ رزق من بيت المال أو مِن وقْف على عمل يتعدّى نفعُهُ، كقضاء وتعليم، وليس بعِوض، بل رزق للإعانة على الطاعة، ولا يُخرجه عن كونه قُربة، ولا يقدح في الإخلاص. الفريق الثاني: يرى جواز أخْذ هذا الأجر؛ وهذا ما ذهب إليه: المالكيّة، والشافعية، وابن حزم. قال ابن حزم: "والإجارة جائزة على تعليم القرآن، وعلى تعليم العلْم مشاهرة وجملة. ويستدلون على ذلك بقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ((إنّ أحقّ ما أخذْتُم عليه أجراً هو: كتاب الله)) "، رواه البخاري. وقد جاء في "فتح الباري" ما يعضد هذا الرأي. هذا، ومع قوّة الأدلة الشرعية من القرآن والسُّنّة وأفعال الصحابة، التي لا تجيز أخْذ عوضٍ مادي عن عمل الطاعات، ومنه الدّعوة إلى الله، إلاّ أنه يُرجَّح الرأي القائل بجواز أخْذ الأجر، ولا سيما في هذا العصر الذي نضَب فيه مَعين الخير، وشحّت الأنفس، واستشرى البخل والتقتير على الدعوة والدعاة، وتكاد علوم الشرع تندثر والدّعاة ينقرضون، مع الأخذ بفتوى من يجيز أخْذ الأجر؛ فكيف لو أخذنا بفتوى من لا يُجيز أخْذ الأجْر؟

القاسم المشترك بين الأنبياء جميعا.

وعلى الدّعاة إلى الله: أن يُخلصوا النّية، وأن يجعلوا ما يَحصلون عليه من راتب هو وسيلة لتحقيق العيش الكريم، وعوناً على حُسن القيام بالدّعوة إلى الله وليس غاية في حدّ ذاته. قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (فُصِّلَت:33). 2 - القاسم المشترَك بين الرّسل والأنبياء جميعاً القاسم المشترَك بين الأنبياء جميعاً الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: فقد تناولنا في المحاضرة السابقة: الآثار السيِّئة التي نجمت عن تقاعس المسلمين عن واجب تبليغ الدّعوة إلى الله. ولقد أثَرْنا بين ثنايا المحاضرة سُؤالاً حول: هل الدعوة إلى الله وظيفة أم رسالة؟ وذكرنا آراء العلماء في حُكم تعاطي الأجْر في مقابل الدّعوة إلى الله، ثم ذكرنا طرفاً من خصائص دعوة الإسلام، وأنها وثيقة الصلة بجميع الرسالات السابقة، وسُقنا الأدلة من القرآن والسُّنة على ذلك. واليوم نتناول في هذه المحاضرة: الأمور التي يشترك فيها الأنبياء جميعاً؛ ومن هذه الأمور ما يلي: أولاً: نظرية تلقِّيهم عن الله واحدة؛ قال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً} (النساء:163). وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} (الشورى:51). ثانياً: المُوحَى به واحد في أصوله؛ قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (الشورى:13). ثالثاً: أنّ مُسمَّى دينهم واحد، قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الأِسْلامُ} (آل عمران:19).

رابعاً: أسلوبهم في الدّعوة إلى الله واحد؛ قال تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} (النساء:165). خامساً: الغاية التي بُعثوا بها جميعاً واحدة؛ قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (النحل:36). سادساً: دلائل صِدْقهم وأمارات نبوّتهم واحدة، رغم اختلاف الزمان والمكان؛ فهي تتجمّع في الأمور التالية: أ- مكارم الأخلاق التي اتّصف بها جميع الأنبياء والمرسلين قبل البعثة وبعدها واحدة، ممّا يُقيم الأدلة والبراهين على أهليّتهم لشرف النبوة والرسالة. ب- جميعهم -عليهم الصلاة والسلام- أيّدهم الله بالمعجزات، تصديقاً لهم، وتحدِّياً لأعدائهم، كما أنّ نزول الكتب والصّحف والألواح قاسم مشترك بين الأنبياء جميعاً. ج- أنّ كلّ ما جاؤوا به من تشريعات تتلاءم مع الفطرة السليمة، ولا تتعارض مع غرائز الإنسان السّويّة. د- مقاومة المعارضين لهم، شأن مشترَك بينهم جميعاً. هـ- إجماع الأنبياء على الإعراض عن الدنيا والزهد فيها، وعدم تعاطي أجْر على دعْوتهم، وصبرهم على الأذى. كلّ هذه العوامل مجتمعة، تدل على اتّفاق المنهج، ووحدة الهدف لجميع الأنبياء والمرسلين -عليهم السلام-.

الفرق بين معجزات الإسلام والمعجزات الأخرى.

الفرْق بين معجزات الإسلام والمعجزات الأخرى "المعجزة": أمْر خارق للعادة، يُظهره الله على يد النبي والرسول، تأييداً له وتحدِّياً للمعانِدين. ومعجزات الأنبياء السابقين معجزات حسِّيّة، ترتبط بمكان وزمان الرسول والمرسَل إليهم؛ فإذا مات النبيّ أو الرسول انقطعت معجزتُه، ومن ثّم لم يعد هناك دليل قائم على نبوّته واستمرار رسالته. فمعجزة موسى -عليه السلام- كانت العصا، يلقي بها على الأرض فتنقلب حيّة تسعى، ويضرب بها البحر فيصبح طريقاً يبساً، ويهوي بها على الحجر فتتفجّر منه اثنتا عشرة عيناً. وبانقضاء حياة موسى -عليه السلام-، انتهت معجزتُه، ولم يصبح في يد اليهود دليل على نبوّة موسى -عليه السلام-. حتى بقايا التوراة، تناولتها يد اليهود بالتغيير والتحريف، ولم تَعُدْ بصورتها الحالية دليلاً على صِدْق نبوّة موسى -عليه السلام-. وكذلك الشأن في معجزات عيسى -عليه السلام-، كالنّفخ في الطِّين على هيئة الطير فيصبح طيراً بإذن الله، وإبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى، والإخبار بما يدّخره الناس في بيوتهم؛ وهي كلّها معجزات موقوتة بمكان وزمان عيسى -عليه السلام-. وعقِب رفْعه رُفعت معه معجزاته، ولم يَعُد لدى النصارى دليلٌ قائمٌ على نبوّة عيسى -عليه السلام- واستمرار رسالته. وما بين أيديهم من الأناجيل لا تمُتّ -باعتراف المحقِّقين والمدقِّقين من علماء التاريخ والأديان- بصِلَة إلى وحْي السماء المُنزَل على عيسى -عليه السلام-. وكذلك الحال في جميع معجزات الأنبياء والمرسلين السابقين. فلولا إخبار القرآن عنهم، وذكْر نبوّاتهم ورسالاتهم، ووجوب الإيمان بهم، لما كنّا نعرف عنهم

شيئاً، ولسنا مطالَبين بالتصديق بوجودهم، إذ ليس مع أتباعهم ما يُفيد ذلك سوى أخبار يَنقصها التوثيق العلْمي وصحة السّند وصدْق الخبر. أمّا الإسلام العظيم، فقد تفرّد بمعجزة خالدة باقية محفوظة، حتى يرِثَ الله الأرض ومَن عليها، لا ترتبط بمكان مُحدّد ولا زمان مُعيّن؛ إنه القرآن الكريم. "كتاب الله المُنزَل على رسوله -صلى الله عليه وسلم-، المكتوب في المصاحف، المنقول إلينا نقلاً متواتراً بلا شبهة". وقيل في تعريفه: "كتاب الله المُنزَل على سول الله -صلى الله عليه وسلم-، المتعبَّد بتلاوته، المُعجِز ببلاغته، المتحدَّى به الإنس والجنّ". ولاستمرار خلودِه، وبقائه وصوْنه ممّا نزل بالكتب السابقة، فقد توافرت أمور عدّة وضمانات كثيرة لم تتوافر لغيره، ومن ذلك ما يلي: أولاً: تعهّد الله بحفْظه، فلم يَلحقْ به ما لحق بالكتب الأخرى، قال تعالى: {اِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحِجر:9). ثانياً: تيسير الله سُبُل حفْظه، وإعانته على بقائه في صدور الحفَظة، قال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} (القمر:17). ثالثاً: أمَر الله باستمرار تلاوته، قال تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} (المزَّمل:4). رابعاً: إعانة الله على جمْعه وقراءته وتسهيل طُرق بيانه. قال تعالى: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (القيامة:16 - 19). خامساً: مضاعفة أجْر وثواب من يقرؤه، وكذلك من يستمِع إليه؛ وقد وردت في ذلك كثير من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية.

فمِن القرآن: قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} (فاطر:29، 30). وقال تعالى: {وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً} (مريم:58). ومن السُّنة النّبويّة ما يلي: 1 - عن ابن مسعود -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((مَن قرأ حرْفاً من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشْر أمثالها؛ لا أقول: {الم} حرفٌ، ولكن ألفٌ حرف، ولامٌ حرف، وميمٌ حرف))، رواه الترمذي وقال: "حديث حسن صحيح". 2 - عن أبي أمامة -رضي الله عنه-، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((اقرؤوا القرآن؛ فإنّه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه))، رواه مسلم. 3 - عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: ((يُقال لصاحب القرآن: اقرأْ وارتَقِ، ورتِّلْ كما كنتَ ترتِّل في الدنيا؛ فإنّ مَنزلَتك عند آخِر آية تقرؤها))، رواه أبو داود، والترمذي وقال: "حديث حسن". سادساً: حفِظ الله -تبارك وتعالى- اللغة العربية، فلم يَنزِل بها ما نزل باللّغات الأخرى، حتى لا يُستعجَم القرآن الكريم. هذا، وإنّ من المحاولات الخبيثة: محاولات البعض تغيير قواعد اللغة العربية، أو استبدالها بالعامّيّة، أو إحلال اللّغات الأخرى محلّها. سابعاً: ارتباط القرآن الكريم بحياة البشَر، وتنظيمه الدّقيق والمعجِز لجوانب العقيدة والشريعة والأخلاق والعبادات التي تشمل الناس جميعاً. هذا، بجانب

حديثه عن الأمم السابقة حديث صدق وحق، وإخباره عمّا يعتري البشريّة من أحوال إلى قيام الساعة. ثامناً: تعدّد أوجه الإعجاز في القرآن الكريم؛ فبجانب الإعجاز البلاغي هناك الإعجاز العلْمي، والتاريخي، والتشريعي، إلى غير ذلك من وجوه الإعجاز المتعدِّدة ... تاسعاً: اهتمام المسلمين بالقرآن الكريم منذ أن تلقّاه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وكان يأمر كُتّاب الوحي بكتابته؛ هذا، بجانب حفْظه في الصدور. ثم التعاون على جمْعه في خلافة أبي بكر الصديق، ثم في خلافة عثمان بن عفان. وعقب تاريخ المسلمين، كان القرآن الكريم ولا يزال له الصدارة في الاهتمام؛ فبرز الخط العربي، وأبدع الخطّاطون في كتابته، كما وُضعت قواعد النحو لِصوْن قراءته. وظهر علْم التجويد والقراءات والتفسير. وتبارت الأمّة حُكّاماً ومحكومين، على حفْظ كتاب الله وصوْنه ورعايته؛ وهذه خصوصية انفرد بها القرآن الكريم عن باقي الكتب السماوية، وتميّز بها المسلمون عن سائر أمم الأرض. عاشراً: ومِن خصائص الدعوة: حفْظ سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأقواله وأفعاله: شهد تاريخ البشرية أنبياء ورسلاً كثيرين، قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ} (فاطر:24). ولقد انتهت رسالتهم، واندثرت آثارُهم، وطُويت كتبُهم، وجهِل الناس سيرتَهم وأحوالهم، ولم يعُدْ يُعرف عنهم شيء إلاّ من خلال ما جاء في القرآن الكريم عن دعْوتهم لأمَمِهم. وإنّ من خصائص الإسلام: ما تفرّد به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن سائر الأنبياء وجميع المرسلين، مِن عِصمته في حياته رغم كثرة محاولات قتْله، لأن الله قد تكفّل بذلك في قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (المائدة:67).

وقد شملت العصمة حفْظ الله لِسيرته، وصوْن أقواله وأفعاله -صلى الله عليه وسلم-، حيث قيّض الله بهذا الحفظ الرّواة العدول الثّقات من آل بيته وزوجاته أمّهات المؤمنين وصحابته -رضوان الله عليهم أجمعين-، الذين روَوْا تفاصيل حياته -صلى الله عليه وسلم-، وحدّثوا الأمّة حديث صِدق عن أقواله وأفعاله وعظمة أخلاقه. وتناقلها الرواة العدول الثقات جيلاً بعد جيل، في تسلسل فريد، وتوثيق مُحكم، ومحافظة على السّند والمتن، بصورة لم ولن تشهد لها البشرية مثيلاً. وقد كان بعض صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدوِّنون ما يسمعونه منه -صلى الله عليه وسلم-، كعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن عمر، وأنس خادم الرسول -صلى الله عليه وسلم-. ولقد بدأ التدوين الرسميّ للسُّنّة في عهد الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز، حيث كتب إلى الآفاق: "انظروا حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فاجمعوه! ". وكتب لأهل المدينة: "انظروا حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فاكتبوه! فإني خِفتُ دروس العلْم وذهاب أهله". ولقد نشط العلماء وتعالت هممهم في الجمع والتدوين، ووُضعت قواعد علْم مصطلح الحديث، وتعددت المصنفات التي جمعت أحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم-. وكان من أتقنها: "صحيح البخاري ومسلم"، ثم كتب المسانيد الأخرى. وقد تم تصنيف السّنة وتبويبها وتنقيحها من الدخيل والموضوع والضعيف، بصورة فريدة وبطريقة انفرد بها الإسلام عن غيره من الأديان الأخرى. وبجانب التوثيق بالرواية والكتابة والحفظ، فإنّ ممّا انفرد به -صلى الله عليه وسلم-، وتميّز به عن غيره من الأنبياء والمرسلين: أنّ مواطن الدعوة في مكة والمدينة، وأماكن أحداثها وآثارها، شاهد عدلٍ ودليل صدْق على التواجد المستمرّ والبقاء الخالد للإسلام. ففي كل عام، يتوافد ملايين الحجاج والمعتمرين لِيشاهدوا أماكن الدّعوة ومواطنها.

فغار حراء ما زال قائماً مرتفعاً تطلّ قمّته على مكة كلّها، يسترجع المسلمون عند رؤيته مشهد جبريل وهو ينزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالوحي. وغار ثور في الناحية الجنوبية من مكة، حيث مشاهد وأحداث الهجرة. هذا، وممّا اختُصّ به -صلى الله عليه وسلم- أنه هو النبي الوحيد من بين سائر الأنبياء، معروف موطنه في مكّة المكرمة، ومسجده وقبره الشريف في المدينة المنورة، يتوافد جموع المسلمين للصلاة بمسجده، والتسليم عليه في الروضة الشريفة، حيث يقفون أمام القبر الشريف يشهدون أنه -صلى الله عليه وسلم- بلّغ الرسالة، وأدّى الأمانة، ونصح الأمّة، وكشف الغمة، وترَك أمّته على المحجّة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك. والرسول -صلى الله عليه وسلم-، دون كلّ الأنبياء والمرسلين، هو الذي يتردّد اسمه الشريف في الأذان خمس مرات في اليوم والليلة، هذا بجانب الصلاة عليه -صلى الله عليه وسلم- من قِبل الله والملائكة، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (الأحزاب:56). كلّ هذه الأمور من دواعي الحفْظ، وأمارات الاستمرار، ممّا اختُص به -صلى الله عليه وسلم-، ليظلّ الإسلام من خلال القرآن الكريم وسيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- حياً في وجدان الإنسانية، يقظاً في قلبها وعقلها، حتى إنّ بعض العلماء من غير المسلمين يهتمّون بسيرته، ويكتبون عنه، ويتناولون حياته بدافع ذاتيّ وشعور داخليّ؛ بل إن الأقطار والدّول التي تعادي الإسلام وتعلن الحرب على المسلمين، تقام فيها المساجد وترتفع فيها المآذن ويكثر الداخلون في الإسلام منهم عاماً بعد عام.

الدرس: 11 من خصائص الدعوة الإسلامية.

الدرس: 11 من خصائص الدعوة الإسلامية.

من خصائص الدعوة الإسلامية (أ).

