أصول التربية الإسلامية وأساليبها في البيت والمدرسة والمجتمع

عبد الرحمن النحلاوي

مقدمة

مقدمة ... تقديم: الكتابإلى الطفولة الضائعة في هذا العصر قد يتساءل القارئ لماذا اختار المؤلف هذا العنوان لتقديم كتابه، مع أن المشهور عن القرن العشرين أنه عصر النور والعلم، وأن العلوم الإنسانية ومن بينها التربية، قد نالت حظا وافرا من اهتمام العلماء، وفلاسفة التربية!! بيد أن الضياع كثيرا ما ينشأ عن المبالغة في الحرص، وهذا ما حصل بالفعل، فلقد أدت مبالغة معظم فلاسفة التربية الحديثة ومؤسسيها، في العناية بالطفولة، إلى استطالتها، كمرحلة من مراحل تطور الإنسان، فمكث الناشئ وراء حدودها ردحا من الزمن لا يتجاوزها، وقد فقد الدوافع التي كانت تحفزه للتشوق إلى المستقبل، وتجعله يعتز بمعاني الرجولة والقوة، تلك المعاني الكامنة في نفس كل طفل، والتي أقام عليها العالم النفسي آدلر مدرسة نفسية، أو فرعا من فروع علم النفس سمي "علم النفس الفردي"، أرجع فيه كل النشاط النفسي إلى هذه النزعة: "نزعة القوة والتغلب على الصعوبات ... ". ولكن يبدو أن "ظاهر الإباحة والتدليل" هي من أهم النتائج التي أسفرت عنها مبالغة "التربية الحديثة" في رعاية الطفولة، وقد برزت هذه الظاهرة في أمريكا بشكل واضح حيث وصفها الباحث النفسي الأمريكي "بنجامين سبوك"1، حين قال: "أعرف سيدة تدير محلا لبيع ملابس الأطفال، أخبرتني عن موقف يحدث مرارا وتكرارا في عملها، ثمة أم تحضر إلى المتجر تصحب طفلها البالغ من العمر ثلاث سنوات أو أربعا، فإذا أعجبها طراز السراويل الموجودة توجهت إلى ابنها بالسؤال: شارلي: أفلا تظن أنك تحتاج إلى سراويل جديدة؟ فإذا آثر الصبي أن يقول: "كلا"، فإنها تبدأ خطوة في العمل على إقناعه بأنه

_ 1 في كتاب مشكلات الآباء والأمهات ص417-418 ترجمة الدكتور محمد علي العريان.

يحتاج حقا إلى سراويل جديدة، فإذا وافق فإنها تسأله: أتحب هذه؟ وهي لا بد أن تحول إقناعه بأنه يفضلها؛ لأنه هذا هو النوع الوحيد الموجود". ويعلق الطبيب النفسي بنجامين سيوك على هذا بقوله: "إنه مما يحير الطفل الصغير أن نعرض عليه حشدا من الاختبارات التي لا تخدم أي غرض نافع، ويقينا فإنه مما يأتي بعكس المقصود، أن نشجعه على الاختيار من أبدال إذا كنا نجحده نصفها". ويتساءل د. سبوك عن السبب: أهو قناعة تربوية؟ ثم يقرر بأنه: "عادة من عادات الذهول "اللاشعور"، وقعت الأم في أسرها"، ويقول: "ولكن وراء العادة في كثير من الحالات، يمكن في قرارة نفس الأم خوف غامض يساورها بأنها تخشى أن تفرض إرادتها عليه "أي على طفلها" فرضا قويا، ولعلها، إذا سئلت فإنها ربما تقول: إنها لا تريد أن تكتم شخصيته وتخمد ذاتيته، وأنها لا تريد أن تجعله ينفر من سلطتها، ويستاء منها". ونحن نلمح في ثنايا هذا الكلام خوف الأم الأمريكية من مخالفة الآراء التربوية التي أصبحت عواطف لا شعورية تكمن في قرارة نفسها، ولكن نتائج هذا الوازع التربوي، "الذي أصبح خوفا لا شعوريا"، كانت وخيمة على الجيل الأمريكي، يدلنا على ذل قول بنجامين سبوك: "وعندي أن هذا التردد والتذبذب في تربية الأطفال، وهذه المراعاة الوجلة القلقة لرغباتهم ونزواتهم، تعتبر إحدى النواحي لما يشار إليه عادة بـ"ظاهرة التدليل أو الإباحة"، وهي غالبا ما تواكب النزعة إلى السماح للأطفال بأن يكونوا غير مهذبين، وعصاة لآبائهم وأمهاتهم، أو نائحين شارقين بالدمع لأقل إثارة، أو مهملين فيما يخصم من أشياء، أو فيما يمتلكه الغير أو شديدي الهياج والعدوان، والإثارة في لعبهم ولهوهم". ولنقف عند هذا الحد مما نقله لنا عالم متزن من علماء النفس الأمريكيين، ولنربط بين هذه الظواهر التربوية، وبين ما نتج عنها بما نسمعه من جرائم الأحداث

وتعاطيهم المخدرات، ومن تدخين جماعي في معسكرات الأطفال، في بعض دول أوروبا، ومقاطعات أمريكا، ومن جرائم جنسية يندى لها الجبين. ولنسأل أنفسنا أي ضياع للأطفال، والطفولة يفوق هذا الضياع؟.. اللهم إلا أن يكون ضياع الأطفال غير الشرعيين، وهو بلاء آخر من ثمرات هذا العصر، فقد بلغ عدد هؤلاء في أوائل الخمسينات نصف مليون في إنكلترا وحدها، نصف مليون من الناقمين على الحياة، وعلى المجتمع الذي تركهم قلقين تائهين، لا يعرفون لهم أصلا، ولا انتماء ولا أهلًا. فأين يجد هؤلاء العطف والتقدير، وكيف نطلب منهم الجود بعطف حرموه في طفولتهم، أو إبداء خلق لم تقدمه لهم تربية الملاجئ ودور الأيتام، أو صدقات المحسنين، ومن ضياع الطفولة عامة يبدو لضياع الإناث من الأطفال أهمية خاصة: فهنا تفقد الطفلة أنوثتها المستقبلية، فيضيع انضباط العلاقات الجنسية، فضلا عن تكليفها فوق طاقتها، ووضعها في مواضع منافية لفطرتها، وبالنتيجة بنهار بناء الأسرة بانهيار ربتها، وحرمان الأبناء من حسن تربية الأمهات. ذلك أن التربية الحديثة لم تحترم أنوثة المرأة، وما هيأتها إلا كما هيأت الرجل تماما، للمعامل والوظائف، والخدمات العامة، مع إغرائها بمنافسة الرجل في كل الميادين، وجميع ظروف الحياة. وكانت النتيجة لهذه التربيسة المنحرفة، ولقيام المرأة بأعمال الرجل، ومخالطته في كل عمل، من غير ضابط لمشاعر الجنس، ولا وازع يمنع من ابتذالها، أن ابتذلت المرأة واختفت أنوثتها، وخشن جسدها وغلظ صوتها، وفقدت رقتها المعنوية، فلم يعد الرجل يجد في المرأة ما يشده إليها مع ما يعاني من دوافع غريزي يدعوه إلى إرضائه بأي شكل، وهكذا أراد مخططو انهيار البشرية، وهكذا أطاعت المرأة، واندفعت متعامية وراء الهوى، وهكذا اشترك الجميع في مؤامرة تخريب الجنس البشري، والعلاقات الاجتماعية.

"ولك الآن يا أخي القاريء أن تعلل سر ظهور اللواط في بعض المجتمعات الأوروبية كالمجتمع الإنجليزي الذي أضاعت في المرأة أنوثتها، ففقدت بذلك قيمتها كمطلب سام، فاستغنى الرجال عنها بالرجال، وظهر الانحراف الجنسي وتفشى، وضاع المجتمع البريطاني، المجتمع الذي سيطر على بحار الدنيا في يوم من الأيام، لتصبح بريطانيا من الدرجة الثانية، ومن يدري فقد تصبح من الدرجة الثالثة، ثم الرابعة1. كذلك من شأن هذه التربية المنحرفة، أعني إعداد الطفلة للاشتغال بأعمال الرجال، وإغراءها بذلك حتى يصبح مثلها الأعلى، أن يقلل عدد النساء المتصفات بالأنوثة الحقة، ويبرز دور الغانيات والمومسات في ملء الفراغ الحادث، ويزيد الطلب عليهم من الرجال حتى يرفعهن المجتمع لمرتبة القديسات، في الوقت الذي تضيع فيه القيمة الحقيقية للمرأة عموما، وهو ما أكد التاريخ حدوثه عند بداية انحدار اليونانيين من قمة حضارتهم، وذلك بعد تحرير المرأة بشكل يشبه دعوة هذا العصر، فانحلت الأسرة، وانطلق الشيطان سعيدا إذا عبد الناس شهواتهم، وانتصرت الغريزة، والدعارة على حسابها. ولو حاولنا أن نستمر في تعداد مظاهر "الطفولة الضائعة"، وتوقع ما سيترتب عليها في هذا العصر لاحتجنا إلى مجلدات.. ولكن يكفي هذه الأمثلة أن ندرك أن هذه النظم التربوية لم تكن لتؤدي إلى خير الإنسانية وفلاحها، ما دامت قد بنيت على أسس فكرية، وعقائدية زائفة لا تنسجم مع الفطرة السليمة، ولا مع التفكير المنطقي الصحيح، ولما كانت تلك النظم قد انتشرت في عالمنا الإسلامي، وتمكنت من نفوس الشباب والمربين، وعقولهم وأخذت ثمراتها المرة تظهر لنا في الجيل الناشئ الذي فقد القوة والثقة بنفسه، ومال للانحدار والضياع الكاملين، فقد شعر الغيورون على مصلحة هذه الأمة بضرورة وضع منهج موضوعي حي، وفعال للتربية الإسلامية الحقة، عسى أن يرأب الصدع، ويسد الفراغ الذي يحسه الشباب المسلم في دوامة

_ 1 د. عمارة نجيب: مكانة المرأة في الإسلام، عدد غرة ذي الحجة 1397، من مجلة الدعوة المصرية.

المدارس التربوية المختلفة، إذ لا يجد نفسه ولا عقيدته فيها، ويضعف تماسك شخصيته الإسلامية، وهو يدور في فلكها، وليعلم شبابنا الذين ذاقوا وبال التربية الحديثة، وما زالوا متعلقين ببهرجها، ومنهم من يتعبد في محرابها "كحالهم في كل ما هو مستورد أجنبي الوجه، واليد واللسان" ليعلم كل هؤلاء أن دونهم والنبع ضربة معول، وأن في ديننا الإسلامي، "لو يعلمون"، أسسا وأصولا لخير مدرسة تربوية عرفتها البشرية أو ستعرفها. وبعد، فإنني أشكر الله أولًا: أن أتاح لي تدريس هذه المادة: "أصول التربية الإسلامية" في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض كما أشكر العاملين بإخلاص في هذه الجامعة، والذين كان لتقديرهم لأهمية هذه المادة، وإقرارهم بضرورة تدريسها أثر طيب. وأخص بالشكر أخي في الله الأستاذ "عبد الرحمن الباني" الذي ساهم بهذا المجهود المتواضع بما قدمه لي من معلومات قيمة، ومراجع مفيدة ساعدت على إخراج هذا الكتاب بإذن الله، محققا روح المنهج المذكور وأهدافه. وقد ضمنته موضوعات ضافية وشروحا وافية، فلم أتقيد حرفيا بمنهج معين، بل جعلته كتابا علميا يحقق هدفه الذي يوحي به اسمه وعنوانه، ويؤدي إلى الأخذ بيد المربين للنهوض بهذا الجيل، وليستعد مجد أمته، وذلك بتحقيق منهج التربية الإسلامية في أنفسهم ومجتمعهم. ولقد عقدت مقارانات مفيدة بين بعض خصائص التربية الإسلامية، أو أهدافها أو أساليبه، ا وبين ما اتخذته التربية الغربية من أهداف، أو اتسمت به من خصائص، وأساليب ليكون شبابنا الجامعي، ومربو أجيالنا على بينة من حقيقة التربية الإسلامية وميزاتها، واطلاع مبدئي على ما يحيط بهم في العالم من نظر وأساليب تربوية، قد أخذت بتلابيب معظم الطلاب، والأساتذة والباحثين في التربية، فاستولت مفاهيمها

على مداركهم، حتى ظنهوا أن أي أسلوب، أو نظام تربوي يجب أن يصدر من قريب، أو بعيد عن تلك النظم، والأساليب الغربية. ولعله ليس بعيدا عنا ذلك اليوم الذي ستغدو فيه التربية الإسلامية منقذة للطفولة الضائعة، والبشرية المتردية إن شاء الله، وهذا الكتاب إن هو إلا غرسة قد لا نجد الآن ثمارها عاجلا، وإن كنا متأكدين من أنها سوف: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم: 14/ 25] ، فهي فرع من الشجرة الطيبة التي وصفها الله تعالى: {أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء} [إبراهيم: 14/ 24] . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. المؤلف.

المحتوى

المحتوى: الصفحة الموضوع 55 أولا: أثر الشريعة في تربية الفكر 58 ثانيا: أثر الشريعة في تربية الخلق 60 ثالثا: الضروريات الخمس 65 رابعا: العقيدة الإسلامية وأثرها التربوي 67 أركان الإيمان 88 الفصل الرابع: غاية التربية الإسلامية وأهدافها 88 أولا: معنى الهدف 89 ثانيا: أهمية تعيين الهدف وتحديده 89 ثالثا: هدف التربية الإسلامية 101 رابعا: التربية الإسلامية والمواطنة الصالحة 102 خامسا: التربية الإسلامية، وهدف كسب الرزق 103 سادسا: مميزات هدف التربية الإسلامية 105 سابعا: أهمية التربية الدينية في تحقيق هدف التربية الإسلامية 108 الفصل الخامس: وسائط التربية الإسلامية 108 أولا: المسجد وأثره التربوي 108 1- تمهيد في وظائف المسجد 109 2- الوظيفة التربوية للمسجد 109 3- الوظيفة الاجتماعية للمسجد 109 4- أثر المسجد التربوي، والاجتماعي في حياة الأمة 111 ثانيا: الأسرة المسلمة ومهمتها التربوية 111 1- إقامة حدود الله 111 - الأثر التربوي لتحقيق هذا الهدف

الصفحة الموضوع 55 أولا: أثر الشريعة في تربية الفكر 58 ثانيا: أثر الشريعة في تربية الخلق 60 ثالثا: الضروريات الخمس 65 رابعا: العقيدة الإسلامية وأثرها التربوي 67 أركان الإيمان 88 الفصل الرابع: غاية التربية الإسلامية وأهدافها 88 أولا: معنى الهدف 89 ثانيا: أهمية تعيين الهدف وتحديده 89 ثالثا: هدف التربية الإسلامية 101 رابعا: التربية الإسلامية والمواطنة الصالحة 102 خامسا: التربية الإسلامية، وهدف كسب الرزق 103 سادسا: مميزات هدف التربية الإسلامية 105 سابعا: أهمية التربية الدينية في تحقيق هدف التربية الإسلامية 108 الفصل الخامس: وسائط التربية الإسلامية 108 أولا: المسجد وأثره التربوي 108 1- تمهيد في وظائف المسجد 109 2- الوظيفة التربوية للمسجد 109 3- الوظيفة الاجتماعية للمسجد 109 4- أثر المسجد التربوي، والاجتماعي في حياة الأمة 111 ثانيا: الأسرة المسلمة ومهمتها التربوية 111 1- إقامة حدود الله 111 2- الأثر التربوي لتحقيق هذا الهدف

الصفحة الموضوع 112 3- تحقيق السكون النفسي والطمأنينة 112 4- تحقيق أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإنجاب النسل المؤمن الصالح 112 5- إرواء الحاجة إلى المحبة عند الأطفال 114 6- صون فطرة الطفل عن الزلل والانحراف 116 ثالثا: المدرسة في التربية الإسلامية 116 1- تمهيد في أهمية المدرسة ونشأتها 118 2- المدرسة في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم 119 3- المدارس في العصر العباسي المتأخر 120 4- المدرسة المعاصرة 122 5- وظائف المدرسة الحديثة: 122 أ- وظيفة التبسيط والتلخيص 124 ب- وظيفة التصفية والتطهير 125 ج- توسيع آفاق الناشئ، وزيادة خبراته بنقل التراث 129 د- وظيفة الصهر والتوحيد، وإيجاد التجانس، والتأليف بين الناشئين 131 هـ- وظيفة تنسيق الجهود التربوية المختلفة وتصحيحها 131 و التكميل لمهمة المنزل التربوية 139 رابعا: المربي المسلم 139 1- حول أهمية المربي 140 2- صفات المربي المسلم وشروطه 144 خامسا: المجتمع ومسئوليته التربوية 150 سادسا: النشاط المدرسي والتربية الإسلامية 156 سابعا: المنهج التربوي الإسلامي وخصائصه

الصفحة الموضوع 166 الفصل السادس: أساليب التربية الإسلامية 167 أولا: التربية بالحوار القرآني والنبوي 168 1- الحوار الخطابي أو التعبدي 177 2- الحوار الوصفي وآثاره التربوية 179 3- الحوار القصصي: تعريفه وأمثلته 181 4- الحوار الجدلي لإثبات الحجة 184 5- الحوار النبوي 188 ثانيا: التربية بالقصص القرآني والنبوي 189 1- الميزات التربوية للقصص القرآني والنبوي 190 2- القصص النبوي مميزاته، وأغراضه وأنواعه 198 ثالثا: التربية بضرب الأمثال 205 رابعا: التربية بالقدوة 211 خامسا: التربية بالممارسة والعمل 219 سادسا: التربية بالعبرة والموعظة 219 1- التربية بالعبرة 226 2- التربية بالموعظة 230 سابعا: التربية بالترغيب والترهيب

الفصل الاول: الإسلام والتربية

الفصل الأول: الإسلام والتربية أولا- التربية الإسلامية هي العلاج: تعاني الإنسانية اليوم من ضياع الطفولة: إما بسبب المبالغة في الإباحة والتدليل، وانعدام الضوابط في معاملة الأطفال، وأما بسبب الإفراط في الشهوات وانعدام ضوابط الغرائز، انعداما أضاع ملايين الأطفال غير الشرعيين، وإما بسبب الإفراط في ابتذال المرأة إفراطا جعلها تخالط الرجال في كل شيء، فتفقد أنوثتها ومكانتها الأولى في تربية الأطفال، ومن كل ذلك نشأ تفكك بنيان الأسرة، وضاعت الطفولة، كما ضاعت الأنوثة والرجولة جميعا، وأصبحت الإنسانية تعيش في بؤس وتيه وشقاء. وكان للتربية الغربية الحديثة نصيب لا يستهان به من المسئولية عن هذا الضياع والبؤس والشقاء، لذلك لا يجد العاقل بدا من البحث عن بديل لها. والإسلام يقدم لنا منهجا تربويا متكاملا، سنستقرئه من منابعه إلى أسسه، إلى أساليبه ووسائله، وقضاياه التي يطرحها على الإنسانية، إلى تاريخه وأراء أعلام المربين في إطاره؛ وسنعرض ذلك إن شاء الله عرضا علميا موضوعيا، مؤيدا بالبراهين والوقائع، راجين أن تجد الإنسانية في ذلك علاجا شافيا لمشكلاتها، وأن تكون الحكومات، والشعوب العربية والإسلامية هي السباقة للأخذ بهذا العلاج، لتقدم لنفسها أسباب النصر، والعزة والسعادة، وللإنسانية برهانا تربويا ناصعا، يدلها على طريق الخلاص، والله نسأل أن ينفع بهذه الدراسة. ولكي يكون بحثنا علميا منهجيا، لا بد من إيضاح معاني الألفاظ، والمصطلحات الأساسية التي نستعملها؛ لأن التباس هذه المعاني يؤدي إلى الخطأ في فهم جميع ما يبنى عليها، والناس اليوم يختلفون في فهم أوسع الألفاظ شمولا كالدين، والتربية، والإسلام، والرب، والإله. وسنعتمد في ذلك على اللغة العربية، والقرآن الكريم؛ لأنه هو المصدر الأول الذي استقيت منه، وتستقي أسس التربية الإسلامية؛ ولأنه نزل بلسان عربي مبين، وسنبدأ بتعريف التربية في اللغة، ثم في عرف بعض علماء الإسلام.

ثانيا: مفهوم التربية

ثانيا: مفهوم التربية إذا رجعنا إلى معاجم اللغة العربية، وجدنا لكلمة التربية أصولا لغوية ثلاثة: الأصل الأول: ربا يربو بمعنى زاد ونما، وفي هذا المعنى نزل قوله تعالى: {وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} [الروم: 30/ 39] . الأصل الثاني: ربى يربى على وزن خفي يخفى، ومعناها: نشأ وترعرع. وعليه قول ابن الأعرابي: فمن يك سائلا عني فإني ... بمكة منزلي وبها ربيت الأصل الثالث: رب يرب بوزن مد يمد بمعنى أصلحه، وتولى أمره، وساسه وقام عليه ورعاه، ومن هذا المعنى قول حسان بن ثابت كما أورده ابن منظور في لسان العرب: ولأنت أحسن إذ برزت لنا ... يوم الخروج بساحة القصر من درة بيضاء صافية ... مما تربب حائر البحر وقال: يعني الدرة التي يربيها في الصدف، وبين: بأن معنى: تربب حائر البحر: أي مما ترببه، أي رباه مجتمع الماء في البحر. قال: ورببت الأمر أربه ربا، وربابا: أصلحته ومتنته. وقد اشتق بعض الباحثين من هذه الأصول اللغوية تعريفًا للتربية، قال الإمام الببيضاوي "المتوفى685هـ" في تفسيره "أنوار التنزيل وأسرار التأويل": "الرب في الأصل بمعنى التربية، وهي تبليغ الشيء إلى كماله شيئا فشيئا، ثم وصف به تعالى للمبالغة". وفي كتاب مفردات الراغب الأصفهاني "المتوفى502هـ": "الرب في الأصل التربية، وهو إنشاء الشيء حالا فحالا إلى حد التمام".

وقد استنبط الأستاذ عبد الرحمن الباني1 من هذه الأصول اللغوية أن التربية تتكون من عناصر: أولها: المحافظة على فطرة الناشئ ورعايتها. ثانيها: تنمية مواهبه واستعداداته كلها، وهي كثيرة متنوعة. ثالثها: توجيه هذه الفطرة، وهذه المواهب كلها نحو صلاحها، وكمالها اللائق بها. رابعها: التدرج في هذه العملية، وهو ما يشير إليه البيضاوي بقوله: " ... شيئًا فشيئا"، والراغب بقوله: "حالًا فحالًا..". ثم يستخلص من هذا نتائج أساسية في فهم التربية. أولاها: أن التربية عملية هادفة، لها أغراضها وأهدافها وغايتها. النتيجة الثانية: أن المربي الحق على الإطلاق هو الله الخالق: خالق الفطرة وواهب المواهب، وهو الذي سنن سننا لنموها وتدرجها وتفاعلها، كما أنه شرع شرعا لتحقيق كمالها، وصلاحها وسعادتها. النتيجة الثالثة: أن التربية تقتضي خططا متدرجة تسير فيها الأعمال التربوية، والتعليمية وفق ترتيب منظم صاعد، ينتقل مع الناشيء من طور إلى طور، ومن مرحلة إلى مرحلة إلى مرحلة. النتيجة الرابعة: أن عمل المربى تال، وتابع لخلق الله وإيجاده، كما أنه تابع لشرع الله ودينه. وهذا التحليل لمعنى التربية، ونتائجها يؤدي بنا إلى معنى الشرع والدين؛ لأن التربية تستمد جذورها منه، فطبيعة النفس الإنسانية طبيعة متدينة، والإنسان في الحقيقة حيوان متدين كما سنوضح ذلك عند بحث "خصائص التربية الإسلامية".

_ 1 مدخل إلى التربية: محاضرات لطلاب السنة الأولى في كلية العلوم الاجتماعية لسنة 1397هـ.

ثالثا: مفهوم الدين

ثالثا: مفهوم الدين 1: المعنى اللغوي: تستعمل كلمة "الدين" في كلام العرب بمعان شتى أهمها: 1- القهر والسلطة والحكم والأمر: فيقولون: "دان الناس" أي قهرهم على الطاعة، و"دنته" أي سسته وملكته، وفي هذا المعنى جاء في الحديث النبوي "الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت" أي قهر نفسه، وذللها لطاعة الله، بهذا الاعتبار يصبح معنى اسم المفعول "مدين" أي مقهور ومحكوم، وخاضع قال تعالى: {فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ، تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين} [الواقعة: 56/ 86-87] ، أي إن كنتم غير خاضعين لمشيئة الله في الحياة والموت، فهلا أرجعتم الروح إلى الجسد بعد فراقها بالموت. 2- الطاعة والعبودية، والخدمة، والخضوع تحت غلبته وقهره: تقول العرب: دنتهم، فدانوا أي قدرتهم فأطاعوا. 3- الشرع والقانون والطريقة، والمذهب والملة، والعادة والتقليد: فيقولون: "ما زال ذلك ديني وديدني" أي دأبي وعادتي. 4- الجزاء والمكافأة والقضاء والحساب: فمن أمثال العرب: "كما تدين تدان" أي كما تصنع بغيرك يصنع بك وتجازى، ومن هنا تأتي كلمة "الديان" بمعنى القاضي، وحاكم المحكمة. استعمال كلمة "الدين" في القرآن الكريم: كانت العرب تستعمل هذه الكلمة كما رأينا، بهذا المعنى مرة، وبذاك تارة أخرى حسب لغاتهم المختلفة، ومواقفهم المتعددة، فكان استعمال كلمة "الدين" مشوبًا بشوائب اللبس والغموض، حتى نزل القرآن، فاستعملها لمعانيه الواضحة المتميزة، وإنما ميز القرآن كلمة الدين وأوضح معناها حين جعلها بمعانيها اللغوية الأربعة تقوم مقام نظام بأكمله، يتألف من أجزاء أربعة هي: 1- الحاكمية والسلطة العليا "الإلهية". 2- الطاعة والإذعان لتلك الحاكمية والسلطة "من قبل أتباع الدين، أو المخلوقات". 3- النظام الفكري، والعلمي الذي أوجدته تلك السلطة والحاكمية. 4- المكافأة التي تكافئ بها السلطة، أو الجزاء الذي تجزي به على أتباع ذلك النظام، والخضوع والإخلاص له، أو على التمرد عليه، والعصيان له. ثم يورد أبو الأعلى المودودي الآيات التي تدل على هذه المعاني2، ويحاول أن يجمع ويؤلف من هذه المعاني تعريفا للدين فيقول: المراد بـ"الدين" في جميع هذه الآيات هو "نظام الحياة الكامل الشامل لنواحيها الاعتقادية، والفكرية والخلقية، والعملية"، فقد بين الله تعالى أن نظام الحياة الصحيح المرضي عند الله هو النظام المبني على إطاعة الله، وإخلاص العبودية له وحده. قلت: ويمكن تعريف الدين تعريفًا يشمل جميع معانيه اللغوية، والقرآنية كما يلي: "الدين علاقة خضوع وانقياد، وعبودية من قبل البشر، يشعرون بها نحو خالق حاكم مسير لأمور الكون، حاكم قهار يحيى ويميت، وإليه النشور، قد وضع لهم نظاما كاملا للحياة بجميع جوانبها، وأمرنا أن نسير عليه، وأخبرنا بالجزاء الذي أعده لجميع المكلفين يوم الحساب"، والله أعلم.

_ 1 أبو الأعلى المودودي: المصطلحات الأربعة في القرآن -من مطبوعات دار القلم. 2 {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر: 40/ 65] أي الطاعة والعبادة، والإيمان بقهره وسلطانه وحده، وبهذا جاء لفظ الدين في قوله تعالى: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} [الزمر: 39/ 14] ، وقوله: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ، وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} [الزمر: 39/ 11-12] {وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ} [النحل: 16/ 52] أي له السلطان. أما الدين بمعنى النظام فقد ورد في قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [يونس: 10/ 104] وأما الدين بمعنى الجزاء والحساب: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ، ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ، يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا} [الانفطار: 82/ 17-19] .

رابعا: مفهوم الإسلام

رابعا: مفهوم الإسلام الإسلام في اللغة والقرآن هو الاستسلام والخضوع، قال تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران: 3/ 83] . ثم استعمل اللفظ في القرآن علما على الدين والنظام، الذي أرسل الله به رسوله

_ محمدًا صلى الله عليه وسلم، وبين الله أن كل من يتخذ أو يتبع دينا غيره، ولو كان من الأديان السماوية السالفة، فإن الله لا يقبله منه. {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 3/ 19] {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 5/ 3] {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 3/ 85] ، وقد جمع الله بين لفظي الدين، والإسلام في قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ، وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} [الزمر: 39/ 11-12] . فالإسلام هو النظام الإلهي الذي ختم الله به الشرائع، وجعله الله نظاما كاملًا شاملا لجميع نواحي الحياة، وارتضاه لتنظيم علاقة البشر بخالقهم، وبالكون والخلائق، وبالدنيا والآخرة، وبالمجتمع والزوجة والولد، والحاكم والمحكوم، ولتنظيم كل الارتباطات التي يحتاج إليها الناس، تنظيما مبنيا على الخضوع لله وحده، وإخلاصه العبودية له، وعلى الأخذ بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.

