أصول الدعوة

عبد الكريم زيدان

مقدمة

مقدمة ... تمهيد ومنهج البحث: تمهيد: 1- نقصد بالدعوة، الدعوة إلى الله، قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} ، والمقصود بالدعوة إلى الله: إلى دينه، وهو الإسلام {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ} الذي جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم- من ربه -سبحانه وتعالى، فالإسلام هو موضوع الدعوة وحقيقتها، وهذا هو الاصل الأول للدعوة. وقد بلَّغ الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- هذا الإسلام العظيم أحسن تبليغٍ وأكمله، وظل يدعو إلى الله منذ أن أكرمه الله بالرسالة إلى حين انتقاله إلى جوار ربه الكريم، ولهذا أرسله الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} ، فهو -صلى الله عليه وسلم- الداعي الأول إلى الإسلام، فالداعي إذن هو الأصل الثاني للدعوة. والذين دعاهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الإسلام وبلَّغهم رسالته هم العرب وغيرهم؛ لأن رسالته عامَّة إلى جميع البشر، غير مقصورة على العرب، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} ، فالمدعوّ إلى الإسلام إذن هو الأصل الثالث للدعوة. وقد قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالدعوة إلى الإسلام بالوسائل والأساليب والمناهج التي أوحى بها الله إليه، والثابتة في القرآن والسنة النبوية الكريمة، وهذه الوسائل والأساليب وما يتصل بها هي الأصل الرابع للدعوة. فأصول الدعوة إذن أربعة: موضوعها، والداعي، والمدعوّ، والوسائل. منهج البحث: 2- وبناءً على ما تقدَّم سيكون منهجنا في البحث تقسيمه إلى أربعة أبواب، كل

باب لأصل واحد من أصول الدعوة على النحو التالي، مع خاتمة لهذه الأبواب: الباب الأول: موضوع الدعوة. الباب الثاني: الداعي. الباب الثالث: المدعوّ. الباب الرابع: وسائل الدعوة وأساليبها. الخاتمة.

الباب الأول: موضوع الدعوة

الباب الأول: موضوع الدعوة مدخل ... الباب الأول: موضوع الدعوة قلنا: إنَّ موضوع الدعوة هو الإسلام الذي أوحى الله تعالى به إلى رسوله في القرآن والسُّنَّة المطهرة، ونحن في كلامنا على الإسلام لا نريد التفصيل، كما لا نريد الإيجاز والاختصار، وإنما نريد أن نبيِّن شيئًا عنه يحتاج إليه المدعوّ داعي جهله ... وعلى هذا الأساس لا بُدَّ من بيان تعريفه وأركانه وأنظمته ومقاصده. وعلى هذا سنقسِّم هذا الباب إلى خمسة فصول. الأول: تعريف الإسلام. الثاني: أركانه. الثالث: خصائصه. الرابع: أنظمته. الخامس: مقاصده.

الفصل الأول: تعريف الإسلام

الفصل الأول: تعريف الإسلام يمكن تعريف الإسلام بتعاريف كثيرة منها: التعريف الأول: 4- في حديث جبريل -عليه السلام؛ حيث جاء بهيئة أعرابي، يسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم؛ ليسمع الحاضرون ويتعلَّموا أمور دينهم، جاء في هذا الحديث: "فأخبرني عن الإسلام" فقال -صلى الله عليه وسلم: "الإسلام أن تشهد أن لا إله إلّا الله وأنَّ محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلًا". فالإسلام هو ما جاء في هذا الحديث، وسيأتي شرحه فيما بعد. التعريف الثاني: 5- الإسلام هو الخضوع والاستسلام والانقياد لله رب العالمين، ويشترط فيه أن يكون اختياريًّا لا قسريًّا؛ لأنَّ الخضوع القسري لله رب العالمين -أي: لسننه الكونية- أمر عامٌّ بالنسة لجميع المخلوقات، ولا ثواب فيه ولا عقاب، قال تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} 1 فكل مخلوق خاضع لله ولسنته في وجوده وبقائه وفنائه، والإنسان كغيره من المخلوقات في هذا الخضوع القسري. أمَّا الخضوع الاختياري لله رب العالمين فهذا هو جوهر الإسلام المطالَب به الإنسان، وعليه يكون الثواب والعقاب،

_ 1 سورة آل عمران، الآية: 83.

ومظهره الانقياد التام لشرع الله بتمام الرضى والقبول، وبلا قيد ولا شرط ولا تعقيب، ومن ثَمَّ كان الإسلام بهذا المعنى هو دين الله المرضي عنده، وأوحى به إلى رسله الكرام، وبلَّغوه إلى الناس، قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ} 2، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 3، {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} 4، {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ، أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} 5. 6- ثم خص لفظ "الإسلام" بالدِّين الذي جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم- من ربه، وبالانقياد التامِّ له بلا قيد ولا شرط، وبهذا الانقياد يظهر خضوع الإنسان لله رب العالمين خضوعًا اختياريًّا وهو جوهر الإسلام كما قلنا، وبهذا المعنى الخاصّ للإسلام جاء قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا} 6 وعلى هذا يكون تعريف الإسلام بمعناه الخاص وهو المطلوب عند إطلاق هذا الاسم "الإسلام هو الخضوع الاختياري لله رب العالمين، ومظهره الانقياد لشرع الله الذي أوحاه إلى رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- وأمره بتبليغه إلى الناس. التعريف الثالث: 7- الإسلام هو النظام العامّ والقانون الشامل لأمور الحياة، ومناهج السلوك للإنسان التي جاء بها محمد -صلى الله عليه وسلم- من ربه، وأمره بتبليغها إلى الناس، وما يترتَّب على اتباعها أو مخالفتها من ثواب أو عقاب، قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} فالدين هنا يتضمَّن المعاني التي ذكرتها، ويستلزم غيرها، وهي بمجموعها تعني الإسلام جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم- من رب العالمين.

_ 1 سورة آل عمران: الآية: 19. 2 سورة آل عمران، الآية: 85. 3 سورة لقمان، الآية: 22. 4 سورة البقرة، الآيتان: 132، 133. 5 سورة المائدة، الآية: 3.

التعريف الرابع: 8- الإسلام هو مجموع ما أنزله الله تعالى على رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- من أحكام العقيدة والأخلاق والعبادات والمعاملات والإخبارات في القرآن الكريم والسُّنَّة المطهرة، وقد أمره الله بتبليغها إلى الناس، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} 1 وما أنزله الله عليه هو القرآن والسُّنَّة، وفيهما جميع الأحكام التي ذكرناها، وهي دين الله، وهو الإسلام. التعريف الخامس: 9- الإسلام هو الأجوبة الصحيحة الحقة لثلاثة أسئلة شغلت عقول البشر في القديم وفي الحديث، وترد على فكر كل إنسان كلما خلا بنفسه وشرح خواطره في أمور الحياة، أو شيِّع ميتًا أو شاهد قبورًا ... هذه الأسئلة هي: من أين جئنا؟ ولماذا جئنا؟ وإلى أين المصير؟ والأجوبة الصحيحة لهذه الأسئلة التي أخبر بها رسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم- تكون بمجموعها وتفصيلاتها الإسلام: 10- فعن السؤال الأول يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} 2. {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ

_ 1 سورة المائدة، الآية: 67. 2 سورة الحج، الآية: 5.

ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} 1. {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ، ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} 2. {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا، إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} 3. {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ، خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ، يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} 4. فهذه الآيات الكريمة وأمثالها في القرآن الكريم تبين أن الإنسان لم يكن شيئًا، كان معدومًا، فخلقه الله تعالى من تراب، ثم جعل نسله من ماء مهين على النحو المذكور في هذه الآيات، فمن جهة خلق الإنسان الأول وهو آدم -عليه السلام، كان خلقه من طين أو تراب، ومن جهة خلق نسله وذريته، كان خلقه من {نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} 5 أي: من الماء الدافق الذي يخرج من بين الصلب والترائب. 11- وعن السؤال الثاني: يقول الله تعالى في القرآن الكريم: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 6 والعبادة تتضمن معرفة الله ومحبته والخضوع له، وإتباع مناهجه التي وضعها للإنسان لتكميل نفسه، ورفعها إلى المستوى اللائق بها، والمستعدة له؛ ليظفر بالسعادة الحقيقية هنا وهناك في الدنيا والآخرة. فالإنسان خلق لعبادة الله بمعناها الواسع كما سنذكر فيما بعد. 12- وعن السؤال الثالث: يقول الله تعالى في القرآن الكريم: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ} 7.

_ 1 سورة المؤمنون، الآيات: 12، 13، 14. 2 سورة السجدة، الآية: 7، 9. 3 سورة الإنسان، الآيتان: 1، 2. 4 سورة الطارق، الآية: 5. 5 سورة القيامة: الآية: 37. 6 سورة الذاريات، الآية: 56. 7 سورة الانشقاق، الآية: 6.

{اللَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 1. {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} 2. {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} 3. {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} 4. فهذه الآيات الكريمة تبيِّن مصير الإنسان بعد موته، وهو رجوعه إلى خالقه؛ لمجازاته على أعماله في الدنيا، وإدخاله الدار التي تلائمه، فإن كان قد زكَّى نفسه بعبادة الله وصار من الطيبين فنزله في دار الطيبين -الجنة، وإن كان قد دنَّس نفسه ولوَّثَها بأقذار المعصية وأبقى خبثها، فنزله في دار الخبيثين -جهنم، كما سيأتي بيان ذلك فيما بعد. التعريف السادس: 13- الإسلام هو الروح الحقيقية للإنسان، والنور الهادي له في درب الحياة، والشفاء الكافي للأمراض البشرية، والصراط المستقيم الذي لا يضلّ من سلكه وسار فيه، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} 5. وقال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} 6 {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} 7. ومن الواضح أنَّ هذا التعريف تعريف للإسلام ببعض صفاته اللاصقة به التي لا تنفكّ عنه، وعلى هذا يمكن تعريفه بذكر أوصافه الأخرى، كأن نقول: الإسلام هو

_ 1 سورة الروم: الآية: 11. 2 سورة الزمر، الآية: 7. 3 سورة النجم، الآية: 42. 4 سورة العلق: الآية: 8. 5 سورة الشورى، الآية: 52. 6 سورة الأسراء، ألآية: 82. 7 سورة فصلت، الآية: 44.

دين الفطرة؛ لقوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 1. كما يمكن أن نقول في تعريفه: الإسلام دين التوحيد، أو دين العلم، أو دين العدل؛ لأن فيه هذه المعاني على أتمِّ الوجوه، ويدعو إليها ويؤكِّد عليها.... تعاريف أخرى للإسلام: 14- ومما تجب ملاحظته أنَّ ما ذكرناه من تعاريف متنوعة للإسلام إنما هو على سبيل التمثيل لا الحصر؛ إذ يمكن الإتيان بتعاريف أخرى بعبارات متنوعة، ولا مانع من ذلك بشرط أن يكون مضمون التعريف صحيحًا ومنطقبًا على معنى الإسلام، وأن تكون ألفاظ التعريف واضحةً لا لبس فيها ولا غموض ولا اشتباه. لا تناقض ولا اختلاف: 15- وملاحظة ثانية: إنَّ هذه التعاريف التي ذكرناها كلها صحيحة ولا تناقض فيما بينها ولا اختلاف؛ لأنَّ كل واحد منها يستلزم أو يتضمَّن ما في التعريف الآخر، إنَّ الاختلاف فيما بينها هو اختلاف في الألفاظ لا في المعاني التي يبرزها هذا التعريف دون ذاك، وهذا القدر من الاختلاف لا يؤثر في وحدة مضمون التعاريف ودلالتها على معنى الإسلام صراحة أو بالتضمن والاستلزام كما قلنا. المقصود من تعدد التعاريف: 16- والغرض الذي نقصده من إيراد التعاريف المتعددة للإسلام هو أن يجد الداعي بين يديه جملة من التعاريف يستطيع أن يختار منها ما يناسب حال المدعوّ من جهة مدى فهمه وثقافته وعلمه وسلامة فطرته، ونوع الشبهات التي غشيبت قلبه، والمعاني التي هو بحاجة إلى معرفتها عن الإسلام أكثر من غيرها. فالشخص الحائر الذي قرأ ما يسمَّى بالفلسفة فاشبهت عنده الأمور، يناسبه إذا سأل عن الإسلام أن يجاب بالتعريف الخامس، وهو أنَّ الإسلام هو الأجوبة الحقة الصحيحة لما يرد على ذهن الإنسان من أسئلة: من أين جئنا؟ ولماذا جئنا؟ وإلى أين المصير؟ والتي بلغها رسول الله

_ 1 سورة الروم، الآية: 3.

محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى الناس. والمشتغل بالأمور القانونية والعلوم الاجتماعية يناسبه عندما يسأل ما هو الإسلام، أن يجاب بالتعريف الثالث. وغير المسلم إذا دعي إلى الإسلام وسأل عنه يجاب بالتعريف الأول: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.. إلخ. التعريف المختار: 17- والتعريف الذي نختاره أساسًا لبيان أركان الإسلام هو التعريف الأول الذي ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث جبريل، وقد ذكرناه سابقًا، وهو يتضمَّن جميع ما في التعاريف الأخرى من معانٍ.

الفصل الثاني: أركان الإسلام

الفصل الثاني: أركان الإسلام مدخل ... الفصل الثاني: أركان الإسلام تمهيد: 18- ذكرنا حديث جبريل وفيه جواب النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنه: "الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلًا". وعلى هذا فأركان الإسلام في ضوء هذا الحديث الشريف ثلاثة: الأول: شهادة أن لا إله إلا الله، الثاني: شهادة أنَّ محمدًا رسول الله، الثالث: العمل الصالح وفي ذروته الصلاة والزكاة والصوم والحج، وإنما ذكرت هذه الأربعة لأهميتها، وللتنبيه إلى ضرورة العمل الصالح للمسلم، وأنه لا يكفي التلفظ بالشهادتين، بل لا بُدَّ من العمل بمضمونها. فلا بُدَّ من الكلام عن هذه الأركان الثلاثة، وعلى هذا نقسم هذا الفصل إلى ثلاثة مباحث، ونحصص لكل ركنٍ مبحثًا على حدة.

المبحث الأول: الركن الأول: شهادة أن لا إله إلا الله

المبحث الأول: الركن الأول: شهادة أن لا إله إلا الله معنى الشهادة: 19- الشهادة تعني: العلم والإعلام والإخبار والبيان، ولهذا سمي الشاهد شاهدًا؛ لأنه يخبر بما علم. والبيان والإخبار كما يكون بالقول يكون بالفعل، فمن الشهادة بالفعل قول الله تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} 1 فهذه شهادة منهم على أنفسهم بما يفعلونه، أي: إنَّ أفعالهم بينت وأظهرت أنَّهم كفرة. وتتضمن كلمة الشهادة الإقرار والاعتراف والاعتقاد، فإن الشاهد يعتقد صحة ما يشهد به ويخبر عنه، فإذا شهد بما لا يعتقده كانت شهادته كاذبة؛ لأنَّ إخباره لا يطابق اعتقاده، قال تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} 2 فهم كاذبون لأنهم لا يعترفون بصحة ما يقولون، ولا يعقتدون ما يقولون. فكلمة "أشهد" إذن تدل على معنى العلم والمعرفة والبيان، وتتضمَّن معنى الإقرار والإذعان والاعتقاد.

_ 1 سورة التوبة، الآية: 17. 2 سورة المنافقون، الآية: 1.

معنى الإله: 20- أمَّا كلمة "إله" فيراد بها المعبود، وهي تستعمل بمعنى المعبود بحقٍّ أو بباطل، وبهذا المعنى وردت في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} 1 كما تستعمل بمعنى المعبود الحق، وبهذا المعنى وردت في قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} 2 وبهذا المعنى أيضًا وردت في قوله -عليه الصلاة والسلام: "أن تشهد أن لا إله إلا الله". معنى كلمة التوحيد: 21- وعلى هذا يكون معنى كلمة التوحيد -أشهد أن لا إله إلا الله: إنِّي أعلم وأقرّ وأعترف وأعتقد بأن المعبود الحق الذي لا يستحق العبادة غيره هو الله تعالى، وأن أبين ذلك وأظهره بلسان وأفعالي وسلوكي. هذا، وإنَّ إفراد الله تعالى بالعبادة، وهو الذي يسمَّى بتوحيد الألوهية، يتضمَّن توحيد الربوبية ومعناه: الاعتقاد بأن الله تعالى وحده هو رب العالمين، فصار عندنا التوحيد نوعين1 توحيد الألوهية. 2 توحيد الربوبية. أولًا: توحيد الألوهية 22- توحيد الألوهية هو الذي بعث الله به جميع رسله، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 3 وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 4. وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} 5.

_ 1 سورة الجاثية، الآية: 23. 2 سورة محمد، الآية: 19. 3 سورة الأنبياء، الآية: 26. 4 سورة النمل، الآية: 36. 5 سورة المؤمنون، الآية: 23.

وقال تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} 1. 23- والعبادة لله تقوم على الحب الخالص لله مع الذلِّ الكامل له، ومظر ذلك توجيه العبد إلى الله تعالى بالتوكل عليه، والثقة به، والخوف منه، والإنابة إليه، والطلب منه، والأنس بذكره، والفرار إليه، ونشاط الجوارح بتنفيذ شرعه وأقامة دينه، والانصباغ بصبغته، وإيثار محبته وطاعته، وجعل السلوك والأقوال والأفعال وسائر الأحوال على الوجه المرضي عند الله، وبهذا كله يحقق المسلم معنى أشهد أن لا إله إلا الله بالقول والعمل، فيكون صادقًا في شهادته. 24- وتزداد معاني العبودية ويرسخ أصلها ويعظم أثرها بقدر علم العبد بمدى فقره وحاجته إلى الله، وعدم استغنائه عنه طرفة عين، ويزداد حب العبد لله وخضوعه له بقدر معرفته بكمال الله وعظيم نفعه ونعمه عليه، وتفكره في آلائه التي لا تُعَدُّ ولا تحصى {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} ، وفي تفكره في صفاته ومعاني أسمائه الحسنى. 25- وبقدر امتلاء القلب بمعاني العبودية يحترز من عبودية غير الله تعالى، حتى يصبح عبدًا خالصًا لله، وهذه أسمى درجة ينالها الإنسان، ولذلك وصف الله تعالى رسوله الكريم بوصف العبودية في أرفع منازله، وصفه بها في مقام تنزل الوحي عليه، وحين الدعوة إليه، وحين أسري به -صلى الله عليه وسلم- وعرج به إلى السماء، قال تعالى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} ، {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} ، {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} . ثانيًا: توحيد الربوبية 26- كلمة الرب تدل على جملة معاني منها: السيد ومالك الشيء وموجده والمتصرِّف فيه، والمربِّي لغيره، والمتكفل بمصلحة الإنسان، وصاحب السلطان والسيادة، النافذ أمره في غيره. ومعاني الربوبية هذه وما تتضمَّنه أو تستلزم من معاني أخرى لا يوصف بها ولا يمكلها على وجه الحقيقة والكمال إلّا الله تعالى، وأمَّا غيره فهو مربوب لله، وإذا وجد فيه شيء من معاني الربوبية فعلى وجه المجاز والعارية، فإن كل ما سوى

_ 1 سورة الأعراف: الآية: 65.

الله مخلوق لله، منه يستمد وجوده وبقاءه، وكل ما عنده من صفات الكمال المناسبة للمخلوق، الله تعالى هو رب العالمين على وجه الحقيقة، فلا ربَّ سواه، فهو الخالق المحيي المميت النافذ أمره وحكمه في جميع خلقه، بيده الملك وهو على كل شيء قدير، يتصرَّف في الكون كما يشاء، لا معقب لحكمه ولا لتصرفه، وهو القائم على شئون خلقه، والمتكفل بما يصلحهم، وهو القادر على النفع والضرر، إذا أراد نفعَ أحد فلا رادَّ لفضله، وإن أراد بأحدٍ غير ذلك فلا مانع له من ذلك، قال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} 1 فالله تعالى هو المتفرِّد بالعطاء والمنع والنفع والضر، وكل ما عدا الله فإنَّه فقير إليه محتاج إليه {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} ، فالفقر وصف ذاتي لكل مخلوق، كما أن الغني وصف ذاتيّّ لله رب العالمين. دلائل توحيد الربوبية: 27- والدلائل الدالة على ربوبية الله وتفرُّدِه بها وعدم مشاركة أحد له فيها كثيرة جدًّا، فما من شيء في الكون من أصغر ذرة إلى أكبر جرم إلّا وهو يشهد أنَّ الله هو رب العالمين، وبالتالي فهو الإله الحق للعالمين. إنَّ هذا الكون العجيب الغريب المتناسق المنظَّم يقول بلسان الحال: إن له خالقًا عظيمًا هو الله تعالى، وإنَّ العقل السليم لا يمكنه أصلًا أن يتصوَّر أن هذا الكون وُجِدَ بلا موجد، وحدث بلا محدث، فإنَّ قبول هذا التصور مخالف لأي عقل سويّ. إن عقولنا تأبى قبول قول من يقول: إن هذا حدث "صدفة"، بأن أثَّرت الأمطار في جبلٍ فحفرت فيه حفرًا صارت غرفًا، وأنّ عقلنا يرفض من يزعم أنَّ هذا الكتاب حدث بفعل تجمع الحديد وإنصهاره بفعل الحرارة، ثم تشقَّقَ الحديد المنصهر فصار حروفًا، ثم تجمعت الحروف ووقعت عليها مادَّة سوداء، ثم حصلت عجينة الخشب بسبب سقوط الأشجار وبفعل الأمطار، ثم جفَّت وصارت صحائف، فجاءتها ريح وضعتها على الحروف، ثم إنَّ هذه الحروف انطبعت على الصحائف بعد تغيِّر ترتيبها بعد طبع كل صحيفة بفعل

_ 1 سورة الأنعام: الآية: 17.

الرياح.. إنَّ هذا الكلام لا يصدقه عاقل، فكيف يصدق أنَّ هذا الكون الهائل، وهذا الإنسان العجيب، وهذه المخلوقات الغريبة من حيوان ونبات، كل ذلك حدث صدفة بلا موجِد ولا مدبِّر ولا منظِّم، إنَّ هذا شيء لا يكون قبوله أبدًا. أذكر أن أحد الطلاب سألني: لماذا لا يمكن أن يوجد هذا العالم صدفة بفعل المادة؟ فأجبته: انظر إلى هذه السبورة وهي أمامك -وكان عليها بعض الكتابات، لو قال إنسان: إن هذه الأسطر على السبورة لم يكتبها كاتب، وإنما حدثت صدفة بأن حملت الرياح ذرات التراب ودخلت بها من نوافذ الغرفة وأسقطتها على السبورة، فظهرت بشكل كلام مفهومٍ مكونًا هذه الأسطر، أيمكن لعاقل أن يصدق هذه القول؟ فقال: لا، قلت: فإذا كان هذا غير مقبول ويرفضه العقل، وهو شيء بسيط وتافه للغاية، فكيف يمكن لعقل سليم أن يصدِّق أن المادَّة الصماء العمياء أبدعت هذا الكون، أو أنَّ هذا الكون بكل ما فيه انبثق من هذه المادة؟ ولهذا فإن الإقرار بربوبية الله وإنفراده بها أمر شائع عند البشر، ومركوز في فطرة كل إنسان، ويعترف به حتى المشرك، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} 1، وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} 2. القرآن الكريم وتوحيد الربوبية في النفوس: 28- والقرآن في آياته يذكِّر الناس بما هو مركوز في فطرهم ويقرره، وهو أنَّ الله وحده رب العالمين، قال تعالى: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} 3، ومن أنكر وجود الخالق عزَّ وجلّ بلسانه فإنه مستيقن في باطنه بوجود الله تعالى، قال تعالى مخبرًا عن أمثال هؤلاء الجاحدين المنكرين: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} 4، فالإنكار والجحود من البعض لوجود الخالق هو إنكار وجحود محض على وجه المكابرة والعناد، ولا يعني خلوَّ فطرة الإنسان من الإحساس العميق بوجود الخالق، ولهذا إذا زالت الغشاوات عن فطرة الإنسان وزالت مكابرته وعناده، فإنه يجد نفسه بلا اختيار منه متوجهًا إلى الله، هاتفًا بلسانه

_ 1 سورة الزخرف، الآية: 87. 2 سورة الزخرف، الآية: 9. 3 سورة إبراهيم الآية: 10. 4 سورة النمل، الآية: 14.

مستنجدًا به بكل كيانه. أذكر أني قرأت في مجلة كانت تصدر في أيام الحرب العالمية الثانية حديثًا لصحفيٍّ أجراه مع أحد الطيارين، وقد سأله الصحفي عن أحرج الساعات التي مرت به أثناء قيامه بواجبه، وما كان شعوره في تلك الساعة الحرجة، فأجابه الطيار بأنَّه نشأ في بيت ليس فيه ما يذكِّره بالله، فقد كان أبوه ملحدًا، ونشَّأَه على الألحاد، وكذا كان أخوته، وعند انخراطه بسلك الطيران استمرَّ في الحاده وإنكاره لكل شيء عدا ما يراه بعينه ويلمسه بيده، وفي أثناء قيامه بأعماله الحربية أحسَّ أن طائرته توشك أن تسقط، وأن الهلاك محتم، فإن لم يهلك بسقوط الطائرة فإنه سيهلك على يد العدو إذا وصل إلى الأرض سالمًا. قال الطيار: في تلك الساعة الحرجة لم أفكِّر في شيء على الأرض من أهلٍ أو قريبٍ أو صديقٍ أو زوجةٍ، وإنما رأيت نفسي وبلا شعور منِّي متوجهًا إلى الله تعالى، هاتفًا باسمه، طالبًا العون منه، وهكذا كان، فقد نجوت باعجوبة، والفضل في ذلك لله وحده، الذي لم أفكِّر فيه قط منذ ثلاثين سنة وهي عمري الآن. إنَّ هذه القصة صحيحة على ما أعتقد؛ إذ لا داعي لتلفيقها، بل وإنها تتكرَّر في كل يوم مئات المرات بأشكال آخرى. إنَّ الإنسان الغافل الناسي الذي لا يخطر بباله الله تعالى، يجد نفسه مدفوعًا إلى التوجّه إلى الله تعالى كُلَّمَا ألمَّت به مصيبة، أو وجد نفسه في ضيق، فالمريض الراقد في سريره أو في غرفة العمليات، وراكب الطائرة الذي يخبره قائدها أنَّ خطرًا يواجه الطائرة، هؤلاء لا يفكرون في تلك الساعة بشيء، ولا يخطر ببالهم شيء سوى الله تعالى، به يستجيرون وإليه يتوجهون. وصدق الله العظيم إذ يقول مخبرًا عن المشركين: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} 1. إنَّ مسألة وجود الله من البدهيات التي لا توجد بدهية مثلها في الوضوح والظهور، بل نقول: إذا لم تصح هذه المسألة في العقول فلا يمكن مطلقًا أن تصحَّ مسألة أخرى غيرها، فليس هناك شيء عليه من الأدلة من حيث الكثرة والتنوع مثل مسألة وجود الله تعالى. توحيد الربوبية يستلزم توحيد الألوهية: 29- وتوحيد الربوبية وإفراد الله تعالى بجميع معانيها، يستلزم قطعًا توحيد

_ 1 سورة لقمان. الآية: 32.

الألوهية، أي: إفرادالله بالعبادة، وأنَّه وحده هو المعبود الحق الذي لا يستحق غيره ذرة واحدة من العبادة، ولهذا يذكر القرآن المشركين بربوبية الله وانفراده بها، وأنها تستلزم توحيده في الألوهية، وهذا مسلك سديد واضح جليّ لا يجوز إغفاله والاستعاضة عنه بمسالك ملتوية غير مجدية، فمن هذه النصوص القرآنية قوله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} 1 {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} 2، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} 3. فهذه الآيات تذكِّر المشركين بحقيقة واضحة، وهي أنَّ معبوداتهم من دون الله عاجزة لا تستيطع خلق شيء ولو ذبابة، وإن يسلبهم الذباب شيئًا لا يستطيعون تخليصه منه، كيف يجوز في العقل السليم أن يعبد غير الله، ويسوي مع الله في العبادة وهو الخالق وحده، وما سواه عاجز ضعيف مخلوق؟ ويحاجج القرآن المشركين ذاكرًا لهم أنَّ ما يعبدونهم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، ولا يشاركون الله تعالى في ذرةٍ في السماوات ولا في الأرض، وليس لله بمعبوداتهم البالطة حاجة ولا أيّ عون، وإذا كان الأمر كذلك كما يرون فيجب عليهم إخلاص العبادة لله تعالى. قال الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} 4. والقرآن يقرر بعض الحقائق التي يعترف بها المشركون، وهي أنَّ الله هو مالك السماوات والأرض والمتصرِّف فيها، وهو الذي يجير المستجيرين به، فيجب إذَنْ أن يعبدوا الله دون غيره، قال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ، قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ، قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ

_ 1 سورة الأعراف، الآية: 191. 2 سورة النمل: الآية: 17. 3 سورة الحج، الآية: 73. 4 سورة سبأ، الآية: 22.

وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ، بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} 1. العلوم الحديثة وعقيدة التوحيد: 29- والعلوم الحديثة المتعلقة بالكون وبالذرة، أو بالإنسان، أو بالنبات وبالصناعات والكشوف الحديثة والمخترعات الحديثة، كل هذه تقوي عقيدة التوحيد وتزيد إيمان المؤمن؛ لأنها تكشف عن دقة نظام الكون وعجائب خلق الله ولطائف صنعه الدالة على عظمته وواسع قدرته وعلمه، فإن دقة المصنوع تدل على عظمة الصانع، وأنَّ وراء هذه الصنعة البديعة والنظام الدقيق خالق عظيم، وصدق الله العظيم إذ يقول: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} 2 {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} 3. مكانة التوحيد في الإسلام: 30- التوحيد في الإسلام هو كل الإسلام، والقرآن كله يدور حول التوحيد، فآيات القرآن إمَّا إخبار عن الله وصفاته وخلقه وأفعاله وتدبيره، وإمَّا أمر ونهي وهما من لوازم ربوبيته وقيوميته على خلقه، وإمَّا بيان للثوب بأنواعه، وهو جزاء من أطاعه واتَّبَع رسله الذين أرسلهم بشريعته القائمة على توحيده في الألوهية والربوبية، وإمَّا بيان للعقاب بأنواعه وهو جزاء المخالفين لشرعه، وإمَّا إخبار عن أحوال المكذبين الماضين وهو بيان لمن خرج عن مقتضى توحيده وعبادته. فالتوحيد هو لب الإسلام وأساسه، ومنه تنبثق سائر نظمه وأحكامه وأوامره ومناهجه، وكل ما فيه عبادات وأحكام يرسخه ويقويه ويثبته في قلوب المؤمنين.

_ 1 سورة المؤمنون: الآيات: 84-90. 2 سورة فصلت: الآية: 53. 3 سورة الذاريات، الآية: 21.

المبحث الثاني: الركن الثاني: شهادة أن محمدا رسول الله

المبحث الثاني: الركن الثاني: شهادة أنَّ محمدًا رسول الله معنى هذه الشهادة: 31- وهذه الشهادة هي الركن الثاني في الإسلام، ومعناها: العلم والتصديق والاعتقاد الجازم بأنَّ محمدًا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رسول الله، وإعلان ذلك وإظهاره وبيانه بالقول والعمل، أمَّا بالقول فبالنطق بهذه الشهادة، وأمَّا بالعمل فيكون بإقامة سلوك الإنسان وجميع تصرفاته القولية والعملية وفق ما جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم- من ربه على وجه الاتباع له، والقبول منه باعتباره رسول الله. رسل الله كثيرون: 32- ورسل الله الذين أرسلهم إلى البشر كثيرون، منهم من قصَّ الله علينا أخبارهم، وعرَّفنا بأسمائهم، ومنهم من لم يعرّفنا بهم، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} ، فكل أمة من أمم الأرض جاءها رسول، وقد لا نعرفه؛ لأنَّ الله تعالى لم يخبرنا باسمه ولا برسالته، قال تعالى: {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} 1.

_ 1 سورة النساء، الآية: 164.

تبرير إرسال الرسل: 33- والفكرة التي وراء إرسال الرسل والتي على أساسها يمكن تبرير إرسالهم إلى الناس، تقوم على أساس تفرُّد الله تعالى بالربوبية والألوهية، فهو رب العالمين وإلههم، فلا ربَّ لهم سواه، ولا إله لهم غيره، ومن لوازم ربوبيته وألوهيته تعالى قيامه -عز وجل- بتدبير شئون خلقه، والتكفُّل بمصالحهم وما يصلح لهم ويصلحون به، والتصرف فيهم بالأمر والنهي. ولا شكَّ أنَّ الإنسان لا يحتاج فقط إلى الغذاء ونحوه مما هو ضروري لإدامة حياته الجسدية، وإنما هو بحاجة وضرورة إلى ما يفي بحاجات روحه التي امتاز بها عن غيره، وإلى ما يوصله إلى الكمال اللائق به كإنسان، وعلى هذا فأهمّ مصالح الإنسان على الإطلاق إبلاغه السعادة والكمال المقدَّر له بتعرفه بخالقه ومعبوده، وطريق الوصول إليه، ووضعه على الصراط المستقيم الذي لا يضل فيه ولا يشقى. وحيث إنَّ الإنسان بنفسه لا يستطيع أن يعرف هذه الأمور على وجه صحيح سالم من الخطأ؛ لأنها فوق قدرة العقل، فقد اقتضت حكمة الربِّ ورحمته بالإنسان أن يرسل للبشر رسلًا من جنسهم، يكلمونهم بلغتهم، ويبلغونهم رسالات ربهم، ويعرفونهم به، ويبينون لهم طرق الوصول إليه، وما يسعدون به في حياتهم وأخراهم، ولهذا كان من لوازم الإيمان بالله ربًّا وإلهًا الاعتقاد برسل الله، وأنَّ إنكار رسله يتضمن الجهل بالله وتنقيصه وعدم تقديره حق قدره، ومن ثَمَّ يكون كفرًا، قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} 1. ختم الرسالات: 34- وقد ختم الله رسالته بالرسالة الإسلامية التي أوحى بها إلى نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم، وجعله خاتم الأنبياء والمرسلين، قال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} 2 وإنما ختمت الرسالة برسالة الإسلام الخالدة؛ لكمالها ووفائها بحاجات البشر إلى يوم القيامة، فلا داعي لرسالة أخرى، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا} 3.

_ 1 سورة الأنعام: الآية: 91. 2 سورة الأحزاب، الآية: 40. 3 سورة الأنعام: الآية: 3.

أدلة نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم: 35- قلنا: إن إرسال الرسل من لوازم ربوبية الله وألوهيته، وما من رسول أرسله الله إلّا وأيده بما يدل على صدقه ونبوته، وبالنسبة لنبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- يقول: ما من أدلة تقام لإثبات نبوة نبيٍّ أو رسولٍ إلّا وكانت مثل هذه الأدلة وأكثر منها وأظهر موجودة في إثبات نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم، ولهذا من يؤمن بنبوة موسى أو عيسى أو أيِّ نبي آخر ويجحد بنبوة محمد -صلى الله عليه وسلم، فإنه يكون متناقضًا في نفسه وفي الواقع، ولا يكون إيمانه وجحوده إلّا حصلية الجهل والتعصب والتقليد بلا دليل أو برهان؛ لأنَّ ما دعاه إلى الإيمان بنبوة نبيٍّ أو رسول يوجد مثله وأكثر منه يدعوه إلى الإيمان بنبوة محمد -صلى الله عليه وسلم. إنَّ مَثَلَه مَثَلُ من يعتقد أن فلانًا عالم بالطبِّ لأنه طالب في السنة الأولى في كلية الطب، ولكن يرفض الاعتقاد بأنَّ أستاذ هذا الطالب الذي ظلَّ يمتهن الطب عشرات السنين تدريسًا لهذا الطالب وغيره، وتطبيقًا لعلم الطب، يرفض أن يعتقد فيه معرفة الطب، ومن البديهي أنَّ رفضه هذا مع اعتقاده ذاك تناقض محض لا يصدر إلّا عن جهل وتعصُّب وتقليد. ومع هذا القول العامِّ فإنَّ من المفيد أن نقدِّم بعض الأدلة لإثبات نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم، فمن هذه الأدلة سيرته -صلى الله عليه وسلم؛ من نشأته حتى وفاته، فهذه السيرة الطيبة العطرة لا يمكن أن يكون صاحبها كذَّابًا يدَّعي على الله ما ليس فيه. وهذا الدليل يكفي لأصحاب العقول السليمة والفطر القويمة، وبه استدلت السيدة خديجة عندما أخبرها الرسول -صلى الله عليه وسلم- بما رآه من جبريل في أول بدء الوحي، فقالت له فيما قالته: أبشر، فإنَّ الله لا يخزيك أبدًا، فإنك تحمل الكلَّ وتعين الضعيف، إلى آخر ما قالته في صفاته العالية وسيرته الطيبة. ومن أدلة نبوته هذه الشريعة العظيمة في جميع جوانبها، التي يستحيل صدروها عن رجلٍ أميٍّ عاش في ذلك المجتمع العربي المعروف، فلو لم تكن وحيًا إلهيًّا لما أمكن لأحد أن يأتي بها مهما كان نضوجه العقلي وإتساع أفق تفكيره، وهذ الدليل يدركه ويقدِّره العلماء بالقانون والاجتماع والعلوم الأخرى. وأعظم دليل على نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم، وهو لا يزال قائمًا موجودًا بين أيدينا، هو القرآن العظيم وإعجازه الثابت، فلا بُدَّ من الكلام عن هذا الدليل على حدة.

دليل الإعجاز: 36- من الواضح الجليِّ المعروف لدى المطَّلعين على التاريخ الإسلامي أنَّ أهل مكة وقريش بالذات قاومت الدعوة الإسلامية الأولى، ولم تعترف أوّل اللأمر بنبوة محمد -صلى الله عليه وسلم، وأنكرت أنه رسول الله، أو أنَّ القرآن كتاب الله، فكان من جملة ما حصل بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبين قريشٍ وسائر المخالفين له والمعاندين والمنكرين أنْ تحداهم بالقرآن، بأن قال لهم كما أوحى الله إليه: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} 1، فكست المخالفون عن هذا التحدي، وعجزوا عن كسره أو الإجابة عليه، ثم تحدَّاهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأن قال لهم ما أوحى الله إليه: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 2، فسكتوا وعجزوا، ثم تحداهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأن قال لهم ما أوحى الله به إليه: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 3، {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} 4. وكانت نتيجة هذ التحدي المتكرِّر من قِبَل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى قريش وسائر المخالفين، أقول: كانت نتيجة ذلك أن عجز المخالفون عن كسر هذا التحدي، أو عن محاولة الافتراء، واستعمال الصدِّ عن سبيل الله بالقوة والإرهاب والإيخاء لمن معهم بأن لا يسمعوا للقرآن؛ لئلَّا يتأثرون به. قال تعالى مخبرًا عن أسلوبهم هذا: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} 5.

_ 1 سورة الإسراء، الآية: 88. 2 سورة هود، الآية: 13. 3 سورة يونس، الآيتان: 37، 38. 4 سورة البقرة، الآيتان: 23، 24. 5 سورة فصلت، الآية: 26.

تحدي القرآن للمخالفين: 37- إنَّ التحدي إذا ما نجح بعجز من وجِّه إليهم عن الإجابة عليه، فإنَّه يدل دلالة واضحة على صدق المتحدي، وصدق ما يدَّعيه لنفسه، كما يدل على بطلان دعوى من وجِّه إليهم هذا التحدي، ولكنَّ هذه الدلالة لا تتمّ إلّا إذا كان التحدي مستجمعًا الشروط اللازمة له، التي تؤدي إلى هذه الدلالة أو هذه النتيجة. فهل توفَّرت شروط تحدي القرآن لقريش، الذي جاء على لسان رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ وقبل الإجابة على هذا السؤال، ما هي شروط التحدي؟ إنَّ هذه الشروط هي: أولًا: أن يكون موضوع التحدي داخلًا في قدرة من وجِّه إليهم، بل ويكون داخلًا في اختصاصهم ومما هم بارعون فيه ومتفوقون فيه ومشهورون فيه، كما لو وجه مصارع تحديه إلى المصارعين بأنَّه هو البطل الوحيد في المصارعة، ومن يشك في ذلك فليتقدم إلى مصارعته، فموضوع التحدي هنا "مصارعة"، والمصارعة داخلة في اختصاص من وجِّه إليهم هذا التحدي وهم المصارعون. ثانيًا: والشرط الثاني للتحدي أن يكون من وجِّه إليهم راغبين كل الرغبة، حريصين كل الحرص على إبطال دعوى المتحدي والإجابة على تحديه، فلا يكفي توافر الشرط الأوَّل لقيام التحدي السليم الموصِّل إلى نتيجة، فقد يكون من وجِّه إليهم غير راغببين ولا حريصين على إبطال دعوى المتحدي، وبالتالي يسكتون ولا يجيبون، فلا يدل سكوتهم على عجزهم، وبالتالي لا يدل على صدق دعوى المتحدي، كما لو كان بين المتصارعين من هو قادر على كسر تحدي المصارع المتحدي، ولكنه لا يرغب في ذلك؛ لأنه ابن للمتحدي أو أخوه أو صديقه، أو أن المتحدي يعتبر تافهًا في نظر من تحداهم، لا يستحق حتى الإجابة على تحديه. ثالثًا: والشرط الثالث للمتحدي أن لا يوجد مانع من وجِّه إليهم التحدي من الإجابة عليه، وأقصد بالمانع هنا: مانع الخوف من المتحدي، الخوف من بطشه وقوته وقدرته على إلحاق الأذى بهم، فلا يكفي إذن توافر الشرطين السابقين لقيام التحدي الصحيح إذا لم يتوفَّر هذا الشرط الثالث، فلو تحدى شخص منازعيه ومخالفيه بأنَّه هو الوحيد الذي يحوز ثقة الشعب، وأن الشعب لا يختار غيره ولا يرضى بغيره بديلًا برئاسة الدولة، وهو يتحدى كل من لا يؤمن بهذا القول أن يرشح نفسه في

الانتخابات الجارية لانتخاب الرئيس، فإذا سكت الآخرون عن تحديه، ولم يرشح أحد نفسه خوفًا من بطشه وسلطانه وقوته؛ لأن بيده الأمر والنهي والحكم، فإن هذا السكون لا يدل على صحة ما ادَّعاه المتحدي لنفسه. هذه هي الشروط الضرورية لاعتبار التحدي قائمًا فعلًا ومؤديًا إلى نتيجته، فهل هذه الشروط متوفرة في تحدي القرآن العلني للمشركين المعلَن على لسان رسول الله -صلى الله عليه وسلم. تحقق تحدي القرآن للمخالفين: 38- إنَّ شروط التحدي التي ذكرناها كلها موجودة في تحدي القرآن للمخالفين، وبيان ذلك ما يأتي: أولًا: فيما يخص الشرط الأول، وهو أن يكون موضوع التحدي داخلًا في اختصاص من وجِّه إليهم التحدي، فمن المعروف أنَّ قريشًا وسائر العرب اشتهروا بالبلاغة والفصاحة والمعروفة باللسان العربي، وبرزوا في ذلك خطابة ونثرًا وشعرًا وتذوقًا، حتى إنهم كانوا يعقدون المواسم الأدبية لتخيُّر أحسن الشعر، ومن المعلوم أيضًا أنَّ القرآن الكريم أنزله الله بلغة العرب وبلسانهم، فإذا تحداهم به وقال لهم: إن كنتم في شك من أن هذا القرآن هو كلام الله المنزَّل على رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- فأتوا بمثله، أو بعشر سورة من مثله، أو بسورة من مثله، فإنما يتحداهم بشيء داخل في اختصاصهم وداخل فيما هم فيه بارعون، فيكون هذا الشرط متحققًا في تحدي القرآن للمخالفين. ثانيًا: فيما يخص الشرط الثاني، وهو وجود الرغبة والحرص عند المخالفين من قريش وغيرهم على إبطال دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم، وإثبات ادِّعائهم بأنه ليس رسولًا لله، فهذا الشرط موجود ويعرفه صغار المطّلِعين على التاريخ الإسلامي، فمن الواضح أنَّ قريشًا لم ترض بدعوة النبي -صلى الله عليه وسلم، وحاولت محاولات شتَّى لإبطال هذه الدعوة، سلكت سبيل الترغيب بأن عرضت على أبي طالب أن يمنع ابن أخيه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- من الاستمرار في دعوته، وهم مقابل ذلك يعطونه من الأموال ما يجعله أغناهم، ويجعلونه رئيسًا عليهم فيكون هو صاحب السلطان، أو يعرضونه على أهل المعرفة بالأمراض النفسية إن كان ما جاء به شيئًا اعتراه يحتاج إلى تطبيب وعلاج، فكان جواب النبي -صلى الله عليه وسلم- لعمه بعد أن أبلغه رغبة قريش: "والله يا عماه، لو وضعوا الشمس

في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أموت دونه ... " أو كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم. ثم سلكوا سبي التهديد والإيذاء، والمقاطعة الاقتصادية للنبي -صلى الله عليه وسلم- ولمن اتَّبَعه، وسبيل الافتراء على الرسول -صلى الله عليه وسلم- ورميه بما هو براء منه؛ كقولهم: إنه مجنون أو ساحر أو مفتر، وقد بلغ الأذى به وبالمسلمين أن عذَّبت قريش بعض المسلمين تعذيبًا بدنيًّا ماتوا فيه، كما هاجر بعض المسلمين إلى الحبشة مرتين فرارًا من هذ العذاب والأذى الشديد، وهذا كله يدل دلالة واضحة على الرغبة والحرص الأكيد لدى قريش على إبطال دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم. الشرط الثالث: وهو عدم وجود مانع من الإجابة وكسر التحدي. وهذا الشرط موجود في تحدي القرآن، فمن المعلوم عند صغار المتعلمين لأخبار التاريخ الإسلامي أنَّ السلطان والقوة والنفوذ، كل ذلك كان بيد المشركين في مكة، أمَّا المسلمون ورسولهم -صلى الله عليه وسلم، فما كان لهم من ذلك شيء. فقد كانوا ضعفاء لا حول لهم ولا سلطان، حتى إنَّ بعضهم هاجروا إلى الحبشة فرارًا بدينهم كما قلنا، وحتى إنَّ المسلمين هاجروا إلى المدينة في آخر الامر، كما هاجر الرسول -صلى الله عليه وسلم، كل ذلك يدل على أنَّه لم يكن هناك مانع يمنع قريشًا من الإجابة على التحدي وكسره، وإثبات ما يزعمونه من أنَّ القرآن ليس كلام الله وأن محمدًا ليس برسول الله، لو كانوا يستطيعون ذلك. نتيجة التحدي ودلالته: 39- وكانت نتيجة تحدي القرآن للمشركين عجزهم وسكوتهم، كما أشرنا إلى هذا من قبل، فإذا ثبت عجزهم وتوفَّرت شروط التحدي، ثبت صدق النبي -صلى الله عليه وسلم، وثبت أنه رسول الله، وأن القرآن كتاب الله، وإذا ثبت ذلك وجب على الخلق الإيمان بنبوته واتباعه، والانقياد إلى الشرع الذي جاء به من ربه، والإيمان بكل ما جاء في القرآن والسنة النبوية المطهرة، وهذا هو المطلوب. استمرار التحدي ودلالته: 40- وتحدِّي القرآن للمخالفين ظلَّ قائمًا وموجَّهًا إلى كل مرتاب في نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم، وفي نسبة القرآن إلى الله تعالى، ولا يزال هذا التحدي قائمًا حتى الآن، وإلى أن

يرث الله الأرض ومن عليها، فما دلالة ذلك؟ دلالة ذلك واضحة وهي ثبوت نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- بالدليل القاطع والبرهان الساطع والحجة القائمة الموجودة بين أيدينا الآن، التي لا يستطيع أيّ مكابر أن ينكرها أو يغالط فيها، وإذا عرفنا أنَّ هذا الدليلن ظلَّ قائمًا عبر القرون الطويلة منذ عهد نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- وحتى الآن، وأنَّ الإسلام واجه مختلف الخصوم والمعاندين والكفار من أصحاب الأفكار الباطلة، وأنهم بذلوا كل جهد مستطاع لديهم لطعن الإسلام والتشكيك فيه، والدسِّ عليه وتلويث أفكاره وعقائده، ومع هذا لم يجرءوا على إجابة تحديه وكسره، نقول: إذا عرفنا ذلك عرفنا قوة هذا الدليل؛ دليل إعجاز القرآن على صدق نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- وصدق رسالته.. إن دليلًا ثبت صدقه مدة أربعة عشر قرنًا لهو أعظم دليل يقام لاثبات نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم. إنكار نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- تنقيص بعقل الإنسان: 41- وبناءً على ما تقدَّم نعتبر إنكار نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- بعد ظهور الدليل القاطع على نبوته وصدقه تنقيصًا بالعقل البشري السويّ، وجحودًا ما بعده جحود، وعنادًا محضًا، وجرمًا كبيرًا، ومن ثَمّ كان جزاؤه غليظًا عند الله، وصاحبه ينخرط في عداد الكفرة المتمردين على الله. هذه واحدة، والأخرى أنَّ من ينكر نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- فلا سبيل له إطلاقًا للإيمان بأي نبي؛ لأنَّ من ينكر وجود الشمس وهو يراها لا سبيل له إلى الإيمان بوجود نجم لا يراه، وإذا آمن به كان متناقضًا في إيمانه هذا وإنكاره ذاك. إثبات نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- إثبات لسائر النبوات: 42- هذا وإنَّ إثبات نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- إثبات لسائر النبوات؛ لأن هذه النبوات ذكرها القرآن وذكر أصحابها وهم الرسل الكرام، فإذا ثبت بدليل الإعجاز أنَّ القرآن من عند الله، وأن محمدًا رسول الله، ثبت كل ما في القرآن، وثبت كل ما أخبر به محمد -صلى الله عليه وسلم، ونحن نقول هذا لأنَّه ليس بين أيدينا دليل قاطع حيّ على إثبات نبوة أيِّ نبي قبل محمد -صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فإنَّ من ينكر نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم، ويريد أن يدعو إلى الإيمان بنبوة غيره، يكون متناقضًا، ويعطي الحجة بيد المدعو على عدم التصديق بأصل

النبوات، ولهذا أيضًا كان الكفر برسالة أيِّ رسول كفرًا برسالة الإسلام؛ لأنه يتضمَّن التكذيب لبعض ما جاء في القرآن. مقتضى الإيمان بنبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- ولوازمه: 43- والإيمان بمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبيًّا ورسولًا يقضي التسليم المطلق والتامِّ لما جاء به أو أخبر عنه، وتصديقه وطاعته فيما أمر به أو نهى عنه، دون حرج أو ضيق أو مناقشة أو جدال أو تعقيب أو أخذ البعض وترك البعض الآخر، فإن كل هذه الأشياء تناقض مقتضى الإيمان به -صلى الله عليه وسلم- نبيًّا ورسولًا، ولهذا جاءت النصوص القرآنية كلها تؤكد وتبين هذه الأمور وغيرها، التي هي مقتضيات الإيمان بنبوته -صلى الله عليه وسلم، فمن هذه النصوص الواردة في القرآن العظيم قوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} 1، {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 2، {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} 3، {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} 4، {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 5 {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا} 6، {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 7، {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ

_ 1 سورة آل عمران، الآية: 132. 2 سورة آل عمران، الآية: 31. 3 سورة آل عمران، الآية: 32. 4 سورة النساء، الآية: 80. 5 سورة النور. الآية: 51. 6 سورة الفتح، الآية: 17. 7 سورة الحشر، الآية: 7.

الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} 1، {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} 2 {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 3. فهذه النصوص وأمثالها في القرآن كثير، تذكِّر المؤمنين بمقضتى إيمانهم بمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبيًّا ورسولًا، وبلوازم هذا الإيمان، فمرة تأمره بطاعته؛ لأن طاعته هي طاعة لله، وأن جزاء المطيعين جنات النعيم، وأن جزاء المخالفين عذاب النار، وطورًا تبيِّن لهم أنَّ الإيمان بمحمد -صلى الله عليه وسلم- يستلزم أخذ ما أمر به الرسول -صلى الله عليه وسلم، والانتهاء عمَّا نهى عنه، وأنَّ ما يقضي به -صلى الله عليه وسلم- واجب الطاعة لا خيار فيه للمسلم، وأنَّ الرجوع عند الاختلاف يجب أن يكون إلى الله والرسول، وأنَّ الإيمان الحقيقي بمحمد -صلى الله عليه وسلم- يستلزم الرضى بما يحكم ويقضي به ويخبر عنه، وتارة تبيِّن نصوص القرآن أنَّ المخالفة لأمر رسول الله وعصيانه سبب لعذاب الله ومقته، وأنَّ على المخالفين له أن يحذروا الفتنة والعذاب الأليم. 44- والواقع أنَّ ما تذكره هذه النصوص هو النتيجة المنطقية للإيمان بمحمد -صلى الله عليه وسلم، والرضى به رسولًا؛ لأن من التناقض ومن غير المقبول في العقل السليم أن يؤمن الإنسان بمحمد -صلى الله عليه وسلم، ثم ينازعه في بعض ما جاء به، أو لا يرضى بما جاء به، أو ينصِّبَ نفسه معقبًا لبعض ما جاء به، أو يتمرَّد على بعض ما جاء به، إلى غير ذلك مما لا يتفق أبدًا ومقتضى الإيمان به. إنَّ الإنسان إذا آمن بأن فلانًا بارع في الطب ومبرَّز فيه، فإنه يتقبل منه ما يقوله في شئون الطب وما يخبره به عن موضع وسبل علاجه، ويتبع توجيهاته في الأكل والشرب، وفيما يأخذ ويترك، ولا يسوغ لنفسه معارضته أو مناقشته، فإذا هذا المسلك سليمًا ومعقولًا بالنسبة للطبيب مع احتمال خطئه، فما

_ 1 سورة الأحزاب، الآية: 36. 2 سورة النساء، الآيات: 59-65. 3 سورة النور، الآية: 63.

يقول ويوصى به، فكيف يجوز لمن آمن بمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبيًّا ورسولًا أن يعارضه أو يناقشه؟ واجبنا نحو الرسول -صلى الله عليه وسلم: 45- إن واجب المسلم نحو الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعد أن أنعم الله عليه بالإيمان به تصديقُه بكلِّ ما يخبر عنه، وطاعته في كل ما يأمر به، والانتهاء عن كل ما ينهى عنه، وقبول ذلك بتسليمٍ تامٍّ ورضًى تامّ، كما بينا في الفقرة السابقة، وذكرنا النصوص القرآنية الدالة على ذلك. ومن واجباتنا الأخرى نحوه -بأبي هو وأمي- صلى الله عليه وسلم- ما يأتي: أولًا: محبته أكثر من النفس والولد والأهل والمال والناس أجمعين، قال -صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من نفسه وولده وماله والناس أجمعين"، ومن البديهي أن صدق المحبة تكونة بخلوص المتابعة له، فهذا هو الذي يحبه ويرضيه، والمسارعة إلى ما يرضيه -صلى الله عليه وسلم- مما أمرنا الله به، وهو من لوازم المحبَّة الصادقة، قال تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} 1. ثانيًا: توقيره وتبجيله واحترامه حيًّا وميتًا، قال تعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} 2؛ لأنَّ الرسول الكريم ليس كواحد من الناس، إنَّه رسول الله، وعلى الناس أن يوقروه ويجلوه ويشرِّفوه حتى في ندائهم له، فعليهم أن يقولوا له: يا رسول الله، يا نبي الله، وهذ بعض معاني هذه الآية. ومن مظاهر توقيره واحترامه عدم سبقه بالقول أو رفع الصوت عند كلامه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ

_ 1 سورة التوبة، الآية: 62. 3 سورة النور، الآية: 63.

إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} 1، ويبقى هذا الاحترام والتوقير بعد وفاته -صلى الله عليه وسلم، فلا ينبغي رفع الصوت في مسجده وعند قبره، كما يجب التأدُّب عند سماع حديثه الشريف وسنته المطهرة، والإصغاء الكامل لها والرضى بها، وعدم الخروج عليها، أو معارضتها بالآراء الفاسدة، فإذا سمع المسلم: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم"، فليعلم أنَّه لا قول لأحدٍ مع قوله -صلى الله عليه وسلم، ولا معارضةً لقوله، وإنما هو الاستماع وفهم هذا القول النبوي الكريم، والعزم على العمل به. ثالثًا: الابتعاد الكامل التامّ عن إيذاء النبي -صلى الله عليه وسلم- في أي شيء وبأي قدر من الإيذاء، فإنَّ هذا كله حرام، وقد يؤدي إلى خروج المسلم من الإسلام، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ} 1، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 2، ويدخل في نطاق إيذائه المحرَّم إيذاؤه -صلى الله عليه وسلم- بالطعن في زوجاته الكريمات أو سبهن أو عداوتهنَّ، فهنَّ أمهات المؤمنين بنصِّ القرآن، قال تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} ، وهن زوجاته الكريمات في الدنيا والآخرة، كما يدخل في إيذائه -صلى الله عليه وسلم- إيذاؤه بالطعن في آل بيته الأطهار أو سبهم أو عداوتهم. رابعًا: الصلاة والسلام عليه، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} . التحرز من خلط ما لله بما للرسول من حق: 46- ومما يجب التنويه به والتذكير به التحرُّز من خلط ما لله من حقٍّ بما للرسول -صلى الله عليه وسلم- من حق، فإن المسلم قد يقع في هذا دون أن يشعر، أو يقع فيه متعمدًا ظانًّا أنه من واجب المسلم نحو الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنَّ من حقه على المسلم، أو أنَّ ذلك من مزيد محبته للنبي -صلى الله عليه وسلم، فيقع في الشرك الخفي أو الجلي، وبالتالي يقع في سخط الله. إن محبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- الحقيقة هي متابعته والمسارعة إلى مرضاته، وهذا لا يتمّ إلّا

_ 1 سورة الحجرات، الآية: 1-3. 2 سورة الأحزاب، الآية: 53. 3 سورة التوبة، الآية: 61.

بتجريد المتابعة لشرعه الذي جاء به من ربه، ولسنته القولية والعملية، ومن المعلوم أنَّ ما جاء به -صلى الله عليه وسلم- من ربه إفراد الله بالعبادة بجميع أشكالها وصورها، وعدم إعطاء ذرة منها لأحد كائنًا من كان، وهذا هو معنى كلمة التوحيد كما بَيِّنَّا ذلك من قبل. ولتحقيق هذه المعاني العالية في نفوس المسلمين بَيِّنَ القرآن الكريم أنَّ محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بشر، قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} 1. وأنه لا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا، وإنما المالك لهذا وذاك هو الله تعالى، قال تعالى: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 2، وعلى هذا فالاستغاثة وطلب العون وكشف الضر يكون من الله تعالى، الذي دعانا إلى الطب منه والتوجه إليه، قال تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} 3، {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} 4، كما أنَّ الخشيبة والتقوى تكون لله، والتوكُّل يكون على الله، فهو الكافي -جلَّ جلاله، قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} 5، وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} 6، فهذه الآيات صريحة في تحديد ما لله من حقٍّ وما للرسول من حقّ، فمن حقوق الله تعالى وحده الخشيبة منه والتقوى له، والكفاية لعبده، والتوكل عليه، والرغبة إليه، أمَّا الطاعة فهي من حق الله وحق رسوله -صلى الله عليه وسلم، وطاعة الرسول في حقيقتها طاعة الله، وكذلك من حقِّ الرسول إعطاء ما يراه من غنائم وفيءٍ وغيرها من يرى إعطاءه. وفي الحديث الشريف عن النبي -صلى الله عليه وسلم: "لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، فإنما أنا عبد الله، فقولوا: عبد الله ورسوله"، أو كما قال -صلى الله عليه وسلم، وقال رجل للنبي -صلى الله عليه وسلم: "ما شاء الله وشئت"، فقال -صلى الله عليه وسلم: "أجعلتني لله ندًّا، قل: ما شاء الله ثم شئت".

_ 1 سورة الكهف،، الآية: 110. 2 سورة الأعراف، الآية: 188. 3 سورة غافر، الآية: 60. 4 سورة النور، الآية: 52. 5 سورة النور، الآية: 52. 6 سورة التوبة، الآية: 59.

فالنبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- جاء بالتوحيد الخالص لله رب العالمين، ومن حرصه الشديد على ما ينفع المسلمين كان يبيِّن لهم التوحيد كما يبيِّن لهم معاني الشرك؛ لئلَّا يقعوا فيه، وهذا من كمال نصحه ورحمته ورأفته بأمته -بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، فجزاه الله عنَّا خير الجزاء. قال تعالى في بعض أوصافه الكريمة: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} 1، وقال تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} 2.

_ 1 سورة التوبة، الآية: 128. 2 سورة الأحزاب، الآية: 6.

المبحث الثالث: الركن الثالث: العمل الصالح

المبحث الثالث: الركن الثالث: العمل الصالح ماهيّة العمل الصالح: 47- العمل الصالح هو العمل المرضيّ عند الله تعالى، وهو الجامع لشيئين؛ الأول: أن يكون وفق الشرع الإسلامي، الثاني: أن يكون المقصود به مرضاة الله وطاعته، فإذا فقد العمل هذين الشيئين أو أحدهما لم يكن مرضيًّا عند الله، وبالتالي لا أجر فيه ولا ثواب، قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} ، المقصود بالعمل الصالح العمل الصحيح، أي: الموافق للشرع الإسلامي، والخالص لوجه الله تعالى. مكانة العمل الصالح في الإسلام: 48- وللعمل الصالح في الإسلام مكانة عظيمة جدًّا؛ لأنه ثمرة الإيمان بالله وباليوم الآخر، وبرسوله محمد -صلى الله عليه وسلم، وبه يظهر معنى الشهادتين بالعمل والسلوك؛ ولأهميته في الإسلام جاءت الآيات الكثيرة به، فمرة تقرنه بالإيمان، ومرة تبيِّن جزاءه الحسن، وأخرى تصريح بأنَّ ما ينفع الإنسان في آخرته هو الأعمال الصالحة، وأن الله تعالى لا يضيِّع أجر من عملها وقام بها، وتارة تبيِّن الآيات أنَّ الصالحات سبب لتكفير السيئات وغفران الذنوب، وأنَّ الخسارة تلحق الإنسان لا محالة، إلّا مَنْ آمن وعمل الصالحات، ومن هذه النصوص التي وضَّحَت هذه المعاني قوله تعالى: {وَعَدَ

اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} 1. {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} 2. {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 3. {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} 4. {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا} 5. {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} 6. {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ} 7، {وَالْعَصْرِ، إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} 8. اعتناق الإسلام شرط لقبول العمل: 49- ومن البديهي أنَّ العمل المرضي عند الله تعالى هو الذي بَيّنَّاه، يشترط لقبوله شرط ضمنيّ هو اعتناق الإسلام، أي: الإيمان به، ولهذا قرن الله العمل الصالح بالإيمان، والمقصود به اعتناق الإسلام بعد أن بعث الله محمدًا -صلى الله عليه وسلم- رسولًا إلى العالمين، قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} . وعلى هذا إذا قام الشخص بالعمل وفق الشرع الإسلامي من حيث الظاهر، أي: من حيث توفّر أشكال العمل الظاهرية المطلوبة في الشرع الإسلامي، وكان

_ 1 سورة لمائدة، الآية: 9. 2 سورة الرعد، الآية: 2. 3 سورة النحل، الآية: 97. 4 سورة الكهف، الآية: 30. 5 سورة مريم، الآية: 76. 6 سورة العنكبوت، الآية: 7. 7 سورة العنكبوت، الآية: 9. 8 سورة العصر.

قصد صاحبه مرضاة الله، ولكنه لم يؤمن بالإسلام دينًا وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبيًّا ورسولًا، فإن عمله مردود عليه ولا أجر فيه ولا ثواب. الابتداع مرفوض في الإسلام: 50- وما دام العمل الصالح هو ما كان صحيحًا خالصًا لله، والصحيح ما كان وفق الشرع، فإن الابتداع في الدين بالزيادة والنقصان لا يجوز، ولا ثواب فيه لصاحبه، حتى ولو كان بنية العبادة لله تعالى، قال -صلى الله عليه وسلم: $"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَد"، والبدعة شر من المعصية؛ لأنَّ في الابتداع تغييرًا للدين ولأحكام الشرع، واتهامه له بنقصانه، أو بحاجته إلى التكميل والتشذيب والتعديل، وهذ أمر كبير جدًّا لا يجوز اعتقاده أو العمل بموجبه، ولهذا حذَّر الرسول -صلى الله عليه وسلم- من البدع فقال: "إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة في النار" فالخير كل الخير فيما جاء به الشرع والوقوف عنده {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} . تنوع الأعمال الصالحة: 51- والأعمال الصالحة كثيرة، فهي جميع ما أمر الله تعالى به على وجه الوجوب والاستحباب من العبادات والمعاملات، فإذا قام بها المسلم ملاحظًا الطاعة لربه، والانقياد لشرعه، مبتغيًا بها وجه الله، فهو من أصحاب الأعمال الصالحة، وفي مقدمة هذه الأعمال الصالحة العبادات، وفي مقدمتها العبادات التي جاءت في حديث جبريل، وهي: الصلاة والزكاة والصيام والحج، فهي من أركان الإسلام التي لا يجوز التهاون بها مطلقًا، أو التقليل من أهميتها، ولذلك ذكرت في الحديث. أهمية العبادات في الإسلام: 52- العبادات في الإسلام تنظم علاقة الفرد بربه، وتظهر عبوديته لله تعالى على وجهٍ واضح، وهي حق الله الخالص على عباده، وفي مقدمتها كما قلنا: الصلاة وأخواتها الوارد ذكرها في الحديث، فهذه العبادات يجب الحرص عليها والدعوة إليها، ولا يجوز مطلقًا التقليل من شأنها، وهي بمجموعها تقوي الإيمان وترسخه، فهي له بمثابة الماء للنباتات، والهواء للإنسان، وهيهات أن يبقى الإيمان على قوته إذا فرَّط المسلم بها.

أهمية الصلاة: 53- ذكر الله تعالى الصلاة في عشرات الآيات في القرآن الكريم، وجاءت الأحاديث مؤكدة وجوبها وأهميتها، ومبيِّنة أنها الفارق بين المسلم وغير المسلم، وأنها من صفات المؤمنين المتقين، وأنه لا يجوز التفريط بها لا في الإقامة ولا في السفر، ولا في حالة السلم ولا في حالة الحرب، ولا في حالة الصحة ولا في حالة المرض، وأنَّ تركها والتكاسل عنها من صفات المنافقين، وكانت الوصية بها من آخر ما أوصى به رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وهي أول ما يسأل عنه العبد يوم قدومه على ربه. والصلاة بعد هذا تزكية للنفس، وصلة للعبد بربه، وتذكير مستمر له بعبوديته لله وبمعاني كلمة التوحيد، وهي صقل لروحه، وغسل لأدرانها وأوساخها، وهي قرة عين المسلم، إليها يفزع إذا ضاق الصدر وادلهمَّت الخطوب، كما كان يفعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وهي التي تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر؛ لما فيها من قراءة القرآن وتسبيح الله وذكره وتمجيده، وما لهذا كله من تذكير للعبد ووقاية له من المخالفة والعصيان. ويكفي هنا أن نذكر بعض النصوص من القرآن والسنة النبوية في بيان أهمية الصلاة وعظيم أثرها: 54- أولًا: من القرآن الكريم قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} . {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} . {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} . {الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} . {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} . {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى} . ثانيًا: من السنة النبوية المطهرة:

قال -صلى الله عليه وسلم: "بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة". "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر". وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول لبلال: "ارحنا بها -أي: الصلاة- يا بلال"، وروي عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه إذا حزبه أمر صلَّى. أسرار الصلاة: 56- هذا وإن للصلاة أسرارًا وحِكَمًا ليس هنا محل تفصيلها، ويدركها المسلم إذا أقبل عليها بخشوع وتدبر وفهم ووعي وحضور ذهن؛ لما يتلوه من قرآن، وما يذكره من أذكار، فهو يفتح الصلاة بـ"الله أكب"، فالله أكبر من كل كبير، ومن كل ذي سلطان وقوة وجبروت، وما دام العبد موصولًا بالله الذي هو أكبر من كل شيء، وأعز من كل شيء، فلن يرهب المسلم أحدًا غير الله تعالى ... وهكذا بقية الأذكار تربي في المسلم معاني العبودية لله، وتحرره من عبودية غير الله، وتنزع من قلبه كل معاني الطغيان والتعلق بغير الله. بقية العبادات: 57- والعبادات الأخرى؛ من صيام وحج وزكاة، كلها تقوي الإيمان، وتزكي النفس، وتصِلُ العبد بربه، وتملأ قلبه بمعاني العبودية لله تعالى، ففي الصيام إيثار لمحابِّ الله على شهوات الجسد، وتعويد للمسلم على معاني الإخلاص والإرادة والصبر، وكل هذه معان جليلة يحتاجها المسلم، والزكاة طهرة للمسلم من داء البخل والشح وعبادة المال، وإيثارٌ لله على محبة المال، والإسهام في تحقيق التعاون المطلوب شرعًا بإعانة ذوي الحاجات، والحج تربية عملية للمسلم، فإنّ من منهج الإسلام في التربية أنَّه لا يكتفي أن يقول للمسلم: كن صالحًا فقط، بل يقول له هذا، ويضع له مناهج عملية يسلكها ليكون صالحًا، ومن هذه المناهج العملية الحج، ففيه إظهار لعبودية المسلم لله بصورة عملية، وبشكل معين واضح يجتثُّ جذور الطغيان وجراثيمه من نفس المسلم، فإنَّ في الإنسان نزوعًا إلى الطغيان، قال تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى} . هذا، وهناك عبادات أخرى غير المذكورة في حديث جبريل، ومنها: العبادات القلبية؛ كالتوكل على الله ومحبته والاستعانة به والطلب منه والشوق إليه والأنس به والثقة به

والخوف منه، وكلها مطلوبة من المسلم. أيُّ الأعمال الصالحة أفضل: 58- لا شك في تفاضل الأعمال الصالحة من حيث الأجر والثواب، ومن حيث درجة طلب الشرع لها، فالفرض أفضل من المندوب، وما عظم نفعه للجماعة أفضل مما اقتصر نفعه على فاعله، والقاعدة في أفضل الأعمال الصالحة بالنسبة لشخصٍ ما: هو العمل المطلوب منه شرعًا في وقتٍ معيِّن وظرف معين، فالصلاة حين حلول وقتها أفضل من غيرها، وأوجب على المسلم أن ينشغل بها من غيرها، والجهاد في وقته أفضل بالنسبة لمن وجب عليه من القيام بنوافل العبادات وطلب العلم، والصيام في وقته أفضل بالنسبة لمن وَجَب عليه من الانشغال بغيره من العبادات، وهكذا. وعلى المسلم أن يتحرَّى ما هو الأحب لله تعالى في هذا الوقت، أو في هذه الظرف القائم، فيسارع إليه ويفضله على ما سواه، وبهذا تتحقق فيه العبودية الخالصة لله بإيثاره دائمًا ما يحبه الله على ما تحبه نفسه وتهواه وإن كان من الأعمال الصالحة. أثر العبادات في صلاح الفرد والمجتمع: 59- وللعبادات المختلفة تأثير واضح في سلوك الفرد، فهي التي تزكِّي نفسه كما قلنا، وتزيد مراقبته لربه تعالى في السر والعلن، والخوف منه، فينزجر عن المعاصي والإضرار بالناس، ويسارع إلى عمل الخير، ولا شكَّ أن المجتمع سيكون سعيدًا إذا زاد فيه عدد الصالحين الخائفين من الله تعالى، وأنَّ كمية الخير في المجتمع ستكثر، وأن مقادير الشر والسوء ستقل. وعلى هذا يمكننا أن نقول: إن العبادات في الإسلام تصلح الفرد والمجتمع، وتنفع الفرد والمجتمع.

الفصل الثالث: خصائص الإسلام

الفصل الثالث: خصائص الإسلام مدخل ... الفصل الثالث: خصائص الإسلام تمهيد: 60- للإسلام خصائصه الخاصة به التي تميزه عن غيره تمييزًا واضحًا بارزًا، فهو من حيث مصدره من عند الله، وهذه هي خصيصته الأولى. وهو من حيث مدى ونوع العلاقات التي ينظمها والأفعال التي يحكمها شامل، وهذه هي خصيصته الثانية. وهو من حيث الأشخاص الذين يحكمهم، عامّ لجميع البشر، باق لا يزول، وهذ هي خصيصته الثالثة. وهو من حيث نوع الجزاء الذي يصيب مخالفه أو متبعه ذو جزاء أخروي، بالإضافة إلى جزائه الدنيوي، وهذه خصيصته الرابعة. وهو من حيث نزوعه إلى المثالية دون إغفالٍ للواقع، مثالي وواقعي، وهذه هي خصيصته الخامسة. وعلى هذا سنقسِّم هذا الفصل إلى خمسة مباحث، ونجعل لكل خصيصة مبحثًا على حدة.

المبحث الأول: الخصيصة الأولى: أنه من عند الله

المبحث الأول: الخصيصة الأولى: إنه من عند الله 1- مصدر الإسلام ومشرِّع أحكامه ومناهجه هو الله تعالى، فهو وحيه إلى رسوله الكريم -صلى الله عليه وسلم- باللفظ والمعنى "القرآن الكريم"، وبالمعنى دون اللفظ "السنة النبوية"، فالإسلام بهذه الخصيصة يختلف اختلافًا جوهريًّا عن جميع الشرائع الوضعية؛ لأن مصدرها الإنسان، أما الإسلام فمصدره رب الإنسان. إن هذا الفرق الهائل بين الإسلام وغيره لا يجوز أغفاله مطلقًا، ولا التقليل من أهميته. النصوص الدالة على أنَّ الإسلام من عند الله: 62- بَيّنَّا فيما سبق أن القرآن من عند الله، وأثبتنا ذلك بدليل الإعجاز، ومعنى ذلك أنَّ كل آية فيه هي من عند الله، ومعنى ذلك أيضًا أنَّ الإسلام هو من عند الله، ومع هذا فمن المفيد ذكر بعض الآيات القرآنية الصريحة في أنّ القرآن الكريم هو من عند الله أنزله على رسوله الكريم -صلى الله عليه وسلم، فمن هذه الآيات: قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} 1. {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} 2.

_ 1 سورة القدر، الآية: 1. 2 سورة الحجر، الآية: 87.

{وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} 1. {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} 2. {الم، تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 3. 63- والقرآن الكريم وفيه معاني الإسلام واجب الاتباع دون غيره من الكتب والأديان السماوية السابقة، قال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} . 64- وسنة الرسول الكريم -عليه الصلاة والسلام- هي الأخرى كالقرآن واجبة الاتباع، وعلى هذا دلَّ القرآن، وذكرنا نصوصه في هذا الباب فيما سبق؛ لأنَّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- كما قال تعالى عنه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} . ما يترتَّب على كون الإسلام من عند الله: أولًا: كماله وخلوه من النقائض 65- ويترتَّب على كَوْن الإسلام من عند الله كماله وخلوه من معاني النقض والجهل والهوى والظلم؛ لسبب بسيطٍ واضح، هو أنَّ صفات الصانع تظهر في ما يصنعه، ولمَّا كان الله تعالى له الكمال المطلق في ذاته وصفاته وأفعاله، ويستحيل في حقه خلاف ذلك، فإنَّ أثر هذ الكمال يظهر في ما يشرعه من أحكام ومناهج وقواعد، وبالتالي لا بُدَّ أن يكون كاملًا، وهذا بخلاف ما يصنعه الإنسان ويشرعه، فإنه لا ينفكُّ عن معني النقص والهوى والجهل والجَوْر؛ لأنَّ هذه المعاني لاصقة بالبشر، ويستحيل تجردهم عنها كل التجرُّد، وبالتالي تظهر هذه النقائص في القوانين والشرائع التي يصنعونها. ويكفينا هنا أن نذكر مثالًا واحدًا للتدليل على ما نقول: جاء الإسلام بمبدأ المساوة بين الناس في الحقوق وأمام القانون، بغَضِّ النظر عن اختلافهم في الجنس أو

_ 1 سورة النحل، الآية: 6. 2 سورة الزمر، الآية: 2. 3 سورة السجدة، الآية: 2.

اللغة أو اللون أو الحرفة أو الغنى أو الفقر، وأقام ميزان التفاضل على أساس التقوى والعمل الصالح، وقد ورد المبدأ العظيم في القرآن والسنة النبوية، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} ، وجاء في الحديث الشريف أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يا أيها الناس، إن ربكم واحد، وإنّ أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر، إلّا بالتقوى". وقال -عليه الصلاة والسلام: "لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها". وبلغت دقة تطبيق هذا المبدأ إلى حَدِّ أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- أنكر على مسلم عربي قوله لمسلم غير عربي: "يا ابن السوداء"، واعتبر هذا القول من بقايا الجاهلية الأولى. وواضح من ذلك أنَّ التشريع الإسلامي ارتفع إلى أعلى مستوى من العدالة والمساواة في نظرته إلى الأفراد وإن اختلفوا في الجنس واللون واللغة وغير ذلك، وطبَّق هذا المبدأ فعلًا في واقع الحياة. وفي القرن العشرين، وفي عصرنا الحاضر، وبالرغم من الضجيج الهائل في العالم حول المساواة، وتسطير هذا المبدأ في دساتير الدولة، فإنه لا يزال مجرَّد كلام لا نصيب له في الواقع إلّا الشيء القليل، ففي الولايات المتحدة الأمريكية لا تزال الفروق قائمة بين المواطنين في أبسط الحقوق على أساس اللون والجنس، فصاحب البشرة البيضاء أسمى منزلةً وأعلى قدرًا من صاحب البشرة السوداء، ولا مساواة بين الاثنين في الحقوق الآدمية ولا أمام القانون، ولو كان هذ التفريق والتمايز في واقع الحياة فقط لأمكن أن يدَّعي البعض أنه من انحراف الأفراد ولا تسأل عنه الدولة، ولكنَّ الواقع أن القانون نفسه يقرّ ويعترف صراحةً بهذا التمايز الظالم بين الأسود والأبيض ويحميه، وإن كان الاثنان يحملان الجنسية الأمريكية، فمن هذه النصوص القانونية في بعض الولايات الأمريكية: "إنَّ النكاح بين شخصين أبيض وآخر زنجي يعتبر نكاحًا باطلًا"، وبطلان العقد هنا لا يرجع إلى نقص في أهلية العاقدين، فأهليتهما كاملة، وإنما يرجع إلى شيء آخر خطير في نظر واضع القانون، هو أنَّ أحد طرفي عقد النكاح ذو بشرة بيضاء، بينما الطرف الآخر في العقد ذو بشرة سوداء.

ومن هذه النصوص أيضًا في بعض الولايات المتحدة الأمريكية: إنَّ كل من يطبع أو ينشر أو يوزِّع ما فيه دعوة أو حث للجمهور على إقرار المساواة الاجتماعية والزواج بين البيض والسود، أو تقديم حجج للجمهور، أومجرَّد اقتراح في هذا السبيل، يعتبر عمله جريمة يعاقب عليها القانون بغرامة لا تتجاوز خمسمائة دولار، أو السجن مدةً لا تتجاوز ستة أشهر، أو بالعقوبتين. إنَّ هذا النص يوغل في اتباع الهوى والجَوْر والظلم دون حياءٍ أو خجل أو وخز من ضمير، إلى درجة أنه يعاقب من يدعو إلى المساواة بين مواطنين أمريكيين يحملون الجنسية الأمريكية، ولكنهم يختلفون في ألوان أجسادهم ووجوههم، فهل أدلّ من هذا على نقص الإنسان وجهله وجوره؟ أما التمايز بين رعايا المستعمِر -بكسر الميم- وأهل البلاد المنكبوبة بالاستعمار، فحدِّث ولا خرج، فالمستعمرين يضعون من القوانين ما يجعل أهل البلاد المستعمَرة بمنزلة البهائم، دون أن يشعر هؤلاء المستعمرون بتأنيب ضمير أو بجورهم على هؤلاء الآدميين، وما يعتبرونه ظلمًا في بلادهم، وبالنسبة لرعاياهم يعتبرونه حقًّا وعدلًا بالنسبة لأهل البلاد المنكوبة باستعمارهم. وهذا وغيره يدل على مدى ما عند الإنسان من ظلم وجَوْر وهوى ومحاباة وجهل. 66- ثانيًا: ويترتَّب أيضًا على كون الإسلام من عند الله أنه يظفر بقدر كبير جدًّا من الهيبة والاحترام من قِبَل المؤمنين به، مهما كانت مراكزهم الاجتماعية وسلطاتهم الدنيوية؛ لأنَّ هذه السلطات وتلك المراكز لا تخرجهم من دائرة الخضوع لله تعالى واحترام شرعه، وطاعة هذا الشرع طاعة اختيارية تنبعث من النفس، وتقوم على الإيمان، ولا يقسر عليها المسلم قسرًا، وفي هذا ضمان عظيم لحسن تطبيق القانون الإسلامي، وعدم الخروج عليه ولو مع القدرة على هذا الخروج. أمَّا القوانين والمبادئ الوضعية التي شرَّعها الإنسان فإنَّها لا تظفر بهذ المقدار من الأحترام والهيبة؛ إذ ليس لها سلطان على النفوس، ولا تقوم على أساس من العقيدة والإيمان كما هو الحال بالنسبة للإسلام، ولهذا فإنَّ النفوس تجرؤ على مخالفة القانون الوضعي كلما وجدت فرصة لذلك، وقدرة على الإفلات من ملاحقة القانون وسلطان القضاء، ورأت في هذه المخالفة اتباعًا لأهوائها وتحقيقًا لرغباتها. إنَّ القانون لا يكفي أن يكون صالحًا، بل لا بُدَّ له من ضمانات تكفل حسن تطبيقه، ومن أول هذه الضمانات إيجاد ما يصل

هذا القانون بنفوس الناس، ويحملهم على الرضى به، والانقياد له عن طواعية واختيار. ولا يحقق مثل هذه الضمانة مثل الإسلام؛ لأنه أقام تشريعاته على أساس الإيمان بالله واليوم الآخر ورسوله محمد -صلى الله عليه وسلم، وأن الالتزام الاختياري بهذه التشريعات واحترامها هو مقتضى هذا الإيمان. وللتدليل على صحة ما نقول نضرب مثلًا واحدًا بشأن واقعة معينةٍ عالجها الإسلام بتشريعه، ونجح في هذه المعالجة، وعالجت هذه الواقعة بالذات القوانين الوضعية، وفشلت في هذه المعالجة. من المعروف أنَّ العرب قبل الإسلام كانون مولَعين بشرب الخمر، لا يجدون فيه منقصة ولا منكرًا، وكانت زقاق الخمر ودنانه في البيوت كالماء المخزون في القرَب والحباب، فلما أتى الإسلام بتحريم الخمر بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} ، كان لكلمة {فَاجْتَنِبُوه} قوة هائلة تفوق قوة الجيش والشرطة، وما يمكن أن تستعمله أي دولة لتنفيذ أوامرها بالقوة والجبر، لقد قام المسلمون إلى زقاق الخمر فأراقوها، وإلى دنانه فكسروها، وفطموا نفوسهم من شرب الخمر حتى غدوا وكأنهم لا يعرفون الخمر ولم يتذوقوها من قبل؛ لأن أمر الله ورد {فَاجْتَنِبُوه} ، وأوامر الله من شأنها الاحترام والطاعة. وفي القرن العشرين أرادت الولايات المتحدة الأمريكية تخليص مواطنيها من الخمر، وقبل أن تشرِّع قانون تحريم الخمر مهدت له بدعاية واسعة جدًّا لتهيئة النفوس إلى قبول هذا القانون، وقد استعانت بجميع أجهزة الدولة، وبذوي الكفاية في هذا الباب. استعانت بالسينما والإحصائيات من قِبَل العلماء والأطباء والمختصين بالشئون الاجتماعية، وقد قدر ما أنفق على هذه الدعاية بـ"65" مليون من الدولارات، وكتبت تسعة آلاف مليون صفحة في مضار الخمر ونتائجه وعواقبه. وانفق ما يقرب من "10" عشرة ملايين دولار من أجل تنفيذ القانون. وبعد هذه الدعاية الواسعة والمبالغ المنفقة شرَّعت الحكومة قانون تحريم الخمر لسنة 1930، وبموجبه حرم بيع الخمور وشراؤها وصنعها وتصديرها واستيرادها، فما كانت النتيجة؟ لقد دلت

الإحصائيات للمدة الواقعة بين تشريعه وبين تشرين الأول سنة 1933، أنه قتل في سبيل تنفيذ هذا القانون مائتا نفس، وحبس نصف مليون شخص، وغرم المخالفون له غرامات بلغت ما يقرب من أربعة ملايين دولار، وصودرت أموال بسب مخالفته قدرت بألف مليون دولار، وكان آخر المطاف أن قامت الحكومة الأمريكية بإلغاء قانون تحريم الخمر في أواخر سنة 1933، ولم تستطع تلك الدعايات الضخمة التي قامت بها الدولة أن توجد القاعدة التي يرتكز عليها القانون في نفوس المواطنين، وبالتالي يحملها على احترامه وطاعته، ومن ثَمّ فشل وألغي، أمَّا كلمة {فَاجْتَنِبُوه} التي جاء بها الإسلام وامتنعوا عنها، لا بقوة شرطي ولا بقوة جندي ولا رقيب، ولكن بقوة الإيمان وطاعة المسلمين لشرائع الإسلام واحترامهم لها.

المبحث الثاني: الخصيصة الثانية: الشمول

المبحث الثاني: الخصيصة الثانية: الشمول 67- قلنا في بعض تعاريف الإسلام أنَّه نظام شامل لجميع شئون الحياة وسلوك الإنسان، إنَّ هذا الوصف للإسلام وصف حقيقي ثابت للإسلام، لا يجوز تجريده منه إلّا بالافتراء عليه أو بسبب الجهل به، وشمول الإسلام هذا لشئون الحياة وسلوك الإنسان لا يقبل الاستثناء ولا التخصيص، فهو شمول تامّ بكل معاني كلمة الشمول، وهذا بخلاف المبادئ والنظم البشرية، فإن الواحد منها له دائرته الخاصة التي ينظم شئونها، ولا شأن له فيما عدا ذلك، وعلى هذا فلا يمكن للمسلم أن يقول: إنَّ هذا المجال لي، أنظِّم أموري كما أشاء بمعزل عن تنظيم الإسلام، لا يمكن أن يقول المسلم هذا؛ لأن الإسلام يحكمه من يافوخه إلى أخمص قدميه، وللإسلام في كل ما يصدر الإنسان حكم خاص، كما له حكمه في كل ما يضعه في رأسه من أفكار، وفي قلبه من ميول، وعلى هذا لا يجوز للمسلم أبدًا أن يسمح لغير نظام الإسلام أن ينظم أي جانب من جوانب حياته؛ لأنه إن فعل ذلك في نطاق معنى قول الله تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} . وأحكام الإسلام الثابتة لأفعال الإنسان وتصرفاته وعلاقاته مع غيره هي: الوجوب والندب والتحريم والكراهة والإباحة والصحة والبطلان، والأفعال التي تتعلق بها هذه

الأحكام تسمَّى على التوالي: الواجب والمندوب والمحرم والمكروه والمباح والصحيح والباطل. 68- أنواع أحكام الإسلام بالنسبة لما تتعلق به: وأحكام الإسلام بالنسبة لما تتعلق به تنقسم إلى الأقسام الآتية: أولًا: أحكام العقيدة الإسلامية، وهي تتعلق بأمور العقيدة؛ كالإيمان بالله واليوم الآخر، وهذه هي الأمور الاعتقادية. ثانيًا: أحكام الأخلاق، وهي المتعلقة بما يجب أن يتحلَّى به المسلم، وما يجب أن يتخلَّى عنه؛ كوجوب الصدق وحرمة الكذب. ثالثًا: أحكام تتعلق بتنظيم علاقات الأفراد فيما بينهم، وهذه على أنواع: أ- أحكام الأسرة من نكاح وطلاق وإرث ونفقة، إلخ، وتسمَّى في الاصطلاح الحديث بأحكام الأسرة، أو قانون الأحوال الشخصية. ب- أحكام تتعلق بعلاقات الأفراد ومعاملاتهم؛ كالبيع والإجارة والرهن والكفالة، وهي التي تسمَّى في الاصطلاح الحديث بأحكام المعاملات المالية، أو بالقانون المدني. جـ- أحكام تتعلق بالقضاء والدعوى وأصول الحكم والشهادة واليمين والبينات، وهي تدخل فيما يسمَّى اليوم بقانون المرافعات. د- أحكام تتعلق بمعاملات الأجانب غير المسلمين عند دخولهم إلى إقليم الدولة الإسلامية، والحقوق التي يتمتعون بها، والتكاليف التي يلتزمون بها، وهذه الأحكام تدخل فيما يسمَّى اليوم بالقانون الدولي الخاص. هـ- أحكام تتعلق بتنظيم علاقات الدولة الإسلامية بالدول الأخرى في السلم والحرب، وتدخل فيما يسمَّى اليوم بالقانون الدولي العام. و أحكام تتعلق بنظام الحكم وقواعده، وكيفية اختيار رئيس الدولة، وشكل

الحكومة، وعلاقات الأفراد بها، وحقوقهم ازاءها، وهي تدخل فيما يسمَّى اليوم بالقانون الدستوري. ز- أحكام تتعلّق بموارد الدولة الإسلامية ومصارفها، وتنظيم العلاقات المالية بين الأفراد والدولة، وبين الأغنياء والفقراء، وهي تدخل في القانون المالي بمختلف فروعه. ح- أحكام تتعلق بتحديد علاقة الفرد بالدولة من جهة الأفعال المنهي عنها "الجرائم ومقدار عقوبة كل جريمة"، وهذه تدخل فيما يسمَّى اليوم بالقانون الجنائي، ويلحق بهذه الأحكام الإجراءات التي تتَّبَع في تحقيق الجرائم، وإنزال العقوبات بالمجرمين وكيفية تنفيذها، وهي تدخل فيما يسمَّى اليوم بقانون تحقيق الجنايات، أو بقانون المرافعات الجزائية. 69- مقارنة بين شمول الشريعة وشمول القوانين الوضعية: وواضح مما قدَّمناه أنَّ الشريعة في شمولها تختلف مع جميع القوانين الوضعية؛ لأنَّ شمولها كامل تامّ بكل معنى الكلمة، فما من حدث ولا عمل يصدر عن الإنسان، ولا علاقة تقوم بينه وبين غيره، إلّا وللشريعة حكم فيها، فأمور العقيدة والأخلاق والعبادات تدخل في نطاق شمول الشريعة، ولا تدخل في نطاق تنظيم القوانين الوضعية، وحتى في نطاق العلاقات البشرية التي تنظمها القوانين الوضعية، فإن الشريعة تختلف اختلافًا بينًا مع القوانين الوضعية في هذ المجال من ناحيتين؛ الأولى: ناحية مراعاة الأخلاق، الثانية: من ناحية الحِلِّ والحرمة. 70- الناحية الأولى: مراعة المعاني الأخلاقية: فالشريعة الإسلامية راعت جانبها كل الرعاية، وسمحت لها بالتسرب إلى القواعد القانونية والامتزاج بها، وإقامة الأحكام التنظيمية عليها، وهذا بخلاف القوانين الوضعية؛ حيث إنَّها لا تراعي المعاني الأخلاقية، بل إنَّ الأصل فيها هو الفصل بين القواعد الأخلاقية والقواعد القانونية، فالغدر والخيانة وعدم الالتزام بالكلمة معاني ذميمة في ميزان الأخلاق، ومن ثَمَّ لا يجوز ولا يباح في جميع العلاقات التي تنظمها الشريعة الإسلامية، والأحكام التي تقررها سواء أكانت هذه العلاقات بين فرد وفرد، أو بين دولة ودولة، ونكتفي هنا بضرب

مثال واحد فقط؛ ليظهر لنا مدى تمسُّك التشريع الإسلامي بالمعاني الأخلاقية في أدقِّ العلاقات وأخطرها، ولو ترتَّب على هذا التمسك تضحيات جسيمة. يقرر الفقهاء المسلمون أنَّ الأجنبي -غير المسلم- إذا دخل إقليم الدولة الإسلامية بأمانٍ ولمدة معينة، لا يجوز تسليمه إلى دولته إذا طلبته خلال هذه المدة، ولو على سبيل المفاداة بأسير مسلم عندها، ويبقى المنع من تسليمه قائمًا حتى لو هدَّدت دولته الدولة الإسلامية بإعلان الحرب عليها إذا لم تسلمها أياه، ويعلل الفقهاء هذا الحكم بأنَّ الأجنبي دخل إقليم الدولة الإسلامية بأمانٍ منها، فعلى الدولة الإسلامية أن تفي بعهدها له، فيبقى آمنًا لا يمسه سوء، وتسليمه بدون رضاه غدر منها بعهدها له، لا رخصة فيه، فلا يجوز في شرع الإسلام، ويبقى المنع من تسليمه وعدم إلحاق أيِّ ضرر به حتى لو قتلت دولته جميع رعايا الدولة الإسلامية المقيمين في أرضها؛ لأنَّ فعلها ظلم ولا مقابلة بالظلم، هكذا يقول الفقهاء، فأي مستوى رفيع بلغه التشريع الإسلامي في التزامه بالمعاني الأخلاقية في أدق الظروف وأحرج الأوقات، مما لا نجد له نظيرًا أبدًا في أي تشريع وضعي آخر، لا في القديم ولا في الجديد، ولا عجب من ذلك، فالشريعة الإسلامية من عند الله، وما يأتي من الله هو الحق الخالص والعدل الخالص. 71- الناحية الثانية: جهة الحِلّ والحرمة في الفعل نفسه: فإنَّ الفعل قد يكون صحيحًا في ظاهره لاستيفائه شروط الصحة المطلوبة، ولكنه يعتبر حرامًا لمخالفة حقيقته الباطنة، أو قصد صاحبه لما يأمر به الإسلام. إنَّ هذه الصفة للشيء في الحِلِّ والحرمة تبقى لاصقة بالفعل وإن صدر بها حكم قضائي يقضي بخلاف ذلك، الذي يدَّعي ديْنًا على آخر ظلمًا ويثبت ذلك أمام المحكمة، فإنَّ حكم المحكمة أنَّه محق في مطالبته، أو يستحق الدَّيْن من صاحبه، بل يبقى الأمر عند الله تعالى على حقيقته، وهو أنَّ هذا المدعي ارتكب حرامًا وأكل سحتًا، وهذا لا يجوز، في شرع الله لا ينفعه حكم الحاكم بما ادَّعى لنفسه ظلمًا؛ لأنَّ الحاكم يحكم حسب الظاهر، والله يتولَّى السرائر؛ ولأنَّ مناط الثواب والعقاب في الآخرة على حقائق الأفعال ونيات الإنسان، وما ارتكبه من حلال أو حرام، والأصل في تعلق الحقوق وثبوت الآثار الشرعية على حقيقة الفعل وكونه حلالًا جائزًا ظاهرًا وباطنًا، ولكن لما كان الباطن أمرًا خفيًّا يعجز الإنسان عن إدراكه، أو يتعذّر عليه، ولأجل

استقرار الأمور وجريان الأحكام على أسس ثابتة وقواعد مضبوطة، فقد اعتبرت الشريعة الإسلامية الظاهر، وجعلت صحته ومطابقته لمتطلبات الشريعة قرينة على صحة الباطن وحله، ومناطًا لتعلُّق الحقوق وثبوت الآثار، ولكنَّ الشيء أو الفعل يبقى بالرغم من ذلك موصوفًا بالحِلِّ والحرمة بناءً على حقيقته الباطنة، وما يترتب على هذا الوصف من جواز الإقدام عليه أو تحريمه، وما يتبع ذلك من ثواب أو عقاب؛ لأنَّ الحكم حسب الظاهر لا يقلب الحلال حرامًا ولا الحرام حلالًا، وبالتالي لا يحِلُّ للمسلم أن يبيح لنفسه فعل الحرام أو أكله، وإن أباح له ذلك القضاء. يدل على ما قلناه قول النبي -صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إليَّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذ منه شيئًا، فإنما أقطع له قطعة من النار"، ولهذا إذا ظهر الباطن ظهورًا كافيًا، وتكشَّفت حقيقته، فالعبرة به لا بالظاهر. إنَّ أهمية ما بينَّاه تظهر في حفظ حقوق الناس وكفِّ بعضهم عن بعض عن الاعتداء، ذلك أنَّ المسلم يعلم بأنَّ إقدامه على الحرام أو الاعتداء أو هضم حقوق الغير لا يفيده ولا يخلصه من المسئولية، وإن استطاع في الدنيا التخلص من المسئولية أو التهرب من القانون أو التحايل على القضاء، أو إخفاء حقيقة نفسه وفعله، إنَّ هذه الأمور لا تخفى على الله أبدًا، وسيحاسب عليها عند مثوله أمام المحكمة الإلهية الرهيبة في الآخرة، وعلى هذا الأساس فإنَّ المسلم لا يقدِم على شيء إلّا إذا كان حلالًا، ولا يطالب بشيء إلّا إذا كان له، وإن استطاع المطالبة بما ليس له، ولا يرتكب ما لا يحل له، وإن استطاع اخفاء ذلك عن القضاء، وبهذا تحفظ الحقوق ويأمن الناس عليها، وتقل الخصومات والمنازعات، ويقل عدد المراجعين للمحاكم، وفي هذا كله أعظم ضمان لحسن تنظيم علاقات الأفراد فيما بينهم، وعدم ضياع الحقوق على أصحابها، وهذا مما لا يوجد في القوانين الوضعية، فإنَّ المسألة عندها تنتهي بانتهاء صدور القرار من المحكمة ولا شيء بعد هذا؛ إذ لا سلطان للقوانين الوضعية على أمور الآخرة، وليس فيها المعاني التي ذكرناها.

المبحث الثالث: الخصيصة الثالثة: العموم

المبحث الثالث: الخصيصة الثالثة: العموم 72- من بديهات الإسلام وصفاته الأصلية أنَّه جاء لعموم البشر ولم يأت لطائفة معينة منهم، أو لجنس خاصٍّ من أجناسهم، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} ، وقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} وعموم الإسلام هذا غير مقصور على فترة معينة من الزمن، أو جيل خاصٍّ من البشر، وإنما هو عموم في الزمان كما هو عموم في المكان، ولهذا فهو باقٍ لا يزول ولا يتغير ولا ينسخ؛ لأن النسخ يجب أن يكون في قوة المنسوخ، سواء أكان النسخ كليًّا أو جزئيًا، وحيث إنَّ الإسلام ختم الشرائع السابقة كلها، وإنَّ محمدًا -صلى الله عليه وسلم- هو خاتم الأنبياء والمرسلين، فمعنى ذلك أنَّ الشرائع الإلهية انقطعت، وأنَّ الوحي الإلهي لم يعد ينزل على أحد، قال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} ، وعلى هذا لا يتصوَّر أن ينسخ الإسلام أو يغيره شيء. 73- وقد يقال هنا: لماذا كانت الشريعة الإسلامية خاتمة الشرائع، أما كان الأفضل والأنفع استمرار تنزل الشرائع الإلهية وإبقاء باب الرسالات الإلهية مفتوحًا؟ والجواب: لا؛ لأنَّ تنزُّل الشرائع ليس من قبيل العبث واللهو، وإنَّما هو لسدِّ نقص في تشريع سابق، أو لإكماله بتشريع لاحق مناسب لمستوى البشرية، وحيث إنَّ الشريعة الإسلامية كاملة تامَّة سدَّت كل ما لم تأت به الشرائع السابقة، وأكدت ما جاءت به هذه الشرائع السابقة، فلا حاجة ولا داعي لمجيء شريعة أخرى، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} ، فمع

هذا الكمال والتمام لا داعي لمجيء شريعة أخرى، وحيث لا شريعة أخرى فلا رسول آخر بعد محمد -صلى الله عليه وسلم. 74- وعموم الشريعة الإسلامية وبقاؤها وعدم قابليتها للنسخ والتبديل والتغيير بالتنقيص أو الزيادة، كل ذلك يستلزم عقلًا وعدلًا أن تكون قواعدها وأحكامها ومبادئها وجميع ما جاءت به على نحوٍ يحقق مصالح الناس في كل عصر ومكان، ويفي بحاجاتهم ولا يضيق بها، ولا يختلف عن أي مستوى عالٍ يبلغه المجتمع البشري. إنَّ هذا والحمد لله متوافر في الشريعة الإسلامية؛ لأن الله تعالى وهو العليم الخبير؛ إذ جعلها عامَّة في المكان والزمان، وخاتمة لجميع الشرائع، جعل قواعدها وأحكامها صالحة لكل زمان ومكان، ومهيأة للبقاء والاستمرار لهذا العموم. إنَّ ما نقوله هو الحق، ويدل عليه واقع الشريعة الإسلامية وطبيعة مبادئها وأحكامها وأفكارها ومناهجها، ولا بُدَّ هنا من بيانٍ موجز كل الإيجاز لإظهار هذا المعنى، وإثبات صحة ما نقوله بالأدلة والبراهين. الدليل الأول: مكانة المصلحة في الشريعة 75- يقوم هذا الدليل على إظهار مدى حرص الشريعة الإسلامية على مصالح الناس الحقيقية ودرء المفاسد عنهم، والواقع أنَّ الشريعة الإسلامية ما شرِّعت إلّا لتحقيق مصالح العباد في العاجل والآجل، أي: في الدنيا والآخرة، ودرء المفاسد والأضرار عنهم في العاجل والآجل أيضًا، حتى إنَّ بعض الفقهاء قال -وقوله حق: "إنَّ الشريعة كلها مصالح، إمَّا درء مفاسد أو جلب مصالح"، وقد يظن البعض أنَّ هذا القول مبالع فيه، والواقع أنه لا مبالغة فيه؛ لأنَّ ما قلناه عنها، ونقلنا قول بعض الفقهاء عنها، وصفٌ ثابت للشريعة ولكل حكم من أحكامها، فلا يخرج شيء منها عن هذا الوصف أو الغرض العامِّ الذي تريد الشريعة تحقيقه للعباد في عاجلهم وآجلهم، ونكتفي هنا بذكر بعض الأدلة الجزئية على هذه الحقيقة التي تكون البرهان الأول. 76- أ- قال تعالى في تعليل رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} ، والرحمة تتضمَّن قطعًا رعاية مصالح العباد ودرء المفاسد عنهم، ولا يمكن أن تكون رحمةً إذا أغفلت هذه المصالح.

77- ب- تعليل الأحكام بجلب المصلحة ودرء المفسدة لإعلام البشر بأنَّ تحقيق المصالح هو مقصود الإسلام، وأنَّ الأحكام ما شرِّعت إلّا لهذا الغرض، قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} ، فالقصاص شرِّع لتحقيق هذه المصلحة وهي الحياة للناس، أي: الأمن والاستقرار والاطمئنان وحقن الدماء بزجر من تسوّل له نفسه الاعتداء على أرواح الناس، وقال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} ، فتحريم الخمر يمنع عن الناس مفسدة الصدِّ عن ذكر الله وعن الصلاة، ودرء المفسدة لا شَكَّ في أنه وجه من وجوه المصلحة؛ لأنَّ المصلحة لها وجه إيجابي وهو جلب نفع لم يكن، ووجه سلبيّ وهو دفع ضرر أو مفسدة، وهكذا بقية الأحكام بلا استثناء، لا يخرج منها أيّ حكم كان، سواء أكان من أحكام الاعتقادات أو العبادات أو غير ذلك، نعم، قد يجهل البعض تفاصيل المصلحة في حكم من الأحكام، ولكنَّ هذا الجهل ليس بحجة على انتفاء المصلحة، فإنَّ الإنسان قد يجهل تفاصيل منفعة دواء، ولكنَّ جهله به لا يمنع من تحقيق المصلحة فيه، فإذا كان هذا واقعًا فيما يضعه إنسان، فكيف لا يكون فيما يضعه خالق الإنسان؟ هذه واحدة. والثاني: إنَّ المصلحة المقصودة في التشريع الإسلامي لا تقتصر على مصالح الدنيا، وإنما تتجاوزها إلى مصالح الآخرة، أي: إلى إعداد الإنسان للظفر بالسعادة الدائمة بجوار الربِّ الكريم الرحيم. 87- جـ- تشريع الرخَّص عند وجود المشقات في تطبيق الأحكام إذا كانت هذه المشقَّات فوق طاقة البشر المعتادة، من ذلك: إباحة النطق بكلمة الكفر عند الإكراه عليها بالتهديد بالقتل ونحوه، وإباحة المحرَّم عند الضرورة، مثل أكل الميتة ولحم الخنزير عند التعرُّض للهلاك جوعًا، وإباحة الفطر في رمضان للمريض والمسافر، ولا شَكّ أنَّ دفع المشقة ضرب من ضروب رعاية المصلحة ودرء المفسدة عن الناس. 79- د- عُرِفَ بالاستقراء والتأمُّل أنَّ مصالح العباد تتعلق بأمور ضرورية أو حاجية أو تحسينية، فالأولى هي التي لا قيام لحياة الناس بدونها، وإذا فاتت حَلَّ الفساد وعمَّت الفوضى واختلَّ نظام الحياة، وهذه الضروريات هي حفظ الدين والنفس

والعقل والنسل والمال. أمَّا الحاجيات: فهي التي يحتاجها الناس لتحقيق اليسر والسعة في عيشهم، إذا فاتتهم لم يختلّ نظام الحياة، ولكن يصيب الناس ضيق وحرج. وأمَّا التحسييات: فهي التي ترجع إلى محاسن العادات ومكارم الأخلاق، وإذا فاتت خرجت حياة الناس عن النهج القويم السليم الذي تقضي به الفِطَر السليمة والعادات الكريمة. وأحكام الشريعة كلها تحقق وتحفظ مصالح الناس المتعلقة بالضروريات والحاجيات والتحسينات. 80- فبالنسبة للضروريات شرَّع للدين -لإقامته وتحقيقه- العبادات، وشرَّع لحفظه الجهاد، وعقوبة المرتد، وزجر من يفسد على الناس عقيدتهم، والنفس شرَّع لإيجادها النكاح، وشرَّع لحفظها القصاص على من يعتدي عليها، وتحريم إلقاء النفس بالتهلكة، ولزوم دفع الضرر عنها، والعقل شرَّع لحفظه تحريم الخمر وعقوبة شاربها. والنَّسل شرَّع لإيجاده الزواج، وشرَّع لحفظه عقوبة الزنى والقذف، وحرَّم إجهاض المرأة الحامل، والمال شرَّع لتحصيله أنواع المعاملات من بيعٍ وشراءٍ ونحو ذلك، وشرَّع لحفظه حرمة أكل مال الناس بالباطل، أو إتلافه بلا وجهٍ سائغ مشروع، والحجر على السفيه، وتحريم الربا، وعقوبة السرقة. 81- وبالنسبة للحاجيَّات شُرِّعت لها الرخَّص عند المشقة، وشرِّع الطلاق للخلاص من حياةٍ زوجية لم تعد تطاق، وشرِّعت الدية في القتل الخطأ على عاقلة القاتل. 82- وفي التحسينات شرِّعت الطهارة للبدن والثوب، وستر العورة، وأخذ الزينة عند كل مسجد، والنهي عن بيع الإنسان على بيع أخيه، والنهي عن قتل الأطفال والنساء في الحروب. 83- فاستقراء نصوص الشريعة يدل على أنَّ الإسلام ما قصد بتشريعه الأحكام للناس إلّا لحفظ هذه الضروريات والحاجيات والتحسينات، وهذه هي مصالحهم في الدنيا والآخرة، وإذا تعارضت المفاسد والمصالح رُجِّح أعظمها مصلحة

أو أقلها مفسدة، فقتل القاتل مفسدة؛ لأنَّ فيه تفويت حياته، ولكنَّه جاز؛ لأنَّ فيه مصلحة أعظم وهي حفظ حياة الناس، وكشف العورة مفسدة، ولكن إذا احتاج إليها لإجراء عملية جراحية ضرورية جاز الكشف؛ لأن مصلحة حفظ النفس من الهلاك أكبر من مفسدة كشف العورة، وترك المحتكِر دون اعتراض عليه أو منعٍ له مصلحة له، ولكن فيه مفسدة أكبر وهي الإضرار بالناس، فشرَّع المنع من الاحتكار. والدفاع عن البلاد يعرِّض النفوس إلى القتل وهذه مفسدة، ولكن ترك الاعداء يدخلون بلاد المسلمين مفسدة أعظم من قتل النفوس، فكان في دفعهم بقتالهم مصلحة أكبر من مفسدة هلاك النفوس في هذ القتال، وهكذا تجري أحكام الشريعة على نمط واحد: هو جلب المصالح ودرء المفاسد. 84- وعلى هذا فكل مصلحة مشروعة حقيقية تظهر، أو مفسدة تطرأ، فإن الشريعة الإسلامية تبيح إيجاد الحكم لتحقيق تلك المصلحة ودرء هذه المفسدة في ضوء قواعد الاجتهاد المقررة في الفقه الإسلامي؛ لأن الشريعة كما يقول الفقيه ابن القيم: "مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجَوْر، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن ادخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه". ونخرج من جميع ما تقدَّم أن الشريعة الإسلامية وما جاءت به من أحكام صريحة في نصوصها، وما ابتنى علها من أحكام اجتهادية في ضوء موازين الاجتهاد الصحيح، لا يمكن ابدًا أن تضيق بحاجات الناس المشروعة، ولا تعجز عن تحقيق مصالحهم الحقيقية في أي زمان ومكان. الدليل الثاني: مبادئ الشريعة وطبيعة أحكامها 85- أحكام الشريعة نوعان: الأول جاء بشكل قواعد ومبادئ عامة، والثاني: جاء بشكل أحكام تفصيلية. وكلا النوعين جاء على نحوٍ يوافق كل مكان وزمان، ويتفق مع عموم الشريعة وبقائها، ولا بد من الكلام بإيجاز عن كل نوع. 86- النوع الأول: القواعد والمبادئ العامة

وردت في الشريعة قواعد ومبادئ عامَّة تتضمَّن أحكامًا عامَّة يمكن بسهولة ويسر تطبيقها في كل زمان، وقد صيغت بكيفية تمكنها من سهولة هذا التطبيق ويسره، كما أنَّ معناها الحق لا يمكن أن يتخلف عن أي مستوى عالٍ يبلغه أي مجتمع، وبالتالي يتَّسع لكل مصلحة حقيقية جديدة للناس، كما أنَّ هذه القواعد والمبادئ تعتبر كالأساس لما يقوم عليها من أحكام جزئية، ولما يتفرَّع عنها من فروع، فمن هذه القواعد والمبادئ: 87- أولًا: مبدأ الشورى وهو مبدأ أصيل من مبادئ الشريعة في نظام الحكم الإسلامي، ووصف من أوصاف المسلمين في تجمعهم ومباشرتهم أمور الحكم والسلطان، قال تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} ، وقال تعالى لرسوله الكريم -صلى الله عليه وسلم: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} ، إنَّ هذا المبدأ أسمى وأعدل وأحكم قواعد الحكم الصالح بين البشر، ولا يمكن الاستعاضة عنه بغيره، وقد جاء بدرجة كافية من العموم والمرونة؛ بحيث يتَّسع لكل تنظيم صحيح يوضع لتطبيق هذا المبدأ، وسيأتي شيء من التفصيل لهذا المبدأ عند الكلام عن نظام الحكم في الإسلام. 88- ثانيًا: مبدأ المساواة وهو أيضًا من مبادئ الإسلام العظيمة، وله مظاهر كثيرة في جميع جوانب التشريع الإسلامي، منها: المساواة أمام القانون، وفي تطبيق الأحكام، وفي المراكز القانونية إذا ما تساوى الأشخاص في الشروط التي يشترطها التشريع الإسلامي، ومساواة في التكاليف إذا تساوى الأفراد في أسبابها الموجبة، إنَّ هذ المبدأ العظيم طبِّق فعلًا في واقع الحياة، وحرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على تطبيقه، فقد جاء في السُّنَّة الشريفة أنَّ امرأة من بني مخزوم سرقت، فجاء أسامة بن زيد يستشفع لها عند رسول الله، فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم: "أتشفع في حَدٍّ من حدود الله"؟ ثم قال -عليه الصلاة والسلام: "إنَّما أهلك الذين من قبلكم أنَّهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أنَّ فاطمة بنت محمد لقطعت يدها". ولا شكَّ أن المساوة وما ابتني عليها وما تفرَّع عنها، قاعة يهش لها العقل السليم

وتتقبلها الفطرة السليمة، وتستقيم بها الأمور، وتنصلح الأحوال، ومن ثَمَّ فهي صالحة في كل زمان ومكان. 898- ثالثًا: مبدأ العدالة العدالة في الإسلام مبدأ بارز، يظهر هذا البروز في الأمر بها، والحكم بين الناس بموجبها، والالتزام بمقتضاها بالنسبة للقريب والبعيد، والعدو والصديق، وفي المحكمة وفي السوق، وإدارة شئون الدولة وفي البيت، وحتى فيما يعطيه الأب لأولاده، إنَّ روح العدل وجوهره إعطاء كل ذي حق حقه، واستعمال كل شيء في موضوعه، وهذا المعنى الواسع للعدل يحكم جميع تصرفات الإنسان، وعلاقاته بغيره، وواجباته نحو غيره من بني الإنسان. ومن النصوص القرآنية الواردة في موضع العدل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} ، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} ، ولا شكَّ أن هذا المبدأ يضمن مصالح الناس ويتَّسِع لكل تنظيم صحيح يحقق معنى العدالة والمقصود منها، فإذا رُؤِيَ أنَّ تحقيق العدالة في القضاء يستلزم جعل المحاكم على درجتين: ابتدئية واستئنافية، أو أنَّ المحكمة تؤلف من أكثر من حاكم واحد، أو تعيين هيئة تدقيقية لأحكام المحاكم "محكمة التمييز"، فهذا ونحوه سائغ جائز ما دام فيه تحقيق العدالة في القضاء على وجه سليم. 90- رابعًا: قاعدة: لا ضرر ولا ضرار وهي حديث نبوي، ومعناها: إنَّ الضرر مرفوع بحكم الشريعة، أي: لا يجوز لأحد إيقاع الضرر بنفسه أو بغيره، كما أنَّ مقابلة الضرر بالضرر لا يجوز؛ لأنه عبث وإفساد لا معنى له، فمن أحرق مال غيره فلا يجوز للغير إحراق مال المعتدي، وإنما له أن يطالبه بالتعويض، وإذا كان الضرر ممنوعًا فإنَّه إذا وقع وجب رفعه، ولهذا جاءت قاعدة فرعية مبنية على هذه القاعدة هي: "الضرر يزال"، وهناك فروع وأحكام كثيرة بنيت على هذه القاعدة، منها: تقرير حق الشفعة، ومنع التعسف في استعمال الحق،

وحق السلطة في اتخاذ الإجراءات الوقائية لمنع الضرر عن الناس؛ كحجر المرضى والقادمين إلى البلاد في محاجر خاصة، والتسعير في ظروف معينة، إلخ. 91- النوع الثاني: الأحكام التفصيلية الأحكام التفصيلية في الشريعة الإسلامية كثيرة يطول شرحها وبيانها وفحصها؛ لاظهار مدى قابليته للبقاء والاستمرار، ولهذا نكتفي بأخذ "عينات" و"نماذج" من هذه الأحكام للتأمل فيها وفحصها والتحديق فيها؛ ليتبين لنا مدى صلاحيتها للبقاء والعموم. إنَّ أحكام الشريعة كما ذكرنا إما أن تتعلق بأمور العقيدة أو بالأخلاق أو بالعبادات أو بالمعاملات، وعلى هذا نأخذ بعض النماذج من كل مجموعة من هذه المجموعات. 92- فمن أحكام العقيدة وجوب الإيمان بالله وبرسوله محمد -صلى الله عليه وسلم، ومسألة الإيمان بالله ورسوله من المسائل البديهية التي يؤمن بها كل عقل سليم وكل فطرة سليمة، وعليها من الأدلة والبراهين ما لا يوجد على غيرها من البديهيات، وقد قدَّمنا بعض ذلك أثناء كلامنا عن أركان الإسلام، وعلى هذا فلا يتصور مجيئ زمان أو جيل من الناس يقال فيه: إن مسألة الإيمان بالله وما يتفرّع عنها من مسائل العقيدة، أو مسألة الإيمان بمحمد -صلى الله عليه وسلم، أصبحت من المسائل العتيقة التي تناقض العصر ولا يقرّها العقل؛ لأن العقل لا ينكر الحقائق الثابتة، وأنما يؤكدها ويعمقها في النفس؛ ولأنَّ شأن الحقائق الثابتة الخلود، والعقل يعترف ويقر بهذا الثبات، ولا شكَّ أن الإيمان بالله من الحقائق الثابتة الخالدة التي لا يمكن أن تتغير وتنقض في أي زمان، فهي كمسألة واحد وواحد يساوي اثنين. 93- ومن أحكام العبادات وجوب الصلاة والصيام ونحو ذلك، ومسائل العبادة من لوازم الإيمان بالله ومقتضاه؛ لأنها تنظيم لعلاقة الفرد بخالقه، والوفاء بحق هذا الخالق العظيم، والإنسان لا ينفكُّ عن صفة مخلوقيته لله في أي دهر من الدهور، وفي أي زمن من الأزمان، وبالتالي لا ينفكّ عن وجوب أداء حق الله عليه، ولا يستغني عن تنظيم علاقته بربه، والعبادات بعد هذا وسيلة لتزكية النفس وطهارتها، وحشوها بمعاني الحق، وتخليتها من الكدروات، وربطها بخالقها، ودفعها إلى الخير، ومنعها من الشر، وقد أشار القرآن الكريم لبعض هذه المعاني في قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ

الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} ، ولا شكَّ أن المجتمع سيكون سعيدًا جدًّا إذا كثرت فيه النماذج البشرية التي صقلتها عبادات الإسلام، وسيكثر فيه الخير قطعًا، ويقل فيه الشر إن لم ينعدم، وفي ذلك كله تحقيق كبير لمصلحة الجماعة في كل زمان ومكان، ومن ثَمَّ فأحكام العبادات لا بُدَّ منها في أيِّ مجتمع إنساني، وبالنسبة لكل فرد في القرن العشرين، أو في أي قرن بعده. 94- وأحكام الأخلاق كوجوب الصدق والوفاء، والالتزام بالكلمة، والتعاون على البِرِّ، وحمرة الكذب والغدر والخيانة والتعاون على الشر، والتحلل من المسئولية، واستغلال النفوذ، والظلم، ونحو ذلك. أقول: هذه الأحكام الأخلاقية بالوجوب والتحريم ضرورية لكل إنسانٍ ولكل مجتمع إنساني يريد الصلاح والسداد، إنَّه لا يغني عن الأخلاق أيّ تقدُّم في مجال الثقافة والعلوم، إنَّ الأزمة التي يمر بها العالم اليوم، والاضطراب في المجتمعات، وسوء العلاقات بين الأفراد، مردُّها إلى زعزعة القيم الإخلاقية في النفوس وتجاوزها، فهي أزمة أخلاقية في جوهرها وأساسها، والشريعة في تأكيدها على الأخلاق لم تكن مسرفة في هذا التأكيد، ولا مبالغة فيه؛ لأنها أكدت على ما هو ضروري لأقامة قواعد الإصلاح على أساسٍ متينٍ ابتداء من النفس. والأخلاق بعد هذا معانٍ ثابتة يحتاجها الإنسان السويّ، ولا يتصور أن يجيء يوم يقال فيه: إن الصدق والعدل والوفاء بالعهد وترك الظلم معانٍ فاسدة عتيقة لم تد صالحة لزماننا أو عصرنا، اللهمَّ إلّا إذا ارتدَّ الإنسان إلى جاهلية جهلاءٍ لم تصل اليها الجاهلية الأولى، وسيأتي مزيد من التفصيل للأخلاق فيما بعد. 95- والأحكام التفصيلية الأخرى المتعلقة بالمعاملات -أي: بعلاقات الأفراد فيما بينهم- هي الأخرى صالحة للبقاء والعموم؛ لأنَّ تفصيلها بُنِيَ على أساس أنَّ الحاجة إليها تبقى قائمة دائمًا، وأنَّ غيرها لا يسد مسدَّها أبدًا، ولا يحقق مصلحة الناس على الوجه الذي تحققه. 96- فمن هذه الأحكام: تنظيم الأسرة، وكيفية الزواج، وحق الحضانة، والولاية، والنسب، والميراث، والطلاق، والنفقة، ونحو ذلك من شئون الأسرة، وكل هذه الأحكام جاء على نحوٍ صالح وافٍ كافٍ لتحقيق الخير والصلاح للناس، ولا يمكن الاستعاضة عنها بأحسن منها، فالنكاح جاء تنظيمه غاية في البساطة وخاليًا من

الشكلية والطقوس، فيكفي فيه إيجابٌ من الرجل وقبولٌ من المرأة بحضور شهود، وبرضى ولي المرأة صيانةً لهذا العقد الشريف الكريم من الابتذال والخداع، ولا يشترط لصحة النكاح أن يكون على يد شخص معيّن، أو في مكان معين، أو بكيفية خاصة، أو بلغة معينة، أو بتراتيل معينة، فهذه الكيفية البسيطة للنكاح تؤهله للبقاء والعموم، ولا يتصور العقل خيرًا منها. وتشريع الطلاق هو الشيء الطبيعي المعقول؛ إذ لا يصح إجبار شخصين على إبقاء الرابطة الزوجية بالرغم من قيام ما يدعو إلى انفصالها، وإنما المعقول أن تباح الفرقة بينهما؛ ليذهب كل واحد إلى سبيله، ويجرّب حظه في شركة أخرى وزوجية جديدة. ولهذا أباحت الدول الغربية الفرقة بين الزوجين بالرغم من تحريمه بزعمهم في الديانة النصرانية، ولا يقال لماذا أعطي للزوج حق الطلاق ومنعت منه المرأة؛ لأنَّنا نقول: إنَّ للمرأة أن تشترط لنفسها حق الطلاق في عقد الزواج إذا شاءت، وهذا شرط معتبر، كما لها أن تطلب التفريق من المحكمة إذا مسَّها ضرر من الزوج لا يمكن تلافيه إلّا بإيقاع الفرقة بينهما. وتنظيم الميراث وتحديد أنصبة الورثة جاء على شكل ممتاز لوحظ فيه مختلف الاعتبارات؛ كقرب الوارث وحاجته، وتفتيت الثروة وتوزيعها، مما يجعل هذا التنظيم وما بني عليه من أسس واعتبارات صالحًا لكل زمان ومكان. 97- وتحريم الربا، وهو حكم يخص المعاملات المالية، حكم تفصيلي غير قابل للتبديل والنسخ؛ لأن مفاسد الربا وأضراره ذاتية فيه، لا تنفك عنه أبدًا، ومن مظاهره: انحلال المجتمع وفساده، واستساغته للظلم، وفقدان التعاون الاجتماعي بين أفراده، وعلاج مثل هذا المجتمع الفاسد يكون بإصلاحه جذريًّا لا بترك فساده واعوجاجه، وتشريع الأحكام الملائمة لهذا الفساد والاعوجاج. 98- والعقوبات في الشريعة جاءت مفصّلة لعدد من الجرائم وهي: الردة، والزنى، والقذف، والسرقة، وقطع الطريق، وشرب الخمر، وقتل النفس، أمَّا الجرائم الأخرى فقد تركت الشريعة تقدير عقوبتها إلى القاضي، وتسمَّى الجرائم التعزير، وعقوباتها تسمَّى عقوبات التعزير، والعقوبات المقدرة كلها خير وصلاح وعدل ووقاية للمجتمع من الشرور والمفاسد، ولا يستغني أي مجتمع فاضل عنها؛ لأنها بنيت

على اساس العدالة وتحقيق الزجر للمجرم، وحفظ مصلحة الفرد والجماعة، فعقوبة الردة على أصلين: الأول: إخلال المسلم بالتزامه بأحكام الإسلام، الثاني: درء المفسدة عن المجتمع، وبيان ذلك أنَّ الفرد بإسلامه إلتزم بأحكام الإسلام وأصوله، وعدم الخروج عليها أو هدمها، فإن فعل ذلك مخلًّا بالتزامه، فيناله جزاء هذا الإخلال، هذا من جهة، ومن جهة أخرى: فإنَّ في الردة وإعلانها مفسدة للجماعة وإضرار بها مع التعمُّد وسبق الإصرار؛ لأنَّ المرتدَّ ما كنَّا نعرفه لولا إعلان ردته المتعمدة، قاصدًا من وراء ذلك تشكيك الناس في عقائدهم، وإحداث الاضطراب فيما بينهم، وزعزعة كيان الدولة التي اتخذت الإسلام أساسًا لها في قيامها وبقائها وأهدافها. فكان لا بُدَّ من عقوبة زاجرة لمنع هذا الفساد عن الناس وعن الدولة ذاتها، التي اتخذت الإسلام أساسًا لها كما قلنا. وعقوبة الزنى بنيت على أساس رعاية الأخلاق ومنع إفسادها للفرد والأسرة والمجتمع؛ كشيوع الأمراض واختلاف الأنساب وخراب البيوت والعزوف عن الزواج، وما إلى ذلك، والشريعة من أصولها وأهدافها العناية بالأخلاق ومنع الفساد عن الناس، ولا شكَّ أنَّ المجتمع الفاضل يرحب بهذه العقوبة ولا يضيق بها ولا يجد فيها إلّا الخير والمصلحة وزجر المفسدين الذين يريدون التلهي والعبث بأعراض الغير. وعقوبة السرقة -وهي قطع اليد- هي العلاج الحاسم لقطع دابر هذا الاعتداء على أموال الغير، وإشاعة الطمأنينة في نفوس الناس، إنَّ قطع يد واحدة ثمن قليل جدًّا لتحقيق طمأنينة المجتمع. إنَّ قطع اليد الخائنة المجرمة كقطع اليد المتآكلة التي يقرر الطبيب وجوب قطعها لسلامة الجسد، إنَّ عقوبة السجن للسرَّاق ما ردعت وما قلَّلت حوادث السرقة، ولكن عقوبة قطع اليد ردعت في الماضي المجرمين عن السرقات. ولا تزال هذه العقوبة قادرة على الردع والزجر في الوقت الحاضر، وكون هذه العقوبة قديمة لا يقدح في صلاحها، فليس كل قديم فاسدًا، ولا كل جديد صالحًا؛ لأن صلاح الشيء يستفاد من ذاته ومدى نفعه لا من جدته وقِدَمه. وعقوبة القتل العمد في الشريعة الإسلامية هي القصاص، أي: قتل الجاني، والقصاص حقٌّ لأهل المجنيّ عليه، فلهم أن يطلبوه، ولا يسع المحكمة الامتناع عن

إجابتهم، كما لهم أن يعفوا ويتصالحوا مع القاتل على الدية، وفي حالة العفو أو المصالحة يجوز للمحكمة أن تعاقب القاتل عقوبة تعزيرية بالحبس أو الجلد، فهذا التنظيم لعقوبة القتل العمد تنظميم كامل لم يغفل جانب الطبيعة البشرية وما جبلت عليه من حب أخذ الثأر من الجاني، وانزال القصاص العادل به، كما لم يغفل جانب المجتمع ومصلحته. فجميع العقوبات التفصيلية قامت على أوصافٍ ثابتة لا تتغير، ومن ثَمَّ فهي صالحة لكل مجتمع فاضل يريد أن يعيش بأمان واطمئنان. 99- أمَّا عقوبات التعزير، وهي بالنسبة لجميع الجرائم التي لم تحدد الشريعة لها عقوبات، فالقاضي في تحديده العقوبة يلاحظ مدى جسامة ضررها بالمجتمع، وسوابق المجرم، وظروفه التي دفعته إلى الإجرام، إلى غير ذلك من الأمور، ويقرر بعد ذلك العقوبة المناسبة في ضوء قوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} ولا شك أن نظام التعزير نظام مرن في الشريعة، يمكِّنُها من مواجهة مختلف الحالات التي يلزم فيها العقاب، وبالتالي يكون صالحًا لكل زمان ومكان. الدليل الثالث: مصادر الأحكام 100- مصادر الأحكام الشرعية نوعان: الأول: مصادر أصلية وهي الكتاب والسنة النبوية، الثاني: مصادر تبعية قامت على المصادر الأصلية؛ كالإجماع والاجتهاد بأنواعه المختلفة؛ كالقياس والاستحسان والمصلحة المرسلة. وهذه المصادر كلها تجعل الشريعة الإسلامية في غاية القدرة والاستعداد والأهلية للبقاء والعموم؛ بحيث لا يحدث شيء جديد إلّّا وللشريعة حكم فيه، إمَّا بالنص الصريح أو بالاجتهاد الصحيح، وبالتالي لا تضيق الشريعة بالوقائع الجديدة، وبالتالي لا تضيق بحاجات الناس ومصالحهم. 101- ومن جميع ما تقدم من أدلة وبراهين يظهر لنا بغاية الوضوح أنَّ الشريعة الإسلامية شريعة فيها كل مقومات العموم المكاني والزماني، ومن ثَمَّ فهي للجميع وفي جميع الأزمان، وهذا من فضل الله على بني الإنسان.

المبحث الرابع: الخصيصة الرابعة: الجزاء في الإسلام

المبحث الرابع: الخصيصة الرابعة: الجزاء في الإسلام 102- أحكام الإسلام ليست نصائح وإرشادات خالية من الثواب والعقاب، إنها ارشادات ونصائح حقًّا، ولكن لها ثواب حسن ينال الملتزم بها، ولها عقاب يصيب المخالف لها، على درجات متفاوتة في العقاب والثواب. والأصل في أجزية الإسلام وعقوباته أنَّها في الآخرة لا في الدنيا، ولكن مقتضيات الحياة وضرورة استقرار المجتمع وتنظيم علاقات الأفراد على نحوٍ واضحٍ مؤثِّر وضامن لحقوق الناس، كل ذلك دعا إلى أن يكون الجزاء الأخروي جزاء دنيوي، أي: مع العقاب الأخروي عقاب توقعه الدولة في الدنيا على المخالف لأحكام الإسلام. ونطاق الجزاء في الإسلام واسع وشامل شمول الإسلام لجميع شئون الحياة، ومن ثَمَّ فأجزية الإسلام تتعلق بأمور العقيدة والأخلاق والعبادات والمعاملات، فكل مخالفة لهذه الأمور لها جزاؤها في الآخرة، وقد يكون لها جزاء في الدنيا أيضًا. والجزاء في الدنيا لا يمنع الجزاء في الآخرة على المخالف العاصي، إلّا إذا اقترنت معصيته بالتوبة النصوح، والتوبة النصوح تقوم على الندم على ما اقترفه الإنسان، وعلى العزم الأكيد على عدم العودة إلى هذه المخالفة، وعلى التحلُّل من حقوق الغير إذا كانت معصية تتعلق بهذه الحقوق. وقد ترتَّب على هذا الجزاء الأخروي خضوع المسلم لأحكام الشريعة خضوعًا

اختياريًّا في السر والعلن خوفًا من عقاب الله، وحتى لو استطاع الإفلات من عقاب الدنيا؛ لأنَّ العقاب الأخروي ينتظره ولا يستطيع الإفلات منه، ولهذا اذا ارتكب المسلم جريمة أو معصية في غفلة من إيمانه، طلب إقامة العقوبة عليه بمحض اختياره، فهذا ماعز اعترف أمام الرسول -صلى الله عليه وسلم- بجريمة الزنى، وطلب إقامة الحد -العقوبة- عليه، وهكذا تنزجر النفوس عن مخالفة القانون الإسلامي، إمَّا بدافع الاحترام له والحياء من الله تعالى، وإمَّا بدافع الخوف من العقاب الآجل الذي ينتظر المخالفين {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} ، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} ، وفي هذا وذاك أعظم ضمان لزجر النفوس عن المخالفة والعصيان.

المبحث الخامس: الخصيصة الخامسة: المثالية والواقعية

المبحث الخامس: الخصيصة الخامسة: المثالية والواقعية المطلب الأول: المثالية في الإسلام ... المبحث الخامس: الخصيصة الخامسة: المثالية والواقعية تمهيد: 103- من خصائص الإسلام أنَّه يحرص على إبلاغ الإنسان أعلى مستوى ممكن من الكمال، وهذه هي مثالية الإسلام، ولكنه لا يغفل عن طبيعة الإنسان وواقعه، وهذه هي واقعية الإسلام. فلا بُدَّ من الكلام عن هاتين الناحيتين في مطلبين متتاليين. المطلب الأول: المثالية في الإسلام المقصود بالمثالية: 104- قلنا: إنَّ الإسلام يحرص على إبلاغ الإنسان الكمال المقدور له، وهذا يكون بجعل تصرفاته وأقواله وأفعاله وتروكه وقصوده وأفكاره وميوله وفق المناهج والأوضاع والكيفيات التي جاء بها الإسلام، وقد تحقق ذلك كله في رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ولذلك أمرنا الله تعالى بالتأسي به {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} ، وقوام هذه المثالية الاعتدال والشمول. أولًا: الاعتدال 105- ونقصد بالاعتدال عدم الإفراط والتفريط في أي شيء، واعطاء كل ذلك حق حقه، يدل على ذلك قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ

يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} ، وقال تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} وقال -صلى الله عليه وسلم: "خير الأمور أوسطها". 106- والاعتدال مطلوب حتى في العبادات، فلا ينبغي للمسلم أن يرهق نفسه أو يؤذي جسده، يدل على ذلك ما أخرجه البخاري ومسلم والنسائي عن أنس -رضي الله عنه- قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسألون عن عبادته، فلما أخبروا كأنَّهم تقالّوها، قالوا: أين نحن من رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخَّر؟ قال أحدهم: أمَّا أنا فأصلي الليل أبدًا، وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال الآخر: وأنا أعتزل النساء ولا أتزوج أبدًا، فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، ولكنِّي أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني". 107- وتعذيب الجسد وتحميله ما لا يطيق ليس من مناهج الإسلام ووسائله لبلوغ الكمال المنشود؛ إذ ليس من لوازم هذا الكمال أو مقتضياته فعل ذلك، ولا من مقاصد الإسلام تعذيب الجسد، لا قصد الغايات ولا قصد الوسائل، ومن ظنَّ ذلك فهو واهم، فإن مثالية الإسلام يمكن بلوغها بنهجٍ معتدل وسير مريح، وإن الخروج عن هذا النهج يضعف الجسد ويقعد به عن أداء الفرائض فضلًا عن النوافل، ومن خرج من هذا النهج وجب رده إليه، جاء في الحديث أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأى رجلًا قائمًا في الشمس، فسأل عنه فقالوا: يا رسول الله، إنه نذر أن يقوم في الشمس ولا يقعد، ولا يستظل ولا يتكلم، ويصوم. فقال -عليه الصلاة والسلام: "مروه فليتكلم وليقعد وليتمَّ صومه"، فالصوم مطلوب، ولكنَّ الوقوف في الشمس حيث يمكن الوقوف في الظل غير مطلوب، ولا معنى فيه، وكذلك الصمت الدائم طيلة النهار لا داعي له ولا فائدة فيه، وسِرّ المسألة أنَّ الجسد مركب الروح، وليس من الحكمة خرق المركب أو إضعافه، والجسد مستقرّ الروح ومسكنها، وليس من المصلحة تخريبه، ولا من الكمال المنشود هضمه حقه، وأنَّ الروح هي الأخرى لها حق في الراحة والاستجمام، لا يجوز التفريط فيه، جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري عن أنس -رضي الله عنه، أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دخل المسجد، فإذا حبل ممدود بين الساريتين، فقال: "ما هذا"؟ قالوا: حبل

لزينب، فإذا فترت تعلقت به. فقال: "لا، حلوه، ليصلّ أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد". وفي وصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعثمان بن مظعون: "فإنَّ لأهلك عليك حقًّا، وإن لضيفك عليك حقًّا، فصم وافطر، وصلِّ ونم". 107- وحرمان الإنسان نفسه أو جسده من الطيبات والمتع الحلال ليس من منهاج الإسلام في بلوغ الكمال، وإنما منهاجه في الاعتدال، فإذا وجد الإنسان أو تيسَّر له شيء من الطيبات بطريق الحلال أخذه وتناوله، ولا يقدح ذلك في تعلقه بمثالية الإسلام، وإذا لم يجده لم يأس عليه، وهكذا كان يفعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وفي كتاب الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} ، {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} ، فالمطلوب لبلوغ الكمال تقوى الله، وليس تحريم الطيبات وحرمان الجسد أو النفس منها. 108- ومع هذا، فقد يسوغ أو يندب أو يجب أخذ الإنسان نفسه بالشدة وخشونة العيش، ورضاه بالضيق إذا كان ذلك لغرض مشروع أو مقصد نبيل أو لسبب مقبول، كما لو كان المسلم في مقام القدوة، أو بسبب إيثار الغير على نفسه، أو بسبب امتناعه عمَّا لا يجوز له، فيتعرَّض إلى ما ذكرنا، وعلى هذا الأساس يجب أن نفهم سيرة أسلافنا الصالحين، وما روي عنهم من أخذ نفوسهم بالشدة، وامتناعهم عن كثير من طيبات العيش ونعومته. ثانيًا: الشمول 109- والمثالية في الإسلام تتصف بالشمول؛ لأن الإسلام يريد من المسلم أن يبلغ الكمال المقدور له بتناسقٍ، وفي جميع شئونه، فلا يقبل على جانب واحد أو عدة جوانب، ويبلغ فيه المستوى العالي من الكمال، بينما يهمل الجوانب الأخرى حتى ينزل فيها إلى دون المستوى المطلوب، إنَّ مَثَله مَثَل من يقوي يديه ويترك سائر أعضائه رخوة هزيلة ضعيفة، وعلى هذا الأساس فَهِمَ الصحابة الكرام مثالية الإسلام، فلم تأسريهم عبادة، ولم تقيدهم عادة، وإنما تقلَّبوا في جميع العبادات والأحوال، وبلغوا فيها المستوى العالي من الكمال، فلم يحبسوا نفوسهم في مكان، ولا على نوع من العبادات، ولا على نمطٍ معين من الأعمال، وإنما باشروا الجميع، فعند الصلاة كانوا في المسجد يصلون، وفي حلقات العلم يجلسون معلمين أو متعلمين، وعند الجهاد يقاتلون، وعند الشدائد والمصائب يواسون ويساعدون، وهكذا كان شأنهم في جميع الأحوال.