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الحادي عشر (من خصائص الدعوة الإسلامية) 1 - الآثار السيِّئة التي تلحق بالمسلمين من جرّاء التقاعس عن تبليغ الإٍسلام ونشْره مِن خصائص الدّعوة الإسلامية (أ) فقد تناولنا في المحاضرة السابقة: تعريف الدّعوة إلى الله، وبيّنّا مدى حاجة البشَر إليها، وأنه لا بديل عنها لسعادة الخلْق، ثم حُكْم تبليغ الدّعوة، ومتى تكون فرْض عيْن أو فرْض كفاية؟ وبعد أن وضّحنا الآثار السيئة التي تعود على المسلمين والعالَم بأسره، حينما تقاعسنا وتخاذلنا عن الدعوة إلى الإسلام، نستكمل هذه المحاضرة ببيان خصائص الدّعوة إلى الله التي ينفرد بها وحْي السماء ورسالات الأنبياء. والإسلام بهذه الخصائص يتقدّم مسيرة الحياة بفكر واضح، وعقيدة ثابتة، ومنهج متميِّز فريد، يرفض التقليد ويأبى التّبعية. وإنّ اختيار مكّة المكرّمة مهداً ونشأةً وبعثةً لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهي كما وصفها إبراهيم -عليه السلام- في قوله تعالى: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} (إبراهيم:37). فقد كانت مكة المكرمة بعيدة عن الحضارتيْن المؤثِّرتيْن في العالَم حينذاك، وهي: الحضارة الفارسية والرومانية، ممّا يوحي بخصوصيّتها واستقلالها، وعدم تأثّر الدعوة بما يدور في جوانب العالَم الأخرى. وهذه الخصوصية والاستقلالية اتّسمت بها الدّعوة إلى الإسلام، واتّصف بها المسلمون في كلّ زمان ومكان. وهذا ممّا يُقلق الأعداء ويثير غيظهم وحقْدهم: أنّ المسلم ثابت المعالم، مميّز الشخصية، متفردٌ في عقيدته، وحيدٌ في سلوكه، لا نظير له في العبادة والأخلاق والمعاملة، يحتمي بدينه ويعتصم بمعتقداته، ويعتز بتاريخه، ويسابق الموت طلباً للشهادة دفاعاً عن إسلامه. ومن ثَم عمَد أعداء الإسلام للنّيل من هذه الخصائص الإسلامية، بالاستعمار العسكري أحياناً، وبالغزو الفكري أحياناً أخرى، وبعملائهم من بعض أبناء المسلمين الذين تربّوْا على موائد الاستشراق والتبشير والاحتلال. وإنّنا إذْ نضَع بين أيدي الطّلاب والدّعاة خصائص الدعوة إلى الله، ليزداد إيمانهم بالإسلام، ويعظم حفظهم له ودفاعهم عنه. ولقد تحدّث القرآن الكريم عن

بعض هذه الخصائص في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} (البقرة:143). وقد فسّرت سورة (الحج) هذه الخصائص في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِير} (الحج:77، 78). فهل توجد أمّة من بين أمم الدنيا أو شعبٌ من شعوب الأرض، له خصائص الأمّة الإسلامية؟ ولقد أعلن الرسول -صلى الله عليه وسلم- في وثيقة الموادعة بين المسلمين واليهود، بعد الهجرة إلى المدينة، عن خصائص أمّته الإسلامية حيث نصّت هذه الوثيقة على أنّ المسلمين أمّةٌ من دون الناس. والمسلمون بهذه الخصوصية لا يستعلون على الآخَرين، ولا يستعبدون الشعوب، ولا يتميّزون على الأمم؛ وإنما هم بتلك الخصوصية يحملون على عاتقهم إخراج الناس من ظلمات الكفر إلى أنوار الإيمان، وهم مسؤولون أمام الله -كأمّة دعوة- عن هداية العالَم. قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (آل عمران:110). أما عن خصائص الدّعوة الإسلامية، فهي على النحو التالي: أولاً: إنّ دعوة الإسلام وثيقة الصّلة بدعوات الأنبياء والمرسلين، من لدُن آدم -عليه السلام- إلى محمد -صلى الله عليه وسلم-.

فـ"الإسلام" هو الاسم الذي اختاره الله ليكون عنواناً لجميع الرسالات. والمتتبِّع لقصص الأنبياء في القرآن الكريم، يجد أنّ الإسلام هو أساس كلّ رسالة، وجوهر كل شريعة، ومعالم كلّ ملّة يُرى ذلك واضحاً في الأدلّة القرآنية التالية: أ- نوح -عليه السلام- يُعلن أنه من المسلمين، ويُحذِّر قومه من عاقبة الإعراض عن دعوة الإسلام. قال تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (يونس:72). ب- إبراهيم -عليه السلام- يُعلن في جلاء تام أنه مسلم، وتبِعه في الإسلام حفيده يعقوب حينما حضرتْه الوفاة فوصّى أبناءه بالإسلام. قال تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (البقرة:130 - 133). ج- ويوسف -عليه السلام- تمنّى أن يلْقى الله مسلماً. قال تعالى: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (يوسف:101). د- وموسى -عليه السلام- يدعو قومه إلى الإسلام، ويُحرِّك مشاعرهم نحوه. قال تعالى: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} (يونس:84). هـ- وحواريّو عيسى -عليه السلام- شهدوا بالإسلام. قال تعالى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} (المائدة:111).

وقد توثّقت هذه الصِّلة وقويت تلك الرابطة بالعهد والميثاق الذي أخذه الحقّ -سبحانه وتعالى- على جميع الأنبياء والمرسلين وأتباعهم، إن أدركوا الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يؤمنوا به، وينصرونه ولا ينابذونه العداء قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} (آل عمران:81). وقد وُثِّق هذا العهد باللقاء المباشر بين الرسول -صلى الله عليه وسلم- وبين الأنبياء والمرسلين ليلة الإسراء والمعراج، حيث استقبلوه بالحفاوة والتّرحاب قائلين له: ((مرحباً بالأخ الصالح، والنّبيّ الصالح. نِعْم المَجئ جئتَ)). وقد صلّى بهم إماماً. ورحم الله أمير الشعراء أحمد شوقي حينما قال: أسرى بك اللهُ ليلاً إذ ملائكُهُ ... والرّسْل في المسجد الأقصى على قَدمِ لما خطرتَ بهم التفّوا بسيِّدهم ... كالشّهْب بالبدر أو كالجند بالعلَمِ صلّى وراءك منهم كلُّ ذي خطر ... ومن يفز بحبيب الله يأتمِمِ ولقد هيمن الإسلام على الرسالات السابقة، قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} (المائدة:48). فالهيمنة على الكتب السابقة كما قال ابن عباس -رضي الله عنه-: "أي: مؤتمن عليهم". وهيمنة الإسلام على الشرائع السابقة تكون بما يلي: أولاً: نسخ الإسلام لبعض التشريعات التي جاءت بها الأديان السابقة.

ثانياً: تصحيح ما انحرف منها، ولا سيما ما يتعلّق بمسائل العقيدة. قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (التوبة:30). ثالثاً: تطهير سيرة الأنبياء والمرسلين ممّا لحِق بهم من أكاذيب وافتراءات تتنافى وعصمة الأنبياء وقُدسيّتهم وطهارتهم، ولقد ذُكرت هذه الافتراءات في العهد القديم والأناجيل المحرّفة. رابعاً: إن القرآن الكريم والسُّنّة النبوية الشريفة قد عملا على تعديل مسار تلك الأديان التي انحرفت، والاتجاه بها نحو الإسلام. قال تعالى: {وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (البقرة:135). ونفى القرآن الكريم ما أُطلِق على أبِ الأنبياء إبراهيم -عليه السلام- من كونه يهودياً أو نصرانياً. قال تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (آل عمران:67). ولقد تحدث القرآن الكريم في أكثر من موضع عن تلك العلاقة الوثيقة بين رسُل الله أجمعين. قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (البقرة:285). ولقد عبّر الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن هذا التواصل والترابط أصدق تعبير في قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((مَثَلي ومَثَل الأنبياء قبلي كمَثَل رجُل بنَى بيتاً فأتمّه وأحسنه، إلاّ موضع لَبِنة. فكان الناس يمُرّون بالبناء يقولون ما أتمّه! ما أحسَنَه! لولا هذه اللّبِنة! فأنا هذه اللبنة. وأنا خاتم الأنبياء والمرسلين)).

من خصائص الدعوة الإسلامية (ب).

هذه العلاقة المتينة والصلة الوثيقة بين الرسُل والرسالات جميعاً، من خصائص الإسلام الذي يعمل على تدعيمها، ويُذكِّر بها من خلال القرآن الكريم والسُّنّة النبوية الشريفة. فالإيمان بجميع الأنبياء أصْل من أصول عقيدة الإسلام، ومن أهمّ خصائصه ومميزاته. والإيمان بجميع الرسُل يوجب الإيمان بكلّ ما جاؤوا به من عند الله من تشريعات، والتصديق بما أجرى الله على أيديهم من معجزات وأدلّة على أنّ جميع الأنبياء والمرسلين يجْمعهم منهج واحد. هذا ما سنتناوله في المحاضرة القادمة -إن شاء الله-. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. 2 - القاسم المشترَك بين الرّسل والأنبياء جميعا مِن خصائص الدّعوة الإسلاميّة (ب) وإنّ من خصائص الدعوة الإسلامية: أنها أقرّت تلك الرّوابط واعترفت بها ولم تُنكرها، رغم عدم اعتراف الآخّرين برسالة محمد -صلى الله عليه وسلم-. وهم -وإن اعترفوا بها ظاهراً، أو مداراة، أو حرصاً على مصالحهم في بلاد المسلمين- فهم في حقيقة أمْرهم لا يؤمنون بمحمد -صلى الله عليه وسلم-، ولا يطيقون حتى ذكْر اسمه. وهذا هو الفرْق الشاسع بين ما اختصّ به الإسلام نحو الرسالات السابقة، وبين ما يُضمره له الآخَرون من حقدٍ أسود وغلّ دفين، أسفر عن وجهٍ قبيح، وكشّر عن أنيابه في العدوان الذي يحصل على ديار المسلمين الآن. ويصحب هذا العدوان دعوات خبيثة وماكرة لحرمان الإسلام من خصوصيّة الهيمنة والتصحيح للأديان والمِلل الأخرى، والعمل على فقدان شخصيته المستقلّة وعقائده المتميزة، وعباداته وأخلاقه المتفرّدة، تحت دعاوى: لقاء الحضارات، وحوار الأديان،

وتلاحم الثقافات. وقد حفلت بهذا الأمر المنتدياتُ الفكريّة، وروّجت له وسائل الإعلام، وأقيمت له المؤتمرات، وشُكِّلت له اللِّجان، ورُصدت لذلك الأموال ... وهُرع إلى هذا الحوار بعضُ المسلمين الذي انخدعوا ببريقه، وتولّى كِبرَه مَن تغذّى على موائد الغرب، وانغمس في بريق حضارته المادّيّة الزائفة، حتى عمِيتْ بصيرتُه وطُمس قلبُه، وردّد ما يدعون إليه، دون أن يعرف أنّ هذه الدعاوى تُفقد الإسلامَ خصوصيّته وتطمس هويّته، لأنهم لا يَقبلون الحوار الذي يحمل بين ثناياه خصوصيّة الإسلام التي توجب على المسلمين أن يتحاوروا مع غيرهم، وأن يتجادلوا معهم بالحسنى، وفْقَ الضوابط التي وضعها القرآن الكريم في قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آل عمران:64). هذا في إطار قول الحقّ -تبارك وتعالى-: {وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (العنكبوت:46). فالإسلام لا يخشى الحوار، ولا يضيق بالمناقشة، طالما يُثمر في النهاية الرضوخ للحق، والإذعان للإسلام، أو مهادنته وحسن الجوار في رحابه. وإنّ من خصوصيّة الدعوة الإسلامية: أنها قامت على الحوار وحسْن المناقشة وسعة الصدر. فالرسول -صلى الله عليه وسلم- تحاور مع كفار مكة، وجادل يهود المدينة، وتناقش مع وفْد نصارى نجران. وجعفر بن أبي طالب -رضي الله عنه- تحدّث مع نجاشي الحبشة، وتحاورا في مسائل العقيدة النصرانية وموقف الإسلام منها.

وحوارات الإسلام ومجادلاته لا تحمل بين طيّاتها مداهنات النفاق، ولا تقبل التّخلي عن الثوابت العقائدية الإسلامية مجاملة للآخَرين. كما أنّ الإسلام لا يعرف اللقاء في منتصف الطريق، كما يروّج له دعاة هذا الحوار. وقد رفض الرسول -صلى الله عليه وسلم- ما عرَضتْه عليه قريش من تبادل العبادة بين الإسلام والشّرك، حيث قالوا: نعبد إلهك عاماً، وتعبد آلهتنا عاماً آخر؛ فنزل الله قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} (الكافرون: 1، 2). هذا، وممّا ينبغي أن يعرفه الدّعاة إلى الله: أنه تكْمن خلْف قضية "حوار الأديان": الأمور الخطيرة التالية: أولاً: أن يفقد الإسلام خصائصه العقائديّة والعباداتية والأخلاقية، ويصبح المسلم كالماء، لا طعم له، ولا لون، ولا رائحة. ثانياً: إضفاء صفة الشّرعية على المعتقدات الوثنية التي تحفل بها النصرانية، كعقيدة التثليث وما يتْبعها من طقوس لا تمُتّ إلى الدِّين الحقّ بصِلة. ثالثاً: تهميش دوْر الدِّين في الحياة الاجتماعية، سياسياً، وثقافياً، واقتصادياً. رابعاً: الانطلاق بالعقل والعلْم بعيداً عن ضوابط الدِّين وقواعد الأخلاق، ممّا ينتج عن ذلك: إفساد الفطرة بالتلاعب في الجينات الوراثية، وتخريب البيئة بأسلحة الدّمار. خامساً: الإيمان بالمحسوس، مع عدم الاهتمام بغير المحسوس، كالإيمان بالبعث والحشر، والثواب والعقاب؛ فهذه قضايا مستبعَدة في الفكر الغربي الحديث تماماً. سادساً: الانغماس في التّرف، وتحطيم مقوّمات الأسرة، وإباحة الشذوذ، تحت دعاوى الحرية، وحقوق الإنسان، وحقوق المرأة.

ربانية الدعوة الإسلامية.

سابعاً: إذكاء النّعرات الوطنية والقومية، وإضعاف وتوهين أيّ رابطة تقوم على الدِّين والعقيدة. ممّا سبق، تتّضح خطورة مثل هذه الدعاوى؛ وعلى الدعاة إلى الله: أن يتنبهوا إليها، وأن يقفوا على مكان الخطر فيها. {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (يوسف:21). ربّانيّة الدّعوة الإسلاميّة لقد خلق الله الإنسان في أحسن تقويم، وأودع بين حنايا نفْسه العقلَ الذي يُفكِّر به واللسان الذي ينطق، وخلَق في كيانه العواطف والمشاعر التي تختلف إدراكاتها وأحاسيسها من شخص لآخر. كما أنّ النفس البشرية تضمّ بين جوانبها العديد من الغرائز التي تتفاعل وتتصادم لإشباع رغباتها، إلى غير ذلك ممّا أبدعه الله في خلْق الإنسان من أسرار كشَفَ العلْم عن القليل منها، وما زال يُجهد نفسه للبحث عن أمور أخرى. قال تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} (الذاريات:21). هذا الخلْق المبدع والتصوير المبهر، لا أحَد من البشَر يعْلم أسراره أو يقف على حِكمة خلْقه، إلاّ الله -سبحانه وتعالى-، قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} (ق:16). يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: "يُخبر الله عن قُدرته على الإنسان، بأنه خالقُه، وعلْمه محيط بجميع أموره، حتى إنه تعالى يعلم ما توسوس به نفوس بني آدم من الخير والشر".

وعن هذه الإحاطة الشاملة بالكون والإنسان، يقول الله تعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} (طه:6، 7). فالله -سبحانه وتعالى- عليم خبير بأحوال العباد، يعلم ما يُحقِّق لهم السعادة وما يجلب لهم الشقاء؛ فجاءت التشريعات من خلال وحي السماء ورسالات الأنبياء، تتوافق وتتلاءم مع فطرة الإنسان التي فطَره الله عليها. فهذه التشريعات توازن بين متطلَّبات الروح والعقل، ورغبات الجسد، وتُراعي مصلحة الفرد في إطار مصلحة الجماعة، وتعمل على تناسق حياة الإنسان مع حركة الكون. هذا، وإنه ممّا تفرّدت به الدعوة إلى الله، واختصّت به عن غيرها من الرسالات السابقة: أن أحكامها وتشريعاتها فيما يخصّ العقائد والعبادات والمعاملات وحْي من الله تعالى، نزل به جبريل الأمين على رسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} (الشعراء:192 - 195)، وقال تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} (النجم:1 - 5). ولقد ترتب على ربّانية الدّعوة إلى الله ما يلي: أ- تناسقها مع فطرة الإنسان، وإشباعها لمتطلّبات الروح والجسد، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (الروم:30).

ب- كمال التشريعات وخلوّها من النقائض النقائص؛ فتشريعات الله كاملة سابغة، تُلبِّي حاجات الإنسان السّويّ، ولها صفة الدوام والاستمرار، وتلائم كلّ زمان ومكان، وتناسب كلّ أجناس البشّر، وهم جميعاً أمام شرع الله سواء، ممّا يُحقِّق العدل للإنسانية والأمن والاستقرار في العالَم. قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة:3). وكوْن هذه العقائد والتشريعات من قِبل المولى -سبحانه وتعالى-، ومن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإنّ هذا يُكسبها القداسة والهيبة والتعظيم، وأوجب للالتزام، وأدعى إلى سرعة الامتثال؛ فهي تشمل البشَر جميعاً، ولا يمتنع عن الإذعان لها أيّ إنسان مهما كانت مكانته. وليس لفرد أو هيئة أو جماعة أن تنال من هذه الأحكام، أو تُعطّلها، أو تحول دون تنفيذها. وإن محاولات إبعاد الإسلام بعقائده وتشريعاته عن مجالات الحياة المختلفة ذنْب لا يُغتفر وكفْر صريح. قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (المائدة:44)، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (المائدة:45)، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (المائدة:47). فتنوّع الحُكم على من يعمل على تعطيل شرْع الله مِن الكفْر إلى الظّلم إلى الفسق، بحسب موقف المعترِض، ودرجات جحوده وإنكاره وإغفاله؛ بل هناك قَسَمٌ عظيمٌ ونفْي صريح للإيمان عمّن يحول دون ربّانية الدّعوة، ويحول دون تطبيق شرْع الله، أو يجد في نفسه حرجاً أو ضيقاً كلّما انطلقت الدّعوة لتطبيق شرْع الله والتزام أحكامه. قال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء:65).

عالمية الدعوة الإسلامية.

بل لا وجه للمقارنة والاختيار بين ما شرعه الله للإنسان من أحكام، وبين ما يشرِّعه البشَر لأنفسهم من قوانين ونُظم وتشريعات، لم تحصد الإنسانية منها سوى استفحال الظّلم، واستعباد الشعوب، واشتعال الحروب، وتحوّل العالَم إلى غابة ضارية تفترس فيها الدّول القويّة الأممَ الضعيفة، وتصادر حقّها في العيش الآمن. قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِيناً} (الأحزاب:36). إنّ ربانيّة الدعوة الإسلامية تجعل الناس أمام أحكامها سواء، وتُشعِرُ البشَر بالاطمئنان فيما يصدر لهم أو ضدّهم من أحكام، لأنها مُجرّدة عن الهوى، وتبتعد عن الأنانية والأثَرة وحبّ الذات، وتوجب الالتزام بمنهج الله والدعوة إليه وتطبيقه. قال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} (المائدة:49). عالَميّة الدّعوة الإسلاميّة إنّ دعوات الأنبياء والمرسلين عبْر مسيرة البشرية كانت دعوات خاصّة تقتصر على قوم بعيْنهم، أو على أمم بذاتها، لا تتجاوز الدعوة حينذاك حدودَ تلك الأوطان والبيئات، إلاّ من خلال ما تتحدّث به القوافل والركبان، أو تنقله جهود بعض الأفراد أثناء الأسفار. ولقد ذكر القرآن الكريم أنّ من خصائص الدعوات السابقة: اقتصارها على قوم الرسول وعشيرته. قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} (هود:25).