خامسا: العلاقة بين الإسلام والتربية

خامسا: العلاقة بين الإسلام والتربية 1- التربية الإسلامية: فريضة إسلامية الإسلام شريعة الله للبشر، أنزلها لهم ليحققوا عبادته في الأرض، وإن العمل بهذه الشريعة ليقتضي تطوير الإنسان وتهذيبه، حتى يصلح لحمل هذه الأمانة، وتحقيق هذه الخلافة، وهذا التطوير والتهذيب هو التربية الإسلامية: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 23/ 72] . فلا تحقيق لشريعة الإسلام إلا بتربية النفس، والجيل والمجتمع، على الإيمان بالله ومراقبته والخضوع له وحده، ومن هنا كانت التربية الإسلامية فريضة في أعناق جميع الآباء والمعلمين، وأمانة يحملها الجيل للجيل الذي بعده، ويؤديها المربون للناشئين، وكان الويل لمن يخون هذه الأمانة، أو ينحرف بها عن هدفها أو يسيء تفسيرها، أو يغير محتواها. إنها تربية الإنسان على أن يحكم شريعة الله في جميع أعماله، وتصرفاته ثم لا يجد حرجا فيما حكم الله ورسوله، بل ينقاد مطيعا لأمر الله ورسوله، قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 4/ 65] . والإنسان معرض للشر، والخسران لا ينقذه منهما إلا الإيمان بالله واليوم الآخر، والعمل الصالح، والتعاون، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر على إحقاق الحق ومحاربة الباطل، قال الله تعالى: {وَالْعَصْرِ، إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 103/ 1-3] . وفي هذه السورة إشارة إلى أن خلاص الإنسان من الخسران، والعذاب لا يتم إلا بثلاثة ضروب من التربية: أ- تربية الفرد على الإيمان بالله والاستسلام لشريعته، والإيمان بالغيب. ب- تربية النفس على الأعمال الصالحة، وعلى منهج الحياة الإسلامية، في الحياة اليومية، والمواسم السنوية والتصرفات المالية، وجميع شئون الدنيا. ج- تربية المجتمع على التواصي بالحق للعمل به، والتواصي على الشدائد، وعلى عبادة الله، وعلى التزام الحق.

التربية الإسلامية قضية إنسانية وضرورة مصيرية

2- التربية الإسلامية قضية إنسانية، وضرورة مصيرية: إن المصائب التي تنزل بالمجتمع الإنساني عامة، والكوارث التي تصيب المجتمعات الإسلامية، وظلم الإنسان للإنسان، واحتكار الدول القوية لخيرات الأمم الضعيفة، كل ذلك نتيجة لسوء تربية الإنسان، والانحراف به عن ابتغاء كماله، وعن فطرته، وطبيعته الإنسانية. ولما كان الإسلام هو المنهج الرباني المتكامل، المواتي لفطرة الإنسان، والذي أنزل الله لصياغة الشخصية الإنسانية صياغة متزنة متكاملة، ليجعل منها خير نموذج على الأرض، يحقق العدالة الإلهية في المجتمع الإنساني، ويستخدم ما سخر الله له من قوى الطبيعة، استخداما نيرا متزنا، لا شطط فيه ولا غرور، ولا أثرة ولا استئثار، ولا ذل ولا خضوع، ولما كنا قد رأينا كيف أخفقت الجهود التربوية، والمدارس التربوية الحديثة، والفلسفات التربوية الغربية، في إنقاذ الطفولة، والإنسانية من ظلم القرون الأوروبية الوسطى، وظلامها في أوروبا، بل نقلتها من الظلم، والظلام إلى الدمار والضياع، وإلى الميوعة والاضمحلال، فكانت البشرية في ذلك "كالمستجير من الرمضاء بالنار". لما كان ذلك كله وجدنا، بعد الاستقصاء، والبحث والتمحيص، أن التربية الإسلامية أصبحت ضرورة حتمية، وقضية إنسانية. أ- لتخليص الطفولة في البشرية عموما من التهديد، والضياع بين شهوات الآباء والأمهات، وتهافتهم على المادة، وبين النظم المادية غير الإنسانية، وبين الإباحة والتدليل والميوعة1. ب- لإنقاذ الطفولة في الشعوب النامية، والضعيفة من الخنوع والذل، وويلات الجوع، والاستسلام لطغيان الظلم والاستبداد. وذلك بما تغرسه التربية الإسلامية في الإنسان من العزة، والشعور بالكرامة، بل الاستماتة في سبيلها، مهما أحاطت به الشدائد، أو أذهلته عنها المغريات. {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 63/ 8] .

_ 1 شرحنا ذلك في مقدمة هذا الكتاب "الطفولة الضائعة"، ويمكن الرجوع إلى كتابنا: التربية وطرق التدريس فلي فيه بحث بعنوان "نقد التربية الحديثة" يليه بحث "من حصاد التربية الحديثة في بلادنا"، وسيأتي بيان ذلك في بحث مزالق المدرسة الحديثة.

الفصل الثاني: مصادر التربية الإسلامية

الفصل الثاني: مصادر التربية الإسلامية أولًا: القرآن: أثره التربوي في نفس الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة ... الفصل الثاني: مصادر التربية الإسلامية التربية الإسلامية هي التنظيم النفسي، والاجتماعي الذي يؤدي إلى اعتناق الإسلام، وتطبيقه كليا في حياة الفرد والجماعة. فالتربية الإسلامية ضرورة حتمية لتحقيق الإسلام كما أراده الله أن يتحقق، وهي بهذا المعنى تهيئة النفس الإنسانية لتحمل هذه الأمانة، وهذا يعني بالضرورة أن تكون مصادر الإسلام هي نفسها مصادر التربية الإسلامية، وأهمها القرآن والسنة. أولا: القرآن: أثره التربوي في نفس الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة: فالقرآن قد ترك أثرًا لا شك فيه في تربية نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحابته وقد شهدت بذلك السيدة عائشة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت في وصفه: "كان خلقه القرآن"، بل إن شهادة الحق جل جلاله قد سبقت كل شهادة قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان: 25/ 32] . فهما هنا إشارتان تربويتان: الأولى تثبيت الفؤاد وترسيخ الإيمان، والثانية تعليم الترتيل، في قراءة القرآن، وفيها نزلت توصيات تربوية صريحة من الحق جل جلاله إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك في قوله تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 75/ 16-19] 1.

_ 1 انظر الشرح التربوي لهذه الآيات في كتابنا التربية، وطرق التدريس 1/ 112، عبد الرحمن النحلاوي، عبد الكريم عثمان، محمد خير عرقسوسي، طبعة الرئاسة العامة للكليات، والمعاهد العلمية بالرياض سنة 1392هـ.

وحياة الرسول صلى الله عليه وسلم في سلمة وحربه، في حله وترحاله، في داره وبين رجاله، كلها تشهد بما شهدت به السيدة عائشة، والمسلمون جميعا من أنه "كان خلقه القرآن"، فأدعيته مستقاة من القرآن تارة باللفظ، وتارة بالمعنى. أما أصحابه رضوان الله عليهم، فقد أخذوا أنفسهم بتطبيق القرآن مع تعلمه حتى قال قائلهم: "كنا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نجاوز السورة من القرآن حتى نحفظها ونعمل بها، فتعلمنا العلم والعمل جميعا". وكان القرآن وقع عظيم، وأثر تربوي بالغ في نفوس المسلمين، حتى شغلهم عن الشعر، وكانوا من أشد الناس تعلقا به، وعن الحكم والكهانة، وأخبار الفروسية، وأخبار العرب في جاهليتهم. أسلوب القرآن التربوي: والسر في ذلك أن للقرآن أسلوبًا رائعًا، ومزايا فريدة في تربية المرء على الإيمان بوحدانية الله وباليوم الآخر، نذكر منها بعض ما ورد في كتابنا "التربية وطرق التدريس ص96-97"1. إنه يفرض الإقناع العقلي مقترنا بإثارة العواطب، والانفعالات الإنسانية، فهو بذلك يربي العقل والعاطفة جميعا، متمشا مع فطرة الإنسان في البساطة، وعدم التكلف، وطرق باب العقل مع القلب مباشرة. يبدأ القرآن من المحسوس المشهو المسلم به: كالمطر، والرياح، والنبات، والرعد، والبرق، ثم ينتقل إلى استلزام وجود الله, وعظمته وقدرته، وسائر صفات الكمال، مع اتخاذ أسلوب الاستفهام أحيانا، إما للتقريع، وإما للتنبيه، وإما للتحبيب والتذكير بالجميل، أو نحو ذلك، مما يثير في النفس الانفعالات الربانية: كالخضوع، والشكر، ومحبة الله، الخشوع له، ثم تأتي العبادات والسلوك المثالي تطبيقا عمليا للأخلاق الربانية. وهذه لعمري، أفضل طريقة اهتدى إليها علم النفس لتربية العاطفة، إنها تكرار إثارة الانفعالات، مع تجارب سلوكية مشحونة بهذه الانفعالات، مصحوبة

_ 1 تأليف عبد الرحمن نحلاوي، عبد الكريم عثمان، محمد خير عرقسوسي.

بموضوع معين، حتى يصبح عند المرء استعداد لاستيقاظ هذه الانفعالات كلما أثير هذه الموضوع، وهل العاطفة إلا ذلك الاستعداد الوجداني الانفعالي؟ فإذا ربي مع العاطفة سلوك مثالي تتطلبه تلك العاطفة، فقد بلغت التربية ذروتها في توحيد النفس، واستنفاد طاقتها لخير الإنسانية، ولعل أوضح مثال على هذا الأسلوب التربوي القرآني يتضح في "سورة الرحمن"، حيث يذكرنا الله جل جلاله بنعمة ودلائل قدرته، بادئا من الإنسان، وقدرته على التعليم، إلى ما سخر الله له من الشمس، والقمر والنجم والشجر، والفاكهة والثمر، وما خلق من السماء والأرض، وعند كل آية أو عدة آيات استفهام يضع الإنسان أمام الحس، والوجدان وصوت القلب والضمير، فلا يستطيع أن ينكر ما يحس به، ويستجيب له عقله وقلبه، وقد تكرر ذلك هذا الاستفهام: {فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 55/ 13] وما بعدها، إحدى وثلاثين مرة في هذه السورة، وفي كل مرة يثير انفعالا بحسب الآية التي تسبقه. هذه نبذة عن أسلوب القرآن التربوي، أو منهجه التربوي المتكامل، فهذا ما سنراه في طيات البحث عن منهج الإسلام التربوي، وأسلوب الإسلام في رعاية الطفولة في جميع العصور، ومعالجة أمورها. وحسبنا هنا أن نبين أن القرآن قد بدأ نزوله بآيات تربوية، فيها إشارة إلى أن أهم أهدافه تربية الإنسان بأسلوب حضاري فكري، عن طريق الإطلاع والقراءة والتعليم، والملاحظة العلمية لخلق الإنسان منذ كان علقة في رحم الأم. {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 96/ 1-5] . وأن الله تعالى أقسم أحد عشر قسما ليقرر أن النفس الإنسانية قابلة للتربية1، والتزكية والتسامي.

_ 1 انظر سورة الشمس من قوله تعالى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} إلى قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 91/ 1-10] .

ثانيا: السنة

ثانيا: السنة المصدر الثاني الذي تستقي منه التربية الإسلامية، ومنهجها التربوي هو السنة المطهرة، والمعنى اللغوي لهذه الكلمة "السنة" هو الطريقة والأسلوب والنهج، والمعنى العلمي: مجموعة ما نقل بالسند الصحيح من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأعماله، وتركه ووصفه، وإقراره ونهيه، وما أحب، وما كره، وغزواته وأحواله وحياته. والسنة جاءت في الأصل لتحقيق هدفين: أ- إيضاح ما جاء في القرآن، وإلى هذا المعنى أشار القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 16/ 44] . ب- بيان تشريعات وآداب أخرى كما ورد في قوله تعالى: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة: 62/ 2] أي السنة كما فسرها الإمام الشافعي، والطريقة العلمية التي بها تتحقق تعاليم القرآن، وكما ورد في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه". هذا وللسنة في المجال التربوي فائدتان عظيمتان: أ- إيضاح المنهج التربوي الإسلامي المتكامل الوارد في القرآن الكريم، وبيان التفاصيل التي لم ترد في القرآن الكريم. ب- استنباط أسلوب تربوي من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم مع أصحابه، ومعاملته الأولاد، وغرسه الإيمان في النفوس1. شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم نموذج تربوي كامل للإنسان: وهكذا يجد الباحث في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم مربيا عظيما ذا أسلوب تربوي فذ، يراعي حاجات الطفولة، وطبيعتها، ويأمر بمخاطبة الناس على قدر عقولهم، أي يراعي الفروق المادية بينهم، كما يراعي مواهبهم، واستعداداتهم وطبائعهم، يراعي في المرأة أنوثتها، وفي الرجل رجولته، وفي الكهل كهولته، وفي الطفل طفولته ويلتمس دوافعهم الغريزية، فيجود بالمال لمن يحب المال حتى يتألف قلبه، ويقرب

_ 1 سنبسط ذلك في الفصل الخامس إن شاء الله.

إليه من يحب المكانة؛ لأنه في قومه ذو مكانة، وهو في خلال ذلك كله يدعوهم إلى الله وإلى تطبيق شريعته، لتكميل فطرتهم، وتهذيب نفوسهم شيئا فشيئا، وتوحيد نوازعهم وقلوبهم، وتوجيه طاقاتهم، وحسن استغلالها للخير والسمو: طاقات العقل وطاقات الجسم، وطاقات الروح، لتعمل معا وتتجاوب للهدف الأسمى، وبذلك يسمو الفرد، وينهض المجتمع. وقد أدرك بعض علماء الإسلام هذه الأهداف التربوية النبوية، فصنفوا بعض أحاديثه صلى الله عليه وسلم تصنيفا ذا غاية تربوية مثل كتاب "الترغيب والترهيب"، وهو مجموعة أحاديث تربي في النفس دوافع تحبب لعمل الخير، وروادع تبعد عن عمل الشر، جمعها المحدث "عبد العظيم المنذري 581-656" في أجزاء، فشملت كل أمور الحياة المادية، والروحية، والمالية، والجسدية، والفردية، والاجتماعية، والتعبدية، والفكرية. واشتق بعضهم من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأحاديث موضوعات تربوية ألف فيها مثل "تحفة المودود في أحكام المولود" للإمام "ابن القيم الجوزية"، ومثل "الأدب المفرد" للإمام "محمد بن إسماعيل البخاري"، وهو كتاب نبوي تربوي فيه توجيهات تربوية حول معاملة الأبناء، ومعاملة الأيتام وتربيتهم، وآداب اجتماعية، وأحاديث عن رحمة الأطفال وتقبيلهم، والمزاج مع الصبي. ولكن "الأدب المفرد" فيه عدد من "الآثار" أي أقوال الصحابة وبعض التابعين، ولم يلتزم فيه البخاري ما التزمه في كتابه "الجامع الصحيح"، وهذا هو الفرق بينه، وبين صحيح البخاري. وكتب الحديث والسنة، التربوية أو ذات الاتجاه التربوي، كثيرة لا يتسع لها المقام هنا، ولعلنا نشير إليها في طيات البحث إن شاء الله.

الفصل الثالث: أسس التربية الإسلامية

الفصل الثالث: أسس التربية الإسلامية مدخل ... الفصل الثالث: أسس التربية الإسلامية تمهيد: التربية الإسلامية هي تنمية فكر الإنسان، وتنظيم سلوكه، وعواطفه، على أساس الدين الإسلامي، وبقصد تحقيق أهداف الإسلام في حياة الفرد والجماعة، أي في كل مجالات الحياة. فالتربية الإسلامية على هذا عملية تتعلق قبل كل شيء بتهيئة عقل الإنسان، وفكره وتصوراته عن الكون والحياة، وعن دوره وعلاقته بهذه الدنيا، وعلى أي وجه ينتفع بهذا الكون وبهذه الدنيا، وعن غاية هذه الحياة المؤقتة التي يحياها الإنسان، والهدف الذي يجب أن يوجه مساعيه إلى تحقيقه. وقد قدم الإسلام هذه الأفكار كلها في منظومة من التصورات مترابطة، متينة البنيان. كما قدم لنا العقائد التي يجب على الإنسان أن يؤمن بها، لكي تحرك في نفسه الأحاسيس والمشاعر، وتغرس العواطف الجديرة بأن تدفعه إلى السلوك الذي نظمت الشريعة له قواعده وضوابطه، السلوك التعبدي الذي يحقق الهدف الذي خلق من أجله الإنسان، سواء أكان هذا السلوك فرديا، أو جماعيا. فالجانب الإيماني الاعتقادي من الدين يقدم لنا أساسا راسخا من العقيدة الثابتة، والتصورات الواضحة والمترابطة، والأهداف النيرة، والحوافز الدافعة إلى السعي، الباعثة على بعد الأمل، والتفاؤل والجد والوعي. والجانب التشريعي يقدم لنا قواعد، وضوابط نقيم عليها سلوكنا، وننظم بها علاقاتنا بل هو الذي يرسم لنا خطة حياتنا وسلوكنا. والجانب التعبدي هو سلوك المسلم الذي يحقق به كل تلك التصورات، والأهداف والضوابط، والأوامر التشريعية. وعملية التربية، هي تنمية شخصية الإنسان على أن تتمثل كل هذه الجوانب، في انسجام وتكامل، تتوحد معه طاقات الإنسان، وتتضافر جهوده لتحقيق هدف واحد تتفرع عنه، وتعود إليه جميع الجهود والتصورات، وضروب السلوك، ونبضات الوجدان.

الاسس الفكرية

الاسس الفكرية مدخل ... الأسس الفكرية: مميزات التصور الإسلامي عن الإنسان، والكون والحياة: يمتاز التصور الإسلامي عن الكون والحياة، والعقيدة التي يجب أن يؤمن بها الإنسان بميزات أهمها: أ- وضوح الأفكار التي بني عليها نظام حياة المسلم، فاعتنقها ودعا إليها على بصيرة، وآمن بها وتابع تذكرها؛ لأنها هي الضابط لجميع سلوكه، وتصرفاته والرقيب على أعماله وحياته. ب- كما يمتاز بمنطقية هذه المعتقدات، ومعقوليتها وملاءمتها للفطرة العقلية، والوجدانية والنفسية. ج- وتمتاز المعتقدات الإسلامية بعرضها عرضا مقنعا إذ يستنبطها القرآن من لفت الأنظار إلى الواقع المحسوس، للتأمل فيما حولنا، وفي أنفسنا تأملا يوصلنا إلى معرفة الله، وقدرته ووحدانيته، وفقا لطبيعتنا النفسية، وفطرتنا الدينية فالباحث المنصف إذا تأمل كلام الله يلاحظ كيف يلفت القرآن نظر الإنسان إلى نفسه ليرى كيف أن الله خلقه من علق، وعلمه الكتابة والقراءة، واستخدام الكائنات، وجعله قابلا للتعلم، وكيف خلقه وكونه في رحم أمه أطوارا، ومراحل حتى تكامل خلقه، ثم ولد لا يعلم شيئا، فشب حتى أصبح خصيما مبينا. د- ولو تساءل الإنسان لماذا اتخذ القرآن هذا الأسلوب الاستجوابي الحسي العاطفي الذي يخاطب العقل والوجدان؟ ويحرك دمع العين، مع نبضات القلب، وتصورات الفكر والجنان؟ عندما كرر آيات الله في الآفاق، وفي أنفسنا؟!

لأجابنا القرآن بأنه لم يقصد بهذه الصور التي رسمها لنا عن الكون والإنسان، وكررها، ونوع أساليب عرضها في مواطن عديدة، لم يقصد مجرد المعرفة الثقافية، ولا مباراة الثقافات ولا مباراة الثقافات، والفلسفات الأخرى، ليثبت تفوقه المنطقي، وقدرته البلاغية عليها فحسب، ولا قصد تدريب عقولنا على الحفظ والفهم، بل أراد أن تتحول هذه المعرفة إلى حركة فكرية وعاطفية، ثم إلى قوة دافعة لتحقيق مدلولها في عالم الواقع أي لكي نحقق عبوديتنا لله الذي ما جعل هذه الصور الكونية الرائعة إلا تذكرة لمن يخشى، حتى نتجه إلى العبادة، والعمل الإسلامي المثمر في إعمار الكون، وتحقيق عدل الله، وشريعته في الحياة الإنسانية. وأراد من عرض آياته في الآفاق "أن ترجع البشرية إلى ربها، وإلى منهجه الذي أراد لها، وإلى الحياة الرفيعة الكريمة التي تتفق مع الكرامة التي كتبها الله للإنسان، والتي تحققت في فترة من فترات التاريخ، على ضوء هذا التصور، عندما استحال واقعا في الأرض يتمثل في أمه تقود البشرية إلى الخير، والصلاح والنماء"1. ويرجو صاحب هذا الكتاب أن يكون بحثه التربوي هذا صدى من أصداء هذا النداء الرباني، وأن يترك بدوره أثر علميا لدى الذين يقودون الحركة التربوية، أو يعملون فيها، ليعملوا على الأخذ بهذا المنهج الإسلامي التربوي في تربية الأجيال. ولذلك آثرت أن أعرض، بأسلوب القرآن، وبذكر آياته، أهم ما يمكن عرضه من الصور التي لنا فيها آيات عظمة الله، ووحدانيته ليحضنا على عبادته، ثم أعقب على ذلك بذكر الآثار، والنتائج التربوية التي تترتب على هذه الصور، والتصورات حول الكون والإنسان دون أن أقيد نفسي بسوابق أفكار من رواسب الثقافات التي لم تؤخذ من القرآن ذاته، ودون أن أقيد نفسي بعلاج انحراف معين من انحرافات الواقع الإنساني، وذلك ليقيني بأن منهج الإسلام بكليته، وكماله يصلح للنهوض بحياة الإنسان والمجتمع الإنساني بكليته، ولعلاج جميع مشكلاته بلا استثناء.

_ 1 خصائص التصور الإسلامي ومقوماته، سيد قطب الطبعة الثالثة ص8-9.

أولا: نظرة الإسلام إلى الإنسان

أولا: نظرة الإسلام إلى الإنسان من الثابت في علم النفس أن نظرة الإنسان إلى نفسه من أقوى المؤثرات في تربيته، لذلك قدمت هذه النظرة القرآنية إلى الإنسان. تمهيد: ما زال الإنسان منذ وجد على وجه الكرة الأرضية، مأخوذًا بسوء الفهم لنفسه يميل إلى جانب الإفراط حينا، فيرى أنه أكبر وأعظم كائن في العالم، وينادي بذلك وقد امتلأ أنانية، وغطرسة وكبرياء، كما نادى قوم عاد: {وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت: 41/ 15] ، وكما نادى فرعون في قومه: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 28/ 38] . ويربأ بنفسه أن يعتقد أنه مسئول أمام أحد، ويتحول إلى متأله يستهدف القهر، والجبروت والبطش، والظلم والشر والطغيان1. ويميل إلى جانب التفريط حينا آخر، فيظن أنه أدنى وأرذل كائن في العالم، فيطاطئ رأسه أمام كل شجر أو حجر، أو نهر أو جبل أو حيوان، ولا يرى السلامة إلا في أن يسجد للشمس، والقمر والنجوم والنار، وما إليها من الموجودات التي يرى فيها شيئا من القوة، أو القدرة على ضرره أو نفعه. وقد عرض الإسلام الإنسان على حقيقته وبين أصله، ومميزاته وما فضل به، ومهمته في الحياة وعلاقته بالكون، وقابلتيه للخير والشر. 1- حقيقة الإنسان وأصل خلقه: ترجع حقيقة الإنسان إلى أصلين: الأصل البعيد، وهو الخلقة الأولى، من طين، حين سواه الله ونفخ فيه من روحه، والأصل الثاني: القريب، وهو خلقه من نطفة، ولإيضاح هذين الأصلين معا قال تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ، ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [السجدة: 32/ 7-9] .

_ 1 الحضارة الإسلامية: أسسها ومبادئها، أبو الأعلى المودودي، دار العربية للطباعة -بيروت ص11.

وأوضح الله لنا خلق آدم بقوله: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر: 15/ 28-29] . وهكذا لفت القرآن نظر الإنسان إلى حقارة ذلك الماء الذي خلقه منه في رحم أمه، {مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [السجدة: 32/ 8] {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ، يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق: 86/ 6-7] {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [يس: 36/ 77] ليندد بغطرسة الإنسان، ويهذب كبرياءه، فيجعله متواضعا واقعيا في حياته، ثم بين له عناية الله به في ظلمات الرحم، حينما أنشأه جنينا، ورباه حتى أتم خلقه: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [الزمر: 39/ 6] . {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 23/ 12-14] . وذلك ليثير عنده عاطفة العرفان بالجميل، والشكر للخالق، والخشوع لله، فكان من نتيجة هذه التربية القرآنية، دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم في السجود: "سجد وجهي للذي خلقه وصوره، وشق سمعه وبصره، فتبارك الله أحسن الخالقين" أخرجه مسلم1. وفي رواية: "اللهم لك سجدت وبك آمنت ولك أسلمت، سجد وجهي للذي خلقه وصوره، وشق سمعه وبصره، تبارك الله أحسن الخالقين". 2- الإنسان مخلوق مكرم: وفي مقابل ذلك كله، بين الإسلام للنوع البشري، أنه ليس من الذلة والمهانة والابتذال، في درجة يتساوى فيها مع الحيوان والجماد، وسائر المخلوقات، فقال تعالى:

_ 1 الكلم الطيب لابن تيمية: 60، منشورات المكتب الإسلامي.

{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 17/ 70] . {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} [الحج: 22/ 65] . فقد رزق الله الإنسان قدرة جعله بها يسيطر على ما حوله من الكائنات، وسخرها الله له، فمنعه من أن يدل نفسه لشيء منها، وجعله آمنا من كل المخاوف إزاء هذه الكائنات، بل أشعره بأنها طوع يده، سخرها لمصلحته، وهذه خطوة تربوية ربانية ينشيء بها القرآن الإنسان على الشعور بالكرامة وعزة النفس، ويشعره في الوقت ذاته بفضل الله، فإذا ركب شيئا مما سخر الله له كالطائرة والسيارة، وذكر قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ، وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} [الزخرف: 43/13-14] . 3- الإنسان مميز مختار: ومما كرم الله به الإنسان، أن جعله قادرا على التمييز بين الخير والشر، فألهم الله النفس الإنسانية فجورها وتقواها، وغرس في جبلتها الاستعداد للخير والشر، وجعل عند الإنسان إرادة، يستطيع به أن يختار بين الطرق المؤدية للخير والسعادة، أو الطرق الموصلة إلى الشقاء، وبين له أن هدفه في هذه الحياة أن يترفع بنفسه عن سبل الشر، وأن يزكي نفسه، أي ينميها ويطهرها ويسمو بها، في وقت معا، نحو الفضيلة والاتصال بالله عز وجل. قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 91/ 7-10] . ولعن الله عز وجل قوما دعاهم غرورهم إلى أن يكذبوا بهذه الحقيقة، فزعموا أن النفس الإنسانية لا تطغى، قال تعالى في تمام الآيات السابقة: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا، إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا، فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا} [الشمس: 91/ 11-14] .

فكان جزاء طغيانهم أن سوى الله بهم وبمدينتهم الأرض؛ لأنهم اختاروا طريق الشر، ومعصية الله ورسوله. 4- ومما كرم الله به الإنسان وفضله: أن وهبه القدرة على التعلم والمعرفة، وزوده بكل أدوات هذه القدرة، قال تعالى: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 96/ 3-5] . وقال جل جلاله: {وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة: 2/ 31-32] . أما أدوات القدرة على التعلم، فمنها السمع والبصر والفؤاد: {جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 16/ 78] . "فالسمع معناه إحراز المعرفة التي اكتسبها الآخرون، والبصر معناه تنميتها بما يضاف إليها من ثمرات الملاحظة والبحث، والفؤاد معناه تنقيتها من أدرانها وأوشابها، ثم استخلاص النتائج منها، وهذه القوى الثلاث إذا تضافرت بعضها على بعض، نجمت عنها "المعرفة" التي من الله بها على بني آدم، والتي بها وحدها استطاع الإنسان أن يهزم سائر المخلوقات، ويسخرها لإرادته"1. وندد الله بالذين لا يستفيدون من سمعهم، وأبصارهم وأفئدتهم، فقال: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 7/ 179] . ومن هذه الأدوات اللسان والقدرة على البيان، والقلم والقدرة على الكتابة، قال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ، وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ} [البلد: 90/ 8-9] .

_ 1 أبو الأعلى المودودي، المنهج الإسلامي الجديد ط جمعية التمدن الإسلامي بدمشق 1375هـ، ثم قال: "ولو أردت التعمق في تأمل هذه الحقيقة لاهتديت في النهاية إلى أن هؤلاء الذين لا يستخدمون هذه المقدرات، أو ينتفعون بها في قدر محدود، هم الذين كتب عليهم العيش في حالة التأخر والانحطاط، تحت كنف الآخرين وسلطانهم، أما الذين يوظفون هذه القرى على أوسع نطاق فهم -على العكس- يظفرون بالسيادة والسيطرة، وهم الذين يصبح لهم حق قيادة الشعوب وتوجيهها" ص5.