المطلب الثاني: الواقعية في الإسلام

المطلب الثاني: الواقعية في الإسلام 110- والإسلام لا يغفل طبيعة الإنسان وتفاوت الناس في مدى استعدادهم لبلوغ المستوى الرفيع الذي يرسمه لهم، وفي ضوء هذا النظر الواقعيّ جعل الإسلام حدًّا أدنى أو مستوى أدنى من الكمال لا يجوز الهبوط عنه؛ لأن هذا المستوى ضروري لتكوين شخصية المسلم على نحوٍ معقول؛ ولأنه أقل ما يمكن قبوله من المسلم ليكون في عداد المسلمين؛ ولأنه وضع على نحو يستطيع بلوغه أقل الناس قدرة على الارتفاع بها، وهي المسماة بالفرائض، كما يشمل جملة معان يجب هجرها، وهي المسماة بالحرمات. إن هذه الفرائض والمحرمات جعلت بقدر طاقة أقل الناس استعدادًا لفعل الخير، وابتعادًا عن الشر، ومن ثَمَّ يستطيع كل واحد الوفاء بمقتضاه، ولا يعذر في التخلف عنها، ولكن بجانب هذا المستوى الإلزامي الواجب بلوغه على كل مسلم، وضعت الشريعة مستوى آخر أرفع منه وأوسع منه، وحببت إلى الناس بلوغ هذا المستوى العالي، فإلزامهم به إرهاق لهم وحرج شديد، والحرج في شرع الإسلام مرفوع؛ لأنه يخالف نظرة الإسلام الواقعية، قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} ، وقال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} ، وهذا المستوى العالي يشمل المندوبات التي ترغب الشريعة في القيام بها، والمكروهات التي ترغب الشريعة في ترك المسلم لها، وهذان المستويان الأدنى والأعلى موجودان في تشريعات الإسلام، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر ما يأتي: أولًا: الصلاة: منها ما هو فرض ومنها ما هو مندوب، فالأول يدخل في معاني المستوى الأدنى، والثاني يدخل في معاني المستوى الأعلى، وفيه جاء قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد مسلم يصلي لله تعالى في كل يوم اثنتي عشرة ركعة تطوعًا غير الفريضة إلّا

بنى الله له بيتًا في الجنة". ثانيًا: الصيام: الفرض منه صيام شهر رمضان، وهذا من معاني الحد الأدنى المطلوب، وصيام ست من شوال، وأيام البيض من كل شهر، وصوم الاثنين والخميس، من معاني المستوى الأعلى. ثالثًا: الحج: فرضه مرة في العمر، وما زاد فتطوع، وهو من معاني المستوى الأعلى. رابعًا: وفي إنفاق المال في سبيل الله فريضة الزكاة، قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} ، وفي صدقة التطوع يقول الله تعالى: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} . خامسًا: وفي القتل العمد شرع القصاص، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} ، فلأهل القتيل المطالبة به وهذا حقهم، ولا تثريب عليهم فيه، ولكنَّ الإسلام ندب إلى العفو، وهو من معاني المستوى الأعلى، وفيه قال تعالى في نفس الآية: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} . سادسًا: وفي الاعتداء بصورة عامَّة تجوز المعاقبة بالمثل، والعفو والصبر أفضل، وهما من معاني المستوى الأعلى، قال تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} . سابعًا: وفي البيوع والأشربة: حبَّب الإسلام للمسلم أن يكون سهلًا في بيعه وشرائه ومقاضاته، وهذه كلها من معاني المستوى الأعلى، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "رحم الله رجلًا سمحًا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى". ثامنًا: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: فرض كفائي يجب وجوده في الأمة، ويسوغ تركه باليد واللسان، والاكتفاء بإنكار القلب بالنسبة لحاكم ظالم طاغية لا يتَّسع صدره لسماع النصيحة ويقتل من يأمره أو ينهاه، ولكن من المندوب إليه قيام المسلم بأمره ونهيه، وإن أدى ذلك إلى قتله، وهذا من معاني المستوى الأعلى، يدل على ذلك الحديث الشريف: "سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قال كلمة حق لسلطان

جائر فقتله"، ولا يعترض علينا هنا بأنَّ إلقاء الإنسان نفسه في التهلكة لا يجوز، وهذه تهلكة، قال تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} ؛ لأننا نقول: إن الاستشهاد في سبيل الله مكرمة لا تهلكة، وإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باليد أو باللسان ضرب من ضروب الجهاد المشروع؛ لما يترتَّب عليه من تقوية نفوس المحقين وخذلان المبطلين وإيقاف الظالمين عند حدهم. تاسعًا: والكلام بالباطل حرام يجب تركه، والترك هنا من معاني المستوى الأدنى، والثرثرة وكثرة الكلام بما لا يفيد ولا ينفع مكروه وإن لم يكن فيه باطل، جاء في الحديث الشريف: "إن الله يكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال"، فالكلام الكثير بما لا ينفع مكروه تركه أفضل، وهذا من معاني المستوى الأعلى. عاشرًا: والإكراه على الكفر بالتهديد بالقتل يسوغ للمكرَه أن يقول كلمة الكفر بشرط اطمئنان القلب بالإيمان، رخصةً من رخص الإسلام، وهي من معاني الحد الأدنى، قال تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} ، والمندوب إليه عدم قول الكفر وإن أدى ذلك إلى قتله، وهذا من معاني المستوى الأعلى. 111- ولا تقف واقعية الإسلام عند الحد الذي ذكرناه وهو وضعه مستويين للكمال: أدنى وأعلى، وإنما تظهر واقعية الإسلام في أمرٍ آخر، هو إيجاد المخارج المشروعة للمسلم في أوقات الشدة والضيق، وعدم إلزامه بما كان لازمًا له أو واجبًا عليه، أو محرَّمًا عليه في الأوقات العادية، وعلى هذا الأساس جاءت الرخص كلها، وجاءت القاعدة الفقهية: "الضرورات تبيح المحظورات"؛ لأن النفوس قد لا تقوى على الاستمرار بما يريده الإسلام في الظروف القاسية والأحوال الاضطرارية، فتقع في المعصية، فخفَّف الإسلام عنها بما شرعه من رُخَصٍ، ومنها: إباحة أكل الميتة عند الجوع الشديد الذي يخاف فيه تلف النفس، وإباحة ترك الواجب مثل الفطر في رمضان للمريض والمسافر، وإباحة الصلاة للمريض وهو قاعد إذا كان لا يقوى على الوقوف. 112- وبهذه المثالية والواقعية في الإسلام يستطيع المسلم أن يحقق لنفسه الكمال المقدور له بيسر واعتدال وشمول، وبما يوافق الفطرة دون إرهاق ولا حرج ولا انعزال عن الحياة وأهلها.

الفصل الرابع: أنظمة الإسلام

الفصل الرابع: أنظمة الإسلام مدخل ... الفصل الرابع: أنظمة الإسلام تمهيد: 114- قلنا في خصائص الإسلام: إنَّه شامل، ومن مظاهر شموله: أحكامه المتعلقة بالأخلاق وبعلاقات الناس فيما بينهم، وهذه الأحكام تكوّنُ كل مجموعة منها نظامًا خاصًّا في موضع خاصّ، مثل أحكام الأخلاق تكوّن نظام الأخلاق في الإسلام، ومثل أحكام الأسرة وهي المتعلقة بالأسرة وأفرادها، وهي تكوّن نظام الأسرة، وهكذا. ونحن في هذ الفصل نذكر أهم أنظمة الإسلام ونبيِّن معالمها البارزة بما يجليها بالقدر الذي يحتاجه الداعية إلى الإسلام. إنَّ بياننا هذا لأنظمة الإسلام سيكون بحدود ما جاء به الإسلام لا نزيد عليه شيئًا ولا ننقص منه شيئًا، ولا نطوعه لما نريد، فالمسلم دائمًا يقف وراء الإسلام ولا يتقدم عليه. وعلى هذا سنقسِّم هذا الفصل إلى مباحث، ونفرد لكل نظام مبحثًا على حدة على النحو الآتي: المبحث الأول: نظام الأخلاق. المبحث الثاني: نظام المجتمع. المبحث الثالث: نظام الإفتاء. المبحث الرابع: نظام الحسبة. المبحث الخامس: نظام الحكم.

المبحث السادس: نظام المال أو نظام الاقتصاد. المبحث السابع: نظام الجهاد. المبحث الثامن: نظام الجريمة والعقاب.

المبحث الأول: نظام الأخلاق في الإسلام

المبحث الأول: نظام الأخلاق في الإسلام تعريف الأخلاق: 115- الخلق في اللغة: الطبع والسجية، وفي اصطلاح العلماء -كما يعرفه الغزالي: عبارة عن هيئةٍ في النفس راسخة، عنها تصدر الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر ورويّة1. ويمكننا تعريف الأخلاق بأنه: مجموعة من المعاني والصفات المستقرة في النفس، وفي ضوئها وميزانها يحسن الفعل في نظر الإنسان أو يقبح، ومن ثَمَّ يقدم عليه أو يحجم عنه. أهمية الأخلاق: 116- للأخلاق أهمية بالغة لما لها من تأثير كبير في سلوك الإنسان وما يصدر عنه، بل نستطيع أن نقول: إن سلوك الإنسان موافق لما هو مستقر في نفسه من معانٍ وصفات، وما أصدق كلمة الإمام الغزالي إذ يقول في إحيائه: "فإنَّ كل صفة تظهر في القلب يظهر أثرها على الجوارح، حتى لا تتحرك إلّا على وفقها لا محالة"، فأفعال الإنسان إذن موصولة دائمًا بما في نفسه من معانٍ وصفات صلة فروع الشجرة بأصولها المغيبة في التراب. ومعنى ذلك أنَّ صلاح أفعال الإنسان بصلاح أخلاقه؛ لأنَّ الفرع بأصله، إذا صلح الأصل صلح الفرع، وإذا فسد الأصل فسد الفرع {وَالْبَلَد

_ 1 إحياء علوم الدين للغزالي ج3، ص46.

الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا} 1. ولهذا كان النهج السديد في إصلاح الناس وتقويم سلوكهم وتيسير سبل الحياة الطيبة لهم أن يبدأ المصلحون بإصلاح النفوس وتزكيتها، وغرس معاني الأخلاق الجيدة فيها، ولهذا أكد الإسلام على صلاح النفوس وبين أنَّ تغيير أحوال الناس من سعادة وشقاء، ويسر وعسر، ورخاء وضيق، وطمأنينة وقلق، وعز وذل، كل ذلك ونحوه تبع لتغيير ما بأنفسهم من معان وصفات، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} . 117- وتظهر أهمية الأخلاق أيضًا من ناحية أخرى، ذلك أنَّ الإنسان قبل أن يفعل شيئًا أو يتركه يقوم بعملية وزن وتقييم لتركه أو فعله في ضوء معاني الأخلاق المستقرة في نفسه، فإذا ظهر الفعل أو الترك مرضيًا مقبولًا انبعث في النفس رغبة فيه واتجاه إليه، ثم إقدام عليه، وإن كان الأمر خلاف ذلك انكمشت النفس عنه وكرهته، واحجمت عنه تركًا كان أو فعلًا. إنَّ عملية الوزن هذه قد تكون سريعة جدًّا وغير محسوس بها، إلى درجة أنَّ الإنسان قد يفعل الشيء أو يتركه بدون رواية أو تفكير، وفي بعض الأحيان لا تتمّ عملية الوزن والقيم إلّا بعد تأمّل ومضي وقت طويل، وقد لا تتم هذه العملية، فيقع الإنسان في التردد بين الفعل والترك، ولكن في جميع الأحوال لا بُدَّ من عملية الوزن والتقيم لكل فعلٍ أو تركٍ بلا استثناء. إنَّ وزن الأفعال والتروك بميزان الأخلاق، وصحة هذا الوزن أو فساده، ومدى التزام الإنسان بمقتضاه، وتنفيذه له، كل ذلك يتوقف على نوع المعاني الأخلاقية التي يحملها من حيث جودتها أو رداءتها، ومدى رسوخها في نفسه، وانصباغها بها، وحماسه لها، وغيرته عليها، وشعوره بضرورتها إليه، فلا يكفي لظهور أثر الأخلاق في فعل الإنسان وتركه أن يعرف الإنسان الجيد والرديء من الأخلاق، ويخزِّن هذه المعرفة في رأسه، ويتكلم بها في المناسبات، بل لا بُدَّ من انصباغ كيانه ورسوخها في أعماق نفسه؛ بحيث تصير له كاللون الأسود والأبيض بالنسبة للبشرة السوداء أو البيضاء، وأن تكون حاضرة في ذهنه، مسيطرة على سلوكه، متحمسًا لها، غيورًا عليها إلى درجة الإيمان.

_ 1 سورة الأعراف، الآية: 85.

بأنَّ الحياة لا تصلح عوضًا للتفريط بمعنى من معاني الأخلاق الفاضلة الإسلامية التي يحملها، ومن أجل هذا أكَّد الإسلام على معاني الأخلاق المطلوبة وشوَّق إليها، وحثَّ النفوس عليها، وكرَّرَها وأعادها، حتى يتذكرها المسلم دائمًا وينصبغ بها، فيكون أثرها واضحًا في سلوكه. مكانة الأخلاق في الإسلام: 118- للأخلاق في الإسلام مكانة عظيمة جدًّا، تظهر من وجوه كثيرة، نذكر منها ما يأتي: أولًا: تعليل الرسالة بتقويم الأخلاق وإشاعة مكارم الأخلاق، جاء في الحديث الشريف عن النبي -صلى الله عليه وسلم: "إنما بعثت لأتمِّمَ مكارم الأخلاق". ثانيًا: تعريف الدين بحسن الخلق، فقد جاء في حديثٍ مرسل أن رجلًا جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله: ما الدين؟ فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم: "حسن الخلق"، وهذا يعني أنَّ حسن الخلق ركن الإسلام العظيم الذي لا قيام للدِّين بدونه، كالوقوف في عرفات بالنسبة للحج، فقد جاء في الحديث الشريف "الحج عرفة"، أي: إنَّ ركن الحج العظيم الذي لا يكون الحج إلّا به الوقوف في عرفات. ثالثًا: من أكثر ما يرجِّح كفة الحسنات يوم الحساب حسن الخلق، جاء في الحديث الشريف عن النبي -صلى الله عليه وسلم: "أثقل ما يوضع في الميزان يوم القيامة تقوى الله وحسن الخلق". رابعًا: المؤمنون يتفاضلون في الأيمان، وأفضلهم فيه أحسنهم أخلاقًا، جاء في الحديث: قيل: يا رسول الله، أيّ المؤمنين أفضل إيمانًا؟ قال: "أحسنهم خلقًا". خامسًا: إنَّ المؤمنين يتفاوتون في الظفر بحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقربهم منه يوم القيامة، وأكثر المسلمين ظفرًا بحب رسول الله والقرب منه، أولئك المؤمنون الذين حسنت أخلاقهم حتى صاروا فيها أحسن من غيرهم، جاء في الحديث الشريف عن النبي -صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أحبكم إليَّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا". سادسًا: إنَّ حسن الخلق أمر لازم وشرط لا بُدَّ منه للنجاة من النار، والفوز

بالجنان، وأن التفريط بهذا الشرط لا يغني عنه حتى الصلاة والصيام، جاء في الحديث أنَّ بعض المسلمين قال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم: إنَّ فلانة تصوم النهار وتقوم الليل وهي سيئة الخلق تؤذي جيرانها بلسانها، قال: "لا خير فيها، هي من أهل النار". سابعًا: إنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يدعو ربه بأن يحسِّن خلقه -وهو ذو الأخلاق الحسنة، وأن يهديه لأحسنها، فقد كان -صلى الله عليه وسلم- يقول في دعائه: "اللهم حسَّنت خَلْقي فحَسِّن خُلُقِي"، ويقول: "اللهم اهدني لأحسن الأخلاق، فإنه لا يهدي لأحسنها إلّا أنت، واصرف عني سيئها، فإنه لا يصرف عني سيئها إلّا أنت"، ومعلوم أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يدعو إلّا بما يحبه الله ويقربه منه. ثامنًا: مدح الله تعالى رسوله الكريم -صلى الله عليه وسلم- بحسن الخلق، فقد جاء في القرآن الكريم: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} ، والله تعالى لا يمدح رسوله إلّا بالشيء العظيم، مما يدل على عظيم منزلة الأخلاق في الإسلام. تاسعًا: كثرة الآيات القرآنية المتعلقة بموضوع الأخلاق، أمرًا بالجيِّد منها ومدحها للمتصفين به، ومع المدح الثواب، ونهيًا عن الرديء منها، وذمِّ المتصفين به، ومع الذم العقاب، ولا شكَّ أن كثرة الآيات في موضع الأخلاق يدل على أهيمتها، ومما يزيد في هذه الأهمية أنَّ هذه الآيات منها ما نزل في مكة قبل الهجرة، ومنها ما نزل في المدينة بعد الهجرة، مما يدل على أن الأخلاق أمر مهم جدًّا لا يستغني عنه المسلم، وأنَّ مراعاة الأخلاق تلزم المسلم في جميع الأحوال، فهي تشبه أمور العقيدة من جهة عناية القرآن بها في سوره المكية والمدنية على حدٍّ سواء. خصائص نظام الأخلاق في الإسلام: 119- يتميز نظام الأخلاق في الإسلام بجملة خصائص، منها: تفصيل الأخلاق، وشمولها، ولزومها في الوسيلة والغاية، وارتباطها بمعاني الإيمان والتقوى، ووقوع الجزاء فيها، ونبيِّن فيما يلي هذه الخصائص بإيجاز: التعميم والتفصيل في الأخلاق: 120- دعا الإسلام إلى الأخلاق الكريمة دعوة عامة، من ذلك ما جاء في القرآن الكريم: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ

إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} ، والقول بما هو أحسن دعوة عامَّة للقول الطيب المطلوب بجميع أنواعه في مخاطباتهم ومحاوراتهم، في قوله تعالى: {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون} دعوة عامَّة للابتعاد عن رذائل الأخلاق، وفي السنة النبوية من هذه الدعوة العامة إلى الأخلاق الشيء الكثير، من ذلك: "اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن"، والخلق الحسن يجمع أنواع الأخلاق الحسنة، وفي الحديث: "إنَّ العبد ليدرك بحسن حلقه درجة الصائم القائم". 121- ولم يكتف الإسلام بالدعوة العامَّة إلى التحلي بالأخلاق الجيدة، والتخلي عن الأخلاق الرديئة، وإنما فصَّل القول في الصنفين، فبيِّنَ أنواع كل صنف، والحكمة في هذا البيان المفصَّل توضيح معاني الأخلاق وتحديدها؛ لئلَّا يختلف الناس فيها وتتدخل الأهواء في تحديد المراد منها، ومن مظاهر رحمة الله بعباده أن بيِّنَ لهم ما يتقون وما يأخذون وما يتركون، ونذكر فيما يلي أمثلة على تفصيل الأخلاق في القرآن والسنة النبوية المطهرة. أمثلة من القرآن على تفصيل الأخلاق: 122- أ- الوفاء بالعهد: {أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} . ب- النهي عن القول بلا علم: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} . جـ- النهي عن مشية التبختر والتمايل كما يفعل المتكبرون: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} . د- النهي عن الإسراف والتبذير والبخل والتقتير: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا، إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} ، {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} . هـ- الأمر بالعدل في جميع الأحوال، وبالنسبة لجميع الناس حتى الكفار: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَ} ، {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} .

و التعان على البِرِّ والتقوى وما ينفع الناس، والنهي عن التعاون على البغي والعدوان: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} . ز- الظلم ظلمات يوم القيامة، وعاقبته وخيمة، وهو أنواع، أقبحها: افتراء الكذب على الله، وتعدي حدود الله، والظالم مقطوع الصلة بالله مخذول غير منصور، ومن أجل هذا نهى الإسلام عنه {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} ، {فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} ، {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَار} . ح- الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فلا بُدَّ للمؤمن من صبرٍ على طاعة الله، وصبرٍ على قضاء الله، وبهذا يكون من المحسنين، ورحمة الله قريب من المحسنين، ولهذا أمر الإسلام بالصبر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} ، {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} ، {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} . طـ- الصدق من علامات الإيمان وثمراته، ولهذا أمر الإسلام به: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} ، {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} . ي- الكذب رذيلة لا ينال صاحبها هداية الله، ويثمر النفاق في القلب، ولهذا نهى الإسلام عنه وحذر منه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ} ، {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} . ك- التكبّر والعجب والبخل والفخر والرياء رذائل وأمراض تصيب القلب فتطمسه وتمحق نوره، وتبعد صاحبها عن الله تعالى، ولهذا جاء النهي عنها: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} ، {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا، الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا، وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا} .

ل- الاعتدال في المشي بين البطء والإسراع مطلوب من المسلم، وخفض الصوت وعدم رفعه بلا حاجة مطلوب أيضًا من المسلم، {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} . م- الثبات على الحق والدوام على الطاعة والعبادة أمور مطلوبة؛ لأنَّ الأمور بخواتيمها، وبدون الاستقامة والدوام والثبات على الحق تفوت الثمرة، ولا يصل المسلم إلى الغاية، وينقطع عن ركب الصالحين، من أجل هذا وجب على المسلم أن يكون على قدر كبير من الثبات على معاني الإيمان والاستقامة عليها؛ لينال الفوز والرضوان {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} . ن- الجنة دار الطيبين أعدَّها الله للمتقين الذين من أخلاقهم الحسنة الإنفاق في جميع الأحوال، في اليسر والعسر، فينفقون بقدر مالهم، ولا يبخلون عن الإنفاق ولو كان قليلًا، ومن أخلاقهم كظم الغيظ، فلا ينفذونه وهم القادرون على إنفاذه طاعة لله وخشية منه واحتسابًا للأجر عنده، ومن أخلاقهم أنهم لا يستوفون كل حقوقهم من الناس، بل يتركون منها لهم إحسانًا عليهم {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} . س- النهي عن الغل والحقد: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} . ع- علاج الجاهل الإعراض عنه وتركه وشأنه، وبهذا أمر الإسلام {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} . ف- ومن وصايا الإسلام الجامعة لعباده المؤمنين في باب الأخلاق قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، يَا

أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} 1. ص- ومن الآيات التي جمعت كثيرًا من أخلاق المؤمنين، وجعلت هذه الأخلاق علامة على أيمانهم قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ 2، وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ، فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ 3، وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ، أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ، الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 4، وكذلك قوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا 5 وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا 6، وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا 7، إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا، وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا 8، وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ

_ 1 السخرية بالناس: احتقارهم والاستهزاء بهم. اللمز: الطعن بهم بالقول. الهمز: الطعن بهم بالفعل، والهماز اللماز مذموم ملعون، قال تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} . والتنابز بالألقاب أن تدعو غيرك بلقب يسؤوه سماعه. والظن كما يقول ابن كثير في تفسيره: التهمة والتخوّن للأهل والأقارب والناس في غير محله؛ لأن بعضه إثم، فليجتنب كثير منه احتياطًا، وعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: "ولا تظنّ بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلّا خيرًا وأنت تحد لها في الخبر محملًا". والغيبة: ذكرك أخاك بما يكره، فإن لم يكن فيه ما تذكره فقد غبته. 2 اللغو: هو كل ما لا يحمد من القول والفعل. 3 العادون: هم المجاوزون الحلال والحرام. 4 الفردوس: أعلى الجنة. 5 هونًا أي: بسكينة ووقار وتواضع. 6 أي قالوا قولًا سديدًا، ولا يدخلون في جدال وخصام مع الجاهلين. 7 غراما أي لازما ممتدا. 8 قوامًا أي: عدلًا وسطًا بلا إفراط ولا تفريط.

إِلّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا 1، يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا، إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا، وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا، وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ 2 وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا 3، وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا 4، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا 5، أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا، خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} 6. أمثلة من السنة النبوية على تفصيل الأخلاق: 123- أ- في النهي عن الغضب، أنَّ رجلًا قال للنبي -صلى الله عليه وسلم: أوصني، قال: "لا تغضب". ب- في الحياء، وردت أحاديث كثيرة منها: "الحياء لا يأتي إلّا بخير"، "الحياء خير كله"، "إنَّ لكل دينٍ خلقًا وخلق الإسلام الحياء"، "إذا لم تستح فاصنع ما شئت". جـ- في التعاون: "والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه". د- في حقوق المسلم، والنهي عن بعض الأخلاق: "لا تحاسدوا ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يكذبه ولا يحقره، التقوى ههنا -ويشير إلى صدره الشريف ثلاث مرات- بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم

_ 1 أثامًا أي: عقابًا وجزاء. 2 ولا يشهدون الزور: أي لا يحضرون مجالس السوء والكذب والكفر والفسق والباطل. 3 مروا كرامًا: أي مكرمين أنفسهم بالإعراض عن مشاهد الزور. 4 أي لا يكون حالهم حال الكفار؛ حيث يسمعون كلام الله ولا يتأثرون به، ولا يعقلون ما فيه كأنهم صمّ عمي، وإنما حال المؤمنين عند سماعهم كلام الله فَهم معناه والانتفاع به". 5 إمامًا: أي اجعلنا أئمة يُقْتَدى بنا في الخير، أو هداة مهتدين دعاة إلى الخير. 6 حسنت مستقرًا ومقامًا، أي: حسنت منظرًا وطابت مقبلًا ومنزلًا.

على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه". هـ- النهي عن أخلاق المنافقين: "آية المنافق ثلاث إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان"، "أربع من كنَّ فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهنَّ كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدَّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر". و في الحلم والأناة: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأشج عبد القيس: "إنَّ فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة". ز- في الرفق: "إنَّ الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله". ح- في الرياء والسمعة والإخلاص: سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء، أيُّ ذلك في سبيل الله؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله"، "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه". ط- في النهي عن المراء والجدل: "من ترك المراء وهو محق بني له بيت في الجنة، ومن ترك المراء وهو مبطل بني له بيت في ربض الجنة"، "وما ضل قوم بعد أن هداهم الله إلّا أوتوا الجدل". ي- في بذاءة اللسان: "ليس المؤمن بالطعَّان ولا اللعَّان ولا الفاحش ولا البذيء". ك- في العجب والشح: "ثلاث مهلكات: شح مطاع وهوى متبع وإعجاب كل ذي رأي رأيه". ل- ترك الكلام فيما لا يعنيك: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه". م- ترك فضول الكلام: "طوبى لمن أمسك الفضل من لسانه، وأنفق الفضل من ماله". ن- وزن الكلمة بميزان الإسلام قبل النطق بها: "إنَّ الرجل ليتكلّم بالكلمة من

رضوان الله ما يظن أن تبلغ به ما بلغت، فيكتب الله به رضوانه إلى يوم القيامة، وإنَّ الرجل ليتكلّم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ به ما بلغت، فيكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم القيامة". س- في الأمانة والوفاء بالعهد: "لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له"، وسأل رجل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- متى تقوم الساعة؟ فقال له: "إذا ضُيِّعَت الأمانة فانتظر الساعة" فقال: وكيف إضاعتها؟ قال: "إذا وسِّدَ الأمر لغير أهله فانتظر الساعة". ع- في الصدق والكذب: "عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وأن البِرَّ يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرَّى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإنَّ الفجور يهدي إلى النار، وما يزال العبد يكذب ويتحرَّى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا". ف- في القوة والعزيمة: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا، ولكن قل: قدَّر الله وما شاء فعل، فإنَّ لو تفتح عمل الشيطان". ص- المتابعة في الخير لا في الشر: "لا يكن أحدكم إمَّعة، يقول: أنا مع الناس، إن أحسن الناس أحسنت، وأن أساءوا أسأت، ولكن وطِّنُوا أنفسكم، إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا أن تتجنبوا إساءتهم". ش- الحزم واليقظة: "لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين". ض- النهي عن الذل: "لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه". ط- في التوادد والتراحم والتعاطف: "مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم كثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمَّى". ثانيًا: شمول الأخلاق 124- ومن خصائص نظام الأخلاق في الإسلام الشمول، ونعني به أنَّ دائرة الأخلاق الإسلامية واسعة جدًّا، فهي تشمل جميع أفعال الإنسان الخاصة بنفسه أو

المتعلقة بغيره، سواء أكان الغير فردًا أو جماعة أو دولة، فلا يخرج شيء عن دائرة الأخلاق ولزوم مراعاة معاني الأخلاق، مما لا نجد له نظيرًا في أية شريعة سماوية سابقة، ولا في أية شريعة وضعية، ونذكر هنا على سبيل التمثيل فقط مدى مراعاة الأخلاق في علاقات الدولة الإسلامية مع غيرها من الدول؛ ليتبيِّنَ لنا مدى حرص الإسلام على التمسك بمعاني الأخلاق. ووجه اختيارنا هذه العلاقات هو ما شاع بين الناس ويؤيده الواقع، إنَّ العلاقات بين الدول لا تقم على أساس مراعاة الأخلاق، حتى إنَّ أحدهم قال: لا مكان للأخلاق في العلاقات الدولية. ولهذا كان الخداع والتضليل والغدر والكذب من البراعة في السياسة، إنَّ الإسلام يرفض هذا النظر السقيم، ويعتبر ما هو قبيح في علاقات الأفراد قبيحًا أيضًا في علاقات الدول، ويعتبر ما هو مطلوب وجميل في علاقات الأفراد مطلوبًا وجميلًا أيضًا في علاقات الدول، ولهذا كان من المقرر في شرع الإسلام أن على الدولة الإسلامية أن تلتزم بمعاني الأخلاق، وهذا التقرير موجود في القرآن الكريم وفي السنة النبوية المطهرة وفي أقوال الفقهاء، فمن ذلك: أولًا: قال تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} ، أي: إذا ظهرت خيانة من عاهدتهم وثبتت دلائلها، فأعلموهم بنقض عهدهم حتى تستووا معهم في العلم؛ لأنَّ الله تعالى لا يحب الخائنين ولو كانت الخيانة مع قوم كافرين، وكانوا في نقض العهد بادين. ثانيًا: كان من شروط معاهدة الحديبية بين النبي -صلى الله عليه وسلم- وبين مشركي قريش: إنَّ من يأت من قريش النبي -صلى الله عليه وسلم- مسلمًا يرده النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا يؤويه، وبعد الفراغ من كتابة المعاهدة جاء أبو جندل من قريش مسلمًا معلنًا إسلامه، يستصرخ المسلمين أن يئوه ويحموه من قريش، فقال له الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم: "إنَّا عقدنا بيننا وبين القوم صلحًا، وأعطيناهم على ذلك وأعطونا، وإنَّا لا نغدر بهم" 1. ثالثًا: قال الفقهاء: لا يجوز للمسلم أن يخون أهل دار الحرب إذا دخل ديارهم بأمانٍ منهم؛ لأنَّ خيانتهم غدر، ولا يصلح في دين الإسلام الغدر2.

_ 1 سيرة ابن هشام في موضوع الحديبية. 2 المغني لابن قدامة الحنبلي ج8 ص458.

رابعًا: قال فقهاء الحنابلة: "إذا أطلق الكفار الأسير المسلم واستحلفوه أن يبعث اليهم بفدائه أو يعود إليهم لزمه الوفاء"، قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} قال: "إنَّا لا يصلح في ديننا الغدر"1. خامسًا: إذا كانت دار الحرب تأخذ من رعايا دار الإسلام الداخلين إلى إقليمها ضريبة على أموالهم التي معهم؛ بحيث تستأصل هذه الأموال، أو تأخذ من أموالهم القليلة ضريبة كبيرة لا تتناسب مع أموالهم، فإنَّ دار الإسلام لا تقابلهم بالمثل، ويعلل الفقهاء قولهم هذا بأنَّ فِعل أهل دار الحرب غدر وظلم، فلا نقابلهم بالغدر والظلم؛ لأننا نهينا عن التخلق بمثل هذه الأخلاق وإن تخلَّقوا بها2. ثالثًا: لزومها في الوسائل والغايات 125- والخصيصة الثالثة لنظام الأخلاق في الإسلام أنَّ الالتزام بمقتضى الأخلاق مطلوب في الوسائل والغايات، فلا يجوز الوصول إلى الغاية الشريفة بالوسيلة الخسيسة، ولهذا لا مكان في مفاهيم الأخلاق الإسلامية للمبدأ الخبيث "الغاية تبرر الوسيلة"، وهو مبدأ انحدر إلينا من ديار الكفر. يدل على ذلك، أي: على ضرورة مشروعية الوسيلة ومراعاة معاني الأخلاق فيها قوله تعالى: {إِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فهذه الآية الكريمة توجب على المسلمين نصرة إخوانهم المظلومين قيامًا بحق الأخوة في الدِّين، ولكن إذا كانت نصرتهم تستلزم نقض العهد مع الكفَّار الظالمين لم تجز النصرة؛ لأنَّ وسيلتها الخيانة ونقض العهد، والإسلام يمقت الخيانة ويكره الخائنين. رابعًا: صلة الأخلاق بالإيمان وتقوى الله 126- الأخلاق في الإسلام موصولة بالإيمان وتقوى الله، قال تعالى: {فَأَتِمُّوا

_ 1 المغني ج8 ص783. 2 المبسوط ج12 ص200، وحاشية ابن عابدين ج2 ص56.

إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} فالوفاء بالعهد من تقوى الله ومحبة الله، ومن الإيمان المسارعة إلى ما يحبه الله تعالى. وفي الحديث: "لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له"، فالإيمان لا بُدَّ أن يورِّث الأخلاق الحسنة وعلى رأسها الأمانة وحفظ العهد، فمن فقد الأمانة وضيِّع العهد كان ذلك إيذانًا بخلُّوه من معاني الإيمان المطلوبة منه، وتفريطه بتقوى الله. وفي حديث آخر: "والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: مَنْ يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه". فهذا الحديث الشريف يدل على أنَّ الأخلاق السيئة تنافي الإيمان وتناقضه، وأنَّه لا يجتمع الإيمان والخلق الرديء. خامسًا: الجزاء 127- ومن خصائص نظام الأخلاق في الإسلام الجزاء؛ لأنَّ الإسلام جاء بالأخلاق أمرًا ونهيًا، وعصيان أوامر الشرع أو ارتكاب ما نهى عنه سبب للعقاب، قال تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} ، كما أنَّ الالتزام بحدود الشرع وطاعته سبب للثواب الحسن. والجزاء لمن يخالف حدود الشرع في الأخلاق قد يكون في الدنيا، فشاهد الزور وبذيء اللسان والخائن ونحوهم، يعاقبهم القاضي المسلم بالعقوبة التعزيرية والحنث في اليمين، أي: عدم الوفاء بالوعد الموثّق باسم الله يترتب عليه كفارة اليمين، وفي الكفارة معنى العقوبة كما يقول الفقهاء. وقد يكون الجزاء في الدنيا هلاك الجماعة التي يشيع فيها الخلق الرديء، وقد أشار لهذ الجزاء الحديث الشريف: "إنما أهلك مَنْ كان قبلكم أنَّهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق الوضيع أقاموا عليه الحد...." ومثل شيوع الجبن في الأمة وترك الظَّلَمَة يعبثون في حقوق الناس دون إنكار عليهم خوفًا منهم وجبنًا وإيثارًا للذل والحياة المهينة، فإنَّ هذه الأخلاق الرذيلة سبب لهلاك الأمة أو إصابتها بشرٍّ كبير أو ضرر جسيم يصيب المذنب والبريء، قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً}

هل يمكن اكتساب الأخلاق وتقويمها؟ 128- والآن وقد بَيّنَّا مكانة الاخلاق في الإسلام ومدى تأثيرها في الأعمال، وما يترتب عليها من ثواب وعقاب، نسأل: هل يمكن تقويم الأخلاق واكتساب الجيد منها والتخلي عن قبيحها؟ أم أنَّ الأخلاق صفات لازمة تخلق في الإنسان وينطبع عليها، فلا يمكنه تغييرها ولا تبديلها ولا تعديلها، كما لا يمكنه تغيير صفاته الجسمية من طول وقصر ولون؟ الجواب على هذا السؤال كما يظهر لنا، يتلخَّص بما يأتي: أولًا: إن الأخلاق من حيث الجملة يمكن تقويمها وتعديلها، كما يمكن اكتساب الجيد منها، والتخلي عن قبيحها، وبالعكس، ودلينا على ذلك أنَّ الشرع أمر بالتخلق بالأخلاق الحسنة، ونهى عن التخلق بالأخلاق الرديئة، فلو لم يكن ذلك ممكنًا مقدورًا للإنسان لما ورد به الشرع، الإسلام لا يأمر بالمستحيل، ومن القواعد الأصولية في الفقه الإسلامي: لا تكليف إلّا بمقدور أو لا تكليف بمستحيل، وعلى هذا فكل إنسان عنده أهلية وقدرة للتحلي بالإخلاق الجيدة والتخلي عن أضدادها، كما أنَّ عنده أهلية وقدرة على عكس ذلك، وقد يستأنس لهذا بقول الله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} . ولكن مع هذا، فإنَّ الناس يتفاوتون في مقدار أهليتهم وقدرتهم واستعدادهم، ولكن مع هذا فإنَّ الناس يتفاوتون في مقدار أهليتهم وقدرتهم واستعدادتهم لاكتساب الأخلاق أو تعديلها، كما يختلفون في مدى أهليتهم وقدرتهم واستعدادهم لتلقِّي العلوم المختلفة، أو إدراك الحقائق الدقيقة نظرًا لاختلاف عقولهم ومدى ذكائهم. ثانيًا: إنَّ بعض الناس قد يُجْبَل على بعض الأخلاق؛ بحيث تكون هذه الأخلاق بارزة فيهم وظاهرة في سلوكهم، ودليلنا على هذا حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي رواه أبو داود، وقد جاء فيه أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لأشج عبد القيس: "إنَّ فيك خصلتين يحبهما الله تعالى ورسوله: الحلم والأناة". قال: يا رسول الله، أنا أتخلَّق بهما أم الله تعالى جبلني عليهما؟ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "بل الله جبلك عليهما"، فقال: الحمد

لله الذي جبلني على خصلتين يحبهما الله تعالى ورسوله1. ولا شكَّ أنَّ الناس يتفاوتون فيما عليه من الأخلاق، كما يتفاوتون في ما يجلبون عليه من قوة الإدراك والذكاء، ويترتب على ذلك أنَّ من جُبِلَ على نوع معين من الأخلاق يسهل عليه ترسيخ هذا النوع في نفسه والبقاء عليه؛ لأنه يجد عونًا في ذلك بما جبل عليه. كيف يتحقق تقويم الأخلاق أو اكتسابها: 129- إنَّ تقويم الأخلاق أو اكتسابها يمكن أن يتمَّ بشكل من الأشكال التالية: أولًا: بتقليل آثارها وعدم المضي في تنفيذ مقتضاها وما تدعو إليه، وهذا بالنسبة للأخلاق التي تعتبر من الغرائز في كل إنسان، ومنه الغضب، يدل على ذلك ما جاء في الحديث الشريف الذي رواه الإمام البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ رجلًا قال للنبي -صلى الله عليه وسلم: أوصني، فقال -صلى الله عليه وسلم: "لا تغضب"، فردد الرجل سؤاله مرارًا، فكان النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- يقوله له: "لا تغضب"، وقد قال العلماء في شرح الحديث: إنَّ النهي عن الغضب ينصرف إلى النهي عن العمل بمقتضى الغضب، أي: بلزوم دفع آثار الغضب، وليس النهي راجعًا إلى نفس الغضب؛ لأنه من طباع البشر فلا يمكن دفعه ولا استئصاله1، فالمطلوب في تقويم خلق الغضب ليس استئصاله بالكلية، فهذا غير ممكن، وإنما الممكن السيطرة عليه وكظمه وعدم تنفيذ مقتضاه، يؤيد ذلك ما جاء في القرآن الكريم {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} ، فمدحم على ضبط غضبهم والسيطرة عليه لا على استئصاله، وفي القرآن أيضًا {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} ، فمدحهم على عدم تنفيذ مقتضى غضبهم، وفي الحديث الشريف: "ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد من يملك نفسه عند الغضب". ثانيًا: بالتشذيب والتهذيب وإزالة الكدورات عن أصل الخلق، وتوجيهه الوجهة المرضية في الشرع الإسلامي، مثل خلق الشجاعة، يستعمله صاحبه في الاعتداء وقتل الأبرياء، أو لطلب السمعة والجاه، وكالسخاء يستعله صاحبه للمباهاة وللرياء،

_ 1 تيسير الوصول لابن الديبع الشيباني ج4 ص304. 2 شرح الأربعين النووية للإمام النووي ص49، وفتح المبين لشرح الأربعين للفقيه ابن حجر الهيثمي ص140.

فهذه الأخلاق هي في أصلها محمودة، وإنما ذمت لانحرافها عن الغرض الصحيح والوجهة المرضية في الشرع، فتقويمها يكون بإزالة هذه الأغراض الخسيسة عنها، وبتوجيهها الوجهة الصحيحة، بأن تكون الشجاعة لنجدة الضعيف وإغاثة المظلوم وقهر الظالم وإعلاء كلمة الله ومحق الكفر والباطل ابتغاءَ مرضاة الله وحده، لا لطلب سمعة ولا رياء ولا جاهٍ ولا ثناء. وكذلك السخاء يوجه إلى الوجهة المرضية عند الله بأن يكون في سبيله ولطلب مرضاته، بأن ينفق المسلم ماله في أوجه البر مثل إكرام الضيف والجار وكفالة التيم وإعانة المحتاج أو إقراضه، والقيام على الأرملة والمسكين ونحو ذلك، يدل على ما نقول الأحاديث الشريفة الكثيرة، منها: عن أبي موسى -رضي الله عنه- قال: سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء، أيّ ذلك في سبيل الله؟ فقال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" 1، وفي القرآن الكريم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} . وفي الحديث الشريف: "الناس معادن؛ خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا"؛ لأنهم بهذا الفقه يستعملون صفاتهم واخلاقهم الجيدة في أصلها استعمالًا صحيحًا، ويوجهونها الوجهة الصحيحة، فيكونون خيار الناس. ثالثًا: استبدال الخلق الذميم بالخلق الجيد، كاستبدال الكذب بالصدق، والغدر بالوفاء، والظلم والعدوان بالعدل والإنصاف. وهذا الاستبدال ممكن في كثير من الأخلاق؛ حيث يزول الخلق الذميم ويحلّ محله خلق جميل، كما نشاهد ذلك في الشخص الذي يتوب توبة صادقة. وسائل تقويم الأخلاق: 129- هناك وسائل كثيرة لتقويم الأخلاق واكتساب الجيد منها، والتخلي عن الرديء منها، وقد يكون أهمّ هذه الوسائل ما يأتي: 1- العلم: ونقصد به هنا معرفة أنواع الأخلاق الحسنة التي أمر بها الإسلام،

_ 1 تيسير الوصول ج1 ص231 وقال فيه: رواه الخمسة.

وأنوع الأخلاق الرديئة التي نهى عنها الإسلام. إنَّ هذا العلم ضروي لأنَّه بدونه لا يدري المسلم بأيِّ خلق يتخلّق، ومن أي خلق يتجرَّد، وقد كفى الإسلام المسلم مؤنة البحث والاستنباط، فقد فصَّل الأخلاق بنوعيها، وما على المسلم إلّا أن يعرض نفسه على الأخلاق بنوعيها ليعرف موضعه منها، ثم يعمل جاهدًا لتكون أخلاقه أخلاقًا إسلامية حقًّا. 2- ولا يكفي أن يعرف أنواع الأخلاق معرفة مجردة، بل يجب أن يعرف المسلم عظيم حاجته إلى الخلق الحسن؛ لأنه متصل بالإيمان وتقوى الله، وسبب للظفر برضوان الله ودخول الجنان، كما يجب أن يعرف عظيم ضرر الخلق السيء عليه؛ لأنه من علامات النفاق، وأمارات ضعف الإيمان، وسبب سخط الله ودخول النار. إنَّ هذه المعرفة ستدفعه إلى التخلّق بالأخلاق الحسنة رغبةً في رضوان الله تعالى، كما تدفعه إلى الخلاص من الأخلاق السيئة خوفًا من سخط الله؛ لأن مَنْ رَغِبَ في شيء سعى إليه، ومن خاف من شيء هرب منه. 3- ولا يكفي للمسلم أن يعرف أنواع الأخلاق السيئة ونتائجها، بل عليه أن يستحضر هذه المعرفة في ذهنه لئلَّا ينساها، فإن آفة العلم النسيان، والنسيان يؤدي إلى إهمال معاني الأخلاق، فيضعف أثرها في النفس، ويصدر عنها ما لا ينبغي من الأفعال، ولهذا كرَّر القرآن الكريم معاني الأخلاق وبيِّنَ لنا أنَّ ما صدر عن أبينا آدم -عليه السلام- كان من أسبابه النسيان، قال تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} ، ولمَّا غضب سيدنا عمر -رضي الله عنه- عندما قال له رجل: إنك لا تقضي بالعدل ولا تقضي بالحق، قال بعض الحاضرين: يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى يقول: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} ، وهذا من الجالهين، فقال سيدنا عمر -رضي الله عنه: صدقت، وذهب عنه الغضب، فالتذكُّر الدائم لمعاني الأخلاق وتذكُّر الأساس الذي قامت عليه وهو الإيمان بالله تعالى، وإن الالتزام بمقتضى الأخلاق من ثمرات الإيمان ومن معاني الإسلام، كل هذا يجعل سلوك المسلم في حدود الأخلاق الإسلامية. 4- الاهتمام الكامل بتقوية معاني العقيدة الإسلامية في النفس، وعلى رأس هذه المعاني الإيمان بالله وباليوم الآخر وبرسالة محمد -صلى الله عليه وسلم، والإحساس بالغربة في هذه

الدنيا، وأنَّ المسلم عمَّا قريب سيرحل عنها، وأنَّه سيجازى على أعماله، ومن أعماله أخلاقه، وأنَّ الله تعالى وعده وعد الصدق بالثواب للمتخلقين بأخلاق الإسلام، ووعد بالعقاب لمن رفض أخلاق الإسلام. إن تقوية معاني العقيدة الإسلامية في النفس يؤدي إلى انفتاح النفس وتقبلها لمعاني الأخلاق الإسلامية؛ لأن هذه الأخلاق موصولة بالإيمان ومعاني التقوى كما قلنا، وهذه الصلة تشتد كلما قوي الإيمان في النفس ورسخت العقيدة فيها، مما يجعل أخلاق المسلم الطيبة ثابتة راسخة لا تزول ولا تضعف؛ لأنها موصولة بالقوي العزيز، وتجد مادَّة بقائها واستمرارها وصلاحها من هذا الفيض الذي لا ينضب: الإيمان بالله، ولوازم هذا الإيمان، فالمسلم مثلًا: لا يمكن أن يكون ذليلًا أبدًا؛ لأنه موصول بالقوي العزيز الذي له العزة جميعًا {فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} ، وللمؤمنين المتصلين به نصيب من العزة {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} ، والمؤمن لا يخاف مخلوقًا ولا يخشاه، ومن ثَمَّ لا يتملقه ولا يذل له ولا ينافق عنده؛ لأن الأمور كلها بيد الله، ومنها: النفع والضر والزرق والحياة والموت {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} ، وعزة المؤمن لا يقترن بها ذرة من كبر أو طغيان أو جبروت أوخيلاء أو عجب بالنفس؛ لأن عزة المؤمن قائمة على الإيمان بالله، والله وحده له الكبرياء والجبروت، وكل ما سواه فهو فقير مربوب مقهور، فأنَّى للفقير المقهور أن يتكبَّر أو يتجبَّر على غيره؟ ولهذا لا يكون المسلم إلّا متواضعًا؛ لأنه عرف قدر نفسه بعد أن عرف ربه، ومن عرف قدر نفسه لن يتكبر أبدًا، ومع العزة والتواضع صبر جميل وثقة كاملة ورجاء لا يشوبه يأس، وطمأنينة لا يخالطها قلق؛ لأن الإيمان يثمر هذه الأخلاق الفاضلة، قال تعالى: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوب} ؛ ولأنَّ ما هو مقدَّر فهو كائن، فلا داعي للقلق والاضطراب {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} ؛ ولأنَّ من يتوكل على الله فهو حسبه، والشجاعة والجرأة والإقدام والثبات على الحق ونحو ذلك، أخلاق راسخة في المسلم ما دام قلبه معمورًا بمعاني الإيمان؛ لأنَّ إيمانه يعلمه أن الحياة لا تستحق أن يَهُن فيها المسلم أو يجبن أو يحجم حيث يجب الإقدام؛ لأنَّ الآجال قد فرغ منها، وأن الموت لا بُدَّ أن يلاقيه كل حي، قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}

{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا} ، والقناعة وعِفَّة النفس والاستغناء عن الخلق وعمَّا في أيديهم، ثمرات طيبات زاكيات من ثمار الإيمان؛ لأن المسلم يؤمن بقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} ، وأن الرزق بيد الله {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} ، وهكذا بقية الأخلاق ترسخ وتدوم وتستمر ما دامت قائمة على إيمان عميق يتخلَّل شغاف القلب وتصبغ به النفس، فتعميق الإيمان في النفس وتقوية معاني العقيدة وسيلة مهمة جدًّا للتخلق بالخلق الحسن، وللتخلي عن الخلق الرديء. 5- مباشرة الأعمال الطيبة التي تساعد أو تؤدي إلى تقويم الأخلاق، أو تسهل على النفس قبول الأخلاق الزكية وطرد الخبيثة، فالعلم وحده بدون عمل لا يكفي، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} ، ولم يقل ربنا -تبارك وتعالى: قد أفلح من تعلّم كيفية تزكيتها، فلا بُدَّ من تزكية فعلية بمباشرة الأعمال المحققة لزكاة النفس أو تخليصها من أمراض الأخلاق الرذيلة، إنَّ المريض الذي يوصف له العلاج أو يقدَّم له العلاج فعلًا ولا يستعمله لن يستفيد منه، وإن ظلَّ ينظر إليه ويكرِّر القول في تركيبه وكيفية صنعه. 6- ومن أنواع الأعمال الطيبة النافعة لتقويم الأخلاق، القيام بأنواع العبادات والطاعات المفروضة والمندوبة؛ لأنها تزكي النفس وتسهّل عليها اكتساب الأخلاق الطيبة وطرد الأخلاق الخبيثة، فهي لها طهرة وزكاة وقوة ووقاية، وقد أشار القرآن إلى هذه المعاني، قال تعالى في الصلاة: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} ، وقال عن الزكاة: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} تطهرهم من البخل والشح وتصفي نفوسهم من الكدورات والأخلاق الرديئة، والصوم يربي في الإنسان فضيلة الصبر وقوة الإرادة والعزيمة والأخلاق والخلاص من الرياء، والحج تربية عملية للروح، ورياضة مؤثرة في النفس، ووسيلة فعَّالة لاكتساب كثير من الأخلاق، والتخلص من كثير من ذميم الصفات، ففي الحج تربية على الصبر والإخلاص والاستعلاء على شهوات الجسد، وإنفاق المال فيما يحبه الله، والتخلّص من الكبر والعجب والغرور، وتجاوز الإنسان قدر نفسه وغيره، ذلك مما هو معروف ومذكور في موضوعه في كتب الفقه، وهكذا بقية العبادات بدوامها تزكو النفس

فتدوم فيها معاني الإيمان والتقوى، ومنها الأخلاق الرضية؛ لأنَّ هذه الأخلاق لا تنبت إلّا في النفس الزكية، ولا شيء مثل العبادات بأنواعها المختلفة يزكي النفس ويهيئها لاكتساب الأخلاق الطيبة والتخلص من الاخلاق الرديئة، وفي كتاب الله إشارة إلى هذه المعاني، قال تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا، إِلَّا الْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ، وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ، لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} . 7- القيام بالأعمال المضادة للأخلاق التي يراد التخلص منها أو المضادة لمقتضاها، ويمكن أن نسمي هذا المسلك بمسلك التضاد أو المراغمة للشيطان؛ لأنَّ الشيطان يفرح لكل خلق رديء ويعمل على بقائه في النفس، ويزينه في عين صاحبه بما يلقيه من مبررات باطلة، فإذا قام الإنسان بعمل يناقض هذا الخلق ولا يتفق وما يقتضيه، كان ذلك بلا شك إغاظة للشيطان ومراغمة له، مما يدعوه إلى الكفِّ عن تزيين هذا الخلق الرديء وعن نفث المبررات الباطلة له، فإذا خنس الشيطان أمكن لهذا العمل أن يزعزع كيان هذا الخلق الرديء، أو يقضي عليه كما يقضي العلاج الفعَّال على المرض، ومِمَّا يدل على جودة هذ المسلك وأثره في تقويم الأخلاق ما ورد في الحديث أنَّ رجلًا شكا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قسوة قلبه، فقال له رسول الله: "امسح رأس اليتيم وأطعم المسكين". ومن أمثلة أعمال التضاد والمراغمة علاج الحسد، بأن يبادر الحاسد إلى الاستغفار والدعاء بالخير إلى المحسود، فإنه سيشعر بزوال الحسد في قلبه، ومن علاج الكبر جلوس المتكبر مع الفقراء والمساكين والصعاليك، والجلوس في آخر المجلس، والقيام بالأعمال التي يعدّها الناس حقيرة لا تليق بالمتكبرين، مثل حمل الحطب ونحو ذلك. ومما يمكن اعتباره من أعمال هذه الوسيلة ما جاء في الحديث الشريف: "إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب وإلّا فليضطجع" 1، وفي حديث آخر: "إذا غضب أحدكم فليتوضأ بالماء، فإنما الغضب من النار، وإنما تطفأ النار بالماء".

_ 1 لأن القائم متهيئ للانتقام، والجالس دونه، والمضطجع دونهما.

8- مسلك التكلف، فيتكلف الإنسان الأخلاق التي يريد التخلق بها، كما لو أراد أن يكون حليمًا فإنه يأتي به تكلفًا مرارًا حتى تألفه النفس وتعتاده، ويصير لها كالطبع وكالسجية، ويؤيد جودة هذه المسلك ما ورد في الحديث -وإن روي بسند ضعيف: "إنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم"، وهذا المسلك يحتاج إلى تكرار ودوامٍ حتى ينتج أثره، وهذا الدوام يسلتزم الصبر، فعلى الإنسان الذي يريد التخلُّق بنوع من الأخلاق الرضية عن طريق التكلف أن يتجمَّل بالصبر، فإنه ضروري له ضرورته للمريض الذي يتناول الدواء المر، فإذا صبر وداوم انقادت النفس وألفت الفعل، ثم يصبح الفعل لها لذيذًا، كالذي يريد أن يحسِّن خطه، فإنه بتكرار الكتابة والخط يحسن خطه، ثم يصبح الخط بالنسبة له شيئًا سهلًا ولذيذًا. 9- مخالطة المؤمنين ذوي الأخلاق الحسنة ومجالستهم والسماع منهم؛ لأن رؤية الرجل الصالح ذي الخلق الحسن ومجالسته والسماع منه يؤثِّر في جليسه، فيدفعه إلى اقتباس بعض أخلاقه، وقديمًا قيل: الطبع يأخذ من الطبع، وقد ورد في الحديث الشريف الذي أخرجه الترمذي عن أبي سعيد أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا تصاحب إلّا مؤمنًا، ولا يأكل طعامك إلّا تقي"؛ لأن المرء يقتدي بمن يعاشره ويصاحبه ويجالسه فيقتبس منه صفاته، ولهذا كان السلف الصالح يوصون أو يأمرون بهجر أصحاب البدع والمعاصي وذوي الأخلاق الرذيلة. 10- اتخاذ القدوة الحسنة، وخير القدوة على الإطلاق رسولنا -صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} فإذا فات المسلم الآن رؤية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ببصره، فلن تفوته رؤياه ببصيرته باستحضار سيرته العطرة، وشمائله الكريمة، وأخلاقه العظيمة، ولذلك نوصي كل مسلم بقراءة سيرته مرارًا، واستحضار شخصه الكريم في ذهنه، وتصور نفسه في مجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ومن القدوة الحسنة أيضًا استحضار سيرة أصحابه الكرام المملوءة بالخير وجليل الأعمال وكريم الأخلاق، لا سيما سيرة الخلفاء الراشدين والعشرة المبشَّرة بالجنة، وأصحاب بدر وأصحاب بيعة الرضوان، وسائر المهاجرين والأنصار. 11- ترك البيئة الفاسدة والفرار كما يفر المرء من المكان الموبوء، والتحوّل إلى البيئة الصالحة التي تضمّ الجماعة الصالحة من المؤمنين الطيبين، فإن هذه البيئة الصالحة

تقوي في المؤمن معاني الأخلاق الفاضلة، وتقيه من الأخلاق الرديئة، ولا يجوز له التعرض إلي البيئة الفاسدة ذات الناس الفاسدين، بحجة أنه متين الأخلاق لا يخشى عليه التأثير بهم أو بها، فإنَّ هذا غرور ووهم، ومثاله مثال من يتعرض إلى المكان الموبوء بمرض السلِّ ونحوه بحُجَّة أنه قوي البنية، ونستأنس لهذا الذي نقوله بالحديث الشريف الذي جاء فيه أنَّ رجلًا قتل مائة نفس، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدُلَّ على رجلٍ عالم فأتاه، فقال: "إنه قتل مائة نفس، فهل له من توبة، فقال: نعم، ومن يحول بينك وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذ وكذا، فإن بها ناسًا يعبدون الله، فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء ... إلخ " 1 فهذا الحديث يدل على ضرورة التحوّل من المجتمع الفاسد إلى المجتمع الطيب، أو إلى الجماعة الطيبة المؤمنة العابدة، فإن العيش معها والبقاء معها أدْعَى إلى استقامة الشخص وابتعاده عن السوء. والبيئة الفاسدة كل ما يعرضك للمعصية وسوء الأخلاق، والبيئة الصالحة كل ما يعينك على طاعة الله وتقواه، ومنها: حسن الأخلاق. 12- الحرص على كل صفة جميلة واعتبارها كالجوهرة النفيسة التي يجب صونها وحفظها وعدم التفريط بها، وعدم الاستهانة بكل صفة قبيحة وإن بَدَت بسيطة قليلة الشأن؛ لأنَّ المسلم لا يستقلّ أبدًا أيَّ خلق حسن، ولا يستهين بأيِّ خلق سيء، فرب صفة طيبة ترفعه إلى درجات عالية، ورب صفة خبيثة تدخله النار، وقد مدح الله تعالى رسوله إسماعيل -عليه السلام- بصفة صدق الوعد، قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} وفي الحديث: "اتقوا النار ولو بشق تمرة"، كما أنَّ الصفة الواحدة والمحافظة عليها والدوام عليها تؤدي إلى رسوخها فيه، فإن كانت صفة خير كان ذلك خيرًا له، وإن كانت صفة شرٍّ كان ذلك شرًّا له، والخير يؤدي إلى الخير، والشر يؤدي إلى الشر، جاء في الحديث الشريف عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "عليكم بالصدق، فإنَّ الصدق يهدي إلى البر، والبرّ يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرَّى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال العبد يكذب

_ 1 تيسير الوصول ج1 ص212.

ويتحرَّى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا". 13- على المسلم أن يروِّضَ نفسَه على قبول نصيحة المتديِّن الكيِّس الورِع الصادق، فإنَّ المؤمن يرى من عيوب غيره ما لا يرى الغير من عيوب نفسه، ومن هنا حسنت صحبة الأخيار، وكان عمر -رضي الله عنه- يقول: رحم الله امرءًا أهدى إلي عيوبي. إن الناصح الصادق الذي يدلك على عيوبك وسوء بعض أخلاقك يستحق منك الشكر والتقدير، إنك تشكر من يدلك على عقرب تدب على جسمك، أو تختفي تحت ثيابك، وتسارع إلى إلقائها بعيدًا عنك، فكذلك يجب أن تفعل نحو من ينصحك ويدلك على عيوب أخلاقك؛ لأن الأخلاق الرذيلة عقارب، ولكنها تؤذي القلب وتفرغ فيه سمومها. هذه بعض الوسائل المهمة في تقويم الأخلاق واكتساب الجيد منها، وهناك وسائل أخرى مهمة في الموضوع، نكتفي بما ذكرناه.

المبحث الثاني: النظام الاجتماعي في الإسلام

المبحث الثاني: النظام الاجتماعي في الإسلام مدخل ... المبحث الثاني: النظام الاجتماعي في الإسلام تمهيد: 130- من الحقائق الثابتة التي أشار إليها العلَّامة ابن خلدون في مقدمته أنَّ الاجتماع الإنساني ضروري، وهو ما يعبّر عنه بقول بعضهم: الإنسان مدني بالطبع، ومعنى ذلك أنَّ المجتمع ضروري للإنسان، وهو ما يؤيده الواقع، فالإنسان يولد في المجتمع ويعيش فيه ويموت فيه. 131- وإذا كان المجتمع ضروريًّا للإنسان ولا بُدَّ من وجوده، فإن النظام -على أيِّ نحوٍ كان- ضروري للمجتمع، لا يتصور وجوده بدونه؛ لأنَّ الأفراد لا يمكنهم العيش بحرية مطلقة داخل المجتمع، وإلا كان في ذلك هلاكهم، أو اضطراب حياتهم، وانقلاب مجتمعهم إلى مجتمع حيوانات كالذي نشاهده في الغابات، ولهذا كان لا بُدَّ من نظامٍ للمجتمع يتضمَّن الحدود التي يجب أن يقف عندها الجميع، والضوابط العامَّة التي يجب أن يلتزموا بها في سلوكهم، حتى يستطيعوا العيش بأمان واستقرار. 132- وإذا كان لكل مجتمع نظام على نحوٍ ما، فإنَّ هذا النظام لا بُدَّ له من أساس وأصول وأفكار يرتضيها المجتمع ويقوم عليها نظامه الذي يسير بموجبه، والنظام يكون صالحًا وفاسدًا تبعًا لصلاح أو فساد أساسه وأصوله وأفكاره التي يقوم عليها؛ لأن الفرع يتبع الأصل في الصلاح والفساد. 133- وإذا كان نظام المجتمع قد يكون صالحًا أو فاسدًا، فإن صلاحه وفساده ينعكس على أفراده ويتأثرون به، ويتحملون تبعاته، فيسعدون به أو يشقون، وعلى هذا يجب على من يريد الخير لنفسه ولمجتمعه أن يبحث ويتحرَّى عن الأساس

الصالح الذي يجب أن يقوم عليه نظام المجتمع، ويسعى لتثبيت هذا الأساس وإقامة نظام المجتمع عليه، وبهذا تتيسَّر للأفراد سبل الخير والسعادة، ويتحقق أكبر قدر ممكن من الحياة الطيبة المستقرة الهادئة لأفراده. 134- والواقع أن الإسلام كفانا مئونة البحث والتحرِّي عن هذا الأساس الذي يقوم عليه النظام الصالح والمجتمع، كما كفانا مئونة البحث عن طبيعة هذا النظام الصالح وخصائصه، مما يجعل الأمر سهلًا ميسورًا لبناء المجتمع الصالح الذي يسعد به الناس جميعًا، فما هو إذن أساس النظام الصالح في نظر الإسلام. وما هي خصائص هذا النظام؟ هذا ما سنجيب عليه في المطلبين التاليين الذي يتَّسع له بحثنا في هذا المقام.

المطلب الأول: أساس نظام المجتمع في الإسلام

المطلب الأول: أساس نظام المجتمع في الإسلام 135- إن أساس نظام المجتمع في الإسلام هو العقيدة الإسلامية؛ لأن المطلوب من كل إنسان أن يحمل هذه العقيدة ليعرف مركزه في الحياة وعلاقته بالكون والغرض الذي من أجله خُلِق، وهذه العقيدة هي الموجِّهة لأفكار الإنسان وسلوكه وسائر تصرفاته، ولا يمكن التخلي عنها في شأن من الشئون؛ وحيث إنَّ الإنسان اجتماعي بالطبع كما قلنا، فمن البديهي أن تكون العقيدة الإسلامية هي الموجِّهة له في بناء هذا المجتمع، والنظام الذي يختاره له، وبكلمة أخرى: يجب أن يكون العقيدة الإسلامية هي الأساس لبناء المجتمع ونظامه، حتى يعمل الأفراد في ضوء عقيدتهم كأفراد وكأعضاء في المجتمع، كما يعمل المجتمع كجماعة منظمة في ضوء هذه العقيدة التي يحملها أفراده، ويترتّب على ذلك أنَّ كل من يحمل هذه العقيدة ويدين بها ويلتزم بمقتضاها يكون أهلًا للانتماء إلى هذا المجتمع الإسلامي، فيصبح عضوًا فيه، ويساهم في بقائه وتحقيق أغراضه، والتمتع بمزاياه، وتحمّل تبعاته مهما كان جنسه أو نوعه أو لونه أو لغته أو إقليمه أو حرفته ... والحقيقة أنَّ تقديم الإسلام هذا الأساس لإقامة المجتمع البشري كان حدثًا ضخمًا وفريدًا في التاريخ البشري ما كان الناس

يعرفونه، ولم يخطر ببالهم، فالرومان واليونان والفرس والعرب قبل الإسلام أقاموا مجتمعاتهم على أساس الجنس أو القبيلة أو السلالة أو الإقليم، وبنوا على هذا الأساس أباطيل كثيرة تولَّد عنها الظلم والبغي وإهدار كرامة الإنسان، فلمَّا جاء الإسلام بهذا الأساس الجديد لبناء المجتمع ونظامه، كان ذلك انقلابًا هائلًا في الحياة البشرية، تكريمًا للإنسان، ووضعًا للأمور في نصابها، فليس من اللائق بالإنسان بناء مجتمعه على أساس الجنس أو القبيلة أو الأقليم، كما كانت تفعل المجتمعات الجاهلية قبل الإسلام؛ لأنَّ أصل البشر واحد، ولا يمكن حجب هذه الحقيقة باختلاف الناس بالأنساب والأجناس؛ لأن أجناسهم وشعوبهم المختلفة كالأغصان للشجرة الوحدة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} ، وفي الحديث الشريف عن النبي -صلى الله عليه وسلم: "كلكم لآدم وآدم من تراب" وكذلك لا معنى لاتخاذ الإقليم أساسًا للمجتمع البشري؛ لأنَّ الأرض خلقها الله للناس، فهي إقليمهم، وهي وطنهم المشترك، قال تعالى: {وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ} ، وأيضًا فإنَّ الجنس والقبيلة والسلالة لا يصلح واحد منها أن يكون أساسًا للمجتمع البشري، لأنه بطبيعته ضيق لا يمكن ان يسع الناس جميعًا، فليس بمقدور أحد أن يكون من هذا الشعب أو القبيلة أو الجنس بعد أن خلقه الله من غيرها، وإنما الممكن المقدور للإنسان أن يعتنق العقيدة الإسلامية، فيكون من أعضاء المجتمع الإسلامي، ومن يرفض اعتناق هذه العقيدة فإنَّ المجتمع الإسلامي لا يرفض قبوله فيه إذا رغب هو في الانتماء إليه، بشرط إعلان ولائه له وخضوعه لنظامه عن طريق عقد الذمة، وفي هذه الحالة سيجد غير المسلم مكانًا أمينًا في هذا المجتمع الفكري، ويتمتع بالحقوق العامة والخاصة، وبحماية تامَّة لنفسه وماله وعرضه، وعلى هذا، فقول البعض: إن إقامة المجتمع على أساس العقيدة الإسلامية بغير اضطهاد غير المسلمين وإكراههم على تبديل دينهم قولٌ باطل، هو من قبيل التشويش والتضليل والجهالة، فالإسلام يقرر في القرآن لكريم: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} ، والفقهاء يقررون قاعدة "لهم ما لنا وعليهم ما علينا"، والواقع يشهد بأنَّ غير المسلمين عاشوا في المجتمع الإسلامي منذ عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- وحتى اليوم دون أن يمسَّهم أذى أو تضييق بسبب دينهم، والواقع يثبت أنَّهم طفروا بحماية ورعاية من المسلمين لا نجد لهما نظيرًا مطلقًا في أيِّ مجتمع بالنسبة للأقليات التي فيها والتي لا تدين بدينه، ويكفي أن نذكر هنا مأساة الأندلس وما أصاب المسلمين هناك

عندما دالت دولتهم وذهب سلطانهم. نتائج إتخاذ العقيدة الإسلامية أساسًا لنظام المجتمع: أولًا: الرباط الإيماني 136- يعتبر الإسلام المؤمنين بالعقيدة الإسلامية إخوة في الدين، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} ، وفي الحديث الشريف: "المسلم أخو المسلم"، والإخوة الإيمانية أعظم الروابط بين المسلمين، وعلى أساسها تكون الموالاة، وقد يشترك المسلم مع أخيه المسلم بروابط أخرى كرابطة النسب أو الإقليم، وهذه الروابط غير منكورة ولا مرفوضة في الإسلام، ولكن بشرط أن لا تحمل شيئًا من الباطل، وأن لا تعلو على رابطة الإيمان ومستلزماتها. والرابطة الإيمانية لا تقتضي اضطهاد غير المسلمين أو إيذائهم، فقد قلنا: إن الإسلام يقبل في عضوية المجتمع الإسلامي غير المسلم ويأمر بحمايته، فإذا فات غير المسلم رابطة الإيمان وأخوة الدين، فلن تفوته حماية المسلمين وعدل الإسلام وبر المجتمع الإسلامي، قال تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} ، وقال تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين} ، وقال -صلى الله عليه وسلم: "ألا من ظلم معاهدًا أو انتقصه أو كلَّفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس، فأنا خصمه يوم القيامة". ثانيًا: زوال العصبية 137- المقصود بالعصبية التناصر بالحق وبالباطل؛ لاشتراك المتناصرين بالنسب، أي: بنسب القبيلة أو السلالة أو الأسرة، وكان هذا المفهوم للعصبية هو الشائع عند العرب قبل الإسلام، فكان أفراد القبيلة ينصر بعضهم بعضًا في الحق وفي الباطل؛ لانتسابهم إلى قبيلة واحدة، وقد أنكر الإسلام هذه العصبية وأمر بنبذها، فقد جاء في الحديث الشريف عن النبي -صلى الله عليه وسلم: "ليس منَّا مَن دعا إلى عصبية، وليس منَّا من مات على عصبية"، وقال -عليه الصلاة والسلام- عن العصبية: "دعوها فإنها منتنة". وبعد أن كان شعار الجاهلية: انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا، بمعنى: كن بجانبه في

الحالين، أصبح الشعار في الإسلام: أنصر أخاك ظالمًا، بأن تمنعه من الظلم، أو مظلومًا بأن تقف بجانبه ضد ظالمه. وذم العصبية في الإسلام لا يقف عند حد العصبية القائمة على أساس المشاركة في القبيلة أو الجنس، وإنما تتعداها كل عصيبة قائمة على سبب آخر ما دام جوهر العصبية موجودًا، وهو نصرة الغير بالباطل بسب هذه المشاركة، وعلى هذا فانتصار الباطل هو من العصبية المقيتة المذمومة. إنَّ خلوَّ المجتمع الإسلامي من العصبية بأنواعها يقلّل فرص الاعتداء والظلم والبغي، ويساعد على شدِّ الأفراد إلى معاني الحق والعدل، وفي هذ كله خير مؤكد للمجتمع ولأفراده. ثالثًا: تقوى الله هي ميزان التفاضل بين الناس 138- وبزوال العصبية تزول نتائجها، ومنها: التفاخر بالأحساب والأنساب والعظام البالية، فليس مجرَّد انتساب الفرد إلى قبيلة معينة مدعاة إلى الفخر، ولا إلى فضله وعلو منزلته؛ إذ لا علاقة بين فضل الإنسان وبين انتسابه إلى قوم معينين، أو إلى قبيلة معينة، وإنما المعقول أن يقدَّر فضل الإنسان بقدر ما تحمله نفسه من فضائل وأخلاق كريمة، وبقدر ما يقدّمه من صالح الأعمال. وهذا كله يحققه تقوى الله -عز وجل، ومن هنا كان أساس التفاضل في الإسلام تقوى الله، وأمَّا الانتساب إلى القبائل فهو للتعارف فقط، كانتسابه إلى بلدة معينة أو حرفة معينة أو بيت معين، أو تسميته باسم معين، فكل هذه الأشكال من الانتساب أو الأسماء يقصد بها التعارف وما يترتب عليه من تعاون أو تكاليف، قال تعالى: {أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} . وبهذا الميزان الدقيق العادل لمعرفة أقدار الناس وفضلهم أصبح المجال واسعًا للتنافس في الخير وبلوغ المنزلة العالية التي يطمح إليها الإنسان، فلا يمنعه منها مانع، من فقر أو لون أو ذكورة أو أنوثة أو خسَّة نسب، أو كثرة ماله، أو سعة سلطانه، أو كثرة ولده، أو فصاحة لسانه، أو كثرة أتباعه، أو جمال صورته، وقد أشار الرسول الكريم إلى هذه الأمور بقوله الموجز البليغ: "من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه"، وذكر النسب إشارة إلى غيره من الأشياء التي لا علاقة في تقييم الشخص ومعرفة مقدار فضله.

المطلب الثاني: خصائص النظام الإجتماعي في الإسلام

المطلب الثاني: خصائص النظام الإجتماعي في الإسلام ... المطلب الثاني: خصاص النظام الاجتماعي في الإسلام 139- والآن وقد بيّنَّا أساس النظام الاجتماعي في الإسلام وما ترتَّب على هذا الأساس، نبيِّن خصائص هذا النظام أو معالمه البارزة، والواقع في خصائصه مشتقة من أساسه أو قائمة عليه، وهي كثيرة، أهما في نظرنا: مراعاة الأخلاق، والالتزام بمعاني العدالة، والعناية بالأسرة، وتحديد مركز المرأة، وتحميل الفرد مسئولية إصلاح المجتمع، ونتكلم عن هذه الخصائص أو المعالم بإيجاز: ألًا: مراعاة الأخلاق 140- قلنا فيما سبق: إنَّ للأخلاق منزلة رفعية جدًّا في الإسلام، ولها آثار ظاهرة في مختلف أنظمته، ومنها: النظام الاجتماعي، فهذا النظام يمتاز بحرصه الشديد على طهارة المجتمع ونظافته من القبائح والرذائل، فالزنى محرَّم وعقوبته الجلد والتغريب أو الرجم، والقذف -وهو رمي الغير بالزنى- محرَّمٌ وعقوبته الجلد لئلَّا تعتاد الألسنة على هذا القول البذيء فتألفه، وفي هذا تلويث للمجتمع وتسهيل لوقوع الفاحشة، ولهذا كان عقابه غليظًا، ولكنَّه عادل، ويتفق ورعاية الأخلاق الفاضلة، وبذاءة اللسان مثل السباب والشتم محظورة في الإسلام، وعقوبته التعزير، والقمار بأنواعه محرَّم في شرع الإسلام ولا يقره المجتمع الإسلامي، وشهادة الزرو من الكبائر في الإسلام، والتجسس والنميمة وكل ما يوقع العداوة والبغضاء بين أفراد المجتمع منكرات لا يقبلها النظام الاجتماعي في الإسلام، والمعاملات يجب أن تقوم على الطهر وحسن النية والأمانة، فلا يجوز الخداع والتضليل والغش والكذب في أية معاملة بين الناس، والمنكرات لا يجوز إقرارها في المجتمع أبدًا؛ لأنها كالجراثيم، إن بقيت انتشرت وصارت كالوباء، ولهذا يشدِّد الإسلام النكير على من يظهر هذه المنكرات أو يتكلم بها إذا جرَّه الشيطان، ويجعل إعلانها والتحدث بها جريمة ثانية، فقد جاء في الحديث: "أيها الناس، من ارتكب شيئًا من هذه القاذورات فاستتر

فهو في ستر الله، ومن أبدى صفحته أقمنا عليه الحد". وفي النظام الاجتماعي الإسلامي جملة من الوسائل الوقائية التي تقي المجتمع من الأسواء والمنكرات، وتسد المنافذ والثغرات في وجه الشيطان، وهذه الوسائل لازمة ولا يجوز تجاوزها، فلا يجوز للمرأة أن تخلو برجلٍ غير زوجها أو من محارمها، وإذا خرجت من بيتها فيجب أن يكون لباسها شرعيًّا على النحو الذي سنفصِّله فيما بعد، ومن مظاهر مراعاة الأخلاق في النظام الاجتماعي الإسلامي التوادد والتراحم والتعاطف بين أفراده، فإن الإسلام دعا إليها، وقد شبَّه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حال المؤمنين في التراحم بمثل عظيم، فقد جاء في الحديث: "مَثَلُ المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمَّى"، وفي حديث آخر: "الراحمون يرحمهم الله تعالى، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء"، وفي حديث آخر: "لا يرحم الله من لا يرحم الناس"، وفراغ القلب من معاني الرحمة علامة على شقوة الإنسان، جاء في الحديث: "لا تنزع الرحمة إلّا من شقي"، والشفقة على الصغار والأولاد من علامات عمارة القلب بالرحمة، جاء عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قَبَّل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحسن بن علي -رضي الله عنهما، وعنده الأقرع بين حابس، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبَّلت منهم واحدًا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من لا يرحم لا يُرْحَم"، وفي القرآن الكريم في وصف صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} ، فالتراحم بين المؤمنين من الصفات الأصلية فيهم، وتجعل المجتمع الإسلامي كالأسرة الواحدة، والحق أنَّ مجتمعًا يصل فيه التراحم إلى هذا الحد لَمُجَتَمَعٌ سعيد حقًّا. ومع الرحمة تعاون نظيف على الخير، وأيد كريمة تمتد إلى كل محتاج؛ لأنَّ الإسلام دعا إلى التعاون، قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} ، وهذا التعاون المطلوب يشمل الأسرة والجيران والأصحاب والرفيق في السفر والمنقطع والغريب، واليتيم والمسكين وكل ذي حاجة في المجتمع الإسلامي، قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ

بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} ، وفي السنة النبوية جملة من الأحاديث في باب التعاون، منها: "من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرَّج عن مسلم كربة فرَّج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة"، وفي الوصية بالجار المتضمنة إعانته ومساعدته: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه"، والتعاون المطلوب لا يقف عند حد إعانة المحتاجين والمعوزين، وإنما يتجاوزه إلى آفاق واسعة ومجالات مختلفة؛ لأنَّ دائرته أعمال الخير، وهي واسعة جدًّا، فالتعاون على تشييد مسجد، أو فتح مدرسة، أو إنشاء مستشفى، أو بناء قنطرة، أو طبع كتاب نافع يخدم الإسلام، والتعاون على إزالة منكر أو فساد أو ظلم أو صدٍّ عدوان، ونحو ذلك كله من التعاون المطلوب؛ لأنه تعاون على البر، ولا شكَّ أن شيوع التعاون بين أفراد المجتمع سيقضي على عوامل الأثَرَة والجفاء والحقد والقطيعة والبغضاء، ويعمِّر القلوب بالحب والود والشفقة، مما يجعل الحياة طيبة في هذا المجتمع الطيب؛ لأنَّها تقوم على الود والرحمة لا على البغض والقسوة. ثانيًا: الالتزام بمعاني العدالة 141- الالتزام بمعاني العدالة من أنواع الأخلاق الفاضلة، بل في ذروتها، وإنما أفردناها بالذكر لأهميتها ولتشعبها وتعدد مظاهرها، وبروزها في النظام الاجتماعي الإسلامي، ومما يدل على أهمية العدل في الإسلام ورود الآيات الكثيرة فيه، بالدعوة إليه بصورة عامَّة أو خاصَّة، فمن الآيات التي تأمر بالعدل بصورة عامَّة قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} ، {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} ، ومن الآيات التي أمرت بالعدل في مسائل معينة، العدل في القول: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} ، والعدل في الكتاب: {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} ، والعدل في الحكم: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} ، {فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا} ، والعدل في الكيل والوزن: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} ، {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} ، والحساب يوم القيامة يكون بالعدل، فلا تظلم نفس شيئًا، قال تعالى: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} ، {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ

الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} ، وإذا ضممنا إلى هذه الآيات الناهية عن الظلم تبيِّنَ لنا أهمية العدل في الإسلام، حتى يمكن أن يقال دون مبالغة بأنَّ الإسلام هو دين العدالة في كل شيء، إنَّ تأكيد الإسلام على معاني العدل وضرورة الالتزام به والنهي عن الظلم وضرورة تجنبه، تترتَّب عليه نتائج خطيرة، وذلك أنَّ المجتمع الذي يشيع فيه العدل يحسّ أفراده بالاطمئنان على حقوقهم؛ لأنَّ القانون يكون مع المحق وإن كان ضعيفًا، لا مع المبطل وإن كان قويًّا، وبعكس ذلك إذا شاع الظلم وندر العدل أحسّ الأفراد بالقلق الدائم على حقوقهم، وزال عنهم الاطمئنان والاستقرار، وكان ذلك إيذانًا بدمار هذا المجتمع، وقد أشار الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى أثر التفريط بالعدل، وكيف يؤدي بالأمة إلى الهلاك، فقد جاء في الحديث: "إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله، لو أنَّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها"، وتعليل هلاك الأمم بسبب الظلم أنَّ الظلم كالنار يحسّ بوطأتها المظلومون، فإذا شاع الظلم وغارت معاني العدل كثير الملظومون الذين لا يرون في هذ المجتمع حمايةً لهم ولا حفظًا لحقوقهم، وإما يرون فيه هضم حقوقهم، وهذا يجرّهم إلى عدم الاهتمام به وببقائه، وهذا قد يجرّهم حتى إلى المعاونة على هلاكه وإفنائه، وهذا بخلاف المجتمع العادل؛ حيث يحرص الأفراد على بقائه ورَدِّ الأعداء عنه؛ لأنهم يرونه كالبيت الذي يئويهم، فيكون هذا الحرب منهم عليه، وبذلك الجهد لبقائه سببًا لبقائه، ولهذا قيل: إن الدولة العادلة تبقى وإن كانت كافرة، وإن الدولة الظالمة تفنى وإن كانت مسلمة، ومن أجل هذا كله قد قام المجتمع الإسلامي في صدر الإسلام على معاني العدل والالتزام به، فما كان هناك ظلم ولا محاباة ولا إجحاف، وإنما كان هناك العدل الصارم الذي يتساوى أمامه الشريف والوضيع. والقانون الإسلامي الذي يخضع له الجميع الخليفة ومن عداه، وقد ترتَّب على ذلك أنَّ الضعيف كان معه المجتمع بكل قوته ما دام محقًّا، ولا يضيره ضعفه؛ لأنَّ قوة المجتمع والقانون معه، وكان القوي لا تغني عنه قوته ما دام مبطلًا؛ لأنَّ قوة المجتمع والقانون ضده، ولهذا كان أبو بكر -رضي الله عنه- يقول: "القوي منكم ضعيف حتى آخذ الحق منه، والضعيف منكم قوي حتى آخذ الحق له"، بل بلغت العدالة في المجتمع الإسلامي الأوَّل إلى حد الالتزام بالمساوة بين الخصوم في مجلس القضاء، حتى في نظرة

القاضي ونبرات صوته وكلامه، وفي قولٍ مأثور عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال لقاضيه أبي موسى الأشعري: "سوِّ بين الخصمين في مجلسك وإشارتك وإقبالك"، ولما كان العدل والالتزام به من مقومات النظام الاجتماعي الإسلامي، فإن أيَّة شفاعة أو جهد يبذل لتعطيل سريان العدالة أو للإنحراف بها عن مجراها المستقيم يُعتَبر مما لا يجوز في شرع الإسلام، ولهذا لما سرَقت المرأة المخزومية وأهمَّ الناس أمرها، سألوا أسامة بن زيد أن يستشفع لها عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فلما فعل ذلك غضب الرسول -صلى الله عليه وسلم- وقال له: "أتشفع في حَدٍّ من حدود الله"؟! ثم خطب -صلى الله عليه وسلم- الناس وقال: "ما بال أقوام يشفعون في حَدٍّ من حدود الله، إنما أهلك الذين من قبلكم ... " إلى آخر الحديث الذي ذكرناها قبل قليل. ثالثًا: العناية بالأسرة 142- الأسرة هي أساس كيان المجتمع؛ لأنَّ من مجموعها يتكوّن المجتمع، فهي بالنسبة له كالخلية لبدن الإنسان، ويترتَّب على ذلك أنَّ الأسرة إذا صلحت صلح المجتمع، وإذا فسدت فسد المجتمع، ولهذا اعتنى النظام الاجتماعي الإسلامي بالأسرة عناية كبيرة تظهر في الأحكام الكثيرة بشأنها، وأكثر هذه الأحكام وردت بها آيات القرآن الكريم يتعبَّد المسلمون بتلاوتها في صلاتهم وفي خارج صلاتهم، فضلًا عن الأحاديث النبوية الكريمة الواردة في موضوع الأسرة، وليس من شأننا هنا أن نفصِّل القول في أحكام الأسرة، فهذا أمر يطول ولا تتسع له دراستنا ولا هو مطلوبنا، وإنما يكفينا أن نشير إلى معالم التنظيم الإسلامي في موضوع الأسرة، وهو من صميم النظام الاجتماعي في الإسلام. أ: الزواج 143- الزواج هو السبيل الطبيعي لتكوين الأسرة وبقاء الجنس البشري، وقد رغَّب فيه الإسلام وجعله من سننه، فقد جاء في الحديث الشريف: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغَضّ للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء"، والغرض من الزواج إيجاد النسل وتكوين الأسرة الصالحة، جاء في الحديث: "امرأة ولود أحب إلى الله من امرأة حسناء لا تلد، إني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة".

ب: إجراءات الزواج 144- وقد شرع الإسلام للزواج إجراءات معينة تشريفًا وتكريمًا لهذه العلاقة؛ علاقة الزواج، وأوّل هذه الإجراءات الخطبة، أي: طلب الرجل المرأة للزواج بالطرق المعروفة عند الناس، إذا كان من الجائز شرعًا أن يتزوجها، والغرض منها أن يعرف كلٌّ من الرجل والمرأة عن الآخر ما يجعله يقدم على النكاح أو يحجم عنه، ولهذا أباح الإسلام للخاطب أن يرى مخطوبته، ولكن لا يجوز الخلوة بها؛ لأنها لا تزال أجنبية عنه، والخلوة بالأجبنية حرام؛ لأن الخِطبة وعدٌ بالزواج وليس بعقد زواج، والمرغوب فيه في شرع الإسلام تخيُّر المرأة الصالحة، كما أن على المرأة أن تتخير الرجل الصالح، فإن صلاح الشخص وتقواه وخلقه أرجح في ميزان الشرع مما عدا ذلك من كثرة المال أو المنصب أو الجاه، وفي الحديث الشريف: "تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فأظفر بذات الدين تربت يداك"، والمرأة ذات الدِّين لها تأثير كبير جدًّا في صلاح الأسرة وتربية أبنائها على معاني الإسلام وحسن الأخلاق، ولذلك وجَّه أعداء الإسلام غارتهم على المرأة المسلمة لاستئصال ما في نفسها من معاني الخير والدين. فإذا حصل الاتفاق أفرغ في عقد النكاح الشرعي القائم على الإيجاب والقبول، والمتضمِّن رضى الطرفين بحضور شهود عدول، تكريمًا لهذا العقد وتمييزًا له عن السفاح، ويستحب أن يكون المهر قليلًا لا كثيرًا؛ لأنه ليس ثمنًا للزوجة، ولكنه رمز التكريم للمرأة في عقد النكاح، وقد ورد في السنة النبوية ما يدل على استحباب عدم المغالاة في المهر، فقد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "خير الصداق -أي المهر- أيسره"، "أخف النساء صداقًا أعظمهنَّ بركة"، والواقع أن شيوع عادة المغالاة في المهور يجعل الراغبين في الزواج قلة، ويبقى الكثيرون عازفين عنه لعدم قدرتهم عليه، وهذا العزوف عن الزواج يجرُّ إلى مفاسد لا تخفى، والحقيقة أنَّ الإسلام بسَّط إجراءات النكاح وسهَّل الوصول إليه، فعقد النكاح يتمّ بإيجاب وقبولٍ كما قلنا، ولا يشترط له إجراءات شكلية معينة ولا تراتيل دينية ولا لغة معينة ولا مكان معين، وإنما يشترط له مع الإيجاب والقبول موافقة ولي المرأة؛ لأن عقد النكاح لا يهمّ المرأة وحدها، بل يهمّ وليها وعائلتها، والضرر الذي يحلقها بسبب سوء اختيارها ينسحب إلى عائلتها

وعلى رأسهم وليها كالأب والأخ، فمن العدل أن يكون للولي رأي مسموع في زواجها، كما يشترط حضور الشهود عند عقد النكاح؛ لكي يُعْرَف العقد ويشيع، وتحفظ حقوق المرأة، ويثبت مركزها القانوني كزوجة، وما يترتب على ذلك من حقوق وواجبات، كما يشترط شرط آخر لصحة النكاح، وهو أن لا تكون المرأة محرَّمة على الرجل؛ كالأخت والخالة وسائر المحرمات. ج- حقوق الزوجة: 145- ويترتب على عقد النكاح حقوق معينة للزوجة، منها: المهر، وهو حق خالص لها دون ذويها، ولا تكلف أن تشتري به جهازًا لها إلّا إذا رغبت هي؛ لأن تجهيز بيت الزوجية بما يلزمه من أثاث وفراش ونحوه من واجبات الزوج لا الزوجة، كما يترتَّب على عقد النكاح حق النفقة للزوجة على زوجها؛ لأنها متفرِّغة لشئون البيت وتربية الأطفال، فكان من العدل أن يقوم الزوج بالنفقة عليها؛ لأن كل واجب يقابله حق، وفي الحديث الشريف: "ولهن عليكم رزقهنَّ وكسوتهن بالمعروف"، وحق النفقة يبقى للزوجة ما دامت قائمة بواجباتها نحو زوجها، فلو خرجت على طاعته وتركت بيت الزوجية عُدَّت ناشز وسقطت نفقتها عنه مدة نشوزها، فإذا عادت عادت النفقة لها، وللزوجة على زوجها حق المعاملة بالحسنى، قال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} ، وفي الحديث الشريف: "خيركم خيركم لأهله"، والإسلام يوصي بالصبر على المرأة، فلا ينبغي للزوج أن يتعجَّل إذا رأى منها ما يكره، قال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} . د- حقوق الزوج: 146- وكما للزوجة حقوق على زوجها فإنَّ له حقوقًا عليها، فالحقوق متقابلة بين الطرفين، فمن حقوقه طاعته بالمعروف؛ لأن القوامة له، قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} ، وقوامة الرجل على زوجته شيء طبيعي جدًّا ومقعول ولا بُدَّ منه؛ لأنَّ الحياة الزوجية شركة خطيرة، وكل شركة لا بُدَّ فيها من رئيس، فيكف بالعلاقة الزوجية التي تخص

أخطر علاقات الإنسان بغيره؟ إنَّ هذه العلاقة الكريمة والشركة الخطيرة لا بُدَّ لها من رئيسٍ يطاع في موضع الخلاف حتى تبقى قائمة بلا انفصام، والرجل أحق بهذه القوامة من المرأة، وهذا ما قرره الإسلام ويشهد له الواقع ويطبقه البشر، وإن جادل بعضهم فيه، ثم إنَّ هذه القوامة لا غضاضة فيها على المرأة؛ لأنها خالية من الاستعلاء والتسلط والأهواء والتعسُّف وإرادة الشر؛ لأن الزوج يحرص على الخير لزوجته، ولا يريد برياسته عليها استعلاء ولا تكبرًا ولا تسلطًا ولا تعسفًا في استعمال قوامته عليها، وفضلًا عن ذلك كله فإنَّ علاقته بزوجته مبنية على المودة والرحمة، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} ، فقوامة الرجل على المرأة قائمة على المودَّة والرحمة اللتين غرسهما الله تعالى في قلبيهما، فلا يتصور فيها ما يضايق المرأة ويجرح كرامتها، إنَّ الإنسان يطيع باختياره وبكل سرور صديقه المخلص المحب له، بل ويفرح إذا صار رئيسًا له في دائرة من دوائر الدولة، فيكف الحال برئاسة الزوج وقوامته على زوجته، وما بينه وبين زوجته من المودَّة والرحمة والإخلاص، والحرص على ما ينفع الطرفين ما لا نسبة بينه وما بين صديقين مخلصين، إنَّ بعض الناس يسارعون وينكرون حق الزوج في القوامة عى زوجته، ويوغرون المرأة على التمرّد على هذه القوامة التي يسمونها عبودية، وهذا الاتجاه من هذا البعض لا يجوز في شرع الله، وقد يكون كفرًا إذا أصرَّ عليه الإنسان؛ لأنه مصادمة لنصوص الشريعة، كما أنَّه يدل على جهالة صاحبه أو هواه أو إرادته السوء والشر بالمرأة، أو رغبته في تفكيك الأسرة وإشاعة الفوضى فيها، كل هذه الأمور نتائج لازمة للدعوة إلى تمرد المرأة على قوامة الزوج، فيجب أن تمنع كما يمنع أي شيء ضارّ، وأن تبصر المرأة المسلمة بضلال هذا القول وضرره. وقد يكون من النافع أن نذكر لهذا البعض من الناس أن مكلة الإنكليز عندما تزوَّجت سألها الكاهن قبل أن يجري الطقوس الدينية لعقد النكاح، سألها: هل تطيعين زوجك؟ قالت: نعم، ومن هذا كله يتضح لكل منصفٍ أنَّ قوامة الزوج على زوجته هو ما جاء به الشرع ويقرّه العقل السليم ويطبقه البشر، فعلى المرأة المسلمة والمدركة لمصلحتها أن تطيع زوجها في المعروف، فإن أمرها بمعصية وجب عليها أن تعصيه؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

ومن حقوق الزوج على زوجته أن لا تخونه في شيء، وأن تعاونه؛ لأنها شريكة حياته، وأن تقوم بتربية أولاده وهم أولادها أيضًا، وهي أقدر على هذه المهمة الخطيرة من غيرها، بل لا يسد مسدَّها أحد في هذه التربية، فليس أحد يملك مثل حنانها وعاطفتها على أولادها، فإذا ما قامت بمهمتها هذه ساهمت في تنشئة جيل سليم، وكان عملها هذا أفضل من أيِّ عمل آخر تقوم به خارج بيتها. هـ- تعدد الزوجات: 147- ومن حق الزوج أن يتزوَّج أكثر من واحدة إلى حد أربع زوجات، وهذا ما نطق به القرآن وثبت بالسُّنة وذكره الفقهاء جميعًا، ولم يخالف فيه أحد من المسلمين، ففي القرآن: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} ، والمقصود بالعدل هنا العدل بين الزوجات في النفقات ونحوها مما يمكن فيه العدل، وتعدد الزوجات ليس واجبًا ولا مندوبًا، وإنما هو مباح، والمباح يجوز فعله وتركه، فهو خاضع لتقدير الشخص نفسه، فإن رأى المصلحه فيه فعله، وإلّا تركه، ولا تثريب عليه في الحالين، ولا داعي لإقحام القاضي أو غيره لتقدير مدى الحاجة أو المصلحة في التعدد؛ لأنَّ هذه المسألة خاصَّة بالإنسان، والأصل في كل إنسان عاقل أنه أحرص من غيره على تقدير ما يصلح له لا سيما في مسألة الزواج؛ حيث تترتب على الزوج تبعات ثقيلة مالية وغير مالية، فهو لا يقدم على التعدد إلّا إذا وجد الحاجة داعية إلى ذلك، ولا نستطيع هنا أن نحصر مبررات التعدد التي تدفع الرجل إليه، وإنما نذكر منها على سبيل التمثيل: عقم الزوجة وتطلُّع الزوج للذرية، ومرض الزوجة وعدم صلاحيتها للقيام بمهام الزوجية، ونبل الزوج إلى غير ذلك من الدوافع النبيلة للتعدد، وفي التعدد علاج حاسم لمشكلة اجتماعية خطيرة تتعرَّض له المجتمعات البشرية في أعقاب الحروب، بل حتى في الأوقات العادية، وهي كثرة عدد النساء وقلة عدد الرجال، وهذه المشكلة لا يمكن حلها بصورة شريفة وناجحة إلا بإباحة التعدد شرعًا، وإلّا حلت نفسها عن طريق السفاح والعلاقات غير المشروعة، ولا شكَّ أن كل امرأة عاقلة تفضِّل أن تكون زوجة ثانية ولا تكون عشيقة لرجل، وعلى هذا فما يقوله البعض من

اعتراضٍ على مبدأ التعدد، إنما هو قول متهافت في نفسه هزيل في حجته، مخالف لشرع الإسلام، وقد يكون من المفيد أن أبيِّن هنا أنَّ بعض الفقهاء ذهب إلى أنَّ للمرأة أن تشترط على زوجها في عقد النكاح عدم الزواج عليها، وإذا تزوَّج فمن حقها أن تطلق نفسها منه، يمكن الأخذ بهذا الرأي الفقهي الاجتهادي؛ لأن المسلمين عند شروطهم. و الطلاق: 148- ومن حق الزوج أن يطلق زوجته، والطلاق في الأصل غير مرغوب فيه في نظر الشريعة الإسلامية، جاء في الحديث الشريف عن النبي -صلى الله عليه وسلم: "أبغض الحلال إلى الله الطلاق"، وعلى هذا فلا ينبغي للمسلم أن يقدِمَ عليه بدون مبرِّر مقبول. وقد ذهب بعض الجهَّال إلى الاعتراض على مبدأ الطلاق، وطالبوا بإلغائه، وكثيرًا ما نسمع شيئًا من هذا اللغو أو نقرؤه في صحيفة أو كتاب، والواقع أنَّ هذا القول لا يصدر إلّا عن جاهل أو معاندٍ لشرع الإسلام، فإنَّ الطلاق في الإسلام من محاسن الشريعة وواقعيتها، وهو بمثابة العلاج الذي تقدمه الشريعة؛ حيث لا ينفع غيره، ولا عيب في تحضير العلاج استعدادًا لحالات الطوارئ والمرض، وخلاصة القول في مسألة الطلاق وحكمته: إنَّ الإسلام يرغِّب في إبقاء الرابطة الزوجية وإدامتها على المودة والوئام لتحقق أغراضها المرسومة لها، وفي سبيل ذلك سهَّل الإسلام إجراءات النكاح، وشرَّع فيها الخطبة، وأباح رؤية المخطوبة؛ لضمان بقاء الرابطة، وندَب الزوج إلى الصبر على المرأة إذا رأى منها ما يكرهه كما بينَّا، وبيِّن الإسلام أن من الفضل للزوج أن يكون حسن الأخلاق مع زوجته، ومع هذا فإن الإسلام لا يغفل عن الواقع، فقد ينشب الخلاف بين الزوجين مما يؤدي إلى الطلاق، ولعلاج هذه الحالة قرر الإسلام ما يأتي: أولًا: شكك الإسلام الزوج في وجدانه إذا أحسَّ بكره زوجته وذكره باحتمال خطئه وتسرعه، قال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} . ثانيًا: إذا استمرَّت الزوجة في مشاكساتها ومخالفاتها فللزوج أن يؤدبها عن طريق

الوعظ والنصيحة والهجر في المضاجع والضرب غير المبرّح، قال تعالى: {وَاللاّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} . ثالثًا: إذا استشرى الخلاف وجب اللجوء إلى التحكيم، بأن يختار الزوج حكمًا من أهله، وتختار الزوجة حكمًا من أهلها، فيجتمعان وينظران في الخلاف بين الزوجين وأسبابه، ويعملان على إزالته، وكثيرًا ما ينجح هذ التحكيم؛ لأن كلًّا من الحكمين حريص على حسم الخلاف لمصلحتها في حسمه، كما أنهما -لعلاقتهما العائلية- يمكنهما الوقوف على أسباب الخلاف، ولا شكَّ أن معرفة الأسباب الحقيقية تسهِّل معالجتها. قال تعالى في التحكيم بين الزوجين: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} . رابعًا: إذا لم ينفع التحكيم واستمرَّ الخلاف وأراد الزوج الفراق، فعليه أن يسلك فيه مسلكًا يقيه شرَّ العجلة والتسرّع والغضب، فأوجب عليه الإسلام أن يوقع الطلاق بالكيفية الآتية: أ- أن يطلقها وهي طاهرة غير حائض، ولم يكن قد مسها في طهرها هذا، والحكمة في ذلك أنَّ الزوج إذا طلقها في هذه الحالة فإنَّ ذلك يعني أنَّ نفسه راغبة عنها، وأن هناك من الأسباب القوية ما يحمله على فراقها إلى درجة أنَّه امتنع عن مسها قبل طلاقها. ب- ومع هذا فإنَّ الشرع الإسلامي احتاط احتياطًا آخر، فقد يكون الزوج لم يقدِّر المسألة حقَّ قدرها، وتسرَّع في تصميمه على الطلاق، ولهذا أوجب عليه أن يطلقها طلقة واحدة، هي التي تسمى في الاصطلاح الشرعي بالطلقة الرجعية، ويكون له في هذا الطلاق الرجعي الحقّ في إرجاع زوجته خلال مدة العدة، وهي عدة تمتد إلى ما يقرب من ثلاثة أشهر، فإذا فكَّر بهدوء فقد يظهر له أنَّه قد تسرَّع في طلاقه، وقد يحمله تفكيره الهادئ إلى ترجيح إبقاء الرابطة الزوجية على قطعها، وإن كان هناك ما يبرر قطعها إيثارًا لمصلحة أولاده الصغار من الضياع، ولهذا أعطاه الشرع الإسلامي الحق في إرجاع زوجته خلال مدة العدة كما قلنا، وقد يكون هذا الطلاق نذيرًا للمرأة، فلا تعود لما أدَّى إليه.

ج- فإذا انتهت مدة العدَّة ولم يراجعها الزوج، ثم أسف الزوج على ما وقع، وأراد إرجاع زوجته، ففي هذه الحالة يشترط أن ترضى الزوجة بالرجوع، وأن يتمَّ ذلك بعقد نكاح جديد ومهر جديد. د- فإذا كرَّر الزوج الطلاق مرَّتين بالكيفية التي بينَّاها، ثم طلقها المرة الثالثة، ففي هذه الحالة لا يمكنه إعادتها إليه إلّا بشروط ثقيلة، هي: أن تنتهي عدتها، ثم تنكح زوجًا غيره نكاحًا حقيقيًّا لا صوريًّا، ثم يفارقها هذا الزوج بموتٍ أو طلاق، ثم تنتهي عدتها من هذه الفرقة، ثم تعقد عقد نكاح جديد مع مطلقها الأول برضى تامّ منهما وبمهر جديد. 149- هذه هي إجراءات الشرع الإسلامي لمنع وقوع الطلاق، أو لمنع إساءة استعماله بدون رويِّة وتأمّل، فإذا لم تنفع كل هذه الإجراءات الطويلة لمنع أو إزالة أسباب الطلاق، فإنَّ وقوعه هو الحلّ الوحيد لفضِّ النزاع، وإنهاء هذه الرابطة التي لم تعد مبعث ارتياح واستقرار، وإنَّما أصبحت مبعث شر وخصام، ولإفساح المجال لكلٍّ من الزوجين ليجرِّب حظه في زواج آخر. وقد يقال هنا: ما الحكمة في إعطاء الزوج حق الطلاق دون الزوجة؟ والجواب: إنَّ الرجل عادةً أكثر سيطرة على عواطفه من المرأة؛ ولأنَّ الطلاق يحمِّله أعباء مالية كثيرة قد تدفعه إلى الرويِّة وعدم الاستعجال، ومن هذه الأعباء: المهر المؤجَّل، ونفقة العدة، ونفقة الأولاد، ومع هذا فيجوز للمرأة أن تشترط لنفسها في عقد النكاح حقَّ الطلاق، فتطلق نفسها منه بموجب هذا الشرط. كما أنَّ للمرأة أن تطلب من القاضي أن يفرِّق بينها وبين زوجها إذا أصابها من الزوج ضرر يبرّر حل الرابطة الزوجية. ومن هذا العرض السريع الموجز لبيان نظام الطلاق في الإسلام يتبيِّن لكل منصفٍ أنه نظام كامل يعتَبَر من محاسن الشريعة الإسلامية؛ إذ ليس من المنطق ولا المصلحة إبقاء الرابطة الزوجية بعد أن ظهر عدم الفائدة من بقائها، أو ظهر أنَّ بقاءها مضر، ولهذا نجد الدول الغربية تقرر جواز الطلاق المدني؛ لأن الكنائس لا تجيزه، وحتى إيطاليا التي كانت إلى عهد قريب تأخذ بالتفريق الجسماني بين الزوجين عند وجود أسبابه، ومعناه أنَّ الزوجين يعيشان منفردين، ولكن يعتبر كلّ منهما زوجًا للآخر بحكم القانون، ولا يحق لأحدهما الزواج؛ لأن الرابطة الزوجية تعتبر باقية قانونًا، إلّا

أنها أجازت أخيرًا الطلاق بموجب القوانين التي شرَّعتها. وقد يقال هنا أيضًا: لماذ لا يشترط إذن القاضي لصحة وقوع الطلاق؟ والجواب: لا فائدة ولا مصلحة في هذا الإذن؛ لأنَّ هناك من الأسرار الزوجية ما لا يحسن كشفه أمام القاضي، فمن الخير ومصلحة الزوجة أن يبقي هذه الأسرار مكتومة غير مفضوحة، ولهذا لم يشترط أحد من الفقهاء أخذ إذن القاضي لصحة وقوع الطلاق، وما قرَّره الفقهاء هو الصواب الذي لا يجوز غيره. حقوق الصغار في الأسرة: 150- ثمرة النكاح إنجاب الذرية وإيجاد النسل، ولهم حقوق مقرَّرَة على أبويهم، منها: ثبوت النسب وما يترتَّب عليها من حقوق، والإنفاق عليهم من قِبَل الأب لا الأم، كما يجب على الأم إرضاعهم، قال تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} ، وإذا وقعت الفرقة بين الزوجين فإنَّ حق حضانة الصغار وتربيتهم يكون للأم حتى يبلغوا السنّ التي يستغنون فيها عن حضانة الأم، فيأخذهم الأب لإكمال تربيتهم وحفظهم، وسنّ الحضانة تقدَّر ببلوغ سبع سنين بالنسبة للأولاد الذكور، وتسع سنين بالنسبة للإناث. حقوق الأبوين على أولادهما: 151- الأبوان سبب وجود الولد وتحمَّلا الشيء الكثير في تربيته، فمن الوفاء لهما القيام بحقوقهما، وعدم التفريط بها، ولهذا عظمت الوصية بهما، وقرن الله تعالى برهما بعبادته، قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} . التضامن بين أفراد الأسرة: 152- يقوم بين أفراد الأسرة ودّ ورحمة وشفقة جبلية فطرية، وقد عزَّزها الإسلام بتشريعات كثيرة تحقق التضامن والتعاون والتكافل فيما بينهم، ومن هذه

التشريعات ما هو ملزم يخضع لحكم القضاء، ومنها ما هو ملزم ولكن لا يخضع لحكم القضاء، فمن الأولى وجوب النفقة لمستحقيها على القادر عليها من أفراد الأسرة، فنفقة الزوجة على زوجها، ونفقة الصغار على أبيهم، نفقة الأب الفقير على أولاده القادرين على الإنفاق، وهكذا القول في بقية نفقات أفراد الأسرة، تخضع لسلطان القضاء، ويجري فيها الحكم والإلزام إذا ما توافرت شروطها، ومن أمثلة ما هو ملزم ولكن لا يخضع لسلطان القضاء حسن المعاملة بين أفراد الأسرة، فهو واجب ولكن لا يخضع لإلزام القاضي، وإنما يترك لديانة وتقوى عضو الأسرة. ويقابل واجب الإنفاق بين أعضاء الأسرة حق الميراث لهم؛ لأن الغرم بالغنم، ومن أسباب الميراث: الزوجية والقرابة، وقد حدَّد الإسلام أنصبة الورثة، وأقام هذا التحديد على أساس العدل الدقيق الذي قد لا يتفطَّن إليه بعض الناس، مثل: جعل حصة الابن ضعف حصة البنت، قال تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} ؛ لأنَّ الأنثى مكفية المئونة، فهي إن لم يكن لها مال فنفقتها قَبْل الزواج على أبيها إلى أن تتزوج، ولا تكلف بالاكتساب، وإذا تزوَّجت فنفقتها على زوجها، وهي لا تدفع مهرًا في الزواج، ولا تلزم بالإنفاق على أولادها، أمَّا الذكر فإنه إذا بلغ وقدر على الاكتساب فنفقته على نفسه، وإذا تزوَّج فهو يدفع المهر ويتحمّل نفقة زوجته وأولاده الصغار، فالتكاليف المالية على الرجل أكثر بكثير من تكاليف المرأة، فمن العدل إذن أن يأخذ أكثر منها في الميراث. والميراث يقوم على أساس من الفطرة ورغبة الإنسان، فإن كل شخص لا يكتسب المال لسدِّ حاجة نفسه فقط، بل لكفاية غيره أيضًا من أفراد أسرته؛ كأولاده مثلًا، فإيصال ثمرة أتعابه بعد موته إلى هؤلاء يدفعه إلى المزيد من السعي؛ لأنه يتفق ورغبته وإرادته، وفي الميراث فوائد وحِكَم، منها: توفير شيء للورثة يستعينون به في حياتهم، ويستغنون به عن سؤال الناس، كما أن في الميراث تفيتيًا للثروة وتوزيعها في عدد كبير من الأفراد، وبهذا تتداول الأمول ولا تتكدَّس بأيدي قليلة. ومن صور التضامن داخل الأسرة الولاية على النفس والولاية على المال، فأما الولاية على النفس فيدخل فيها حضانة الصغير عند أمه إلى سنٍّ معينة كما ذكرنا من قبل، ثم ضمّه إلى من له الولاية على النفس كالأب والجد، فيتمّ تربيته وحفظه

وتقويمه، ومَثَل الصغير في خضوعه للولاية على النفس المجنون والمعتوه، فإذا بلغ الصغير عاقلًا، أو أفاق المجنون، وزال عته المعتوه، زالت عنه الولاية على النفس، وصار له الحق في الذهاب حيث يشاء، إلّا أنَّ الصغيرة إذا بلغت فإن الولاية تستمر عليها، ويستمر وليها بالمحافظة عليها ورعايتها حتى تتزوّج، ولمَّا كانت الولاية على النفس تتضمَّن الحفظ والرعاية والتربية والتوجيه، وكلها لمصلحة الصغير أو الصغيرة، فقد ذكر الفقهاء الشروط الواجب توافرها في الوليّ، فقالوا: يشترط فيه أن يكون بالغًا عاقلًا أمينًا قادرًا على القيام بمهام الولاية، يتفق دينه مع دين المولى عليه. أما الولاية على المال: فهذه تثبت على الصغير في ماله، وعلى من هو في حكم الصغير كالمجنون والمعتوه، وتثبت هذه الولاية للأب والجد وغيرهما على التفصيل المذكور في كتب الفقه، وقد شرعت هذه الولاية لمصلحة الصغير ومَن في حكمه، ولهذا يشترط في الولي الأمانة والقدرة على حفظ مال الصغير وتنميته، وتبقى هذه الولاية ما دام سببها قائمًا، فإذا زال زالت، كما لو بلغ الصغير عاقلًا وكان رشيدًا، أي: قادرًا على تثمير ماله والتصرف به تصرفًا حسنًا، فإن الولاية تزول عليه، قال تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} ، وكذلك تزول الولاية على المجنون إذا عقل وكان رشيدًا. ويجب على الأولياء أن يتصرَّفوا في أموال المولى عليهم على وجه المصلحة لهم، وعلى هذا لا يجوز لهم هبة أموالهم أو تبذيرها. رابعًا: تحديد مركز المرأة في المجتمع 153- والخصيصة الرابعة من خصائص النظام الاجتماعي الإسلامي تحديده مركز المرأة في المجتمع دقيقًا واضحًا صريحًا مفصَّلًا، حتى لا تدخل الأهواء في هذه المسألة الخطيرة جدًّا، وحتى تتحقق للمجتمع طهارته ونظافته وعفَّته واستقامته، وتنشأ فيه الأجيال القوية الأمينة، فيبقى المجتمع على صلاحه واستقامته ويسعد أفراده، وقد تناول القرآن الكريم بآيات كثيرة شئون المرأة وتحديد مركزها الاجتماعي، وما لها وما عليها، وكذلك فعلت السنة النبوية، ولا شَكَّ أنَّ معالجة موضع المرأة في القرآن بآيات كثيرة، وفي السنة بأحاديث كثيرة، يدل دلالة قاطعة على

أهمية هذا الموضوع وعظيم عناية الإسلام به. والواقع أنَّ حالة المرأة في المجتمع ومدى ما لها وما عليها من الحقوق والواجبات، ونوع الضوابط التي تحكم سلوكها، كل ذلك كان ولا يزال من أعظم المؤثِّرات في سير المجتمع، وفي مدى صلاحه وفساده، ولهذا كله فقد أولى الإسلام مسألة المرأة كل ما تستحق من عنايةٍ وتوضيح حتى تستبين الأمور، ويعرف الناس المسلك السديد في معالجة هذه المسألة على الوجه الصحيح. ونحن في هذا البحث لا نريد الإحاطة بكل جزئيات الموضوع، وإنما نريد ذكر النقاط البارزة فيه على وجهٍ يعطي فكرة جيدة عن مركز المرأة في المجتمع في نظر الإسلام. مركز المرأة في المجتمع قبل الإسلام: 154- من المفيد أن نذكر شيئًا عن مركز المرأة في المجتمع العربي الجاهلي قبل الإسلام؛ لترى مدة الإصلاح العظيم الذي جاء به الإسلام في هذا الموضوع، ثم نعرف المعايب والأخطاء والأباطيل التي كان عليها الناس قبل الإسلام في مسألة المرأة، حتى لا يقع المجتمع الإسلامي فيها، وقد روي عن سيدنا عمر -رضي الله عنه- أنه قال: "إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية"؛ لأنه إذا لم نعرف قبائح الجاهلية لم نتوقها، وربما خالطناها أو وقعنا فيها. والمجتمعات غير العربية قبل الإ سلام، أو التي لم تهتد بهديه بعد بزوغ شمسه، لم تكن أحسن حالًا من المجتمعات العربية الجاهلية. ونذكر فيما يلي بعض الأوضاع التي كانت عليها المرأة في المجتمعات الجاهلية العربية وغير العربية: أولًا: كان العرب قبل الإسلام ينظرون إلى المرأة نظرة احتقار وامتهان، ويحزنون لولادة الأنثى، وقد بيِّنَ القرآن الكريم هذه الحالة النفسية التي كانت تنتابهم، فقال تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ، يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} ، حتى آلَ الأمر ببعضهم إلى وأد البنات وهي في قيد الحياة، قال تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} .

ثانيًا: ما كانت المرأة ترث؛ لأنَّ الأرث عند عرب الجاهلية كان محصورًا بالرجال. ثالثًا: كانت كثيرًا ما تخضع للتعسّف والظلم، فإذا مات الرجل وترك زوجة وأولادًا من غيرها، فللابن الحق في تزويجها ولو كانت كاهرة، كما كان له أن يمنعها من التزوج. وللزوّج أن يطلقها ما شاء من الطلقات ويراجعها قبل أن تنتهي عدتها، وهكذا يجعلها كالمعلقة، لا هي مطلقة فتذهب إلى حال سبيلها، ولا هي بالزوجة التي تمتَّع بحقوق الزوجية. رابعًا والأقوام الجاهلية الأخرى ما كانت أحسن حالًا من عرب الجاهلية، فقد وقع الاختلاف في أوربا حول المرأة من جهة مساواتها مع الرجل في تلقِّي الدِّين والقيام بالعبادة واستحقاق الجنة في الآخرة، حتى إنَّ بعض المجامع الكنسية في روما قرَّرت أنَّها حيوان نجس لا روح له ولا خلود1. خامسًا: وفي القانون الروماني: للزوج الحق -في الزواج مع السيادة- أن يبيع زوجته، وأن يأخذ ما يكون عندها من أموال. سادسًا: ما كانت هناك قيود على الآداب تلتزم بها المرأة، بل كان التحلُّل عن هذه القيود هو الشائع في المجتمعات الجاهلية، العربية منها وغير العربية، وقد أشار القرآن الكريم إلى شيء من هذا التحلّل، قال تعالى: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} ، ومن معاني تبرُّج الجاهلية الأولى خروج المرأة مكشوفة الرأس والصَّدر والعنق تخالط الرجال وهي بهذه الحالة، وتتغنج في مشيتها بينهم، وهكذا ذكر أهل التفسير بصدد هذه الآية الكريمة. مركز المرأة في المجتمع الإسلامي: 155- يعرف مركز المرأة في النظام الاجتماعي الإسلامي بمعرفة الحقوق التي لها والواجبات التي عليها، والوظيفة التي اختُصَّت بها، والآداب التي تلتزم بها، فلا بُدَّ من

_ 1 الوحي المحمدي للشيخ محمد رشيد رضا -رحمه الله، ص320، طبع المكتب الإسلامي.

بيان هذه الأمور الأربعة المكونة لمركز المرأة في المجتمع الإسلامي. أولًا: حقوق المرأة 156- القاعدة في حقوق المرأة أنَّها فيها كالرجل، إلّا فيما يختلفان فيه من استعدادٍ وكفاية وقدرةٍ على مناط هذه الحقوق، وبشرط أن لا تعارض هذه الحقوق ما عليها من واجبات، وعلى هذه القاعدة تتمتَّع المرأة بالحقوق التالية: أ- تتمتَّع بحق الحياة؛ لأنها نفس معصومة كالرجل؛ ولهذا حرَّم الإسلام وأد البنت، وأوجب القصاص في قتلها عمدًا كما هو الحكم بالنسبة للرجل. ب- هي أهل للتكريم؛ لأنها إنسان، والله تعالى يقول: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} . ج- لها حق اكتساب الأموال بالطرق المشروعة؛ لأنَّ لها ذمة صالحة لاكتساب الحقوق المالية وغير المالية، فهي فيه كالرجل. ومن أسباب اكتساب الأموال: الميراث، وقد أثبته الشرع الإسلامي لها بعد أن حرمها الجاهليون منه، قال تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} ، ولها حق التصرف بأموالها كما تشاء، دون حاجة إلى إذن أحد ما دامت عاقلة رشيدة. د- لها حق المهر في عقد النكاح، قال تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} ، وحق النفقة على الزوج: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} ، وحق النفقة على أولادها باعتبارها أمًّا. هـ- حق الحضانة على أولادها الصغار إذا وقعت الفرقة بينها وبين زوجها. و لها حق تعلّم العلوم النافعة لها بالكيفية المناسبة لطبيعتها، وبشرط الالتزام التامّ بالآداب الإسلامية اللازمة لها، وأعظم ما ينفعها تعلّم شريعة الإسلام وما فيها من حلال وحرام، أمَّا العلوم الدنيوية فهي مباحة، فإذا شاءت المرأة أن تتعلّم منها شيئًا فلا بأس، ولكن بالشرط الذي قدمناه وهو الالتزام بالآداب، وبالكيفية المناسبة لها، والمحافظة على عفتها، كما ينبغي أن تتعلم ما يلائم طبيعتها ويقوي اختصاصها الفطري في تربية الأولاد ورعاية البيت، فتتعلّم فنون الخياطة والطبخ وأصول تربية الولد ونحو ذلك، فإذا أرادت المزيد من المعرفة فلا بأس، بشرط أن لا تؤثر في قيامها بواجباتها

المطلوبة منها كزوجة أو أمّ، وبشرط أن يكون التعلُّم بالكيفية المشروعة، فلا يجوز اختلاطها بالشباب بحُجَّة التعلُّم، ولا تكشفها أمام الرجال، أو ظهورها بالمحرَّم من اللباس، فكل هذا وأمثاله حرام لا يباح ولا يجوز ولو بحجة طلب العلم. ز- أمَّا الحقوق السياسية، ومنها الاشتغال بالأمور العامة، والانتخابات، فالمسألة فيها شيء من التفصيل: أمَّا الاهتمام بأمور المسلمين العامة فهذا من حقها بل من واجبها، جاء في الحديث: "من لم يهتمّ بأمر المسلمين فليس منهم"، ومن أمر المسلمين شئونهم العامَّة التي يصلحون بها أو يشقون، ومن مظاهر الاهتمام التفكير بشئونهم وإشاعة المفاهيم الإسلامية فيمن يحيط بالمرأة من زوج وأبناء وأقارب وجيران، كما أنَّ حقها إبداء رأيها في الأمور العامة، وإبداء النصح بالكيفية المستطاعة والملائمة لطبيعتها مثل: الكتابة والتأليف وعقد الاجتماعات للنساء وتعليمهنَّ، وإشاعة الأخلاق الفاضلة فيهنَّ، وحثهنَّ على القيام بواجبهنَّ، ونحو ذلك. وبنهيهنَّ عن المنكرات، قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} . أما الاشتراك في الانتخابات بالكيفية المعروفة في الوقت الحاضر لاختيار رئيس الدولة أو أعضاء مجلس الأمَّة، فالظاهر لنا أنه غير جائز للمرأة؛ لعدم وجود السوابق في هذا المجال، فقد جرى انتخاب الخلفاء الراشدين وبايعهم المسلمون، ولم ينقل إلينا اشتراك النساء في ذلك. ثانيًا: واجبات المرأة 157- القاعدة في الواجبات المرأة كالقاعدة في حقوقها، فهي فيها كالرجل، إلّا فيما يختلفان فيه مما هو مناط التكليف، وأساس هذه القاعدة أنَّها إنسان، ولها أهلية وجوب، أي: صلاحية اكتساب الحقوق وتحمُّل الواجبات، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} ، فالنساء كالرجال مطالبات بتقوى الله، أي: بإطاعة أوامره واجتناب نواهيه، ويترتَّب على هذه القاعدة ما يأتي: أ- إنَّها كالرجل مخاطبة بالتكاليف الشرعية في باب الاعتقاد والعبادات

والمعاملات، إلّا بما تقتضيه طبيعتها كما هو معروف، أو بسبب عدم قدرتها على هذا الواجب، كالجهاد يُكَلَّف به الرجل لا المرأة، إلّا إذا رغبت في الخروج مع المجاهدين فلا تمنع، وتقوم بما تقدر عليه من أمور الجهاد، كمداواة الجرحى وإعداد الطعام ونحو ذلك، وقد ورد في القرآن الكريم أنَّ النساء المؤمنات بايعن الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- كما باعيه الرجال، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} مما يدل على أنَّ النساء مكلَّفات بما كُلِّفَ به الرجال من أمور الدين. ب- وترتَّب على مخاطبة المرأة بالتكاليف الشرعية أنَّها مجزية على عملها وقيامها بما كلفت به، قال تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} ، وقال تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} ، وقال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . ج- إن الخطابات في القرآن التي تخاطب المؤمنين وتكلفهم بالتكليفات الشريعة يدخل فيها النساء، إلّا إذا قام الدليل على خلاف ذلك، فقوله تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} يشمل الرجال والنساء، وقد يذكر القرآن الكريم النساء مع الرجال فيما يخاطبهم به من تكليفات، أو فيما يمدحهم عليه، قال تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} . د- وعلى المرأة واجب الطاعة لزوجها بالمعروف، ووفائها بحقه عليها، جاء في الحديث الشريف عن النبي -صلى الله عليه وسلم: "لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت الزوجة

أن تسجد لزوجها"، فاذا أطاعته بالمعروف وأدَّت حقه عليها كانت من النساء الفضيلات، قال -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن الصحابي الجليل أبو هريرة -رضي الله عنه: قيل يا رسول الله، أيّ النساء خير؟ قال: "التي تسره إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه في نفسها ومالها بما يكره". هـ- والمرأة مسئولة عن البيت وشئونه ومؤتمنة عليه، فعليها القيام بهذه الأمانة، والخروج عن عهدة هذه المسئولية، جاء في الحديث الشريف: "كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته..... والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها". ثالثًا: الوظيفة التي اختصت بها 158- خلق الله -سبحانه وتعالى- كلَّ مخلوق على نحوٍ يمكِّنه من أداء الغرض الذي خُلِقَ من أجله، وقد خلق الله تعالى المرأة على نحوٍ يمكِّنُها أن تكون زوجة وأمًّا، وأودع فيها التطلع والحنين إلى ذلك، وقد وهبها الله تعالى القابلية والقدرة على تربية أولادها، والصبر عليهم في جوٍّ من حنان الأمومة الفطرية بها. فالوظيفة الأصلية التي اختصت بها المرأة هي وظيفة الزوجة والأم، وتربية الأولاد وتنشئتهم النشأة الصالحة، وتربية الأولاد تكون في البيت لا في الطريق، وتحتاج إلى انصراف إلى أداء هذه الوظيفة ووقت كافٍ لها، وقد وفَّر لها الإسلام ذلك، فقد رفع عنها مؤنة العيش والاكتساب بما فرضه على الزوج من واجب الإنفاق عليها وعلى أولادها، ومن ثَمَّ تعد لها حاجة للعمل خارج البيت؛ لأنَّ العمل يُقْصَد به الكسب وتحصيل الرزق، وقد كفيت ذلك لقاء انصرافها إلى عمل جليل هو تربية الأولاد في البيت. كما أنَّ الإسلام رعف عنها إيجاب بعض ما فرضه على الرجل تحقيقًا لأغراض معينة منها: توفير الوقت الكافي للانصراف إلى مهمتها، فالقتال في سبيل الله ليس بواجبٍ عليها وجوبه على الرجل، والصلاة في المساجد واجب أو من السنن المؤكدة على الرجال دون النساء، وصلاة الجمعة تجب على الرجل دون المرأة، فهذا وأمثاله يدل على أنَّ الإسلام يرغِّب في بقاء الزوجة في بيتها، وعدم الخروج منه إلّا لحاجة أو سبب معقول؛ لتنصرف إلى مهمتها الخطيرة: تربية الأولاد وتهيئة المسكن المريح للزوج الذي يأوي إليه بعد تعبه خارجه، قال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} وليس المقصود بالقرار في البيوت عدم الخروج منه مطلقًا، ألَا يرى أن المرأة تخرج

للحج، وتخرج لأداء الصلاة في المساجد إذا شاءت، وتخرج لزيارة أهلها وتخرج للمعالجة ... إلخ، وإنما المقصود أنَّ المرأة تقرُّ في بيتها ولا تخرج بلا غرض مشروع ولا سب معقول؛ لأنَّ هذا هو المرغوب فيه في نظر الشرع. رابعًا: الآداب التي تلتزم بها 159- هناك جملة آداب وأخلاقٍ يجب أن تلتزم بها المرأة لتسهم في بقاء طهارة المجتمع ونظافته مما يشين، ولتبقى هي نفسها بعيدة عن مظنَّة التُّهَم ومزالق الشيطان، ومن هذه الآداب ما يأتي: أولًا: لا يجوز للمرأة أن تخلو بأيِّ رجل يحلّ له نكاحها حتى ولو كانت قريبًا لها؛ كابن العمِّ وابن الخال، وهذا المنع كما هو واضح يسري على الرجل سريانه على المرأة، فلا يجوز لمسلم أن يخلو بامرأة يحلّ له نكاحها، وتعليل هذا المنع هو سد منافذ الشيطان، فإنَّ الشيطان كما جاء في الحديث يجري من ابن آدم مجرى الدم، فيزيِّن له الخطيئة، ويهيج فيه الشهوة، جاء في الحديث الشريف عن النبي -صلى الله عليه وسلم: "إياكم والخلوة بالنساء، والذي نفسي بيده، ما خلا رجل بامرأة إلّا ودخل الشيطان بينهما"، وفي حديث آخر: "لا يخلونَّ أحدكم بامرأة إلَّا مع ذي محرم"، ولا يقال: إن الثقافة عاصمة من الوقوع في الخطيئة، فلا ضرر من الخلوة بالأجنبية؛ لأنَّ المسألة مسألة ضعف النفس وما فيها من شهوات وقابليات للاستجابة لغواية الشيطان، والمثقَّف والمثقفة كالجاهل والجاهلة في هذه المسائل، والواقع شاهد على صحة ما نقول، وأيضًا فإنَّ الثقافة لا تقلع الشهوات، وإنما الذي يضعفها ولا يستأصلها تقوى الله والخشية منه وعمارة القلب بالإيمان، بدليل أنَّ الحديث الشريف يخاطب المؤمنين أصحاب رسول الله وهم خيار خلق الله بعد رسول الله، فكيف بغيرهم ممن عشَّشَ الشيطان في قلبه وباض وفرَّخ، وإن ملأ رأسه ببعض ما يسمَّى ثقافة وعلمًا، ومثل المنع من الخلوة منع المرأة من السفر وحدها بدون زوجها أو أحد محارمها؛ لأنَّ الوحدة في ديار الغربة تفتح للشيطان منافذ للإغواء وللإيقاع في الخطيئة. ثانيًا: لزوم ابتعادها عن الاختلاف بالرجال خوف الفتنة يدل على ذلك أنَّ الإسلام في سبيل عدم الاختلاط بالرجال لم يفرض على المرأة صلاة الجمعة، ولم يوجب عليها صلاة الجماعة، ولا يستحب لها اتباع الجنائز، وإذا حضرت للصلاة في

المسجد وجب عليها أن تقف مع النساء في الصف الأخير خلف الرجال، فإذا كان الأمر هكذا في بيوت الله، فكيف يجوز الاختلاط في غير أماكن العبادة؟ ومع هذا، فإذا وجدت الضرورة والحاجة إلى مثل هذا الاختلاط جاز في حدود الأدب والاحتشام؛ كخروج المرأة مع المجاهدين تُعِدُّ الطعام وتداوي الجرحى، فقد خرج الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومعه بعض نساء المسلمين إلى القتال، وقمن بمداوة الجرحى وسقي المقاتلين من المسلمين، بل وقد تضطر المرأة إلى القتال الفعليِّ مع المسلمين كما حصل لبعضهنَّ في موقعة أحد، وهذا يستلزم الاختلاط، وكذلك قد تضطر المرأة إلى الخروج من بيتها لقضاء حاجتها، فتركب السيارة العامة أو القطار، وتختلط بالرجال، فهذا ونحوه يجوز عند الحاجة بشرط الالتزام بالآداب الإسلامية في المشي واللباس والكلام. ثالثًا: إخفاء زينتها إلّا ما ظهر منها، فقد جاء في القرآن في آداب النساء: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} فلا يجوز تعمُّد إظهار شيء من زينتها إلّا ما ظهر منها بغير قصد، أو كان ظاهرًا لا يمكن إخفاؤه كالرداء والثياب، وهذه هي الزينة الظاهرة التي يجوز إبداؤها على رأي ابن مسعود -رضي الله عنه، أو هي الكحل والخاتم على رأي ابن عباس -رضي الله عنه، أو هي الوجه والكفَّان على رأي بعض العلماء1، فالوجه واليدان يجوز كشفهما، أمَّا غيرهما فلا يجوز كشفه، وبعض العلماء أجاز كشفهما بشرط عدم وجود الزينة فيهما. رابعًا: ويجب أن يكون لباس المرأة شرعيًّا، أي: وفق ما أمر به الشرع، قال تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنّ} ، والخمار ما يوضع على الرأس، فالآية الكريمة تأمر بإنزال الخمار إلى العنق والصدر لإخفائهما. وقال تعالى في آية آخرى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} والجلباب هو الملاءة التي تغطي جسم المرأة وتلبسه فوق ثيابها فلا يظهر منها

_ 1 أحكام القرآن لابن العربي المالكي ج3 ص1356-1357.

شيء، وهو يشبه العباءة التي تستعملها بعض نسائنا اليوم، وكانت شائعة بالأمس. ومن الشروط الأخرى في لبس المرأة في حكم الإسلام، أن لا يكون شفَّافًا ولا ضيقًا؛ حتى لا يظهر أعضاء المرأة ولا يصفها، وقد جاء في الحديث الشريف: "سيكون في آخر أمتي نساء كاسيات عاريات على رءوسهن كأسمنة البخت، العنوهن فإنَّهنَّ ملعونات" فهن كاسيات بالاسم عاريات أو كعاريات في الحقيقة والواقع، وهذا الحديث من أعلام النبوة، فقد وقع ما أخبر عنه النبي -صلى الله عليه وسلم، وفي حديث آخر أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى المرأة أن تلبس ما يصف حجم عظامها. ومن شروط لباس المرأة الشرعي أيضًا أن لا يكون معطرًا إذا خرجت من بيتها، وأن لا يشبه لباس الرجال ولا زيّهم، فقد جاء في الحديث الشريف: "ليس منَّا من تشبَّه بالرجال من النساء، ولا من تشبَّه بالنساء من الرجال". وخلاصة القول في لباس المرأة الشرعي الذي تتحقق فيها الآداب الإسلامية في اللباس بالنسبة للمرأة: "أن يكون ساترًا لجميع بدنتها إلّا وجهها وكفيها، وأن لا يكون -أي: لباسها- زينة في نفسها، ولا شفَّافًا ولا ضيقًا يصف بدنها، ولا مطيبًا -أي: معطرًا، ولا مشابهًا للباس الرجال ولباس الكفار، ولا ثوب شهرة"1. خامسًا: من آداب الإسلام في مشي المرأة وكلامها ما أشار إليه القرآن الكريم: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} ، أي: لا تضرب برجليها ليسمع قعقعة خلخاليها، فإذا فعلت ذلك بالتبرج والتعرّض للرجال فهو حرام2، والواقع أنَّ هذا يدخل في باب سد الذرائع، وعلى هذا، لا ينظر إلى القصد وإنما ينظر إلى مآل الفعل، وعلى هذا ينبغي للمرأة أن لا تفعله لئلَّا يثير ما لا ينبغي في الرجال، بأن ينتبهوا إليه وإلى مشيها، فيقعون في إثم النظر إليها أو الظنِّ السيء بها، يقاس على ذلك المنع منع أيّ مشية فيها إثارة للفتنة، فينبغي أن تمشي المرأة مشية لا تغري الفسَّاق وضعيفي الأخلاق، وقال تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ

_ 1 حجاب المرأة المسلمة في الكتاب والسنة للأستاذ ناصر الدين الإلباني ص89، طبع المكتب الإسلامي. 2 ابن العربي، المرجع السابق، ص136.

اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} ، يقول الإمام ابن العربي في تفسير هذه الآية: "أمرهنَّ الله أن يكون قولهن جزلًا، وكلامهن فصلًا، ولا يكون على وجه يحدث في القلب علاقة بما يظهر عليه من اللين المطمع للسامع، وأخذ عليهن أن يكون قولهن معروفًا ... قيل: المعروف هو السر، فإنَّ المرأة مأمورة بخفض الكلام1، فعلى المرأة المسلمة أن تلتزم بهذه الحدود في كلامها. خامسًا: تحميل الفرد مسئولية إصلاح المجتمع واجب الفرد في إصلاح المجتمع: 160- ومن خصائص النظام الاجتماعي في الإسلام تحميل الفرد مسئولية إصلاح المجتمع، بمعنى أنَّ كل فرد فيه مطالب بالعمل على إصلاح المجتمع وإزالة الفساد منه على قدر طاقته ووسعه، والتعاون مع غيره لتحقيق هذا المطلوب، قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} ، ومن أعظم التعاونِ التعاونُ على إصلاح المجتمع، وإذا كان الفرد مطالبًا بإصلاح المجتمع، فمن البديهي أنَّه مطالب بعدم إفساده، قال تعالى: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} . من القواعد الفقهية "ما حرِّم أخذه حرِّم إعطاؤه"؛ لأنَّ إعطاء الحرام للغير من الفساد والإفساد، وعلى هذا لا يجوز إعطاء الرشوة، كما لا يجوز أخذها، ولا يجوز إعطاء الربا، كما لا يجوز أخذه، جاء في الحديث: "لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه"، وفي حديث آخر: "الراشي والمرتشي والرائش بينهما". أدلة مسئولة الفرد على إصلاح المجتمع: 161- أولًا:" من القرآن الكريم قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ

_ 1 ابن العربي، المرجع السابق ص123.

وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} ، والمعروف اسم جامع لكل ما طلبه الشرع الإسلامي، والمنكر اسم جامع لكل ما نهى عنه، ويدخل في ذلك بداهةً ما يصلح المجتمع ويطهِّره من الفساد، وفي وصية العبد الصالح لقمان لابنه التي قصَّها الله علينا: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} . ويؤكِّد القرآن الكريم مسئولية الفرد عن إصلاح المجتمع بما يقصّه من أخبار الأمم السابقة التي فرَّط أفرادها بواجب الإصلاح، فلحقهم الذم والهلاك، وحتى يعتبر كل مسلم بما حلَّ بهم فلا يفرِّط تفريطهم؛ لئلَّا يصيبه ما أصابهم، قال تعالى: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} ، أي: هلَّا كان من الأمم التي قبلكم أولوا بقيِّة -أي: أصحاب طاعة ودين وعقل- ينهون قومهم عن الفساد في الأرض1، وقال تعالى: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} ، فهذه الآية الكريمة دلَّت على أنَّ الذين نجوا من العذاب إنما نجوا بسبب نهيهم عن السوء والفساد، فدلَّ ذلك على وجوبه2. 162- ثانيًا: مِنَ السُّنَّة النبوية وفي السنة النبوية أحاديث كثيرة تقرِّر مسئولة الفرد عن إصلاح المحتمع، منها الحديث الشريف: "من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم"، وإصلاح المجتمع وإزالة الفساد عنه، والتفكير في تحقيق ذلك من الاهتمام بأمور المسلمين، وفي حديثٍ آخر عن النبي -صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان"، فهذا الحديث الشريف صريح في تحميل الفرد مسئولية إزالة الفساد المطلوب من المسلم إزالته، وهذا الحديث الشريف يأمر أيضًا بأن يكون المسلم في حالة استعداد وتهيئوا للإصلاح وإزالة للفساد، وهذا المعنى يفهم من عبارة: "فإن لم يستطع فبقلبه"؛ لأنَّ التغيير بالقلب يعني كراهية المنكر، يقول الإمام

_ 1 تفسير القرطبي ج9 ص113. 2 إحياء علوم الدين للغزالي ج2 ص27.

النووي: "فبقلبه معناه: فليكرهه بقلبه، وليس ذلك بإزالة وتغيير منه للمنكر، ولكنه هو الذي في وسعه"1 فالتغيير بالقلب يعني كراهية المنكر، وهو إن لم يكن إزالة وتغييرًا كما يقول الإمام النووزي، إلّا أنه مقدمة للتغير وتهيئو له وإعداد النفس لتغييره فعلًا؛ لأنَّ الأنسان عادة لا يزيل شيئًا يحبه، وإنما يزيل ويغيِّر شيئًا يكرهه، فكراهية الشيء مقدمة لإزالته وسابقة لتغييره، فجاز إطلاق اسم التغيير على كراهية القلب للمنكر بهذا الاعتبار، وكراهية القلب للمنكر يجعل القلب حيًّا عامرًا بالإيمان، ذا حساسية كافية ضد المنكرات والفساد، ولا يسع المسلم ترك هذه الكراهية، وإذا فقدها كان ذلك علامة مرض قلبه، فليسارع إلى تطبييه بعلاج الإيمان قبل فوات الأوان، وقد اعتبر الإمام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- عدم الإنكار القلبي رِدَّة عن الإسلام، فقد قال -رحمه الله: "والمرتد من أشرك بالله تعالى، أو كان مبغضًا للرسول -صلى الله عليه وسلم- ولما جاء به، أو ترك إنكار منكر بقلبه"1. ومن السنة أيضًا: قول النبي -صلى الله عليه وسلم: "والله لتأمرنَّ بالمعروف ولتنهونَّ عن المنكر ولتأخذنَّ على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطرًا، ولتقصرنَّه على الحق قصرًا، أو ليضربنَّ الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم ليلعنَّكم كما لعنهم" وهذا الحديث الشريف صريح في الدلالة على تحميل الفرد مسئولية إصلاح المجتمع ورفع الفساد عنه، وفيه تأكيد على منع الظالم من الظلم؛ لأنَّ الظلم من أعظم الفساد في الأرض. تعليل مسئولية الفرد عن إصلاح المجتمع: 163- وإذا كان الفرد مسئولًا عن إصلاح المجتمع، فما تعليل ذلك؟ ولمذا يطالب الفرد بهذا الواجب مع مطالبته بإصلاح نفسه؟ الذي نراه إنَّ تعليل هذه المسئولية أو هذه المطالبة ما يأتي: 164- أولًا: الفرد يتأثر بالمجتمع الإنسان كائن اجتماعي يتأثَّر بالمجتمع الذي يعيش فيه، فتمرض روحه أو تهزل،

_ 1 شرح صحيح مسلم للنووي ج2 ص25. 2 اختيارات ابن تيمية في الجزء الخامس من الفتاوى ص182.