{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (هود:50). {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (هود:61). {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً} (هود:84). وكذلك كوكبة أنبياء بني إسرائيل: يعقوب، ويوسف، وموسى، وداود، وسليمان، وزكريا ويحيى، وعيسى، -عليهم جميعاً أفضل الصلوات-، كانت دعواتهم تقتصر على بني إسرائيل خاصة. فلقد كان مطلب موسى -عليه السلام- من فرعون: إنقاذ بني إسرائيل من بطْشه واستخلاصهم من ظُلمه. قال تعالى آمراً موسى وهارون -عليهما السلام-: {فَأْتِيَاهُ فَقُولاَ إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرائيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} (طه:47). وعيسى -عليه السلام- اختصّ ببني إسرائيل دون غيرهم من أمم الأرض، قال تعالى: {وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} (آل عمران:49). وقال تعالى عن عيسى -عليه السلام-: {إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائيلَ} (الزُّخرُف:59). أمّا رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم-، فقد تجاوزت حدود الزمان والمكان، وتخطّت حواجز الأمم والشعوب، وانطلقت لتشمل كلّ الأجناس واللغات. فهي دعوة الله إلى الإنسانية جمعاء حتى قيام الساعة. بل تجاوزت عالَم الإنس إلى عالَم الجن. ولذلك كان القرآن الكريم، وهو معجزة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ودليل نبوته، معجزةً معنويةً لا ترتبط بحياة الرسول كمعجزات الأنبياء السابقين، بل مستمرّة متجدِّدة، كلها عطاء إلى يوم الدِّين.

والأدلّة على عالَميّة الدّعوة وعمومها من القرآن الكريم، ما يلي: 1 - قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} (الفرقان:1). 2 - {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} (الأعراف:158). 3 - {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} (سبأ:28). 4 - {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء:107). فالنصوص القرآنية تخاطب الناس جميعاً، لا تميّز قوماً على قوم، ولم تخاطب جنساً دون جنس. ولقد كثر النداء في القرآن الكريم: بـ {يَاَ أيُِّهََا النَّاس}، {يَا بَنِيِ آدَم}؛ بل توجد أكثر من أربعين آية يُذكر فيها الله -سبحانه وتعالى- بـ {رَبّ الْعَالَمِين} التي تصدّرت بها سورة (الفاتحة)، وهي تُقرأ في ركعات الصلاة. الأدلّة من السُّنّة على عالميّة الدّعوة وعمومها: 1 - قال -صلى الله عليه وسلم-: ((فُضِّلْتُ على الأنبياء بسِتّ، أعطيتُ جوامعَ الكلِم، ونُصرتُ بالرّعب، وأُحِلّت لي الغنائم، وجُعلت ليَ الأرضُ مسجداً وطهوراً، وأُرسِلتُ إلى الخلائق كافّة، وخُتم بيَ النّبيّون))، رواه مسلم. 2 - عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: ((والذي نفسي بيده! لا يسمَع بي أحدٌ من هذه الأمّة -يهوديٌ أو نصرانيّ- ولم يؤمن بالذي أُرسِلتُ به، إلاّ كان من أصحاب النار))، صحيح مسلم. ولقد خطا الرسول -صلى الله عليه وسلم- خطوات عمليّة لتحقيق عالَمية الدّعوة إلى الله، وذلك من خلال كُتبه ورُسله إلى الملوك والأمراء؛ فأرسل إلى كسرى ملِك الفُرس، وإلى هرقل إمبراطور الروم، والمقوقس عظيم القبط في مصر، وأمراء الشام واليمن.

ولم ينتقل -صلى الله عليه وسلم- إلى الرفيق الأعلى إلاّ بعد أن ردّد الكون صدَى دعْوتِه، وفُتحت لها القلوب والأمصار. وقد أخبر القرآن الكريم: أنّ الإسلام سينتشر ويعمّ أرجاء الكون؛ قال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاَغاً لِقَوْمٍ عَابِدِينَ * وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء:105، 106). وعن تحقيق عالَميّة الإسلام، قال -صلى الله عليه وسلم- ما معناه: "إنّ الله طوَى لي مشارق الأرض ومغاربَها، وإنّ هذا الأمْر سيبلغ ما بلغ الليلُ والنهار، يُعز الله به عزيزاً، ويُذلّ به ذليلاً. يُعزّ به الإسلام وأهلَه، ويُذلّ به الكفر وأهلَه". وإن الواقع -والحمد لله- يُبشِّر بهذا الفتح المبين؛ فالإسلام رغم إمكانيات دُعاته المحدودة، بل المعدومة، ورغم ضراوة أعداء الإسلام له، وحرْبهم الشعواء عليه، فإنه ينتشر خيرُه وتعمّ هدايته للبشريه، وما من بقعة من بقاع الأرض إلاّ وصوت الإسلام يعلو فيها. قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (النور:55).

الدرس: 12 تابع: من خصائص الدعوة الإسلامية.

الدرس: 12 تابع: من خصائص الدعوة الإسلامية.

من خصائص دعوة الإسلام: أنها خاتمة الرسالات السابقة.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثاني عشر (تابع: من خصائص الدعوة الإسلامية) 1 - من خصائص الدعوة الإسلامية من خصائص دعوة الإسلام: أنها خاتِمة الرّسالات السابقة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين. أما بعد: فما زالت هذه المحاضرات تتواصل حول خصائص الدّعوة إلى الله. لقد انتهت روافد الأنبياء والمرسلين الذين بعثهم الله إلى الخلْق عبْر مسيرة الجنس البشري، إلى محمد -صلى الله عليه وسلم-، الذي خُتمت به النبوات والرسالات، وانقطع الوحي من بعده فلم يَعُد يتنزّل على أحد من البشَر غيره -صلى الله عليه وسلم-. قال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} (الأحزاب:40). فهذه الآية نصّ صريح: أنه لا نبيّ بَعده -صلى الله عليه وسلم-. وإذا كان لا نبيّ بَعده، فأيضاً لا دِين غير دِين الإسلام يقترن به أو يتساوى معه، قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} (آل عمران:19). وقال تعالى في نصّ صريح واضح: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (آل عمران:85). فالأديان السماوية المتواجدة الآن -وهي: اليهودية والنصرانية- أشبهُ بعملة تذكارية انتهى التّداول بها لِما حلّ بهذه العملة من تزييف وتغيير، والأوْلى بها أن تُحفظ في متاحف التاريخ، لوجود عُملة جديدة يصعب تزييفها، ولا يستغني الناس عنها. وإنه من الخطإ العلمي، والانحراف الفكري، والتضليل العقائدي: الزعم بوضع الأديان الثلاثة على قَدَم المساواة. فكيف بدينٍ انقطعت معجزاتُه، وتبدّلت معتقَداتُه، وحُرِّفت مصادرُه، وتنكّر له أهله، وقطعوا صلته بالحياة إلاّ من طقوس مبهَمة وترانيم غامضة، يتساوى

بدين معجزته قائمة ومحفوظة، وهي: القرآن الكريم، دِين كلّ عبادة فيه تنبض بالحركة وتُدير سفينة الحياة على الوجه الأمثل والأكمل. إنه منذ أشرقت شمس الإسلام على الدنيا، وبسط جناحيْه بالقرآن والسُّنّة على العالَم، والأديان السابقة تعيش في كنفه، وتحظى برعايته، ما دامت تحفظ العهد وتصون الودّ، ولا تفكّر في العدوان عليه. وما كان غير المسلمين يحلمون يوماً أن تكون لهم هامة تقترب من هامة الإسلام، وما فكّروا يوماً أن يقفوا منه موقف النِّدّ للنِّدّ، لأنهم يعرفون حقيقة ما بين أيديهم من دِين انقطعت صلته بوحي السماء، ولا يُعلم عن مصادره شيء، ويعلمون حق العلْم ما لدى المسلمين من دين موصولٍ بالسماء في كل لحظة. قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (الأنعام:20). ولكن للأسف تطوّع بعض العلماء من المسلمين -إمّا جهلاً، أو نفاقاً، أو طمعاً في منصب، أو عَرَض من أعراض الدنيا-، فأنزلوا الإسلام الشامخ من عليائه، ليضعوه في مصافّ أديان فقَدت أصولَها، وضعفت فروعها، حتى وجدنا بعضَهم يتأوّل في تفسير النصوص، ويلوي عنق الأدلة، ليوافق أهواء الآخَرين في وضْع أديانهم على قدَم المساواة بالإسلام. وهم بهذا يُنكرون أمراً معلوماً من الدِّين بالضرورة، وهو: نسْخ الإسلام لكلّ الديانات السابقة، وختْم نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- لكلّ النبوات والرسالات. فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إنّ الرسالة والنبوّة قد انقطعت، فلا رسول بعدي ولا نبيّ)). قال: فشق ذلك على الناس. فقال: ((ولكن المبشّرات)). قالوا: يا رسول الله. وما المبشِّرات؟ قال: ((رؤيا الرّجل المسلم، وهي جزءٌ من أجزاء النبوة))، رواه الترمذي وقال: "صحيح غريب".

وعن العرباض بن سارية -رضي الله عنه- قال: قال لي النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((إني عند الله لخاتم النبيِّين، وإن آدم لمجندل في طينته))، رواه أحمد. وعن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إن لي أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله تعالى بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يُحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب الذي ليس بعده نبي))، أخرجه الشيخان. ونسوق لأولئك القوم الذين انساقوا طوعاً أو كرهاً لرغبات الغرب، ووقعوا في شباكه تحت مسمَّى: "حوار الحضارات" و"لقاء الأديان"، فتخلَّوْا عن ثوابت الإسلام: نصوصاً من الأناجيل التي بين أيدي النصارى الآن، تشير بوضوح وصراحة إلى أنّ الإسلام هو خاتم الرسالات. كما أشار إلى ختم النبوة والرسالة بعض نصوص العهد القديم. فممّا جاء في العهد القديم: "جاء الرّبّ من سيناء، وأشرق لنا من ساعير، وتلألأ من جبال فاران". ويذكر العلماء أنّ هذه العبارة تشير إلى أماكن نزول الوحي: فالمجيء من سيناء: إشارة إلى رسالة موسى -عليه السلام-. والإشراق من ساعير: دلالة على رسالة -عيسى عليه السلام-. والتلألأ من جبال فاران: تنبيه على رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ فإن جبل فاران هو أحد جبال مكة. وهذا ما تشير إليه سورة (التين)، قال تعالى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} (التين:1 - 3). فلقد أقسم الله تعالى بهذه المواطن الثلاثة التي شهدت وحي السماء لأنبياء الله تعالى الثلاثة: عيسى، وموسى، ومحمد -عليهم جميعاً الصلاة والسلام-.

وإن قصْر اسم الإشارة على هذا البلد الأمين في قوله: {وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} دلالة على وجود الإسلام واستمراره، وأنّ مكة المكرمة والكعبة المشرّفة سيَظلاّن محطّ أنظار المسلمين وقِبلتهم، لأن اسم الإشارة لا يشار به إلاّ إلى شيء واقعٍ وموجود ومُحَسّ ومُشاهَد. ولقد جاء في "إنجيل متّى"، (الإصحاح: 21)، قول عيسى -عليه السلام- لقومه: "ما قرأتم قطّ في الكتب الحجَر الذي رفضه البنّاؤون، قد صار رأس الزاوية من قِبل الرّبّ. كان هذا عجيباً في أعيننا؛ لذلك أقول لكم: إن ملكوت الله يُنزع منكم ويُعطي لأمة تعمل أثماره". وهذا ما أشار إليه الرسول -صلى الله عليه وسلم-: فقد روي عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((مَثَلي ومَثَل الأنبياء كمَثَل رجُل بنى داراً فأكملها وأحسنها، إلاّ موضع لَبِنة. فكان مَن دخَلها فنظر إليها قال: ما أحسنها! إلاّ موضع هذه اللّبنة! فأنا موضع اللّبنة؛ خُتم بي الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-))، رواه البخاري ومسلم. وجاء أيضاً في "إنجيل يوحنا" (الإصحاح: 20 - 24): قول عيسى -عليه السلام- للمرأة السّامريّة عن تحويل القِبلة التي يصلي إليها بنو إسرائيل إلى قِبلة أخرى، ولم تتغيّر القبلة إلاّ على يد محمد -صلى الله عليه وسلم-. يقول الإنجيل: "إن المرأة السّامريّة قالت ليسوع: آباؤنا سجدوا في هذا الجبل، وأنتم تقولون: إن في أورشليم الموضع الذي ينبغي أن يسجدوا فيه. قال لها يسوع -أي: عيسى -عليه السلام-: "يا امرأة. صدقيني. إنه تأتي ساعة لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون لله. الله روح، والذي يسجدون له؛ فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا".

الإسلام نظام شامل لكل شؤون الحياة.

وهكذا تتابع الأدلة من بقايا الكتب السماوية رغم تحريفها، أو حرمان الكنيسة من قراءتها كإنجيل برنابا، الذي أشار إشارات صريحة إلى رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- على كون الإسلام هو الدِّين الخاتم لكلّ الرسالات، وأن شريعته ناسخة لغيرها من الشرائع. قال تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} (آل عمران:83). الإسلام نظام شامل لِكلّ شؤون الحياة الإنسان في هذا الكون مُتعدِّد العلاقات، متشابك المصالح والمنافع، متصادم الرغبات، بين ما يحمله بين ثنايا نفسه من الأنانية والأثرة وحب الذات، وما تُمليه عليه مصلحته من التعاون مع أفراد مجتمعه من خلال علاقاته الأُسَرية والاجتماعية. وقبل هذا فهو خلْق من مخلوقات الله وأثَر من آثار قُدرته، يجب عليه طاعته وعبادته. والطاعة والعبادة لله يمنعان النفس البشرية من الاندفاع وراء نزواتها وشهواتها، فضلاً عن علاقة الإنسان بكل مظاهر الكون من حوله، من حيوان أو نبات أو جماد. فالبشر في حاجة إلى تشريع متكامل يُحقِّق الرغبات، ويفي بالحاجات، ويحول دون التصادم والتعارض، ويعادل ويوازن بين الدوافع والموانع، بين الأوامر والنواهي، بين الحلال والحرام، بين الحق والباطل، بين الظلم والعدل، بين الإيمان والكفر. وليس غير الإسلام وحده الذي يفي بالغرض. فهو نظام إلهي شامل لجميع شؤون الحياة موجِّه لسلوك الإنسان، منظِّم لعلاقة الإنسان بربّه من خلال العقائد والعبادات، ومنسِّق لعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان

من خلال الأخلاق والمعاملات الإسلامية. وشمول الإسلام لشؤون الحياة وسلوك الإنسان هو شمول عام محيط بكل أمور الدِّين والدنيا، لا يقبل تخصيصاً ولا استثناءً؛ فالبشر جميعاً في دائرة أحكامه سواء، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: ((الناس سواسية كأسنان المشط، لا فضْل لعربيّ على أعجمي، ولا لأبيض على أسود، إلاّ بالتقوى والعمل الصالح. كلّكم لآدم، وآدم من تراب. إنّ أكرمَكم عند الله أتقاكم)). وهذا هو الفرق بين الإسلام في شمول تعاليمه، وبين شرائع وقوانين البشَر التي تعالج أمور الإنسان من زاوية خاصّة بهذا التشريع، ولا شأن لها بالأمور الأخرى. والمسلم أمام شرع الله يجب أن يؤمن به كلّه، وأن يلتزم بكلّ ما أمر الله به، وأن يجتنب كلّ ما نهى الله عنه. فليس من كمال الإيمان: أن يأخذ الإنسان من الدِّين ما يُحقِّق منفعته الذاتية ورغباته، ويُبعد ما يحول دون شهواته ورغباته. قال تعالى محذِّراً من تجزئة الأحكام الشرعية وأخْذ البعض وتعطيل البعض الآخر: {أََفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (البقرة:85). كما ليس من صحيح الإيمان أن يُستعاض عن شرع الله بما شرعه البشَر من قوانين ونُظم، قال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (المائدة:50). فالإسلام عبر تشريعاته يهتمّ بالإنسان من حيث تكوينه النفسي والجسدي، فنظَّم الغرائز كغريزة حبّ التملك أو الجنس وغيرهما، فلا يحرمه منها. ولم يترك له الانغماس فيها، والوقوع في براثن شهواتها، ولكنّه يلائم وينسِّق بين رغبات الجسم ومتطلبات الروح، ويوازن بين متطلّبات الفرد ومصلحة المجتمع دون إفراط أو تفريط. ولم يَنْحُ نحو المسيحية في الانخراط في سلك الرهبانية والانعزال

عن الدنيا، وفصْل الدِّين عن المجتمع وَفْق مقولة خاطئة: "دعْ ما لقيصر لقيصر، وما لله لله". ولم ينهج نهج اليهودية التي اتّسمت بالمادية المطْلَقة. ولكنه وضع التشريعات التي تتّسم بالإحاطة والشمول، وتتناول حياة الإنسان منذ ولادته، وحتى يخرج من هذه الحياة. فأنّى تلفّت المسلم في حياته اليومية، أو خطا خطوات في جانب من جوانب الحياة -سياسية، أو اقتصادية، أو ثقافية، أو اجتماعية- إلا وجد شرائع الإسلام وأحكامه مِن حوله تحوطه بالعناية والرعاية، وتكبح جماح شهواته في حنو ورحمة، وتأخذ بيده في سهولة ويسر، وتسمو بالإنسان في بساطة وإقناع. والشمول والإحاطة التي اختصّ بها الإسلام نظّمتها التشريعات والأحكام التالية: 1 - كل ما يتعلق بعلاقة الإنسان بخالقه، كالإيمان بوجود الله ووحدانيته، والتصديق بكتبه ورسُله واليوم الآخر، والتسليم بالقضاء والقدَر، والرّضى بما قسم الله من أرزاق، والتزام العبودية والطاعة من خلال ما يؤدّى من عبادات كالصلاة والصوم والزكاة والحج، وغير ذلك من العبادات التطوعية التي توثِّق الصلة بين الخلْق والخالق سبحانه. 2 - الأحكام التي تتعلّق بتنظيم علاقات الأفراد فيما بينهم. وهذه على أنواع منها: أ- أحكام الأسْرة من: نكاح، وطلاق، وميراث، ونفقة، وغيرها ... وتسمَّى في الاصطلاح الحديث بـ"أحكام الأسرة، أو "قوانين الأحوال الشخصية". ب- أحكام تتعلّق بالقضاء، والدّعوى، وأصول الحُكم، والشهادة، واليمين. وهي تدخل فيما يسمَّى بـ"قانون المرافعات".