وقال تعالى: {الرَّحْمَنُ، عَلَّمَ الْقُرْآَنَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 55/ 1-4] . وقال جل جلاله: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم: 68/ 1] . ومن أهم أهداف التفكير، والتعلم عند الإنسان أن يتعلم الناس شريعة الله، قال الله تعالى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 2/ 129] . ومن هذه الأهداف أن يتفكروا في خلق السموات والأرض، وفي أنفسهم. قال تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 51/ 21] . وقال جل جلاله: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ} [الطارق: 86/ 5] . وقال سبحانه: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية: 88/ 17] . وقال عز وجل: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ} [الأنعام: 6/ 50] . وفي كل هذه الآيات دليل على أن الله خلق لنا السمع، والبصر والفؤاد لنتفكر ونتأمل وننظر نظرة تمحيص، ونلاحظ ما حولنا ثم نمحص ذلك بعقلنا، وفؤادنا لنستخدم ما سخر الله لنا، أي لنتربى تربية علمية على الملاحظة والمناقشة، والاستنتاج والتفكير، فنجمع أكبر قسط من المعرفة والمخترعات، وحينئذ نظفر بميزة الزعامة على الإنسانية كما ظفر بها أسلافنا، ثم أضعناها؛ لأننا تركنا الاستفادة الحقة من سمعنا، وأبصارنا وأفئدتنا كما يريد الله منا. 5- مسئولية الإنسان وجزاؤه 1: لم يكتف الإسلام بتكريم الإنسان، وتفضيله وتمييزه على الكائنات، بل حمله مقابل ذلك مسئولية عظيمة، وكلفه بتكاليف كثيرة، ورتب عليها الجزاء الوفاق. حمله مسئولية تطبيق شريعة الله وتحقيق عبادته، تلك المسئولية التي أبت سائر المخلوقات أن تحملها، وأشفقت من حملها، قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا}

_ 1 تطلق لفظة الجزاء على مقابلة الخير بالخير، ومقابلة الشر والشر، قال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 42/ 40] ، وقال: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 55/ 60] .

الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا، لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 33/ 72-73] . وكما جعل الله الإنسان حرية، وإرادة وقدرة على التمييز بين الخير والشر، كذلك جعله مجزيا يوم القيامة بما اختار من خير أو شر. قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 99/ 7-8] . وكذلك جعل الله الإنسان مسئولا عن سمعه، وبصره وفؤاده وجميع جوارجه، فلا يجوز له أن يستعملها إلا في الخير، قال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} [الإسراء: 17/ 36] . وهذا الشعور بالمسئولية يربي في نفس الإنسان الوعي، واليقظة الدائمة والبعد عن المزالق، وعدم الاستسلام للأهواء، والعدالة والبعد عن الظلم، والبغي والاستقامة في كل سلوك الإنسان وشئونه. وكذلك قرر رسول الله صلى الله عليه وسلم مسئولية الإنسان عن ماله، وعن عمره وعن شبابه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزول قدم عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه؟ وعن علمه ما فعل فيه؟ وعن ماله من أين اكتسبه، وفيم أنفقه؟ وعن جسمه فيم أبلاه؟ " 1. 6- المهمة العليا للإنسان، عبادة الله: وجماع كل هذه المسئوليات، مسئولية الإنسان عن عبادة الله وتوحيده أي إخلاص العبادة له وحده، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 51/ 56] . وقال سبحانه: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 72/ 18] .

_ 1 أخرجه الترمذي عن أبي برزة، وهو حديث صحيح، انظر صحيح الجامع الصغير حققه الشيخ محمد ناصر الدين الألباني 6/ 148ط، المكتب الإسلامي.

ثانيا: نظرة الإسلام إلى الكون

ثانيا: نظرة الإسلام إلى الكون: تمتاظ نظرة الإسلام إلى الكون بأنها ليست نظرة عقلية محضة، ولكنها تعمل على تحريك عواطف الإنسان، وشعوره بعظمة الخالق، ويصغر الإنسان أمامه، وبضرورة الخضوع له، كل ذلك إلى جانب البراهين العقلية القاطعة على وحدانية الله، وألوهيته في هذا الكون وسائر الأكوان التي لا نراها. 1- فالكون كله مخلوق لله خلقه لهدف وغاية، وما كان اللعب والعبث باعثا على الخلق. قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ، مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الدخان: 44/ 38-39] . وقال سبحانه: {مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمّىً} [الأحقاف: 46/ 3] . وأما تحريك عواطف الإنسان فبالاستفهام، والحض على العبادة، وتوحيد الله بعد تأمل مخلوقاته، قال سبحانه: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ، لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ، قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} [الزمر: 39/ 62-64] {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 39/ 62-67] . الآثار التربوية: ولهذه النظرة الإسلامية إلى الكون آثار تربوية منها: - ارتباط المسلم بخالق الكون، وبالهدف الأسمى من الحياة، وهو عبادة الله. - تربية الإنسان على الجدية، فالكون كله أقيم على أساس الحق، ووجد لهدف معين وإلى أجل مسمى عند الله، وليس العبث واللهو من شأنه تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ، لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 21/ 16-17] .

وهذا يعلم الإنسان أن يبحث عن غاية كل ظاهرة من ظواهر الكون، وأن يبعد تفكيره عن اللهو والعبث والضياع، وأن يكون تأمله لهذا الكون تأملا منطقيا علميا، ولتحقيق هذا واستكماله، لفت القرآن نظر المتأمل إلى أمرين آخرين غير الجدية، والغاية، سنراهما في الفقرتين التاليتين: 2- خضوع الكون لسنن سنها الله وفق أقدار قدرها الله: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ، وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ، لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [36/ 37-40] ، وقال تعالى: {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ، وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [الحجر: 15/ 19-21] . فدورة الشمس والقمر في فلك لا يحيدان عنه، وفي مواسم لا تتخلف، كل ذلك يجري حسب سنن كونية سنها الله، ومقادير قدرها الله. وكذلك جميع الأحياء التي على الأرض جعل الله لها معايش، مقدرة مقننة ما ينزلها إلا بقدر معلوم. وقد علم الله الإنسان الحساب بتكرار الليل والنهار، وتقدير الفصول الأربعة، والأشهر القمرية، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} [الإسراء: 17/ 12] . وقال عز وجل: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا} [الأنعام: 6/ 96] . والحق أن علم الحساب كله قائم على تكرار الوحدات المتساوية، وعدها وإضافتها بعضها إلى بعض، إما على مجموعات مختلفة العدد "الجمع"، وإما على تكرار مجموعات متساوية العدد "الضرب"، وكذلك "قسمة" الأعداد المؤلفة من وحدات

متجانسة متساوية، أو إنقاصها أي "طرح وحدات" منها، ثم تفنن الإنسان في الكسور، والجبر، والتفاضل والتكامل. وكل ذلك يرجع في أصله إلى ما تعلمه الإنسان الأول من عد الأيام، والأشهر وعد السنين، وحسابها، وما يزال الإنسان يضبط أوقاته على هذا "الميقات الرباني" الذي هو دورة الأرض، والقمر، والفصول الأربعة. الأثر التربوي: ومما تقدم نجد أن القرآن ربى عقل المسلم على مبدأين آخرين علميين، غير مبدأي السلبية، والغائية والتفكير الجدي المنطقي، هما: 1- تكرار حوادث الكون حسب سنن سنها الله له، وهو جل جلاله وحده يملك أن يغيرها إذا شاء، وهذا هو المبدأ الذي بنيت عليه اليوم جميع القوانين العلمية، وهو أساس التفكير العلمي، الذي به اكتشف الإنسان، واخترع كل مظاهر الحضارة. 2- أن سنن هذا الكون وجميع حوادثه، وظواهره وكائناته: من أصغر ذرة إلى أكبر جرم قد خلقها الله وسيرها، أو أنزلها بقدر معلوم، لا يزيد ولا ينقص، ولا يتعدى شئء فيه فيختل توازنه، أو يخل بنظام غيره، مما جاوره أو قابله، أو تأثر به أو أثر فيه، ومن هذه المبادئ التي استوحاها علماء المسلمين من القرآن، وارتقوا بها في العلوم الطبيعية، استقت أوروبا مبادئ التفكير العلمي، ووحدة قوانين العلم الحديث، ومناهج التفكير العلمي المنطقي، وهذا هو المبدأ الثاني من مبادئ المنطق العلمي "إقامة الملاحظة العلمية على أساس القياس الكمي لا على أساس الوصف الكيفي، إنه المبدأ الذي يربي العقل على الدقة ليأخذ كل شيء بمقياس. 3- الكون مسير، ومدبر دائما بقدرة الله: فالله الذي رتب سنن الكون بقي -وما زال- قائمًا على تسييره وتدبيره أمره، يمده بقوته: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [الحج: 22/ 65] . {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [فاطر: 35/ 41] .

{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} [الروم: 30/ 25] . {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السجدة: 32/ 5] . والإنسان جزء صغير من هذا الكون، فلا جرم أنه خاضع في كل شئونه وحياته وموته، لتقدير العزيز العليم، ولسنن سنها لله. {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام: 6/ 61] . 4- وكذلك الإنسان: قد رتب الله سننا اجتماعية لحياته: فأرسل على أساسها الرسل، وعذب الأمم، وأهلك بعضها، ورتب آجالها، وغير أحوالها. قال تعالى: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ، لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرعد: 13/ 10-11] . وقال سبحانه: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [آل عمران: 3/ 137] . وقد تأثر، بل توجه، ابن خلدون بهذه السنن الاجتماعية، المذكورة في القرآن، عند وضع معظم نظرياته الاجتماعية، بل وضع أساس علم الاجتماع في مقدمته المشهورة. 5- الكون كله قانت لله: ومن الفقرتين السابقتين ينتج معنا أن كل ما في الكون خاضع لله، ولتدبيره ولأمره، ولإرادته ومشيئته، وقد بين الله في مواضع من كتابه العزيز: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ، بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُون} [البقرة: 2/ 116-117] .

{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: 17/ 44] . الأثر التربوي: إذا كانت كل الكائنات والجمادات تخضع لبارئها، وتشهد بعظمته وتنزيهه عن كل نقض، فأجدر بالإنسان العاقل المفكر أن يعترف لربه بالنعمة، والفضل ويستشعر عظمته، ويسبح بحمده ويقدس له، وهذا من أهم النتائج التربوية الناجمة عن عرض الإسلام للكون ولخصائصه، بهذا الأسلوب التربوي. 6- كثير ما في الكون مسخر للإنسان زاخر بالنعم: يمتاز الدين الإسلامي، بأن جعل الإنسان يستخدم ما حوله من الكائنات، وقوى الكون، ولفت نظره إلى أنه مسلط عليها بإذن الله، وأن الله قد سخرها له، من أكبر الأجرام التي تؤثر في حياته كالشمس، إلى أصغر الكائنات التي يستطيع الاستفادة منها كالنحل، والذرة. قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ، وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 14/ 32-34] ، وقال سبحانه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة: 2/ 29] . {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ، وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ، وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ، أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 16/ 12-18] .

الأثر التربوي: هذه الآيات وكثير أمثالها، ترقق قلب الإنسان، وتربي عواطفه، وانفعالاته كل الخشوع لله، والشعور بفضله، وعنايته، ورحمته، وحلمه، وتدفع الإنسان إلى حمد الله وشكره، وتسبيحه، وتوحيده. وهي تربي العقل على مبدأ علمي عملي، كان آخر ما اهتدى إليه الفكر الغربي، هو مبدأ التقنية، واستخدام القوانين العلمية وقوى الكون لرفاهية الإنسان. ذلك أن كل آية من هذه الآيات التي نزلت منذ أربعة عشر قونا، تقول للإنسان: استخدم حرارة الشمس التي سخر الله لك، واستخدم ضوء القمر، والرياح والنجوم، والأنهار، والجبال، والبحر، وكل شيء سخره الله لك، وجعل مفتاحه بيدك. وهذه قاعدة تشمل كل ما في الأرض، ألم يقل الله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 2/ 29] . هذا من الناحية العلمية والاجتماعية والحضارية، أما من الناحية التربوية، فقد ربانا القرآن التربية التي لا يطغى فيها الإنسان، ولا يتجاوز حده في استخدام هذه الأمور، فلا يفسد ماء الأنهار، ولا يقتل كائنات البحار، ولا يستعمل نعم الله في سفك الدماء، وتعميم الدمار، ولا يظلم أخاه الإنسان، فيغتصب خيراته بغيا وعدوانا، أو زورا وبهتانا. والتربية الإسلامية هي التي ضمنت هذا الجانب، فالإنسان، تحت رايتها، إنما يستخدم ما سخر الله له باسم الله، وبأمره، وفي حدود شريعته، والله لا يحب الفساد ولا يسمع بالظلم والعدوان، بل يدعو إلى العدالة بين الناس، والتراحم والتكافل والتعاون، فإذا ذكر الإنسان اسم الله على كل سلوكه، وتصرفاته وعلى كل ما يستخدمه أصبح سلوكه مثاليا، وامتنع عن كل بغي، وعدوان وإفساد وبهتان.

ثالثا: نظرة الإسلام إلى الحياة

ثالثا: نظرة الإسلام إلى الحياة تختلف التربية باختلاف نظرة المربين إلى الحياة، من تفاؤل إلى تشاؤم إلى الشعور بالمسئولية، لذلك لا بد من توضيح أهمية الحياة، ودورها في الإسلام. مبدأ الحياة وكيف جعلها الله دار اختيار وامتحان: إن الإسلام قد نظر إلى الحياة نظرة جدية ملؤها الشعور بالمسئولية، وتوجيه الدوافع، وعندما عرضنا نظرة الإسلام إلى الإنسان رأينا أن للحياة مبدأين، أولهما عندما خلق الله آدم من طين، ثم سواه ونفخ فيه من روحه، وأمر الملائكة أن تسجد له: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ، إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} [الحجر: 15/ 30-31] . ومنذ مبدأ الحياة البشرية الأول ميز الله هذا الجنس عن الملائكة، وسائر المخلوقات بميزتين: الميزة الأولى: العلم والعقل، والإرادة والاختيار، والتمييز بين الخير والشر. والميزة الثانية: أنه مخلوق من طين ثم من دم ولحم، وأنه تبعا لذلك مجبول على الشهوات والدوافع الغريزية، وما يتفرع عنها من الجهل وسفك الدماء، والإفساد والخسران، والهلع، والجزع، والطمع. {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا} [الأحزاب: 33/ 72] . {وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [العصر: 103/ 1-3] . {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة: 2/ 30] . {إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا} [المعارج: 70/ 19-20] . {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 100/ 8] . {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} [الفجر: 89/ 20] ، وفيه معنى غريزة الطمع وحب التملك. {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 4/ 28] وفيه معنى غريزة الانقياد. {وَكَانَ الْأِنْسَانُ عَجُولًا} [الإسراء: 17/ 11] وفيه إشارة إلى السرع وعدم الصبر.

{وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا} [الإسراء: 17 /100] . {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [الأعلى: 87/ 16] وفيه إشارة إلى غريزة حب البقاء. وقد جمع الله للإنسان هاتين المجموعتين من المميزات، والصفات الإنسانية المتقابلة، وجعل الإنسان قادرًا على اختيار طريق الخير أو الشر، وجعل ذلك أساسا لحياته النفسية، وجعل عنده مقابل كل صفة من هذه النقائض قدرة عقلية على الضبط والاعتدال، وبالرجوع إلى الشرع والخوف من الله وعبادته، وفي مقابل ذلك كله، ولكي ندرك كمال التصور القرآني للنفس، والكون والحياة، وترابط هذه التصورات، وتقابلها وتكاملها، نتأمل وصف القرآن للحياة، فنجد أن الإسلام قد جعل هذه الحياة الدنيا دار امتحان وابتلاء، يمر بها الإنسان، ليصل إلى الآخرة، وهي حياة دائمة لام موت بعدها، فهنالك الحساب، فإما نعمي أبدي، وإما عقاب وعذاب. ولكن فيم يمتحننا الله، وما الهدف الذي يجب علينا أن نحققه؟؟ 1- بدء الامتحان، والاختبار الإلهي لأول البشر: منذ البداية الأول لحياة الإنسان ابتلى الله عبده آدم، وهو أول من خلق الله من البشر، وكلفه بالامتناع عن الأكل من شجرة عينها له في الجنة، وسلط عليه إبليس، فوسوس له وزين له معصية ربه، حتى عصى ربه: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 20 /121] . وعاقبة ربه فأهبطه من الجنة، ونشأت العداوة بين إبليس ونسله، وبين آدم وذريته، وتاب الله على آدم: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه: 20/ 122] ، وهداه وأنزل عليه وحيا، وشريعة له ولذريته. وبدأ الامتحان منذ ذلك الوقت، وما يزال كل من أبناء آدم يمر بهذا الامتحان، واستمر الصراع في نفس ابن آدم، وفي جموع البشر، بين الخير والشر، بين الإيمان والكفر، بين أتباع الهوى والضلال، وبين أتباع الشريعة والإيمان، بين إبليس وجموعه وأتباعه، وبين الرسل والأنبياء وأتباعهم. حتى ختم الله الشرائع والأديان، بهذه الشريعة الإسلامية، وتعين على جميع البشر أن يتبعوها.

فأصبحت ورقة الامتحان التي تم نشرها بين جميع البشر، ليتأملوا موضوعها ويستجيوا لمطلوبها، هي المصدران الرئيسيان للشريعة الإسلامية: كتاب الله وسنة رسوله، وقد لخص الله لنا هذا الصراع الطويل منذ آدم، بنداءات وجهها إلى بني آدم، منها قوله تعالى: بعد أن وصف قصة آدم التي لخصناها: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 7/ 27] . {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِين} [الأعراف: 7/ 31] . {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأعراف: 7/ 35-36] . نتائج الامتحان: ثم يصف الله لنا في بضع عشر آية نتيجة الخاسرين في هذا الامتحان، ونتيجة الرابحين المؤمنين الذين استجابوا لنداء ربهم، فأدخلهم جنات النعيم، والحوار الذي دار بينهما، وسنورد بعض هذا الوصف عند عرض الحياة الآخرة، بعد أن نستوفي وصف الحياة الدنيا. 2- وصف القرآن للحياة الدنيا: الدنيا متاع مؤقت يستمتع به الإنسان، فليس له أن يجعلها هدفا وغاية له، فيغتر بها، وينسى الهدف الذي خلق من أجله، والامتحان الذي أعده الله له، وأن الآخرة هي دار البقاء، وأن الدنيا هي دار الفناء. {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} [البقرة: 2/ 86] . {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ، أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يونس: 10/ 7-8] .

{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ، أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 11/ 15-16] . {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران: 3/ 14] . {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة: 9/ 38] . {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 28/ 77] . {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 7/ 32] . ومن هذه الآيات نأخذ أهم صفات الحياة الدنيا، وعلاقة الإنسان بها فهي: أ- متاع مؤقت ومكان عبور، ووسيلة إلى الآخرة، ولا يجوز اتخاذها غاية. ب- الدنيا مملوءة بالزينة والزخرف، والشهوات والملذات، وهذا من تمام الابتلاء والاختيار. ج- يجوز للمسلم، بل يحق له أن يستمتع بالحياة الدنيا، وزينتها في حدود الشرع، ويشترك بها مع غيره من الكفار والملحدين، ولكن بشرط إلا تلهيه عن طاعة الله، أي يجب عليه أن يبتغي بها الدار الآخرة، وأن يسخرها في طاعة الله، فيستمتع بالمال ليؤدي زكاته، ويستمتع بالولد، ليربيه على طاعة الله وشريعته، وهكذا يستمتع بما أباح الشرع، بهدف تحقيق الشرع. د- الدنيا عالم له قوانينه الاجتماعية، والبشرية التي سنها الله بين الشعوب والأمم، فمن سعى في الدنيا استوفى نتيجة سعيه في الدنيا، ومن سخر الدينا لإرضاء الله ربح في الدنيا والآخرة.

هـ- الحياة الدنيا قصيرة الأمد، لا تعدو أن تكون ساعة، أو يوما من أيام الآخرة: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا، يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا، نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا} [طه: 20/ 102-104] . و الحياة الدنيا دار تعب، وكدح وجد. {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيه} [الانشقاق: 84/ 6] . ز- المؤمنون ينصرهم الله في الدنيا والآخرة، فليست الدنيا لظهور الكفر، والفساد فقط. {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 40/ 51] . ح- الحياة الدنيا دار لعب، ولهو، وتفاخر، وتكاثر: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ} [الحديد: 57/ 20] . {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ، حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِر} [التكاثر: 102/ 1-2] . الآثار العملية والتربوية: وهكذا نجد أن هذه الصفات، التي وصف الله بها الحياة، بمجموعها، تدعو المسلم إلى أمور، وتربيه على عادات أهمها: أ- ألا يغتر بالحياة الدنيا، ويغفل عن الهدف الذي أوجدت من أجله بل يحاسب نفسه، ويعمل فيها على أنها دار امتحان مؤقت، فيبقى جادا يقظا، صبورا على الشظف، مغامرا تقدميا لا يقف طموحه عند حد، بل يتجاوز الأهداف الدنيوية القريبة، فيقوم بمشاريع تشبه المعجزات. ب- ألا يحرم نفسه مع ذلك من خيراتها، بل يتمتع بهذه الخيرات على أن يحقق، بهذا التمتع عبوديته لله، ويستهدف من وراء كل متعة إرضاء الله. ج- أن يصبر على بلواء الحياة وبأسائها؛ لأنه عرف مسبقا أنها دار كدح وابتلاء، فلا ييأس ولا يتذمر بل يصبر، ويستعد للجهاد. د- أن يجند الفرد والمجتمع كل عدته لمنازلة أعداء الفضيلة والخير، من الجنة والناس، وأن يعلم أن الله ينصر المؤمنين، إن هم حققوا إيمانهم في سلوكهم واتبعوا كتابه ورسوله، وأخذوا بأسباب القوة والعزة، والمتعة كما أمرهم الله. أما وصف الحياة الآخرة فهو واحد من أركان الإيمان، وسنعرضه مع العقائد إن شاء الله.

الأسس التعبدية

الأسس التعبدية: تمهيد في معنى العبادة: لكل نظام فكري يراد له البقاء، رياضات وأساليب سلوكية، تغلب عليها في هذا العصر الصفة الجماعية، وتكون عادة مصحوبة بهتافات، وجهود وحركات جسمية منظمة، ويؤدونها جماعات جماعات، كل جماعة بحسب عمرها وثقافتها، ومكانتها، وذلك ليواكبوا بين انطباعات الإنسان النفسية والفكرية، وبين طاقاته الجسمية، اعترافا منهم بأن الكائن البشري وحده لا تتجزأ، بجسمه وعقله وروحه. بيد أن الإسلام قد سبق إلى هذا الاعتبار، وأوجد تكاملًا تربويا لم يتوصل إليه أن نظام من هذه الأنظمة. فبينما تبدو رياضات اليوم، وتجمعات الناس نوعا من العبث وإضاعة الوقت، ليس بينها وبين الفكر السليم، والمنطق، والفطرة النفسية رابط حقيقي متين كـ: {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ} [الأعراف: 7/ 51] . تظهر لنا العبادات والنسك الإسلامية، أعمالا تعبدية، ورياضيات روحية، عميقة الجذور، ترتبط بمعان سامية، تنبع من فطرة النفس، وبذكريات عظيمة هزت التاريخ، وتقوم بتنظيم حياة المسلم اليومية "بالصلاة"، وحياته الغذائية السنوية "بالصوم"، وحياة المجتمع المسلم الاقتصادية المتكافلة "بالزكاة"، كما تقوم بتنظيم وإحياء وحده المجتمع الإسلامي الكبير، والروابط والمشاعر الاجتماعية للأمة الإسلامية كله في شتى أصقاع الأرض "بالحج". ولكن السر في هذه العبادات، يكمن في أنها كلها ترتبط بمعنى واحد، هو الذي وحد نوازع الإنسان كلها، وهو الذي ألف بين جميع أفراد المجتمع المسلم، إنه

العبودية لله وحده، وتلقي التعليم والأوامر من الله وحده في أمر الدنيا، والآخرة كله. {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال: 8/ 63] . {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 6/ 162-163] . وما هذه اللحظات والدقائق، وبعض الساعات أو الأيام، التي تشغلها العبادات في حياة المسلم، إلا تذكيرًا بهذه الصلة الدائمة بالله، وترويضًا للنفس على الخضوع الدائم لأوامر الله، فالمسلم يستيقظ لذكر الله، عند الفجر، وينام بأمر الله، بعد صلاة العشاء، ويأكل ما أباحه الله، ويمسك عن الطعام عندما يمنعه الله عن الطعام، ويعطي من المال ما توجبه عليه شريعة الله، ويتمتع بالمال كما يسمح له الله، ويأتي شهوته من حيث أمره الله، ويمتنع عن الشهوات الدنيئة الضارة التي حمانا منها الله، فإذا خرج من بيته ذكر الله بدعاء خاص، وإذا دخله ذكر الله بدعاء آخر، وإذا نام ذكر الله، وغذا رزق مولودًا ذكر الله، وإذا دخل السوق للكسب ذكر الله، إلخ.. الأثر التربوي للعبادة: 1- العبادات في الإسلام تعلمنا الوعي الفكري الدائم، فما من عبادة يقبلها الله إلا إذا اتصفت بشرطين: أ- إخلاص النية والطاعة لله. ب- والإتيان بالطاعة على الشكل والأسلوب الذي سنه رسول الله، ثم الاستمرار على هذين الشرطين حتى تنتهي العبادة أي: 1- الاستمرار في الخضوع لله والتفكير بعظمته، والشعور بالانقياد له. 2- والاستمرار في وعي الإنسان لعبادته، وتمشيها مع الشريعة والتعاليم الشرعية بشكها وموضوعها، وما دامت كل أعمال المسلم عبادات

يقصد بها وجه الله، فإن هذه الوعي الفكري يجعل الإنسان المسلم إنسانا منطقيا واعيا في كل أمور حياته، إنسانا منهجيا، لا يقوم بعمل إلا ضمن خطة، ووعي وتفكير. لا يخدع المسلم؛ لأنه في يقظة دائمة يراقب الله في كل أعماله، وهذا هو لب العبادة؛ ولأنه يعبد الله على ضوء خطة مرسومة، ويقيم حياته على ضوء هذه الخطة، إنها الشريعة الإسلامية. 2- كما أن العبادات تربي المسلم على الارتباط بالمسلمين، حيثما كان، ارتباطا واعيا منظما متينا مبنيا على عاطفة صادقة، وثقة بالنفس عظمية، فهو ارتباط واع؛ لأنه ليس طاعة عمياء للمجتمع، ولا هياجا جماهيريا عابرا، يخبط خبط عشواء! إن الأعمال التعبدية التي يأتيها المسلم مع المسلمين تكسبه لذة الشعور بقوة الجماعة، وعواطفها المشتركة، إلى جانب لذة المناجاة الفردية، والشعور بقوة الذات المسلمة التي تستمد قوتها من خالقها بالدرجة الأولى، فإذا انفرط عقد المسلمين أو منعوا من الاجتماع لسبب طارئ، لم يفقد أفرادهم مقوماتهم الذاتية، من جهة، ولكنهم مع ذلك يعودون إلى التجمع من جديد على أساس عقيدتهم من جهة ثانية، لعلمهم بأن عباداتهم منفردين لا تكون كاملة، ما داموا قادرين على التجمع، بل إن بعض العبادات قائمة على التجمع كالحج والزكاة، فمهما منعوا من إقامة المجتمع المسلم فلا بد لهم من العودة إليه، وتوحيد القلوب والنفوس المؤمنة، حتى تصبح كالجسد الواحد. 3- والعبادة في الإسلام تربي النفس المسلمة على العزة والكرامة، وإباء الضيم، والاعتزاز بالله؛ لأنه أكبر من كل كبير، وأعظم من كل عظيم، بيده رقاب الجبابرة يقصمهم متى شاء، وبيده الموت والحياة، والرزق، والملك والجاه والسلطان، هذه المعاني وأمثالها يرددها المسلم دائما في عباداته اليومية1، والسنوية ويرددها الخطباء في الاجتماعات التعبدية الأسبوعية، فإذا استيقظت وعاشت في نفوس المجتمع المسلم

_ 1 حتى أنه يكبر الله في صلواته كل يوم زهاء مئة مرة، ويسمع تكبير الله على المآذن نحو ثلاثين مرة كل نهار وليلة، فيرددها مع المؤذن.

وفي حياة أفراده وتعاملهم وعلاقتهم، استقام كل إنسان ولم حدوده، فلا ظلم ولا استعلاء، ولا غمط ولا استغلال، ولا ذل ولا استعباد، ولا تفريق بين الطبقات، الكل تحت لواء الله، والله أكبر من أن يرضى لعباده الظلم. 4- والعبادات المستمرة في جماعة واحدة، تحت لواء عقيدة واحدة، حيث الجميع يناجون ربا واحدا، ثم إذا فرغوا تعارفوا وتناصحوا وتشاوروا، قبل أن ينفضوا من اجتماعهم. كل ذلك يعلم المسلمين الحياة الشورية، القائمة على التعاون، والمساواة، والعدل؛ المساواة أمام القانون؛ لأنهم متساوون من حيث المبدأ أمام الله الذي أنزل القانون والتشريع، كما أن العبادة تربيهم على العدالة في المعاملة بإعطاء كل ذي حق حقه، وحقه في المجتمع هو العمل اللائق به وبمهاراته وقدراته، وتقواه وصلاحه، سواء كان ينتسب لهذه الاسرة أو تلك. 5- العبادة في الإسلام تربي عند المسلم قدرا من الفضائل الثابتة المطلقة1، لا تقف عند حدود الأرض، أو القوم والمصلحة القومية، أو الحزب الحاكم، ولكنها تعم التعامل مع البشرية جمعاء، فالمسلم هو المسلم بأخلاقه وإنسانيته، أتى سار, وحيثما حل؛ لأن ربه واحد يراقبه حيثما كان. أما البريطاني مثلا، فإنه قد لا يسرق، ولا يكذب، ولا يغش، ولا يقتل، ولا يغتصب، ولكن ذلك كله، يكون منه في حدود بريطانيا، وفي مصلحة القومية البريطانية، أما إذا انتقل خارج الحدود البريطانية، خارج الوثن الذي ربي على عبادته، وقامت تربيته على أساسه، فهما هنا تفجؤك منه أخلاق لم تعهدها منه: الأنانية اليغيضة والجشع، والغش والخداع، وربما قتل الناس ونهب أموالهم وخيراتهم بالمليارات: قتل امرئ في غابة جريمة لا تغتفر ... وقتل شعب آمن مسألة فيها نظر..! وفي هذا خير مثل على الفارق الحاسم بين منهج التربية الإسلامية، ومناهج التربية غير الإسلامية.