أو تصح وتقوى تبعًا لصلاح المجتمع أو فساده، وقد أشار النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- إلى هذه الحقيقة، فقد جاء في الحديث الشريف: "ما من مولود إلّا يولد على الفطرة، فأبواه يهوداه وينصرانه ... إلخ "، فالأبوان بالنسبة للصغير مجتمعه الصغير الذي يؤثر فيه، فيدفعه إلى الفساد أو الصلاح، فإذا كان الأبوان ضالّيْن دفعاه إلى الضلال، وإخرجاه عن مقتضى الفطرة السليمة التي خلقه الله عليها، وإذا كانا صالحين أبقياه على الفطرة التي خلقه الله عليها، ونمَّيَا فيه جانب الخير، وهكذا شأن المجتمع الكبير في تأثيره في الفرد صلاحًا وفسادًا. 165- ثانيًا: ضرورة قيام المجتمع الصالح وقيام المجتمع الصالح ضروري للفرد؛ لأنَّ المطلوب من المسلم تحقيق الغرض الذي خُلِقَ من أجله وهو عبادة الله وحده، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} ، والعبادة اسم جامع لما يحبه الله تعالى من الأقول والأفعال والأحوال الظاهرة والباطنة1، وهذا المعنى الواسع للعبادة يقتضي أن يجعل المسلم أقواله وأفعاله وتصرافته وعلاقاته مع الناس على وفق ما جاءت به الشريعة الإسلامية، والمسلم لا يستطيع أن يصوغ حياته هذه الصياغة، أي: أن يكون مجتمعًا إسلاميًّا صحيحًا، فإن لم يكن كذلك بأن كان مجتمعًا جاهليًّا صرفًا، أو مجتمعًا مشوبًا بمعاني الجاهلية، فإن المسلم لا يستطيع فيه أن يحيا الحياة الإسلامية المطلوبة، أو يتعذَّر عليه ذلك، ولهذا يأمر الإسلام بالتحول من المجتمع الجاهلي إلى المجتمع الإسلامي ما دام عاجزًا عن إزالة جاهليته، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} ، وقد جاء على تفسير هذه الآية الكريمة أنَّها نزلت "في كل مَنْ أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة، وليس متمكنًا من إقامة الدِّين، فهو ظالم لنفسه مرتكب حرامًا بالإجماع"2 ولهذا يجب على كل

_ 1 مختصر فتاوي ابن تيمية ص172، 173. 2 تفسير ابن كثير ج1 ص542.

مسلم تعهد المجتمع الذي يعيش فيه وإزالة المنكر حال ظهوره أو وقوعه، وأن لا يستهين به؛ لأنَّ المنكرات كالجراثيم التي تؤثر في الجسد قطعًا، وإذا لم تمرض البعض فإنها تضعف مقاومته، فيسهل عليها فيما بعد التغلُّب عليه، ولهذا كانت أولى مهمات الدولة الإسلامية إقامة هذا المجتمع الإسلامي الفاضل، وإزالة المنكرات منه، قال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} . 166- ثالثًا: النجاة من العقاب الجماعي وقيام الأفراد بإصلاح المجتمع ينجيهم وينجي المجتمع من الهلاك الجماعي أو العقاب الجماعي أو الضيق والضنك والقلق والشر يصيب المجتمع، وتوضيح هذه الجملة يحتاج إلى شيء من التفصيل لأهمية الموضوع وخطورته، فنقول: من سنة الله تعالى أنَّ المجتمع الذي يشيع فيه المنكر وتنتهك فيه حرمات الله، وينتشر فيه الفساد، ويسكت الأفراد عن الإنكار والتغيير، فإنَّ الله تعالى يعمَّهم بمحنٍ غلاظٍ قاسية تعمّ الجميع وتصيب الصالح والطالح، وهذه في الحقيقة سنة مخيفة، وقانون رهيب يدفع كل فرد لا سيما من كان عنده علم وفقه أو سلطان، أو المسارعة والمبادرة فورًا لتغيير المنكر دفعًا للعذاب والعقاب عن نفسه وعن مجتمعه، والدليل على ما نقول القرآن والسنة. 167- أ: من القرأن الكريم قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} ، قال ابن عباس -رضي الله عنه- في هذه الآية: أمر الله المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعهم العذاب2، فمقصود الآية: واتقوا فتنة تتعدَّى الظالم فتصيب الصالح والطالح، كما قال الإمام القرطبي2. وفي تفسير ابن كثير بصدد هذه الآية الكريمة: "يحذر الله تعالى عباده المؤمنين

_ 1 تفسير القرطبي ج7 ص391. 2 تفسير القرطبي ج7 ص391.

فتنة، أي: اختبارًا ومحنة يعمّ بها المسيء وغيره، لا يخص بها أهل المعاصي ولا من باشر الذنب بل يعمها". 168- ب: من السنة النبوية المطهرة جاء في صحيح الإمام البخاري -رحمة الله تعالى، عن النبي -صلى الله عليه وسلم: "مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فصار بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مَرّوا على من فوقهم، فقالوا: لو أنَّا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وأن أخذوا على أيديهم نجو ونجوا"، ففي هذا الحديث دليل كما يقول الإمام القرطبي على تعذيب العامة بذنوب الخاصة، وفيه استحقاق العقوبة للجماعة كلها عند ظهور المعاصي وانتشار المنكر وعدم التغيير، وأنَّه إذا لم تغير المنكرات وترجع الأمور إلى حكم الشرع وجب على المؤمنين المنكرين لها بقلوبهم هجران ذلك البلد1، ويمكن القول أيضًا أنَّ في هذا الحديث الشريف دلالة أخرى، وهي أنَّ الانحراف عن النهج الصحيح والمسلك السديد يؤدي إلى الهلاك أو الضرر، ولا ينفع في دفعهما عن الجماعة كون المنحرفين حسني النية والقصد؛ لأن الذين أرادوا خرق السفينة إنما أرادوا بخرقها عدم إيذاء من فوقهم، فلم يغن عنهم حسن مقصدهم؛ لأن فعلهم خروج عن النهج السديد في معالجة ما يهم الجميع. وعن أبي بكر الصديق -رضي الله تعالى عنه- قال: يا أيها الناس، إنكم تقرءون هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} ، واني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمّهم الله بعقاب منه"، فهذا يدل على أن وقوع الفساد في المجتمع والسكوت عليه وعدم تغييره سبب للعقاب الجماعي. ميزان صلاح المجتمع وفساده: 169- وإذا كان الفرد مسئولًا عن إصلاح المجتمع وإزالة فساده، فما هو

_ 1 تفسير القرطبي ج7 ص392.

الميزان لصلاحه وفساده، والجواب: إنَّ المجتمع الصالح هو المجتمع الإسلامي، أي: القائم على أساس العقيدة الإسلامية التي ينبثق عنها النظام الاجتماعي الإسلامي، الذي ينظم شئونه المختلفة، والذي بيِّنَّا بعض خصائصه، والمجتمع الفاسد هو الذي يقوم على غير أساس العقيدة الإسلامية، ولا يحكمه النظام الاجتماعي، وتشيع فيه المنكرات، وهو الذي يسميه الإسلام بالمجتمع الجاهلي، وبكلمة أخرى: المجتمع الصالح هو القائم على معاني الإسلام وأفكاره ومناهجه، والتي تطبق فيه أحكامه، والمجتمع الفاسد بخلافه.

المبحث الثالث: نظام الإفتاء

المبحث الثالث: نظام الإفتاء مدخل ... المبحث الثالث: نظام الإفتاء تمهيد: 170- المطلوب من المسلم أن تكون أفعاله ابتداءً وفق المناهج الإسلامية، وأن يتقبَّل حكم الشرع في نتائج أفعاله، وأن يتصرَّف على النحو المشروع في علاقتته مع الآخرين، فإذا جهل ذلك أو بعضه وجب عليه أن يعرفه؛ ليكون سلوكه وفق الحدود الشرعية، ومن سبل المعرفة قيام العلماء بتعليم الناس أمور الدين وتبليغهم أحكامه، أو قيام الجهال بسؤال العلماء عن أحكام الإسلام. 171- أما قيام العلماء بواجب التعليم والتبليغ فهذا مما افترضه الإسلام على أهل العلم، فعليهم تعليم الناس ما يحتاجونه من أمور دينهم بالقدر الذي يأمر به الإسلام ويحتاجه الناس، ويزداد هذا الوجوب على العلماء ويتأكَّد كلما فشا الجهل في الناس واندرست معالم الشريعة وظهرت البدع، فإذا قصَّر العلماء في واجب التعليم والتبليغ أثموا وحُوسبوا على تقصيرهم حسابًا عسيرًا؛ لأنَّ تقصيرهم في هذا الواجب يعتبر من كتمان العلم الذي أؤتمنوا عليه وأمروا بنشره وتبليغه للناس، فإذا قام العلماء بواجب التبليغ وجب على الناس أن يقبلوا عليهم ويسمعوا منهم ويتعلموا ما يقولون ويعلموا بما يتعلمون، فإذا لم يفعلوا أثموا وحوسبوا لقيام الحجة عليهم بتبليغ العلماء لهم أحكام الدين. 172- وبالرغم من تبليغ العلماء أحكام الدين ابتداءً، فقد يبقى البعض جاهلًا بأحكام الإسلام، وقد يقصِّر العلماء بواجب التبليغ، فيفشوا الجهل، ويكثر عدد

الجاهلين، وواجب الجاهل أن يتعلَّم أمور دينه التي تهمه، قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} ، ولا يرفع عن الجاهل مسئولية تعلُّم ما يلزمه من أمور الدين تقصير العلماء بواجب التعليم والتبليغ ابتداءً؛ إذ عليه أن يسأل أهل العلم عمَّا يجهله من أمور الدين، كما جاء في الآية الكريمة. 173- وسؤال الجاهل أهل العلم، وجواب هؤلاء له، وما يتعلق بهذين الموقفين: موقف الجاهل وهو يسأل، وموقف العالم وهو يجيب، من وجوبٍ عليهما في السؤال والجواب أو ندب أو إباحة بلا وجوب في السؤال والجواب، وغير ذلك من الأمور، كل ذلك يكون ما يعرف في الشريعة الإسلامية بنظام الإفتاء. الإفتاء في اللغة: 174- جاء في لسان العرب لابن منظور: أفتاه في الأمر، أي: أبانه له، وأفتاه في المسألة يفتيه: إذا أجابه، والاسم الفتوى، واستفتيه فأفتاني إفتاءً، والفتوى اسم يوضع موضع الإفتاء، والفتيا والفتوى: ما أفتى به الفقيه. ومما تقدَّم نعلم أنَّ الاستفتاء في اللغة يعني: السؤال عن أمر أو عن حكم مسألة، وهذا السائل يسمَّى المستفتي، والمسئول الذي يجب هو المفتي، وقيامه بالجواب هو الإفتاء، وما يجب به هو الفتوى، فالإفتاء يتضمَّن وجود المستفتي والمفتي والإفتاء نفسه والفتوى. الإفتاء في الاصطلاح: 175- والمعنى الاصطلاحي للإفتاء هو المعنى اللغوي لهذه الكلمة وما يتضمنه من وجود مستفتٍ ومفتٍ وإفتاء وفتوى، ولكن بقيدٍ واحد هو أنَّ المسألة التي وقع السؤال عن حكمها تعتبر من المسائل الشرعية، وأنَّ حكمها المراد معرفته هو حكم شرعي. فالمستفتي أذن في نظام الإفتاء الذي نتكم عنه هو: السائل عن حكم الشرع في مسألة من المسائل، أي: من يسأل عن حكم مسألة شرعية، وإنَّ المفتي هو من يجيب عن هذا السؤال، وقيامه الجواب هو الإفتاء، ونص ما يجيب به وهو الفتوى. منهج البحث: 176- وبناءً على ما تقدَّم نقسِّم هذا المبحث إلى أربعة مطالب: الأول: للكلام عن المستفتي. الثاني: للكلام عن المفتي. الثالث: للكلالم عن الإفتاء. الرابع: للكلام عن الفتوى.

المطلب الأول: المستفتي

المطلب الأول: المستفتي من هو المستفتي؟ 177- المستفتي هو من يسأل عن حكم الشرع في مسألةٍ ما، وهذا يعني أنَّه جاهل بهذا الحكم، وإنما يسأل ليعرف وليعمل بما يفتيه به المفتي، مقلدًا بهذه الفتوى. ولكن هل يجب على كلِّ جاهل بالحكم الشرعي أن يسأل عنه حتى يعرفه أم لا؟ وإذا علم الحكم أو كان قادرًا على معرفته بنفسه يجب عليه أو يسوغ أن يسأل عنه أم لا؟ الجواب على ذلك يختلف باختلاف الناس واختلاف أحوالهم، فقد يحرم على بعضهم الاستفتاء وقد يَجِبُ وقد يجوز، فلا بُدَّ من بيان هذه الأصناف من الناس. الصنف الأول: المحرَّم عليهم الاستفتاء 178- من توافرت فيه أهليه الاجتهاد وشروطه على النحو المذكور في كتب أصول الفقه صار مجتهدًا، والمجتهد يحرم عليه تقليد غيره؛ لأنَّ الواجب عليه -وقد صار مجتهدًا- أن يجتهد في المسألة حتى يعرف حكمها الشرعي على وجه اليقين أو غلبة الظن، وبالتالي يحرم عليه أن يستفتي أحدًا في بيان حكم هذه المسألة، والتحريم هنا يتعلق بالاستفتاء الذي يراد به تقليد المفتي بما يفتي به، أمَّا سؤال المجتهد غيره عن حكم مسألة على وجه المذاكرة وفحص المعلومات فهو جائز غير ممنوع، وإذا تبيِّن للمجتهد بعد هذه المذكراة أنَّ الصواب عند غيره وجب عليه اتباعه؛ لأنه صار من جملة ما عرفه باجتهاده.

179- وإذا قلنا بأنَّ الاجتهاد يتجزأ، وهذا ما نرجِّحه، بحيث يكون المسلم مجتهدًا في بعض المسائل دون بعض، فإنه فيما يقدر عليه من الاجتهاد ينزل منزلة المجتهد المطلق، فلا يجوز له سؤال غيره وتقليده فيما يفتيه به، أمَّا فيما يعجز عن الاجتهاد فيه فإنه ينزل منزلة غير المجتهد، فيجب عليه الاستفتاء أو يجوز كما سنبينه فيما بعد. الصنف الثاني: مَنْ يجب عليهم الاستفتاء 180- يجب الاستفتاء على كلِّ من لم يصل إلى مرتبة الاجتهاد ووجب عليه معرفة الحكم الشرعي، فشروط وجوب الاستفتاء شرطان: الشرط الأول: أن يكون غير مجتهد، سواء كان بسبب ذلك عجزه عن الاجتهاد لعدم استعداده له وعدم قدرته عليه، أو لعدم الملكة الفقهية فيه، أو لعدم تفرغه لطلب العلم حتى يصل إلى مرتبة الاجتهاد، أو لأي سبب آخر. الشرط الثاني: وجوب معرفة الحكم الشرعي، وهذا يختلف باختلاف الأشخاص، فمَن بلغ عاقلًا لزمه أن يعرف أحكام الصلاة وكيفية أدائها وشروطها. وإذا دخل عليه رمضان وجب عليه أن يعرف أحكام الصيام، وإذا صار عنده مال وبلغ النصاب وجب عليه أن يعرف أحكام الزكاة، وإذا استطاع الحج وجب عليه أن يعرف أحكام الحج، ومن نزلت به نازلة وجب عليه أن يعرف حكمها، ومن باشر التجارة والبيع والشراء وجب عليه أن يعرف أحكام هذه المعاملات، وهكذا. والأصل الجامع في هذا الشرط هو: كل من لزمته معرفة حكم شرعي معين وجب عليه أن يسأل أهل العلم عنه من يعرفه، أمَّا ما زاد على ذلك من معرفة تفاصيل الشرع فهو من الأمور المندوبة في حق الفرد، وإن كان من الفروض الكفائية في حق الأمة؛ إذ لا بُدَّ أن يوجد في الأمة من يعرف تفاصيل الشرع مع بلوغه رتبة الاجتهاد ليفتي الناس فيما يحتاجون إليه من أمور الدين. 181- والخلاصة: فإنَّ العامي يجب عليه استفتاء العلماء فيما يلزمه من تكاليف الشرع؛ ليعرف كيف يؤدي هذه التكاليف على الوجه المشروع.

الصنف الثالث: من يجوز لهم الاستفتاء 182- ويجوز الاستفتاء لغير المجتهد فيما لا تلزمه معرفته من أحكام الشرع، كالعامي الذي لا يجب عليه الحج، فلا يلزمه أن يعرف أحكامه، وبالتالي لا يجب عليه أن يسأل عن هذه الأحكام وإن كان يجوز له أن يسأله عنها؛ لأنَّ معرفة أحكام الشرع والاستزادة من هذه المعرفة من الأمور المندوبة في حق كل مسلم، وحيث كان الأمر مندوبًا فجوازه أولى. 183- ولكن هل يجوز الاستفتاء لغير المجتهد فيما لا يلزمه معرفته فيما لم يقع عليه من الحوادث والنوازل؟ للعلماء قولان: القول الأول: كراهة ذلك، وهذا هو المنقول عن الإمام مالك، فقد كان -رحمه الله تعالى- يكره السؤال عن حكم ما لم يقع، ولهذا كان بعض تلامذته إذا أراد معرفة حكم مسألة لم تقع دفع إلى الإمام مالك من يسأله عنها كأنَّها مسألة واقعة، وتعليل هذه الكراهة عند بعض العلماء هو أنَّ الإفتاء في أمور الدين شيء خطير ومسئولية كبيرة؛ لأنَّ الإفتاء في أمور الدين في حقيقته إخبار عن الشرع وحكمه، وهذا لا يسوغ إلّا بعد بذل الجهد المستطاع، فإذا قصر المجتهد في ذلك تعرَّض للمسئولية، وما دامت الواقعة لم تقع فلا حاجة ولا ضرورة للتعرُّض للإفتاء وما ينطوي عليه من مسئولية، بل إنَّ السلامة والاحتياط في الدين يوجبان الإعراض عن مثل هذا الإفتاء، كما أنَّ اجتهاد المجتهد قد يتغير، فلا حاجة للتسرع في الإفتاء والحادثة التي لم تقع بعد، فقد يتغير اجتهاد المجتهد ثم تقع الحادثة ولا يستطيع المجتهد إخبار المستفتي عن اجتهاده الجديد، ولهذا كله فيحسن بالمفتي أن يعرض عن الإفتاء عمَّا لم يقع بعد، كما يحسن بالعاميّ أن يستفتي عمَّا يحتاجه وعمَّا يقع له فعلًا، ويدع ما سوى ذلك مِمَّا لم يقع بعد. 184- القول الثاني: عدم كراهيته السؤال عمَّا لم يقع بعد إذا كان غرض السائل معرفة الحكم مسبقًا لاحتمال وقوعها، وهذا ما نرجِّحه؛ إذ لا ضرر فيه، بل فيه احتياط لما يحتمل وقوعه؛ إذ قد تقع الحادثة ولا يتيسَّر لصاحبها الوصول إلى من يستفتيه فيها، فإذا حرص على معرفة حكمها قبل وقوعها كان حرصه في محله، وعلى المفتي أن يجيبه؛ لأنَّ كليهما محسن غير مسيء، السائل في حرصه على معرفة الحكم،

والمفتي في تعريفه بما حرص المستفتي على معرفته، وبناءً على هذا القول وجدنا بعض العلماء من يتصوَّر المسائل ويفترض الوقائع ويجيب عليها، ويدوّن ذلك حتى يقف عليها من يريد معرفة هذه الأحكام. على المستفتي أن يسأل الصالح للإفتاء: 185- وحيث وجب على المسلم أو جاز له الاستفتاء، فعليه أن يستفتي من توافرت فيه الصلاحية للإفتاء؛ لأنَّ استفتاءه يتعلق بالدين، فعليه أن يحتاط لدينه فيسأل من هو أهْلٌ للافتاء، ولكن كيف يعرف العامي الصالح الكفء ليسأله؟ قالوا: يعرف ذلك بالسؤال عنه، أو إخبار الثقة له عنه، أو باشتهار أمره بين الناس، وهذا هو المقدور للعامي. 186- فإذا لم يجد العامي في بلده من يستفتيه فعليه أن يرحل إلى حيث يجد من يفتيه، فقد كان السلف الصالح إذا احتاج أحدهم إلى معرفة مسألة شرعية ولم يجد من يخبره بحكمها رحل إلى حيث يجد العالم الكفء الذي يخبره بذلك. استفتاء الأصلح: 187- وإذا وجب على المستفتي أن يستفتي الصالح للإفتاء، فهل يجب عليه أن يجب عليه أن يتحرَّى عن الأصلح إذا كثر المفتون في بلده؟ قولان للعلماء في هذه المسألة: القول الأول: لا يجب عليه التحري عن الأصلح، فله أن يسأل من شاء من أهل الإفتاء ما داموا صالحين له؛ لأن العاميِّ لا قدرة له على معرفة الأصلح، ولا على وزن الرجال وتقدير منازلهم ومراتبهم في العلم، فتكليفه بذلك ضرب من التكليف بِما لا يطاق. القول الثاني: يجب عليه التحري عن الأصلح واستفتاؤه دون غيره، وليس في ذلك تكليف له بما لا يطاق؛ إذ يستطيع أن يعرف الأصلح بالسؤال عنه أو بأخبار الثقة له عنه، أو باشتهار أمره وبروزه بين أقرانه، وهذا القدر كما يرى ممكن له ويؤدي إلى معرفة الأصلح غالبًا، وهذا هو المقدرو له والمطالب به، وإذا لم يصل إلى الأصلح مع ذلك كله، فلا لوم عليه ولا تثريب.

188- والراجح عندي القول الأول؛ لأنَّ السلف الصالح من الصحابة والتابعين ما كانوا يوجبون على المستفتي استفتاء الأصلح أو البحث عنه، فدلَّ ذلك على جواز استفتاء الفاضل وترك الأفضل، ومع هذا يستحب للعاميّ التحري عن الأصلح واستفتائه كلما كان ذلك ميسورًا له. من هو الأصلح: 189- وإذا قلنا بوجوب التحري عن الأصلح، على القول الأول للعلماء، أو عن استحباب ذلك له على ما ذكرناه في ترجيحنا، فمن هو الأصلح للإفتاء؟ المستفاد من أقوال العلماء أنَّ الأصلح هو الأعلم الأورع، ولكن إذا وَجد المستفتي المفتي الأعلم، ووجد المفتي الأورع، فأيهما يسأل؟ قولان للعلماء: القول الأول: يسأل الأعلم؛ لأنه هو الأصلح، فيتعين عليه استفتاؤه؛ لأن مدار الإفتاء على العلم، وما دام هو الأعلم فهو الأولى بالإفتاء، والأصلح له من غيره. القول الثاني: الأصلح هو الأورع، فعليه أن يستفيته دون غيره. واستدلَّ أصحاب هذا القول بقوله -جل جلاله: {اتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} ، وبما روي عن السلف الصالح "إنَّ هذا العلم دين فانظروا عمَّن تأخذونه". 190- والراجح عندي أنَّ استفتاء الأورع أولى؛ لأنَّ ما عنده من العلم يكفي للإفتاء؛ ولأنَّ ورعه يحجزه عن التهجم على الفتوى والتساهل فيها، ويبعده عن مزالق الهوى الخفي، كما أنَّ ورعه يدفعه إلى البحث الشديد لمعرفة الحكم الصحيح، وبهذا البحث الشديد وخلوص النية تكون إصابته في الفتوى محتملة جدًّا، بل ويمكن القول أنَّ الأورع هو الأصلح للإفتاء في زماننا هذا، فيتعيِّن استفتاؤه دون غيره ما أمكن ذلك؛ لقلة الورع عند العامَّة وأكثر العلماء، فمن الاحتياط المطلوب في الدين أن يسأل المستفتي المفتي الأورع ما دام عنده من العلم ما يكفي للإفتاء، ويدع الأعلم الذي لا ورع عنده أو عنده من الورع ما لا يكفي لمنصب الإفتاء. استفتاء المستفتي لأكثر من واحد: 191- وإذا لم تطمئنّ نفس المستفتي إلى جواب المفتي، فماذا يعمل؟ قالوا: له أن يسأل غيره، ولكن إذا اختلفت عليه الفتوى فماذا يعمل؟ أقول في المسألة:

القول الأول: يأخذ المستفتي بقول من يفتيه بالحظر دون الإباحة أحوط. القول الثاني: يأخذ بالقول الأخفِّ؛ لقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} ، وقوله -صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب أن تؤخذ رخصه كما يحب أن تؤخذ عزائمه". القول الثالث: على المستفتي أن يتحرَّى عن الأعلم الأورع ويسأله إن لم يكن قد سأله، ويأخذ بفتياه، فإن لم يجد مثل هذا المفتي ووجد الأعلم فقط، والأورع فقط، استفتى الأورع وأخذ بقوله، وقال بعضهم: يستفتي الأعلى ويأخذ بقوله. القول الرابع: يأخذ بقول من وافق قوله قول الآخرين للتعاضد، كتعدد الأدلة، ولزياد غلبة الظن بأنَّ هذا القول هو الراجح. القول الخامس: يتخيِّر فيأخذ بأيّ قول شاء؛ لأن الجميع أهل للإفتاء. 192- والراجح عندي التفصيل في المسألة بأن ينظر: إذا كان المستفتي قد استفتى الأعمّ الأورع فعليه أن يأخذ بقوله، ولا عبرة بعدم اطمئنانه وسكون نفسه، وليس له أن يسأل غيره، وإذا لم يكن المستفتي قد استفتى الأعلم الأورع فعليه أن يتحرَّى عنه فيسأله ويأخذ بقوله، فإن لم يجده ولكن وجد الأورع أخذ بقوله، وإذا كان الجميع متساوين بالعلم والورع كما يبدو للمستفتي، ولم تسكن نفسه إلى قول من استفتاه، فله أن يستفتي الآخرين، فإن اتفقوا فيها أخذ بفتياهم، وإن اختلفوا أخذ بما تطمئنّ إليه نفسه من أقوالهم دون تقيد بكثرة المتفقين أو قلتهم؛ لأنَّ الكثرة بذاتها ليست من المرجّحات في باب الفتاوى، وإنما الترجيح بالدليل، فإن لم يكن هناك دليل صريح يصلح باطمئنان كان الترجيح لقول الأعلم الأورع، ثم لقول الأورع، فإن انعدم هذا كان الترجيح باطمئنان النفس وسكونها عملًا بالحديث الشريف: "استفت نفسك وإن أفتوك وأفتوك وأفتوك"، وقوله -صلى الله عليه وسلم: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك". إعادة الاستفتاء: 193- وإذا استفتى العامي عن حادثة، فهل عليه أن يعيد استفتاءه إذا نزلت به مرة أخرى، أم يعمل بالفتوى الأولى؟ قولان للعلماء، منهم من قال بوجوب إعادة الاستفتاء؛ لاحتمال تغيّر اجتهاد المفتي، ومنهم من قال بعدم وجوب إعادة الاستفتاء

لأنَّ المستفتي قد عرف حكم الحادثة باستفتائه الأول، فلا حاجة إلى اعادته. 194- والذي أميل إلى ترجيحه هو التفصيل، فإن كان الذي أفتاه أولًا هو الأعلم الأورع فلا حاجة في هذه الحالة إلى إعادة الاستفتاء إن لم يكن كذلك، ثم نزلت به الحادثة مرة أخرى، ووجد الأعلم فعليه أن يستفتيه؛ لأن اجتهاده مظنَّة الصواب أكثر من غيره، وقد وجده فعليه أن يسأله، أمَّا إذا لم يجد الأعلم الأورع فالأَوْلَى له أن يعيد استفتاءه إذا أمكنه ذلك؛ لأن اجتهاد المجتهد قد يتغيّر لظهور ما لم يكن ظاهرً له من الأدلة، فإذا جاءت الفتوى الثانية كالأولى عمل بها، وإن اختلف عليه الجواب كرَّر الاستفتاء وأخذ بما تسكن إليه نفسه على النحو الذي فصلناه من قبل. كيفية الاستفتاء أو صيغته: 195- والمستفتي حين يسأل عن حكم مسألة أو واقعة إنَّما يسأل عن حكم الشرع فيها، وبناء على ذلك ينبغي أن تكون صيغة الاستفتاء على النحو الآتي: "ما حكم الشرع الإسلامي في هذه المسألة"، أو يقول: "ما حكم الله في هذه المسألة"، أو نحو ذلك من الصيغ الدالة على هذا المعنى. الاستفتاء بموجب مذهب معين: 196- وقد أثار كثير من العلماء السؤال التالي: هل يجب على المستفتي أن يكون استفتاؤه بموجب مذهب معين؟ أم يجوز له الاستفتاء وفق أيّ مذهب شاء؟ وقد أجابوا على هذا السؤال بأن الجواب مبنيّ على مسألة أخرى، هي: هل يجب على العاميّ أن يتقيِّد بمذهب معين بعزائمه ورخصه، ويستغني بموجبه أم لا يجب عليه ذلك؟ وإذا انتسب إلى مذهب معيِّن والتزم به واستفتى بموجبه، فيما قيمة انتسابه والتزامه هذا في كيفية استفتائه؟ 197- وقد تعرَّض الأمام أحمد بن حمدان الحراني الحنبلي لهذا السؤال وما ابنتي عليه، فقال ما خلاصته: إنَّ العامي إمَّا أن يكون منتسبًا إلى مذهب معين وإمَّا أن لا يكون، ولكل حالة حكمها على النحو التالي: الحالة الأولى: أن يكون منتسبًا إلى مذهب معين: وفي هذه الحالة قولان للعماء:

القول الأول: إن انتسابه لمذهب معين لا يجعله ملتزمًا به؛ لأن المذاهب إنما تكون لمن يعرف الأدلة، والعامي لا معرفة له بها، وعلى هذا له أن يستفتي من شاء من المفتين وعلى أي مذهب يفتيه المفتي. القول الثاني: إنَّ انتساب العامي إلى مذهب معين هو انتساب معتبر في حقه ملزم له؛ لأنه اعتقد أن المذهب الذي انتسب إليه هو الحق، فعليه الوفاء بما اعتقده والتزم به. ورتبوا على ذلك أنَّ عليه أن يستفتي من يفتيه بموجب مذهبه. الحالة الثانية: عدم انتساب العاميّ إلى مذهب معين، وفي هذه الحالة قولان عند العلماء: القول الأول: لا يلزمه أن يتمذهب بمذهب معين، وبالتالي لا يلزمه أن يستفتي بموجب مذهب معين، بل له أن يستفتي أي عالم، ويأخذ بفتواه على أي مذهب جاءت فتوه. ودليل هذا القول أن السلف الصالح لم يلزموا العامي بتقليد علم معين ولزوم استفتائه دون غيره، بل كانوا يبيحون له استفتاء أي عالم شاء. القول الثاني: يلزمه أن يتمذب بمذهب معين فيأخذ بعزائمه ورخصه ويستفتي بموجبه، واحتجَّ أصحاب هذا القول بأنه لو جاز للعامي اتباع أيّ مذهب شاء لأدَّى ذلك إلى التقاط رخص المذاهب اتباعًا لهواه، وهذا مسلك من شأنه أن يؤدي إلى الانحلال عن التكاليف الشرعية والتلاعب بالأحكام، ولا خلاص من هذه الفوضى إلّا بإلزام العامي بالانتساب إلى مذهب معين والاستفتاء بموجبه فقط، وقالوا عن حجة أصحاب القول الأول بأنَّ المذاهب لم تكن قد مهدت وحررت وعرفت في عهد السلف الصالح، ومن ثَمَّ أباحوا عدم التقيد بمذهب معين، ثم خلص أصحاب هذا القول إلى ضرورة الانتساب إلى مذهب معين يختاره بعد التحري والسؤال عن المذهب الأصلح، ويمكن أن يعرف ذلك بالسؤال كما قلنا، وبالشهرة وشيوع المذهب، ونحو ذلك، فإذا ما انتسب إلى مذهب معين كان عليه أن يستفتي بموجبه، ولا يستفتي وفق غيره. القول الراجح في المسألة: 198- والراجح في المسألة التفصيل بعد ذكر بعض المقدمات على النحو التالي:

أ- إن الواجب على كل مسلم أن يعرف حكم الله فيما يلزمه من أمور، كما ورد في الكتاب والسنة وبالاستباط الصحيح منهما، أو من المصادر التي أشارت إليها نصوص الكتاب والسنة. ب- والأصل أن المسلم -ما دام قادرًا على الاجتهاد- أن يعرف حكم الله تعالى عن طريق البحث والنظر في معاني القرآن والسنة، وفيما دلت عليه نصوصهما من أدلة الاستنباط، وبهذا تكون معرفته للأحكام مبنية على الدليل والبرهان، وهي المعرفة التي أمر بها الشرع الشريف. ج- وللمسلم القادر على البحث والاجتهاد أن يأخذ بمناهج المجتهدين في البحث والاستنباط ما دامت تلك المناهج سائغة وجائزة الاتباع بموجب الدليل والبرهان، وإن تفاضلت فيما بينها بالجودة والقرب من الصواب وبالأولوية بالاتباع. د- وإذا كان المسلم عاجزًا عمَّا تقدم، فعليه أن يستعين بأهل العلم ليدلوه على أحكام الشرع ويقلّدهم بما يقولون، باعتبار أنَّ ما يخبرونه به هو حكم الشرع، والله تعالى أمر من لا يعلم أن يسأل من يعلم، وفائدة السؤال هو الأخذ بجواب أهل العلم والعمل به، وإلّا لم يكن للسؤال فائدة ولا معنى، وهذا ما ينزّه عنه الشارع الحكيم. هـ- وللمسلم العاجز عن الاجتهاد أن يستعين بكتب العلماء الموثوقة والمشهود لأصحابها بالإمامة بالدين، مثل أصحاب المذاهب المعروفة، فيتفقه بها ويتخرَّج عليها، ويأخذ بما فيها باعتبار أنَّ ما فيها هي أحكام الشرع التي وصل إليها أصحابها، وهم علماء فقهاء أهل لمعرفة أحكام الشرع. و وإذا تفَقَّه المسلم بفقه هذه المذاهب وانتسب إلى أحدها، فقيل عنه: إنه شافعي أو حنفي، فإن هذا الانتساب يعني: تفقه بفقه هذا المذهب، واتخاذه دليلًا وهاديًا له إلى أحكام الشرع، فالمذهب بحقه كاشف له عن أحكام الشرع، وليس مصادمًا للشرع، وعلى هذا الأساس انتسب إليه. ز- وعلى هذا، فإذا تبيِّن لهذا المنتسب أنَّ مذهبه لم يوفق في الدلالة إلى الصواب في مسألة معينة، وأن الصواب فيها عند غير هذا المذهب، وبالتالي اتبع غير مذهبه في هذه المسألة، فهو في هذا المسلك محسن غير مسيء، ولهذا نقل عن أصحاب المذاهب أن

كل واحد منهم قال: إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي، واضربوا بقولي عرض الحائط. لأنَّ الحديث هو القول الحق، وفيه حكم الله فيلزم اتباعه، ويقاس على قولهم هذا كل قول صحيح ظهرت صحته بالدليل والبرهان، فيلزم اتباعه وهجر ما خالفه. ح- وبناءً على ما تقدَّم يجوز للمسلم أن ينتسب إلى مذهب معين، فيدرسه ويتفقه به باعتباره مظنَّة الصواب، ويستفتي بموجبه، كما يجوز للعاميّ أن لا ينتسب إلى مذهب معين، وإنما يتعلم ما يلزمه من أحكام الشرع بسؤال أهل العلم عنها ابتداءً، أو عند نزول الحادثة به، ولهذا العامي غير المنتسب إلى مذهب معين أن يستفتي دون تقيد بأي مذهب، فإذا استفتى بمذهب معين فإن استفتاءه هذا يمكن توجيهه وتصحيحه باعتبار أنَّ هذا العامي اعتقد أنَّ هذا المذهب أولى من غيره بالاتباع، وكما يجوز لغير المنتسب لمذهب أن يستفتي دون تقيد بمذهب، فإن المنتسب هو الآخر له أن يستفتي دون تقيد بمذهب، وتوجيه ذلك أنه يريد معرفة حكم الشرع كما يدله عليه هذا المفتي الذي هو أعلم منه، ولذلك جاء يستفيته. ط- والخلاصة: فإنه في جميع الأحوال يسع العامي الذي لم يصل إلى رتبة الاجتهاد أن يستفتي دون تقيّد بمذهب معين، وإنما يسأل عن حكم الشرع، سواء كان هذا العامي منتسبًا إلى مذهب معين أو غير منتسب، وسواء تفقَّه على مذهب معين أو لم يتفقه، فيقول للمفتي: ما حكم الشرع في كذا وكذا؟ وهذه صيغة صحيحة سليمة، أمَّا السؤال بمذهب معين فغايته أنه سائغ وجائز على التوجيه الذي بيناه. مطالبة المستفتي بالدليل: 199- وهل للمستفتي أن يطالب مفتيه بدليل ما يفتيه به؟ قال بعضهم: ليس له ذلك، وإنما له أن يسأله عن الدليل في مجلس آخر، ولا نرى وجهًا لتعليق السؤال على مجلس آخر، والذي نرجِّحه أنَّ للعامي أن يطلب من مفتيه الدليل؛ لأن ما يفتيه به دين يدين الله تعالى به ويعمل به، فمن حقه أن يستوثق من ذلك، وأقل درجات الاستتيثاق أن يطلب منه الدليل، فإذا قال له المفتي: الدليل هو الحديث الشريف الذي نصه كذا وكذا، أو معناه كذا وكذا، سكن المستفتي واطمأنَّ؛ لأن المفروض في المفتي أنه عرف صحة الحديث ومعناه فأفتى بموجبه، أمَّا إذا قال له: إن الدليل هو رأي أو محض اجتهادي، فللمستفتي في هذه الحالة أن يستفتي غيره إذا لم يطمئن إلى

جواب المفتي كما قلنا من قبل، كما أنَّ للمستفتي أن يقبل جواب المفتي ولا يسأل غيره، باعتبار أنَّ المفتي من أهل العلم والفتيا، وأن اجتهاده سائغ ومظنَّة الصواب، ومع هذا كله يسوغ للمستفتي أن لا يطالب مفتيه بالدليل اكتفاءً منه بظاهر حال المفتي، وأنه لا يفتي إلّا بعلم ودليل. أدب المستفتي: 200- قال العلماء: يجب على المستفتي أن يكون مؤدبًا في استفتائه، وعددوا بعض مظاهر أدبه معه. والواقع أنَّ آداب الكلام في الإسلام، وآداب التلميذ نحو أستاذه، وآداب المسلم نحو أهل العلم، كلها لازمة في حق المستفتي، فهو مسلم فعليه أن يلتزم بآداب الإسلام في هذا المجال، وهو يسأل أهل العلم فعليه أن يلتزم بآداب الإسلام نحو العلماء، وعلى هذا يجب عليه أن يظهر تواضعه نحو المفتي واحترامه له، فلا يعلي صوته عليه، ولا يومئ بيده في وجهه، ولا يكلمه بلهجة جافة قاسية، وأن يستأذنه بالسؤال والجلوس، ويتخير الوقت المناسب والمكان المناسب لسؤاله، فلا يستفتيه وهو مشغول بغيره، ولا أن يطرق عليه بابه في وقت القيلولة أو النوم ليلًا، إلى غير ذلك من مظاهر الاحترام والتوقير وآداب السؤال، ولا شكَّ أن هذه المظاهر والآداب تتأثَّر بالعرف والعادات، فيجب مراعاتها ما دامت هذه العادات والأعراف لا تصادم معاني الشريعة الإسلامية.

المطلب الثاني: المفتي

المطلب الثاني: المفتي شروط المفتي: 201- المفتي من يقول بالإفتاء، والإفتاء إخبار عن حكم الله، فلا بُدَّ أن يكون أهلًا لذلك، وهذه الأهلية تكون بشروط، ومن هذه الشروط أن يكون مسلمًا بالغًا عاقلًا فقيهًا مجتهدًا عدلًا، وليس من الشروط المطلوبة الذكورة ولا الحرية ولا النطق، فتصح فتوى المرأة والعبد والأخرس. وهذا الإجمال في الشروط لا يغني عن شيء من التفصيل في بعضها على الأقل. الشرط الأول: الإسلام 202- وهذا الشرط في الحقيقة مفهوم؛ لأنَّ المفتي يخبر عن حكم الله، ويبلغ شرع الله، ويطبق أحكامه على الوقائع والأحداث، فلا بُدَّ أن يكون مؤمنًا بالله وبرسوله محمد -صلى الله عليه وسلم، وبشرع الله الذي بلَّغه رسوله الكريم -صلى الله عليه وسلم. هذا، وإنَّ الإسلام وما به يصير الشخص مسلمًا، وما به يفقد المسلم إسلامه فيصير مرتدًا، كل ذلك مبين في كتب العقائد وليس هو موضوع بحثنا، ويكفينا هنا أن نقول: إنَّ العنوان الظاهر للمسلم أن يتلفَّظ بالشهادتين معتقدًا بهما، فيقول: أشهد أن لا إله إلّا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، وأن يظهر ما تقتضيه هذه الشهادة من أقوال وأفعال، فيؤدي العبادات الظاهرة كالصلاة والصيام، ويؤدي الزكاة إن كان ذا مال وبلغ النصاب، وأن يحج البيت إن استطاع إليه سبيلًا، وعليه أن ينطوي قلبه على الانقياد التامِّ والاستسلام لله رب العالمين، فلا يكون في قلبه معارضة ولا كراهية ولا مزاحمة لما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم، لا في خبر، ولا في أمر، ولا في نهي، وعلم المسلم أيضًا أن لا يأتي ما يناقض حقيقة الإسلام وما تلفظ به من الشهادتين، لا في الاعتقادات، ولا في الأقوال، ولا في الأفعال، وإلّا وقع في العصيان والابتداع، وقد يؤدي به ذلك إلى الارتداد عن الإسلام، فيصير مرتدًّا، والمرتد لا يصلح للإفتاء. أمَّا الابتداع والعصيان إذا لم يصلا إلى درجة الردة فإنهما قادحان في الأهلية للإفتاء، وقد يصلان إلى درجة سلب هذه الأهلية عن صاحبها. الشرط الثاني: البلوغ والعقل 203- لا بُدَّ أن يكون المفتي ذا عقل يعقل به أحكام الشرع ويفهمها ويعرفها، وأقلّ درجات العقل المعتبرة يكون بالبلوغ، ولهذا كان شرط التكليف أن يكون المسلم بالغًا عاقلًا، فلا يكفي البلوغ وحده مع عدم العقل، ولا يكفي العقل وحده بدون بلوغ؛ لأنَّ البلوغ مظنَّة نضج العقل، ولذلك علق به التكليف، والتكليف إنما يقوم على

القابلية على فهم الخطاب الشرعي وأحكام الشريعة، والإفتاء يحتاج إلى قدر أكبر من الفهم، فيسلتزم العقل من باب أَوْلَى، ولهذا ما علمنا أنَّ أحدًا أفتى أو تصدَّى للإفتاء وهو دون البلوغ، ولا ينتقض قولنا بصحة تحمّل الحديث الشريف قبل سن البلوغ، بل وصحة روايته أيضًا عند بعض العلماء؛ لأنَّ تحمل الحديث يقوم على القدرة على حفظ المسموع وضبطه، وروايته مبنية على القدرة على الأداء، كما سمع وحفظ، وهذه القدرة يتصوّّر وجودها فيمن هو دون سن البلوغ، أمَّا الإفتاء فيقوم على إدراك معاني الشريعة وفهم أحكامها، وهذا لا يتأتى عادة لمن هو دون سن البلوغ. الشرط الثالث: العدالة 204- ويشترط في المفتي أن يكون عدلًا، والعدالة هيئة يكون عليها المسلم، من مقتضياتها ولوازمها فعل المطلوب شرعًا وترك المنهيّ عنه شرعًا، وهجر ما يخرم المروءة ويوقع في التهم والشكوك، وأن تكون أخلاق صاحبها وسلوكه على النحو اللائق بعلماء الإسلام، ولا يعني ما قلنا اشتراط العصمة من الذنوب حتى تتحقق العدالة بعلماء الإسلام، وإنما المقصود أن تكون أحوال المسلم العدل ظاهرة الحسن والطاعة للشرع، فلا يفعل كبيرة إلّا على وجه الندرة أو الخطأ أو غلبة الطبع، ولا يصدر على صغيرة، فهو يجتهد ليكون سلوكه كله وفق مقتضيات العدالة، وإن انحرف عنها الغالبة فيه، ولا يصدر عنه ما يعتبر قادحًا في عدالته إلّا على وجه الندرة أو الغفلة مع الخلوص من الإصرار على المعصية. هذا وإنَّ ما يناقض العدالة ليس على درجة واحدة من القبح وشدة المناقضة، ولهذا كان بعضها مسقطًا للعدالة دون بعض، فالمسقط منها مثل القول على الله ورسوله بغير علم، إما عن طريق الابتداع في الدين، أو بالتأويلات الفاسدة الظاهرة الفساد والبطلان، ومثل مجاراة الظَّلَمَة والإفتاء لهم بما يشتهون، وأخذ الرشوة ونحو ذلك، وغير المسقِط للعدالة مثل ارتكاب الصغيرة من المعاصي وعدم الإصرار عليها. الشرط الرابع: الاجتهاد 205- ويشترط في المفتي كما ذكر العلماء: أن يكون فقيهًا مجتهدًا، والمجتهد هو

من قامت فيه أهلية معرفة الأحكام الشرعية التفصيلية من أدلتها المعتبرة عن طريق البحث والاستنباط، مع إحاطته بالأمور الضرورية للاجتهاد، ولا يشترط لثبوت هذه الأهلية كثرة الاجتهاد واستخراج الأحكام، بل يكفي وجودها، ولا يشترط كثرة عملها وفعاليتها؛ لأن المنظور إليه وجود هذه الأهلية بوجود مقوماتها التي ذكرناها، وهي القدرة على البحث واستخراج الأحكام ومعرفتها عن طريق الاستدلال من مصادرها المعتبرة. إنَّ مثل صاحب هذه الأهلية مثل الشاعر الذي قامت فيه ملكة نظم الشعر وأهليته، فهو شاعر سواء أكثر من نظم الشعر أو لم يكثر. أقسام المجتهدين: 206- هذا وإنَّ العلماء وهم يتكلمون عن الاجتهاد كشرطٍ في المفتي، قسَّموا المجتهدين إلى أقسام، وبينوا من يصلح من هذه الأقسام للإفتاء، فقالوا: قد يكون المجتهد مجتهدًا مطلقًا، أو مجتهدًا في مذهب معين، أو مجتهدًا في نوعٍ من العلم، أو مجتهدًا في مسألة أو مسائل معينة، فلا بُدَّ من التعريف بهؤلاء، وبيان من يصلح منهم للإفتاء ومن لا يصلح. أولًا: المجتهد المطلق 207- وقالوا في تعريفه: إنَّه "من حفظ وفهم أكثر الفقه وأصوله وأدلته في مسائله إذا كانت له أهليِّة تامَّة يمكنه بها معرفة أحكام الشرع بالدليل وسائر الوقائع إذا شاء، فإن كثرت إصابته صلح -مع بقية الشروط- أن يفتي ويقضي، وإلّا فلا" وقالوا: إنَّ الاجتهاد المطلق لا بُدَّ لتحصيله من توافر المعرفة الجيدة بالكتاب والسنة، وما ورد فيهما مما يتعلق بالأحكام، وأن يعرف الأمر والنهي، والمجمل والمبيّن، والمحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، والمستثنى والمستثنى منه، وتوافر المعرفة الجيدة بالسنة النبوية الشريفة؛ بحيث يستطيع المجتهد التمييز بين صحيح السنة وسقيمها، ومراتب ما روي منها، وطرق الاحتجاج بها، وغير ذلك مما هو ضروري ولازم لمعرفة الحكم الشرعي من القرآن الكريم والسنة المطهرة. وقالوا أيضًا: لا بُدَّ للمجتهد المطلق أن يعرف ما أجمع عليه الفقهاء، وما اختلفوا فيه، وأن يعرف القياس وشروطه، وأن يكون على قدر كافٍ من المعرفة باللغة العربية وأساليبها ونحوها وصرفها.

ولا خلاف بين العلماء في أنَّ المجتهد المطلق أهل للإفتاء، وأنه يصلح أن يكون مفتيًا. ثانيًا: المجتهد في مذهب معين 208- ولهذا المجتهد أربعة أحوال، ولكلِّ حالة حكمها، كما قال العلماء: الحالة الأولى: أن يتبع إمام مذهبه في مناهج البحث والاستدلال والاستنباط، ولكن لا يقلده فيما وصل إليه هذ الإمام باجتهاده من أحكام تفصيلية، ولمثل هذا المجتهد الحق في أن يكون مفتيًا. ومن هذا النوع الإمام أبو يوسف والإمام محمد صاحبا أبي حنيفة -رحمهم الله تعالى جميعًا، والقاضي أبو يعلى الحنبلي في المذهب الحنبلي، والمزني وابن سريج في المذهب الشافعي. الحالة الثانية: أن يكون مجتهدًا في مذهب إمامه مستقلًّا بتقريره بالدليل، ولكن لا يخرج على أصول إمامه وقواعده مع قدرته على التخريج والاستنباط وإلحاق الفروع بالأصول التي قررها إمامه، ولصاحب هذه الحالة الأهلية لِأَنْ يكون مفتيًا، ويعتبر مستفتيه مقلدًا لإمامه وليس مقلدًا له؛ لعدم استقلال هذا المجتهد المفتي بتصحيح نسبة من يقوله إلى الشرع الشريف رأسًا بلا واسطة إمامه، ولكن قد يكون لهذا المجتهد نوع من الاستقلال بالفتوى، كما في إفتائه في مسألة لا يجد لها حكمًا منقولًا عن إمامه، فيفتي عن طرق التخريج على مذهب إمامه، والتفريع على أقواله في المسائل المشابهة لهذه المسألة التي يفتي فيها، ولكن هل ينسب ما يقوله هذا المجتهد في فتواه إلى إمامه، فيكون من مذهب هذا الإمام، أم أنه ينسب إلى المجتهد نفسه، ويعتبر من قوله واجتهاده؟ فيه خلاف، والظاهر أنَّه تصح النسب إلى الاثنين، ولكن باعتبارين، فينسب القول إلى إمام مذهبه باعتباره مخرجًا على أصول هذا الإمام، وعلى هذا يكون المستفتي مقلدًا لهذا الإمام، كما يمكن نسبة ما يقوله هذا المفتي إلى نفسه باعتبار أنه هو الذي قام بالإفتاء، وإن كان عن طريق التخريج على أصول إمامه، وعلى هذا يكون المستفتي مقلدًا لهذا المجتهد فيما يفتيه به غير مقلد لإمامه. الحالة الثالثة: أن لا يصل المجتهد إلى مرتبة أصحاب الحالة الثانية، وإنما يقف عند رتبة أصحاب الوجوه والتخريج في المذهب، مع حفظه لفقه مذاهب إمامه ومعرفته

بأدلته وقدرته على تقرير أقواله ونصرتها والاستدلال لها، كما أنه قادر على الترجيح بين أقول إمامه المذكورة في المذهب. ولصاحب هذه الحالة الحق في الإفتاء وأن يصير مفتيًا، وتكون فتواه مقبولة وإن لم تبلغ فتوى أصحاب الحالة الثانية. الحالة الرابعة: أن يكون قادرًا على فهم فقه مذهبه مع حفظٍ لهذا الفقه أو لأكثره، ويفهم ضوابطه وتخريحات أصحابه، ويستطيع الرجوع إلى مصادر هذا المذهب. ولصاحب هذه الحالة أن يفتي وأن يصير مفتيًا، ولكن في المسائل التي بَيِّنَ أحكامها أصحاب المذهب والمجتهدون فيه، وكذلك له الإفتاء فيما يندرج تحت ضابط مفهوم وواضح من ضوابط المذهب. ثالثًا: المجتهد في نوعٍ من العلم 209- وقد مثَّلوا لهذ النوع بقولهم: من عرف القياس وشروطه فله أن يفتي في مسائل القياس، وكذلك من عرف الفرائض والمواريث وأصولها وقواعدها أن يفتي فيها. ويبدو لي أنَّ مثل هذا المجتهد لا يصلح أن يعيِّنَ مفتيًا؛ لأن المفتي لا يفتي فقط في هذا النوع من العلم الذي علمه، ولكن له أن يفتي فيما علمه دون أن يعيِّن مفتيًا. رابعًا: المجتهد في مسألة أو مسائل معينة 210- وهو من كان مجتهدًا في مسألة معينة أو مسائل معينة من الفقه، فله أن يفتي فيها دون غيرها، ويبدو لي أنَّ مثل هذا لا يصلح أن يعيِّنَ مفتيًا، وإن جاز له الإفتاء في المسائل التي علمها واجتهد فيها. الخلاصة والترجيح: 211- والخلاصة: إنَّ مدار الأهلية للإفتاء هو العلم المقبول بما يفتي به، وهو المبني على المبحث ومعرفة الدليل والاجتهاد فيه، فكل من حصل على مثل هذا العلم في مسألة من المسائل كان له أن يفتي فيها، وهذا متوجّه على القول بتجزئ الاجتهاد، وهو من نرجّحه. كل من جهل حكم مسألة فليس له أن يفتي فيها وإن كانت عنده

أهلية الإفتاء من حيث الجهة، هذا من جهة الصلاحية للإفتاء في مسألة معينة، أمَّا من جهة صلاحية التعين في منصب الإفتاء، أي: في أن يعيِّنَ مفتيًا، فهذا المنصب يحتاج إلى أهلية الاجتهاد على النحو الذي ذكره العلماء، ولا تلازم بين الأهليتين بالنسبة للإفتاء في مسألة معينة، فقد يكون الشخص مجتهدًا الاجتهاد الذي يؤهله للتعيين في منصب المفتي، ويعيِّن فعلًا في هذا المنصب، ولكن لا يكون أهلًا للإفتاء في مسألة معينة لجهله بحكمها، أو لعدم وصوله إلى معرفة حكمها، وقد يكون الشخص أهلًا للإفتاء في مسألة معينة أو مسائل معينة، ولكن ليس أهلًا لأن يعيِّنَ مفتيًا للناس. شروط أخرى: 212- وقد اشترط العلماء شروطًا أخرى في المفتي ليتمكَّن من أداء وظيفته على نحوٍ جيد وسليم، فقالوا: يشترط فيه أن يكون على قدر كافٍ من اليقظة وجودة الذهن والمعرفة بالناس ومكرهم وخداعهم، حتى لا يقع في هذا الخداع وذلك المكر، وأن يكون صلبًا في دينه لا تأخذه في الحق لومة لائم، وأن لا يتأثر بوعد أو وعيد، وأن يكون على قدرٍ كبير من الورع والزهد ومخافة الله تعالى. ولا شكَّ أن هذه الشروط ضرورية للمفتي، ولا يسد مسدها أو يقوم مقامها مجرَّد علمه وعدالته الظاهرة، ولكن هذه الصفات لا يمكن معرفتها على وجه جيد إلّا بالعمل وممارسة الإفتاء فعلًا، ولهذا يصعب جدًّا معرفتها ابتداءً إذا أريد تعيين شخص ما في منصب الإفتاء، وعلى هذا يجب على ولي الأمر عند إرادته اختيار شخص ليعينه مفتيًا أن يتحرَّى عن سلوكه وأحواله، والسؤال عنه مِمَّن يعرفه، ويثق بأخباره قبل الإقدام على تعيينه. وجوب وجود المفتي: 213- وجود المفتي الكفء المستجمِع لشروط الإفتاء من فروض الكفاية، فيجب أن يوجد في كل قرية أو بلدة مفتٍ يقوم بإفتاء الناس فيما يسألون عنه من أمور الدين، أو يعلمهم بها ابتداءً دون أن يسألوه، وقد قال بعض العلماء: يجب تعدد المفتين بحيث يكون في كل مسافة قصر -أي: المسافة التي تقصر فيها الصلاة- مفتٍ واحد. ولأهمية وجود المفتي في البلد، قال العلماء: إذا لم يوجد مفتٍ في مكانٍ ما حرِّم السكن

فيه، ووجب الرحيل منه إلى حيث يوجد من يفته في أحكام الدين، وما ينزل به من نوازل. العمل على إيجاد المفتين: 214- وإذا كان وجود المفتي من فروض الكفاية فيجب العمل على إيجاده باتخاذ الوسائل الضرورية لذلك، ولهذا قال الإمام ابن حزم "فرض على كل جماعة مجتمعة في قرية أو مدينة أو حصن أن ينتدب منهم من يطلب جميع أحكام الديانة أولها عن آخرها، ويتعلم القرآن كله، وما صحَّ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من أحاديث الأحكام ... إلخ، ثم يقوم بتعليمهم، فإن لم يجدوا في محلتهم من يفقههم في ذلك كله، ففرض عليهم الرحيل إلى حيث يجدون العلماء المجتهدين في صنوف العلم وإن بعدت ديارهم، وإن كانوا بالصين، فالجماعة إذن تهيئ من يتعلم أحكام الدِّين ويتفقه فيه، ثم يقوم بتعليم الجاهلين ابتداءً أو يفتيهم عمَّا يسألون. 215- وحيث إنَّ ولي الأمر يمثل جماعة المسلمين وينظر في مصالحهم، فعليه أن يقوم بواجب إيجاد المفتين الأكفاء بتهيئة الوسائل الضرورية اللازمة لذلك، مثل تأسيس المدارس لتعليم الفقه، واختيار الطلبة، وتخصيص المال اللازم لهم حتى يكملوا تحصيلهم العلمي، ثم يعيِّنهم في مناصب الإفتاء، ويجعل لهم رواتب كافية تغنيهم عن الكسب، وتعينهم على التفرغ للإفتاء. منع المفتي الماجن والمفتي الجاهل: 216- ولوليِّ الامر أن يمنع المفتي الماجن والمفتي الجاهل من الإفتاء، سواء كان هذا المفتي قد عَيِّنه ولي الأمر أو أنَّه يقوم بالإفتاء بلا تعيين، فإن كان قد عينه فله أن يعزله عن منصبه ويولي غيره من الأكفاء، وإن كان يفتي الناس بلا تعيين من ولي الأمر منعه من الإفتاء، وتوعده إذا عاد، والمفتي الماجن هو الذي يفتي الناس بما يشتهون، فيُحِلّ لهم الحرام ويحرِّم عليهم الحلال بالشُّبَه الباطلة والتأويلات الفاسدة إرضاءً لهم واتباعًا لأهوائهم، أمَّا المفتي الجاهل فهو الذي يجهل أحكام الإسلام فيفتي بغير علم، وكلاهما -الماجن والجاهل- لا يصلح لمنصب الإفتاء، ومن لا يصلح للإفتاء يجب منعه فيه، قال الفقيه ابن نجيم الحنفي: "ينبغي للإمام أن يسأل أهل العلم المشهورين في

عصره عمَّن يصلح للفتوى؛ ليمنع من لا يصلح، ويتوعَّده بالعقوبة إذا عاد"، وقال الشافعية والحنابلة: ينبغي للإمام أن يتصفَّح إحوال المفتين، فمن صلح للفتيا أقرَّه، ومن لا يصلح منعه ونهاه أن يعود، وهدده بالعقوبة إذا عاد، وهذا الكلام ينطبق على المفتين الذين يباشرون الإفتاء بلا تعين من ولي الأمر، ولكن إذا كان لولي الأمر منع هؤلاء لعدم صلاحهم، فله من باب أوْلَى أن يعزل المفتي الذي عينه إذا ظهر أنَّه غير كفء للإفتاء لمجونه أو جهله. كفاية المفتي من بيت المال: 217- ويحلّ للمفتي أن يأخذ من بيت المال ما يكفيه؛ لأنه يقوم بالإفتاء، وهو من المصالح العامة كالأذان، ولهذا يجوز لولي الأمر أن يخصص مرتبًا شهريًّا للمفتي من بيت المال بالقدر الذي يكفيه ويغنيه عن الكسب؟ ضمان المفتي: 218- إذا أفتى المفتي مستفتيه بفتوى معينة فتعلّم بها وأدى علمه إلى إتلاف نفس أو مال، وحكم على المستفتي بالضمان، فهل يرجع على مفتيه بما ضمن أم لا؟ ينظر، فإن كانت فتوى المفتي باطلة بالضمان قطعًا لمخالفتها للنص القاطع أو الإجماع الظاهر، كان للمستفتي أن يرجع بما ضَمِن على المفتي؛ لأنه هو المتسبِّب في ذلك، وإن كانت فتوى المفتي سائغة، ولم يضمن المفتي شيئًا، لا يكون للمستفتي أن يرجع بما ضمن، أمَّا إذا كان المفتي غير أهل للافتاء فإنه يضمن مطلقًا؛ لأنه غرَّ من استفتاه، ومعنى ذلك أنَّ للمستفتي أن يرجع عليه بما ضمن، وقيل: لا يضمن ولا يكون للمستفتي حق الرجوع عليه؛ لأن المستفتي هو المقصِّر؛ إذ سأل من لا يصلح للإفتاء. واجبات المفتي وآدابه: 219- على المفتي أن يعلم أنَّ ما يقوله ويفتي به دِينٌ يحاسب عليه أمام الله تعالى، ولهذا يجب عليه أن يطيل النظر والفكر ولا يسرع في الإجابة، وإذا لم يعرف الجواب فليقل: لا أدري، فإن نصف العلم لا أدري، وقد كان الإمام مالك يسأل عن مسائل فيقول عن بعضها أو أكثرها: لا أدري، فقد روى الهيثم بن جميل قال: شهدت مالكًا سئل عن ثمان وأربعين مسألة، فقال في ثنتين وثلاثين منها: لا أدري. وعن عبد الله

ابن مسعود وابن عباس -رضي الله عنهما: من أفتى عن كل ما يسأل عنه فهو مجنون. 220- هذا وينبغي للمفتي أن يلاحظ عرف البلد وعاداته؛ ليعرف مقصود المستفتي، وإذا لم يفهم السؤال من السائل عن مراده، وإذا جهل لغته كفاه ترجمة واحة ثقة، كما ينبغي للمفتي أن يشاور الفقهاء الحاضرين في موضوع الاستفتاء إذا رأى حاجة لذلك، وأن يتحرَّز من الميل في إفتائه إلى المستفتي أو إلى خصمه، فيبيِّن في فتواه ما لأحدهما من حقٍّ دون أن يبيِّن ما عليه من واجب. 221- وعلى المفتي، كما قال العلماء، أن يقدِّم رقاع الفتوى حسب تسلسل تقديمها، فيجيب على استفتاء الأسبق ثم الذي يليه، وهكذا، ولكن يجوز تقديم استفتاء المسافر والمرأة إذا كان تأخير الجواب يضرّ بهما. 222- وعلى المفتي أن يبتعد عن مظانِّ التُّهَم والريب ليكمن قوله مقبولًا عند المستفتي وغيره، وأن لا يقبل هدية ممن يستفتيه لئلَّا يجره ذلك إلى التساهل معه في الفتيا دون أن يشعر. 223- وعلى المفتي أن يكون لينًا متواضعًا لا فظًّا، وأن يُقْبِلَ على المستفتي بلطف وبشاشة، وإذا رآه بطيء الفهم فليترفَّق به حتى يفهمه الجواب، وأخيرًا فإنَّ المفتي من حملة العلم، فيجب أن يكون له حلم ووقار وسكنية وسمت على النحو اللائق بالعلماء.

المطلب الثالث: الإفتاء

المطلب الثالث: الإفتاء تعريفه: 224- الإفتاء هو قيام المفتي بجواب المستفتي، وهو في حقيقته تبليغٌ عن الله تعالى، وإخبار عمَّا شرعه لعباده من أحكام. أول من قام به: 225- وأوّل ما قام به سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم، فكان إفتاؤه -عليه الصلاة والسلام- متضمنًا جوامع الكلم، ومشتملًا على فصل الخطاب. الإفتاء بعد النبي -صلى الله عليه وسلم: 226- ثم قام بالإفتاء بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- صحابته الكرام، وكان منهم المكثِر في إفتائه والمتوسِّط والمُقِلّ، والذين حفظت عنهم الفتوى مائة ونيف وثلاثون نفسًا، ما بين رجل وامرأة، والمكثرون منهم في الإفتاء سبعة: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وعائشة أم المؤمنين، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر -رضي الله عنهم أجمعين. من له حق الإفتاء: 227- أولًا: كلُّ من كان أهلًا لِأَنْ يكون مفتيًا كان أهلًا لِأَنْ يفتي، سواء عُيِّنَ مفتيًا أم لم يعيِّن، وقد بيّنَّا من قبل شروط المفتي. ثانيًا: من كان مجتهدًا في نوع العلم أو في مسألة من مسائل الفقه كان له أن يفتي في هذه المسألة أو ذلك النوع من العلم. ثالثًا: مقلدة المذاهب، فمن قلَّد مذهبًا وحفظه وعرف ما قاله أصحابه، فله أن يفتي بما قالوه، على أن يقول في جوابه ما يدل على أنَّه قول أو رأي هذا المذهب، فيقول مثلًا: مذهب أبي حنيفة في هذه المسألة كذا وكذا، وإذا ترقَّى في المعرفة بأصول المذهب وقواعده، وسئل عن مسألة تندرج تحت قاعدة من هذه القواعد، فعليه أن يقول: مقتضى مذهب أبي حنيفة مثلًا في هذه المسألة كذا وكذا. العاميّ إذا عرف حكم المسألة: 228- وإذا عرف العامي حكم مسألة من المسائل ودليلها، فهل له أن يفتي من سأله عنها؟ قال بعضهم: يجوز له ذلك، وقال آخرون: يجوز إن كان دليل المسألة نصًّا من كتاب الله أو سنة نبيه، وقال بعض آخر: لا يجوز للعاميّ أن يفتي مطلقًا، ولو في مسألة عرف حكمها ودليلها؛ إذ قد يكون لهذا الدليل معارض يجهله هو. ولكن لو أفتاه عالم بحكم مسألة، ثم سُئِلَ عنها، فله أن يخبر بحكمها عمَّن أخبره؛ لأنَّ الافتاء إنما يكون باجتهاد من نفسه لا بالحكاية عن غيره، هذا ما قالوه، والظاهر لي أنَّ العامي إذا عرف حكم مسألة بطريق من طرق المعرفة المعتبرة شرعًا، فلهذا العامي أن يفتي غيره بها، وإن كان الأحوط أن ينقل له نص فتوى من أفتاه بها.

هل يفتي العامي بما يجده في كتب الحديث: 229- ومن لم يكن مجتهدًا وكان عند كتب الحديث وشروحه وأقوال الصحابة، فهل له أن يفتي بما يجده في هذه الكتب أم لا؟ قال عبد الله: سألت أبي -أي: الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله تعالى- عن الرجل تكمن عنده الكتب المصنّفة، فيها قول الرسول -صلى الله عليه وسلم، واختلاف الصحابة والتابعين، وليس للرجل بصر بالحديث الضعيف المتروك، ولا بالإسناد القوي من الضعيف، فهل يجوز له أن يعمل بما شاء، ويتخيِّر ما أحبَّ مما يجده في الكتب فيفتي ويعمل به؟ قال -أي: الإمام أحمد بن حنبل: لا يعمل حتى يسأل أهل العلم عمَّا يأخذ به منها، حتى يكون علمه على وجه صحيح. هل يشترط إذْنُ الإمام للقيام بالإفتاء: 230- من كان أهلًا للإفتاء وعيِّن مفتيًا فلا خلاف في جواز الإفتاء له، بل ووجوبه عليه؛ لأنه ما عُيِّن إلّا لذاك، أمَّا من كان أهلًا للإفتاء ولم يعيِّن مفتيًا، فله أن يفتي دون حاجة لإذن مسبَّقٍ من ولي الأمر؛ لأنّ الإفتاء إخبار عن شرع الله، وتبليغ لأحكامه، فهو إذًا من الواجبات الدينية بالنسبة للقادرين عليه، ولا يشترط للقيام بالواجب الديني أخذ الإذن من ولي الأمر، وإن كان ولي الأمر حق مراقبة القائمين بالإفتاء، ولكن حقه هذا في المراقبة لا ينسحب إلى وجوب أخذ الإذن المسبَّق منه للقيام بالإفتاء، وما علمنا أحدًا كان يأخذ الإذن من الإمام أو من ولي الأمر قبل أن يفتي الناس، كما لم نعلم أن أحدًا من أهل العلم قال: إنَّ الإفتاء مقصور على من يعينهم ولي الأمر مفتين. التصدي للإفتاء: 231- وإذا كان إذن الإمام أو ولي الأمر ليس شرطًا لثبوت حق الإفتاء للمسلم كما قلنا، إلّا أنه يجب على من يتصدَّى للإفتاء أن يتأكَّد من أهليته له، ولا يتسرَّع في الوثوق من أهليته وكفاءته، ومن سُبل التأكد من أهليته شهادة أهل العلم له بالأهلية، بالإضافة إلى ما يعرفه من نفسه، قال الإمام مالك: لا ينبغي للعالم أن يفتي حتى يراه الناس أهلًا لذلك، ويرى هو نفسه أهلًا لذلك، وقول الإمام مالك: "حتى يراه الناس

أهلًا لذلك" محمول على شهادة العلماء له بالأهلية وشيوع شهادتهم له في الناس. خلوص النية والقصد عند الإفتاء: 2321- فإذا وثق المسلم من أهليته للإفتاء بشهادة أهل العلم له، وبما يعرف من نفسه، فعليه أن يفحص نيته جدًّا حتى تكون خالصة لله؛ بحيث لا يقصد من تصديه للإفتاء والقيام به إلّا تبليغ شرع الله وتعليم الناس ما أنزل الله ابتغاء مرضاة الله، فهو لا يريد بإفتائه مباهاة العلماء وحصول المنزلة عند الناس، وبهذا القصد الحسن والنية الخالصة يبارك الله في مسعاه، ويعلمه ما لم يعلم، ويثيبه على إفتائه. على من يجب الإفتاء: 233- وقد يصير الإفتاء واجبًا على من هو أهلٌ فيه في حالتين: الحالة الأولى: الإفتاء واجب في حقِّ من عينه ولي الأمر مفتيًا ورضي بهذ التعيين. ولكن يجب أن يعرف بأنَّ هذا الوجوب لا يعني وجوب الإفتاء عليه في كلِّ ما يسأل عنه، وإنما يعني وجوب النظر في موضوع الاستفتاء وإرادته الإفتاء، فإذا عرف حكم المسألة المسئول عنها أفتى فيها، وإذا لم يعرف قال: لا أعرف، ولا يجوز إلزامه بالإفتاء فيما يجهله. الحالة الثانية: إذا كان أهلًا للإفتاء ولم يعيِّنه ولي الأمر مفتيًا، ولا يوجد غيره يفتي الناس، فإنَّ الإفتاء يتعيِّن عليه إذا استفتاه أحد في مسألة شرعية وقدِر على الجواب. على من يحرم الإفتاء: 243- ويحرم الإفتاء على الجاهل؛ لأنَّ الإفتاء إخبار عن شرع الله، فلا يجوز إلّا بعلم، قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} . فالإفتاء بغير علم ضلال وإضلال للغير، وكل ذلك حرام، وكما يحرم على الجاهل الإفتاء يحرم الإفتاء على الماجن والذي لا يبالي بما يفتي وبما يقول. على من يكره الإفتاء: 235- اختلف الفقهاء في حكم الإفتاء بالنسبة للقاضي، فقال بعضهم: يكره

الإفتاء للقاضي في مسائل الأحكام التي ينظرها مخافة أن يجبن عن الرجوع عمَّا أفتى به إذا ترجَّح عنده وقت المحاكمة ضد ما أفتى به، قال القاضي شريح: أنا أقضي لكم ولا أفتي، ولكنَّ للقاضي أن يفتي في مسائل العبادات كالصلاة والصيام، وقال الحنفية: للقاضي أن يفتي من لم يخاصم إليه، ولا يفتي أحد الخصمين فيما خوصِمَ إليه. وقال بعض الفقهاء: للقاضي أن يفتي ما دام أهلًا للإفتاء، ولم يقيدوا هذا الجواز بشيء. 236- والراجِح عندي هو القول الأوّل، ولكن بشرط أن يتعيِّن عليه الإفتاء، فإن تعيِّنَ عليه الإفتاء فعليه أن يفتي وإن كان قاضيًا، ولو في مسألة ينظر فيها قضاءً، وإن كان السائل أحد الخصوم؛ لأن المستفتي إذا علم أن الحق لخصمه فقد يترك المخاصمة ويسلّم الحق له، ولا خوف من هذا الإفتاء؛ لأن المفتي يبيّن الحكم على فرض ثبوت الوقائع عند المستفتي، أمّا القاضي فإنه وإن كان يطبِّق نفس الحكم الذي يفتي به، ولكن بشرط أن يثبت الوقائع أمامه بالطرق الشرعية، فإذا عجز صاحب الحق عن إثبات حقِّه أمام القاضي فإنَّ القاضي لا يحكم له به على خصمه، وإن كان يفتي له به على سبيل الفتوى. التهيب من الإفتهاء: 237- الإفتاء وإن كان تبليغًا لشرع الله وقيامًا بواجب ديني، إلّا أن صاحبه معرَّض للخطأ، ومن هنا كان السلف الصالح يتهيبون من الإفتاء مع صلاحيتهم له، ويود كل واحد منهم أن يقوم غيره به، بل وكان كل واحد منهم أو أكثرهم يحيل الإفتاء إلى غيره ليكفيه مؤنته ويجنبه خطره، قال عبد الرحمن بن أبي ليلى: أدركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم، يسأل أحدهم عن المسألة فيردها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتى ترجع إلى الأول. وفي رواية أخرى: ما منهم من يحدِّث بحديث إلّا ودَّ أنَّ أخاه كفاه إياه، ولا يُسْتَفْتَى عن شيء إلذا ودَّ أنَّ أخاه كفاه الفتيا. وقال الإمام أبو حنيفة -رحمه الله تعالى: لولا الخوف من الله تعالى أن يضيع العلم ما أفتيت، يكون لهم المهنأ وعليَّ الوزر. الجرأة على الإفتاء: 238- وإذا كان التهيّب من الإفتاء مسلكًا حميدًا عرف به السلف الصالح، فإن

الجرأة على الإفتاء وجدت أيضًا في السلف الصالح، ولهذا كان بعضهم كثير الفتيا، ولا تتأتى الكثرة في الفتيا مع التهيّب من الإفتاء عادة، فكيف نوفِّق بين التهيب من الإفتاء -وهو مسلك حميد، والجرأة عليه، وقد وجد المسلكان في السلف الصالح دون نكير؟ التحقيق في المسألة أنَّ التهيب من الإفتاء قد يكون سببه كثيرة المفتين وعدم تعيين الإفتاء على المسئول، وهذا ما كان واقعًا وغالبًا في السلف الصالح، أمَّا الجرأة على الإفتاء فقد يكون سببها قلة العلم، كما قد يكون سببها سعة العلم، وابتلاء صاحبه بكثرة السائلين. أمَّا السبب الأول للجرأة، وهو قلة العلم؛ حيث يندفع من قلَّ عمله إلى الجواب عن كل مسألةٍ مخافةَ أن يُتَّهَم بالجهل، فهذا -ولله الحمد- لم يقع في السلف الصالح، أمَّا السبب الثاني للجرأة وهو سعة العلم وابتلاء المسئول بكثرة السائلين، فهذا قد وقع في السلف الصالح، ولهذا عُرِف من كثرت فتواه، وبسبب هذة الكثرة عرف بالجرأة على الإفتاء، وهذه بلا شكٍّ جرأة محمودة غير مذمومة، ولهذا كان ابن عباس -رضي الله عنهما- من أوسع الصحابة إفتاءً، وجمعت فتواه في عشرين سفرًا، وكان سعيد بن المسيب في التابعين واسع الفتيا، وكانوا يسمّونه سعيد بن المسيب الجريء. الامتناع عن الإفتاء: 239- وقد يكون الشخص أهلًا للإفتاء غير متهيِّب منه، ولكن يرى أن يوجد ما يدعوه إلى الامتناع عن الإفتاء، فيجوز له ذلك الامتناع، ومن هذه الحالات: أ- قد يسأل المستفتي عن أمر شرعي وتدلّ القرائن للمفتي المتيقِّظ أنَّ مراد المستفتي التوصُّل بالفتوى إلى غرض فاسد. ب- قد يسأل العاميّ عن مسألة عويصة لا يستطيع إدراكها، وليس هي من المسائل التي يلزمه معرفة حكمها، فيمتنع المفتي عن الإجابة لئلَّا يوقعه في الحيرة والفهم الفاسد. ج- إذا كان موضوع الاستفتاء حادثة لم تقع بعد، فيمتنع المفتي عن الإجابة اتباعًا لمسلك بعض السلف في الامتناع عن الإفتاء فيما لم يقع بعد، مخافة أن يتبدَّل اجتهاده عند وقوع الحادثة. د- إذا كان المفتي في حالة يخشى فيها عليه من عدم التثبت والتأمّل في موضوع

الاستفتاء، كحال الغضب والجوع والعطش والهمِّ والخوف والمرض والحر الشديد وانشغال الفكر ومدافعة الأخبثين، ونحو ذلك من الظروف والأحوال. الأجرة على الإفتاء: 240- يجوز لمن يقوم بالإفتاء أن يأخذ عليه أجرًا من بيت المال؛ لأنَّ الإفتاء من المصالح العامَّة، وعلى هذا يجوز للإمام أن يخصِّصَ شيئًا لمن يقوم بالإفتاء من بيت المال، سواء كان ذلك العطاء لمن عينه مفتيًا أو لمن لم يعينه ولكنه يقوم بالإفتاء، وساء كان العطاء منظمًا في كل شهر أو متقطعًا، فإذا لم يكن لم يقم بالإفتاء رزق معين من بيت المال، فالأولى له عدم أخذ الأجرة على إفتائه، ولكن إذا كان انقطاعه للإفتاء يمعنه على الكسب، فله أخذ الأجرة، إلا أنَّه إذا تعيِّن عليه الإفتاء لم يجز له أن يأخذ أجرًا من المستفتي؛ لأنه اعتياض عن واجب عليه، وهذا لا يجوز حتى لو لم يكن عنده ما يكفيه، ومن المفيد أن أقوله هنا: لو أنَّ أهل بلد أو جماعة جعلوا لمفتهيم -غير المعيِّن من قِبَل ولي الأمر- رزقًا من أموالهم، كان ذلك حسنًا وجاز للمفتي أخذه. الإفتاء لمن لا تقبل شهادته للمفتي: 241- ويجوز الإفتاء لمن لا تقبل شهادته للمفتي، كأن يفتي الشخص لأبيه أو أمه أو زوجته أو شريكه؛ لأنَّ القصد من الإفتاء بيان الحكم الشرعي فقط، وليس فيه إلزام بخلاف القضاء.

المطلب الرابع: الفتوى

المطلب الرابع: الفتوى تعريفها: 242- هي نصّ جواب المفتي، أو هي حكم الشرعي الذي يخبر عنه المفتي بإفتائه. أساس الفتوى: 243- وما دامت الفتوى تتضمَّن حكم الشرع، فيجب أن تقوم على كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم، وما دلَّ عليه هذان الأصلان الكبيران من أدلة الأحكام كالإجماع. 244- أما الرأي فإن كان مقبولًا صلح أن يكون أساسًا للفتوى، وإن كان فاسدًا لم يصلح، والفاسد هو المخالف للكتاب والسُّنَّة، أمَّا الرأي المقبول فهو أنواع: الأول: رأي الصحابة الكرام لاعتماده على النظر السديد والفقه العميق والاستنباط الدقيق؛ لمشاهدتهم التنزيل، وصحبتهم للنبي الكريم -صلى الله عليه وسلم، ولما عرفوا به من جودة الذهن وإحاطةً بمقاصد الشرع ومعانيه. الثاني: الرأي الذي يفسِّر النصوص ويبيِّن دلالتها ويسهل الاستنباط منها، مثل رأي الصحابة في العول في الميراث. الثالث: ما قبلته الأمة من الآراء الفقهية، ويدخل في هذا النوع الأقيسة الصحيحة التي توافرت فيها شروط القياس الصحيح ولم تخالف النصوص. 245- وإذا كانت الفتوى تتضمَّن حكم الشرع، وبالتالي يجب أن تقوم على الكتاب والسنة وما دلت عليه نصوصهما، فمن البديهي أن لا تقوم الفتوى على الحيل المحرَّمة شرعًا، ولا على الشُّبَه الباطلة تحليلًا لحرام أو تحريمًا لحلال، قال -صلى الله عليه وسلم: "لعن الله اليهود والنصارى حُرِّمت عليهم الشحوم فجمَّلوها -أي: أذابوها- وباعوها وأكلوا ثمنها"، ولكن يجوز أن تقوم الفتوى على الترخّص المباح الذي يجوز للمستفتي أن يأخذ به، ويجوز للمفتي أن يفتي به، ودليل ذلك قوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} ، وفي الحديث الشريف: "إن الله يحب أن تؤخذ رخصه كما يحب أن تؤخذ عزائمه". تعلق الفتوى بموضوع الاستفتاء: 246- الأصل في الفتوى أن تكون متعلّقة بموضوع الاستفتاء مطابقة له؛ ليحصل المستفتي على بغيته من استفتائه غير خارجة عنه. 247- ولكن يجوز أن تكون الفتوى أوسع من موضوع الاستفتاء، بمعنى: إنها تتعلق به وبغيره، إذا رأى المفتي أنَّ في هذا التوسُّع فائدة للمستفتي، ودليل ذلك أنَّ بعض الصحابة الكرام سألوا النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ماء البحر، وهل يجوز التوضؤ به، فقال -صلى الله عليه وسلم: "هو الطهور ماؤه الحِلّ ميتته"، فأجابهم -صلى الله عليه وسلم- عن ميتة البحر ولم يسألوه عنها؛ لعلمه -صلى الله عليه وسلم- بفائدة بيان هذا الحكم لهم.

248- كما يجوز أن تكون الفتوى متعلقة بموضوع آخر غير موضوع الاستفتاء، وهذا يكون إذا رأى المفتي أنَّ الجواب على موضوع الاستفتاء لا يفيد المستفتي، أو لا يقوى على إدراكه وفهمه، فيحيد عن جواب سؤاله إلى بيان بعض ما يحتاجه المستفتي، ويدل على ذلك قوله -تبارك وتعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ} . وضوح الفتوى: 249- ولما كانت الفتوى تتضمَّن بيان حكم الشرع وتبليغه، فيجب أن تكون واضحة مفهومة؛ لأنَّ التبليغ يجب أن يكون بالأسلوب المبيّن، ولهذا قال تعالى في تبليغ الرسالة وقيام الرسول -صلى الله عليه وسلم- بهذا التبليغ: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} ، ويتأتَّى وضوح الفتوى باللغة السهلة والأسلوب المفهوم لدى المستفتي، بعيدةً عن الاصطلاحات التي لا يفهمها المستفتي، كما ينبغي أن تكون خالية من التردد وعدم القطع في الجواب، كأن يقول المفتي: في المسألة قولان؛ لأن المستفتي يريد الجواب القاطع الذي يقلد المفتي فيه، ويعمل بموجبه. ومن لوازم وضوح الفتوى وإيضاحها للمستفتي أن يمهد المفتي إذا كان فيها حكم مستغرب، حتى يزول هذا الاستغراب عند المستفتي بهذ التمهيد. الإيجاز والإطالة في الفتوى: 250- والوضوح في الفتوى لا يستلزم الإطالة بالضرورة، ولهذا كان الأصل في الفتوى الإيجاز والاختصار حتى تبدو وكأنَّها نص قانوني؛ لأنَّ الغرض من الفتوى بيان الحكم الشرعي في المسألة للمستفتي، وليس الغرض منها مناقشة الآراء وسوق الأدلة، وعلى هذا يجوز للمفتي ويسعه أن يقول في فتواه جوابًا للمستفتي: يجوز، أو لا يجوز. أو يقول: نعم، أو لا. 251- ولكن يجب أن يعلم أن الإيجاز في الفتوى لا يجوز إذا كان على حساب الإخلال بالبيان المطلوب والوضوح المطلوب، وعلى هذا يجب على المفتي أن يطيل في فتواه إذا كان ذلك لا بُدَّ منه لوضوح الفتوى وتخليصها من الإبهام والغموض، فمن

استفتى عن حكمِ مَنْ قال قولًا يكفِّر قائله، فلا يبادر المفتي بالقول: إنَّه حلال الدم، وإنما يجب أن يكون الجواب بشيء من التفصيل والإطالة، كأن يقول في الجواب: إذا ثبت ذلك عليه بالبينة الشرعية، أو بالإقرار، استتابه ولي الأمر، فإن تاب قبلت توبته، وإن أصر ولم يتب قُتل. وكذلك إذا سُئِل المفتي عن كلام يحتمل معنيين فليقل في فتواه: إن أراد المستفتي بكلامه كذا وكذا، فالحكم كذا، وإن أراد كذا، فالحكم كذا. 252- وإذا كان في المسألة تفصيل لم يطلق المفتي الجواب بل يفصله، وإذا كان السؤال يتضمَّن جملة مسائل فصلها المفتي وذكر مع كل مسألة الفتوى التي تخصها. ذكر دليل الفتوى: 253- ويجوز أو يندب للمفتي أن يذكر في فتواه الدليل الذي استند إليه، كأن يذكر نصًّا من كتاب الله أو سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم، أو إجماع الفقهاء، أو قياسًا جليًّا، وإذا كانت المسألة مما اختلفت فيها أنظار المجتهدين فيندب للمفتي أن يذكر في فتواه الأدلة التي جعلته يرجِّح أو يأخذ بفتواه هذه، كما يجوز للمفتي أن يناقش أدلة الآراء الأخرى التي لم يأخذ بها. وكذلك يندب ذكر الدليل إذا كانت هناك فتوى باطلة تتعلق بموضوع الاستفتاء حتى يعلم المستفتي وغيره دليل فتواه، وبطلان الفتوى السابقة. وما قلناه يفعله المفتي من تلقاء نفسه، أمَّا إذا سأله المستفتي عن الدليل، فقد قلنا فيما سبق: إنَّ على المفتي أن يجيبه ويذكر له الدليل. تغيُّر الفتوى بتغيُّر المكان والزمان: 254- والفتوى قد تتغيِّر بتغيُّر المكان والزمان، وهذا إذا كان الحكم الشرعي مبنيًّا على عرف بلد وتغيِّر هذا العرف، ولم يكن العرف الجديد مخالفًا للنصِّ الشرعي، أو كان الحكم الشرعي مبنيًّا على معنى معين وتغيِّر ذلك المعنى، كما في صدقة الفطر، فقد جاء الحديث الشريف بإخراج صاعٍ من تمرٍ أو شعيرٍ أو زبيبٍ أو أقط، وقد قال العلماء: يجوز إخراج صدقة الفطر من الذرة أو الأرز أو غيرهما إذا كانت هذه

الأصناف غالب أقوات البلد، وعلّل العلماء ذلك بأنَّ الأصناف الواردة في الحديث الشريف إنما جاءت لأنَّها كانت هي غالب أقوات أهل المدينة، ولم تأت على سبيل الحصر والتخصيص. وكذلك إذا كان الحكم الشرعي واردًا بالنسبة لمكانٍ معيِّن وزمان معين، فيجب الإفتاء فيه في ذلك المكان والزمان دون الإفتاء بالحكم العام، كالسرقة، الحد فيها هو قطع اليد، وهذا هو حكمها العام، ولكنَّ السرقة في الغزو في أرض العدو حكمها عدم القطع هناك، ولزوم تأحيل إقامة الحدِّ؛ لورود الحديث الشريف: "لا تقطع الأيدي في الغزو". وكذلك إذا كان الحكم ملحوظًا فيه تحقيق غرض معين، ورأي الفقيه المفتي أنَّ هذا الغرض لا يتحقق في موضوع الاستفتاء، فلا ينبغي أن يفتي به، مثل أن يستفتيه أحد في إزالة منكر معين باليد، ورأي الفقيه أنَّ أزالته يترتَّب عليه شرٌّ ومنكر أكبر من المنكر القائم، فينبغي له أن لا يفتيه بالحكم العام وهو إزالة المنكر باليد، ما دام المفتي يرى ترتب منكر أكبر من المنكر المزال، وهذا باب واسع يعتمد على فطنة المفتي وملاحظته الأحوال والأمكنة والأزمنة والظروف وحالة المستفتي. التشدد في عبارات الفتوى والحلف عليها: 255- ويجوز التشدد في عبارة الفتوى عند الحاجة أو المصلحة، فيقول المفتي في فتواه مثلًا: وهذا عليه إجماع المسلمين، أو لا أعلم فيه خلافًا، أو من خالف حكم هذه الفتوى فقد أثم وعصى الله تعالى، ونحو ذلك، كما يجوز الحلف على ثبوت الحكم الشرعي الوارد في الفتوى في بعض الأحيان، وفي الأمور الخطيرة، ما دام الحكم ثابتًا بدليلٍ قطعيٍّ، يدل على هذا الجواز قوله تعالى: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} . ما يراعى في كتابة الفتوى أو النطق بها: 256- والفتوى كما يجوز شفاهًا تجوز كتابة، وفي الحالتين ينبغي للمفتي أن يبدأ فتواه بالبسملة وحمد الله تعالى والصلاة والسلام علي نبيه -صلى الله عليه وسلم، وأن يختم فتواه بقوله: وبالله التوفيق، أو والله هو الموفق، أو والله أعلم.

257- وإذا كانت الفتوى مكتوبة فعلى المفتي أن يقارب سطورها وكلماتها، ولا يترك فواصل فيما بينها؛ لئلَّا يزوّر أحد عليه ويضيف إليها ما لم يقله، وأن تكون موصولة بآخر سطر من السؤال، وإذا ضاقت ورقة الاستفتاء عن الفتوى لطولها، فينبغي أن يكتب الجواب او يكمله في ظهر الورقة، ولا يكتبها في ورقة مستقلة منفصلة خوفًا من الاحتيال عليه. 258- وإذا كان في ورقة الاستفتاء فتوى مَنْ ليس أهلًا للفتوى، فللمفتي أن يشطب اسم صاحب هذه الفتوى وإن كانت صحيحة، أمَّا إذا كان الفتوى خطأ فيشطب اسمه ويشطب الفتوى، ولكن هذا الشطب يكون بإذن صاحب الاستفتاء، وإذا رفض فللمفتي أن يمتنع عن إعطاء الفتوى كتابة، وإنما يجيبه شفاهًا، والسبب في ذلك أنَّ في ذكر اسم المفتي مع اسم من سبقه وهو غير أهل للإفتاء تقريرًا للناس لما يتوهمونه من صلاحية وأهلية ذلك الشخص للإفتاء إذا رأوا اسمه مقرونًا باسم المفتي، أمَّا إذا كان اسم من سبقه أهلًا للإفتاء، ولكن كانت فتواه خطأ قطعًا فله شطبها بإذن صاحب الاستفتاء، إو إعادتها إلى صاحب الفتوى ليصحِّحها، أو ينبه على ما فيها من خطأ عندما يحرِّر فتواه، أمَّا إذا كانت سائغة فليس له أن يتعرَّض له بالشطب أو التخطئة، وإن خالفت اجتهاده. العمل بالفتوى: 259- والفتوى متى صدرت مِمَّن هو أهل للإفتاء عمل بها المستفتي، وكان في عمله هذا مقلدًا لصاحب الفتوى، ولكن إذا رجع المفتي عن هذه الفتوى قبل أن يعمل بها المستفتي وعلم برجوعه حرِّم عليه العمل بها، وعليه أن يعيد استفتاءه ويعمل بما يفتي به، وأمَّا لو عمل بالفتوى ثم رجع المفتي عن فتواه وعلم المستفتي برجوعه، فعلى المستفتي إعادة استفتائه والعمل بالفتوى الجديدة، حتى ولو استلزمت نقض عمله السابق ما دام هذا العمل له صفة الاستمرار، كما لو نكح من لم يجز له نكاحها بموجب فتوى سابقة رجع عنها صاحبها، ثم استفتى فأفتي بعدم الجواز، فإنه يفارق زوجته، هذا ما قالوه، ويبدو لي أنَّ هذا النقض إنما يكون إذا كانت الفتوى السابقة التي رجع عنها صاحبها باطلة قطعًا؛ لمخالفتها للدليل القاطع، أمَّا إذا كانت سائغة ورجع عنها صاحبها، وكان المستفتي قد عمل بها، فلا أرى وجوب نقض عمل المستفتي بها؛ لأنه

عمل بما هو سائغ، وبزعم شرعي. الفرق بين الفتوى والحكم: 260- هناك جملة فروق بين الفتوى التي تصدر عن المفتي وبين الحكم الذي يصدر عن القاضي، ومن هذه الفروق: أ- الفتوى تعتبر محض إخبار عن الله تعالى بما هو مطلوب شرعًا من المستفتي، أو بما هو مباح له، أما حكم القاضي فهو وإن كان إخبارًا عن حكم الشرع أيضًا، إلّا أنَّ فيه إلزامًا للمحكوم عليه بما تضمَّنه الحكم. ب- إنَّ كل ما يجري فيه حكم القاضي تجري فيه الفتوى أيضًا ولا عكس، فالعبادات تجري فيها الفتوى، ولكن لا يجري فيها حكم القضاء، فليس لحاكم أن يحكم أنَّ هذه الصلاة صحيحة أو فاسدة، أو أنَّ هذا الماء نجس لا يجوز الوضوء به، ولكن للمفتي أن يفتي في هذه المسائل ونحوها، ويلحق بالعبادات أسبابها، كما لو شهد شاهد أو شاهدان بهلال رمضان، وأثبت ذلك حاكم وأمر بإعلانه، فإن ذلك منه فتوى وليس بحكم، وهذا ما قاله المالكية. ج- فتوى المفتي أعظم خطرًا من حكم القاضي؛ لأنَّ الفتوى تعتبر شريعة عامَّة تتعلّق بالمستفتي وغيره، أمَّا حكم القاضي فهو خاصّ لا يتعدَّى إلى غير المحكوم عليه وله.

المبحث الرابع: نظام الحسبة

المبحث الرابع: نظام الحسبة مدخل ... المبحث الرابع: نظام الحسبة تمهيد: 261- قلنا فيما سبق: إنَّ المطلوب من المسلم أن تكون أفعاله وأقواله وفق المناهج الإسلامية، ولهذا أمر الله تعالى أهل العلم بتبليغ الناس أحكام الإسلام، وتعليمهم حدود ما أنزل الله، كما أمر -سبحانه وتعالى- من لا يعلم أن يتعلّم، ومن سُبل التعلُّم أن يسأل أهل العلم، ولهذا وجد في الإسلام نظام الإفتاء الذي تكملنا عنه. ومع هذا قد يبقى المسلم جاهلًا شرع الله، إمَّا لأنَّ تبليغ العلماء لم يصله، أو أنَّه قصَّر في تعلُّم ما يجب عليه تعلُّمه، كما لم يستفت أهل العلم فيما يهمه من أمور فيقع في المعصية ومخالفة الشرع بسبب جهله، وقد يعلم المسلم حدود ما أنزل الله، ومع هذا يقع في المعصية اتباعًا لهواه، والمعصية في الحالتين منكر ارتُكِبَ أو معروف هجر، والمنكر إذا وقع وجبت إزالته، والمعروف إذا هجر وجب الأمر به، وإزالة المنكر إذا ظهر فعله، والأمر بالمعروف إذا ظهر تركه هو أساس وملاك ما يعرف بالشريعة الإسلامية بنظام الحسبة، وهو ما نتكلم عنه في هذا المبحث. منهج البحث: 262- تسهيلًا للبحث وإحاطة بالموضوع نقسِّم هذا المبحث إلى خمسة مطالب: المطلب الأول: للتعريف بالحسبة وبيان مشروعيتها ومكانتها في الإسلام. المطلب الثاني: للكلام عن المحتسب. المطلب الثالث: للكلام عن المحتسب عليه. المطلب الرابع: للكلام عن المحتسب فيه. المطلب الخامس: للكلام عن نفس الاحتساب.

المطلب الأول: التعريف بالحسبة ومشروعيتها ومكانتها في الإسلام

المطلب الأول: التعريف بالحسبة ومشروعيتها ومكانتها في الإسلام معناها في اللغة: 263- الحبسة في اللغة تدلّ على العدِّ والحساب، ويقال: احتسب بكذا إذا اكتفى به، واحتسب على فلان الأمر أنكره عليه، واحتسب الأجر على الله ادخره لديه، والحسبة اسم من الاحتساب، والاحتساب يُسْتَعمل في فعل ما يُحْتَسب عند الله تعالى. معناها في الاصطلاح: 264- والحسبة عند الفقهاء "أمر بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله"، فهي إذن من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل إنَّ الفقهاء يسمِّون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر احتسابًا وحسبة ما دام القائم به يفعله ابتغاء مرضاة الله وما عنده من ثواب. دليل مشروعيتها: 265- دلَّ على طلب الشرع للحِسبَة القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، فكل آية وردت في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي دليل على مشروعية الحسبة وطلب الشرع لها، والواقع أنَّ القرآن الكريم دلَّ على طلب الحسبة بأساليب متنوعة، فطورًا يأمر بها، وتارةً يجعلها وصفًا لازمًا للمؤمنين، وسببًا لخيرة الأمة، وأنَّ الغاية من التمكين في الأرض والظفر بالسلطان والحكم هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تَرْك ذلك سبب لاستحقاق اللعنة، فمن هذه الآيات قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ، {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ

وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} ، {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} ، {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} ، {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ، كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} . 266- والسنة النبوية دلَّت على مشروعية الحسبة وطلب الشرع لها، فمن ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان"، "لتأمرنَّ بالمعروف ولتنهونَّ عن المنكر أو ليسلطنَّ الله عليكم شراركم، ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم"، "أفضل شهداء أمتي رجل قام إلى إمام جائر فأمره بالمعروف ونهاه عن المنكر فقتله على ذلك". مدى مشروعيتها: 267- والحسبة -وهي أمر بالمعروف ونهي عن المنكر- قد ينظر إليها من ناحية المطالب بها، وقد ينظر إليها من حيث هي أمر ونهي، فمن الناحية الأولى: هي فرض كفائي، إذا قام به البعض سقط عن الباقين، وإن لم يقم بها أحد أثم القادرون جميعًا، وقد يصير فرض عَيْن إذا تعيِّنَت على شخص معيِّن، كما أنها قد تصير مستحبَّة بالنسبة للمسلم غير واجبة عليه، بل وقد تصير محرَّمة في ظروف خاصَّة كما سنبينه فيما بعد. أمَّا من الناحية الثانية -أي: بالنظر إلى ذاتها- فإنها تكون -على رأي البعض- واجبة أو مندوبة نظرًا إلى موضوعها، أي: إلى ما تتعلق به، فإن كانت أمرًا بواجب، أو نهيًا عن حرام، كانت الحسبة واجبة، سواء كان وجوبها عينيًّا او كفائيًّا، وإن كان موضوعها أو ما تتعلق بها مندوبًا كانت مندوبة، وقال البعض الآخر من الفقهاء: إن الحسبة بذاتها تكون واجبة دائمًا بغضِّ النظر عَمَّا تتعلق به. مكانة الحسبة في الإسلام: 268- وللحسبة مكانة عظيمة جدًّا في الإسلام؛ لأنها أمر بمعروف ونهي عن منكر، وهذا من أخصِّ خصائص الرسول -صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى مبينًا هذه الحقيقة: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} ، وقد وصف الله الأمة الإسلامية بما

وصف به رسولها حتى تقوم من بعده بما قام به -صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} ، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الأصول العظيمة للإسلام، ومن ثَمَّ كانت الحِسْبَة محل عناية الفقهاء والتنويه بشأنها. قال الفقيه المشهور بابن الأخوة: "الحسبة من قواعد الأمور الدينية، وقد كان أئمة الصدر الأول يباشرونها بأنفسهم؛ لعموم صلاحها وجزيل ثوابها، وهي أمر بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله، وإصلاح بين الناس"، وقال ابن خلدون في مقدمته: "أمَّا الحسبة فهي وظيفة دينية من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي هو فرض على القائم بأمور المسلمين أن يعيِّن لذلك من يراه أهلًا له". حكمة مشروعيتها: 269- وحكمة مشروعيتها ظاهرة؛ لأنَّ تبليغ الدعوة الإسلامية بجميع معانيها يندرج تحت مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما أنَّ من حكمة مشروعيتها توقّي العذاب واستنزال رحمة الله، وبيان ذلك أنَّ المعاصي سبب المصائب، وما ينزل على الناس من عذاب التأديب أو الانتقام أو الاستئصال، وبهذا جرت سُنَّة الله، قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} ، وإذا كان الكفر والفسوق والعصيان سببًا للمصائب والهلاك، فقد يذنب الرجل أو الطائفة ويسكت الآخرون فلا يأمرون ولا ينهون، فيكون ذلك من ذنوبهم، فتصيبهم المصائب، وفي الحديث الشريف: "إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك الله أن يعمَّهم بعذاب منه"، وكما أنَّ المعصية سبب المصيبة والعذاب، فإن الطاعة سبب النعمة والرخاء ورضوان الله تعالى، وبذلك جرت سُنَّة الله تعالى، قال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} ، وقال تعالى: {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ} ، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} . أركان الحسبة: 270- الحسبة تستلزم وجود من يقوم بها، وهذا هو المحتَسِب، ومن تجري عليه الحسبة، وهذا هو المحتَسَب عليه، وعمل أو ترك تجري فيه الحسبة، وهذا هو المحتَسَب فيه، وما يقوم به المحتسب وهذا هو الاحتساب، فأركان الحسبة أربعة: المحتَسِبُ، والمحتَسَب عليه، والمحتَسَب فيه، والاحتساب، ولا بُدّ من الكلام عن هذه الأربعة في المطالب التالية:

المطلب الثاني: المحتسب

المطلب الثاني: المحتَسِب من هو المحتسب؟ 271- المحتسب من يقوم بالاحتساب، أي: بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن شاع عند الفقهاء إطلاق هذا الاسم على من يعيِّنُه ولي الأمر للقيام بالحسبة، وأطلقوا عليه أيضًا اسم: والي الحسبة، أمَّا من يقوم بها من دون تعيينٍ من ولي الأمر فقد أطلقوا عليه اسم: المتطوع، ثم راحوا يفرِّقون بين المحتَسِب والمتطوِّع. الفرق بين المحتسب والمتطوع: 272- أ- الاحتساب فرض متعين على المحتسب بحكم الولاية، أي: بحكم تعيينه محتسبًا، أمَّا فرضه على غيره فهو من فروض الكفاية، ومن ثَمَّ لا يجوز للمحتسب أن يتشاغل عمَّا عُيِّنَ له من أمور الحسبة بخلاف المتطوع. ب- وقالوا: إن المحتَسِب عُيِّنَ للاستعداء إليه وطلب العون منه عند الحاجة، ومن ثَمَّ تلزمه إجابة من طلب ذلك منه، بخلاف المتطوع؛ إذ لا يلزمه من ذلك شيء. جـ- وقالوا: إن المحتسب عليه أن يبحث عن المنكرات الظاهرة حتى يتمكَّن من إزالتها، كما أنَّ عليه أن يبحث عمَّا ُترِكَ من المعروف الظاهر حتى يأمر بإقامته، أمَّا المتطوع فلا يلزمه ذلك. د- وقالوا: للمحتسب أن يستعين على أداء مهمته بالأعوان، فيتخذ له من الأعوان والمساعدين بقدر ما يحتاج لأداء مهمته التي عُيِّنَ لها، وليس للمتطوع ذلك. هـ- قالوا: وللمحتسب أن يعزِّر على المنكرات الظاهرة، ولا يتجاوزها إلى إقامة الحدود، وليس للمتطوع ذلك.

و للمحتسب أن يأخذ على عمله أجرًا من بيت المال، وليس للمتطوع ذلك. ز- للمحتسب أن يجتهد في المسائل المبنية على العرف، فيقر منها ما يراه صالحًا للإقرار، وينكر منها ما يراه مستحقًّا للإنكار، وليس للمتطوع ذلك. رأينا في هذه الفروق: 273- هذه الفروق بُنِيَت على أساس التفريق بين المعيَّن للحسبة وغير المعيَّن لها. والواقع أنَّ الحسبة من فروض الإسلام، فلا يتوقف القيام بها على التعيين من قِبَل ولي الأمر، ومن ثَمَّ كانت تسمية غير المعيَّن بالمتطوِّع تسمية غير دقيقة؛ لأنها تشعر بأنَّ القيام بالحسبة من قِبَل غير المعيَّن لها هو من قبيل القيام بالأمور المستحبَّة غير الواجبة. ومع هذا، فإن تنظيم الحسبة وضبطها من قِبَل ولي الأمر، وتعيين الأكفاء لها، حتى لا تسود الفوضى في المجمتع باسم الحسبة أقول: إن هذه التنظيم من الأمور الحسنة، ولكن يشرط أن لا يكون هذا التنظيم مانعًا من قيام الآخرين بواجب الحسبة على الوجه المشروع، وعلى هذا لا نرى ما قاله الفقهاء من أنَّ المحتسب له أن يتَّخذ أعوانًا، أمَّا التطوع فليس له ذلك؛ لأن اتِّخَاذ الأعوان على الحسبة من التعاون على البر والتقوى، فلا ينبغي منع من يقوم بالحسبة من هذا التعاون بحجّة أنه غير معيَّن من قِبَل ولي الأمر، ما دام صالحًا للحسبة وتتوفَّر فيه شروط الحسبة. وكذلك لا نرى منع المتطوع من التعزيز على المنكرات الظاهرة، أو على الأقل: لا نرى منعه من التعزير مطلقًا؛ لأنَّ التعزير درجات، فينبغي أن لا يمنع إلّا من بعضها لا كلها، كأن يمنع من الضرب والجلد. ولاية المحتسب: 274- ولاية المحتسب يستمدُّها من الشرع الشريف؛ لأنَّ المسلم مكلَّف بالحسبة، وحيث يوجد التكليف توجد الولاية على القيام بما كلف به، إلّا أنه في حالة قيام ولي الأمر بتنظيم أمور الحسبة وتعيين الأكفاء لها، فإن المعيَّن يملك من الولاية أكثر مما يملكه غير المعيَّن، ومع هذا فإنَّ ولاية المحتسب المعيَّن من قِبَل ولي الأمر يستمدها من الشرع، وإن جاءت عن طريق ولي الأمر، باعتبار أنَّ تنظيم ولي الأمر للحسبة سائغ مشروع، فكأن الشرع خوله ذلك.

مقصود هذه الولاية: 275- ومقصود ولاية المحتسب سواء عُيِّنَ من قِبَل ولي الأمر أو لم يعيِّن، هو إقامة شرع الله في الأرض وتطهيرها من الفساد؛ لتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى، وهذا المقصود في الحقيقة هو مقصود كل ولاية في الإسلام، وكل الفرق بين ولاية وأخرى هو في سعتها ومتعلقاتها، وهكذا تعمل جميع الولايات منسجمة لتحقيق مقصود واحد، هو إقامة شرع الله في الأرض، وتطهيرها من الفساد والمفسدين. ولاية المحتسب وولاية القاضي: 276- وقد بحث الفقهاء أوجه الفرق والاختلاف بين ولاية المحتسب وولاية القاضي، وخرجوا من بحثهم هذا ببيان أوجه الفرق والخلاف بينهما، على النحو التالي: أ- أوجه الاتفاق: تتفق الولايتان في جواز الاستعداء إلى المحتسب والادِّعاء أمامه في حقوق الآدميين في دعاوي خاصَّة هي المتعلقة ببخسٍ أو تطفيفٍ في كيل أو وزن، أو متعلقة بغشٍّ أو تدليسٍ في بيع أو ثمنٍ، أو متعلقة بمطل أو تأخير لدَيْن مستَحَق الأداء مع القدرة على الوفاء، وإنما جاز للمحتسب أن ينظر في هذه الدعاوي دون غيرها؛ لأنها كما قالوا: "تتعلق بمنكر ظاهر هو منصوب لإزالته، واختصاصها بمعروف بيِّنٍ هو مندوب إلى إقامته". وللمحتسب كما للقاضي أن يلزم المدَّعي عليه بأداء الحق الواجب عليه إلى مستحقه في الدعاوي التي له حق النظر فيها، إذا ثبتت تلك الحقوق بإقرار المدَّعَى عليه، وثبتت قدرته على الوفاء. وإنما كان للمحتسب إلزام المدَّعى عليه بأداء هذه الحقوق؛ لأن تأخير وفائها مطل، والمطل منكر نهى الشارع عنه، قال -صلى الله عليه وسلم: "مطل الغني ظلم يحل ماله وعرضه"، والمحتسب منصوب لإزالة المنكر. ب- أوجه الاختلاف: أولًا: تقصر ولاية المحتسب عن ولاية القاضي من وجهين:

الوجه الأول: ليس للمحتسب سماع الدعاوى التي تخرج عن نطاق المنكرات الظاهرة، أي: التي تخرج عن نطاق الدعاوى الثلاث التي أشرنا إليها في أوجه الاتفاق. الوجه الثاني: له النظر في الحقوق المعترف بها، أمَّا ما يدخله التجاحد والتناكر لا ينظر فيه؛ لأنَّ الحق لا يثبت عند ذاك إلّا ببينة من المدعي، أو تحليف المنكر اليمين، وهذا للقاضي لا للمحتسب. ثانيًا: وتزيد ولاية المحتسب على ولاية القاضي من وجهين: 1- للمحتسب أن يأمر بما هو معروف وينهى عمَّا هو منكر، وإن لم يرتفع إليه في ذلك خصم، ولم يتقدم إليه أحد بدعوى، وليس للقاضي ذلك إلّا برفع دعوى ومطالبة خصم. 2- للمحتسب من سلاطة السلطة فيما يتعلق بالمنكرات الظاهرة ما ليس للقاضي؛ لأن الحسبة -كما يقول الفقهاء: تقوم على الرهبة، فلا تجافيها الغلظة واتخاذ الأعوان وسللاطة السلطة، أما القضاء فموضوع لإنصاف الناس واستماع البينات، حتى يتبيِّن المحِقُّ من المبطِل، فكان الملائم له الأناة والوقار والبعد عن الغلظة والخشونة والرهبة. 227- ويمكن أن نضيف إلى ما قاله الفقهاء فرقًا ثالثًا تزيد به ولاية المحتسب على ولاية القاضي، وهي ولاية المحتسب على الأمر والنهي، فما لا يدخل في صلاحية القاضي ولا يجري فيه الحكم، فللمحتسب أن يأمر العامّة بالصلاة في أوقاتها، ويأمر بالجمعة والجماعات، وينهى عن منكرات المساجد، وعن تأخير الصلاة عن أوقاتها، ونحو ذلك مما لا يجري فيه حكم القضاء، ولا ينظر فيه القاضي. شروط المحتسب: 278- اشترط الفقهاء شروطًا معينة في المحتسب ليكون أهلًا للاحتساب، وهذه الشروط: أولًا: أن يكون مكلفًا؛ لأن غير المكلَّف لا يلزمه أمر ولا يجب عليه تكليف. والمكلَّف في اصطلاح الفقهاء هو البالغ العاقل، وهذا في الحقيقة شرط وجوب الاحتساب على المسلم، أمَّا إمكان الحسبة وجوازها فلا يستدعي إلّا العقل، حتى إنَّ الصبي المميِّز وإن لم يكن مكلفًا فله إنكار المنكر، وليس لأحد منعه من ذلك؛ لأن احتسابه

من القربات، وهو من أهلها كالصلاة، وليس حكم احتسابه حكم الولايات، حتى يشترط له التكليف. ثانيًا: أن يكون مسلمًا، وهذا شرط واضح؛ لأن الحسبة نصرة للدِّين، فلا يكون من أهل النصرة من هو جاحد لأصل الدين. 279- ثالثًا: الإذن من الإمام أو نائبه، وهذا شرط محلّ نظر، ذلك أنَّ المحتسب إذا عُيِّنَ من قِبَل ولي الأمر فلا حاجة له للإذن؛ لأنه ما عُيِّنَ إلّا للاحتساب، أما إذا لم يكن معينًا وهو الذي يسمونه: المتطوع، فإن اشترطوا له الإذن لكلِّ نوعٍ من أنواع الحسبة، فإن اشتراطهم هذا لا دليل عليه، بل إنَّ النصوص تدفعه؛ لأنَّ كل مسلم يلزمه تغيير المنكر إذا رآه وقدر على إزالته دون اشتراط إذن من الإمام، ويؤيد ذلك استمرار السلف الصالح على الحسبة دون إذن من الإمام، فضلًا عن أنَّ الحسبة تجري على الإمام نفسه، فكيف يحتاج المحتَسب إلى إذن منه للإنكار عليه؟ وإن اشترطوا الإذن بالنسبة لبعض أنواع الحسبة، وهي التي تجري فيها التعزير واتخاذ الأعوان واستعمال القوة، فهذا الشرط له وجه مقبول لابتنائه على المصلحة؛ لأن إباحة هذا النوع من الاحتساب لكلِّ أحد قد يؤدي إلى الفتنة والفوضى ووقع الاقتتال بين الناس بحجة الحسبة، وباشتراط الإذن تندفع هذه الأضرار، فيلزم الإذن لأنَّ دفع الضر واجب، وما يستلزمه هذا الدفع يكون مشروعًا، ومع هذا التوجيه المقبول نرى جواز تغيير المنكر من المتطوع إذا أمِنَ الفتنة، وإن استلزم التغيير اتخاذ الأعوان واستعمال القوة ومباشرة التعزير، كلما كان ذلك ضروريًّا، ولا يحتمل التأخير حتى يتحصَّل الإذن. 280- رابعًا: العدالة، وهذا شرط قال به البعض، فعندهم لا بُدَّ أن يكون المحتسب عدلًا غير فاسق، ومن مظاهر عدالته أنَّه يعمل بما يعلم، ولا يخالف قوله عمله، ويمكن أن يستدلَّ لهذا القول بما يأتي: أ- قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} . ب- المطلوب من المسلم أن يعمل بما يدعو الناس إليه، ولا يخالف قوله فعله؛ ليكون لقوله التاثير المطلوب في رفع المنكر واستجابة الناس له، ولهذا قال شعيب -عليه السلام-

لقومه، كما أخبرنا الله تعالى: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} ، وفي الحديث الشريف أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "رأيت ليلة أسري بي رجالًا تقرض شفاهمم بالمقاريض، فقلت له: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء خطبأء أمتك الذين يأمرون الناس بالبرِّ وينسون أنفسهم". 281- وقال البعض الآخر: العدالة ليست شرطًا، وإنما الشرط القدرة على إزالة المنكر؛ لأنه ما من أحد إلّا ويصدر منه العصيان، والمعصية تثلم العدالة، فكيف يشترط ما يتعذّر تحققه في المسلم؟ ولهذا قال سعيد بن جبير -رحمه الله تعالى: "إذا كان لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر إلّا من لا يكون فيه شيء لم يأمر أحد بشيء". 282- والراجح عدم اشتراط العدالة في المحتسب من حيث المبدأ، ومن حيث الجملة دون التفصيل؛ لأن الاحتساب فرض كسائر الفروض الإسلامية لا يتوقَّف القيام به على أكثر مما يتطلبه ويحتاجه هذا الفرض، وليس مما يتوقَّف عليه أن يكون المحتسب عدلًا بالاصطلاح المعروف عند الفقهاء؛ لأنَّ ما يأمر به المحتسب أو ينهى عنه هو من الأمور الحسنة والمشروعة، والحقّ ينبغي أن يُتَّبع ويقبل من قائله بغضِّ النظر عن فعله وسلوكه، وما احتجَّ به المشترطون لا حجة لهم فيه؛ لأنَّ الذمَّ على من يأمر غيره بالمعروف وينسى نفسه إنما استحق هذا الذم بسبب ارتكابه ما نهى عنه، لا على نهيه عن المنكر، وإن كان النهي عن المنكر ممن يأتيه مستقبحًا في النفوس، كما أنَّ أمره بالمعروف دلَّ على قوة علمه، وعقاب العالم وذمه إذا ارتكب المنكر أشد من الجاهل إذا ارتكب المنكر، وعليه فإنَّ الإنكار في قوله: {وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} ، إنما كان عليهم بسبب أنَّهم نسوا أنفهسم لا بسبب أنَّهم أمروا غيرهم بالمعروف. 283- ومع ترجيحنا عدم اشتراط العدالة في المحتسب من حيث المبدأ والأصل، إلّا أنَّ العدالة لها تأثير في بعض أنواع الحسبة وفي وجوبها أو عدم وجوبها، ومن ثَمَّ يكون لاشتراط العدالة وجه مقبول، وبيان ذلك أنَّ الحسبة إذا كانت بالوعظ والإرشاد فإنَّ نفعها المرجوّ يحصل إذا كان المحتسب ورعًا تقيًّا عدلًا؛ حيث يكون لكلامه ووعظه -عادة- تأثير في الناس وقبول عندهم، فيتركون المنكر؛ وحيث كان نفع الحسبة مرجوًا بالوعظ ولا ضرر للمحتسب منه كانت الحسبة عليه واجبة،

فيكون اشتراط العدالة في هذه الحالة لوجوب الحسبة اشتراطًا مقبولًا، أمَّا إذا كان المحتسب فاسقًا غيرعدل فالغالب أنَّ وعظه لا يؤثِّر ولا يقبل فلا يفيد، وإذا لم ينفع وعظه لم تجب عليه الحسبة لفقدان شرط وجوبها وهو العدالة. أما إذا كانت الحسبة بالقوة والقهر فالعدالة ليست شرطًا في المحتسب لوجوب الحسبة عليه؛ إذ الشرط لوجوبها عليها القوة والقدرة وليست العدالة؛ ولأن الله تعالى يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن. 284- ومع هذا التفصيل الذي بيناه، فإنَّه مما لا ريب فيه أنَّ من المرغرب فيه بالنسبة لجميع المحتسبين أن يكونوا على أكبر قدر ممكن من العدالة وتجنب ما يخدشها، وكلما كان المحتسب أكثر عدالة من غيره، كان كما قالوا: "أزيد في توقيره وأنفى للطعن في دينه"، وتؤثر حسبته وتُقْبَل وإن كانت بالقوة والقهر. 285- خامسًا: العلم، ويشترط في المحتَسِب أن يكون عنده من العلم ما يستطيع أن يعرف المنكر فينهى عنه، ويعرف المعروف فيأمر به، حسب الموازين الشرعية، وبهذا يكون احتسابه عن علم ومعرفة لا عن جهل وتخبُّط، وقد جاء في الأثر: "لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلّا من كان فقيهًا فيما يأمر به، فقيهًا فيما ينهى عنه"، ويدخل في حدِّ العلم المطلوب علم المحتسب بمواقع الحسبة وحدودها ومجاريها وموانعها؛ ليقف عند حدود الشرع كما سنبينه فيما بعد، ولكن هل يشترط في المحتَسِب أن يكون مجتهدًا؟ الجواب بالإيجاب إذا قلنا: للمحتسب أن يحمل الناس على رأيه في الأمور المختلف فيها، أمَّا إذا قلنا: ليس للمحتسب ذك، فالاجتهاد ليس شرطًا، وإنما يكفي أن يكون عالمًا بالمنكرات المتفق عليها، وبالمعروف المتفق عليه، وعدم شرط الاجتهاد هو ما نرجِّحه. 286- وهل يشترط في المحتسب أن يكون عارفًا بالصنائع الدنيوية والمهن والحرف التي يباشرها الناس؟ الواقع أنَّ هذا التساؤل وارد؛ لأنَّ عمل المحتسب يشمل مراقبة هذه المهن والحرف؛ ليتأكد من عدم غشِّ أصحابها واحتيالهم وإضرارهم بالناس، فقد ذكر الفقهاء أنَّ على المحتسب أن يراقب أصحاب المِهَن والصنائِع المختلفة، ويمنعهم من الغش فيها، كما يمنع مباشرتها من قِبَل الجهال بها، ومن البديهي أنَّ ذلك لا يتأتَّى للمحتسب إلّا إذا كان عارفًا بهذه الصنائع والحِرَف، بل ذهب

الفقهاء إلى أنَّ المحتَسِب يمتحن بعض أصحاب المهن العلمية كالكحال -طبيب العيون؛ ليتأكَّد من صلاحيته لهذه المهنة، وهذا يستلزم معرفة المحتسب لهذا الجانب من العلم، قال الفقيه عبد الرحمن بن نصر الشيزري: "وأمَّا الكحالون فيمتحنهم المحتسب.. فمن وجده فيما امتحنه عارفًا بتشريح عدد طبقات العين السبعة.. وكان خبيرًا بتركيب الأكحال وأمزجة العقاقير، أذِن له المحتسب بالتصدي لمداواة أعين الناس"، كما صرَّح الفقهاء بضرورة معرفة المحتسب بالأوزان ونحوها، فمن أقوالهم: "لمَّا كانت هذه -أي: القناطير والأرطال والمثاقيل والدراهم- أصول المعاملات، وبها اعتبار المبيعات، لزم المحتسب معرفتها وتحقيق كميتها؛ لتقع المعاملة بها من غير غَبْنٍ على الوجه الشرعي". 287- على هذا يجب على المحتسب أن يعرف ما يحتسب فيه من المِهَن والحِرَف والصنائع، ولكن يمكن أن يقال: إن إلزام المحتسب بمعرفة هذه الأشياء كلها أو أكثرها، بل وحتى بعضها، مما يشق عليه ويعسر، ولهذا نرى أنَّ وجوب هذه المعرفة في المحتسب يمكن أن تتحقق باستعانته بذوي الخبرة بهذه الأشياء، سواء كان هؤلاء الخبراء من أعوانه الدائمين أو من غيرهم، فيستشيرهم فيما يحتسب فيها من شئون هذه المهن والحرف والصنائع، ويأخذ بأقوالهم ما داموا أمناء ثقاة. 288- سادسًا: القدرة، ويشترط في المحتسب أن يكون قادرًا على الاحتساب باليد واللسان، وإلّا وقف عند الإنكار القلبي، وهذا الشرط مفهوم فيمن يقوم بالاحتساب من تلقاء نفسه وبدون تعيين من ولي الأمر، أمَّا المعيَّن فإنَّ القدرة حاصلة فيه؛ لأنَّ الدولة معه، هذا ولا يقف سقوط وجوب الحسبة على العجز الحسي، بل يلحق به ما يخاف من المكروه الذي ينزل به ولا يطيقه على النحو الذي سنبينه فيما بعد إن شاء الله. آداب المحتسب: 289- ذكر الفقهاء جملةً من الآداب التي يجب على المحتسب التحلي بها حتى بنجح في عمله، ويؤدي واجب الحسبة على الوجه المرضي المقبول، فمن ذلك ما قالوه: إنَّ على المحتسب أن يقصد باحتسابه وجه الله تعالى وطلب رضاه، ولا يقصد بحسبته الرياء والسمعة والجاه والمنزلة عند الناس، والواقع أنَّ خلوص النية مما يلزم المسلم في

جميع أعماله، فإنَّ الله تعالى لا يقبل من العمل إلّا ما كان خالصًا لوجه الكريم، ولكنَّ حاجة المسلم إلى الإخلاص تعظم وتشتد كلما كان علمه بطبيعته ظاهرًا أو متعلقًا بالآخرين، ولهذا قد يتسرَّب الوسواس إلى بعض الأتقياء، فيتركون الحسبة بحجّة عدم خلوص النية، ونقول لهؤلاء الطيبين الورعين: إنَّ عليهم أن يقوموا بالحسبة ويدفعوا هواجس الرياء، ولا يتعقَّموا في ذلك أو يسترسلوا في الخوف من الرياء؛ لأنَّ الشيطان قد يفتح عليهم بابًا من الوسواس الذي لا ينتهي. 290- وقالوا: إنَّ المحتسب يلزمه الصبر والحلم بالإضافة إلى بقية الأخلاق الحسنة، والواقع أنَّ تأكيد فقهائنا -رحمهم الله تعالى- على الصبر والحلم له ما يبرره؛ لأنَّ الغالب لحوق الأذى والمضايقات بالمحتسب، فإن لم يكن صبورًا حليمًا كان ضرره أكبر من نفعه، وكان ما يفسده أكثر مما يصلحه، وفاته ما كان مرجوًّا من احتسابه. 291- وقالوا أيضًا: يجب أن يكون المحتسب رقيقًا رفيقًا في أمره ونهيه، بعيدًا عن الفظاظة مع صلابة بالدِّين، وقد يبدو قولهم لأوَّل وهلة متناقضًا؛ إذ كيف يتفق الرفق مع الصلابة، والحقيقة لا تناقض، فالرفق وعدم الفظاظة مِمَّا أمر به الشرع، فقد جاء في الحديث الشريف: "إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله"، وفي القرآن الكريم: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} ، فالمحتسب يستطيع أن يوصِّل أمره ونهيه بأسلوب رقيق يفتح مغاليق القلب، وسيأتي مزيد للكلام عن هذه المسالة فيما بعد إن شاء الله تعالى، أمَّا الصلابة بالدِّين فتعني: عدم التهاون في بيان أحكامه، ولا المداهنة للمحتسب عليه، ولا مجازاته على حساب الدِّين، وهذا لا يتناقض مع الرفق. 292- وقالوا أيضًا: على المحتسب أن يقلل علاقاته مع الناس حتى لا يكثر خوفه من انقطاعها، وأن يقطع طمعه من الخلائق حتى تزول معاني الملق والمداهنة، وأن لا يقبل هداياهم فضلًا عن رشاواهم التي هي حرام وسحت، وأن يلزم أعوانه بما التزمه من الأخلاق والآداب، فإذا علم أن أحدًا من أعوانه خرج عن هذا النهج والسلوك عزله وأبعده إذا لم ينفع مع التحذير؛ لتنتفي عن المحتسب الظنون، وتنجلي عنه الشهبات، كما قال الفقهاء -رحمهم الله: لأنَّ الناس -غالبًا- يحمِّلُون المحتسب أوزار أعوانه، وقليل منهم من يفصل بين أعمالهم وأعماله، فلا خلاص من ذلك إلا بإبعاد الأعوان السيئين عنه.

المطلب الثالث: المحتسب عليه

المطلب الثالث: المحتَسَب عليه التعريف به وبشرطه: 293- المحتسب عليه هو كل إنسان يباشر أيَّ فعل يجوز أو يجب فيه الاحتساب، ويسمَّى المحتَسَب عليه أو المحتَسَب معه. ويشترط فيه أن يكون بصفة يصير الفعل الممنوع منه في حقه منكرًا، وإن لم يكن معصية يحاسب عليها ديانة، وعلى هذا لا يشترط فيه أن يكون بالغًا عاقلًا، فالمجنون إذا زنى وجب الاحتساب معه، وكذا الصبي مميزًا كان أو غير مميزٍ إذا شرب الخمر أو همَّ بشربه أنكر عليه المحتسب وحال بينه وبين شربها، وإن كان فعل هذا الصبي لا يعتبر معصية يحاسب عليها ديانة. أنواع المحتَسَب عليهم: 294- قلنا: إنَّ المحتَسَب عليه هو كلّ إنسان يباشر ما تجري فيه الحسبة، وعلى هذا يمكن أن يكون محتسبًا عليه أيّ فرد في المجتمع بلا استثناء، إذا ما صدر منه ما تجري فيه الحسبة، سواء كان إمامًا للمسلمين، أو واحدًا من عموم الناس، وعلى هذا تجري الحسبة على الأصناف الآتية التي قد يظنّ البعض عدم جريانها عليهم، أو يتهاونون في الاحتساب معهم، أو أنَّ الحسبة معهم تكون بشكل معين. أولًا: الأقارب 295- تجري الحسبة على الأقارب والأباعد على حد سواء؛ لأن الحسبة أمر بمعروف ونهي عن منكر، والكل أمام هذا الفرض سواء، ولكن الفقهاء -رحمهم الله تعالى- قالوا: احتساب الابن على والديه يكون ببيان الحكم الشرعي والموعظة الحسنة والتخويف من الله تعالى، ولا يتعدَّى ذلك إلى الوسائل الأخرى كالكلام الغليظ والضرب، رعايةً لحقِّ الأبوة والأمومة دون تفريط بواجب الاحتساب. ثانيًا: غير المسلمين 296- ويجري الاحتساب على غير المسلم المقيم في دار الإسلام ذميًّا كان أو

مستأمنًا؛ لأننا وإن أمرنا بتركهم وما يدينون إلّا أنَّ هذا الترك لهم لا يعني تركهم يخرقون نظام الإسلام ويتعاطون ما يناقضه علانية، وإنما يعني تركهم وما يعتقدون وما يباشرونه في بيوتهم ومعابدهم من صنوف العبادة، أمَّا إذا تظاهروا وأعلنوا ما يناقض الإسلام، كما لو سكروا في قارعة الطريق، أو خطبوا في الناس يعلنون شتمهم للإسلام وتكذيبهم لنبي الإسلام، فإنهم يمنعون من ذلك، وتجري الحسبة عليهم في ضوء ما يفعلون. ثالثًا: الأمراء 297- ويجري الاحتساب على السلطان ونوابه وسائر ذوي الإمرة والولاية، كما يجري على آحاد الناس، ولكن يجب أن يلاحظ المحتسب منزلة السلطان وفِقْهِ الاحتساب معه، ومن هنا قال الفقهاء: يكون الاحتساب عليه بتعريف الحكم الشرعي والوعظ لا بالقوة والقهر، وقد زخر تاريخنا الإسلامي بأخبار المحتسبين مع الخلفاء والأمراء دون أن يلحقهم أذى، بل كانوا يقابلون بالقبول والتقدير، وهكذا يكون شأن الحكام الصالحين. رابعًا: القضاة 298- وتجري الحسبة على القضاة، قال الفقهاء: "وينبغي للمحتسب أن يتردَّد على مجالس القضاة والحكام ويمنعهم من الجلوس في الجامع للحكم بين الناس، وأنه متى رأى المحتسب القاضي قد استشاط على رجل غضبًا أو شتمه أو احتدَّ عليه في كلامه ردعه عن ذلك، ووعظه وخوَّفه بالله -عز وجل، فإنَّ القاضي لا يجوز أن يحكم وهو غضبان، ولا يقول هجرًا ولا يكون فظًّا غليظًا". خامسًا: أصحاب المهن المختلفة 299- ويجري الاحتساب على جميع المِهَن والحِرَف والصنائع المختلفة؛ لأنَّ للإسلام حكمه فيهم وفيما يباشرونه، فمن أحكام الإسلام في الصنائع التي يحتاجها الناس أنَّه يعتبرها من فروض الكفاية، فإذا امتنع أصحابها عنها ألزمهم المحتسب بالقيام بها، وحكم الإسلام فيما يباشرونه هو أداؤه على الوجه الصحيح السليم الخالي من الغشِّ والتدليس والإضرار، ومن ثَمَّ كانت واجبات المحتسب تمتد إلى مراقبتهم جميعًا؛ ليقرهم على أعمالهم إن كان على الوجه الشرعي، ويمنهم منها إن كانت مخالفة للشرع، ولهذا بيِّنَ العلماء -رحمهم الله تعالى- الضوابط والحدود الواجب مراعاتها في مباشرة المهن المختلفة، والتي يجب على المحتسب التأكد من مراعاتها من قِبَل أصحاب هذه المهن.