ج- أحكام تتعلّق بعلاقات الأفراد ومعاملاتهم، كالبيع، والرّهن، والإجارة، والكفالة. وهي تسمَّى في الاصطلاح الحديث بـ"أحكام المعاملات المالية"، أو "القانون المدني". د- أحكام تتعلّق بمعاملات الأجانب غير المسلمين، عند دخولهم إلى أقاليم الدّولة الإسلامية، والحقوق التي يتمتّعون بها، والتكاليف التي يلتزمون بها. وهذه الأحكام تدخل فيما يسمَّى اليوم بـ"القانون الدّولي الخاصّ". هـ- الأحكام التي تتعلّق بتنظيم علاقات الدولة الإسلامية بالدّول الأخرى في السّلم والحرب، وتدخل اليوم فيما يسمّى بـ"القانون الدّولي العامّ". وأحكام تتعلّق بنظام الحُكم وقواعده، وكيفية اختيار رئيس الدولة وشكل الحكومة، وعلاقة الأفراد بها، وحقوقهم إزاءها. وهي ما يُطلق عليه بـ"القانون الدستوري". ز- ما يتعلّق بموارد الدولة ومصارفها، وتنظيم العلاقات المالية بين الأفراد والدولة، وبين الأغنياء والفقراء. وهي تدخل في "القانون المالي" بمختلف فروعه. ح- أحكام تتعلّق بتحديد علاقة الفرد بالدولة، من جهة الأفعال المنهيّ عنها. ومن بين ثنايا هذه التشريعات، يبرز الإسلام كنظام فريد تتضاءل أمامه كلّ تشريعات الشرق والغرب، ولا يقارَن به دِين من الأديان أو شريعة من الشرائع، لأن الله تكفّل بحِفْظه، وضمن له الخلود والبقاء. وصان القرآن الكريم الذي هو مصدر تلك التشريعات، من التحريف والتغيير. قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فُصِّلَت:41، 42).

ثبوت مصادر الإسلام وسلامتها من التحريف.

ثبوت مصادر الإسلام وسلامتها من التّحريف من الثوابت العلْمية والحقائق التاريخية: أنّ الرسالات السماوية السابقة عن الإسلام قد انقطعت أخبارُها، واندثرت معالمُها، وانتهت مصادرُها إلى مجاهل التاريخ وزوايا النسيان. ولم يعُدْ من تلك الأديان ما يتردّد فيه نبض الحياة، سوى الديانتيْن: اليهودية والنصرانية. حتى أن نبض هاتيْن الديانتيْن أصبح نبضاً ضعيفاً، بل كاد يتوقّف لِما حلّ بهما من تغيير وتبديل؛ فلقد امتدّت إليهما أيدي أحبار اليهود ورهبان النصارى بالتحريف زيادةً ونقصاً ثم احتدم الخلاف واشتدّ الجدال حول مسائل العقيدة في الديانتيْن، فضاق بهما أصحابهما، ودفعوا بهما خلْف جدران البِيَع والكنائس والأدْيِرة. وقامت الثورات في أوروبا تُنحِّي الدين عنها وتُبعده عن الحياة. وكان من شعار الثورة الفرنسية: "اقضوا على آخِر ملِك بأمعاء آخِر قسّيس". فتعاظم شأن الإلحاد، وتم فصْل الدِّين عن الدولة، واستعاضت أوروبا عن الدِّين بالقوانين الوضعية التي لا تمتّ بصلة لوحي السماء ورسالات الأنبياء، وإنما هي مزيج من الحضارتيْن اليونانية والرومانية، مع صبغهما بصباغ المسيحية التي وضع أصولها بولس الرسول الذي غيّر معالمها الحقة؛ ومن ثم لم يَعُد الدِّين هو المُوجِّه للحضارة الغربية المعاصرة. أمّا الإسلام العظيم فإن ممّا اختص به وتميّز عن سائر الدّعوات السابقة عليه: ثبوت مصادره، وقدسية نصوصه، وبقاء ونقاء ثوابته الشرعية وأصوله التشريعية، لأن الله تعالى قد تكفّل بحفظه، فقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحِجر:9).

ولقد بدا هذا الحفظ الإلهي واضحاً جلياً، لم ينل منه تتابع القرون، ولم تضعفه الأحداث الجسام التي واكبت تاريخ الإسلام. ولم تتغيّر قواعد حجّيّته وقوة أدلّته أمام الحقد الأسود والغلّ الدفين الذي يُضمره له أعداؤه منذ محاولات المشركين في مكة حينما أرادوا صرف الناس عن القرآن بأي صورة. قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} (فُصِّلَت:26)، إلى الادعاء الكاذب أنه ليس من عند الله، وإنما تلقاه -صلى الله عليه وسلم- من رجُل أعجمي في مكة، قال تعالى مفنِّداً مزاعمَهم: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} (النحل:103). ولقد زاد الإمعان والإصرار عبر مراحل التاريخ للنّيْل من مصادر الإسلام، واتّخذ صوراً عِدةً منها: أ- إنكار أنّ القرآن من عند الله. ب- التشكيك في القصص التاريخيّ للقرآن الكريم. ج- وضع الإسرائيليات في كتب التفسير، تشويهاً لمعاني القرآن الكريم. د- إنكار حجّيّة السُّنّة والنّيْل من رواتها وتجريحهم. هـ- محاولات التحريف المستمرة من أعداء الإسلام للقرآن الكريم، وذلك بطبع المصحف الشريف وبه تغيير لبعض الكلمات التي تُخِلّ بالمعنى. وآخر هذه المحاولات الخبيثة: ما قامت به الصهيونية العالمية التي تساندها قوى الشر والبغي التي تخشى الإسلام وحضارته، بطبع ما يسمى بـ"الفرقان الحق" بديلاً عن القرآن الكريم، وُضعت فيه سورً وآيات تتّفق وأغراضهم الخبيثة، ألا ساء ما يمكرون. قال تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (آل عمران:54).

فعلى الرغم من هذه المحاولات وغيرها، فإنّ مصادر الإسلام وبراهين أدلّته ودعائم شريعته نقيّة بيضاء، قيّض الله لها كلّ عوامل الحفظ، وضمن لها كلّ دوافع البقاء والاستمرار، وصانها من كل جوانب التحريف والتغيير. ولم يُرد الحق -سبحانه وتعالى- لأيّ دِين أو مذهب أو حضارة هيمنةً عليها أو احتواءً لها. هذا الكلام لا تُمليه العواطف، وإنما يُثبته البحث العلمي المنصف. وقد أقرّ بثبات مصادر الإسلام وسلامتها من التحريف والتغيير إجماعُ علماء المسلمين في كلّ العصور، وكذلك العلماء المُنصفون من غير المسلمين، الذين اعترفوا بتلك الحقيقة، وتبيّن لهم الفرْق الكبير والبوْن الشاسع بين ما عليه الإسلام من قواعد وأسُس سليمة ومحفوظة ومصونةٍ بقدرة الله، ثم بجهود العلماء من سلَف الأمّة وخلَفها، وبين أديان تهاوتْ قواعدُها، واضطربت مصادرُها، وأهملها أصحابُها، وعفا عليها الزمن، وطوتْها سحائب النسيان، وغدتْ في هامش الشعور لأتباعها. أمّا الإسلام، فهو -ولله الحمد- ما يزال في بؤرة شعور الأمّة وهو محطّ اهتمامها، وإنّ مصادره من القرآن الكريم والسّنة النبوية الشريفة، وسائر المصادر الأخرى، هي في عقلها وقلبها، ومحلّ عناية العلماء والمجتهدين في كل عصر ومصر. وإن بدتْ في هذه الأيام بعض أمارات ضعف المسلمين، وهوانهم على أعدائهم، وتخاذلهم في الدّفاع عن دينهم ومقدّساتهم، وإن ظهرت بعض الأصوات النشاز من بعض أبناء المسلمين عرب اللسان أعاجم العقل والفكر، ينالون من هذه المصادر، ويتهجّمون عليها، ويجعلون من أنفسهم أبواقاً مضلّلة للحضارة الغربية وثقافتها، فإن هذه الأمور عرض زائل، وظلمة ليل ستنقشع،

ومرحلة موقوتة وعابرة لن يكتب لها استمرار الحياة. قال تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} (الرعد:17). فعوامل بقاء الإسلام ومصادره وثوابته، ستظل باقية ومصونة ومحفوظة، لأنّها محاطة بتحصين الله لها، وبما يقيّضه الله -سبحانه وتعالى- لهذا الدِّين في كلّ زمان ومكان من بعض أبنائه من العلماء والدّعاة، مَن يُجدِّد أموره، ويحمي مصادره، ويصون ثوابته، ويَنفي شوائبه، ويدافع عنه. قال -صلى الله عليه وسلم-: ((إنّ الله يَبعث على رأس كلِّ مائة سَنة مَن يُجدِّد لهذه الأمّة أمْرَ دينها)). {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عَابِدِينَ * وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء:105).

الدرس: 13 تابع: من خصائص الدعوة الإسلامية.

الدرس: 13 تابع: من خصائص الدعوة الإسلامية.

توافق الدعوة مع العقل والفطرة.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثالث عشر (تابع: من خصائص الدعوة الإسلامية) 1 - من خصائص دعْوة الإسلام توافُق الدّعوة مع العقل والفطرة ُ إنّ ممّا تفرد به الإسلام أنه دِين لا يتعارض مع العقول السليمة، ولا يصادم الفكر السّديد، ولا يتناقض مع الفطرة النّقيّة. ومن خلال التّعريف اللّغوي والاصطلاحي للعقل، يبرز مدى الارتباط بين شرْع الله وأحكامه، وبين العقل وخصائصه. "العقل" هو: العلْم بصفات الأشياء، مِن حُسْنها وقُبْحها، وكمالها ونقصانها، أو العلْم بخير الخيريْن وشرّ الشّرّيْن، أو هو: القوة التي يكون بها التمييز بين القبح والحسن، وأنه نور روحاني به تُدرك النفس العلوم الضرورية والنظرية. وسُمي عقلاً؛ لأنه يعقل صاحبه عن التّورّط في المهالك. والعاقل: هو الإنسان المدرِك الفاهم للشيء، أو هو الذي يَحبس نفسه ويردّها عن هواها أخذاً من قولهم: "اعتُقِلَ لسانه، إذا حُبس ومُنع الكلام". والشيء المعقول: ما يعتقله الإنسان بعقله، ويطمئنّ له قلبه، وينشرح له صدره. مكانة العقل في الإسلام: حظي العقل في رحاب الإسلام بمكانة سامية ومنزلة عليا، وقد أشار -صلى الله عليه وسلم- إلى هذه المكانة في قوله: ((ما خَلق الله خلقاً أكْرمَ من العقل))، وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((ما كسب أحدٌ شيئاً أفضلَ من عقلٍ يهديه إلى هدىً، أو يَرُدّه عن ردىً)). ولقد امتدح القرآن الكريم أصحاب العقول السليمة التي تَهدي إلى الحق، فكلّ أمر حسنٍ ذي بالٍ يوصف أصحابه بالعقل والعلم. قال تعالى: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ} (العنكبوت:43).

وكل موضع يذمّ فيه الكفّار، يكون بسبب الجهل وفقدان العقل الراشد والفكر السديد، قال تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} (البقرة:171). ولقد أطلق القرآن الكريم أسماءً كثيرة على العقل، ممّا يدلّ على شرف المسمَّى ومكانته؛ ومن ذلك ما يلي: أ- الفؤاد: وهو الذي تستقرّ فيه العلوم والمعارف الثابتة والعقائد الراسخة، مقترنة بشحنة من العواطف. قال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} (الإسراء:36). ب- اللُب: وهو الدائرة الواقعة في عمق مركز التفكير، وهو مركز استقرار المعرفة العلْمية، ومركز التّذكّر والاعتبار والاتّعاظ، وعنه تصدر النتائج الفكرية إلى الفؤاد والقلب والصدر، لتحريك العواطف. قال تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الْأَلْبَابِ} (البقرة:269). ولقد وصف الله -سبحانه وتعالى- المتّقين من عباده الذين يتفكّرون في خلْق السماوات والأرض، ويشاهدون عظَمة الخالق لهذا الكون، ويعلمون مدى حاجة البشر إلى شرع الله الحكيم، بأنهم: "أولو الألباب"؛ قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (آل عمران:190، 191). كما يُطلق على العقلاء بأنهم "أولو النُّهَى"؛ قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لأُولِي النُّهَى} (طه:54)، وأنهم "ذوو حِجْر"، أي: عقل وفهم وإدراك؛ قال تعالى: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} (الفجر:5).

أي: لِذي عقل ولبّ وحِجا. وإنما سمي العقل "حِجْراً" "لأنه يمنع الإنسان من تعاطي ما لا يليق به من الأفعال والأقوال، ومنه: حِجر البيت الحرام، لأنه يمنع الطائف من اللّصوق بجدره". حفظ الإسلام للعقل: حرص الإسلام على العناية بالعقل والمحافظة عليه، وذلك بما يلي: أولاً: حرَّم الإسلام تحريماً قاطعاً كلّ ما يُذْهِب العقل ويُغيِّب الفكر، وجعَل المحافظة على سلامة العقول إحدى ضروريات الإنسان الخمْس، وهي: النفْس، والدِّين، والعقل، والعِرض، والمال. ولذلك حرّم الله الخمر والمُسكرات والمُفتِّرات بكافة أنواعها، السائلة منها والجامدة، ما يُشرب منها وما يُحقن أو يُشمّ، وكلّ ما يُخامر العقل ويَستره ويُغطّيه. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (المائدة:90، 91). وعن أنس -رضي الله عنه- قال: ((لعَن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الخمر عشرة: عاصرَها ومُعتصرَها، وشاربَها، وحاملَها، والمحمولةَ إليه، وساقيها، وبائعَها، وآكلَ ثمنها، والمشتري لها، والمشترَى له))، رواه ابن ماجة والترمذي. ثانياً: أطلق الإسلام للعقل عنان الفكر بما لا يتصادم مع عقائد الدِّين وثوابت الشّرع، ومنَحه حرية التعبير عما يجيش بعقله؛ فلا يصادر الإسلام رأياً، ولا يكبت فكراً، إلاّ إذا كان فكراً يُنكر ما هو معلوم من الدِّين بالضرورة، أو يعارض قاعدة من قواعد الشريعة الإسلامية، أو يخالف فطرة الله التي فطر الناس

عليها، كأن يُزيّن لفاحشة، أو يدعو إلى مُنكَر من خلال الفنّ الساقط والأدب الرخيص. ولقد أعطى الإسلام الحرية للعقل في مجالات كثيرة، ووضع له الضوابط التي تحول بينه وبين الانحراف في الفكر، والضلال في الرأي. ومن ذلك: أ- النظر في ملكوت السماوات والأرض، قال تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لاَ يُؤْمِنُونَ} (يونس:101). ب- إمعان الفكر في النفس البشرية، وما تحمل بين ثناياها من آيات العظمة، ودلائل القدرة، وأسرار الخلْق؛ قال تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ * وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} (الذاريات:21، 22)، وقال تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ} (الطارق:5). ج- أن يبني العقل أفكاره على الدليل القاطع والبرهان الساطع، والعلْم الذي يقوم على اليقين، وأن يبتعد عن التخمين والظن وعدم البرهان؛ قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (الأحقاف:4)، وقال تعالى: {أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (النمل:64). وقد طلب الله من المعاندين والمعارضين لِدعوة الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يخرجوا ما لديهم من علْم، وما تحت أيديهم من أدلّة؛ قال تعالى: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ} (الأنعام:148).

د- أن يتمهّل العقل في الحُكم على الأشياء، وأن يتأنّى للوصول إلى الحقيقة. وينبغي أن تتعاون العقول وتتلامح الأفكار، لمعرفة الحقّ والصواب. قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} (سبأ:46). هـ- أن يتحرّر العقل من اتّباع الهوى؛ قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} (الجاثية:23)، وأن يتخلّص من مؤثِّرات البيئات المُنحرفة، ومن عادات وتقاليد ما توارث عن الآباء من عادات وتقاليد تتنافى مع صحيح العقيدة. قال تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلونَ * وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ * أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ * بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ * وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} (الزُّخرُف:19 - 23). وهكذا يتعانق العقل ويتصافح مع الإسلام في مودّة صادقة وتعاون مستمر، لبناء حضارة إنسانية مرتبطة بوحي السماء ورسالات الأنبياء، التي تزيل غشاوة العقول، وتذيب صدأ القلوب، وتحقّق للإنسان ما خلَقه الله لأجله. أمّا حينما ينطلق العقل الإنساني بعيداً عن ضوابط الشّرع، ويندفع وراء الأهواء والظّنون، ويتّبع خطوات الشيطان الذي يُزيِّنُ له الانحراف في الفكر تحت مسمَّى الحرية، والضلال في الرأي تحت دعاوى الإبداع، فإنه يكون كالجواد الجامح وكالثور الهائج الذي يُحطِّم كلّ ما حوله. وإنّ ما تشاهده البشرية من انحراف في العقيدة،

وسطية الدعوة وملاءمتها للفطرة.