_ 1 محمد قطب: منهج التربية الإسلامية 39-40.

وفيه أوضح دليل على عظمة منهج الإسلام التربوي حين يقيمه الإسلام على أساس عبادة الله بمعناها الواسع الشامل، وعلى أساس الصلة الدائمة بالله، لا على أساس الأمور الوضعية البشرية، والاعتبارات الأرضية الدنيوية. 6- والتربية على أساس العبادة تزود الإنسان دائما بشحنات متتالية من القوة المستمدة من قوة الله، والثقة بالنفس المستمدة من الثقة بالله، والأمل بالمستقبل، المستمد من الأمل بنصر الله وثواب الجنة، والوعي والنور المستمد من نور الله. هذه الشحنات التي تدفع المسلم دائما إلى الإمام، وتهبه القدرة المستمرة على الدأب والجهد، وتقديم كل طاقاته حية منتجة، واعية مستمرة. والإسلام يحرص حرصا شديدا على استمرار هذه الشحنة الحية التي تعبئ القلب، وتنير له الطريق في أصعب الظروف وأحلكها، فينهض من كونه كلما تعثر، ويستنير بنور العبادة والصلة بالله كلما أظلم ما حوله، حتى يقصد عبادة الله في كل أعماله، ومعاملاته وقضاء مآربه. والإسلام صريح في اعتبار العمل هو العبادة، ما دام القلب يتجه فيه إلى الله: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُون} [البقرة: 2/ 177] . هذا هو منهج العبادة الذي يرسمه الإسلام، ويقيم عليه أسلوبه ومنهجه التربوي مشترطا فيه الصدق مع الله، والتقوى لله، أي الصلة الدائمة بالله1. 7- ثم إن تربية المسلم بالعبادة تجدد نفسه باستمرار، لا بما تمنحه العبادة من شحنات من النور، والقوة والعاطفة، والأمل فحسب. بل بالتوبة التي تزيل عن قلبه، وتصوراته ما قد يعلق بهما من أدناس، وتمحو من جوارجه أثر ما قد يكسب من آثام أو أخطاء.

_ 1 هذه الفقرة مستمدة من كتاب منهج التربية الإسلامية، محمد قطب 41-42.

واكتساب الإثم يعني انحراف الإنسان عن جادة الصواب، أي عن طاعة الله وعبادته التي أخذ بها نفسه، منذ أن آمن بالله حق الإيمان، وأسلم وجهه لله، أي استسلم لأوامره ومناجاته، والخضوع له، والتوبة من الذنب أو الإثم هي الرجوع عن ارتكابه، والعزم على تركه وأن يستبدل به الإنسان عملًا صالحًا. وهي جزء من العبادة؛ لأنها تقوم على تذكرة رقابة الله، ونعمه وجبروته وعقابه، وهذا التذكير يدعو إلى الندم على ما فرط الإنسان في جنب الله، والإقلاع عن الذنب، والقيام بالعمل الصالح. بل هي عبادة راتبة يومية ندب إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان يستغفر بعد كل فريضة، وكان يستغفر كل يوم سبعين مرة. وقد أمر بها القرآن قال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 24/ 31] . كما أخذ الله العهد على نفسه أن يمحوا أخطاء التائبين، ويغفر لهم: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 6/ 54] . فالتوبة تطهير مستمر للنفس، ورجوع مستمر إلى الله، وقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل صيغة للتوبة، والاستغفار فقال: "سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت"، ومن قالها حين يصبح موقنا بها، فمات من يومه دخل الجنة، ومن قالها حين يمسي موقنا بها، فمات من ليلته دخل الجنة" 1. وقد ثبت لدى علماء النفس، والطب النفسي أو الصحة النفسية، أن التوبة تشفي من كثير من الأزمات، والأمراض النفسية؛ لأنها تعين على إعادة تكيف الإنسان مع نفسه، ومع مبادئه ومثله الأعلى، ومع مجتمعه القائم على المثل الأعلى، الذي هو عباة الله في النظام الإسلامي، ومراقبته، كما أنها تربي المجتمع على التسامح بين أفراده. وفي هذا المعنى "التسامح" يقول الله تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 24/ 22] . وكان أبو بكر قد أقسم ألا يعود إلى إعطاء "مسطح" الذي روج الإفك، وهو اتهام عائشة رضي الله عنها، وألا يتصدق عليه بعد ذلك، وكان قبل ذلك يتعهده بالصدقة، فلما نزلت هذه الآية في حق أبي بكر وأمثاله قالوا: "بلى نحب أن يغفر الله لنا"، وعفى وصفح عمن تكلم في عرض ابنته. لأن التوبة وطلب المغفرة من قد علمته أن يصفح عن الناس كما يحب أن يغفر الله، ويصفح عنه.

_ 1 زاد المعاد ص16، تأليف ابن قيم الجوزية، مصطفى البابي الحلبي الطبعة الثانية 1369هـ، وقد أخرجه البخاري. انظر الكلم الطيب، لابن تيمية ص32 منشورات الكتب الإسلامي 1950م.

الأسس التشريعية

الأسس التشريعية مدخل ... الأسس التشريعية: الشرع في القرآن الكريم هو سن التعاليم الدينية، وبيان العقيدة التي يجب الإيمان بها، وعبادة الله على أساسها، وإصدار الأوامر والنواهي التي تحقق ذلك كله، وهو من خصائص الله تعالى، وكل من سمح لنفسه بالتشريع، أو أطاع غيره في غير ما شرع الله من أمور الدين، وما يرتبط به ومما وضع الله له تشريعا، فقد أشرك مع الله إلها آخر، وفي هذا المعنى يقول الله تعالى في حق من اتخذ مشرعا له من دون الله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 9/ 31] ، وروى الإمام أحمد1 عن عدي بن حاتم أنه دخل على رسول الله، وهو يقرأ هذه الآية قال فقلت: إنهم لم يعبدوهم فقال صلى الله عليه وسلم: "بلى إنهم حرموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام، فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم". وقال سبحانه: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 42/ 21] . وقال: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} [الشورى: 42/ 13] .

_ 1 مختصر تفسير ابن كثير، اختصار محمد علي الصابوني ص137 المجلد الثاني ط، دار القرآن.

أولا: أثر الشريعة في تربية الفكر

أولا: أثر الشريعة في تربية الفكر الشريعة الإسلامية أساس عظيم من أسس التربية الإسامية، فهي بمعناها القرآني الواسع بيان للعقيدة، وللعبادة، ولتنظيم الحياة، ولتحديد تنظيم جميع العلاقات الإنسانية. 1- فهي أساس فكري يشمل كل ما رأينا من التصورات الفكرية عن الكون والحياة والإنسان، إنها تشمل موقف الإسلام من الإنسان أو نظرته إليه، ونظرة الإسلام إلى الكون والوجود، وعلاقة المسلم بذلك كله. وهي بهذا ترسم للمسلم صورة منطقية متكاملة ليتصور علاقته بالكون، وليعرف مبدأه، ومصيره وقيمته ومكانته، ووظيفته، وهدفه، وهي بهذا تصوغ عقل المسلم صياغة خاصة، تجعل قدرته على العطاء أعظم من طاقاته، وأمله أوسع من إمكانياته، مدى تفكيره أوسع من إحساساته. 2- كما أنها تقدم للمسلم قواعد ونظما سلوكية تجعل حياته مثالا للدقة، والنظام والأمانة والخلق الرفيع، والمنهجية والوعي السليم، والتفكير في كل ما يعمل أو يريد عمله قبل الإقدام عليه، أي التصميم قبل التنفيذ، وهذا يربي عند المسلم عادة عظيمة ومفيدة، هي أن يفكر دائما قبل أن يعمل، وأن يكون هادفا ومتقنا، ومنتجا في كل ما يعمل. 3- الشريعة تربي الإنسان على التفكير المنطقي عن طريق استنباط الأحكام غير أن أحكام الشريعة، كما جاءت في القرآن والسنة، بعمومها وشمولها، لم توضع لعلاج مواقف فردية، أو حالات جزئية بخصوصها، بل وضعت ليستفاد منها في كل العصور والأزمان، ولدى كل موقف يصادفه فرد، أو جماعة من بني الإنسان.

ولذلك قال الفقهاء، وعلماء الأصول: "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب". ومن ذلك كانت مرونة الشريعة الإسلامية، وحيويتها، وقدرتها الدائمة على العطاء، وإصدار الأحكام في أحلك الظروف وأصعبها، وتقديم العلاج لكل داء اجتماعي، أو نفسي. ومن هذه المرونة نشأت مرونة عقل المسلم، وقدرته النادرة على حسن المحاكمة والاستدلال؛ لأنه يتعلم ذلك منذ أن يحفظ في طفولته آيات القرآن، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ويفهمها، فيفكر في تطبيقها على واقعة، فإذا كانت الآية أو الحديث قاعدة عامة، حصل القياس، أو ما يسميه المناطقة بـ"الاستنتاج"، وقام به العقل دون تصنع أو عناء. لو قرأ الطفل مثلا قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 3/ 185] ، وفهم معناها، ثم سئل عن نفسه "ما مصيرها على ضوء هذه الآية؟ " لربط نفسه بمصير كل النفوس، ولطبق حكم هذه الآية العام على حالته الخاصة، أو حالة قريب له كان قد توفي من قريب أو بعيد. 4- الشريعة تخرج شعبًا متحضرًا حضارة راقية. وفهم الشريعة الإسلامية يحتاج إلى تعلم القراءة والكتاة، وإلى تلاوة القرآن، وتدبر أحكامه ومعانيه، وإلى تعلم الحساب "لعلم الفرائض"، والتاريخ "لفهم السيرة وآيات الجهاد"، وإلى معرفة جغرافية الجزيرة العربية، وغيرها، لمعرفة مواطن الأقوام البادئة الذين عذبهم الله كقوم شعيب أهل "مدين"، وقوم عاد وغيرهم ممن تجبروا في الأرض، وعتوا عن أمر ربهم، وكقوم فرعون في مصر. وقد حض القرآن على التفقه في الدين وتعلم الشريعة، فقال تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 9/ 122] . وقد جمعت هذه الآية مطلبين: التعلم والتعليم، فكان من خصائص هذه الشريعة، توسيع الآفاق الفكرية، وتثقيف العقل البشري، والحض على طلب

العلم، بل جعلته فريضة، فبلغت الأمة الإسلامية درجة من الحضارة العلمية لم تبلغها آنذاك أمة غيرها. وكانت أستاذة الغرب، في اكتشاف وحدة قوانين الكون، وأهمية التجريب للتأكد من حصة الحقائق العلمية، وفي إيجاد علم التاريخ، وضوابطه وأسانيده، وعلوم اللغة وأوزان الشعر، وفي الطب، والفلك، والجبر، وعلم الضوء، وكانت الشريعة الإسلامية، والرغبة في فهمها وتطبيقها، هي المبنع الثري الذي انبجست منه كل هذه العلوم، وغيرها كثير مما لا يتسع له البحث هنا؟ هذه بعض الخصائص الفكرية للشريعة الإسلامية، وهذه أهم نتائجها في تربية عقل المسلم: 1- على الشمول فهو ينظر إلى نفسه، وحياته نظرة كلية متعلقة بتصوره الشامل لهذا الكون، ولجميع جوانب الدنيا والآخرة، كما علمه القرآن. 2- وعلى الوعي الفكري لكل ما يعمل، أو يقول أو يريد، أو يكتب. 3- وعلى التفكير المنطقي، والقدرة على المحاكمة والاستنتاج، والاستقراء كما علمه القرآن. 4- وعلى الرغبة في التعلم والوصول إلى الحقائق العلمية، مما يؤدي إلى مجتمع ذي حضارة فكرية، ونظم تعليمية وتربوية لم توجد عند غيره. غير أن هذه الأمور قد جاءت خلال تعلم الشريعة، عفوا من غير قصد، ودون أن تنص الأحكام الشرعية على كثير منها، وإن كانت الشريعة بمعناها الواسع الذي يضم تصور الإنسان للكون ويضم العقيدة، والإيمان بالغيب، وقد أمرتنا بطلب العلمِ، كما أمرتنا بالنظر في الكون وفي أنفسنا، وبالسير في الأرض، ويأخذ العبرة من التاريخ. ولما كنا قد استوفينا هذه المعاني في البحث الأول من هذا الفصل، فقد بقي علينا الآن أن نبحث في الأثر المباشر للأحكام الشرعية، وإحاطتها بحياة الفرد، وحياة المجتمع، وما تركت فيهما من توجيه سليم، وما رسمته من أطر وخطوط كبرى لحياة آمنة مستقرة، قائمة على العدالة ينشأ في ظلها الفرد، ويتعايش بل يتراحم، على أساسها المجتمع.

ثانيا: أثر الشريعة في تربية الخلق

ثانيا: أثر الشريعة في تربية الخلق والشريعة الإسلامية لها جانب تربوي، يتضح في أسلوبها حين تعرض على طريق الترغيب والترهيب، أو أخذ العبرة من التاريخ، أو الحض على التقوى، ومخافة الله، ولذلك نجد كثيرا من الأحكام يعللها القرآن تارة بـ {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} [البقرة: 2/ 21] ومواضع كثيرة في القرآن، وتارة بالتطهير والتزكية: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 9/ 103] وتارة.. وتارة.. وللشريعة جانب تطبيقي يتجلى في الأمر والنهي، والتحريم، والتحليل، والإباحة والحظر، والحدود، والعقوبات، والقصاص، والإرشاد إلى كيفيات وأساليب عملية، أو تعاملية معينة، في البيع والزواج وسائر العقود، وكثيرا من أمور الحياة. 1- الشريعة ضابط خلقي للفرد: عندما تتمكن تعاليم الشريعة من نفس الفرد، ومشاعره تصبح بمثابة ضابط خلقي، يحاكم المرء نفسه إليه، عندما يقف أمام أمور مشتبهات، كبعض أساليب البيع والشراء، وكذم الإنسان يجاهر بالمعصية، ونحو ذلك، والضابط الخلقي هنا غير الوازع التربوي الديني، فالوازع يبعدك عن موضوع المحرمات بالكلية، ولكن الضابط هو الذي يقول لك بدقة: هذه حدود المحرمات في البيوع، فلا تقترب منها، والنظرة سهم مسموم فصن نفسك عن النظر إلى الأجنبيات، فإذا اضطررت من أجل معرفة الشخص، فلك النظرة الأولى. وكان المجتمع الإسلامي يشترط حدا أدى من معرفة أحكام الشرع، فلا يدخل السوق، مثلا، من لم يعرف الحلال والحرام من البيوع. لذلك كانت تربية هذا الضابط تتم في حلقات العلم، وكان جميع الناس يقضون أمسياتهم في حلقات العلم، فلا عمل بعد الغروب إلا طلب العلم، والمساجد التي تتسع لصلاة جميع الناس، هي التي تتسع لتعليم كل الناس، والدافع الحقيقي لهذا الضابط هو الخوف من الله، فلا يحاول المسلم التهرب من الشرع أو الاحتيال عليه، وهذه هي الميزة الأساسية التي تميز الشرع عن القانون.

2- الشريعة ضابط اجتماعي: وعندما يكثر تداول أحكام الشريعة، على المستوى الاجتماعي، في حلقات الوعظ وخطب المنابر، تصبح بعض هذه الأحكام أعرافا، ومصطلحات اجتماعية فعندما كنت طفلا كان يعير بعض الناس في دمشق بأنه "فوايزي" أي ربوي يأكل الربا، وكانت هذه اللفظة بغيضة مقيته، إذا أطلقت على شخص تحاشاه الناس، وهذا يدل على أن المجتمع يدافع عن كيانه الديني حين يمنع المجاهرة باقتراف المحرمات، فيحتقر السكير والفاسق، والمجاهر بالمعاصي، والمرأة المومس. وقد ربى الإسلام هذه الفطرة الاجتماعية، فنظم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحض على ذلك، وجعل تركه من علاات انهيار المجتمع، قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ، كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 5/ 78-79] ، وعن أبي بكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقابه"، أخرجه الإمام أحمد في المسند "1/ 1". 3- الشريعة ضابط سياسي: عندما تتولى السلطة تنفيذ أوامر الشريعة، تصبح تعاليم الشريعة، سلوكا سياسيا تسلكه الدولة مع جميع رعاياها، فتقطع يد السارق، وترجم الزاني وتمنع الخمر، والتبرج، والخلاعة، والظلم، والبغي بغير الحق، وتراقب الباعة فتمنع الغش والاحتكار، وتنشر العلم، وتحيط المدارس بعناية وتوجيهات دينية خاصة، وترسل الدعاة إلى الله، وترفع راية الإسلام، وتوجه وسائل الإعلام توجيها إسلاميا. ويتربى الناشئ في هذا الجو على المعاني الإسلامية يستقيها من منزلة، ومدرسته، ومن النداءات التي تتعالى في المآذن ومن منابر المساجد، ومن الإذاعة، والرائي، ومن كل شيء يحيط به، فلا يقع بصره إلا على معروف، ولا يطوق سمعه شيء ينكره الإسلام، أو يغضب الله، ولا تحدثه نفسه بمعصية، ما دامت هيبة الدولة المسلمة، وهيبة المجتمع المسلم يردعانه عن ذلك.

فإذا وقع في معصية، سترها وندم وتاب، وعاد إلى جادة الصواب، فيتوب الله عليه إن كان لا يجهر بها، ثم أقلع عنها. وهكذا نرى أن الشريعة الإسلامية تربي الناس بثلاثة أساليب: 1- أسلوب تربوي نفسي ينبع من داخل النفس، ضابطه الخوف من الله ومحبته، وتطبيق شريعته اتقاء لغضبه، وعذابه ورغبة في ثوابه، وهذا الأسلوب قد تخبو جذوته أحيانًا عند بعض الناس، أو يفقده من لم يتمكن الإيمان من قلبه، فتسول نفسه له العبث بحرمات الناس، ويطمع بالمال المحرم أو الشهوات المحرمة من كان في قلبه مرض، فتعالجه الشريعة بالأسلوب الثاني. 2- التناصح الاجتماعي والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، فالمجتمع الغيور على شريعة الله، وحرماته لا يدع منكرًا، ولا يقر على ترك أصل من أصول الإسلام كالصلاة والزكاة والصوم، والجهاد، بل يأمر المقصر، ويأخذ بيده، ليعينه على نفسه، أو على تربية أولاده. 3- وازع السلطة التنفيذية أي الدولة المسلمة التي تنفذ أحكام الشريعة، فيستتب الأمن، ويسود سلطان الشرع، وينعم الناس بعدل الشريعة. وهذه الأساليب الثلاثة تتعاون على تحقيق المعاني الإسلامية، وتطبيقها في حياة الفرد والجماعة والدولة، فتصبح هذه الحياة أقرب ما تكون إلى الكمال، والسعادة والحضارة والرخاء، والتكافل والطمأنينة والاستقامة. وتتبع أصالة الشريعة الإسلامية من اعتمادها على الإيمان بالله، وعبادته، والخوف منه، وعن هذه الأصالة يصدر المجتمع في تقاليده وأعرافه الإسلامية، كما يصدر الفرد في سلوكه، وأمانته، وانضباطه الذاتي، وإقباله على تعلم الشريعة، وتطبيق أحكامها على نفسه، دون حاجة إلى رقيب، أو جلاد رهيب، يدعه إلى تنفيذ الأوامر دعا، كما يحدث لدى الأمم ذات القوانين الوضعية. وهذه هي أعظم ميزة تميز الشرع الإسلامي عن القوانين البشرية الوضعية.

ثالثا: الضروريات الخمس وأثرها التربوي

ثالثا: الضروريات الخمس، وأثرها التربوي يرى جمهور الفقهاء أن الشريعة الإسلامية تدور أحكامها حول حماية خمسة أمور هي أمهات لكل الأحكام الفرعية، ويسمونها الضروريات الخمس وهي: حفظ الدين-حفظ النفس-حفظ المال-حفظ العرض-حفظ العقل. 1- حفظ الدين: فالله تعالى أراد أن يسود الإسلام، ولا يحق لمسلم أن يعيش ذليلا تحت إمرة دين آخر، ولا لدولة مسلمة أن تتخلى عن الحكم بالشرع، أو تسمح بحرية الإلحاد والردة والكفر، أو تحمي الزندقة، ولا أن تقرها وتسمح بوجودها، ولو سموا ذلك، زورا وبهتانا، حرية اعتقاد، أو تسمحا؛ لأن في 1ذلك تجرؤا على حرمات الله، وتلاعبا بعقائد الناس. وحلول هذه المعاني وردت آيات عديدة نذكر منها قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 9/ 33] وقوله سحبانه: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُون} [التوبة: 9/ 12] . وأحكام هذه الضرورة مثبوتة في أبواب الجهاد، وحد الردة، الفسق، والابتداع، ونحو ذلك، فلأهل الكتاب معاملة في الجهاد تختلف عن معاملة المشركين الوثنيين، قال سبحانه: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة: 9/ 29] . والنتيجة التربوية لتدريس هذه الأبواب الفقهية إعداد الجيل لمحاربة أعداء الله دفاعا عن دينه وعقيدته، وشعوره بالعزة والكرامة، والاعتزاز بالشريعة الإسلامية، وبرفع رايتها، ويتميز الأمة الإسلامية، وبأخوة الجهاد والسلاح في سبيل الله مع جميع الشعوب الإسلامية، فلا يجوز التساهل في تدريس هذه الأبواب في الفقه الإسلامي، ولا يجوز إهمالها أو إغفالها عند وضع مناهج التعليم؛ لأن الجهاد هو ذروة سنام الإسلام، كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ولأن الصلح مع الدولة المعادية لا يجوز إذا كانت تلك الدول تحتل أرض الإسلام، أو تعين على احتلالها.

2- المحافظة على النفس: حرم الله قتل النفس بغير حق، وأنزل أشد العقوبة بمرتكب ذلك، قال تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} [الإسراء: 17/ 33] . وقال: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 4/ 93] . وذكر الله قصة قتل أحد أبناء آدم لآخيه، وكانت أول حادثة قتل على الأرض، ثم عقب عليها بقوله: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 5/ 32] . وحرم الله الانتحار: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 4/ 29] . وفي بعض أبواب الحدود من الفقه الإسلامي أحكام القتل، والديات والقصاص، ودراستها تزرع في نفوس الناشئة احترام الأرواح، والنفوس، والبعد عن التفكير بالثأر أو الاعتداء، أو أي جريمة من هذا النوع، كما تزرع العدالة، وحب القصاص، وما ينتج عن ذلك. 3- المحافظة على المال: المال وديعة في أيدي العباد، قال تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 24/ 33] استودعهم الله إياها، ليؤدوا زكاتها، وليثمروها بالطرق المشروعة دون ظلم، ولئلا يسرفوا فيها، ولا ينفقوها في المفاسد الخلقية، كالمعارف والخمور والزنا، ولا يجوز تبديد المال بوضعه بين أيدي السفهاء الذين لا يعرفون قيمته، ولا يحفظونه، قال تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 4/ 5] . فاعتبر أموال اليتامى السفهاء ملكا للأمة، وفيها قوام شئون الأمة، وحياتها الاقتصادية، فلا يجوز السماح لهم بتبذيرها وتبديدها، فكيف بوضعها في أيدي الذي يحاربون بها الله ورسوله، والأمة الإسلامية؟

وقال سبحانه محرما أكل الأموال بالتزوير والاحتيال كالرشوة، ونحوها: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْأِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 2/ 188] . وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [البقرة: 4/ 29] . والفقه الإسلامي اعتنى بأحكام المال عناية فائقة، في أبواب البيوع والإجارة والزكاة، وسائر المعاملات، وحرم الربا، وذكر أنواعه وشبهاته. فترك بذلك أثرا تربويا طيبا، جعل الناشئ اقتصاديًّا، يخشى الله في المال، فلا يسرف ولا يبذر ولا يبدد، ويحترم أموال الآخرين فلا يقربها، ولا يفكر في اغتصابها أو الاحتيال في أخذها. كما ربى الإنسان على احترام العمل، الكسب الحلال، وشرع الميراث للولد صغيرًا كان أم كبيرًا، خلافا للأنظمة المنحرفة التي تجعل الميراث للولد الأكبر. 4- المحافظة على العقل: أشاد العقل بذوي العقل المفكر، فقال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهَى} [طه: 20/ 128] ، وقد كرر ذلك، أو ما يشبهه في العديد من الآيات، كلما ذكر آية من آيات قدرته، وتدبيره وإبداعه: {لِقَوْمٍ يَعْقِلُون} [البقرة: 2/ 164] ، ومواضع أخرى من القرآن: {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون} [يونس: 10/ 24] ومواضع أخرى من القرآن. وقد نهى الإسلام عن الخمر لما فيها من أضرار، وأشار إشارة صحيحة إلى ضررها العقلي، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 4/ 34] ، وفي هذا إشارة إلى أن الخمر يؤدي إلى اختلاط عند الإنسان حتى إنه لا يدري ما يقول، وأنه بدئ تحريمها لهذا السبب. وقال سبحانه منددا بالذين لا يفكرون لا يستعملون عقولهم في الخير والمعرفة: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} [الأنفال: 8/ 22] . وقد عرض القرآن آيات الله في الكون، كما رأينا، عرضا ربى العقل على حسن المعرفة، والمنطق العلمي، والفكر الاستدلالي، والنهج التجريبي.

5- المحافظة على العرض، والنسل، والأنساب: من عظمة الإسلام التربوية أنه حمى الطفولة، وأحاطها بحصن اجتماعي متين، حين جعل علاقة الأبوين على درجة من المتانة لا يتطرق إليها أي خلل أو شك، أو ريبة تنغص على الأسرة حياتها، وجعل ميثاق الزوجية ميثاقا متينا عظيما، فقال عز من قائل: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء: 4/ 21] . فقد حمى العلاقة الزوجية من أية خيانة، أو إهانة تصدر عن أي من الزوجين وجعل عقوبة الموت رجما بالحجارة لكل زوج تثبت عليه1 خيانة صريحة، أي اتصال جنسي غير مشروع، بشهادة أربعة شهداء. فكما أن الأمة: "المجتمع الكبير" تدافع عن كيانها بإعدام من يخونها، وينقل أسرارها أو يهين رئيسها أو حكمها، كذلك الأسرة، ذلك "المجتمع الصغير" الذي هو نواة لمجتمع الأمة، وأساس له، قد دافع الله عنها بهذا التشريع العادل العظيم، فتبناه المجتمع وأحاطه بهالة من الاحترام والتقديس، والرهبة، والاهتمام. فتوفر بذلك للطفل الانتماء إلى نسب شريف، وآل بيت نظيف، وانعدام وجود الأبناء غير الشرعيين في المجتمع المسلم؛ على حين نجد المجتمع الأوروبي يعاني منهم بنسبة كبيرة، تهدد بخطر اجتماعي جسيم. وقد تهيأ للطفل كل ذلك بما شرع الله من أحكام تحفظ الأسرة من التشتت والضياع، وتحفظ المرأة من الابتذال، وترفع مكانتها من أن يجعلها الفساق أو مرضى القلوب مضغة في أفواههم، فيحطمون مكانتها في قلب زوجها وأولادها باتهامات باطلة، ووضع الإسلام حدودا وعقوبات لذلك كله، حتى لا يقترب أحد من ذلك السياج الزوجي بسوء. وكان من نتيجة ذلك أن حفظت الأنساب، وعرف الناس بآبائهم وقبائلهم، وتعارفوا بالنسب أو المصاهرة. وحفظ النسل من الضياع، فوجد الأولاد العش الأمن، يترعرعون فيه من غير خوف يهدد كيانهم النفسي، ومن غير أن يفقدوا حنان الأم والاعتزاز بالأب، ورعاية كل منهما. من أجل ذلك وجدنا كتب الفقه، والتشريع الإسلامي تخصص جانبا كبيرا لأحكام الرضاع، والزواج، القذف واللعان، والطلاق والحدود، والحضانة، وما إلى ذلك من فروع وأحكام. ولنا عودة إلى هذا البحث، عندما سنطرق موضوع الإسلام والطفولة، إن شاء الله.

_ 1 تطلق كلمة زوج في اللغة والقرآن على كل من الرجل والمرأة، وقد أرجعت إليه الضمير بالتذكير؛ لأنه يشمل النوعين معا إذا ذكر جميعا، أو أشير إليهما، كما هو معروف في اللغة.