المطلب الرابع: موضوع الحسبة

المطلب الرابع: موضوع الحسبة المنكر هو موضوع الحسبة: 300- قلنا في تعريف الحسبة: إنها أمر بمعروف إذا ظهر تركه، ونهي عن منكر إذا ظهر فعله، وهذا التعريف في الواقع يشمل موضوع الحسبة والاحتساب ذاته. فالموضوع هو المعروف والمنكر، والاحتساب هو الأمر بالأول والنهي عن الثاني. ثم إنَّ المنكر قد يكون بإيجاد فعلٍ نهت الشريعة عنه، وقد يكون بترك فعلٍ أمرت الشريعة بفعله، فيكون المنكر بهذ الاعتبار ذا وجهين: الأول: إيجابي يتمثَّل بإيجاد الفعل المحظور شرعًا. الثاني: سلبي يتحقق بترك الفعل المطلوب شرعًا، أي: المعروف، ويكون الاحتساب في الوجهين بالنهي عنهما، أي: بالنهي عن إيجاد الفعل المحظور حتى لا يوجد، أو الانكفاف عنه بعد وجوده، وبالنهي عن ترك الفعل المشروع حتى يوجد، وعلى هذا فنحن نؤثر أن نجعل موضوع الحسبة هو المنكر بوجهيه، ويكون الاحتساب فيه بالنهي عنه بهذين الوجهين. المقصود بالمنكر: 301- وإذا كان موضوع الحسبة هو المنكر بوجهيه الإيجابي والسلبي، فما المقصود بالمنكر؟ الغالب أنَّ هذه الكلمة تطلق على المعصية، والمعصية هي مخالفة الشريعة بارتكاب ما نهت عنه، أو ترك ما أمرت به، سواءً كانت المعصية من صغائر الذنوب أو كبائرها، وسواءً تعلَّقت بحقِّ الله أو بحقِّ العبد، وسواءً ورد بها نصّ شرعي خاص، أو عرف حكمها من قواعد الشريعة وأصولها العامة، وما أرشدت إليه من

مصادر، وسواء كانت المعصية من أعمال القلوب أو أعمال الجوارح، ولكن كلمة المنكر في باب الحسبة تطلق على معنى أوسع مما ذكرناه، فتطلق على كل فعلٍ فيه مفسدة، أو نهت الشريعة عنه، وإن كان لا يعتبر معصية في حقِّ فاعله، إما لصغر سنِّه أو لعدم عقله، ولهذا إذا زنا المجنون أو همَّ بفعل الزنى، وإذا شرب الصبي الخمر، كان ما فعلاه منكرًا يستحق الإنكار، وإن لم يعتبر معصية في حقهمها؛ لفوات شرط التكليف وهو العقل والبلوغ. من يملك إعطاء وصف المنكر: 302- والجهة التي تملك إعطاء المنكر لأيّ فعلٍ أو تركٍ هي الشريعة الإسلامية؛ لأن إعطاء هذا الوصف حكم شرعي، والحاكم هو الله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} ، وما على الفقهاء إلّا التعرُّف على حكم الله، فعملهم هو كشف عن الحكم الشرعي وليس إنشاء للحكم الشرعي، ولهذا إذا تبيِّن خطؤهم لم نتابعهم عليه؛ لأنَّ الحجة فيما بيِّنَه الشرع وقد ظهر لنا؛ ولأنَّ مهمة الفقهاء الكشف وليس الإنشاء كما قلنا. 303- وقد يعترض البعض علينا بأنَّ الفقهاء قالوا: إن ما رآه المسلمون حسنًا أو قيبحًا دخل في موضوع الحسبة، أمرًا بالأول ونهيًا عن الثاني، فكيف نوفِّق بين هذا القول وبين ما قلناه؟ والجواب: إنَّ الشريعة الإسلامية دلَّت على أنَّ الإجماع حجة معتبرة، فإذا أخذنا بما رآه المسلمون حسنًا فأمرنا به وبما رأوه قبيحًا فنهينا عنه، فإنما نأخذ بدليل الإجماع، وهو دليل شرعي أرشدتنا إليه الشريعة. وكذلك أخذنا بالعرف الصحيح هو اتباع بما أرشدتنا إليه الشريعة من مراعاة العرف الصحيح. شروط المنكر: 304- وإذا كان المنكر بوجهيه هو موضوع الحسبة، فلا بُدَّ من توافر شروط معينة فيه ليمكن الاحتساب فيه، فما هي هذه الشرط؟ قال علماؤنا -رحمهم الله تعالى: يشترط فيه أن يكون ظاهرًا وقائمًا في الحال، ومتفقًا على حكمه، ولا بُدَّ من الكلام بإيجاز عن كل شرط:

أولًا: ان يكون ظاهرًا 305- المراد بظهور المنكر انكشافه للمحتسب وعلمه به بدون تجسس، سواء كان هذا الانكشاف والعلم به حصل عن طريق السمع أو البصر أو الشم أو اللمس أو الذوق؛ لأنَّ هذه الحواسّ طرق سليمة للعلم بالشيء، وبها يكون الشيء ظاهرًا ما دامت خالية من التجسس، وعلى هذا من كان في بيته وقد أغلق بابه عليه وقام بشيء من المنكر لم يجز للمحتسب أن يتسلّق الجدار أو يكسر الباب ليطَّلِع على ما يفعله أهل الدار، ولكن لو ظهر المنكر الذي يباشرونه عن طريق الصياح أو الاستغاثة، جاز للمحتسب اقتحام الدار لظهور المنكر عن طريق سمعه للصياح أو الاستغاثة. ويدخل في مفهوم أو في معنى ظهور المنكر أيّ مكان يغلب على ظنّ المحتسب وقوع المنكر فيه، فعليه أن يخرج إلى ذلك المكان ويقوم بالاحتساب فيه، ولا يجوز له أن يسقط وجوب الحسبة عليه بالقعود بالبيت، بحجة عدم انكشاف المنكر وظهوره له. ثانيًا: أن يكون قائمًا في الحال 306- ومعنى ذلك أن يكون موجودًا في الحال؛ لأنَّ المنكر إذا وقع وانتهى فلا احتساب فيه على فاعله، وإنما لولي الأمر أن يعاقبه إذا ثبت ذلك عليه، ولكن يجوز الاحتساب على فاعله بوعظه بعدم العودة إليه. ولكن هل يشترط وجود المنكر فعلًا، أو يكفي وجود مقدماته، وإن لم يوجد بعد؟ الواقع أنَّ المنكر إذا ظهرت بوادره ولاحت علاماته، وقامت القرائن على وشك وقوعه، دخل في موضوع الحسبة، وجاز الاحتساب فيه بالوعظ والإرشاد بلا تقريع؛ إذ قد يحمل التقريب المحتسب عليه على ارتكاب المعصية على وجه العناد. ولكن إذا لم ينفع الوعظ ورأى المحتسب أن المنكر يوشك أن يقع، وإذا وقع لم يكن تلافيه، جاز أو وجب على المحتسب الاحتساب فيه بالوجه الذي يمنع وقوعه ما دام قادرًا على ذلك. وإذا كان وجود مقدِّمات المنكر يكفي لجريان الاحتساب فيه، فهل يكفي العزم على المنكر للاحتساب؟ الواقع أنَّ العزم على المنكر ما دام حديث نفس ولم يظهر في الخارج على شكل أشياء مادية تعتبر مقدّمات للمنكر لم يجز الاحتساب فيه، ولكن لو صرّح صاحب هذا العزم الخبيث بعزمه جاز للمحتسب أن يحتسب عليه بالوعظ

والإرشاد، والتخويف من الله تعالى بالقدر الذي يستحقه عزمه. ثالثًا: عدم الخلاف فيه 307- ويشترط في المنكر أن يكون مما اتفق الفقهاء على اعتباره منكرًا، حتى لا يحتجّ المحتسب عليه بأنَّ ما يفعله جائز على رأي بعض الفقهاء، وإن كان غير جائز على رأي المحتسب. ولكن إذا كان المنكر بما اختلف الفقهاء فيه، فهل يمنع ذلك الاختلاف من الاحتساب فيه بدون قيد ولا شرط؟ الواقع أنَّ الخلاف إمَّا أن يكون سائغًا، وإمَّا أن لا يكون سائغًا، ولكلٍّ حكمه. أ- الخلاف السائغ يمنع من الاحتساب على رأي بعض الفقهاء، وقال آخرون: يجوز للمحتسب أن ينكر على فاعل المنكر المختلف فيه، بشرط أن يكون المحتسب مجتهدًا. ب- الخلاف غير السائغ، وهو الخلاف الشاذّ أو الباطل الذي لا يعتدّ به لعدم قيامه علي أيّ دليل مقبول، كالذي يخالف صريح القرآن أو السنة الصحيحة المتواترة أو المشهورة، او إجماع الأمة، أو ما عُلِمَ من الدِّين بالضرورة، فمثل هذا الخلاف لا قيمة له، ولا يمنع المحتسب من الإنكار والاحتساب. اتِّساع موضوع الحسبة 308- الشرط الجوهري في موضوع الحسبة أن يكون منكرًا في الشريعة الإسلامية، وحيث إنَّ من صفات الشريعة الشمول، بمعنى أنَّ لها حكمًا في كل شيء بلا استثناء، فإن موضوع الحسبة يصير واسعًا جدًّا؛ بحيث يشمل جميع تصرفات وأفعال الإنسان، ولا يخرج من ذلك إلّا ما تتوافر فيه شروط الاحتساب، ولا يدخل في ولاية المحتسب، وقد أشار الفقهاء إلى هذه السعة، فالفقيه ابن الإخوة يقول: والمحتسب من نصَّبه الإمام أو نائبه للنظر في أحوال الرعية، والكشف عن أمورهم

ومصالهم، وبياعاتهم ومأكولاتهم ومشروبهم وملبوسهم ومساكنهم وطرقهم، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر"، ويقول ابن خلدون وهو يتكلم عن المحتسب: "ويبحث عن المنكرات ويعزِّر ويؤدِّب إلى قدرها، ويحمل الناس على المصالح العامة في المدينة، مثل المنع من المضايقات في الطرقات، ومنع الحمَّالين وأهل السفن من الإكثار في الحمل، والحكم على أهل المباني المتعينة للسقوط بهدمها، وإزالة ما يتوقع من ضررها على السابلة ... إلخ". أمثلة على اتساع موضوع الحسبة: 309- أولًا: في الاعتقادات تجري الحسبة في أمور العقيدة، فمن أظهرَ عقيدة باطلة، أو أظهر ما يناقض العقيدة الإسلامية الصحيحة، أو دعا الناس إليها، أو حرَّف النصوص، أو ابتدع في الدين بدعة لا أصل لها، منع ذلك، وجرت الحسبة عليه؛ لأنَّ القول على الله ودينه بالباطل لا يجوز، ويناقض العقيدة الإسلامية التي من أصولها الانقياد والخضوع لله رب العالمين ولشرعه، ويدخل في ذلك رواية الأحاديث المقطوع ببطلانها وكذبها، وتفسير كتاب الله بالباطل من القول؛ كتفسير الباطنية الذي لا يحتمله النصوص ولا اللغة ولا الشرع ولا المنقول عن السلف الصالح. 309- ثانيًا: في العبادات مثل ترك صلاة الجمعة من قِبَل أهل قرية أو بلدٍ مع توافر شرط إقامتها، وترك الأذان، والزيادة فيها بما لم يأت به الشرع، ومثل المخالفة لهيئات العبادات كالجهر في صلاة الإسرار، والإسرار في صلاة الجهر، أو الزيادة في الصلاة، أو عدم الطمأنينة فيها، وكالإفطار في رمضان، وكالامتناع عن إخراج الزكاة. 310- ثالثًا: في المعاملات مثل عقد العقود المحرَّمة، وأكل أموال الناس بالباطل بالربا وغيره، والرشوة والغش

في الصناعات والبياعات، يدل على ذلك الحديث الشريف عن أبي هريرة -رضي الله عنه، أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مَرَّ على صبرة طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللًا، فقال: "ما هذا يا صاحب الطعام"؟ فقال: أصابته السماء يا رسول الله، قال: "أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس، مَنْ غشَّنَا فليس منا"، والواقع أنَّ الغش يكون في أشياء كثيرة جدًّا، فيكون مثلًا في البيوع بكتمان العيوب وتدليس السلع، مثل أن يكون ظاهر المبيع خيرًا من باطنه، ويدخل في الصناعات مثل الذين يصفون المطعومات والملبوسات، فيجب نهي هؤلاء عن الغش الذي يرتكبونه في مصنوعاتهم أو بياعاتهم. 311- رابعًا: فيما يتعلق بالطرق والدروب مثل بناء الدكات، ووضع الاسطوانات، وغرس الأشجار، ووضع الأخشاب والسلع والأطعمة في الطرقات، وذبح الحيوانات في الطريق وتلويث الأرض بالدماء، وطرح القمامة في الدروب والأزِقَّة، وإلقاء قشور البطيع فيها ورشها بالماء؛ بحيث يخشى منها الزلق، ونحو ذلك مما فيه ضرر بالناس، فيمنع ذلك كله ويحتسب فيه؛ لأنه ضرر وهو ممنوع في الشريعة، وإذا وقع يجب رفعه. 312- خامسًا: فيما يتعلق بالحرف والصناعات وقد ذكر الفقهاء جميع الحرف والصناعات وبينوا كيفية الاحتساب فيها، والأصول الجامعة في الاحتساب فيها هي: أ- من حيث المكان: فيجب أن يكون مكان الحرفة أو الصنعة لا ضرر فيه على الآخرين، فلا يكون مكان الخباز في سوق الأقمشة مثلًا، وأن يكون المكان بذاته صالحًا لمباشرة المهنة أو الصنعة، وصلاحه من جهة نظافته وسعته وتهويته. ب- من حيث أدوات الحرفة أو الصنعة: يجب أن تكون صالحة للاستعمال، وقد وضع الفقهاء -رحمهم الله تعالى- مقاييس لصلاح كل أداة كأنَّهم هم أصحاب تلك الصنائع والحرف، فالإمام الشيرازي يقول في مقلى الزلابية: "ينبغي أن يكون مقلى

الزلابية من النحاس الأحمر الجيِّد ... ثم يبيِّن الشيرازي -رحمه الله- كيفية إعداده للاستعمال فيقول: ويحرق فيه النخالة ثم يدلكه بورق السلق إذا برد، ثم يعاد إلى النار، ويجعل فيه قليل من عسلٍ ويوقد عليه حتى يحترق العسل، ثم يجلى بعد ذلك بمدقوق الخزف، ثم يُغْسَل ويستعمل، فإنه ينفي من وسخه وزنجاره"، وقد ذكرت هذا الكلام بطوله ليتبيِّن للناس مدى اهتمام فقهائنا -رحمهم لله تعالى- بما ينفع للناس في حياتهم ويدفع عنهم الضرر في معايشهم. جـ- إذا كانت أدوات الحرفة مقاييس للوزن أو الكيل أو الذرع وجب التأكُّد من سلامة هذه المقاييس وصحتها. د- من جهة المصنوع أو المبيع: يجب أن يكون خاليًا من الغش والتدليس، فلا تخلط الحنطة بالتراب، ولا الطحين بغيره من المواد الرديئة، وأن توضع العلامات المميزة لكل نوع إذا اتحد الجنس، فتنقط لحوم المعز -كما قال الفقهاء- بنقط الزعفران حتى تُعْرَف وتميَّز من غيرها، وأن تبقى أذناب المعز معلقة على لحومها إلى آخر البيع. هـ- من جهة من يباشر الصنعة والحرفة: يجب أن يلاحظ المحتسب أهلتيهم، وقد ذكرنا من قبل قيام المحتسب بامتحان الكحَّال -طبيب العيون، وهكذا قالوا في امتحان أصحاب الحرف الأخرى كالمجبِّرين والفصَّادين والحجَّامين والجرَّاحين وغيرهم. كما تلاحظ أمانتهم وعفتهم. 313- سادسًا: فيما يتعلّق بالأخلاق والفضيلة ومما يلاحظه المحتسب ويحتسب فيه ما يتعلّق بالأخلاق والآداب والفضيلة، فيمنع مما يناقض الأخلاق الفاضلة والآداب الإسلامية مثل: الخلوة بالأجنبية، والتطلع على الجيران من السطوح والنوافذ، وجلوس الرجال في طرقات النساء وأماكن خروجهن، أو تجمعهن أو التحرّش بهنّ، ومثل التكشُّف بالطرقات بإظهار العورات وما لا يحل كشفه وإظهاره، ومنع من عرف بالفجور من معاملة النساء، قال أبو يعلى الحنبلي: "وإذا كان من أهل الأسواق من يختص بمعاملة النساء راعى المحتَسِب سيرته وأمانته، فإذا تحققها منه أقره على معاملته، وإن ظرهت منه الريبة وبان عليه الفجور منعه من معاملتهن وأدَّبَه على التعرض لهنّ".

المطلب الخامس: الاحتساب

المطلب الخامس: الاحتساب معنى الاحتساب: 314- نريد بالاحتساب القيام فعلًا بالحِسْبة؛ كأن يأمر المحتسب بفعل معيِّن بكيفية معينة، أو يزيل منكرًا بيده؛ كأن يكسره أو يمزِّقه أو يتلفه، أو يدفع صاحب المنكر بيده، وبالقوة عمَّا هو فيه. ما يتم به الاحتساب: 315- الاحتساب الكامل يتمّ بازالته تمامًا ومحوه فعلًا ولو بالقوة عند الاقضاء من قِبَل المحسب أو أعوانه، أو من قِبَل صاحب المنكر نفسه، بأن يأمره المحتسب بتكسير آلة المنكر فيطيع أمره، فإن عجز المحتسب عن التغيير باليد انتقل إلى الاحتساب بالقول عن طريق الوعظ والإرشاد والتخويف من الله تعالى، وقد يزول المنكر بهذ الطريق وقد لا يزول، ويبقى صاحب المنكر مصرًّا على منكره، فإذا عجز المحتسب عن الإنكار بالقول تحوَّل إلى الإنكار بالقلب، بأن يكرهه بقلبه ويودّ لو استطاع تغييره، ودليل ما قلناه الحديث الشريف: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقبله، وذلك أضعف الإيمان". مراتب الاحتساب: 316- وبناء على ما تقدَّم تكون مراتب الاحتساب ثلاثة: المرتبة الأولى: تغيير المنكر باليد، أي: تغييره فعلًا ولو باستعمال القوة واستعمال

السلاح والاستعانة بالأعون، كما في دفع الصائل لتخليص النفس البرئية من الموت، وتخليص العرض المصون من الهتك، ويدخل في نطاق التغيير باليد ضرب المحتسب عليه أو حبسه أو دفعه لمنعه من مباشرة المنكر. المرتبة الثانية: الاحتساب بالقول، وهو أنواع: أ- التعريف: أي تعريف المحتَسَب عليه بالحكم الشرعي لفعله أو تركه؛ إذ قد يكون المحتَسَب عليه جاهلًا بذلك فارتكب المنكر. ب- الوعظ والنصح والإرشاد والتخويف من الله تعالى، وقد يقلع العاصي عن معصيته إذا سمع لناصحٍ ووعظ الواعظ، فيحصل المقصود من الاحتساب. جـ- التقريع والتعنيف بالقول الغليظ؛ كقول المحتسب للمحتَسَب عليه: يا فاسق، يا أحمق، يا جاهل، ولكن لا يجوز للمحتسب استعمال الكلمات والألقاب المنوّعة شرعًا، كما لا يجوز لعن أبيه. د- التهديد والتخويف بإنزال الأذى به من قِبَل المحتسب، وينبغي أن يكون ذلك مما يقدر عليه المحتسب فعلًا، وبما هو غير ممنوع شرعًا؛ لأنه إذا هدده بما لا يقدر عليه لم يؤثر تهديده، وإذا هدد بغير الجائز شرعًا كان ذلك غير جائز؛ لأن على المحتسب أن لا يخالف الشرع في احتسابه. المرتبة الثالثة: الاحتساب بالقلب: وهذا إذا عجز عن المرتبتين السابقتين، وهذه المرتبة لا يجوز أن يخلو منها أيّ مسلم يسمع بمنكر أو يراه؛ إذ لا ضرر فيه، ثم يتبع ذلك بالاحتساب القولي أو الفعلي. فقه الاحتساب: 317- الغرض من الاحتساب إزالة المنكر من الأرض وإيجاد المعروف فعلًا، وإذا كان هذا الغرض من الاحتساب فيجب الوصول إليه بأيسر طرق وأقصره، بشرط أن يكون مشروعًا، وأن ينظر إلى ما يئول إليه احتسابه من جهة ما يترتَّب عليه من زوال مفسدة المنكر وحلول مصلحة المعروف مكانه، وفي ضوء ذلك يقدم أو يحجم عن الاحتساب، وما يعين على تفهم فقه الاحتساب بيان القواعد التالية:

القاعدة الأولى: 318- الإنكار القلبي يجب أن يكون كاملًا ودائمًا وبالنسبة لكل منكر. وفائدته بقاء القلب في حساسيته ضد المنكر، وبقاء عزمه على التغيير عند الإمكان، أمَّا الإنكار القولي أو الفعلي فيكون حسب الاستطاعة، ودليل ذلك قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} ، وما جاء في الحديث الشريف الذي ذكرنا: "من رأى منكم منكرًا فليغيره.... إلخ "، ويلاحظ هنا أنَّ الثواب يكون كاملًا -إن شاء الله تعالى- إذا كان المحتسب ينكر المنكر بقلبه، ويكرهه كراهية تامَّة، ويفعل لازالته بقدر استطاعته. القاعدة الثانية: 319- إنما يطلب الاحتساب إذا كان من ورائه تحصيل مصلحة أو دفع مفسدة، فإذا كان ما يترتَّب عليه فوات معروف أكبر أو حصول منكر أكبر لم يكن هذا الاحتساب مطلوبًا شرعًا، وإن كان المحتَسَب عليه قد ترك واجبًا أو فعل محرَّمًا؛ لأن على المحتسب أن يتقي الله في عباده، وليس عليه هداهم، وليس من تقوى الله أن يتسبَّب باحتسابه في فوات معروف أكبر أو حصول منكر أكبر؛ لأن الشرع إنما أوجب الحسبة لقمع الفساد وتحصيل الصلاح، فإذا كان ما يترتب على الاحتساب مقدارًا من الفساد أكبر من الفساد القائم، أو يفوّت من الصلاح مقدارًا أكبر من الصلاح الفائت، لم يكن هنا الاحتساب مما أمر به الشرع، ولا شكَّ أنَّ ما قلناه يختلف باختلاف الاشخاص والأحوال والظروف، وعلى المحتَسِب أن يتبصَّر فيها ويزن مقادير المعروف والمنكر التي تنتج عن احتسابه، ثم يقدم بعد ذلك على احتسابه، أو يحجم عنه، وهذا كله بالنسبة للواقعة المعينة والشخص المعين، أما بالنسبة للعموم فهو يأمر بالمعروف مطلقًا، وينهى عن المنكر مطلقًا. 320- وبناءً على هذه القاعدة نستطيع أنْ نفهم لماذا قال العلماء: لا يجوز الخروج على السلطان بالقوة وحمل السلاح وإن ظهر منه شيء من الفسوق؛ لأن الغالب في هذا الخروج حصول مفاسد أعظم من مفسدة فسقه، وحيث كانت المفسدة أعظم لم يجز الاحتساب، كما أنَّ الإمام لا يزال في دائرة الإسلام ولم يخرج منه بفسقه، فيبقى له حق الطاعة على الرعية ما لم يأمر بمعصية، فلا يستوجب الاحتساب عليه بالقوة وحمل السلاح وإحداث الفتنة والاقتتال بين المسلمين.

القاعدة الثالثة: 321- الأخذ بالرفق ما أمكن ذلك، ومستند هذه القاعدة ما يأتي: أ- الحديث النبوي الشريف: "إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله"، ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف. ب- إنَّ الإنسان بطبيعته وما فُطِرَ عليه يقبل الأمر والنهي باللطف والرفق ولين القول أكثر من قبوله عن طريق العنف، بل ربما حمله العنف على الإصرار على المنكر مراغمةً للآمر وعنادًا له، وربما دَلَّ على ما نقول قول الله تعالى لرسوله -صلى الله عليه وسلم: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} ، مع أنَّه -صلى الله عليه وسلم- لا يأمر إلّا بالمعروف، ولا ينطق إلّا بالحق. جـ- إنَّ الاحتساب المثمر هو الذي يجعل المحتَسَب عليه قابلًا للاحتساب راضيًا به، مقتنعًا بضرورته ومضمونه، حتى يكون له من نفسه وازع يمنعه من العودة إلى المنكر، وهذا كله يحتمل حصوله بقدر أكبر إذا كان الاحتساب بالرفق وعدم الغضب والعنف، وبالمحاجَجَة والمناقشة الهادئة المقنعة، جاء في الحديث الشريف الذي رواه الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله تعالى- عن أبي أمامة أنَّ غلامًا شابًّا أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا نبي الله، أتأذن لي في الزنى؟ فصاح الناس به، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "قرِّبوه، ادن" فدنا حتى جلس بين يديه، فقال النبي -عليه الصلاة والسلام: "أتحبّه لأمك"؟، فقال: لا، جعلني الله فداك، قال: "كذلك الناس لا يحبونه لبناتهم، أتحبه لأختك"؟ حتى ذكر -صلى الله عليه وسلم- العمّة والخالة، والغلام يقول في كل واحدة: لا، جعلني الله فداك، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "كذلك الناس لا يحبونه"، فوضع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يده على صدره وقال: "اللهم طهِّر قلبه، واغفر ذنبه، وحصِّن فرجه"، فلم يكن شيء أبغض إليه من الزنى. د- الاحتساب يجري على السلطان كما قلنا، والسلطان بحاجة إلى التلطُّف معه لما يحسّ من نفسه من سلطة؛ ولأنه محتاج إلى الهيبة، وقد يتطاول عليه المغرضون بحجة الاحتساب، فمنعًا لذلك ومراعاةً لما يحسّ هو من نفسه، كان الرفق معه في الاحتساب هو المطلوب، وبهذا أشار الفقهاء، ويقاس على السلطان نوَّابه وولاة الأمور، وقد يدل على ما قلناه أو يؤيده أنَّ الله تعالى أمر نبيه موسى -عليه السلام- وأخاه هارون وقد

أرسلهما إلى فرعون أن يقولا قولًا ليِّنًا لعلَّه يتذكَّر أو يخشى. 322- وما قلناه لا يعني أنَّ الرفق هو الأسلوب الوحيد للاحتساب، أو أنَّه لا يجوز تركه في بعض الأحيان، وإنَّمَا يعني ما قلناه التأكيد على الرفق والأخذ به كلما أمكن ذلك، ولا يستعاض عنه بغيره إلّا عند الحاجة أو الضرورة، فمن مجالات الرفق اللازمة للمحتسب إذا غلب على ظنِّه أن المحتَسَب عليه قام بالمنكر جهلًا منه بحكمه، أو استجابة لهوًى عابرٍ، أو لضعف في إرادته، كما أنَّ الرفق يلازم الاحتساب بالتعريف بالحكم، أو بالوعظ والإرشاد، أو التخويف من الله تعالى، فإذا لم ينفع الرفق تحوَّل المحتَسِب إلى الشدة، وكذلك إذا كان المنكر جسيمًا لا يمكن معه الانتظار، أخذ المحتسب بالشدة الكافية لدفعه، ولا يعتبر ذلك خروجًا عن قاعدة الرفق؛ لأنَّ من معاني الرفق الحرص على مصلحة المحتَسَب عليه بإبعاده عن المنكر وتخليصه من المعصية، وما يترتَّب عليه من عقاب. متى يجب الاحتساب: 323- الاحتساب القلبيّ واجب على كل مسلم في جميع الأحوال إذا ما سمع بمنكره أو رآه كما قلنا. أمَّا الاحتساب باليد أو بالقول فهذا يجب بالقدرة على هذا النوع من الاحتساب، بشرط أن يأمن المحتَسِب على نفسه من الأذى والضرر، كما يأمن على غيره المسلمين من الأذى والضرر. وتعليل ذلك أنَّ الخوف من لحوق الأذى والضرر بمنزلة العجز الحسيّ، والعجز الحسي يفوت شرط القدرة، فلا يجب الاحتساب إلّا أنَّه يجب هجران أصحاب المنكرات وعدم مخالطتهم. هل يشترط الانتفاع بالاحتساب لوجوبه: 324- وإذا توفَّرت القدرة وأمِنَ المحتسب من الأذى والضرر، فهل يشترط الانتفاع باحتسابٍ لوجوب الحسبة عليه؟ قولان للعلماء: القول الأول: لا يجب الاحتساب، وإنما يستحب عند عدم رجاء الانتفاع، فإذا كان مرجوًّا وجب الاحتساب، ودليل هذا القول ما فهموه من قوله تعالى: {فَذَكِّر

إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} ، جاء في تفسير ابن كثير بصدد هذه الآية: منهم من حملها على ظاهرها فيكون المعنى: ذكِّر حيث تنفع التذكرة. القول الثاني: يجب الاحتساب سواءً نفع أو لم ينفع؛ لأنَّ احتسابه قيام منه بواجب شرعي، فلا يتوقف على انتفاع الغير به، ولأنَّ على المسلم أن يؤدي ما عليه، وليس عليه أن يقوم الغير بما عليه، مثل ترك صاحب المنكر منكره، وأجابوا على احتجاج أصحاب القول الأوَّل بأن الكريمة: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} لا تعلق الوجوب على حصول الانتفاع؛ للأدلة التالية: أ- إن المعلق "بأن" على الشيء لا يلزم أن يكون عدمًا عند عدم ذلك الشيء، يدل على ذلك آيات منها قوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ} ، فإن القصر جائز وإن لم يوجد الخوف، وقوله تعالى: {وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} والرهن جائز مع وجود الكاتب. ب- إنَّ ذكر الشرط في الآية الكريمة: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} لفوائد، منها: إنَّه -سبحانه وتعالى- ذكر أشرف الحالتين عند التذكير وهي حالة الانتفاع، وسكت عن الحالة الأخرى وهي عدم الانتفاع منبهًا عليه، كما في قوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} وتقدير الآية: وتقيكم البرد، وعلى هذا فقوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} تقديرها: فذكر إن نفعت الذكرى أو لم تنفع، ومن الفوائد أيضًا أنَّ المراد الحثّ على الانتفاع بالذكرى كما يقول الشخص لغيره إذا بَيِّنَ له الحق: قد أوضحت لك الأمر إن كنت تعقل، فيكون مراده الحثّ على القبول. 325- والراجح عندي من القولين الوجوب كلما كان الانتفاع مرجوًّا أو ممهدًا لتحقيق الانتفاع، أو كان فيه إظهار شعائر الإسلام، أو يحقق مصلحة مشروعة غير انتفاع المحتَسَب عليه، فإذا عري عن ذلك كله كان مستحبًّا لا واجبًا. من يستحب الاحتساب: 326- ويستحَبُّ الاحتساب القولي إذا عَلِمَ المحتسب أنَّ قوله لا يفيد، ولكن لا يلحقه أذى منه، وهذا على رأي بعض العلماء، وقد قيدنان هذا الاستحباب بما قلناه في الفقرة السابقة.

كما يستحب الاحتساب إذا علم المحتسب أن إنكاره يفيد ولكن يلحقه أذى. ووجه الاستحباب إزالة المنكر مع تَحمُّله الأذى، وحتى إذا علم المحتَسِب أنَّ احتسابه لا يفيد المحتَسَب عليه ولا يمنعه من منكره، ولكن احتسابه يفيد من ناحية أخرى؛ كأن تقوى به قلوب المؤمنين وتنكسر أو تضعف شوكة الفاسقين، أو يمهد لإزالته، ففي هذه الأحوال يصير مستحبًّا برغم الأذى الذي يناله ما دام يتحمله، ولا يتعدَّى إلى غيره. متى يحرم الاحتساب: 327- ويحرم الاحتساب إذا لحق المحتسب من جرَّائه أذًى جسيمًا بغيره من أصحابه أو أقربائه أو رفقائه أو عموم المسلمين، حتى ولو قدَّرنا زوال المنكر؛ لأنه يفضي إلى منكر آخر، هو إلحاق الأذى بالآخرين، وهذا لا يجوز؛ لأن للمسلم أن يتسامح في حق نفسه ويتحمَّل الأذى، ولكن ليس من حقه أن يتسامح في إيذاء غيره عن طريق احتسابه، وكذلك يحرم الاحتساب إذا أدَّى إلى وقوع منكر أكبر من المحتَسَب عليه من لحوق الأذى بالآخرين، وكذلك يحرم الاحتساب إذا لم يكن من ورائه إلّا إلحاق الأذى الجسيم بنفسه؛ كقتله أو هتك عرضه دون أن يكون لاحتسابه أيّ مصلحة، أو أيّ أثر في إزالة المنكر ورفعه. 328- والأذى المخوف من جرَّاء الاحتساب، وبالتالي ينقله إلى الاستحباب أو الحرمة على النحو الذي بيناه، هو الأذى الذي يتحقَّق به زوال ما هو حاصل للمحتسب أو لغيره من سلامة وعافية في جسمه أو عرضه أو حريته أو ماله، وليس هو خوف امتناع حصول هذه الأشياء له؛ لأن الضرر الحقيقي هو فوات شيء موجود فعلًا من هذه الأشياء، وليس هو -أي: الضرر- امتناع حصولها، وعلى هذا فالضرب الشديد المؤلم والجرح وهتك العرض وإتلاف عضو من البدن أو إزهاق الروح أو التعذيب الشديد أو السجن الشديد، كل هذا ونحوه يعتَبَر من الأذى الذي ينقل الاحتساب من الوجوب إلى الاستحباب أو الحرمة على النحو الذي فصَّلناه. الشرط في مباشرة الاحتساب: 329- من لمعلوم أنَّ القاضي لا يباشر النظر في حقوق الناس ودعاويهم إلّا إذا

رفعوها إليه، فالشرط في نظر القاضي فيها هو رفع الدعوى، فهل يشترط للمحتَسِب لمباشرة احتسابه رفع المنكر إليه من قِبَلِ مَنْ وقع عليه هذا المنكر أو شاهده؟ الجواب على ذلك: إن كان الاحتساب يتعلّق بحقٍّ خاصٍّ توقَّف نظر المحتسب فيه على طلب صاحب الحق وإعلامه بحقه، ووجّه الاعتداء عليه، وليس للمحتسب أن يتدخَّل فيه من تلقاء نفسه؛ لأن المحتسب إنما يتدخل في منكر ظاهر، وقبل رفع صاحب الحق ظلامته إليه لا يكون ظاهرًا، ولكن بعد إعلامه به يصير ظاهرًا، فيحقّ للمحتسب النظر فيه والاحتساب فيه، فإذا رفع إليه المنكر المتعلق بحق خاصٍّ كان على المحتسب أن يثبت من وجوده بطريق المشاهدة أو بإقرار المعتدي، أمَّا عند الخفاء والإنكار والجحود ممن نسب إليه الاعتداء فلا يتدخَّل المحتسب؛ لأنه لا يسمع بينة كما قلنا من قبل، ولا يوجه يمينًا عند الإنكار، ولا يتجسس. أمَّا إذا كان الاحتساب في حقٍّ من حقوق الله تعالى، أو يغلب فيه حقّ الله، أو كان في حقٍّ عام يتعلق به نفع الناس؛ كاعتداء على مرفق عام، فإنَّ الاحتساب حينئذ يقوم على المشاهدة والعلم الشخصي المستند إلى قيام المنكر ووجوده. الاحتساب في الوقت الحاضر: 330- يمكن لولي الأمر المسلم في الوقت الحاضر أن ينظم شئون الحسبة على النحو الذي يتحقق المقصود من الاحتساب، وأن يتخذ ما يلزم لذلك، فله أن يفتح المدارس لتخريج المحتسبين الأكفاء، كما له أن ينظم شئون الحسبة بين المحتسبين، فيعيِّن لأمور المساجد محتسبين، وللأسواق محتسبين، ولمنكرات الطرق محتسبين، وهكذا، كما له أن يرسل بعضهم إلى القرى والأرياف لتعليم الناس أمور دينهم؛ لأن الغالب عليهم الجهل. أما إذا لم يقم وليّ الأمر بما ذكرنا، جاز أو وجب على المسلمين القيام بمهمة الاحتساب، وتهيئة المحتسبين والإنفاق عليهم، على أن يقوموا بالاحتساب في حدود الوعظ والإرشاد والتذكير فقط، دون استعمال العنف؛ لئلَّا يؤدي ذلك العنف إلى الفوضى والفتنة، مما يجعل المغرضين يستغلون ذلك ويتقولون بالباطل على الحسبة والمحسبين، وتأليب ولاة الأمر على المحتسبين.

المبحث الخامس: نظام الحكم

المبحث الخامس: نظام الحكم مدخل ... المحبث الخامس: نظام الحكم تمهيد: 331- قلنا فيما سبق أن المجتمع ضروري للإنسان، وأنَّ النظام -على أيِّ نحوٍ كان- ضروري للمجتمع، ونضيف هنا فنقول: إنَّ وجود رئيس للمجتمع ضروري لبقائه ونظامه؛ لأنه يستطيع أن يحمل الناس على طاعة النظام وعدم الخروج عليه، فيجنبهم حياة الفوضى والاضطراب والهرج والمرج، ولهذا لم يوجد مجتمع إلّا وجد فيه رئيس -علي أيّ نحوٍ كان- يطيعه الناس عن رضى واختيار، أو قهر واضطرار -لما في طباع العقلاء من التسليم لزعيهم- يمنعهم من المظالم، ويفصل بينهم في التنازع والتخاصم، ولولا الولاة لكانوا فوضى مهملين وهمجًا مضاعين"1؛ ولأن بني آدم لا تتمّ مصالحتهم إلّا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بُدَّ لهم عند الاجتماع من رئيس2. وإذا وجد رئيس للمجتمع أمكن عند ذاك أن يأخذ المجتمع شكل دولة على نحوٍ ما؛ لتوافر عناصر الدولة من أقليمٍ وسكان ونظام وحاكم يباشر السلطة في المجتمع، ويحمل الناس على عدم الخروج على أحكامه. المقصود بنظام الحكم: 332- ونريد بنظام الحكم في بحثنا هذا مجموعة من القواعد والأحكام التي

_ 1 الأحكام السلطانية للماوردي ص3. 2 السياسة الشرعية لابن تيمية ص138.

تتعلق بالحاكم -أي رئيس الدولة، وتبيِّن كيفية اختياره ومركزه القانوني وعلاقة الأمَّة به، والأغراض التي يهدف اليها الحكم، ونحو ذلك. هل يوجد نظام حكم في الإسلام؟ 333- وقد يسأل البعض: هل يوجد في الإسلام نظام للحكم؟ والجواب: نعم؛ لأنَّ من خصائص الإسلام الشمول، فمن البديهي أن يرد فيه من القواعد والأحكام ما يكون نظامًا خاصًّا للحكم في الإسلام، فنحن نجد في القرآن الكريم الأمر بالشورى، ولزوم طاعة الحكام، والحكم بما أنزل الله، ونحو ذلك، وفي السنة النبوية تتكرَّر ألفاظ الأمير والإمام والبيعة، وطاعة الأمير في غير معصية الله، وفي اجتهادات الفقهاء القائمة على نصوص القرآن والسنة كثير من الأحكام والقواعد المهمّة المتعلقة بالحكم، وكل هذا وما سنذكره يدل على أنَّ للإسلام نظامه الخاص في الحكم. مقومات نظام الحكم في الإسلام: 334- وإذا كان في الإسلام نظام للحكم، فلا بُدَّ له من مقومات أو أسس وهي في نظرنا: وجود الخليفة، وقاعدة الشورى، والخضوع لسلطان الإسلام، ولا بُدَّ من الكلام عن كل واحد من هذه المقومات في مطلَب على حدة.

المطلب الأول: الخليفة

المطلب الأول: الخليفة تعريف الخليفة: 335- الخليفة اسم يقال لمن استخلفه غيره، ولمن خالف غيره في أمر من الأمور1، وفي الاصطلاح الشرعي يراد بالخليفة عند الإطلاق: مَنْ يتولى إمرة المسلمين، أي: رئاسة الدولة الإسلامية، ويسمَّى أيضًا بالإمام، فهو رئيس لدولة موصوفة بوصف الإسلام، أي: قائمة على أسسه ومصبوغة بصبغته، وتطبق أحكامه، والخليفة هو الحارس لبقاء صفتها هذه، كما سنبيِّن فيما بعد.

_ 1 منهاج السنة النبوية لابن تيمية ج1 ص137.

وجوب نصب الخليفة: 336- يقول الإمام ابن تيمية: "يجب أن يعرف أنَّ ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدِّين، لا قيام للدِّين إلّا بها"1، وهذا حق، فنصب الخليفة الذي يتولَّى الحكم وإدارة شئون الناس من فرائض الإسلام التي دَلَّ عليها القرآن والسنة والإجماع وطبيعة أحكام الشريعة الإسلامية. أولًا: فمن الكتاب قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} ، وأولو الأمر هم الأمراء، وأدخل بعضهم في مفهوم أولي الأمر العلماء أيضًا2. ثانيًا: ومن السنة القولية، الحديث الشريف: "...... ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية"، أي: بيعة للإمام، وهذا صريح في الدلالة على وجوب نصب الخليفة، وفي حديث آخر: "لتنقض عرى الإسلام عروة عروة، وأولها نقضًا الحكم، وآخرها الصلاة"، والمقصود بالحكم: الحكم على المنهج الإسلامي، ويدخل فيه بالضرورة وجود الخليفة الذي يقوم بهذا الحكم، ونقضه يعني التخلي عنه وعدم الالتزام به، وقد قرن بنقض الصلاة وهي واجبة فدلَّ على وجوبه. ثالثًا: ومن السنة الفعلية، أنَّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- أقام أول دولة إسلامية في المدينة بعد أن مهَّد لها وهو في مكة، وصار هو -صلى الله عليه وسلم- أوّل رئيس لتلك الدولة الإسلامية التي قامت في المدينة، وما معاهدته -عليه الصلاة والسلام- مع يهود المدينة ثم مع غيرهم، إلّا من مظاهر السلطان الذي أخذ يباشره بصفته رئيسًا لدولة الإسلام، وقد أدرك الفقهاء اجتماع صفة الإمام -الرئاسة- مع صفة النبوة في شخص الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم، وبيِّنُوا حكم ما يصدر عنه بهذه الصفة أو بتلك3. رابعًا: الإجماع، قال الفقهاء: نصب الخليفة واجب بالإجماع، فمن أقوالهم هذه، ما قاله الماوردي الشافعي، وأبو يعلى الحنبلي: "عقد الإمامة لمن يقوم به في الأمة واجب بالإجماع"4، ويفصِّل ابن خلدون فيقول في مقدمته: "إنَّ نصب الإمام

_ 1 السياسة الشرعية لابن تيمية ص138. 2 أحكام القرآن للجصاص ج2 ص310، وتفسير القرطبي ج5 ص259. 3 الفروق للقرافي ج1 ص207، 208. 4 الأحكام السلطانية للماوردي ص3، الأحكام السلطانية لابن يعلى الحنبلي ص3.

واجب، فقد عرف وجوبه في الشرع بإجماع الصحابة والتابعين؛ لأنَّ أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند وفاته بادروا إلى بيعة أبي بكر -رضي الله عنه، وإلى تسليم النظر إليه في أمورهم، وكذا في كلِّ عصر من الأعصار، واستقرَّ ذلك إجماعًا دالًّا على وجوب نصب الإمام1، وحكى ابن حزم الإجماع على وجوب الإمامة، وقال: "لم يخالف في هذا إلّا فرقة من الخوارج هي النجدات، فإنهم قالوا: لا يلزم الناس فرض الإمام، إنما عليهم أن يتعاطوا الحب بينهم"، ثم قال ابن حزم: "وهذه فرقة ما نرى بقي منهم أحد"، ثم أخذ يسرد الأدلة على إثبات وجوب الأمامة والرَّد على هذه الفرقة2. والواقع أنَّ قول النجدات لا يعوَّل عليه، فإنَّ الأدلة تخالفه؛ لأنَّ الإسلام يوجب التأمير في أقلّ الاجتماعات، فكيف بأكثرها، جاء في الحديث: "لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض إلّا أمَّروا أحدهم"، وفي رواية في سنن أبي داود: "إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمِّروا أحدهم"، ويقول الإمام ابن تيمية تعليقًا على هذين الحديثين: "فإذا كان قد أوجب في أقلِّ الجماعات وأقصر الاجتماعات أن يولَّى أحدهم، كان هذا تنبيهًا على وجوب ذلك فيما هو أكثر من ذلك"3. خامسًا: إنَّ كثيرًا من أحكام الشريعة يحتاج تنفيذها إلى قوة وسلطان، مثل أحكام الجهاد، وإقامة الحدود والعقوبات، وإقامة العدل بين الناس، فلا بُدَّ من نصب الإمام حتى يمكن تنفيذ هذه الأحكام، وقد أشار إلى هذا المعنى ابن تيمية إذ يقول: "ولأنَّ الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الحج والجُمَع والأعياد ونصر المظلوم وإقامة الحدود لا تتمّ إلا بالقوة والإمارة"4. من يملك حق انتخاب الخليفة: 337- والأمّة هي التي تملك حق نصب الخليفة قيامًا منها بهذا الواجب الشرعيّ الذي خوطب به المسلمون، كما سنذكره، يدل على ذلك ما جاء في المغني: "من اتفق المسلمون على إمامته وبيعته ثبتت إمامته ووجبت معونته"5، ومعنى ذلك أنَّ الأمَّة

_ 1 مقدمة ابن خلدون ص191. 2 الملل والنحل لابن حزم ج4 ص87. 3 فتاوى ابن تيمية ج28 ص65، ومثل هذا ورد في كتابه السياسة الشرعية ص129. 4 السياسة الشرعية لابن تيمية ص139. 5 المغني لابن قدامة الحنبلي ج8 ص17.

هي صاحبة الحق في اختيار من تراه أهلًا لمنصب الخلافة. أساس حق الأمة في انتخاب الخليفة: 338- وأساس حق الأمة في انتخاب الخليفة -على ما نرى- كونها هي المخاطبة في القرآن بتنفيذ أحكام الشرع وإعلاء كلمة الله في الأرض، وإقامة المجتمع الإسلامي الفاضل، فمن هذه النصوص القرآنية: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} ، {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} ، {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} ، فهذه النصوص وأمثاله كثيرة تدل على مسئولية جماعة المسلمين عن تنفيذ أحكام الإسلام. وما دامت الأمة مسئولة عن تنفيذ أحكام الإسلام ومطالبة به، فهي تملك -بداهةً- السلطة على هذا التنفيذ -بتمليك من الشارع؛ وحيث إنَّ جماعة المسلمين لا تستطيع أن تباشر سلطانها بصفتها الجماعية لتعذره في الواقع، فقد ظهرت النيابة في الحكم والسطان بأن تختار الأمة الخليفة لينوب عنها في مباشرة سلطاتها؛ لتنفيذ ما هي مكلفة بتنفيذها شرعًا؛ لأن إنابة الملك غيره في مباشرة ما يملكه أمر جائز كما هو معروف في نظرية النيابة في الفقه الإسلامي. المركز القانوني للخليفة: 339- وإذا كانت الأمة هي التي تتار رئيسها -الخليفة، فهو إذن وكيلها ونائب عنها، مركزه القانوني هو مركز النائب والوكيل عن الأمة، وقد أدرك الفقهاء هذا المعنى وصرَّحوا به، فمن أقوالهم في هذا الباب ما ذكره الفقيه الماوردي وهو يتكلّم عن موت الخليفة والوزير، وأثر ذلك في سلطة أمير البلد أو القطر، فقال ما نصه: "وإذا كان تقليد الأمر من قِبَل الخليفة لم ينعزل بموت الخليفة، وإن كان من قِبَل الوزير انعزل بموت الوزير؛ لأن تقليد الخليفة نيابة عن المسلمين، وتقليد الوزير نيابة عن نفسه"1.

_ 1 الأحكام السلطانية للماوردي ص29.

كيف تختار الأمة الخليفة؟ 340- وإذا كانت الأمة هي التي تختار الخليفة، فكيف تمارس هذا الاختيار، هل تقوم به مباشرة، بأن يقوم جميع أفرادها بإظهار رأيهم بمن يرضونه لهذا المنصب، أم يقوم به طائفة منها نيابة عنها؟ الواقع أننا لا نجد نظامًا محدَّدًا لاختيار رئيس الدولة، وهذا يعني أنَّ الأمر متروك للأمة، فهي التي تختار طريقة اختيارها للإمام، وعلى هذا فيمكنها أن تباشر انتخاب الخليفة بالطريقة المباشرة؛ حيث يشترك جميع أفراد الأمة إلّا من استثني منهم بدليل شرعي، كالصغار والمجانين وغير المسلمين، ونجد سندًا لهذه الطريقة في الآية الكريمة: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} ، فظاهر هذا النَّص يدل على أنَّ المسلمين يتشاورون فيما يهمهم، ولا شكَّ أن اختيار الخليفة من أهمِّ ما يهمهم، ويؤيد ما استظهرناه ما جاء في تفسير هذه الآية الكريمة في تفسير الإمام الرازي، فقد جاء فيه: "إذا وقعت واقعة اجتمعوا وتشاروا، فأثنى الله عليهم، أي: لا ينفردون برأي، بل ما لم يجتمعوا عليه لا يعزمون عليه"1. ويجوز للأمَّة أن تباشر حقها في انتخاب الخليفة بصورة غير مباشرة عن طريق النيابة، وهذه الطريقة نجد لها سندًا في السوابق التاريخية القديمة في عصر الخلفاء الراشدين، وهو خير العصور فهمًا للإسلام وتطبيقًا له، فقد تَمَّ انتخاب أولئك الخلفاء الكرام من قِبَل طائفة من المسلمين، هم الذين يسمِّيهم الفقهاء بأهل الحَلّ والعقد، وتبعهم المسلمون الموجودون في المدينة فبايعوا من اختاروه خليفة، ولم ينتخبهم جميع المسلمين، كما يبايعهم بعد انتخابهم جميع المسلمين في جميع المدن الإسلامية، ولم ينقل لها اعتراض على هذه الطريقة، لا من الخلفاء الراشدين، ولا من غيرهم، فدلَّ ذلك على إجماعهم على صحة هذه الطريقة في الانتخاب، ويؤيد هذه الطريقة من النَّظر أنَّ الأمَّة هي صاحبة الحق في انتخاب الخليفة كما قلنا، وصاحب الحق له أن يباشره بنفسه، كما له أن يباشره بواسطة نائبه، بأن يوكِّل من يقوم به نيابة عنه، وقد أقرَّ الفقهاء هذه الطريقة من الانتخاب وصرحوا بها، فمن أقوالهم: "وإذا تقرَّر أنَّ هذا المنصب -أي: منصب الخليفة- واجب بإجماع، فهو من فروض الكفاية، وراجع إلى

_ 1 تفسير الرازي ج27 ص177.

اختيار أهل العقد والحل، فيتعيِّن عليهم نصبه، ويجب على الخلق طاعته"1. أهل العقد والحل: 341- وإذا كان انتخاب الخليفة من حق الأمة، ولها أن تباشر هذا الحق عن طريق أهل الحلِّ والعقد، فمن هم أهل الحل والعقد؟ وما علاقتهم بالأمة؟ وكيف ينالون هذه المنزلة؟ أما عن السؤال الأول: من هم أهل الحد والعقد؟ فإنَّ الفقهاء يذكرون أوصافًا عامة لهم، ويقولون: هي الشروط المعتبرة فيهم، وهي: الأول: العدالة الجامعة لشروطها. والثاني: العلم الذي يتوصّل إلى معرفة من يستحق الإمامة على الشروط المعتبرة فيها. والثالث: الرأي والحكمة المؤديان إلى اختيار من هو للأمة أصلح وبتدبير المصالح أقوم2، ويذهب بعض الفقهاء المحدثين إلى تحديدٍ أوضح في أوصاف أهل العقد والحل، فيقول صاحب تفسير المنار رشيد رضا -رحمه الله تعالى: "أولو الأمر جماعة أهل الحل والعقد، وهم الأمراء والحكماء والعلماء ورؤساء الجند وسائر الرؤساء والزعماء الذين يرجع إليهم الناس في الحاجات والمصالح العامة"3، فيفهم من هذا القول ومِمَّا ذكره الفقهاء أنَّ أهل العقد والحل هم المتبعون في الأمة الحائزون على ثقتها، ورضاها لما عرفوا به من التقوى والعدالة4 والإخلاص والاستقامة وحسن الرأي ومعرفة الأمور، والحرص على مصالح الأمة. أما علاقة أهل العقد والحل بالأمَّة فهي علاقة النائب والوكيل، فهم يباشرون انتخاب رئيس الدولة -الخليفة- نيابةً عن الأمة، ومن ثَمَّ يعتبر انتخابهم ملزمًا للأمة. أما كيف ينالون هذه المنزلة -منزلة أهل العقد والحل، فإنَّ المتبادر إلى الذهن أنَّ الأمة هي التي ترفعهم إلى هذه المنزلة باختيارهم لهم، ولكننا لا نجد في السوابق التاريخية القديمة ما يشير إلى أنَّ الأمة اجتمعت وانتخبت طائفة منها وأعطتها صفة

_ 1 مقدمة ابن خلدون ص193، وانظر الماوردي ص4. 2 الأحكام السلطانية للماوردي ص4، وأبو يعلى الحنبلي ص3، 4. 3 تفسير المنار، ج5 ص181. 4 من شروط العدالة الإسلام، فيشترط أن يكون الشخص مسلمًا.

أهل الحل والعقد، ومع هذا فإنَّ خلوَّ السوابق التاريخية مما ذكرنا لا يدل على أنَّ من كانوا يسمُّون أهل العقد والحل ما كانوا يمثلون الأمة ولا يعتبرون وكلاء عنها؛ لأنَّ الوكالة -كما هو معروف- تنعقد صراحة أو ضمنًا، وقد كانت وكالة أهل العقد والحل عن الأمة في عصر الإسلام الأول -عصر الخلفاء الراشدين- وكالة ضمنية؛ لأنهم كانوا معروفين بتقواهم وسابقتهم في الإسلام ودرايتهم بالأمور وإخلاصهم في العمل، مع فضل الصحبة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم، ومدح الله لهم في قرآنه، وثناء رسوله العام والخاص إليهم، ومن ثَمَّ فقد كانوا حائزين على رضى الأمة وثقتها، فما كانت هناك حاجة لقيام الأمة بانتخابهم وتوكيلهم عنها صراحة، وحتى لو قامت بهذا الانتخاب لما فاز فيه إلّا أولئك الأخيار الذين عُرِفوا بأهل العقد والحل، ولما نازعهم أحد في هذه المنزلة، ومن ثَمَّ كان انتخابهم يعتبر انتخابًا من الأمة نفسها؛ لأنه تَمَّ بتوكيل ضمنيّ منها لهم للقيام بهذا الانتخاب. معرفة أهل العقد والحل في الوقت الحاضر: 342- وإذا أخذنا في الوقت الحاضر بالانتخاب غير المباشر لرئيس الدولة وفقًا للأحكام الشرعية، فلا مناص من قيام الأمة بانتخاب من يمثلونها وينوبون عنها في مباشرة هذا الانتخاب، ومن تنتخبهم الأمة لهذه المهمة يمكن أن يوصفوا بأنهم أهل العقد والحل؛ لمتابعة الأمة لهم ورضاها بنيابتهم، وعلى الدولة أن تضع النظام اللازم لإجراء هذا الانتخاب، وضمان سلامته من التزييف والتضليل، وأنْ تُعَيِّن في هذا النظام الشروط الواجب توافرها فيمن تنتخبهم الأمة لتكوين جماعة أهل العقد والحل، في ضوء ما ذكره الفقهاء من شروط فيهم. إنَّ مثل هذا الانتخاب على النحو الذي ذكرناه ضروري على ما نرى؛ لإيجاد أو معرفة أهل العقد والحل؛ ولاثبات نيابتهم عن الأمة بالتوكيل الصريح؛ لأنَّ التوكيل الضمني يتعذَّر حصوله في الوقت الحاضر لكثرة أفراد الأمة؛ ولأن إجازة مثل هذا التوكيل الضمني يفتح بابًا خطيرًا على الأمَّة، ويؤذن بفوضى وشرِّ مستطير؛ إذ يستطيع كل عاطل عن شروط أهل الحد والعقد أن يدَّعي لنفسه هذه المنزلة، وينصب نفسه ممثِّلًا عن الأمة ونائبًا عنها، بحجة أنها ترضى نيابته ضمنًا.

ولاية العهد: 343- قلنا: إنَّ الأمة هي التي تختار الخليفة عن طريق أهل الحل والعقد، وقد يعترض علينا بولاية العهد التي أقرها الفقهاء كطريق لتولي منصب الخلافة، فالماوردي وأبو يعلى الحنبلي يقولان: "والإمامة تنعقد من وجهين: أحدهما باختيار أهل العقد والحل، الثاني بعهد الإمام من قبله"1. والجواب على هذا الاعتراض أنَّ اختيار الخليفة عن طريق عهد الإمام السابق قد وقع فعلًا في عصر الخلفاء الراشدين، فقد عهد أبو بكر إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما، وعَهِد عمر إلى ستة يختارون من بينهم واحدًا للخلافة، وعلى هاتين السابقتين اعتمد الفقهاء في تجويزهم ولاية العهد، واعتبروا جواز هذا المسلك ثابتًا بالإجماع. ولكن ما هو التكييف القانوني الشرعي لولاية العهد؟ وهل يصير المعهود إليه بالخلافة خليفة بهذا العهد فقط؟ وما الذي يسبق العهد؟ إنَّ الجواب على هذه الأسئلة ضرورية حتى يتبيِّن لنا مدى موافقة أو مناقضة ولاية العهد لحق الأمة في اختيار الخليفة، وهذا الجواب يظهر مما يأتي: أولًا: جاء في كتاب الأحكام السلطانية للفقيه أبي يعلى الحنبلي ما يأتي: أ- يجوز للإمام أن يعهد إلى إمام بعده ... ؛ ولأنَّ عهده إلى غيره ليس بعقد للإمامة"2. ب- لأنَّ الإمامة لا تنقعد للمعهود إليه بنفس العهد، وإنما تنعقد بعهد المسملين ... إنَّ إمامة المعهود إليه تنعقد بعد موته باختيار أهل الوقت"3. فهذه الأقوال صريحة في دلالتها على أنَّ الإمامة لا تنعقد ولا تثبت بمجرَّد العهد، وإنما تثبت باختيار أهل الحل والعقد، ومعنى ذلك أنَّ التكييف القانوني للعهد أنَّه ترشيح للخلافة، وليس تعيينًا نهائيًّا لمن يتولاه، أمَّا قولهم: الإمامة تنعقد بالعهد، والانعقاد غير الترشيح، فجوابنا أنَّ استعمالهم كلمة "تنعقد" محمولة على الترشيح

_ 1 الماوردي ص4، وأبو يعلى ص7. 2 أبو يعلى ص9. 3 أبو يعلى ص9.

لتتفق أقوالهم التي ذكرناها مع هذ الاستعمال، أو أنَّ هذا الاستعمال محمول على ما يئول إليه العهد، وهو انعقاد الإمامة للمرشَّح بناءً على رضى أهل الحل والعقد المتوقع نظرًا لمشاورتهم بأمر العهد كما هو الغالب. ثانيًا: في سابقة عند أبي بكر إلى عمر، شاور أبو بكر أهل الحل والعقد في رغبته في العهد إلى عمر، فاظهروا رضاهم وموافقتهم، وهذا ثابت في التاريخ، وعلى هذا يكون عهد أبي بكر إلى عمر كأنَّه عهدٌ من أهل الحل والعقد بالإمامة إلى عمر بعد وفاة الخليفة، وعلى هذا التوجيه يمكن اعتبار عهد أبي بكر كاشفًا لإرادة أهل الحلّ والعقد، وكذلك في عهد عمر بن الخطاب إلى الستة لاختيار خليفة منهم، فقد آل أمر الاختيار إلى عبد الرحمن بن عوف، فقام باستشارة كبارة الصحابة وأهل الحل والعقد ثلاثة أيام بلياليهم، فرآهم يرضون بعثمان ابن عفان، فأعلن عند ذاك اختياره له، ومبايعته له، فبايعه المسلمون، فيكون اختيار عبد الرحمن بن عوف لعثمان كاشفًا عن اختيار أهل الحل والعقد، ولذلك بايعوه، ومع هذا فنحن نعتبر كلًّا من عهد أبي بكر إلى عمر، وعهد عمر إلى الستة ترشيحًا للخلافة، وإن سبقه تشاور مع أهل الحل والعقد وموافقتهم على المرشَّح؛ لأن موافقتهم هذه لا يترتَّب عليها تولي الخلافة فعلًا من قِبَل المرشح إلّا بعد وفاة الخليفة المعاهد، وإعلان الموافقة الصريحة منهم ببيعتهم للمرشح، فما لم يعلن أهل الحل والعقد اختيارهم الصريح وبيعتهم الصريحة منهم ببيعتهم للمرشح، لا يصير المعهود إليه -المرشح- خليفة، وقد نبَّه إلى هذا المعنى الفقيه المشهور ابن تيمية -رحمه الله تعالى- فقال -وهو يتكلم عن الإمامة ويرد على أقوال من قال أنَّ الأمامة تنعقد ببيعة أربعة أو اثنين أو واحد: "فليست هذه أقوال أئمة السنة، بل الإمامة عندهم تثبت بموافقة أهل الشوكة عليها، ولا يصير الرجل إمامًا حتى يوافقه أهل الشرك الذي يحصل بطاعتهم له مقصود الإمامة، فإنَّ المقصود من الإمامة إنما يحصل بالقدرة والسلطان، فإذا بويع بيعة حصلت بها القدرة والسلطان صار إمامًا، وكذلك عمر لما عهد إليه أبو بكر إنَّما صار إمامًا لمَّا بايعوه وأطاعوه، ولو قدر أنهم لم ينفِّذوا عهد أبي بكر ولم يبايعوه لم يصر إمامًا، سواء كان ذلك جائزًا، أو غير جائز، فمن قال: إنه يصير إمامًا بموافقة واحد أو اثنين أو أربعة، وليسوا هم ذوي القدرة والشوكة فقد غلط، كما أنَّ من ظنَّ أن تخلف الواحد أو الاثنين أو العشرة يضر، فقد غلط.

وعثمان لم يصر إمامًا باختيار بعضهم -أي: الستة الذين اختارهم عمر، بل بمبايعة الناس له، وجميع المسملين بايعوا عثمان بن عفان لم يتخلف عن بيعته أحد"1. وإذا كان تكييف ولاية العهد أنَّه ترشيح، وأنَّه يسبق بمشاورة أهل الحل والعقد، وظهور رضاهم عن المرشح، فإنه لا شك مسلك سديد وحميد لاختيار الخليفة، ولا يناقض حق الأمة في اختيار الخليفة، بل وقد يرجّح على طريقة انتخاب أهل الحل والعقد للخليفة دون عهد منه إلى أحد، لما في العهد من حسم لمادة الخلاف والنزاع، ولهذا رجح هذه الطريقة الإمام ابن حزم فقال: "وهذا -أي العهد- هو الوجه الذي نختاره ونكره غيره؛ لما في هذا الوجه من اتصال الإمامة وانتظام أمر الإسلام وأهله، ورفع ما يتخوّف من الاختلاف والشغب ممَّا يتوقع في غيره من بقاء الأمة فوضى، ومن انتشار الأمر وحدوث الأطماع2. شروط الخليفة: 344- يشترط في الخليفة جملة شروط، كلها تلتقي في تحقيق كفايته للنهوض بأعباء هذا المنصب الخطير على الوجه المرضي لله تعالى، والمحقق لمصلحة الأمة، وهذه الشروط على ما ذكره الفقهاء هي: أولًا: الإسلام: فيجب أن يكون مسلمًا؛ لقوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} ، أي: منكم أيها المسلمون، فهو من المسلمين، ولقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} ، والخلافة أعظم السبيل فلا تكون لغير مسلم، ولأنَّ حقيقة الخلافة كما سنبيِّن فيما بعد خلافة عن صاحب الشرع في حفظ الدين، فمن البديهي أن تودع هذه الأمانة بيد من يؤمن بهذا الدِّين، وأن لا تسند لمن يكفر به. ثانيًا: أن يكون رجلًا؛ لقوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} ، ولحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة"، وهذا حديث صحيح رواه البخاري وغيره من أئمة الحديث4، والواقع خير شاهد، فإن المرأة تعجز عن

_ 1 منهاج السنة لابن تيمية ج1 ص140- 143. 2 الملل والنحل لابن حزم ج4 ص169. 3 تيسير الوصول ج2 ص36.

النهوض بمهام رئاسة الدولة وهي كثيرة وجسيمة، ولا نريد أن نكثر من ذكر الحجج والأدلة فيما ذكرناه من قول الله تعالى وقول رسوله تكفينا، وتكفي من يؤمن بالله واليوم الآخر وبالإسلام دينًا، ومن يجد في نفسه شيئًا من ذلك نقول له: أمامك دول العالم في الماضي والحاضر، فامسك قلمًا واحص عدد النساء اللاتي تولَّيْن رئاسة الدولة، وعدد الرجال الذين تولَّوا رئاسة الدولة، ثم قارن بين العددين، تر ضآلة نسبتهنَّ إلى نسبتهم في ولاية رئاسة الدولة، مما يدل على أنَّ الناس بتجربتهم يعرفون أنَّ رئاسة الدولة لا يصلح لها إلّا الرجال، وأنَّ من صار منهنَّ في منصب رئاسة الدولة إنما كان نادرًا ولظروف استثنائية. ثالثًا: أن يكون جامعًا للعلم بالأحكام الشرعية؛ لأنه مكلف بتنفيذها، ولا يمكنه التنفيذ مع الجهل بها، والعلم قبل العمل، قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} ، واشترط بعض الفقهاء الاجتهاد، ولم يكتفوا بمجرَّد العلم عن طريق التقليد. رابعًا: وأن يكون عدلًا في دينه، لا يُعْرَف عنه فسق، متقيًا لله، ورعًا، عارفًا بأمور السياسة وشئون الحكم، جريئًا على إقامة حدود الله، لا تأخذه في الله لومة لائم، شجاعًا ذا دراية بمصالح الأمة وسبل تحقيقها، مع حرص عليها وتقديمه لها1. خامسًا: أن يكون من قريش؛ لحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "الأئمة من قريش"، وهذا حديث صحيح روي من غير وجه، واحتج به الفقهاء2، والحكمة من هذا الشرط كما يقول العلَّامة ابن خلدون: إنَّ مقصود الخلافة يحصل بالاجتماع ووحدة الكلمة وترك النزاع وانقياد الأمة لرئيسها، وهذ يحصل إذا كان الخليفة ممَّن تسكن النفوس إليهم، ويعترف لهم بالفضل والتقدم، وهذا الاعتراف وذاك السَّكن كان متحققًا فيمن يُولَّى من قريش؛ لأن قريش كانت ذات قوة وشوكة، وتعترف لها العرب بالتقدم والفضل والزعامة، ولم ينازعوها في ذلك، مما يجعل أمر اجتماع الكلمة وحصول الطاعة لهم أقرب احتمالًا وأسهل منالًا من غيرهم، ولذلك جاء الحديث بالتنويه بهم، وأن

_ 1 الماوردي ص4، وأبو يعلى ص4، ومقدمة ابن خلدون ص193. 2 الملل والنحل لابن حزم والماوردي ص4، وأبو يعلى ص4.

الأئمة منهم؛ ليحصل الائتلاف ويسهل الانقياد ويتحقق مقصود الخلافة1، ثم يستنتج ابن خلدون فيقول: "فإذا ثبت أنَّ اشتراط القرشية إنَّما هو لدفع التنازع بما كان لهم من العصبية والغلب، وعلمنا أنَّ الشارع لا يخص الأحكام بجيل ولا عصر ولا أمة، علمنا أنَّ ذلك إنما هو من الكفاية، فرددناه إليها وطردنا العلة المشتملة على المقصود من القرشية وهي وجود العصبية، فاشترطنا في القائم بأمور المسلمين أن يكون من قوم أولي عصبية قوية غالبة على من معها لعصرها؛ ليستتبعوا من سواهم، وتجتمع الكلمة على حسن الحماية"2 ومعنى ذلك: إنَّ مآل القرشية عنده أصبحت تعني الانتساب إلى جماعة قوية يعترف الناس لها بالقوة والشوكة والتقدم والفضل؛ ليحملهم ذلك على طاعة من يولَّى الخلافة منهم، فتهدأ تاثرتهم ويسهل حكمهم، وينقادوا إلى الحكم المرضي المطلوب. والواقع أنَّ الحديث: "الأئمة من قريش" حديث صحيح لا مجال للطَّعن في سنده ولا في متنه، فيبقى تحديد المعنى المقصود منه، والذي فهمه الفقهاء من هذا الحديث: هو اشتراط النسب القرشي في الخليفة، وهذا المعنى هو ما يذكرونه ولا يذكرون غيره، إلّا ابن خلدون، وهو فقيه ومؤرّخ، ذكر التوجيه الذي نقلناه عنه، وما ذكره ابن خلدون في فهمه للحديث، وإن كان -في نظرنا- يحتمله الحديث إلّا أنه احتمال مرجوح، كذلك يمكن القول على وجه الاحتمال المرجوح أنَّ الحديث مسوق على سبيل الإخبار بما سيقع، لا على سبيل الأمر بما يقع، وفي ضوء هذا كله الذي يترجَّح عندي الآن: إنَّه إذا تساوى اثنان في شروط الخلافة، وكان أحدهما قرشيًّا وجب اختيار القرشي، وإن كان القرشي عاريًا من شروط الخلافة والآخر مستوفيًا لها، إلّا أنه غير قرشي، قدِّم المستوفي لها على القرشي؛ لأن مقاصد الخلافة لا تتحقق بالقرشي وهو عاطل وعار من شروطها، وإنما تتحقق بالآخر الكفء القدير؛ لأن الأصل العام في الولايات لزوم توافر القدرة والكفاءة، وقد وجدتا، وإن لم يوجد القرشي أصلًا

_ 1 مقدمة ابن خلدون ص195. 2 مقدمة ابن خلدون ص198 ويلاحظ أنَّ العصبية التي يتكلم عنها ابن خلدون ليست هي العصبية الجاهلية، وإنما يعني بها ارتباط القوم بسبب النسب أو غيره، وهذا الارتباط يجعلهم متعاونين أولي قوة، لا يستطيع غيرهم منازعتهم في الأمر.

كانت الخلافة لمن تتوافر فيه بقية شروطها. عزل الخليفة: 345- الأمة هي التي تختار الخليفة، فلها حق عزله؛ لأن من يملك حق التعيين يملك حق العزل، ولكن استعمال هذا الحق يقتضي وجود المبرر الشرعي، وإلّا كان تعسفًا في استعمال الحق، واتباعًا للهوى، وهذان لا يجوزان في شرع الإسلام. والمبرِّر الشرعي لعزل الخليفة خروجه عن مقتضى وكالته عن الأمة خروجًا يبرر عزله، أو عجزه عن القيام بمهام الخلافة، وهذا ما صرَّح به الفقهاء، فالإمام ابن حزم يقول -وهو يتكلم عن الإمام- ما نصه: " ... فهو الإمام الواجب طاعته ما قادنا بكتاب الله تعالى وسُنَّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فإن زاغ عن شيء منهما منع من ذلك، وأقيم عليه الحد والحق، فإن لم يؤمن أذاه إلَّا بخلعه خُلِعَ وولِّيَ غيره"1، ومن أقوال الفقهاء أيضًا: "وللأمة خلع الإمام وعزله بسبٍ يوجبه، مثل أن يوجد منه ما يوجب اختلال أحوال المسلمين وانتكاس أمور الدين، كما كان لهم نصبه وإقامته عنه؛ لانتظامها وإعلائها"2، ومن أمثلة العجز عن مهام الخلافة الموجب لزوالها عنه أو عزله واختيار غيره لمنصب الخلافة: جنونه المطبق، وعماه، وأسره بيد العدو على وجه لا يرجى خلاصه؛ لعجزه عن النظر في أمور المسلمين، فيختارون غيره ليقوم بمصالح المسلمين3. تنفيذ العزل: 346- وإذا كانت الأمَّة تملك حق عزل الخليفة عند وجود السبب الشرعي الداعي لذلك، إلّا أنه يجب أن يعرف جيدًا بأنَّ مجرد وجود السبب الشرعي للعزل لا يعني بالضرورة لزوم تنفيذ العزل؛ لأنه عند التنفيذ يجب أن ينظر في إمكانه ونتائجه، فإذا كان تنفيذه ممكنًا ورؤي أنه لا تترتب على العزل نتائج مضرة بالأمَّة تربو على عدم عزله، وجب العزل في هذه الحالة، وإذا رؤي أنَّ التنفيد غير ممكن، أو ممكن بذاته، ولكن يترتَّب عليه نتائج مضرة بالأمَّة تزيد على أضرار بقائه وعدم عزله، وجب أن ترجَّح عدم التنفيذ؛ لأن من قواعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن لا يكون العمل إزالة المنكر مستلزمًا أو مقتضيًا وقوع منكر أعظم منه4. وعزل الخليفة من النهي عن المنكر، فيخضع لهذه القاعدة.

_ 1 الملل والنحل لابن حزم ج4 ص102. 2 المواقف للأيجي وشرحه، نقلًا عن كتاب النظريات السياسية للأستاذ ضياء الدين الريس ص270. 3 أبو يعلى ص605. 4 فتاوى ابن تيمية ج28 ص129.

المطلب الثاني: الشوري

المطلب الثاني: الشورى وجوب الشورى: 347- مبدأ الشورى من أهمِّ مقومات نظام الحكم في الإسلام، به نطق القرآن، وجاءت السنة، وأجمع عليه الفقهاء، وهو حق للأمة وواجب على الخليفة، والتفريط به سبب لعزله كما سنذكره. والأدلة على وجوبه تستفاد من القرآن ومن سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم، ومن أقوال الفقهاء: أولًا: قال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} ، وظاهر الأمر يدل على الوجوب، ومن أقوال الفقهاء والمفسرين بصدد هذه الآية قول ابن تيمية: "لا غنى لوليِّ الأمر عن المشاورة، فإن الله تعالى أمر بها نبيه -صلى الله عليه وسلم1، وجاء في تفسير الطبري بصدد آية {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} : إنما أمر الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- بمشاروتهم فيه تعريفًا منه أمته؛ ليقتدوا به في ذلك عند النوازل التي تنزل بهم، فيتشاوروا فيما بينهم"2، وفي تفسير الرازي: "قال الحسن وسفيان بن عيينة: إنما أمر بذلك -أي: أمر الله رسوله -صلى الله عليه وسلم- بالمشاورة؛ ليقتدي به غيره في المشاروة ويصير سنة في أمته"3. ثانيًا: ومما يؤكّد وجوب المشاروة على رئيس الدولة أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- على جلالة

_ 1 السياسة الشرعية لابن تيمية ص169. 2 تفسري الطبري ج4 ص94. 3 تفسير الرازي ج9 ص66.

قدره وعظيم منزلته كان كثير المشاورة لأصحابه، شاروهم يوم بدر في التوجُّه إلى قتال المشركين، وشاورهم قبل معركة أحد أيبقى في المدينة أم يخرج إلى العدو. وشاور السعدين: سعد بن معاذ وسعد بن عبادة يوم الخندق، فأشاروا عليه بترك مصالحة العدو على بعض ثمار المدينة مقابل انصرافهم عنها، فقبل رأيهما1، وهكذا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كثير المشاورة لأصحابه، حتى قال العلماء: "لم يكن أحد أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم"2. ترك المشاورة موجب لعزل رئيس الدولة: 348- وإذا كانت المشاورة حقًّا للأمَّة وواجبًا على رئيس الدولة، فإنَّ التفريط بها إلى حدِّ تركها موجب للعزل، جاء في تفسير القرطبي: "قال ابن عطية: والشورى من قواعد الشرعية وعزائم الأحكام، من لا يستشير أهل العلم والدِّين فعزله واجب"3، فلا بقاء لحاكمٍ مستبدٍّ في دولة الإسلام. تعليل أهمية المشاورة: 349- مما ذكرناه يتبيِّن لنا بوضوحٍ أن المشاورة في نظام الحكم في الإسلام ذات أهمية بالغة، وتعليل ذلك على ما نرى: إنَّ المشاورة سبيل معرفة الرأي الصواب؛ لأن كل مستشار يظهر رأيه ووجهة هذا لرأي ومدى فائدته، وبعرض هذه الآراء ومقارنتها ومناقشتها يظهر الصواب غالبًا، كما أنَّ بالمشاورة استفادة بلا جهد من خبرات الآخرين وتجاربهم التي اكتسبوها في سنين طوال وبجهود وتضحيات، كما أن بالمشاورة عصمة لولي الأمر من الإقدام على أمور تضر الأمة ولا يشعر هو بضررها، ولا سبيل إلى إصلاح الضَّرر بعد وقوعه، ولا يرفعه كونه حسن النية. وفي المشاورة أيضًا تذكير للأمَّة بأنها هي صاحبة السلطان، وتذكير لرئيس الدولة بأنَّه وكيل عنها في مباشرة السلطان، وفي هذا وذاك عصمة من الطغيان الذي هو من صفات الإنسان، قال تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى} .

_ 1 إمتاع الأسماع للمقريزي ص219، وتفسير الرازي ج9 ص67. 2 السياسة الشرعية لابن تيمية ص169. 3 تفسير القرطبي ج4 ص249.

في أي شيء تجري الشورى: 350- والمشاورة مع الأمَّة تجري في شئون الدولة المختلفة، وفي الأمور الشرعية الاجتهادية التي لا نصَّ فيها، أي: إنَّ رئيس الدولة يستشير في أمور الدين والدنيا كما يقول الفقهاء، فقد جاء في تفسير الجصاص: "الاستشارة تكون في أمور الدنيا وفي أمور الدِّين التي لا وحي فيها"1، والمشاورة في أمور الدنيا، أي: شئون الدولة المهمة منها، مثل تسيير الجيوش وإعلان الحرب وعقد المعاهدات وإسناد المناصب المهمة في الدولة إلى مستحقيها، ونحو ذلك، فلا تكون المشاورة في كل شيء من شئون الدولة حتى في صغائرها وجزئياتها، فإنَّ هذا غير ممكن ولا مطلوب، ولا حاجة إليه ولا منفعة فيه، ولا دليل عليه. أهل الشورى: 351- ولكن كيف تتمّ المشاورة؟ وهل يجب على رئيس الدولة أن يشاور الأمَّة كلها، أو طائفة منها، أو أفرادًا منها؟ المستفاد من سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وهديه في الشورى، أنَّه كان يشاور جمهور المسلمين في الأمور التي تهمهم مباشرة، كما حصل في مسألة الخروج إلى قتال المشركين في معركة أحد، فقد استشار جمهور الموجودين في المدينة، وكان يقول: "أشيروا عليّ" 1، وكذلك في مسالة غنائم هوازن، فقد حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على أن يعرف آراء جميع المسلمين المشتركين في حرب هوازن في مسألة الغنائم التي صارت إليهم، فقد جاء في أخبارهم أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد أن ذكر لهم ما يراه بصدد الغنائم، قال الحاضرون: "يا رسول الله، رضينا وسلَّمنا، قال: "فمروا عرفاءكم أن يرفعوا ذلك إلينا حتى نعلم"، فكان زيد بن ثابت على الأنصار يسألهم: هل سلموا؟ فأخبروه أنهم سلموا ورضوا ولم يتخلّف عنهم رجل واحد ... إلخ"2. فهذه الواقعة تدل على أنَّ أهل الشورى كانوا جميع المسلمين الذين يتعلَّق بهم موضوع المشاورة، وأحيانًا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يستشير بعض أصحابه لا كلهم، كما حصل في مسألة

_ 1 أحكام القرآن للجصَّاص ج2 ص40. 2 إمتاع الأسماع للمقريزي ص116. 3 إمتاع الأسماع ص429.

أسرى بدر، فقد استشار -عليه الصلاة والسلام- بعض أصحابه في هؤلاء الأسرى، وهل يأخذ منهم الفداء أم لا؟ واستشار -عليه الصلاة والسلام- سعد بن معاذ وسعد بن عبادة في مسألة مصالحة غطفان على ثلث ثمار المدينة، على أن يرجعوا عن قتال المسلمين في معركة الخندق، فقالا: يا رسول الله، إن كان هذا أمرًا من السماء فامض له، وإن كان أمرًا لم تؤمر فيه ولك فيه هوًى فسمع وطاعة، وإن كان إنما هو الرأي، فما لهم إلّا السيف، فأخذ الرسول -صلى الله عليه وسلم- برأيهما وترك موضوع المصالحة مع غطفان1. فهذه السوابق الثابتة في سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- تدل على أنَّ أهل الشورى تارة يكونون جمهور الأمة، وطورًا يكونون جميع المسلمين الموجودين وقت المشاورة ويتعلق بهم موضوع المشاورة، كما في مسألة غنائم هوازن، وأحيانًا يكون أهل الشورى المتبوعين في قوهم، كما في مسألة مصالحة غطفان؛ حيث شاور النبي -صلى الله عليه وسلم- السعدين من سادات الأنصار والمتبوعين فيهم، وأحيانًا أخرى يكون أهل الشورى بعض المسلمين من ذوي الرأي، كما في مسألة أسرى بدر. وفي ضوء هذه السوابق يمكن أن نقول: إن من يشاروهم رئيس الدولة يختلفون باختلاف موضوع المشاورة من المسائل التي تحتاج إلى نوع معرفة وحسن رأي ولطف إدراك، فيشاور رئيس الدولة أهل الاختصاص والمعرفة، وقد أشار الإمام القرطبي في تفسيره إلى ما نقول، فقال -رحمه الله: "واجبٌ على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون وما أُشْكِلَ عليهم من أمور الدِّين، ووجوه الجيش فيما يتعلق بالحرب، ووجوه الناس فيما يتعلق بالمصالح، ووجوه الكتاب والوزراء والعُمّال فيما يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها، إلى أن قال: قال العلماء: صفة المستشار إن كان في الأحكام أن يكون عالمًا ودينًا، وصفة المستشار إن كان في أمور الدنيا أن يكون عاقلًا مجربًا"2. الخلاف بين رئيس الدولة وأهل الشورى: 352- وقد يختلف رئيس الدولة مع أهل الشورى، فما الحال في هذه الحالة؟

_ 1 إمتاع الأسماع ص236. 2 تفسير القرطبي ج4 ص249، 250.

الحل ما أمرت به الآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} ، فيجب رد المتنازع فيه إلى كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم، كما تقضي به الآية الكريمة وأجمع عليه المفسرون1، فإذا وجد الحكم صريحًا في الكتاب أو السنة وَجَب اتباعه، ولا طاعة لأحد في مخالفته، وإن لم يوجد الحكم صريحًا فأيّ الآراء أشبه بكتاب الله وسنة رسوله عُمِلَ به2. الأخذ برأي رئيس الدولة: 353- وإذا لم يظهر الرأي الذي هو أشبه بكتاب الله وسنة رسوله، وبقي الخلاف بين رئيس الدولة وبين أهل الشورى، فما الحكم في هذه الحالة؟ الذي نراه ونرجِّحه ترك الأمر إلى رئيس الدولة، فإن شاء أخذ برأي الأكثرية، وإن شاء أخذ برأي الأقلية، وإن شاء أخذ برأيه هو، وإن كان خلاف رأي الأكثرية والأقلية، وقد يبدو قولنا هذا غريبًا؛ لأن الأذهان ألفت الأخذ برأي الأكثرية دائمًا، إلى درجة الاعتقاد بأنَّ الأخذ به ملزم، وأنَّ الخروج على رأي الأكثرية علامة الاستبداد والتعسُّف، إلى آخر ما يقال في هذا المجال، ولكن الحقَّ أحق أن يتبع، فما هي حجتنا فيما قلناه؟ إنَّ حجتنا تتلخَّص بالأدلة الآتية: أدلة الأخذ برأي رئيس الدولة وإن خالف رأي الأكثرية: 354- أولًا: قال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} ، قال قتادة في تفسير هذه الآية: "أمر الله تعالى نبيه -عليه السلام- إذا عزم على أمرٍ أن يمضي فيه ويتوكّل على الله لا على مشاورتهم"3. ثانيًا: السوابق القديمة ومنها ما فعله الخليفة الراشد أبو بكر الصديق في جيش أسامة، وفي محاربة المرتدين، وخلاصة القول في جيش أسامة بن زيد، أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- أرسله قائدًا على جيشٍ من المسلمين، فيه كبارهم وأبطالهم، وأمره بالتوجّه إلى جهة

_ 1 تفسير الطبري ج5 ص87، تفسير القرطبي ج5 ص261، تفسير الجصاص ج2 ص212. 2 السياسة الشرعية لابن تيمية ص170. 3 تفسير القرطبي ج4 ص257.

فلسطين، وقبل أن ينفصل من المدينة توفِّي الرسول -صلى الله عليه وسلم، فتوقف أسامة حتى بويع أبو بكر بالخلافة، فأرسل إليه عمر بن الخطاب يستأذنه بالرجوع مع جيشه؛ ليكون بجانبه ويسهم في دفع شرِّ المرتدين عن المدينة، وكان هذا رأي عمر بن الخطاب أيضًا، وغيره من المسلمين، ولكنَّ أبا بكر رفض هذا الرأي وقال: والله لو علمت أن السباع تجر برجلي إن لم أردّه ما رددته، ولا حللت لواءً عقده رسول الله -صلى الله عليه وسلم1. أما قصة المرتدين، فقد كان منهم فريق كبير امتنعوا عن أداء الزكاة مع بقائهم على الإيمان بالله وبرسوله، وأرسلوا وفدًا إلى المدينة ليقنع الخليفة بالموافقة على ذلك، فرفض أبو بكر هذا الرأي وقال: والله لو منعوني عقالًا لجاهدتهم عليه، وظلَّ أبو بكر -رضي الله عنه- على هذا الرأي بالرغم من رأي أكثر الصحابة أن اللين أوْلَى في هذه الحالة؛ لضعف المسلمين وانتشار الردة وكثرة المرتدين، ولكنَّ أبا بكر ظلَّ باقيًا على رأيه ماضيًا في الذي شرح الله له صدره من الحق، لا يضعف ولا يني2. ووجه الدلالة في هذه السابقة القديمة أنَّ أبا بكر -رضي الله عنه- أخذ برأيه ونفَّذه، ولم يأخذ برأي غيره وإن كانوا كثيرين. ثالثًا: إنَّ الخليفة -رئيس الدولة- مسئول مسئولية كاملة عن أعماله، فلا يجوز إلزامه بتنفيذ رأي غيره إن لم يقتنع بصوابه، لأنَّ كون الإنسان مسئولًا عن عمله يعني أن يعمله باختياره ورأيه، لا أن يعمل وينفذ رأي غيره على وجه الإلزام وهو كاره له غير مقتنع به، ثم يُسْأَل هو عن هذا الرأي ونتائجه. رابعًا: إنَّ صواب الرأي أو خطأه يستمدان من ذات الرأي وطبيعته، لا من كثرة أو قلة القائلين به. خامسًا: ليست الكثرة لذاتها دليلًا قاطعًا أو راجحًا على الصواب، كما أنَّ القلة ليست لذاتها دليلًا قاطعًا أو راجحًا على الخطأ؛ إذ يمكن أن يكون الخطأ مع الكثرة، وقد أشار القرآن إلى هذه الحقيقة، قال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ} ، {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} .

_ 1 أبو بكر الصديق، تأليف الأستاذ علي الطنطاوي ص162، 163. 2 المرجع السابق.

سادسًا: في حالة الحروب: وهي أخطر ما تمرّ به الأمة، يفوَّض الأمر إلى قائد الجيش لينفِّذ ما يراه من خطط الهجوم والدفاع بعد أن يستشير مساعديه، ولا يلزم برأيهم مطلقًا، وإن كان ملزمًا باستشارتهم، ومعنى ذلك أنَّ البشر يدركون بفطرتهم أن خير حلّ عند اختلاف الرئيس مع مستشاريه هو ترك الأمر له، يقرر ما يراه، ولهذا يأخذون بهذا الحل في حالة الحرب، مع أنَّ خطأ القائد قد يؤدي إلى فناء الجيش وهلاك الأمة، ولكن مع هذا يأخذون بهذا الحلّ؛ لأنه خير الحلول وأصوبها عند اختلاف الرئيس مع مَنْ يشاورهم. اعتراضات ودفعها: 355- إنَّ رأينا الذي قدمناه واعتبرناه هو الراجح، بل ونعتبره هو الصحيح، قد يعترض البعض عليه بالاعترضات التالية: الاعتراض الأول: إنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- أخذ برأي الأكثرية في مسألة الخروج إلى معركة أحد، مع أنه كان يميل إلى عدم الخروج، والجواب: إنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- إنَّمَا أخذ برأيهم لأنه رأى ذلك، لا لأنَّ الأخذ برأي الأكثرية ملزم، وكلامنا في إلزام الأكثرية لرئيس الدولة أو عدم إلزامه. الاعتراض الثاني: ما فائدة المشاورة إذا لم يلتزم رئيس الدولة برأي من يشاورهم، أو برأي أكثريتهم؟ والجواب: فائدة المشاورة تظهر في ظهور الرأي الصواب والمظنون في رئيس الدولة أن يأخذ بالصواب، فإذا لم يأخذ برأيهم، فمعنى ذلك أنَّه لم يقتنع بما قيل، لا لكونه يريد العناد والخلاف. الاعتراض الثالث: إنَّ الله تعالى أمر بالمشاورة، وهذ الأمر يتضمَّن الأخذ برأي من يشاورهم، والجواب: المشاورة غير التنفيذ، والله تعالى أمر بالمشاورة، وينقضي حق هذا الأمر بإجراء المشاورة فعلًا، أمَّا التنفيذ فشيء آخر، وهو متروك لرئيس الدولة حسب ما يراه، ما دام الأمر اجتهاديًّا. حق الأفراد في إبداء آرائهم: 356- وقيام الخليفة بمشاورة أهل الحل والعقد لا يعني أنَّ غيرهم من أفراد الأمَّة لا حق لهم في إبداء آرائهم في شئون الحكم وتصرفات الخليفة، فالواقع أنَّ لكل

فرد أن يبدي رأيه فيما يرى فيه المصلحة أو إزالة مفسدة، وأساس هذا الحق تكليف الشارع لكلِّ مسلم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل جعل القيام بهذا التكليف من صفات المؤمنين الأصلية، قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} ، وقال -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح المشهور: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان"، ومن الواضح أنَّ القيام بهذا الفرض يستلزم تمتع الفرد بحق إبداء رأيه بالمعروف الذي يأمر به، والمنكر الذي يريد تغييره، وهذا الحق للأفراد متمِّمٌ للشورى ومساعد لها، ويتفق مع أهدافها؛ لأن به يعان الخليفة على معرفة الصواب وتجنُّب الخطأ، فقد يفوت أهل الشورى بعض الأمور التي يعرفها غيرهم من أفراد الأمة، وعلى هذا لا يجوز للخليفة أو لغيره من أولياء الأمور الانتقاص من هذا الحق للأفراد، كما لا يجوز للأفراد التنازل عنه أو تعطيله؛ لأنه حق أوتوه من الشرع ليتمكَّنوا من أداء ما افترض عليهم من واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولهذا كان الحُكَّام الصالحون يربُّون أفراد الأمَّة على حرية الرأي، ويحثُّونهم على هذه الصفة، ويعيبونهم على تركها، قال رجل للإمام عمر بن الخطاب: "اتق الله يا عمر، فقال له عمر: ألا فلتقولوها، ولا خير فينا إن لم نسمعها"، وفي خطبة لأبي بكر -رضي الله عنه: "فإن أحسنت فأعينوني، وإن زغت فقوّموني"1. حدود حرية الرأي: 357- وحق الأفراد في إبداء آرائهم في تصرفات الخليفة له حدود وضوابط، الأول: أن يكون قصد صاحبه بذل النصح الخالص للخليفة، جاء في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الدين النصحية"، قلنا: لمن؟ قال: "لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامَّتهم"، فلا يجوز للفرد أن يقصد في بيان رأيه في تصرفات الحكام التشهير بهم، أو تكبير سيئاتهم، أو انتقاصهم، أو تجريء الناس عليهم، أو نحو ذلك من المقاصد الباطلة التي لا يراد بها وجه الله، ولا الخير للمنصوح، ولا المصلحة للأمة.

_ 1 الطبقات الكبرى لابن سعد ج3 ص183.

الثاني: أن يكون بيان المسلم لرأيه في تصرفات الحكّام على أساس من العلم والفقه، فلا يجوز أن ينكر عليهم أو ينتقصهم في الأمور الاجتهادية؛ لأن رأيه ليس أوْلى من رأيهم ما دام الأمر اجتهاديًّا. الثالث: لا يجوز للأفراد إحداث الفتنة ومقاتلة المخالفين لهم بالرأي إذا لم يأخذوا برأيهم، ما دام الأمر يحتمل رأيهم ورأي غيرهم. تنظيم الشورى في الوقت الحاضر: 358- ذكرنا في الفقرات السابقة السوابق الثابتة في السنَّة النبوية في موضوع الشورى، ومجموعها يدل على أن الشريعة الإسلامية لم تنصّ على كيفية خاصَّة لتحقيق مبدأ الشورى، ومعنى ذلك أنَّها تركت تنظيم الشورى للأمة الإسلامية على النَّحو الذي يلائم ظروفها وأحوالها، ويحقق مقصود الشورى ومعرفة رأي الأمة، وهذا في الحقيقة من حسنات الشريعة واحتياطها للمستقبل، وعلى هذا فيبدو لنا أنَّ ما يوافق العصر الحاضر أن تقوم الأمة بانتخاب أهل الشورى الذين يشاورهم رئيس الدولة، ويعتبرون بنفس الوقت أهل العقد والحل، على أن يكون لرئيس الدولة الحقّ في مشاورة أهل الاختصاص في موضوع اختصاصهم، وأن يكون له الحق في استفتاء الأمَّة في المسائل الخطيرة، وأن يوضع نظام مفصَّل لكل هذه المسائل وغيرها، مما له علاقة في موضوع الشورى في ضوء قواعد الشريعة ومبائدها وأحكامها في نظام الحكم، كما يجب توفير حرية الرأي للمواطنين لإبداء آرائهم في شئون الدولة في الحدود الشرعية، فلا يجوز مثلًا التشهير والطعن والسباب وفاحش الكلام والافتراء والتضليل بحجة إبداء الرأي، فليس من حقِّ أحدٍ أن يشيع الفساد بحجة إبداء الرأي. والواقع أنَّ مجرَّد وضع الأنظمة لا يكفي لتحقيق الانتخاب السليم، ولا لتحديد حدود الرأي المباح الخالص من الغش والدَّجَل، وإنما الذي يفيد كثيرًا في هذا الباب -مع وضع الأنظمة اللازمة- إشاعة المفاهيم الإسلامية والأخلاق الإسلامية، وتربية الأفراد على معاني العقيدة الإسلامية ومخافة الله وتقواه في السر والعلن، فبهذا يقف الإنسان عند الحدود الشرعية، ويقوم بواجبه على الوجه المرضي، سواء أكان هذا الواجب في انتخاب أعضاء مجلس الشورى أو في قيام هؤلاء بإبداء آرائهم، أو في إبداء آحاد الناس آراءهم فيما يرونه من وجوه المصلحة.

المطلب الثالث: الخضوع لسلطان الإسلام

المطلب الثالث: الخضوع لسلطان الإسلام تمهيد: 359- قلنا فيما مضى: إنَّ الأمة مخاطبة بأحكام الشرع مكلَّفَة بتنفيذها، مثل أحكام العقوبات، والجهاد، والحكم بين الناس بالعدل، ونحو ذلك من الأحكام الشرعية التي هي من الفروض في الإسلام، وإنها تملك -بتمليك الشرع لها- السلطة لتنفيذ هذه الأحكام وحمل الناس عليها؛ وحيث إنَّ تنفيذ هذه الأحكام باستعمالها سلطتها لا يمكن أن يكون عن طريق جماعي، فقد برزت قاعدة النيابة لتحقيق ذلك، بأن تنيب الأمة واحدًا عنها من يباشر سلطانها نيابةً عنها لتحقيق ما هي مكلَّفَة به، وهذ النائب هو الخليفة. سلطان الأمة مقيد غير مطلَق: 360- ولكن سلطان الأمَّة مقيد غير مطلق، مقيَّد بالغرض الذي من أجله منحت الأمةُ هذا السلطانَ من قبل الشرع، ومعنى ذلك أنَّ سلطانها مقيَّد بسلطان الله المطلق الذي له الحاكمية الحقيقة المطلقة {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} ، وارادته الشرعية المتمثلة في شرعه، ومن شرعه نظام الحكم في الإسلام، وعلى هذا فإنَّ سلطان الأمة في الحقيقة سلطان تنفيذ لشرع الله ومنه نظام الحكم، وليس بسلطان خلق وابتداع لنظام يهواه. سلطان الخليفة مقيد غير مطلق: 361- وإذا كان سلطان الأمَّة مقيَّد بسلطان الإسلام، أي: بشرائعه وأحكامه ونظمه، ومنها نظام الحكم، فإن الخليفة -وهو نائبها- سلطانه في الحكم مقيَّد أيضًا بسلطان الإسلام؛ لأنه لا يمكن أن يملك الوكيل أكثر مما يملكه الموكِّل من سلطة وحق.. فسلطانه سلطان تنفيذ للشرع، وليس بسلطان ابتداع الشرع، ولهذا قال عمر بن عبد العزيز في خطبته بعد توليه الخلافة: إنما أنا متَّبِع ولست بمبتَدِع. ما يترتَّب على تقييد سلطان الأمة والخليفة: 362- ويترتَّب على تقييد سلطان الأمَّة والخليفة بسلطان الإسلام أنه لا يملك

واحد منهما الخروج على هذا السلطان أبدًا، فلا يجوز لأحدهما ولا لكليهما، وإن كان برضى منهما تغيير شرع الله أو اتباع غيره؛ لأن الاتفاق على الباطل لا يقلبه حقًّا، ولا يعطي المتفقين عليه تبريرًا شرعيًّا لعملهم الباطل ... ولكن يجوز للخليفة وضع الترتيبات اللازمة لتنفيذ شرع الله ومنه نظامه في الحكم، أو وضع الأنظمة اللازمة لإدارة شئون الدولة في نطاق القواعد العامَّة في الشرع الإسلامي، ما دام لا يوجد نصّ أو نصوص تحكم هذه الشئون، وهذه الدائرة التي يباح فيها للخليفة وضع هذه الأنظمة لتسهيل تنفيذ شرع الله وإدارة شئون الدولة هي التي تدخل فيما يسميه الفقهاء بالأمور الاجتهادية التي يجوز فيها البحث والنظر، وتشريع الأحكام الجزئية في نطاق الاجتهاد وقواعده وضوابطه، ويلزم تنفيذ هذه الأحكام الاجتهادية السائغة، ولا يجوز للأمَّة ولا لأهل الحل والعقد عصيان هذه الأحكام ولا التمرُّد عليها ما دام الخليفة قد قرَّر تنفيذها، ولا يقبل منهم تبرير عصيانهم بمخالفة هذه الأحكام لآرائهم الاجتهادية؛ لأنَّ الاجتهاد لا ينقضّ بمثله كما يقول الفقهاء، إلّا أنه من المرغوب فيه جدًّا للخليفة بل قد يكون من الواجب عليه أن يشاور أهل الشورى فيما يريد تشريعه من الأمور الاجتهادية، كما كان يفعل الإمام عمر بن الخطاب، ومن أمثلة ما فعله هذا الإمام الراشد تشاوره مع أهل الشورى في مسألة تقسيم أراضي السواد في العراق، أيقسمها على الفاتحين أم يبقيها بأيدي أصحابها ويضرب على أراضيهم الخراج؟ ولا شكَّ أن الخليفة عندما يشاور أهل الشورى في هذه المسائل قد يخرجون برأي واحد وقد يختلفون، وعند الاختلاف يترك الأمر للخليفة ليختار الرأي الذي يراه، والمأمول دائمًا أنَّ الرأي الصواب سيظهر نتيجة هذه المناقشة الهادئة الصريحة الهادفة إلى الصواب، وإذا ما تبين الصواب فالراجح جدًّا أن الخليفة يقبله؛ لأنه لا مصلحة له في مخالفة الصواب وهو المنصوب لتنفيذ أحكام الشرع وتحقيق مصالح الأمة، وإذا قدِّر أنه لم يقتنع بوجهات نظر الآخرين الصائبة، وأخذ بوجهة نظر خاطئة فهذا نادر لا غالب؛ لأن الغالب ما قلناه، والعبرة للغالب الشائع لا للنادر. الجدية والمساورة في تنفيذ شرع الله: 363- وإذا كان الخليفة والأمَّة خاضعين لسلطان الإسلام المتمثل في شرعه

فإنَّ هذا الخضوع يظهر في جدية التنفيذ والمسارعة فيه والحرص عليه، فلا يفيد الادِّعاء بالخضوع لسلطان الإسلام مع المخالفة الفعلية له، ومع هذه الجدية في التنفيذ والمسارعة فيه مساواة بين الرعية في تنفيذ القانون الإسلامي عليهم؛ لأنَّ الخليفة لا يملك تعطيل القانون بالنسبة لواحدٍ منهم، وإلّا كان مسئولًا عن ذلك مسئولية دينية أمام الله في الآخرة، وأمام الأمة التي اختارته في الدنيا، كما أنَّ الأمة كلها لا تملك تعطيل القانون بالنسبة لأيِّ فرد، ولا يجوز لها السعي في هذا المجال المحرم بالشفاعة السيئة أو التأثير على الخليفة، وقد بَيِّنَ الرسول -صلى الله عليه وسلم- هذه المعاني بصورة حاسمة وصريحة في مسألة المرأة المخزومية التي سرقت وأهمَّ الناسُ أمرها، فطلبوا من أسامة أن يكلِّم فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على وجه الشفاعة لها عنده، عسى أن يعفيها من إقامة الحدِّ أو يجد لها مخرجًا، وقد غضب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لذلك، وقال في خطبة له في الناس على أثر ذلك: "إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، إذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أنَّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها". الدولة الإسلامية دولة قانونية: 364- وإذا تبيِّن لنا أنَّ الخليفة والأمَّة خاضعون لسلطان الإسلام، فإنَّ معنى ذلك أنَّ الدولة الإسلامية يمكن وصفها بأنها "دولة قانونية" أو "دولة قانون"، أي: إنها تخضع في جميع تصرفاتها وشئونها كما يخضع جميع الأفراد في جميع تصرفاتهم وعلاقاتهم إلى القانون، وأعني بالقانون هنا بالنسبة للدولة الإسلامية القانون الإسلامي المتمثِّل بكتاب الله وسنة رسوله، وما قام عليهما من استنباط صحيح واجتهاد سائغ مقبول، قال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} ، {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} ، ويترتَّب على ذلك أنَّ نظام الحكم الإسلامي لا يقوم على معنى باطل قد يتلبس الحكم أو يقارنه أو يخالطه، مثل: الهوى والطغيان والتكبر في الأرض وحب الفساد والتسلط على الآخرين وغمط حقوق الناس وتسخيرهم للشهوات، ونحو ذلك من المعاني الفاسدة التي لا تنفكّ عنها نظم الحكم الوضعية؛ لأن نظام الحكم الإسلامي خاضع للقانون الإسلامي المبرَّأ من هذه العيوب والمفاسد، ومن مظاهر هذا الخضوع أنَّ الأمة في اختيارها الخليفة أو

أهل الشورى، تختارهم وفقًا للموازين الشرعية، بعيدةً عن الأهواء، وهؤلاء المنتخبون في مجلس الشورى يباشرون حقهم في إبداء الرأي مستحضرين في قلوبهم مخافة الله ومراقبته، فلا يقولون إلّا ما يعتقدونه الحق والصواب، ولا يألون جهدًا في إرادة الخير للأمة، والنصح للخليفة، ولا يبغون من وراء ذلك إلّا مرضاة الله. وأفراد الأمة عندما ينتقدون أو يبدون آراءهم في تصرفات الخليفة يفعلون ذلك وهم يشعرون بلزوم خضوعهم إلى شرع الله، الذي يأخرهم بالعدل في القول والصدق فيه وإرادة النصح الخالص في النقد أو الاعتراض. والخليفة في شئون الدولة ومباشرته سلطان الحكم إنما يستهدي بشرع الله، فلا يعطي ولا يمنع ولا يقدِّم ولا يحجم إلّا ببراهنٍ من شرع الله، وينفذ القانون الإسلامي بعدل ومساواة وجِدِّية، لا تمنعه من إقامة الشرع صداقة ولا قرابة، ولا أيّ معنى من المعاني التي لا يعترف بها الشرع في مجال التنفيذ؛ لأن تنفيذ القانون الإسلامي من لوازم خضوعه له كما قلنا، ولا يعطّل تنفيذه بحجة الرحمة المتوهَّمة، فالرحمة الحقة في تنفيذ القانون الإسلام لا في تعطيله، وقد نبهنا الله تعالى إلى هذا الجانب الضعيف في النفس الإنسانية الذي يتسلل منه الشيطان ليمنع ولي الأمر في إقامة حدود الله، قال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} . وإذا كانت الدولة الإسلامية دولة قانون، وقانونها هو شرع الله -الإسلام، فإنَّ أي خلاف ينشب يكون مرجعه إلى هذا الشرع لا إلى شيء غيره، قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} ، والمحق من كان الحق بجانبه ببرهانٍِ من الشرع، ومن ثَمَّ تكون الدولة بجانبه وإن كان ضعيفًا، والمبطل من لم يكن الحق بجانبه ببرهان من الشرع، ومن ثَمَّ تكون الدولة ضده وإن كان قويًا. 365- وإذا كانت الدولة الإسلامية دولة قانونية خاضعة لسلطان الإسلام، فإن معنى ذلك أنَّ الحكم الحقيقي والسلطان الحقيقي لمشرِّع هذا الإسلام، وهو الله جلَّ جلاله، وصدق الله العظيم إذ يقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} .

المطلب الرابع: مقاصد الحكم في الإسلام

المطلب الرابع: مقاصد الحكم في الإسلام الحكم وسيلة لا غاية: 366- الحكم في الإسلام وسيلة لا غاية، وسيلة فعَّالة إلى مقاصد معينة يستطيع الحكم تحقيقها؛ لما للحاكم من سلطان يستطيع به تنفيذ ما يعجز عنه آحاد المسلمين، فيختصر الطريق ويبلغ الأهداف ويحقق المقاصد، وهي بعض مقاصد الإسلام، فما هي مقاصد الحكم الإسلامي؟ مقاصد الحكم: 367- يقول الفقهاء في تعريفهم للإمامة -أي: الخلافة: "الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدِّين وسياسة الدنيا به"1. فهذا التعريف يؤكِّد على وظائف الخلافة، أي: مقاصد الحكم، ويُجْمِلُها في مقصدين كبيرين؛ الأول: حراسة الدين، والثاني: سياسة الدنيا به. فلا بُدَّ من الكلام عن كل مقصد على حدة، وبيان ما يندرج تحته من مقاصد فرعية. المقصد الأول: حراسة الدين 368- ويقصد بالدين هنا بداهة الإسلام، فهو الدين المطلوب حراسته بالحكم، وحراسة تعني شيئين: حفظه وتنفيذه، فما معنى الحفظ والتنفيذ في هذه المقام؟ 369- أولًا: حفظه وحفظ الإسلام يعني: إبقاء حقائقه ومعانيه ونشرها بين الناس كما بلَّغَها رسول الله

_ 1 الماوردي ص3، وابن خلدون في مقدمته، ذكر هذا التعريف أيضًا.

-صلى الله عليه وسلم، وسار عليها صحابته الكرام ونقلوها إلى الناس من بعده، وعلى هذا لا يجوز أيَّ تبديلٍ أو تحريف في هذه الحقائق والمعاني؛ لأنَّ التحريف والتبديل يدخلان في نطاق الابتداع المذموم في دين الله، ولا يجوز التردد أبدًا في منع التبديل والتحريف بحجة حق الفرد في إبداء الرأي وحرية الفكر والاجتهاد؛ لأنَّ الفرد إن كان مسلمًا فليس من حقِّه أن يبدِّل دين الله، وإذا اختار لنفسه الضلالة ولعقيدته الفساد فليس من حقه أبدًا أن يخرج على نظام دار الإسلام ويشوِّه حقائق الإسلام، وإلّا كان ناقضًا لعقد الذمة، ومع هذا فقد يقع المسلم في زيغ أو شبهة أو خطأ نتيجة فهمٍ سقيمٍ أو تضليلٍ خبيث، فيجب على ولي الأمر -الخليفة- أو نائبه أن يعمل على كشف الشبهة وإظهار الصواب بالدليل والبرهان، حتى يظهر الحق وتقوم الحجة، فإن أصرَّ المبطل على باطله وسعى إلى نشره في الناس مُنِعَ من ذلك وأقيم عليه ما يوجبه الشرع، وقد أشار الفقهاء إلى ما ذكرناه، فقد قالوا: إنَّ على الإمام "حفظ الدين على الأصول التي أجمع عليها سلف الأمة، فإن زاغ ذو شبهة عنه بيِّنَ له الحجة وأوضح له الصواب، وأخذه بما يلزمه من الحقوق والحدود؛ ليكون الدِّين محروسًا من خللٍ، والأمة ممنوعة من الزلل"1. 370- ومن لوازم حفظ الدين "تحصين الثغور بالعدة المانعة والقوة الدافعة حتى لا تظهر الأعداء بغرة ينتهكون فيها محرمًا، ويسفكون فيها لمسلمٍ أو معاهدًا دمًا"1. والحقيقة أنَّ دفع الأعداء عن دار الإسلام ضروري لحفظ الدين وبقائه؛ لأنَّ استيلاء الكفرة على دار الإسلام ضياع للإسلام وطمس لحقائقه، وفتنة عظيمة للمسلمين، وزعزعة لعقائدهم، بسبب حكم الكفرة له، وما يبذلونه لصرف المسلمين عن دينهم الحق بالوعد والوعيد، والتلبيس والخداع والتضليل، بل نستطيع القول أنَّ من لوازم وتمام حفظ الدِّين إعلاءه واظهاره على جميع أنظمة الكفر، حتى لا يبقى للباطل حكم قائم ولا راية مرفوعة، وهذا ما أشار إليه الماوردي؛ إذ يقول وهو يعدِّد واجبات

_ 1 أبو يعلى الحنبلي ص11. 2 الماوردي ص14.

الإمام، "والسادس جهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة حتى يسلم أو يدخل الذمّة؛ ليقام بحق الله تعالى في إظهاره على الدين كله"1. 371- ثانيًا: تنفيذه وأمَّا تنفيذ الدين -الإسلام- وهو المظهر الثاني لحراسته، فيتحقق في أمور منها: تطبيق أحكامه في سائر معاملات الناس وعلاقاتهم فيما بينهم، وفي علاقاتهم مع الدولة، وفي علاقة الدولة -دار الإسلام- مع غيرها من الدول، ومنها: حمل الناس على الوقوف عند حدود الله والطاعة لأوامره، وترغيبهم في ذلك، ومعاقبة المخالفين بالعقوبات الشرعية، ومنها: إزالة المفاسد والمنكرات من المجتمع كما يقضي به الإسلام؛ إذ لا يمكن الادِّعاء بحفظ الدِّين مع ترك المفاسد والمنكرات بلا إنكار ولا إزالة مع توفر القدرة على ذلك. وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المقصد من مقاصد الحكم الإسلامي، قال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُور} . المقصد الثاني: سياسة الدنيا به أمور الدنيا محكومة بالدِّين: 372- إن هذا المقصد يعني أنَّ الدنيا داخلة في نطاق الدين، محكمومة به، غير خارجة عنه. والقول الجامع في سياسة الدنيا بالدِّين هو إدارة شئون الدولة والرعية على وجهٍ يحقق المصلحة ويدرأ المفسدة، وهذا يتمُّ إذا كانت إدارة شئون الحياة وفقًا لقواعد الشريعة ومبادئها وأحكامها المنصوص عليها أو المستنبطة منها وفقًا لقواعد الاجتهاد السليم. فهذه هي السياسة الشرعية لأمور الدنيا بالدين، ومن أوجه هذه السياسة التي يضطلع بها الحكم الإسلامي ويلتزم بها الحاكم المسلم، والتي أشار إليها الفقهاء ما يأتي:

_ 1 الماوردي ص14: وسنزيد هذه النقطة توضيحًا عند الكلام عن نظام الجهاد.

أ- إقامة العدل بين الناس: 373- أول مظهر لسياسة الدنيا بالدين الالتزامُ بالعدل في إدارة شئون الناس وعدم الحيدة عنه مطلقًا؛ لأنه هو الأساس الذي لا قيام لدولة بدونه، ولا بقاء لأمة بفقده، ولهذا كان من صفة عقد البيعة للإمام أن يقال فيها: "بايعناك بيعة رضًى على إقامة العدل والإنصاف والقيام بفروض الإمامة"1. والعدل يتضمَّن إعطاء كل إنسان حقَّه وعدم ظلمه في شيء، فمن الظلم تكليفه بما لا يجب عليه شرعًا، أو أخذ ماله بغير وجه، أو منعه ما يستحق، وهذا ما أشار إليه الفقهاء، فالفقيه الماوردي يقول -وهو يعدد واجبات الإمام: "وجبابة الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع نصًّا واجتهادًا من غير عسفٍ، وتقدير العطاء وما يستحق من بيت المال من غير سف ولا تقصير فيه، ودفعه في وقتٍ لا تقديم فيه ولا تأخير2"، والعلَّامة ابن خلدون يوضِّح الظلم الممنوع فيقول: "ولا تحسبنَّ الظلم إنما هو أخذ المال أو الملك من يد مالكه من غير عِوَض ولا سبب، كما هو المشهور، بل الظلم أعمّ من ذلك، وكل من أخذ ملك أحد، أو غصبه في عمله، أو طالبه بغير حق، أو فرض عليه حقًّا لم يفرضه الشرع فقد ظلمه، فجباية الأموال بغير حقها ظلمة، والمنتهبون لها ظلمة، والمانعون لحقوق الناس ظلمة، ووبال ذلك كله عائد على الدولة بخراب العمران"3، وعلى هذا يجب على الخليفة أن يقوم بما يلزم لتحقيق العدل ومنع الظلم، وأوَّل ما يلزمه في هذا الباب اختيار الموظَّفين الأكفاء والأمناء، والثاني: مراقبتهم. 374- أمَّا اختيار الموظفين الأكفاء، فهذا شيء ضروري؛ لأن الخليفة لا يمكنه أن يباشر أمور الناس بنفسه؛ لأن ذلك فوق طاقته، بل ويستحيل عليه حتى لو أراده. وإنما يباشر أمور الناس بواسطة نوَّابه، أي: الموظفين الذين يختارهم، فعليه أن يتخيِّر الكفء الأمين، ومرد الكفاءة إلى القدرة على ما يتولاه، ومرَدُّ الأمانة عدم التفريط

_ 1 أبو يعلى ص9. 2 الماوردي ص12. 3 مقدمة ابن خلدون ص223.

بشئون ما ولِّي عليه من أمور، وقد أشار القرآن الكريم إلى قانون تولي الأمور الواجب مراعاته من كل حاكم وولي أمر، قال تعالى: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِين} ، فإذا وفِّقَ الخليفة إلى حسن اختيار الموظفين الأكفاء الأمناء حكموا بالعدل وحفظوا حقوق الناس ومنعوا عنهم الظلم، وشعر الناس بالأمن والأمان والاطمئنان، وانكمش أولو الأطماع وأهل البغي، ولم يستطع قويٌّ أن يتعدَّى على ضعيف؛ لأن الدولة أقوى منه، ولم يخش الضعيف المحق من عدوان القوي؛ لأن الدولة مع المحق وإن كان ضعيفًا، وهذا كله يؤدي إلى كسب قلوب الناس وربطهم بالدولة وتعليقهم بالإمام، فيزداد حرصهم على بقاء دولتهم واستعدادهم للذود عنها؛ لأنها في نظرهم كالبيت لهم، وكالحارس لحقوقهم، أما إذا عيِّنَ الخليفة الموظفين العاجزين والفاسدين والخائنين، فإنَّ الناس سيكتوون بنار فسادهم وخيانتهم، ويقعون تحت ظلمهم وبغيهم، مما يضعف الدولة والولاء لها، ويزهِّدهم في الدفاع عنها، "ووبال ذلك كله عائد على الدولة بخراب العمران" كما قال ابن خلدون. ولا يشفع للخليفة عند الناس كرهه لتصرفات ولاته الظلمة الفاسدين؛ لأن الناس يحمِّلونه مسئولية أعمالهم؛ لأنه هو الذي ولَّاهم، ولهذا كله يجب الاهتمام الكامل باختيار الموظفين الأكفاء الأمناء، وبدون ذلك يقع المحذور الذي أشرنا إليه، ولا يدفعه كون الخليفة بنفسه صالحًا، وقد أشار الفقهاء إلى واجب الخليفة في اختيار الموظفين الأكفاء، فقال الفقيه الماوردي عند تعداد واجبات الإمام: "التاسع: استكفاء الأمناء وتقليد النصحاء يما يفوضه إليهم من الأعمال، ويكله إليهم من الأموال؛ لتكون الأعمال بالأكفاء مضبوطة، والأموال بالأمناء محفوظة"1. 375- ولا يكفي أن يعين الخليفة الأكفاء الأمناء، بل عليه أيضًا أن يراقبهم في أعمالهم، فقد "يخون الأمين ويغش الناصح" كما يقول الفقهاء، وحتى إذا استبعدنا خيانتهم وغشهم، فلا يمكننا استبعاد خطئهم، وظلم الناس خطأ كظلم الناس عمدًا من جهة لحوق الضرر بالمظلوم وكرهه للظلم، فلا بُدَّ من المراقبة المستمرة والمحاسبة الدائمة للموظفين، حتى لا تقع خيانة ولا غش، ويقل الخطأ، ويعرف الناس شدة

_ 1 الماوردي ص14.

حرص الخليفة على العدل ومنع الظلم، ويخرج هو من عهدة الخلافة ومسئولية الحكم، وقد نبَّه الفقهاء -رحمهم الله تعالى- إلى هذا المعنى، فقال الفقيه أبو يعلى الحنبلي: على الخليفة "أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور، وتصفح الأحوال؛ ليهتمَّ بسياسة الأمة وحراسة الملة، ولا يعول على التفويض تشاغلًا بلذة أو عبادة، فقد يخون الأمين ويغش الناصح، وقد قال الله تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى} ، فلم يقتصر سبحانه على التفويض دون المباشرة، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته" 1. ب- إشاعة الأمن والاستقرار: 376- ومن واجبات الخليفة المهمة، ومن واجبات الحكام المسلمين جميعًا، إشاعة الأمن والاستقرار في دار الإسلام، حتى يأمن الناس على أرواحهم وأعراضهم وأمولهم، وينتقلوا في دار الإسلام آمنين مطمئنين. إنَّ هذا المقصود يتحقق بصورة كاملة بتطبيق القانون الإسلامي الجنائي، أي: بتطبيق العقوبات الشرعية على العابثين في الأمن، المعتدين على الناس، بشرط أن يكون التطبيق عادلًا وعلى الجميع بلا محاباة ولا تردد، فإذا ما طبِّقت الأحكام الشرعية على المعتدين أمن الناس وخاف المجرم، وتحقق الاطمئنان، وسنتكلم عن أهمية العقوبات الشرعية وأثرها الفعَّال في منع الإجرام، وفي تحقيق الأمان للناس، عند الكلام عن نظام الجرائم والعقوبات، وقد أشار الفقهاء إلى هذا المقصد قالوا: وعلى الخليفة "إقامة الحدود لتُصَان محارم الله تعالى عن الانتهاك، وتحفظ حقوق عباده من إتلاف واستهلاك"2. جـ- تهيئة ما يحتاجه الناس: 337- ومن مظاهر سياسة الدنيا بالدين قيام الحكم الإسلامي، بتهيئة ما يحتاجه الناس من مختلف الصناعات والحرف والعلوم، فهذه من فروض الكفاية التي يجب وجودها في الأمة لسدِّ حاجاتها، وقد أشار الفقهاء إلى ذلك، فقد قال العلَّامة ابن عابدين في حاشيته "رد المحتار" على "الدر المختار": ومن فروض الكفاية

_ 1 أبو يعلى الحنبلي ص12. 2 الماوردي ص14.

الصنائع المحتاج إليها1. ومن الواضح أن الصنائع المحتاج إليها تختلف باختلاف العصور والأزمان، فما كان الناس يحتاجون في الأمس قد يحتاجون إلى غيره اليوم، فعلى الحكم الإسلامي حكم ملاحظة ذلك وتهيئة وسائله، ويترتب على اعتبار تحصيل الصناعات والحِرَف المحتاج إليها من فروض الكفايات لحوق الإثم بالأمَّة وبالحكام إذا قصروا في تحصيلها، وثبوت حق الحكام في إجبار أصحاب الصناعات على القيام بها إذا امتنعوا عنها، وهذا ما صرَّح به الفقهاء، فقد قال الفقيه المشهور ابن قيم الجوزية في كتابه "الطريق الحكمية": إن لوليِّ الأمر إجبار أصحاب الحِرَف والصناعات على العمل بأجر المثل إذا امتنعوا عنها، وكان في الناس حاجة إلى صناعاتهم1. د- استثمار خيرات البلاد: 378- ومن مظاهر سياسية الدنيا بالدين، استثمار خيرات البلاد بما يحقق للرعية الرفه الاقتصادي والعيش الكريم، وقد أشار الفقهاء إلى هذا الواجب، فقد قال الفقيه المشهور أبو يوسف في كتابه القيم "الخراج"، الذي وجه إلى الخليفة هارون الرشيد: إن على الخليفة أن يأمر بحفر الأنهار وإجراء الماء فيها، وتحميل بيت المال وحده نفقات ذلك، وهذا نص كلامه: "فإذا اجتمعوا -أي: أهل الخبرة- على أنَّ في ذلك -أي: في حفر الأنهار- صلاحًا وزيادة في الخراج، أمرت بحفر تلك الأنهار، وجعلت النفقة من بيت المال، ولا تحمل النفقة على أهل البلد، ولك ما فيه مصلحة لأهل الخراج في أرضهم وأنهارهم، وطلبوا إصلاح ذلك لهم، أجيبوا إليه إذا لم يكن فيه ضرر على غيرهم"2 وما ذكره أبو يوسف -رحمه الله- من ضرورة حفر الأنهار لأرض الخراج3 هو من قبيل التمثيل لا الحصر، يدل على ذلك عبارته الأخيرة: "وكل ما فيه مصلحة لأهل الخراج في أرضهم وأنهارهم، وطلبوا إصلاح ذلك لهم، أجيبوا إليه" كما يمكن القياس على ما ذكره أبو يوسف جميع الأعمال اللازمة لاستغلال

_ 1 ابن عابدين ج3 ص32. 2 الطرق الحكمية لابن القيم ص222. 3 الخراج لأبي يوسف ص110. 4 أرض الخراج: هي الأراضي التي فتحها المسلمون، مثل أرض العراق، وتركوها بيد أهلها على أن يدفعوا عنها ضريبة معينة تسمَّى "الخراج".

ثروات البلاد وخيراتها على وجهٍ يعود بالنفع العميم على الجميع، فهذه يجب القيام بها، مثل: تنظيم الري في البلاد، وإقامة السدود، وتحسين الزراعة، واستخراج المعادن، وإقامة المصانع، وتعبيد الطرق التي تسهّل نقل المحاصيل، وإيجاد سبل العمل الشريفة للمواطنين، إلى غير ذلك من الأمور التي لا يمكن حصرها وعدها، وتختلف باختلاف الزمان والمكان والظروف والأحوال.

المبحث السادس: النظام الاقتصادي

المبحث السادس: النظام الاقتصادي مدخل ... المبحث السادس: النظام الاقتصادي تمهيد: 379- من الحقائق الثابتة أنَّ الإنسان يبذل كثيرًا من نشاطه وجهده للحصول على وسائل العيش من طعام ولباس وسكن، وغير ذلك من الأمور الضرورية وغير الضرورية، ولا شكَّ أن هذا الجهد المبذول من كلِّ إنسان ضروري لتوفير وسائل العيش للآخرين؛ لأنَّ الإنسان لا يستطيع بمفرده توفير جميع ما يحتاجه لنفسه. إنَّ نشاط الإنسان في هذا المجال وما يترتَّب عليه هو الذي يسمَّى بالنشاط الاقتصادي. ولما كان الإنسان يعيش في المجتمع، فلا يمكنه أن يتمتع بحرية مطلقة فيما يباشره من نشاط، ومنه النشاط الاقتصادي، بل لا بُدَّ من تنظيمه على نحوٍ يرتضيه المجتمع ويحقق الخير له وللفرد. والقواعد والأحكام التي تنظم النشاط الاقتصادي للأفراد في مجتمعٍ ما هِيَ إلّا التي تكوّن النظام الاقتصادي فيه، وهذا النظام -على أيِّ نحو كان- لا بُدَّ له من أساس يقوم عليه، وأفكار معينة تشيع فيه، تكوّن معالمه وخصائصه، وتنسجم أحكامه وقواعده مع هذه المعالم والخصائص، ومع ذلك الأساس الذي يقوم عليه. 380- ولما كان الشمول من خصائص الإسلام، فمن البديهي أن يجد في الإسلام تنظيمًا للنشاط الاقتصادي للإنسان، بما وضعه له من قواعد وأحكام في ضوء أفكاره، وهذه القواعد والأحكام وما قامت عليه من أساسٍ تكوّن النظام الاقتصادي الإسلامي. 381- ويقوم نظام الإسلام في الاقتصاد على أساس العقيدة الإسلامية ويتفرَّع منها، فهذه العقيدة إذن هي أساسه الفكري، وهو يراعي الفطرة الإنسانية ومعاني الأخلاق الفاضلة، ويؤكد على ضرورة سدِّ حاجات الأفراد اللازمة للعيش، وهذه هي خصائصه. وبناء على أساسه وخصائصه تنبثق جملة مبادئ عامة وتنظيمات جزئية، كما أنه يحدِّد موارد بيت المال ومصارفه؛ لتستطيع الدولة توفير حاجات الأفراد ومصلحة المجتمع، وعلى هذا سنتكلم عن أساسه الفكري وخصائصه في مطلب أوّل، ثم عن مبادئه العامَّة في مطلب ثانٍ، ثم عن بيت المال في مطلب ثالث.

المطلب الأول: الفرع الأول: الأساس الفكري للنظام الاقتصادي الإسلامي

المطلب الأول: الفرع الأول: الأساس الفكري للنظام الاقتصادي الإسلامي 382- العقيدة الإسلامية هي الأساس الفكري للنظام الاقتصادي الإسلامي، وهذه العقيدة -كما أشرنا من قبل- تبيِّنُ علاقة الإنسان بالكون، وبخالق الكون، وبالغاية التي من أجلها خُلِق الإنسان، وتفصيل وسائل تحقيق هذه الغاية، فالإنسان -في ضوء هذه العقيدة الحقة- من مخلوقات الله، بل ومن أفضل هذه المخلوقات، وأنَّ الله -سبحانه وتعالى- خلقه لعبادته بمعناها الواسع، وأنه لا يبلغ هذه الغاية إلّا بالخضوع الاختياري المطلق لله رب العالمين، ومظهر هذا الخضوع صياغة نفسه وسلوكه ونشاطه، ومنه النشاط الاقتصادي، على النحو الذي فصَّله وشرَّعه الله تعالى، وعلى هذا فإنَّ النظام الاقتصادي في الإسلام يعمل مع غيره من أنظمة الإسلام؛ لتسهيل وتيسير السبل للإنسان لبلوغ الغاية التي خُلِق من أجلها، وهي عبادة الله وحده، فإذا تيسَّرت هذه العبادة للإنسان زكت نفسه بالقدر المطلوب، وصار أهلًا للظفر بالحياة الطيبة في الآخرة، فضلًا عن ظفره بالسعادة في الدنيا. إنَّ فقه هذا الأساس الفكري للنظام الاقتصادي في الإسلام من قِبَل المسلم ضروري جدًّا له؛ لأنه بهذا الفقه واستحضاره في ذهنه سيعرف مركزه الحقيقي في الدنيا وعلاقته بها، وغايته في الحياة، وبالتالي يتقبَّل بنفس رضيِّة جميع الضوابط والتنظيمات التي جاء بها الشرع الإسلامي في مجال النشاط الاقتصادي، وسيندفع لتنفيذ هذه الضوابط والتنظيمات والتقيُّد بها، وبهذا تظهر ثمار النظام الاقتصادي في واقع الحياة، ويسهم هذا النظام في تحقيق ما خُلِق الإنسن من أجله.

383- ومن معاني العقيدة الإسلامية ولوازمها التي لها علاقة في موضوع النظام الاقتصادي ما يأتي: 384- أولًا: الملك لله وحده: إنَّ الكون بكلِّ ما فيه وبدون أيِّ استثناءٍ مملوك لله تعالى وحده على وجه الحقيقة والخلوص، فلا شريك لأحد معه في ذرَّة منه؛ لأن الله تعالى هو خالقه، قال ربنا في القرآن الكريم: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} ، {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ} ، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} ، {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ} ، ومن لوازم الملك التامّ التصرّف التام في المملوك، ولهذا فإنَّ لله وحده حق التصرُّف المطلق في جميع مخلوقاته. 385- ثانيًا: المال مال الله: والمال -وهو ما يتموله الناس ويستفيدون منه ويمكن إحرازه- هو من جملة ما في الكون، فهو أذن لله وحده، وإنَّ الله تعالى هو مالكه الحقيقي، قال تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} . 386- ثالثًا: تسخير الله تعالى مخلوقاته لنفع الإنسان: الله تعالى بمحض فضله سخَّر للإنسان ما خلقه في السماوات والأرض لينتفع به، وهيَّأ له سبل هذا الانتفاع بما أودعه في الإنسان من عقل وجوارحٍ يستطيع بها الاهتداء إلى سبل الانتفاع بما خلقه الله تعالى، قال ربنا -تبارك وتعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} ، {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} ، وقال تعالى ممتنًّا على الإنسان بما أودعه فيه، مما يستطيع به الاهتداء إلى سبل الانتفاع بما خلقه الله له: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} . 387- رابعًا: الملك المجازي للإنسان: ومع أنَّ الملك الحقيقي هو لله رب العالمين، فقد إذن الله تعالى -بمحض فضله- للإنسان أن يختص بالانتفاع بالمال والتصرف فيه، وإضافته وتسميته مالكًا له، قال ربنا -تبارك وتعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ، {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} ، {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} ، فهذه الآيات الكريمة تضيف المال للإنسان إضافة

ملك واختصاص، وفي الحديث الشريف: "لا يحل مال امرئ مسلم إلّا بطيبٍ من نفسه"، فهذا الحديث الشريف يضيف المال للإنسان على وجه الملك له، ومع هذا فإنَّ الملك الحقيقي يبقى لله رب العالمين؛ لأنه يستحيل أن يشاركه أحد في ملك شيء. ومعنى ذلك أنَّ إضافة الملك للإنسان هي من قبيل المجاز لا الحقيقة، وأن الإنسان فيما يملكه كالوكيل فيه عن مالكه الحقيقي، ويترتب على ذلك أن على الإنسان أن يخضع إلى جميع القيود والتنظيمات التي شرعها المالك الحقيقي وهو الله تعالى، وأنه لا يجوز للإنسان أبدًا أن يخرج عن هذه القيود، فإن خرج عنها كان عاصيًا لأمر الله، واستحق العقاب المقرَّر في الشرع، وقد ينزع منه الملك نهائيًّا أو مؤقتًا، كليًا أو جزئيًّا، وقد أدرك فقهاؤنا -رحمهم الله تعالى- هذه المعاني وأشاروا إليها، فقد قال الإمام القرطبي في تفسيره، وهو يفسِّر قوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} قال -رحمه الله: وفي هذا دليل على أن أصل الملك لله سبحانه، وأنَّ العبد ليس له فيه إلّا التصرف الذي يرضي الله. ثم قال -رحمه الله تعالى: وهذا دليل على أن الأموال ليست أموالكم في الحقيقة، وما أنتم فيها إلّا بمنزلة النوَّاب والوكلاء، فاغتنموا الفرصة فيها قبل أن تزال عنكم إلى من بعدكم1. إنَّ فقه هذه الحقيقة تجعل المسلم مندفعًا إلى تنفيذ شرع الله في المال الذي آل إليه، فلا يبخل به حيث يجب عليه بذله؛ لأنه وكيل عليه وليس بمالك حقيقي له، والشأن في الوكيل تنفيذ ما يريده الموكّل فيما وكله فيه. 388- خامسًا: استعمال المال في مرضاة الله: وكُلّ ما يؤتاه المسلم من مالٍ يجب أن يستعمله في مرضاة الله؛ لتحقيق الغاية التي خُلِق من أجلها وهي عبادة الله تعالى؛ ليظفر بالحياة الطيبة في الأخرى، قال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} ، ولكن هذا لا يعني حرمان نفسه من طيبات الدنيا، ولا إرهاق جسده بحرمانه مما يحتاج إليه، قال ربنا: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} . 389- سادسًا: الدنيا وسيلة لا غاية: والدنيا بكل ما فيها من متاع وأموال ليست

_ 1 تفسير القرطبي ج7 ص238.

هي الغاية للإنسان، وإنما هي وسيلة إلى الغاية التي خلق من أجلها وهي إعداد نفسه للدار الآخرة بعبادة ربه، فلا يجوز أن ينسى هذه الغاية إذا ظفر بوسائل الدنيا ومتاعها، ولا يجعل الدنيا أو شيئًا منها هي غايته. إن الحذاء وظيفته أن يضع الإنسان قدميه فيه، وإنَّ الدابة وظيفتها أن يركبها الإنسان ليبلغ المكان الذي يريده، فلا يجوز في فقه الإسلام ولا في إدراك العقل السليم أن يكون القصد من اقتناء الحذاء غاية في نفسه، ولا الحصول على الدابَّة غاية في نفسها، وهكذا متاع الدنيا يميل إليه المسلم كوسيلة فقط تسهِّل له بلوغ الغاية التي خُلِق من أجلها، وأنه سيفارق هذه الوسائل قطعًا، ولا يبقى له إلّا ما استفاده منها في عبادة ربه ومرضاته، إنَّ إدراك هذه المعاني واستحضارها في الذهن من الأمور الضرورية لضبط النشاط الاقتصادي على النحو الذي يريده الإسلام؛ لأن الضوابط الحقيقية لنشاط الإنسان هي التي تضبطه من داخله، تضبط ارداته وقصده ونظرته وميله، فإذا انضبط الداخل سهل ضبط الخارج، أي: النشاط الخارجي للإنسان، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه المعاني جميعًا في آيات كثيرة، منها: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُون} ، {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} ، {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} . الفرع الثاني: خصائص النظام الاقتصادي الإسلامي 390- قلنا فيما سبق: إنَّ خصائص النظام الاقتصادي في الإسلام مراعاته للفطرة الإنسانية ومعاني الأخلاق الفاضلة، وتأكيده على سَدِّ حاجات الإنسان الضرورية للحياة، ونذكر فيما يلي شيئًا عن كل خصيصة بإيجاز.

أولًا: مراعاة الفطرة الإنسانية 391- فطر الله الإنسان على جملة غرائز وميول ورغبات لا يمكن قلعها واستئصالها أبدًا، وإن كان يمكن تقويمها وتهذيبها إذا ما انحرفت أو تكدَّرت، وعلى هذا فأيّ نظام يصادم الفطرة الإنسانية ويناقضها لا يمكن أن يأتي بخير، ولا تتيسَّر له فرص البقاء، ونظام الاقتصاد في الإسلام راعى جانب الفطرة للإنسان؛ لأن الإسلام هو دين الفطرة، ومن مظاهر هذه المراعاة إقراره بحق الملكية للإنسان؛ لأنه مفطور على ذلك، وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك، قال تعالى: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} ، وإقراره نظام الإرث؛ لأن الإنسان مفطور على حُبِّه لأبنائه، وقلقه عليهم إذا تركهم بدون مال، ومن ثَمَّ أقرَّ الإسلام نظام الإرث؛ لأنه ينسجم ويتفق مع هذه الفطرة. وقد أشار القرآن الكريم إلى نوازع فطرة الإنسان نحو أبنائه، وشفقته عليهم، واهتمامه بهم، وخوفه عليهم بعد موته، قال تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} ، وقال تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} ، كما أنَّ الإسلام في نظامه الاقتصادي أقرَّ للإنسان بالتمتع بثمرات جهوده ونشاطه؛ لأن هذا مما يتفق وما فُطِر عليه كل إنسان، بل إنَّ في أصل غريزة الإنسان رفضه أن يشاركه الغير في ثمرات جهوده، وإنما قد يرضى بهذه المشاركة لمعنًى آخر؛ كالحصول على ثواب الله تعالى، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الغريزة الإنسانية، قال تعالى: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} ، قال القرطبي في تفسير هذه الآية: أي جعل الله منكم غنيًّا وفقيرًا، فما الذين فضلوا بالرزق برادِّي مما زرقوا شيئًا على رقيقهم حتى يستوى المملوك والمالك في المال1، وفي آية أخرى قال تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ

_ 1 تفسير القرطبي ج10 ص141.

سَوَاءٌ} ، ويقول القرطبي في تفسير هذه الآية: من أنفسكم: "من" هنا للابتداء، كأنه قال: أخذ مثلًا وانتزعه من أقرب شيء منكم وهي أنفسكم. إلى أن قال الإمام القرطبي: والمعنى: هل يرضى أحدكم أن يكون مملوكه في ماله ونفسه مثله، فإذا لم ترضوا بهذا لأنفسكم فكيف جعلتم لله شركاء1. وعلى أساس مراعاة الفطرة الأنسانية قامت جملة مبادئ عامة في النظام الاقتصادي الإسلامي سنذكرها فيما بعد، ولكنَّ مراعاة الفطرة الإنسانية لا يعني السير وراءها كيفما سارت وإلى أية جهة اتجهت؛ لأن مراعاتها لا تقتضي ولا تستلزم هذه التبعية العمياء، وإنما تعني مراعاة أصلها، مع تهذيب لها ورقابة عليها إذا ما انحرفت أو تكدَّرت. ثانيًا: مراعاة معاني الأخلاق 392- ويراعي النظام الاقتصادي معاني الأخلاق الفاضلة، فلا يجوز لإنسان أن يهدِر هذه المعاني أو يتخطَّى حدودها في أي جانب من جوانب نشاطه الاقتصادي؛ لأن المجتمع الإسلامي يقوم على معاني الأخلاق، كالمحبة والتعاون النظيف، قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} ، فلا حسد ولا خصام ولا حقد ولا بغضاء ولا كذب ولا غش ولا خداع ولا غدر، وإذا ما صار في يد الإنسان مال لم يجز أن ينفقه في الفحش والرذيلة ومتع الجسد المحرمة، بل عليه أن ينفقه في السبل الحلال وتنفيس الكرب عن المكروب والمحتاجين، وإذا أراد أن ينمِّي الإنسان أمواله، فلا يجوز له أن ينمِّيها بما يفسد الأخلاق ويقطع روابط المودة بين أبناء المجتمع، كفتح حانات الخمور والفحش والإقراض بالربا، وهذه المراعاة لمعاني الأخلاق منها ما هو متروك لإيمان الإنسان ووجدانه، كالالتزام بالصدق والوفاء، ومنها ما تتدخل الدولة في إلزام الأفراد به وإجبارهم عليه، مثل منعهم من الربا وفتح محلات الفحش والخمور. ثالثًا: التأكيد على سد حاجات الأفراد 393- للإنسان حاجات مادية ضرورية لا يمكنه العيش بدونها، كحاجته إلى

_ 1 تفسير القرطبي ج14 ص22، 23.

الطعام والشراب والسكن واللباس، وما يلحق بهذه الأشياء وينزل منزلتها، ولا بُدَّ من توفير هذه الأشياء لكل إنسانٍ إلى الحد الأدنى للعيش الكريم، وقد أكد النظام الاقتصادي الإسلامي على هذه الناحية، أي: لزوم سد هذه الحاجات الضرورية لكل إنسان في المجتمع الإسلامي، وقد قرَّر لتحقيق هذا المطلب وسائل متعددة ومتدرّجة، إن لم تف الواحدة منها وجب الأخذ بالتي تليها، حتى يتحقق المقصود، ويجد كل فرد كفايته في المجتمع الإسلامي، وهذه الوسائل هي: 394- أولًا: الأصل أن كل إنسان مكلَّف بسد حاجاته بنفسه، أي: بما يبذله من جهد ونشاط، ولهذا حثَّ الإسلام على العمل والاكتساب، ومدح العاملين الكاسبين، وقال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} ، وفي الحديث الشريف: "إنَّ أفضل الكسب كسب الرجل من يده". 395- ثانيًا: على الدولة أن تهيء سبل العمل للقادرين عليه، حتى ولو اقتضى الأمر إقراضهم من بيت المال ما يستطيعون به العمل والاكتساب، وقد أشار الفقيه الكبير أبو يوسف -رحمه الله- إلى جواز إقراض المحتاج من بيت المال، فقد قال الفقيه ابن عابدين -رحمه الله: وعن أبي يوسف: يدفع للعاجز -أي العاجز عن زراعة أرضه الخراجية لفقره- كفايته من بيت المال قرضًا ليعمل ويستغل أرضه1. ويقاس على ما ذكره أبو يوسف إقراض المحتاجين -من غير أصحاب الأراضي الخراجية- من بيت المال؛ ليستعينوا على الكسب الحلال. 396- ثالثًا: إذا عجز عن الفرد عن سدِّ حاجاته بنفسه؛ لعجزه أو شيوخته أو مرضه أو عدم تيسير العمل له مع قدرته عليه، وجب على أفراد أسرته القيام بالإنفاق عليه حسب القواعد المقرَّرة في الفقه الإسلامي في باب النفقات الشرعية لأفراد الأسرة. 397- رابعًا: إذا لم يجد العاجز الفقير من ينفق عليه من أفراد أسرته؛ لعدم وجودهم، أو لفقرهم، وجب إعطاؤه ما يكفيه من الزكاة، وهي حق الفقراء في أموال

_ 1 رد المحتار ج3 ص364.

الأغنياء، وحصيلة الزكاة من أوسع أبواب الضمان الاجتماعي العام للفقراء والمحتاجين. 398- خامسًا: إذا لم تكف الزكاة وجب سد حاجات المحتاجين من موارد بيت المال الأخرى التي سنذكرها فيما بعد. 399- سادسًا: إذا لم يوجد في بيت المال ما يسد حاجات المحتاجين وجب على الأغنياء سد حاجات الفقراء، وفي هذا يقول الفقيه المعروف ابن حزم: "وفرضٌ على الأغنياء من أهل كل بلدٍ أن يقوموا بفقرائهم، ويجبرهم السلطان على ذلك إن لم تقم الزكاة بهم، فيقام لهم بما يأكلون من القوت الذي لا بُدَّ منه، ومن اللباس للشتاء والصيف بمثل ذلك، وبمسكن يكنّهم من المطر والصيف والشمس وعيون المارة"1. ويؤيد ما ذهب إليه ابن حزم أنَّ الزكاة ليست هي الحق الوحيد في أموال الأغنياء للفقراء، فقد روي عن السيدة عائشة أمّ المؤمنين، وابن عمر -رضي الله عنهم، وغيرهما من الصحابة الكرام أنهم قالوا: "إنَّ في المال حقًّا سوى الزكاة"2، وقد ذكر القرطبي والرازي في قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ} قالا: إنَّ الإيتاء هنا غير الزكاة، وإنه من الواجبات لا التطوعات، وضرب الرازي لهذه الواجبات بعض الأمثلة منها إطعام المضطر، ثم قال القرطبي: "واتفق العلماء على أنَّه إذا نزلت بالمسلمين حاجة بعد أداء الزكاة، فإنه يجب صرف المال إليها، قال مالك -رحمه الله: يجب على الناس فداء أسراهم وإن استغرق ذلك أموالهم، وهذا إجماع أيضًا"2. 400- وعلى هذا نرى جواز قيام ولي الأمر المسلم بتنظيم جباية المال اللازم من الأغنياء، بفرض الضرائب العادلة في أموالهم بقدر ما يسد حاجات المحتاجين، ويمكِّن الدولة الإسلامية من القيام بالوجائب المفروضة على المسلمين، والتي تقم بها الدولة نيابةً عنهم، مثل: تحصين الثغور وإعداد السلاح للدفاع عن دار الإسلام، وهذ كله إذا لم

_ 1 المحلى ج6 ص156. 2 المحلى ج6 ص158. 3 تفسير القرطبي ج2 ص241، 242، تفسير الرازي ج5 ص24.