وإفساد للنظرة، ونزوع للشهوات، وميل شديد إلى الظلم واستعباد الشعوب وإشعال الحروب، ما هو إلا حصادٌ سيِّئ لانفلات العقل، وفساد الفكر، واتّباع الهوى. قال تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (فاطر:8). 2 - من خصائص دعوة الإسلام وسطيّة الدعوة وملاءمتها للفطرة الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: إنّ من خصائص الدعوة إلى الله: أنها تقوم على التّوسّط والاعتدال ومراعاة وملاءمة الفطرة الإنسانية، فلا تميل للغلوّ، ولا تجنح للتشرّد، وتنأى عن الإفراط والتفريط. فهي تراعي العدل في التشريع، والوسطيّة في العقائد والعبادات؛ قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} (البقرة:143). فمعنى الوسط في الآية، أي: عُدولاً لتتوافر في المسلمين الشهادةُ على الأمم السابقة. أو معنى الوسط: الوقوع في المنتصف بين الأمريْن، فتعاليم الإسلام وسط في الأحكام لا تُلحِقُ بالإنسان مشقّة، ولا تُنْزِل به حرجاً، ولا تُسبِّب له ضيقاً أو عنتاً. قال تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (المائدة:6). إنّ السماحة والرحمة والتوسط والاعتدال هي من أخلاق الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومعْلَم ظاهر في شخصيته. فقد روى البخاري عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالت: ((ما خُيِّر رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- بيْن أمريْن إلاّ اختار أيسرَهما ما لم يكن إثماً. فإن كان إثماً كان أبعدَ الناس منه)).

وقد ذكَر القرآن الكريم: أنّ سهولة العبادات ويُسْر الطاعات أمْر مشترَك بين الرسالات السماوية، فقال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} (الحج:78). وقد نهى -صلى الله عليه وسلم- عن التّنطّع في الدِّين، والغلوّ في الفكر، والتشدد في العبادة. فعن ابن مسعود -رضي الله عنه-، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((هلك المتنطعون -قالها ثلاثاً-))، رواه مسلم. والتنطع هو: المبالغة في العبادة. وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إنّ مِن أحبِّكم إليّ وأقربكم منِّي مجلساً يوم القيامة: أحاسنكم أخلاقاً. وإنّ أبغضَكم إليّ وأبعدَكم منِّي مجالس يوم القيامة: الثرثارون، والمُتشدِّقون، والمُتفيْهقون))، رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن". وعن عمر -رضي الله تعالى عنه- قال: ((نُهينا عن التّكلّف))، رواه البخاري. وقال تعالى لرسوله -صلى الله عليه وسلم-: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} (ص:86). وعن منهج الدّعوة إلى الله في التيسير وعدم التعسير، روى أنس -رضي الله تعالى عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: ((يَسِّروا ولا تُعسِّروا، وبشِّروا ولا تُنَفِّروا))، متفق عليه. وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((إنّ الدِّين يُسر، ولن يُشادّ أحدٌ الدِّين إلاّ غلَبه؛ فسدِّدوا وقاربوا، وأبشروا. واستعينوا بالغدْوة والرّوْحة وشيء من الدُلْجة))، رواه البخاري. وعن ابن مسعود -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ألا أخبركم بمن يَحْرمُ أو بمن تحرم عليه النار؟ تحرم على كلّ قريب هيِّن سهْل))، رواه الترمذي وقال: "حديث حسن".

قواعد الاعتدال والتوسط.

وإنه من الاعتقاد الخاطئ: اعتقادُ البعض أنّ اليُسر وعدم التّشدّد في الدِّين، والانفلات من قيوده وحدوده، والتكاسل عن أداء العبادات، والتساهل في القيام بالطاعات، والاندفاع نحو رغبات النفس، أمر لا حرج فيه، تحت مقولة: "الدِّين يُسر لا عُسر". وقد يرى البعض -بهتاناً وإفكاً-: أنّ مِن سماحة الإسلام ومِن عدم التشدد في الدِّين: أن يتقبّل المسلم أفكارَ الآخَرين ومعتقداتِهم وثقافاتهم وأخلاقهم التي تتعارض مع ثوابت الإسلام وخصائصه، تحت دعوى السماحة وعدم التّشدّد. فرأينا من يشارك الكفّار في أعيادهم، ومن يريد أن يخرج المرأة من حصنها الإسلامي المنيع، بدعوى أن الدين يُسر لا عسر، فيتخفّف من أمر الحجاب ... فهذا فهم خاطئ للدِّين ... قواعد الاعتدال والتّوسّط. وقد وضع الإسلام قواعد الاعتدال وضوابط التّوسّط في الدِّين على النحو التالي: أولاً: الإسلام يهدف من شرائعه وأحكامه: أن يرقى بعقائد الإنسان وعباداته وأخلاقه ومعاملاته بصورة مُثلى تقارب الكمال الإنساني، ولكن بدون تشدّد في العمل وغلوّ في الاعتقاد، لأنهما يدفعان بالإنسان إلى غياهب الفكر وشطحاته. ولقد ساق القرآن الكريم حصاد الغلوّ، وما أدّت إليه المبالغة، وذلك من خلال معتقدات النصارى وغلوِّهم فيما اعتقدوه في عيسى -عليه السلام-؛ قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ} (النساء:171). وكمغالاة بعض الشِّيعة في حبّ علي -رضي الله عنه- وآل بيته الأطهار. وقد دفعت المغالاة بالبعض إلى التّطاول على صحابة الرسول -صلى الله عليه وسلم-.

وكغلوّ بعض المتصوِّفين في الأولياء، حتى إن البعض يُنزلونهم منزلةً تتصادم مع العقيدة الإسلامية. فالإغراق في التّشدّد والمبالغة في التّطرّف يؤدِّيان إلى عواقب لا تُحمد عقباها. ولهذا كان حرْص الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يُبعد أمّته عن أي طريق يؤدِّي بها إلى متاهات الغلوّ. فعن عمر -رضي الله عنه-، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا تُطروني كما أطْرت النّصارى عيسى بن مريم؛ فإنّما أنا عبد الله، فقولوا: "عبْد الله ورسوله"))، مسند الإمام أحمد. وروى الإمام أحمد عن أنس بن مالك، أن رجلاً قال: يا محمد. يا سيِّدَنا وابن سيِّدِنا، وخيرنا وابن خيرنا. فقال -صلى الله عليه وسلم-: ((أيها الناس. عليكم بقوْلكم! ولا يستهْوِيَنَّكم الشيطان. أنا محمد بن عبد الله، عبد الله ورسوله. واللهِ! ما أحبّ أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله -عز وجل-))، ابن كثير. ولقد كانت الرحمة واللِّين واليسر من مفاتيح القلوب لأصحابه -رضوان الله عليهم-، وسرُّ اجتماعهم عليه والتفافهم حوله. قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (آل عمران:159). ثانياً: إنّ التكاليف التي شرعها الله لعباده لا تتجاوز حدود الطاقة البشرية، وإنما هي وفْق طاقة الإنسان وقدراته؛ قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لأَنْفُسِكُمْ} (التغابن:16). وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((إذا أمَرْتُكم بأمْر فأْتُوا منه ما استطعتم. وما نهَيْتُكم عنه فانتهوا))، رواه البخاري.

وتطبيقاً لهذه الأصول الإسلامية، تصبح تكاليف العبادات وغيرها من أعمال الطاعات وأمور الدنيا مقترنةً بتوافر شرط الاستطاعة. والأمثلة على ذلك كثيرة، منها ما يلي: أ- الحجّ أحد أركان الإسلام الخمسة، أداؤه يتوقف على شرط الاستطاعة المالية والبدنية وأمْن الطريق؛ قال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} (آل عمران:97). ب- قصْر الصلاة وجمْعها في السفر، وفي ميادين الجهاد، وأداؤها من قعود إذا تعذّر القيام. قال تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} (النساء:101). ج- الصوم حينما يعجز المسلم عن صيامه لِمرض أو سفر، فيباح له الفطر، ثم القضاء. فإن عجز عن القضاء لِعِلّة مُزمنة، وجبت الفدية، وهي إطعام مسكين عن كلّ يوم أفطره. قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} (البقرة:184). وقال تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (البقرة:185). د- وكذلك فريضة الزكاة لا تجب إلاّ على من يملك النّصاب، وحالَ عليه الحوْل. هـ- راعى الإسلام طبيعة المرأة وقدّر خصائصها، فأسقط عنها بعض التكاليف الشرعية التي قد يشقّ عليها أداؤها، كإسقاط فريضة الصلاة عند الدورة

الشهرية وخلال فترة الولادة والنفاس، ولم يوجب الإسلام عليها القضاء. كما أباح لها الإفطار في رمضان بسبب الولادة والرضاعة أو خلال فترة الحيض والنفاس، وأوجب عليها القضاء بعد زوال هذه الأسباب. وفي شؤون الحياة وأمور الدنيا، دعا الإسلام إلى التوسط والاعتدال في كل شيء، ومن ذلك ما يلي: 1 - الإنفاق المالي يضع الإسلام قواعده الاقتصادية، فلا يمسك الإنسان يده عن الإنفاق ويكنز المال ويحرم منه نفسه وأهله، ولا يبعثره في تبذير وسَفه ذات اليمين وذات الشمال. قال تعالى مبيِّناً ضوابط الإنفاق، وألاّ يتجاوز حدّ التوسط والاعتدال: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} (الإسراء:29). وبيّن القرآن الكريم أنّ من صفات المتّقين من عباده: الاعتدال في الإنفاق، قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} (الفرقان:67). 2 - في مجال الأكل والشرب، فإن الاعتدال فيهما هو ميزان صحّة الإنسان وسلامته، قال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (الأعراف:31). ثالثاً: ذمّ الإسلام أن يبالغ الإنسان في أداء العبادات وأنواع الطاعات إلى الحدّ الذي يُخرجها عن حدود ما شرعه الله وسَنّهُ الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ويفوق الطاقة البشرية، ويصِل بها إلى الإجهاد البدني؛ لذلك نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الابتداع في الدِّين، فقال -صلى الله عليه وسلم-: ((مَن أحدث في أمْرنا هذا ما ليس منه، فهو ردّ))، متفق عليه.

لهذا كان -صلى الله عليه وسلم- يرقب أصحابه، فإذا رأى غلواً أو تشدّداً في الطاعات نبّه عليه، وحذّر من عواقبه؛ ومن ذلك: 1 - عن أنس -رضي الله عنه- قال: جاء ثلاثة رهطٍ إلى بيوت أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- يسألون عن عبادة النبي -صلى الله عليه وسلم-. فلمّا أُخبِروا، كأنهم تقالّوها، وقالوا: وأين نحن من النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ قد غُفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر. قال أحدهم: أمّا أنا فأصلي اللّيل أبداً. وقال الآخَر: وأنا أصوم الدّهر ولا أفطر. وقال الآخر: وأنا أعتزل الناس فلا أتزوج أبداً. فجاء إليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أمَا والله، إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصومُ وأُفطِرُ، وأصلِّي وأرقد، وأتزوّج النساء. فمن رغِب عن سنّتي فليس مني))، متفق عليه. 2 - عن أنس -رضي الله تعالى عنه- قال: دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- المسجد، فإذا حبلٌ ممدود بين الساريتيْن، فقال: ((ما هذا الحبل؟)) قالوا: هذا حبلٌ لزينب، فإذا فتَرَتْ تعلّقت به. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((لا. حُلُّوه! لِيُصَلِّ أحدُكم نشاطَه، فإذا فتَر فلْيرقُدْ!))، متفق عليه. 3 - عن عائشة -رضي الله عنها-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل عليها وعندها امرأة قال: ((من هذه؟))، قالت: فلانة تذكر من صلاتها. قال: ((مَهْ! عليكم بما تطيقون! فوالله لا يمَلّ الله حتى تمَلّوا))، متفق عليه. ((مهْ)): كلمة نهْي وزجْر. 4 - عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: بينما النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب، إذ هو برجل قائم، فسأل عنه، فقالوا: أبو إسرائيل، نذَر أن يقوم في الشمس ولا يقعد،

ولا يستظل، ولا يتكلّم، ويصوم. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((مُروه فلْيتكلّمْ، ولْيستظلّ، ولْيقعدْ، وليتمّ صومه))، رواه البخاري. 5 - عن أبي عبد الله جابر بن سمُرة -رضي الله عنهما-، قال: ((كنت أصلِّي مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصّلوات، فكانت صلاته قصداً، وخطبتُه قصداً))، رواه مسلم. ومعنى قصداً: أي: متوسطة بين الطول والقِصَر. رابعاً: رفَع الإسلام التكليف في الأمور التي لا يَملك الإنسان دفْعها، ومنها: أحوال النسيان والخطإ والإكراه؛ فهي أمور قد تعترض الإنسان فتُوقعه في بعض الأخطاء التي ينأى عن فِعْلها إذا كان في غير هذه الحالات الثلاث. ومن رحمة الله بعباده أنْ رفَع عنهم الحرج والمشقّة؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: ((وُضع عن أمّتي الخطأ، والنسيان، وما استُكرهوا عليه))، لأن هذه من العوارض التي تعتري الإنسان، ولا يملك لها دفعاً. {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (البقرة:286). أمّا النّسيان المتعمَّد لأوامر الله، والاستخفاف المستمرّ بشرع الله، فهذه أمور لا ينبغي على الإنسان أن ينساها ولا يتناساها طوال عمره. قال تعالى: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (الحشر:19). ويدخل في قسم النّسيان والخطإ الذي لا يُعذر صاحبهما: كلّ نسيان أو خطإ ناشئ عن التّهاون والإهمال والتقصير وعدم المبالاة؛ ولذلك أمَر القرآن الإنسان إذا ما نسي تذكّر الله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} (الكهف:24)، وأن يبادر إذا ما

أمارات الوسطية والاعتدال في الدعوة.

أخطأ بالتوبة والاستغفار، قال -صلى الله عليه وسلم-: ((كلّ بني آدم خطّاء، وخيْر الخطّائين التّوابّون)). ولذلك خفّف الإسلام من عقوبة القتل الخطإ، وأثاب على اجتهاد الحكّام والعلماء، وجعل لهم أجراً عن الخطإ وأجريْن عن الصواب؛ فعن عمر بن العاص -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إذا حَكَم الحاكم فاجتهد ثم أصاب، فله أجران. وإذا حَكَم فاجتهد ثم أخطأ، فله أجْر))، رواه الشيخان. كذلك من أمَارات دفْع الحرج ودفْع المشقّة: رفْع المؤاخذة عن المُكره إذا أُُرغم على قوْل أو فعْل يخالف الإسلام، ولم يستطع الصّمود والمقاومة؛ قال تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (النحل:106). أمَارات الوسطيّة والاعتدال في الدّعوة خامساً: من أمَارات الوسطية والاعتدال في الدّعوة إلى الله: مراعاة غرائز الإنسان، وتحقيق مطالب النّفْس والجسد. لقد أودع الله داخل الإنسان أنواعاً من الغرائز تتفاعل داخل كيانه، وتتدافع في تعادل دقيق وتوازن مُعجز، وهي أمر مشترك بين البشر جميعاً؛ غير أنهم متفاوتون فيها، إما بانضباطها والارتقاء بها والاعتدال في ممارستها، أو الانحراف بها عن الطريق السّويّ والسلوك المهذّب. فالغرائز استعداد فطري لا يحتاج إلى تعلّم، تدفع الكائن إلى القيام بسلوك خاص. والدوافع التي تكمن وراء الغرائز صنّفها العلماء إلى أربعة أنواع:

النوع الأول: دوافع تَكْفل المحافظة على بقاء الفرد، كالجوع والعطش اللّذان يُحرِّكان غريزة البحث عن الطعام. النوع الثاني: دوافع تَكْفل المحافظة على بقاء النوع، كالجنس والأبوّة اللّذان يدفعان غريزتَيْ تجاذب الرّجُل للمرأة من خلال الحبّ الفطري الذي يوثِّقه عقد الزواج. النوع الثالث: دوافع الطوارئ، وهي وثيقة الصّلة بالمحافظة على بقاء الفرد والنوع، كدافع المقاتلة، والخوف، والهرب. النوع الرابع: دوافع تمكّن الفرْد من التّعرّف على البيئة التي حوله، كدافع الاجتماع، والتّعاون، وحبّ الاستطلاع. وهذه الغرائز إن لم تُحكم بميزان الشّرع أو تُضبط بمقاييس العقل السليم، فإنها تنطلق مسعورةً لإشباع حاجاتها دون رويّة وتدبّر، ودون الْتفات لأوامر الله، متجاهلة الأحكام الشرعية، ومحطِّمة للتقاليد الاجتماعية. ولقد وضع الإسلام هذه الغرائز في حدود ما خلَقها الله مِن أجْله، ووضَع لها الضوابط وفْقَ ما شرعه الله من ثواب وعقاب وإقامة الحدود، وجعل السلوك الإنساني في إشباع تلك الغرائز يسير حسب سنن الفطرة، دون كبْت أو حرمان أو قهرٍ لها. ولم يترك الإسلام لها الحبْل على الغارب، لتندفع هائجة تُحطِّم القِيَم وتنتهك الأعراض. فغريزة الجنس وضَع لها الإسلام الضوابط، حيث جعَل علاقة الرجل بالمرأة لا يتمّ إلاّ في إطار عقد الزواج، وسمّاه: {مِيثَاقاً غَلِيظاً} (الأحزاب:7)، ويسّر سُبل الزواج، وأباح التّعدّد لِمَن يقدر على ذلك. وأيّ علاقة بين الرجُل والمرأة بعيدة عن علاقات الزوجيّة فهي علاقة آثمة، ومن الكبائر التي توجب إقامة الحدّ في الدنيا وعذاب الله في الآخِرة، إن لم يعلن ذوو هذه العلاقة عن توبتهما.