رابعا: العقيدة الإسلامية وأثرها التربوي

رابعا: العقيدة الإسلامية، وأثرها التربوي: تمهيد: العقائد هي الأفكار التي يؤمن بها الإنسان، ويصدر عنها في تصرفاته وسلوكه، وتطلق العقائد الإسلامية على أركان الإيمان، وما يتفرع عنها من توحيد الألوهية، والبعد عن كل شبهات الشرك، وعلى الإيمان بما ثبت من المغيبات أي الإيمان بالغيب، وبالرسل والكتب، والملائكة واليوم الآخر. فالإيمان إذن هو أساس العقائد، ولكي نفهم أهمية العقيدة، ولماذا اعتبرت أساسا، بل لماذا كانت الركن الأول الذي بنيت عليه التربية الإسلامية، لا بد لنا من وفقة عند كلمة الإيمان، لنحلل معناها ولنوضح أهميتها. أهمية الإيمان وضرورته كأساس من أسس التربية 1: 1- المراد بإيمان الإنسان بشيء: أنه قد استقر في ذهنه تصديقا ويقينا، ولم يعد بعده يخاف أن يتسرب إلى ذهنه شيء يخالفه، وهو لغة التصديق، وشرعا "ما وقر في القلب، وصدقه العمل". 2- فإذا قوي إيمان امرء فقد قامت سيرته على ما صدقه، واطمأن قلبه إليه من

_ 1 الحضارة الإسلامية، أبو الأعلى المودودي ص90-104 دار العربية للطباعة -بيروت، وقد أثبتنا أفكاره بتصرف، حيث وجهنا البحث توجيها تربويا، وهو قد أورد من جانبه الحضاري الفكري جزاء الله عن الإسلام، والمسلمين خير الجزاء.

الأفكار أي على تأسس قوية رصينة، يجوز الاعتماد عليها، والاطمئنان إلى أن الأعمال لن تصدر عنه إلا متفقة معها بكل معنى الكلمة، فالإيمان الصحيح أساس متين لتربية ثابتة مضمونة النتائج، وبهذا يكون للإنسان المؤمن سيرة معلومة، ويكون في حياته النظام، والأحكام والترتيب والانسجام، ونستطيع أن نقول بكل جزم أنه سيعمل العمل الفلاني في الوقت الفلاني، ولذلك كانت التربية المبنية على الإيمان أفضل من التربية المبنية على عدم الإيمان، ذلك؛ لأن غير المؤمن لا سيرة له في حياته، إذ أن له أن يظهر بمظهر الشيطان متى شاء، أو بمظهر الملك متى أحب، ولا يستبعد عنه في أي وقت من أوقاته أي لون من ألوان الأعمال والأفعال، ما دام لا يلتزم فكرة معينة، ولم تستقر في قلبه عقيدة من العقائد. 3- غير أن الإيمان لا يكون لدى جميع الناس مصدر خير، فربما بني الإيمان في بعض الأديان كالوثنية على الخرافات والأساطير، لذلك لا بد من ضابط لكل عناصر الإيمان، وتصورات المؤمن وأفكاره، أي لا بد أن يكون كل ما يؤمن به حقا وصحيحا. والقرآن عندما يدعو إلى الإيمان يمعتقدات معينة، يلجأ إلى العقل، فيرشده إلى ما يجب أن يؤمن به، أي أنه يبرهن بأسلوب عقلي حسي، على صحة هذا المعتقد، فيبدأ أولا بالبرهان على عظمة الله، ثم يتفرع عن ذلك باقي العقائد. فالعناصر الإيمانية الصحيحة هي التي تعتمد على برهان عقلي صحيح، وتقبلها الفطرة السليمة، وينتج عنها توحيد وتناسق بين جميع جوانب الشخصية الإنسانية، وبين جميع عناصر المجتمع الإنساني، وبين جميع ظروف الحياة، ومتطلباتها الاقتصادية والحضارية، والعلمية والسياسية والحيوية. 4- وكما أن سيرة الفرد وحياته تنتظم وتستقيم، إذا كانت صادرة عن إيمان صحيح، كذلك فإن مجموعة الأفراد، عندما يخضعون علاقاتهم فيما بينهم وسلوكهم، وسيرتهم إلى الإيمان بفكرة مشتركة بينهم، مشتملة على أمور روحية، ربانية، صحيحة، فإنهم يؤلفون أمة ذات حضارة متجانسة متجاوبة مع عقيدتها ودينها، وتكون العقيدة المشتركة في الوقت ذاته في الموجه لحياة الأفراد الشخصية، فيحصل تناسق بين حضارة الأمة ونظمها الاجتماعية، وبين سيرة أفرادها وفي هذا كمال الحياة النفسية الصحيحة، والتجاوب الاجتماعي السليم، فيصبح المجتمع المؤمن كالبنان يشد بعضه بعضا، ويصبح المؤمنون كالجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، وهكذا تكون التربية الاجتماعية المرتكزة على الإيمان هي التي تنتج مجتمعا قويا حضاريا مستقيما سليما من كل الأمراض والانحرافات.

أركان الإيمان

أركان الإيمان: إن أركان الإيمان في نظر الإسلام كل لا يتجزأ، وكل من كفر بواحد منها، أو بجزئية من لوازمها مما ثبت في القرآن صراحة أو في السنة، فقد حبط عمله ولا يقبل منه إيمانه بباقي الأركان. ذلك؛ لأنها سلسلة مترابطة الحلقات؛ ولأن الإسلام كله بناء فكري متشابك الأجزاء، يتهدم أو يختل إذا انهدم أحد أركانه، في ذهن إنسان ما أو عند مجتمع منحرف عن حقيقة الإسلام، كبعض الفرق الضالة. ولذلك يرى المتتبع لآيات القرآن التي تتحدث عن الإيمان، أن الحجر الأساسي لنظام الإسلام كله هو الإيمان، وبالتالي فإن التربية الإسلامية التي تعني بتنشئة الإنسان المسلم المنطبع بطابع الإسلام العامل بكل تعالميه، يجب أن تبنى على أساس الإيمان بكل أركان الدين إيمانا واضحا متميزا. وكل تربية تهمل ركنا من أركان الإيمان تصبح تربية ناقصة شوهاء، لا فائدة منها، فالله تعالى إنما جعل القرآن كله هدى للذين يؤمنون بالغيب، كما أخبر في أول سورة البقرة، والغيب في القرآن يطلق على كل ما يجب الإيمان به مما غاب عن الحس، ومعنى ذلك أن من لا يؤمن بالغيب، لا يستطيع أن يهتدي بالقرآن، ولا يقبل الله منه إسلامه، وهذا من البداهة، إذ كيف يعمل بتعاليم القرآن من لا يؤمن بمن أنزل القرآن، وكيف يؤمن بالقرآن من لا يؤمن بالملائكة، وعلى رأسهم جبريل الذي تنزل بالقرآن على قلب محمد صلى الله عليه وسلم. ثم كيف يتبع تعاليم القرآن من لا يؤمن بأن محمدا مكلف بتبليغها من الله، أمين على شرع الله، أي أنه رسول الله؟

من ذلك تعرف أن أركان الإيمان سلسلة لا ينفك بعضها عن بعض، ولا تصلح حلقة منها دون سائر الحلقات، وأنها كل لا يتجزأ ولا يجوز إنكار أي جزء منها. فتعال نستوضح كل ركن من أركان الإيمان، فنتبين أهميته التربوية بالنسبة إلى بحثنا، بعد أن تبينا ضرورة الإيمان، من أجل تربية جيل سليم صحيح، ومجتمع قوي متين. 1- الإيمان بالله: يخطي من يعتقد أن مجرد التسليم أو الاعتقاد بوجود الله، وبكونه خالقا لهذا الكون، عقيدة كافية تنجي صاحبها من عذاب الله، فقد كان كفار قريش يسلمون بهذا، ومع ذلك اعتبرهم الله جل جلاله منصرفين عن إجابة الدعوة الإسلامية فقال منكرا انصرافهم بعد أن ذكر اعترافهم بأن الله خلق السموات والأرض: {فَأَنَّى يُؤْفَكُون} [العنكبوت: 29/ 61] ، ومواضع أخرى من القرآن، أي كيف يصرفون عن الإيمان بتوحيد الله؟ فالإيمان الصحيح بالله تعالى يجب أن يشتمل على ثلاثة معان، أو عناصر أساسية: أولها: معرفة معنى الإله، ذلك المعنى الذي أبى المشركون أن ينسبوه الله وحده، وينفوه عن معبوداتهم الأخرى. العنصر الثاني: إثبات معنى الألوهية لله عز وجل. العنصر الثالث: نفي معنى الألوهية عن كل كائن سوى الله. معنى الألوهية 1: جميع الأديان التي وصلت إلينا، عدا الإسلام، كان تصورها عن الألوهية إما خاطئا، وإما ناقصا، وإما ملوثا بالتشبيه والتجسيد، والتناسل. والكتاب الوحيد الذي صحح هذه التصورات الخاطئة وكملها، عن الألوهية، إنما هو "القرآن"، وخلاصة ما جاء في القرآن عن معنى الألوهية "أنه لا يجوز أن يكون الإله إلا من يكون صمدا، حيا، قيوما، لم يلد ولم يولد، ويكون من الأزل، فليس

_ 1 الحضارة الإسلامية: أبو الأعلى المودودي، ص137-139، دار العربية - بيروت.

قبله شيء، ويبقى إلى الأبد فليس بعده شيء، ويكون علمه محيطا بكل شيء، ورحمته وسعت كل شيء، وقوته غالبة على كل شيء، ويكون منزها عن أي نقص في حكمته، أو عيب في عدالته، ويكون قادرا ويكون مشرعا، حاكما على الإطلاق، واهبا للحياة ومهيئا لأسبابها ووسائلها، ويكون مالكا لكل قوة من قوى النفع أو الضرر، ويكون كل من سواه محتاجا لعطائه، فقيرا إلى حفظه ورعايته، ويكون إليه مرجع كل مخلوق، ويكون هو محاسبا ومجازيا لكل من سواه". ثم إن القرآن بعد بيانه هذا التصور الصحيح الكامل الواضح للألوهية، يدل بأقوى ما يكون من الكلمات، وأوقع ما يكون من الأدلة العقلية المنطقية، وأساليب البيان، على "أن هذا العالم ليس فيه شيء، أو قوة يصدق عليها هذا التصور للألوهية، إذ ليست كل موجودات العالم إلا مسخرة محتاجة لغيرها، باقية حينا وفانية حينا آخر، غير قادرة على دفع الضرر عن نفسها، فضلا عن أن تجلب النفع، أو الضرر إلى غيرها، وليس المصدر لأفعالها، وتأثيراتها موجودا في داخل ذاتها، وإنما هي تستمد قوتها للبقاء والفعل، والتأثير من غيرها". "وبعد هذا النفي، فإن القرآن لا يثبت الألوهية إلا لذات واحدة هي ذات الله، ويطالب الإنسان بألا يؤمن إلا بالله وحده، ولا يسجد إلا لله، ولا يعظم إلا إياه، ولا يتوكل إلا عليه، ويعلم علم اليقين أنه راجع إليه، ومحاسب بين يديه لا محالة، وأنه لا يتوقف حسن العاقبة، أو سوءها إلا على قضاء الله". ولقد آمن العرب ومن يليهم بهذه المعاني، وغيروا سلوكهم، وربوا أنفسهم على مقتضاها، فبدل الله بهم الأرض غير الأرض التي كانت، والعالم الذي فتحوه غير العالم الذي كان من قبلهم، فأخرجوا البشرية من ظلم الملوك، والطواغيت إلى عدالة الله وشريعته، ومن جور الأديان وخرافاتها، إلى سماحة الإسلام وسمو تعاليمه، وجديته، وإليك سر المعجزة التي أجراها الله على يد هؤلاء الموحدين: معجزة الفتح الإسلامي، وتثبيت حضارته في أكبر رقعة عرفتها حضارة في التاريخ، ولأطول مدة سجلتها أقلام المؤرخين، هذا السر يتجلى في:

الآثار التربوية والمعنوية لعقيدة التوحيد، والإيمان بالله: تنظيم عقيدة التوحيد حياة الإنسان النفسية، وتوحد نوازعه، وتفكيره وأهدافه، وتجعل كل عواطفه، وسلوكه، وعاداته، قوى متضافرة، متعاونة ترمي كلها إلى تحقيق هدف واحد هو الخضوع لله وحده، والشعور بألوهيته، وحاكميته ورحمته، وعلمه لما في النفوس، وقدرته، وسائر صفاته. وكل صفة أساسية من صفات الألوهية، يقابلها في النفس الإنسانية جانب من جوانب الحياة النفسية، فلا سعادة للنفس ولا استقامة، ولا انضباط إلا إذا ارتبط كل جانب من جوانبها بما بناسبه من معاني الألوهية. أ- لنأخذ على سبيل المثال لا الحصر: ميل الإنسان الفطري إلى الرفاهية وحب البقاء، والعمل للحياة الدنيا، يقابله من ناحية الترغيب، الأمل في رحمة الله وجنته، ومن ناحية الضبط ومنع الشطط يقابلها الشعور بأبدية الله وتفرده بالبقاء، وفناء هذه الحياة الدنيا. فترى المؤمن يعمل من جهة، بجد وأمل وتفاؤل، في هذه الحياة؛ لأنها مزرعة الآخرة، ومن جهة أخرى يبقى حذرًا من الموت لا يغتر، ولا يغفل عن ترقب المفاجآت والمصائب، فإذا وقعت لم تفت في عضده، فهو ينتظر لقاء ربه، فهو جريء لا يهاب أحدًا إلا الله. ب- وخذ مثالًا آخر: طمع الإنسان وحبه للمال: فترى المؤمن يستخدم المال وهو يعلم أنه مال الله، وأن كل ما في ملكوت الكون ملك لله، هو مالك كل شيء، وهو راهب الرزق لمن يشاء، فالمؤمن يثمر المال، ولكن المال لا يستعبد قلبه، فإذا احتاجت الأمة ماله لمصلحة عامة بذله بسخاء، وهو يعلم أن الله هو الرزاق ذو القوة المتين، وقس على ذلك حب الإنسان للزعامة وشهوته للنساء، وميله وحنوه على الأولاد، وغيره وغيره من جوانب الحياة النفسية. فالمؤمن الموحد يمتاز بعزة النفس، لا يستعبده جاه ولا مال، ولا بذل لأحد من الطواغيت. ج- وقد ضرب الله لنا مثلًا في القرآن يبين فضل عقيدة التوحيد في تحقيق وحدة النفس الإنسانية.

{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 39/ 29] . فشبه الله النفس الموحدة لربها، بالعبد الذي يملكه رجل واحد، فجيمع تصرفات هذا العبد تأتي حسب رغبة سيده، وبهذا تهدأ نفسه، وتستقيم حياته، وتنسجم تصرفاته وفق نظام معين، وعلى نسق واحد. أما العبد الذي يمكله عدة شركاء متشاكسين، لا يؤمن أن يتصرف اليوم على نمط يعاكس تصرفاته بالأمس، وتبقى نفسه نهبأ للمخاوف والهواجس. كذل المشرك الذي يعلم بفطرته عظمة الله، ويشرك مع الله آلهة آخرى، فتراه تارة ينافق للناس، وتارة يتخذ إلهه هواه، وتارة يستعبده المال، وتارة يتعلق بالحياة، فينخلع قلبه من الموت أو المرض، وهو في كل ذلك قلق، لا يطمئن على نفسه ولا على ماله، ولا على شيء من ملذاته؛ لأنه لا يؤمن بمصير معين، ولا يخضع لإله واحد، بيده كل شيء، وهو على كل شيء قدير. ولتحقيق هذا الأثر التربوي العظيم، يجب على المربي أن يربط كل جوانب التربية بتوحيد الله، وبصفات الألوهية التي أشرنا إليها. فدراسة الكون، أو ما يسمونه بالطبيعة، يجب أن يكون هدفها استحضار عظمة الله الخالق المالك للكون، الحي القيوم الذي يقوم بكل شئون الكون، وأفلاكه ونظامه وسيره، ودورانه. وعند دراسة اللغة يستحضر عظمة الله في جعل الإنسان خصيما مبينا، ويبين أن العبد محاسب على هذه المقدرة اللغوية، وفيم يجب أن يستخدمها. وهكذا يفعل المربي، لدى دراسة التاريخ والجغرافيا وسائر المواد الاجتماعية، وقد أوضح واضعو منهج الدراسة الثانوية في المملكة العربية السعودية أهداف هذه المواد على ضوء هذا المعنى الذي يوحد الأمة الإسلامية تحت لواء الألوهية والتوحيد. د- وتربي عقيدة التوحيد والإيمان بالله، عقل الإنسان على سعة النظر، وحب الاطلاع على أسرار الكون، والطموح إلى معرفة ما وراء الحس، فكل ما في الكون

مما نرى وما لا نرى من السموات، والكرسي والعرش والملائكة، كل ذلك من ملك الله، وكل كائن صغير أو كبير يسبح بحمد الله ويشهد بعظمته، وقد أمرنا القرآن أن نتأمل ذلك كله، نتأمل خلق السموات، والأرض، والبحار، والأنهار، والإبل والدواب، والنحل، ويبين لنا أنه ما من شيء إلا يعلمه الله، من أصغر ذرة إلى أكبر جرم، {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 6/ 59] . هـ- كما تربى عند الإنسان التواضع وعدم التطرف، أو الغرور بأي صفة من صفاته الإنسانية، فإذا اغتر بقوته وأراد البطش، أو الظلم ذكر قدرته الله عليه، وأنه هو الذي يحيى ويميت، وإذا اغتر بماله وأسرف واستهتر، وبطر وتكبر ذكر أن الله هو الغني، وهو الذي وهبه المال، فعاد إلى السخاء، والبذل والتضحية، والتودد إلى عباد الله. وإذا اغتر بعلمه فظن أنه بلغ الكمال، نظر إلى الكون الكبير الذي هو جزء صغير من علم الله، فانقلب بصره خاسئا وهو حسير، وعاد إلى نفسه صاغرًا متواضعا يطلب المزيد من المعرفة، بروية وصبر وأناة، وتدبر وتفكر، ودأب واستمرار، وقس على هذا كل ما وهب الله الإنسان. و وبالتوحيد وإفراد الله بكل صفات الألوهية يبتعد الإنسان عن التعلل بالآمال الكاذبة، فلا تنفع عند الله شفاعة الشافعين، إلا لمن يأذن الله ويرضى، وما من أحد يفيده قربه من الله، إلا عن طريق العمل الصالح، فليس لله قرابة رحم، ولا صلة أبوة، ولا صحة سابقة لأحد من العالمين، الكل عباد الله، والكل محاسبون، مجزيون بأعمالهم إن خيرا فخير، وإن شر فشر. ز- ويتسلح الإنسان، إذا آمن بالله حق الإيمان، بالطمأنينة، والرجاء مع السعي وعد التواكل. فهو مطمئن بعد أن عرف أن الله قريب، يجيب دعوة الداعين، ويتوب على التائبين، وينصف المظلومين، وقد وسعت رحمته كل شيء. {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 2/ 186] .

{وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيد} [آل عمران: 3/ 182] . {قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 7/ 156] . وفي هذا توازن بين إبعاد الغرور عن النفس، والتسلح بالأمل والرجاء، فالمؤمن يخاف عذاب الله إن قصر، ويرجو رحمته إن أخطأ. وبهذا يصبح الإنسان أبعد ما يكون عن اليأس أو الانتحار، أو الهروب من الحياة، والانحراف بتعاطي المخدرات والمسكرات. فقد صرح القرآن أن اليأس من صفات غير المؤمنين قال تعالى: {وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُون} [يوسف: 12/ 87] . فإذا زل، جدد عزمه بالتوبة والاستغفار، واللجوء إلى رحمة الله، قال جل جلاله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 39/ 53] . ح- الانتماء إلى الله والاعتزاز به، وموالاته والانضواء تحت لوائه، فالمؤمنون هم حزب الله وهو وليهم، والكافرون لا مولى لهم، وأي شيء أعظم من الانتماء والانتساب إلى خالق الكون ومذل الجبابرة، ومالك الموت والحياة، والبعث والنشور والجزاء، قال سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 5/ 56] . وقال في وصف حزب الشيطان: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة: 58/ 19] . {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد: 47/ 11] . وهذا الولاء يربى النفس دائما على أن تكون في حرب مع الشر والشيطان، وأتباع الشيطان، أولئك الذين يزينون للناس معصية الله، ونسيانه واتباع الشهوات كما يربي الانتماء إلى الأمة الإسلامية والاعتزاز بها، وتفقد شئونها والتراحم، والتعاون بين شعوبها، أي تربي وحده كلمة الإنسانية على أساس الخير والانتماء، من غير تعصب عنصري، أو تحيز مصلحي مادي استعماري، غايته استغلال الشعوب، وامتصاص خيراتها.

فكل من آمن بالله على أساس القرآن، فهو من حزب الله أيا كان جنسه أو عرقه أو لونه، وكل من كفر الله وحارب حزبه، وقاوم دعوته فهو من حزب الشيطان أيا كان لونه أو عرقه. قال تعالى في وصف الموالين لله: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 10/ 62-63] . ولكي يتم الاعتزاز بالله والانتماء إلى الله وحزبه، وهم المؤمنون، لا بد من محاربة حزب الشيطان، والابتعاد عن الكفار وعدم الركون إليهم، لئلا يقع الشقاق والخلاف في صفوف الأمة، قال تعالى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا، الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [النساء: 4/ 138-139] . وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 4/ 144] . وقد جعل الله هذا الولاء لله ورسوله، وحزب المؤمنين فوق ولاء الأبوة، والقرابة والرحم. قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [التوبة: 9/ 23] . وهذا المعنى من أهم أركان التربية الإسلامية، لذلك يجب أن تبنى عليه أهداف التربية الاجتماعية، في جميع مراحل التدريس والحياة، وأن يعاد النظر في جميع كتب التاريخ، والجغرافيا على هذا الأساس؛ لأن الولاء لله ولحزبه من تمام توحيده وعبادته، والولاء للكفار مما ينفافي عقيدة التوحيد. وقد أقيمت العلوم الاجتماعية التي ترجمت عنها معظم المناهج التعليمية في البلاد العربية والإسلامية، على أساس من الكفر والإلحاد، واعتبار البلاد الغربية هي المدار الذي تدور حوله، وتصدر عنه جميع حوادث التاريخ في العالم، وقسمت عصور التاريخ على هذا الأساس، وهذا مخالف للواقع التاريخي، حيث كانت الأمة الإسلامية هي منبع النهضة العلمية، والحضارية في العالم.

لذلك فإن من واجب علماء الأمة الإسلامية اليوم إعادة النظر في تدوين هذه العلوم على ضوء الواقع بدون تحيز إلا للحق، ولما فيه خير الإنسانية، وجعل تاريخ الأنبياء، ومدى امتداد، أو انحسار عقيدة التوحيد، هو المدار الذي يدور حوله تدوين هذا العلم، كما أشار إليه القرآن الكريم عندما عرض أخبار الأمم الماضية، فالتاريخ في عرف القرآن وصف لمعارك دارت بين أولياء الرحمن، وأولياء الشيطان، بين الكفر والإيمان على مدى العصور، يساق للعبرة والاتعاظ، والابتعاد عن المصير السيئ الذي آلت إليه نتيجة الكفر، والانحلال والبعد عن الله؛ والأخذ بسير الصالحين الذين عمروا الأرض بالإيمان، والعدالة والسيرة الطيبة، وبتوحيد الله وعبادته، وبهذا تحقق التربية الولاء لله تعالى، وهو من لوازم عقيدة التوحيد، كما أشرنا. 2- الإيمان بالملائكة: إذا تتبعنا الآيات التي ذكرت فيها الملائكة استطعنا أن نعرفها بأنها: كائنات خلقها الله وسخرها لأعمال ومهمات معينة، عين كل فئة منها لمهمة أو وظيفة، لا يحيدون عنها، وهم عباد الله: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون} [التحريم: 66/ 6] . ومن أشرف هذه الوظائف النزول بالوحي على الأنبياء، قال تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 16/ 102] . ومن الملائكة من كلفه الله بحمل العرش: قال تعالى في الإخبار عنهم: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر: 40/ 7] . وبعض الملائكة تكلف بحفظ الإنسان، حتى إذا جاء أجله أرسل له وملائكة مختصة باستيفاء روحه: قال تعالى في الإخبار عن ذلك. {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام: 6/ 61] .

وقال في وصف الملائكة الحفظة للإنسان: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ، لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: 13/ 10-11] . ويحرص القرآن، بأسلوبه الرائع، أن يفهمنا، كما ذكر لنا الملائكة، أنهم عباد الله وحسب، وليس لهم بالله أي صلة قربى أو نسب، كما زعم المشركون، بل لقد أوضح القرآن، أن الله أمر جميع الملائكة أن يسجدوا لآدم عند خلقه، اعترافا بفضل الله وإبداعه فيما خلق، ويميزه الإنسان على الملائكة، وأن الله علم آدم ما لم يعلمه للملائكة، ففضل الله آدم بهذا العلم، فكيف يجوز لهذا الإنسان، الذي كرمه الله وميزه، أن يسجد لغير الله، أو يعبد الملائكة أو غيرها؟ أهمية الإيمان بالملائكة، وآثاره التربوية: يظهر لنا مما أوردنا أن الإيمان بالملائكة متمم للإيمان بالله، أو هو من لوازمه، ويدلنا على جانب من جوانب الألوهية، فمن تام عظمة الله أن له جندا وموظفين يعملون بأمره. وهذا يربي في النفس النظام والطاعة، وترتيب الأمور، فالله القادر على كل شيء، قد نظم شئون الكون، ووكل ببعضها بعض ملائكته، فأطاعوه، وعملوا بأمره. كما أن الملائكة في تسبيحهم لله، وتعظيمهم له يمكن اعتبارهم قدوة للبشر، وهم يؤنسوننا، ويحافظون علينا حتى أن من أعظم الملائكة منزلة، وأقواهم عند الله، من يستغفر للمؤمنين، وهم حملة العرش. وهذا يزيد من عزة الإنسان وكرامته، ومعرفته منزلته عند الله، حتى سخر له الملائكة يحفظونه ويستغفرون له، ويطلبون له من ربه أن يحفظه من العذاب. 3- الإيمان بكتب الله المنزلة: الكتاب هنا هو ما يحتوي على شريعة الله وأوامره وكلامه، وهديه الذي ينير للبشر سبل الحياة، ويحدد لهم ما كلفهم الله به من حرام وحلال، وأوامر ونواه وعبادات ونسك، وغير ذلك مما أراد الله أن يعلمه عباده.

وقد اختلفت الصور التي أنزل الله بها هديه على رسله، حسبما وصف لنا في القرآن، فقد وصف ما أنزله على إبراهيم وموسى بـ"الصحف". وكذلك أطلق لفظ الصحف على القرآن: {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً} [البينة: 98/ 2] . والذي يهمنا أن نعرفه هنا هو أن الإيمان بالكتب السماوية التي ورد ذكرها في القرآن ركن من أركان الإيمان، ومطلب من مطالب الإسلام، إلا أن الله لم يكلفنا أن نؤمن بما فيها تفصيلًا، بل ذكر الإيمان بها جملة، قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة: 2/ 285] . ميزات القرآن: أما القرآن فالبشرية مكلفة أن تعمل بكل ما ورد فيه تفصيلا مع الإيمان بأنه منزل من عند الله، ويمتاز القرآن بميزات أهمها: 1- أنه إنساني عالمي خوطبت به البشرية عمومًا، وكانت الكتب السماوية من قبله تخاطب أقوامًا معينين. 2- وصل إلينا القرآن سالما من التحريف، قرآنا واحدا أجمعت الأمة على صحته، وثبت نقله بالسند الصحيح، ولم يصل أي كتاب سماوي آخر كاملا صحيحا. 3- كل كتاب كان يتناول بعض جوانب الحياة، على حين نجد القرآن يتناول كل جوانب الحياة، فقد جاء كاملا أتم الله به ما جاء في الكتب السابقة. 4- كل كتاب كان يأمر أتباعه باتباع القرآن إذا أدركوه، ولكن القرآن لم يأمر باتباع الكتب السماوية السابقة تفصيلًا، بل ضرب منها أمثلة، وأمر الإيمان بها جملة. الآثار التربوية للإيمان بالقرآن، وتلاوته والعمل به: لو تتبعنا الآيات التي وصفت القرآن لوجدنا فيها بعض الأوصاف التي تدل على أهميته التربوية كقوله تعالى: 1- {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 17/ 9] .