المطلب الثاني: المبادئ العامة في النظام الاقتصادي الإسلامي

المطلب الثاني: المبادئ العامّة في النظام الاقتصادي الإسلامي 401- في النظام الاقتصادي الإسلامي جملة مبادئ عامة تقوم على أساس العقيدة الإسلامية والفطرة الإنسانية والمصلحة العامة، وعن هذه المبادئ تتفرَّع جزئيات كثيرة وتنظيمات مختلفة، ونذكر من هذه المبادئ العامة حرية العمل، وحق الملكية، وحق الإرث. الفرع الأول: حرية العمل 402- يحثّ الإسلام على العمل ويكره العجز والكسل، وأشرف الأعمال وأعظمها قدرًا ما يقرِّب من الله تعالى، كالعبادات الخالصة كالصلاة، والأعمال المباحة إذا اقترنت بها النية الصالحة كالزراعة والصناعة ونحو ذلك، وفي باب الكسب والنشاط الاقتصادي يحثّ الإسلام على العمل، ويبارك العامل ويثني على جهده وكسبه الحلال، قال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} . وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} ، وفي الحديث الشريف: "ما أكل أحد طعامًا قط خير من أن يأكل من عمل يده"، وفي حديث آخر: "من بات كالًّا في طلب الحلال بات مغفورًا له"، والحث على العمل وبذل النشاط الاقتصادي جاء عامًّا مطلقًا غير مقصور على نوع معين، وغير مقيد بشيء سوى الحِلّ الشرعي، وعلى هذا فإنَّه يشمل جميع أنواع النشاط الاقتصادي، ومختلف أنواع المعاملات والمكاسب، مثل: التجارة والزراعة والصناعة والشركة والمضاربة والإجارة، وسائر ما يباشره الإنسان من أوجه العمل والنشاط الاقتصادي لغرض الكسب الحلال، ولا تنقص قيمة الإنسان في نظر الإسلام بمباشرة أيِّ عمل حلال وإن عده الناس عملًا بسيطًا أو حقيرًا؛ لأنَّ قيمة الإنسان في نظر الإسلام في دينه وتقواه، لا في ماله وغناه، ولا في عمله ومهنته، ولهذا وجدنا أكابر الأمَّة من علمائها وفقهائها يمتهنون مختلف المهن الحرة المباحة، كما وجدنا بعض الصحابة الكرام يؤجرون أنفسهم لغيرهم؛ للقيام ببعض الأعمال المباحة الحلال لقاء أجر معلوم. 403- ومن وسائل الحثِّ على العمل والكسب غير المباشرة أنَّ الإسلام حثَّ على إعانة الفقير، وجعل المعين خيرًا من المعان من جهة نوال الأجر والثواب، ففي الحديث

_ 1 اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان ج2 ص284. 2 المحلى ج6 ص156، 157

"اليد العليا خير من اليد السفلى"، كما أنَّ في الزكاة والحج وصنوف البرِّ المختلفة والإنفاق في سبيل الله ثوابًا عظيمًا، ولا يتأتَّى هذا الثواب إلّا بالقيام بأسبابه؛ من حج وزكاة وغيرها، وهذه لا تتأتَّى إلا بوجود المال عند المسلم، والأصل في تحصيل المال العمل وبذل الجهد، ومن هنا صار العمل وسيلة للحصول على ثواب الله تعالى؛ لأنه وسيلة لتحصيل المال، وبذل المال وسيلة لمرضاة الله ونوال ثوابه، ولهذا جاء في الحديث الشريف: "نعم المال الصالح للرجل الصالح"؛ لأنَّ العبد الصالح ينفق المال الحلال الذي صار في يده في السبل المرضية عند الله، فينال ثوابه ورضوانه. 404- واختيار العمل المناسب للفرد متروك لتقديره، بمعنى أنَّ الإسلام يمنح الفرد حرية العمل، أي: الحرية الاقتصادية، فله أن يباشر ما يشاء من أوجه النشاط الاقتصادي دون إكراه أو إجبار أو منع، وليس في نصوص الشريعة ما يدل على خلاف هذا الأصل: الحرية الاقتصادية، أو حرية العمل للأفراد، والحقيقة أنَّ تقرير هذا المبدأ يقوم على أساسٍ من فطرة الإنسان، وحفظ كرامته وآدميته، ومسئوليته الفردية بما يصدر عنه، وملاحظة مصلحة الجماعة، وبيان ذلك أنَّ فطرة كل إنسان نزع إلى الحرية في رواحه ومجبيئه، وفي ما يأخذ ويترك، فلا يصح إهدار هذا الميل الفطري السليم الذي يحسّ به حتى الحيوان الأعجم، نعم قد تنحرف الفطرة فيختار الفرد ما يضر ولا ينفع، وما يحرم ولا يحل، فتحتاج في هذه الحالة إلى التقويم والتقييد لتعود حريتها في دائرة الحلال الواسعة الفسيحة، وأيضًا فإن في إقرار حرية العمل للإنسان حفظًا أكيدًا لكرامته وآدميته؛ لأن الإنسان حر مختار يمتاز عن الحيوان في اختياره، فلا يجوز أن يسوَّى بالحيوان الذي يسيره قائده كيفما يشاء، فلا يجوز أذن تقييد حريته في مجال العمل والنشاط الاقتصادي، وغلِّ يده عمَّا يهوى ويريد بلا ضرورة تقضي بذلك؛ لأن في هذا التقييد إهدارًا لآدميته، وهذا المعنى ملحوظ لدى فقهائنا العظام، حتى إنَّ الإمام أبا حنيفة -رحمه الله تعالى- لم يجز الحجر على السفيه بحجَّة أنَّ في هذا الحجر إهدارًا لآدميته، وهو أشد ضررًا على السفيه من ضياع ماله. ولا يصح القول هنا بأنَّ من المصلحة للفرد وللمجموع تقييد حرية الفرد وإعطاء الدولة الحق في تعيين الأعمال لجميع الأفراد، لا يقال هذا القول؛ لأنَّ الإنسان لا يحتاج فقط إلى خبز يأكله ويملأ به معدته، وإنما يحتاج أيضًا إلى نسيم الحرية يملأ به روحه

ووجدانه وكيانه الإنساني، ومن ثَمَّ لا بُدَّ من تقرير مبدأ حرية العمل للإنسان، وجعله هو الأصل والأساس، والتقييد هو الاستثناء الذي لا يجوز إلّا عند الضرورة. وفي حرية العمل أيضًا إنماء لمواهب الإنسان وكفاءته وقدرته؛ لأن كل إنسان يختار من الأعمال ما يرغب فيه ويناسب ميوله وقدرته، فيندفع نحوه بشوقٍ ورغبة، فيكثر إنتاجه، ويبارك في عمله، وفي هذا خير عميم للمجتمع الذي يعيش فيه، وهذا بخلاف سلب الفرد حريته في العمل، وتسليط الدولة عليه لتختار هي العمل له، فإنَّ هذا الاتجاه لا يوفِّر للأفراد ما يناسبهم من أعمال، فتموت مواهبهم، ويقل نشاهطهم، ويقبلون على العمل متضجرين كارهين، فتقل ثمرات أعمالهم، ويقل الإبداع فيها، ويعود ضرر ذلك عليهم وعلى المجتمع. وأخيرًا فإنَّ الإنسان في الإسلام مسئول مسئولية كاملة عن أعماله، وعن اختياره وتركه، فمن العدل إعطاؤه الحرية الكافية لاختيار العمل الذي يريده. ومع هذا الذي قلناه، يمكن عند الضرورة، وحيث يكون استعمال الناس لحريتهم الاقتصادية مضرًّا للمجموع، أو يكون وراء هذه الحرية سوء قصد وإرادة الشر بالجماعة، ففي هذه الحالات وأمثالها يكون لوليِّ الأمر الحق في التدخل في حرية الأفراد، وإلزامهم بما يدفع الضرر عن الناس، وعلى هذا الأساس قال بعض الفقهاء بجواز تسعير المواد الضرورية إذا امتنع التجار عن بيعها بقيمتها المعتادة، وحمل أرباب الصناعات والحرف على العمل بأجر المثل إذا امتنعوا عن العمل، وكان في الناس حاجة لصناعاتهم وأعمالهم1. 405- ومن النتائج الحتمية لتقرير مبدأ حرية العمل للأفراد، إقرار المنافسة الحرة بين الأفراد في مجال النشاط الاقتصادي في إطارٍ من الأخلاق الإسلامية الفاضلة، فلكل فرد أن يضاعف نشاطه أو جهده؛ ليبز غيره في مجاله، بشرط مراعاة معاني الأخلاق، فلا يجوز الغش والخداع والخصام وتنزيل الأسعار إلى حد الخسارة بحجة المنافسة الحرة، بينما القصد منها الإضرار بالآخرين، واحتكار البيع في السوق من قِبَل فرد أو زمرة قليلة تتواطأ على هذا التنزيل والإضرار بالناس.

_ 1 الطرق الحكمية لابن قيم الجوزية ص226، 240.

406- ومن النتائج أيضًا لتقرير مبدأ حرية العمل التفاوت في الأرباح وثمرات الأعمال، نظرًا لاختلاف المواهب والكفاءات ومقدار الجهد المبذول، والإسلام يقر هذا التفاوت الطبيعي ما دام ناتجًا عن أسباب مباحة مشروعة؛ لأنه نتيجة لازمة لاختلاف الناس في مقدار ذكائهم ومعرفتهم ومواهبهم، قال تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} ، فالله تعالى فاضل بين عباده في الرزق، وفي الغني والفقر؛ ليسخِّر ويستعمل بعضهم بعضًا في أسباب المعايش المختلفة، وهي كثيرة جدًّا لا يمكن أن يحيط بها الإنسان، ومنها تفاوتهم في المواهب والكفاءات، ولا يمكن إزالة هذا التفاوت مطلقًا ما دام التفاوت في مواهب البشر قائمًا لا يمكن إزالته، وإنما الممكن والمطلوب إعانة الضعيف من قِبَل الغني، وهذا ما أكَّده الإسلام ودعا إليه، ووضع من الوسائل ما يحققه فعلًا. الفرع الثاني: حق الملكية الفردية 407- من البديهيات التي يعرفها صغار المطَّلعين على الشريعة الإسلامية أنَّ الإسلام أقرَّ للأفراد بحق الملكية الفردية، وبهذا الإقرار أمكن للفرد أن يكون مالكًا، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُون} ، فأثبت الله تعالى للناس الملك لما خلقه الله -سبحانه وتعالى، وقال تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} ، فأثبتت هذه الآية الملك للناس، وأضافت المال إليهم أضافة ملك واختصاص، وقال تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} ، وقال تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى، الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} ، وقال تعالى: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} ، فهذه

_ 1 تفسير القرطبي ج16 ص83.

الآيات الكريمة وأمثالها تضيف الملك للإنسان، مما يدل دلالة قاطعة وواضحة على أنَّ الإسلام يقرّ مبدأ الملكية الفردية، وفي السنة النبوية الشيء الكثير من الأحاديث الشريفة التي تقرر هذا المبدأ، منها: "لا يحل مال امرئ مسلم إلّا بطيب من نفسه". وقد شرِّعت نظم في الإسلام تقوم أساسًا على الإقرار بمبدأ حق الملكلية الفردية، منها: الميراث، والزكاة، والمهور في النكاح، والنفقات، وغير ذلك؛ إذ بدون الاعتراف بحق الملكية لا يبقى معنى للميراث، ولا يمكن تحقيق في فرض الزكاة ... إلخ. 408- والدلائل الشرعية الدالة على إقرار مبدأ حق الملكية الفردية لا تفرِّق بين مال ومال، فسواء كان المال المملوك منقولًا أو عقارًا، مأكولًا أو غير مأكول، حيوانًا أو نباتًا، وسائل إنتاج أو وسائل استهلاك، فكل هذا الاختلاف في المال موضوع الملكية لا يهم؛ لأنَّ المال المضاف إلى الفرد إضافة ملك واختصاص الذي جاءت به النصوص الشرعية، وذكرنا بعضها، لم تقيد المال بصفة معينة، بل جاءت مطلقة من كل قيد، عدا ما عرف من نصوص أخرى من حرمة تملك بعض الأشياء، كالخمر والخنزير، أو ما كان سبب ملكه حرامًا، وإن كان هو بنفسه يصلح أن يكون مملوكًا، كالمغصوب والمسروق ونحو ذلك. 409- وقد رتَّب الإسلام على مبدأ حق الملكية الفردية التزامًا عامًّا على الكافَّة باحترامه وعدم المساس به إلّا بوجه حق، قال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} ، وقال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} ، وفي الحديث الشريف: "لا يحل مال امرئ مسلم إلّا بطيب من نفسه"، كما قرَّر الإسلام عقابًا لمن ينقض هذا الالتزام ويتجاوز على حق الملك للغير، فهناك عقوبة السرقة وقطع الطريق وخيانة الأمانة والنهب ونحو ذلك، سواء أكانت هذه العقوبات عقوبات حدود أم تعزير. 410- ولكنَّ إقرار الإسلام بحق الملكية الفردية لا يعني أنه حق مطلق من كل قيد، وأن موقف الإسلام منه هو موقف الحارس له فقط، فالحقيقة أنَّ الإسلام مع إقراره بحق الملكية وحمايته له، فإنه ينظمه ويقيده بجملة قيود منذ نشأته إلى اندثاره، وبهذا يجمع الإسلام بين موقفين بالنسبة لحق الملكية الفردية، الأول: الاعتراف به والحماية له، الثاني: التقيّد والتنظيم لهذا الحق، وهذا التقييد يظهر فيما يأتي:

411- أولًا: من حيث نشأة حق الملكية الفردية، يشترط الإسلام أن ينشأ عن سبب شرعي، فإن نشأ عن سبب غير شرعي فإنَّ الإسلام لا يعترف به ولا يحميه، بل يأمر بنزعه من يد حائزه وردِّه إلى مالكه الأصلي، فإن لم يوجد وضع في بيت المال. والأسباب الشرعية للملكية: أ- الاستيلاء على المال المباح، ويندرج تحت هذا النوع الصيد، وإحياء الأرض الموات، والاستيلاء على الكلأ والآجام، واستخراج المعادن والكنوز، وكل ذلك بشروط معينة1. ب- العقود والتصرفات مثل البيع والهبة والوصية والإجارة والشركة والمضاربة والمزارعة والمغارسة ونحو ذلك، بشرط أن تكون هذه العقود والتصرفات بالكيفية التي شرعها الإسلام. ج- الميراث؛ حيث يخلف الوارث المورث في ملكية تركته بأسباب وشروط معينة معروفة في باب الميراث في كتب الفقه الإسلامي. هذه هي الأسباب الشرعية المنشئة لحق الملكية، فإن نشأ هذا الحق بها اعترف الإسلام به، ولا يهم بعد ذلك كميتها ولا نوعيتها؛ لأن المنظور إليه في الشرع في باب الملكية الفردية الشرعية لا الكمية ولا النوعية، أي: المنظور إليه السبب المنشيء للملكية، فإن كان مشروعًا كان الملك مشروعًا محميًّا من قِبَل الإسلام، ولهذا فإنَّ الإسلام يحمي الملك الكثير إذا كان سببه مشروعًا، ويرفض الاعتراف والحماية للملك القليل إذا كان سببه غير مشروع، إنَّه يعترف بملك الأرض الواسعة ما دام ملكها نشأ عن سبب مشروع، ويرفض الاعتراف بملكية شبر واحد مغصوب؛ لأن الغصب ليس سببًا شرعيًّا للملكية. 412- ثانيًا: أمَّا قيود الملكية في بقائها ونمائها فتظر فيما شرعه الإسلام من حقوقٍ في مال الإنسان، ووجوب أداء هذه الحقوق، مثل: حق الزكاة والنفقات الشرعية، كما تظهر هذه القيود في نماء الملك، فقد حدَّد الإسلام سبل تثمير المال وتنميه، ومنها: التجارات والمزارعات والشركات ونحو ذلك، فلا يعترف الإسلام بالنماء الناتج عن سبب باطل حرام كالربا مثلًا، أو بيع الخمور، أو فتح نوادي القمار، إنَّ هذا النماء

_ 1 انظر تفصيل ذلك في كتابنا: المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية.

الناتج عن هذه الأسباب المحرَّمة في نظر الإسلام، كالورم الذي يصيب بدن المريض، يحسبه الجاهل سمنة وعافية، وهو في نظر الحكيم العارف بلاء ومرض يجب التخلص منه. 413- ثالثًا: أمَّا قيود استهلاك المال موضوع الملكية، فتظهر فيما قرَّره الإسلام من ضرورة الاعتدال في الإنفاق، قال تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} ، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} ، وهذا الاعتدال المطلوب في الإنفاق إنما هو في الإنفاق على المباحات أو على حاجات الإنسان الضرورية كالأكل والشرب، أمَّا الإنفاق على المحرَّمات فممنوع قليله وكثيره، فلا يجوز الإنفاق على الملذات المحرَّمة كالفحش والخمور والرقص ولبس الذهب من قِبَل الرجال، ونحو ذلك مما وقع فيه المترفون الذين لا يخشون الله تعالى، مما أدَّى إلى شيوع الفاحشة في المجتمع، وظهور فئات كثيرة منحرفة تقوم بهذه الأفعال المحرَّمة التي يهواها هؤلاء المترفون. 414- رابعًا: نزع الملكية عند الضرورة وللمصلحة العامة بعد تعويض صاحب الملك التعويض العادل، وقد ضرب الفقهاء بعض الأمثلة على ذلك، منها: جواز نزع الملك لتوسعة طريق عام، كما يجوز بيع الملك جبرًا على صاحبه تسديدًا لدَيْن حُقَّ عليه للآخرين. الفرع الثالث: حق الإرث 415- من المبادئ المقرَّرة في الشرع الإسلامي حق الإرث، فإذا مات الشخص وترك مالًا ورثه أقرباؤه، الأقرب فالأقرب، ونال المستحقون للميراث سهامًا معينة من تركة الميت إذا ما توفَّرت شروط الميراث وأسبابه، وزالت موانعه حسب القواعد المقرَّرة في الشرع الإسلامي. وحق الإرث يقوم على أساسٍ من الفطرة والعدل واحترام إرادة المالك، ويدفع إلى بذل المزيد من الجهد والنشاط، ويحقق ضمانًا اجتماعيًّا لأفراد الأسرة الواحدة، ويفتِّتُ الثروات ويمنع تكديسها، فهو لهذا كله مبدأ عظيم من مبادئ النظام الاقتصادي الإسلامي.

416- أمَّا قيامه على أساسٍ من الفطرة، فقد بيِّنَّا فيما سبق أن من الفطرة في الإنسان اهتمامه بذريته، وقلقه عليهم إذا أحسذض بتركهم بلا مال، ورغبته في أن يوفِّر لهم ما يستعينون به في حياته وبعد موته. وأما قيامه على أساسٍ من العدل، فإنَّ الإنسان في حياته يعيل أولاده وبقية من هو مكلَّف بإعالتهم، كأمه وأبيه وزوجته، وقد يلزم بهذا الإنفاق إلزامًا عن طريق القضاء إذا امتنع عنه، والغالب عدم امتناعه، فمن العدل أن تكون أمواله بعد موته لأولئك الذين كان هو السبب في وجودهم، كأولاده، أو كانوا هم السبب في وجوده مثل أبويه؛ ليستعينوا بهذه الأموال بالإنفاق منها على أنفسهم، كما كان هو في حياته ينفق منها عليهم. 417- وأمَّا قيام الميراث على أساس احترام إرادة المالك، فإن الإنسان يرغب رغبة أكيدة أن تكون أمواله بعد موته لأقربائه لا لغيرهم، فيجب احترام إرادته هذه، ودفع أمواله إلى ورثته بعد موته، وقد فصَّل الشرع الإسلامي هذا، فبيِّنَ حصص هؤلاء الأقرباء من الميراث على نحوٍ دقيق عادل، ولا شكَّ أنَّ المسلم يسُرُّه ويرضيه أن تصير أمواله إلى ورثته من بعده وفقًا لهذا التقسيم الشرعي العادل. 418- وأمَّا أنَّ مبدأ الإرث يدفع إلى المزيد من بذل النشاط والجهد فأمر واضح؛ لأنَّ الإنسان لا يعمل لنفسه فقط، وإنما لمن يهمه شأنهم من أفراد أسرته أيضًا، فهو يجهد نفسه ليسد حاجاتهم مع حاجات نفسه، وكما أنه يعمل لتوفير حاجاتهم الحاضرة فكذلك يبذل جهدًا آخر لتوفير ما يسد حاجاتهم في المستقبل، فإن بقي في قيد الحياة تولَّى الإنفاق بنفسه عليهم، وإن مات تولَّوا هم بأنفسهم الإنفاق من أمواله التي تركها لهم، وعلى هذا فإذا منع التوارث فإنَّ الإنسان تضعف همته في العمل، ويقلل نشاطه الاقتصادي؛ لأنه يعلم بأنَّ ثمرة جهوده لا ترجع إلى أفراد أسرته الذين يهتم بأمرهم. ولا شك أن المجتمع سيخسر كثيرًا من فتور الناس عن العمل، ومن ضعف دوافعهم على بذل كل ما يستطيعون من جهد ونشاط اقتصادي. ومبدأ الميراث يحقق ضمانًا اجتماعيًّا داخل الأسرة؛ لما يوفِّره من أموال تعود إلى الأحياء منهم إذا مات أحدهم وترك مالًا، فلا يضيع الصغير واليتيم والأرملة، ولا

يصيرون عالة على المجتمع، وفي هذا تخفيف عن كاهل الدولة في سدِّ حاجات المحتاجين. 419- والميراث يفتِّتُ الثروات ويمنع من تكديسها في أيد قليلة؛ لأن تركة الإنسان بعد موته تقسَّم على عدد غير قليل من أقاربه، ولمَّا كان الإنسان غير مخلَّد في الدنيا، وعمره في الغالب قصير لا يتجاوز بضع عشرات من السنين، فإن الثروة التي قد يجمعها الإنسان في حياته لا بُدَّ أن تتفتَّتَ بعد زمن قصير، وتفتيت الثروات الكبيرة مِمَّا يرغِّب فيه الإسلام، ويسلك لتحقيقه سبلًا كثيرة هادئة مريحة لا عنف فيها ولا اهتزاز، ومن هذه السبل تقرير مبدأ الميراث. 420- وأخيرًا فإنَّ تنظيم الإرث في الإسلام جاء على غاية في العدل والدقة، مما لا نجد له نظيرًا مطلقًا في أيِّ شرع آخر، فقد لوحظ فيه مدى قرب الوارث من الميت، ومدى حاجته، وتكاليفه، وإعانته للمورِّث، وفي ضوء ذلك وغيره جاءت حصص الورثة مختلفة، ومن أمثلة هذا الاختلاف أنَّ نصيب الابن ضعف نصيب البنت، قال تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} ؛ لأن حاجة الابن إلى المال أكثر من حاجة البنت؛ لكثرة التكاليف المالية عليه، فالرجل هو الذي يدفع المهر في النكاح دون المرأة، وهو المكلَّف بالإنفاق على زوجته وعلى أولاده. فمن العدل أذن أن يكون نصيبه في الميراث ضعف نصيب أخته.

المطلب الثالث: بيت المال موارده ومصارفه: الفرع الأول موارد بيت المال

المطلب الثالث: بيت المال موارده ومصارفه: الفرع الأول: موارد بيت المال تمهيد: 421- من البديهي أنَّ الدولة تحتاج إلى نفقات كثيرة لسد حاجاتها المختلفة، وهذه النفقات تغطيها من مواردها المتعددة، وقد كانت الدولة الإسلامية في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- قليلة التكاليف، فلم يكن هناك موظفون لهم رواتب دائمة منظمة، وإنما كان يعطي من يقوم ببعض الأعمال أجرًا على عمله، مثل: جباة الزكاة، فإذا انتهت الجباية انتهى الأجر، وفي القتال كان يستنفر المسلمين ويأتون بأسلحتهم ودوابهم ويقاتلون، فإن غنموا شيئًا قسمه عليهم. وحصيلة الزكاة إذا وردت قسمها الرسول -صلى الله عليه وسلم- على المستحقين، وعلى هذا لم تكن الحاجة قائمة لتنظيم واردات الدولة ومصارفها على النحو الذي حدث فيما بعد، وجاء أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- وسار على النهج الأول، فلم يضبط الواردات ولا المصروفات؛ لعدم ظهور الحاجة إلى ذلك، ولأنَّ أمد خلافته كان قصيرًا، فلمَّا جاء عمر بن الخطاب -رضي الله عنه، واتَّسعت رقعة البلاد الإسلامية بما فتحه الله على المسلمين من بلاد الروم والفرس، وزادت واردات الدولة من الغنائم والفيء والجزية، فكَّر عمر بن الخطاب في طريقة تضبط هذه المصاريف، مثل: رواتب الجند والعمال والولاة ونحو ذلك من وجوه الصَّرف على المصالح العامَّة وحاجات الدولة، وما كان يبقى من أموالٍ بعد الصرف يحفظ في بيت المال، وينفق في حينه. فبيت المال إذن يشبه الخزانة العامة في الوقت الحاضر؛ حيث كل ما يعود للدولة من حقوق مالية يضاف إليها باعتباره حقًّا لها، وكل ما تحتاجه الدولة من نفقات وصرف تتحمَّله هذه الخزانة العامَّة، ويضاف إليها باعتباره حقًّا عليها. 422- وموارد الدولة الإسلامية، أي: موارد بيت المال، هي الزكاة والخراج والجزية والعشور والفيء وخمس الغنائم وغير ذلك مما نذكره فيما يلي تباعًا. أولًا: الزكاة 1 423- الزكاة مأخوذة من النماء والزيادة، وهي في الشريعة: حق يجب في المال، وهي من فروض الإسلام وأركانه، قال تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاة} ، وفي الحديث الشريف أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم بعث معاذًا إلى اليمن وقال له: "أعلمهم أن الله فرض عليهم

_ 1 المغني لابن قدامة ج2 ص572 وما بعدها.

صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم"، وأجمع المسلمون على وجوبها، واتفق الصحابة الكرام على قتال مانعيها، وعلى هذا فمن أنكر وجوبها كفر، ومن منعها معتقدًا وجوبها وقدِرَ الإمام على أخذها منه أخذها منه جبرًا، وعزَّره على امتناعه، وإن كان خارجًا عن قبضة الإمام قاتله كما فعل أبو بكر -رضي الله عنه، وقال قوله المشهور: "لو منعوني عقالًا كانو يؤدونه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقاتلهم عليه". 424- وهي تجب على كل مسلم ومسلمة، فإذا ملك نصابًا خاليًا من دَيْنٍ فعليه زكاته عند تمام الحول، سواء أكان كبيرًا أو صغيرًا، عاقلًا أو مجنونًا، ولا زكاة في ما لا يحول عليه الحول، وهذا في الماشية والذهب والفضة وقيم عروض التجارة، أمَّا في الزرع والثمار والمعدن فلا يشترط له الحول، وتجب الزكاة في الذمة بحلول الحول، حتى ولو تلف النصاب على كل حال، إلّا أن يكون الإمام قد طلبها فمنعها، ولا تسقط بالموت، قال الحنفية بالسقوط إلّا إذا أوصى بها، فتجب من الثلث، والدولة الإسلامية تجبي زكاة الأموال الظاهرة وهي الماشية والزروع وتقسمها على مستحقيها، أمَّا الأموال الباطنة كالذهب والفضة وعروض التجارة فإنَّ أصحابها يخرجون زكاتها إلّا إذا دفعوها إلى الإمام، فإنه يقسهما على المستحقين، ويبدو لي جواز قيام الإمام بجباية زكاة الأموال الباطنة ابتداءً، وتقسيمها على مستحقيها. 425- أمَّا النصاب ومقدار الزكاة فيختلف باختلاف الأموال وأصنافها على النحو التالي1: 426- أولًا: المواشي: وتشمل الإبل والبقر والغنم على التفصيل التالي: أ- نصاب الإبل وزكاتها: عدد الإبل مقدار زكاتها 5-9 شاة جذعة من الضأن، أو ثنية من المعز، والجذع من الغنم ما له ستة أشهر، والثني منها ما استكمل سنة. 10-14 شاتان.

_ 1 المغني ج2 ص580 وما بعدها، أبو يعلى الحنبلي ص99 وما بعدها. المارودي ص109 وما بعدها.

15-19 ثلاث شياه. 20-24 أربع شياه. 25-34 ابنة مخاض من الإبل، وهي ما استكملت سنة، فإن لم يجد ابنة مخاض فابن لبون ذكر. 36-45 ابنة لبون، وهي ما استكملت سنتين. 46-60 حِقَّة، وهي ما استكملت ثلاث سنين، واستحقت الركوب وطرق الفحل. 61- 75 جذعة، وهي ما استكملت أربع سنين. 76-90 بنتا لبون. 91-120 حِقَّتان. 121-139 ثلاث بنات لبون. 140-149 حقتان وبنتا لبون. 150-159 ثلاث حِقَاق. 160-169 أربع بنات لبون. 170-179 حقة وثلاثة بنات لبون. 180-189 ثلاث حقاق وبنت لبون. 200 أربع حقاق أو خمس بنات لبون, وعلى هذا القياس فما زاد، في كل أربعين ابنة لبون، وفي كل خمسين حقة، وذهب الحنفية والثوري والنخعي أنَّ الإبل إذا زادت على عشرين ومائة استؤنفت الفريضة، فيكون في كل خمس من الإبل شاة، إلى خمس وأربعين ومائة، فيكون فيها حقتان وبنت مخاض، إلى خمسين ومائة، وفيها ثلاث حقاق، ثم تستأنف الفريضة بعد ذلك، فيكون في كل خمس شاة. هذا ويشترط لزكاة الإبل مع تحقق النصاب ومرور الحول أن تكون سائمة، أي: ترعى الكلأ لنقل مئونتها، وعن مالك -رحمه الله: السوم ليس بشرطٍ لزكاتها، فتجب الزكاة في المعلوفة والعاملة، هذا وليس فيما دون خمس من الإبل زكاة.

427- ب- نصاب البقر والجاموس: عددها زكاتها 30-39 تبيع ذكر، وهو ما له سنة ودخل في الثانية، فإن أعطى تبيعة أنثى قبلت. 40-59 مُسِنَّة أنثى، وهي التي لها سنتان، فإن لم تكن في البقرة مُسِنَّة قُبِلَ منه المسن الذكر. 60- 96 تبيعان. 70-79 مسنة وتبيع. 80-89 مسنتان. 90-99 ثلاث أتبعة. 100-109 مسنة وتبيعان. 110-119 مسنتان وتبيع. 120 ثلاث مسنات أو أربعة أتباع. ثم على هذا القياس فيما زاد في كل ثلاثين تبيع، وفي كل أربعين مسنة، هذا ويشترط في البقر والجاموس مع النصاب ومرور الحول السوم، وعن مالك: ليس هذا بشرط، فتجب الزكاة في المعلوفة والعاملة كقوله في الإبل، ويضم الجاموس إلى البقر عند عد النصاب، وليس فيما دون الثلاثين زكاة. 4285- ج- الغنم، ويشمل الضأن والمعز، ونصابها وزكاتها كما يلي: العدد الزكاة 40-120 جذعة أو ثنية من المعز، إلّا أن تكون كلها صغارًا دون الجذاع والثنايا، فيؤخذ منها صغيرة دون الجذعة والثنية. 121-200 شاتان. 201-399 ثلاث شياه. 400 أربع شياه. ما زاد على الـ400 في كل مائة شاة.

هذا وإنَّ المعز يضمّ إلى الشياه عند عدّ النصاب، ويشترط في زكاة الغنم السوم، أي: أن تكون سائمة. 429- ثانيًا: زكاة الزورع والثمار كل ما أخرج الله -عز وجل- من الأرض مما ييبس ويبقى، مما يكال ويبلغ خمسة أوسق فصاعدًا ففيه العشر إن كان سقيه من السماء أو سيحًا، وإن كان يسقى بآلة والدوالي والنواضح وما فيه الكلف فنصف العشر. وقال الإمام أبو حنيفة -رحمه الله تعالى: تجب الزكاة في كل ما يقصد بزراعته نماء الأرض، إلّا الحطب والقصب والحشيش؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم: "فيما سقت السماء العشر"، وهذا عام؛ ولأنَّ هذا يقصد بزراعته نماء الأرض، فأشبه الحب، وإنها تجب في القليل والكثير، ولا تقيِّد بالخمسة أوسق؛ ولأنه لا يعتبر لزكاة الزورع مرور الحول فلا يعتبر لها نصاب، واحتج القائلون بأنَّ الزكاة لا تجب فيما دون خمسة أوسق بالحديث الشريف: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة"، وهو حديث صحيح وهو خاصّ، فيجب تقديمه على الحديث الذي احتجوا به؛ لأنه عام، الخاص يخصِّص العام. أمَّا اشتراط الحول فلأنَّ الزرع يكمل نماؤه ياستحصاده لا ببقائه، واعتبر الحول في غير الزرع لأن مرور الحول مظنَّة لكمال النماء، والنصاب اعتبر ليبلغ المال حدًّا يحتمل أخذ الزكاة منه، وهذا المعنى يلاحظ في الزورع وغيرها. 430- ثالثًا: زكاة الذهب والفضة: ويشترط في زكاتهما النصاب ومرور الحول، ونصاب الفضة مائتا درهم، وفيه خمسة دراهم، ونصاب الذهب عشرون مثقالًا، وفيه نصف مثقال، وإذا اتَّجر بالدراهم والدنانير زكَّاهها وربحها إذا حال عليها الحول وكانت نصابًا. وليس في حلي المرأة زكاة إذا كان مما تلبسه عادة أو تعيره، وذهب بعض أهل العلم إلى أنَّ فيه زكاة. 431- رابعًا: زكاة المعادن:

_ 1 المغني ج2 ص696، والوسق يقدَّر بستين صاعًا، والصاع يقرب من كيلو ونصف؛ لأنه مقدَّر بأربع حفنات بيدي رجل.

وهي من الأمول الظاهرة، وتجب الزكاة في جميع الخارج منها، سواء أكانت من المعادن الصلبة كالذهب والفضة والحديد، أو المائعة كالقير والنفط، أو كانت تشبه الحجر وتنكسر بالطرق كالجواهر، ويشترط لوجوب الزكاة فيها أن تبلغ نصابًا بعد السبك والتصفية، ومقدار النصاب عشرون مثقالًا من الذهب، ومائتا درهم من الفضة، أو قيمة هذا النصاب من غير الذهب والفضة، ولا يشترط مرور الحول لوجوب لزكاة، ومقدار الزكاة ربع العشر. وقال الإمام أبو حنيفة -رحمه الله تعالى: يجب الخمس في قليل المعدن وكثيره من غير اعتبار نصاب بناءً على أنه ركاز، والركاز فيه الخمس؛ ولأنه لا يعتبر له حول، فلم يعتبر له نصاب. ولا زكاة في المستخرج من البحر كاللؤلؤ والمرجان، وعن الإمام أحمد بن حنبل أنَّ فيه الزكاة؛ لأنه خارج من معدن. 432- خامسًا: الركاز وهو كل مالٍ وجد مدفونًا من ضرب الجاهلية "قبل الإسلام" في أرض موات، أو طريق سابل يكون لواجده، وعليه الخمس؛ لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "وفي الركاز الخمس"، ويجب هذا الخمس على واجده سواء أكان مسلمًا أو ذميًّا، صغيرًا أو كبيرًا، عاقلًا أو مجنونًا؛ لعموم هذا الحديث الشريف، ويعرف أنه من ضرب الجاهلية إذا كان عليه علامة تدل على ذلك كصورة صنم أو اسم ملك لهم، أو تاريخ قديم قبل الإسلام، أمَّا إذا كان من ضرب الإسلام بدلالة ما عليه من آية قرآنية أو تاريخ هجري فهو لقطة، وتسري عليها أحكامها. هذا وإنَّ الركاز إذا عثر عليها في أرض مملوكة فهو لمالك الأرض، لاحق فيه لواجده، وعلى مالكه الخمس. 433- سادسًا: عروض التجارة والعروض جمع عرض، وهو غير الأثمان من المال على اختلاف أنواعه من النبات والحيوان والعقار وسائر الأموال الأخرى التي يتَّجر بها صاحبها بقصد الربح، وتجب الزكاة في أموال التجارة إذا بلغت نصابًا بعد تقويمها بالذهب أو الفضة، ومضي عليها حول، ولا يلتفت إلى زيادة النصاب أو نقصانه خلال الحول ما دام النصاب حاصلًا في

أول الحول وآخره، والنماء أي: الربح تابع لأصل مال التجارة عند التقويم في نهاية الحَوْل. ثانيًا: الجزية 434- الجزية هي المال المقدَّر المأخوذ من الذميّ، فهي ضريبة على الرءوس، يلتزم غير المسلم بأدائها إلى الدولة الإسلامية؛ إذا ما دخل في الذمَّة، أي: صار ذميًّا. وهي ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع، فمن الكتاب قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} ، وفي السنة أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- أخذ الجزية من مجوس البحرين، وأجمع المسلمون على أخذ الجزية من غير المسلم1. 435- ويشترط لوجوب الجزية العقل والبلوغ والذكورة، فلا تجب على الصبيان والنساء والمجانين، كما يشترط لوجوبها السلامة من الزمانة والعمى والشيخوخة، فلا تجب على زمِن ولا أعمى ولا شيخ كبير، ولا تجب على الراهب، وعند بعض الفقهاء تجب عليه مطلقًا، وعند آخرين تجب عليه إذا خالط الناس أو كان قادرًا على العمل. 436- وتجب الجزية في آخر كل سنة، وتؤخذ في آخرها، وعند الحنفية تجب في أولها، وتؤخذ في آخرها، ومقدارها 12 درهمًا على الفقير المعتمل، و24 درهمًا على المتوسط، 48 درهمًا على الموسِر، وعند بعض الفقهاء أنَّها غير مقدَّرة، وإنما يقدِّرها الإمام حسب اجتهاده ورأيه. 437- وتسقط الجزية بعد وجوبها إذا أسلم الذميّ أو عجزت الدولة الإسلامية عن حماية الذميين، ولهذا ردَّ أبو عبيدة بن الجراح -رضي الله عنه- الجزية إلى الذمِّيين في بعض مدن الشام، عندما عجز الجيش الإسلامي عن حمايتهم2، وفي صلح خالد بن الوليد مع صلوبا بن نسطونا صاحب قس الناطف في منطقة الحيرة: "فإن منعناكم فلنا الجزية، وإلا فلا حتى نمنعكم"3.

_ 1 المغني ج8 ص496، والجصاص ج3 ص92، 93، اختلاف الفقهاء للطبري ص19. 2 الخراج لأبي يوسف ص139. 3 تاريخ الطبري ج4 ص16.

ثالثًا: الخراج 438- الخراج ما ضُرِبَ على أراضي الكفار المغنومة عنوة، التي تركتب بيد أهلها1، فهي ضريبة مالية على الأراضي المفتوحة التي تركها المسلمون بيد أهلها يزرعونها ويستغلونها. وأوَّل من فعل ذلك الإمام الراشد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه؛ إذ فرض على أرض العراق الخراج وتركها بيد أصحابها، بعد مشاورةٍ منه للصحابة الكرام وموافقتهم على رأيه، والأرض التي تفرض عليها ضريبة الخراج تسمَّى بالأرض الخراجية. 439- والخراج نوعان: خراج وظيفة، وهو ما يفرض على الأرض بالنسبة إلى مساحتها ونوع زراعتها، وخراج مقاسمة وهو أنَّ المفروض جزء من الخارج؛ كالخمس والسدس ونحو ذلك، والفرق بين النوعين أنَّ في خراج الوظيفة يكون الواجب شيئًا في الذمَّة يتعلق بالتمكن من الانتفاع بالأرض، ويؤخذ مرة واحدة في السنة، أمَّا في خراج المقاسمة فيكون الواجب متعلقًا بما يخرح من الأرض لا بالتمكين من زراعتها، حتى إذا عطل الأرض صاحبها مع التمكّن من الانتفاع بها لم يجب عليه شيء، كما أنَّ خراج المقاسمة يتكرَّر بتكرر الخارج من الأرض. 440- والمنظور إليه عند تقرير الخراج طاقة الأرض حتى لا يكون الخراج مرهقًا لصاحبها، وقد نصَّ الفقهاء على بعض ما يسترشد به لمعرفة مدى طاقة الأرض لمقدار الخراج2، فمن ذلك: خصوبة الأرض، ونوع ما يزرع فيها، وأثمانه، وطريقة سقيها، وقربها أو بعدها عن المدن والأسواق. 441- وإذا عجز صاحب الأرض عن استغلال أرضه فقد ذهب الحنفية أنَّ للإمام في هذه الحالة أن يعطيها لغيره مزراعة، أو أن يؤجرها، أو أن يزرعها بمال بيت المال، ويستوفي من جميع ذلك ضريبة الخراج، ويمسك الباقي لصاحب الأرض، وعن أبي يوسف -رحمه الله تعالى: يدفع للعاجز كفايته من بيت المال قرضًا ليعمل ويستغل أرضه، وعند الشافعية والحنابلة: ويؤمر صاحب الأرض بإيجارها أو رفع يده عنها، ولا

_ 1 شرح الأزهار ج1 ص571. 2 الماوردي ص143، 144، أبو يعلى الحنبلي ص151.

تترك بيده خرابًا، وإن دفع خراجها لئلَّا تصير بالخراب أرضًا ميتة، فيتضرَّر بيت المال ويقل الإنتاج في الدولة الإسلامية، وفي هذا ضرر عام. والواقع أنَّ الحلول التي ذكرها الفقهاء كلها سائغة، ولولي الأمر أن يختار منها ما يراه أصلح من غيره1. رابعًا: العشور 443- ضريبة تجارية يخضع لها الذميون والمستأمنون، فهي بالنسبة إلى الذمِّي تفرض على أمواله المعدَّة للتجارة، إذا انتقل من بلد إلى بلد داخل الدولة الإسلامية، ومقدارها نصف العشر. وهي بالنسبة للمستأمن -وهو غير المسلم إذا دخل إلى دار الإسلام بأمان- تفرض على ما يدخل به من مالٍ للتجارة إلى إقليم دار الإسلام، مقدارها عُشْر ما يدخل به من مالٍ، كقاعدة عامَّة، وإن كان من الجائز أن يقلَّ عن هذا المقدار أو يزيد تبعًا لقاعدة المعاملة بالمثل، بمعنى أنَّ دولة المستأمن إذا أخذت من تجار دار الإسلام إذا دخلوا أراضيها ضريبة أكثر من العشر أو أقلّ، فإن الدولة الإسلامية تعامل رعايا هذه الدولة بالمثل، فتستوفي من أموالهم التجارية نفس هذه الضريبة. 443- ويشترط لوجوب هذه الضريبة في مال الذمي أن يبلغ نصاب الزكاة، وهذا ما قاله الحنفية والزيدية وبعض الحنابلة1، وقال الإمام مالك: النصاب ليس بشرطٍ لوجوب هذه الضريبة2، وتستوفى هذه الضريبة في السنة مرة واحدة من الذمي والمستأمن، إلّا إذا رجع المستأمن بماله إلى بلده، ثم عاد بنفس ماله إلى دار الإسلام، فإنه تؤخذ منه الضريبة مرَّة أخرى على نفس المال.

_ 1 كتابنا: أحكام الذميين والمستأمنين ص167. 2 شرح السير الكبير للسرخسي ج6 ص284، وشرح الأزهار ج1 ص577، والمغني ج8 ص519. 3 الأموال لأبي عبيد ص535-536.

خامسًا: الغنائم 444- والغنيمة كما يقول الإمام ابن تيمية: هي المال المأخوذ من الكفَّار بالقتال، وسماها الله تعالى أنفالًا؛ لأنها زيادة في أموال المسلمين1. والغنمية أربعة أصناف: أسرى وسبي وأرضون، وأموال منقولة، أمَّا الأسرى فهم الرجال المقاتِلون من الكفار إذا ظفر بهم المسلمون وأسروهم، والإمام مخيَّر فيهم -إذا قاموا على كفرهم- في فعل الأصلح حسب اجتهاده، إمَّا القتل وإمَّا الاسترقاق وإمّا الفداء بمالٍ أو أسرى، أو المنّ بغير فداء1، ولكن إذا أسلم الأسير سقط القتل عنه، وكان الإمام على خياره فيه بين الرق والمَنّ والفداء2. 445- وأمَّا السبي فهم النساء والأطفال، وهؤلاء لا يجوز قتلهم، ويكون سببًا مسترقًّا، يقسمون مع الغنائم "الأموال المنقولة"، فإن فادى الإمام بالسبي على مالٍ جاز، ويكون مال فدائهم مغنومًا مكانهم، وإن أراد الإمام إن يفادي بهم عن أسرى المسلمين في أيدي العدو جاز بذلك، وعوّض الغانمين عنهم من سهم المصالح، وأن أراد المَنّ عليهم لزم استطابة نفوس الغانمين عنهم، إمَّا بالعفو عن حقوقهم فيهم، وإمَّا بمال يعوِّضُهم عنهم4. 446- وأمَّا الأرضون، فخلاصة القول فيها على ما ذكره الإمام أبو عبيد في كتابه "الأموال"، والماوردي في كتابه "الأحكام السلطانية5": إنَّ الأرض التي يستولي عليها المسلمون ثلاثة أقسام: القسم الأول: أرض أسلم عليها أهلها فهي لهم، وتكون أرضًا عشرية، أي: يستوفي من زرعها الزكاة المقررة.

_ 1 السياسة الشرعية لابن تيمية ص30. 2 أبو يعلى ص125. 3 الماوردي ص126. 4 الماوردي ص126-127. 5 الأموال لأبي عبيد، الماوردي ص132-133.

القسم الثاني: أرض فتحت صلحًا على خراجٍ معلوم، فهي على ما صالحوا عليه، ولا يلزمهم أكثر منه، وهي على نوعين: أحدهم: يصالحهم الإمام على أنَّ ملك الأرض للمسلمين، فتصير بهذا الصلح وقفًا من دار الإسلام، ويكون الخارج أجرة لا يسقط عنهم بإسلامهم. والنوع الثاني: أن يصالحهم الإمام على أنَّ الأرض لهم، على أن يؤدوا خراجًا معلومًا، ويجوز لهم التصرف بها بالبيع ونحوه، بخلاف النوع الأول. القسم الثالث: أرض فتحها المسلمون بالحرب واستولوا عليها عنوة، فهذه اختلف فيها الفقهاء، تقسَّم على الغانمين المسلمين بعد إخراج خمسها إلى من ذكرهم الله تعالى، إلّا إذا رغب الغانمون بتركها لبيت المال، فتوقف على مصالح المسلمين، وقال الإمام مالك -رحمه الله تعالى: تصير وقفًا على المسلمين، ولا يجوز قسمتها بين الغانمين، وقال أبو حنيفة -رحمه الله تعالى: الإمام فيها بالخيار بين قسمتها بين الغانمين، فتصير أرضًا عشرية، أو يعيدها إلى أيدي المشركين أصحابها الأصليين بخراجٍ يضربه عليها، فتكون أرض خراج، ويكون المشركون بها أهل ذمَّة، أو يوقفها على كافّة المسلمين، وتصير هذه الأرض من إقليم دار الإسلام، سواء سكنها المسلمون أو أعيد إليها المشركون لملك المسلمين لها، ولا يجوز التنازل عنها للمشركين، ورجَّح الإمام أبو عبيد أنَّ الخيار للإمام في الأرض المفتوحة عنوة، فله أن يقسمها على الغانمين بعد إخراج الخمس منه، كما له أن يجعلها موقوفة على المسلمين عامَّة، ورأي الحنفية يتضمَّن هذ الذي رجَّحه أبو عبيد، وعلى هذا نميل إلى رأي الحنفية. 447- أما الأموال المنقولة فهي الغنائم المألوفة، ولا تقسم إلّا بعد انجلاء الحرب وتحقق ظفر المسلمين، ويجوز بعد جمعها قسمتها في دار الحرب، كما يجوز تأخير قسمتها بعد الرجوع إلى دار الإسلام بحسب ما يراه الأمير من المصلحة، فإذا أرادوا قسمتها بدأ بأسلاب القتلى، فأعطى كل قاتل سلب قتيله، والسلب ما كان عى المقتول من لباس، وما كان معه من سلاح يقاتل به، وما كان تحته من فرس يقاتل عليه، ثم يبدأ بعد إعطاء السلب لمسحقيه بإخراج الخمس من جميع الغنيمة، ويوزَّع إلى مستحقيه على ما سنذكره في باب مصارف بيت المال، ثم يرضخ بعد إخراج الخمس لأهل الرضخ، وهم من لا سهم له مِمَّن يكون مع الجيش الإسلامي؛ كالنساء والصبيان

وأهل الذمة، فيرضخ لهم من الغنيمة بحسب ما قدَّموه من عون للمقاتلين، ولا يبلغ برضخ أحدهم سهم فارس ولا راجل، وبعد إخراج الخمس والرضخ يقسم الباقي من الغنيمة على المقاتلين، للراجل منهم سهم واحد، وللفارس ثلاث أسهم، ويجوز لأمير الجيش أن يزيد في سهام بعض المقاتلين إذا ظهرت منهم زيادة نكاية بالعدو، أو قاموا بأعمالٍ سهَّلت نصر المسلمين، وهذه الزيادة المعطاة لهؤلاء يجوز أن تكون من الخمس، كما يجوز أن تكون من أربعة الأخماس الباقية من الغنيمة. سادسًا: الفيء 448- الفيء هو كل مال أخذه المسلمون من الكفار بغير قتال وأدخل الفقهاء في مفهومه الجزية والخراج والعشور، والمال لذي يصالح عليه العدو، وما يتركه المشركون بعد هربهم أو جلائهم، وسمِّي فيئًا لأنَّ الله تعالى أفاءه على المسلمين، أي: ردَّه عليهم من الكفار؛ لأنَّ الله تعالى خلق الخلق لعبادته، وخلق المال للاستعانة به على عبادته، فالكافر لكفره أباح الله تعالى لعباده المؤمنين الذين يعبدونه نفس هذا الكافر وماله؛ لأنه لم يستعمل ماله في عبادة الله1، والأصل في الفيء قول الله تعالى في سورة الحشرة: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ، فالفيء هو المال الواصل للمسلمين من المشركين بلا قتال. سابعًا: الموارد الأخرى: 449- ومن موارد بيت المال الأموالُ التي ليس لها مالك معين، مثل من مات من المسلمين وليس له وراث معين، وكالغصوب والعواري والودائع التي تعذر معرفة أصحابها، واللقطة التي لم يظهر صاحبها في بعض الحالات2. ومن موارد بيت المال ما يكون للدولة من أراضي تستغلها أو تؤجرها، فتكون الغلة أو الأجرة لبيت المال، ومن ذلك ما اصطفاه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه، باستطابه نفوس الغانمين- من أرض السواد في العراق، التي كانت لكسرى وأهل بيته

_ 1 السياسة الشرعية لابن تيمية ص36. 2 انظر بحثنا في أحكام اللقطة.

وما هرب عنه أربابه أو هلكوا، والإمام مخيَّر بين استغلالها رأسًا لمصلحة بيت المال، كما له أن يؤجرها لمصلحة بيت المال، وقد فعل بالأول عمر بن الخطاب، وبالتالي عثمان بن عفان -رضي الله عنهما1. ومن موارد بيت المال ما يفرضه الإمام في أموال الأغنياء عند الضرورة؛ لصرفه على شئون الدولة والرعية الضرورية عند عدم وجود مال في بيت المال، مثل: نفقات الجند وسد حاجات المحتاجين. الفرع الثاني: مصارف بيت المال 450- أولًا: الزكاة وتصرف لمن سماهم الله تعالى في كتابه في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} ، والفقراء والمساكين هم المحتاجون، والعاملين عليها هم جباة الزكاة، والمؤلَّفة قلوبهم نوعان: كافر ترجى بعطيته منفعة كإسلامه، أو دفع مضرته، ومسلم يرجى حسن إسلامه، أو إسلام نظيره2، وفي الرقاب يدخل فيه إعانة الأرِقَّاء الذين يكاتبون أسيادهم على مالٍ يؤدونه إليهم حتى يعتقوا، وافتداء الأسرى وعتق الرقاب، والغارمين هم الذين عليهم ديون في أمور مباحة ولا يجدون وفاءها، فيعطون وفاء ديونهم، أمَّا لو استدانوها في معصية الله فلا يعطون حتى يتوبوا3، وفي سبيل الله وهم الغزاة، فيعطون ما يغزون به، أو تمام ما يغزون به من خيلٍ وسلاح ونفقة وأجرة، وابن السبيل هو الغريب في البلد وليس عنده نفقة سفره، ولا ما يوصله إلى بلده، ويجوز صرف الزكاة في أحد الأصناف الثمانية مع وجودهم، ولا يجوز دفعها إلى كافر ولا

_ 1 الماوردي ص185، 186. 2 السياسية الشرعية لابن تيمية ص34، 48. 3 المرجع السابق ص34.

إلى ذوي القربى من بني هاشم وبني المطلب. 451- ثانيا: زكاة المعادن وخمس الركاز ومصرف زكاة المعادن وخمس الركاز مصرف الزكاة المعتادة، أي: مصرف زكاة الماشية والزروع والثمار والذهب والفضة وعروض التجارة. 452- ثالثًا: الغنيمة الواجب في الغنمية لبيت المال خمسها، ويقسَّم هذا الخمس على من ذكرهم الله تعالى في سورة الأنفال، قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [سورة الأنفال: 41] وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصرف سهم الله وسهمه في مصالح الإسلام، وأربعة أخماس الخمس في أهلها المستحقين لها مقدمًا للأهم فالأهم، والأحوج فالأحوج، دون أن يقسم بينهم أربعة أخماس الخمس السوية1. 453- رابعًا: الفيء ويقسم على ما ذكرهم الله تعالى في سورة الحشر، قال تعالى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ، لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ، وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [سورة الحشر: 7-10] .

_ 1 زاد المعاد لابن القيم ج3 ص222.

وقال الفقيه الماوردي: يؤخذ خمس الفيء ويقسَّم على خمسة أسهم متساوية: سهم منها كان لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حياته، ينفق منه على نفسه وأزواجه ومصالحه ومصالح المسلمين، وقد صار هذا السهم بعد وفاته -صلى الله عليه وسلم- مصروفًا في مصالح المسلمين؛ كأرزاق الجيش وإعداد السلاح وبناء الحصون والقناطر وإعطاء رواتب القضاة والموظفين، وما جرى هذا المجرى من وجوه المصالح العامة، والسهم الثاني: سهم ذوي القربى، وهم بنوا هاشم وبنو عبد المطلب بن عبد مناف، والسهم الثالث: لليتامى من ذوي الحاجات، واليتم موت الأب مع الصِّغَر، والسهم الرابع: للمساكين، وهم الذين لا يجدون ما يكفيهم، والسهم الخامس: لبني السبيل، وهم المسافرون الذين لا يجدون ما ينفقون، وأما أربعة أخماس الفيء ففيه قولان أحدهما: إنه للجيش خاصة، والثاني: إنه مصروف في المصالح العامَّة، ومنها: أرزاق الجيش وما يلزمه1. والواقع أنَّ الآية الكريمة كما يقول الفقيه المشهور ابن القيم: إنما أفاء الله على رسوله بجملتها لمن ذكر في هذه الآيات، ولم يخص منه خمس بالمذكورين، بل عمَّم وأطلق واستوعب، فيصرف الفيء على المذكورين كلهم، أمَّا ذكر اليتامى والمساكين ونحوهم فإنما يفيد العناية بهم، وضرورة إدخالهم في جملة المستحقين للفيء وإن كانوا يستحقون أيضًا من خمس الغنيمة، ولا يفيد حصر الاستحقاق بهم، وعلى هذا فالفيء يستحقه هؤلاء المذكورون والمهاجرون والأنصار الذين جاءوا من بعدهم من المسلمين الذين يقولون: ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان.. إلخ، ولا يدخل معهم من يلعنهم ويتبرأ منهم، وعلى هذا فيصرف الفيء في جميع مصالح المسلمين، ومنها: الإنفاق على ذوي الحاجات، ودفع الأرزاق للجند والعلماء والقضاة وسائر موظفي الدولة، كما يعطى منه إلى عموم المسلمين، وهذا هو المأثور عن الخلفاء الراشدين في سيرتهم وهديهم، ولذلك قال عمر -رضي الله عنه: "وليس أحد أحق بهذا المال من أحد، إنما هو الرجل وسابقته، والرجل وغناؤه، والرجل وبلاؤه، والرجل وحاجته". فجعلهم عمر -رضي الله عنه- أربعة أقسام، الأول: ذوي السوابق الذين بسابقتهم، أي: بإسلامهم حصل المال، والثاني: من يغني عن المسلمين في جلب المنافع لهم، كولاة الأمور والعلماء الذين يجلبون لهم منافع الدنيا والآخرة، والثالث: من يبلي بلاء حسنًا في دفع

_ 1 الماوردي ص122، 123.

الضرر عنهم كالمجاهدين في سبيل الله من الأجناد والمرابطين ونحوهم، والرابع: ذوي الحاجات كما روي عن عمر -رضي الله عنه- أنَّه قال: "والله لئن بقيت لهم ليأتينَّ الراعي بجبل صنعاء حظه من هذا المال وهو يرعى مكانه"1، ويفهم من هذا كله أنَّ عموم المسلمين لهم نصيب من مال الفيء، فيعطون منه بعد سدِّ النفقات الضرورية للدولة؛ كأرزاق الجند والولاة ونحوهم، وهذا ما تدل عليه الآية لكريمة، ويقدَّم ذوو الحاجات على غيرهم من الفاضل بعد سدّ النفقات الضرورية للدولة. ويلحق بالفيء ويكون مصرفه مصرف الفيء الأموال التي ليس لها مالك معين، مثل من مات من المسلمن وليس له وارث معين، وكالغصوب والعواري، والودائع، وغير ذلك من أمول المسلمين التي تعذر معرفة أصحابها2.

_ 1 السياسة الشرعية لابن تيمية ص44-46، زاد المعاد لابن القيم ج3 ص221، 222. 2 مجموع فتاوى ابن تيمية ج8 ص276، 277.

المبحث السابع: نظام الجهاد

المبحث السابع: نظام الجهاد 454- الجهاد في اللغة: بذل الإنسان جهده وطاقته، وفي الاصطلاح الشرعي: بذل المسلم طاقته وجهده في نصرة الإسلام ابتغاء مرضاة الله، ولهذا قيِّد الجهاد في الإسلام بأنه في سبيل الله؛ ليدلَّ على هذا المعنى الضروري؛ لتحقق الجهاد الشرعي، وبهذا جاءت الآيات القرآنية معلنة أنَّ جهاد المسلمين ومنه القتال، إنَّما هو جهاد في سبيل لله، بخلاف الكافرين فإنَّ جهادهم وقتالهم في غير سبيل الله، أي: في سبيل الشيطان، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ} 1، وقد يعبر عن المعنى الذي بيَّنَّاه بعبارة: القتال لتكون كلمة الله هي العليا، كما جاء في الحديث الشريف: سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم: الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، فأيّ ذلك في سبيل الله؟ فقال -صلى الله عليه وسلم: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل لله"؛ لأنَّ المقصود بكلمة الله الإسلام، وجعلها هي العليا أي: هي النافذة الظاهرة، ولا شكَّ أن إظهار دين الله مما يرضي الله تعالى.

_ 1 سورة النساء الآية 76.

445- والجهاد أنواع، فهناك الجهاد باللسان ببيان شرائع الإسلام ودحض الأباطيل المفتراة عن الإسلام، والجهاد بالمال بإنفاقه في وجوه البر، لا سيما على الغزاة والمقالين في سبيل الله، بشراء العتاد والسلاح والأرزاق لهم، والجهاد بالنفس بمقاتلة أعداء الله، وإذا أطلق الجهاد فإنه يراد به -غالبًا- الجهاد بالنفس، أي: القتال، كما أنَّ الجهاد بالنفس يُقْرَن غالبًا بالجهاد بالمال، كما نلاحظ ذلك في آيات القرآن الكريم، من ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} . 546- والجهاد بالنفس بمقاتلة الأعداء من فروض الكفاية في الأحوال الاعتيادية إذا حصلت به الكفاية، ولكنه يصير فرض عين إذا احتلَّ الكفرة بلدًا من بلاد الإسلام، أو إذا استنفر الإمام المسلمين، قال الإمام ابن العربي المالكي: "إذا كان النفير عامًّا لغلبة العدو على الحوزة، أو استيلائه على الأسارى، كان النفير عامًّا، ووجب الخروج خفافًا وثقالًا، وركبانًا ورجالًا، عبيدًا وأحرارًا، من كان له أب من غير إذنه حتى يظهر دين الله وتحمى البيضة وتحفظ الحوزة، ويخزي الله العدو ويستق الأسرى، ولا خلاف في هذا"1. 457- ولما كان الجهاد من فروض الإسلام فقد عظمت به الوصية، وأمر الله تعالى بأخذ العُدَّة اللازمة له، قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} ، فكل ما به قوة وحاجة في القتال وجب تحصيله وإعداده، وهذا يختلف باختلاف الأزمان والأحوال، ولا شكَّ أنَّ من وسائل القوة المهمة في زماننا تعلُّم إتقان مختلف العلوم والفنون والصناعات اللازمة لإعداد القتال، وتعلم هذه الأمور من الفروض الكفائية في الأمّة؛ لأنَّ ما لا يتمّ

_ 1 أحكام القرآن لابن العربي المالكية ج2 ص943. 2 سورة الأنفال الآية: 60.

الواجب إلّا به فهو واجب، ومن المستحبّ لكل مسلم أن يتعلَّم ما يستطيعه من أمور القتال؛ كالرمي والطعن واستعمال السلاح مبتغيًا بذلك وجه الله تعالى، ويعلمه للآخرين، وقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية إلى هذه الأمور فقال -رحمه الله: "وتعلم هذه الصناعات -أي: صناعات الحرب وآلات القتال- هو من الأعمال الصالحة لمن يبتغي بذلك وجه الله -عز وجل، فمن علَّم غيره ذلك كان شريكه في كل جهاد يجاهد به، لا ينقص أحدهما من الأجر شيئًا"، وكان سيدنا عمر -رضي الله عنه- يوصي المسلمين وولاتهم: "أن علِّموا أولادكم الرمي والفروسية"، وفي حديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم: ".... ومن تعلَّم الرمي ثم نسيه فليس منَّا". 458- والواقع أنَّ الجهاد ضروري لبقاء المسلمين أمة قوية مرهوبة الجانب، بعيدة عن أطماع الطامعين والحاقدين من الكافرين والمنافقين، كما أنَّ الجهاد بنفسه دليل قاطع على إيمان المسلم ومبادرته إلى ما يحبه الله تعالى، وإيثاره مرضاته وما عنده، ولهذا وبَّخ الله تعالى من يتقاعس عن الجهاد، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} 1. 459 ولعظيم أثر الجهاد ودلالته على الإيمان، قال الفقهاء: المقام في ثغور المسلمين أفضل من المجاورة في المساجد الثلاث: المسجد الحرام ومسجد الرسول -صلى الله عليه وسلم- والمسجد الأقصى، وتعليل ذلك أنَّ الرباط من جنس الجهاد، والمجاورة غايتها أن تكون من جنس الحج، وقال تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ} 2، وفي الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم، أنَّه سُئِل عن أيّ الأعمال أفضل؟ قال -صلى الله عليه وسلم: "إيمان بالله ورسوله" قيل: ثم ماذا؟ قال: "ثم جهاد في سبيله"، قيل: ثم ماذا؟ قال: "ثم حج مبرور". 460- وترك الجهاد سبب للمذلة والهوان وضياع الديار وتسلط الكفرة على بلاد الإسلام، وهذا من العذاب الذي توعَّد به الله تعالى تارك الجهاد، قال ربنا في

_ 1 سورة التوبة الآية 38. 2 سورة التوبة، الآية: 19.

القرآن الكريم {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 1، قال الإمام ابن العربي المالكي في تفسيره: في هذه الآية تهديد ووعيد مؤكَّد في ترك النفير والخروج إلى الكفار لمقاتلتهم على أن تكون كلمة الله هي العليا، أمَّا نوع العذاب فقال عنه الإمام ابن العربي: "هو الذي في الدنيا باستيلاء العدو على من يستولي عليه، وبالنار في الآخرة"، ووقائع التاريخ القديمة والحديثة تؤيِّد ما ذكرها ابن العربي، فما أصاب المسلمين من ذلٍّ وتسلط الكفرة عليهم إلّا بتركهم الجهاد المطلوب منهم. 461- وعلى ذكر الجهاد والقتال في سبيل الله، يقول بعض الكتاب المحدثين: إن القتال في الإسلام أو الجهاد في الإسلام هو دفاعي لا هجومي، بمعنى أنَّه لا يجوز للدولة الإسلامية أن تهاجم دولة غير إسلامية إلّا إذا هاجمتها هذه الأخيرة، والواقع أنَّ هذا القول غير سديد وينقصه التحقيق والتدقيق، ولا تدل عليه دلائل الشريعة، ذلك أنَّ القتال في الإسلام له أسباب، منها: ردّ الاعتداء، وفي هذا قال تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} 2، ومنها: القتال لنصرة ضعفاء المسلمين الذين يتعرَّضون لظلم الكفرة، قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا} 3. ومنها: أن يبدأ المسلمون قتال الكفرة إذا رفضوا الإسلام ومنعوا المسلمين من تولي الحكم والسلطان؛ لاقامة شرع الله وتطبيقه في الأرض، وهذا هو الذي يجادل فيه البعض ويعتبره من قبيل القتال الذي يبدأ به المسلمون غيرهم بلا مبرِّر، والحقيقة أنَّ القرآن والسنة النبوية يدلان على هذا النوع من القتال، وقال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} 4، والفتنة معناها: الكفر والشرك، قال الإمام أبو بكر الجصاص في "أحكام القرآن" في تفسير هذه الآية: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا

_ 1 سورة التوبة، الآية: 39. 2 سورة البقرة، الآية 190. 3 سورة النساء، الآية: 75. 4 سورة الأنفال، الآية: 39.

تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} يوجب فرض قتال الكفار حتى يتركوا الكفر، قاله ابن عباس وقتادة ومجاهد والربيع، أمَّا الدين فهو الانقياد لله بالطاعة، والدين الشرعي هو الانقياد لله -عز وجل- والاستسلام له، ودين الله هو الإسلام؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} 1، فقول الإمام الجصاص: حتى يتركوا الكفر، أي: كفرهم المتعلق بتشريع الأحكام؛ لأنَّ التشريع من حق الله وحده، فمن نازعه ذلك فقد كفر وأشرك، قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} 2. ويؤيد ما قلناه أيضًا قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} 2، قال الإمام الشافعي: الصَّغَار أن تؤخذ منهم الجزية وتجري عليهم أحكام الإسلام3، فهذا صريحٌ في أنَّ قتال المسلمين إنما هو لإظهار دين الله بتطبيق شرائعه بعد أن يتولَّى المسلمون الحكم والسلطان، وليس المقصود قتل غير المسلمين أو إكراههم على الإسلام؛ لأنَّه لو كان هذا هو المقصود لما شرِّعت الجزية، ولما أقرَّ الكافر على كفره في دار الإسلام. وفي السنة النبوية ما يؤيد ما قلناه، فقد وردت أحاديث كثيرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم، وفيها يأمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- أمراء الجند عند توجيههم إلى المشركين أن يدعوهم إلى الإسلام، فإن أَبَوْا فإلى الجزية، أي: الخضوع إلى سلطان الدولة الإسلامية، فإن أبوا قاتلوهم حتى يخضعوهم قهرًا لسلطان المسلمين4. 462- والحقيقة أنَّ بدء المسلمين لغيرهم بالقتال إذا رفضوا الإسلام أو الجزية إنَّما هو لمصلحة عموم المشركين الذين يخضعون لسلطان الكفر؛ لأنَّ المسلمين يريدون بهذا القتال رفع هذا الحكم الكافر عنهم، وإزالة شرائعه الباطلة، ورفع

_ 1 سورة آل عمران، الآية 19. 2 سورة الشورى، الآية: 21. 3 سورة التوبة، الآية 21. 4 مختصر المزني ج8 ص277. 5 صحيح مسلم ج7 ص310، الخراج لأبي يوسف ص190، زاد المعاد ج2 ص65

الحواجز عن عموم الناس لرؤية الإسلام وشرائعه، فمن شاء آمن، ومن شاء بقي على كفره بشرط الولاء للدولة الإسلامية. وهذا كله من مصلحة المشركين الدنيوية والأخروية، أمَّا الدنيوية فتظهر في تمتعهم بعدل الإسلام والمحافظة على أموالهم وحقوقهم، وأمَّا الأخروية فبتهيئة سبل رؤيتهم الإسلام واحتمال دخولهم فيه عن رضًى واختيار، لا عن جبر وإكراه، وفي هذا سعادتهم وفوزهم في الآخرة. 463- والخلاصة: فإنَّ المسلم لا ينفَكّ عن الجهاد في سبيل الله أبدًا، فهو في جهاد دائم: يجاهد نفسه ليحملها على الطاعة وعلى بذل المال والنفس في سبيل مرضاة الله تعالى، ويجاهد بلسانه وقلمه ليبيِّنَ معاني الإسلام ويردَّ على افتراءات المبطلين، ويجاهد في جميع أحواله، في الرخاء والشدة، وفي حالة الضعف والقوة، وفي حالة الفقر والغنى، وبهذا قال المفسرون في قوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 1، والأمر بالجهاد وذكر فضائله وثوابه في الكتاب والسنة أكثر من أن يحصر، بل ولم يرد في ثواب الأعمال وفضلها -كما يقول ابن تيمية رحمه الله- مثل ما ورد فيه، وتعليل ذلك أنَّ نفع الجهاد عامٌّ لفاعله ولغيره في الدين والدنيا، ويشتمل على جميع أنواع العبادات الباطنة والظاهرة، مثل: محبة الله، والإخلاص له، والصبر، والزهد، وأنَّ القائم به بينَ إحدى الحسنيين دائمًا، إمَّا النصر والظفر، وإمَّا الشهادة والجنة2.

_ 1 سورة التوبة: الآية: 41. 2 مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ج8 ص353.

المبحث الثامن: نظام الجريمة والعقوبة

المبحث الثامن: نظام الجريمة والعقوبة تمهيد: 646- في كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- أحكام كثيرة تبيِّن الأفعال والتروك المحرَّمة التي يعاقب مرتكبها، وهذه الأحكام وما ينبني عليها أو يتفرَّع منها تكوّن ما يمكن تسميته بنظام الجريمة والعقوبة في الإسلام، أو بالقانون الجنائي الإسلامي. والقانون الجنائي الإسلامي في أصله قانون عالمي؛ لأنه جزء من الشريعة

الإسلامية، وهي بطبيعتها شريعة عالمية لا إقليمية، أراد مشرِّعها -وهو الله جلَّ جلاله- تطبيقها على كافَّة الناس في جميع بقاع الأرض، وهم مخاطبون بأحكامها، مطالبون بتنفيذها، ولكن لعدَمِ ولاية دار الإسلام على ما سوى إقليمها فقد تعذَّر تطبيقها في خارج إقليمها، أمَّا في داخل إقليم الإسلام فيجب التطبيق؛ لأنَّ الولاية فيها للمسلمين، وفي هذا المعنى يقول الإمام أبو يوسف: "ولأنَّ الشرائع هو العموم في حق الناس كافَّة، إلّا أنه تعذَّر تننفيذها في دار الحرب؛ لعدم الولاية، وأمكن في دار الإسلام، فلزم التنفيذ فيها"1، وعلى هذا فإنَّ أحكام القانون الجنائي الإسلامي تطبَّق على جميع الجرائم التي تقع في دار الإسلام، بغَضِّ النظر عن جنسية مرتكبها أو ديانته، وهذه هي القاعدة العامة، إلّا أنَّ في بعض جزئياتها اختلافًا قليلًا بين الفقهاء بالنسبة للذمِّيين والمستأمنين، واختلافًا أكثر بالنسبة للمستأمنين1، فمن ذلك أنَّ جمهور الفقهاء استثنوا الذميين والمستأمنين من عقوبة شرب الخمر باعتبار أنهم يعتقدون حلها، وعند الظاهرية تجب عليهم عقوبة شرب الخمر شأنهم في ذلك شأن المسلمين2، وبعد هذا التمهيد نتكلم عن الجريمة أولًا، ثم عن العقوبة ثانيًا، في فرعين متتاليين. الفرع الأول: الجريمة تعريف الجريمة: 465- عرَّف فقهاء الشريعة الإسلامية الجرائم بأنَّها محظورات شرعية زجر الله تعالى عنها بحَدٍّ أو تعزير3، ويفهم من هذا التعريف أنَّ الجريمة في الاصطلاح الفقهي يجب أن تتوفَّر فيها الأمور الآتية:

_ 1 بدائع الصنائع للكاساني ج2 ص311. 2 الذميون من رعايا الدولة الإسلامية، يحملون جنسيتها على أساس عقد الذمة وإن كانوا غير مسلمين. أما المستأمنون فهم غير مسلمين دخلوا دار الإسلام بأذنٍ منها؛ ليقيموا فيها مدةً ويغادروها. 2 الكاساني ج7 ص39، شرح الخرشي ج8 ص108، كشاف القناع ج4 ص55، مغني المحتاج ج4 ص187. 3 الماوردي ص211، أبو يعلى ص271.

أ- أن تكون من المحظورات الشرعية، أي: مِمَّا نهى عنه الشرع الإسلامي نهي تحريم لا نهي كراهة، بدليل وجوب العقاب على مرتكب هذه المحظورات، والعقاب لا يجب إلّا على ترك واجب أو فعل محرَّم، فيكون المقصود من المحظورات الشرعية: ترك واجب أو فعل محرَّم. ب- أن يكون تحريم الفعل أو الترك من قِبَل الشريعة الإسلامية، فإن كان من غيرها فلا يعتبر المحظور جريمة. جـ- أن يكون للمحظور عقوبة من قِبَل الشرع الإسلامي، سواء أكانت هذه العقوبة مقدَّرة وهي التي يسميها الفقهاء بـ"الحد"، أو كان تقديرها مفوضًا إلى رأي القاضي، وهي التي يسميها الفقهاء "التعزير"، فإذا خلا الفعل أو الترك من عقوبةٍ لم يكن جريمة. أساس اعتبار الفعل والترك جريمة: 466- وأساس اعتبار الفعل أو الترك جريمة هو ما فيه من ضرر محقَّق للفرد وللجماعة، فكان من رحمة الله تعالى بعباده أن بيِّنَ لهم ما يفعلون وما يتركون لحفظ مصالحهم وتحقيق الخير والسعادة لهم في دنياهم وآخرتهم، واستقراء نصوص الشريعة الإسلامية يدل دلالة قاطعة على أنَّ ما حرَّمه الإسلام من فعلٍ وتركٍ وعاقب عليه، يشتمل على أضرار محقَّقة بالفرد والمجتمع، وتظهر هذه الأضرار بالمساس بالدِّين أو بالعقل أو بالنفس أو بالعرض أو بالمال، وما يترتَّب على ذلك من فسادٍ وإخلال في المجتمع. أنواع الجرائم: 467- الجرائم على اختلاف أنواعها يجمعها جامع واحد، هو أنَّها محظورات شرعية معاقب عليها، وقد قسَّمَها الفقهاء إلى ثلاثة أنواعٍ بالنظر إلى نوع عقوبتها، وهي: جرائم الحدود، وجرائم القصاص والديات، وجرائم التعزير. جرائم الحدود: 468- وهذه الجرائم هي: الزنى، والقذف، وشرب الخمر، والسرقة، والحرابة

-قطع الطريق، والرِّدَّة، والبغي على خلافٍ فيه1. والحد في اللغة: المنع، وفي الشرع: عقوبة مقدَّرة وجبت حقًّا لله تعالى2. وبعض الفقهاء يعرِّف الحدَّ بأنه العقوبة المقدَّرة شرعًا، ولا يقيِّدها بكونها حقًّا لله تعالى، فيسمَّى القصاص بهذا الاعتبار حدًّا أيضًا3. جرائم القصاص والدِّيَّات: 469- وهذه هي جرائم القتل، والجروح، وقطع الأطراف، ويسميها الفقهاء بالجنايات على النفس، أو ما دون النفس، وعقوبة هذه الجرائم القصاص إذا توافرت شروطه، أو الدية إذا كانت الجريمة غير عمدية، أو كانت عمدًا ولم تتوافر شروط القصاص الأخرى، وقد تجب الكفَّارة أيضًا في جرائم القتل. والقصاص معناه: أن يُفْعَل بالجاني مثل فِعْلِه بالمجني عليه، فيُقْتَل أو يُقطَع طرفه، وأما الدية: فهي المال الواجب في الجناية على النفس أو على ما دون النفس بشروطها المقرَّرة في الفقه الإسلامي، ولولي القتيل أن يعفو عن القصاص، كما له أن يعفو عن الدية؛ لأنها حقه. وفي جرائم الجراح ونحوها يجوز للمجني عليه أن يعفو عن الجاني، وأما الكفَّارة: فهي عقوبة فيها معنى العبادة، وتكون بعتق رقبة مؤمنة أو بالصيام. جرائم التعزير: 470- التعزير لغة: التأديب، وشرعًا: تأديبٌ على معاصٍ لم تشرَّع فيها عقوبات مقدَّرة4، وجرائم التعزير هي المحظورات الشرعية التي ليس لها عقوبة مقدَّرة من الشرع الإسلامي، مثل: الخلوة بأجنبية، وأكل الربا، وخيانة الأمانة، ونحو ذلك5، والإمام أو نائبه هو الذي يقدِّر عقوبة التعزير، وهو في تقديره عقوبة

_ 1 الكاساني في بدائعه، وابن عابدين في حاشيته لم يذكر البغي مع جرائم الحدود، "الكاساني ج7 ص33، وحاشية ابن عابدين ج3 ص193. 2 الهداية ج4 ص112، الكاساني ج2 ص56. 3 فتح القدير ج4 ص113، الماوردي ص213-215. 4 الماوردي ص227، تبصرة الحكام لابن فرحون المالكي ج2 ص258. 6 السياسة الشرعية لابن تيمية ص119، 120، رد المحتار لابن عابدين ج3 ص251.

التعزير لا يصدر عن الهوى، وإنما يلاحظ جسامة الجريمة وظروفها ومقدار ضررها، وحال الجاني من كوْنه من ذوي المروءات، أو من ذوي السوابق والإجرام، وما يتمّ به انزجار الجاني وعدم عودته إلى مثل فعله في المستقبل1، ويجب التعزير على كل بالغ عاقلٍ إذا ارتكب شيئًا من جرائم التعزير، سواء كان ذكرًا أو أنثى، مسلمًا كان أو كافرًا، أمَّا الصبي العاقل فيعزَّر تأديبًا لا عقوبة2. الفرع الثاني: العقوبة تمهيد: 471- قلنا: إن الجزاء في الشريعة الإسلامية أخروي ودنيوي3، وإنَّ الأصل في الجزاء في الشريعة هو جزاء الآخرة، ولكنَّ مقتضيات الحياة وضرورة استقرار المجتمع وتنظيم علاقات الأفراد على نحوٍ واضحٍ، وضمان حقوقهم، كلّ ذلك دعا إلى أن يكون مع الجزاء الأخروي جزاء دنيوي، وهذا الجزاء هو العقوبة التي توقعها الدولة على من يرتكب محرَّمًا أو يترك واجبًا، أي: يرتكب جريمة، وبهذا العقاب تنزجر النفوس التي لم ينفعها الوعظ والتذكير، والحقيقة أنَّ الشريعة الإسلامية تعنى بإصلاح الفرد إصلاحًا جذريًّا عن طريق تربيته على معاني العقيدة الإسلامية، ومنها: مراقبته لله وخوفه منه، وأداء ما افترضه عليه من ضروب العبادات، وهذا كله سيجعل نفسه مطاوعة لفعل الخير، كارهة لفعل الشر، بعيدةً عن ارتكاب الجرائم، وفي هذا كله أكبر زاجر للنفوس، وبالإضافة إلى ذلك فإنَّ الشريعة تهتم بطهارة المجتمع وإزالة مفاسده، ولهذا ألزمت أفراده بإزالة المنكر، ولا شكَّ أن المجتمع الطاهر العفيف سيساعد كثيرًا على منع الإجرام وقمع المجرمين، وسيقوّي جوانب الخير في النفوس، ويسد منافذ الشر التي تطلّ منها النفوس الضعيفة، وفي هذا ضمان أيضًا لتقوية النفوس وإعطائها مناعةً ضد الإجرام.

_ 1 تبصرة الحكام ج2 ص264، السياسة الشرعية لابن تيمية ص120. 2 الدر المختار ورد المحتار ج3 ص260. 3 انظر الفقرة 102 من هذا الكتاب.

ولكن مع هذا كله فقد تسوّل للبعض نفوسهم ارتكاب الجرائم، فكان لا بُدَّ من عقوبةٍ عاجلة توقعها الدولة الإسلامية عليهم زجرًا لهم من العودة إليها، وردعًا للآخرين الذين قد تسوّل لهم أنفسهم ارتكاب الجريمة، وفي هذا استقرار للمجتمع وإشاعة للطمأنينة فيه، كما أنَّ في إنزال العقاب بالمجرمين مصلحة لهم كما سنبيِّن. هذا وإنَّ العقاب الدنيوي للمجرِم لا يمنع العقاب الأخروي ما لم يقترن به التوبة النصوح، قال تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 1، ومن تمام التوبة النصوح التحلُّل من حقِّ الغير إن كان إجرامه مسَّ هذا الحق، ويؤيد ما قلنا أيضًا الحديث الشريف: "إن السارق إذا تاب سبقته يده إلى الجنة، وإن لم يتب سبقته يده إلى النار" 2، فهذا السارق الذي قطعت يده تسبقه يده المقطوعة إلى الجنة إن تاب، وإلّا سبقته إلى النار. تشريع العقاب من رحمة الله بعباده: 472- وتشريع العقاب الدنيوي في الشريعة الإسلامية من مظاهر رحمة الله بعباده؛ لأنه يزجر الإنسان عن ارتكاب الجريمة، فيتخلَّص من الإثم، وإذا وقع في الجريمة فإنَّ العقوبة في حقِّه بمنزلة الكيِّ بالنسبة للمريض المحتاج إليه، وبمنزلة قطع العضو المتآكل، فإنَّ بهذا القطع وذلك الكي مصلحة له وإبقاء لحياته، وإيقافًا للمرض من السراية وإهلاك الجسم كله، كما أنَّ في هذا العقاب للمجرم مصلحة مؤكَّدة للمجتمع، كما أشرنا من قبل؛ لما يترتَّب عليه من اطمئنان الناس على حياتهم وأموالهم وإخافة للمجرمين، وهذه المصلحة العامة يهون معها الضرر الذي يصيب المجرم بسبب ما جنت يداه. الحزم في إقامة العقوبات الشرعية: 473- والعقوبات الشرعية واجبة التطبيق والتنفيد، لا يسع ولي الأمر التهاون

_ 1 سورة المائدة، الآية: 33. 2 مجموع فتاوى ابن تيمية ج28 ص299.

فيها أو تعطيلها؛ لأنَّها من شرع الله، وأنَّ تعطيلها يؤدي إلى سخط الله تعالى، كما يؤدي إلى فساد المجتمع واضطراب أحواله وسوء أوضاعه؛ لأن تعطيل حدود الله من المعاصي الكبيرة القبيحة، وظهور المعاصي من أسباب نقص الرزق، والخوف من العدو وضنك العيش، فإذا اقيمت الحدود الشرعية ظهرت طاعة الله ونقصت معصيته، وحصل الخير والنصر، فينبغي أن يكون ولاة الأمور أشدَّاء في إقامة حدود الله، لا تأخذهم رأفة في دِين الله، وأن يكون قصدهم من إقامتها رحمة الخلق بكفِّ الناس عن المنكرات، لا إشفاءً لغيظِ نفوسهم، ولا إرادة العلوِّ والفساد، فيكون أحدهم بمنزلة الوالد إذا أدَّب ولده، يؤدّبه رحمة به وإصلاحًا لحاله، مع أنَّه يود ويؤثر أن لا يحوجه إلى التأديب، وبمنزلة الطبيب الذي يسقي المريض الدواء الكريه. المساواة في إقامة العقوبات الشرعية وحرمة تعطيلها: 574- والعقوبات الشرعية تُقَام على جميع من قامت فيهم أسبابها وشروطها، لا فرق بين شريف ووضيع، وقويّ وضعيف، فإنَّ المحاباة في إنزال العقوبات الشرعية سبب لهلاك الأمَّة، جاء في الحديث الشريف أنَّ امرأة من بني مخزوم سرقت، فأهمَّ قومُها أمرَهَا، فكلَّموا فيها أسامة بن زيد ليكَلِّم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في شأنها، فلمَّا فعل ذلك غضِبَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: "إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدّ، وايم الله لو أنَّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها" 1، والواقع أنَّ المساواة بين الرعية في إقامة العقوبات خير رادعٍ للأقوياء الذين قد تسوّل لهم قوتهم الإجرام؛ لما يظنُّونَه من محاباة لهم بسبب قوتهم وعدم معاقبتهم؛ لأنهم إذا رأوا هذه المساوة الصارمة في العقاب خنسوا ولم تعد توسوس لهم أنفسهم بهذا الوسواس الباطل؛ لأن قوتهم -وقد رأوا حزم الدولة في معاقبتهم- لا تخلِّصُهم من العقاب؛ لأنَّ قوة الدولة أكبر من قوتهم، كما أنَّ الضعيف سيطمئنُّ؛ لأنَّ الدولة معه، فهو أقوى من أيّ فرد قوي، فلا يخشى اعتداءه. ولمَّا كان المطلوب من ولي الأمر المسلم الحزم في إنزال العقاب والمساوة بين الرعية

_ 1 تيسير الوصول إلى جامع الأصول من حديث الرسول ج2 ص14.

فيه، فلا يجوز لأحد أن يشفع لمجرم لإسقاط العقاب عنه، جاء في الحديث الشريف: "من حالت شفاعته دون حَدٍّ من حدود الله فقد ضادَّ الله في أمره"، وهذه هي الشفاعة السيئة، وقد قال الله تعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} 1، ولا شكَّ أنَّ من يشفع لإسقاط الحدِّ الشرعي عن المجرم يشفع شفاعة سيئة، وكما لا تجوز الشفاعة السيئة لإسقاط الحدود الشرعية، لا يجوز لولي الأمر أن يأخذ من المجرم مالًا لتعطيل الحدِّ الشرعي، سواء كان هذا المال لبيت المال أو لغيره؛ لأنه مال خبيث وسحت. ابتناء العقوبات الشرعية على العدل والردع: 475- وجميع العقوبات الشرعية بنيت على أساسين كبيرين: الأول: العدل، والثاني: الردع، ويظهر الأساس الأول -العدل- في أنَّ العقوبة بقدر الجريمة، قال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} 2، فليس فيها زيادة على ما يستحقه المجرم، وإن ظنَّ بعض الجهلاء هذه الزيادة كما سنبينه بعد قليل، ويظهر الأساس الثاني -الردع- في مقدار الألم الذي تُحْدِثُه العقوبة في المجرم، وما يسببه له من فقدان حريته، أو بعض أعضائه، ولا شكَّ أن فقد هذه الأشياء يؤلمه ويخيفه، فيمتنع من الإجرام بدافعٍ من حب الذات، والخوف من المؤذي المؤلم إذا ما سوَّلت له نفسه الإجرام، وزيِّنَ له الشيطان مخالفة حدود الإسلام. أنواع العقوبة: 476- العقوبات في الشريعة الإسلامية أربعة أنواع: الحدود، والقصاص، والدِّيَّات، والتعزير، وكنَّا قد أشرنا إليها من قبل عند كلامنا على تقسيم الجرائم، فلا بُدَّ من الكلام بإيجاز شديد عن كل عقوبة من هذه العقوبات؛ من حيث دليل مشروعيتها ومقدارها.

_ 1 سورة النساء، الآية: 85. 2 سورة الشورى، الآية: 40.

أ- الحدود: 477- وهي العقوبات المقدَّرَة لجرائم الحدود، وقد وجبت كما قال الفقهاء حقًّا لله تعالى؛ لأنَّ نفعها للعامَّة لا اختصاص لأحدٍ بها، وما كان نفعه عامًّا يعتبر من حقِّ الله، ولهذا نُسِبَ إلى ربِّ الناس جميعًا لعظيم خطره وشمول نفعه1؛ ولأنَّ هذه النسبة تشعر بلزوم العناية والاهتمام به وعدم التفريط فيه، ولهذا لا يجوز إسقاط هذه العقوبات "الحدود" بعد ثبوت جرائمها أمام القضاء، حتى ولو رضي المجني عليه بهذا الإسقاط؛ لتعلق حق الله بهذه العقوبات. وجرائم الحدود التي ثبت فيها هذا النوع من العقوبات هي: الزنى، والقذف، وشرب الخمر، والسرقة، والحرابة، والردة، والبغي. 478- أولًا: عقوبة الزنا وهو كلّ وطء وقع على غير نكاح، ولا شبهة نكاح، ولا ملك يمين2، وعقوبته الجلد أو الرجم، والتغريب. أمَّا الجلد فالأصل فيه قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} 3، وجاءت السنة النبوية مقرِّرةً الجلد، من ذلك ما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه أمر بجلد رجل أقرَّ بزناه مائة جلدة، وكان بكرًا 4، ولا خلاف بين الفقهاء في وجوب الجلد على الزاني إذا لم يكن محصَنًا. أمَّا الرجم: فقد ثبت بسنَّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وأجمع عليه الصحابة والمسلمون، ولم يشذ عن هذا الإجماع إلّا الخوارج5، والرجم معناه: رجم الزاني بالحجارة، أو ما يقوم مقامها حتى الموت، ولا يجب الرجم إلّا على المحصن بإجماع العلماء، ومن شروط

_ 1 التلويح على التوضيح ج2 ص151. 2 بداية المجتهد ج2 ص262. 3 سورة النور، الآية: 2. 4 تيسير الوصول ج2 ص7. 5 بداية المجتهد ج2 ص363، والمغني ج8 ص157، المبسوط ج9 ص36.

الإحصان أن يكون الزاني قد وطئ وطأً كاملًا في نكاحٍ تام. أمَّا التغريب فمعناه: نفي الزاني عن البلد الذي زنى فيه إلى بلد غيره، وقد اختلف العلماء في وجوبه مع الجلد، فعند الحنفية: لا تغريب مع الجلد إلّا إذا رأى الإمام المصلحة فيه، فيكون تعزيرًا لا حدًّا، وهذا مذهب الزيدية أيضًا، وعند الحنابلة والشافعية: لا بُدَّ من تغريب الزاني غير المحصن لمدَّة سنة مع جلده، سواء كان ذكرًا أو أنثى، وقال مالك: يغرَّب الرجل ولا تغرَّب المرأة، وبه قال الإمام الأوزاعي1. 479- واللواط يدخل في مفهوم الزنى عند الجمهور؛ كالمالكية والشافعية والحنابلة، وأبي يوسف ومحمد صاحبيْ أبي حنيفة، فيكون عقابه عقاب الزنى2. ويقول الإمام ابن تيمية: "والصحيح الذي اتفقت عليه الصحابة أن يقتل الاثنان الأعلى والأسفل -أي: الفاعل والمفعول به، سواء كانا محصنين أو غير محصنين، فإنَّ أهل السنن رووا عن ابن عباس -رضي الله عنهما، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به" 3. 480- ثانيًا: عقوبة القذف القذف شرعًا الاتهام بالزنى، أي: نسبة الشخص إلى الزنى بشروط معينة، كأن يقال: يا زاني، أو يا زانية، وعقوبته الجلد ثمانون جلدة، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [سورة النور4] ، والنصّ وإن ورد في المحصنات لكنَّ الحكم يثبت في المحصنين أيضًا، وعليه اجتمع الفقهاء4، ويشترط لوجوب عقوبة القذف شروط، منها: أن يكون القاذف بالغًا عاقلًا، وأن يكون المقذوف محصنًا، رجلًا كان أو امرأة، وشرائط الإحصان هي: العقل، والبلوغ، والحرية، والعفَّة عن الزنى، والإسلام، وهذا عند جمهور الفقهاء، وعند الظاهرية ليس الإسلام

_ 1 شرح الكنز للزيلعي ج3 ص173، 174، والمبسوط ج9 ص44، 45، المغني ج8 ص167، 168، بداية المجتهد ج2 ص364، 365. 2 الكاساني ج7 ص34، الشرح الصغير للدردير ج2 ص390-393، كشاف القناع ج4. 3 مجموع فتاوى ابن تيمية ج28 ص337، 335. 4 تفسير القرطبي ج12 ص172.

شرطًا للإحصان، فمن قذف ذميِّة بالزنى وجب عليه الحدّ كما لو قذف مسلمة، وحجتهم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} ، وهذا عموم يدخل فيه الكافرة والمسلمة1. 481- وإذا قذف الزوج زوجته بالزنى، وعجز عن إثبات قذفه، وجب عليه اللعان، وإذا أثبت قذفه بالبينة وجب على زوجته حدّ الزنى، والأصل في اللعان قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ، وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ، وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ، وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} 2. إذا نكل الزوج القاذف ولم يلاعن حُدَّ في قول الجمهور حدَّ القذف، وقال أبو حنيفة -رحمه الله: لا يُحَدّ ويحبسه الحاكم حتى يلاعن أو يذُبَّ نفسه فيحد حدَّ القذف، وإن نكلت الزوجة وجب الحدّ عليها في قول مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة: تحبس حتى تلاعن، وعند الحنابلة: إذا نكلت الزوجة لم تحدّ، وفي حبسها حتى تلاعن أو تقرّ روايتان3. 482- ثالثًا: عقوبة الخمر وحد الشرب ثابت بسُنَّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإجماع المسلمين، فقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّه ضرَبَ في شرب لخمر بالجريد والنِّعَال أربعين، وضرب أبو بكر -رضي الله عنه- أربعين، وضرب عمر في خلافته ثمانين. وكان علي -رضي الله عنه- يضرب مرَّة أربعين، ومرَّة ثمانين، فمن العلماء من يقول: يجب ضرب الثمانين، ومنهم من يقول: الواجب أربعون، والزيادة يفعلها الإمام عند الحاجة إذا أدمن الناس الخمر، أو كان الشارب ممن لا يرتَدِع بدونها، ونحو ذلك، فأمَّا مع قلة الشاربين وعدم اعتيادها من الشارب، فتكفي الأربعون3، والخمر التي حرمها الله ورسوله، وأمر النبي -صلى الله عليه وسلم-

_ 1 بداية المجتهد ج2 ص368، المغني ج8 ص216، الماوردي ص221، المحلَّى ج11 ص268. 2 سورة النور، الآيات: 6- 9. 3 بداية المجتهد ج2 ص99، الهداية وفتح القدير ج3 ص250، 251، أبو يعلى الحنبلي ص256. 4 مجموع فتاوى ابن تيمية ج28 ص336، 337.

بجلد شاربها، كل شراب مسكر من أيِّ أصل كان، سواء كان من الثمار أو الحبوب أو غيرها، وكذلك الحشيشة يُُجْلَد صاحبها كما يُجْلَد شارب الخمر؛ لما ثبت في الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "كل مسكر حرام"، وفي حديث آخر: "كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام"، وفي رواية أخرى: "كل مسكر خمر، وكل خمر حرام"، وفي حديث آخر: "ما أسكر كثيره فقليله حرام" 1. وتحريم الخمر ثابت في القرآن كما هو ثابت بالسُّنَّة النبوية، قال تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 2. 483- رابعًا: عقوبة السرقة السرقة اعتداءٌ على مالِ الغير بأخذه خِفْيَة ظلمًا بشروط معينة، منها: أن يكون محرَّزًا، ولا تقل قيمته عن ربع دينار، وعقوبتها قطع اليد، قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} 3، ومن صور الاعتداء على مال الغير التي لا تعتبر سرقة بالمعنى الاصطلاحي الفقهي، وبالتالي لا يجب فيها قطع اليد، وإنما يجب فيه التعزير، خيانة الأمانة؛ كجحد الوديعة العارية وغيرها من الأمانات، وغصب المال وانتهابه، وخطفه من يد صاحبه. 484- خامسًا: عقوبة قطع الطريق جريمة قطع الطريق أو الحرابة عند الفقهاء: الخروج على المارَّة لأخذ المال منهم مجاهرة بالقوة والقهر، مِمَّا يؤدي إلى امتناع الناس عن المرور وانقطاع الطريق، سواء ارتكب هذه الجريمة فرد أو جماعة، بسلاحٍ أو غيره، ويسمَّى مرتكب هذه الجريمة بالمحارب4.

_ 1 المرجع السابق ص340- 342. 2 سورة المائدة، الآية: 90. 3 سورة المائدة، الآية: 38، الكاساني ج7 ص91-92، شرح الخرشي ج8 ص104. 4 السياسة الشرعية لابن تيمية ص82، 83، المغني ج8 ص288، فتح القدير ج7 ص268 وما بعدها، بداية المجتهد ج2 ص380، الكاساني ج7 ص93، ومعنى يصلَّبوا: أي يربطوا على خشبة ليشتهر أمرهم ويعرفهم الناس، وتقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، أي: تقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى، والمراد بالنفي هنا حبس الجاني في غير بلده.

والأصل عن عقوبتها قوله -سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ، إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 1. وعقوبة قاطع الطريق أن يُقْتَل أو يُصْلَب إذا قتل وأخذ المال. ويقتل بلا صلب إذا قتل ولم يأخذ مالًا، وتقطع يده ورجله من خلاف إذا أخذ المال ولم يقتل، وينفى من الأرض إذا أخاف السبيل فقط، فلم يقتل ولم يأخذ مالًا، وعند المالكية: يقتل قاطع الطريق وجوبًا إذا قتل المجني عليه، وإن لم يقتله ولكن أخذ ماله فقط فإنَّ الإمام مخيِّر فيه بين القتل والصلب والقطع من خلاف، وإذا أخاف السبيل فقط فالإمام مخَيِّر فيه بين القتل والصلب من خلافٍ والنفي2. 485- سادسًا: عقوبة المرتد المرتد لغة: الراجع مطلقًا، وشرعًا: الراجع عن دين الإسلام، والرِّدَّة تكون بالألفاظ أو الأفعال أو الاعتقادات، فتكون بالفظ بأن يتكلَّم المسلم بكلمة الكفر كسبِّ الله ورسوله، وبالأفعال بأن يأتي المسلم عملًا يدل على استخفافه بالدين الإسلامي كالصلاة بلا وضوء عمدًا على وجه الاستخفاف بالدِّين، وكإلقاء القرآن الكريم في قذر عمدًا، وبالاعتقادات بأن يعتقد المسلم أمورًا باطلة مناقضة لما عرف من الإسلام بالضرورة، مثل: إنكار وجود الله، أو يوم القيامة، أو الملائكة أو الجنِّ، أو يعتقد قدم العالم، أو كذب الرسول -صلى الله عليه وسلم- أو حلَّ الزنى، أو يعتقد أن القرآن ليس من عند الله، أو أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- ليس خاتم الأنبياء والرسل ونحو ذلك، ويشترط لوقوع الردة أن يكون المرتدُّ عاقلًا مختارًا، فلا تعتبر ردة المجنون ولا الصبي الذي لا يعقل ولا السكران الذي زال عقله بالسكر ولا المكره إذا كان قلبه مطمئنًا بالإيمان.

_ 1 سورة المائدة، الآية: 33، 34. 2 نفس مصادر رقم 279.

وليست الذكورة شرطًا لوقوع الردة، وكذا البلوغ عند الحنيفة خلافًا لغيرهم الذين يرون البلوغ شرطًا لها1. وعقوبة المرتدّ القتل لحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "من بدَّل دينه فاقتلوه"، وهذا الحكم يشمل المرتد والمرتدة عند الجمهور، وقال الحنفية: المرتدة لا تقتل وإنَّما تُحْبَس حتى تتوب. أما إمهال المرتد قبل قتله فقد قال الجمهور بوجوب إمهاله، ويعرض الإسلام عليه لعلَّه يرجع عن ردَّته، فإن أبى قُتِل، وقال الحنفية: الإمهال ليس واجبًا بل مستحبًّا2. 486- سابعًا: عقوبة البغي جريمة البغي هي خروج جماعة ذات قوة وشوكة على الإمام بتأويل سائغ يريدون خلعه بالقوة والعنف، ويسميهم الفقهاء: البغاة، والأصل في هذه الجريمة وعقوبتها قول الله -جلَّ جلاله: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} 3. وعقوبة البغاة قتالهم إذا أظهروا العصيان للإمام، وامتنعوا عن أداء ما عليهم من حقوق، وجاهروا بذلك، وتهيئوا للقتال، سواء نصبوا عليهم إمامًا ولم ينصبوا، ولا يجوز قتالهم حتى يبعث إليهم الإمام من يسألهم ويكشف لهم الصواب، ويدفع ما يحتجونه به، وينذرهم ويخوفهم نتيجة بغيهم، وهذا هو ما فعله سيدنا علي -رضي الله عنه- مع الخوارج، فقد أرسل إليهم عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- يدعوعهم إلى الطاعة والرجوع إلى الجماعة، فإذا أبوا قاتلهم. هذا ويجوز قتالهم وإن لم يبدءوا بالقتال فعلًا، إذا ترجَّح للإمام أنهم يماطلون ويسوّفون ويريدون كسب الوقت وتجميع الأنصار استعدادًا للقتال، وقد يكون في هذه الحالة من الحزم معاجلتهم قبل أن يستفحل شرّهم وتقوى شوكتهم فيصعب القضاء عليهم، فإذا رجع البغاة إلى الطاعة ولزوم

_ 1 بدائع الصنائع للكاساني ج7 ص134، ورد المحتاج ج3 ص392- 394، الفتاوى الهندية ج2 ص253، المغني ج8 ص123، شرح الخرشي في فقه المالكية ج8 ص62، شرح الأزهار في فقه الزيدية ج4 ص576. 2 الفتاوى الهندية ج2 ص257، المغني ج8 ص123-125. 3 سورة الحجرات، الآية 9.

الجماعة لم يجز قتالهم؛ لأنَّ المقصود حصل وهو رجوعهم إلى طاعة الإمام. هذا ولا شيء على من قاتلهم من إثم أو ضمان أو كفارة؛ لأنَّ الله تعالى أحلَّ قتالهم، وكذلك لا ضمان في إتلاف أموالهم، وكذلك ليس على أهل البغي ضمان ما أتلفوه حال الحرب من نفس أو مال، وبهذا قال الحنابلة والحنفية والشافعي في أحد قوليه، والحجة لهذا القول: السوابق القديمة المحفوظة عن الصحابة الكرام، وعن علي بن أبي طالب -رضي الله عنهم أجمعين، ولأن للبغاة سائغًا، وفي تضمينهم تنفير لهم عن الرجوع إلى الطَّاعة ولزوم الجماعة، فلا يجوز1. ب- القصاص والديات 487- والنَّوْع الثاني من أنواع العقوبة في الشريعة الإسلامية: القصاص والديات، وتجب هذه العقوبة في جرائم الاعتداء على النَّفس أو على ما دون النفس، أي: في جرائم القتل والجروح وقطع الأطراف والأعضاء، وقد تجب الكفَّارة أيضًا في جرائم القتل، ونتكلم عن هذه العقوبات بإيجازٍ فيما يلي: القصاص في جريمة القتل: قتل الجاني، وهو حقٌّ لأولياء القتيل، وهم جميع الورثة من ذوي الأنساب والأسباب عند أكثر الفقهاء، والأصل في وجوب القصاص في النفس قوله -سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} 2 ولوجوب القصاص شروط، منها: أن يكون القتل عمدًا عدوانًا؛ لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "العمد قَوْد"، وأن يكون القتيل معصوم الدم، أي: غير مباح الدم، وأن يكون مكافئًا للقاتل، بمعنى: أنَّ القاتل لا يزيد عليه بحرية أو إسلام، وهذا الشرط عند جمهور الفقهاء خلافًا للحنفية3.

_ 1 أبو يعلى الحنبلي ص38، 396 الماوردي ص55، 56 الكاساني ج7 ص113، 140 الهداية وفتح القدير ج4 ص411، المغني ج108-114، كشاف القنا ج4 جـ4 ص99، مغني المحتاج ج4 ص128، المهذب للشيرازي ج2 ص437، شرح الأزهار ج4 ص570، سورة البقرة، الآية: 178. 3 المغني ج7 ص4643، وما بعدها، الكاساني ج7 ص323، وما بعدها، الماوردي ص222، وما بعدها، بداية المجتهد ج2 ص332، شرح الخرشي ج8 ص4، مغني المحتاج ج4 ص16، شرح فتج القدير ج8 ص254.

أمَّا القصاص في جرائم الاعتداء على ما دون النفس، فالأصل فيه قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ} 1 وجاءت السنة النبوية أيضًا بوجوب القصاص فيما دون النفس، كما في قصة الربيعة بنت النضر التي كسرت ثنية جارية، فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالاقتصاص منها. وشروط القصاص فيما دون النفس هي شروط القصاص في النفس، مع وجوب توفُّر شرطين آخرين هما: أولًا: المماثلة بين محل الجريمة وبين ما يقابلها في الجاني المراد الاقتصاص منه في هذا المحل. الثاني: أن يكون المثل ممكن الاستيقاء1. 488- الديِّة: الدية في الشرع في باب القتل: اسم للمال الذي يدفع لأهل القتيل من قِبَل من يجب عليه هذا المال، ويختلف مقدارها باختلاف المال الذي تجب فيه، فهي عند الحنفية: إذا كان القتيل ذكرًا مسلمًا من الإبل مائة، ومن الذهب ألف دينار، ومن الفضة عشرة آلاف درهم، ومن الحلل مائتا حلة، كل ثوبان إزار ورداء، ومن البقر مائتا بقرة، ومن الغنم ألف شاة، ودية الأنثى على النصف من دية الذكر، ودية الجنين عشرة دية أمه. وتجب الدية في القتل الخطأ وشبه العمد على عاقلة الجاني، وهم العصبة النسبية، أي: أقارب القتيل الذكور من جهة الأب، وأضاف إليهم الحنابلة العصبة السببية المتأتية من ولاء العتاقة، وعند الحنفية: عاقلة الرجل أهل ديوانه من المقاتلة، فإن لم يكن فقبيلته. وتدفع الدية أقساطًا في ثلاث سنوات، ويؤدِّي كل رجل من العاقلة من الدية المقدار الذي يطيقه، وتجب الدية أيضًا في القتل العمد إذا اختارها أولياء القتيل على رأي من يقول: إنهم يخيرون بين القصاص وبين الدية، وتكون في هذه الحالة في مال الجاني فقط3.

_ 1 سورة المائدة، الآية: 45. 2 المغني ج7 ص702-707، تفسير القرطبي ج6 ص161 وما بعدها، الدر المختار ج5 ص485، الكاساني ج78 ص297. 3 الدر المختار ورد المحتار ج5 ص405-517، الكاساني ج7 ص251-257، المغني ج7 ص759 وما بعدها، بداية المجتهد ج2 ص345، المحلَّى لابن حزم ج11 ص58، مختصر المزني ج5 ص141، مغني المحتاج ج4 ص552، شرح الأزهار ج4 ص4698. 1 المغني ج7 ص651، وج8 96، 97، الدر المختار ج5 ص468.

489- الكفَّارة: وهي عتق رقبة مؤمنة أو صيام شهرين متتابعين عند عدم القدرة على العتق. وتجب الكفَّارة في القتل الخطأ بلا خلاف بين العلماء، وتجب أيضًا في القتل شبه العمد عند كثير من الفقهاء كالحنفية والشافعية والحنابلة. أمَّا في القتل العمد فقد قال بوجوبها الشافعية والزيدية، ولم يقل بوجوبها الحنفية والظاهرية على المشهور في مذهبهم1. جـ- التعزير: 490- وثالث أنواع العقوبات التعزير، وقد عرفناه من قبل، وقلنا: إنه يجب في كل معصية -ترك واجب أو فعل محرَّم- لم يرد في الشرع تقدير لعقوبتها، مثل: تقبيل الصبي الأمرد، أو أكل ما لا يحل كالدم والميتة، أو قذف الناس بغير الزنى، أو السرقة من غير حرز، أو سرقة ما لا يبلغ نصاب حد السرقة، أو خيانة الأمانة كالوكلاء والشركاء إذا خانوا، أو الغش في المعاملة، أو التطفيف في المكيال والميزان، أو شهادة الزور، أو الرشوة، أو التعزِّي بعزاء الجاهلية، أو غير ذلك من أنواع المحرَّمات. فمرتكبها يعاقب تعزيرًا بقدر ما يراه ذوو الشأن، مثل: ولي الأمر أو القاضي على حسب كثرة هذه المحرمات في الناس أو قلتها، فإذا كانت المعصية كثيرة الوقوع في الناس زاد في العقوبة بخلاف ما إذا كانت قليلة، وعلى حسب حال الجاني، فإذا كان من ذوي السوابق والفجور زاد في عقوبته، بخلاف المقلّ من ذلك. وعلى حسب كِبَر الجرم وصغره، فيعاقب من يتعرَّض لنساء الناس وأولادهم، ويتكرَّر ذلك منه، بما لا يعاقب به من لم يتعرَّض إلا لامرأة واحدة أو لصبي واحد. أنواع التعزير: 491- التعزير يكون بكل ما فيه إيلام، من قول وفعل، وترك قول، وترك

_ 1 المغني ج7 ص651، ج8 ص96-97، الدر المختار ج5 ص467-468، الكاساني ج7 ص251، المحلى ج10 ص514، البحر الزخار ج5 ص 222، متن المنهاج ومغني المحتاج ج4 ص107.

فعل، فقد يعزَّر الشخص بوعظه وتوبيخه والإغلاظ له، وقد يعزَّر بهجره وترك السلام عليه حتى يتوب أو يقلع عن معصيته، كما هجر النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه {الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} ، وقد يعزَّر بعزله عن ولايته، كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه يعزِّرون بذلك، وقد يكون التعزير بالنفي عن الوطن أو بالحبس، أو بالضرب، وقد يعزَّر بتسويد وجهه. وقد يكون بالعقوبات المالية كما دلَّت على ذلك سنة النبي -صلى الله عليه وسلم، فقد أمر -عليه الصلاة والسلام- بكسر دنان الخمر وشق ظروفه، وأمره لهم يوم خيبر بإكفاء القدور التي طبخت فيها لحوم الحمر، وإتلاف هذا اللحم، ومثل هدمه لمسجد الضرار. وكذلك فعل عمر وعليِّ -رضي الله عنهما، فقد أمرا بتحريق المكان الذي يباع فيه الخمر، مثل أخذ شطر مال مانع الزكاة، ومثل إراقة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- اللبن المشوب بالماء المعَدِّ للبيع، وأخيرًا قد يكون التعزير بالقتل مثل قتل الجاسوس المسلم إذا تجسَّس للعدو على المسلمين، وهذا مذهب الإمام مالك وبعض الحنابلة1. أكثر التعزير: 492- اختلف العلماء في أكثر التعزير على أقوال، الأوَّل: عشر أسواط، الثاني: دون أقلِّ الحدود، إما تسعة وثلاثون سوطًا، وإما تسعة وسبعون سوطًا، الثالث: إنَّه لا يقدر بذلك، ولكن إن كان التعزير فيما من جنسه مقدَّر لم يبلغ به ذلك المقدر، وإن زاد على حد جنس آخر مثل التعزير على سرقة دون النصاب لا يبلغ به قطع اليد، وأن ضرب السارق أكثر من حد القذف، والتعزير على فعل دون الزنى لا يبلغ حد الزنى، وإن جاز ضربه كثر من حد القذف، وهذا القول كما يقول ابن تيمية: أعدل الأقوال وعليه دلت سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم2. 493- وهل يجوز التعزير بالقتل؟ ذهب الإمام مالك إلى الجواز، ووافقه عليه طائفة من أصحاب أحمد بن حنبل والشافعي على ذلك من حيث الجملة، وإن اختلفوا في بعض الجزئيات، فعندهم يجوز قتل الداعية إلى البدع المخالفة للكتاب والسنة، أمَّا

_ 1 مجموع فتاوى ابن تيمية ج28 ص107، 108، 344، 345. 2 مجموع فتاوى ابن تيمية ج28 ص108.

قتل الجاسوس المسلم الذي أجازه مالك وبعض الحنابلة فقد منعه الشافعي. وأبو حنيفة -رحمه الله تعالى- يجوّز التعزير بالقتل في مواضع، منها: فيما تكرَّر من الجرائم إذا كان جنسه يوجب القتل، كما يقتل من تكرَّر منه اللواط أو اغتيال النفوس لأخذ المال. ومن لم يندفع فساده في الأرض إلا بقتله جاز قتله، مثل المفرق لجماعة المسلمين، ويدل على هذا ما جاء في الحديث الشريف: "من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرِّق جماعتكم فاقتلوه"، وسئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عمّن لم ينته عن شرب الخمر، فقال: "من لم ينته عنها فاقتلوه"، وهذا أيضًا يدل على جواز التعزير بالقتل1. اعتراضات ودفعها: 494- اعترض أو يعترض البعض على نظام الجريمة والعقوبة في الشريعة الإسلامية باعتراضات يظنها مقبولة، ويخلص منها إلى أنَّ العقوبات الشرعية لا يمكن تطبيقها في الوقت الحاضر، أو لا يمكن تطبيق أكثر عقوبات الحدود على الأقل. ويقوم هذا الاعتراض على أن عقوبات الحدود تتضمَّن إهدار آدمية الشخص بجلده في الزنى والقذف وشرب الخمر، والتدخل في الحرية الشخصية كما في الزنى وشرب الخمر، وقطع الأعضاء في عقوبة السرقة وقطع الطريق، والرجم في الزنى بالنسبة للمحصن، والتدخل في حرية العقيدة، وقتل المخالف كما في عقوبة الرِّدَّة، وإعطاء حق العقاب للفرد لا للمجتمع في عقوبة القصاص، وتحميل أقارب الجاني أو إشراكهم في دفع الدية خلافًا لمبدأ شخصية العقاب، وعدم مسئولية الإنسان عن جرم غيره. والواقع أنَّ هذه الاعتراضات واهية، وما قامت عليه أوهى منها، وإن اغترَّ بها أصحابها وحسبوها حججًا وأدلة دامغة تبرر الاعتراضات بشيء من التوضيح والتفصيل. 495- قولهم: إنَّ الجلد فيه إهدار لآدمية الشخص مردود؛ لأن الجاني هو

_ 1 المرجع السابق ص345-347.

الذي أهان نفسه ولم يكرمها، وعرَّضها للإهدار ولم يصنها، فإنَّ الزاني الذي أباح لنفسه أن يلغ في إناء غيره لم يعد ينفعه وعظ وتوبيخ، وإنما يحتاج إلى تذكير بالسوط وتحسيسه بالألم الجسدي لا المعنوي، وأمَّا رجمه إن كان محصنًا فلأنه لم يعد صالحًا للعيش في المجتمع الإسلامي الطاهر؛ لأنه ولغ في إناء الغير وعنده إناء يكفيه. وأمَّا الجلد في القذف فإنه السبيل لتبرئة المتهمة بالزنى، ورفع الشكوك عنها؛ إذ لا سبيل إلى ذلك إلّا بإظهار كذب القاذف بمعاقبته، وسِرُّ المسألة أنَّ الإسلام يُعنَى بنظافة المجتمع وطهارته وسلامة الأعراض والأخلاق، فإذا كانت هذه الأمور مطلوبة فوسائلها مطلوبة، وهذا ما يقرره الإسلام، وإذا كانت هذه الأمور: من العفَّة وسلامة العرض والخلق وطهارة المجتمع غير مرغوبة فوسائلها غير مرغوبة، وهذا ما يقرره ضمنًا المعترضون على العقوبات الشرعية، فالخلاف إذن في المحافظة على هذه الأغراض، الإسلام يقول: لا بُدَّ من المحافظة عليها، ومن ثَمَّ أوجب التشدد على من يريد تلويث المجتمع وتفويت هذه الأغراض المهمة الشريفة عليه. 496- أمَّا ادعاؤهم بأن هذه العقوبات تتضمَّن التدخل في الحرية الشخصية كما في الزنى وشرب الخمر فمردود؛ لأنَّ الحرية الشخصية لا يجوز أن تؤدِّي الإضرار بالمجتمع، فالحرية الشخصية تقف حيث تكون أداة ضرر وهدم في المجتمع، ولا يمكن لمنصف أن يقول: إنَّ زنى الزاني نفع للمجتمع، فأضراره أوضح من أن نتكلم عنها في هذا المقام. أمَّا بالنسبة لشرب الخمر، فإنَّ عقل الإنسان جوهرة ثمنية لا يجوز تعطيلها اختيارًا، فيكفي الإنسان تعطيل عقله اضطرارًا في النوم، فضلًا عمَّا في شرب الخمر من تسهيل سبل الإجرام للسكران، كما هو واضح ومعروف، والدولة مسئولة عن منع الإجرام في إقليمها وسد سبله. 497- أما ادعاؤهم بقسوة بعض العقوبات لما فيها من بتر وقطع بعض الأعضاء، فإنهم قد فاتهم مدى ترويع السارق وقاطع الطريق للآمنين، كان عليهم أن يتصوروا فعل السارق وهو يسير في جنح الظلام على رءوس أقدامه، فينقب الجدار ويكسر القفل، ويدخل على الآمنين في بيوتهم من نساء وأطفال ورجال، وبيده السلاح يزهق روح من يقاومه، فيأخذ المتاع من البيت ويخرج، وربما يستيقظ أهل الدار فيحصل القتل أو الفزع والهلع، فهم لو تصوروا فظاعة جرم السارق لما أسِفوا على قطع يده

الآثمة الخبيثة، ومثل هذا يقال عن قطاع الطرق الذين يتربصون بالمارَّة ويهاجمونهم ويسلبونهم أموالهم وأرواحهم. ثم يقال: إن العقوبة يجب أن يكون فيها قدر كافٍ من الرَّدع والزجر، ولا شكَّ أن قطع يد السارق أو المحارب فيه هذا المقدار، أمَّا غيرهما من العقوبات الوضعية كالحبس والغرامات فلا تملك هذا القدر من الردع، ودليل ذلك الواقع، فإن جرائم السرقة بازدياد ولم تقللها عقوبة الحبس، بل إنَّ السجن صار نزلًا لأصحاب السوابق يتردَّدون إليه ويعتبرونه مأوى أمينًا لهم، بل ومحلًّا للقائهم وتبادل خبراتهم في عالم السرقة والإجرام. 498- أمَّا قولهم: إنَّ عقوبة الردة بقتل المرتدِّ تدخل في حرية العقيدة ومصادرة لها، وإكراه للإنسان على اعتقاد ما لا يريد، فهذا القول مأخذه الجهل في طبيعة هذه العقوبة، ومعنى الردة، ومعنى الإكراه على تبديل الدِّين، فالردَّة كما قلنا: الرجوع عن الإسلام، أي أنَّ مسلمًا يرجع عن إسلامه، فنحن إذن إزاء مسلم ارتكب جرمًا معينًا يسمَّى "الردة"، ولسنا أمام رجل يهودي أو نصراني نكرِهُه على تبديل عقيدته، ومبدأ لا إكراه في الدِّين مقرَّر في الشريعة الإسلامية، وفي نص القرآن الكريم، ولا يجوز المساس به، بدليلٍ واضحٍ أنَّ الإسلام شرع الجزية، والجزية إقرار لغير المسلم على دينه، فلو كان هناك إكراه على تبديل عقيدة غير المسلم وتحويله بالجبر عن عقيدته لما شرعت الجزية. أمَّا سبب عقوبة المرتد وجعلها القتل فيرجع إلى أمرين خطيرتين: الأول: إنَّ المسلم بردته أخل بالتزامه؛ لأن المسلم بإسلامه يكون قد التزم أحكام الإسلام وعقيدته، فإذا ارتدَّ كان ذلك منه إخلالًا خطيرًا في أصل التزامه، ومَنْ يخل بالتزامه عمدًا يعاقب، وقد تبلغ عقوبته الإعدام، ألا يرى أنَّ من تعاقد مع الدولة لتوريد الطعام لإفراد الجيش ثم أخلَّ بالتزامه عمدًا في حالة احتياج الجيش للأرزاق أنَّ جزاءه قد يصل إلى الإعدام؟ الثاني: إنَّ المرتد مع إخلاله بالتزامه يقوم بجريمة أخرى هي الاستهزاء بدين الدولة والاستخفاف بعقيدة سكانها المسلمين، وتجريء لغيره من المنافقين ليظهروا نفاقهم، وتشكيك لضعاف العقيدة في عقيدتهم، وهذه كلها جرائم خطيرة يستحق معها المرتد استئصال روحه، وتخليص الناس من شره، وإنما قلنا: إنَّ المرتدَّ من يرتكب هذه الأمور؛ لأنه لا يعرف ارتداده إلّا بالتصريح، وإلَّا لو أخفى ردَّته لما عرف. ومع

هذا فقد قلنا: إنه يمهل ثلاثة أيام لإعطائه فرصة للرجوع عن ردته، وهذا الإمهال واجب عند كثير من الفقهاء، فهل يمكن بعد هذا أن يقال: عقوبة الرِّدَّة قاسية، أو أنَّ فيها إكراهًا على تبديل العقيدة، أو أنَّ فيها تدخلًا في حرية العقيدة؟ 499- وأمَّا قولهم: إنَّ العقوبة في جريمة القتل، وهي القصاص، اعتبرات حقًّا لأولياء القتيل لا للمجتمع، مع أن القتل يهم المجتمع، ويعتَبَر اعتداءً عليه، فيكون العقاب حقه لا حق أولياء القتيل، فهذا القول هزيل وسطحي، فأولًا: إنَّ للمجتمع حقه في هذه العقوبة، ولهذا إذا عفا أولياء القتيل عن القاتل جاز للقاضي أن يحكم عليه بعقوبة تعزيرية بالسجن أو بالضرب أو بهما، وفي هذا يقول ابن فرحون المالكي: "إذا عفي عن القاتل العمد على الدية فإنَّ على القاتل الدية، ويستحب له الكفَّارة، ويضرب مائة ويحبس سنة"1؛ لأنَّ حق أولياء القتيل في القصاص هو الغالب، أي: أغلب من حق المجتمع فيه، ومن ثَمَّ كان لهم العفو عنه، كما كان لهم طلبه، وإذا طلبوه لم يسع القاضي أن يعفو عنه، بل ولا لرئيس الدولة أن يعفو عن القاتل ما دام أولياء القتيل طلبوا القصاص؛ لأن القصاص من حقهم أو الغالب فيه حقهم، فلا يمكن لأحد أن يتصرَّف فيه بغير رضاهم، أمَّا في القوانين الوضعية فالنظرة تختلف؛ لأنَّ هذه القوانين تجعل عقوبة القاتل من حق المجتمع لا من حق أهل القتيل، وبالتالي فلا يترتب على عفوهم عنه إسقاط العقوبة، كما أن للمجتمع ممثلًا برئيس الدولة أو غيره أن يعفو عن القاتل، أو يبدِّل عقوبة الإعدام بغيرها. والنظرة الفاحصة في جريمة القتل العمد تبيِّن أن ضرر هذه الجريمة يقع أولًا وبصورة مباشرة على المجني عليه وأهله، فهم الذي اكتووا بنار هذه الجريمة ولحقهم الأذى والضرر المباشر بفقدهم عزيزهم، وأن ضررهم هذا والمهم وأذاهم أشد وأكثر بكثير من تضرر المجتمع وأذاه وألمه، فمن الطبيعي والعدل أن يكون حقهم في القصاص من الجاني أغلب من حق المجتمع، ثم إنَّ في تمكينهم من القصاص حسمًا للجريمة وإطفاءً لنار الغضب وطلب الثأر في نفوسهم، وفي الحليولة بينهم وبين ذلك إبقاءً لجذور الجريمة، فقد يندفع أهل القتيل لقتل الجاني بعد حبسه، كما يحدث هذا كثيرًا، ويقال أيضًا:

_ 1 تبصرة الحكام لابن فرحون المالكي ج2 ص259.

إن في القصاص من القاتل وإعطاء حق القصاص لأهل القتيل ردعًا مؤثِّرًا وزجرًا كافيًا لمن تسوّل له نفسه إزهاق روح البريء؛ لأنَّ الإنسان يحبُّ ذاته ويحرص عليها، ويخاف من فواتها، فينزجر عمَّا يؤدي إلى ذلك إذا ما علم أنَّ القصاص من حق أولياء القتيل، وأنه لا يمكن للقاضي ولا رئيس الدولة العفو عنه إذا ما طلب أهل القتيل القصاص منه، ولهذا كله رأينا أن جرائم القتل قليلة يوم كان نظام القصاص الشرعي هو المطبَّق السائد في البلاد الإسلامية، وأن جرائم القتل ازدادت ولا تزال في ازدياد عندما نُحِّيَت عقوبة القصاص الشرعية، فكيف بعد هذا يمكن لمنصفٍ أن يعترض على عقوبة القصاص الشرعية، والنظر السديد يؤيِّدها، والواقع يشهد بصحتها وبكفايتها للزجر والردع، وأثرها في حفظ حياة الناس، وصدق الله العظيم إذ يقول: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} 1. ولا بُدَّ هنا من الإشار إلى أنَّ هذا الحجاج والمناقشة إنما يساقان على سبيل التنزيل وإسكات المعترض بنفس اعتراضه، وإلّا فإنَّ المؤمن بالله وباليوم الآخر وبدين الإسلام لا يجوز له الاعتراض على شرع الله؛ لأن الاعتراض عليه نوع من الارتداد عن دين الإسلام، وأنَّ من شرط الإيمان: الحكم بما شرعه الله وارضى به، قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} 2. 500- وأمَّا اعتراضهم في الدية وأنَّها تحميل لغير الجاني، وأنَّ هذا يناقض مبدأ قصر المسئولية على من قام فيه سببها، فالجواب أنَّ مبدأ قصر المسئولية على من قام فيه سببها، المستفاد من قوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} 3 مبدأ قائم في الشريعة غير منسوخ ولا معطّل، وليس في تشريع الدية مناقضة له أصلًا؛ لأن إيجاب الدية على العاقلة في القتل الخطأ، إنما كان بناء على التعاون والمواساة؛ لأنَّ المخطئ من حقه أن يعان، وأنَّ أَوْلى من يعينه أهله وأقرباؤه من عصبته الذين يرثونه بعد موته، فمن باب الغنم بالغرم وجب عليهم مواساته، والاشتراك معه في الدية، وفي

_ 1 سورة البقرة، الآية: 179. 2 سورة النساء، الآية: 65. 3 سورة فاطر، الآية: 18.

هذا الاشتراك تسهيل على أهل المجني عليه الظفر بالدية؛ لأن مبلغها كبير، وإمكان أدائها من الجاني ضعيف، في حين أنَّ تحميل العاقلة به سيجعل ما يصيب الواحد منهم مبلغًا يسيرًا يسهل عليه أداؤه، فيسهل على أهل القتيل الظفر به كما قلنا، وقد ذهب بعض الفقهاء إلى تعليلٍ آخر في وجوب الدية على العاقلة، خلاصته: إنَّ عصبة القاتل خطأ كان عليهم أن يراقبوه ويوجهوه لئلَّا يقع في الرعونة والطيش فيقتل غيره خطأ، فإذا لم يفعلوا ذلك كان خطأ منهم وتقصيرًا في واجبهم في مراقبة بعضهم بعضًا فيتحمَّلون جزاء تقصيرهم بتحميلهم الدية مع الجاني. الخلاصة: 501- والخلاصة: إنَّ نظام الجزية والعقوبة نظام عادل قام على أسس متينة وإحاطة تامَّة بما يصلح له أمر الناس، وبمراعاة غرائز الناس، مما يؤدي إلى قمع أو تقليل الإجرام فيهم، مع عدالة تامَّة في تقدير العقوبة وجعلها بقدر الجريمة، وفي تطبيق العقوبة على الجميع. وقد رأينا تهافت اعتراضات المعترضين على الحدود والقصاص والديات، أمَّا التعزير فاعتراضهم عليه قليل جدًّا، بل إنَّ نظام التعزير مما انفردت به الشريعة الإسلامية، وهو إحدث ما ينادي في الوقت الحاضر علماء القانون الجنائي. وإذا علمنا أنَّ نطاق العقوبات التعزيرية أوسع بكثير من نطاق الحدود والقصاص، علمنا مدى متانة القانون الجنائي الإسلامي وامتيازه على ما سواه من القوانين الوضعية، ووفائه بحاجات الناس، وقيامه بتوفير الأمن من الاطمئنان لهم، مما يجاريه في ذلك، ولا يقاربه فيه أيّ قانون وضعي، وهذا من بعض دلائل تنزيل شرعة الإسلام من الله -جلّ جلاله.

الفصل الخامس: مقاصد الإسلام

الفصل الخامس: مقاصد الإسلام تحقيق مصالح العباد في العاجل والآجل: 502- إنَّ مقاصد الإسلام التي دلَّ استقراء نصوص الشريعة عليها، هي تحقيق مصالح العباد وردء المفاسد والأضرار عنهم في العاجل والآجل، وبهذا كله تتحقق لهم السعادة الحقة في حياتهم هنا وحياتهم هناك، وبهذا صرَّح المحققون من علماء الإسلام، قال الإمام العز بن عبد السلام: "إن الشريعة كلها مصالح؛ إمَّا درء مفاسد، أو جلب مصالح"1، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن الشريعة الإسلامية جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها"2، وقال تلميذه الإمام ابن قيم الجوزية: "الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها ورحمة، ومصالح كلها وحكمة كلها"3، وقال الشاطبي في موافقاته: "إنها -أي: الشريعة- وضعت لمصالح العباد"4. الواقع أنَّ ما ذكره هؤلاء الأئمة الأعلام حقّ ووصف ثابت للإسلام، تدلّ عليه نصوصه كما قلنا، ويكفي هنا أن نذكر نصًّا في تعليل رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم، يتضمَّن ما قالوه، قال -جل جلاله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} ، وإنما كانت رسالته -عليه الصلاة والسلام- رحمة للعالمين؛ لأنها تتضمن تحقيق المصالح للعباد في دنياهم وآخرتهم، وتدرأ عنهم المفاسد والأضرار.

_ 1 القواعد للعز بن عبد السللام ج1 ص9. 2 منهاج السنة النبوية لابن تيمية ج1 ص147، ح2 ص240، ج3 ص118. 3 إعلام الموقعين ج3 ص1. 4 الموافقات للشاطبي ج2 ص6.

أنواع مصالح العباد: 503- ومصالح العباد التي يعنَى بها الإسلام إيجادًا وحفظًا هي ثلاثة: المصالح الضرورية والحاجية والتحسينية، وقد شرع الإسلام من الأحكام ما يحقق هذه المصالح ويحفظها، فيتحقق للناس سعادتهم في الدنيا والآخرة، وقد فصَّلنا القول في هذه المصالح فلا نعيده. معيار المصلحة والمفسدة: 504- معيار المصلحة والمفسدة هو الإسلام، فما شهد له الإسلام بالصلاح فهو المصلحة، وما شهد له بالفساد فهو المفسدة، والخروج عن هذا المعيار معناه اتباع الهوى، والهوى باطل لا يصلح لتمييز الصلاح من الفساد، قال تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} 2، فليس هناك إلّا الحق والهوى، والحق هو ما أنزله الله، وفيه بيان للمصلحة والمفسدة، وما عداه الهوى وهو باطل، وفيه فساد للناس، فالمصلحة إذن في اتباع الحق المنزَّل من عند الله وهجر ما سواه. عجز الإنسان عن إدراك المصلحة والمفسدة: 505- والإنسان عاجز بطبيعته عن إدراك المصالح الحقيقية وطرق الوصول إليها في الدنيا والآخرة، وإذا أدرك بعضها في الدنيا فإنه عاجز عن معرفة مصالحه في الآخرة وطريق الوصول إليها، وإنما يستطيع ذلك إذا سار خلف الشريعة واستنار بنورها، ووقف عند حدودها، ووزن الأمور بميزانها. مصلحة الإنسان الحقيقية في اتباع ما أنزل الله: 506- ومصلحة الإنسان الحقيقية في اتباعه ما أنزل الله، وإقامة الدنيا وفق النظام الإسلامي؛ لأنَّ في ذلك تحقيقًا مؤكدًا لمصالحه الحقيقة وسعادته في الدنيا. ومع هذه السعادة الدنيوية سعادة عظمى له في الآخرة بالظفر برضوان الله، والدخول

_ 1 راجع الفقرة "75-84" من هذا الكتاب. 2 سورة ص، الآية: 26.

إلى دار النعيم، وهذا من مزايا الإسلام العظيم، فإنَّ تطبيق أحكامه واتباع تعاليمه ومناهجه في الحياة لا يفوت على الإنسان الحياة الطيبة في الدنيا -كما يظنّ بعض الجهال، بل يحققها له على وجهٍ سليمٍ خالٍ من العثار والشطط، وإنَّ هذه الحياة القائمة على معاني الإسلام تسهّل له سلوك سبيل الآخرة بيسر وسلامة، حتى توصله إلى الله تعالى راضيًا، بخلاف المعاني غير الإسلامية، فإنها تكدر حياة الإنسان وتشقيه في الدنيا وتقطع صلته بالله، ولا توصله في الآخرة إلّا إلى النار. مصالح الدنيا معتبرة بمصالح الآخرة: 507- يقول الفقيه الشاطبي: "المصالح المجتلبة شرعًا، والمفاسد المستدفعة إنما تعتبر من حيث تمام الحياة الدنيا للحياة الأخرى، لا من حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية، أو درء مفاسدها العادية1. ومعنى هذا الكلام أنَّ تقدير الإسلام لمصالح العباد وتشريعه الأحكام والمناهج لتحصليها، إنما يقصد من ذلك كله تهيئتهم للظفر بسعادة الآخرة، فمصالح الدنيا في الحقيقية ليست مطلوبة لذاتها، وإنما هي وسيلة لمصالح الآخرة، فأيُّ شيء يعارض ظفره بسعادة الآخرة يجب أن يترك أو يؤخَّر، وأيّ شيء يؤدي إلى سعادته في الآخرة يجب أن يؤخذ ويقدَّم، فلا يجوز التفريط بالآخرة من أجل الدنيا ومنافعها الزائلة، قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى، وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى، وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} 3، وفي هذا المعنى قال الإمام الشاطبي في موافقاته: "والمصالح والمفاسد الأخروية مقدَّمة في الاعتبار على المصالح والمقاصد الدنيوية باتفاق؛ إذ لا يصح اعتبار مصلحة دنيوية تخل بمصالح الآخرة، فمعلوم أنَّ ما يخلّ بمصالح الآخرة غير موافِق لمقصود الشارع فكان باطلًا"4، فالممنوع إذن تقديم الدنيا على الأخرة، وليس الممنوع تحصيل الدنيا واستعمالها للآخرة، قال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} ، فالدنيا مرزعة الآخرة، ومتاعها وسيلة للوصول إليها،

_ 1 الموافقات للشاطبي ج2 ص384. 2 الموافقات ج2 ص38. 3 سورة النازعات الآية: 37. 4 سورة القصص، الآية: 77.

فلا يجوز تخريب المزرعة، ولا الخروج منها على وجه الفرار؛ لأن الإنسان جاء إليها ليعمل الخير ويتزوَّد بزاد التقوى، ويفني عمره في ذلك، ولكن عليه أن لا ينسى هذه المهمة، فيجعل الدنيا مقصوده وغايته، وقد أرادها الله وسيلةً للآخرة وخادمةً لها لا مزاحمة لها، فإذا تعارضت مصلحته الدنيوية مع مصلحته الأخروية قدَّم الثانية على الأولى غير آسفٍ عليها؛ لأنه غير مغبون ولا خاصر في هذا التقديم؛ لأنَّ المصلحة الكبرى تقدم على الصغرى في نظر الإسلام وفي نظر العقلاء، ومصلحة الآخرة أكبر قطعًا من مصلحة الدنيا؛ لأنَّ تقييم المصلحة إنما يكون بقدرٍ من لذة وراحة ومنفعة من حيث الكم والكيف، وبقدر دوامها للإنسان، ولا شكَّ أن مصلحة الآخرة أعظم من مصلحة الدنيا من هاتين الناحيتين، ذلك أنَّ ما في الدنيا من لذائذ ومنافع وراحة لا يقاس بما في الآخرة كمًّا ولا كيفًا، فإنَّ لذائذ الدنيا مشوبة بالمنغِّصات وتافهة من حيث الكيف والكم، أما الآخرة فلذائذها خالصة من المنغصات والمكدرات، وفريدة من حيث نوعها وكيفيتها، وفيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وفيها رضوان الله ورؤية وجهه الكريم، والقرب منه في جنات النعيم، وكل هذه الأمور العظام لا يساوي اليسير منها كل نعيم الدنيا. وأمَّا من حيث الدوام فإنَّ سعادة الآخرة ولذائذها دائمة غير منقطعة، بينما نعيم الدنيا ولذائذها منقطعة قطعًا، فهي لا تتجاوز عمر الإنسان، إذا فرضنا أنه يتنعَّم في عمره كله، وأية نسبة بين سعادة مقدَّرة بعمر الإنسان المتناهي، وسعادة الآخرة الدائمة لمدة غير متناهية؟ فالمسلم العاقل لا يمكن أن يؤثر الدنيا على الآخرة أبدًا؛ لأنَّ الشرع يأمر بتقديم الآخرة، والحساب يقتضي هذا التقديم، ومصلحة الإنسان تدعو إلى هذا التقديم، وهذا هو الحق، وماذ بعد الحق إلّا الضلال والجهل والخسران المبين.

الباب الثاني: الداعي

الباب الثاني: الداعي مدخل ... الباب الثاني: الدَّاعِي تمهيد: 508- الدَّاعِي هو المكلَّف شرعًا بالدعوة إلى الله، فلا بُدَّ من التعريف به وبيان أدلة تكليفه، والداعي وهو يقوم بهذ التكليف الشرعي يحتاج إلى عدَّة تعينه على أداء ما كُلِّفَ به، وتسهيل عليه هذه المهمة العظيمة، كما يحتاج إلى نوع معين من الأخلاق الإسلامية أكثر مما يحتاجه غيره، وعلى هذا سنقسم هذا الباب إلى ثلاثة فصول: الفصل الأول: التعريف بالداعي. الفصل الثاني: عدة الداعي. الفصل الثالث: أخلاق الداعي.

الفصل الأول: التعريف بالداعي

الفصل الأول: التعريف بالداعي الداعي الأول: 508- الداعي الأول إلى الله تعالى بعد أن أنعم الله علينا بالإسلام، هو رسولنا الكريم محمد -صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} 1، وقد كرَّر القرآن الكريم الخطاب إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- يأمره بالدعوة إلى الله والاستمرار عليها وعدم التحوّل عنها، فمن هذه الآيات الكريمة قوله تعالى: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ} 2، وقوله تعالى: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 3، وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} 4، وقد ظلَّ -صلى الله عليه وسلم- يدعو إلى ربه -تبارك وتعالى- حتى أتاه اليقين من ربه، وصار إلى جواره الكريم راضيًا مرضيًّا، فجزاه الله على المسلمين خير الجزاء. الدعوة إلى الله وظيفة رسل الله: 510- والواقع أنَّ الدعوة إلى الله هي وظيفة رسل الله جميعًا، ومن أجلها بعثهم الله تعالى إلى الناس، فكلهم بلا استثناء دعوا أقوامهم ومن أرسلوا إليهم إلى الإيمان بالله، وإفراده بالعبادة على النحو الذي شرعه لهم، قال تعالى عن نوح -عليه السلام: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ

_ 1 سورة الأحزاب، الآية: 45-46. 2 سورة القصصن الآية: 87. 3 سورة الحج، الآية: 67. 4 سورة الرعد، الآية: 36؟.