وغريزة حبّ المال وجمْعه وإنفاقه، وضَع لها الإسلام النّظم والتشريعات التي تُشبع هذه الغريزة؛ فجعل جمْعه لا يكون إلاّ من حلال، ولا يُنفق إلاّ على الأهل أو في وجوه الخير، مع الاعتدال في النفقة. وقد أباح الإسلام حرّيّة التّملّك والتّصرّف، ولكن في حدود ضوابط الشرع وأحكامه. وكذلك حرّم الله بعض المطعومات والمشروبات التي تَدفع بالإنسان إلى ضياع عقْله وهلاك صحّته، لتستقيم بذلك حياةُ الإنسان في تعادل وتناسق وتوازن يتلاءم مع فطرة الله التي فطر الإنسان عليها. قال تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (الروم:30). ولهذا حرّم الإسلام بعض الأمور التي قد تعود على الإنسان بالضرر، قال نعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ} (المائدة:3). هذه بعضُ خصائص الدّعوة إلى الله التي تفرّد بها وتتميّز عن كافّة الشرائع والنُّظم الأخرى، قال تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} (البقرة:138). هذا وبالله التوفيق. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 14 من صفات الدعاة.

الدرس: 14 من صفات الدعاة.

من صفات الدعاة: التمهيد.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الرابع عشر (من صفات الدعاة) 1 - مِن صِفات الدّعاة من صفات الدعاة: التمهيد التمهيد: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: فإنّ تاريخ البشرية الضّارب في أعماق الزمن، والمُمتدّ عقِب قرون طويلة وحقبٍ متتابعة، ارتبط ارتباطاً وثيقاً بالدّعوة إلى الله، وامتزج بوحي السماء ورسالات الأنبياء، امتزاجاً بتغلغل داخل النفْس البشرية، فأثّر في مشاعرها وسلوكها. وتطلّعت الإنسانية واشرأبّت أعناقها، وتعلّقت آمالها إلى تلك الكوكبة من الأنبياء والمرسَلين، الذين اصطفاهم الله من بيْن خلْقه، وربّاهم تربية خاصة، يتمثل فيهم الكمالُ الإنساني بأسمى صُوَره وأنبل مُثُلِه، قال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} (الحج:75). وقال: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (آل عمران:33، 34). وذكَر القرآن الكريم صُنْع الله المُتقَن في تكوين الأنبياء والمرسلين، وإعدادهم الدقيق ليتحمّلوا أعباء الدعوة إلى الله؛ فقال الله عن موسى -عليه السلام-: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} (طه:39). وتحدّث القرآن عن يوسف -عليه السلام-، فقال تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (القصص:14). وأخبر القرآن الكريم عن إعداده لِيحيى -عليه السلام- وهو ما زال صبياً، فقال تعالى: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً} (مريم:12). وتُوِّج هذا الإعداد والاصطفاء والاختيار بأشرف الخلْق وخاتم الرّسُل: محمد -صلى الله عليه وسلم-، الذي أعدّه الله للنبوّة والرسالة قبل خلْق آدم -عليه السلام-؛ فعن العرباض بن سارية

قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إني عند الله لَخاتَمُ النّبيِّين، وإنّ آدم لَمُجَنْدَلٌ في طينَتِه))، مسند الإمام أحمد. قال تعالى: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} (الشعراء:219). عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- قال: "تقلّبك من نبيّ إلى نبيّ حتى أخرجْتُك نبياً". قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفَسِكُمْ} (التوبة:128) -بفتح الفاء-، وقرأ جمهور القراء بالضّمّ. وروى عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله تعالى: {مِنْ أَنْفَسِكُمْ}، قال: ((نَسَباً، وصِهراً، وحَسَباً؛ ليس في آبائي مِن لدن آدم سِفاح. كلّها نكاح)). وهذا الإعداد الإلهي، أشار إليه القرآن الكريم في مطلع سورة (النجم)، قال تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} (النجم:1 - 5). ولقد وصَفه الحق -تبارك وتعالى- بأوصاف انفرد بها -صلى الله عليه وسلم- عن غيره؛ فهو نور، قال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} (المائدة:15). وهو سراج منير، قال تعالى: {وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} (الفرقان:61). وهو خالد الذِّكر إلى يوم القيامة وما بعدها، قال تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} (الشَّرح:4). قال قتادة: "رفَع الله تعالى ذكْره في الدنيا والآخرة؛ فليس خطيب، ولا مُتشهِّد، ولا صاحب صلاة، إلاّ يقول: "أشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله". وروى أبو سعيد الخُدْري -رضي الله عنه-، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((أتاني جبريل -عليه السلام- فقال: إنّ ربّي وربّك يقول: تدري كيف رفعتُ ذكْرَك؟ قلتُ: الله ورسوله أعلم. قال: إذا ذُكرتُ، ذُكرْتَ معي)).

هذا الاجتباء والاصطفاء والاختيار والإعداد لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- شَمل فضلُه وشرفُه هذه الأمّة. قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (آل عمران:110). فازدادت مكانة الأمّة وعلا شأنها بين العالمين بِشرف اتّباعهم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والتزامهم بشرْعه، وحمْلهم لدعْوته، قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الأعراف: 156، 157). وعن فضْل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفضْل أمّته، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} (البقرة:143). فهذه الأمّة نبْت طيِّب مبارك، غُرستْ جذورها، وتسامتْ فروعها، وامتدّ خيْرها، وعمّ نفعُها العالمين، مِن خلال القرآن الكريم وسُنّة الرسول -صلى الله عليه وسلم-. فهي تتحمّل على عاتقها وحْدها دون سواها من الأمم، حفْظ وتبليغ وحْي السماء، ورسالات الأنبياء، وسلوك الأتقياء، ومطالَبَةٌ شرْعاً، وواجبٌ عليها: أن تَحمل أمانة الماضي والحاضر والمستقبل؛ فسعادة البشرية في الدنيا والآخرة مرتبطة بهذه الأمّة، ومرتبطة بدعْوتها إلى الله، قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران:104).

فأمّة الدّعوة إلى الله مطالبةٌ وجوباً وشرعاً: أن تصحّح عقائد البشرية، وأن توجّهها إلى الصراط المستقيم والسلوك القويم، وأن تُقيم موازين الحقّ والعدل والأمْن في العالم، قال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (الأنعام:151، 153). هذه الوصايا هي الأسس العقائدية والسلوكية التي جاء بها الأنبياء والمرسلون، وتُمثِّل وحدة التربية العقائدية والعقلية، والتزكية القلبية، والطهارة النفسية للبشرية، والتي قامت عليها الدّعوة إلى الله والتزكية عبر مسيرة الإنسانية، حتى وصلت إلى خاتَم الرسل -صلى الله عليه وسلم-. وتحمّل المسلمون شرَف تبليغها، والجهاد من أجلها، حتى يرث الله الأرض ومن عليها؛ قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ} (الزُّخرُف:44). ولقد ذكَر القرآن الكريم أنّ عُلوّ مكانة المسلمين، وارتفاع شأنهم وذِكْرهم بين العالمين، لن يكون إلا بهذا الدِّين؛ قال تعالى: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} (الأنبياء:10). ولن يتسنّى تحقيقُ هذا الواجب الشرعيّ على المسلمين إلاّ بوجود دُعاة إلى الله ذوي مواهب خاصّة، وملَكات معيّنة، وقدرات متميّزة، لأنهم يدْعون إلى وحي السماء ورسالات الأنبياء.

إنهم دُعاة إلى الله، فهم يتحرّرون من التّبعيّة لأيّ عقيدة وفكْر غير الإسلام، ولا يخضعون لرأي يُخالف ثوابتهم الدِّينية أصولَهم العقائدية. إنهم يحملون في صدورهم خير الأعمال منزلةً وأشرفها مكانةً، قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (فُصِّلَت:33). ويجب أن يعرف الدّعاة أن الدّعوة إلى الله هي تاجٌ على رؤوسهم، وشرَف يزيّن جباهَهم، لأنهم يضمّون بين حنايا قلوبهم وطوايا نفوسهم أشرفّ عمل لأعظم رسالة، وأسمى هدف لأكرم غاية، توجب على الناس السماعَ إليهم وإجابة دعوتهم، قال تعالى: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لاَ يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (الأحقاف:31، 32). وعلى الأمّة أن تنتقي مِن بين أبنائها صفْوة العقول وخلاصَة النابهين، وأن تُعِدّهم إعداداً عقائدياً وفكرياً وسلوكياً للقيام بأعباء الدّعوة إلى الله. هذا هو الواجب المأمول وما ينبغي أن يكون. غير أنّ واقع الدّعاة في جميع بلاد المسلمين يُرثى له ويؤسَف عليه؛ فالدعوة إلى الله وما يتعلّق بشوؤنها تأتي في مؤخّرة الاهتمامات، وأقسام الدّعوة في الكلّيّات تكاد تغلق أبوابها من قلّة الراغبين فيها، ولا يلتحق بها إلاّ أصحاب المجامع المتدنِّية والقُدرات المتواضعة. وقد يبرز من بين هؤلاء من وهَبَهم الله ملَكات الدّعوة ومقوّماتها، ولكنّ عدَدهم في كلّ دفعة لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، ليتحقّق بهم قول الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحِجر:9). وسوف نبيِّن في المباحث التالية صفات الداعي، وما يجب أن يتحلّى به خُلُقياً وفكرياً وعملياً.

من صفات الداعي إلى الله.

من صِفات الدّاعي إلى الله أولاً: الالتزام بما يدعو إليه: إنّ أُولى خُطوات نجاح الدّاعي في دعْوته، واستماع الناس له، وتأثّرهم به والتفافهم من حوله، يرجع إلى القُدوة الحسَنة والأسْوة الطّيِّبة، وأن يكون في تصرّفاته ومعاملاته مرآةً صادقة ونموذجاً حياً لِمَا يدعو إليه. ولقد كان من أبرز عوامل نجاح الرسول -صلى الله عليه وسلم- في دعْوته إلى الله: أنه كان يجسِّد الكمال البشريّ أمام قوْمه، حتى أنهم قبل البعثة كانوا يُلقِّبونه بـ"الصادق الأمين". وظهرت أخلاقه الحميدة وسجاياه الكريمة منذ أن كان شاباً؛ فقد تحدّث عمّه أبو طالب عنه حينما ذهب يخطب إليه السيدة خديجة -رضي الله عنها- مِن عمّها: عمرو بن أسد، وممّا جاء في خطبة القِران: "ثم إنّ هذا محمدٌ بن عبد الله، لا يوزن به رجُلٌ إلاّ رجح به شرفاً ونبلاً وفضلاً وعقلاً. وإن كان في المال قلّ، فإنّ المال ظلّ زائل، وأمْر حائل، وعارية مُسترجَعة. وهو -والله- بعد هذا له نبأ عظيم وخطْبٌ جليل". فقال عمرو بن أسد عمّ السيدة خديجة -رضي الله عنها-، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: هو الفحل لا يُجدع أنفُه". وحينما وقف النبي -صلى الله عليه وسلم- على جبل الصفا يُعلن على أهل مكة الإسلام، فقال لهم: ((لو أخبرتُكم أنّ خيلاً وراء هذا الوادي تُريد أن تُغير عليكم، أكنتم مُصدِّقيّ؟))، قالوا: "نعم؛ ما جرّبنا عليك كذباً قط".

فلقد كان -صلى الله عليه وسلم- موضع ثقة قريش، ومحلّ احترامها. وكان له الفضل الكبير قبل البعثة في رأب الصدع، ومنْع الحرب التي كادت تنشب حينما اختلفوا على مَن ينال منهم شرَف وضْع الحجر الأسود مكانَه عند إعادة بناء الكعبة. وحينما أبصروه -صلى الله عليه وسلم- قالوا: "هذا هو الأمين! ارتضيناه حَكَماً". إذا كان هذا خُلُق الرسول -صلى الله عليه وسلم- قبل البعثة التي تفرّد بها بين أقرانه، فإنّ الأمْر بعد البعثة وخلال مراحل الدّعوة في مكة المكرمة والمدينة المنورة اختلف اختلافاً كثيراً؛ فلقد أصبح -صلى الله عليه وسلم- رسول الله إلى الإنسانية جمعاء؛ قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} (الأعراف:158)، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء:107). ومن ثَم، أصبح -صلى الله عليه وسلم- القُدوة الحسَنة والأسوة الطيبة، فكان بحقّ قرآناً يمشي على الأرض. فقد سئلت السيدة عائشة -رضي الله عنها- عن خُلُقه -صلى الله عليه وسلم-، فقالت: ((كان خُلُقه: القرآن)). وأخبر القرآن الكريم عن خُلقه -صلى الله عليه وسلم- بقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم:4). ولقد وجد الصحابة -رضوان الله عليهم- في الرسول -صلى الله عليه وسلم- المَثَل الأعلى والنموذج العظيم في الخُلُق الكريم، والأدب الرفيع، والسلوك المهذّب العالي؛ فاقتدَوْا به، والتزموا بأقواله وأفعاله. قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} (الأحزاب:21). يقول ابن كثير: "هذه الآية: أصل كبير في التّأسّي برسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أقواله وأفعاله وأحواله؛ ولهذا أمَر الله -تبارك وتعالى- الناس بالتّأسي بالنبيّ -صلى الله عليه وسلم- يوم

الأحزاب، في صبره ومصابرته ومرابطته ومجاهدته، وانتظار الفرَج من ربه -عز وجل- صلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدِّين". وقد أصبح من كمال إيمان المؤمن: الاقتداء برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والتّحلّي بمكارم الأخلاق، ومحاسن الشِّيم، ومحامد الفضائل، التي اشتهر بها -صلى الله عليه وسلم-. وإذا كان هذا لازماً للمسلمين جميعاً، فإنه للداعي أكثر لزوماً وأشدّ وجوباً. فينبغي أن يكون في سلوكه وتصرّفاته مثلاً أعلى لمَن يَدْعوهم، ونموذجاً يَقتدي به ويحتذي حذْوه الآخَرون. فحيثما يدعو إلى فضيلة من الفضائل، يكون عنوانها والرائد فيها. وإذا ما دعا إلى عمل من أعمال الخير والبِرّ، يكون له قصب السّبْق في هذا المضمار ولو بالقليل. ولو نهى عن منكر يكون أوّل البعيدين عنه. وإن من معوقات الدّعوة، ومن أسباب فشل بعض الدعاة: أنّ أفعالهم تُخالف أقوالهم، وأنّ سلوكهم يتنافى مع ما يَدْعون إليه. فيدعو أحدُهم إلى الكَرَم، وهو لا يجود ببعض ماله -وإن قلّ- في سبيل الله. ويتحدّث عن الشجاعة، وهو يرتعد خائفاً مذعوراً من كلمة حقّ أمام سلطان جائر. ولقد عاتب الله جماعة من المؤمنين، لأنّ أفعالهم تتناقض مع أقوالهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ} (الصف:2، 3). كما فضح الله سلوك بني إسرائيل ومَنْ على شاكِلتهم ممّن يأمُرون الناس بالبِرّ ولا يفعلونه، وينهوْن عن الفحشاء والمنكر ويرتكبونها، قال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} (البقرة:44). فإنّ من أعظم القبائح والذنوب: أن يعْرف العالِم والدّاعية الخير ويدعو إليه، وهو أبعد الناس عنه، وينهى عن المنكر ويفْعله.

ولقد شبّه الرسول -صلى الله عليه وسلم- مَن يَعِظ غيره ولا يَتّعظ بمن يكون كالسراج: يُضئ للناس ويُحرق نفْسَه. فعن جُندب بن عبد الله -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((مَثَل العالِم الذي يُعلِّم الناسَ الخيْر ولا يعمل به، كمَثَل السِّراج يُضئ للناس ويُحرِق نفْسَه))، رواه الطبراني. وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((مررتُ ليلة أُسْرِي بي على قوم تُقرَض شِفاهُهم وألسنتُهم بمقاريض من نارٍ، قلت: مَن هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء خُطباء أمّتك الذين يأمرون الناس بالبِرّ وينْسَوْن أنْفسَهم))، رواه ابن حبان. وعن أسامة بن زيد بن حارثة -رضي الله عنه-، قال: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((يُؤتَى بالرّجُل يوم القيامة، فيُلقَى في النار، فتندلِق أقتاب بطنه -أي: تخرج أمعاؤه-، فيدور بها كما يدور الحمار في الرّحَى. فيجتمع عليه أهل النار، فيقولون: يا فلان مالَك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهَى عن المنكر؟ فيقول: بلَى، قد كنتُ آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتية))، متفق عليه. وممّا تجدر ملاحظته: أنّ الداعية قد يأمر ويحثّ على فعل خير وليس في استطاعته القيام به؛ فهذا لا حرج عليه، كمَن يدعو إلى الجهاد في سبيل الله، وتمْنعه من المشاركة عاهة أو كِبَر سنّ، أو كمَن يحثّ الأغنياء بدفْع زكاة أموالهم، وهو لا يَملك نصاباً. أمّا الجرم الأكبر: أن يقترف المنكرات، وهو يعلم حرمتها. فعن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الله يعافي الأمِّيِّين يوم القيامة ما لا يُعافي العلماء))، ابن كثير.