فالقرآن يربي الإنسان على الحياة المستقيمة، والأخلاق القويمة، لما فيه من العبر والحكم والتشريع العظيم، وكفى به أنه من لدن حكيم عليم: حكيم يضع التشاريع والعبر في مواضعها، عليم بطباع الناس وما يصلحهم، والإيمان بأن القرآن من عند الله هو الذي يجعله مقوما لحياة الفرد والمجتمع، قال تعالى: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُون} [الزمر: 39/ 28] . {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء: 4/ 82] . 2- {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 47/ 24] . {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف: 43/ 3] . وهذا المعنى تكرر عشرات المرات، وهو المطالبة بالعقل والتدبر والتفكير، وفي هذا تربية الإنسان على إعمال عقله، وتربية ذهنه على التأمل، والاستنتاج والقياس والاستقراء، كما أنه يربي الفكر على عدم قبول شيء بغير حجة، أو برهان أو علم. قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ، ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الحج: 22/ 8-9] . وقال تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 2/ 111] [النمل: 27/ 64] . وقال سبحانه: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} [الأنبياء: 21/ 24] . 3- التروي والتأني وعدم التسرع في الفهم أو الحكم والتعليم، وتثبيت القلب بالتدرج في الفهم، قال تعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} [الإسراء: 17/ 106] . وقال سبحانه: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِه} [القيامة: 75/ 16] . وقال: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان: 25/ 32] . د- تعويد اللسان على الفصاحة والبيان: وهذا معروف لدى كل مشتغل بالقرآن، فهو بإعجازه وفصاحته يطبع قلب الإنسان على حسن البيان، والأسلوب اللغوي

المبين، فيصبح واضح القصد موضحًا لمراده ومع ذلك، فهناك إشارات إلى فصاحة القرآن، وبيانه مثل قوله تعالى: {حم?، وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} [الزخرف: 43/ 1-2] وقوله جل من قائل: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} [العنكبوت: 29/ 49] ، وقال سبحانه: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 16/ 103] . هـ- تربية العواطف الربانية: من خوف وخشوع، ورغبة ورهبة، وترقيق للقلب والمشاعر، فالقرآن ما يزال دائما يوقظ هذه العواطف، وقد يصف آثارها عند من يتلون القرآن حق تلاوته، قال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ} [الزمر: 39/ 23] . ومن حسن تلاوة القرآن أنه إذا قرأ القارئ فيه دعاء دعا به، وإن قرأ تهديدًا أو عذابا، استعاذ بالله منه، وإن قرأ آيات تدل على عظمة الله خشع قلبه، واغرورقت عيناه بالدموع، وهؤلاء الذين يعملون بتعاليم القرآن بعد أن يرقق قلوبهم قد وصفهم الله تعالى بقوله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة: 2/ 121] . وقال سبحانه: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 55/ 46] . ولا يكتفي القرآن بتربية العواطف المنظمة، بل يربي أيضا العواطف المرغبة التي تربي الأمل، والإقبال على العمل الصالح، ومحبة الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 2/ 165] ، وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة: 5/ 54] . وقد بين الله في هذه الآية بعض الآثار العظيمة لمحبة الله، من تذلل للمؤمنين، وإظهار العزة في وجه الكافرين، والجهاد في سبيل الله. وهكذا نجد في حسن تلاوة القرآن بقصد التربية بالقرآن، أنه يمكن تربية العقل على حسن التفكير، وتأمل آثار عظمة الله، وتربية المشاعر والعواطف بالخوف من الله

والخشوع له وتعظيمه وتقديسه، أما تربية السلوك بالقرآن، فقد علمنا ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان له أذكار وأدعيه من القرآن، يتلو بعضها ويدعو ببعضها في مناسبات معينة، فإذا استيقظ من نومه نظر في السماء، وتلا قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار} [آل عمران: 3/ 190-191] . وإذا أوى إلى فراشه تذكر قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} [الزمر: 39/ 42] ، فدعا بهذا الدعاء: "اللهم إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما حفظت عبادك الصالحين". وفي القرآن آداب سلوكية عظيمة تعلمنا غض البصر، والغض من الصوت، والقصد في المشي، وبر الوالدين، والتواضع للمسلمين، وعدم انتهار الأيتام، وإخفاء الصدقات، وعدم إبطالها بالمن والأذى، وكثيرًا كثيرًا مما لا يحصى في هذا المقام. واجبات المربي: فعلى المربي بواسطة القرآن: أ- أن يربي لسان الناشيء ويقومه بحسن التجويد، وعدم اللحن. ب- وأن يربي لسان الناشئ بالخشوع عندما يمر بآية تستوجب الخشوع، أو الغضب في الله، أو الحنين إلى الجنة، أو الشعور بمحبة الله. ج- وأن يربي سلوك الناشئ فيأخذ العهد عليه، ويتعهده ليعمل بتعاليم القرآن في أثناء الرحلة مع الطلاب وعند التغذية، وتناول الطعام وفي كل المجالات. د- وأن يربي عقل الناشئ بالاستدلال على ما استند عليه القرآن، وبتأمل ما يدل على عظمة الله، وأن يضع أسئلة كثيرة بعد كل درس لتمرين العقل على ذلك.

كل ذلك بعد أن ينتهي من فهم المعنى، والمراد الإجمالي لكل مجموعة من الآيات "في درس التلاوة"، أو لكل أية أو كلمة "في درس التفسير والاستحفاظ". وهكذا نجد أن التربية بالقرآن يمكن أن تتناول كل جوانب النفس الإنسانية. أما التربية الاجتماعية ففي الجهاد يتلو القراء، والحفاظ عل المجاهدين آيات الجهاد. وفي الحج يتلو الحجيج آيات تذكر بإبراهيم، وبأهمية الصفا والمروة، ونحو ذلك. والقرآن هو الذي يجمع قلوب البشرية على مبدأ واحد ودستور واحد، وله الأثر الأول في جمع كلمة الأمة الإسلامية، إذ لا يختلف اثنان من المسلمين على أنه من عند الله، وأن اتباعه واجب وحق. 4- الإيمان بالرسل: الرسول هو القدوة، والمربي الأول لجيل مثالي، يكون من بعده من أجيال البشرية تبعًا له. فالأساليب1 العملية للتربية الإسلامية يمكن اقتباسها من حياة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم. وقد أمرنا الله أن نؤمن بجميع الرسل؛ لأن كل الرسالات التي جاءوا بها تطلب من البشر إخلاص العبودية لله، والاعتراف له بالألوهية، بكل معانيها أو مجمل معانيها التي أشرنا إليها. ولكن نجاح الأثر التربوي للرسول يتوقف على الإيمان بأنه مؤيد بالوحي والإلهام من عند الله، فلا يقره الله على خطأ في التشريع، وأنه أمين قد بلغ رسالات ربه. فإذا تم هذا الإيمان شعر الإنسان بسعادة عظيمة كلما اقتدى بأمر من أوامر الرسول، أو أسلوب من أساليبه التربوية في الحياة. أما الفلاسفة والزعماء وعلماء التربية، فإنما يتبعون الظن، ويضعون نظريات

_ 1 أشرنا إلى ذلك إجمالًا في الفصل الثاني "مصادر التربية الإسلامية"، وسنفصله في "أساليب التربية الإسلامية" إن شاء الله.

مؤقتة يجربونها على الأجيال، وكلما فشلت عدلوا وغيروا فيها، بعد أن يكونوا قد ضحوا بجيل كامل من أجيال الإنسانية. ثم إن رسالة الرسول عندما تكون إنسانية عالمية تؤدي إلى أخوة بين البشر، وتربي عند الأجيال الشعور بالوحدة الإنسانية تحت ظل لواء خالق البشر. {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ، وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون: 23/ 51-52] . وقد ختم الله النبوة بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم، فلا نبي بعده، لذلك امتازت رسالته بأنها أكمل الرسالات وأكثرها شمولًا، وكان الرسول من قبله يبعث إلى قومه خاصة، فأرسله الله رحمة للعالمين. فالتربية التي وضع أسسها تربية عالمية، تناسب فطرة الإنسان أينما كان، وقد نقلت إلينا أخباره بالسند الصحيح، وحفظ الله سنته، فبين علماء الحديث ضعيف الأخبار وصحيحها. ونسخ الله برسالته سائر الرسالات التي سبقته، وكان قد أمر جميع الأمم قبله أن يتبعوه إذا أدركوا رسالته. 5- الإيمان باليوم الآخر: إن النتيجة الطبيعية لنظرة الإسلام إلى الكون والحياة، هي الإيمان بالحياة الآخرة، فالدنيا كما أشرنا إلى ذلك، مرحلة مؤقته، والكون كله ما خلقه الله عبثًا، بل خلقه إلى أجل مكتوب عنده. فإذا انتهى أجل الكون والإنسان، والحياة البشرية كلها، أفنى الله هذا الكون وأنهى الحياة القائمة عليها، وأهلك كل شيء فيه، ثم يخلق عالمًا آخر غير هذا العالم، له نظام ومقومات تختلف عن نظام هذا الكون، وحياة أبدية لا موت بعدها، ليقدر الله أعمال العباد، ويزنها بالقسطاس المستقيم: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} [الأعراف: 7/ 8-9] . ويومئذ لا يخفى شيء نوايا البشر وأعمالهم، حيث تشهد عليهم أيديهم

وأرجلهم وينشغل كل امرئ بنفسه: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 80/ 34-37] . ويومئذ لا تنفع الشفاعة، ولا يقبل من أحد عدل، ولا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، خالص من شوائب الشرك. ويومئذ يتجلى العدل الإلهي، حين يضع الله الموازين القسط. فإذا انقضى الحساب تجلت رحمة الله على عبادة المؤمنين، فيدخلهم الجنة خالدين فيها، وتجلى غضبه على الكفار الجاحدين، الذين يدعون إلى جهنم دعا، خالدين فيها. النتائج التربوية للإيمان باليوم الآخر: أ- تربية الشعور الحقيقي بالمسئولية: يلاحظ من وجهة النظر التربوية أن الإيمان باليوم الآخر، هو الوازع والدافع الحقيقي الذي يكمن وراء الشعور بالمسئولية الجدية الحقة، وأن لاشعور بالمسئولية حقا بدون هذا الإيمان، ولذلك لاحظنا أن ميزة التشريع الإسلامي تكمن في تقبل الناس له، بطواعية، ودون حاجة في كثير من الأحيان إلى استعمال السياط وأقسى العقوبات، ودون أي تهرب أو احتيال على هذا القانون الإلهي، ما دام الملائكة الحفظة يكتبون، وما دام يوم الحساب والجزاء ينتظرنا بالمرصاد، فكل من ربي تربية إسلامية يشعر بتمام المسئولية عن كل أعماله، خوفا من الوقوف للحساب بين يدي الخالق في يوم تشخص فيه الأبصار. ب- تحقيق الأخلاق الفاضلة المطلقة، في سلوكنا وحياتنا تحقيقا فعليا مستمرًّا، ثابتا غير متقلب، بلا نفاق ولا رياء، لا يكون إلا نتيجة للإيمان باليوم الآخر، فالحلم والأناة، والتضحية، والصبر على الشدائد، والسمو بالنفس عن الدناءات، كل ذلك يتجلى به المؤمن؛ لأنه ينتظر جزاءه عند الله، لا عند المجتمع ولا عند الناس، ويوم الجزاء آت لا ريب فيه، في موعده الذي قدره الله له، لا يتزحزح، لذلك فإن أخلاق المؤمن ثابتة لا يزعزعها شيء من أعراض الحياة الزائلة. ج- وكذلك انضباط جميع الدوافع والغرائز، والتحكم في هذه القوى الغريزية الجامحة، إنما يتم خوفًا من الله، وطمعا في جنته، وقد أشرنا إلى أن الإسلام وضع

لكل دافع غريزي، من الترغيب والترهيب، ومن التسامي به، ما يخضعه لشريعة الله، فيجعله طاقات مثمرة في حياة الفرد والمجتمع، بدلا من أن يعاكس الإنسان هذه الدوافع، فتنقلب إلى طاقات مبددة عندما يصطدم بالكبت والإحباط، فتوجيه الدوافع في الإسلام خير ألف مرة من كتبها أو تناسيها، كما في العقائد الأخرى التي تبالغ في الزهد، والتي لا تراعي الفطرة الإنسانية. د- إيثار الآخرة على الدنيا، والصبر على الشدائد. على أن مغريات الحياة الدنيا، وما يقابلها من المصائب، والشدائد التي تصيب الأفاضل المثاليين، يكيدها لهم أتباع الشياطين، لا علاج لها إلا ما يربيه القرآن في نفوسنا من "إيثار الآخرة على الدنيا". فنساء رسول الله، وهن من فضليات النساء في عصرهن، اجتمعن ليطالبن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأن يمتعهن بزينة الحياة الدنيا وغناها، كما تتمتع نساء الملوك، فنزل فيهن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا، وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 33/ 28-29] . فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة، وبقين في كنف رسول الله يصبرن على شظف العيش، وقال سبحانه: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 87/ 16-17] . وقال عز وجل: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى، وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى، وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 79/ 37-41] . هـ- تربية العقل على الفطرة السليمة: وذلك أن كل إنسان يفكر في هذا الكون بدون تحيز إلى أهوائه يصل إلى النتائج التالية: *- أن كل ما في الكون من حياة وموت، وفناء أو ضعف تدريجي للطاقات وتغير، وأفول وشروق، يدل على أنه صائر إلى الزوال، ومسير بغير إرادته.

*- وأن هذا الإنسان الذي يقضي عمره في كدح وجد، وخصومة ونزال مع المجتمع، وهو يتمتع بالعقل والتمييز بين الخير والشر، إذا به يموت ويفقد كل حركة أو حياة، ومن الناس ظالم ومحسن وصالح وطالح، فهل يستوي ذلك كله؟ وهل تكون كل أعمال الناس إلى فناء، من غير تمييز بين المحسن المسيء؟ إن العقل الصحيح والفطرة السليمة لا تستسيغان ذلك، ولا تستسيغان أن يكون هذا الكون المنظم البديع مصيره إلى الفناء بغير هدف، ولا غاية. *- فالكون الذي يدل على خالق مبدع حكيم، يدل على وراء وجود غاية، من أجلها أوجده الله، وهذه النتيجة يتوصل إليها العقل السليم بفطرته. *- وبالقياس المنطقي على خلق الله لهذا الكون وللإنسان، يستلزم العقل الصحيح الخالي من التحيز للهوى، أن الذي خلق الكون، أو مرة قادر على إعاته خلقًا جديدًا، وكذلك الذي خلق الإنسان. هذه السلسلة من التفكير كل حلقة منها مرتبطة بسابقتها، هي التي بنى عليها القرآن أدلته على وجود الله، ثم على اليوم الآخر والبعث والنشور، والتربية الإسلامية تنمي عقل الإنسان دائمًا على هذا التفكير السليم، والارتباط المنطقي بين المقدمات والنتائج، كما تربيه على ألا يستسيغ العبث وانعدام الغاية، والخضوع للمصادفة، فكل ذلك ليس من الفطرة العقلية السليمة في شيء، والله لا يرضى لنا أن يكون علقنا معوجا سقيما، لذلك قال: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: 39/ 7] ؛ لأن الكفر بوجود الله وباليوم الآخر، معناه خضوع العقل للعبث والمصادفة، وعدم التعليل الصحيح. 6- الإيمان بالقدر خيره وشره: وهذا الإيمان من لوازم الإيمان بالله؛ لأن الله هو الذي قدر كل ما سيقع في الكون، وفي المجتمع الإنساني، وبين البشر من حوادث، وقدر لكل ذرة في السماوات والأرض مبدأها ومصيرها، ونظامها، وأجلها، وعلاقاتها بغيرها وبسائر الكون، وكذلك لكل جرم صغير أو كبير.

ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل هذا الإيمان ركنا مستقلا؛ لأن جانبا هاما من حياة الإنسان، وتربيته يرتكز على هذا الركن، فتعال ننظر إلى آثاره التربوية: الآثار التربوية للإيمان بالقدر: أ- العزم والقضاء على التردد: ليس في المجتمعات البشرية أمضى عزيمة من المؤمن بقدر الله، فهو إذا ناقش الأمور ورجح بينها، واسشاره غيره، واستخار ربه، يمضي قدما فيما عزم عليه، دون توقف أو تردد أو خوف، ليقينه بأن جميع الظروف والاحتمالات التي يمكن أن تكون غير واقعة في طوقه وحسبانه، هي مما وقع في علم الله وقدره، وأن الله مؤيده، فإذا يسر له ما عزم عليه، فهو الخير المقدر له، أو ليصرف الله عنه شرًّا كان محتملًا. ب- عدم الندم أو الحسرة على ما فات، فالمؤمن لا ينوح على الماضي بالتندم والتحسر؛ لأن ذلك لن يرد عليه شيئا مما فات؛ ولأنه إنما حصل على ما كتب الله له، ولا اعتراض على قدر الله ما دام قد وقع، ولكن له أن يعتبر، فيتوب من الخطأ أو الذنب، ولا يلدغ من جحر مرتين. ج- الجرأة أمام الموت: أما الموت فلا يمكن لنفس أن تموت إلا بإذن الله، بعد أن تستوفي أجلها الذي كتبه الله لها: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا} [آل عمران: 3/ 145] . لذلك لا يحق للمؤمن أن يقول بعد أن يموت له قريب لو فعلنا كذا لما مات قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزّىً لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [آل عمران: 3/ 156] . فإذا تربى المؤمن على الجرأة أمام الموت فقد أصبح جريئا أمام كل شيء، أمام فقد مال أو ولد أو جاه، أو أمام مرض أو أي مصاب آخر، ما دام يؤمن بأنه مقدر من الله. د- التفاؤل الرضا وقطع دابر التشاؤم، وهو تعليل المصائب بعلل، أو أسباب غير صحيحة، كالتشاؤم من صوت البوم، أو كالتشاؤم الكفار بأنبيائهم، مع أن كفرهم هو الذي كان شؤما عليهم، كما قص الله علينا في سورة: {يّس} ، قول الكفار لأنبيائهم:

{قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ، قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [يس: 36/ 18-19] . وعن عروة بن عامر قال: ذكرت الطيرة عند رسول الله فقال: "أحسنها الفأل 1، ولا ترد مسلمًا 2، فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت ولا حوف، ولا قوة إلا بك" 3. وكالتشاؤم من المرض، مع أن له فوائد معنوية أهمها تهذيب النفس وتكفير الخطايا، فقد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم السائب "أو أم المسيب"، فقال: "مالك يا أم السائب -أو أم المسيب- تزفرين؟ " قالت: الحمى لا بارك الله فيها، فقال: "لا تسبي الحمى فإنها تذهب خطايا بني آدم كما يذهب الكير خبث الحديد" 4. وكذلك لا يجوز التشاؤم من الزمان، وحوادثه لقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه أبو هريرة: "لا يقولن أحدكم يا خيبة الدهر، فإن الله هو الدهر" 5. وكذلك نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن التشاؤم من الريح: فقال فيما رواه عنه أبي بن كعب: "لا تسبوا الريح، فإذا رأيتم ما تكرهون فقولوا: الله إنا نسألك من خير هذه الريح وخير ما فيها، ونعوذ بك من شر هذه الريح وشر ما فيها، وشر ما أمرت به" 6. هـ- وهذا كله يربي المؤمن على العقل، وعدم تعليل الأمور حسب هواه ومصلحته، بل يجب أن يعرف أن لكل ظاهرة كونية فوائد ومضار، فيطلب فوائدها ويستبعد مضارها.

_ 1 سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما الفأل؟ قال: "الكلمة الطيبة". حديث لا عدوى ولا طيرة متفق عليه -رياض الصالحين ص592 ط دار الكتاب العربي- بيروت. 2 أي لا ترد الطيرة مسلمًا عما عزم عليه. 3 قال النووي: حديث صحيح، رواه أبو داود بإسناد صحيح "رياض الصالحين ص592". 4 رواه مسلم عن جابر رضي الله عنه "رياض الصالحين ص606". 5 الأدب المفرد للإمام البخاري، الحديث 769. 6 رواه الترمذي، وقال: حديث صحيح "رياض الصالحين: ص606".

الفصل الرابع: غاية التربية الإسلامية وأهدافها

الفصل الرابع: غاية التربية الإسلامية وأهدافها أولًا: معنى الهدف ... الفصل الرابع: غاية التربية الإسلامية وأهدافها معنى الهدف وشروط وأهميته. أولا: معنى الهدف قد يندفع الإنسان إلى سلوك دون أن يدرك هدفه، بسبب ما أودع في فطرته من حرص غريزي على الحياة، فيعلل عمله بهذا الدافع، كالنائم الذي يسحب يده إذا وخزها إنسان بدبوس، فيقال: إن سلوكه هذا مصحوب بدافع حب البقاء، وإن لم يدرك هدفه. ولكن الغالب، في حياة الإنسان الراشد العاقل الواعي، أن يفكر، ويقصد إلى هدف معين، يريد أن يحققه من وراء سلوكه، كالطالب الذي يجد طول العام الدراسي لينجح في الامتحان، ثم ينال رتبة علمية، ثم يحصل على مركز اجتماعي معين، أو راتب مالي يعيش منه. والنتيجة التي يحصل عليها الطالب، إما أن تكون مطابقة للهدف، أو قاصرة عنه، أو أن تحقق جزءًا منه، فليست النتائج هي الأهداف، وليست الدوافع هي الغايات. والنتيجة هي المحصلة التي انبثقت عن السلوك، وتوصل إليها الكائن سواء حققت الهدف، أو لم تحققه والهدف هو الغاية التي يتصورها الإنسان، ويضعها نصب عينيه وينظم سلوكه من أجل تحقيقها، والدافع هو المحرض العضوي، أو النفسي الذي يبعث على السلوك، أو يغذي القوى الباعثة عليه في النفس والجسم ويحركها، وينشطها حتى يحقق غاية حيوية تهم كيان الكائن سواء أدركها، أو لم يدركها بعقله، أو روحه.

ثانيا: أهمية الهدف وتحديده

ثانيًا: أهمية الهدف وتحديده ... ثانيا: أهمية تعيين الهدف وتحديده لو أمر إنسان أن يمشي في طريق معين، دون بيان أي سبب لهذا المسير، أو اختيار هذا الطريق دون غيره، لسار مترددًا، ولكان اندفاعه ضعيفا، ولراوده التساؤل، والتقاعس. ولكن لو قيل لهذا الإنسان، مرة أخرى: اسلك هذا الطريق، فستجد في آخره بستانا جميلا، له أصحاب كرام، يدعون جميع الوافدين للغداء عندهم، على ضفاف السواقي والشلالات، وكان هذا الإنسان جائعًا مستعدا للطعام، لا ندفع مسرورا، مرتاح النفس، راغبا، ولقطع الطريق بقوة وعزم، وبأقل وقت وجهد، فالهدف يوجه النشاط ويدفع إلى الإنجاز، ويساعد على النجاح. ومن هذا المثال يتبين لنا أن لتعيين الهدف أهمية تجلعه ضروريا لكل ضروب السلوك الواعي، فكيف بالنسبة لعملية تربوية يراد منها توجيه الجيل، وبناء صرح الأمة، وتعيين أسلوب السلوك في حياة الفرد والجماعة، حتى يجتاز البشر هذه الحياة بسعادة، ونظام وتعاون، وانسجام، وتفاؤل ورغبة وإقدام، ووعي وتدبر وإحكام؟

ثالثا: هدف التربية الإسلامية

ثالثا: هدف التربية الإسلامية ولما كانت التربية الإسلامية تربية واعية، هادفة، وقد وضع الله أسسها في هذه الشريعة لجميع البشر. كان لزامًا على الباحث فيها أن يبين هدفها السامي الشامل الذي عينه الله لجميع البشر، قبل الشروع ببيان أساليبها وخصائصها؛ لأن الهدف هو الذي يعين الأساليب، ولو ألقينا نظرة على أسس التربية الإسلامية1، وتصور الإسلام للكون والحياة، ولأهداف الحياة لوجدنا فيها: أن الله خلق الكون، لهدف معين، وأوجد الإنسان على الأرض ليكون خليفة يحقق طاعة الله، ويهتدي بهديه، وسخر له ما في السموات والأرض، فجعل ذلك كله خادما الإنسان محققا لها، وطلب منه أن يتأمل ما في الكون ليستدل به على عظمة الله، فيدفعه ذلك إلى طاعة الله ومحبته، والخضوع لأوامره ومناجاته، وجعله مستعدًا للخير والشر، وأرسل رسله إلى البشر ليهدوهم إلى عبادته وتوحيده. وأن الله جعل لهذا الكون ولهذه الحياة الدنيا أجلا ينتهي في وقت محدود عند الله، ثم يفنى الكون وتفنى الحياة الدنيا، ثم يخلق الله الإنسان خلقًا جديدًا، ويخلق كونًا جديدًا، ليحاسب الناس على أعمالهم، وليجازي المسيء الذي كفر بنعمة الله ورسله، وشريعته بالجحيم الدائم، والمحسن الذي آمن بالله وشكره على نعمته، واتبع رسوله وكتابه بالنعيم المقيم الأبدي. من هذه النظرة الإسلامية إلى الكون يتضح أن الهدف الأساسي لوجود الإنسان في الكون، هو عبادة الله والخضوع له، والخلافة في الأرض ليعمرها بتحقيق شريعة الله وطاعته، وقد صرح القرآن بهذا الهدف في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 51/ 56] . وإذا كانت هذه مهمة الإنسان في الحياة، فإن تربيته يجب أن تكون لها نفس الهدف؛ لأن التربية الإسلامية كما عرفناها في أول الفصل الثالث هي: "تنمية فكر الإنسان وتنظيم سلوكه، وعواطفه، على أساس الدين الإسلامي". وبذلك "تكون الغاية النهائية للتربية الإسلامية هي تحقيق العبودية لله في حياة الإنسان الفردية والاجتماعية". الإسلام، وأهداف التربية الغربية: بيد أن الاقتصار على هذه الغاية لن يقصر جهد الإنسان على النسك، والمسجد وتلاوة القرآن، كما يبدو للبعض، للوهلة الأولى؛ لأن طاعة الله وعبادته لا تقتصر على النسك والعبادات، بل تشمل الحياة بكل جوانبها، وقد بينا ذلك في الفصل الماضي عندما تعرضنا للعبادة في عداد أسس التربية الإسلامية. وعلى هذا فجميع الأهداف التربوية التي تدعيها التربية الغربية اليوم، يشملها هذا الهدف الأسمى للتربية الإسلامية، ويسمو بها ويوجهها الوجهة المثالية التي تبعدها عن الانحراف أو الزلل، وتجعلها في خدمة الإنسانية، وتحقيق السعادة للفرد والمجتمع.

_ 1 الفصل الثالث من هذا الكتاب "الأسس الفكرية".

ولبيان ذلك لا بد لنا من وقفة عند كل هدف من هذه الأهداف، لنبين معناه في التربية الغربية، وكيف يتحقق في ظل التربية الإسلامية. 1 - الإسلام وتحقيق الذات: ومن أبرز من قال بهذا الهدف التربوي "سير برسي نن"، فقد قال في كتابه "التربية": "إن الذاتية هي الهدف الأسمى الذي تسعى إليه التربية، ولا خير يمكن أن يصيب هذا العالم إلا عن طريق النشاط المطلق للأفراد، رجالا كانوا أو نساء، وإن التربية التي تتخذ مبدأ "تحقيق الذاتية" هدفا لها، هي التربية الوحيدة التي تسير وفق قوانين الطبيعة، والتي تشهد لها الحقائق المستمدة من علم الحياة". وهذا الهدف يعني أن لكل إنسان بمفرده ذاتية، وخصائص تميزه عن غيره من الناس، والتربية الحقة في رأيهم هي التي تعني بإبراز هذه الخصائص عن طريق إطلاق حرية كل الناس، وإتاحة الفرص الكافية والأوضاع المناسبة لجميع الناشئين، ليحقق كل ناشيء ذاتيته، في جو اجتماعي يناسب الجميع. نقد هذا الهدف: يؤخذ على هذا الهدف مأخذان: الأول أن الحرية أو "النشاط المطلق" للأفراد، كما عبر عنه "برسي نن" يحتاج إلى ضوابط تعصم الأفراد عن الغرور بذاتيتهم، أو الطغيان على غيرهم أو استعمال خصائصهم الذاتية في شر الإنسانية، وضرر المجتمع. فإذا نشأ كل طفل وهو يرى أن المجتمع كله، والكون كله مجال لذاتيته هو، دون أن يكون لهذه الذاتية هدف أسمى يوجه طاقاتها، فأي مجتمع تخرج لنا هذه التربية؟ والمأخذ الثاني هو أن إطلاق الذاتيات يحتاج إلى هدف مشترك أسمى تحققه هذه الذاتيات، مع بقاء مجالات للتمييز الفردي لكل ذاتية. وهذا الهدف الأسمى لم ينص عليه القانون بهدف "تحقق الذات"، وإن كان "برسي نن" قد أشار إليه بقوله: "ويخطئ من يعتقد أن نظريتنا هذه لا تميز بين المثل العليا والحسنة للحياة، والمثل الرديئة، ولا تمييز بين أنواع الذاتية التي يجب تشجيعها، وأنواع الذاتية التي يجب إخمادها..".