غَيْرُهُ} 1، وقال تعالى عن هود -عليه السلام: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 2، وعن صالح قال تعالى: {إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 3، وعن شعيب -عليه السلام- قال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 4. وهكذا جميع رسل الله دعوا إلى الله، إلى عبادته وحده، التبرؤ من عبادة ما سواه، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 5، فرسل الله هم الدعاة إلى الله، وقد اختارهم الله لحمل دعوته وتبليغها إلى الناس. الأمَّة شريكة لرسولها في وظيفة الدعوة إلى الله: 511- ذكرنا في الفقرة السابقة أنَّ الداعي الأوَّل إلى الله تعالى هو رسولنا -صلى الله عليه وسلم، وذكرنا الآيات الكريمة التي تأمره -عليه الصلاة والسلام- بالدعوة إلى الله، وهذه الآيات يدخل فيها المسلمون جميعًا؛ لأن الأصل في خطاب الله لرسوله -صلى الله عليه وسلم- دخول أمته فيه، إلّا ما استثني، وليس من هذا المستثنى أمر الله -تبارك وتعالى- بالدعوة إليه، ومعنى ذلك أنَّ الله تعالى أكرم هذه الأمة الإسلامية وشرَّفها أن أشركها مع رسوله الكريم في وظيفة الدعوة إليه، وهذا التشريف والتكريم لا يستفاد فقط من الخطابات الإلهية لرسوله بالدعوة إليه كما ذكرنا، وإنما هو صريح الآيات الكثيرة في القرآن، قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} 6، فهذه الآية الكريمة أفادت معنيين: الأول: خيرية هذه الأمة، والثاني: أنها جازت هذه الخيرية لقيامها بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي وظيفة رسول الله ورسل الله جميعًا، وأوّل ما يدخل في الأمر بالمعروف والنهي عن

_ 1 سورة الأعراف، الآية: 59. 2 سورة هود، الآية: 50. 3 سورة الأعراف، الآية: 73. 4 سورة الأعراف، الأية: 85. 5 سورة النحل، الآية: 36. 6 سورة آل عمران، الآية: 110.

المنكر الدعوة إلى الله وحده، والبراءة من الشرك بأنواعه، بل إنَّ القرن الكريم جعل من صفات المؤمنين الدعوة إلى الله، بخلاف المنافقين الذين يصدون عن سبيل الله، ويدعون إلى غيره، قال تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} 1، ثم قال تعالى بعد ذلك: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} 2، قال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة: "فجعل الله تعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرقًا بين المؤمنين والمنافقين، فدلَّ على أن أخصَّ أوصاف المؤمنين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورأسها الدعاء إلى الإسلام"3. وأضيف إلى ذلك أنَّ الله -تبارك وتعالى- بهذه الآية وصف الأمة الإسلامية بما وصف به رسول الله -صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} 4. من هو المكَلَّف بالدعوة إلى الله: 512- ومما ذكرنا يتضح بجلاءٍ أنَّ المكلَّف بالدعوة إلى الله هو كل مسلم ومسلمة؛ لأن الأمة الإسلامية تتكون منهم، فكل بالغ عاقل من الأمة الإسلامية -وهي المكلفة بالدعوة إلى الله- مكلف بهذا الواجب، ذكرًا كان أو أنثى، فلا يختص العلماء أو كما يسميهم البعض رجال الدين، بأصل هذا الواجب؛ لأنه واجب على الجميع، وإنما يختصون بتبليغ تفاصيله وأحكامه ومعانيه نظرًا لسعة علمهم به ومعرفتهم بجزئياته. ويزيد الأمر وضوحًا -وهو أنَّ المكلَّف بالدعوة إلى الله تعالى هو كل مسلم ومسلمة- قول ربنا -جلَّ جلاله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 5، فأتباع الرسول -صلى الله عليه وسلم، المؤمنون به، يدعون إلى الله على بصيرة، أي: علم ويقين، كما كان رسولهم -صلى الله عليه وسلم- يدعو إلى الله على بصيرة ويقين، ومعنى ذلك أنَّ من اللوازم الضرورية لإيمان المسلم أن يدعو إلى الله،

_ 1 سورة التوبة، الآية: 67. 2 سورة التوبة، الآية: 71. 3 تفسير القرطبي ج4 ص47. 4 سورة الأعراف، الآية: 157. 5 سورة يوسف، الآية: 108.

فإذا تخلَّف عن الدعوة دلَّ تخلفه هذا على وجود نقص أو خلل في إيمانه، ويجب تداركه بالقيام بهذا الواجب، واجب الدعوة إلى الله. قال الإمام ابن كثير في تفسير هذه الآية: "يقول الله تعالى إلى رسوله -صلى الله عليه وسلم- أن يخبر الناس أنَّ هذه سبيله، أي: طريقته ومسلكه وسنته، وهي الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، يدعو إلى الله بها على بصيرة من ذلك ويقينٍ وبرهان، هو وكل من اتَّبعه يدعو إلى ما دعا إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على بصيرة ويقين وبرهان عقلي وشرعي"1، وفي الحديث الشريف الذي رواه الإمام البخاري عن ابن عباسٍ أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "فليبلغ العلم الشاهد الغائب "2، ويدخل في معنى الشاهد كل مسلم علم من أمر الإسلام شيئًا. 513- والدعوة إلى الله وهي واجبٌ على كل مسلم ومسلمة كما قلنا، قد تؤدَّى بصورة فردية، وقد تؤدَّى بصروة جماعية، وإذا أردنا الدقة بالتعبير قلنا: إنَّ هذا الواجب يؤدَّى على نحوين: الأول: نحو فردي، بأن يقوم به المسلم بصفته فردًا مسلمًا، والثاني: يؤدي هذا الواجب أو جانبًا منه بصفته فردًا في جماعة تدعوا إلى الله تعالى. يدل على هذا كله قول الله -تبارك وتعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 2، قال الامام ابن كثير في تفسير هذه الآية: "والمقصود من هذه الآية أن تكون فرقة من هذه الأمة متصدية لهذا الشأن، وإن كان ذلك واجبًا على كل فرد من الأمَّة بحسبه، كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان". والواقع أنَّ تجمُّع الدعاة للقيام بواجب الدعوة بصورة جماعية، يكون ضروريًّا كلما كانت مهمة الدعوة جسيمة، كما لو أريد نشر الدعوة إلى الله في المجتمعات الوثنية الجاهلية التي عشعش فيها الشيطان وبيِّضَ، وصدَّ أهلها عن سبيل الله، وأركسهم في حمأة الشرك كما في الأقطار الوثنية في إفريقيا ونحوها، فإنَّ مثل هذه الأقطار تحتاج إلى جهود كبيرة جدًّا ومنظمة لنشر الدعوة إلى الله، وتعليمهم أمور الإسلام، مما لا يقوى عليه جهد فرد ولا جهود مبعثرة لبعض الأفراد، ويؤيِّد هذه التبشير بالإسلام على شكل

_ 1 تفسير ابن كثير ج2/ 195، 196. 2 صحيح البخاري ج1 ص62، 63. 3 سورة آل عمران الآية: 104.

جميعي، ما جاء في السنة النبوية، أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يأمر من يسلم بالتحوّل إلى دار الهجرة ليضمَّ جهده إلى جهود المسلمين، وتوجيهها التوجيه السليم من قِبَلِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم. كما أننا نجد في قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} 1 دليلًا آخر على مشروعية التجمع والدعوة الجماعية، بل ووجوبها إذا كان البِرُّ لا يمكن تحصيله بدون ذلك، وقد أشار الإمام أبو حنيفة على ما رواه الجصاص عنه، إلى ضرورة التجمع على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتوجيه الجهود الجماعية لتحقيق هذا المقصود. شبهات واعتراضات: 514- قد يتوهم البعض أنَّ واجب الدعوة إلى الله لا يلزمه؛ لأنه ليس من رجال الدين، وإنَّ هذا الوجب واجب كفائي يجب على العلماء فقط لا على الجميع، بدليل قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 2. والجواب على ذلك: إنَّ تفسير هذه الآية الكريمة، كما نقلناه عن ابن كثير، الفقرة السابقة: "أن تكون فرقة من هذه الأمة متصدية لهذا الشأن وإن كان ذلك واجبًا على كل فرد من الأمة بحسبه". وجاء في تفسير الرازي بصدد هذه الآية في قوله تعالى: {مِنْكُم} قولان: أحدهما: إنَّ "من" ههنا ليست للتبعيض؛ لدليلين؛ الأول: إنَّ الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على كل الأمَّة في قوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} ، الثاني: هو أنه لا مكلَّف إلَّا ويجب عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إمَّا بيده أو بلسانه أو بقلبه، ويجب على كل أحد دفع الضرر عن النفس، إذا ثبت هذا فنقول: معنى هذه الآية: كونوا أمَّة دعاة إلى الخير، آمرين بالمعروف، ناهين عن المنكر، وأمَّا كلمة "من" فهي هنا للتبيين لا للتبعيض كقوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ

_ 1 سورة المائدة الآية: 2. 2 سورة آل عمران، الآية: 110.

الْأَوْثَانِ} 1، ثم ذكر الرازي القول الثاني، وهو أنَّ "من" للتبعيض؛ لأنَّ "في القوم من لا يقدر على الدعوة ولا على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، ثم قال عن أصحاب هذا القول: إنَّ هذا التكليف مختص بالعلماء؛ لأنَّ الدعوة إلى الخير مشروطة بالعلم بالخير وبالمعروف وبالمنكر، فثبت أنَّ هذا التكليف متوجِّه على العلماء لا على الجهَّال، والعلماء بعض الأمة"2، وبنفس هذا المعنى وذكر القولين في هذه الآية، جاء تفسير القرطبي وتفسير الجصاص3: والواقع أنَّ القول الذي ذكره الرازي أصح لما استدلَّ به أصحابه، وهو ما ذكره ابن كثير بعبارته الدقيقة التي ذكرناها؛ إذ جعل الوجوب على كل فرد، مع لزوم وجود فرقة متصدية لشأن الدعوة إلى الخير. والحقيقة أنَّ هناك شيئًَا من الالتباس في فهم هذه المسألة بسبب كلمة "العلماء" التي فسّر بها أصحاب القول الثاني كلمة "ولتكن منكم أمة" الواردة في الآية، باعتبار أنَّ الدعوة إلى الخير مشروطة بالعلم، والسبب الثاني لهذا الالتباس متأتٍ من فهم الفرض الكفائي، فلا بُدَّ من توضيح هذين الأمرين، فنقول: لا شكَّ أنَّ الدعوة إلى الخير، وأعلاها الدعوة إلى الله، مشروط لها العلم، ولكن العلم ليس شيئًا واحدًا لا يتجزَّأ ولا يتبعَّض، وإنما هو بطبيعته يتجزَّأ ويتبعَّض، فمن علم مسألة وجهل أخرى فهو عالم بالأولى جاهل بالثانية، ومعنى ذلك أنَّه يُعَدّ من جملة العلماء بالمسألة الأولى، وبالتالي يتوفّر فيه شرط وجوب الدعوة إلى ما علم دون ما جهل، ولا خلاف بين الفقهاء أنَّ من جهل شيئًا أو جهل حكمه أنَّه لا يدعو إليه؛ لأنَّ العلم بصِحَّة ما يدعو إليه الداعي شرط لصحة الدعوة، وعلى هذا فكلّ مسلم يدعو إلى الله بالقدر الذي يعلمه كما سنبينه فيما بعد، ويكون هذا المعنى هو المقصود من قولهم: إنَّ الدعوة تجب على العلماء لا غيرهم، أي: على من يعلم المسألة وحكمها التي يدعو إليها، سواء كان من عامَّة المسلمين أو ممن نال حظًّا كبيرًا من العلم، وبهذا يظهر فساد قول من قال: إن المقصود بالعلماء هم الذين نالوا حظًّا كبيرًا من العلم دون سواهم، وقد يسمونهم برجال الدين؛ لأن هذه التسمية تصدق على كل مسلم، فهو من

_ 1 سورة الحج، الآية: 30. 2 تفسير الرازي ج7 ص177، 178. 3 أحكام القرآن للجصاص ج2 ص29، وتفسير القرطبي ج4 ص165.

رجال الإسلام، وليست مقصورة على فئة منهم، أمَّا الأمر الثاني الذي يسببه حصول هذا اللبس، وهو معنى الفرض الكفائي، فالمقصود به أنَّه إذا قام به البعض سقط التكليف عن البعض الآخر، وإن كان واجبًا على الكل، قال الرازي: "ثم قالوا -أي أصحاب القول الأول القائلين بالوجوب على الكل: وإن كلمة "من" للتبيين وليست للتبعيض: إنَّ ذلك وإن كان واجبًا على الكل إلّا أنه متى قام قوم سقط التكليف عن الباقين، ونظيره قوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} ، وقوله: {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} ، فالأمر عام، ثم إذا قامت به طائفة وقعت الكفاية وزال التكليف عن الباقين1، وقال الجصاص وهو يتكلم عن تفسير الآية: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ ... } : حوت هذه الآية معنيين، أحدهما: وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والآخر: أنَّه فرض على الكفاية ليس بفرض على كل واحد في نفسه إذا قام به غيره"2، فقوله: ليس بفرض على كل واحد في نفسه إذا قام به غيره، يبيِّن المقصود من الفرض الكفائي وهو سقوطه إذا قام به الغير، خلافًا للفرض العيني الذي لا يسقط إلّا بالقيام به من كل فرد، وعلى هذا فالدعوة إلى الخير وأعلاها الدعوة إلى الله، واجبة على كل مسلم بقدر استطاعته؛ لأنَّ هذه الدعوة من صفات المؤمنين كما بينَّا؛ ولأن الحديث الشريف أمر كل مسلم ومسلمة بإزالة المنكر حسب استطاعته، فإذا حصل المقصود بفرد أو أفراد لم يطالب الآخرون بإعادة المنكر لإزالته، ولا يؤاخذون لأنَّهم لم يزيلوه، والشأن في المسلم المبادرة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دون انتظار غيره، فقد لا يقوم به الغير فيقع في الإثم. والمسلم يدعو إلى الله باعتباره مسلمًا مؤمنًا بالله ورسوله، وقد ذكرنا قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 3، فلا بُدَّ للمسلم أن يدعوا إلى الله، ولكن لو قدِّر أنه لم يدع شخصًا معينًا إلى الله، أو لم يدع في وقت وقام بالدعوة مسلم آخر، فإنَّ الداعي يؤجر دون الأول، ولكن لو ترك المسلم الدعوة إلى الله تركًا دائمًا مستمرًّا متعمدًا، فإنَّه لا ينضوي تحت مفهوم قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} ؛ لأن اتباع

_ 1 الرازي ج7 ص177. 2 الجصاص ج2 ص29. 3 سورة يوسف، الآية: 108.

الرسول -صلى الله عليه وسلم- هم الذين يدعون إلى الله. هذا ومن معاني الفرض الكفائي أنَّه متوجه إلى المسلمين جميعًا بأن يعملوا لتحقيقي هذ الفرض، وعلى القادر فعلًا أن يقوم بهذا الفرض مباشرة، فيكون معنى الآية: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} أن يقوم المسلمون بإعداد هذه "الأمة"، أي: الجماعة المتصدية للدعوة إلى الله، وأن يعاونوهم بكل الوسائل ليتحقق المقصود من قيامهم وهو إقامة دين الله ونشر دعوته، فإن لم يفعل المسلمون ذلك أثم الجميع، المتأهِّل للدعوة وغيره1. ويقال أيضًا: إنَّ الدعوة إلى الله حتى لو قلنا: إنها تجب على البعض دون البعض الآخر باعتبار أنَّها من الفروض الكفائية، فإنَّ الشرط للخروج من عهدة الفرض الكفائي حصول الكفاية بمن يقوم به، ولما كانت الكفاية غير حاصلة، فيجب أن يقوم بهذا الواجب كل مسلم حسب قدرته، لا سيما في زماننا؛ حيث لا يزال الشرك والوثنية والجاهلية تغشى مجتمعات بشرية كثيرة في أفريقيا وأمريكا، وغيرها من أقطار الأرض المختلفة، ونشر الدعوة إلى الله في هذه المجتمعات الجاهلية يحتاج إلى جهود جبَّارة يشترك فيها جميع المسلمين كل حسب استطاعته، بماله أو تعليمه، أو بفكره، أو بسلطانه. 515- وقد يتشبث البعض توهمًا منه، بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} 2؛ ليتخلَّص من واجب الدعوة إلى الله، ويبرِّر قعوده وتقاعسه، متوهمًا أنَّ هذه الآية الكريمة تعفيه من تكليف الدعوة إلى الله ما دام هو في نفسه صالحًا مهتديًا. إن هذا الوهم تسرَّب إلى البعض في زمن الصديق أبي بكر -رضي الله عنه، فخطب في الناس وقال: "يا أيها الناس، إنكم تقرءون هذه الآية الكريمة وتضعونها في غير موضعها: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ

_ 1 قال الشيخ عبد الله دراز بصدد تفسير هذه الآية: ومعنى توجه الطلب على الجميع أن ينهضوهم لذلك ويعدوهم له، ويعاونوهم بكل الوسائل؛ ليتحقق هذا المهم من المصلحة، فإن لم يحصل هذا المهم من المصلحة أثِمَ جميع المكلفين المتأهِّل وغيره، والموافقات للشاطبي ج1 ص176. 2 سورة المائدة، الآية: 105.

إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} ، وأني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه يوشك أن يعمَّهم الله بعقاب" 1. هذا، ويلاحظ أن في الآية نفسِها ما يؤكِّد وجوب الدعوة إلى الله تعالى على كل مسلم، وينفي الوهم الذي يتشبث به القاعدون، ذلك أنَّ الله -سبحانه وتعالى- قال في الآية: {إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} ، والاهتداء كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إنما يتمُّ بأداء الواجب، فإذا قام المسلم بما يجب عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قام بغيره من الواجبات لم يضره ضلال الضلّال"2. 516- وقد يتشبث البعض بشبهة أخرى، وهي: إنَّ الباطل انتشر في الأرض، ولم تعد الدعوة إلى الله تنفع شيئًا، وعلى المسلم أن يهتمَّ بنفسه ويدع أمر الخلق، والجواب على هذه الشبهة كما سنوضحه فيما بعد: إنَّ الواجب على المسلم هو القيام بواجب الدعوة إلى الله، سواء حصل المقصود واستجاب الناس أو لم يستجيبوا، وقد حصلت هذه الشبهة لأقوام سالفين قصَّ الله لنا من أخبارهم، وكيف أنَّ الدعاة إلى الله ردوا عليهم شبهتهم، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ، فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} 3، والآية الكريمة تشير إلى أهل قرية صاروا ثلاث فرق: فرقة ارتكبت المعاصي، وفرقة أنكرت عليهم ووعظتهم، وفرقة سكتت عنهم فلم تفعل ولم تنه، ولكنها قالت للمنكِرة: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} أي: لم تنهون هؤلاء وقد علمتم أنَّهم قد هلكوا واستحقوا العقوبة من الله، فلا فائدة في نهيكم إياهم، فقالت الفرقة المنكرة، بالجواب الصحيح: {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} أي: فيما أخذ علينا من واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فنحن نعتذر إلى ربنا، لا نملك إلّا أن ندعو هؤلاء العصاة للإقلاع عن معصيتهم والإنابة إلى

_ 1 نيل المرام من تفسير آيات الأحكام للسيد محمد صديق حسن خان ص251، الجصَّاص ج2 ص31. 2 الحسبة لابن تيمية، في مجموع رسائله، ص275. 3 الأعراف، آية: 164، 165.

ربهم {وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُون} أي: ولعلَّ هذا الإنكار عليهم، ودعوتنا إياهم للإنابة إلى ربهم والرجوع إليه، يدعوهم إلى الاستجابة1، وفي هذا أشار إلى أنَّه ما دام هناك احتمال قبول الدعوة فلا بُدَّ من استمرار الوعظ والإرشاد والدعوة إلى الله تعالى؛ ليحيا من حيّ عن بينة، ويهلك من هلك عن بينة. 517- وقد يتشبث البعض بشبهةٍ أخرى تقوم على فهمٍ سقيمٍ للآية الكريمة: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} 2، فيتعلّل بأنَّ الدعوة إلى الله تسبِّب له تعبًا ونصبًا لا يستطيع تحمله، والواقع أنَّ هذه حجة ضعاف الإيمان رقيقي الدِّين، فإنَّ التعب المزعوم ينالهم في سعيهم للظفر بمآرب الدنيا التافهة، كالحصول على ربحٍ ماديٍّ زهيد مثلًا، فأولى بهم أن يتحمَّلوا شيئًا من التَّعَب في الدعوة إلى الله، وفي هذا التعب أجر عظيم لهم، والحقيقة أنَّ التَّعَب المزعوم يسير وبسيط، فهل هناك تعب شديد في تعليم الجاهل أمور الإسلام، أو في عرض الإسلام على الكافر الذي لم يسمع بالإسلام؟ وهل يتعب إذا حرَّك لسانه بالكلام الطيب، أو يتعب فكره في أمور الإسلام؟ وهل يتعب تعبًا لا يطاق إذا تيسَّر له السفر إلى المجتمعات هناك؟ إنَّ المسلم أَوْلَى منهم بالتبشير ونشر الدعوة إلى الله بين أولئك الوثنيين، وإنَّ عليه إذا وسوس له الشيطان بالتَّعَب والإرهاق أن يتذكَّر قوله تعالى: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} 3، وعليه أن يتذكَّر أنَّ أصحاب رسول الله تحمَّلوا كثيرًا من الدعوة إلى الله، والجهاد في سبيله، ونذكر على سبيل المثال شيئًا من أخبارهم وجهادهم في سبيل الله، فقد جاء في كتب السيرة، أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد أن رجع إلى المدينة ومعه المسلمون بعد معركة أحد، جاءه الخبر أنَّ أبا سفيان ومن معه من المشركين عزموا على الرجوع إلى المدينة؛ لاستئصال من بقي من المسلمين، فلما صلَّى الرسول -صلى الله عليه وسلم- الصبح أمر بلالًا فنادى: إنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم

_ 1 تفسير ابن كثير ج2 ص257. 2 سورة البقرة، الآية: 286. 3 سورة النساء الآية: 106.

يأمركم لطلب عدوكم، ولا يخرج معنا إلّا من شهد القتال أمس، فخرج سعد بن معاذ إلى داره يأمر قومه بالمسير وكلهم جريج، فقال: إنَّ رسول الله يأمركم أن تطلبوا عدوكم، فقال أسيد بن حضير -وبه سبع جراحاتٍ يريد أن يداويها: سمعًا وطاعة لله ولرسوله، وأخذ سلاحه ولم يعرج على دواء، ولحق برسول الله -صلى الله عليه وسلم، وجاء سعد بن عبادة قومه، وجاء أبو قتادة إلى طائفة فبادروا جميعًا، وخرج من بني سلمة أربعون جريحًا -بالطفيل بن النعمان ثلاثة عشر جرحًا، وبالحارث بن الصِّمَّة عشر جراحات- حتى وافوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال لمَّا رآهم: "اللهم ارحم بني سلمة" 1، وهكذا كان صحابة رسول الله، وهذا نموذج من جهادهم في سبيل إعلاء كلمة الله، فهل يستكثر المسلم إذا أتعب نفسه قليلًا في الدعوة إلى الله، ونشر محاسن الإسلام، وتعليم الناس مكارم الأخلاق؟ ألَا يستحي من نفسه إذا استكثر الجهد البسيط الذي يبذله في الدعوة إلى الله، وصحابة رسول الله يخرجون جرحى للقتال وهم يقولون: سمعًا وطاعة لله ولرسوله. تعليل تكليف المسلم بالدعوة إلى الله: 518- ذكرنا في الفقرات السابقة الأدلَّة الشرعية على وجوب الدعوة إلى الله على كل مسلم ومسلمة، ومعنى ذلك أنَّ الإسلام لا يكتفي من المسلم بأن يكون في نفسه صالحًا مهتديًا، وإنما يريد منه أن يكون مصلحًا وهاديًا لغيره، فما تعليل ذلك؟ تعليل ذلك من وجوه. الوجه الأول: إنَّ الله تعالى أرسل رسوله محمدًا -صلى الله عليه وسلم- إلى الناس جميعًا {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} 2، ورسالته -عليه الصلاة والسلام- باقية إلى يوم الدين، ومقصدها هداية الخلق أجميعن؛ ليفوزوا بالسعادة في الدارين، ولهذا كانت رسالته رحمة للعالمين {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} 3، وقد بلَّغَ -عليه الصلاة والسلام- رسالة ربه ومضى إلى جواره الكريم راضيًا مرضيًّا، فكان لا بُدَّ للمسلمين من

_ 1 أمتاع الأسماع للمقريزي ص167. 2 سورة الأعراف، الآية: 158. 3 سورة الأنبياء، الآية: 107.

النهوض من بعده، وتبليغ دعوة الإسلام إلى أهل الأرض ليهدوهم بها، ويخرجوهم من الظلمات إلى النور، قال تعالى: {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} 1. فهم شهداء الله على خلقه، ومبلغو رسالته إليهم بعد نبيهم، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} 2، إنَّ قيام المسلم بالدعوة إلى الله يؤدي أعظم نفع وعونٍ لعباد الله؛ لأنه يمد إليهم يدًا كريمة تنقذهم مما هم فيه من رجس الشرك والوثنية، ويضعهم على صراط الله المستقيم، فيؤدون حق ربهم عليهم، ويحققون الغاية التي من أجلها خلقوا {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُون} 3. الوجه الثاني: إن بقاء الشرك والكفر في الأرض يوثِّر عاجلًا أو آجلًا على معاني الإسلام القائمة في أيِّ جانب من جوانب الأرض، ولهذا يمنع الإسلام المسلم من البقاء في ديار الكفر، ويأمره بالتحوّل إلى ديار الإسلام؛ لئلَّا يفتتن في دينه أو يمرض قلبه أو يسلب إيمانه، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} 4، وقال أهل التفسير في هذه الآية: إنها نزلت في كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة وليس متمكنًا من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه مرتكب حرامًا بالإجماع5. وقال الإمام مالك: "تهجر الأرض التي يصنع فيها المنكر جهرًا ولا يستتر فيها"7. وعلى هذا، فقيام المسلم بدعوة أهل الشرك والكفر إلى الله وإلى دينه يفيده ويقيه شرور الكفر.

_ 1 سورة إبرهيم، الآية 1. 2 سورة البقرة، الآية: 143. 3 سورة الذاريات، الآية 56. 4 سورة النساء، الآية: 97. 5 تفسير ابن كثير ج1 ص542. 6 تفسير القرطبي ج2 ص391.

الوجه الثالث: دفع الهلاك والعذاب عن المسلمين، قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} 1، قال ابن عباس -رضي الله عنهما: أمر الله المؤمنين ألَّا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم العذاب، أي: يصيب الصالح والطالح، وفي مسلم عن زينب بنت جحش أنها سألت النبي -صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: "نعم، إذا كثر الخبث" 2. الدعوة إلى الله بقدر حال الداعي وقدرته: 519- وإذ تبيّن أن الدعوة إلى الله واجب على كل مسلم، فإنَّ هذا الواجب يتحدَّد بقدر حال الداعي وقدرته؛ لأنَّ القدرة هي مناط الوجوب وقدره، فمن لا يقدر لا يجب عليه، ومن يقدر فالوجوب عليه بقدر قدرته، ويدخل في مفهوم القدرة العلم والسلطان، فيجب على العالم ما لا يجب على الجاهل، ويجب على ذي السلطان ما لا يجب على غيره من آحاد المسلمين، ولهذا فإنَّ الله -سبحانه وتعالى- خصَّ بالإنذار والوعيد أهل العلم، وحذَّرهم من كتمان الحق الذي عرفوه، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ، إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} 3، فأوجب الله تعالى على أهل العلم أن يبيِّنوا للناس ما علموا من معاني الإسلام، وأن ينشروها بين الناس؛ لينقذوهم من أوضار الشرك، وكل من عرف شيئًا من معاني الإسلام فهو عالم بهذا الشيء، وعليه تبليغه إلى من يجهله، فليس العلم شيئًا واحدًا لا يتجزَّأ ولا يتبعَّض، وإنما هو قابل للتجزئة، وكل مسلم يعلم أنّه لا إله إلّا الله، وأن محمدًا رسول الله، وأن الحساب في يوم القيامة حق، وأن القرآن الكريم كلام الله حق، وأن محمدًا رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وأن الصلاة والصيام والحج والزكاة من فرائض الإسلام، فعليه أن يبلغ ما علمه، أمَّا ما يجهله فلا يكلف بتبليغه ولا تعليمه؛ لأنه يجهله، وفاقد الشيء لا يعطيه. والنوع الثاني من القدرة: وهو السلطان والتمكين في الأرض، فقد أشار القرآن

_ 1 سورة الأنفال، الآية: 25. 2 القرطبي ج1 ص390. 3 سورة البقرة الآيتان: 159، 160.

الكريم إلى هذا النوع، وأوجب على أصحابه أن يستعملوا ما وهبه الله لهم من تمكينٍ وسلطان في نشر الدعوة إلى الله تعالى، وإعمار الأرض بفضائل الأعمال وبعبادة الله -تبارك وتعالى، قال -عز وجل: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} 1، وقد قال أهل التفسير في المراد من أهل التمكين في الأرض: إنهم الولاة، ومنهم من أدخل فيهم العلماء2، والأوّل أظهر، وعلى هذا فمن أتاه الله تعالى الملك والسلطان فعليه أن يعمر الأرض بعبادة الله، وعلى رأسها الصلاة، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وعلى رأس المعروف الدعوة إلى الله، وعلى رأس النهي عن المنكر النهي عن الشرك بجميع أنواعه وأشكاله، وهذا هو مقصود الولاية، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إنما نصب الإمام ليأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، وهذا هو مقصود الولاية"3. وقد فَقِه هذا المعنى ولاة الأمر في الماضي، فاستعملوا سلطانهم في إقامة دين الله والدعوة إليه، كتب عمر بن عبد العزيز إلى عمَّاله في الأقاليم كتابًا جاء فيه: "وإن من طاعة الله التي أنزل في كتابه أن يدعو الناس إلى الإسلام كافة، فادع إلى الإسلام وأمر به، فإنَّ الله تعالى قال: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} 4، والحقيقة أنَّ قيام ولي الأمر بواجب الدعوة إلى الله يؤدي إلى نتائج كبيرة جدًّا ومؤثِّرة جدًّا؛ لأنه يملك القوة والسلطان، وبيده الأمر والنهي، مما يجعله قادرًا على التنفيذ أكثر من أيِّ واحدٍ من آحاد الرعية، ولهذا جاء في الأثر المشهور "إنَّ الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن"، وبقدر قدرة المسلم على الدعوة والتنفيذ يكون واجبة في الدعوة إلى الله ومسئوليته عن ذلك. الدَّاعي يدعو إلى الله في كل وقتٍ وفي جميع أحواله وظروفه: 520- قلنا: إنَّ الدعوة إلى الله واجب على المسلم، فهو يؤديه بهذ الاعتبار.

_ 1 سور الحج، الآية: 41. 2 القرطبي ج12 ص73. 3 السياسة الشرعية لابن تيمية ص77. 4 سورة فصلت، الآية: 133 عمر بن عبد العزيز تأليف عبد الله بن عبد الحكيم ص94.

وواجب الدعوة إلى الله ليس له وقت محدَّد كالصلاة والصيام، ولهذا فإنَّ هذا الواجب يؤدِّيه المسلم في جميع الأحوال والظروف، وفي كلِّ وقتٍ يتيسَّر له فيه أداؤه، قال تعالى مخبرًا عن نوح -عليه السلام: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا، فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا، وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا، ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا، ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا} 1، وكذلك كان رسولنا محمد -صلى الله عليه وسلم يدعو قومه ليلًا ونهارًا، وسرًّا وجهارًا، ولم يشغله شيئ عن الدعوة إلى الله تعالى2، والواقع أن الداعي إذا كان صادقًا في دعوته منشغلًا بها، لا يفكِّر إلّا فيها، ولا يتحرَّك إلّا من أجلها، ولا يبخل عليها بشيء من جهده ووقته، لم يشغله عنها شاغل أبدًا حتى في أحرج الساعات وأضيق الحالات وأدق الظروف، وهكذا كان رسولنا محمد -صلى الله عليه وسلم، فعندما هاجر إلى المدينة ومعه أبو بكر الصديق -رضي الله عنه، لقي في طريق بريدة بن الحصيب الأسلمي في ركبٍ من قومه فيما بين مكة والمدينة، فدعاهم إلى الله، حتى وهو في طريقه مهاجرًا إلى المدينة والقوم يطلبونه. ويوسف -عليه السلام- عندما دخل السجن مظلومًا لم يشغلها السجن وضيقه عن واجب الدعوة إلى الله، ولهذا فقد اغتنم سؤال السجينين عن رؤيا رأياها، فقال لهما قبل أن يجيبهما ما أخبرنا الله به: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ، مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} ، المطلوب من الدَّاعي أن يدعو إلى الله، وليس المطلوب منه أن يستجيب الناس. 521- المطلوب من الداعي أن يدعو إلى الله، وهذا هو الواجب عليه، وليس المطلوب منه أن يستجيب الناس، قال تعالى: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} 4، فإذا كان الرسول غير مكَلَّف إلّا بالتبليغ، فغيره من آحاد الأمَّة أولى أن لا يكلف بغير التبليغ. وتعليل ذلك من وجهين؛ الأول: إنَّ القاعدة الأصولية تقول:

_ 1 سورة نوح، الآية: 5-9. 2 إمتاع الأسماع للمقريري ص18. 3 إمتاع الأسماع ص42. 4 سورة يوسف، الآية: 39، 40. 5 سورة العنكبوت، الآية: 18.

إن الإنسان لا يُكَلَّفُ بفعل غيره، أي: لا يكلف أن يفعل غيره فعلًا معينًا، أو يترك فعلًا معينًا؛ لأنَّ هذا من قبيل تكليف ما لا يطاق، وإنَّما يكَلَّف الإنسان أن يفعل هو فعلًا معينًا يتعلق بغيره، وقد يحمله على الفعل، كالدعوة إلى الله، وكالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالمسلم مطالب ومكلَّف بأن يأمر بالمعروف، وقد يستجيب المأمور، فيكون أمر الآمر سببًا لفعل المأمور، وقد لا يستجيب المأمور، ولهذ مدح الله تعالى أحد أنبيائه بأنه {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ} 1، فالذي يمكله المسلم ويكلَّف به أن يأمر غيره بالمعروف، ويدعوه إلى عبادة الله، ولا يكلف بأن يفعل الغير فعلًا معينًا. الوجه الثاني: إن الاستجابة بيد الله وحده، فهو الهادي {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} 2، ولله الحجة على عباده، ولو شاء لهداهم أجمعين، لا يُسْأَل عمَّا يفعل وهم يسألون، أمَّا هداية التبليغ والبيان والدعوة فهي للرُّسل ولسائر الدعاة، فهم المكلَّفون بها، قال تعالى لرسوله -صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 3، مع قوله تعالى في آية آخرى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} 4. الاستمرار على الدعوة إلى الله وإن لم يستجب أحد: 522- وإذا كان المطلوب من المسلم أن يدعو إلى الله وليس المطلوب منه أن يهدي الناس، فعليه أن يستمرَّ على الدعوة بلا كلل ولا ملل ولا فتور؛ لأنَّ واجبه البلاغ والتبيين، وهذا متعلق به، فعليه أن يؤدِّيه كما يؤدي سائر العبادات، وإن لم يستجب له أحد، ألا ترى أن نوحًا -عليه السلام- لبث في قومه يدعوهم إلى الله ألف سنه إلّا خمسين عامًا. وهكذا كان رسل الله يدعون أقوامهم مدة حياتهم، فمنهم من استجاب له قومه أو بعضهم، ومنهم من لم يستجب له أحد، وقال الإمام النووي: "لا يسقط عن المكلف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكونه لا يفيد في ظنه، بل يجب عليه فعله، فإنَّ الذكرى تنفع المؤمنين، فإنَّ الذي عليه الأمر والنهي لا القبول"5 ووجه الدلالة

_ 1 سورة مريم: الآية: 55. 2 سورة المدثر، الآية: 31. 3 سورة الشورى، الآية: 52. 4 سورة القصص، الآية: 56. 5 شرح صحيح مسلم للنووي ج2 ص22.

بهذا القول أنَّ الدعو ة إلى الله في رأس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيسري عليها معنى هذ القول، وبهذا المعنى قال السيوطي في أشبهاهه1، ومما يؤكد وجوب الاستمرار على الدعوة إلى الله حرمة اليأس، واحتمال الإجابة؛ لأنَّ الأمور بيد الله، وقلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، فلا يستطيع الداعي أن يقطع بعدم الإجابة، فيجب عليه الاستمرار بالدعوة والوعظ والإرشاد حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولًا. أجر الداعي على الله لا على العباد: 523- الداعي إلى الله يؤدي واجبًا، ويقوم بعبادةٍ امتثالًا لأمر الله، والأجر على العبادة يناله العابد من الربِّ الجليل تفضلًا منه وإحسانًا، وعلى هذا فلا يطلب الداعي من أحد من الخلق أجرًا على دعوته، ولا مالًا ولا ثناء ولا جاهًا، ولا أيِّ عوض من الأعواض المادية أو المعنوية، قال تعالى مخبرًا عن نوح -عليه السلام: {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} 2، وقال عن نبينا -صلى الله عليه وسلم: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} 3، أي: إلَّا أن ترعوا قرابتي معكم، فتسمحوا لي بالدعوة إلى الله تعالى، ولا تمنعوني منها، ولا تصدوا الناس عنها، وهكذا شأن جميع رسل الله يدعون الناس إلى الله، ولا يبغون منهم جزاءً ولا شكورًا؛ لأنَّ أجرهم على الله الكريم، قال تعالى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ، اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} 4. مكانة الداعي في الإسلام: 524- مكانة الداعي إلى الله في الإسلام مكانة عظيمة جدًّا. فقوله في الدعوة

_ 1 الأشباه والنظائر للسيوطي ص307. 2 سورة يونس، الآية: 72. 3 سورة الشورى، الآية: 23. 4 سورة ياسين، الآية: 21.

إلى الله أحسن الأقوال في ميزان الله وهو أصدق الموازين، قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} 1، وهذه الآية كما قال أهل التفسير: عامَّة فيمن دعا إلى الله، وهو في نفسه مهتدٍ يعمل الخير ويؤدي الفرائض ويجتنب المحارم2. إنَّ كلمته في الدعوة إلى الله -لا سيما عند الجحود وشيوع التمرُّد على الله- هي أحسن كلمة تقال في الأرض، وصاحبها بهذه الصفة من الصلاح في نفسه مع استسلامه لله رب العالمين، أمَّا أجر الداعي إلى الله فأجر عظيم، قال -صلى الله عليه وسلم: "من دعا إلى هدًى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا"، وفي حديث آخر أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لعلي -رضي الله عنه: "فوالله لَأِن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حُمُر النِّعَم"، وفي حديث آخر: "من دَلَّ على خير فله مثل أجر فاعله".

_ 1 سورة فصلت، الآية: 33. 2 تفسير ابن كثير ج4 ص100.

الفصل الثاني: عدة الداعي

الفصل الثاني: عدة الداعي مدخل ... الفصل الثاني: عُدَّة الدَّاعِي تمهيد: 525- يحتاج الداعي إلى الله في أداء مهمته ووظيفته التي هي في الأصل وظيفة رسل الله، إلى عدة قوية من الفهم الدقيق والإيمان العميق والاتصال الوثيق بالله تعالى، هذه هي مقومات عُدَّة الداعي وأركانها، وإذا فقدها لم يغن عنها شيئ آخر، وإذا ضعفت معانيها في نفسه، فعليه أن يقويها، فلا بُدَّ من الكلام عنها بما يبيِّن المقصود منها في أبحاث متتالية.

المبحث الأول: الفهم الدقيق

المبحث الأول: الفهم الدقيق العلم قبل العمل: 526- العلم قبل العمل، قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} 1، فقدَّم العلم على العمل، والواقع أنَّ تقديم العلم على أيِّ عمل ضروري للعامل حتى يعلم ما يريد؛ ليقصده ويعمل للوصول إليه، وإذا كان سبق العلم لأيِّ عمل ضروريًّا، فإنَّه أشدّ ضرورة للداعي إلى الله؛ لأنَّ ما يقوم به من الدين منسوب إلى رب العالمين، فيجب أن يكون الداعي على بصيرة وعلم بما يدعو إليه، وبشرعيِّة ما يقوله ويفعله ويتركه، فإذا فقد العلم المطلوب واللازم له كان جاهلًا بما يريده، ووقع في الخبط والخلط والقول على الله ورسوله بغير علم، فيكون ضرره أكثر من نفعه، وإفساده أكثر من إصلاحه، وقد يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف؛ لجهله بما أحلَّه الشرع وأوجبه، وبما منعه وحرَّمه، فيجب إذن لكل داعٍ إلى الله تعالى العلم بشرع الله، وبالحلال والحرام، وبما يجوز وما لا يجوز، وبما يسوغ فيه الاجتهاد وما لا يسوغ، وما يحتمل وجهين أو أكثر، وما لا يحتمل. والعلم ما قام عليه الدليل الشرعي من كتاب الله أو سنة رسوله أو من أدلة الشرع الأخرى، وعلى المسلم أن يستزيد من هذا العلم الشرعي النافع ليعرف موضوع دعوته، وليكون فيها على بصيرة وبينة، فلا يأمر إلّا بحق، ولا ينهى إلّا عن باطل. فضل العلم: 527- وفضل العلم وأهله معروف غير منكور نطق به القرآن الكريم، ورفع شأنه

_ 1 سورة محمد، الآية: 19.

وأكَّدته السنَّة النبوية، وأمر الله بالتزود منه وطلب المزيد منه، قال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} 1، {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} 2، وفي السنة النبوية: "من يرد الله به خيرًا يفقِّهه في الدين"، واستشهد الله تعالى بأهل العلم على أجلِّ مشهود به، وهو توحيد الله، وقرن شهادتهم بشهادته وشهادة الملائكة، وهذه تزكية لهم، وتعديل وتوثيق؛ لأنَّ الله تعالى لا يستشهد بمجروح، قال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 3. وأهل العلم لا ينفعون أنفسهم فقط، وإنما ينفعون غيرهم بما يرشدونهم إليه، ويدلونهم عليه، ويوصلونهم به إلى ربهم، فالناس كما قال الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله تعالى: إلى العلم أحوج منهم إلى الطعام والشراب؛ لأنهم يحتاجون إليهما في اليوم مرة أو مرتين، وحاجتهم إلى العلم بعدد أنفاسهم، ومن أجل هذا كله كان طلب العلم أفضل من صلاة النافلة، وبهذا قال الشافعي وأبو حنيفة ومالك وغيرهم من أئمة المسلمين، وجاءت السنة النبوية بالبشارة لهم، ففيها: "إن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض، وإنَّ الله تعالى وملائكته يصلون على معلمي الناس الخير" 4، فعلى الداعي المسلم أن يحرص أن يكون دائمًا من المتفقهين في الدِّين، العلماء بأحكامه، المعلِّمين للناس الخير، حتى يصيبه ما نطقت به هذه الآيات والأحاديث. الفهم الدقيق: 528- ومن العلم العزيز النادر الذي يغفل عنه الكثيرون مع دلالة القرآن عليه وتصريحه به والدعوة إليه، علم طريق الآخرة الذي يهيِّج القلب ويزعجه ويدفعه إلى سلوكه، ويشعر صاحبه بغربته في الدنيا، وقرب رحيله عنها إلى سفر بعيدٍ لا يرجع بعده إلى دنياه، ولا ينفع فيه زاد إلّا التقوى، ولذلك فهو دائمًا مشغول بإعداد هذا

_ 1 سورة طه، الآية: 114. 2 سورة المجادلة: الآية: 11. 3 سورة آل عمران، الآية: 18. 4 مدارج السالكين لابن قيم الجوزية ص469-470.

الزاد {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} 1، متطلعًا إلى ما هناك، إلى ما يئول إليه أمره بعد سفره البعيد، أيكون مصيره إلى نار جهنم، وفي ذلك شقاؤه العظيم، أم يكون مصيره في دار النعيم بجوار الربِّ الكريم؟ إنه لهذه العاقبة المجهولة يكون دائمًا بين الخوف والرجاء، ولكنَّه خوف العارف لا الجاهل، ورجاء العالم لا الخامل. إنَّ هذا العلم هو الذي قلَّ وجوده بين الناس وبين طلاب العلم، وبدونه لا يعتبر العالم عالمًا وإن حفظ الشروح والمتون والأحكام، وملأ رأسه منها، ورددها على لسانه، وإنَّ هذا العلم هو لب العلم وغايته، وكل مسلم محتاج إليه، والعالم أشد حاجة إليه، والداعي أحوج من الجميع إليه. إنَّ هذا العلم هو الذي نسميه "الفهم الدقيق"، وهو الذي فقهه الصحابة الكرام وأشربت به عقولهم وقلوبهم، فضنّوا بوقتهم أن يذهب سدًى في غير طاعة الله ودعوة إليه، فنشطت جوراحهم في العبادة والجهاد في سبيل الله والدعوة إليه، حتى أتاهم من ربهم اليقين. الفهم الدقيق يقوم على تدبُّر معاني القرآن: 529- ويقوم الفهم الدقيق على تدبُّر معاني القرآن وإطالة النظر فيها، وترديدها، والوقوف عندها، والتغلغل في مراميها ومقاصدها، فإنَّ الله تعالى أنزل كتابه ليتدبَّر الناس آياته لا لمجرد أن يتلوه، فلا فهم ولا تدبر، قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} 2، وقال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} 3، إنَّ تلاوة القرآن بتدبُّر وإمعانٍ تعرف المسلم بالربِّ الذي يدعوا إليه، وطريق الوصول إليه، وما للمستجيب من الكرامة إذا قدم عليه، وتعرِّفه في مقابل ذلك ثلاثة أخرى: ما يدعو إليه الشيطان وحزبه، والطريق الموصلة إليه، وما للمستجيب لدعوة الشيطان من الإهانة والعذاب. إنَّ هذه المعرفة ضرورية للداعي؛ إذ بها تجعله كأنَّه في الآخرة وإن كان هو في الدنيا، وتميِّز له بين الحق والباطل في كل ما اختلف فيه الناس، فتريه الحق حقًّا والباطل باطلًا

_ 1 سورة البقرة، الآية: 197. 2 سورة ص، الآية: 29. 3 سورة محمد، الآية: 24.

وتعطيه فرقانًا ونورًا يفرِّق به بين الهدى والضلال، والغي والرشاد، وتعطيه قوة في قلبه، وحياة وسعة وانشراحًا وبهجة وسرورًا، وتعلقًا بالآخرة، وعزوفًا عن الدنيا، فيصير هو في شأن، والناس في شأن آخر1. أركان الفهم الدقيق: 530- معاني الفهم الدقيق التي تكون دعائمه وأركانه كثيرة، وأهمها في نظرنا اثنان؛ الأول: فهم الداعي غايته في الحياة، ومركزه بين البشر. الثاني: تجافيه عن دار الغرور وتعلقه بالآخرة، فلنبيّن المقصود من هذين الركنين. معرفة الداعي غايته في الحياة ومركزه بين الناس: 531- ما هي غاية الإنسان في الحياة؟ وهل وراء هذه الغاية غاية أخرى؟ أجابنا القرآ ن الكريم على هذا التساؤل، فجعل الناس صنفين: الصنف الأول: يجعلون غايتهم الأكل والشرب والتمتع بملاذ الجسد، وليس وراء هذه الغاية عندهم غاية أخرى، فهم يهتبلون فرص العمر وأيامه ليتمتعوا ما وسعهم التمتع، فما بعد هذه الحياة في نظرهم الكليل وقلوبهم الميتة إلّا العدم والفناء، وهؤلاء شر الخلق وأشقاهم، قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} 1، فهم صاروا كالدوابِّ والبهائم، لا يختلفون عنها إلّا في الصورة والشكل، وإلّا في دخول النار. تلك هي غاية هذا الصنف، أما مركزهم بين الناس فهو مركز الإضلال والإفساد، ومآلهم جميعًا دخول النار، قال تعالى: {أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} 2. الصنف الثاني: وهم الذين عرفوا الحقيقة والغاية، عرفوا أنهم خلقوا لله لعبادته، وأنهم إليه راجعون، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 3.

_ 1 مدارج السالكين لابن القيم ج1 ص452. 2 سورة محمد، الآية: 12. 3 سورة البقرة، الآية: 221. 4 سورة الذاريات، الآية: 56.

{يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيه} 1، فغايتهم عبادة الله وحده، ومنها: الجهاد في سبيله، والدعوة إليه، وعمارة الأرض بفعل الخير، وهداية الحيارى إلى الحق، وقيادتهم في درب الحياة، تلك غايتهم في الحياة الدنيا، ووراؤها الغاية العظمى والعليا، وهي ابتغاء مرضاة الله وحده -جلَّ جلاله. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} 2، هذه مهمَّة المسلم في الحياة وغايته فيها، عبادة الله وحده، وجهاد في سبيله، يجاهد نفسه حتى يحملها على الطاعة ويبعدها عن المعصية، ويجاهد بقلمه ولسانه وماله ويده في سبيل الله حتى تعلو كلمة الله، ويستنير البشر بنور الإسلام. وقد اختار الله تعالى المسلمين لهذه المهمة الخطيرة، مهمة هداية الناس وقيادتهم للحق، وإخراجهم من الظلمات إلى النور، فلا مجال للتخلي عن هذه المهمة الشريفة، وهذه المكرمة العظيمة التي أكرم الله بها المسلمين، بل عليهم أن يقابلوها بالرضى والنهوض بها، وشكر الله عليها. التجافي عن دار الغرور والتعلق بالآخرة: 533- لا شيء أفسد للقلب من التعلق بالدنيا والركون إليها، وإيثارها على الآخرة، فإن هذا الفساد يقعد بالمسلم عن التطلع إلى الآخرة والعمل ليها، وإتعاب الجسد في سبيل الله والدعوة إليه، وهيهات لقلب فاسد مريض أن يقوى على مهامِّ الدعوة إلى الله. إنَّ الدنيا فيها قابلية الإغراء، ولهذا وصفها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "إنَّ الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء"، وحذَّرنا الله تعالى من الوقوع في شباكها والتعلق بها {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} 3.

_ 1 سورة الانشقاق، الآية: 6. 2 سورة الحج، الآية: 77، 78. 3 سورة فاطر، الآية: 5.

ووجه الإغراء في الدنيا والاغترار بها أنَّ فيها مباهج وملذات يحسّ بها الإنسان بجميع حواسِّه، وتهواهاه نفسه بطبيعها، وتؤثرها على ما سواها، {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ، وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ} 1، فإذا تركت النفس وشأنها زاد تعلقها والتصاقها به، حتى تصبح هي كل غايتها، ومنتهى أملها، ومبلغ علمها، {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} 2، وإذا مات وصلت النفس إلى هذا الحدِّ فقدت حاسَّة القبول والاعتبار، وعند ذلك لا يجدي معها وعظ ولا تذكير، وبالتالي وبالبداهة لا يصلح صاحب هذه النفس أن يكون داعيًا إلى الله. فما هو العلاج لتخليص القلب من أسر الدنيا وتعلقه بها؟ العلاج في ذلك: تيقُّن زوال الدنيا ومفارقتها، وتيقُّن لقاء الآخرة وبقاءها، ثم يقارن بين الأمرين، فيؤثر الآخرة على الدنيا، قال تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} 3، وقال تعالى: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} 4، {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} 5، وأن يحضر في ذهنه هذا الذي تيقنه. وهذه الغاية واستحضارها في الذهن لا تكفي وحدها، بل لا بُدَّ من قطع التسويف وطول الأمل حتى يحسّ بالغربة في هذه الدنيا، وأنَّه قد يرحل عنها في أية ساعة، قال -صلى الله عليه وسلم: "إذا أصبحت فلا تحدِّث نفسك بالمساء، وإذا أمسيت فلا تحدِّث نفسك بالصباح"، وقال -عليه الصلاة والسلام: "مالي وللدنيا، ما أنا والدنيا إلّا كراكبٍ استظلَّ تحت شجرة ثم راح وتركها". وإذا وسوس له الشيطان وألقى في روعه أنَّه شابٌّ قوي موفور الصحة والعافية، فليطرد وسواسه باستحضار الشباب الذين رحلوا وهم الآن تحت الثرى، وإذا لجَّ الشيطان في وسوسته فليخرج إلى المقابر ويستنطق الراقدين: كم فيهم من الشباب الذين شربوا كأس الموت مبكرين، ثم ليرجع إلى محلته، وليعد شيوخ وكهول بلده، فسيجدهم

_ 1 سورة القيامة، الآية: 20، 21. 2 سورة النجم، الآية: 29، 30. 3 سورة القصص، الآية: 60. 4 سورة النساء، الآية: 77. 5 سورة النحل، الآية: 96.

أقل من عشر رجال بلده، ومعنى ذلك أنَّ الموت في الشباب كثير لم ينج منهم إلّا القليل، وهم الكهول الحاضرون. فإذا قصر أمله في الحياة انبعث إلى التجهُّز للآخرة بعلم الطاعات؛ إذ لا يدري متى ينادى عليه بالرحيل. فإذا تخلَّص الداعي المسلم من التعلق بالدنيا، وأفرغ ما في قلبه من سمومها، وأقبل على الآخرة، أحسَّ بغربة شديدة في الدنيا، ولكن مع خِفَّة في روحه، وإقبال شديد على مراضي ربه، وعلى رأسها الدعوة إليه، وهداية الحيارى من عباده، لا يعيقه عن ذلك تعب ولا نصب ولا ألم ولا سفر ولا سهر ولا بذل ولا تضيحة؛ لأنَّ ذلك كله من الزاد المؤكَّد نفعه وفائدته في سفره الطويل البعيد إلى الآخرة، بل إنَّه سيجد في تعبه راحة، وفي أمله لذة، وفي بذله ربحًا، وفي تضيحته عوضًا مضمونًا، وليس فيما أقوله خيالًا أو مبالغة، فإنَّ الغريب عن أهله الذي طالت غربته عنهم، وازداد شوقه إليهم، سيجد لذَّة وهو يعدّ أسباب سفره إليهم، وإن كان في إعداد ذلك تعب لجسمه، وسهر في ليله، ومن جرَّب عرف.

المبحث الثاني: الإيمان العميق

المبحث الثاني: الإيمان العميق حقيقة الإيمان العميق: 533- نريد بالإيمان العميق أنَّ الداعي المسلم تيقَّن بأنَّ الإسلام الذي هداه الله إليه، وأمره بالدعوة إليه، حقّ خالص؛ لأنه هُدى الله، وما عداه باطل وضلال قطعًا، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} 1، {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} 2، وإنَّ هذا اليقين بأحقية الإسلام صار عند الداعي المسلم كالبدهية وكالواحد زائد واحد يساوي اثنين، ومن ثَمَّ لا تقبل هذه البدهية أيَّ نقاش أو جدال أو شكٍّ أو مراجعة أو إعادة نظر، وتيقن أنَّ أيَّ تحوُّلٍ عن هذا اليقين وميلٍ إلى غيره يعني اتباع الأهواء الباطلة التي فيها الضلال وضياع الإيمان، قال تعالى: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} 3، إنَّ هذا الإيمان العميق بأحقية الإسلام قائم على علم قطعي وبينة راسخة لا شكَّ فيها، وإن كذَّب بها المبطلون الضالون الذين لا يبصرون الحق المنزَّل من عند الله، لا لخفائه، ولكن لعمى أبصارهم وموت قلوبهم، فلا يتصوّر ميل الداعي المسلم إلى باطلهم، ولا يتصور منه الشك في دعوته، كما لا يتصور ارتياب البصير في بصره إذا وجد نفسه بين العميان، قال تعالى: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} 4، وإنَّ هذه البينة التي أقام عليها الداعي المسلم إيمانه العميق

_ 1 سورة البقرة، الآية: 120. 2 سورة يونس، الآية: 32. 3 سورة الأنعام، الآية: 56. 4 سورة الأنعام، الآية: 57.

مستمدَّة من ذات الإسلام وطبيعته، لا من شيء خارج عنه، ولهذا فإنَّ إيمانه العميق ينبض به كيانه كله، ويسري فيه مسرى الدم، ولا يمكن أن يتأثَّر أو يضعف أو يزول لأيِّ سبب خارجي مهما كان نوع وطبيعة هذا السبب الخارجي، فهو ليس من الذين قال الله فيهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} 1، فهذا شأن المنافق أو ضعيف الإيمان المرتاب، كما قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: "هو المنافق، إن صلحت له دنياه أقام على العبادة، وإن فسدت عليه دنياه وتغيرت انقلب فلا يقيم على العبادة إلّا لما صلح من دنياه، فإن أصابته فتنة أو شدة أو اختبار أو ضيق ترك دينه ورجع إلى الكفر"1. فإيمان الداعي العميق ثابت لا يتزعزع مهما صادفته محنة أو شدة، ومهما كانت حاله من ضعف وقلة، ومهما كان حال الكفرة من قوة ومنعة، حتى لو بقي وحده في الأرض، وهكذا كان إيمان صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في جميع أحوالهم يوم كانوا في مكة محاصَرين يعذّبهم الكفرة، ويوم هاجروا فارين بدينهم إلى الحبشة، ويوم هاجروا إلى المدينة، ويوم انتصروا في بدر، وانكسروا في أحد، وحوصروا في الخندق، إنَّهم في جميع تلك الأحوال التي تقلَّبوا فيها لم يتزعزع إيمانهم، ولم يتسرَّب إلى قلوبهم ذرةٌ من الشكِّ في كونهم على الحق، وموصولين بالحق، ويدعون إلى الحق، وأنَّ الكفرة في ضلالٍ مبين، قال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} 3، ولا يضعف إيمان الداعي انصراف الناس عنه وعدم إجابتهم له. فقد لبث نوح -عليه السلام- كما أخبرنا الله عنه {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} 4، ولم يؤمن له إلّا القليل، كما لا يدل انصراف الناس عنه أنَّه مقصِّر في دعوته ما دام قد أفرغ جهده، فالتقصير يعرف -إن وجد- من قلة ما يقدمه الداعي للدعوة، لا من عدم إجابة المدعو.

_ 1 سورة الحج، الآية: رقم 11. 2 تفسير ابن كثير ج3 ص209. 3 سورة الرعد، الآية: 14. 4 سورة العنكبوت، الآية: 14.

ضرورة هذا الإيمان للداعي المسلم: 534- إنَّ مثل هذا الإيمان العميق ضروريّ لكل مسلم، وهو للداعي أشد ضرورة في الوقت الحاضر، الذي ضعفت فيه كلمة الإسلام، وعلت فيه كلمة الكفر، ونضب معين الإيمان في النفوس، وازدادت مِحَن المسلمين، وصال الكفرة عليهم وجالوا، وصارت لهم دِوَل كبار تحميهم، وتقذف بالباطل وتثير الشبهات والشكوك حول أحقية الإسلام، وزاد من هذه المحنة وجود أدعياء الإسلام وعلماء السوء البائعين دينهم بدنياهم، والمستترين وراء كلمة الإسلام يقولونها بألسنتهم، ويخفون وراءها باطلًا كثيفًا، وضلالًا عظيمًا، ومع هذا فإنَّ المسلم ولا سيما الداعي المسلم الصادق يجب أن لا تدهشه هذه المحن وهذه الأحوال، بل يجعلها دافعًا للمزيد من بذل الجهد في سبيل إعلاء كلمة الله وتلمُّس الدواء والعلاج لما آل إليه أمر الإسلام، وأن لا يبقى مفتوح العينين محدِّقًا بالكفرة إعجابًا بهم وإكبارًا لهم، فإنهم والله على ضلال مبين، يحتاجون إلى تقويم وتهذيب وتأديب، لا إلى تعظيم وتفخيم، وليستحضر الداعي المسلم في ذهنه ما رواه البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري، قال: حدثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومًا حديثًا عن الدجَّال، فكان فيما حدثنا به أنه قال: "يأتي الدَّجَّال وهو محرَّم عليه أن يدخل نقاب المدينة، فينزل بعض السباخ 1 التي تلي المدينة، فيخرج إليه يومئذ رجل، وهو خير الناس أو من خير الناس، فيقول: أشهد أنك الدجَّال الذي حدَّثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حديثه، فيقول الدجال: أرأيتم إن قتلت هذا ثم أحييته، هل تشكّون في الأمر؟ فيقولون: لا، فيقلته ثم يحييه، فيقول: والله ما كنت فيك أشدّ بصيرة مني الآن، قال: فيريد الدجال أن يقتله فلا يسلط عليه" 2، وفي هذا الحديث الشريف فوائد عظيمة جدًّا، منها: أنَّ الدجال ادَّعى الألوهية والربوبية، وفتن الناس بدعوته لِمَا أوتيه من الخوارق، ومنها أنَّه يقتل الشخص ويحييه، ويأمر الأرض بالإنبات فتنبت، ويأمر المطر بالنزول فينزل، كما وردت بذلك الآثار، ويتبعه دهماء الناس وجهلتهم الخالية قلوبهم من معاني الإيمان وأنواره، ولكنّ ذلك المسلم

_ 1 نقاب المدينة أي: طريقها وفجاجها، وهو جمع نقب، وهو الطريق بين جبلين، والسباخ سبخة، وهي أرض لا تنبت لملوحتها. 2 صحيح البخاري ج9 ص109، صحيح مسلم ج16 ص71، 72.

الذي يخرج له لم يشك قط في أنه هو الدجال الكذاب، ولم تؤثر في ذلك المسلم خوارقه ولا كثرة أتباعه، ولا في اعتزازه هو بالإسلام؛ لأنَّ دعوة ذلك الدجال باطلة قطعًا؛ لمخالفتها لمعاني الإسلام الحقَّة، فلا يمكن أبدًا أن ينقلب الباطل حقًّا لأيِّ سبب خارجي مقترن به، ولو كان من خوارق العادات، كما لا يمكن أبدًا أن يصيِّر الإسلام الحق باطلًا بكون المؤمن به رجلًا واحدًا أعزل، ولهذا ولمَّا قتل الدجال ذلك المسلم ازداد يقينًا بأنه على الحق، وأنَّ الدجال مبطل كذاب، وأن خوارقه تصديق لخبر الرسول -صلى الله عليه وسلم، وبالتالي يظل ذلك المسلم على إيمانه وإن كان وحيدًا، لا حول له ولا قوة ولا ناصرًا. ثمرات هذا الإيمان ولوازمه: 535- إنّ لهذا الإيمان العميق لوازم وثمرات لا بُدَّ منها ويستحيل تخلفها، وإذا ما تخلفت أو ضعفت كان ذلك دليلًا قاطعًا على عدم وجود هذا النوع من الإيمان، أو دليلًا على ضحالته وضعفه، فما هي هذه الثمرات واللوازم؟ الواقع أنَّها كثيرة وهي مذكورة في كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم، في باب صفات المؤمنين، فما على المسلم إلّا أن يتلو تلك الآيات والأحاديث الشريفة، ويقف عند كل صفة وردت فيها ويتمعَّن في معناها، ويتأمَّل في مدلولها، ثم يرجع إلى نفسه ويتفحَّصها ويسبر مقدار ما فيها من معاني تلك الصفة، فإن وجدها فيه فليحمد الله تعالى، وإن لم يجدها أو وجدها هزيلة فليتدرك إيمانه، ويعيد النظر فيه ويقويه ويعمقه ويغذيه بالغذاء الإيماني الخاص، فإنه سيثمر إن شاء الله تعالى الثمر المطلوب، وتنصبغ نفسه بصبغة أهل الإيمان العميق، ويكفينا هنا أن نذكر بعض هذه الثمار الطيبة للإيمان العميق وبعض لوازمه؛ لأهميتها، ونترك غيرها لمقامٍ آخر إذا يسَّر الله تعالى ذلك. أولًا: المحبة 536- محبة العبد لربِّه ومحبة الرب لعبده من ثمرات الإيمان المنوَّه به في القرآن، قال تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} 1، وهي ثمرات الإيمان العميق قطعًا، بل هي

_ 1 سورة المائدة، الآية: 54.

روح الإيمان ولبّه؛ لأنَّ الإيمان يقوم على المعرفة اليقينية بالرب -جلَّ جلاله- كما قلنا، ومن عرف ربه أحبَّه، كما قال الحسن: وكلما قويت المعرفة ازداد عمق الإيمان، وازدادت محبة العبد لربه، وقوة المعرفة إنما تكون بالفكر الصافي في صفات الربِّ وعظمته ونعمائه، التي أعظمها هدايته للداعي المسلم إلى الإيمان به {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} 1، وحب المسلم لربه تعالى يمتدُّ إلى ما يحبه المحبوب -جلَّ جلاله؛ ولهذا يحب المسلم نبيه محمدًا -صلى الله عليه وسلم؛ لأنه حبيب الله ورسوله إلى الناس، ومبلغهم الإسلام، وكذلك يحب المسلم القرآن وتعاليم الإسلام؛ لأنَّها رسالة الله، ويحب المؤمنين؛ لأنهم عباد الله المطيعين الذين يقومون بعبادة مولاهم، وحب المسلم لله وما تعلّق به يترك أثرًا طيبًا حلوًا في نفس المسلم، يحس بحلاوته وطيبه، قال -صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة من كنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يكره أن يرجع إلى الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار، وأن يحب المرء لا يحبه إلّا الله"، فحب العبد لربه يستلزم هذه الأمور قطعًا، ولا يمكن أن تتخلف عنه، وقد يكون من المفيد أن أتبسَّط ولو قليلًا في لوازم محبة المسلم لربه -جل جلاله، وأجعل هذه اللوازم في فقرات، زيادة في إيضاحها وإظهارها لعظيم أهميتها، فأقول: لوازم محبة العبد لربه: 537- قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} 1، وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} 2، فلوازم محبَّة المسلم لربه في ضوء هاتين الآيتين الكريمتين هي: أولًا: أذلَّة على المؤمنين: فالمسلم رقيق رحيم شفيق على أخيه المسلم، والداعي وهو

_ 1 سورة الأعراف، الآية: 43. 2 سورة المائدة، الآية: 54. 3 سورة آل عمران، الآية: 31.

يدعو آخاه المسلم إلى ما يرضي الله، يستشعر هذه الشفقة والرحمة التي تصل إلى صورة الذلة المشروعة، وسنتكلم عن هذه فيما بعد، وهذه مثل قوله تعالى في صفة محمد -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} 1. ثانيًا: أعزَّة على الكافرين، وهذا مثل قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} 2 لا يهين ولا يستكين ولا يشعر بصغار أمامهم ولا في غيبتهم، لا في ظاهره ولا في باطنه، فهو قويّ عليهم بقدر ما هو ليِّن على المؤمنين. ثالثًا: يجاهدون في سبيل الله، والجهاد في سبيل الله يعني: جهاد النفس الدائم حتى تستقيم وتثبت وتستمر على طاعة الله، وجهاد العدو حتى يخنس وينكف ضرره، وجهاد الدعوة إلى الله حتى يتمَّ التبليغ والتبيين ويتيسَّر للناس سبل الهداية، وهذا الجهاد المبذول من الداعي المسلم في دعوته إلى الله تعالى يظهر ويتميز بالانشغال التامّ في أمور الدعوة والافتكار بها، وتقليب وجوه الرأي في وسائلها، والحرص على نجاحها، وإيثارها على الولد والمال والنفس والراحة وحطام الدنيا كلها، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} 2. رابعًا: لا يخافون لومة لائم، أي: لا يردُّهم عمَّا هم فيه من طاعة الله والدعوة إليه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يردُّهم عن ذلك رادّ، ولا يصدُّهم عن ذلك صادّ، ولا يمنعهم منه لوم اللائمين ولا عذل العاذلين3. خامسًا: متابعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في هديه في جميع أحواله، بالإضافة إلى طاعة أمره، والابتعاد عمَّا نهى عنه {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 4، فهو قدوة الداعي إلى الله، يقتدي به في سيرته، في دعوته إلى الله خطوة خطوة {لَقَدْ

_ 1-2 سورة الفتح، الآية: 29. 3 سورة التوبة، الآية: 24. 4 تفسير بن كثير ج2 ص70. 5 سورة الحشر، الآية: 7.

كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} 1، وأنفع شيء للداعي المسلم أن يتفقَّه في سُنَّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وسيرته في الدعوة إلى الله منذ أن بعثه الله إلى أن أختاره إلى جواره الكريم، ووجه هذا النفع للداعي أنَّ سيرة رسول الله -عليه الصلاة والسلام- هي ترجمة عمليّة للمنهج الرباني للدعوة إليه، الذي جاءت به آيات الله في قرآنه، وما من حالة قط يمرُّ بها الداعي إلى الله إلّا يجد مثيلها أو شبيهًا لها أو قريبًا منها في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم، وكيف تصرَّف إزاءها سيد الدعاة إلى الله. إنَّ التفقه في السيرة النبوية إذا انضمَّ إلى التفقه في القرآن، لا سيما فيما يخصّ الدعوة إلى الله، يجعل الداعي على نور من ربه، وفرقان مبين يبيِّن له الصواب في الأمور المشتبهة والدقيقة، والذي يعين على متابعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- استحضار شخصه الكريم في فكر الداعي، ومصاحبته مصاحبة روحية وجدانية، وتخيل مواقفه المختلفة، واستحضار صفاته الكريمة وعظيم شفقته على الأمَّة، فإنَّ هذا ونحوه سيزيد من محبة المسلم لرسوله الكريم -صلى الله عليه وسلم، وكلما ازدات محبته له ازداد تعلقه به ومتابعته له. 538- ومن لوازم محبة الداعي المسلم لربه المستفادة من القرآن الكريم والسنة، وطبيعة المحبَّة، أمور أخرى منها: أ- الولع بذكره تعالى في كل حين، فلا يفتر عنه لسان الداعي ولا يخلو منه قلبه، فمن أحبَّ شيئًا أكثر بالضرورة من ذكره وذكر ما يتعلق به، ومن هنا كان من علامات المحبيين الإكثار من تلاوة كتابه -جلّ جلاله، فهو ربيع قلوبهم، وأنيسهم في وحدتهم، والنور الذي ينير صدورهم، وكذلك ذكر الله في كل حين، وفي كل مناسبة، ولهذا يستَحبّ للداعي المسلم أن يأخذ نفسه بأوراد الذكر التي وردت بها السنة النبوية يتلوها بعد صلاة الصبح وعند النوم، وعند الخروج والدخول، والأكل والشرب واللباس، والسفر والإقامة، وفي الأسحار. ب- يأنس بمناجاة الله بالخلوة، فهو لا يستوحش منها ولا يضيق بها، بل يستغلها فرصة لهذه المناجاة. جـ- يتنعَّم بطاعته ولا يستثقلها، فإن المُحِبَّ يتلذَّذ بخدمة محبوبه وينشط لها، ولهذا

_ 1 سورة الأحزاب، الآية: 21.

كانت الصلاة قُرَّة عينٍ لرسول الله -صلى الله عليه وسلم، وراحة لنفسه الكريمة من تعب الدنيا، قال الجنيد -رحمه الله: علامة المحبّ دوام النشاط في طاعة الله. د- لا يتأسَّف على ما يفوته مما سوى الله -عز وجل، ويعظم تأسُّفه على فوت كل ساعة خلت عن ذكر الله وعن القيام بخدمته وطاعته. هـ- يؤثر ما يحبه الله على ما يحبه هو في ظاهره وباطنه، فإنَّ المحبَّ الصادق يؤثر دائمًا ما يحبه محبوبه، ولا يبالي بالمشاق والأتعاب في هذا الإيثار. ز- يحب لقاء الله، لأنَّ المحب يحب لقاء الحبيب، وبالتالي فهو لا يكره الموت إذا جاء؛ لأنه مفتاح اللقاء وطريق الوصول إلى الله. ح- الغيرة لله، وعلامتها الغضب إذا انتهكت محارم الله، وهكذا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يغضب لنفسه، وإنما يغضب لربه إذا انتهكت محارمه، ومع هذه الغيرة حزن يصيب المسلم إذا رأى مخالفة المسلمين لشرع الله، روي أنَّ أحد الصحابة -وأظنُّه أبا الدرداء- دخل إلى بيته يبكي، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: دخلت المسجد فرأيت الناس لا يقيمون صلاتهم على النحو الذي شاهدته في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم. ثانيًا: الخوف 539- ومن ثمرات الإيمان العميق ولوازمه الخوف من الله، فإنَّ رأس الحكمة مخافة الله، ومن عرف الله خافه، ومن خاف الله لم يخف أحدًا من الناس، وخافه الناس. وبيان ذلك أنَّ حقيقة الخوف عبارة عن تألم القلب بسبب توقع المؤلم في المستقبل، وسبب هذا الخوف العلم بالمفضي إلى وقوع هذا المؤلم في المستقبل، فالخوف من الله علم المسلم بما يفضي إليه عقابه، وهو عصيانه وعدم القيام بحقِّه -تبارك وتعالى، ويزداد هذا الخوف كلما فَقِه المسلم عِظَم الجناية في مخالفة الربِّ -تبارك وتعالى، وأنه -جلَّ جلاله- لو أهلك العالمين لم يمنعه من ذلك مانع. وأعظم ما يقوي جانب الخوف في العبد تدبر آيات الوعيد في القرآن، فإنها حق وصدق، لا مبالغة فيها ولا تخييل، وإنَّ العباد مجزيُّون على أعمالهم حتى الذرة من الخير أو الشر يعملونها، فإذا حصل عنده هذا الإيمان العميق بأثر الذنوب ودقة الحساب، وتفرُّد الله بالحكم يوم الحساب، ومجهولية الخاتمة، انبعثت في القلب الخشية من الربِّ -جل جلاله، وابتعد المسلم عن مفضيات

المكروه المؤلم، ثم لا تلبث هذه الخشية وحرقة الخوف أن تفيض من القلب على البدن، فلا يُرَى المؤمن إلّا وجلًا كالمصاب الحزين، لا يمزح ولا يهزل ولا يضحك إلّا تبسمًا، فإنَّ الحزين الخائف المشدوه لا يجد فرصة للهزل، وأن وجدها لا يستطيع ولا يقدر عليه، وللخوف أثره القطعي، فإنَّ من خاف من شيء هرب منه وابتعد عنه وأخذ الوقاية منه، ولهذا يفِرُّ من الأسد الهائج والنار المحرقة، والذنوب والمعاصي عقارب وحيات ومؤذيات ومحرقات لا بُدَّ أن يفِرَّ منها كل خائف من الله، ولا بد أن يغلبها بالطاعات. إنَّ الداعي المسلم إذا ما استشعر خوف الله انكفَّ وانزجر عن المخالفات، واندفع إلى ما يقي نفسه من المؤذيات والمؤلمات في الآخرة، وعلى رأس الوقاية تقوى الله، وفي مقدمة تقوى الله الجهاد في سبيل الله، ومنه الدعوة إليه، وازداد بخشيته من ربه هدى ورحمة، قال تعالى: {هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} فالهدى والرحمة للخائف لا للآمن. ثالثًا: الرجاء 540- ومن ثمرات الإيمان العميق الرجاء وعدم القنوط من رحمة الله، ذلك أنَّ الله تعالى وَعَد عبادة المؤمنين بما وعدهم به في كتابه المجيد، ومنعهم من القنوط، والشان في صاحب الإيمان العميق أن يؤمن بهذا الوعد الصادق من الربِّ القادر الرحيم، فيحمله هذا الرجاء على تحقيق أسبابه، وأسبابه هي طاعة الرب ومنها الدعوة إليه؛ لأنَّ حقيقة الرجاء ارتياح القلب لانتظار ما هو محبوب للنفس عند حصول أكثر أسبابه، فإن كان انتظاره مع فقد أسبابه كان حُمْقًا وغرورًا، فرجاء رحمة الله وتأييده ورضوانه يكون بتحصيل أسباب ذلك التي أخبرنا الرب بها، ووعد عليها الرحمة والتأييد والنصر والرضوان، فيندفع المسلم ذو الإيمان العميق إلى تحصيل هذه الأسباب جهد الإمكان بلا تسويف ولا تأخير، راجبًا من الله تعالى أن يوفقه إلى تصحيح هذه الأسباب، والاستمرار على تحصيلها وقبولها منه، إنَّ حالته حالة الذي نثر البذر في الأرض الخصبة الجيدة، وأوصل اليها الماء والسماد وظلَّ يتعهدها إلى وقت

الحصاد راجيًا الله تعالى أن يحفظ زرعه ويدفع عنه الآفة. والداعي المسلم في رجاءٍ دائم لا يقنط أبدًا؛ لأنه آمن بوعد الله للعالمين الداعين بالنصر والتأييد والثواب الجزيل، فهو مضمون النصر والتأييد من الرب الجليل.

المبحث الثالث: الاتصال الوثيق

المبحث الثالث: الاتصال الوثيق 541- معناه وآثاره: نريد بالاتصال الوثيق تعلُّق الداعي المسلم بربه، وتوكله عليه في جميع أموره؛ لتيقنه بأنَّ الله تعالى هو المنفرد بالخلق والتدبير والضرر والنفع والعطاء، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنَّ الله تعالى يكفي من يتوكل عليه ويفوّض الأمور إليه {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} ، لا سيما من يتوكَّل عليه في أمور الدعوة إلى الله، ونصره وإعلاء كلمته وجهاد أعدائه، قال تعالى حكاية عن موسى وهارون: {قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى، قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} ، وهذه المعيِّة النصر والتأييد غير مقصورة على أنبيائه ورسله المتوكلين عليه في تبليغ رسالاته، وإنما هي شاملة لعباده المتقين، لا سيما الدعاة منهم إلى دينه، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} . 542- وحالة الداعي المسلم في توكله على الله وصلته به يجب أن تكون كحالة الطفل مع أمه، لا يعرف غيرها، ولا يتعلق إلّا بها، ولا يفزع إلّا إليها، ولا يعتمد إلّا عليها، وإذا نابه شيء لم يهتف إلّا باسمها، ولكن هذه الحالة لا تعني ترك الأسباب وإنما تعني عدم التعلق بها والركون إليها؛ لأن التعلق يكون بمسبِّب الأسباب الله -جل جلاله- القوي العزيز. 543- ويزداد هذا الاتصال بالرب -جل جلاله- إذا استحضر الداعي المسلم ما يعلمه ويؤمن به يقينًا، وهو أنَّ الخلق لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم نفعًا ولا ضرًّا، وأن الأمور كلها بلا استثناء بيد الله القوي العزيز، فإذا استحضر الداعي هذه المعاني

في قلبه، فإنه سيزهد حتمًا في الاعتماد على أيّ مخلوق، ويتوجه بكليته إلى خالقه ومولاه وناصره {بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} ، {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} . ومع اعتماد الداعي على الله في جميع أموره فإنَّه يثق بربه ثقة كاملة بأنَّه يحفظه وينصره ويدفع عنه الشرور، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} ، {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} . 544- ولكن لا يجوز للداعي المسلم أن يحدِّد لله وقتًا لإنزال نصره وإعانته على أعدائه، ولا نوعًا معينًا أو كيفية معينة لهذا النصر أو العون، قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} ، وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية: "المراد بالنصر الانتصار لهم ممن آذاهم، وسواء كان ذلك بحضرتهم أو في غيبتهم أو بعد موتهم، كما فعل بقتلة يحيي وزكريا وشعيبًا: سلّط عليهم من أعدائهم من أهانهم وسفك دماءهم، فسلّط على اليهود الذين أرادوا قتل عيسى -عليه السلام، سلط عليهم الروم فأهانوهم وأذلّوهم وأظهرهم الله تعالى عليهم، وقال السدي: لم يبعث الله -عز وجلّ- رسولًا قط إلى قوم فيقتلونه، أو قومًا من المؤمنين يدعون إلى الحق فيقتلون، فيذهب ذلك القرن حتى يبعث الله -تبارك وتعالى- لهم من ينصرهم، فيطلب بدمائهم ممن فعل ذلك بهم في الدنيا، قال: فكانت الأنبياء والمؤمنون يقتلون في الدنيا وهم منصورون فيها، وهكذا رسوله، أمره بالهجرة ثم رجع إليها فاتحًا منتصرًا1. 454- وما دام الداعي المسلم ينصر الله، أي: ينصر دينه بالدعوة إليه، فإنَّ الله تعالى ناصره، قال -عز وجل: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيز} ، فعلى الداعي أن يتيقَّن ذلك ولا يشكّ فيه أبدًا، قال -صلى الله عليه وسلم- عند رجوعه من الطائف، وقد ردَّه أهلها أسوأ ردٍّ، وكان معه زيد، قال -عليه الصلاة والسلام لزيد: "إن الله جاعل لما ترى فرجًا ومخرجًا، وأن الله تعالى ناصر دينه ومظهر نبيه" 2، الداعي لا

_ 1 تفسير ابن كثير ج4، ص83، وقد ذكر القرطبي في تفسير هذه الآية قريبًا مما ذكره ابن كثير تفسير القرطبي ج15، ص322. 2 إمتاع الأسماع ص28.

ييأس أبدًا؛ لأنَّ اليأس حرام أن يتسرَّب القلب الموصول بالله، وإنما يدخل قلوب الكافرين المنقطعة صلتهم بالله، قال عز من قائل: {وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} . 546- إن هذا الاتصال بالرب -جلَّ جلاله- ضروري جدًّا للداعي المسلم، فيه تهون عليه الصعاب، وتخف الآلام، وتنتزع من قلبه الخشية من الناس {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} ، ويحسّ بعزة الإيمان؛ لأنه موصول بالقوي العزيز {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} ، فلا يعْظُم في عينه باطل ولا مبطل؛ لأنَّ الباطل وأهله من التافه الحقير، فلا يمكن أن يعظم في أعين المؤمنين.

الفصل الثالث: أخلاق الداعي

الفصل الثالث: أخلاق الداعي أخلاق الداعي هي أخلاق الإسلام: 547- أخلاق الداعي المسلم هي أخلاق الإسلام التي بَيَّنَها الله تعالى في قرآنه، وفصلها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سنته، وانصبغ بها صحابته الكرام في سلوكهم، وهي لازمة لكلِّ مسلم، وما عليه إلّا أن يعرض نفسه عليها؛ ليزن نفسه في ميزانه، ليعلم ما عنده منها، وما لم يصل إليه بعد منها، وقد ذكرنا جملة من هذه الأخلاق في فصل سابق، فارجع إليه إن شئت، ونريد هنا أن نذكر بعض تلك الأخلاق الإسلامية التي لها صلة وثيقة بعمل الداعي، ويحتاج إليها حاجة ملحة تبلغ حَدَّ الضرورة إذا أراد النجاح في عمله الطيب المبرور. أولًا: الصدق 548- في كتاب الله تعالى آيات كثيرة تتحدث عن الصدق وفضليته، وتأمر المؤمنين بأن يكونوا مع الصادقين {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} 1، وأنَّه في يوم القيامة ينفع العبد وينجيه من سخط الله، ويؤدي به إلى الجنان {هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} 2. وحقيقة الصدق حصول الشيء وتمامه وكمال قوته واجتماع أجزائه، هكذا قال ابن

_ 1 سورة التوبة، الآية: 119. 2 سورة المائدة، الآية: 119.

قيم الجوزية في مدارجه، ويكون في القصد والقول والعمل، ومعناه في القصد: كمال العزم وقوة الإرادة على السير إلى الله وتجاوز العوائق، ويكون ذلك بالمبادرة إلى أداء ما افتراضه الله عليه، وفي مقدمته الجهاد في سبيله، ومنه: الدعوة إلى الله، والصدود عن كل معوّق أو مثبِّط، والانصراف عنهم والنفرة منهم؛ لأنهم أناس في غفلة يعيشون، ولا يعلمون إلّا ظاهرًا من الحياة الدنيا، ذلك مبلغهم من العلم، وهو في حقيقته الجهالة والهوى. والحقيقة أنَّ قلب الصادق شديد الحساسية لا يحتمل هؤلاء المثبطين، ولهذا فهو يضيق بهم، ولا يستطيع مجاورتهم ولا مصاحبتهم ولا مجالستهم، إنَّه ينشرح صدره ويهِشُّ لمن يشوقه إلى الإسراع في سيره إلى الله والدعوة إليه، أمَّا صدق القول فمعناه: نطق اللسان بالحق والصواب فلا ينطق بالباطل، أيّ باطلٍ كان، ويكون الصدق في الأعمال بأن تكون وفق المناهج الشرعية والمتابعة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم، وإذا ما تحقَّق للمسلم الصدق في القول والقصد والعمل أدَّى به ذلك إلى درجةٍ أخرى في الصديقية، وهي التي أمر الله عباده المؤمنين بطلبها، موجِّهًا -جلَّ جلاله- الخطاب إلى رسوله الكريم -صلى الله عليه وسلم: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} ومعنى مدخل الصدق ومخرجه أن يكون دخول المسلم في أي شيء، ومباشرته لأيِّ عمل، وخروجه منه وتركه له بالله ولله، بمعنى أنَّ أفعاله وتروكه موصولة بالله وموصولة إليه، مستعينًا على أدائها بالله، ومقصوده مرضاة الله، فغايته هي الله وحده {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، فإذا بلغ المسلم هذه الدرجة من الصديقية لم يعد في نظره غرض مقبول لرغبته في الحياة إلّا إذا كان بقاؤه فيها وسيلة لمرضاة الله، فإذا فاته هذا الغرض أو لم يستطعه رَغِب عن الحياة وأحبَّ الموت. روي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنَّه قال: "لولا ثلاث لما أحببت البقاء، لولا أن أحمل جياد الخيل في سبيل الله، ومكابدة الليل، ومجالسة أقوام ينتقون أطايب الكلام كما ينتقى أطايب التمر، ويريد الإمام عمر بهذه الثلاث التي ذكرها: الجهاد والصلاة والعلم النافع، وكلها ترضي الرب -عز وجل"1.

_ 1 مدارج السالكين ج2، ص281، 282.

549- والداعي المسلم الصادق يظهر أثر صدقه في وجهه وصوته، فقد كان -صلى الله عليه وسلم- يتحدث إلى من لا يعرفونه، فيقولون: والله ما هو بوجه كذَّاب ولا صوت كذاب1، ولا شكَّ أن ظهور أثر الصدق في وجه الداعي وصوته يؤثر في المخاطب، ويحمله ذلك على قبول قوله واحترامه، إلّا إذا كان عمى القلب قد بلغ منه مبلغًا عظيمًا، ومهما يكن من أمر فإنَّ الصدق والنفاق أساسه الكذب، فكيف يمكن أن يكون الداعي كذابًا؟ والكذي يهدي إلى الفجور كما قال الرسول -صلى الله عليه وسلم، فكيف يمكن أن يكون الفاجر داعيًا إلى الله؟ ثانيًا: الصبر 550- الصبر من فروض الإسلام وهو نصف الإيمان، وذكره القرآن الكريم في أكثر من ثمانين موضعًا أمر به {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} ، ونهيًا عن ضده {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} ، ومحبة لأهله {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِين} ، ومعيته تعالى لهم {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِين} ، وعاقبته خير {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُم} ، وجزاؤه عظيم {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} ، وأهل الصبر هم المنتفعون بالآيات والعظات {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} ، وهو سبب لدخول الجنان {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} ، وبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} ، هذا بعض ما في القرآن الكريم عن الصبر، وفي السنة النبوية أحاديث كثيرة في الصبر، منها: "ما أعطي أحد عطاء خيرًا له أوسع من الصبر"، "عجبًا لأمر المؤمن، إنَّ أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا اللمؤمن، إن أصابته سرَّاء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له". 551- والصبر لغة: الحبس والكف، وشرعًا: هو على ثلاثة أنواع: صبر على طاعة الله، وصبر على معصية الله، وصبر على المصائب والبلاء. أمَّا الصبر على طاعة الله فيكون بالمحافظة عليها دومًا، والإخلاص فيها ووقوعها

_ 1 تذكرة الدعاة للبهي الخولي.

على مقتضى الشرع، ومما يعين على تحصيله المعرفة بالله وحقه على العباد، وحسن الجزاء للمطيعين، وأمَّا الصبر عن المعصية فيكون بهجر السيئات والفرار من المعاصي، والدوام على هذا الفرار، وذلك الهجر مما يعين على تحصيل هذا الصبر واستحضار الخوف من عذاب الله، وأعلى من هذا استحضار الحياء من الله والمحبَّة له، مع استحضار ثمرة هذا الصبر وهي إبقاء الإيمان وتقويته وإنماؤه؛ لأن المعصية تنقص الإيمان أو تضعفه أو تكدره أو تذهب نوره وبهاءه. أما الصبر على البلاء والمصائب فيكون بترك التسخُّط واحتمال المؤلم المكروه، وترك الشكوى للناس، فإن الصبر الجميل ينافيه الشكوى للمخلوق، أمَّا الشكوى لله فلا ينافيه، قال تعالى عن يعقوب -عليه السلام: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} ، وقال عن أيوب: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} ، مع قوله تعالى عنه في آية آخرى: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} ، ومما يستدعي هذا الصبر استحضار نعم الله التي لا تُعَدّ ولا تحصى، فتهون على المصاب مصيبته، ويقل وقعها على نفسه، ويكون مثله مثل من يعطي ألف دينار ويفقد فلسًا واحدًا، ومما يعين أيضًا على الصبر على البلاء تذكر الجزاء العظيم للصابرين. الصبر بالله ولله: 552- والصبر بأنواعه إنما هو بالله، بمعنى: إنَّ المسلم يؤمن بأنَّ صبره إنما يكون بعون الله، فالله هو المصبِّر له، قال تعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} ، وصبر المسلم لله، أي: إنَّ المسلم يصبر طاعةً ومرضاة له، فالباعث على صبره محبة الله وطلب مرضاته، وهذا النوع من الصبر وهو يشمل الصبر على الطاعة وعن المعصية أكمل من الصبر على الابتلاء؛ لأنَّ في الأول اختيارًا وإيثارًا ومحبة، أمَّا الثاني فهو صبر ضرورة ولا اختيار للصابر. حاجة الإنسان إلى الصبر: 553- الصبر من الصفات اللازمة لكلِّ إنسان؛ إذ بدونه لا يستطيع بلوغ ما يريد؛ لأنَّ المراد لا ينال غالبًا إلّا بتحمُّل المكاره وحبس النفس عيها، وهذا مطَّرد في جميع أمور الحياة، فالطالب يحبس نفسه على المذاكرة والدرس وكفّ نفسه عمَّا تهواه

من لذةٍ وراحةٍ حتى يستوعب الدروس لينجح في الامتحان، وكذلك التاجر، وكذلك أيّ صاحب غرض يريد نواله، وما يقال عن الأفراد يقال عن الأمم، فالأمة التي تريد بلوغ ما تصبوا إليه تحتاج إلى صبر عظيم وتحمّل للمشاق، والانتصار في الحروب يكون بجانب الذي يملك أسبابه، ومن أعظم أسبابه الصبر، فالصبر إذَن ضروري لكل إنسان في الحياة، وإلّا صار هشًّا سريع الانكسار أمام الأحداث، وما أكثرها في الحياة، فإنها مملوءة بالمنغَّصَات والمشقَّات والصعاب والمؤلفات، فإذا لم يقابلها بشيء من الصبر انكسر وتفتَّتَ وتمزَّقت شخصيته في دروب الحياة، فتسحقه الأقدام وتلقيه بعيدًا عن طريق المارِّين. 554- وإذا كان الصبر لأيِّ إنسانٍ من لوازم بقائه وسيره في الحياة وبلوغ ما يريد، فإنَّ الصبر أشدَّ ضرورة للمسلم من غيره؛ لأنَّ المسلم مطلوب منه أن يحبس نفسه ويكفّها عن المعصية، وفي المعاصي لذة للنفس يصعب عليها فراقها، فيحتاج إلى قدر كبير من ضبط النفس ومن الإرادة القوية التي تكفّ النفس وتمنعها من مقارفة الخطئية. ومطلوب من المسلم أيضًا فعل الطاعات، وهذا يقتضيه أن يحبس نفسه عليها، وهو الصبر على الطاعة، وهو مطالب أيضًا بأن يصبر على المقدَّر ولا يجزع لئلَّا يتحمَّل إثمًا ووزرًا، بالإضافة إلى ضياع الأجر والثواب. ضرورة الصبر على المسلم: 555- وإذا كان الصبر ضروريًّا لأيِّ إنسان، لا سيما للمسلم، فإنَّ الصبر للداعي المسلم أشدّ ضرورة له من غيره؛ لأنَّه يعمل في ميدانين: ميدان نفسه؛ يجاهدها ويحملها على الطاعة ويمنعها من المعصية، وميدان خارج نفسه، وهو ميدان الدعوة إلى الله، ومخاطبة الناس في موضوعها، فيحتاج إلى قَدْر كبير من الصبر في المجالين: مجال النفس ومجال الدعوة، حتى يستطيع تجاوز العقبات وتحمُّل الأذى، فإن فقد الصبر قعد أو انسحب من الميدان، وحق عليه الحساب، وفاته الثواب. 556- الابتلاء لا بُدَّ منه: والابتلاء لا بُدَّ منه، فلا بُدَّ من الصبر لاجتياز الامتحان بنجاح، قال تعالى:

{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} ، وقال تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} ، قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} ، فالإبتلاء من سُنَّة الله في الحياة، يبتلي عباده بمن يشاء ومتى يشاء وكيف يشاء؛ ليظهر ما في نفوسهم من إيمان ونفاق، وهذا الابتلاء يكون بأشياء كثيرة على رأسها التكاليف الشرعية، فهي ابتلاء وامتحان، وقد يكون في تزاحم محبوبات الرب مع محبوبات النفس، فإذا آثر محبوبات الله -عز وجل- على محبوبات النفس اجتاز هذا الامتحان، وإلّا رسب وفشل، وقد يكون الابتلاء في المصائب والآلام التي يصاب بها كالمرض وفقد الأعِزَّة وتلف الأموال، فإذا صبر وسلَّم واسترجع ولم يجزع أثابه الله ثواب الصابرين، وكان في هذا الامتحان من الناجحين، وإلّا كان من الخاسرين. ابتلاء الدعاة إلى الله: 557- وإذا كان الابتلاء مما قضت به سُنَّة الله في الحياة، فإنَّ ابتلاء الدعاة إلى الله مما جرت به السُّنَّة الإلهية أيضًا، فهم يبلتون بأذى الكفرة والمارقين بالقول والكيد واليد، قال تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} 1، وقال تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ، وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} 2. وقال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} ، ومعنى يسخفَّنَّك3: يحملونك على الخِفَّة والطيش بعدم الصبر، والدعاة إلى الله

_ 1 سورة الأنعام، الآية: 34. 2 سورة الحجر، الآيات: 97-99. 3 تفسير ابن كثير ج3، ص70.

يكيد لهم أهل الباطل، ويفترون عليهم الكذب، ويؤذونهم بأنواع الأذى؛ لأنهم قوم يجهلون وضالون، وقد أوذي أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- في مكة أشدّ الأذى، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأمرهم بالصبر: "صبرًا آل ياسر إن موعدكم الجنة"، فعلى الداعي المسلم أن يقابل الأذى الذي يلقاه بالصبر الجميل، كما فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام، ومن قبلهم رسل الله، فإنَّ هذا الصبر مما ينعقد عليه عزم المؤمنين وتتوجَّه إليه إرادتهم {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} ، وقال تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} . استدعاء البلاء ودفعه: 558- وإذا كان البلاء والابتلاء مما يصيب الدعاة إلى الله، وبهذا جرت سنة الله، فهل معنى ذلك أنَّ على الداعي المسلم أن يستدعي البلاء ويعمل على وقوعه، ولا يجوز له دفعه؟ في المسألة تفسير وتوضيح؛ لأنَّ هذه المسألة مما يقع فيها الاشتباه والخلط بسبب سوء الفهم، لا بسبب سوء النية والقصد، ولتوضيح هذه المسألة أذكر ما يأتي: أولًا: المطلوب من الدَّاعي المسلم أن يدعو الله على بصيرة بالوسائل والكيفيات المشروعة التي بيّنَها القرآن الكريم وطبَّقها الرسول -صلى الله عليه وسلم، فإذا أدَّت هذه الوسائل إلى أذى يصيب الداعي، فعليه أن يتقلبه بالصبر لا بالجزع، وبالثبات لا بالفرار. ثانيًا: إذا كان للداعي المسلم مندوحة من الأذى، أي: يستطيع أن يتوقاه ولا يجب عليه أن يقابله، فله أو عليه أن يتوقاه حسب الظروف والأحوال، فقد يباح له الابتعاد عنه وعدم مباشرة ما يستدعيه، وقد يجب عليه الابتعاد وعدم مباشرة ما يستدعيه؛ لأن الابتلاء صعب على النفس، فلا يجوز الحرص عليه ولا الرغبة فيه؛ لأن فيه فتنة مجهولة العاقبة، وقد يحس المسلم من نفسه القدرة على الثبات، ومن ثَمَّ لا يبالي بالابتلاء، بل ربما رغب فيه إمَّا طمعًا بثواب الله، وإمَّا لتدخل وسوسة الشيطان؛ ليقال عنه: ما أثبته وما أصبره على البلاء، فإذا نزل البلاء ضعف عن الاحتمال ووقع في

الافتتان، ورسب في الامتحان، كما روي عن أحدهم أنه قال: يا رب امتحني بما شئت، فأنا راضٍ بقدرك، صابر على ابتلائك، فابتلاه الله باحتباس البول، فأخذ يصيح ويولول ويطوف على الأولاد ويقول لهم: ارموا عمَّكم الكذاب بالحجارة. ثالثًا: لا ينبغي للمسلم أن يتعرَّض لما لا يطيقه من البلاء فيرسب في الامتحان، جاء في الحديث الشريف: "لا ينبغي للمؤمن أن يذلّ نفسه"، قالوا: وكيف يذل نفسه يا رسول الله؟ قال: "يتحمَّل من البلاء ما لا يطيق" 1. رابعًا: من الأدعية المأثورة أن يسأل المسلم ربَّه العفو والعافية، والعافية يدخل فيها المعافاة من الابتلاء والمؤذيات، وهذا يدل على أنَّ التخلص والخلاص من أذى أهل الباطل ممدوح ومحمود غير مذموم. خامسًا: وفي وصيته -عليه الصلاة والسلام- لأسامة بن زيد وقد جعله أميرًا على الجيش لغزو الروم قبل وفاته -عليه الصلاة والسلام- بأيام، قال له: "ولا تمنَّوا لقاء العدو، فإنكم لا تدرون لعلكم تبتلون بهم، ولكن قولوا: اللهمَّ اكفناهم وأكفف بأسهم" 2. وقال ربنا -سبحانه وتعالى- في القرآن الكريم: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} ، وهذا يشعر بأنَّ عدم احتياج المؤمنين للقتال لكفاية الله تعالى يُعْتَبر من نعمة الله على المؤمنين، والقتال فيه أذى ونصب وألم، فلو كان تعريض المسلم نفسه للابتلاء والأذى مطلوبًا لذاته لما كان عدم الاحتياج إليه مما يمنّ الله به على المؤمنين. سادسًا: إيذاء أهل الباطل للمؤمنين غير مطلوب قطعًا، بل هو من سيئات أهل الباطل؛ لأنه إيذاء لأهل الحق، فكيف يسوغ تسليم المسلم نفسه للمبطل يؤذيه ويهينه ويذله؟ ألا يكون في هذا التسليم إعانة على وقوع ما يسخط الله تعالى، وإلقاءً للنفس في التهلكة والمهانة والذلة؟ وكل هذا لا يجوز. سابعًا: أَذِنَ الله للمكرَه أن يقول كلمة الكفر تخليصًا لنفسه من الأذى والتلف، وهذا يدل على إباحة دفع الأذى، وأنَّ للمسلم أن لا يساعد على وقوعه عليه.

_ 1 إمتاع الأسماع، ص38. 2 سيرة بن هشام، ص330.

ثامنًا: عند انسحاب خالد بن الوليد بمن معه من جند المسلمين في معركة مؤتة ودخولهم المدينة المنورة، جعل الناس يحثون على الجيش التراب ويقولون: يا فرار، فررتم في سبيل الله، فيقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ليسوا بالفرار ولكنَّهم الكرار إن شاء الله تعالى"، وجه الدلالة في هذا الخبر أنَّ خالد بن الوليد ومن معه من المسلمين انسحبوا من ملاقاة العدوة تخلصًا من الأذى والضرر، فعابهم المسلمون في المدينة ووصفوهم بالفرَّار، ولكن سيد العارفين نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- نظر إلى غير ما ينظرون، ورأى في انسحابهم الناجح نوعًا من النصر لتخلُّصهم من القتل ومن أذى المشركين واحتمال أسرهم، وأن انسحابهم كتحوّل الجند في ساحة المعركة من جهة أخرى، فدلَّ ذلك على أنَّ دفع البلاء أمر مطلوب إذا أمكن المسلم دفعه، وأن تسليم المسلم نفسه للأذى والضرر حيث يمكنه الخلاص ليس بالأمر الممدوح، بل ولا المشروع. تاسعًا: هاجر المسلمون من مكّة إلى الحبشة فرارًا بدينهم وتخلصًا من أذى قريش، فدلَّ ذلك على جواز دفع البلاء والأذى، وعدم الاستسلام له بحجة تحمُّل الأذى في سبيل الله؛ لأن نفس المسلم ليست ملكه، وإنما هي ملك الله، فلا يجوز إتلافها بلا فائدة تعود إلى الإسلام، وليس من الفائدة أن يقول الناس: ما أثبت هذا الداعي وأجرأه على تحمُّل الأذى في سبيل الله، بل قد يكون تحمُّل الأذى بهذا الدافع ولهذا الغرض رياءً وطلبًا للسمعة والجاه عند الناس، وهذا لا يجوز. عاشرًا: إنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم ير بأسًا من عون عمه أبي طالب -وكان على دين قومه- في دفع ما يستطيعه من أذى قريش عنه، ولما ماتت خديجة وعمه في عام واحد سمَّاه "عام الحزن"، وقال: "ما نالت قريش مني شيئًا أكرهه حتى مات أبو طالب"؛ لأنه لم يكن في عشيرته وأعمامه حامٍ له، ولا ذابّ عنه غيره1. وعندما رجع -عليه الصلاة والسلام- من الطائف، وانتهى إلى حراء، بعث رجلًا من خزاعة إلى المطعم بن عدي ليجيره حتى يبلِّغ رسالة ربه فأجاره، ودخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكة فأقام بها، وجعل يدعو إلى الله2.

_ 1 إمتاع الأسماع، ص18. 2 إمتاع الأسماع، ص28.

وجه الدلالة في هذه الآثار أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رضي بحماية عمِّه أبي طالب له، ودفعه الأذى عنه، وكذلك دخوله -عليه الصلاة والسلام- بجوار المطعم، فدلَّ ذلك على جواز دفع البلاء والأذى عن الداعي ولو عن طريق حماية المشرك، وعدم استحباب تسليم المسلم نفسه لأهل الباطل، وكذلك فعل أصحاب رسول الله الذين هاجروا إلى الحبشة، فعندما رجعوا إلى مكة "لم يدخل منهم أحد إلّا بجوار أو متخفيًا"1، ويجب أن يعلم هنا أن الداعي المسلم في رغبته وسعيه لدفع الأذى عن نفسه إنما يقصد التمكين وإيجاد الجو المناسب لدعوته إلى الله، ويوضِّح ذلك ما جاء في السيرة أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يخرج إلى القبائل أيام الموسم ويدعوها إلى الإسلام ويقول: "من رجل يحملني إلى قومه فيمنعني حتى أبلغ رسالة ربي، فإنَّ قريشًا قد منعوني أن أبلِّغ رسالة ربي" 2. خلاصة القول في استدعاء البلاء ودفعه: 559- ومن هذا العرض الذي قدمته، والنصوص التي ذكرتها من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، والسوابق القديمة في سيرة النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه الكرام وهم أفقه المسلمين بشريعة الإسلام، يتبيِّن لنا بكل وضوح ما يأتي: أولًا: الأذى أو الضرر الذي يلحق الداعي المسلم هو بمنزلة الأمراض والمصائب التي تنزل على الإنسان، فكما أنه لا يحبها ولا يرغب فيها ولا يريد إيقاعها على نفسه، ولا يقدح ذلك في إيمانه، فكذلك لا يقدح في إيمانه عدم محبته ولا رغبته في وقوع أذى أهل الباطل عليه، وعدم استدعاء الضرر على نفسه. ثانيًا: إن احتمال وقوع الأذى والضرر به لا يقعد به عن دعوته إلى الله، ولكن الداعي لا يستدعي الأذى لنفسه، بل يعمل على عدم وقوعه، وإذا وقع عَملَ على دفعه بكل وسيلة مشروعة في ضوء ما جاء في القرآن والسنة. ثالثًا: إذا وقع الضرر والأذى على الداعي المسلم بالرغم من التزامه بالسير المشروع

_ 1 سيرة ابن هشام ج1، ص388. 2 إمتاع الأسماع، ص31.

في الدعوة إلى الله، فعليه أن يستعين بالله ويصبر الصبر الجميل، وليعلم أنَّ الأمور كلها بيد الله تعالى، وأنّ ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه لا حول ولا قوة إلا بالله. ثالثًا: الرحمة 560- من أخلاق الداعي الضرورية: الرحمة، وقبل أن أبيِّنَ أهميتها للداعي أذكر ما ورد في السنة النبوية1. قال -صلى الله عليه وسلم: "لا يُرْحَم من لا يَرْحَم الناس"، "لا تنزع الرحمة إلّا من شقي"، "الراحموان يرحمهم الله تعالى، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء"، قَبَّل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحسن بن علي -رضي الله عنهما- وعنده الأقرع بن حابس، فقال الأقرع: إنَّ لي عشرة من الولد ما قَبَّلت منهم أحدًا، فنظر إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم قال: "من لا يَرْحَم لا يُرْحَم"، "دخلت امرأة النار في هرة ربطتها، فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض". 561- ومن صفات وأخلاق المصطفى -صلى الله عليه وسلم- رحمته وشفقته على أمته، قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} ، ومن شفقته -صلى الله عليه وسلم- دلالته على ما يبعدهم عن النار، وقد مثَّل ذلك بمثل بليغ، قال -صلى الله عليه وسلم: "إنما مثلي ومثل أمتي كمثل رجل استوقد نارًا، فجعلت الدواب والفراش يقعن فيه، فأنا آخذ بحجزكم وأنتم تقتحمون فيه" 2. ضرورة الرحمة للداعي: 562- إنَّ الداعي لا بُدَّ أن يكون ذا قلب ينبض بالرحمة والشفقة على الناس، وإرادة الخير لهم والنصح لهم، ومن شفقته عليهم دعوتهم إلى الإسلام؛ لأن في هذه الدعوة نجاتهم من النار وفوزهم برضوان الله تعالى. إنَّه يجب لهم ما يحب لنفسه، وأعظم ما يحبه لنفسه الإيمان والهدى، فهو يحب ذلك إليهم أيضًا. إنَّ الوالد من شفقته على أولاده يحرص على إبعادهم عن الهلكة، ويتعب نفسه في سبيل ذلك، وأيَّة هلكة أعظم

_ 1 تيسير الوصول ج2، ص12-16. 2 رواه الإمام مسلم في صحيحه ج5، ص911. الحجز جمع حجزة، وهي معقد الإزرار والسراويل، والتقحم: الوقوع في الأمور الشاقة من غير تثبيت.

من الضلال والتمرد على الله؟ والداعي بدعوته إنما يسعى لتخليص المتمرِّدين العصاة من الهلاك والخسران المبين. إنَّ الداعي الرحيم لا يكف عن دعوته ولا يسأم من الرد والإعراض؛ لأنه يعلم خطورة عاقبة المعرضين العصاة، وأنَّ إعراضهم بسبب جهلهم، فهو لا ينفكّ عن إقناعهم وإرشادهم، وقد ذكرنا في شفقة رسول -صلى الله عليه وسلم- المثل الذي ضربه لنفسه الكريمة مع أمته، وهكذا كان الأنبياء رحماء بمن أرسلوا إليهم، مشفقون عليهم من العذاب، قال تعالى حكايةً عن نوح -عليه السلام: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} 1، فقوله -عليه السلام {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} لا يصدر إلّا عن قلب رحيم، وشفقة ظاهرة عليهم، وكذلك قوله -عليه السلام- وقد رموه بالضلالة {قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ، أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} 2، فجواب نوح -عليه السلام- مشحون بالرحمة والشفقة عليهم واللطف في مخاطبتهم، ولم يغضبه كلامهم؛ لأنهم قوم يجهلون؛ ولأن الداعي الرحيم لا يغضب لنفسه قط، وهكذا كان خُلُقُ رسولنا محمد -صلى الله عليه وسلم، فما كان يغضب لنفسه، وإنما يغضب إذا انتهكت حرمات الله، ثم في جواب نوح أنَّه ينصح لهم، أي: يُخْلِص في القول النافع المفيد لهم، بالرغم من قولهم الباطل فيه، ويبيِّن لهم أنه رسول من رب العالمين؛ ليعلموا أن ما يخبرهم به هو الحق الصريح الواجب قبوله، وفي قبوله رحمة بهم، دليل على ما كان في قلبه -عليه السلام- من عظيم الرحمة بقومه. الرحمة تهوّن على الداعي ما يلقاه من الجهلاء: 563- والرحمة تهوّن على الداعي ما يلقاه من أصحاب الغفلة والجهالة؛ لأنه ينظر اليهم من مستوى عالٍ رفيع أوصله إليه إيمانُه وصلته بربه، ولذا فهو ينظر إليهم

_ 1 سورة الأعراف، الآية: 59. 2 سورة الأعراف، الآيات: 61-63.

كصغار يعبثون، والشأن في الصغار الأطفال والجهل وعدم إدراك ما ينفعهم، ولذلك لا يعجب الداعي من مقابلة نصحه بالإعراض والصدود والأذي، كما يفعل الطفل إذا نصحته أو أبعدته مثلًا عن مسِّ النار أو الشيء المؤذي، فإنه يصيح ويغضب وربما آذاك. إنَّ الداعي لا يعجب من صدودهم كما قلت، ولذلك فهو يعيد الكَرَّة معهم، ويتحمَّل أذاهم ويدعو لهم بالهداية، وهكذا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يكرِّر دعوته إلى قريش ويتحمَّل أذاهم، ويقول: "اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون". إنَّ الإنسان ذا القلب الرحيم لا يستكثر على الصغير أن يصدر منه الصدود عن الناصح والأذى له؛ لأنه جاهل، ومن ثَمَّ يشفق عليه ذو القلب الرحيم، ولا يؤاخذه على إساءته إليه، قال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} . الرحمة تثمر العفو الصفح: 654- وما دام الداعي المسلم ينظر إلى من يدعوهم نظرة الرحمة والشفة عليهم، فإنه يعفو ويصفح عنهم في حقّ نفسه، قال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} ، وإذا كان هذا هو شأن الداعي المسلم بالنّسبة لمن يدعوهم ويحتمل صدور الأذى منهم، فإنَّ عفو الداعي وصفحه عن أصحابه أوسع، قال تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} . الفظاظة تؤدي إلى انفضاض الناس: 565- والداعي المحروم من الرحمة الغليظ القلب لا ينجح في عمله، ولا يُقْبِلُ الناس عليه وإن كان ما يقوله حقًّا وصدقًا. هذه هي طبيعة الناس ينفرون من الغيظ الخشن القاسي ولا يقبلون قوله؛ لأن قبول قول الناصح يستلزم إقبال قلب المنصوح إليه، ولا يحصل هذا الإقبال مع خشونة الطبع وغلظة القلب، قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} ، فإذا كان هذا يمكن أن يقع بالنسبة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم، لو حصل ما ذكرته الآية الكريمة. والرسول لا ينطق إلّا بالحق، ومؤيَّد بالحق، فكيف يمكن تصور تخلف الانفضاض عن الداعي إذا كان فظًّا غليظ القلب؟ فليتق ربهم الدعاة إلى الله، وليتكلَّفوا الرحمة والرفق إن لم يكونوا رحماء حتى

يكتسبوها ويألفوها، ولا يكونوا منفردين عن الإسلام بسوء أخلاقهم وغلظة قلوبهم وخشونة طبعهم وبذاءة كلامهم، فإن عجزوا عن اكتساب الرَّحْمة وحمل نفوسهم على أخلاق الإسلام فمنَ الخير لهم وللدعوة ترك الدعوة والانصراف إلى علاج نفوسهم. رابعًا: التواضع التكبُّر حماقة وجهل: 566- التكبُّر حماقة وجهل ودليل قاطع على جهل المتكبر بربه وبنفسه، فلو عرف ربَّه لعَلِمَ أنَّ الكبرياء لله وحده، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: قال الله -عز وجل: "العز إزاري والكبراء ردائي، فمن ينازعني في واحد منهما فقد عذبته" 1، ولو عرف المتكبر نفسه، وأنَّ أوله نطفة قذرة، وآخره جيفة قذرة، لخجل من نفسه ووقف عند حده، قال محمد بن الحسين بن علي كما ذكر صاحب "الإحياء": ما دخل قلب امرئ شيء من التكبر قط إلّا نقص عن عقله بقدر ما دخل من ذلّ قلَّ أو كثر. جزاء المتكبرين: 567- من جزاء المتكبر حرمانه من الاتعاظ والانتفاع بآيات الله؛ لأن تكبره يمنعه من الانصياع للحق، فيطبع الله على قلبه ويصرفه عن آياته، ونتيجته الخيبة والفشل وسخط الله تعالى، ودخول جهنم داخرًا، وفقده ما يناله المتواضعون لربهم من نعيم الآخرة، وبهذه المعاني نطق القرآن والسنة النبوية، قال تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} ، {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} ، {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} ، {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} ، {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} ، {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} . وفي السنة النبوية قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لا يزال الرجل يذهب بنفسه حتى يكتب في الجبارين فيصيبه ما أصابهم"، ومعنى يذهب بنفسه يرتفع ويتكبَّر، وقال عليه

_ 1 رواه مسلم، رياض الصالحين للنووي، ص216.

الصلاة والسلام: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر"، "ألا أخبركم بأهل النار: كل عتلٍّ جوَّاظ مستكبر". النهي عن الكبر: 568- وما ذكرناه من نصوص كلها تتضمَّن النهي عن الكبر، وقد جاءت نصوص أخرى فيها النهي الصريح عن التكبُّر، منها قوله تعالى: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} . حقيقة الكبر: 569- جاء في الحديث الشريف الذي رواه مسلم في صحيحه: "الكبر بطر الحق وغمط الناس"، أي: رد الحق واحتقار الناس. فحقيقة الكبر استعظام المتكبر نفسه واستصغار قدر غيره، فيدفعه ذلك إلى رذائل ومهلكات. فالمتكبر يرد الحق ولا يقبله، ولا يذعن إليه، قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} ، ولا يعترف بخطئه ولا تقصيره ولا سوء عمله؛ لأنه معجب بنفسه، وفي الحديث الشريف: "ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوًى متَّبَع، وإعجاب المرء بنفسه". والمتكبِّر يحتقر الناس ولا يرى لهم قدرًا، ويستنكف أن يسألهم عمَّا يجهله، ولا يقبل تعليم من يعلمه، ولا يقبل نصيحة ناصح؛ لأنه لا يراه شيئًا، ويرى أنَّ على الناس أن يلهجوا بالثناء عليه، يأنف من مجالستهم ومحادثتهم، يرى أنه هو الناجي وهم الهلكى، إلى غير ذلك من آثار الكبر وأفعال المتكبرين. سبب الكبر: 570- وسبب الكبر عجب الإنسان بنفسه؛ لعلمه أو ماله أو جاهه أو حسبه أو نسبه أو سلطانه، وغير ذلك مما يدعو إلى الإعجاب بالنفس، ناسيًا هذا المعجب أن الله تعالى هو المُنْعِم بهذه الأشياء وأن لو شاء لسلبها منه، فيؤدي به هذا الإعجاب إلى استعظام نفسه، ورؤية قدره فوق أقدار الناس، فيحتقرهم ويزدريهم.

علاج الكبر: 571- وعلاج هذا الداء العضال الصعب -الكبر، واكتساب حقيقة التواضع، يكون بالمعرفة اليقينية: معرفة المتكبِّر لربه ولنفسه، فيعرف أنَّ الكبرياء هو لله وحده حصرًا، ولا يجوز مطلقًا لأي أنسان أن يسمح لذرَّة من الكبر أن تتسرب إلى قلبه، فإنها جرثومة خطرة فتَّاكة كثيرة التوالد، تطمس نور الإيمان وتكدِّر الأعمال وتحبطها، وأن يعرف المتكبِّر قدر نفسه، فهو نشأ من نطفة قذرة، ثم يصير جيفة قذرة، وأنَّ كل ما عنده من علم ومال وجاه وسلطان هو محض عطاء الله له، وأن لو شاء الله لسلبه ذلك كله، وأن ليس له من نفسه إلّا العدم، ثم يأتي المتكبر على أسباب إعجابه بنفسه ثم إلى تكبره سببًا سببًا فينقضه، فالعلم الذي عنده قليل جدًّا بالنسبة إلى ما يجهله {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} ، وهناك من هو أعلم منه {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} ، فلِمَ العجب والكبرياء؟ وأنَّ العلم الحقيقي هو الذي يثمر المعرفة بالربِّ -جل جلاله، ويحجز النفس عن الرذائل والحماقات مثل الكبر، ويروّضُها على الفضائل مثل التواضع. أمَّا العبادة التي يقوم بها المتكبِّر والتقوى والورع فلا تصلح سببًا للإعجاب بالنفس والإدلال بها على الله، والتكبُّر على الخلق. فما يدري هذا المسكين أنَّ عبادته مقبولة، وأنه من الصالحين عند الله، وخاتمته مجهولة، وتزكية النفس ممنوعة {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} ، والعبادة هي حق الله على العبد، ولا يحق للعبد أن يمُنّ بها على الله، ولا أن يتكبَّر على الغير لقيامه بما هو حقٌّ عليه، والله هو الذي مكَّنه منها وهداه إليها {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} ، وأي تقوى هذه التي لا تقي صاحبها من منازعة الله حقه الخالص في الكبرياء، ولا تعصم صاحبها من التمرغ في رذيلة أخرجت إبليس من ملكوت السماوات والأرض، وجعلته طريدًا معلونًا إلى يوم الدين، يوم امتنع من السجود لآدم تكبرًا منه عليه، وإعجابًا بنفسه؛ حيث قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْه} ، وهكذا القول في المال والسلطان والجاه وقوة الأنصار والأتباع والتعزز بالأحساب والأنساب، فكلها من الأباطيل وإيحاءات من الشيطان الرجيم. فالمال غاد ورائح، والسلطان لا يبقى فالأيام دول، والجاه مثله، وقوة الأنصار والأتباع لا تغني من الله شيئًا: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا} ، والتعزز بالأحساب والأنساب يعني تشبث وتعزز بعظام بالية إن بقيت العظام!! وما يغني

الآباء الصالحون عن الأبناء الصالحين {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ، قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ، قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} . التواضع: 572- وإذ قد بيَّنَّا الكبر وأسبابه وبعض عواقبه وآثاره، ظهرت لنا حقيقة التواضع، فهو ضد التكبُّر، وهو ثمرة المعرفة بالله وبالنفس، فلا يمكن أبدًا أن يتكبَّر ولا يتواضع إنسان عرف ربه وعرف قدر نفسه، وعلى هذا فإذا كان المتكبِّر جاهلًا بربه، فالمتواضع عارف بربه، وإذا كان المتكبر محتقرًا غيره يراهم كالذباب وكالعبيد، فإن المتواضع يفقه جيدًا قول أبي بكر الصديق -رضي الله عنه: "لا يحتقرَنَّ أحدٌ أحدًا من المسلمين، فإن صغير المسلمين عند الله كبير"، وإذا كان المتكبر يستنكف عن مجالسة الصالحين والفقراء والضعفاء بالرغم من أنَّ أحدهم يعدل ملء الأرض من أمثاله، فإن المتواضع يفقه جيدًا معنى قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} ، وقد قال المفسرون في أسباب نزولها: إنَّ قريشًا قالت للرسول -صلى الله عليه وسلم: إنَّا لا نرضى أن نكون أتباعًا لهؤلاء من ضعفاء المسلمين مثل صهيب وعمار وبلال وخبَّاب، فاطردهم عنك ولا تبقهم في مجلسك إذا دخلنا عليك، فإذا فرغنا وخرجنا فأدخلهم إن شئت، فأنزل تعالى هذه الآية، وأتبعها بآية عن أولئك المتكبرين المتعجرفين الذين طلبوا طرد الضعفاء من مجلس رسول الله، فقال تعالى عنهم: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} 1، ويفقه المتواضع جيدًا معنى قول الله تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ، وإذا كان المتكبر يجحد الحق ويرده ولا يذعن له، فإن المسلم المتواضع يفقه جيدًا معنى قول العارف المتواضع الفضيل بن عياض -رحمه الله تعالى- وقد سئل عن التواضع فقال: التواضع أن تخضع للحق وتنقاد له، ولو سمعته من أجهل الناس قبلته.

_ 1 شمائل الرسول -صلى الله عليه وسلم- لابن كثير، ص103، 104.

حاجة الداعي إلى التواضع: 573- والداعي إلى الله أحوج من غيره إلى خلق التواضع، فهو يخالِط الناس ويدعوهم إلى الحق وإلى أخلاق الإسلام، فكيف يكون عاريًا من التواضع وهو من ركائز أخلاق الإسلام؟ ثم إنَّ من طبيعة الناس التي جبلهم الله عليها أنَّهم لا يقبلون قول من يستطيل عليهم ويحتقرهم ويستصغرهم ويتكبَّر عليهم، وإن كان ما يقوله حقًّا وصدقًا، هكذا جُبِلَت طبائع الناس، فإنهم ينفرون عن المتكبِّر ويغلقون قلوبهم دون كلامه ووعظه وإرشاده، فلا يصل إليه من قوله شيء، بل قد يكون ذلك سببًا إلى كرههم الحق منه ومن غيره، فعلى الداعي أن يفقه هذا الأمر جيدًا، وليتق الله ربه ولا يكون سببًا لنفرة الناس من الدعوة إلى الله، ونزيد هنا شيئًا آخر له علاقة بالموضوع، وله أهميته البالغة، ذلك أنَّ من طبائع الناس أنَّهم لا يحبون من يكثِرُ الحديث عن نفسه، ويكثر الثناء عليها، ويكثر من قول: أنا أنا، ولهذا فعلى الداعي أن يحذر ذلك وأن لا يدَّعي شيئًا يدل على تعاليه، كأن ينسب إلى نفسه المزيد من العلم أو الفصاحة أو المعرفة، إنَّ على الداعي أن يعرف أن جميع ما عنده هو محض فضل الله عليه، فليتحدَّث إلى الناس وهو بهذا اليقين وبهذا الشعور يتحدث إليهم بفضل الله لا بفضل نفسه، فإذا عرف الناس منه ذلك فتحوا له قلوبهم، أو على الأقل لم يغلقوها دون كلامه، فيقع فيها من معانيه الطيبة النافعة ما يشاء الله وقوعه، والله المستعان. 574- ومن التواضع العظيم الذي قد يغفل عنه الداعي وهو مهم وضروري طاعة من أمره الشرع بطاعته، كالأمير ومن يتولى شئونه أو تعليمه، وأن لا يستنكف عن هذه الطاعة، ولا يحس منها بغضاضة، ولا يمنعه منها كِبْرٌ خفي في نفسه، فيرفضها ويستثقلها، أو يتهرب منها بتأويلاتٍ فاسدة، هي في حقيقتها من إيحاءات الشيطان، كأن يقول: هذا الأمير أو المعلم غير صالح ولا كفء أو صغيرًا، أو أنا أعلم منه وأكفأ، أو هذا المعلم لا يصلح للتعليم ونحو ذلك، وليتذكَّر جيدًا تأمير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسامة بن زيد وكان شابًّ على جيش كان فيه سادات المهاجرين والأنصار ومشايخهم وكبارهم، قال صاحب "إمتاع الأسماع" في هذه الحادثة: "ثم دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم، يوم الثلاثاء لثلاث بقين من صفر- أسامة بن زيد، قال: يا أسامة، سِرْ على اسم الله وبركته حتى

تنتهي ألى موت أبيك فأوطئهم الخيل، وقد وليتك هذا الجيش ... فلمَّا كان يوم الأربعاء ابتداء مرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فصدع وحُمَّ، وعقد يوم الخميس لأسامة لواءً بيده، وقال: "يا أسامة، اغز باسم الله في سبيل الله، فقاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغدروا، ولا تقتلوا وليدًا ولا امرأة، ولا تتمنَّوا لقاء العدو، فإنَّكم لا تدرون لعلكم تبتلون بهم، ولكنكم قولوا: اللهم اكفناهم واكفف بأسهم عنَّا، فإنَّ لقوكم قد أجلبوا وضجوا فعليكمم بالسكينة والصمت، ولا تنازعوا فتفشلوا فتذهب ريحكم، وقولوا: اللهمَّ إنا عبادك، نواصينا ونواصيهم بيدك، وإنما تغلبهم أنت، واعلموا أنَّ الجنة تحت البارقة" 1 ثم يذكر صاحب "إمتاع الأسماع" أنَّ بعض الناس تكلَّموا عن تأمير أسامة على الجيش باعتباره شابًّا لا خبرة له، وأنَّ هذا الجيش يضمّ المهاجرين والأنصار، وأن عمر بن الخطاب ردَّ على هذا الكلام على من تكلَّم به، وأخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بهذا الذي قاله البعض، وأنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غضب لذلك غضبًا شديدًا، وأنه -عليه الصلاة والسلام- خرج وقد عصب على رأسه عصابة، ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أما بعد، أيها الناس، فما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة؟ والله لئن قلتم في إمارته لقد قلتم في إمارة أبيه من قبله، وإنَّه لخليق للإمارة، وإن كان أبوه لخليقًا لها" 2، وقد ذكرت معظم ما ورد في قصة تأمير أسامة لما في هذا من دلالات وعِبَر وعظات وأحكام، وأخيرًا فإنَّ الداعي الفقيه يزداد تواضعًا لله تعالى كُلَّمَا وُفِّقَ في دعوته ونجح في مساعيه، ونصره الله على أعدائه. وهكذا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقد دخل مكة فاتحًا وهو منكِّس الرأس تواضعًا لربه، واعترافًا له بفضله. خامسًا: المخالطة والعزلة أيهما أفضل: المخالطة أم العزلة؟ 575- أيهما أفضل للمسلم: المخالطة مع الناس أم العزلة عنهم؟ قال بعضهم: العزلة أفضل، وقال أكثرهم: المخالطة أفضل، والصواب أن يقال: الأفضل للمسلم أحبهما إلى الله تعالى، فإذا كانت المخالطة أحب إلى الله بالنسبة لهذا المسلم نظرًا

_ 1 إمتاع الأسماع، ص536، 537. 2 سيرة ابن هشام ص257، 258، وإمتاع الأسماع، ص 537.

لظروف حاله ومكانه وزمانه، فهي أفضل في حقه، وإذا كانت العزلة بالنسبة إليه أحب إلى الله؛ لظروف حاله وزمانه، فالعزلة أفضل في حقه. المخالطة لا بُدَّ منها: 576- والمخالطة لا بُدَّ منها، فإنَّ الإنسان اجتماعيٌّ بطبعه، لا يستطيع العيش بمفرده، ولو استطاعه لكان أمرًا شاذًّا لا يستطيع جميع الناس متابعته عليه، هذا في أمور الدنيا وحوائجها، أمَّا بالنسبة لأمور الدين فكذلك الحال، فإنَّ من فرائض الإسلام ومستحباته ما لا يمكن تأديته إلّا بالمخالطة مع الناس وتعاونهم، مثل: صلاة الجمعة والعيدين وتشييع الجنائز وعيادة المرضى وتعلُّم أمور الدين وتعليمها، إلى غير ذلك من المطلوبات التي تسلتزم المخالطة. المخالطة واجبة على الداعي: 577- الدعوة إلى الله من وجائب الإسلام، ومن وسائلها مخالطة الناس، فتكون المخالطة واجبة؛ لأنَّ ما لا يؤدَّى الواجب إلّا به فهو واجب، والواقع أنَّ طبيعة الإسلام تقتضي المخالطة، فالإسلام ليس معنًى خاصًّا بالفرد، بل هو أيضًا عمل المسلم خارج نفسه، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- منذ أكرمه الله بالنبوة وأمره بالتبليغ، عاش مع الناس وخالطهم وغشي مجالسهم يدعوهم إلى الله، ويحذرهم مما هم فيه، وكذلك فعل أصحابه الكرام؛ خالطوا الناس وبثّوا فيهم ما تعلموه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الهدى والعلم والدين، وما روي عن بعض التابعين من استحباب العزلة وكراهية المخالطة فهو أمر يتعلّق بأحوال طارئة وظروف استثنائية، فليس ما ذكروه هو القاعدة التي يستهدي بها المسلمون من بعدهم؛ لأن وجوب الدعوة إلى الله أمر ثابت في الشرع، والمخالطة هي المقدِّمة إلى الدعوة، فلا يمكن التخلي عنها، بل إنَّ هذا الواجب أصبح أشد في زماننا من أيِّ زمان مضى؛ لما غشي البشر من غاشية رهيبة قاسية من المدنية الصمَّاء السوداء، التي حجبت عنهم أنوار الحق، وقطعت صلاتهم بالله -عز وجل، مما جعل لزامًا على كل مسلم أن يسهم في الدعوة إلى الله بقدر طاقته، وبأيِّ نوع من أنواع القدرة يستيطعه، وهذا يستلزم مخالطة الناس ليدعوهم إلى الله.

حدود المخالطة الواجبة: 578- والمخالطة الواجبة هي ما كانت ضروريَّة لأعمال الدعوة إلى الله تعالى، أو أداء فروض الإسلام الأخرى، فإذا خلت من هذا المقصود زالت عنها صفة الوجوب وصارت مباحة أو مكروهة أو حرامًا، فالمباحة كالمخالطة لغرض تحصيل مباح دنيوي، والمكروهة إذا فوَّتت على الداعي فائدة أخروية إذا حملته إثمًا، وعلى هذا فإنَّ المأمول من الداعي أن تكون مخالطته كلها بدافعٍ من الدعوة إلى الله، فإذا زار شخصًا أو تعارف معه أو صادقه أو رافقه أو آخاه، أو غشي مجلسًا، أو تكلم في جمع، فإنه يصدر عن رغبة في الدعوة إلى الله، أو بالإعداد والتهيئة لها. الحب في الله والبغض في الله: 579- والداعي في مخالطته يقيم علاقاته معهم على أساس الحب في الله والبغض في الله، والمقصود بهذه العبارة أنَّ المسلم لا يحب الشخص إلّا لطاعته لربه، ومسارعته إلى مرضاته، ولا يبغضه إلّا لعصيانه ومخالفته أمر ربه، وكلما اشتدت محبَّة المسلم لربِّه اشتدت محبته لأحباب الله، حتى تصير موالاة ونصرة وذَبًّا عنهم بالنفس والمال، وليس هذا الذي نقوله خيالًا أو مبالغة، فإنَّ مَنْ أحبَّ إنسانًا أحبَّ من يحبه محبوبه، ومن يحب محبوبه يقوم بخدمته ويثني عليه، فإذا كان هذا معروفًا بين الناس فالشأن أعظم في مسالة محبَّة المسلم لربه، وآثارها في محبة أحباب الله وأوليائه، وإذا اجتمع في الشخص طاعات وسيئات أحبه المسلم لطاعته وأبغضه لسيئاته. المختارون لصحبة الداعي: 580- وما دام الداعي يحب في الله ويبغض في الله، فمن البدهي أنه يختار لصحبته ورفقته وأخوته، المطيعين لله القائمين بحق العبودية لله، فهم نِعْمَ الرفيق له، ونعم الإخوة له، يشتدُّ ارتباطه بهم، ويعتزُّ بهم، ويحافظ على أخوتهم، ويرفض مصاحبة ومواددة العصاة والفُسَّاق المعرِضين عن أوامر ربهم، قال تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} ، وهو إذ يرفض مصاحبة ومخالطة العصاة والفُسَّاق لا ينفَكّ عن دعوتهم إلى الله، والدعاء لهم بالهداية والرحمة والرشاد.

سلوك الداعي مع من يصاحب ومن لا يصاحب: 581- والداعي يعرف حقوق الصحبة، ويحمل نفسه على الوفاء بهذه الحقوق، ومنها: مواساته لأصحابه، وقضاء حوائجهم، وسكوته عن عيوبهم، فالأنسان لا يخلو من عيب، إلّا إذا وجب عليه النطق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويتحمَّل إساءتهم في حق نفسه، ويقبل أعذارهم، فالمؤمن الكريم يحضر في نفسه محاسن أخيه، والمنافق اللئيم يحضر في نفسه معايب أخيه، قال عبد الله بن المبارك -رحمه الله تعالى:"المؤمن يطلب المعاذير، والمنافق يطلب العثرات". 582- أمَّا سلوكه مع من لا يصاحبه ولا يرافقه لفسقه وعصيانه، فهو سلوك المؤمن، فلا يخاصمهم {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} ، ولكن ينصحهم ويعظهم، وقد يضطر إلى هجرهم ومقاطعتهم إذا كانت معصيتهم تقتضي الهجر والمقاطعة، كما لو كانوا يدعون إلى بدعة في الدِّين، أو يفرِّقون صفوف المسلمين، أو يكيدون لهم، أو يعملون لإلحاق الأذى بهم، أو يسعون لظلمهم والبغي عليهم، فإنَّه في هذه الحالة وبعد الأعذار لهم وإفراغ الجهد في نصحهم، إذا لم يكفوا عمَّا هم فيه يضطر إلى هجرهم ومقاطتعهم وعدم الكلام معهم، زجرًا لهم عن بغيهم وكيدهم وعدوانهم وبدعتهم، حتى يتحاشاهم الناس ويعرفوهم فيحذروهم، بل وللداعي أن لا يرُدَّ عليهم السلام إذا سلموا، إمعانًا في زجرهم، وأظهارًا لإنكار عملهم، ويعلّل الإمام الغزالي عدم رَدِّ السلام عليهم، مع أنَّ رده واجب بقوله: "ورد السلام وإن كان واجبًا فإنَّه يسقط بأدنى غرض فيه مصلحة، حتى يسقط بكون الإنسان في الحمَّام وقضاء حاجته، وغرض الزجر أهم من هذه الأغراض؛ لأنَّ فيه زجرًا وتنفيرًا عنه"1، وبهذا المعنى أيضًا قال شيخ الإسلام ابن تمية"2. عزلة الداعي: 583- وإذا كانت المخالطة من مقدِّمات الدعوة إلى الله تعالى، وأنَّ الداعي لا يستغني عنها كما قلنا، فإنه مع ذلك يحتاج إلى شيء من العزلة والوحدة والانفراد بنفسه؛ لأنه كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "لا بُدَّ للعبد من أوقاتٍ ينفَرِد بها بنفسه في

_ 1 إحياء علوم الدين للغزالي ج2، ص149. 2 مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ج8، ص216-218.

دعائه وذكره وصلاته وتفكره ومحاسبة نفسه وإصلاح قلبه"1 ويلاحظ في هذه العزلة شيئان: الأول: أن تكون في الأوقات التي نَدَب الشرع فيه إلى نوعٍ معين من العبادة، كالاعتكاف في رمضان، وقيام الليل والصلاة فيه، والجلوس في المساجد انتظارًا للصلاة، فإنَّ في هذه الأوقات والقيام فيها بعبادة الله بالصلاة والذكر والدعاء نوعًا ممتازًا من العزلة والخلوة المشروعة، وهي على قِصَرها ذات أثر بليغ جدًّا. الثاني: إذا احتاج الداعي إلى عزلة أكثر مما ورد في النوع الأول، كأن يخلو في مبيته أيامًا؛ لِمَا يحسه من حاجة إلى هذه الخلوة للراحة والاستجمام ومراجعة الحساب مع نفسه، وتدارك ما فاته، فلا بأس في ذلك، بشرط أن يكون قصده من ذلك إعداد نفسه وتهيئتها إلى المزيد من الدعوة إلى الله، فيكون مثله في هذه الحالة مثل المجاهد الذي يتحوّل عن ميدان القتال ليشحذ سيفه، أو يعلف فرسه، أو يصلح رمحه، أو يداوي جرحه، وقلبه معلق بالجهاد، ونيته الرجوع إليه من قريب، فهو في جهاد في الحالتين، والأعمال بالنيات، والله المستعان. 584- هذا وإنَّ للداعي عزلة أخرى من نوعٍ آخر، وهي غياب فكره عن الحاضرين مع بقاء جسمه معهم، وهذه العزلة يحتاجها كُلَّما وجد نفسه مضطرًا بين قوم سوء، ومجلس غيبة، وكلام باطل لا يستطيع الخروج منه، ولا تحويل مجراه الخبيث، فيغيب عنه بروحه، ويبقى جسده معهم. 585- وهناك عزلة ثالثة للداعي، وهي مفارقة الكفرة والتحوّل عنهم إلى غيرهم، إذا بدا له أنَّ بذل الجهد معهم عبث أو لا يجدي، أو أنَّ احتمال إجابتهم في الوقت الحاضر احتمال ضعيف، أو أنَّ أذاهم لا يطاق، فيتحول عنهم إلى غيرهم ويوجِّه جهده إليهم، فيدعوهم إلى الله تعالى؛ لأنَّ جهد الداعي محدود، ووقته محدود، فإذا لم يجد الإجابة عند قومٍ تحوَّل إلى غيرهم، واعتزل الأوَّلين، وله أن يعتزل الجميع إلى حين، وقد يستأنس لهذا بقوله تعالى حكاية عن إبراهيم -عليه السلام: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} ، وبقوله تعالى حكاية عن موسى -عليه السلام: {وَإِنْ لَمْ

_ 1 مجموع الفتاوى، ج1، ص637.

تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ} ، وقوله تعالى عن أهل الكهف: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا} ، والله -سبحانه وتعالى- أعلم.

الباب الثالث: المدعو

الباب الثالث: المدعو مدخل ... الباب الثالث: المَدْعُو تمهيد: 586- تكلمنا في الباب الأول عن موضوع الدعوة -الإسلام، ثم تكلمنا في الباب الثاني عن الداعي الذي يؤمن بالإسلام ويدعو إليه، والشخص الذي يُدْعَى إلى الإسلام وهو المدعوّ، وهو ما نتكلم عنه في هذا الباب، والكلام عن المدعو يستلزم التعريف به، وبيان ما له وما عليه، وأصناف المدعوين، وعلى هذا سنقسم هذا الباب إلى فصلين: الفصل الأول: التعريف بالمدعو وما له وما عليه. الفصل الثاني: أصناف المدعوين.