روى الوليد بن عقبة -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: ((إنّ أناساً من أهل الجنّة يطّلعون على أناس من أهل النار، فيقولون: بِم دخلْتم النار؟ فوالله ما دخلنا الجنّة إلا بما تعلّمْنا منكم. فيقولون: إنّا كنّا نقول ولا نفعل))، المرجع السابق. قال الإمام علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "من نصّب نفسه إماماً للناس، فلْيبْدأْ بتعليم نفْسه قبْل تعليم غيره، ولْيَكنْ تهذيبه بسيرته قبل تهذيبه بلسانه. ومعلّم نفْسه ومُهذِّبها أحق بالإجلال من معلِّم الناس ومهذِّبهم". وهل يجني الذين يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ولا يتّعظون، ويُرشدون ولا يسترشدون، إلا سخرية العباد وسُخط ربّ العباد. ولهذا قيل: "فِعْل رجل في ألْف رجُل، أقوى من قول ألْف رجُل في رجُل". وعلى الدّاعية: أن يكون أحرص على إصلاح سِرّه منه على إصلاح جَهره، وليكن اهتمامه بنظافة باطنه أكثر من اهتمامه بنظافة ظاهره. وعلى الدّاعية: أن يكون صريحاً من نفسه، فلا يخادعها، ومع الناس فلا يرائيهم؛ وليس هذا شأن الدعاة فحسب، ولكن شأن كلّ مَن يلي أمراً من أمور المؤمنين في كلّ شؤون الحياة. ولقد تحدّث الشعراء والأدباء عن أولئك البعض الذين يقولون ما لا يفعلون ومن ذلك: يا واعظ الناس قد أصبحت مُتّهَماً ... إذا عِبت أموراً أنت تأتيها أصبحت تنصحُهم بالوعظ مُجتهداً ... والموبقات لَعَمري أنت جانيها تعيب دنيا وناساً راغبين لها ... وأنت أكثرُ الناسِ رغبةً فيها ومن عيون الشعر العربي: لا تَنْه عن خُلُق وتأتي مثْلَه ... عارٌ عليك إذا فعَلتَ عظيمُ

وإنه من عوامل نجاح الدّعاة إلى الله: أن تتحقّق فيهم الأمور التالية: الأول: عُمق الإيمان بما يَدْعون إليه، وكمالُ الاقتناع بما ينصحون به. وهذا الشرط واجب التّحقيق في كل داعٍ. فإن تستّر بستار زائف من الإيمان الظاهري الذي لم يتغلغل في عقله ويستقرّ في مشاعره وعواطفه، وإن تظاهر في صورة حَمل وديع، ولكنّ قلبه قلب ذئب مفترس، فقد نقله الشّرع من جماعة المؤمنين إلى زمرة المنافقين؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذَب، وإذا وعَد أخلف، وإذا اؤتُمِن خان)). فإنّ هؤلاء يخدعون أنفسهم، قال تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (البقرة:9). الأمر الثاني: القيام الفعليّ بأداء الدّاعي ما يدعو إليه أو ينصح به. إنّ قيام الدّعاة إلى الله بأداء ما افترض الله على عباده من عبادات، وما أمَر به من طاعات: معيار النّجاح في دعْوتهم واقتناع الناس بهم؛ ولذلك أمَر الله -سبحانه وتعالى- الرسول -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين معه بالاستقامة في أداء العبادات واجتناب المنهيّات، قال تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (هود:112). وقال تعالى: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} (الشورى:15). ولقد كانت أهمّ عوامل انتشار الإسلام، واقتناع الناس به: أنهم وجدوا في أقوال الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأفعاله صورة صادقةً وواقعاً ملموساً لِما يدعو إليه. وهذا ما بيّنه جيفر بن الجلَنْدى ملك عُمان عن سبب إسلامه بعد أن أرسل -صلى الله عليه وسلم- له برسالة مع عمرو بن العاص،

الاقتداء برسول الله والتأسي به -صلى الله عليه وسلم-.

قال جيْفر: "إنه -والله- لقد دلّني على هذا النبي الأمّي: أنه لا يأمر بخير إلاّ كان أوّل مَن أخذ به، ولا ينهى عن شرّ إلاّ كان أوّل تاركٍ له، وأنه يَغلب فلا يَبطر، ويُغلب فلا يَضجر، وأنه يفي بالعهد ويُنجز الوعد". الأمر الثالث: الدّعوة إلى الله على بصيرة. فإنّ من عوامل نجاح الدّعاة إلى الله: أن يكونوا على علْم وافٍ لِما يدعون إليه، وعلى بصيرة بأمور الدِّين، ووعي تامّ بأحوال المجتمعات التي يدعون إلى الله فيها، وأن تكون لديهم رؤية ثاقبة ونظرة فاحصة لِما يطرأ على ميادين الدّعوة إلى الله من موانع ومعوقات، وكيف يتعاملون معها بالحكمة والموعظة الحسَنة دون إثارة الشحناء والبغضاء؛ قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (يوسف:108). وسوف نوضّح مفهوم الدّعوة على بصيرة في مبحث خاص -إن شاء الله تعالى-. الاقتداء برسول الله والتّأسّي به -صلى الله عليه وسلم- ثانياً: من صِفات الدّاعي إلى الله: الاقتداء بالرسول -صلى الله عليه وسلم- والتّأسّي به. لقد تجمّعت ينابيعُ وروافدُ الرسالات السماوية التي أنزلها الله على أنبيائه ورسُله عبر تاريخ الإنسانية في رافد واحد وهو: الإسلام، قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} (آل عمران:19). وتجسّدت أخلاق وشمائل الأنبياء والمرسلين جميعاً في شخص سيّدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي نسختْ رسالته كلّ الرسالات، وختم الله به الأنبياء والرسُل، قال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (الأحزاب:40).

وشخصية الرسول -صلى الله عليه وسلم- تَكمن فيها جوانب العظمة، ويتعدّد فيها الكمال البشريّ المتوّج بوحي الله، فيزيده تألّقاً وجلالاً وجمالاً. وقد وصَفه القرآن الكريم بقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم:4). إنّ شخصية الرسول -صلى الله عليه وسلم- كنجوم السماء المتلألئة التي تُبدِّد ظلمة الليل وتُبشِّر بضوء الصباح، ولا يعرف الناس عن أحجامها وأجرامها إلاّ القليل؛ ومهما استجلى حقيقتَها العلماء ورصدتْها المراصد والمطالع الفلَكية، فإنها لا تحصل إلاّ على النّزر اليسير عن مقدارها. والرسول -صلى الله عليه وسلم- اصطفاه الله من بين البشر، وفضّله على سائر الخلْق، وأسبغ عليه من فضائل الأخلاق ومحامد الصفات وحسن الأقوال والأفعال، ما لا يُمكن حصْره، ممّا جعَله قدوة حسَنة وأسوة طيّبة ورحمة للعالمين؛ قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء:107). ولقد حدّد القرآن الكريم معالم وملامح الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وبيّن هدف رسالته والغاية المرجوّة فيها في آيتيْن، قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} (الكهف:110). وقال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} (التوبة:128). وحياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- غزيرة العطاء، كثيرة المحامد، تتعادل كلّها وتتوازن في تناسق وتكامل، فلا يبرز خُلُق عن خُلُق آخر، ولا تعلو صفة على صفة أخرى. فهو -صلى الله عليه وسلم- مَعين لا يَنضب لكلّ خُلُق، ونهر عذب فرات يروي ظمأ كل مغترف منه. فهو البشر الرسول المؤيَّد بالوحي، المعصوم من الزلل والخطإ. تتألّف فيه شخصية المربِّي والمعلِّم والموجِّه لأصحابه إلى مجامع الخير. وهو القائد البارع الذي

يقود الجيوش، ويبعث بالسرايا، ويُعطي المَثَل الأعلى في تنظيم الجيوش وآداب الحروب. وفي ميدان السياسة، فهو -صلى الله عليه وسلم- السّياسيّ البارع الذي يملك نواصي القلوب بالحكمة والموعظة الحسنة، يستقبل الوفود، ويرسل الرسل، ويبعث بالكتب إلى أكاسرة الفُرس وقياصرة الرّوم وأمراء الجزيرة. وهو -صلى الله عليه وسلم- خير زوج يُحسن معاملة زوجاته، ويَعدل بينهنّ، ويستمع إليهن، ويأخذ برأيهنّ، وتتملّكه الرحمة والشفقة بالمؤمنين وبالإنسانية جمعاء، وعلى كلّ من حوله حتى الحيوانات. وهكذا كلّ ميدان من ميادين الحياة الدِّينية والاجتماعية، تتألق فيها عظمة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ويكون هو الرائد فيها، والمَثَل الأعلى لأمّته وللإنسانية إلى قيام الساعة. وما انتكست البشرية في أخلاقها، وما تدهورت أوضاعُها، وما فقد العالَم الأمن والأمان، إلا بسبب عدم الاقتداء برسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ قال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} (الأنعام:104). والاقتداء برسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليس ترفاً فكرياً، أو سلوكاً اختيارياً، تأخذ به الأمّة متى شاءت، وتتغاضى عنه متى أرادت؛ بل هو أصْل من أصول الإسلام، وجوهر عقيدة هذا الدَِّين، ومعْلم بارز من ثوابت هذه الأمّة وملامح شخصيّتها التي تميّزت بها عن الناس جميعاً؛ قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} (التوبة:128). وحبّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- ليس كلمات تُردَّد، وأناشيد يشدو بها المُنشِدون، ولكنه حبّ عميق، والتزام بشرْعه، واقتداء بسنّته واتِّباع لشخصه؛ قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (آل عمران:31).

هذا الاقتداء والحبّ يجب أن يضَعَه المسلم في مقدّمة أموره، ويجعله من أوّليات حياته، وأن لا يعادل به الدنيا بأسرها، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (التوبة:24). ولقد بيّن القرآن الكريم: أن الاستجابة لأمْر الله والاقتداء برسول الله هو إكسير الحياة الكريمة العزيزة لهذه الأمّة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (الأنفال:24). ولقد وضحت شفقةُ الرسول -صلى الله عليه وسلم- على هذه الأمّة، ورحمتُه بها، ومدى حاجتها إلى سُنّته والاقتداء به، ولا سيما الدّعاة إلى الله؛ فعن جابر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((مَثَلي ومَثَلكم كمَثَل رجل أوقد ناراً، فجعل الجنادب والفراش يقعْن فيها، وهو يذبّهن عنها. وأنا آخذ بحُجزكم عن النار، وأنتم تفلّتون من يديّ))، رواه مسلم. الجنادب: مثل الجراد والفراش الذي ينجذب للنار، والحُجُز: جمع حُجزة، وهو: معقد الإزار. ولقد تعدّدت النصوص من القرآن والسُّنّة على وجوب الاقتداء بالرسول -صلى الله عليه وسلم-. فمن القرآن الكريم: - قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (النساء:59). - وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّه} (النساء:80).

- وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النور:63). ومِن السنة: 1 - عن العرباض بن سارية -رضي الله عنه-، قال: وعَظنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- موعظة بليغةً، وجلتْ منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله. كأنها موعظة مودِّع، فأوْصنا! قال: ((أوصيكم بتقوى الله، والسّمع والطاعة، وإن تأمّر عليكم عبدٌ حبشيّ. وإنه مَن يعِشْ منكم فسيرى اختلافاً كثيراً. فعليْكم بسُنّتي وسُنّة الخلفاء الراشدين المهديِّين! عَضّوا عليها بالنواجذ! وإيّاكم ومُحدَثات الأمور! فإنّ كل محدَثَة بدعة، وكلّ بدعة ضلالة))، رواه أبو داود، والترمذي وقال: "حديث حسن صحيح". 2 - قال -صلى الله عليه وسلم-: ((تركْتُ فيكم ما إن تمسّكتُم به لن تضِلّوا بعدي أبداً: كتاب الله وسُنّتي)). وإذا كان الاقتداء برسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمْراً واجباً على مجموع الأمّة، فهو على الدّعاة إلى الله أشدّ وجوباً، لأنّ العلماء هم ورَثة الأنبياء، وينبغي عليهم أن يتّبعوا خُطى النبي -صلى الله عليه وسلم- في دعْوته، وأن ينهجوا نهجه في وسائل الدّعوة وأساليبها، ويتأسّوْن به -صلى الله عليه وسلم- في التّغلّب على معوقات الدّعوة والصبر على القيام بها. ويجب على الدّعاة إلى الله أن لا يقف الأمر على مجرّد الاقتداء والاتّباع، ولكن ينبغي عليهم أن يُدافعوا عن سُنّة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وأن يَردّوا عنها شبهات المستشرقين ومطاعن بعض العلمانيِّين من أبناء المسلمين، الذين تربّوْا على موائد الغرب، وتبنّوْا ثقافتهم وفكرهم المُعاديَ للإسلام. بهذا يصبح الاقتداء فكراً وعملاً وتخطيطاً، وإبرازاً لدعوة الرسول -صلى الله عليه وسلم- من كافّة جوانبها.

الإخلاص في القول والعمل.

2 - من صفات الدّعاة الإخلاص في القول والعمل الإخلاص هو: تجريد قصْد التّقرّب إلى الله تعالى عن جميع الشوائب. فكلّ شيء يُتصوّر أنه يشوبُ لغيره، فإذا صفا عن شوْبه وخلُص، سُمِّي: خالِصاً. ويُسمَّى الفعل المصفّى المخلّص: "إخلاصاً"، قال تعالى: {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِينَ} (النحل:66). فإنما خلوص اللّبن بأن لا يكون فيه شائبة من الشوائب، من الدم أو الفرْث، ومن كلّ ما يمتزج به. والإخلاص يضادّه: "الإشراك"؛ فمن ليس مخلِصاً فهو: مُشرِك. والشّرك درجات، كما أنّ للإخلاص درجات. فالتوحيد يضادّه: الإشراك في الألوهية. والشرك منه خفِيّ، ومنه جليّ، فالجليّ هو: الشِّرك الأكبر، كاتخاذ الشركاء والأنداد؛ وهو من الكبائر التي لا تُغتفر، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (النساء:48). وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((اجتنِبوا السّبْع الموبقات))، وعدّ في مقدّمتها: الإشراك بالله. أمّا الشّرك الخفيّ فهو: ما يتسرّب إلى أعمال القلوب وخفايا النفوس؛ وهذا لا يطّلع عليه إلاّ علاّم الغيوب، قال تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (النساء:149). والاعتبار في الإخلاص يتوقّف على حُسن النِّيّة وصحّة قصْد الفعل لله؛ فكلُ حظّ من حظوظ الدنيا تستريح إليه النّفْس ويميل له القلب، قلّ أم كثُرَ، إذا تطرّق

إلى العمل، تكدّر به صفْوُه وزال به إخلاصه. والإنسان قلّما ينفكّ فعلٌ من أفعاله أو قولٌ من أقواله مِن أغراض الدنيا. وتتوقّف درجة الإخلاص على مدى الباعث على أداء العمل؛ فكلما تجرّد العمل لله، وخلُص القصد له، صحّ الإيمان؛ قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (الأنعام:162، 163). ولقد ذكّر الله عبادَه بالإخلاص في كلّ صلاة يؤدّونها، حيث يقرأ المسلم في كلّ ركعة قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة:5)، والمعنى: قصْر العبادة والاستعانة بالله دون أحدٍ من الخلْق. وهذا ما أمَر به -صلى الله عليه وسلم- عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- منذ أن كان غلاماً؛ فقد روي عنه أنه قال: ((كنتُ خلْف رسول الله -صلى الله عليه وسلم-يوماً، فقال: يا غلام. ألاَ أعلِّمْك كلمات؟ قال: بلى، يا رسول الله. قال: احفظِ الله يحفظْك. احْفظ الله تجدْه تجاهك. وإذا سألْتَ فاسأل الله. وإذا استعنْتَ فاستعِنْ بالله. واعلمْ أنّ الأمّة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلاّ بشيء قد كتبه الله لك. واعلمْ أنّ الأمّة لو اجتمعت على أن يضرّوك بشيء، لم يضرّوك إلاّ بشيء قد كتبه الله عليك. رُفعت الأقلام وجفّت الصّحف)) الحديث. ولقد كان الإخلاص في الدّعوة إلى الله منذ فجر الإسلام من أكبر عوامل نجاحه وانتصاراته. فالرسول -صلى الله عليه وسلم- خلال مراحل الدّعوة في مكة المكرمة والمدينة المنورة، كان نموذجاً حياً، ومثالاً صادقاً للإخلاص، حتى أن انشغاله بأمور الدّعوة مَلَك كلّ لحظات حياته لدرجة أن الله -سبحانه وتعالى- أشفق عليه من همومه وحرْصه على إدخال الناس في

دين الله قال تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} (الكهف:6). كما ظهر إخلاصُه -صلى الله عليه وسلم- في العبادة، فكان يقوم من اللّيل حتى تتورّم قدماه -صلى الله عليه وسلم-، فلما سُئل عن ذلك قال -صلى الله عليه وسلم-: ((أفلا أكون عبداً شكوراً؟)). وإخلاصه -صلى الله عليه وسلم- في الجهاد في سبيل الله كان من أكبر عوامل انتصاراته، يُرى هذا من خلال الإخلاص في الإعداد الجيِّد للمعركة، والتعبئة المعنوية والقتالية، والحرص على سماع آراء أصحابه. ويتّضح عمْق إخلاصه -صلى الله عليه وسلم- في معركة بدر الكبرى، بعد أن أتم الاستعداد، وعبّأ النفوس، أخَذ يدعو الله بإخلاص وصدْق، مستغيثاً بالله وملتجئاً إليه طالباً النصر، حيث قال: ((اللهم إنّ هذه قريش أتت بخيلها وخُيلائها تُحادُّك وتكذّب رسولك. اللهم فنَصْرك الذي وعدْتَني به. اللهمّ إنْ تهْلكْ هذه العصابة فلن تُعبد في الأرض بعد اليوم)). وظلّ يدعو حتى سقط الرداء من على كتفيْه. وأبو بكر الصديق -رضي الله عنه- يردّ عليه رداءه ويقول: "يا رسول الله. بعض مناشدتك ربّك! إن الله منجزٌ لك وعْدَه". وكان من ثمار هذا الإخلاص: أن تنزّلت الملائكة بقيادة جبريل -عليه السلام-، حيث بشّر -صلى الله عليه وسلم- أبا بكر -رضي الله عنه- وقال له: ((أبْشِرْ يا أبا بكر. هذا جبريل على مثار النقع، جاء يحارب في سبيل الله)). قال تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} (الأنفال:12). وما ذلك إلاّ أثرٌ من آثار الإخلاص.

تابع: الإخلاص في القول والعمل.