إلا أنه في هذه الإشارة العابرة لم يعتمد على مبدأ، أو معيار للخير أو الشر، وحتى لو أنه وضع مبدأ، لاختلف في ذلك مع غيره من المربين والفلاسفة، ولا يزال الناس يختلفون، فلا بد من معيار إلهي يجمع عليه البشر في هذا الموضوع؛ لأن معايير الناس تختلف باختلاف ظروفهم الاجتماعية، والنفسية والعائلية، ولا يصلح واحد منها لتربية جميع البشر. أما كيف يشتمل هدف التربية الإسلامية، وهو إخلاص العبادة لله، على هدف "تحقيق الذات"، فإليك تفصيل ذلك: أ- عندما كلف الله الإنسان بعبادته، كلفه على أساس أنه مميز بين الخير والشر، وقد بين له نتيجة طريق الخير يوم القيامة، ونتيجة طريق الشر، وفي هذا كل التقدير لذاتية الإنسان، ذلك أن الله جعله مميزًا مختارًا، أي أعطاه حرية الاختيار، ثم بين له مسئولية عن هذا الاختيار. ب- أنه ترك مجال التسابق إلى الخيرات مفتوحا لجميع الناس، وجعل مبدأ الجزاء على حسب العمل، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، فالله يحاسب على كل مثقال ذرة من أعمال الناس، ثم يضاعف لمن يشاء، لا فرق في ذلك بين ذكر وأنثى، ولا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى، أي بالعمل الذي يحقق الخوف من عقاب الله، والخشوع والطاعة لله. ج- أنه جعل الهدف الأسمى وهو "طاعة الله وعبادته" هو معيار التمييز بين الذاتية الخيرة، والذاتية الشريرة، أو التمييز بين تحقيق الذاتية في سبل الخير، وتحقيقها في سبل الشر، وتفاصيل هذا المعيار منشورة في كتب الفقه والتوحيد، وفي آيات القرآن، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم. وهكذا لم يترك الإسلام هدف تحقيق الذاتية والحرية، مطلقًا من غير ضابط، بل اعتبر ذلك الهدف وسيلة لهدف أسمى منه، وهو في الواقع وسيلة، وليس غاية مطلقة، فإذا سألنا كل ماهر في الطب مثلا، لماذا ينمي مهارته هذه أي يحقق "ذاتيته الطبية"؟؟ لأجاب بحسب غايته الضيقة، إما "لجلب المال"، وإما "للشعور بالتفوق"، أما الطبيب المؤمن فهدفه تحقيق أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالتداوي؛ لأن الله ما أنزل داء إلا وأنزل له دواء.

د- أنه ثبت في بعض الآيات، والأحاديث النبوية ضرورة أن يعمل كل إنسان بحسب قابلياته، واستعدادته الذاتية، كقوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى، وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى: 87/ 1-3] أي قدر لكل كائن استعدادا خاصا به، وهداه إلى سبيل الحياة التي تحقق ذاتيته، وقابلياته واستعدادته. وقوله سبحانه: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 9/ 105] . فالمجتمع المؤمن يرى أعمال أفراده، ويشجع قابلياتهم ويقابلها بالشكر والتقدير، وكقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له". أي أن الله خلق كا كائن، وكل إنسان لهدف أو لمهنة، وزوده بقدرات وكفاءة معينة، ثم يسر له من المجالات ما يناسب ذاتيته وكفاءته ومقدرته، ولذلك أمره بالعمل، والسعي لتحقيق مثله الأعلى حسب قدرته وذاتيته. ومن الكلمات الطيبة الموزونة في هذا المجال قول المربي الكبير، ابن قيم الجوزية، في كتابه "تحفة المودود بأحكام المولود": "ومما ينبغي أن يعتمد، حال الصبي، وما هو مستعد له من الأعمال ومهيأ له منها، مما كان مأذونا منه شرعا، فيعلم أنه مخلوق له، فلا يحمله على غيره، فإنه إن حمل على غير ما هو مستعد له لم يفلح فيه، وفاته ما هو مهيأ له، فإذا رآه حسن الفهم صحيح الإدراك جيد الحفظ واعيا، فهذه من علامات قبوله، وتهيئه للعلم، لينقشه في لوح قلبه ما دام خاليا، فإنه يتمكن فيه ويستقر ويزكو معه، وإن رآه بخلاف ذلك من كل وجه، وهو مستعد للفروسية وأسبابها، من الركوب والرمي واللعب بالرمح، وأنه لا نفاذ له في العلم، ولم يخلق له، مكنه من أسباب الفروسية والتمرن عليها، فإنه أنفع له وللمسلمين، وإن رآه بخلاف ذلك، وأنه لم يخلق لذلك، ورأى عينه مفتوحة إلى صنعة من الصنائع، ومستعدا لها، قابلا لها، وهي صناعة مباحة نافعة للناس، فليمكنه منها، هذا كله بعد تعليمه له ما يحتاج إليه في دينه"1.

_ 1 ص144-145 ط المطبعة الهندية 1380هـ على نفقة الشيخ علي بن عبد الله آل ثاني.

وقال ابن سينا في كتابه "القانون": "وعلى المؤدب أن يبحث له عن صناعة، فلا يجبره على المعلم إذا كان غير ميال إليه، ولا يتركه يسير مع الهوس، إذ ليس كل صناعة يرومها الصبي ممكنة له، مواتية، لكن ما شاكل طبيعته، وناسبه، وأنه لو كانت الآداب والصناعات تجيب، وتنتقاد بالطلب دون المشاكلة والملاءمة، إذن ما كان أحد غفلًا من الأدب، وعاريًا من صناعته، وإذن لأجمع الناس على اختيار أشرف الصناعات"1. 2- الإسلام وهدف النمو: توجيه الإسلام في جوانب التربية المختلفة: يرى بعض علماء التربية وفلاسفتها المعاصرون، أن الهدف الأوحد للتربية هو النمو، نمو الإنسان من جميع النواحي العقلية والجسمية والروحية، والاجتماعية، ولكن معنى النمو يحتاج إلى إيضاح: هل النمو مجرد زيادة في الحجم، أو الوزن أو المعلومات والتصورات، أم هو تطور كيفي الأسلوب حياة الناشئ منذ الولادة حتى البلوغ؟ ولحركاته وتصرفاته وسلوكه؟ يجمع علماء التربية اليوم أن الزيادة الكمية وحدها ليست هي معنى النمو الذي تهدف إليه التربية، ولكنهم يختلفون في تطوير سلوك الإنسان. أ- فبعضهم يرجعه إلى آليات وردود أفعال منعكسة، فيجعلون الإنسان كالمعمل الكبير، كلما ضغط على زر من أزراره تحركت آلة من آلاته، وكل آله تحرك التي تليها، حتى يصل الإنتاج إلى آخر مرحلة، فيخرج إلى يد المستهلك برادا، أو سيارة، أو مكيفا، إلخ.. وهكذ الإنسان كلما أثر فيه مؤثر خارجي سعى إلى تحقيق شهوة من شهواته. وهؤلاء لا يحتاجون إلى كثير من النقاش، ولا يصمدون أما الاحتجاج بإرادة الإنسان، وتغير الاستجابة من إنسان إلى آخر، بحسب تربية كل إنسان وظروفه الحالية، أو آماله المستقبلة.

_ 1 علم النفس: عبد الرحمن نحلاوي، عبد الكريم عثمان، محمد خير عرقسوسي، ط كلية الشريعة بالرياض ص44.

فمن العلوم أن المؤثر الخارجي الواحد، كرؤية الطعام مثلًا يعطي عدة ردود أفعال مختلفة، كعدم المبالاة: بالنسبة للشبعان؛ والصبر: بالنسبة للصائم؛ والعزوف: بالنسبة لشريف النفس الذي لا يجد الميل الكافي لهذا اللون من الطعام. وكل من هؤلاء يفكر قبل أن يقدم على الاستجابة، وليس آلة تستجيب بدون تفكير، أو هدف، أو غاية من الحياة. ب- أما الفريق الثاني فيقولون: أن الإنسان ينمو أي يتطور سلوكه، على أثر ما يتكون عنده من خبرات، فإذا كان الطفل بين أهله ووسخ ثوبه الجديد، مثلا، بالطعام، عابوا عليه ذلك، وعنفوه، وأظهروا أمامه من الانفعالات، ما يجعله يعلق في ذهنه ارتباط الألم النفسي بتوسيخ الثوب الجديد. هذا الارتباط يسميه "جون ديوي"1 خبرة، وهذه الخبرة بالذات، في هذا المثال لما كانت صادرة عن المجتمع، أمكننا أن نسميها خبرة اجتماعية؛ لأنها تحصر التعامل مع الجماعة، وتتابع خبرات الطفل الاجتماعية، حول السلوك المعيب أمام الضيف، والسلوك المحبب، كالتحية وألفاظها، فنقول: إن الطفل ينمو نموا اجتماعيا أي تزداد خبراته الاجتماعية، وتنمو معها مشاعره الاجتماعية، كالأنس بالآخرين، كالصغار، والخوف من بعض الناس أو من بعض المواقف، والنفور من البعض الآخر وهكذا، وقل مثل هذا في نمو الخبرات الحسابية، واللغوية، والقصصية، والصناعية، واليدوية، وهلم جرا.. نقد هذا الهدف: ليس من شك في أن تتابع الخبرات ينمي مدارك الناشئ، ويجعل سلوكه أقرب إلى التعايش مع المجتمع، ومع الحضارة ومخترعاتها، ومع ظروف الحياة ومتطلباتها. ولكن ليست جميع الخبرات سواء في تحقيق خير الإنسانية، وبالتالي ليس كل نمو يستخدم للخير، فبعض عصابات الأشقياء في أمريكا يستخدمون خبراتهم، ونموهم

_ 1 فيلسوف ومرب أمريكي معاصر توفي سنة 1372هـ/ 1952م، وله آراء وكتب في التربية مشهورة، وإليه تنسب طريقة "المشروع" من أهم طرق التربية الغربية.

العقلي ومهاراتهم في السطو على المصارف، أو خطف عظماء الناس، أو أطفال الأغنياء. فهل يعد هذا هدفًا تربويا؟ إنه في عرف هذه العصابات1 هدف يربون عليه أبناءهم، أو يدربون عملاءهم بل هو هدفهم المفضل، ولكنه في الحقيقة وسيلة للشر، وذلك؛ لأن هذا النمو وتلك الخيرات والمهارات، لم تكن هي الهدف، بل كانت وسيلة لهدف آخر هو الثراء السريع المفاجئ، أو التشفي من بعض الطبقات، أو.... ومن هذا المثال، ومن جميع مواقف الحياة، ندرك أن النمو وسيلة لتحقيق هدف أبعد منه، والنمو سلاح ذو حدين، إذا لم يوجد منذ الصغر نحو هدف أسمى، فقد يستخدمه الناشيء بعد خروجه إلى المجتمع، لتحقيق أغراض دنيئة، أو أعمال ضارة بالآخرين. والتربية الإسلامية التي تضع كل شيء في موضعه الطبيعي، اعتبرت النمو بجميع جوانبه وسيلة لتحقيق مثلها الأعلى، وهو "العبودية لله وطاعته، وتحقيق عدالته وشريعته في جميع شئون الحياة الفردية والاجتماعية"، فالإسلام يحض على النمو بكل أشكاله، أي أن التربية الإسلامية تشمل رعاية النمو من كل جوانبه: الجسمية، والعقلية، والخلقية، والاجتماعية، والذوقية، والروحية، والوجدانية، مع توجيه هذا النمو تحو تحقيق هدفها الأسمى. ولكن ذلك يحتاج إلى ربط وإيضاح، نسبطه في الفقرات التالية: *- التربية الإسلامية والنمو الجسمي. مما لا شك فيه: أن طاعة الله وعبادته، والدعوة إليه تحتاج إلى جهد، وطاقات جسدية، ولذلك جاء في الحديث الشريف: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف"؛ وأن الانتحار وقتل النفس، وإلحاق أي أذى بالجسم، من الأمور المجرمة التي يعاقب عليها الشرع في الدنيا والآخرة؛ وأن كلا من الصلاة والصيام والحج، فيها تنشيط وتوجيه لبعض طاقات الجسم وأجهزته؛ وأن تغذية الرضيع

_ 1 كلمة عصابة لا يعبر بها عن الشر فقط، فقد جاءت حتى في القرآن لجماعة المسلمين، ولكن اسم الإشارة هنا خصصها.

وإعالة الطفل وإطعامه، وكساءه من الأمور التي يكلف بها الأب، أو النائب عنه، أو الدولة إن فقد العائل. ثم إن الإسلام حض على بعض الأمور التي تقوي الجسم، كالرمي والفروسية، وندب إلى السباحة، وسمح الرسول للأحباش بممارسة ألعابهم بالحراب، وكان يطل من حجرته، ويتفرج عليها هو والسيدة عائشة. وصارع الرسول صلى الله عليه وسلم "ركانة"، بطل قومه في ذلك الوقت، فصرعه الرسول صلى الله عليه وسلم، وسابق السيدة عائشة في الجري. وكان الصحابة عندما يخرجون من صلاة المغرب، يتبارون ويتمرنون على رمي النبال، حتى قال رافع بين خديج: "كنا نصلي المغرب مع النبي صلى الله عليه وسلم، "فينصرف أحدنا، وإنه ليبصر موانع نبله" 1، وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم سباقا للخيل، عن عبد الله بن عمر "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل التي أضمرت من الحفياء، وأمدها ثنية الوداع، وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق2. وهكذا نرى أن التربية الإسلامية تضم في طياتها تنمية الجسم، وتربية الجوارح، ولكنها بالمقابل توجه هذه الطاقات نحو حير الإنسان وخير المجتمع، وتحذر من البطش أو الاعتداء. فللتربية الإسلامية وسيلتان لتوجيه الطاقات الجسمية: أولاهما: توجيهها نحو كل ما يرضي الله، مع إغاثة الملهوف وإعانة الكل، والجهاد في سبيل الله. وثانيهما: تحذيرها من كل ما يغضب الله، مع التلويح بالعقوبة لكل بطش، أو أذى أو اعتداء يقوم به أي إنسان مهما بلغت قوته أو مكانته. *- التربية الإسلامية والنمو العقلي: العقل هو أهم الطاقات الإنسانية في نظر الإسلام، فجمع أركان الإيمان مبنية على فهم العقل وقناعته.

_ 1 رواه البخاري 1/ 140، ط دار الفكر. 2 رواه البخاري في فتح الباري شرح صحيح البخاري ج1، ط المطبعة السلفية.

لقد خاطب القرآن العقل ليدله على وجود الله، وحض الإنسان على التدبر في الكون، وفي نفسه ليدله على أن الله وحده الذي يستحق العبادة، ولفت النظر إلى قياس البعث في الآخرة على الخلق الأول، والنشأة الأولى، ليبرهن بالاستنتاج العقلي على صحة عقيدة البعث، والجزاء والجزم بها، وأمره أن يتفكر في خلق السماوات والأرض، وينظر في آثار الأقوام السالفة، وأنزل القرآن لنعقل معانيه ونتدبر آياته، وأنكر على الذين لا يستعملون عقولهم في الفهم والتفكير السليم، ووصفهم بالصم والبكم والعمي؛ لأنهم لم يفكروا فيما نقلته إليهم حواسهم من المرئيات والمسموعات، وأبوا أن ينطقوا بالحق الذي يمليه عليهم عقلهم لو سمحوا له بالتفكير والتدبر، فهم عمي عن إبصار الحق، أو ما يؤدي إليه من آيات الله في الآفاق، صم عن سماع الحجج، والتفكير في مصيرهم. ولو ذهبنا نحصي الآيات التي وردت فيه كلمات "تعقلون، يعقلون" لوجدنا "46" آية، أو موضعا في القرآن و"14" موضعا لكلمة "يتفكرون، تتفكرون" و"13" موضعا وردت في كلمة "يفقهون"، وكل هذه الآيات جاءت إما للحض على التفكير، وإما لمخاطبة العقلاء دون سواهم من الذين لا يريدون أن يعقلوا أو يتفكروا، وورد الحض على تدبر القرآن في أربع مواضع من القرآن. وورد تخصيص أولي الألباب بالموعظة، والحض على التقوى، والاعتبار بقصص القرآن، وبدلائل قدرة الله في الكون وبالتذكر، والعبرة بالقصاص، وبالهداية "16" مرة، وقد أوردنا عددا من هذه الآيات عندما بحثنا في أسس التربية الإسلامية. وهكذا نلاحظ أن التربية الإسلامية، في سبيل تحقيق هدفها الأسمى، وهو الإيمان بالله والخضوع له، وتذكر عظمته كلما نظر الإنسان إلى الكون، أو إلى نفسه؛ تدعو العقل إلى ممارسة حقه في البرهان والاقتناع، والتأمل والملاحظة، واستخدام الحجج المنطقية، كما تدعوه إلى استخدام ما سخر الله له في الكون، ودراسة القوى الكونية بقصد معرفة سننها للاستفادة منها، أي أنها تنمي العقل على أفضل أساليب النمو، ولكنها لا تسمح للعقل بالغرور، والتكبر عن قبول الحق، والصمم عن سماع الحجة المنطقية، في سبيل التشبث بالأهواء والشهوات، أو التحجر والتصلب

والاستمرار في الباطل من أجل منصب، أو مال، أو جاه، أو عزة زائفة يبتغيها من وراء هذا الباطل، كالسيطرة على عقول البسطاء بالشعوذة والتخريف. فالتربية الإسلامية تنمي العقل على التفكير السليم، والتواضع، والتسليم بالحق، والأمانة العلمية، وابتغاء الحق دون الهوى، والانتفاع بما يعلم، لا الاكتفاء بالعلم النظري، بل لا بد من التطبيق العملي، وقد بينا ذلك عند ذكر النتائج التربوية لبعض أسس التربية الإسلامية، فثبت بذلك أن التربية الإسلامية، وإن لم تنص صراحة، على تنمية العقل، لكن هدفها البعيد يشمل النمو العقلي كما شمل النمو الجسمي، وهي توجه هذا الجانب العقلي من جوانب التربية، كما رأينا، نحو الدقة في التفكير والأمانة، والتطبيق العملي، ونحو العمل على معرفة الله في آثاره وآياته ومخلوقاته، ونحو التبصر والهدى، والبعد عن الهوى، وعن الاتباع الأعمى، ونحو طلب الدليل والمعرفة اليقينية، والبعد عن الظن. *- التربية الإسلامية، والنمو الاجتماعي: شمول الهدف الإسلامي للجانب الاجتماعي من جوانب التربية: معنى النمو الاجتماعي: يقصد بالنمو الاجتماعي، أو الجانب الاجتماعي في التربية عدة معان أهمها: 1- نمو المشاعر الاجتماعية كالشعور بالانتماء، والميل الفطري إلى الجماعة وحب التقليد. 2- نمو الخبرات الاجتماعية، وما ينتج عنها من أساليب التعايش مع الجماعة، ومعرفة ما تحرمه الجماعة، وما تستحبه، وما توجبه على أفرادها، وأساليب السلوك في المجتمع، وآداب الحياة المشتركة. 3- نمو التصورات الاجتماعية والأفكار، والأهداف المشتركة التي تنعكس في نفوس الأفراد، نتيجة للتربية الاجتماعية التي يتلقونها، وللمشاركة في أعياد الأمة أو عبادتها، أو مظاهر حياتها الجماعية، أو جهودها الاقتصادية أو الحربية، ونحن هنا سنتناول مدى شمول التربية الإسلامية، بهدفها الأسمى، لهذه المعاني والجوانب الاجتماعيه.

إن تربية الإنسان على إخلاص الخضوع، والطاعة، والعبادة لله وحده، في جميع أمور الحياة سينتهي إلى تنمية المشاعر الاجتماعية بشكلها المزدهر المتفتح الخير، وأول ما يقرره علماء الاجتماع، أن المجتمع إنما يتكون باجتماع مجموعة من الأفراد، واشتراكهم على تصورات وأهداف ومصالح، يفهمونها فهمًا موحدًا ويعملون لها جميعًا، فيؤلف ذلك بينهم بروابط تربط جميع الأفراد، وتشدهم بعضًا إلى بعض، وتحبب إليهم العيش المشترك، والتعاون والتكافل فيما بينهم. وهذا الهدف الذي عرفناه للتربية الإسلامية، من أفضل التصورات المشتركة وأقدرها على لم شعت الأفراد، وربط قلوبهم وعواطفهم برباط متين لا يتزعزع، ثابت لا يتغير ما دام الأفراد يتعهدونه بالتزام ما ينتج عنه من سلوك عملي، ومن وعي وتقدير لظروف الحياة، على ضوء ما رأيناه من التصورات الإسلامية للكون وللحياة، ومن أركان العقيدة الإسلامية، أن جميع الأسس الفكرية والتعبدية، والتشريعية للتربية الإسلامية، وقد عرضناها في الفصل السابق، تؤلف سلسلة من التصورات المشتركة للمجتمع المسلم، ولكنها تمتاز عن تصورات سائر المجتمعات، غير الإسلامية بالعمق والوعي، والوضوح، والثبات والأصالة والمعقولية. فبينما تجد المجتمعات الأخرى، يتلقى أفرادها تقاليدهم، وتصوراتهم المشتركة الاجتماعية، بتقليد أعمى وحماسة جماهيرية هوجاء؛ تجد التربية الإسلامية تشترط في أفرادها أولا القناعة الفكرية، ثم المشاركة الجماعية في العبادات والأعياد، على ضوء من تلك القناعة، ووضوح الهدف المشترك، والشعور بسمو هذا الهدف، إلى جانب توفر الحماسة الجماعية الهادفة، كما في التكبير المشترك في العيد الأضحى، وفي أثناء القتال والجهاد، ونحو ذلك، وصلاة الجماعة بحركات موحدة، وصلوات الأعياد، والجمع وخطبها، وحتى الصلوات الخمس يجب أن تكون في جماعة. وهكذا نجد أن التصورات المشتركة الإسلامية، تكون الجانب الأكبر من ثقافة المسلم وتفكيره، والضابط الأول لسلوكه الاجتماعي، والوازع النفسي العميق، الذي لا يقتصر تأثيره على التواجد الجماعي، بل يتعداه إلى كل أحوال الناشئ الفردية والجماعية.

وللمجتمع في التربية الإسلامية، سلطة عظيمة في حماية الشريعة والعقيدة، التي تعتنقها الجماعة، وهو لا يتنازل عن هذه السلطة، ما دامت مستمدة من الله، الذي أوكل إلى الجماعة مهمة التواصي بالحق، والتناصح والتناهي عن المنكر، وقد بسطنا كل ذلك في حينه، مع بعض الأدلة من القرآن والحديث. والتربية الإسلامية، بهدفنا المشترك وهو إخلاص العبودية لله، توحد فكرة الانتماء، وتربطها بهذا الهدف الأسمى، فجميع الناس ينتمون إلى أمة واحدة، هي التي اعتنقت عقيدة التوحيد، واتخذت طريق الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ولقد كان العرب قبل الإسلام لا يعرفون الانتماء إلى أمة واحدة حتى جاء القرآن يصرح بها: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 3/ 110] . كما يصرح بالولاء لله: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 10/ 62-63] . وبأن المؤمنين بعضهم أولياء بعض، ولا يجوز أن يتخذوا لأنفسهم أولياء من دون المؤمنين؛ لأن أخوة الإيمان هي التي تربطهم. وهكذا، وبتربية هذه المعاني في نفس الناشئ ترعى التربية الإسلامية تنمية الأواصر الاجتماعية عنده، على أساس هدف نبيل، لا عنصرية فيه ولا ظلم، ولا طغيان على الشعوب الأخرى، لمجرد أنها من طينة أخرى، فالانتساب في التربية الإسلامية إنما يكون للدين، وليس للغة أو القومية.

رابعا: التربية الإسلامية والمواطنة الصالحة

رابعا: التربية الإسلامية، والمواطنة الصالحة معنى المواطنة الصالح في التربية الغربية ونقده: تختلف التربية الإسلامية عن التربيات الأخرى التي جعلت هدف النمو الاجتماعي عندها تربية المواطن الصالح، والمواطن الصالح عندهم هو الذي ربي تربية اجتماعية تلائم المجتمع الذي نما فيه، وتحقق مصالح ذلك المجتمع، وأهدافه ومطامعه. فالمواطن الصالح، في المجتمع القومي، هو الذي يخدم هدف أمته القومي، ولو أدى به هذا الهدف إلى استعمار الشعوب الضعيفة، والفتك بها ونهب ثرواتها، والمواطن الصالح في المجتمع الشيوعي هو الذي يصبح آلة منتجة مسيرة بيد زعماء الحزب الحاكم، يعظمهم ويتخذهم: {أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّه} [آل عمران: 3/ 64] أي مشرعين له، مسيرين لكل حياته يعظمهم من دون الله، ويخشاهم ويزعم أن بيدهم حياته، أو موته أو رزقه. فإيجاد المواطن الصالح المساير لمجتمعه في الحق والباطل، لا يصلح أن يكون هدفا للتربية، ولا لتكوين الحياة الاجتماعية السليمة، والتصورات المشتركة للمجتمع المستقيم. موقف التربية الإسلامية: أما التربية الإسلامية، فإن هدفها تربية المواطن المؤمن والمجتمع المسلم، الذي تتحقق فيه عبودية الله وحده، وتتحقق بتحقيقها كل فضائل الحياة الاجتماعية من تعاون، وتكافل وتضامن ومحبة، كما أنها تروي الحاجة إلى الأنس بالمجتمع عند الناشئ والحاجة إلى الانتماء، والميل إلى التقليد والاعتزاز بالأمة، تروي ذلك كله بدون انحراف، أو استهتار أو انقياد أعمى، أو فقدان للمواهب وللذاتيات، والمقومات الشخصية. أي أنها تجمع، باتزان بين تربية الذاتية الفردية، والنزعة الاجتماعية من غير أن تغطى إحداهما على الأخرى، أو تنحرف أي منهما عن الخير، وعن طاعة الله وتحقيق شريعته، وعن جادة الصواب، والاستقامة في الحياة.

خامسا: التربية الإسلامية وهدف كسب الرزق

خامسا: التربية الإسلامية، وهدف كسب الرزق كثير من الشباب يتعلمون، ويدخلون الجامعات في سبيل إيجاد عمل، أو منصب اجتماعي يؤمن لهم الرزق. إن هذا الهدف مشروع، ولكن قصر التربية عليه، يضيق من آفاقها، ويحرم الإنسان من الرقي الخلقي والفكري والحضاري، وقد يصبح عبدًا لشهواته همه جمع المال، والترف والرفاهية. لذلك لاحظنا أن التربية الإسلامية قد وجهت هذا الهدف، ولم تقل بكبت هذه الغريزة جمع المال، وحب الرفاهية، وحسن البقاء. فقد جعل الإسلام كسب المال من عبادة الله والتقرب إليه، إذا قصد به الإنسان الإنفاق على أهله، أو على نفسه أو على أرملة أو مسكين، أو قصد إخراج زكاة المال، أو غرس غرسة، فأكل منها طير أو إنسان. فعن أبي مسعود الأنصاري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أنفق المسلم نفقة على أهله، وهو يحتسبها كانت له صدقة" 1. وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "الساعي على الأرملة والمسكين، كالمجاهد في سبيل الله، أو القائم الليل الصائم النهار" 2. وعن أنس بن مالك، عن الني صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مسلم يغرس غرسا فليأكل من طير، أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة" 3. وهكذا نرى أن هدف الترببة الإسلامية، وهو إخلاص العبودية لله قد أحاط بالعملية التربوية من كل جوانبها، الفكرة والجسمية والاجتماعية، والفردية والروحية.

_ 1 صحيح البخاري، كتاب النفقة، 7/ 80. 2 صحيح البخاري 7/ 81، ط دار إحياء التراث العربي، بيروت. 3 رواه البخاري ومسلم وأحمد، الحديث الثامن "من سلسلة الأحاديث الصحيحة، محمد ناصر الدين الألباني"، منشورات المكتب الإسلامي.

سادسا: مميزات هدف التربية الإسلامية

سادسًا: مميزات هدف التربية الإسلامية ذلك؛ لأنه هدف رباني، والهدف الرباني لا يأتي إلا: 1- كاملًا يستمد كماله من الكمال الإلهي، فهو في كل المجالات، يبعدنا عن النقائص، ويوجهنا نحو الفضائل وخير الإنسانية أفرادا ومجتمعات. 2- شاملا يكتنف الحياة من جميع جوانبها، والنفس الإنسانية من كل نواحيها. 3- عاما لكل الناس فهو إنساني، وليس خاصا بمصالح أمة معينة، أو قوم بخصوصهم. 4- صالحا للبقاء والخلود على مر الزمن، وهو يستمد خلود من أنه جاء من عند الله. 5- موافقًا للفطرة الإنسانية، وفطرة الإنسان لا تتغير على مر الزمن، من حيث هو فرد، ومن حيث عضو في جماعة، ومن حيث هو بشر من دم ولحم، وله نوازعه وشهواته ودوافعه الغريزية، ومن حيث هو إنسان له عقله، وإرادته وقدرته على الخير والشر. فهدف التربية الإسلامية يربي كل هذه النوازع والدوافع، والفطرة ويوجهها كلها نحو مثلها الأعلى، نحو عبادة الله الذي خلق الإنسان، وإليه مرجعه ومآله. 6- وهو هدف خصب تتولد عنه الثمرات الطيبة وليس عقيما؛ لأنه لا يجافي الفطرة، ولا يصد طاقات الإنسان بل يحرضها على الإنتاج الخير، ويدفعها إليه دفعا، ويستوفي منها كل خير تستطيع تقديمه للفرد، والجماعة والإنسانية. 7- وهو هدف واضح يفهمه ويعقله جميع البشر؛ لأنه مناسب للفطرة النفسية والعقلية، يعتمد على الإحساس والوعي، يقبله المربي والطالب جميعًا. 8- وهو هدف يؤدي إلى التوازن والتوافق، وعدم التعارض بين جوانب الحياة والنفس، بل يوفق بينها جميعا في غاية واحدة مثمرة ذات فروع تضم هذه الجوانب كلها. 9- وهو هدف واقعي ميسر التطيبق يؤثر في سلوك جميع الناس بمختلف ثقافاتهم وأعمارهم. 10- وهو هدف مرن يستطيع مسايرة الظروف، والأحوال على اختلافها، كما أنه يساير الإنسان في مختلف العصور، والأقطار مهما تعددت سبل عيشه، وأساليب حياته من تجارة وزراعة وصناعة. وهذه أهم شروط الهدف التربوي قد استوفتها غاية التربية الإسلامية، فكانت نواة لخصائص هذه التربية ومميزاتها، امتازت بها على التربيات الأخرى.