الفصل الأول: التعريف بالمدعو وماله وما عليه

الفصل الأول: التعريف بالمدعو ومَا لَه ومَا عَلَيْه من هو المدعو؟ 587- الإنسان، أيّ إنسان كان، هو المدعو إلى الله تعالى؛ لأنَّ الإسلام رسالة الله الخالدة، بعث الله به محمدًا -صلى الله عليه وسلم- إلى الناس أجمعين، قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} ، وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} ، وهذا العموم بالنسبة للمدعوين لا يستثنى منه أيّ إنسان مخاطب بالإسلام ومكلَّف بقبوله والإذعان له، وهو البالغ العاقل مهما كان جنسه ونوعه ولونه ومهنته وإقليمه، وكونه ذكرًا أو أنثى، إلى غير ذلك من الفروق بين البشر، ولذلك كان مِمَّن آمن بمحمد -صلى الله عليه وسلم- العربيّ كأبي بكر، والحبشي كبلال، والرومي كصهيب، والفارسي كسلمان، والمرأة كخديجة، والصبي كعلي بن أبي طالب، والغني كعثمان بن عفان، والفقير كعمَّار. 588- وعلى هذا فالدَّعوة إلى الله عامَّة لجميع البشر، وليست خاصَّة بجنس دون جنس، أو طبقة دون طبقة، أو فئة دون فئة، ولهذا يخاطب القرآن البشر بصفتهم الآدمية، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُم} ، {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} ، وعلى الداعي أن يفقه عموم دعوته إلى الله، ويحرص على إيصالها لكلِّ إنسان يستطيع الوصول إليه، وهذا لا يناقض ابتداءً الداعي بالأقربين إليه، فيدعوهم قبل البعيدين؛ لأنَّ لكل إنسان الحق في إيصال الدعوة إليه، فليس الأبعد بأولى من الأقرب، بل الأقرب أولى لسهولة تبليغه واحتمال صيرورته داعيًا أيضًا بعد إسلامه، فيسهل إيصال الدعوة إلى البعيدين، ولهذا جاء في القرآن الكريم: {وَأَنْذِر

عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِين} ، وهذا وإن كان خطابًا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم، ولكنه يشتمل معناه الدعاة إلى الله، فعليهم أن ينذروا الأقربين إليهم، مبتدئين بأفراد أسرهم وأقاربهم ومن يعرفونهم، بل إنَّ دعوة الأهل وأفراد الأسرة أوجب من غيرهم؛ لأنَّ الداعي إن كان ربَّ أسرة فإنَّه مسئول عنهم، "كلكم راعٍ ومسئول عن رعيته"، وهذه المسئولية تشمل القيام بشئونهم المادية من توفير الطعام والشراب والسكن، ونحو ذلك من الأشياء المادية، كما تشمل شئونهم الدينية، بتعليمهم ما يلزمهم من أمور الإسلام ودعوتهم إليه. قال تعالى مثنيًا على أحد رسله الكرام: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاة} ، وقال تعالى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} ، ووقايتهم من النار تكون بدعوتهم إلى الإسلام وطاعة أوامر الله وترك نواهيه. حقوق المدعو: 589- ومن حق المدعوِّ أن يؤتى ويدعى، أي: إنَّ الداعي يأتيه ويدعوه إلى الله تعالى، ولا يجلس الداعي في بيته وينتظر مجيء الناس إليه، وهكذا كان يفعل الداعي الأوّل نبينا الكريم -صلى الله عليه وسلم، يأتي مجالس قريش ويدعوهم، ويخرج إلى القبائل في منازلها في موسِم قدومها مكة ويدعوهم، ويذهب إلى ملاقاة من يقدُم إلى مكة ويدعوه، فقد جاء في سيرة ابن هشام: "فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعرِض نفسه في المواسم -إذا كانت- على قبائل العرب يدعوهم إلى الله، ويخبرهم أنَّه نبي مرسل، ويسألهم أن يصدِّقوه ويمنعوه حتى يبيِّن عن الله ما بعثه به، فيقف على منازل القبائل من العرب فيقول: "يا بني فلان، إني رسول الله إليكم، يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه هذه الأنداد، وأن تؤمنوا بي وتصدقوا بي وتنمعوني حتى أبيِّن عن الله ما بعثني به.... وكان -صلى الله عليه وسلم- لا يسمع بقادمٍ إلى مكة من العرب له اسم وشرف إلّا يتصدَّى له، فدعاه إلى الله وعرض عليه ما عنده"1، ولم يكتف -صلى الله عليه وسلم- بأهل مكة ومن كان يأتيها، وإنما ذهب إلى خارجها، ذهب إلى الطائف يدعو أهلها، "فلما انتهى إلى الطائف عمد إلى نفرٍ من ثقيف هم يؤمئذ سادة ثقيف وأشرافهم، فجلس إليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فدعاهم إلى الله".

_ 1 سيرة ابن هشام ج2 ص31، 32.

590- ونسأل هنا: لماذا كان المدعو يؤتى ويدعى ولا يأتي؟ والجواب على ذلك من وجوه: الوجه الأول: إنَّ وظيفة الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- التبليغ، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} ، وقال تعالى: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} ، وهذا التبليغ قد يستلزم نقلة الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى مكان مَنْ يراد تبليغه؛ لاحتمال عدم وصول خبر الدعوة إليه، أو أنها وصلته بصورة غير صحيحة، أو وصلته بصورة صحيحة ولكن لم ينهض فيأتي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليسمع منه، فلأجل هذه الاحتمالات كان الرسول -عليه الصلاة والسلام- يأتي إلى أماكن الناس لتبليغيهم الدعوة إلى الله. الوجه الثاني: شفقته -صلى الله عليه وسلم- على عباد الله، وحرصه على هدايتهم وتخليصهم من الكفر، كل ذلك كان يحمله على الذهاب إليهم في أماكنهم ومنازلهم، وتبلغهم الدعوة إلى الله. الوجه الثالث: إن البعيد عن الإسلام قلبه مريض، ومرضى القلوب لا يعرفون مرضهم ولا يحسون به، فلا يشعرون بالحاجة إلى علاجه، فلا بُدَّ من إخبارهم بمرضهم من قِبَل الرسل الكرام، ولا ينتظرون مجيئهم إليهم ليخبروهم، بل يذهبون إليهم ويخبرونهم بالمرض والعلاج؛ لأن من أعراض مرضهم إعراضهم عن الدعوة والمجيء إلى صاحبها. 591- وعلى الداعي المسلم أن يقتدي برسول الله -صلى الله عليه وسلم، فينتقل إلى الناس في أماكنهم ومجالسهم وقراهم، ويبلغهم الإسلام ويدعوهم إلى الله تعالى، ويا حبذا لو توزَّع الدعاة إلى القرى والمحلات، وتفرَّغ كل واحد منهم إلى جهة، وفي هذا المعنى يقول الإمام الغزالي: "يتكفَّل كل عالم بإقليم أو بلدة أو محلة أو مسجد أو مشهد، فيعلِّم أهله دينهم، وتمييز ما يضرهم عمَّا ينفهم، وما يشقيهم عمَّا يسعدهم، ولا ينبغي أن يصبر إلى أن يسأل عنه، بل ينبغي أن يتصدَّى إلى دعوة الناس إلى نفسه، فإنهم ورثة الأنبياء، والأنبياء ما تركوا الناس على جهلهم، بل كانوا ينادونهم في مجامعهم، ويدورون على أبواب دورهم في الابتداء، ويطلبون واحدًا واحدًا فيرشدونهم، وهذا فرض عين على العلماء كافَّة، وعلى السلاطين كافَّة أن يرتِّبوا في كل قرية وفي كل محلة فقيهًا متدينًا يعلم

الناس دينهم، فإنَّ الخلق لا يولدون إلّا جهالًا، فلا بُدَّ من تبليغ الدعوة إليهم في الأصل والفرع"1. لا يستهان بأيِّ إنسان: 592- لا يجوز للداعي أن يستصغر بشأن أيِّ إنسان أو أن يستهين به فلا يدعوه؛ لأنَّ من حق كل إنسان أن يدعى، وقد يكون هذا الذي لا يقيم له الداعي وزنًا سيكون له عند الله وزن كبير بخدمته للإسلام والدعوة إليه، وهكذا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعو كل إنسان يلقاه أو يذهب إليه. جاء في السيرة النبوية أنَّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعد أن عرض نفسه الكريمة على قبائل العرب التي وافقت الموسم في مكة، وكان ذلك قبل الهجرة بنحو ثلاث سنوات، ولم يستجب لهم منهم أحد، لقي ستة نفر من الخزرج عند العقبة من منى، وهم يحلقون رءوسهم، فجلس إليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فدعاهم إلى الله، وقرأ عليم القرآن، فاستجابوا لله ولرسوله وآمنوا، ثم رجعوا إلى قومهم بالمدينة، وذكر لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم "ودعوهم إلى الإسلام ففشا فيهم، حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلّا فيها ذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم"1، فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يستصغر شأن أولئك الستة وهم يحلقون رءوسهم بعد أن لم يستجب له أحد من القبائل النازلة حوالي مكة، ولم يقل في نفسه الكريمة: أيّ أمل في هؤلاء المشغولين بحلق رءوسهم، ثم إنَّ أولئك الستة كانوا هم الدعاة الأُوَل إلى الإسلام في المدينة، فعلى الداعي أن يقتدي بهدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ولا يستهين بأحد فيزهد في دعوته، فقد يكون الخير الكثير على يد الذي لا يرى فيه خيرًا الآن. واجبات المدعو: 593- وإذا كان من حق المدعو أن يؤتَى ويدعى، وأن لا يُسْتَهان به ولا يستصغر شأنه، فإنَّ عليه أن يستجيب إذا ما دعي إلى الله؛ لأنه يدعى إلى الخير والحق، ويستجيب لنداء ربه -جل جلاله، ومن بيان الواقع الذي قد يسفيد منه الداعي، ويطرد عنه اليأس، ويبقي أمامه الأمل، نقول: إنَّ الناس ليسوا سواء في

_ 1 إحياء علوم الدين للغزالي ج3 ص45. 2 إمتاع الأسماء للمقريزي ص32، 33.

الاستجابة إلى الحق وقبول الدعوة، فمنهم السريع جدًّا في الاستجابة، ومنهم البطيء جدًّا، ومنهم بين هذين الحدَّين في درجات كثيرة جدًّا تستعصي على العدِّ والإحصاء، فمن الناس من يؤمن حالًا وبدون تردد أو تلكؤ أو تعثر، حتى كأنه ينتظر سماع الدعوة ليؤمن، ومن أمثلة ذلك إيمان أبي بكر الصديق وإيمان السحرة بموسى، أمَّا إيمان أبي بكر فقد أخبر عنه رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم؛ إذ قال: "ما دعوت أحدًا إلى الإسلام إلّا كانت فيه عنده كبوة ونظرة وتردد، إلّا ما كان من أبي بكر بن أبي قحافة، ما عكم -أي: ما تلبَّث- حين ذكرته له وما تردد فيه" 1، أمَّا إيمان السحرة فأعني بهم السحرة الذين جاء بهم فرعون مصر لإبطال معجزة موسى -عليه السلام، وأخبرنا الله تعالى بقصتهم وإيمانهم، قال تعالى: {فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ، فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ، قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ، رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ، قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ، قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ، إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} ، فأولئك السحرة جاءوا لينصروا باطل فرعون وكفره، ويقاوموا دعوة موسى نبي الله، ولكن ما إن رأوا المعجزة وعلموا أنَّها ليست من السحر الذي تعلَّموه، وإنَّما هي من عند الله، ودليل صدق نبيه الكريم موسى -عليه السلام، أقول: ما إن رأوا ذلك حتى آمنوا حالًا وأعلنوا إيمانهم صراحة، بما يدل على عِظَم الإيمان، وقوة نوره الذي دخل قلوبهم وبدَّد كل باطل فيها، حتى هتفت ألسنتهم وقالوا: {آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ، رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} ، ولمَّا هدَّدَهم اللعين بما هدَّدَهم به قالوا: {لَا ضَيْر} ، أي: لا ضرر علينا فيما يلحقنا من عذاب الدنيا، فإن عذابك ساعة فنصبر لها، ثم نلقى الله ربنا مؤمنين، ونحن نرجوا ونطمع أن يغفر خطايانا السابقة، فإنَّنَا بادرنا إلى الإيمان عند ظهور معجزة موسى -عليه السلام. هذان مثلان للاستجابة السريعة لدعوة الله تكون عند بعض الناس، أمَّا الأمثلة على الاستجابة البطيئة فهي كثيرة، نكتفي منها بما قصَّه الله علينا من أخبار قوم نوح، فإنه لبث فيهم ألف سنة إلّا خمسين عامًا، ومع هذا لم يؤمن له إلّا القليل كما جاء في

_ 1 سيرة ابن هشام ج1 ص268.

القرآن الكريم. وأبو سفيان والطلقاء لم يؤمنوا بالإسلام ونبي الإسلام محمد -صلى الله عليه وسلم- إلّا بعد فتح مكة، وبعد عداوة شديدة ومحاربةٍ دامت عشرين سنة، وهناك من لا يستجيب إلى دعوة الله ويموت وهو كافر، نعوذ بالله من الخذلان. 594- ومن واجبات المدعو بعد أن هداه الله إلى الإسلام أن يقوم بحق الإسلام، فيقيم أمور حياته وسلوكه على مناهج الإسلام، ويعبد الله على النحو الذي أُمِرَ به وبيّنَه في قرآنه وعلى لسان رسوله الكريم -صلى الله عليه وسلم، حتى لا يكون في إسلامه شوب نفاق، يقول: إنه من المسلمين، ولكنه لا يؤدي حقوق الإسلام.

الفصل الثاني: أصناف المدعوين

الفصل الثاني: أصناف المدعوين مدخل ... الفصل الثاني: أصناف المدعوين تمهيد: 595- في كل مجمتع يوجد سادة وأشراف لهم نفوذ فيه، وقد يكون بأيديهم السلطان، وهؤلاء هم الصنف الأول من المدعوين، ويسميهم القرآن "الملأ"، وإزاء هؤلاء يوجد جمهور الناس وعامتهم، وهؤلاء هم الصنف الثاني من المدعوين، فإذا ما استجاب الناس إلى الدعوة إلى الله ودخل الإيمان في قلوبهم، وصارت الغلبة للمؤمنين، وصار المجتمع إسلاميًّا، أمكن عند ذاك ظهور صنفٍ آخر يظهر الإسلام رياءً ونفاقًا ويبطن الكفر، وهؤلاء هم المنافقون، وهم الصنف الثالث من أصناف المدعوين، كما أنَّ من دخل في الإسلام قد يكون إسلامه ضعيفًا، وإيمانه رقيقًا، مما يجعل انزلاقه إلى المعاصي سهلًا، وهؤلاء هم العصاة، ويكونون الصنف الرابع من أصناف المدعوين، ولا بُدَّ من الكلام عن هذه الأصناف في المباحث التالية.

المبحث الأول: الملأ

المبحث الأول: الملأ تعريف الملأ: 596- يَسْتَعمل القرآن الكريم كلمة "الملأ" في قصصه عن الرسل الكرام وما جرى لهم مع أقوامهم، "والملأ" كما يقول المفسرون: هم أشراف القوم وقادتهم ورؤساءهم وساداتهم1، فهم إذن البارزون في المجتمع وأصحاب النفوذ فيه، الذين يعتبرهم الناس اشرافًا وسادة، أو يُعْتَبرون حسب مفاهيم المجتمع وقيمه أشراف المجتمع وسادته، ومن ثَمَّ يستحقون -في عرف الناس- قيادة المجتمع والزعامة والرئاسة فيه، وقد يباشرون ذلك فعلًا، وإطلاق كلمة الملأ على هؤلاء في القرآن الكريم بهذا المعنى هو من قبيل بيان الواقع، لا من قبيل بيان استحقاقهم فعلًا للشرف والسيادة والقيادة والرئاسة، ويشبه هذا الإطلاق ما ورد في رسائل النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى رؤساء فارس والروم ومصر، فقد جاء في بعض هذه الرسائل مخاطبة الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- إلى رئيس الروم بعبارة: "إلى عظيم الروم"، فإطلاق هذه العبارة على رئيس الروم من قبيل بيان واقعه، وهو أنه عظيم في نظر الروم لرئاسته لهم، وليس بيانًا لاستحقاقه هذا الوصف. الملأ والدعوة إلى الله: 598- والوصف الغالب على الملأ من كل قوم معاداتهم للدعوة إلى الله تعالى،

_ 1 تفسير القرطبي ج3 ص234، 223، ج12 ص121، تفسير ابن كثير ج2 ص223.

فقد قاوموا دعوة الرسل الكرام إلى الله تعالى، وكانوا هم الذين يتولَّوْن كبر المقاومة الأثيمة للدعوة إلى الله، ويقودون حملة الكذب والافتراء والتضليل ضدَّ أنبياء الله تعالى، يدل على ذلك قول ربنا -تبارك وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ، وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} 1، يخبر الله -سبحانه وتعالى- في هذه الآية الكريمة رسوله محمدًا -صلى الله عليه وسلم- مسليًّا له أنه ما أرسل من رسول إلى قرية إلّا قال مترفوها -وهم أولو القوة والحشمة والثروة والترف والرياسة، وقادة الناس في الشر: لا نؤمن به ولا نتبعه2، وقال تعالى عن سيدنا نوح -عليه السلام: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ، قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} 3، فالملأ من قوم نوحٍ هم الذين تصدَّوا للدعوة إلى الله، وهم الذين نسبوا نبيهم إلى الضلال المبين، وهذا من أعظم الظلم، والصد عن سبيل الله إذ يوصف الحق الذي جاء به نوح من ربه بالضلال، ولكن هذا هو منطق الملأ، وكذلك كان موقف الملأ من قريش من دعوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم، قاوموا هذه الدعوة المباركة، وآذوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ورموه بالكذب، وتآمروا به، قال تعالى: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ، أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ، وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ، مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} 4. والملأ في الآية الكريمة هم سادة قريش وقادتها ورؤساؤها وكبراؤها، قالوا لقومهم: استمرّوا على دينكم ولا تستجيبوا لما يدعوكم إليه محمد -صلى الله عليه وسلم- من التوحيد5. وفي السيرة النبوية الشيء الكثير عن موقف الملأ من قريش وغيرهم من الدعوة إلى الله، التي بلغهم إياها الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم، من ذلك ما ذكره ابن هشام في سيرته من

_ 1 سورة سبأ الآيتان: 34، 35. 2 تفسير ابن كثير ج3 ص450. 3 سورة الأعراف، الآيتان: 59، 60. 4 سورة ص الآيات 4-7. 5 تفسير ابن كثير ج4 ص27.

أنَّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يخرج إلى القبائل ويدعوها إلى الله تعالى، وكان يمشي وراءه أبو لهب وهو من أشراف قريش ويقول للناس: ".. فلا تطيعوه ولا تسمعوا منه"1. وكذلك عندما خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الطائف واجتمع بنفرٍ منهم -وهم يؤمئذ سادة ثقيف وأشرافها- ردُّوه أقبح ردٍّ ولم يكتفوا بذلك، وإنما "أغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع عليه الناس"2. أسباب عداوة الملأ للدعوة إلى الله: 598- من التأمل في الآيات المسوقة في قصص الأنبياء وما جرى لهم مع أقوامهم، تظهر لنا أسباب مخاصمة الملأ للرسل الكرام وعداوتهم لهم ورفضهم دعوتهم، ومن أهمّ هذه الأسباب الكِبر الذي تغلغل في نفوسهم، وحبِّهم الرياسة والجاه، والجهالات التي حسبوها أدلة ويقينيات، ونتكلم فيما يلي عن كل سبب مع ما ورد بشأنه من آيات وآثار. أولًا: الكبر 599- الكبر خلق ذميم وآفة عظيمة مستقِرَّة في النفس، وتظهر آثاره في الخارج بأشكال مختلفة، ومواقف متعددة، ومن آثاره: عدم رؤية الحق في غالب الأحيان، أو رؤيته ولكنَّ الكبر يمنع من الاعتراف به والانقياد له، كما يمنع الاعتراف بالفضل لأولي الفضل، ويمنع المتكبِّر من الرؤية الصحيحة لقدر نفسه، فيراها فوق أقدار الناس، فيستنكف أن يكون معهم، أو تابعًا لأحد منهم، وقد يقترن الحسد مع الكبر فيزيد من آثاره سوءًا وصدودًا عن الحق، وجحدًا له، ومحاربة لأهله، وعداوة لهم. 600- ومن الآيات الدالة على صفة الكبر في الملأ، وما أدَّت إليه من نتائج غاية في السوء والقبح، قوله تعالى: 1- {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} ، ففرعون وقومه أنكروا نبوة موسى -عليه السلام، مع أنَّ نفوسهم أيقنت بها، وكان الحامل لهم على إنكارها ظلمهم وتكبُّرهم على موسى -عليه السلام.

_ 1 سيرة ابن هشام ج2 ص32. 2 سيرة ابن هشام ج2 ص27، 28.

2- {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ، قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} فالملأ بدلًا من رؤيتهم الحق الذي جاءهم به نوح رأوه ضلالًا، ونوره ظلامًا، وادَّعَوْا أنَّ هذا الضلال بيِّن، أي: ظاهر واضح، وهو في الحقيقة دليل على عماهم وعدم رؤيتهم الحق الذي أدَّى بهم إلى هذا الادعاء، وبالتالي إلى هلالكهم، قال تعالى مخبرًا عن عاقبتهم: {وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ} 1. 3- وقال تعالى مخبرًا عن الملأ من قوم عادٍ وما قالوه لنبيهم هود: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} ، والمقصود بالسفاهة الحمق وخِفَّة العقل، فالملأ من قوم عادٍ يرَوَن ما يدعوهم إليه نبيهم حمقًا وخِفَّة عقل، ولو كان عندهم بصر حديد لرأوا ما يدعوهم إليه هو الحق الصريح. 4- ما بيّنَه الله تعالى عن الملأ من قريش وكيف أنَّهم وصفوا دعوة الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالكذب والاختلاق، قال تعالى مخبرًا عنهم: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} ، وكيف أنَّهم وصفوه بالسحر والجنون -قبَّحهم الله تعالى. 5- قال تعالى مخبرًا عن الملأ من قوم نوح: {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} 2، فالملأ من قوم نوح يقولون: ما نراك اتبعك إلّا أراذل القوم -وهم الفقراء والضعفاء وأصحاب الحرف الخسيسة- ولم يتبعك السادة والأشراف، ولا القادة الرؤساء، فكيف نكون معهم ومثلهم في متابعتك؟ ثم يقولون: وهؤلاء الأراذل اتبعوك بلا إعمال فكر ولا روية، ولا تأمّل؛ لأنهم من الأراذل، لا من السادة والأشراف، ثم يضيفون إلى ذلك بأنَّهم لا يرون لرسول الله ولا لأتباعه أيّ فضل عليهم، ثم ينتهون إلى القول بأنه من الكاذبين. وهذا

_ 1 سورة الآية: 60. 2 سورة هود، الآية: 27.

كله من نتائج كبرهم النفسي الذي جعلهم يقلبون الحقائق، ويأنفون عن الحقِّ بحجة أن الأراذل اتبعوه، وفاتهم أنَّ الحق في نفسه يبقى حقًّا، سواء اتبعه الضعفاء والفقراء أو القادة والرؤساء، وأنَّ أتباع الحق في الحقيقة هم الأشراف ولو كانوا فقراء، وأن الأراذل في الحقيقة هم المعاندون المخالفون للحق وإن كانوا في أعين الناس من الأشراف. 6- وقال تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ، إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ، فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ، فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ} ، وفرعون وملؤه استكبروا عن اتباع الحق فجحدوا وجاءوا بهذه الجهالات تبريرًا لكفرهم، وفرعون هذا هو الذي أدَّى به كبره إلى ادِّعاء الألوهية وشيء من الربوبية، قال تعالى مخبرًا عنه: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} ، {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} . 7- وفي السيرة النبوية أنَّ الملأ من قريش قالوا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم: لا نرضى أن نكون مع هؤلاء -يعنون: ضعفاء المسلمين مثل صهيب وعمار وبلال وخباب- فاطردهم عنك ولا تبقهم في مجلسك إذا دخلنا عليك، فإذا فرغنا من الحديث معك والسماع منك وخرجنا فأدخلهم إن شئت، فأنزل الله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} ، وقال تعالى عن أولئك المتكبِّرين المتعجرفين الذين طلبوا ما طلبوا: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} 1. 8- وقال تعالى عن المتكبرين عن رسالة الإسلام والإيمان بمحمد -صلى الله عليه وسلم: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ، أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} 2. ومعنى هذه الآية الكريمة: إنَّ المعترضين على القرآن الكريم المتكبرين عن الإيمان به والتصديق بنبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- قالوا: هلَّا كان إنزال القرآن على رجل كبير في أعينهم

_ 1 شمائل الرسول -صلى الله عليه وسلم- لابن كثير ص103-104. 2 سورة الزمر، الآية: 31.

من القريتين: مكة والطائف، وعن ابن عباس: يعنون بالرجل العظيم جبَّارًا من جبابرة قريش1، فهم بدافع كبرهم النفسي يستصغرون شأن الرسول -صلى الله عليه وسلم، ولا يرونه أهلًا للرسالة، وأنهم أو غيرهم من الكبراء هم المستحقون للرسالة وتنزُّل الوحي، وردَّ الله عليهم قولهم بأنَّ الأمر بيد الله، والله أعلم حيث يجعل رسالته. ثانيًا: حب الرياسة والجاه 601- "والملأ" يحبون الرياسة والجاه والتسلط على رقاب العباد، ولذلك فهم يعارضون كل دعوة تسلبهم مكانتهم بين الناس وتجعلهم تابعين كبقية الناس، وهم يتصوَّرون أنَّ قبولهم الدعوة إلى الله يسلبهم جاههم وسلطانهم، ولذلك يقاومونها ويعادونها ويأتون بالأباطيل لتبرير عداوتهم، ومن الآيات الدالة على حبهم للرياسة والجاه، وأنَّ هذ الحب كان من أسباب رفضهم دعوة الحق إلى الله تعالى، ما يأتي: 1- في قصة نوح -عليه السلام- قال تعالى: {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} 2. "فالملأ" دفاعًا عن رياستهم على الناس وتسلطهم عليهم يقولون لقومهم: إنَّ نوحًا بدعوته هذه يريد أن يتفضَّل عليكم، أي: يترفَّع ويتعاظم عليكم ويترأس عليكم. ويريد الملأ بهذ الادعاء صرف الناس عن نوح -عليه السلام؛ لتبقي سيطرتهم ورياستهم عليهم، والحقيقة أنَّ رسل الله لا يريدون علوًّا في الأرض وفسادًا، ولا رياسة ولا تعاظمًا، وإنما هم بطبيعة دعوتهم يصيرون أئمة للناس، وتصير لهم الرياسة، ولكن ليست هي مثل رياسة أولئك الملأ المتكبرين على الله. 2- قال تعالى عن فرعون وملئِه: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ، فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ، قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ

_ 1 تفسير بن كثير ج4 ص126، 127. 2 سورة المؤمنون الآية 24.

هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ، قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} 1. ففرعون وملؤه استكبروا عن اتباع الحق والانقياد له، وكانوا قومًا مجرمين، ثم برروا استكبارهم عن الحق بالادعاء بأنَّ موسى وهارون يريدون ثنيهم عن الدِّين الذي كان عليه آبائهم، أو أنهم يريدان أن تكون لهما الكبرياء، أي: العظمة والرياسة في الأرض. فأسباب رفض فرعون وملئه دعوة الحق ترجع إلى الكبر وإلى حب الرياسة والعلوّ في الأرض، ولهذا اتهموا موسى وهارون بحب الرياسة؛ لأنَّ فرعون يظنّ أن القصد من دعوتهما هو ذلك، أو أنَّ مآل دعوتهما ذهاب رياسته على الناس. 3- وقال تعالى عن الملأ من قريش: {انْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} ، هذا بعض ما قاله الملأ من قريش، ومعناه كما جاء في تفسير القرطبي: "إن هذا الشيء يراد: كلمة تحذير، أي: إنما يريد محمد -صلى الله عليه وسلم- بما يقول الانقياد له؛ ليعلوا علينا ونكون له أتباعًا فيتحكَّم فينا بما يريد، فاحذروا أن تطيعوه"2. وفي تفسير ابن كثير في معنى قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَاد} : قال ابن جرير في معنى هذه الآية: إنَّ الملأ قالوا: إن هذا الذي يدعونا إليه محمد -صلى الله عليه وسلم- من التوحيد لشيء يريد به الشرف عليكم والاستعلاء، وأن يكون له منكم أتباع، ولسنا نجيبه3، ومعنى ذلك كله أنَّ الملأ من قريش حرصًا منهم على الرياسة والجاه رفضوا دعوة الإسلام؛ لظنِّهم أنها تفقدهم جاههم وسلطانهم على الناس. ثالثًا: الجهالة 602- "والملأ" غارق في الجهالة ولا يشعر بجهالته، فهو يكفر بربه ويردّ دعوته الكريمة التي بعث بها رسله إلى الناس، ويصفها بأنها ضلال، ويرمي مبلغيها وهم الرسل الكرام بالسفاهة وخفة العقل، ويؤلّب الدهماء عليهم، ويكيد ضدهم، ويعاديهم

_ 1 سورة يونس، الآيات: 76، 78. 2 تفسير القرطبي ج15 ص151، 152. 3 تفسير ابن جرير ج4 ص27.

ويستغرب من دعوتهم، ويدَّعي أن آية كذب الرسول أنه من البشر، وأنَّهم -أي: الملأ- أولى بالرسالة ممن أرسلوا؛ لأنهم -الملأ- أكثر مالًا وأعز نفرًا، وأنَّ الرسل الكرام يريدون تحويلهم عن ملة آبائهم، ويأتونهم بدين جديد ما سمعوا به من قبل، وأنهم -أي: الملأ- يسخرون ويستهزئون بالمؤمنين، زاعمين أنهم لا يفهمون ولا يعلمون، ولهذا اتبعوا الدعوة إلى الله واتبعوا رسل الله بلا رؤية ولا تمحيص ولا تأويل، بينما هم لم يفعلوا ذلك؛ لأنهم سادة أشراف يفهمون ويعقلون ويدركون. وأنهم يحسبون الأنبياء الكرام مفسدين في الأرض، وأنهم -أي الملأ- هم المصلحون المدافعون عن دين الناس وحقوقهم، وأنهم في سبيل هذا الدفاع سيحاربون الأنبياء والدعاة إلى الله تعالى. وهذه بعض آثار جهالتهم وحماقاتهم، أخبرنا الله تعالى بها في آيات كثيرة، وهي من أسباب ضلالهم وحماقاتهم، وهي من أسباب ضلالهم وعدم انتفاعهم بهدي الله تعالى، فمن ذلك: 1- قال تعالى عن قوم نوح: {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} ، فهم لجهالتهم يقولون لنبيهم نوح -عليه السلام: لست بمَلَك ولكنك بشر، فيكف أوحي إليك من دوننا؟ ثم ما نراك اتبعك إلّا الذين هم أراذلنا، ولم يتبعك الأشراف ولا الرؤساء منَّا، وهذا كله من جهالتهم، وإلّا لو كان لهم عقل لعلموا أن لا بدَّ أن يكون الرسول من البشر حتى يمكن أن يخاطبهم، ويمكن لهم أن يفهموه، كما أنهم لو كان لهم عقل سليم لعلموا أنَّ الحرمان والفقر والضعف لا علاقة لشيء منها في أمور الديانة، وأن الضعفاء والفقراء باتباعهم الحق يبرهنون على حسن إدراكهم وصفاء نفوسهم. 2- وقال تعالى عن قوم ثمود وما قالوه لنبيهم صالح: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ، قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} 1، فالملأ من ثمود كانوا مصرِّين على جهالتهم وإنكارهم نبوة صالح -عليه السلام، وإنما سألوا المؤمنين سؤال متكبِّر جاهلٍ لا سؤال متفهم متواضع.

_ 1 سورة الأعراف، الآية 75، 76.

3- قال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} والمترفون هم "الملأ"، وجوابهم على دعوة رسل الله أنَّهم وجدوا آباءهم على ملة ودين، وأنَّهم مقتفون أثرهم لا يحيدون عن ذلك، وهذا من جهلهم؛ لأن الباطل لا يتابع، وأنَّ الحق أحق أن يُتَّبَع، وهذا التقليد الذميم للباطل القديم الذي كان عليه الآباء والأجداد من أعظم أسباب التمرُّد على الحق، قال تعالى في داء التقليد الذميم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} 1. 4- وقال تعالى: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} 2. "الملأ" من قوم فرعون يعتبرون موسى نبي الله والداعي إليه وأتباعه المؤمنين مفسدين في الأرض، ويؤلبون فرعون على مقاومتهم والقضاء عليهم؟ إن جهلهم مع كبرهم وحبهم للرياسة والجاه جعلهم يعتبرون موسى مفسدًا في الأرض. الملأ هم الملأ في كل مكان وزمان: 603- والملا بأوصافهم وأخلاقهم التي بيَّنَها القرآن الكريم يوجدون في كل مجتمع، وفي كل مكان وزمان، ولهذا فهم يقفون غالبًا في وجه كل دعوة إلى الله تعالى، ويحاربونها بدافعٍ من الكبر الذي يغشى نفوسهم، وبدافع حب الرياسة على الناس، وخوفهم من أن تسلبهم هذه الدعوة الإصلاحية مركزهم ومكانتهم وترفهم، ومما يدل على بقاء الملأ في كل زمان ومكان معارضين لكل دعوة طيبة خيرة تريد الإصلاح وإيصال الناس إلى خالقهم، إنَّ الدوافع التي دفعت الملأ من الأقوام الماضية إلى محاربة رسل الله والدعوة إليه، هي نفسها توجد في نفوس الكبراء والمترفين، فالكبر يعلق في النفوس المريضة والحرص على الرياسة والجاه والمنزلة، موجود في النفوس، وإنما ينقمع بالإيمان، والجهل يخيِّم على مثل هذه النفوس التي تعشق العلوَّ في الأرض

_ 1 سورة البقرة، الآية: 170. 2 سورة الأعراف، الآية: 127.

والترف في الحياة، وإذا ما دخل أصل الإيمان في نفوس السادة والكبراء والأشراف، فإنَّ هذا الإيمان يبقى ضعيفًا غالبًا، لا يقوى على منعهم من الصد عن سبيل الله، ولا عن محاربة الدعاة إلى الله تعالى بشبهاتٍ واهية من جنس شهبات الملأ القدامى، الذين حاربوا رسل الله وصدوا عن دعوتهم المباركة، وقد تنبه المفسرون إلى أنَّ "الملأ" يبقون معارضون للدعوة إلى الله. جاء في تفسير ابن كثير بصدد قوله تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} قال: وهكذا حال الفجَّار إنما يرون الأبرار في ضلاله1، وقال أيضًا في مكان آخر من تفسيره: ثم الواقع غالبًا أنَّ من يتَّبِعُ الحق ضعفاء الناس، والغالب على الأشراف والكبراء مخالفته2، ومثله جاء في تفسير القرطبي3.

_ 1 تفسير ابن كثير ج2 ص440. 2 تفسير ابن كثير ج2 ص441. 3 تفسير القرطبي ج15 ص150.

المبحث الثاني: جمهور الناس

المبحث الثاني: جمهور الناس تعريف جمهور الناس: 604- نريد من قولنا: جمهور الناس معظمهم؛ لأن جمهور كل شيء معظمه وأكثره، والمقصود بمعظم الناس ما عدا "الملأ"، وقد تكلَّمنا عنهم وهم عادة قلة، أمَّا ما عداهم فهم أكثرية الناس في أيِّ مجتمع بشري، وهؤلاء الجمهور يكونون عادة مرءوسين للملأ وتابعين لهم، كما يكونون غالبًا فقراء وضعفاء ويباشرون مختلف الأعمال والحِرَف. الجمهور أسرع من غيرهم إلى الاستجابة: 605- الجمهور أسرع من غيرهم إلى الاستجابة إلى الحق، فهم أتباع رسل الله، يصدقونهم ويؤمنون بهم قبل غيرهم، كما قال هرقل لأبي سفيان يوم اجتمع به في الشام لمَّا سمع هرقل بأنه من مكة، فأراد أن يسأل عن أخبار النبي -صلى الله عليه وسلم، قال هرقل: أشرف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقال أبو سفيان: بل ضعفاؤهم، فقال هرقل: هم أتباع الرسل1، والواقع أنَّ أتباع رسل الله كانوا من جمهور الناس، وقد ذكرنا في بحثنا عن "الملأ" كيف قالوا لنوحٍ -عليه السلام: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} ، وقول "الملأ" من ثمود كما حكاه الله -جلَّ جلاله- عنهم: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا

_ 1 من حديث طويل رواه الإمام البخاري في صحيحه ج1 ص7-9.

مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ} ، وكذلك كان أتباع نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- في مكة من الضعفاء، وقد نالهم من المشركين أذى كثير1، والجمهور في كل وقت أسرع من غيرهم إلى قبول الحق، قال ابن كثير في تفسيره: "ثم الواقع غالبًا أن يتَّبِع الحق ضعفاء الناس"2. تعليل سرعة استجابة الجمهور للحق: 606- وتعليل سرعة استجابة الجمهور للحق وقبولهم الدعوة إلى الله، أنَّهم خالون من موانع القبول الموجودة في "الملأ"، كحب الرياسة والتسلُّط والأنفة من الانقياد للغير لكبرهم النفسي، وبالتالي يكون أسرع إلى الإجابة للحق والانقياد له من غيرهم، وهذا التعليل أشار إليه القرطبي في تفسيره، والواقع أن الكبر وحب الرياسة والانغماس في الترف، ونحو ذلك مما لا ينفك عنه "الملأ" غالبًا، يجعل انفكاكهم عن هذه الموانع صعبًا، وبالتالي تكون قلوبهم في أكِنَّة لا تتأثَّر بالحق، وعلى عيونهم غشاوة لا ترى الحق واضحًا جليًّا، فتندفع إلى معاداته عن جهل، وبدافع الحرص على مكانتهم كما بيَّنَّا هذا من قبل. احتمال تأثر الجمهور بالملأ: 607- ومع أنَّ الجمهور مهيأ للاستجابة السريعة أكثر من غيره، وأنَّ فرص الإيمان أمامه كثيرة، وأنَّ فطرته سليمة، فإن هناك احتمال لتأثُّر الجمهور بمكائد "الملأ"، والسير وراء تضليلهم وأكاذيبهم كما حصل لقوم فرعون، فقد تابعوه على باطله وناصروه عليه، قال تعالى عنه وعنهم: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} ، وفي تفسير ابن كثير: استخفَّ عقولهم فدعاهم إلى الضلالة فاستجابوا له3، والظاهر أنَّ فتنة فرعون كانت عظيمة، فقد جمع بين الملك والرئاسة والأعوان والأموال، مع فراغ قلوب قومه من العلم النافع والهدى العاصم والعقل الراجح، فوقعوا في فتنته وأباطيله التي كان يحتجُّ بها في رد دعوة موسى -عليه السلام {فَاتَّبَعُوا أَمْر

_ 1 سيرة ابن هشام ج1 ص339. 2 تفسير ابن كثير ج2 ص442. 3 تفسير ابن كثير ج4 ص130.

فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} كما أخبر الله عنهم. وقال تعالى عن إغواء السادة والكبراء للضعفاء وهم الجمهور: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ، قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ، وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 1، في هذه الآيات الكريمة يخبر الله تعالى عن تمادي الكفَّار في طغيانهم وعنادهم وإصرارهم على عدم الإيمان بالقرآن وبما أخبر به، ثم يخبر -سبحانه وتعالى- عن أحوالهم التي سيصيرون إليها يوم القيامة، ومنها: وقوفهم بين يدي ربهم يتراجعون الكلام فيما بينهم باللوم والعتاب، والخصم بعد أن كانوا في الدنيا متناصرين، ومن هذه المحاججة والمراجحة في اللوم والعتاب قول الذين استضعفوا منهم، وهم الأتباع، للذين استكبروا منهم وهم قادتهم وسادتهم ورؤساؤهم: {لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِين} ، أي: لولا أنتم كنتم تصدوننا عن الهدى لكنَّا اتبعنا الرسل وآمنا بما جاءونا به من الحقِّ، فيقول الذين استكبروا وهم القادة والرؤساء: {أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ} ، أي: نحن ما فعلنا بكم أكثر من أن دعوناكم فاتَّبَعْتُمونا من غير دليل ولا برهان، وخالفتم الأدِلَّة والبراهين والحجج التي جاءت بها الرسل؛ لشهوتكم واختياركم الدنيا وما وعدناكم به، وكنتم مجرمين باتباعكم إيَّانا، فيقول المستضعفون وهم الجمهور من الكفار للملأ المستكبرين من الكفار: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} ، أي: مكركم بالليل والنهار، أي: كنتم تمكرون بنا ليلًا ونهارًا، أوتغروننا وتمنُّوننا بالأماني الباطلة، وتخبروننا أنكم على الحق، وأنَّ دعوة الرسل باطلة، فإذا جميع ما ذكرتموه لنا باطل وكذب، وكنتم تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادًا، أي: نظراء وآلهة معه، وتقيموا لنا شبهًا لإثبات باطلكم لإضلالنا وإغوائنا، وهكذا فإنَّكم أيها الكبراء المجرمون بدعائكم لنا إلى الكفر وتزيينكم لنا الباطل اتبعناكم وصرنا من الكافرين، ثم يخبر الله تعالى عنهم أنَّهم أسروا الندامة لمَّا رأوا

_ 1 سورة سبأ الآيات 31، 32.

العذاب، أي: أظهروا جميعًا الندم، السادة والأتباع، كلٌّ ندم على ما سلف منه، ولكن لا ينفعهم الندم، ولهذا توضع في أعناقهم السلاسل، أي: تجمع أيديهم مع أعناقهم جزاء أعمالهم وتكذيبهم، للقادة عذاب بحسبهم، وللأتباع عذاب بحسبهم1. لماذا يتأثر الجمهور بالملأ: 608- قلنا: إنَّ الجمهور أكثر استجابة للحقِّ من غيرهم، وقلنا: هناك احتمال لتأثُّر الجمهور بالملأ وباطله، فلماذا يكون هذ التأثر بالباطل مع وضوح الحق وعدم وجود الموانع للاستجابة عند الجمهور؟ الجواب عن ذلك يرجع إلى جملة أسباب: 609- أولًا: الخوف، فلا شك أنَّ الملأ الكافر وبيده القوة والنفوذ والمال يستطيع أن يرهب الجمهور ويخوفهم إن خرجوا عن الكفر الذي هم فيه، وهذا الخوف يثبِّط الهِمَمَ والعزائم عند أكثر الجمهور طلبًا لسلامة أنفسهم من الأذى، قال تعالى: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ} 1، فالخوف من بطش فرعون وملئه منع أكثر الجمهور من الإيمان به، ولم يؤمن به إلّا قلة منهم وهم خائفون أن يصيبهم بطش فرعون، صحيح أنَّ قلة من الجمهور لا يخيفهم التهديد والوعيد بإنزال العذاب الشديد إن آمنوا بالحق، فيعلنوا إيمانهم غير هيَّابين ولا وجلين، كما حصل لسحرة موسى عندما أعلنوا إيمانهم بموسى وبدعوته الحق وبربهم -سبحانه وتعالى، ولم يلتفتوا إلى تهديد فرعون لهم بالصَّلْبِ والقتل، وقالوا له: {لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ، إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} ، وكذلك أصحاب الأخدود آمنوا بالرغم من العذاب الشديد، ولكن هؤلاء قلة من الجمهور، والكثير منهم يتأثرون بالخوف من الملأ، فلا يُقْدِمُون على الإيمان، ثم يطول عليهم الأمد، ويألفون الكفر فيرضونه طائعين بعد أن كانوا له كارهين، فيعمَّهم العذاب، ومما يشير أيضًا إلى أثر الخوف في منع الجمهور من أتباع الحق، قوله تعالى: {وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} .

_ 1 تفسير ابن كثير ج3 ص539، تفسير القرطبي ج14 ص303، 304. 2 سورة يونس الآية: 83.

610- ثانيًا: الإغراء بالمال وحطام الدنيا، فإنَّ الملأ يملكون ذلك ويلوّحون به إلى الجمهور إن تابعوهم على باطلهم ورضوا بقيادتهم لهم، وقد يشير إلى ذلك قوله تعالى عن قوم نوح، قال ربنا -عز شأنه: {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا} ، فإنهم اتبعوا ساداتهم وكبراءهم أصحاب الرئاسة والأموال على أمل الحصول على شيءٍ من أموالهم، وفي قوله تعالى حكاية عن فرعون: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ} إشارة -على ما أفهمه- إلى إغراء فرعون للجمهور بما يملكه من مالٍ وأسباب الحياة المادية، وأنه يعطيها من يوافقه على باطله، أو يهيئ له فرصة الاستفادة منها، وفي السيرة النبوية أنَّ أشراف قريش عرضوا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المال الكثير يعطونه له إذا ترك دعوته، مما يدل على أنَّ "الملأ" يغرون الناس بالمال إعطاءً أو منعًا لصدِّهم عن الدعوة إلى الله -سبحانه وتعالى. 611- ثالثًا: الشبهات، الملأ لا يكتفي بالقوة والبطش والتخويف لصدِّ الجمهور عن دعوة الحق، وإنما يسلك معهم سبيل الشبهات، وهذه الشبهات أنواع كثيرة، منها: رمي الداعي إلى الله بالجنون والضلال والسفاهة، وقد ذكرنا بعض الآيات الكريمة عن قوم نوح وهود ومنها: {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} ، وعن هود: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} ، ومن شبهاتهم قولهم: إن الرسول بشر، وما ينبغي في زعمهم أن يكون الرسول من البشر {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا} ، ومن شبهاتهم أنَّ الملأ في مقاومتهم دعوة الحق يريدون حماية عقيدة الناس ومصالحهم ودفع الفساد عنهم، قال تعالى عن مثل هذه الشبهة القديمة في الملأ، المتجدَّدة في كل زمان: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} 1، ومثل هذا كان يقول الملأ من قريش، من أنَّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- يريد إفساد عقيدتهم، وتسفيه آلهتهم، ولهذا فهم يقاومونه. ومن شبهاتهم: أنَّ لهم الأموال الكثيرة والجاه والسلطان، وأنَّ هذا دليل على أحقيتهم وصلاحهم، ولهذا فهم خيرٌ من الداعي ولو كان رسولًا، قال تعالى: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ

_ 1 سورة المؤمن، الآية 26.

فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ، أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ} ، ففرعون يعتزّ بملكه وسلطانه وثراه ومنعته، ويُوهِمُ الجمهور أنَّه وهذه منزلته أحق بالحق من موسى الذي ليس عنده شيء مما عند فرعون، الذي لا يكاد يفصح عن مقصده وغرضه، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ، وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} ، فهم يستدلون بما أعطاهم الله من أموالٍ وأولاد على صلاحهم ونجاتهم من العذاب، وجهلوا سنة الله في العطاء والمنع، فالله تعالى يعطي المال لمن يحب ولمن لا يحب، فلا يكون المال دليلًا على صلاح الشخص ورضى الله عنه. وهذه الشبهات على بطلانها فإنَّها تؤثر في الجمهور؛ لأن من يسمع يضل؛ ولأن الملأ يلقيها بأسلوب ناعمٍ مزخرف ليزيد من تضليله وإغرائه للجمهور بالمال، وإخافته لهم بالقوة. والإنسان يحب الحياة والتمتع فيها، ويخاف الأذى والحرمان، فتتجمَّع الشبهات مع هذه الغرائز الإنسانية فيقع التأثير في أكثر الجمهور، ولا ينجو منها إلّا القليل منهم، ومع هذا يبقى أكثر أتباع الرسل الكرام من الجمهور لا من الملأ.

المبحث الثالث: المنافقون

المبحث الثالث: المنافقون تعريف المنافق: 612- المنافق في الاصطلاح الشرعي: هو الذي يظهر غير ما يبطنه ويخفيه، فإن كان الذي يخفيه التكذيب بأصول الإيمان فهو المنافق الخالص، وحكمه في الآخرة حكم الكافر، وقد يزيد عليه في العذاب لخداعه المؤمنين بما يظهره لهم من الإسلام، قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} ، وإن كان الذي يخفيه غير الكفر بالله وكتابه ورسوله، وإنما هو شيء من المعصية لله، فهو الذي فيه شعبة أو أكثر من شعب النفاق، والذي نريد أن نتكلم عنه في هذا البحث هو المنافق الخالص الذي يخفي كفره وتكذيبه لله ولكتابه ولرسوله، ومع هذا فإنَّنَا سنذكر بعض صفات هؤلاء المنافقين ليتَّعِظَ ويعتبر المسلم، فقد يكون فيه من صفات المنافقين وهو لا يشعر؛ ولأنه من الجائز أن يجتمع مع الإسلام بعض شعب النفاق. أين يوجد المنافق؟ 613- عندما تنتصر الدعوة إلى الله في المجتمع الكافر وتعلو كلمة الله، ويدخل الناس في دين الله أفواجًا، وتستأصل قوة الكفر، ويذهب سلطان الكافرين، وتكون القوة والمنعة للمسلمين، عند ذاك يمكن أن يوجد المنافقون الذين لم يؤمنوا مع المؤمنين، ولم يبقوا على كفرهم ظاهرين معروفين مع الكافرين، خوفًا من سطوة المسلمين، فيبطنوا الكفر ويظهروا الإسلام. وعلى هذا فالنفاق لا يوجد إذا كانت الغلبة والسطوة والسلطة للكفار؛ لأنه لا خوف في هذه الحالة من إظهار الكفر والتمرُّد على الإسلام،

ولهذا لم يكن أحد من المسلمين منافقًا في مكة قبل الهجرة إلى المدينة؛ لأنَّ المسلمين كانوا قلة مستضعفين لا حول لهم ولا قوة ولا سلطان، وإنما السلطان لكفار قريش، ولكن بعد أن هاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون إلى المدينة، وصار للمسلمين قوة وسلطان، وانتشر الإسلام في المدينة، ظهر النفاق والمنافقون. أساس النفاق: 614- وأساس النفاق الكفر والجبن، أمَّا الكفر فهو ما يبطنه المنافق، وأمَّا الجبن فهو الذي يجعل المنافق يظهر خلاف ما يبطنه من الكفر، ولهذا لا يكون المنافق إلّا جبانًا خوَّارًا ضعيف القلب، يحسن الكيد والمواربة والعمل في الظلام، وإذا لقي المؤمنين أظهر لهم نفسه كأنَّه مؤمن {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} ، فهم لجبنهم يقولون: إننا مؤمنون، وإذا خلوا إلى قرنائهم من المنافقين والكاذبين قالوا: نحن نستهزئ بالمؤمنين بقولنا لهم: إنَّنَا مؤمنون. المنافق أسوأ من الكافر: 615- والمنافق أضرّ وأسوأ من الكافر؛ لأنه ساواه في الكفر، وامتاز عليه بالخداع والتضليل وإمكان تسلله في صفوف المسلمين، فيكون إيذاؤه شديدًا، والحذر منه قليلًا، بخلاف الكافر الذي لا يحصل فيه الاشتباه، ولا يمكن أن يخدع المسلمين بحقيقته الظاهرة. علامات النفاق: 616- وإذا كان النفاق يقوم على الكفر الباطن، والأصل خفاء ما في القلوب، فإنَّ السبيل إلى معرفة المنافق هو ظهور علامات النفاق عليه، فإذا ظهرت هذه العلامات حذره المسلمون وتوقوا شره، سواء أكان من المنافقين الخالصين، أي: الذين يخفون تكذيب الله ورسوله، أو كان من الذين عندهم أصل التصديق بالله ورسوله، ولكن شاب تصديقه بعض معاني النفاق، واتَّصَف ببعض صفات المنافقين، فمن ظهرت عليه صفات المنافقين عومل معاملة المنافقين بقدر ما ظهر فيه من صفاتهم، سواء أكان عنده أصل الإيمان بالله ورسوله، أو لم يكن عنده الأصل.

617- وعلامات المنافق تعرف من كتاب الله وسنة رسوله، لا بما يتعارف عليه الناس، فقد يعتبرون بعض هذه العلامات من لوازم المجاملة، أو من حسن الآداب والأخلاق، وكل هذه التبريرات لصفات النفاق والمنافقين لا تغيِّر من الحقيقة شيئًا؛ لأنَّ العبرة بالمسمَّيَات لا بالأسماء، فإنَّ حقيقة الشيء التي تبقى هي هي وإن غيِّرَ الناس اسم هذا الشيء، فما هي علامات المنافق وصفاته؟ علامات المنافق وصفاته: 618- أولًا: مرض القلب، قال تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} ، ومرض القلب نوعٌ من الفساد يصيب القلب فيختلَّ إدراك صاحبه وإرادته، حتى لا يرى الحق أو يراه على خلاف ما هو عليه، وتختل إرادته بحيث يبغض الحق النافع ويحب الباطل الضارّ، ومريض القلب يؤذيه ما لا يؤذي صحيح القلب، فأدنى شيء يثير شهوته، قال تعالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} ، فالخضوع بالقول يثير شهوة صاحب القلب الفاسد المريض، بينما صاحب القلب الصحيح لو تعرَّضت له امرأة لم يلتفت إليها، وقصة يوسف -عليه السلام- معروفة، وكذلك الحال في الشبهات، فأدنى شبهة تثير الشكوك في صاحب القلب المريض، وأدنى فتنة تزلزل قدميه وترده على عقبيه، قال تعالى: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ..} ، والمنافق له النصيب الأكبر من مرض القلب إذا كان منافقًا خالصًا، وله نصيب غير قليل إذا كان عنده أصل الإيمان ولكنَّه متَّصِفٌ بصفات أهل النفاق. 619- ثانيًا: الإفساد في الأرض، قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} ، فهم يفسدون ولا يشعرون أنهم مفسدون، بل ويحسبون أنفسهم من المصلحين، والفساد هو الكفر قولًا وعملًا، وعمل المعصية والأمر بها؛ لأنَّ من عصى الله في الأرض أو أمر بالمعصية فقد أفسد في الأرض؛ لأنَّ صلاح الأرض بالطاعة وفسادها بالمعصية، وفساد المنافقين كفرهم وشكّهم وتكذيبهم ومخادعتهم الله ورسوله والمؤمنين، وموالاتهم لأعداء الدِّين، ومحاربتهم لأولياء الله والدَّاعين إليه، إلى غير ذلك مما يتبيِّن من صفاتهم. 620- ثالثًا: رميهم المؤمنين بالسَّفَه، قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا

آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ} ، والسفيه هو الجاهل، الضعيف الرأي، القليل المعرفة بمواضع المصالح والمضارّ1، ولكن الحقيقة كما أخبر الله تعالى أنَّهم هم السفهاء، فالسفاهة محصورة فيهم وبأمثالهم من الكفرة، ولكن من تمام جهلهم أنَّهم لا يعرفون ما فيهم من الضلالة والجهالة. 621- رابعًا: اللدد في الخصومة والعزة بالإثم، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ، وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ، وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} 2، فالمنافق يأتي بالقول الجيد يتشدَّق به ويلوي لسانه به، ويظهر الإسلام، ويشهد الله والمؤمنين أنَّ الذي في قلبه موافق للسانه وهو ألدّ الخصام، أي: أعوج في خصامه، ووجه هذا العوج أنَّه يكذب ويزوّر عن الحق ويفتري ويفجر، كما جاء في الحديث الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم: "آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر"، وهو مع هذا يقصد الفساد في الأرض، فليس له هِمَّة إلّا في الفساد في الأرض وإهلاك ما ينفع الناس من حرثٍ ونسل، وإذا قيل له: اتق الله واترك ما أنت فيه من قول فاجر وسعي فاسد، وارجع إلى الحق، امتنع وأبى وأخذته الحميَّة والغضب بالأثم، أي: بسبب ما اشتمل عليه من الآثام. 622- خامسًا: موالاة الكافرين والتربُّص بالمؤمنين، قال تعالى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا، الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا، وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا، الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} 3. المنافق يوالي الكافرين، أي: ينصرهم

_ 1 تفسير بن كثير ج1 ص50. 2 سورة البقرة، الآيات: 204-206. 3 سورة النساء، الآيات: 137، 138، 140.

ويودهم، ويقول إذا خلا بهم: إني معكم، فهو في الحقيقة منهم. ومن صفات المنافقين أنَّهم ينتظرون زوال دولة المسلمين وظهور الكفَّار عليهم وذهاب دينهم، فإن كان للمسلمين نصر وغلبة قال لهم المنافقون: ألم نكن معكم، وإن كان للكفرين غلبة على المسلمين قالوا لهم: ألم نساعدكم في الباطن. فالمنافقون يصانعون الكفار والمسلمين، وإن كان ودهم وميلهم مع الكفار، ولكن لا يريدون الظهور معهم علانية، ولا تحمل ما يتحملون من جهد في محاربة المسلمين. 623- سادسًا: الخداع والرياء والتكاسُل عن أداء العبادات، قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا، مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} 1، من صفات المنافقين الخداع، يخادعون الله ويخادعون الناس، أمَّا وجه مخادعتهم الله تعالى فهو اعتقادهم أن أمرهم كما راج بين الناس وجرت عليهم أحكام الإسلام في الظاهر، وخفت حقيقتهم على الناس، فكذلك يظنون يكون حكمهم عند الله يوم القيامة، فيروج أمرهم ويخفى عند الله كما راج وخفي على الناس، وهذا محض الجهل؛ لأنَّ الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. ومن صفاتهم: تثاقلهم عن العبادات، فهم إذا تذكَّروا الصلاة وقاموا إليها قاموا كسالى لا يحبونها ولا يريدونها، وإنما يفعلونها على وجه الرياء للناس، ولهذا فهم لا يذكرون الله إلّا قليلًا. جاء في الحديث: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "تلك صلاة المنافقين، تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقر أربعًا، لا يذكر الله فيها إلّا قليلًا". والمنافقون متحيِّرون، فلا هم مع المؤمنين ظاهرًا وباطنًا، ولا مع الكافرين. 624- سابعًا: التحاكم إلى الطاغوت، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ

_ 1 سورة النساء، الآية: 142.

صُدُودًا، فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا، أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} 1. من صفات المنافقين: زعمهم أنَّهم يؤمنون بما أنزل الله على رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم، وما أنزل الله على رسُلِه من قبله، ومع هذا الزعم بألسنتهم، يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وهو الباطل، وهو ما عدا الكتاب والسنة، وقد أمرهم الله تعالى بالبراءة منه، ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالًا بعيدًا في دفعهم إلى التحاكم إلى ما عدا الكتاب والسنة، فكيف حالهم إذا أصابتهم مصيبة بسبب نفاقهم وتمرُّدهم على أوامر الله، ثم جاءوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحلفون بالله أنَّهم ما قصدوا بالتحاكم إلى الطاغوت إلّا الإحسان والتوفيق، إلّا الاصلاح والخير ومصانعة أهل الباطل. إن أولئك المنحرفين عن دين الله وعن شريعته يعلم الله ما في قلوبهم من المرض والنفاق، فأعرض عنهم، أي: لا تعنِّفهم على ما في قلوبهم، ولكن انههم عمَّا في قلوبهم من النفاق وانصحهم بكلام بليبغ رادعٍ لهم. 625- ثامنًا: الإفساد بين المؤمنين، قال تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} 2، ويحرص المنافقون على إضعاف المسلمين وتفريق صفوفهم وإشغالهم فيما بينهم، وهذه الآية الكريمة تبيِّنُ هذه المعاني وغيرها، فقد يحزن المسلمون على عدم النظام بعض الناس إليهم، وعدم العمل معهم، ظنًّا منهم أنَّهم منهم وأنهم ينفعونهم إذا خرجوا معهم، ولكنَّ الله يعلم غير ذلك؛ يعلم أنهم لو خرجوا مع المسلمين لما زادوهم إلّا خبالًا، أي: فسادًا بالنَّميمة، وإيقاع الاختلاف بين المسلمين، وبثّ الأراجيف، ولأوضعوا خلال المسلمين، أي: لأسرعوا فيما بينهم بالنميمة والبغضاء والفتنة، وفي المسلمين سمَّاعون لأولئك المنافقين، أي: مطيعون لهم ومستجيبون لحديثهم وكلامهم يستنصحونهم أو يسألونهم لا يعلمون حالهم، فيؤدي ذلك إلى وقوع الشرِّ بين المؤمنين3.

_ 1 سورة النساء، الآيتان: 59، 60. 2 سورة التوبة، الآية 74. 3 تفسير ابن كثير ج2 ص361.

626- تاسعًا: الكذب والخوف وكره المسلمين، قال تعالى: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ، لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} 1، فمن صفات المنافقين الكذب والحلف عليه، جاء في الحديث: "آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتُمن خان"، وفي رواية: "وإذا خاصم فجر"، وفي الآية الكريمة إخبار عن المنافقين أنَّهم يحلفون بالله أنَّهم من المسلمين، والحقيقة خلاف ذلك، ولكنَّهم قوم يفرقون، أي: يخافون، فالدافع لهم على الكذب أنَّهم يخافون أن ينكشف كفرهم، فيعاقبهم المسلمون، فهم من كرههم للمسلمين لا يودون مخالطتهم ولا رؤيتهم، ولهذا فهم في هَمٍّ وحزَن كلما رأوا الإسلام وأهله في عزٍّ ونصر؛ لأنَّ هذا يسوؤهم ويحزنهم، ولو رأوا ملجًأ، أي: حصنًا، أو مغارات أو مدَّخَلًا وهو النفق في الأرض، لأسرعوا في ذهابهم إليها ليغيبوا عنكم ولا يروكم. 627- عاشرًا: يعيبون أهل الحق، ويرضون ويسخطون لحظوظ أنفسهم، قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} 2، ومن صفات المنافقين الطَّعن في أهل الحق وفي أعمالهم الحَقَّة العادلة؛ لأنَّ المنافقين لا يحبون الحق والعدل، ورضاهم وسخطهم لأنفسهم، فإن أعطوا شيئًا مما يريدون رضوا، وإن لم يعطوا سخطوا أو غضبوا، ورموا أهل الحق بالظلم والحَيْف، وهذا كان ديدنهم مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وهذا ما تخبرنا به هذه الآية الكريمة، فقد كان من المنافقين من يلمز، أي: يعيب رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ويطعن عليه في قسم الصدقات، أي: الزكاة على المستحقين، فإذا أعطوا منها رضوا وسكتوا، وإن لم يعطوا منها غضبوا وسخطوا، وهذا شأن المنافقين في كل زمان، يرضون على الشخص إذا أعطاهم ما يأملون، ويسخطون عليه إذا لم يعطهم ما يأملون، وهم في رضاهم وسخطهم ينظرون إلى أنفسهم ولا ينظرون إلى الحق والعدل. 628- حادي عشر: الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف، قال تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ

_ 1 سورة التوبة، الآيتان: 56، 57. 2 سورة التوبة، الآية 58.

الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} 1، ومن صفات المنافقين أنَّهم يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف؛ لأن نفوسهم المريضة لم تعد ترغب في رؤية الخير يعمله الناس، فهم يحبون أن يشيع الشر والمنكر بين الناس، فهذا هو الذي تهواه نفوسهم، ويشفي حقدهم وغيظهم على أهل الحق، وحتى يتساووا مع الناس في فعل القبائح، ومع هذه الصفة الخبيثة لا ينفقون فيما يحبه الله، فهم بخلاء في الإنفاق وفي فعل الخير، وفي الأمر به والدلالة عليه. 629- ثاني عشر: الغدر وعدم الوفاء بالعهد، قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ، فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ، فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} 2، من صفات المنافقين الغدر والخيانة وعدم الوفاء بالعهد، حتى مع الله -جلَّ جلاله، بخلاف المؤمن، فإنَّ الكلمة تلزمه، فلا يغدر ولا يخون، ويفي بعهده مع الناس ومع الله تعالى، وهذه الآية الكريمة تبيِّن أنَّ من المنافقين من أعطى الله عهده وميثاقه لئِنْ أغناه من فضله ليصدقَنَّ من ماله، وليكونَنَّ من الصالحين، فما وفى بما قال، ولا صدق فيما ادَّعى، فأعقبهم هذا الصنيع نفاقًا سكن وثبت في قلوبهم إلى يوم يلقون الله -عز وجلَّ- يوم القيامة3. 630- ثالث عشر: يعيبون المؤمنين ويسخرون منهم، ولا يرضيهم منهم شيء، قال تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 4. من صفات المنافقين عيبهم الدائم للمؤمنين، وطعنهم فيهم، ولا يرضيهم منهم شيء، فإن تصدَّق أحد المؤمنين بالمال الكثير قالوا عنه: هذا مراء، وان تصدَّق بالقليل لأنه لا يجد أكثر منه، قالوا: إن الله لغني عن صدقة هذا، ومع عيبهم هذا يسخرون من المؤمنين ويستهزءون بهم، ويضحكون منهم.

_ 1 سورة التوبة، الآية: 67. 2 سورة التوبة، الآيات: 75، 77. 3 تفسير ابن كثير ج2 ص173، تفسير القرطبي ج8 ص210. 4 سورة التوبة، الآية: 79.

631- رابع عشر: تواصيهم بترك الجهاد، قال تعالى: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} 1. من صفات المنافق عدم المعرفة وعدم الفقه، فهو يترك الإيمان بالله، ويفرح بقعوده عن الجهاد في سبيله، ويوصي غيره من المنافقين بعدم الجهاد لما فيه من المشقَّة كالحر، وينسى هذا المنافق أنَّ نار جهنم أشدُّ حرًّا من هذا، وأنَّ العاقل من يعمل ما ينجيه منها. 632- خامس عشر: الإضرار بالمؤمنين وتستُّرهم بفعلٍ ظاهره مشروع، قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ، لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} 2، تشير الآية إلى بعض صنيع المنافقين في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم، فقد بنوا مسجدًا ضرارًا لمسجد قباء، أي: ضررًا لأهل مسجد قباء وهم المؤمنون، وكفرًا بالنبي -صلى الله عليه وسلم، وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله، أي: انتظارًا وترقبًا لمن حارب الله ورسوله من قبل بناء مسجد الضرار، وهذا هو مقصودهم من بناء المسجد، وإن حلفوا كاذبين أنَّهم إنَّمَا أرادوا ببنائه الحسنى، أي: الخير والرفق بالمسلمين؛ ليصلي فيه ذو العلة والحاجة، والله يشهد أنهم لكاذبون فيما يحلفون عليه، وقد كان من خبر هذا المسجد أنَّ الله -عز وجلّ- أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يهدمه ولا يصلي فيه، وأنَّ مسجد قباء الذي أُسِّسَ على التقوى وطلب رضاء الله هو الذي يستحق أن يصلِّيَ فيه المسلمون ويجتمعون فيه على الخير، "وهذا المسجد ما يزال يتخذ في صور شتَّى تلائم ارتقاء الوسائل الخبيثة التي يتخذها أعداء هذا الدين. تتخذ في صورة نشاط ظاهره للإسلام، وباطنه لسحق الإسلام أو تشويهه وتمويهه وتمييعه. وتتخذ في صورة أوضاع ترفع لافتة الدِّين عليها لتختفي وراءها وهي ترمي هذا الدين، وتتخذ في صورة تشكيلات وتنظيمات وكتب وبحوث تتحدَّث عن الإسلام.........

_ 1 سورة التوبة، الآية: 81. 2 سورة التوبة، الآية: 107، 108.

ومن أجل مساجد الضِّرَار الكثيرة هذه يتحتَّم كشفها وإنزال اللافتات الخادعة عنها، وبيان حقيقتها للناس وما تخفيه وراءها. ولنا أسوة في كشف مسجد الضرار على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم ... "1.

_ 1 في ظلال القرآن ج11 ص35، 36.

المبحث الرابع: العصاة

المبحث الرابع: العصاة تعريفهم: 633- نريد بالعصاة كصنفٍ من أصناف الناس مَنْ كان عندهم أصل الأيمان وهو الإقرار بشهادة أن لا إله إلّا الله وأن محمدًا رسول الله، ولكنَّهم لا يقومون بحقوق هذه الشهادة، فهم يخالفون بعض أوامر الشرع ويرتكبون بعض نواهيه، ومنهم المكثِر من المعاصي، ومنهم المقِلّ، ومنهم بين ذلك على درجات كثيرة جدًّا ومتنوعة جدًّا، لا يحصيها إلّا الله تعالى. المسلم غير معصوم من المعصية: 634- والمسلم غير معصوم من المعصية، جاء في الحديث: "كل ابن آدم خطَّاء وخير الخطائين التوابون"، وتعليل ذلك أنَّ نفس الإنسان قابلة لارتكاب المعصية كما هي قابلة لفعل الطاعة، والمطلوب من المسلم أن يحرص على طاعة الله وعدم معصيته، قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} ، وإذا وقع في معصية فعليه أن يسارع إلى التوبة، ويقلع عن معصيته، وينيب إلى ربه. أسباب العصيان: 635- وقد يرد إلى الذهن هذا السؤال: لماذ يعصي المسلم أوامر الشرع الإسلامي وهو مؤمن بالله وبرسوله وباليوم الآخر، ومؤمن بأن معصية الخالق -جلَّ جلاله- تؤدي إلى سخطه وعذابه؟ والجواب على ذلك: إنَّ الإيمان قد يضعف في قلب

المسلم فتغلبه شهوته، ويقبل إغراء الشيطان فيرتكب المعصية؛ لأنَّ العقاب على الذنوب شيء موعود به في الآخرة، ولذائذ الدنيا المحرَّمة شيء حاضر، والنفس مجبولة على التأثُّر بالحاضر لا بالغائب، وإن كانت عاقبة الحاضر مُرَّة وعاقبة الغائب حلوة، ولا يمنعها من هذا التأثير إلّا الإيمان القوي المنير الذي يجعل الغائب كالحاضر، فيكون التأثر به لا بالحاضر المحسوس فعلًا، قال تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} ، فالإنسان بطبيعته يؤثر اللذة العاجلة -وإن كانت تافهة- على اللذة الآجلة -وإن كانت جسيمة، ومع ضعف الإيمان يقوى هذا الطبع وهذه الجِبّلة في الإنسان، فيستسهل ارتكاب المخالفة ابتغاء اللذة العاجلة، أو دفع المشقة العاجلة، لا سيما مع أمل البقاء والتوبة في المستقبل وتسكين النفس بأمل عفو الله تعالى. جهل العاصي: 636- العاصي جاهل قطعًا، فلولا جهله لما عصى الله تعالى، قال ربنا -جلَّ جلاله: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} 1، قال مجاهد وغير واحد من أهل العلم: كل من عصى الله خطأً أو عمدًا فهو جاهل حتى ينزع من الذنب. وقال قتادة عن أبي العالية: أنه كان يحدِّث أنَّ أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كانوا يقولون: كل ذنب أصابه عبد فهو جهالة. وعن مجاهد أيضًا قال: كل عامل بمعصية الله فهو جاهل حين عمله. وعن ابن عباس: من جهالته عمل السواء2. ووجه جهل العاصي أنَّه يجهل قدر ربه، وما يجب له من طاعة لحق ربوبيته وألوهيته وعظمته وكمال إنعامه على عبده، وكمال فقر العبد له، وعدم خفاء شيء على الله تعالى مِمَّا عمل الخلق، وأنهم مجزيون على أعمالهم، ومن جهل العاصي جهله بضرر الذنوب، وكان ينبغي أن ينفر منها أشد من نفرته من الحيات والعقارب، ولا يلامسها ولا يضعها على جسمه، ولكنَّ العاصي من جهله يقبل عليها ويباشرها، ومن جهله أن يؤثر العاجلة على الآخرة، وما نسبة العاجلة وما فيها من لذائذ إلى نعيم الآخرة إلّا كنسبة ما يعلق بالأصبع إذا غمستها في البحر إلى مائه، ومن جهله التسويف وطول الأمل وتأجيل التوبة، ولم يعلم أن الموت أقرب إلى الإنسان من شراك نعله، وأنه لا

_ 1 سورة النساء، الآية: 17. 2 تفسير ابن كثير ج1 ص463.

يستأذنه إذا حان الأجل، ومن جهله أنَّه يتعب كثيرًا، ويترك لذائذ كثيرة في سبيل ظفره بربحٍ آجل في الدنيا، ولو عقل لفعل للآخرة ما يفعله لنوال هذا الربح. ألَا ترى الطالب يحبس نفسه في بيته يقرأ ويدرس أيامًا وأسابيع لينجح في الامتحان، وإن فاتته بعض اللذات، والتاجر يركب الأخطار ويفارق أهله ويقطع الفيافي والقفار ليربح شيئًا من المال، فلماذا لا يعمل للآخرة كما يعمل في هذه الأحوال، ثم أليس من جهل العاصي أنَّه إذا سمع قول طبيب يخبره أنَّه إذا شرب كذا أو أكل كذا مات، أو كان على خطر شديد، فإنه يتَّبِع نصيحة الطبيب، ويفطم نفسه مما نهاه عنه، مع أنَّ قول الطبيب يحتمل الخطأ، بينما ما أخبرنا به الرسول -صلى الله عليه وسلم- من وعيد الله وعذابه لمن تخطَّى حدوده هو خبر صدق ويقين قطعًا، فلماذا لا يأخذ بقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- ويأخذ بقول الطبيب، لولا جهله وجهالته؟ ومن جهل العاصي اتكاله على عفو الله ورحمته، ونسي أنَّ رحمة الله قريب من المحسنين، وأنَّ العارفين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أن لا يقبل منهم، وأنَّ الراجي حقًّا من قام بالأسباب وانتظر رحمة العليم العلَّام، كالذي يحرث الأرض ويلقي البذر ويقوم بالسقي ويتعَهَّد الزرع، ويرجوا أن يحفظ الله زرعه ويجنِّبه الآفات. أمَّا الأحمق المغرور فهو الذي يترك أرضه تملأها الأشواك والأدغال، ولا يلقي فيها بذرًا، ويرجو أن ينبتها الله له. الوقاية من المعاصي: 637- العلاج من ارتكاب المعاصي أو الميل إليها، وإن كنَّا قد أشرنا إليه بعض الإشارة، سنتكلم عنه إن شاء الله تعالى عند كلامنا عن أساليب الدعوة في الباب الرابع، ويكفينا هنا أن نقول: إنَّ الوقاية خير العلاج كما قالوا، وهو يصدق في الوقاية من أمراض البدن ومن أمراض القلب، والمعاصي هي سبب مرض القلب، ونتائج مرض القلب، فكيف يتقي من المعاصي؟ في كل نفس استعداد وقابلية لارتكاب المعاصي {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} ، فالنفس تحمل جراثيم المعاصي، وهذه الجراثيم تكون مقهورة مغلوبة ما دام القلب في صحة وعافية معمورًا بالإيمان، فإذا ضعف لأيِّ سبب كان، ووجدت هذه الجراثيم المناخ الملائم انتعشت ونمت وظهرت فعاليتها، كما يحصل لجراثيم الجسم، ومن المناخ الملائم لجراثيم المعاصي كل المهيِّجَات للمعصية من المرئيات والملموسات والمسموعات والمطعومات،

والقراءات. لكل واحد من هذه المهيجات إذا أهاج شهوتك دفعك نحو المعصية وأنساك ذكر الله، فمن المناخ الملائم لجراثيم المعاصي النساء الكاسيات العاريات، والغناء الفاحش القبيح، والمخالطات المحرَّمة، وارتياد محلات أهل الغفلة، وسماع كلام أهل الدنيا، كل هذا وأمثاله يقوي جرثومة المعصية حتى تكون هي القاهرة الغالبة، بعد أن كانت مقهورة مغلوبة، وبالتالي يواقع المعصية وينغمس فيها، أما المناخ الملائم لإضعاف جرثومة المعصية، فهو كل شيء يقوي فيه معاني الإيمان، والعلم الحق بالله واليوم الآخر، ويبصرك طريق الآخرة. فصحبتك للطيبين العاملين للإسلام الداعين إلى الله من أكبر الحصون لنفسك ولإيمانك، وبالتالي لإضعاف جرثومة المعصية. وأخيرًا، فإنَّ من الوقاية أن لا يستصغر المسلم ذنبًا مهما كان صغيرًا، فإنَّ الحزمة من الحطب تتكون من عيدان. وأن لا يعرِّضَ نفسه إلى ما يضعف إيمانه ويقوي فيه جرثومة المعصية اعتمادًا منه على قوته وعافيته، فليس من العقل أن يعرِّض الإنسان نفسه لجرثومة السل، ويغشى محلات المسلولين، بحجة أنه قوي صحيح البدن. موقف الداعي من العصاة: 638- الداعي ينظر إلى العصاة نظرة إشفاق ورحمة، فهو يراهم كالواقفين على حافِّة وادٍ عميق سحيق في ليلة ظلماء، يخاف عليهم من السقوط، ويعمل جهده لتخليصهم من الهلاك. وهو في سبيل هذا الغاية يتجاوز عن تجاوزهم على حقه إن كانت معصيتهم في حقه، ولا يعيرهم ولا يشمت بهم، ولا يحتقرهم افتخارًا بنفسه عليهم وإدلالًا بطاعته، ولكن له أن يستصغرهم لمعصيتهم وتجاوزهم حدود الشرع، وأن يغضب لهذا التجاوز، قالت عائشة -رضي الله عنها: "ما انتقم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لنفسه قط، ولا نيل منه شيء فانتقم لنفسه إلّا أن تنتهك محارم الله، فإذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله". ومن محارم الله التي يغضب لها المسلم محاربة العصاة الدعوة إلى الله والصدِّ عن سبيله وإلحاق الأذى بالدعاة حتى يمتنعوا عنه القيام بواجب الدعوة، ففي هذه الأحوال ونحوها يجوز للداعي أن يسلك مع هؤلاء العصاة ما يكفّ به ضررهم عن الدعوة والدعاة بالقدر الذي يبيحه الشرع، على أن لا يتجاوز هذا القدر، وأن يتوسَّل بالأسهل فالأسهل من وسائل كفِّ ضررهم، مع رغبته التامّة في هدايتهم وصلاحهم.

الباب الرابع: أساليب الدعوة ووسائلها

الباب الرابع: أساليب الدعوة ووسائلها مدخل ... الباب الرابع: أساليب الدعوة ووسائلها تمهيد: 639- الدعوة إلى الله تحتاج إلى علمٍ وكفاءة معينة على التبليغ والتأثير والاستفادة من الظروف والأحوال ومعرفة النفس الإنسانية، أمَّا العلم فقد تكلمنا عنه فيما يتَّصِل بموضوع الدعوة، أي: الإسلام، وهنا نتكلم عن العلم الذي يتصل بكيفية مباشرة التبليغ وإزالة العوائق عنه، وهذه هي أساليب الدعوة، كما نتكلم عمَّا يستعين به الداعي لتبليغ الدعوة من أشياء وأمور، وهذه هي وسائل الدعوة، فإذا فقه الداعي ذلك كله أمكنه أن يكون على قدر من الكفاءة لتبليغ معاني الدعوة إلى الله تعالى، وكل ميَسَّر لما خلق له، والأمور كله بيد الله. وعلى هذا سنقسم هذا الباب إلى ثلاثة فصول: الفصل الأول: مصادر هذه الأساليب والوسائل ومدى الحاجة إليها. الفصل الثاني: أساليب الدعوة. الفصل الثالث: وسائل الدعوة.

الفصل الأول: مصادر أساليب الدعوة ووسائلها ومدى الحاجة إليها

الفصل الأول: مصادر أساليب الدعوة ووسائلها، ومدى الحاجة إليها تعداد المصادر: 640- مصادر أساليب الدعوة ووسائلها هي: القرآن الكريم، السنة النبوية المطهَّرة، سيرة السلف الصالح، واستنباطات الفقهاء، التجارب، ونتكم فيما يلي بشيء من الإيجاز عن كل مصدر للتعريف به. أولًا: القرآن الكريم 641- في القرآن الكريم آيات كثيرة تتعلق بأخبار الرسل الكرام وما جرى لهم مع أقوامهم. وما خاطب الله تعالى به خاتمهم سيدنا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- من أمور الدعوة إليه، وهذه الآيات الكريمة يُسْتَفاد منها أصول أساليب الدعوة ووسائلها التي يجب أن يفقهها المسلم كما يتفقَّه أمور الدين الأخرى؛ لأنَّ الله -جل جلاله- ما قصَّها علينا وأخبرنا بها إلّا لنستفيد منها، ونتزود من معانيها ما يعيننا على الدعوة إلى الله، ونلتزم بنهجها، قال ربنا -تبارك وتعالى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} 1، قال بن كثير في تفسير هذه الآية: "كل أخبار نقصها عليك من أنباء الرسل المتقدمين من قبلك

_ 1 سورة هود الآية: 120.

مع أممهم، وكيف جرى لهم من المحاجَّات والخصومات، وما احتمله الأنبياء من التكذيب والأذى، وكيف نصر الله حزبه المؤمنين، وخذل أعداءه الكافرين، كل هذا مما نثبت به فؤادك يا محمد، أي: قلبك؛ ليكون لك ممن مضى من إخوانك المرسلين أسوة"1. ولا شكَّ أنَّ المسلمين يقتدون برسولهم -صلى الله عليه وسلم، وفيما كان يتأسَّى به من سيرة المرسلين في أمور الدعوة إلى الله، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 2. ففي قصص السابقين من أمم الأرض وما جرى عليهم وما جرى لأنبياءهم معهم عبرة وموعظة لأصحاب العقول السليمة، وهداية ورحمة للمؤمنين بالله ورسوله، فهم الذين يعتبرون بما قصَّه الله عن الماضين ويتعظون به؛ لأن الإيمان قد فتح قلوبهم للحق، وأرهف حسَّهم لمواضع العبرة ومعاني الموعظة، وقال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} 3، فهذه الآية الكريمة تشير إلى لزوم الاقتداء بنهج رسل الله في الدعوة إليه. ثانيًا: السنة النبوية 642- وفي السنة النبوية أحاديث كثيرة تتعلَّق بأمور الدعوة ووسائلها، كما أنَّ السيرة النبوية المطهرة، وما جرى لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مكة والمدينة، وكيفية معالجته للأحداث والظروف التي واجهته، كل ذلك يعطينا مادَّة غزيرة جدًّا في أساليب الدعوة ووسائلها؛ لأنَّ الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- مَرَّ بمختلف الظروف والأحوال التي يمكن أن يمرَّ بها الداعي في كل زمان ومكان، فما من حالة يكون فيها الداعي، أو أحداث تواجهه، إلّا ويوجد نفسها أو مثلها أو شبهها أو قريب منها في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم، فيستفيد الداعي منها الحل الصحيح والموقف السليم الذي يجب أن يقفه إذا ما فقه معاني السيرة النبوية، وقد يكون من حكمة الله ولطيف لطف الله أن جعل رسول

_ 1 تفسير ابن كثير ج2 ص456. 2 سورة يوسف، الآية: 111. 3 سورة الأنعام، الآية: 90.

الكريم يمرّ بما مرَّ به من ظروفٍ وأحوال، حتى يعرف الدعاة المسلمون كيف يتصرَّفون، وكيف يسلكون في أمور الدعوة في مختلف الظروف والأحوال اقتداءً بسيرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم. فالسيرة النبوية والتوجيهات النبوية تطبيقات عملية لما أمر الله به رسوله في أمور الدعوة وتبليغ الرسالة، وما ألهم رسوله في هذا المجال، فلا يجوز للداعي أن يغفل عن سيرة النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم. ثالثًا: سيرة السلف الصالح 643- وفي سيرة سلفنا الصالح من الصحابة الكرام والتابعين لهم بإحسان، سوابق مهمة في أمور الدعوة يستفيد منها الدعاة إلى الله؛ لأنَّ السلف الصالح كانوا أعلم عن غيرهم بمراد الشارع وفقه الدعوة إلى الله، وما زال أهل العلم يستدلون بسيرتهم. رابعًا: استنباطات الفقهاء 644- الفقهاء يعنون باستنباط الأحكام الشرعية العلمية من أدلتها الشرعية، ومن هذه الأحكام ما يتعلق بأمور الدعوة إلى الله، مثل أحكام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد، والحسبة، وقد أفردوا لهذه الأحكام أبوابًا خاصَّة في كتبهم الفقهية، وما قرروه من اجتهادات في أمور الدعوة ومجالها، حكمه حكم اجتهاداتهم الأخرى التي يجب اتباعها أو يُنْدَب؛ لأنَّ الوسائل والأساليب في الدعوة من أمور الدِّين، مثل: مسائل العبادات والمعاملات. خامسًا: التجارب 645- التجربة معلم جيد للإنسان، لا سيما لمن يعمل مع الناس، وللداعي تجارب كثيرة في مجال الدعوة هي حصيلة عمله المباشر مع الناس، ومباشرته للوسائل فعلًا في ضوء ما فهمه من المصادر السابقة؛ لأنَّ التطبيق قد يظهر له وجه خطئه فيتجبنَّه في المستقبل، وقد يكون الثمن غاليًا، ولكن ما يتعلمه من التجارب أغلى من الثمن المدفوع إذا انتفع من التجارب حقًّا، وهذا هو المأول من المؤمن، فإن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين.. وكما أنَّ الداعي يستفيد من تجاربه الخاصة، يستفيد أيضًا من تجارب

الآخرين في مجال الوسائل والأساليب، فإنَّ الحكمة ضالَّة المؤمن يأخذها من أيِّ وعاء خرجت.... ضرورة الاستمساك بالنهج الصحيح في الوسائل والأساليب: 646- النهج الصحيح في الوسائل والأساليب هو المُسْتَقَى من المصادر التي بَيَّنَّاها، والاستمساك بهذا النهج ضروري لكلِّ داعٍ ولازم له، وواجب عليه، لأنَّ الإسلام يقضي به، والواجب على المسلم أن يتمسَّك بما يقضي به الدين، كما أنَّ التزام هذا المنهج الصحيح يقرِّب من الغاية ويوصِّل إلى المطلوب، ثم إنّ المطلوب من الداعي أن يحرص على طاعة الله، واتباع الصواب، وعدم الوقوع في الخطأ وفي العصيان، وهذا المطلوب من الداعي إنما يكون بالالتزام بالنهج الصحيح الذي جاءت به المصادر. فإذا ما قام الداعي بما هو مطلوب منه لم يكن مسئولا عن نتيجة عمله من حيث بلوغ الغاية والوصول إلى المراد؛ لأنَّ الله تعالى يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} ، والحساب إنما يكون على مشروعية عمل الإنسان، وهل أدَّى كل ما عليه من واجب؟ وإذا تبيِّنَ هذا الأمر ووعاه الداعي وفقهه، لم يكن له أن يخرج على النَّهج الصحيح بحجة صعوبته أو طوله، أو عدم قبول الناس له، أو تعجلًا من الداعي لبلوغ الغاية، أو انسياقًا منه وراء عاطفة نبيلة دينية حسنة، ورغبة صادقة في العمل والجهاد والشهادة في سبيل الله؛ لأنَّ الخطأ لا يصير صوابًا بالنيات الحسنة والعواطف النبيلة، وأنَّ الوصول إلى المقصود لا يكون بالسير على ما لا يؤدي إليه، وإن كان السائر جَدُّ حريص على الوصول، ويكفي للتدليل على ما أقول أن أذكر أنَّ أحكام الشريعة ما نزلت دفعة واحدة، وأنَّ الدعوة الإسلامية ما سارت وراء رغبات المتحمسين وعواطف الصادقين المتعجلين، فالقتال ما شُرِّعَ في مكة، وكان جواب النبي -صلى الله عليه وسلم- للمتعجلين: أن اصبروا. وصلح الحديبية لم تتَّسِع له صدور كثير من المسلمين بالرغم من صدقهم وعمق إيمانهم واستعدادهم للقتال وللاستشهاد، ولكن اتسع له صدور رسول الله -صلى الله عليه وسلم؛ لأن المسألة ليست مسألة استعداد للموت، والصدق في هذا الاستعداد، وإنَّما المسألة هي لزوم السير على النهج الصحيح، فهو وحده الموصِّل إلى المراد وبلوغ الغاية على الوجه المطلوب. ولهذ نزل القرآن واصفًا ذلك الصلح بالفتح المبين، فعلى الداعي أن لا يتأثَّر

بالعواطف والقصود الطيبة والحماس لخدمة الإسلام عند تعين الوسيلة والأسلوب، وليدع النظر السديد يُعيِّن الوسائل والأساليب في ضوء ما جاء في المصادر التي ذكرناها. إن الحماس والعاطفة والرغبة في العمل يجب أن يوجّه ذلك كله لتحقيق وتنفيذ الأسلوب الصحيح، والوسيلة الصحيحة بعد تقريرهما، لا أن يوجِّه ذلك للتشكيك في الأسلوب الصحيح، والتجديف بعيدًا عن الوسائل الصحيجة، والجدل العقيم. نتائج الخروج عن النهج الصحيح: 647- والخروج عن النهج الصحيح في الأسلوب والوسيلة يؤدِّي إلى الفشل وعدم بلوغ الغاية، وإن ظنَّ الخارج أنَّه قارب أن يصلها، وحتى ولو وصلها فعلًا، فإنه سرعان ما يدفع عنها ويُرْمَى بعيدًا عنها، وفضلًا عن ذلك فإنَّ الخروج عن النهج الصحيح يؤدِّي غالبًا إلى لحوق الأذى بالعاملين، وضياع الجهود بلا طائل، كالذي يقيم البناء على غير أساسٍ سليمة أو بمواد غير صالحة، فإنَّ بناءه إلى الزوال مع احتمال انهدامه على ساكنيه. إن هذه النتائج تقع حتمًا وإن كان الداعي حسن النية والقصد؛ لأنَّ النتائج في الدنيا تترتب على أسبابها ومقدماتها بغض النظر عن نيّات أصحابها. وعلى سبيل التمثيل أو التدليل على ما نقول، إنَّ من نهج الدعوة الصحيح حسن الخلق والترفُّق، فإن عُدِمَ الداعي ذلك بأن كان فظًّا غليظ القلب، كان سببًا لانصراف الناس عنه وإن كان محقًّا في دعوته مخلصًا في علمه؛ إذ ليس هو بأحسن حالًا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم، الذي خاطبه ربه بقوله: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} ، وأخيرًا فإنَّ الخروج على النهج الصحيح قد يكون من المعاصي التي يقع فيه الداعي؛ لأنَّ المنهج الصحيح في الدعوة من الدين ومخالفة أحكام الدين في أمور الدعوة إلى الله معصية يسأل عنها المسلم؟ صعوبة الالتزام بالنهج الصحيح: 648- والحقيقة أنَّ الالتزام بالنهج الصحيح ليس بالأمر اليسير؛ لأنَّه يقتضي أن يحيط الداعي بمعاني النهج الصحيح وحضورها في ذهنه، بحيث تصدر أفعاله بموجبها بسهولة ويسر، ثم عليه أن يطَبِّق ما فهمه من هذه المعاني على الجزئيات التي يباشرها أو

يواجهها، وهي كثيرة جدًّا ويصعب عدها وحصرها، وكثيرًا ما تختلط هذه الجزئيات ببعضها، وتدق الفروق فيما بينها، وكثيرًا ما ينسى الداعي معاني المنهج الصحيح، وكثيرًا أيضًا ما يصعب عليه استنباط الحلول الجديدة من هذه المعاني الكثيرة، إنَّ مَثَلَ الداعي في هذه الحالة -حالة التطبيق- مَثَلُ القائد العسكري، فقد يستوعب أساليب الحرب والقتال والخطط العسكرية وقواعدها استيعابًا جيدًا جدًّا، ولكن هذا لا يكفيه عند التطبيق؛ إذ لا بُدَّ له من كفاءة وقدرة على حسن الاستفادة مما تعلمه لوضع الخطة الملائمة والأسلوب الصحيح للحالة التي يواجهها في ضوء ما تعلمه، وصعوبة التطبيق بالنسبة للداعي أشد بكثير مما هي بالنسبة للقائد العسكري؛ لأنَّ القائد يجد بين يديه جنودًا مطيعين ينفِّذون ما يأمرهم به القائد، أمَّا الداعي فهو يواجه أناسًا جاهلين بربِّهم، متمرِّدين عليه، نافرين من الحق، مقبلين على الدنيا، معادين للداعي، أو على الأقل لا يهتمون بما يدعوهم إليه من الخير، ولا يحسُّون بحاجة إليه، أضف إلى ذلك أنَّ أحوال الناس وأهواءهم مختلفة متضاربة، وأمراضهم كثيرة متنوعة، وكل ذلك يجعل مهمة الداعي في تطبيق ما تعلمه صعبة وليست يسيرة. ومع هذا كله فإنَّ من الممكن تذليل هذه الصعوبة جهد الإمكان، وهذا ما نبينه في الفقرة التالية: تيسير الالتزام بالنهج الصحيح: والذي يسهل الالتزم بالنهج الصحيح ويعين عليه أمور، منها: 649- أولًا: الفهم الدقيق الجيِّد لمعاني النهج الصحيح بطول التأمل وتكرار هذه المعاني التي جاءت في المصادر التي ذكرناها، بحيث تصبح كأنها تجري في دمه، وحاضرة في ذهنه، ولهذا لا يجوز للداعي أن يملَّ من ترداد وإعادة قراءة ما ورد في مصارد الدعوة، مع التأمل الطويل عند القراءة. ثانيًا: تقوى الله، فإنَّ تقوى الله تنوّر قلب المسلم وتقوي فيه قوة الإدراك والرؤية، فيبصر الحق واضحًا، ويعرف الوسائل والأساليب الصحيحة المناسبة لما يمرّ به من ظروف وأحوال وأشخاص، والتي قد تشتبه بغيرها، فيشتبه عليه الصحيح من الوسائل والأساليب؛ لأنه لا يكفي -كما قلنا- أن يعرف الوسائل والأساليب بصورة عامَّة أو بتفصيل، وإنما يجب أن يعرف ما يجب تطبيقه منها بالنسبة لهذا الشخص، أو بالنسبة لهذه الحالة أو الظروف، وكثيرًا ما تتعارض مبررات تطبيق وسيلة معينة تعارض معاني

هذه الحالة المعينة أو الظرف المعيَّن، فيحتاج الداعي إلى بصيرة نافذة تدرك الوسيلة المناسبة، أو تسخرجها من مجموع الوسائل الصحيحة عن طريق المزج أو الاستنباط أو القياس، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} 1، وقد جاء في تفسير هذه الآية: "يجعل لكم فرقانًا، أي: فصلًا بين الحق والباطل، فإنَّ من اتقى الله بفعل أوامره وترك زواجره وُفِّقَ لمعرفة الحق من الباطل، فكان ذلك سبب نصره ونجاته، ومخرجه من أمور الدنيا، وسعادته يوم القيامة"2، وقال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} قال ابن كثير في تفسيره: ويعلمكم الله؛ كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} يريد رحمة الله بقوله هذا، إن معناها مثل معنى هذه الآية3. ثالثًا: الالتجاء الدائم إلى الله تعالى، والانطراح بين يديه، والتوسُّل إليه ليعلمه ويفهمه، لقد كان الإمام بن تيمية يخرج إلى الصحراء ويضع خدَّه على التراب ويقول: "يا معلم إبراهيم علمني" يكررها مرارًا، ويكرر هذه الحالة مرارًا كما ذكر تلميذه ابن القيم. رابعًا: تطهير قلبه من جراثيم الرياء تطهيرًا كاملًا، بتجريد الإخلاص لله رب العالمين؛ بحيث لا يبقى فيه أيّ تلفُّت إلى الناس وطلب السمعة عندهم، أو طلب مرضاتهم على حساب النهج الصحيح للدعوة. إنَّ الداعي قد ينحرف عن النهج الصحيح لما يسمعه من ضجيج الناس ومن صياحهم، أو من رغبة أصحابه في التساهل في معاني النهج الصحيح، والذي يعينه على الثابت والاستقامة وعدم الخروج على النهج الصحيح إخلاصه الكامل التامّ، الذي يجعله لا يلتفت إلى أيٍّ من دواعي الخروج. إن تجريد الإخلاص صعب جدًّا؛ لأنَّ جراثم الرياء خفية ودقيقة قد يحملها الداعي ولا يحس بها، كما يحمل الصحيح جراثيم المرض ولا يحس بها، ولهذا يمكن أن تؤثر فيه أو تضعف مقاومته لدواعي الخروج عن النهج الصحيح، والله المستعان.

_ 1 سورة الأنفال، الآية: 29. 2 تفسير ابن كثير ج2 ص301، 302. 3 تفسير ابن كثير ج1 ص337.

الفصل الثاني: أساليب الدعوة

الفصل الثاني: أساليب الدعوة مدخل ... الفصل الثاني: أساليب الدعوة تمهيد: 650- تقوم أساليب الدعوة الناجحة على تشخيص الداء في المدعوين ومعرفة الدواء، والتأكيد على ذلك، وإزاحة الشبهات التي تمنع المدعوين من رؤية الداء والإحساس به، وترغيبهم في استعمال الدواء، وترهيبهم من تركه، ثم تعهُّد المستجيبين منهم بالتربية والتعليم؛ لتحصل لهم المناعة ضدَّ دائهم القديم، وكل هذا نبينه في المباحث التالية:

المبحث الأول: الداء والدواء

المبحث الأول: الداء والدواء تحديد أصل الداء والدواء: 651- إنَّ طيب الأبدان يشخِّص الداء أولًا، ثم يعيِّن العلاج ثانيًا، وهذا هو الأسلوب الصحيح في المعالج، والداعي إلى الله تعالى طبيب القلوب والأرواح، فعليه أن يسلك نفس هذا الأسلوب في معالجة الأرواح، فيشخص الداء أولًا، ثم يعيِّن العلاج ثانيًا، ولا يقف عند أعراض الداء محاولًا علاجها، تاركًا أصلها وعلتها، فما أصل داء البشر وما هو أصل الدواء؟ أصل داء البشر وأصل دوائهم: 652- وأصل داء الناس في القديم والحديث جهلهم بربهم وشردوهم عنه، أو كفرهم ورفضهم الدخول في العبودية الكاملة له، والسير على النهج الذي جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم- من ربه، واغترارهم بالدنيا وركونهم إليها، وغفلتهم عن الأخرة أو إنكارهم لها، هذه هي مقوّمات الداء، وهي تجمع مع الكفر بالله، وتتفرَّق مع أصل الأيمان به، كما نجده في ضعاف العقيدة من المسلمين، فإذا وجد أصل الداء بكلِّ مقوماته وجدت الشرور والمفاسد بكل صنوفها وأنواعها، وإذا وجدت بعضها وجد من الشرور والمفاسد بقدرها. أمَّا أصل الدواء لهذ الداء فهو الإيمان بالله ربًّا وإلهًا لا إله غيره، والكفر بالطاغوت بكل أنواعه ومظاهره، والإقبال على الله وعدم الركون إلى الدنيا، قال تعالى عن نوح -عليه السلام: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ، أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيم} ، وكذلك قال سيدنا محمد

-صلى الله عليه وسلم- لرؤساء قريش، وقد جاءوا إلى أبي طالب يسألونه: ماذا يريد منهم محمد -صلى الله عليه وسلم، فقال الرسول الكريم: "تقولون: لا إله إلّا الله، وتخلعون ما تعبدون من دونه" 1، وهكذا قالت رسل الله جميعًا بلا استثناء، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} . التأكيد على معاني العقيدة الإسلامية: 653- وإذ قد تبيِّنَ لنا أصل الداء وأصل الدواء، فعلى الداعي المسلم في دعوته إلى الله تعالى أن يؤكِّد على معاني العقيدة الإسلامية، فهي الدواء لأصل الداء الذي بيناه، فيؤكد على الإيمان بالله ربًّا وإلهًا، وعلى الإيمان بمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبيًّا ورسولًا، وعلى البعث بعد الموت بالروح والجسد، وعلى ضرورة العمل الصالح للنجاة من العذاب في الآخرة. فالعقيدة الإسلامية وتجلية معانيها وأصولها وما تستلزمه وتتضمَّنه هي الأساس في دعوة الداعي وما يؤكد عليه دائمًا، ولا يغفل عنه مطلقًا؛ لأنها هي الأصل في دعوته، وما عداه فروع، فإذا استقام له هذا الأصل واستجاب له المدعوون بعد كفرهم، سهل عليه إقناعهم بمعاني الإسلام وفروعه المختلفة، وإذا رفضوه رفضوا سائر فروعه ومعانيه، وهذا هو النهج الصحيح الذي دلَّ عليه القرآن الكريم، وسار عليه النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم, فإن القرآن ظلَّ يتنزَّل في مكة بالسور والآيات في بيان أصول العقيدة ومعانيها، مثل: الإيمان بالله ووحدانيته في الربوبية والألوهية، والإيمان بيوم الحساب، ومآل الناس إلى الجنة والنار، وضرورة الإيمان بالرسول -صلى الله عليه وسلم، والقيام بالعمل الصالح المشروع. فمن ذلك قوله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ، مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ، وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 2، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ

_ 1 سيرة ابن هشام ج2 ص27. 2 سورة الأنعام، الآيات: 14-17.

عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} 1، وقال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 2. وهذ النهج القرآني في التأكيد على العقيدة الإسلامية ظلَّ مستمرًّا حتى بعد الهجرة إلى المدينة، فكانت الآيات تنزل ببيانها، أو تختم آيام المعاملات بأصول العقيدة كالأيمان بالله واليوم الآخر. والتأكيد على العقيدة -وهو النهج السليم كما قلنا- لازم كالإيمان للداعي في دعوته بالنسبة لضعاف العقيدة من المسلمين الذين يظهر ضعف عقيدتهم بعصيان أوامر الشرع واستثقال تكاليفه، والتخبط في كثير من دروب الغواية والضلال، بل إنَّ هذا النهج لازم حتى بالنسبة للمسلمين الذين لا يظهر عليهم عصيان ظاهر؛ لأنَّ هذا التأكيد على العقيدة وتذكيرهم بمعانيها يقيهم الانحراف والعصيان. اعتراض ودفعه: 654- وقد يعترض علينا بأنَّ في دعوة الأنبياء لأقوامهم إنكارًا منهم لبعض مفاسدهم، كما في قصة لوط وشعيب -عليهما السلام، فكيف يقال: إنَّ التأكيد يكون على معاني العقيدة أولًا، فإذا حصلت الاستجابة انتقل الداعي إلى الفروع، والجواب على ذلك أنَّ التأكيد على العقيدة معناه: جَعْلُ معاني العقيدة في المقام الأول وعدم نسيانها أبدًا، وربط المفاسد الخطيرة في المجتمع بمعاني العقيدة، وبيان أنها بعض آثار التمرُّد على الله، هذا هو المقصود مما قلناه من لزوم التأكيد على العقيدة، وليس المقصود إغفال ما يراه الداعي من مفاسده خطيرة في المجتمع، يدل على ذلك ما جاء

_ 1 سورة الحج، الآيات: 5-7. 2 سورة النحل، الآية: 97.

في القرآن الكريم عن لوط -عليه السلام: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ، وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} 1. فلوط -عليه السلام- بدأهم بالأمر بتقوى الله، وأعلمهم بأنَّه رسول الله، وأن من حق الرسول أن يطاع فيما يخبرهم به من مناهج العبادة لله وحده، ثم أتبع ذلك أنْ بَيِّنَ لهم بعض مفاسدهم المخالفة لأمر الله. وعن شعيب -عليه السلام، قال ربنا تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 2. فشعيب -عليه السلام- بدأهم بعبادة الله وحده، ثم بَيِّنَ لهم أنَّ ما جاء به من الله هو الحق الواضح المبين، الذي يستلزم وفاء الكيل والميزان، وعدم ظلم الناس وارتكاب الفساد في الأرض، فهذا هو الخير لهم إن كانوا مؤمنين بالله ورسوله. فلوط وشعيب -عليهما السلام- بَيَّنَا لقوميهما أن لا إله إلا الله، ثم زادا على ذلك أن ذكَّرُوهما ببعض نتائج تمرُّدهم على الله، ومنها: سواء أفعالهم كاللواط والتطفيف، مثل هذا ما نزل بمكة بشأن المطففين، قال تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ، أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ، لِيَوْمٍ عَظِيمٍ، يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} 3. فربط التطفيف والنهي عنه بأصل من أصول العقيدة وهو يوم الحساب، وقيام الناس لرب العالمين.

_ 1 سورة الشعراء، الآيات: 160-166. 2 سورة الأعراف، الآية: 85. 3 سورة المطففين، الآيات: 1-5.

ابتعاد الداعي عن النهج الصحيح: 655- وقد يبتعد الداعي عن النهج الصحيح، فلا يهتم بأمور العقيدة، ويهوى الخوض فيما يهواه الناس ولا يكلفهم شيئًا، كالخوض فيما تعورف عليه من أمور ما يسمَّى بالسياسة والثرثرة فيها، وتحليل الأمور تحليلًا بعيدًا عن مفاهيم العقيدة وشمولها، كل ذلك يفعله الداعي استجابة لرغبات الناس أو لرغبة في نفسه هو، وهذا المنهج خطأ؛ لأنَّ الداعي إلى أمور بعيدة عن أصل الداء والدواء، وهو الانحراف عن العقيدة الإسلامية ولزوم تعميق معانيها في النفوس، ونتيجة ذلك بقاء أصل الداء والسير في البناء من السطح أو بلا أساس. الكليات لا الجزئيات: 656- وما دام أصل الأمر وسنامه التأكيد على أصل الداء والدواء، فعلى الداعي أن لا يبدِّد جهوده في الجزئيات واستئصالها إن كان في ذلك تعويق له عن غرس معاني العقيدة الإسلامية في النفوس، ودعوته إلى الله. ودليلنا على ذلك أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يرى الأصنام تلوث بيت الله، وتحيط به، وهي تطل بعيونها الجامدة القبيحة، وهو -عليه الصلاة والسلام- لا يرفع يده لتحطيمها، ولا يأمر أصحابه بتكسيرها، ولو أراد الأمر، ولو أمر لنفَّذَ المسلمون ما يأمرهم به، ولكنه لم يفعل ذلك -عليه الصلاة والسلام؛ لأنَّ المسألة ليست مسألة تكسير أصنام آنذاك، وإنما هي تكسير أقفال القلوب حتى تفقه الحق، ثم يأتي اليوم الذي تخرم فيه تلك الأصنام تحت ضربات المؤمنين، وقد كان ذلك في يوم فتح مكة، فكان -صلى الله عليه وسلم- يشير بعصاه إلى الأصنام وهو يقول: "لقد جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقًا" فتخِرّ إلى الأرض مكسَّرة محطَّمة.

المبحث الثاني: إزالة الشبهات

المبحث الثاني: إزالة الشبهات ماهية الشبهات: 657- المقصود بالشبهة هنا: ما يثير الشكَّ والارتياب في صدق الداعي وأحقية ما يدعو إليه، فيمنع ذلك من رؤية الحق والاستجابة له، أو تأخير هذه الاستجابة، وغالبًا ترتبط الشبهة بعادة موروثة، أو مصلحة قائمة، أو رياسة دنيوية، أو حمية جاهلية، فتوثِّر الشبهة بسبب هذه الأمور في النفوس الضعيفة المتصلة بهذه الأشياء، وتتعلق بها وتحسبها حجة وبرهانًا تدفع به الحق، وتخاصم الدعاة إلى الله تعالى. مصدر الشبهات: 658- والغالب أنَّ "الملأ" هم الذين يثيرون الشبهات ويزينونها للناس، ويشيعونها فيما بينهم، ويكررونها على مسامعهم حتى تألفها نفوس البسطاء من عامَّة الناس، ويأخذون في ترديدها، ثم تصديقها، ثم تبنّيها واعتبارها كالحقائق الثابتة، وعند ذلك يندفعون إلى الدفاع ومخاصمة الحق وأهله من أجلها، والملأ منهم يضحكون ويسخرون، فقد حققوا ما يريدون. لا خلاص من الشبهات ولا تبديل فيها: 659- وليعلم الداعي أنَّ إثارة الشبهات في وجه الدعوة إلى الله أمر قديم مضت به سنة الله في العباد، وشنشنة قديمة متوارثة بين أهل الباطل، فلا يستغرب منها الداعي ولا يضيق بها، وهي في جوهرها لا تتغيِّر ولا تتبدل، وإنما يتغيِّر فيها الأسلوب والكيفية، قال تعالى مخاطبًا نبيه الكريم محمدًا: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ

لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} 1، والذي قيل للرسل الكرام هو الباطل الذي كان في حق الناس شبهات، وقال تعالى: {مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ، أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} 2، فالأقوام قبل قريش اتهموا الرسل الكرام بالسحر والجنون، وكذلك فعلت قريش؛ لتنفير الناس من الداعي إلى الله محمد -صلى الله عليه وسلم، ومن دعوته. فإذا فقه الداعي هذه الحقيقة ووعاها جيدًا زال عنه العجب والحنق والغضب إذا اتُّهِمَ بالتهم الباطلة، أو أثيرت الشكوك والريب حول دعوته؛ لأنه ليس أحسن حالًا من رسل الله، ولا أفصح بيانًا منهم، ولا أكثر إخلاصًا منهم، ولا أكثر تأييدًا من الله تعالى منهم، ومع هذا كله أثار أهل الباطل ما أثاروه من الشبهات حولهم، مما قصه الله تعالى علينا في أخبارهم، ثم إنَّ الداعي بفقهه هذه الحقيقة يعلم مدى ما يبلغ الضلال بالإنسان؛ بحيث يجعله يخاصم رسل الله الذين يريدون شفاءه من الأمراض، وخلاصه من النيران، وإدخاله في الجنان، وأخيرًا فإنَّ فقه هذه الأمور لازمة لكل مسلم بلا استثناء؛ ليميز الخبيث من الطيب، وحتى لا يتأثَّر بهذه الشبهات فينساق وراءها، ويصير -من حيث لا يشعر- مع الأعداء، ضد الدعاة إلى الله تعالى. أنواع الشبهات: 660- والشبهات أنواع، منها ما يتعلق بالداعي، ومنها ما يتعلق بموضوع الدعوة، ومنها ما يتعلق بعموم المدعوين. فالذي يتعلق بالداعي يتمثَّل بالطَّعْن في شخصه وسيرته وسلوكه وإلصاق التهم به، ورميه بالسَّفَه والجهالة والضلال والجنون والافتراء، إلى غير ذلك، مما يكون المقصود منه تنفير الناس منه وعدم الثقة به. والذي يتعلق بموضوع الدعوة يتمثَّل اتِّهَامُها بالابتداع والخروج على مألوفات الناس وتقاليدهم ونظامهم الموروث، مما يراد به تنفير الناس من الدعوة إلى الله وصدّهم عن سبيله.

_ 1 سورة فصلت، الآية: 42. 2 سورة الذرايات، الآيات: 52، 53.

والذي يتعلق بالمدعوين يتمثَّل بإظهار الحرص على مصالحهم وملتهم ودين آبائهم، والحفاظ على نعيمهم وحياتهم المطمئنة، مما يقصد منها إثارة حماس الناس ضد الدعاة إلى الله. موقف الداعي من الشبهات: 661- والداعي إزاء هذه الشبهات مضطر إلى تنفيذها وإظهار زيفها وبطلانها؛ لأنها موانع تمنع من رؤية الحق في حق ضعاف البصر والبصيرة، كما تمنع الإحساس بالداء، والحاجة إلى الدواء، وتكون الإزالة بالحجة والبرهان، ولكن بصراحة ووضح وحسن بيان، مع أدبٍ بالقول ورفقٍ في الخطاب، دون أن تستفز الداعي أكاذيب المفترين، فيحمله ذلك على الانتصار لنفسه والغضب لها، والنطق بما لا يجوز. نحن نعلم أنَّ هذا شيء ثقيل على نفس الداعي، ولكنه لا بُدَّ منه، ولا سبيل غيره، ويهون إن شاء الله بكمال التجرُّد إلى الله، واحتساب ما يلقاه من أذى عند الله. إنَّ مهمة الداعي إزاء الشبهات وإزالتها مهمة الطبيب العالم الناصح الشفيق، لا تسنفزه صيحات المرضى وكرههم رؤية الطبيب، بل ولا يمنعه شتمهم له وطعنهم به من الاستمرار على معالجتهم؛ لأنه يعلم أنَّ هذه الأمور منهم هي بعض أعراض أمراضهم، والطيب إنما يريد علاجهم لا الانتقام منهم. والأسلوب الجيد في إزالة الشبهات يعرفه الداعي من قصص الأنبياء، وموقفهم من الشبهات التي أثارها المبطلون، وهذا ما نذكر شيئًا عنه في الفقرات التالية: أمثلة على شبهات أهل الباطل والردِّ عليها: 662- أولًا: الطعن بالدعاة يحرص "الملأ" وأتباعهم على إبعاد الناس عن الدعاة إلى الله تعالى بالطعن في أشخاصهم وأمانتهم وعقولهم، وهذا ما فعله أسلافهم مع رسل الله تعالى، فقد اتهموهم بالسحر والجنون والضلال، قال تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ، أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} ، وقال مشركوا العرب عن نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} ، وكان رسل الله يردُّون على هذا الافتراء ويزيلون ما يتولَّد

عنه من شبهات، بنفيه عن أنفسهم بأسلوب عالٍ رفيع واضح مع شفقة على أولئك المفترين، قال تعالى عن قوم نوح وما رموه به وأسلوب رده عليهم: {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ، أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} 1. ويلاحظ في رد نوح -عليه السلام- أنَّه خاطبهم بقوله: "يا قوم"، فهم قومه ولم يتبرأ من انتسابه إليهم، ومن شأن هذا الخطاب أن يساعد على إيقاف لجاجتهم بالباطل، ثم بَيِّنَ لهم أنَّه ليس به ضلالة كما يدَّعون، ومعنى ذلك أنهم يكذبون أو يجهلون، فعليهم أن يقلعوا عن كذبهم وجهلهم، ثم بَيِّنَ لهم حقيقة أمره، وهي أنه رسول الله، ومن شأن رسل الله الصدق فيما يقولون ويبلغون عن الله تعالى، ثم بَيِّنَ لهم أنَّه يريد تبليغهم رسالة الله، وينصح لهم، ويريد الخير لهم، وأنَّه على علمٍ من أمر الله لا يعلمونه، ومن حق الناصح أن يُطَاع ويسمع منه، ثم بَيِّنَ لهم أن لا داعي لعجبهم أن جاءتهم رسالة الله على لسان رجل منهم يعرفهم ويعرفونه، وينذرهم عاقبة ما هم فيه، ويدعوهم إلى تقوى ربهم وخالقهم، فعسى أن تصيبهم رحمة الله في الدنيا والآخرة. وبمثل هذا الأسلوب الرفيع المؤثر رد هود -عليه السلام- على افتراءات وشبهات قومه، قال تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ، قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ، قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ، أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ} 2. 663- ثانيًا: الإفساد في الأرض وطلب الرئاسة على الناس: ومن شبهاتهم التي يثيرونها حول الداعي أنَّه يريد العلوَّ في الأرض والرياسة على

_ 1 سورة الأعراف، الآيات: 60-63. 2 سورة الأعراف، الآيات: 65-96.

الناس، وتغيير عقائدهم وتقاليدهم الموروثة، وأنَّ ما جاء به بدعة مضرة ودعوة مفرقة ما سمعوا مثلها من قبل، وأنَّها تؤدي إلى الفساد في الأرض، فيجب أن يقاوم الداعي ودعوته، ويمنع من الاستمرار فيها، قال تعالى حكاية عن أقوام نوح وعاد وثمود وما قالوه لرسلهم، وما أجابتهم به رسلهم لتفنيد هذه الشبهات الباطلة: {قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ، قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} 1، وقال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} 2، فالملأ أثاروا في الناس شبهة التقليد والحرص على دين الآباء، وأن رسل الله يريدون صرفهم عن ذلك، وقال تعالى عن قوم نوح: {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} 3، فهم يزعمون أنَّ نوحًا -عليه السلام- يريد اكتساب المنزلة العالية فيهم، والرياسة عليهم، وإظهار الفضل لنفسه بدعوته هذه؛ لأنَّ أهل الباطل يقيسمون أهل الحق بموازينهم المعوجَّة، ويحسبون أنَّ غرض الدعاة إلى الله هو غرض أهل الباطل، من طلب العلوِّ في الأرض والتسلط على رقاب الناس، كما قال فرعون وملؤه لموسى: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ} ، ثم احتجَّ قوم نوح بأنَّه بشر مثلهم، ولا يستحق -بزعمهم- أن يكون مبلغًا عن الله، وأنَّ الله تعالى لو أراد تبليغهم بشيء لأنزل عليهم ملائكة. وشبهتهم هذه التي أثاروها مثل شبهة قريش، قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ، وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} 4، أي: لول أنزل الله ملكًا لجعله بصورة رجل

_ 1 سورة إبراهيم الآيات: 10، 11. 2 سورة سبأ، الآية: 43. 3 سورة المؤمنون، الآيات: 23، 24. 4 سورة الأنعام، الآيات: 8، 9.

منهم حتى يبلغهم، وعند ذلك يثيرون نفس الشبهة. وقد قال تعالى في قصة موسى -عليه السلام: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ، قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} 1. "فالملأ" أثاروا حفيظة فرعون على موسى -عليه السلام- بادِّعائهم أنَّ موسى يريد الفساد في الأرض، فلا يصح تركه يستمر في دعوته، والظاهر أيضًا أنهم أرادوا بما أثاروه من هذه الشبهة الباطلة التبرير للتنكيل بموسى ومن معه من المؤمنين، وليجدوا تأييدًا من أتباعهم الضالِّين، والظاهر أيضًا أنَّ هذا الادِّعاء من أهل الباطل وما عزم علي فرعون من تقتيل أتباع موسى قد بلغهم، فقال لهم موسى -عليه السلام: استعينوا بالله واصبروا، وبيِّنَ لهم أنَّ العاقبة دائمًا تكون للمتقين، أمَّا جواب موسى لشبهات فرعون وطعونه في موسى، فقد بَيَّنَها الله تعالى في آيات أخرى، مثل قوله عن موسى: {وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} 2. وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ، قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} 3، فأهل الترف -الملأ- يثيرون في الناس شبهة التقليد ويغرونهم على ضرورة التمسك بدين آبائهم، وبالتالي ضرورة مقاومة الدعوة إلى الله، فيرُدُّ عليهم الرسل الكرام بردٍّ منطقيٍّ سليم: {أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} أي: إنَّ الحق هو الواجب الاتباع وإنْ كان مخالفًا لما كان عليه آباؤكم، والحق هو ما جئتكم به من ربكم، فانظروه وقارنوه مع ما عندكم يتبيِّن لكم صدق ما أقول، فينقطع أهل الباطل عن هذا الردِّ ويقولون: أنهم كافرون بالذي جاء به.

_ 1 سورة الأعراف، الآيات: 127، 128. 2 سورة الأعراف، الآيات: 104، 105. 3 سورة الزخرف، الآيات: 23، 24.

664- ثالثًا: رميهم الدعاة بالاتصال المشبوه، وأنَّ دعوتهم من خرافات الماضيين: ومن أساليب المبطلين في إثارة الشبهات حول الداعي، زعمهم أنَّه متصل بقوم معينين يساعدونه على التلفيق والقيام بهذه الدعوة، وأنَّ دعوته لا صلة لها بالدين ولا بالله، وإنما هي من خرافات الماضين، يريد بها الوصول إلى ما يريده بمن يعينه عليها. قال ربنا تعالى عن قريش وما أثاروه من شبهات كاذبة حول دعوة الإسلام ونبيه -عليه الصلاة والسلام: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا، وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا، قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} 1. 665- رابعًا: الداعي رجل مغمور ومن شبهاتهم أنَّ الداعي رجل مغمور، لا هو في العير ولا في النفير، وليس هو من المثقَّفين الكبار، ولا من الاغنياء المعروفين، ولا من ذوي المناصب والجاه في المجتمع، ويرتبون على ذلك أنَّهم أولى بكلِّ خير، وبكل دعوة إلى الإصلاح، فلو كان ما يدعو إليه الداعي صلاحًا وحقًّا لجاء بهذه الدعوة غيره من أشراف المجتمع، قال تعالى حكاية عن مشركي العرب فيما قالوه لسيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ، أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} 1، فالله تعالى أعلم حيث يجعل رسالته، فهو الحكيم العليم، وقال تعالى: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ، قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ، وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ، وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} 3، فأهل

_ 1 سورة الفرقان، الآيات: 4-6. 2 سورة الزخرف، الآيات: 31، 32. 3 سورة سبأ، الآية: 38.

الباطل يحتجون بكثرة الأموال والأولاد والأنصار على أحقيتهم بكل دعوة إلى الإصلاح، وأنَّهم لهذا أهل للفوز من أي عذاب، فبَيِّنَ لهم القرآن العظيم أنَّ الله يبسط الرزق لمن يشاء، ويضيقه لحكمة بالغة، وأنَّ الأموال والأولاد لا تقرِّب عند الله، وإنما الذي يقرِّب هو العمل الصالح. 666- خامسًا: أتباع الداعي أناس مغمورون ومن شبهاتهم حول الدعوة أنَّ أتباع الداعي إلى الله أناس مغمورون، فقراء جهال، أصحاب حرف خسيسة، قصار نظر ورأي، وأنَّ الدعاة وأتباعهم لا يستحقون إرشاد الناس إلى الخير، ولا قيادتهم إلى الهدى، ولهذا كله فإنَّ "الملأ" هم وحدهم المستحقون لقيادة الناس إلى الخير، ولا يمكن أن يكونوا أتباعًا للداعي إلى الله؛ لأنهم أهل نظر ورأي، خلاف أولئك الفقراء الذين اتبعوا الداعي بلا بينة وبرهان، قال تعالى عن قوم نوح: {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} ، فيجيبهم نوح -عليه السلام- بما قصَّه الله علينا: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ، وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ، وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ، وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} ، يبيّن لهم نوح -عليه السلام- أنه على بينة من ربه، أي: على يقين وأمر واضح جلي ونبوة صادقة، وإذا كان ذلك قد خفي عليكم ولم تهتدوا إليه، وبادرتم إلى التكذيب، فكيف نكرهكم على قبول الدعوة، والشأن في قبولها الاقتناع والقبول الاختياري؛ لأنَّ الإكراه في الدين ممنوع، وأمَّا بشأن أتباع نوح -عليه السلام- وكونهم من الفقراء والضعفاء، فيقول نوح -عليه السلام: بأنه رسول الله يدعو الناس إلى عبادة الله وحده، لا فرق في دعوته

_ 1 سورة هود، الآيات: 28-31.

بين شريف ووضيع، ولا بين غني وفقير، فكلهم أهلٌ لأن يدعوهم، ومطالب بأن يدعوهم، فمن استجاب منهم له قَبِلَه وصار من أتباعه، ولا يمكنه أبدًا أن يطردهم من مجلسه بحجة أنَّهم فقراء ضعفاء، وأن الأشراف يأنفون منهم من حضور مجلس يضمهم، كما لا يمكن أن يقول لهم: ليس لكم عند الله ثواب على أعمالكم، وقد آمنوا برسالة ربهم، فالله أعلم بما في نفوسهم. والواقع أنَّ أهل الباطل -لا سيما الملأ منهم- يضيقون ذرعًا بالفقراء والضعفاء، ويأنفون أن يكونوا مثلهم أتباعًا للدعاة إلى الله، ولذلك فهم يطلبون إبعادهم من مجلسهم، وكذلك فعل أشراف قريش، طلبوا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يطردهم من مجلسه، فأنزل الله -جلَّ جلاله: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} ، فلا يجوز اتباع أصحاب الأهواء والغافلة قلوبهم عن ذكر الله فيما يقترحون ويطلبونه من باطل، ومنه إبعاد المؤمنين الصادقين لكونهم من الفقراء المستضعفين. 667- هذه بعض شبهات أهل الباطل التي ذكرها الله تعالى في قصص الأنبياء، في القرآن العظيم، ويجمعها جامع واحد هو الطعن بالداعي والدعوة، وتحريض الدهماء والعامَّة على مخاصمة الدعوة؛ ليخلوا الجوَّ للملأ الكافر الضَّالِّ، فيبقوا على باطلهم وتسلطهم على رقاب الخلق. ابتعاد الداعي عن الشبهات: 668- وإذا كان أهل الباطل يثيرون الشبهات ويفترون الأكاذيب في وجه الدعوة وضد الداعي، فعلى الداعي أن يبتعد عن موضع الشبهات حتى لا يتلعق المبطلون بها، ويتخذونها تكأة لافترائهم. وقد دلَّ القرآن الكريم على ضرورة الابتعاد عمَّا قد يتشبث به أهل الباطل في إثارتهم الشبهات، ومن هذه الدلالات القرآنية: أولًا: كان رسل الله جميع يقولون لأقوامهم: لا نريد منكم على دعوتنا مالًا ولا أجرًا؛ لأنَّ أجرنا على الله وحده، قال تعالى عن نوح -عليه السلام:

_ 1 سورة الكهف، الآية: 28.

{وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} ، وقال تعالى عن نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} 1، وجه الدلالة بهذه الآية والتي قبلها وغيرها مثلها، أنَّ الرسل الكرام لو طلبوا مالًا أو أجرًا على دعوتهم لتعلَّق أهل الباطل بذلك وجعلوه شبهة يثيرونها؛ ليصدوا الناس عن الدعوة والدعاة فيقولون: إنَّ هؤلاء طلاب مال.... ثانيًا: قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} 2، وجه الدلالة أنَّ الله تعالى أبعد رسوله الكريم -صلى الله عليه وسلم- عن تعلم الكتابة والقراءة دفعًا لما قد يتشبَّث به المبطلون، فيدَّعون أنَّ ما جاء به تعلمه من كتبٍ قديمة قرأها واستنسخها، بل يمكن القول أنَّ الداعي يترك بعض ما فيه فائدة لدفع ضرر الشبهة الباطلة؛ لأن تعلم القراءة والكتابة فيهما نفع، ولكن دفع ضرر الشبهة الباطلة أكثر نفعًا، فقُدِّم الدفع على هذا النفع. ثالثًا: قال تعالى: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} 3، وجه الدلالة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما بلغ بالوحي إلّا بعد بلوغه الأربعين من عمره المبارك؛ ليكون ذلك أدفع للشبهة وأدحض لقول أهل الباطل، فقد لبث فيهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذه المدة الطويلة وخبروه وعرفوا سيرته الطيبة وأخلاقه القويمة وأمانته وصدقه، فلا يعقل أن يكذِب على الله بعد هذا العمر الطويل فيدعي الرسالة، وإذا كان الأمر كذلك وإن صدقه ظاهر، فادّعاء الكفرة أنه ساحر أو مجنون أو كاذب ادعاء باطل وشبهة مدحوضة. ويمكن هنا أن نقول ما قلناه من أنَّ دفع الشبهة مقدَّم على جلب بعض النفع، ذلك أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مضى أكثر عمره حتى بلغ بالرسالة، ولا شكَّ أن بعثه قبل الأربيعن كان يمكن أن يكون فيها مزيد في الدعوة إلى الله، ولكن شاءت حكمة الله ألَّا يجعل بعثته إلّا بعد بلوغه الأربعين من عمره المبارك الميمون، وإن فات بعض النفع والخير لتأخُّر بعثته؛ ليدفع الشبهة ويدحض ادعاءات أهل الباطل كما هو واضح من سياق

_ 1 سورة سبأ، الآية: 50. 2 سورة العنكبوت، الآية: 48. 3 سورة يونس: الآية: 16.

الآية الكريمة. وهكذا يجب على الداعي الفقيه أن يترك بعض ما فيه فائدة ونفع ليدفع شبهات أهل البطل وما يترتَّب عليه من ضرر، وسبب ذلك كله أنَّ الشبهة إذا أثيرت بين الناس وشاعت فلا بُدَّ أن تترك أثرًا في النفوس، لا سيما الضعيفة والجاهلة والمتربصة، ويصعب عند ذاك مكافحتها والقضاء عليها إلّا بجهد كبير، فكل ما يمنع حدوث الشبهات أو إعطاءها ما تستنتد إليه مطلوب من الداعي ملاحظته واعتباره وأخذه، وإنْ فوِّت عليه بعض الفوائد؛ لأن القاعدة تقول: "درء المفاسد أولى من جلب المنافع"، ويدفع أعظم الضررين بتحمُّل أقلهما. رأبعا: وقد قال تعالى عن رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} ، فمنع الله تعالى رسوله من تعلُّم الشعر وإنشائه حتى لا يكون ذلك وسيلة بيد أهل الباطل يبنون عليها شبهاتهم الباطلة. 669- والواقع أنَّ الدعاة إلى الله محتاجون أكثر من غيرهم إلى الابتعاد عن كثير من المباح، الذي قد يتشبَّث به أهل الباطل ويجعلونه مثارًا لشبهاتهم وللصد عن سبيل الله، ولكن يجب التنبه لما يجب توقيه دفعًا للشبهة، وما يجب مباشرته؛ لأنه من الدعوة، وإنْ ظنَّ أنه من الشبهة، وهذا موضع دقيق يكثر فيه الخطأ، ويحتاج إلى تفصيل، يكفينا منه هنا أن نقول: يسع الداعي أن يترك ما يخص نفسه وحظوظه المباحة دفعًا هنا للشبهة، وقد يجب أن يندب هذا الترك، ولا يسع الداعي أن يترك ما يخص صميم الدعوة، أو ما يتصل بها اتصالًا مباشرًا، أو يتعلق بنهجها وأسلوبها، فلا يجوز مثلًا ترك دعوة الأمير والدخول عليه لهذا الغرض بحُجَّة دفع شبهة تقوُّل الناس أنه من بطانة الأمير أو أنه يداهن الأمير.

المبحث الثالث: الترغيب والترهيب

المبحث الثالث: الترغيب والترهيب معناهما وأهميتها: 670- نقصد بالترغيب: كل ما يشوق المدعوّ إلى الاستجابة وقبول الحق والثبات عليه. ونقصد بالترهيب: كل ما يخيف ويحذر المدعوَّ من عدم الاستجابة أو رفض الحق أو عدم الثبات عليه بعد قبوله. والملاحظ أنَّ القرآن الكريم مملوء بما يرغِّب الناس في قبول دعوة الإسلام والتحذير من رفضها، مما يدل دلالة قاطعة على أهمية هذا الاسلوب: أسلوب الترغيب والترهيب في الدعوة إلى الله تعالى، وعدم إهماله من قِبَلِ الداعي المسلم. بم يكون الترغيب والترهيب؟ 671- والأصل في الترغيب أن يكون في نيل رضى الله ورحمته وجزيل ثوابه في الآخرة، وأن يكون الترهيب بالتخويف من غضب الله وعذابه في الآخرة، وهذا هو نهج رسل الله الكرام كما بينه القرآن الكريم، وجاءت به السنة النبوية المطهرة. فمن الآيات القرآنية قوله تعالى: 1- عن نوح -عليه السلام: {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} 1. 2- وعن نوح -عليه السلام: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ

_ 1 سورة الأعراف، الآية: 63.

قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ، أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ، يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 1. 3- وقال تعالى عن رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ، يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} 2. 4- {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} 3. 5- وفي السنة النبوية: كان -صلى الله عليه وسلم- يَعِدُ المبايعين له بالجنَّةِ، من ذلك ما قاله -عليه الصلاة والسلام- لأصحاب بيعة العقبة الأولى: "فإن وفيِّتُم فلكم الجنة" 4، وكان -صلى الله عليه وسلم- يمرُّ بآل ياسر وهم يعذَّبون بسبب إسلامهم، فيقول لهم: "صبرًا آل ياسر موعدكم الجنة"5. 672- ومع أنَّ الأصل في الترغيب والترهيب يكون بالجزاء في الآخرة، فإنه يجوز أن يكون بما يصيب المدعوين في الدنيا من خير في حالة استجابتهم، وما يصيبهم من شر في حالة رفضهم، على أن لا يغفل الداعي أبدًا عن الترغيب والترهيب بالجزاء في الآخرة، ومن أدلة هذا الجواز ما يأتي: 1- قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي

_ 1 سورة نوح، الآية: 1-3. 2 سورة التغابن، الآية: 8، 9. 3 سورة محمد، الآية: 12. 4 سيرة ابن هشام ج2 ص41، ومثل هذا أيضًا في ج2 ص55 ومن هذه السيرة. 5 سيرة ابن هشام ج1 ص342.

ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} 1. 2- وقال تعالى حكاية عن قوم نوح -عليه السلام- لقومه: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا، يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} 2. 3- ما قاله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندما جاء أشراف قريش عمَّه أبا طالب ليحدِّثوه بشأن رسول لله -صلى الله عليه وسلم، وطلبوا منه أن يكلِّمه ليكفَّ عنهم ويكفوا عنه، فبعث إليه أبو طالب فجاءه، فقال: يا ابن أخي، هؤلاء أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليعطوك وليأخذوا منك، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "يا عم، كلمة واحدة تعطونيها، تملكون بها العرب، وتدين لكم بها العجم"، فقال أبو جهل: نعم وأبيك، وعشر كلمات. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "تقولون لا إله إلا الله وتخلعون ما تعبدون من دونه" 3. من أساليب الترغيب والترهيب: 673- ومن أساليب الترغيب والترهيب تذكير القوم بما هم عليه من نِعَمٍ، وأنَّ من شأن ذلك أن يدعوهم إلى طاعة الله الذي أنعم عليهم بهذه النِّعَم، والتحذير من فقدهم لها إذا امتنعوا من الاستجابة وكفروا بالله، ومع زوال النِّعَم نزول العذاب، ومن الآيات الكريمة المبينة لهذا النوع من الأسلوب، قوله تعالى: 1- عن هود -عليه السلام: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 4. 2- وقال تعالى عن هود -عليه السلام- أيضًا: {وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ، أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ، وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} 5.

_ 1 سورة النور، الآية: 55. 2 سورة نوح، الآية: 10، 12. 3 سيرة ابن هشام ج2 ص27. 4 سورة الأعراف، الآية: 69. 5 سورة الشعراء، الآية: 131-135.

3- وقال تعالى عن صالح -عليه السلام: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} 1. 4- وقال تعالى عن قريش: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ، إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ، الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْف} . من لوازم الترغيب والترهيب: 674- ولما كان الإنسان يعيش في الدنيا ويشاهدها ويحسّ بها ويتعرَّض لإغراءاتها، مما قد يجره إلى الركون إليه والتعلق بها ونسيان الآخرة، فلا بُدَّ إذن من تنفير المدعوين من إيثارها على الآخرة، لا من الفرار منها جملة واحدة، مع بيان حقيقتها وقيمتها وقدرها بالنسبة إلى الآخرة ونعيمها، وقد بَيِّنَ ذلك كله القرآن الكريم خير بيان، مما يجعل أيّ مسلم عاقل يؤثر الآخرة على الدنيا، بل ويجعل المدعوَّ غير المسلم منجذب إلى هذه الحقائق في موازنة الدنيا مع الآخرة، وقد يجره ذلك إلى الإيمان لما يحسه من صدق هذا البيان والتصوير لقيمة الدنيا. ومن الآيات القرآنية في هذا الباب قوله تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} ، وقال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} . 675- وفي السنة النبوية المطهرة تحذير من الدنيا وإيثارها على الآخرة وقيمتها

_ 1 سورة الأعراف، الآية: 73.

بالنسبة للآخرة، من ذلك الحديث الشريف: "إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله تعالى مستخلكفم فيها، فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء"، وكان -صلى الله عليه وسلم- يقول: "اللهم لا عيش إلّا عيش الآخرة"، وقال -صلى الله عليه وسلم- في بيان قدر الدنيا بالنسبة للآخرة: "ما الدنيا في الآخرة إلّا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليمِّ فينظر بم يرجع".

المبحث الرابع: التربية والتعليم

المبحث الرابع: التربية والتعليم ضرورة التعليم: 676- فإذا حصلت الاستجابة وقَبِلَ المدعوُّ الدعوةَ إلى الله، وهداه الله وشرح صدره للإسلام، وجب على الداعي أن يتعهَّده بما يكفل له المناعة ضد الداء القديم، ويبصِّره بمعالم الدين، ويثبِّته عليه، وذلك بتعليمه معالم الإسلام ومعانيه وأفكاره، فلا يجوز للداعي أن يترك المستجدين وشأنهم بمجرَّد أنهم قَبِلوا الإسلام وصاروا من عداد المسلمين، فقد تبقى بقايا كثيرة أو قليلة من دائهم القديم: الشرك بأنواعه، مما يعرضهم إلى الانتكاس والرجوع عن الإسلام، أو السير على غير هدى، ويحسبون أنهم مهتدون. 677- وفي السُّنَّة النبوية سوابق قديمة تدل على هذا المنهج القويم في الدعوة إلى الله، أي: تعليم من يقبل الإسلام، فقد ثبت في السنة المطهرة أنه عندما أسلم عُمَيْر بن وهب، قال -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: "فقِّهوا أخاكم في دينه، وأقرئوه القرآن" 1، ويستدل بهذا الخبر على ضرورة تعليم من يدخل في الإسلام، وأن من يعرف معاني الإسلام أو بعضها عليه أن يعلمها غيره من المسلمين الجدد، وفي السنة أيضًا، أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلّم- أرسل مصعب بن عمير ليعلِّم مسلمي المدينة القرآن، وقد ظلَّ مصعب يعلِّم القرآن ويدعو إلى الإسلام حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلّا وفيها مسلمون2. وعندما أسلم بنو

_ 1 سيرة ابن هشام ج2 ص308. 2 سيرة ابن هشام ج2 ص308.

المصطلق أرسل -صلى الله عليه وسلم- إليهم رسولًا يعلمهم أمور الإسلام1. 678- ومما يدل على حرص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على تعليم الناس أمور الإسلام، ما رواه أبو رفاعة تميم بن أسيد -رضي الله عنه- قال: انتهيت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يخطب، فقلت: يا رسول الله، رجل غريب جاء يسأل عن دينه، لا يدري ما دينه، فأقبل عليَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وترك خطبته حتى انتهى إلي، فأتى بكرسي فقعد عليه، وجعل يعلمني مما علَّمه الله، ثم أتى خطبته فأتمَّها"2. فلولا أنَّ تعليم الناس أمور الإسلام أمر ضروري ولا يحتمل التأخير، لما ترك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطبته ونزل لتعليم السائل. فعلى الدعاة إلى أن يعلِّموا الناس أحكام الإسلام ويعرِّفوهم بحدود الله، ولا يكتفوا منهم بالعاطفة الطيبة، وترديد بعض الكلمات الحقة، وأنَّ الإسلام صالح لكل زمان ومكان، فإنَّ هذه العمومات لا تكفي، بل لا بُدَّ من معرفة تفصيل الإسلام بالقدر المستطاع. إن نشر مفاهيم الإسلام واجب على كل مسلم، فمن كان عنده علم فلا يجوز له كتمانه، لا سيما عند شيوع الجهل وظهور البدع، قال ابن كثير -رحمه الله تعالى: "فالواجب على العلماء الكشف عن معاني كلام الله، وتفسير ذلك، وطلبه من مظانِّه وتعلّم ذلك وتعليمه، كما قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} ، ثم قال ابن كثير -رحمه الله: "فعلينا أيها المسلمون أن ننتهي عمَّا ذمهم الله تعالى به، وأن نأتمر به أمرنا به من تعلم الله المنزَّل إلينا، وتعليمه وتفهمه وتفهيمه"3. ولا شكَّ أن هذا الواجب على الدعاة أوجب؛ لأن الشأن في الدعاة أنَّهم يدعون إلى الله على بصيرة وعلم، فعليهم تبصير غيرهم وتعليهم، ولا يبخلوا بما عندهم من علم، فإن كتم العلم لا يجوز، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ

_ 1 إمتاع الأسماع ص34. 2 رياض الصالحين ص268. 3 تفسير ابن كثير ج1 ص3.