ولقد تشرّبت الصحابة -رضوان الله عليه- روح الإخلاص، وضربوا في ذلك أمثلة نادرة فيه، تلألأت بها صفحات الإسلام. ومن ذلك: إخلاص جعفر بن أبي طالب في مناقشته مع نجاشي الحبشة، وصدْقه وإخلاصه في إبداء رأي الإسلام في عيسى -عليه السلام-. وقد كان من ثمرة إخلاصه -رضي الله عنه-: أنّ النجاشي رقّ قلبه وبكى، حتى اخضلّت لحيتُه، وقال: "إنه وعيسى ليخرجان من مشكاة واحدة"، وأبقاهم في الحبشة هو ومَن معه من المسلمين، ولم يُسلمهم لعمرو بن العاص. ولقد كان الإخلاص الذي تخلّق به مصعب بن عمير -رضي الله عنه- من أكبر أسباب دخول الأوس والخزرج في الإسلام. وأصبح الإخلاص خُلُق المسلمين، يتميّزون به وينفردون به عن غيرهم من الأمم، يأخذونه من سلَف الأمّة إلى خلَفها، من الفقهاء والدعاة. وغدا الإخلاص من أهمّ عوامل نجاح الدّعوة إلى الله، ومن الأسباب الرئيسة والوسائل المفيدة في اقتناع المَدعُوِّين وتأثّرهم واستجابتهم لِما يُلقى عليهم من تعاليم الشّرع الحكيم وبيان أحكامه. وما انتشر الإسلام في أرجاء العالَم إلاّ مِن خلال صدْق النية، وإخلاص التّوجّه إلى الله، والتجرّد من كلّ شوائب الإشراك في الأعمال، قال تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} (الأحزاب:23). تابع: الإخلاص في القول والعمل فخُلُق الإخلاص من محامد الإسلام وفضائله، وقد حظي في رحاب القرآن والسُّنّة بتوجيه المسلمين إليه، وحثّهم عليه.

والرسول -صلى الله عليه وسلم- هو القدوة الحسنة والأسوة الطيِّبة في الإخلاص، وقد أمره الله به في قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلاَ للهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} (الزُّمَر:2، 3). وخوطب به الناس جميعاً، قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (البيِّنة:5). ومعنى {حُنَفَاء}: سُمحاء، ومن ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه الإمام أحمد: ((إني أُرسِلْتُ بحنيفيّة سَمْحة)). ومن معنى {حُنَفَاء} أي: مُتحنِّفين، أي: مائلين عن الشرك إلى التوحيد، ومعنى {وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}، أي: المِلّة القائمة العادلة، أو الأمّة المستقيمة المعتدلة. وإخلاص القلوب، وسلامة النوايا، وحسْن الطّوايا: سرّ من الأسرار، لا يطّلع عليه إلاّ علاّم الغيوب والعالِم بما في الصدور، قال تعالى: {قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (آل عمران:29). ولذلك كان ميزان صحّة العقيدة وإخلاص القصْد لله هو: السلامة من كلّ مظاهر الشرك، وحُسْن النّية في أداء العبادات والطاعات وسائر الأعمال؛ فعن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إنّما الأعمال بالنّيات، وإنّما لكلّ امرئ ما نوى. فمَن كانت هجْرتُه إلى الله ورسوله، فهجْرته إلى الله ورسوله. ومن كانت هجرته لِدنيا يُصيبها أو امرأة يَنكحها، فهجْرتُه إلى ما هاجَر إليه))، رواه الشيخان.

فهذا الحديث الشريف: أصلٌ عظيم من أصول الإسلام، وقاعدة ثابتة تحكُم على تمحيص الأعمال وتخليصها مِن كلّ شوائب الشّرك وكلّ علامات الرياء. فعن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((قال الله تعالى: أنا أغنى الشّركاء عن الشِّرك. مَن عمل عملاً أشرك فيه معي غيري، تركْتُه وشِرْكَه))، رواه مسلم. وقد بيّن الرسول -صلى الله عليه وسلم-: أنّ أوّل ما يحاسب عليه الإنسان يوم القيامة هو: إخلاص النّيّة لله عند أداء العمل؛ فعن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه، قال: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول ((إنّ أوّل الناس يُقضى يوم القيامة عليه: رجلٌ استُشهد، فأُتِيَ به فعرّفه نِعمَه فعرفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: قاتلتُ فيك حتى استشهدْتُ. قال: كذبْتَ! ولكنك قاتلْتَ لأن يُقال: جريء؛ فقد قيل. ثم أمر به فسُحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل تعلّم العلْم وعلّمه، وقرأ القرآن، فأتِيَ به فعرّفه نِعمَه فعرفها. قال فما عملْتَ فيها؟ قال: تعلمت العلْم وعلمّته وقرأت فيك القرآن. قال: كذبتَ! ولكنك تعلّمت ليقال: عالِم، وقرأت ليُقال: قارئ؛ فقد قيل. ثم أمر به فسُحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل وسّع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال كلّه، فأتيَ به فعرّفه نِعَمَه، فعرَفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تُحبُ أن يُنفق فيها إلاّ أنفقت فيها لك. قال: كذبتَ! ولكن فعلت ليُقال: هو جواد؛ فقد قيل. ثم أمر به فسُحب على وجهه، ثم ألقي في النار))، رواه مسلم. إن هذا الحديث الشريف يوجب على الدّعاة: أن يراجعوا مواقفهم، وأن يعيدوا ترتيب حساباتهم في كلّ موعظة يعظون الناس بها، ويسألون أنفسهم: كم هي بعيدة أو قريبة من فضيلة الإخلاص؟

وعلى العلماء والمفكّرين أن يتساءلوا: أين ميزان الإخلاص في نتاجهم الفكري وآرائهم العلْميّة؟ وما هي طوايا نفوسهم؟ وإلى من يقصدون بأفكارهم؟ فعن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من تعلّم علماً ممّا يُبتغى به وجْهُ الله -عز وجل-، لا يتعلّمه إلاّ لِيصيب به عَرَضاً من الدنيا، لم يجِدْ عَرْفَ الجنّة يوم القيامة))، رواه أبو داود بإسناد صحيح. عَرْف الجنة، أي: ريحها. أمّا إذا توجّه العلماء والدّعاة في ميدان العلْم والدّعوة، وهم يتجرّدون من شبهة الرياء والنفاق، ثم أُثنِيَ عليهم ولهجَتْ ألْسنة الناس بشكرهم، فإنّ هذا لا يُقلِّل من قيمة إخلاصهم؛ فعن أبي ذر -رضي الله تعالى عنه- قال: قيل لِرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أرأيتَ الرّجُل يعمل العمل من الخير، ويحمده الناس عليه؟ قال: ((تِلك عاجِل بُشرى المؤمن))، رواه مسلم. وعلى أولي الأمْر: أن يفتحوا قلوبهم ويمدّوا أيديهم للمخلصين الصادقين الذين يتوسّمون فيهم الإخلاص والصّدق، ولا يُبعدونهم عنهم ولا يتخلّصون منهم، قال تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} (الأنعام:52). وقال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} (الكهف:28). إنّ قيمة المؤمن -ولا سيما الدّعاة إلى الله- لا تكمن في رفعة منصب أو علوّ منزلة، وإنما تكمن فيما يحمله قلبه من إخلاص، ينعكس هذا على ما يدعو إليه

الناس. روي عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه-، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن الله تعالى لا ينظر إلى صُوَركم وأموالِكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم))، رواه مسلم. وروي عن جابر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((يُبعثُ كلّ عبدٍ على ما مات عليه))، رواه مسلم. أي: من الإخلاص أو عدَمه. والإخلاص ثوابه كبير ومَهره غالٍ. وقد يُبتلى الدّعاة ويُفتنون ليُتبيّن حقيقة إخلاصهم وصدقُ نواياهم، قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} (محمد:31). وقال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (العنكبوت:2، 3). فعلى قدْر إخلاص الدّعاة يكون العوْن من الله؛ فكلّما زاد الإخلاص، زاد التأييد والتوفيق من الله. وكلّما ضعُف الإخلاص وتلاشى، قلّ عون الله وتأييده. ويحكى في هذا قصّة رمزية: "أنّ عابداً كان يعبد الله دهراً طويلاً، فجاءه قومٌ فقالوا: إنّ ها هنا قوماً يعبدون شجرة من دون الله تعالى. فغضب لذلك، وأخذ فأسَه على عاتقه، وقصَد الشجرة ليقطَعها. فاستقبله إبليس في صورة شيخ، فقال: أين تريد، رحمك الله؟ قال: أريد أن أقطع هذه الشجرة. قال: فإني لا أتركك أن تقطعها. فقاتله. فأخذه العابد فطرَحه إلى الأرض، وقعد على صدره. فقال له إبليس: أطلقْني حتى أكلِّمك! فقام عنه. فقال إبليس: يا هذا، إن الله تعالى قد أسقط عنك ولم يفرضه عليك. وما تعبُدها أنت، وما عليك من غيرك. ولله تعالى أنبياء في أقاليم الأرض، ولو شاء لبعَثهم إلى أهلها وأمَرَهم بقطْعها. فقال العابد: لا بدّ لي مِن قطْعها. فنابذه للقتال. فغلبه العابد وصرَعه، وقعد على

صدره. فعجز إبليس، فقال له: هل لك في أمْر فصْل بيني وبينك؛ وهو خير لك وأنفع. قال: وما هو؟ قال: أطْلِقْني حتى أقول لك. فأطلقه. فقال إبليس: أنت رجل فقير لا شيء لك، وإنما أنت كَلٌّ على الناس يعولونك. ولعلك تحبّ أن تتفضّل على إخوانك وتواسي جيرانك، وتشبَع وتستغني عن الناس. قال: نعم. قال: فارجع عن هذا الأمر، ولك عليّ أن أجعل عند رأسك في كلّ ليلة ديناريْن إذا أصبحت أخذتَهما، فأنفقتَ على نفسك وعيالك، وتصدّقت على إخوانك؛ فيكون ذلك أنفع لك وللمسلمين مِن قطْع هذه الشجرة. ففكّر العابد وقَبِل ما عرَضَه عليه إبليس، وذهب إلى متعبّده وبات. فلما أصبح وجَد تحت رأسه ديناريْن، فأخذهما. وكذلك من الغد. ثم أصبح في اليوم الثالث وما بعده، فلم يجد شيئاً، فغضب، وأخذ فأسه على عاتقه. فاستقبله إبليس في صورة شيخ، فقال له: إلى أين؟ قال: أقطع تلك الشجرة، فقال: كذبْتَ والله! ما أنت بقادر على ذلك، ولا سبيل لك إليها. قال: فتناولَه العابد ليفعل به كما فعل أوّل مرة، فقال: هيهات! فأخذه إبليس وصرَعه، فإذا هو كالعصفور بين يديْه. وقعد إبليس على صدره، وقال: لتنتهِينّ عن هذا الأمْر أو لأذبحنّك؟ فنظر العابد فإذا لا طاقة له به، قال: يا هذا، غلبْتني، فخلِّ عني، وأخبرني كيف غلبْتُك أولاً وغلبتَني الآن؟ قال: لأنك غضبت أوّل مرة لله، وكانت نيّتك الآخِرة، فهزمني الله لك. وهذه المرّة غضبتَ لنفسك وللدنيا فصرَعْتُك". هذه القصة الرمزية تُبيّن في وضوح وجلاء: حينما تصْدق النّية ويتحقّق الإخلاص، يكون العون والفرَج من الله. وحيثما تمتزج النية والعمل بالدنيا، ويتوجّه الإنسان بالعمل مجرّداً من الإخلاص، تكون الهزيمة والاندحار.

يؤيّد ما ذكرناه: ما جاء في حديث الغار الذي رواه الشيخان عن عبد الله بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما-، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((انطَلَق ثلاثةُ نَفَر ممّن كان قبلَكم حتى أواهم المبيت إلى غار فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسدّت عليهم الغار. فقالوا: إنه لا يُنجيكم من هذه الصخرة، إلاّ أن تدْعوا الله بصالح أعمالكم ... )) إلى آخر الحديث. وأخذ كلّ منهم يسرد عملاً قام به مخلصاً لله، فانفرجت الصخرة، وخرجوا سالمين نتيجة حُسن نيّتهم وإخلاصهم لله فيما قاموا به من أعمال. وإنّ من ثمرات حُسن النية والإخلاص: أن المسلم إذا حبَسه مرضٌ أو عذرٌ عن عمل كان يقوم به مخلصاً، فإن الله يمنحه ثواب صدْق نيّته، ويعطيه الأجر عن هذا العمل الذي كان ينوي صادقاً ومُخلصاً أن يقوم به. ومن ذلك: أولئك النفر الذين رغبوا في الجهاد صادقين، ونفروا في سبيل الله مُخلصين، غير أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اعتذر لهم بعدم وجود ما يَحملهم عليه، فحزنوا وبكَوْا لِحرمانهم من شرَف المجاهدة والغزو مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فنزل قول الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} (التوبة:91، 92). وكان من ثمرة هذا الإخلاص في صدْق النِّية: أن أعطاهم الله أجْر مَن شارك في تلك الغزوة. فعن أبي عبد الله جابر بن عبد الله الأنصاري -رضي الله عنهما- قال: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزاةٍ، فقال: ((إنّ بالمدينة لَرجالاً ما سِرْتُم مسيراً، ولا قطعْتُم

نواقض الإخلاص.

وادياً إلاّ كانوا معكم، حبَسهم المرض))، وفي رواية: ((إلاّ شارَكوكم في الأجْر))، رواه الإمام مسلم. والإخلاص يتحقّق إذا شعر المسلم أنه مراقَب مِن قِبَل الله تعالى في سِرِّه وعلانيته، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ} (آل عمران:5). وقال تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} (غافر:19). فإذا استشعر المسلم -ولا سيما الدّاعي إلى الله- أنه تحت سمْع الله وبصَره، فإنّ هذا يتولّد منه ملَكة المراقبة التي تؤدّي إلى درجة الإحسان، وهي أعلى درجات الإيمان؛ ففي حديث جبريل -عليه السلام- حينما سأل الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ((ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)). نواقض الإخلاص ومن نواقض الإخلاص ونقائصه: أن يكون الدّاعي في دعوته كالحرباء، فيجعل من الدّعوة إلى الله تزلّفاً لذي سلطان، أو رياءً ليشتهر أمْرُه ويرتفع شأنُه؛ وهذا هو الرِّياء المُحبِط للعمل، المُذْهِب لثوابه؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: ((إنّ أخْوفَ ما أخافُ عليكم: الشِّرك الأصغر. قالوا: وما الشِّركُ الأصغر، يا رسول الله؟ قال: الرِّياء. يقول الله يوم القيامة إذا جزى النّاسَ بأعمالهم: "اذهبوا إلى الذين كنتم تُراؤون في الدّنيا، فانظروا هل تَجِدون عندهم جزاءً))، رواه الإمام أحمد. وقد جاء رجل إلى عُبادة بن الصّامت -رضي الله عنه- فقال: "أنْبئْني عمّا أسالك عنه. أرأيتَ رجلاً يُصلّي يبتغي وجْه الله ويحب أن يُحمَد، ويصوم يَبْتغي وجْه الله ويُحبّ أن يُحمَد، ويتصدّق ويبتغي وجْه الله، ويُحبّ أن يُحمَد، ويحجّ يبتغي وجْه الله،

ويُحبّ أن يُحمَد؟ فقال عُبادة: ليس له شيء. إن الله تعالى يقول: "أنا خير شريك؛ فمَن كان له معي شريك فهو له؛ ولا حاجة لي فيه"، تفسير ابن كثير. وقد ذكر الإمام أبو حامد الغزالي في كتابه "الإحياء": الأمور التي تنقض إخلاص الدّعاة إلى الله، وتُبطل أعمالهم فقال: "الرياء بالقول، وهو: رياء أهل الدِّين بالوعظ والتّذكير، والنّطق بالحِكمة، وحفْظ الأخبار والآثار لأجْل الاستعمال في المحاورة وإظهاراً لغزارة العلْم، ودلالةً على شدّة العناية بأحوال السّلَف والصالحين، وتحريك الشّفَتيْن بالذِّكر في محضر النّاس، والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر بمشهد الخلْق، وإظهار الغضَب للمنكَرات، وإظهار الأسف على مقارفة الناس للمعاصي، وتضعيف الصّوت في الكلام، وترقيق الصّوت بقراءة القرآن لِيدلّ بذلك على الخوف والحزن، وادّعاء حفْظ الحديث ولقاء الشيوخ، والمجادلة على قصْد إفحام الخصم ليُظهر للناس قوّته في علْم الدين". وهكذا كلّ عمل لا يُقصد به وجْهُ الله، وينتفي منه الإخلاصُ وصدْقُ النِّية، فإنّه يكون هباءً منثوراً؛ قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} (الفرقان:23)، لأن هذه الأعمال فقدَتْ الشرط الشرعي وهو: الإخلاص، وسلامة النّية، وصحة قصْد وجه الله بتلك الأعمال. ممّا سبق، يتّضح: أن الإخلاص هو: روح الدِّين، وجوهر العبادة، وأساس قبول الأعمال، وأن الدّعاة إلى الله يجب عليهم أن يتجمّلوا بخُلُق الإخلاص في القول والعمل، وأن يتّجهوا بوعْظهم وإرشادهم في الإخلاص لله -تبارك وتعالى-، وأن يبتعدوا عن كلّ مظاهر الشّرك والرياء والنفاق، وأن يجعلوا الإخلاص يتحقّق على النحو التالي:

أولاً: توجيه النشْء منذ نعومة أظفارهم على مفهوم الإخلاص وثمراته المرجوّة وفوائده من الدنيا والآخرة. ثانياً: أن يجد الأبناء صُوَر الإخلاص واقعاً ملموساً أمامهم، يرَوْنه في الأب الذي يُخلص لزوجته. ويشعرون بهذا الإخلاص ويرَوْنه ماثلاً أمام أعْينهم في الأمّ التي تتفانى في خدمة زوجها وأولادها، وتتفانى في الإخلاص لهم. يشاهدون الإخلاص حياً يتحرك أمام أعينهم في المُدرِّس الذي يبذل قصارى جهده لأبنائه الطلاب، حيث يُتقن عمَله ويُخلص في درْسه، وكذلك في سائر الأعمال. يُرى في الأمّة فيما بينها، حيث يؤدِّي كل فرد فيها عمله بإتقان وإخلاص، ممّا يعود عليها بالخير، حيث الجميع يقصدون بعملهم وجه الله تعالى. والدعاة كلما أخلصوا لله في أفعالهم وأقوالهم، تفتّحت لهم القلوب، وأصغت لمواعظهم النفوس والعقول، واستبصرت بقدومهم الأندية والمجالس، وانعكس ذلك على رُقيّ المجتمع وازدهاره؛ وهذا من أعلى فوائد الإخلاص وثمراته. هذا، وبالله التوفيق. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

§1/1