اللاَّعِنُونَ، إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} . التربية مع التعليم: 679- ولا يكفي أن يقوم الداعي المسلم بتعليم المستجيب معاني الإسلام، وإنما عليه أن يحمله على العمل بها، وصياغة سلوكه بموجبها ومقتضاها، وهذا هو ما نريده بالتربية مع العلم ... وهكذا كان نهج المسلمين الأولين، قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه: كان الرجل منَّا إذا تعلَّم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن. وقال أبو عبد الرحمن السلمي: حدَّثنا الذين كانوا يقرئوننا أنَّهم كانوا يستقرئون من النبي -صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا تعلَّموا عشر آيات لم يخلفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل، فتعلمنا القرآن والعمل جميعًا1. ضرورة التربية على معاني الإسلام: 680- وتربية المسلم على معاني الإسلام وصياغة سلوكه وفق هذه المعاني أمر ضروري لا غنى للمسلم عنه، ومن ثَمَّ وجب على الداعي الاهتمام به، وجعله في مقدَّمة ما يحرص عليه. إنَّ حفظ معاني الإسلام فقط دون أن تمسّ هذه المعاني القلب، ودون أن ينصبغ بها السلوك، لا يفيد في التقويم ولا في صلاح المسلم. إن من يحفظ مناهج الرياضة في تقوية الجسد، ويذكرها إذا سئل عنها، أو يرددها بنفسه دون أن يطبقها فعلًا على نفسه، لا يكتسب صحة جيدة ولا جسمًا قويًّا، وكذا من يعرف الإسلام ويحفظ معانيه دون أن يربِّي نفسه عليها، وفضلًا عن ذلك فإنَّ من يتعلم ولا يعمل بما تعلّم يكون عرضة للانزلاق والانقلاب عند أوّل فتنة أو امتحان، وما أكثر فتن الدنيا واختباراتها، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} ، ولهذا كانت الفترة المكية متميزة بالتربية على معاني الإسلام وفقه أصوله العظيمة التي تقوم عليها العقيدة الإسلامية، وبتلك التربية العميقة الصارمة صفت نفوس أولئك الكرام، وامتلأت بحقائق الإسلام، وصاروا طليعة الإسلام الأُولى

_ 1 تفسير ابن كثير ج1 ص3.

وكتيبته المظفرة، ومكَّنتهم تلك التربية من تحمُّل ما لا يطيقه غيرهم من المحن في سبيل الله، ونصرة دينه ونشره في الآفاق. من معالم التربية: 681- ومن معالم التربية وأصولها شدَّ المسلم إلى غاية عليا ينقضي عمره، ولا ينتهي من التحليق إليها والسير الحثيث إليها، هذه الغاية هي الله -جل جلاله، ونوال رضاه، والتلذُّذ بذكره، والتنعيم بعبادته، والتطلُّع إلى ما عنده. إنَّ هذه الغاية العليا لا تضيق بالراغبين فيها، المتطلعين إليها، ومن ثَمَّ فلا يمكن أن يكون تحاسد في طلابها ولا تباغض، وإنما أنس ومحبة وتنافس. وهي بعد ذلك لا يُنَال بالأماني الفارغة مع القعود والكسل، فإنَّ من يريد الوصول إلى مكة فعليه أن يعزم على السفر والرحيل ومفارقة الأهل والوطن، وحثّ السير والتزوُّد، ولكن الزاد هنا زاد التقوى، وجعل حياة المسلم كلها لله رب العالمين، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، وكان -صلى الله عليه وسلم- يذكر المسلمين بهذه المعاني، وبهذه الغاية العليا، وبالتزوّد من زاد التقوى، حتى إنَّ أول خطبة خطبها في المدينة كانت في الحثِّ على تقوى الله والتعلق بالآخرة1. من وسائل التربية: 682- ومن وسائل التربية المؤثِّرة جدًّا الاتصال بكتاب الله العظيم تلاوة وتأملًا وفهمًا، وفتح منافذ القلب إلى هذا الروح العظيم: القرآن؛ لتنساب أنواره إلى كيان المسلم، فتزيل أدواءه وظلمته، وتبعث فيه الحياة الحقيقة، فإنَّ القرآن كما وصفه الله تعالى نور وهدًى وشفاء وروح، ولا يبقى مع النور ظلمة، ولا مع الهدى شكّ، ولا مع الشفاء داء، ولا مع الروح موت، قال تعالى: {الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} ، {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} ، {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا....}

_ 1 ابن هشام ج2 ص118.

683- وكذلك ينبغي الاتصال الدائم بالسيرة النبوية الكريمة، وسيرة أصحابه الكرام، حتى يصبح المسلم كأنَّه يعيش هناك مع رسول الله وصحبه، متخطيًا حدود الزمن مسلخًا بروحه للحاق بهم والتأسي بسيرتهم. إن على الداعي المسلم أن يعين المستجيبين على هذا النمط من التربية، وبهذا الأسلوب وغيره حتى يثبتوا على الإسلام، ويكونوا دعاة إلى الله، فإن الإسلام يحتاج إلى المزيد من الدعاة الفاهمين.

الفصل الثالث: وسائل الدعوة

الفصل الثالث: وسائل الدعوة مدخل ... الفصل الثالث: وسائل الدعوة تمهيد: 684- نريد بالوسائل ما يستعين به الداعي على تبليغ الدعوة إلى الله على نحوٍ نافع مثمر، وهي نوعان: وسائل تتعلّق باتخاذ الأسباب لتهيئة المجال الجيِّد المساعد لتبليغ الدعوة إلى الله، ونسميها بالوسائل الخارجية للدعوة، ووسائل تتعلّق بمهمة تبليغ الدعوة بصورة مباشرة، ونسميها وسائل تبليغ الدعوة، وعلى هذا نقسِّم هذا الفصل إلى مبحثين: المبحث الأول: للوسائل الخارجية. المبحث الثان: لوسائل تبليغ الدعوة.

المبحث الأول: الوسائل الخارجية للدعوة

المبحث الأول: الوسائل الخارجية للدعوة أساسها: 685- أساس هذه الوسائل النظرة الصحيحة لواقع الحياة وجريان أحداثها وفق قانون الأسباب والمسببات، وهذه الوسائل كثيرة، نذكر منها: الحذر، والاستعانة، أو يكون قريبًا منها، ونتكلم فيما يلي عن هذه الوسائل في فروع ثلاث: الفرع الأول: الحذَر معناه: 686- الحذر في اللغة: الخفية والتحرُّز والتيقُّظ، ورجل حذر، أي: متيقظ، فهو متحرِّز ومتأهب لما يخاف أن يفاجأ به من مكروه1. الحذر ممدوح غير مذموم: 687- ومن تعريفه باللغة يتبيِّن لنا أنَّه يقوم على أساس المعرفة وأخذ الحيطة، فالحَذِرُ يعرف مدى ضرر المكروه المتوقع حصوله، فيخاف من وقوعه خوفًا يدفعه إلى أخذ الحيطة والتحرز، ومباشرة الأسباب لمنع وقوعه، أو لدفعه إذا وقع، أو لتقليل أضراره وأذاه، فهو ليس بخوفٍ مشوب باستسلام وقعود وانخلاع الفوائد واضطراب

_ 1 انظر لسان العرب ج5 حرف الراء.

الفكر وتشوّش البال، واليأس من الخلاص، والاستسلام له قبل الوقوع، ولهذا فالحذر بالمعنى الذي بيَّنَّاه محمود غير مذموم، وهو من صفات أهل الإيمان والعقل السليم والفهم الدقيق لسنن الله في الكون، لا من صفات أهل الطيش والحماقة والجهالة وقِصَر النظر، فهؤلاء لا يعرفون الحَذَر ولا تَتَّسِع له عقولهم؛ لأنهم لا ينظرون إلى أبعد من أنوفهم، ولا يحسّون بالمكروه المتوقَّع الحصول، إلّا إذا وقع فعلًا، أمَّا قبل وقوعه فهم عنه لاهون ساهون سادرون، ومن ثَمَّ يفاجئون به، فيدهشهم ويبهرم. والفرق دائمًا بين العاقل والجاهل أنَّ الأول يعرف الخطر قبل وقوعه، والمكروه قبل حلوله، فيتَّخذ العُدَّة لملاقاته ودفعه. أمَّا الثاني فلا يحسّ به أصلًا إلّا إذا وقع، ومن ثَمَّ لا يتخذ من الأسباب ما يدفعه أو يتوقاه، ولهذا الفرق يحسب الجاهل ما يفعله الرجل الحَذِرُ نوعًا من الخوف الذي لا مبرِّرَ له، ونوعًا من الجُبْن لا يتفق مع الإيمان، وكثيرًا ما يتأثَّر الرجل الحَذِرُ بأقوال الجهّال، فيترك ما يدعو إليه الحََذَر، ويتجاهل الخطر وإن تحققت مقدماته، فعلى الداعي المسلم أن لا يلتفت إلى أقوال هؤلاء. إنَّ مَثَلَ الحَذِرِ كصاحب السفينة يسير في البحر على ضوء ما تشير به حالة الجو، في ضوء قواعد علم الفلك والأنواء، ويأخذ الحذر المطلوب لتقلُّبات الجوِّ، وحتى إذا لم يحدث المتوقع فلا ضرر عليه فيما يأخذ من الحيطة، ومَثَلُ الجاهل الأحمق مَثَلُ الذي يسير في المحيط في مركب صغير، ولا يلتفت إلى ما تشير إليه الأخبار العلمية عن حالة الجو المتوقعة، بل يبلغ به الجهل إلى مخالفة ذلك، وسرعان ما يعطب به مركبه، وتتكسر ألواحه فيغرق بما فيه ومن فيه، وإن كانت نيته حسنة، وقصده مرضاة الله تعالى، وقد يكون مأجورًا في الآخرة، ولكن أمور الدنيا تجري وفق الأسباب والمسببات، لا وفق القصود والنيات. دليل مشروعية الحَذَر من القرآن الكريم: 688- قال تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا

حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} 1. وهذه الآية الكريمة تدلّ دلالة صريحة قاطعة على وجوب أخذ الحَذَر، بل وتبيِّن للمسلمين كيفية الحذر مما يدل على أهميته، فالأمر بأخذ الأسلحة، والأمر بأن يكون بعض المسلمين وراء المصلين يحمونهم من العدو، وتقسيم المسلمين إلى طائفتين: طائفة تصلي وطائفة تحرس، والأمر بأخذ الحذر، وبيان أن الكفَّار يرغبون أن يترك المسلمون الحَذَر وأخذ أسبابه حتى يستأصلوا المسلمين مرَّة واحدة، كل ذلك دليل على وجوب الحيطة والتحرُّز، وأخذ الحَذَر من المكروه المتوقع، وأنقل هنا بعض ما ذكره الإمام القرطبي في تفسيره؛ ليطَّلِع القارئ أنَّ علماءنا -رحمهم الله تعالى- أدركوا أهمية الحَذَر، ودعوا إليه استجابة لأمر الله وفهمًا لمعاني كتابه. قال الأمام القرطبي -رحمه الله تعالى: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} ، {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} ، هذه وصية بالحذر وأخذ السلاح؛ لئلَّا ينال العدو أمله ويدرك فرصته. ثم قال -رحمه الله: {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: تمنَّى وأحب الكافرون غفلتكم عن أخذ السلاح؛ ليصلوا إلى مقصودهم، فبيِّنَ الله تعالى بهذا وجه الحكمة في الأمر بأخذ السلاح، وذكر الحذر في الطائفة الثانية دون الأولى؛ لأنها أولى بأخذ الحذر. وفي هذه الآية أدلَّ دليل على تعاطي الأسباب واتخاذ كل ما ينجي ذوي الألباب، ويوصل إلى السلامة، ويبلغ دار الكرامة، ثم قال -رحمه الله: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} ، والحذر من العدوِّ في كل الأحوال وترك الاستسلام، إنَّ الجيش ما جاءه مصاب قط إلّا من تفريط في حذر2. 689- وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} 2، هذا خطاب للمؤمنين، وأمر لهم بجهاد الكفَّار والخروج في سبيل الله وحماية الشرع، وأمر لأهل الطاعة بالقيام بإحياء دينهم، وإعلاء دعوته.

_ 1 سورة النساء، الآية: 102. 2 تفسير القرطبي ج5 ص371-373. 3 سورة النساء، الآية: 71.

وأمرهم الله تعالى أن لا يقتحموا على عدوهم على جهالة حتى يتحسَّسوا ما عندهم، ويعلموا كيف يردون عليهم، فذلك أثبت لهم1. دليل مشروعية الحذر من السنة النبوية: 690- وفي السنة النبوية شواهد كثيرة على مشروعية الحذر ولزومه بالنسبة للمسلم، ولا سيما للدَّاعي الذي يتعرَّض لمكائد الكفار والمنافقين، نذكر منها ما يأتي: أولًا: عن عائشة أمّ المؤمنين قالت: أتانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالهاجرة، في ساعة كان لا يأتي فيها، قالت: فلمَّا رآه أبو بكر قال: ما جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذه الساعة إلّا لأمر حدث، قالت: فلمَّا دخل تأخَّر له أبو بكر عن سريره، فجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وليس عند أبي بكر إلّا أنا وأختي أسماء بنت أبي بكر، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: أخرج عني من عندك، فقال: يا رسول الله، إنما هما ابنتاي، فداك أبي وأمي، فقال: إنَّ الله أذِنَ لي في الخروج والهجرة2، وفي أخبار هذه الحادثة أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- خرج وأبو بكر من باب صغير في ظهر بيت أبي بكر، ومضيا إلى غار بجبل ثور، فلم يصعدا الغار حتى قطرت قدما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دمًا، وقد نسج العنكبوت وعشعشت حمامتان على باب الغار3، ففي هذا الخبر والذي قبله دليل قاطع على وجوب الحذر، ويظهر ذلك من: أ- مجيء النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى بيت أبي بكر في الهاجرة؛ حيث ينقطع سير الناس عادة في الطريق أو يقل. ب- طلبه -صلى الله عليه وسلم- من أبي بكر أن يخرج من داره مَن فيها مِمَّن يخشى اطلاعه على ما يقوله النبي -صلى الله عليه وسلم، فلما أعلمه أبو بكر بأنهما ابنتاه لم ير بأسًا من بقائهما. ج- خروجهما من بابٍ في ظهر دار أبي بكر، فلم يخرجا من الباب الأصلي للدار. هـ- اختفاؤه -صلى الله عليه وسلم- في الغار، وتحمُّله النَّصَب للوصول إليه، حتى إنَّ قدمية الشريفتين قطرتا دمًا. و أمر الله تعالى العنكبوت بنسج خيوطه، وتعشيش الحمامتين؛ ليكون ذلك داعيًا لصرف أنظار المشركين عن وجودهما في الغار. 691- ثانيًا: وفي السنة النبوية أيضًا أنَّ قريشًا عندما عزَّت على قتل رسول الله

_ 1 تفسير القرطبي ج5 ص273. 2 سيرة ابن هشام ج2 ص97، وإمتاع الأسماع ص29. 3 سيرة ابن هشام ج2 ص98، وإمتاع الأسماع ص40.

-صلى الله عليه وسلم، أتى جبريل -عليه السلام- رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: لا تبيت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه، فلما كانت عتمة الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه حتى ينام، فيثبون عليه، فلمَّا رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذلك، قال لعلي بن أبي طالب: "نم على فراشي وتسَجَّ ببردي هذا الحضرمي الأخضر، فنم فيه، فإنه لن يصل إليك شيء تكرهه منهم"، ثم خرج عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فأخذ حِفْنَة من ترابٍ في يده، وأخذ الله تعالى على أبصارهم عنه فلا يرونه، فجعل ينثر ذلك التراب على رءوسهم ... "1. 692- ثالثًا: وكان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا صلّوا ذهبوا في الشعاب واستخفوا بصلاتهم من قومهم2 يوم كانوا في مكة. الحاجة إلى الحذر: 693- وإذا كان الحذر مشروعًا، فهل يحتاج إليه الداعي، وهل يجب عليه إذا كان محتاجًا إليه؟ الجواب: نعم قد يحتاج إليه الداعي، كما لو كان في مجتمع كافر مثل المجتمعات الوثنية في إفريقيا وآسيا، والملأ في هذه المجتمعات يكيدون للداعي إلى الله، ويعرقلون سعيه في نشر الإسلام، أو يريدون البطش به، وقد يكون الأخذ بالحَذَر في هذه الحالة وأمثالها واجبًا عليه؛ لأنَّ تركه قد يفضي إلى التهلكة وقطع جهاد الداعي في سبيل الله، وإلقاء النفس بالتهكلة، مع إمكان الاحتراز، لا يجوز، فيكون الأخذ بأسباب دفعها واجب، كما أنَّ بقاء الداعي وحريته في الرواح والمجيء على نحوٍ من الأنحاء، وما يتبع ذلك من نشر الإسلام خيرًا كثيرًا إذا هلك بسبب ترك الحذر، فيلزمه الحذر لهذه الغاية. الحذر والتوكل على الله: 694- ويجب أن يكون واضحًا تمامًا أنَّ الأخذ بالحذر وأسباب الحيطة واليقظة والتحرُّز لا يعني عدم الثقة بالله، ولا ينافي التوكُّل عليه؛ لأنَّ الحذر من الأسباب، ومباشرة الأسباب لا تنافي التوكُّل، ولكن لا يجوز أبدًا الاطمئنان والركون إليها،

_ 1 ابن هشام ج2 ص95. 2 ابن هشام ج1 ص275.

والتعلق بها؛ لأن الأسباب والمسببات بيد الله وحده، فهو الذي يهيئ السبب، وهو الذي يوفّق إليه ويدل عليه، ويجعله مفضيًا إلى نتيجة، ولو شاء لسلبه ما به صار سببًا، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، بل إنَّ المسلم يباشر الأسباب لأنَّ الله أمر بها ودعا إليها، ولكن يبقى القلب معتمدًا على الله وحده، متلفِّتًا إليه متعلقًا به كأنَّ صاحبه لم يباشر أيّ سبب أصلًا، ومثاله مثال الزارع في أرض الديم، ينثر الزرع ويتعهده، واعتماده على الله وحده، لا على ما باشره من أسباب، وهذه كانت حالة سيد المتوكلين رسولنا -صلى الله عليه وسلم، فقد باشر الأسباب في هجرته كما بَيَّنَّا، ودخل مع صاحبه أبي بكر إلى الغار، وأخذا بالحيطة والحَذَر، ولكن اعتماده ما كان على ما باشره من أسباب، وإنما كان اعتماده على الله وحده، ولهذا لمَّا شعر أبو بكر بالقلق على حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وظهر عليه الحزن من أجل رسول الله -صلى الله عليه وسلم، قال له الرسول الكريم -كما أخبرنا الله: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} ، فكان نظر رسول الله واعتماده على معية الله لهما بالنصر والحفظ والتأييد، لا على ما باشره من الأسباب. أنواع الحذر: 695- والحذر أنواع من جهة ما يحذره الداعي المسلم، فهناك حذره من الوقوع في المعصية، وحذره من الأهل والولد، وحذره من اتباع الهوى، وحذره من المنافقين والكافرين، ولا بد من كلمة قصيرة عن هذه الأنواع. الحذر من المعاصي: 696- قال تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} ، أي: يحذركم عقابه بأن تباشروا المعاصي وما يسخط الربَّ -جلَّ جلاله، فيحلّ عليكم عذابه، أو تفقدوا نصره وتأييده، والداعي إلى الله يحذر أن يحل عليه غضب الله، أو يقطع عنه مدده وعونه ونصره وتأييده وحفظه، ولهذا فهو دائم التعلُّق بالله، شديد الحذر من الوقوع فيما يغضب الله تعالى، فهو دائم المراقبة لربِّه، دائم التقتيش في زوايا نفسه؛ لئلَّا ينبت فيها شيء من الرياء -وما أصعب التوقي منه، أو طلب السمعة عند الناس، أو الإعجاب بالنَّفس وبالتعالي على الخلق، والمَنِّ بما يقوم به من أمور الدعوة، إلى غير ذلك من أقذار المعاصي

القلبية، فإنَّ الله تعالى لا تخفى عليه خافية، قال -جلَّ جلاله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} 1. الحذر من الأهل والولد: 697- والأهل والولد مجبنة مبخلة، كما جاء في بعض الآثار؛ لأنَّ حب المسلم لأهله وولده قد يقعد به عن الجهاد في سبيل الله، ويحبّّب إليه الامتناع عن البذل حيث يحب الله منه البذل، وقد يمنعونه فعلًا عن الجهاد وعن العمل؛ ليوفر لهم الراحة والطمأنينة في زعمهم، وقد يستجيب لهم، فيكون فعلهم هذا فعل الأعداء، والعدو يستحق الحذر والإفلات من مكيدته، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} 2، ووجه عداوتهم كما يقول ابن العربي المالكي: "إن العدو لم يكن عدوًّا لذاته، وإنما عدوًّا بفعله، فإذا فعل الزوج والولد فعل العدو كان عدوًّا، ولا فعل أقبح من الحيلولة بين العبد والطاعة"، وقال أهل التفسير: إنَّ هذه الآية نزلت في عوف بن مالك الأشجعي، كان ذا أهلٍ وولد، وكان إذا أراد الغزو بكوا إليه ورققوه، فقالوا: إلى من تتركنا؟ فيرِقُّ لهم ويقيم عندهم"3، فليحذر الداعي المسلم جهالة الأهل والولد وتثبيطهم له عن الجهاد في سبيل الله والدعوة، فهم مجبنة مبخلة كما قلنا. الحذر من اتباع الهوى: 698- وليحذر الداعي من الانزلاق إلى متابعة الهوى وترك الحق بحُجَّة تكثير سواد المستجيبين، أو بحُجَّة قبول الدعوة وانتشارها، فإنَّ دعوة الله ليست بحاجة إلى تكثير سواد أتباعها من طريق الخيانة، وإرضائهم بالباطل وبما يسخط الله تعالى، قال ربنا -تبارك وتعالى- لرسوله الكريم -صلى الله عليه وسلم: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} 4، وقد جاء في

_ 1 سورة البقر ة، الآية: 235. 2 تفسير القرطبي ج18 ص141، والآية في سورة التغابن. 3 تفسير القرطبي ص140. 4 سورة المائدة، الآية: 49.

تفسير هذه الآية: إنَّ جماعة من أحبار اليهود تآمروا فيما بينهم على أن يأتوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ويلوِّحوا له بإسلامهم إذا استجاب لما يطلبون، فأتوا الرسول -عليه الصلاة والسلام، وقالوا له: لقد علمت مكانتنا في قومنا، وإنَّنَا إذا أسلمنا أسلمت يهود كلها، وإنَّ لنا خصومة مع بني فلان، ونريد أن نحاكمهم إليك، فاحكم لنا عليهم، فإن فعلت ذلك أسلمنا وأسلمت يهود معنا، فأبى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذلك، وأنزل الله تعالى هذه الآية"1. الحذر من المنافقين والكفار: 699- المنافقون أصناف شتَّى، منهم: المنافق الخالص، ومنهم من فيه شوب نفاق يلوّث إسلامه، ومنهم بين هؤلاء وأولئك. وضرر المنافقين في المسلمين عظيم، وقد يكون أكثر من ضرر الكفَّار؛ لظهور هؤلاء وخفاء أولئك، فعلى الداعي المسلم أن يحذرهم، فلا يسمع لقولهم، ولا يثق بهم، ويسد المنافذ في وجوهم، ويحبط مكائدهم، قال تعالى في أوصاف المنافقين ووجوب الحذر منهم: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} 2، ويقول الإمام القرطبي في تفسير هذه الآية: وفي قوله تعالى: {فَاحْذَرْهُم} وجهان؛ أحدهما: فاحذر أن تثق بقولهم، أو تميل إلى كلامهم، الثاني: فاحذر مما يلتهم لإغرائك، وتخذيلهم لأصحابك3. وسائل الحذر: 700- وسائل الحذر كثيرة، تختلف باختلاف ما يُحْذَر منه، وباختلاف الظروف والأحوال، ونذكر منها ما يأتي على سبيل المثل، وهي التي وردت فيها الآثار -ويجوز القياس عليها عند الحاجة، وهذه الوسائل يأخذها الداعي في المجتمعات الوثنية، كما لو ذهب إلى بلدان إفريقية الوثنية يعلِّم الناس هناك الإسلام، ومن هذه الوسائل: 701- أولًا: البدء بمكاشفة الموثوقين بالدعوة إلى الله حذرًا من الأعداء، وهذا الحذر لازم في المجتمعات الوثنية والكافرة التي يضيق الملأ فيها من انتشار

_ 1 القرطبي ج6، ص212، ومعنى يفتنوك أي يصدوك. 2 سورة المنافقون، الآية: 4. 3 القرطبي ج18، ص126.

الإسلام كما في البلاد الوثنية في إفريقيا، ودليل هذا الحذر ما جاء في السيرة: "فلمَّا أسلم أبو بكر -رضي الله عنه- أظهر إسلامه، فجعل يدعو إلى الله وإلى الإسلام من وَثِقَ به من قومه ممن يغشاه ويجلس إليه"1. 702- ثانيًا: بالتخفي والاستتار، إحباطًا لكيد الكافرين، وإبعاد أذاهم عن الداعي إلى الله، ودليلنا على ذلك اختفاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه الصديق في الغار. 703- ثالثًا: اعتزال القوم والاختفاء عنهم، ودليلنا على ذلك فتية أهل الكهف، وفيهم قال الله تعالى: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا} . وإذا جاز هذا النوع من الاعتزال جاز ما دونه، كالهجر وعدم المخالطة والتوقف عن نشر الدعوة إلى حين، نزولًا عند حكم الضرورة، وفي هذه الحالة ينبغي للدَّاعي أن ينشغل بنفسه ويقبل على عبادة ربه، ويتأمل في أمور الدعوة والافتكار فيها، إلى أن يزول ما دعاه إلى الاعتزال. 704- رابعًا: الخروج إلى المحل الأمين تخلصًا من أذى الكافرين، ودليلنا على ذلك خروج المسلمين إلى الحبشة2. والواقع أنّ الخروج من أرض الكفرة؛ حيث يتَّجِه كيدهم إلى البطش بالداعي إلى الله، أمر ذكره الله تعالى دون إنكار، مما يدل على مشروعيته في حق الدعاة المسلمين، قال ربنا -تبارك وتعالى: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ، فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} 3. 705- خامسًا: عدم إظهار المسلم إسلامه إذا كان في هذا الإظهار تنكيل الكفرة بالمسلم، قال تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} 4، وقد قصَّ الله علينا

_ 1 ابن هشام ج1 ص268. 2 ابن هشام ج1 ص342. 3 سورة القصص، الآية: 20،21. 4 سورة غافر، الآية: 27.

خبر ذلك المؤمن الذي كان يكتم إيمانه دون إنكار، فدلَّ على جواز كتم الإيمان عند الضرورة، ومن باب أولى جواز أن يكتم الداعي إلى الله صفته عن الكفار، بل ويجوز أن يكتم اسمه، ودليلنا على ذلك أنَّ رسول لله -صلى الله عليه وسلم- عند مسيره إلى بدر ذَهَبَ هو وأبو بكر -رضي الله عنه- بعيدًا عن المسلمين، فوقف على شيخ من العرب، وسأل عن قريش لمَّا أجابه سألهما: ممن أنتما؟ فقال رسول الله: "نحن من ماء" 1، ومما يدل أيضًا على جواز إخفاء المسلم إيمانه، أنَّ مسلمي المدينة واعدوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المجيء إلى العقبة في مِنَى خارج مكة، وقد جاء في أخبار هذه الحادثة ما يرويه واحد من الذين حضروا العقبة، وبايعوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وهو كعب بن مالك، قال: "وكنا نكتم من معنا من قومنا من المشركين أمرنا، ثم قال: فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا، حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله -صلى الله عليه وسلم، نتسلل تسلل القطا مستخفين، حتى اجتمعنا في الشِّعْبِ عند العقبة، ونحن ثلاثة وسبعون رجلًا ومعنا امرأتان.. قال: فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله -صلى الله عليه وسلم، حتى جاءنا معه العبَّاس ... 3. 706- سادسًا: التفرق وعدم إظهار ما يلفت نظر الكفرة، قال تعالى عن يعقوب -عليه السلام: {وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} 4. 707- سابعًا: إخفاء الداعي قصده وتفاصيل ما يريده، جاء في السيرة النبوية: "وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قلَّمَا يخرج في غزوة إلّا كنَّى عنها، وأخبر أنَّه يريد غير الوجه الذي يقصد له، إلّا ما كان في غزوة تبوك، فإنه بينها للناس لبعد الشقة"4.

_ 1 سيرة ابن هشام ج2، ص255. 2 سيرة ابن هشام ج1، ص49. 3 سيرة يوسف، الآية: 67. 4 سيرة ابن هشام ج4، ص129.

الفرع الثاني: الاستعانة بالغير الاستعانة بأهل الخير والكفاءة: 708- الداعي حريص على إيصال الدعوة إلى الناس، ومن أجل هذا يستعين بكلِّ وسيلة مشروعة لتحقيق ما يحرص عليه، ومن الوسائل المشروعة استعانته بأهل الخير والكفاءة، قال تعالى عن موسى -عليه السلام: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي، هَارُونَ أَخِي، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي، كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا، وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا، إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا} 1، فموسى -عليه السلام- طلب من ربه أن يساعده بأخيه هارون؛ لأنه كما قال تعالى في بيان سبب ذلك الطلب: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} ، ومعنى ردءًا أي: وزيرًا ومعينًا ومقويًّا لأمري، يصدقني فيما أقوله، ويبيِّن عني ما أكلمهم به، فإنه أفصح مني لسانًا، ويفهم عني ما لا يفهمون، فالداعي المسلم لا يتردد أبدًا في الاستعانة بكفاءة غيره من المسلمين، وقدرته في مجال الدعوة، وسيكون مسروًا جدًّا إذا ما وجد مسلمًا ذا قدرة وكفاءة وأمانة في أمور الدعوة، مع رغبته في الإسهام في هذا المجال، وإذا ما أحسَّ الداعي بضيقٍ في صدره من عمل المسلم الكفء في الدعوة إلى الله، فإنَّ إخلاصه لا بد أن يكون مشوبًا بحبِّ السمعة والرياء، فليسارع في تنقية إخلاصه، وفسح المجال للكفء الأمين بالإسهام في جهاد الدعوة إلى الله تعالى. الاستعانة لغرض الحماية: 709- ويجوز للداعي المسلم أن يستعين بالمسلمين لحمايته ممن يريد إيذاءه أو منعه من تبليغ الإسلام، ودليلنا على ذلك أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يعرض نفسه في المواسم على قبائل العرب، يدعوعهم إلى الله، ويخبرهم أنه نبي مرسل، ويسألهم أن يصدقوه ويمنعوه -أي: يحموه، حتى يبيِّن عن الله ما بعثه، فكان -صلى الله عليه وسلم- يقف على منازل القبائل من العرب، ويقول: "يا بني فلان، إني رسول الله إليكم، يأمركم أن تعبدوا الله ولا

_ 1 سورة طه، الآيات: 29-35.

تشركوا به شيئًا، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد، وأن تؤمنوا بي وتصدقوا بي، وتمنعوني حتى أبيِّن عن الله ما بعثني به"1، وفي بيعة العقبة الكبرى قال -صلى الله عليه وسلم: "أبايعكم على أن تمنعوني ما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم" 2. استعانة الداعي بغير المسلم: 710- قد يحتاج الداعي إلى حماية المشرك مِمَّن يريد إيذاءه أو منعه من تبليغ الدعوة، فهل يجوز للداعي أن يطلب هذه الحماية من غير المسلم، أو يقبلها إذا عرضها عليه؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب، فما شروط طلبها أو قبولها؟ ثم هل يجوز للداعي أن يستعين بغير المسلم في بعض أمور الدعوة؟ هذا ما نجيب عنه في الفقرات التالية: جواز الاستعانة بغير المسلم لغرض حماية الداعي: 711- يجوز للداعي المسلم أن يقبل حماية غير المسلم له، ومنع الأذى عنه، وتمكينه من الدعوة إلى الله، كما يجوز للداعي أن يطلب هذه الحماية منه، ودليلنا على ذلك ما يأتي: أولًا: من الثابت أنَّ أبا طالب كان يحمي رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ويمنعه من قريش، وكان -صلى الله عليه وسلم- حريصًا على بقاء عمِّه أبي طالب على موقفه هذا، وعدم تخليه عنه، وقد رفض أبو طالب فعلًا التخلي عن ابن أخيه، بالرغم من إغراء قريش وتهديدها، بل ذهب إلى أبعد من ذلك، فقام في بني هاشم وبني المطلب "فدعاهم إلى ما هو عليه من منع رسول الله -صلى الله عليه وسلم، والقيام دونه.... إلخ"3، ولمَّا مات أبو طالب نالت قريش من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما لم تكن تطمع فيه في حياة أبي طالب، حتى قال -صلى الله عليه وسلم: "ما نالت مني قريش شيئًا أكرهه حتى مات أبو طالب" 4 وسمَّى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العام الذي ماتت فيها خديجة -رضي الله عنها- وأبو طالب عام الحزن5.

_ 1 ابن هشام ج2، ص31، 32. 2 ابن هشام ج2، ص50. 3 ابن هشام ج2، ص281. 4 ابن هشام ج2، ص236. 5 إمتاع الأسماع، ص27.

ثانيًا: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الطائف يلتمس النصر من ثقيف والمنعة بهم من قومه، ورجاء أن يقبلوا منه ما جاءهم به من الله -عز وجل، هذا ما رواه ابن هشام في سيرته"1. ثالثًا: وفي إمتاع الأسماع للمقريزي: "ويقال: إنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لمَّا عاد من الطائف وانتهى إلى حراء، بعث رجلًا من خزاعة إلى المطعم بن عدي ليجيره حتى يبلغ رسالة ربه فأجاره"2. رابعًا: عندما رجع المسلمون المهاجرون إلى الحبشة ظنًّا منهم أن أهل مكة أسلموا، "ولم يدخل منهم أحد إلّا بجوار أو مستخفيًا"3 أي: بجوار مشرك ليمنعه من إيذاء أو اعتداء قريش. خامسًا: عرض ابن الدغنَّة على أبي بكر جواره، فقَبِلَه أبو بكر، فقال ابن الدغنة: يا معشر قريش، إني قد أجرت ابن أبي قحافة، فلا يعرضنَّ له أحد إلّا بخير"4. تعليل جواز الاستعانة بغير المسلم: 712- الأخبار التي ذكرناها صريحة في الدلالة على جواز قبول أو طلب حماية غير المسلم، فما تعليل ذلك؟ تعليل ذلك أنَّ الدعوة إلى الله تحتاج إلى جوٍّ هادئ خالٍ من المضايفات والعقبات في طريق الدعوة، وخالٍ من الاعتداءات على الداعي، ومنعها من التبليغ؛ لأنَّ الدعوة إلى الله كالبذر وكالبناء، والبذر لا ينبت في الأعاصير والرياح، والبناء لا يقوم في الهياج وانشغال البناة في مدافعة الأذى، والاعتداء عن أنفسهم، ولهذا لمَّا توفَّر للدعوة الإسلامية الجوَّ الهادئ بعد صلح الحديبية، دخل في الإسلام مثل من كان في الإسلام قبل ذلك الصلح أو أكثر5، فالغرض من قبول حماية غير المسلم هو تمكين الداعي من القيام بنشر الإسلام والدعوة إلى الله تعالى،

_ 1 ابن هشام ج2، ص28. 2 إمتاع الأسماع، ص28. 3 ابن هشام ج1، ص288. 4 ابن هشام ج1، ص396. 5 ابن هشام ج3، ص278.

وليس الغرض منها التمتُّع بالحياة والراحة فيها، ولا مداهنة المشركين، وليس في قبول هذه الحماية شيئ، وإنما هي تشبه قيام المشرك برفع الأذى عن طريق المسلم، أو ردّ الاعتداء عنه أو حراسته، فهذه الأمور مقبولة من المشرك، فكذا قبول حمايته. شروط قبول حماية غير المسلم: 713- ويشترط لقبول حماية غير المسلم أو طلب هذه الحماية أن لا يكوننَّ ذلك على حساب معاني الإسلام أو التنازل عن شيء منها، ولهذا لمَّا قال أبو طالب للنبي -صلى الله عليه وسلم: "فأبق عليَّ وعلى نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق"، قال -صلى الله عليه وسلم: "يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه، ما تركته"، ثم استعبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبكى، ثم قال: فلمَّا ولَّى ناداه أبو طالب فقال: "أقبل يا ابن أخي، ثم قال: اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبدً"1، وكذلك ردَّ أبو بكر جوار ابن الدغنة لمَّا طلب منه أن لا يصلي في مسجده عند باب داره في بني جمح2. 714- ويجوز قبول حماية غير المسلم وإن كان الغرض الأول منها الخلاص من إيذاء الكفرة وبطشهم؛ لأنَّ بقاء المسلم حيًّا يعطيه فرصًا في المستقبل للقيام بواجب الدعوة إلى الله، دليلنا على ذلك ما جاء في سيرة ابن هشام: "فلمَّا رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما يصيب أصحابه من البلاء، وما هو فيه من العافية لمكانه من الله، ومن عمه أبي طالب، أنه لا يقدر على أن يمنعهم مِمَّا هم فيه من البلاء، قال لهم: "لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإنَّها بها ملكًا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجًا مما أنتم فيه" 3. الاستعانة بغير المسلم في بعض الأمور: 715- ويجوز للداعي أن يستعين بغير المسلم في بعض الأمور، وإن اقتضى ذلك اطِّلاعه على بعض ما له صلة بعمل الداعي في مجال دعوته إلى الله تعالى، دليلنا على ذلك:

_ 1 ابن هشام ج1، ص278. 2 ابن هشام ج1، ص396. 3 ابن هشام ج1، 343.

أولًا: جاء في حديث الهجرة إلى المدينة أنَّ أبا بكر قال للنبي -صلى الله عليه وسلم: "يا نبي الله، إن هاتين راحلتان قد كنت أعددتهما لهذا، فاستأجرا عبد الله بن أريقط، رجلًا من بني الديل بن بكر -وكان مشركًا- يدلهما على الطريق، فدفعا إليه راحلتيهما، فكانتا عنده يرعاهما لميعادهما"1. ثانيًا: "وفي بيعة العقبة الكبرى أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جاء ومعه العبَّاس بن عبد المطلب، وهو يومئذ على دين قومه، "إلّا أنه أحبَّ أن يحضر أمر بن أخيه ويتوثق له"2. ثالثًا: "وكانت خزاعة مسلمهم ومشركهم عيبة نصح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بتهامة، صفقتهم معه، لا يخفون عنه شيئًا كان بها"3. 617- فهذه الأخبار صريحة في الدلالة على جواز الاستعانة بغير المسلم في بعض الأمور التي لها علاقة بالدعوة، ولكن يشترط لهذه الاستعانة التوثُّق من المشرك، والاطمئنان إلى عدم خيانته للمسلم، أو كشف ما طَّلع عليه، وهذه أمور تقديرية متروكة لتقدير الداعي المسلم وفطنته، ومدى الحاجة إلى ولوج هذا المسلك. وموقف المشرك المفيد للمسلم وكتمه ما يطَّلع عليه من شئونه، قد يرجع إلى قرابته من المسلم، أو الجميل أسداه إليه المسلم، أو لصدق معاملته معه، أو لحسن أخلاقه وسيرته، كما قال بن الدغنة لأبي بكر -رضي الله عنه- قبل أن يعلن جواره له: "فوالله، أنك لتزين العشيرة، وتعين على النوائب، وتفعل المعروف، وتكسب المعدوم، ارجع وأنت في جواري"4، ولا ضير على المسلم إذا استفاد من الموقف المفيد الحميد الذي يقفه من المشرك لأيِّ سبب من الأسباب.

_ 1 ابن هشام ج2، ص98. 2 ابن هشام ج1، ص49. 3 ابن هشام ج3، ص45، ومعنى عيبة نصح رسول الله: أي موضع سره، صفقهم معه أي: هواهم له، واجتماعهم عليه. 4 ابن هشام ج1، ص396.

الفرع الثالث: النظام أهمية النظام: 717- النظام وسيلة جيدة لا بُدَّ منها لحسن استخدام الجهود وتوجيهها على نحوٍ مثمر في مجال الدعوة إلى الله، وبالتالي زيادة فرص النجاح للداعي في بلوغ هدفه. وبدون النظام تتبعثر الجهود، ويكون السير على غير هدى، والإسلام هو دين النظام، فالصلاة تؤدَّى بنظام من جهة الوقت ومتابعة المأموم للإمام، وكذا في العبادات الأخرى مثل الحج والصيام والزكاة. حاجة الداعي إلى النظام: 718- والداعي المسلم يحتاج إلى تنظيم وقته، فإنَّ الوقت هو الحياة، وهو رأس ماله، وعليه أن يجعل شعاره الحديث الشريف: "من استوى يوماه فهو مغبون"، فلا بُدَّ إذن في حساب الداعي أن يكون غده خيرًا من يومه الحاضر، ويومه خيرًا من أمسه، وهذه الخيرية تقوم على مقدار ما يقدِّمه من جهود وجهاد في سبيل الدعوة إلى الله، وما يحققه من هداية في الناس، فإنَّ هداية شخص وتخليصه من النار خيرٌ للداعي من حُمُر النِّعَم. وتنظيم وقت الداعي يقوم على تقسيم يومه إلى أجزاء، وتخصيص كل جزء إلى أداء ما عليه من واجبات، فجزء لنفسه، وجزء لأهله، وجزء لعبادة ربه، وجزء للدعوة إلى الله، وحذار أن ينفق أوقاته فيما لا فائدة فيه، فإنَّ الواجبات أكثر من الأوقات؛ ولأنَّه معرَّض للموت في كل لحظة، فمن الحزم المبادرة إلى استغلال كل دقيقة من وقته في أداء واجب أو مستحب أو مندوب. حاجة الجماعة إلى النظام: د719- الدعوة إلى الله تعالى قد تكون جماعية، كما أشرنا إلى هذا من قبل، قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 1، والأمة معناها الجماعة، فإذا ما كانت الدعوة

_ 1 سورة آل عمران، الآية: 104.

إلى الله جماعية، كما قام نفر من المسلمين بنشر الإسلام في المجتمعات الوثنية كمجاهل إفريقيا، فعليهم أن يرعوا قواعد النظام التي أمر بها الإسلام، حتى تثمر جهودهم ولا تضيع، فإنَّ القليل من العمل بنظامٍ، والدوام عليه، خير من التكثير مع الفوضى والانقطاع، ومن مظاهر العمل الجماعي تشكيل الجمعيات الدينية التي تنشر محاسن الإسلام، وتعلم الناس أمور الدين والعبادة. معالم النظام الجماعي في التشريعة الإسلامية: 720- ومعالم النٌّظم في الشريعة الإسلامية للعمل الجماعي في مجال الدعوة إلى الله كثيرة، ويجب مراعاتها والاهتمام بها، فمن هذه المعالم: أولًا: لا بُدَّ لكلِّ جماعة من رئيس، تلك حقيقة قررتها الشريعة وأمرت بها، ويؤيدها الواقع، ويدركها العقل السليم، ولهذا جاء في الحديث الشريف: "إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمِّروا أحدهم"، ويقول الإمام ابن تيمية تعليقًا على هذا الحديث: "فأوجب -صلى الله عليه وسلم- تأمير الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر، تنبيهًا بذلك على سائر أنواع الاجتماع؛ ولأنَّ الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتمّ ذلك إلّا بالقوة والإمارة"3، والمقصود من الإمارة تحقيق طاعة الله ورسوله وتنفيذ أوامره، قال ابن تيمية: "فالواجب اتخاذ الإمارة دينًا وقربة يتقرَّب بها إلى الله، فإن التقرب إليه بطاعته وطاعة رسوله من أفضل القربات، وإنما يفسد فيها حال أكثر الناس لابتغاء الرئاسة أو المال بها"2. ثانيًا: في بيعة العقبة الثانية: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أخرجوا إليَّ منكم اثني عشر نقيبًا؛ ليكونوا على قومهم بما فيهم" 3. ثالثًًا: كان -صلى الله عليه وسلم- كلما خرج من المدينة لغزوة ونحوها يعيِّن من ينوب عنه على المدينة.

_ 1 مجموع فتاوى ابن تيمية ج28، ص930. 2 مجموع فتاوى ابن تيمية ج28، ص391. 3 ابن هشام ج2، ص51.

المقصود من الإمارة: 721- والمقصود من اتخاذ الأمير أو الرئيس للجمع القليل أو الكثير، جريان أمور المجتمعين على نسقٍ واحد، ولا يتحقق هذا المقصود إلّا بطاعة الجماعة للرئيس عند اختلاف الآراء، وإلّا لم يكن للإمرة معنًى ولا فائدة، جاء في الحديث الذي رواه عبادة بن الصامت: بايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا، ومنشطنا ومكرهنا، وأثرة علينا، وألّا ننازع الأمر أهله، وأن نقول الحق أينما كنَّا، لا نخاف في الله لومة لائم"1، والطاعة في المعروف لا في المعصية، جاء في الحديث الشريف: "لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق". ضرورة الطاعة: 722- والطاعة للرئيس ضرورية في كل عمل، وهي أشد ضرورة لعمل الجماعة التي تدعو إلى الله، وتقوم بنشر الإسلام، ولهذا فقد بلغ من فقه الصحابة الكرام للطاعة أنَّهم كانوا في حفر الخندق حول المدينة يستأذنون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أراد أحدهم الذهاب لقضاء حاجته، بخلاف المنافقين المندَّسين في صفوف المسلمين، فقد كانوا يتسلَّلون لواذًا ولا يستأذنون رسول الله -صلى الله عليه وسلم، قال ابن هشام: ويتسللون -أي المنافقين- إلى أهلهم بغير علمٍ من رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ولا أذن، وكان الرجل من المسلمين إذا نابته النائبة من الحاجة التي لا بُدَّ له منها، يذكر ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم، ويستأذن في اللحوق لحاجته، فيأذن له، فإذا قضى حاجته رجع إلى ما كان فيه من عملٍ رغبةً في الخير واحتسابًا له، فأنزل الله تعالى في أولئك المؤمنين: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 2.

_ 1 ابن هشام ج2، ص63. 2 سورة النور، الآية: 62، ابن هشام 390، ص170.

الطاعة والمشاورة: 723- ولا يعني قولنا بلزوم الطاعة ترك المشاورة، فإنَّ الرئيس يجب عليه أن يشاور أفراد الجماعة، وقد قال العلماء: "لم يكن أحد أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-1، كما أنَّ لأيِّ فرد أن يبدي رأيه على الرئيس، وعلى الرئيس أن يسمعه -وإذا كان صوابًا أخذ به، يدل على ذلك ما جاء في السيرة النبوية "أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج إلى مكَّة يريد العمرة في السنة السادسة للهجرة، فاستعدّت قريش لمنعه من الدخول، فأراد -صلى الله عليه وسلم- أن يرسل عمر بن الخطاب إليهم؛ ليخبرهم بقصد رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وأنه جاء لزيارة البيت لا للقتال، فقال عمر -رضي الله عنه: يا رسول الله، أخاف قريشًا على نفسي، وليس بمكة من بني عدي بن كعب أحد يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها، ولكن أدلك على رجل أعز بها مني: عثمان بن عفان، فدعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عثمان بن عفَّان فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش، يخبرهم أنَّه لم يأت لحرب، وإنما جاء زائرًا البيت ومعظمًا لحرمته"2. يسع الفرد ما لا يسع الجماعة: 724- وليكن معلومًا أنَّ ما يسع الفرد فعله قد لا يسع الجماعة أن تفعله، يدل على ذلك قصة أبي بصير الذي أسلم وجاء إلى المسلمين -وهم في الحديبية، وقد أبرموا الصلح مع قريش- يريد أن يئووه ويحموه من قريش، فأبى المسلمون ذلك لارتباطهم بمعاهدة الحديبية التي أمر بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فأخذ المشركون أبا بصير، ولكنَّه انفلت منهم وأخذ يقطع الطريق على قوافل قريش، وكان فعله مؤثِّرًا ومضايقًا للمشركين، ونافعًا للمسلمين، وسائغًا له أن يفعله، بينما ما كان هذا الفعل سائغًا لجماعة المسلمين، وإن كان الفعل بنفسه مفيدًا للمسلمين. وقد فقه المسلمون هذا المعنى، فلم يطلبوا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يشتركوا مع أبي بصير في عمله النافع؛ لأنهم أفراد في جماعة المسلمين، يلتزمون بما تلتزم به الجماعة، بينما كان أبو بصير مسلمًا سائبًا، والفرد السائب يسعه ما لا يسع الفرد في الجماعة، وعندما أرسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حذيفة بن

_ 1 السياسة الشرعية، لابن تيمية، ص169. 2 ابن هشام ج3، ص271.

اليمان ليطَّلِع على ما عند المشركين في حرب الخندق، قال حذيفة: لقد أمكنني أن أقتل أبا سفيان، ولكن لم أفعل؛ لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمرني أن لا أحدث شيئًا حتى آتيه"1. ليس كل مسلم يصلح للعمل مع غيره: 725- العمل مع الغير لنشر الإسلام والدعوة إلى الله يحتاج إلى فقهٍ دقيق وصبر جميل، وترويض للنفس على الطاعة، وقدر كبير من ضبط النفس ونكران الذات والتواضع، والقابلية على الانسجام مع سير المشتركين معه في العمل لنشر الإسلام، وقبول الرأي المخالف لرايه إذا أقرَّته الجماعة، أو اختاره الرئيس، إلى غير ذلك من المعاني اللازمة لأيّ عمل جماعي، وقد يكون -والله أعلم- في قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} 1، نوع من التنبيه إلى هذا المعنى، فالدعوة إلى الخير وعلى رأسها الدعوة إلى الله واجبة على كل مسلم جهد استطاعته، وبصفته فردًا مسلمًا، وهذا يدل على قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} 2، وقوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} 3، وفي آية {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} تكليف "أمة" من المسلمين، أي: جماعة بالدعوة إلى الله، وهذا -والله أعلم- في الأمور التي تستلزم توحيد الجهود وقدرات أفرادها على العمل الجماعي. ولهذا كله فليس كل مسلم يصلح للعمل الجماعي؛ لأنه ليس كل مسلم فيه المعاني اللازمة لهذا العمل، فقد يكون صالحًا في نفسه، ولكنه لا يفقه معنى النظام والطاعة، فهو يعتبر تقييدًا على حريته ونوعًا من التعسُّف، ويعتبر الطاعة مذلة واستكانة، لا متابعة لأمر الله وإطاعة له، كمتابعة المأموم لإمامه في الصلاة، يتابعه تنفيذًا لأمر الشرع، وليسلم له الأجر والثواب، ومثل هذا المسلم قد ينفع منفردًا، ولكنه يضر إذا عمل مع غيره، وقد يكون قدوة سيئة لمن يعمل معه من أفراد الجماعة في إخلاله بالنظام وعدم التزامه بمقتضيات الطاعة، فيختلّ

_ 1 ابن هشام ج3، ص186، 187. 2 سورة آل عمران، الآية: 104. 3 سورة التوبة، الآية: 71. 4 سورة يوسف، الآية: 108.

الصف، وتنفرَّق الآراء، وتعمّ الفوضى والاضطراب، ويكثر الخروج من الجماعة، فيقول الناس: جماعة سوء واختلاف، بسب أهواء ودعاة شرٍّ يريدون إصلاح الناس وينسون إصلاح نفوسهم، فيكون ذلك فتنة شديدة للدعوة إلى الله، وتنفيرًا عمليًّا للناس من الإسلام. إن المَاكينة العظيمة لا يمكن أن تؤدِّي علمها وتحقق غرضها، إلّا إذا سارت جميع أجزائها بانتظام، فإذا أريد لآلة منها الإسراع مع قدرتها على الإسراع، بخلاف ما يقتضيه سير الماكينة، فإن هذه الآلة بسرعتها تضرّ ولا تنفع. وكذلك الفرد في الجماعة، قد يتصوّر أن عملًا ما جيد ونافع فيسارع إليه، خلافًا لسير الجماعة ومتقضيات هذا السير، فيقع الاضطراب، ويحمل الضرر من حيث أراد ذلك الفرد النفع، وقد يكون هذا الفرد حَسَن النية والقصد، وراغبًا في الأجر، ولكن نتائج الأعمال في الدنيا -كما قلنا أكثر من مرة- مبنية على المقدِّمات والأسباب التي تتبعها النتبائج والمسببات. ما يجب على الرئيس: 726- وعلى رئيس الجماعة أن يرفق بمن معه، ويشعرهم بعطفه ورعايته، ولا يغلظ عليهم، ولكنَّ الترفُّق بهم لا يعني إعطاءهم ما يخالف الشرع، ولا أن يفعل ما يهوونه، ويترك ما يكرهونه، إذا كان ذلك منهم لا يبيحه الشرع، قال تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} 1، وقال تعالى للصحابة الكرام: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} 2، وإنما الإحسان إليهم يكون كما يقول ابن تيمية: بفعل ما ينفعهم في الدين والدنيا ولو كرهه من كرهه، لكن ينبغي له أن يرفق بهم فيما يكرهونه. 727- كما يجب على الرئيس أن يسعى إلى بقاء عزيمتهم على العمل في الدعوة إلى الله تعالى، وأن يمنع عنهم المثبِّطات والمفترات، وما يوهن عزائهم ويفتّ في أعضادهم، ويدل على ذلك ما جاء في السنة النبوية في خبر نقض بني قريظة معاهدتها مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم، في وقتٍ كان فيه المسلمون محاصرين في المدينة وراء الخندق الذي

_ 1 سورة المؤمنون، الآية: 71. 2 سورة الحجرات، الآية: 49.

حفروه، فقد جاء في هذا الحادث أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- لمَّا جاءه خبر نقض بني قريظة عهدها معه، بعث -عليه الصلاة والسلام- سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وعبد الله بن رواحة وخوات بن جبير، وقال لهم: "انطلقوا حتى تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا، فإن كان حقًّا فالحنوا لي لحنًا أعرفه، ولا تفتُّوا في أعضاد الناس، وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا به للناس"1. 728- وعلى الرئيس أن يعهد لكلِّ واحدٍ ما يقدر عليه، وهو فيه أكفأ من غيره، والأصل الجامع في هذا الباب قوله تعالى: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} 1، والقوة تختلف باختلاف العمل، فيعهد لكل عمل أصلح الموجودين له، دليلنا على ذلك تأمير خالد بن الوليد على المسلمين في قتال المشركين من قِبَل رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر -رضي الله عنه، حتى إنَّ خالدًا -رضي الله عنه- كانت تصدر منه بعض الأعمال بتأويلٍ يبرأ منه رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ومع هذا يبقيه على الإمرة، كما في عمله في بني جذيمة؛ حيث قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "اللهم أني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد"،1 وفلي الأذان أمر -صلى الله عليه وسلم- بلالًا أن يؤذن، وقال لعبد الله بن زيد الذي رأى رؤيا الآذان: "فإنه -أي بلال- أندى صوتًا منك" 2، ويجوز للرئيس أن يعرض العمل على الأفراد، ويدعو من يقدر عليه، ويدل على نفسه، ثم يختار الرئيس من يراه قديرًا عليه، دليلنا على ذلك أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة أحد قال: "من يأخذ هذا السيف بحقه"، فقام إليه رجال، فأمسكه عنهم حتى قام إليه أبو دجانة فأعطاه إياه

_ 1 ابن هشام ج3، ص176. 2 ابن هشام 4، ص44. 3 ابن هشام ج2، ص129. 4 ابن هشاك ج3، ص10. 5 سورة القصص، الآية: 26.

المبحث الثاني: وسائل تبليغ الدعوة

المبحث الثاني: وسائل تبليغ الدعوة تمهيد: 729- تبليغ الدعوة إلى الله تكون بالقول وبالعمل، وبسيرة الداعي التي تجعله قدوة حسنة لغيره، فتجذبهم إلى الإسلام، ونتكلم عن هذه الوسائل في ثلاثة فروع متتالية: الفرع الأول: التبليغ بالقول أهمية القول في التبليغ: 730- القول هو الأصل في تبليغ الدعوة إلى الله، فالقرآن -وفيه معاني الدعوة إلى الله- هو قول رب العالمين، نزل به الروح الأمين على محمد -صلى الله عليه وسلم؛ ليكون به التبليغ، قال -تبارك وتعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} 1، وكان تبليغ رسول الله لرسالة ربه للناس بالقول، قال تعالى مخاطبًا رسوله وآمرًا له أن يقول للناس: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ} 2، {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} 3، وكذلك أمر الله رسله أجمعين بتبليغ أقوامهم رسالة ربهم بالقول المبين، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى

_ 1 سورة التوبة، الآية: 6. 2 سورة يونس، الآية: 108. 3 سورة الأعراف، الآية: 158.

قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 1، {وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 2، فلا يجوز للداعي أن يغفل مكانة القول في تبليغ الدعوة، ولا أثر الكلمة الطيبة في النفوس، فالقول أذن هو الوسيلة الأصلية في إيصال الحق للناس. الضوابط العامة في القول: 731- يجب أن يكون القول واضحًا بيِّنًا لا غموض فيه ولا إبهام، مفهومًا عند السامع؛ لأنَّ الغرض من الكلام إيصال المعاني المطلوبة إلى من يكلمه الداعي، فيجب أن يكون الكلام واضحًا غاية الوضوح، ولهذا أرسل الله رسله بألسنة أقوامهم حتى يفهموا ما يدعونهم إليه، ويستطيعون بيانه إليهم، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُم} ، وجعل الله تعالى وظيفة الرسل الكرام التبليغ المبين الواضح؛ لتقوم الحُجَّة على المخاطبين، قال تعالى: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} ، ومقياس الوضوح ليس نفس الداعي وفهمه، فقد يكون الكلام واضحًا بالنسبة له، غامضًا بالنسبة إليهم، وكذلك ليس المقياس وضوح القول بذاته، فقد يكون الكلام واضحًا عندهم، وهذا هو الذي يشير إليه قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} ، فالبيان لهم لا للداعي ولا للكلام بذاته، وفي الحديث عن عائشة أم المؤمنين -رضي الله تعالى عنها- قالت: كان كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كلامًا فصلًا، أي: بيِّنًا ظاهرًا، يفهمه كل من يسمعه3. 732- ويجب أن يكون الكلام خاليًا من الألفاظ المستحدثة التي تحتمل حقًّا وباطلًا، وخطًأ وصوابًا، وعلى الداعي أن يحرص على استعمال الألفاظ الشرعية المستعملة في القرآن والسُّنَّة وعند علماء المسلمين؛ لأن هذه الألفاظ تكون محدَّدة المعنى واضحة المفهوم، خالية من أيِّ معنًى باطل قد يعلق في ذهن المدعوّ. وقد أشار القرآن الكريم إلى ضرورة هذا النهج، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا

_ 1 سورة الاعراف، الآية: 59. 2 سورة الاعراف، الآية: 104. 3 رياض الصالحين ص296.

رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} ؛ لأن في كلمة "راعنا" في لسان اليهود معنًى باطلًا كانوا يقصدونه عند مخاطبتهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بهذه الكلمة، فأمر الله المسلمين أن يتركوها ويستعملوا كلمة انظرنا بدلًا منها، حتى لا يحتج اليهود بهم، فيستعملوا كلمة راعنا، يريدون بها الشتيمة والتنقيص، وإذا اضطر الداعي إلى استعمال بعض الألفاظ المستحدثة فعليه أن يبيِّن مقصوده منها، حتى لا يتبادر إلى الأذهان المعاني الباطلة التي تحملها هذه الألفاظ، أو التي يفهمها الناس منها. الضوابط العامة للقائل: 733- يجب أن يتأنَّى الداعي في الكلام فلا يسرع، بل يتمهَّل حتى يستوعب السامع كلامه ويفهمه، جاء في الحديث الذي رواه البخاري "أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا تكلَّم بكلمة أعادها ثلاثًا حتى تفهم عنه"1. 734- وعلى الداعي أن يبتعد عن التفاصح والتعاظم والتكلف في نطقه، جاء في الحديث الشريف عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "هلك المتنطعون -قالها ثلاثًا" 2. والتنطُّع في الكلام التفاصح فيه والتعمق فيه، وفي حديث آخر: "إن أبغضكم إليَّ وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون" 3. 735- أن يبتعد الداعي عن روح الاستعلاء على المدعوِّ واحتقاره وتحديه، وإظهار فضله عليه، وإنما عليه أن يكلمه بروح الناصح الشفيق المخلق المتواضع، الذي يدل غيره على ما ينفعه ويعرِّفه به، على الداعي أن يكمله كمبلِّغ له معاني رسالة الله، لا أن يكلمه كمبلغ له فضله وعلمه. إنَّ ملاحظة هذه الأمور ضرورية جدًّا للداعي، وإذا لم يراعها انقطع ما بين قوله وبين قلب المدعوّ، فلا يتأثر بشيء مما يسمع، بل وينفر المدعوّ ولا يطيق سماع قول الداعي وإن كان حقًّا. 736- وعلى الداعي أن يتلطف بالقول، فيستعمل في كلامه وخطابه ما يثير

_ 1 رياض الصالحين ص296. 2 تيسير الوصول ج3 ص317. 3 رياض الصالحين ص248، والثرثار هو كثير الكلام، والمتشدِّق المتطاول على الناس بكلامه، ويتكلَّم بملء فيه تفاصحًا وتعظيمًا لكلامه، والمتفيهق هو الذي يملأ فمه بالكلام ويتوسَّع فيه، ويغرب به تكبرًا وارتفاعًا وإظهارًا للفضيلة على غيره.

رغبة المدعوّ إلى السماع، ويقمع فيه نوازع الجهل والنفور، وفي القرآن الكريم كثير من الآيات التي تشير إلى هذا التلطُّف المفيد، قال تعالى عن إبراهيم -عليه السلام: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} 1، فذكر إبراهيم -عليه السلام- في خطابه لأبيه رابطة الأبوة التي من شأنها أن تجعل الابن حريصًا على مصلحة الأب، وتجعل الأب جديرًا بأن يصغي إلى خطاب ابنه، وقال تعالى عن هود -عليه السلام: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ} 2، فهود -عليه السلام- خاطبهم بكلمة يا قوم؛ لأن هذا الخطاب أدعى إلى استجابتهم وإلى تحسيسهم بأنَّ من يخاطبهم هو منهم في النسب، وأنه يريد الخير لهم، وفي السنة النبوية ما يدل أيضًا على ما قلناه، فقد ذكر ابن هشام في سيرته أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- أتى إلى بطنٍ من بطون كلب في منازلهم يقال لهم "بنو عبد الله"، فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم نفسه، حتى إنه كان يقولهم لهم: "يا بني عبد الله، إنَّ الله -عز وجل- قد أحسن اسم أبيكم" 3 أي: فأحسنوا الإجابة واقبلوا الدعوة وآمنوا بالله ورسوله. 737- وعلى هذا يجوز أن يستثير في خطابه همم المدعوين بما يذكِّرهم به من طيب أصلهم وكرم عائلتهم وشرف نسبهم، وأنَّ ذلك لا يتفق وجريهم مع العصاة وانغماسهم في الرذائل والشهوات، وأنَّ اللائق بهم أن يكونوا مع الأخيار المطيعين لله، فهذا ونحوه سائغ إن شاء الله، لا نرى فيه شيئًا على ألّا يسرف فيه الداعي، وأن يكون قصده منه التشويق والحمل على الطاعة، لا المداهنة والنفاق، والأعمال بالنيات. 738- والتلطف في القول لا يعني المداهنة والنفاق ولا إخفاء الحق أو تحسين الباطل أو الرضى به، وإنما هو تشويق للمدعو لقبول الحق، وإعانته على هذا القبول، وليس فيه إخفاء مرض المدعو، فإنَّ الداعي كالطبيب، فكما أنَّ الطبيب لا يخفي على المريض علته، وضرورة العلاج له، فكذلك الداعي، قال تعالى حكاية عن بعض رسله:

_ 1 سورة مريم: الآية: 42. 2 سورة الأعراف، الآية: 65. 3 سيرة ابن هشام ج2 ص33.

{وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} 1، وقال تعالى عن صالح وما قال لقومه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ، الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} 2. أنواع القول: 739- والقول في مجال التبليغ أنواع، منها: الخطبة، والدرس، والمحاضرة والمناقشة، والتحديث أمرًا بمعروف، أو نهيًا عن منكر، والكتابة فإنها أيضًا من القول، باعتبارها أداة من أدوات التبليغ، وتؤدي ما يؤدي إليه القول بالنسبة لمن لا يمكن للداعي المشافهة معهم. الخطبة: 740- وهي وسيلة جيدة للتبليغ، وتكون عادة لجمع من الناس قد لا يعرفهم الداعي أو يعرف بعضهم فقط، ويشترط للخطبة الناجحة أن يكون لدى الداعي معنًى أو معانٍ معينة يريد بيانها ولفت الأنظار إليها، ومن المستحسن أن يكون موضوع الخطبة مما له علاقة في أحوال الناس، مع ربط ذلك بمعاني العقيدة الإسلامية، كأن يكون الذين يخطب فيهم ممن تكثر فيهم العصبية القبلية، فيحدِّثهم عن أضرارها وحكم الإسلام فيها، وأنَّ المؤمن لا ينصر قريبه إلّا بالحق، وأنَّ على المسلم أن يرضى بما قضى به الإسلام من التآخي بالإسلام ونبذ العصبية الجاهلية. وعلى الداعي الخطيب أن يلاحظ في خطبته الأمور التالية: 1- الاستشهاد بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية والتطبيقات العملية لها من قِبَلِ الرسول الكريم والرسل الكرام -صلوات الله وسلامه عليهم، والصحابة الكرام، فإنّ ذكر التطبيق يجعل معنى الآية والحديث مشهودًا محسوسًا. 2- يستعين بالقصص الواردة في الكتاب والسنة، ولا بأس من تصوير المعاني

_ 1 سورة هود، الآية: 52. 2 سورة الشعراء، الآيات: 150-153.

بشكل قصصٍ وضرب الأمثال، كما في الحديث الشريف: "أرأيتم لو أنَّ في باب أحدكم نهرًا يغتسل في اليوم خمس مرأت، أيبقى من درنه شيء"؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: "كذلك الصلاة". 3- أن لا يطيل في الخطبة، جاء في الحديث الشريف "إنَّ طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه، فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة" 1، وهذا الحديث ورد في خطبة الجمعة، فيقال عليها سائر الخطب، إلّا إذا اقتضت الضرورة إطالتها. 4- أن لا يكثر الخطب مخافة السآمة، يدل على ذلك أنَّ أبا وائل شفيق بن سلمة، قال: كان ابن مسعود -رضي الله عنه- يذكرنا في كل خميس مرة. فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن، لوددت أنك ذكَّرتنا كل يوم. فقال: أما إنه يمنعني من ذلك كراهية أن أملّكم، وأني أتخولكم بالموعظة كما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتخولنا بها مخافة السآمة علينا2. 5- أن يكون كلام الداعي بسيطًا واضحًا؛ لأنَّ الذين يسمعونه ليسوا في مستوى واحد من العلم والقدرة على فهم الخطاب، فإذا اختار الأسلوب البسيط الواضح والعبارات القصيرة انتفع بها الجميع وفهمها الجميع. 7- من المفيد للخطيب أن يبدأ خطبته بما يذكِّر الناس بربهم، ويبيِّن لهم، وينذرهم، وأن لا يقصد المباراة في خطبه، ولا مدح الناس، وقولهم: ما أعلمه وأقدره على الخطب، وإنما يقصد نشر معاني الدعوة إلى الله، فإذا رأى حاجة إلى ما بيِّنه في مكان معيِّن إلى إعادته في مكان آخر أعاده وكرَّره، ودليلنا على ذلك أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يكرِّر دعوته إلى الله، ويقول للناس: اعبدوا الله وحده واتركوا ما دونه. كما أنَّه -عليه الصلاة والسلام- كان يكرِّر في خطبته في المسلمين لزوم التقوى والعمل للآخرة، وفي القرآن الكريم تكرير لقصة موسى -عليه السلام، وتكرير لكثير من أصول العقيدة ومعانيها. 7- ومن المفيد للخطيب أن يبدأ خطبته بما يجلب انتباه السامعين من حادثة صادفها أو قصة قرأها، أو خاطر انقدح في نفسه، فإذا ما جلب انتباه السامعين مضى الخطيب في كلامه مترسلًاه مشوقًا ومنذرًا.

_ 1 رياض الصالحين ص297. 2 رياض الصالحين ص297. ويتخولنا معناها يتعهدنا.

8- على الداعي ان يتفرَّس في نفوس الحاضرين، وأيّ مرض يغلب عليهم، وأيّ شيء يحتاجونه أكثر من غيره، فيبدأ به ويربطه بالعقيدة الإسلامية، فإذا كانوا بحاجة إلى التخويف والترهيب لما يلمسه فيهم من الجرأة على المخالفات الشرعية ذكَرَ لهم الآيات والأحاديث الواردة في ذلك، وخوفهم من طول الأمل، وأن الحزم يقضي بأخذ العُدّة قبل حلول الأجل، والعدة هي تقوى الله، فإنها خير ما يتزوّد به المسافر إلى الله {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} ، وأن لذة المعصية وهي قصيرة تعقبها مرارة الندم والعذاب مدة طويلة، والعاقل من صبَّر نفسه عن لذة حرام لا تدوم؛ ليظفر بلذَّة حلال تدوم؛ ولينجو من عذاب دائم مقيم. وإذا رأى في القوم الذين يخطب فيهم شعورًا باليأس والقنوط وصعوبة الرجوع إلى الله ذكَّرَهم بعظيم رحمة الله، وأن الله يقبل التائبين الصادقين، وقال فيهم: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} ، ويذكر لهم قصة القاتل مائة نفس، وكيف أنَّ الفقيه دلَّه على طريق التوبة إلى الله، والتحول إلى القرية الصالحة. 9- على الداعي أن يحذر من ذكر الآيات والأحاديث التي قد يساء فهمها دون شرح وبيان لها، مثل قوله -صلى الله عليه وسلم: "من قال لا إله إلا الله خالصًا من قلبه دخل الجنة"، فعلى الخطيب أن يشرح الحديث حتى يفهمه السامعون الفهم الصحيح. 10- وعلى الداعي أن لا يسرع في كلامه ولا يرفع صوته بلا حاجة. 11- يستحسن أن تكون الخطبة ارتجالًا لا في ورقة مكتوبة، وأن تكون معانيها حاضرة في ذهنه، أي: أعدَّها من قبل. الدرس: 741- الغالب في الدرس أن يكون شرحًا لآية من القرآن، أو لحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم، او بيانًا لمسألة أو مسائل من الفقه، كما أنَّ الغالب في الدرس أن يحضره عدد قليل من الناس جاءوا قاصدين سماع الدرس، مما يعطي فرصة طيبة للداعي أن يتعرَّف عليهم عن كثب، ويوثق علاقته بهم، ويشترط للداعي في درسه أن يحضِّر مادته مسبَّقًا تحضيرًا جيدًا، وأن لا يستطرد كثيرًا وهو يلقي موضوعه؛ لأنَّ الاستطراد يبعد السامع عن أصل الموضوع، ويبعث في نفسه السآمة، وفي تفسير القرآن يستحسن أن يكون

بالقرآن نفسه، فما أجمله القرآن في موضعٍ فصَّله في موضع آخر. فإن لم يجد هذا البيان في القرآن تحوَّل إلى السنة، فإن لم يجد ففي أقوال المفسِّرين من الصحابة والتابعين، وكذلك يفعل في تفسيره الحديث النبوي، وعند كلامه في الفقه الإسلامي يستحسن أن يبيّن الحكم الفقهي الراجح إن كان من ذوي القدرة على تمييز الأقوال الفقيهة الراجحة من المرجوحة، فإن لم يستطع ذلك فعليه أن يبيِّن الحكم وفقًا لاتجاه أحد المذاهب الإسلامية دون أن يذكر الخلافات الفقهية في كل مسألة يتعرَّض لها؛ لأن ذكر هذا الخلاف يشتت أذهان السامعين. المحاضرة: 742- والغالب في المحاضرة أنَّها تعالج موضوعًا معينًا باستقصاءٍ وإحاطةٍ وذكر الأدلة والبراهين، وذكر ما قيل حول الموضوع، والصواب من هذه الأقوال، والمحاضرة الناجحة ما كانت تهدف إلى هدف معيِّن ومحدَّد، وتجلي هذا الهدف وتبينه البيان الشافي المقنع، ويجب على المحاضر أن يكون دقيقًا في كلامه، لا يلقي القول جزافًا، ولا يكثر من العبارات العاطفية؛ لأن مجالها الأصلي الخطبة وليس المحاضرة، وأن يشرك السامعين معه في الوصول إلى ما يريده، بأن يبيِّن مقدمات النتيجة التي وصلها إليها في بحثه، فإذا ما استطاع إقناعهم بها كان وصولهم إلى النتيجة ميسورًا. وعلى المحاضر أن يقيم المقدِّمات لما يريد الوصول إليه على مسائل واضحة جليِّة مشهورة، وأن يجنّب المسائل الدقيقة والمشتبهة، والتي تقبل الأخذ والرد، أو التي هي في نفسها تحتاج إلى إثبات، ومن هذه المسائل ما تعورف على تسميته بالمعاني الفلسفية، فإذا أراد المحاضر أن يعرض بعض الحقائق الدينية وأصول العقيدة الإسلامية مثل: البعث بعد الموت، فيكفيه أن يلفت الأنظار إلى ما نشاهده من موتٍ وبعثٍ في عالم الحيوان والنبات، وأن يضرب الأمثلة على ذلك لتقريب هذه الحقيقة إلى الأذهان. وهذا النهج ورد في القرآن الكريم، من ذلك قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ، فالحياة بعد الموت أثر مشاهد محسوس، أرض ميتة لا نبت فيها ولا حياة، ينزل الله عليها المطر فتهيج ويخرج منها نبات حي بألوانه المختلفة وطعومه المتنوعة، إنَّ الله الذي أحيا هذه الأرض هو الذي يحيي الموتى بعد

أن خلقهم من ماء مهين، من نطفة نعرفها ونراها، فإنَّ الإعادة كما هو معلوم أسهل من الابتداء، قال تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} ، هذا وعلى الداعي في محاضرته أن لا يكون جافًّا، عليه أن يضفي على محاضرته شيئًا من التحريك العاطفي الوجداني بما يذكره من حقائق الإسلام ومعاني العقيدة الإسلامية، وهذا التحريك الوجداني يقوم على أساس إثارة ما في النفوس من معاني الإيمان. المناقشة والجدل: 743- المناقشة والجدل يكونان بين شخصين أو أكثر، يعرض كل جانب وجهة نظره فيما يراه ويعتقده من أمور، والداعي عندما يدعو غيره إلى الله قد لا يقبل المدعوّ دعوته، فيقبل على جدال الداعي ومناقشه، وقد ذكر القرآن الكريم بعض صور المناقشات التي جرت بين الرسل الكرام وبين أقوامهم، من ذلك قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ، قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ، أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} ، فالمدعوّ في مناقشته وجداله مع الداعي قد يصل إلى حدِّ اتهام الداعي بالضلال المبين، فلا يعجب الداعي من ضلال المدعو، ولا يخرجه عن هدوئه واتزانه وشفقته عليه، كما هو واضح من جواب نوح -عليه السلام، فعلى الداعي أن يلاحظ ذلك دائمًا، وأن يكون كلامه في الجدال والمناقشة بالحسنى وبالكلام الطيب والأدب الجمّ والتواضع والهدوء وعدم رفع الصوت، وعدم إغاظة المقابل والاستهزاء به، وليبق كلامه معه على مستواه العالي الرفيع الرقيق الليّن المحبوب، الخالي من الفظاظة والخشونة، ولكن فيه قوة الإقناع ووضوح الحق، ومثل هذا يستفاد من قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ، فإذ أصرَّ المدعوّ على باطله ولجَّ في عناده، وأصبح الكلام معه عبثًا، فليقطع الداعي الجدل معه، ويذكر قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا

يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} ، وقوله تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} ، وهذا المسلك هو قطع الجدل مسلك سديد؛ لأنَّ بعض الناس لا ينفع معهم الجدل؛ لأنهم لا يريدون من جدلهم الوصول إلى الحق، وإنما يريدون المكابرة والعناد والجحود، قال تعالى: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} . الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: 744- والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غالبًا ما يكون بالقول، كما أنَّه قد يكون بدعوة غير المسلم إلى الإسلام، أو بدعوة المسلم العاصي إلى طاعة الله -سبحانه وتعالى، والإقلاع عن مخالفة شرعه، كما أنَّ هذا الأمر والنهي بأنواعه قد يكون موجهًا إلى شخص بعينه، أو إلى عِدَّة أشخاص، أو إلى طائفة من الناس، أو بشكل دعوة عامَّة إلى الناس لاتباع ما جاء به الإسلام، وترك ما يخاله. والقواعد الجامعة في هذا الباب والتي يجب أن يفقهها الداعي هي ما يلي: قواعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: 745- القاعدة الأولى: لا بُدَّ من العلم بالمعروف الذي يدعو إليه، وبالمنكر الذي ينهى عنه. جاء عن بعض السلف: "لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلّا من كان فقيهًا فيما يأمر به فقيهًا فيما ينهى عنه"، وهذا واضح، فكما أنَّ من يعالج المريض يحتاج إلى فهمٍ بالمرض والدواء، أي: يكون طبيبًا جيدًا، فكذلك الداعي، ويستفاد ذلك من قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} ، والبصيرة تشمل ما قلناه. 746- القاعدة الثانية: الرفق، والأصل فيه الكتاب والسنة، قال تعالى مخاطبًا موسى وهارون -عليهما السلام: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى، فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} 1، والقول الليَّن الذي أشارت إليه هذه الآية الكريمة ذكره الله تعالى في سورة النازعات، قال تعالى: {فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى، وَأَهْدِيَكَ إِلَى

_ 1 سورة طه، الآية: 24.

رَبِّكَ فَتَخْشَى} ، فهذا الخطاب صريح في بيان الحقّ، ولكنه رقيق لا يجد المبطل فيه إثارةً لنفسه المثقلة بالباطل، ثم يبلغ اللين والرفق في الخطاب إلى مدى أبعد من ذلك، فيقول موسى كما حكاه الله تعالى عنه: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} ، فهذا تحذير لطيف وصادق إلى فرعون؛ إذ لم يوجه موسى -عليه السلام- العذاب إلى فرعون مباشرة، وإنما قال: {عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} ، وهذا فيه ما فيه من لين القول والتلطف في التحذير، وإذا كان الله تعالى قد أمر موسى -عليه السلام- بالقول اللين، مع عصمته وحفظ الله له، فغيره أَوْلَى بالأخذ باللين والتلطُّف في الخطاب، فإن القائل باللين ليس بأفضل من موسى، والمقول له ليس بأخبث من فرعون، وفي السنة النبوية: "ما كان الرفق في شيء إلّا زانه، ولا كان العنف في شيء إلّا شانه"، "إنَّ الله يحب الرفق في الأمر كله، ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف"، ولا شكَّ أن القول اللين في الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يدخل في مفهوم الرفق المأمور به. ولا شكَّ أن الداعي المسلم قد يخرج في بعض الأحيان عن هذا النهج الليِّن في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن عليه دائمًا أن يحمل نفسه عليه؛ لأنه هو السبيل القويم الذي دلَّت عليه السنة النبوية، وطبقه الرسول -صلى الله عليه وسلم- فعلًا، فمن هذه التطبيقات ما جاء عن معاوية بن الحكم السلمي -رضي الله عنه- قال: "بينما أنا أصلي مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم؛ إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرمانِ القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أمَّاه، ما شأنكم تنظرون إليّ؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني، لكني سكت، فلما صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلمًا قَبَله ولا بعده أحسن تعليمًا منه، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني، قال: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن" أو كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم1. 747- القاعدة الثالثة: النظر إلى المصالح والمفاسد، ومعنى ذلك: أن يكون قول الآمر بالمعروف والنهي عن المنكر بفقه ونظر فيما يصلح من ذلك وما لا يصلح، وما يقدر عليه وما لا يقدر عليه، فإذا تعارضت المصالح والمفاسد فيما يأمر به أو ما

_ 1 رياض الصالحين ص297، 298.

ينهى عن، نظر، فإن كان فيما يقوله أمرًا ونهيًا مصالح أعظم من المفسدة التي تحصل في أمره ونهيه، وجب عليه الأمر والنهي، وإن كان العكس، أي: المفاسد أعظم، لم يجب عليه، بل قد يحرم1. 748- القاعدة الرابعة: اختلاط المعروف بالمنكر، الداعي بالنسبة لأنواع المعروف يدعو إليها دعوة مطلقة، وكذا بالنسبة لأنواع المنكر ينهى عنها نهيًا مطلقًا. ولكن بالنسبة لشخص معيّن أو طائفة معينة، إذا كانوا جامعين بين معروف ومنكر، وهم إمَّا أن يفعلوهما معًا أو يتركوهما معًا، فعلى الداعي أن ينظر، فإن كان مصلحة المعروف أكبر وأرجح أمر به، وإن جاءوا بالمنكر المغمور في الخير، وإن كان الشر أكثر نهى عنه، وإن فات الخير الكثير المغمور فيه، وإذا اشتبه الأمر على الداعي توقَّف حتي يتبيِّن له الأمر، فلا يقدم إلّا بعلم وإخلاص. 749- القاعدة الخامسة: التبليغ حسب الإمكان، وليس من شروط أداء واجب التبليغ أن يصل أمر الآمر ونهي الناهي إلى كل إنسان مكلَّف في العالم؛ إذ ليس هذا من شرط تبليغ الرسالة، فكيف يُشترط فيما هو من توابعها؟ بل يشترط أن يتمكن المكلفون من وصول ذلك إليهم، ثم إذا فرَّطوا فلم يسعوا في وصوله إليهم مع قيام فاعله بما يجب عليه، فإنَّ التفريط منهم لا منه2. الكتابة: 750- الكتابة وهي من أنواع القول في الدعوة إلى الله كما أشرنا من قبل. والكتابة إمَّا أن تكون كتابة رسائل إلى من يريد الداعي دعوتهم إلى الإسلام، ونبذ ما يخالفه، وإما أن تكون بتأليف الكتب والأبحاث والمقالات في المجلات وغيرها، وكلها وسيلة جيدة للدعوة إلى الله، فقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأمر بكتابة الرسائل إلى حكام البلاد غير الإسلامية، يدعوهم فيها إلى الله، واعتناق دين الإسلام؛ كرسائله -عليه الصلاة والسلام- إلى كسرى في العراق، وهرقل في الشام، والمقوقس في مصر، وكذلك علماء الإسلام يرسلون الرسائل إلى الحكام المسلمين يدعونهم فيها إلى ما أمرهم الله به، مثل

_ 1 مجموع فتاوى ابن تيمية ج28 ص128. 2 مجموع فتاوى ابن تيمية ج28 ص125، 126.

رسالة الأوزاعي إلى الوالي العبَّاس في الشام حول أهل الذمة ولزوم رعاية حقهم المشروع، وتأليف الكتب في معاني الإسلام، وكتابة الأبحاث والمقالات والرسائل، من الرسائل المفيدة جدًّا في الدعوة إلى الله، لا سيما إذا تُرْجِمَت إلى لغات من يراد تعريفهم بالإسلام ودعوتهم إليه، فيمكن بهذه الوسيلة تبليغ الإسلام إلى ملايين الناس الذين لا يعرفون اللغة العربية، ولم تصلهم معاني الإسلام. ويلاحظ في كتابة الرسائل والأبحاث والكتب أنَّها توجَّه إلى العموم، ويقرؤها كثير من الناس على اختلاف مستوياتهم في العلم والفهم، فيجب على الداعي أن يكتبها بأسلوبٍ بسيط مفهوم واضح يدركه أقل النَّاس قدرة على فهم الخطاب، وأن تكون المعاني التي يبينها مما لا يسع أيَّ إنسان يريد الإسلام أن يجهلها، وأن تكون خالية من ذكر المسائل الدقيقة والخلافية، وأن تكون مختصرة دون إخلال بالمعنى ومقتضيات التفهيم. الفرع الثاني: التبليغ بالعمل 751- المقصود بالعمل: نريد بالعمل هنا في مجال التبليغ إزالة المنكر فعلًا، وهذا هو الغالب، ويجوز أن يكون في العمل إزالة منكر، وإنما فيه إقامة معروف، مثل: بناء مسجد أو مدرسة أو نحو ذلك مما يسهِّل أو يحقِّق إقامة شرع الله في جانب من جوانبه، ويكون هذا العمل كدعوة صامته إلى الإسلام، ووسيلة فعالة من وسائل نشر الدعوة إلى الله. القواعد العامة لإزالة المنكر: 752- والأصل في إزالة المنكر قوله -صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان"، وإزاله المنكر فعلًا إزالة لما يمنع الخير أو الحق، فإنَّ المنكر في الأرض يدفع من الحق بقدره أو أكثر، فكان زواله أو إزالته تيسيرًا لتحقيق الحق والخير بين الناس، وكان هو من تمام الأمر بالمعروف، ووجه من وجوهه.

القواعد العامة في إزالة المنكر: 753- ذكرنا في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر القواعد العامَّة، وهذه تسري هنا أيضًا، فلا بُدَّ من فقهٍ وعلم بما يُرَاد إزالته من المنكر من جهة كونه منكرًا تجب إزالته، وكذلك الرفق في إزالته؛ لأنَّ المقصود إزالة المنكر فعلًا، وليس المقصود الانتقام ونحو ذلك، روى البخاري أن أعرابيًّا بال في المسجد، فقام الناس ليقعوا فيه، فقال -صلى الله عليه وسلم: "دعوه وأريقوا على بوله سجِلًّا من ماء، أو نوبًا من ماء، فإنما بعثتم ميسِّرين ولم تبعثوا معسِّرين". وتجب ملاحظة المصالح والمفاسد وتزاحمها قبل الإقدام على إزالة منكر بعينه؛ ليعرف الداعي ما يترتَّب عليه من أضرار أو منافع، وكذلك ملاحظة ما جاء في القاعدة الرابعة من اختلاط المعروف والمنكر في شخصٍ ما، وأنه إمَّا أن يفعلهما، وإمَّا أن يتركهما سوية، وما يترتب على الإزالة في هذه الحالة في حق هذا الشخص المعين. 754- ونضيف هنا إلى القواعد العامَّة في إزالة المنكر ما يأتي: القاعدة الأولى: أن تكون عند المزيل القدرة الكافية على هذه الإزالة، ولا شَكَّ في تفاوت الدعاة في هذه القدرة، وأعظمهم قدرة الأمير، أي: من بيده السلطة والأمر والنهي، ولهذا فهو مسئول أكثر من غيره عن إزالة المنكر في بيته؛ لأنه مسلط شرعًا على هذه الإزالة، وله الولاية على بيته، فيكون قادرًا على الإزالة، وبالتالي تجب عليه إلّا إذا عارضها معارض شرعي في بعض جزئيات المنكر من جهةٍ ما، قد عسى أن يترتب على إزالة هذه الجزئية من مفاسد أكبر من المصالح في ضوء القواعد السابقة. 755- فإذا عُدِمَ الداعي القدرة على الإزالة، أو استطاع الإزالة ولكن يترتَّب على ذلك منكر أكبر، أو يلحقه ضرر جسيم، ومن الضرر تعطيل عمله المبرور في الدعوة إلى الله، ومنعه الانتقال إلى الإزالة بالقول، فإذا لم يستطعه أيضًا لهذه المحاذير انتقل إلى التغيير بالقلب، كما جاء في الحديث الشريف الذي ذكرناه. 756- ومن تطبيقات هذه القاعدة إقرار النبي -صلى الله عليه وسلم- لعبد الله بن أبيّ وأمثاله

من أئمة النفاق لما لهم من أعوان، فإزالة منكره بنوع من عقابه تستلزم إزالة معروف أكبر من ذلك بغضب قومه وحميتهم، وبنفور الناس إذا سمعوا أنَّ محمدًا -صلى الله عليه وسلم- يقتل أصحابه1. القاعدة الثانية: 757- كره المنكر لا رخصة فيه، وإزالته حسب القدرة، ومما يجب أن يُعْلَم جيدًا أنَّ كره المنكر يجب أن يكون تامًّا كاملًا؛ لأن الأصل في المؤمن أن يكون حبه موافقًا لحب الله، وبغضه موافقًا لما يبغضه الله، وأيّ نقص في هذه الموافقة في جانبيها، أو في أحد جانبيها، مرَدُّه نقص الإيمان قطعًا؛ لأنَّ بعض المنكر في القلب لا ضرر فيه مطلقًا، فمن لم يفعله -أي: لم يكره المنكر بقلبه- كان ذلك دليلًا على ضعف إيمانه، بل وموت قلبه وعدم إيمانه؛ لأنَّ الحديث ورد في آخره: "ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل"، بعد أن ذكر مراتب تغيير المنكر باليد واللسان والقلب. أمَّا إزالة المنكر باليد -أي: فعلًا- فهذه تكون بحسب القوة والقدرة، فإنَّ الله تعالى لا يكلِّف نفسًا إلّا وسعها، قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} ، ومتى كانت كراهية القلب للمنكر كاملة، وإرادته للتغيير كاملة، وفعل المسلم منها بحسب قدرته، أو لم يفعل لعجزه، فإنه يُعْطَى ثواب الفاعل. القاعدة الثالثة: 758- الاستعانة ببعض المباح لتغيير المنكر، والأصل في ذلك مشروعية تأليف القلوب حتى تقبل الخير وتقلع عن الشر، ولو كان هذا التأليف بمالٍ يبذل، وقد روي عن الإمام الفقيه عمر بن عبد العزيز أنه قال: "والله ما أستطيع أن أخرج لهم شيئًا من أمر الدين إلّا ومعه طرف من الدنيا أستلين به قلوبهم، خوفًا أن يتخرق عليّّ منهم ما لا طاقة لي به"2، وعلى هذا يجوز للداعي أن يعوّض المتلبس بالمنكر بشيء مباح جزاء تركه أو تغيره فعلًا، كما لو كان له ولد أو صديق يلعب القمار، فيعوضه بتخصيص جائزة له على سبق غيره في مباح؛ كركض أو فروسية أو رمي، أو حفظ ما يستحب

_ 1 فتاوى ابن تيمية ج2 ص131. 2 سيرة عمر بن عبد العزيز، تأليف عبد الله بن الحكم ص60.

حفظه، وإذا كان متلبسًا بمنكر ارتياد الملاهي عوَّضَه بالسفرات البريئة، أو كان ميَّالًا إلى الرشوة أو التساهل في أكل مال الغير عوَّضه9 بزيادة أجرته أو راتبه، ونحو ذلك. الفرع الثالث: التبليغ بالسيرة الحسنة أهمية السيرة الحسنة: 759- من الوسائل المهمة جدَّا في تبليغ الدعوة إلى الله وجذب الناس إلى الإسلام، السيرة الطيبة للداعي وأفعاله الحميدة وصفاته العالية وأخلاقه الزاكية مما يجعله قدوة طيبة وأسوة حسنة لغيره، ويكون بها كالكتاب المفتوح يقرأ فيه الناس معاني الإسلام فيقبلون عليها ويتجذبون إليها؛ لأنّ التأثر بالأفعال والسلوك أبلغ وأكثر من التأثر بالكلام فقط. 760- إنَّ الإسلام انتشر في كثير من بلاد الدنيا بالسيرة الطيبة للمسلمين، التي كانت تجلب أنظار غير المسلمين وتحملهم على اعتناق الإسلام، فالقدوة الحسنة التي يحققها الداعي بسيرته الطيبة هي في الحقيقة دعوة عملية للإسلام، يستدل بها غير المسلم على أحقيّة الإسلام، وأنه من عند الله، لا سيما إذا كان سليم الفطرة سليم العقل. 761- ومن السوابق القديمة في أهمية السيرة الحسنة للداعي وأثرها في تصديقه، والإيمان بما يدعو إليه، أنّ خديجة بنت خويلد -رضي الله عنها- عندما أخبرها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بما حدث له في غار حراء قالت له: "أبشر، والله لا يخزيك أبدًا، إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل وتعين على نوائب الدهر -في أوصاف أخر جميلة عدتها من أخلاقه تصديقًا منها له وإعانة على الحق"1. وروي أيضًا أنَّ أعرابيًّا جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال له: من أنت؟ قال: "أنا محمد بن عبد الله"؟ قال: الأعرابي أأنت الذي يقال عنك أنك كذَّاب؟ فقال: "أنا الذي يزعمونني كذلك"، فقال الأعرابي: ليس هذا الوجه وجه كذاب، وما الذي تدعو إليه؟ فذكر له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما يدعو إليه من أمور الإسلام، فقال له الأعرابي: آمنت بك وأشهد

_ 1 إمتاع الأسماع ص3-14.

أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله. فالأعرابي استدلَّ بسمت رسول الله ووجهه المنير الكريم الذي يكون عليه أهل الصدق والأخلاق الكريمة، استدلَّ بذلك على صدقه فيما يدعو إليه -صلى الله عليه وسلم. أصول السيرة الحسنة: 762- وأصول السيرة الحسنة التي بها يكون الداعي المسلم قدوة طيبة لغيره ترجع إلى أصلين كبيرين: حسن الخلق، وموافقة العمل للقول، فإذا تحقق هذان الأصلان حسنت سيرة الداعي، وكانت سيرته الطيبة دعوة صامته إلى الإسلام، وإن فاته هذان الأصلان ساءت سيرته، وصارت دعوة صامتة منفِّرة عن الإسلام، فليتَّق الداعي ربه في هذا الأمر الخطير، ولا يكون منفِّرًا عن دين الله بسيرته، وهو يريد الدعوة إليه بقوله. الأصل الأول للسيرة الحسنة: 763- الأصل الأول هو حسن الخلق، وقد تكلَّمنا في فصل سابق عن نظام الأخلاق، كما تكلمنا عن أخلاق الداعي، فلا نعيدهما هنا، وإنما نحيل عليهما، وما ذكرناه هناك يقال هنا في تجلية في الأصل، ونحب أن نكرر ونذكِّر هنا بخلق الصبر والعفو، فإنَّ الداعي لا بُدَّ أن يكون حليمًا صبورًا على الأذى؛ لأنه لا بُدَّ أن يحصل له أذى أو مضايقات، فإن لم يحلُم ويصبر كان كما يقول ابن تيمية: "ما يفسد أكثر مما يصلح"، ولهذا قال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} ، {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} ولهذا أمر الله الرسل -وهم أئمة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر- بالصبر، قال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} ، بل إنَّ الصبر مقرون بتبليغ الرسالة، مما يدل على أهميته ولزومه للداعي إلى الله، فإنَّ أول ما أنزل على نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- بعد أن بلِّغ بالرسالة سورة {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} وفيها: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ، وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ، وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ، وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ، وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ، وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} 1، فافتتح آيات الإرسال إلى الخلق بالأمر بالنذارة، وختمها بالأمر بالصبر، ونفس الإنذار أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، علم أنه يجب بعد ذلك الصبر2.

_ 1 سورة المدثر: 1-7. 2 مجموع فتاوى ابن تيمية ج28 ص136، 137.

والحقيقة أنَّ الداعي بسماحته وعفوه وإعراضه عن الجاهلين، وصبره على أذاهم، ينال منهم ما لا يناله بدون هذه الصفات، بل أقول: لا بُدَّ أن تحملهم هذه الصفات العالية إلى قبول الحق ولو بعد حين، إلّا من سبق عليه الكتاب، ولا حول ولا قوة إلّا بالله. الأصل الثاني للسيرة الحسنة: 764- والأصل الثاني موافقة العمل للقول، فليحذر الداعي من مخالفة أفعاله لأقواله، فإنَّ النفس مجبولة على عدم الانتفاع بكلام من لا يعمل بعلمه، ولا يوافق فعله قوله، ولهذا قال شعيب -عليه السلام- لقومه كما جاء في القرآن الكريم: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} ، ولهذا حذَّرنا الله سبحانه من مخالفة أفعالنا لأقولنا، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} ، فليحمل الداعي نفسه دائمًا على موافقة أفعاله لأقواله، فإنَّ هذا أدعى للإقبال عليه وقبول قوله. الخاتمة: 765- هذا ما يسره الله تعالى في بيان أصول الدعوة إلى الله -تبارك وتعالى، فإن كان صوابًا فهو محض فضل الله عليَّ، وإن كان فيه خطأ أو زلل، فاستغفر الله تعالى، والله ورسوله بريئان منه، فأنِّي كما قال ربنا -تبارك وتعالى- على لسان أحد أنبيائه الكرام: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} ، وأخيرًا، فأني أسأل الله تعالى، وهو خير مسئول، أن ينفع بهذه الفصول كاتبها وقارئها، وأن يجعلنا من الذين قال الله تعالى فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 1، والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين. -انتهى-

_ 1 سورة يونس، الآية 9، 10.

الفهارس

الفهارس: الفهرست: تمهيد ومنهج البحث: فقرة 1- تمهيد، 2- منهج البحث. الباب الأول: موضوع الدعوة: فقرة 3- تمهيد، تقسيم الباب إلى خمسة فصول الفصل الأول: 4- تعريف الإسلام - العريف الأول 5- التعريف الثاني 6- المعنى الخاص للإسلام 7- التعريف الثالث 8- التعريف الرابع 9- التعريف الخامس 10-12- تفصيل التعريف الخامس 13- التعريف السادس 14- تعاريف أخرى للإسلام 15- لا تناقض ولا اختلاف 16- المقصود من تعدد التعاريف 17- التعريف المختار. الفصل الثاني: أركان الإسلام 18- تمهيد: تعداد الأركان وتقسيم الفصل إلى ثلاثة مباحث. المبحث الأول: الركن الأول: شهادة أن لا إله إلا الله 19- معنى الشهادة 20- معنى الاله 21- معنى كلمة التوحيد 22- توحيد الألوهية 23- أساس العبادة 24- زيادة معاني العبودية 25- متى يتحرر العبد من

العبودية لغير الله 25- مكرر -توحيد الربوبية 26- دلائل توحيد الربوبية 27- القرآن يقرر توحيد الربوبية في النفوس 28- توحيد الربوبية يستلزم توحيد الألوهية 29- العلوم الحديثة وعقيدة التوحيد 30- مكانة التوحيد في الإسلام المبحث الثاني: الركن الثاني: شهادة أن محمدًا رسول الله 31- معنى هذه الشهادة 32- رسل الله كثيرون 33- تبرير إرسال الرسل 34- ختم الرسلات 35- أدلة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم 36- دليل الإعجاز 37- تحدي القرآن للمخالفين 38- تحقق شروط تحدي القرآن للمخالقين 39- التحدي ودلالته 40- استمرار التحدي ودلالته 41- إنكار نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- تنقيص لعقل الإنسان 42- إثبات نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- إثبات سائر النبوات 34-44 مقتضى الإيمان بنبوة محمد -صلى الله عليه وسلم 45- واجبنا نحو الرسول -صلى الله عليه وسلم 46- التحرز من خلط ما لله بما للرسول من حق. المبحث الثالث: الركن الثالث: العمل الصالح 47- ماهية العمل الصالح 48- مكانة العمل الصالح في الإسلام 49- اعتناق الإسلام شرط لقبول العمل 50- الابتداع مرفوض في الإسلام 51- تنوع الأعمال الصالحة 52- أهمية العبادات في الإسلام 53- أهمية الصلاة 54- الدلائل على أهمية الصلاة من القرآن 55- الدلائل من السنة 56- أسرار الصلاة 57- بقية العبادات 58- أيّ الأعمال الصالحة أفضل 59- أثر العبادات في صلاح الفرد والمجتمع. الفصل الثالث: خصائص الإسلام 60- تمهيد: تعداد هذه الخصائص، وتقسيم الفصل إلى خمسة مباحث.

المبحث الأول: الخصيصة الأولى: أنه من عند الله 61- مصادر الإسلام 62- الدلائل على أن الإسلام من عند الله 63- القرآن واجب الاتباع 64- السنة واجبة الاتباع 65- ما يترتَّب على كون الإسلام من عند الله: كماله وخلوه من النقائض 66- احترامه من قبَل المؤمنين. المبحث الثاني: الخصيصة الثانية: الشمول 67- الإسلام نظام شمال لجميع شئون الحياة 68- أنواع أحكام الإسلام بالنسبة لما تتعلق به 69-71 مقارنة بين شمول الشريعة وشمول القوانين الوضعية. المبحث الثالث: الخصيصة الثالثة: العموم 72- الإسلام عام للبشر جميعًا 73-74- لماذا كانت الشريعة الإسلامية خاتمة الشرائع؟ 75-84 الدليل الأول: مكانة المصلحة في الشريعة 85-99- الدليل الثاني: مبادئ الشريعة وطبيعة أحكامه، القواعد والمبادئ العامة، الأحكام التفصيلية 100-101- الدليل الثالث: مصادر الأحكام المبحث الرابع: الخصيصة الرابعة: الجزاء في الإسلام 102- أحكام الإسلام ليست نصائح وإرشادات - الجزاء في الإسلام الأصل فيه أنه أخروي - نطاق الجزاء واسع شامل- الجزاء في الدنيا لا يمنع الجزاء في الآخرة - ما يترتب على الجزاء من خضوع المسلم لأحكم الشريعة.

المبحث الخامس: الخصيصة الخامسة: المثالية والواقعية 103- تمهيد وتقسيم المبحث إلى مطلبين. المطلب الأول: المثالية 104- المقصود بالمثالية: الاعتدال والشمول 105- أولًا: الاعتدال، المقصود به 106- الاعتدال مطلوب في العبادات 107- تعذيب الجسد وتحميله ما لا يطيق وحرمانه من الطيبات ليس من الإسلام 108- يسوغ أو يندب أو يجب أخذ المسلم نفسه بالشدة 109- ثانيًا الشمول ومعناه. المطلب الثاني: الواقعية 110-111- تتجلَّى الواقعية في الإسلام بوضعه مستويين للكمال: أعلى وأدنى. وبإيجاد المخارج المشروعة للمسلم في أوقات الشدة والضيق 112- المثالية والواقعية تتيحان للمسلم تحقيق الكمال المقدور له بيسر واعتدال. الفصل الرابع: أنظمة الإسلام 114- تمهيد وتقسيم الفصل إلى ثمانية مباحث. المبحث الأول: نظام الأخلاق في الإسلام 115- تعريف الأخلاق 116-117- أهمية الأخلاق 118- مكانة الأخلاق في الإسلام 119- خصائص نظام الأخلاق في الإسلام 120-121- الخصيصة الأولى: التعميم والتفصيل في الأخلاق 112- أمثلة من القرآن الكريم على تفصيل الأخلاق 123- أمثلة من السنة النبوية على تفصيل الأخلاق 124- الخصيصة

الثانية: شمول الأخلاق لجميع أفعال الإنسان الخاصّة بنفسه أو المتعلقة بغيره، سواء أكان الغير فردًا أو جماعة أو دولة 125- الخصيصة الثالثة: لزومها في الوسائل والغايات 126- الخصيصة الرابعة: صلة الأخلاق بالإيمان وتقوى الله 127- الخصيصة الخامسة: الجزاء، وقد يكون في الدنيا، 128- هل يمكن اكتساب الأخلاق؟ 129- كيف يتحقق تقويم الأخلاق أو اكتسابها؟ وسائل تقويمها. المبحث الثاني: النظام الاجتماعي في الإسلام: 130-134- تمهيد ويشمل: ضرورة المجتمع للإنسان، وضرورة النظام للمجتمع، والنظام يمكن أن يكون صالحًا أو فاسدًا، ضرورة المجتمع للإنسان، وضرورة النظام للمجتمع، والنظام يمكن أن يكون صالحًا أو فاسدًا، وهذا الصلاح والفساد ينعكس على أفراد المجتمع لذلك لا بد من التحري عن الأساس الصالح لبناء المجتمع الذي يسره لنا الإسلام، وتقسيم المبحث إلى مطلبين. المطلب الأول: أساس نظام المجتمع في الإسلام 135- أساس نظام المجتمع هو العقيدة الإسلامية 136-138- نتائج اتخاذ العقيدة الإسلامية أساسًا لنظام المجتمع "الرباط الإيماني، زوال العصيبة، التقوى ميزان التفاضل". المطلب الثاني: خصائص النظام الاجتماعي في الإسلام 139- خصائص النظام الاجتماعي مشتقة من أساسه أو قائمة عليه 140- أولًا: مراعاة الأخلاق 141- ثانيًا: الالتزام بمعاني العدالة 142-152- ثالثًا: العناية بالأسرة الزواج وإجراءاته، حقوق الزوجة وحقوق الزوج، تعدد الزوجات والأصل فيه الإباحة، الطلاق والإجراءات التي تسبق الوصول إليه من أمر للمسلم بالمعاشرة بالمعروف ثم التأديب عن طريق الوعظ والنصح والهجر في المضجع والضرب ثم الطلاق والكيفية التي يشترط ايقاعه بها، حقوق الصغار في الأسرة، حقوق الأبوين على أولادهما، التضامن بين أفراد الأسرة" 153- رابعًا: تحديد مركز المرأة في

المجتمع 154- مركز المرأة في المجتمع قبل الإسلام 155- مركز المرأة في المجتمع الإسلامي 156- أولًا: حقوق المرأة "حق الحياة، التكريم، الكسب بالطريق المشروعة، المهر والنفقة، الحضانة، تعلم العلوم النافعة، الحقوق السياسية ورأيناه في ذلك" 157- ثانيًا: واجبات المرأة 158- ثالثًا: الوظيفة التي اختصت بها 159- رابعًا: الآداب التي تلتزم بها. 160-162- الخصيصة الخامسة: تحميل الفرد مسئولية إصلاح المجتمع وواجب الفرد في إصلاح المجتمع والأدلة على ذلك من القرآن الكريم والسنة النبوية 164- تعليل مسئولية الفرد عن إصلاح المجتمع 164- أولًا: الفرد يتأثر بالمجتمع 165- ثانيًا: ضرورة قيام المجتمع الصالح 166-168- النجاة من العقاب الجماعي والأدلة وعلى ذلك من الكتاب والسنة 169- ميزان صلاح المجتمع وفساده. المبحث الثالث: نظام الإفتاء 170-171- واجب العلماء تعليم الناس ما يحتاجونه من أمور دينهم 172- واجب الجاهل أن يسأل العلماء عن أمور دينه 173- سؤال الجاهل وجواب العالم يكوّن نظام الإفتاء 174- الإفتاء في اللغة 175- الإفتاء في الاصطلاح 176- منهج البحث وتقسيم المبحث إلى أربعة مطالب. المطلب الأول: المستفتي 177- من هو المستفتي 178-179- الصنف الأول: المحرَّم عليه الاستفتاء 180-181- الصنف الثاني: من يجب عليهم الاستفتاء 182-184- من يجوز لهم الاستفتاء وأقوال العلماء في ذلك 185-186- على المستفتي أن يسأل الصالح للإفتاء، وأن يرحل إلى حيث يجد من يفتيه 187- استفتاء الأصلح وقولي العلماء في ذلك 188- الراجح من القولين 189- من هو الأصلح وقولي العلماء في ذلك 190- الراجح استفتاء الأورع 191- استفتاء المستفتي لأكثر من واحد وأقوال العلماء في ذلك 192- الراجح في ذلك: التفصيل: 193-194- هل تجوز إعادة الاستفتاء

وما نرجِّحه في ذلك 195- كيفية الاستفتاء أو صيغته 196-197- الاستفتاء بموجب مذهب معين وأقوال العلماء في ذلك 198- القول الراجح في هذه المسألة 199- هل للمستفتي مطالبة بالدليل؟ والأقوال في ذلك 200- أدب المستفتي مع المفتي. المطلب الثاني: المفتي 201- شروط المفتي 202- الشرط الأول: الإسلام 203- الشرط الثاني: البلوغ والعقل 204- الشرط الثالث: العدالة 205- الشرط الرابع: الاجتهاد 206- أقسام المجتهدين 207- المجتهد المطلق 208- المجتهد في مذهب معين والحالات في ذلك 209- المجتهد في نوع من العلم 210- المجتهد في مسألة أو مسائل معينة 211- الخالصة والترجيح 212- شروط أخرى مثل: اليقظة وجوده الذهن والمعرفة بالناس ومكرهم وخداعهم، وأن يكون على قدر كبير من الزهد والورع 213- وجوب وجود المفتي وحرمة السكن في مكان لا يوجد فيه من يبين أحكام الدين 214- يجب العمل على إيجاد المفتين على جماعة المسلمين 215- على ولي الأمر المسلم واجب القيام بتهيئة الوسائل الضرورية لذلك 216- لولي الأمر منع المفتي الماجن والجاهل من الإفتاء 217- يجوز للمفتي أن يأخذ كفايته من بيت المال 218- هل يضمن المفتي بفتواه؟ 219-223- واجبات المفتي وآدابه. المطلب الثالث: الإفتاء 224- تعريفه 225- أول من قام به 226- الإفتاء بعد النبي -صلى الله عليه وسلم 227- من له حق الإفتاء 228- العامي إذا عرف حكم مسألة فهل له أن يفتي من سأله عنها؟ 229- هل يفتي العامي بما يجده في كتب الحديث؟ 230- هل يشترط إذن الإمام للقيام بالإفتاء؟ 231- التصدي للإفتاء 232- خلوص النية والقصد عند الإفتاء 233- على من يجب الإفتاء؟ 234- على من يحرم الإفتاء؟ 235- على من يكره الإفتاء؟ الإفتاء بالنسبة للقاضي وأقوال الفقهاء في ذلك 236- الراجح من هذه

الأقوال 237-238- تهيُّب السلف الصالح من الإفتاء ووجود الجرأة على الإفتاء أيضًا في السلف الصالح والتوفيق بن الأمرين 239- الحالات التي يجوز فيها الامتناع عن الإفتاء 240- جواز أخذ الأجرة على الإفتاء 241- جواز الإفتاء لمن لا تقبل شهادته للمفتي. المطلب الرابع: الفتوى 242- تعريف الفتوى 243-245- الأساس الذي يجب أن تقوم علي الفتوى 246-248- تعلق الفتوى بموضوع الاستفتاء وجواز الزيادة فيها على موضوعها 249- وضوح الفتوى 250-252- الإيجاز والإطالة في الفتوى 253- جواز ذكر دليل الفتوى 254- جواز تغير الفتوى بتغير المكان والزمان إذا كان الحكم الشرعي مبنيًّا على العرف وتغيره 255- جواز التشدد في عبارة الفتوى عند الحاجة، كما يجوز الحلف على ثبوت الحكم الشرعي الوارد فيها 256-258- ما يراعى في كتابة الفتوى أو النطق بها 259- الفرق بين الفتوى والحكم. المبحث الرابع: نظام الحسبة 261- تمهيد 263- منهج البحث وتقسم المبحث إلى خمسة مطالب: المطلب الأول: التعريف بالحسبة ومشروعيتها ومكانتها في الإسلام 263- معناه في اللغة 264- معناها في الاصطلاح 265-266- دليل مشروعيتها من الكتاب والسنة 267- مدى مشروعيتها 2685- مكانة الحسبة في الإسلام 269- حكمة مشروعيتها 270- أركان الحسبة؟ المطلب الثاني: المحتسب 271- من هو المحتسب 272- الفرق بين المحتسب والمتطوع 273- رأينا

في هذه الفروق 274- ولاية المحتسب 275- مقصود هذه الولاية 276-277 ولاية المحتسب وولاية القاضي، أوجه الاتفاق وأوجه الاختلاف 278-288- شروط المحتسب المتفق عليها والمختلف فيها، وما نرى في ذلك 289-292- آداب المحتسب المطلب الثالث: المحتسب عليه 293- التعريف به وبشروطه 294-299- أنواع المحتَسَب عليهم: الأقارب، غير المسلمين، الأمراء، القضاة، أصحاب المهن المختلفة. المطلب الرابع: موضوع الحسبة 300- المنكر هو موضوع الحسبة 301- المقصود بالمنكر 302-303- من يملك إعطاء وصف المنكر؟ 304- شروط المنكر 305- أن يكون ظاهرًا 306- أن يكون قائمًا في الحال 307- عدم الخلاف فيه 308- اتساع موضوع الحسبة 309-313- أمثلة على اتساع موضوع الحسبة: أولًا في الاعتقادات، ثانيًا في العبادات، ثالثًا في المعاملات، رابعًا فيما يتعلق بالطرق والدروب، خامسًا فيما يتعلق بالحرف والصناعات، سادسًا فيما يتعلق بالأخلاق والفضيلة. المطلب الخامس: الاحتساب 314- معنى الاحتساب 315- ما يتمّ به الاحتساب 316- مراتب الاحتساب 317- فقه الاحتساب 318- القاعدة الأولى: الإنكار القلبي 319-320- القاعدة الثانية: تحصيل مصلحة أو دفع مفسدة، وما ينبني عليها من عدم جواز الخروج على السلطان بالقوة أن ظهر منه شيء من الفسوق 321-322- القاعدة الثالثة: الأخذ بالرفق ما أمكن، وجواز الاستعاضة عن ذلك عند الضرورة 323- متى يجب الاحتساب 324-325- هل يشترط الانتفاع بالاحتساب لوجوبه؟ والرأي الراجح في ذلك 326- متى يستحب الاحتساب 327-328- متى يحرم الاحتساب 329

- الشرط في مباشرة الاحتساب، في الحق: ظهور المنكر ويتحقق بالإعلام في الحق العام: المشاهدة والعلم الشخصي 330- الاحتساب في الوقت الحاضر. المبحث الخامس: نظام الحكم 331- تمهيد 332- المقصود بنظام الحكم 333- هل يوجد نظام حكم في الإسلام؟ 334- مقومات نظام الحكم في الإسلام، وتقسيم المبحث إلى أربعة مطالب. المطب الأول: الخليفة 335- تعريف الخليفة 336- أدلة وجوب نصب الإمام من القرآن والسنة والإجماع والمعقول 337- من يملك حق انتخاب الخليفة؟ 338- أساس حق الأمة في انتخاب الخليفة 339- المركز القانوني للخليفة 340- كيف تختار الأمة الخليفة؟ 341- أهل العقد والحل 342- معرفة أهل العقد والحل في الوقت الحاضر 343- ولاية العهد وهل يصبح ولي العهد خليفة بها أم باختيار الأمة؟ 334- شروط الخليفة: الإسلام والذكورة والعلم بالأحكام الشرعية والعدالة والقرشية وما دار حول هذا الشرط من نقاش، والرأي في ذلك 345- عزل الخليفة ولا بد من وجود المبرر الشرعي وهو خروجه عن مقتضى وكالته عن الأمة خروجًا يبرر عزله 346- تنفيذ العزل شريطة عدم ترتب مفسدة أعظم على العزل. المطلب الثاني: الشورى 347- أدلة وجوبها من الكتاب والسنة الفعلية 348- ترك المشاورة موجب لعزل رئيس الدولة 349- تعليل أهمية المشاروة 350- في أي شيء تحري الشورى 351- أهل الشورى 352- الخلاف بين رئيس الدولة وأهل الشوى 353- الأخذ برأي رئيس الدولة إذا لم يظهر الرأي الأشبه بكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم 355- اعتراضات ودفعها

356- حق الأفراد في إبداء آرائهم 357- حدود الرأي 358- تنظيم الشورى في الوقت الحاضر. المطلب الثالث: الخضوع لسلطان الإسلام 359- تمهيد 360- سلطان الأمَّة مقيد غير مطلق 361- سلطان الخليفة مقيد غير مطلق 362- ما يترتب على تقييد سلطان الأمة والخليفة 363- الجدية والمساواة في تنفيذ شرع الله 364- الدولة الإسلامية دولة قانونية 365- الحكم الحقيقي فيها لله. المطلب الرابع: مقاصد الحكم في الإسلام 366- الحكم وسيلة لا غاية 367- مقاصد الحكم 368-371- المقصد الأول: حراسة الدين: حفظه وتنفيذه 372- المقصد الثاني: سياسة الدنيا به 373-375- إقامة العدل بين الناس وواجب الخليفة سلوك السبل المحققة لذلك 376- إشاعة الأمن والاستقرار 377- تهيئة ما يحتاجه الناس 378- استثمار خيرات البلاد. المبحث السادس: النظام الاقتصادي 379-381- تمهيد ويشتمل تنظيم الإسلام لنشاط الإنسان الاقتصادي، وإقامته ذلك على أساس من العقيدة الإسلامية وتقسيم المبحث إلى ثلاثة مطالب. المطلب الأول: الفرع الأول: الأساس الفكري للنظام الاقتصادي الإسلامي 382- العقيدة الإسلامية هي الأساس الفكري للنظام الاقتصادي الإسلامي 383-389- من معاني العقيدة الإسلامية ولوازمها التي لها علاقة في موضوع النظام الاقتصادي.

الفرع الثاني: خصائص النظام الاقتصادي الإسلامي 390- تمهيد 391- أولًا: مراعاة الفطرة البشرية 392- مراعاة معاني الأخلاق 393- التأكيد على سد حاجات والأفراد والوسائل التي قررها الإسلام لتحقيق ذلك 394-400- حثّ الإسلام على العمل والكسب، على الدولة تهيئة سبل العمل للقادرين عليه، على أفراد الأسرة الإنفاق على الفرد إذا عجز، فإذا لم يجد أنفق عليه من الزكاة، فإذا لم تف أنفق عليه من الموارد الأخرى لبيت المال، فإذا لم يكن وجب على الأغنياء، ويجوز لولي الأمر فرض الضرائب العادلة بقدر الحاجة. المطلب الثاني: المبادئ العامة في النظام الاقتصادي الإسلامي 401- تمهيد ويشمل ذكر أهم هذه المبادئ، وتقسيم المطلب إلى ثلاثة فروع. الفرع الأول: حرية العمل 402- الحث على العمل ومباركة العامل على جهده وكسبه الحلال 403- جعل الإسلام المعين خيرًا من المعان، والعمل وسيلة للحصول على ثواب الله 404- اختيار العمل متروك للفرد مع جواز تدخل الدولة للحد من الحرية الاقتصادية إذا أضرّت بالمجموع 405- إقرار المنافسة الحرة في إطار الأخلاق الإسلامية 406- التفاوت في الأرباح وفي ثمرات الأعمال نظرًا لاختلاف المواهب والكفاءات. الفرع الثاني: الملكية الفردية 407- إقرار الإسلام حق الملكية الفردية والأدلة الشرعية على ذلك 408- لا تفرقة في هذا الحق بين مال ومال 409- الحث على عدم المساس بملك الغير 410- حق الملكية غير مطلق بل هو مقيد 411- اشتراط الإسلام ليتعرَّف بهذا الحق بأن ينشأ عن سبب شرعي من ذكر الأسباب الشرعية للتملك 412- تحديد الإسلام وسائل تنمية المال وتثمره، كما بين الحقوق في هذ المال وواجب أدائها 413- ضرورة الاعتدال في الإنفاق وعلى المباحث فقط 414- جواز نزع الملكية الخاصة

عند الضرورة مع التعويض العادل على صاحب الملك. الفرع الثالث: حق الإرث 415-417- إقرار الإسلام حق الإرث على أساس من الفطرة والعدل واحترام إرادة المالك 418- مبدأ الإرث يدفع إلى المزيد من بذل النشاط، ويحقق الضمان الاجتماعي داخل الأسرة 419- الميراث يفتت الثروات ويمنع تكدسها 420- مبدأ الإرث في الإسلام روعي فيه القرابة والحاجة. المطلب الثالث: بيت المال: موارده ومصارفه الفرع الأول: موارد بيت المال 421-422- تمهيد ويتضمَّن تنظيم عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لجباية الأموال وإنفاقها، وبيان موارد بيت المال 423-433- الزكاة وأدلة وجوبها وأنصبتها حسب الأموال والحيوانات والزروع والمعادن وعروض التجارة والذهب والفضة 434-437- الجزية: تعريفها وأدلة ثبوتها وشروط وجوبها ومقدارها وسقوطها 438-441- الخراج: تعريفه ونوعيه وما ينظر إليه عند تقديره، وما يعمل بالأرض إذا عجز صاحبها عن استغلالها 442-443- العشور: تعريفها وشروط وجوبها 444-447- الغنائم: تعريفها وأصنافها آراء الفقهاء في قسمة هذه الأصناف 448- الفيء: تعريفه وسبب تسميته ودليله الشرعي 449- الموارد الأخرى لبيت المال. الفرع الثاني: مصارف بيت المال 450- أولًا: الزكاة وتصرف للأنواع التي حددتها الآية الكريمة 451- ثانيًا: زكاة المعادن وخمس الركاز، وتصرف في مصرف الزكاة 452- ثالثًا: الغنيمة ويصرف خمسها لبيت المال ويعطى للأنواع التي ذكرتها آية الأنفال 453- رابعًا: الفيء ويقسَّم حسب آية سورة الحشر، وأن عموم المسلمين لهم نصيب من مال الفيء، ويقدَّم ذو الحاجات على غيرهم.

المبحث السابع: نظام الجهاد 454- الجهاد لغة وشرعًا 455- أنواع الجهاد باللسان والمال والنفس 456- الجهاد بالنفس فرض كفاية في الأحوال العادية ويصير فرض عين إذا احتلَّ الكفار بلدًا من بلاد المسلمين 457- وجوب إعداد القوة اللازمة مادية كانت أو معنوية 458- ضرورة الجهاد لبقاء أمة المسلمين 459- المرابطة أفضل من المجاورة 460- ترك الجهاد سبب للمذلة والهوان 461- الجهاد هل هو دفاعي أم هجومي؟ مع ذكر أهم أسباب في الإسلام 462- البدء بقتال المشركين لمصلحة عموهم 463- المسلم في جهاد دائم. المبحث الثامن: نظام الجريمة والعقوبة 464- تمهيد ويتضمَّن بيان عالمية القانون الجزائي الإسلامي وإرادة الشارع تطبيقه على الناس كافة، وبشكل خاص في دار الإسلام، مع اختلافات يسيرة للفقهاء حول بعض الأحكام وهل تطبق على الذمي والمستأمن أم لا؟ الفرع الأول: الجريمة 465- تعريف الجريمة والأمور التي يجب أن تتوفر فيها لاعتبارها جريمة في الاصطلاح الفقهي 466- أساس اعتبار الفعل أو الترك جريمة هو ما فيه من ضرر محقق للفرد وللجماعة 467- أنواع الجرائم وتقسيم الفقهاء لها إلى ثلاثة أنواع 468- جرائم الحدود 469- جرائم القصاص 470- جرائم التعزير الفرع الثاني: العقوبة 471- تمهيد: الأصل في الجزاء هو جزاء الآخرة، لكن مقتضيات الحياة وضرورة تنظيم المجتع دعت إلى أن يكون مع الجزاء الأخروي جزاء دنيويًّا والعقاب

الدنيوي لا يمنع الأخروي، إلّا إذا اقترن بالتوبة النصوح 472- تشريع العقاب من رحمة الله بعباده 473- وجوب الحزم في إقامة العقوبات الشرعية 474- وجوب المساواة في إقامة العقوبات الشرعية وحرمة تعطيلها 475- ابتناء العقوبات الشرعية على العدل والردع 476- أنواع العقوبة 477- الحدود 478- عقوبة الزنى 479- عقوبة اللواط 480- القذف 481- اللعان 482- عقوبة الخمر 483- عقوبة السرقة 484- عقوبة قطع الطريق 485- عقوبة المرتد 486- عقوبة البغي 487- القصاص والديات 488- الكفارة 489- التعزير 490- الدية 491- أنواع التعزير 492- أكثر التعزير 493- هل يجوز التعزير بالقتل؟ 494- اعتراضات على الحدود أن هذه العقوبات تتضمَّن التدخل في الحرية الشخصية 497- رد دعواهم قسوة بعض العقوبات 498- العقوبة في جريمة القتل حق لأولياء القتيل، وللمجتمع حق في حرية هذه العقوبة 500- اعتراضهم على تحميل الدية لغير الجاني وجوابه 501- الخلاصة في نظام الجريمة والعقوبة الفصل الخامس: مقاصد الإسلام 502- تحقيق مصالح العباد في العاجل والآجل 503- أنواع مصالح العباد 504- معيار المصلحة والمفسدة 505- عجز الإنسان عن إدراك المصلحة والمفسدة 506- مصلحة الإنسان الحقيقية في اتباع ما أنزل الله 507- مصالح الدنيا معتبرة بمصالح الآخرة. الباب الثاني: عدة الداعي 508- تمهيد ويضمن تقسيم الباب إلى ثلاث فصول. الفصل الأول: التعريف بالداعي 509- الدعي الأول محمد -صلى الله عليه وسلم 510- الدعوة إلى الله وظيفة رسل الله 115- الأمة

شريكة لرسولها في وظيفة الدعوة إلى الله 512- من هو المكلَّف بالدعوة إلى الله 513- الدعوة إلى الله قد تؤدَّى بصورة فردية، وقد تؤدَّى بصورة جماعية 514- شبهات واعتراضات 515- بيان معنى الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} 516- شبهة أخرى حول فهم الآية: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلّا وُسْعَهَا} وجوابها 518- تعليل تكليف المسلم بالدعوة إلى الله 519- الدعوة إلى الله بقدر حال الداعي وقدرته 520- الداعي يدعو إلى الله في كل وقت، وفي جميع أحواله وظروفه 521- المطلوب من الداعي أن يدعو إلى الله، وليس المطلوب منه أن يستجيب الناس 522- الاستمرار في الدعوة إلى الله وإن لم يستجب أحد 523- أجر الداعي على الله لا على العباد 524- مكانة الداعي في الإسلام. الفصل الثاني: عدة الداعي 525- تمهيد ويتضمَّن تقسيم الفصل إلى ثلاثة مباحث. المبحث الأول: الفهم الدقيق 526- العلم قبل العمل 527- فضل العلم 528- الفهم الدقيق 529- الفهم الدقيق يقوم على تدبر معاني القرآن 530- أركان الفهم الدقيق 531- معرفة الداعي غايته في الحياة ومركزه بين الناس 532- التجافي عن دار الغرور والتعلق بالأخرة. المبحث الثاني: الإيمان العميق 533- حقيقة الإيمان العميق 534- ضرورة هذا الإيمان للداعي المسلم 535- ثمرات هذا الإيمان ولوازمه 536- المحبة 537-538- لوازم محبة العبد لربه 539- الخوف 540- الرجاء.

المبحث الثالث: الاتصال الوثيق 541- معناه وآثاره 542- حالة الداعي المسلم في توكله على الله 543- استحضار الداعي أن الخلق لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم نفعًا ولا ضرًّا 544- لا يجوز للداعي أن يحدِّد لله وقتًا لإنزال نصره 545- على الداعي أن يتيقن نصر الله له 546- اتصال الداعي بربه يهوّن عليه الصعاب. الفصل الثالث: أخلاق الداعي 547- أخلاق الداعي هي أخلاق الإسلام 548- الصدق، حقيقته 549- ظهور أثر الصدق في وجه وصوت الداعي 550- الصبر من فروض الإسلام 551- معنى الصبر لغة وشرعًا 552- الصبر بالله ولله 533- حاجة الإنسان إلى الصبر 554- الصبر أشد ضرورة للمسلم 555- ضرورة الصبر إلى المسلم 556- الابتلاء لا بد منه 557- ابتلاء الدعاة إلى الله 558- استدعاء البلاء ودفعه 559- خلاصة القول في استدعاء البلاء ودفعه 560- الرحمة 651- الرحمة من أخلاق المصطفى وأمته 562- ضرورة الرحمة للداعي 563- الرحمة تهون على الداعي ما يلقاه من الجهلاء 564- الرحمة تثمر العفو والصفح 565- الفظاظة تؤدي إلى انفضاض الناس 566- التكبر حماقة وجهل 567- جزاء المتكبرين 568- النهي عن الكبر 569- حقيقة الكقبر 570- سبب الكبر 571- علاج الكبر 572- التواضع 573- حاجة الداعي إلى التواضع 574- من التواضع طاعة من أمر الشرع بطاعته 575- أيهما أفضل المخالطة أم العزلة؟ 576- المخالطة لا بد منها 577- المخالطة واجبة على الداعي 578- حدود المخالطة الواجبة 579- الحب في الله والبغض في الله 580- المختارون لصحبة الداعي 581- سلوك الداعي مع من يصاحب ومن لا يصاحب 583-585- عزلة الداعي وأنواعها. الباب الثالث: المدعو 586- تمهيد ويتضمَّن تقسيم الباب إلى فصلين.

الفصل الأول: التعريف بالمدعوّ وما له وما عليه 587- من هو المدعو 588- الدعوة إلى الله عامة إلى جميع البشر 589- حقوق المدعو 590- لماذ كان المدعو يؤتى ويدعى 591- على الداعي المسلم الاقتداء برسول الله -صلى الله عليه وسلم 592- لا يستهان بأي إنسان 593-594 واجبات المدعو. الفصل الثاني: أصناف المدعوين 595- تمهيد ويتضمَّن تقسيم المدعوين إلى أربعة أصناف، وإفراد كل صنف بمبحث على حدة. المبحث الأول: الملأ 596- تعريف الملأ 597- الملأ والدعوة إلى الله 598- أسباب عداوة الملأ للدعوة إلى الله 599- أولًا: الكبر 600- الآيات الدالة على ذلك 601- ثانيًا: حب الرئاسة والجاه والآيات الدالة على ذلك 602- ثالثًا: الجهالة والآيات الدالة على ذلك 603- الملأ هم الملأ في كل مكان وزمان. المبحث الثاني: جمهور الناس 604- تعريف جمهور الناس 605- الجمهور أسرع من غيرهم إلى الاستجابة 606- تعليل سرعة استجابة الجمهور للحق 607- احتمال تأثير الجمهور بالملأ 608- لماذا يتأثر الجمهور بالملأ 609- الإغراء بالمال وحطام الدنيا 611- الشبهات. المبحث الثالث: المنافقون 612- تعريف المنافق 613- أين يوجد المنافق 614- أساس النفاق 615- المنافق

أسوأ من الكافر 616- علامات النفاق 617- علامات المنافق تعرف من الكتاب والسنة 618- علامات المنافق وصفاته، أولًا: مرض القلب 619- ثانيًا: الإفساد في الأرض 620- ثالثًا: رميهم المؤمنين بالسَّفَه 621- رابعًا: اللدد في الخصومة 622- خامسًا: موالاة الكافرين والتربُّص بالمسلمين 623- سادسًا: الخداع والرياء والتكاسل 624- سابعًا: التحاكم إلى الطاغوت 625- ثامنًا: الإفساد بين المؤمنين 626- تاسعًا: الكب والخوف وكره المسلمين 627- عاشرًا: السخط لحظ النفس 628- حادي عشر: الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف 629- ثاني عشر: الغدر وعدم الوفاء بالعهد. 630- ثالث عشر: عيبهم المؤمنين والسخرية بهم 631- رابع عشر: نواصيهم بترك الجهاد 632- خامس عشر: الإضرار بالمؤمنين وتسترهم بفعل ظاهره مشروع. المبحث الرابع: العصاة 633- تعريفهم 634- المسلم غير معصوم من المعصية 635- أسباب العصيان 636- جهاد العاصي 637- الوقاية من المعاصي 638- موقف الداعي من العصاة. الباب الرابع: أساليب الدعوة ووسائلها 639- تمهيد ويتضمَّن تقسيم الباب إلى ثلاثة فصول. الفصل الأول: مصادر أساليب الدعوة ووسائلها ومدى الحاجة إليها 640- تعداد المصادر 641- أولًا: القرآن الكريم 642- ثانيًا: السنة النبوية 643- ثالثًا: سيرة السلف الصالح 644- رابعًا: استباطات الفقهاء 645- خامسًا: التجارب 646- ضرورة الاستمساك بالنهج الصحيح في الوسائل والأساليب 647- نتائج الخروج عن النهج الصحيح 648- صعوبة الالتزام بالنهج الصحيح 649- تيسير الالتزام بالنهج الصحيح.

الفصل الثاني: أساليب الدعوة 650- تمهيد ويتضمن تقسيم الفصل إلى أربعة مباحث. المبحث الأول: الداء والدواء 651- تحديد أصل الداء والدواء 652- أصل داء البشر وأصل دوائهم 653- التأكيد على معاني العقيدة الإسلامية 654- اعتراض ودفعه 655- ابتعاد الداعي عن النهج الصحيح 656- الكليات لا الجزئيات. المبحث الثاني: إزالة الشبهات 657- ماهية الشبهات 658- مصدر الشبهات 659- لا خلاص من الشبهات ولا تبديل فيها 660- أنواع الشبهات 661- موقف الداعي من الشبهات 662- أمثلة على شبهات أهل الباطل والرد عليها اولًا: الطعن بالدعاة 663- ثانيًا: الإفساد في الارض وطلب الرئاسة 664- ثالثًا: رميهم الدعاة بالاتصال المشبوه 665- رابعًا: الداعي رجل مغمور 666- خامسًا: أتباع الداعي أناس مغمورون 667- شبهات أهل الباطل يجمعها جامع الطعن بالداعي والدعوة 668- ابتعاد الداعي عن الشبهات 669- الدعاة بحاجة إلى الابتعاد عن كثير من المباح حتى لا يكون مثارًا للشبهة ضدهم. المبحث الثالث: الترغيب والترهيب 670- معناهما وأهميتهما 671- بم يكون الترغيب والترهيب 672- الأصل فيهما يكون بالجزاء في الآخرة، ويجوز أن يكون بما يصيب المدعوين في الدنيا 673- من أساليب الترغيب والترهيب 674- من لوازم الترغيب والترهيب 675- التحذير من الدنيا ومن إيثارها على الآخرة.

المبحث الرابع: التربية والتعليم 676- ضرورة التعليم 677- الدليل على ذلك من السنة النبوية 678- حرص الرسول -صلى الله عليه وسلم- على تعليم الناس 679- التربية مع التعليم 680- ضرورة التربية على معاني الإسلام 681- من معالم التربية 682- من وسائل التربية: الاتصال بكتاب الله 683- الاتصال بالسيرة النبوية الكريمة الفصل الثالث: وسائل الدعوة 684- تمهيد ويتضمن المقصود من الوسائل وتقسيم الفصل إلى مبحثين. المبحث الأول: الوسائل الخارجية للدعوة 685- أساسها وتقسيمها إلى ثلاثة فروع الفرع الأول: الحذر 686- معناه 687- الحذر ممدوح غير مذموم 688-689- دليل مشروعية الحذر من القرآن الكريم 690-692- دليل مشروعية الحذر من السنة النبوية 693- الحاجة إلى الحذر 694- الحذر والتوكل على الله 695- أنواع الحذر 696- الحذر من المعاصي 697- الحذر من الأهل والولد 698- الحذر من أتباع الهوى 699- الحذر من المنافقين والكفار 700- وسائل الحذر 701- البدء بمكاشفة الموثوقين بالدعوة 702- التخفي والاستتار 703- اعتزال القوم والاختفاء عنهم 704- الخروج إلى المحل الأمين 705- عدم إظهار المسلم إسلامه إذا كان فيه تنكيل الكفرة به 706- التفرق وعدم إظهار ما يلفت نظر الكفرة 707- إخفاء الداعي قصده وتفاصيل ما يريد.

الفرع الثاني: الاستعانة بالغير 708- الاستعانة بأهل الخير والكفاءة 709- الاستعانة لغرض الحماية 710- استعانة الداعي بغير المسلم 711- جواز الاستعانة بغي المسلم لغرض حماية الداعي 712- تعليل جواز الاستعانة بغير المسلم 713-714- شروط قبول حماية غير المسلم 715- الاستعانة بغير المسلم في بعض الأمور 716- ما يشترط لهذه الاستعانة. الفرع الثالث: النظام 7174- أهمية النظام 718- حاجة الداعي إلى النظام 719- حاجة الجماعة إلى النظام 720- معالم النظام الجماعي في الشريعة الإسلامية 721- المقصود من الإمارة 722- ضرورة الطاعة 723- الطاعة والمشاروة 724- يسع الفرد ما لا يسع الجماعة 725- ليس كل مسلم يصلح للعمل مع غيره 726-728- ما يجب على الرئيس من رفق وعطف وتشجيع لمن هم تحت إمرته. المبحث الثاني: وسائل تبليغ الدعوة 729- تمهيد ويتضمَّن تقسيم المبحث إلى ثلاثة فروع. الفرع الأول: التبليغ بالقول 730- أهمية القول في التبليغ 731-732 الضوابط العامة في القول 733-738- الضوابط العامة للقائل 739- أنواع القول 740- الخطبة 741- الدرس 742- المحاضرة 743- المناقشة والجدل 744- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 745-7496- قواعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر "خمس قواعد" 750- الكتابة

الفرع الثاني: التبليغ بالعمل 751- المقصود بالعمل 752- الأصل في إزالة المنكر 753- القواعد العامة في إزالة المنكر 754-758- ما يضاف إلى القواعد العامة. الفرع الثالث: التبليغ بالسيرة الحسنة 759-761- أهمية الحسنة وأثرها في كسب الأنصار للدعوة 762- أصول السيرة الحسنة 763- الأصل الثاني: موافقة العمل للقول 765- الخاتمة.

فهرس الموضوعات

فهرس الموضوعات: 3 المقدمة 5 تمهيد ومنهج البحث 7 موضوع الدعوة 9 تعريف الإسلام 16 أركان الإسلام 17 الركن الأول: شهادة أن لا إله إله الله 25 الركن الثاني: شهادة أن محمدًا رسول الله 39 الركن الثالث: العمل الصالح 45 خصائص الإسلام 46 الخصيصة الأولى: أنه من عند الله 52 الخصيصة الثانية: الشمول 57 الخصيصة الثالثة: العموم 69 الخصيصة الرابعة: الجزاء في الإسلام 71 الخصيصة الخامسة: المثالية والواقعية 77 أنظمة الإسلام 79 نظام الأخلاق في الإسلام 103 النظام الاجتماعي في الإسلام 104 أساس نظام المجتمع في الإسلام 108 خصائص النظام الاجتماعي في الإسلام

139 نظام الإفتاء 141 المستفتي 151 المفتي 160 الإفتاء 166 الفتوى 173 نظام الحسبة 174 التعريف بالحسبة ومشروعيتها ومكانتها في الإسلام 177 المحتسب 186 المحتَسَب عليه 188 موضوع الحسبة 195 الاحتساب 203 نظام الحكم 204 الخليفة 217 الشورى 226 الخضوع لسلطان الإسلام 230 مقاصد الحكم في الإسلام 238 النظام الاقتصادي 239 الاساس الفكري للنظام الاقتصادي الإسلامي 242 خصائص النظام الاقتصادي الإسلامي 247-248 المبادئ العامة - حرية العمل 251 حق الملكية الفردية 254 حق الإرث 256 بيت المال - موارده 269 مصارف بيت المال

272 نظام الجهاد 277 نظام الجريمة والعقوبة 278 الجريمة 281 العقوبة 301 مقاصد الإسلام 306 الداعي 308 التعريف بالداعي 325-326 عدة الداعي - الفهم الدقيق 333 الإيمان العميق 343 الاتصال الوثيق 346 أخلاق الداعي 371-373 المدعو - التعريف به ما له وما عليه 390 جمهور الناس 396 المنافقون 406 العصاة 411-413 مصادر أساليب الدعوة ووسائلها 420-421 أساليب الدعوة - الداء والدواء 426 إزالة الشبهات 437 الترغيب والترهيب 442 التربية والتعليم 447-448 وسائل الدعوة - الوسائل الخارجية للدعوة 458 الاستعانة بالغير 463 النظام

470 وسائل تبليغ الدعوة - التبليغ بالقول 782 التبليغ بالعمل 485 التبليغ بالسيرة الحسنة 487 الخاتمة

§1/1