سابعا: أهمية التربية الدينية "بمعناها الخاص" في تحقيق هدف التربية الإسلامية

سابعًا: أهمية التربية الدينية "بمعناها الخاص" في تحقيق هدف التربية الإسلامية يقصد بالتربية الدينية في المناهج المدرسية، ما يدرس في مختلف المراحل الدراسية من قرآن، وتوحيد وحديث وفقه وتفسير، وثقافة إسلامية، وسيرة نبوية. وقد وضعت هذه المواد لتكمل تربية الناشئ على الإسلام من جميع جوانبه النفسية، والاجتماعية والروحية، والسلوكية والعقلية، وعلى تحقيق العبودية لله جل جلاله بكل ما في هذه الغاية من معنى ومدلول، وبكل ما تؤدي إليه من نتائج في الحياة، والعقيدة والعقل، والتفكير. 1- فالتربية بالقرآن: غايتها القريبة إتقان تلاوته، وحسن فهمه، وتطبيق تعاليمه، وهذا فيه كل العبودية والطاعة لله، والاهتداء بكلامه، والخوف منه وتنفيذ أوامره، والخشوع له. أي أن دروس القرآن لو حققت غاياتها لكانت من أفضل الوسائل لتحقيق الهدف الأسمى للتربية الإسلامية، والأثر التربوي لجميع أسس هذه التربية كما أوضحناها. 2- التربية باتباع الرسول: ومن تمام العبودية لله، اتباع رسوله، والقيام بالعبادات والمعاملات وكل شئون الحياة على هدي هذا الرسول الذي أرسله ربه ليطاع بإذن الله، فدروس الحديث والسيرة، غايتها اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه مبلغ عن ربه؛ ولأنه مبين القرآن ولتفاصيل شريعة الله عز وجل، وهكذا لا يتم تحقيق العبودية، والخضوع لله إلا إذا أخذنا بهدي محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل عبادة، وفي كل طاعة من الطاعات، وفي كل شأن من شئون الحياة. وهذا ما يجب أن يتم في دروس الحديث والسيرة. 3- تربية الإيمان في دروس التوحيد: الإيمان يزيد بالطاعة، وبقراءة القرآن، وبتأمل آثار رحمة الله في الكون، وأساس الإيمان فهم أركانه، ووعي معانيه، والتصديق بها، واليقين الذي تنتج عنه راحة النفس، واستقامة السلوك، على أساس ما صدقه القلب، من معاني الإيمان. وتربية الإيمان تبدأ من توضيح الهدف الأسمى للتربية الإسلامية أي من توضيح

معنى الألوهية، والربوبية، ومعنى عبودية الإنسان لله وحده، وما هي الصفات الإلهية التي لا يجوز إسنادها لغير الله. فتربية العقدية الإسلامية في دروس التوحيد، هي التي تعرف الناشئ بالهدف الأسمى، والغاية النهائية للتربية الإسلامية، وهي إخلاص العبودية لله وحده، وتعرفه بكل مقاصد العبادة والسلوك في الحياة، المقاصد التي تؤدي بدورها إلى تلك الغاية النهائية، وتعرفه بما يجب أن يحذره من كل مظاهر الشرك وعقائده، تلك المزالق التي تغير الهدف الأسمى للتربية الإسلامية، أو تسبب التباسها، أو الانحراف في فهمها، أو تطبيقها. وهذا الجانب الاعتقادي من دروس الدين الإسلامي، هو أهم وأول ما يجب الاهتمام به، على أن تكون ثمراته، ونتائج فهمه مطبقة على جميع الدروس؛ فيعرف الناشئ أنه يتعلم القرآن ويعظمه؛ لأنه كلام الله، ووسيلة لمناجاته ومعرفته، والخضوع له وتحقيق أوامره. ونبين له، كما أشرنا، أنه يتبع الرسول؛ لأن الله أمرنا باتباعه. 4- تربية السلوك الإسلامي الفردي، والاجتماعي في دروس الفقه: أما دروس الفقه فهي، كما أوضحنا، عندما عرضنا الأسس التشريعية للتربية الإسلامية قواعد تفصيلية، مستقاة من القرآن والسنة، لبيان أساليب العبادة والسلوك التي يرضاها الله، في جميع شئون الحياة، ولبيان نظم العلاقات الاجتماعية، كما يأمرنا الله أن يحققها في كل اتصالاتنا بالآخرين. فيجب ربطها دائما بهدفها الأسمى، طاعة الله، والاهتداء بهدي رسوله، وتحقيق الخضوع والعبودية لله كما يريد الله، لا أن نجعل الدروس مجرد قواعد ملخصة تحفظ لمجرد الحفظ، أو للعلم بها وإفتاء الناس. 5- وأما دروس الثقافة الإسلامية: فهي استعراض مشكلات أثارتها التربية الغربية، والثقافات غير الإسلامية، لتشويه العقيدة الإسلامية، أو العمل على انحرافها في نفوس الناشئين، أو التشكيك بها أو الابتعاد والعزوف عنها، وهذه المشكلات والأفكار الوثنية، الكافرة بالله، تعرض في ثياب براقة تموه حقيقتها، فتدعي تارة

ابتغاء العلم، وهي تبتغي عبادة الطبيعة، ونسبة سنن الكون إلى قوى طبيعية، وتارة تدعي الفن، وهي تريد إثارة الغرائز، واتباع الشهوات اتباعا يخرجها عن فطرتها إلى الإضرار بالجسم والمجتمع. وتارة تدعي العدالة الاجتماعية، وهي تريد تحكيم الشيطان، وأتباعه من الظلام، في رقاب العباد وأموالهم وأقواتهم، حتى يصبح الناس عبيدًا لطواغيت من البشر، يخشونهم كخشية الله، وتارة.. وتارة ... إلخ. فدروس الثقافة الإسلامية هي التي تبين زيف هذه الدعوات الكافرة، وترجع الناشئ مطمئنا مقتنعا راغبا إلى عباة الله وحده، وتوحيده والشعور بعظمة شريعته، وعدالتها الحقيقية التي لا عدالة بدونها، ولا سعادة بغير اتباعها. وهكذا نرى أن جميع جوانب التربية الإسلامية بمعناها المدرسي الخاص يجب أن تعمل على تحقيق الغاية النهائية للتربية الإسلامية بمعناها التربوي العام، الذي يهدف إلى إنشاء جيل مسلم، يحقق العبودية لله. وهي "بمعناها الخاص" تشكل الأساس الذي تبنى عليه تربية حياة الناشئ المسلم من كل جوانبها؛ لأنها تنمي عنده الحد الأدنى من التصورات العقلية للإسلام عن الكون والحياة، ومن العادات السلوكية، والعواطف الإسلامية الربانية، وعقيدة التوحيد، وقواعد الشريعة، وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم. وعلى هذا الأساس، ومن هذا المنطلق يبني المسلم حياته كلها سواء الفكرية، أم النفسية أم العاطفية أم الاجتماعية. فهي بهذا تتوج الإنجاز التربوي الذي تقوم به المدرسة، أي توجهه وتهيمن عليه، وتجعله يحقق غرضه الأسمى، في جميع مظاهر الحياة المدرسية، في النشاط والعلم والسلوك والأخلاق، ليوجه الشباب إلى تحقيق هدفهم الأسمى من وراء الحياة المدرسية. والهدف الجامع لكل جوانب التربية هو هداية الكائن الإنساني إلى الدين الحق، دين التوحيد، وإلى اعتناقه والاهتداء بأحكامه، وإخلاص العبودية لله.

الفصل الخامس: وسائط التربية الإسلامية

الفصل الخامس: وسائط التربية الإسلامية أولًا: المسجد وأثره التربوي ... الفصل الخامس: وسائط التربية الإسلامية تمهيد: لكل مشروع أو إنجاز يراد تحقيقه، وسائل تناسبه وتحقق هدفه، فإنشاء عمارة كبيرة يحتاج إلى آليات، ومهندسين ومواد أولية وعمال، وكذلك التربية، إنها مشروع يهدف إلى توجيه الجيل، وتعهد نموه لتحقيق هدف الأمة الأسمى، الهدف الذي دعانا الله إليه، لنكون خير أمة أخرجت للناس. وللتربية وسائل مادية أو بشرية ذات أثر معنوي عظيم، كالمسجد، والمربي، والأسرة، والمدرسة، وسنطلق عليها اسم "وسائط"، وهناك وسائل معنوية، نفسية كالاعتماد على القصة، أو الحوار، أو الإيماء، أو الجدل بالتي هي أحسن، أو التمثل بالأشياء الحسية، أو الاقتداء. وهذه الوسائل المعنوية يطلق عليها اسم أساليب أو وسائل. وسنعرض في هذ الفصل: وسائط التربية الإسلامية بشيء من التفصيل، لما لها من أثر في تحقيق هدف التربية الإسلامية. أولا: المسجد وأثره التربوي 1- تمهيد في وظائف المسجد: كان أول عمل قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما وصل المدينة بناء المسجد؛ لأن المسجد هو الذي يضم شتات المسملين، يجمعون فيه أمرهم، ويتشاورون لتحقيق أهدافهم، ودرء المفاسد عنهم، والتعاون لمجابهة المشكلات، وصد العدوان عن عقيدتهم، وعن أنفسهم، وأموالهم، بل هو المعقل الذي يلجئون فيه إلى بارئهم، يستمدون منه السكينة والقوة والعون، ويعمرون قلوبهم بشحنة جديدة من الطاقات الروحية، بها يمنحهم الله صبرا وبأسا، وإقداما ووعيا وتبصرا ورباطة جأش، وبعد نظر، وتفاؤلا ونشاطا.

2- الوظيفة التربوية للمسجد: كانت للمسجد في صدر الإسلام وظائف جليلة أهمل المسلمون اليوم عددًا منها، فقد كان منطلقا للجيوش وحركات التحرير، تحرير الأمم والشعوب من العبودية للبشر، والأوثان والطواغيت، ليتشرفوا بعبوديتهم لله وحده، وكان المسجد مركزًا تربويًّا، يربي في الناس على الفضيلة، وحب العلم، وعلى الوعي الاجتماعي، ومعرفة حقوقهم وواجباتهم في الدولة الإسلامية، التي أقيمت لتحقيق طاعة الله وشريعته، وعدالته ورحمته بين البشر، فكان أن انطلق تعليم القراءة والكتابة، أي البدء بمحو الأمية من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان المسجد مصدر إشعاع خلقي، يتشبع فيه المسلمون بفضائل الأخلاق، وكريم الشمائل. وبقي الأمر على هذا بين مد وجزر، تطغى الأغراض الدنيوية حينا على بعض المنظمين لرواد المساجد ممن كانوا يسمون علماء، فتنقلب حلقاته إلى موارد للرزق، ومعاقل للتعصب المذهبي، أو الطائفي أو الشخصي!! 3- الوظيفة الاجتماعية للمسجد: حين تعصف بالمسلمين نكبة أو نازلة، يعتصمون ببيوت الله ليرفعوا راية الإسلام، وليجتمعوا على إعلاء كلمة الله كما حدث عند الغزو الصليبي الأول، وكما حدث في معظم الحركات التحررية ضد الغزو الصليبي الأول، وكما حدث في معظم الحركات التحررية ضد الغزو الصليبي اليهودي الثاني، أي ضد المستعمرين الذين وطئت جيوشهم منذ قرن، أو أكثر معظم البلاد الإسلامية، فقد انطلقت الثورة السورية من عدد من أكبر مساجد المدن السورية، وانطلقت ثورة الجزائر من الكتاتيب، والمدارس الإسلامية في المساجد، وكذلك حركات التحرر الإسلامي في الباكستان، وأفغانستان وغيرهما. وهكذا يتربى الناشئ في المسجد في ظل مجتمع إسلامي ناهض راق، ينظم شئونه على أساس الشورى، ويتفقد مرضاة فيعودهم، وفقراءه المعوزين فيعطيهم مما أعطاه الله، وتنعقد أواصر المحبة بين القلوب، فيغدو مجتمعا قويا متماسكا يساهم في تربية الجيل، ونهضته وإنعاشه. 4- أثر المسجد التربوي، والاجتماعي في حياة الأمة: عندما يأخذ المسجد مكانه الطبيعي الذي بني من أجله، وأراده الله له، يصبح من

أعظم المؤثرات التربوية في نفوس الناشئين، فيه يرون الراشدين مجتمعين على الله، فينمو في نفوسهم الشعور بالمجتمع المسلم، والاعتزاز بالجماعة الإسلامية، وفيه يسمعون الخطب والدروس العلمية، فيبدءون بوعي العقيدة الإسلامية، وفهم هدفهم من الحياة، وما أعدهم الله له في الدنيا والآخرة. وفيه يتعلمون القرآن ويرتلونه، فيجمعون بين النمو الفكري، والحضاري بتعلم القرآءة، ودستور المجتمع الإسلامي، والنمو الروحي وهو الارتباط بخالقهم. وفيه يتعلمون الحديث والفقه، وكل ما يحتاجون من نظم الحياة الاجتماعية كما أراد الله أن ينظمها للإنسان، ومن هداية الله وسنة رسوله. ومن العلوم المتممة لذلك كاللغة والتاريخ الإسلامي وغيرها، ولكن ما يدعو المسلمين إلى المسجد هو الالتقاء على طاعة الله، فشعار الاجتماع في المسجد لأمر طارئ، أن ينادي مناد في أسواق المسلمين، ومآذن مساجدهم "الصلاة جامعة"، فإذا اجتمعوا كان أول عملهم أن ينتظموا صفوفًا ويصلوا ركعتين، ثم يتداولون أمرهم، هذا إذا اضطروا للاجتماع في وقت لا تحين فيه صلاة مفروضة، وفي الحالات غير الاضطرارية ينتظرون وقت الصلاة المفروضة، فلا يبرمون أمرا إلا بعد اجتماعهم على صلاة. فالمسجد على هذا يعلم الناشئين أن كل أمور الحياة تابعة للارتباط بالله، وصادرة عن هدف التربية الإسلامية الشامل الذي هو إخلاص العبودية لله، وينغرس هذا المعنى في نفس الناشئ عفوا من غير قصد ولا تكلف. وقد بقي تعلم القرآن في الكتاتيب والمساجد، إلى عهد قريب، وسيلة لتعلم القراءة والكتابة، فكان الأطفال، قبل انتشار المدارس الحديثة، يتقنون قراءة القرآن، فيتعلمون القراءة على أسلوب الطريقة الجملية، أي أنهم يتقنون التعرف إلى صورة الكلمات المكتوبة مقترنة بألفاظها المنطوقة. وكان الأطفال، بعد هذه القراءة الأولى، يكتبون القسم الذي قرءوه، على ألواح خشبية، يحاكون رسمه في المصحف، وكلما كتبوا جزءا يناسب مقدرتهم، عادوا فأتقنوا تلاوته، ثم ينتقلون إلى غيره، وهكذا حتى يتموا جميع القرآن، ثم ينتقى منهم المتفوقون ليحفظوا القرآن على ظهر قلب، كما حدثني أهل العلم ممن أدركوا هذا العهد "كالشيخ ناصر حمد الراشد مدير تعليم البنات في المملكة العربية السعودية".

ثانيا: الأسرة المسلمة ومهمتها التربوية

ثانيا: الأسرة المسلمة، ومهمتها التربوية يتلقى المسجد الناشئين بعد أن ترعرعوا بين أحضان الأبوين، فالأسرة المسلمة هي المعقل الأول، الذي ينشأ فيه الطفل، في جو التربية الإسلامية. وعندما نقول: "الأسرة المسلمة"، فمن البديهي أننا نعني الأسرة التي التقى ركناها على تحقيق الهدف الذي شرع من أجله تكوين الأسرة، ولو تأملنا بعض آيات القرآن، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الموضوع لوجدنا أن أهم أهداف تكوين الأسرة هو: 1- إقامة حدود الله: أي تحقق شرع الله ومرضاته في كل شئونهما، وعلاقاتهما الزوجية، وهذا معناه إقامة البيت المسلم الذي يبني حياته على تحقيق عبادة الله، أي على تحقيق الهدف الأسمى للتربية الإسلامية. وقد ورد تعليل إباحة الطلاق حين تطلبه المرأة، بالخوف من عدم إقامة حدود الله، قال تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 2/ 229] . كما أنه سبحانه علل إباحة الرجوع إلى الزوج بعد أن تتزوج المرأة زوجا غيره، علل ذلك بتوقع إقامة حدود الله، أي إقامة الحياة الزوجية على تقوى من الله، كالتعفف، وحسن المعشر وغض البصرن قال تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 2/ 230] . 2- الأثر التربوي لتحقيق هذا الهدف: وهكذا ينشأ الطفل ويترعرع في بيت أقيم على تقوى من الله، ورغبة في إقامة حدود الله، وتحكيم شريعته، فيتعلم، بل يقتدي، بذلك من غير كبير جهد أو عناه، إذ يمتص عادات أبويه بالتقليد، ويقتنع بعقيدتهما الإسلامية حين يصبح واعيًا.

3- تحقيق السكون النفسي والطمأنينة: قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف: 7/ 189] . وقال سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 30/ 21] ، فإذا اجتمع الزوجان على أساس من الرحمة، والاطمئنان النفسي المتبادل، فحينئذ يتربى الناشئ في جو سعيد يهبه الثقة، والاطمئنان والعطف والمودة، بعيدا عن القلق وعن العقد، والأمراض النفسية التي تضعف شخصيته. 4- تحقيق أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإنجاب النسل المؤمن الصالح: ليباهي بنا الأمم يوم القيامة، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "تناكحوا تناسلوا تكثروا، فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة". وهذا دليل واضح على أن البيت المسلم يجب عليه أن يربي أبناءه تربية تحقق هدف الإسلام، وأركان الإيمان في نفوسهم وسلوكهم؛ لأن المباهاة إنما تكون بكثرة النسل الصالح. فعلى الأبوين تقع مسئولية تربية الأبناء، ووقايتهم من الخسران والشر والنار، التي تنتظر كل إنسان لا يؤمن بالله، أو يتبع غير سبيل المؤمنين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 66/ 6] ، وجاء لفظ: {وَأَهْلِيكُمْ} بالجمع ليشمل الزوجة والولد. وهذا المسئولية تزداد أهمية في أيامنا؛ لأن بعض عناصر الحياة الاجتماعية، خارج الأسرة والمسجد، ليست في كل الأحيان موافقة لهدف التربية الإسلامية، كالمذياع والتلفاز، وبعض المجلات الخليعة، والقصص الماجنة التي تتسرب إلى أيدي الأطفال، فإذا لم يبق الأبوان يقظين حذرين، لم يستطيعا إنقاذ أبنائهما من اجتيال الشياطين، شياطين الإنس والجن. 5- إرواء الحاجة إلى المحبة عند الأطفال: الرحمة بالأولاد من أهم الغرائز التي فطر عليها الإنسان، والحيوان وجعلها الله أساسا من أسس الحياة النفسية، والاجتماعية والطبيعية لكثير من الكائنات الحية.

وتتحمل الأسرة، وقوامها الأبوان، مسئولية رحمة الأولاد، ومحبتهم والعطف عليهم؛ لأن هذا من أهم أسس نشأتهم ومقومات نموهم النفسي والاجتماعي، نموا قويما سويا. فإذا لم تتحقق المحبة للأولاد بالشكل الكافي المتزن، نشأ الطفل منحرفا في مجتمعه، لا يحس التآلف مع الآخرين، ولا يستطيع التعاون أو تقديم الخدمات والتضحيات، وقد يكبر فلا يستطيع أن يكون أبا رحيما، أو زوجا متزنا حسن المعشر، ولا جارا مستقيما لا يؤذي جيرانه، وهكذا دواليك. لذلك ضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلا أعلى في محبة الأطفال ورحمتهم، والصبر على مداعبتهم، وهذه بعض الأدلة من حياته صلى الله عليه وسلم: روى البخاري في صحيحه بسنده إلى أن قال: حدثنا أبو قتادة قال: "خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم، وأمامة بنت أبي العاص على عاتقه، فصل فإذا ركع وضعها، وإذا رفع رفعها"1، وروي أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي، وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالسا، فقال الأقرع: "إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحدا"، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: "من لا يرحم لا يرحم" 2. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "تقبلون الصبيان؟ فما نقبلهم"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أو أملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك؟ " 3، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ أسامة بن زيد فيقعده على فخذه، ويقعد الحسن على فخذه الأخرى، ثم يضمهما ثم يقول: "اللهم ارحمهما فإني أرحمهما" 4. النتائج التربوية: أ- تدل هذه الأحاديث على تعنيف رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل أبوين لا يقبلان أولادهما ولا يرحمانهم، ولا يعطفان عليهم، وقد اتهمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بانتزاع الرحمة من قلوبهم، كما هددهم بألا يرحمهم الله يوم القيامة: "من لا يَرحم لا يُرحم".

_ 1 صحيح البخاري، 4/ 36، الطبعة الأولى - المطبعة العثمانية المصرية. 2 صحيح البخاري، 4/ 36، المطبعة العثمانية المصرية. 3 صحيح البخاري، 4/ 36، المطبعة العثمانية المصرية. 4 المصدر ذاته ص36.

ب- وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يفرق في ذلك بين الأطفال الذكور والإناث، فقد رأينا في رواية أبي قتادة كيف حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم أمامة بنت الحارث، وهو في الصلاة يرفعها على عاتقه إذا وقف، ويضعها إذا ركع. ج- وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن أيضا يفرق بين ابن متبناه "أسامة بن زيد"، وبين حفيده من صلبه "الحسن بن علي"، وكان يضع كل واحد منهما على فخذ من فخذيه ويضمها، وهذا يشمل الأيتام، والذي مرضت أمهاتهم، أو غاب آباؤهم في الجهاد أو السفر، إلخ.. د- وإذا عرفنا أن هذه الحادثة من رواية أسامة بن زيد بن حارثة يتكلم عن نفسه أدركنا أنه كان مميزًا، حين كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقعده على فخذه. فدل ذلك على أن العطف على الأطفال لا يقتصر على الرضع بل يشمل من هو أكبر من ذلك؛ لأن حاجتهم إلى العطف لا تقتصر على سن معينة من طفولتهم، بل تشمل معظم مراحل الطفولة. وقد جاءت التجارب العلمية مؤيدة هذا المبدأ التربوي النبوي، فقد ثبت أن الطفل الرضيع لا ينمو على الغذاء فحسب، بل على عطف الأم الذي لا يقل أهمية عن الغذاء بل هو أهم منه تربية شخصية الناشئ، وأن قوام الأسرة هو الحب المتبادل، حتى إذا شب الطفل، استطاع نقل هذا الحب معه إلى خارج الأسرة، إلى المجتمع الإسلامي، فيتراحم المسلمون، ويتحاب أفراد المجتمع. 6- صورة فطرة الطفل عن الزلل والانحراف: اعتبر الإسلام لأسرة مسئولة عن فطرة الطفل، اعتبر كل انحراف يصيبها مصدره الأول الابوان، أو من يقوم مقامهما من المربين. ذلك أن الطفل يولد صافي السريرة، سليم الفطرة، وفي هذا المعنى يقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه أبو هريرة: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟ ".

ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه: "فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله، ذلك الدين القيم" 1. وقد فهم الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه أن الفطرة هي استعداد المولود للدين القيم، دين التوحيد، وأن سنة الله لا تتغير في جميع المواليد البشرية، فساق الآية لإيضاح معنى الحديث. التطبيق التربوي: لذلك كان من واجب الأبوين والمربين: أ- تعويد الطفل على تذكر عظمة الله ونعمه، والاستدلال على توحيده، من آثار قدرته، وتفسير مظاهر الكون من برد وحر وليل ونهار، وزلزال وإعصار ونحو ذلك، تفسيرًا يحقق هذا الغرض، لإبقاء فطرة الطفل على صفائها، واستعدادها لتوحيد الله وتمجيده. ب- إظهار الاستياء من انحرافات الضالين، والمغضوب عليهم والمشركين ومن تبعهم أمام الناشئ، مما يبدو في أفلامهم، وأخبارهم، ومظاهر حياتهم التي تسربت إلى وسائل إعلامنا، من ظلم واستهتار، وترف وانهيار، والإيحاء إليه بنتائجها الوخيمة من طريق القصة، أو الحوار أو القدوة مما سنبسطه من أساليب التربية الإسلامية إن شاء الله، وبهذا يبعد الطفل عما أشار إليه الحديث النبوي من التهويد، أو التنصير أو التمجيس، وليس الحديث محصورًا في اليهود والنصارى والمجوس بأعيانهم، بل إن كل أبوين مسلمين، يقلدان اليهود والنصارى في ضلالاتهم وأمور حياتهم، بما ينافي الآداب الإسلامية، مسئولون عن انحراف أطفالهم عن الفطرة نتيجة لتقليد آبائهم، أو؛ لأن آباءهم عرضوهم لأسباب الانحراف: كالرائي والصحف المنحرفة والقصص، والمجلات التي تحبب إليهم ضلالات أولئك المنحرفين.

_ 1 رواه البخاري في صحيحه، 1/ 162، المطبعة العثمانية المصرية، 1932م.

ثالثا: المدرسة في التربية الإسلامية

ثالثا: المدرسة في التربية الإسلامية 1- تمهيد في أهمية المدرسة ونشأتها: لم تصل الإنسانية إلى إيجاد المدرسة على شكل الذي نراه اليوم إلا بعد أن مرت بمراحل طويلة، وتجارب عديدة. فقد كان الطفل في الحياة البدائية يتعلم من أبويه، ومجتمعه كل شيء بأسلوب غير مقصود وغير منظم، تارة عن طريق التقليد، وتارة عن طريق التأمل والمحاكاة المقصودة، والتكرار والإعادة بقصد الإتقان. بيد أنه كان للدين الفضل الأول في إيجاد تربية هادفة مقصودة، وذلك حين أوجد الدين الركنين الأساسيين لعملية التربية المقصودة، وهما: الهدف الواضح المحدود، وهو عبادة الله وحده، والتعريف به، والإيمان به، في جميع الأديان السماوية، والمنهج أو المادة الفكرية، والسلوكية المعينة المقصودة، وهو الاستسلام لتشريع الله، وأوامره التي أنزلها على رسله، ليحفظها الجيل ويعمل بمقتضاها، ثم ينقلها إلى الجيل الذي بعده، دواليك. وتتابعت الأجيال، تتناقل شريعة الله وأوامره، وأسلوب عبادته، بالحفظ والتعلم، والتقليد والاتباع، فردا عن فرد، وجمعا عن فرد، وجمعا عن جمع، في الساحات والمواسم والصوامع، والبيع والمساجد، ولم تكن الكتابة قد انتشرت في أول الأمر، فكان التعليم مقصورًا على المشافهة، والمناقشة والمحاكاة والاتباع، والممارسة العملية والتجريب. ولم يكن التعليم مقصورًا على الصغار، بل كان الصغار والكبار يتلقون التعاليم الدينية من رسل الله وأتباعهم، ويلقنونها؛ لأبنائهم ومن يليهم؛ فكان نشر الدين فريضة دينية وضرورة اجتماعية؛ لأن المجتمع المؤمن الموحد مهاجم، وأهل الحق قلة في أكثر العصور: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 12/ 103] ، فإذا لم يدافعوا عن أنفسهم بالدعووة إلى عبادة الله وحده، وبيان الحق والبرهان عليه، غلبوا وغزوا في عقر دارهم، واتهموا في صميم عقيدتهم وأفكارهم، ولم يخصص لتعليم أماكن خاصة، إلا إذا اعتبرنا المعابد دورا للتعليم، فكان التعليم

ممزوجا بكل ظروف الحياة الاجتماعية، العائلية منها والدينية والاقتصادية والحربية، والسلمية والمهنية من زراعية وصناعية. واشتق من المعابد أماكن ملحقة بها تخصص لتخريج مختصين بالدعوة إلى الدين ينقطعون للعبادة، ويزهدون بالدنيا، وقد ذكر لنا القرآن هذه الفئة من الدعاة بقوله تعالى مشيرا إلى أتباع رسول الله عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 57/ 27] . وهكذا كانت المعابد النواة الأولى للمدارس أو للتربة المقصودة، وكان رسل الله وأتباعهم المخلصون، الدعاة إلى دين الله، هم المعلمون الأوائل في هذه البشرية1. وقد وردت في القرآن إشارات إلى تربية بعض الرسل لأبنائهم، وما علموهم من توحيد الله وعبادته، كوصية يعقوب لبنيه، ووصية إبراهيم من قبله: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ، أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 2/ 132-133] . كما وردت إشارة إلى تربية بعض الصالحين لأبنائهم كوصية لقمان لابنه، وهو يعظه "سورة لقمان": [الآيات: من 13 حتى 19] . ووردت إشارات كثيرة إلى حو ار طويل دار بين كل نبي وقومه، مثل: "نوح" و"شعيب" و"إبراهيم" و"موسى" و"صالح" و"لوط" حتى آمن من آمن، وكل هذه المحاولات يمكن اعتبارها مواقف تربوية، سنبسط بعضها عند ذكر "الطريقة الحوارية" في "أساليب التربية الإسلامية" في تمام هذا الباب إن شاء الله. والذي يهمنا هنا هو مواقف هؤلاء الرسل التربوية، وما تبعهم عليه أتباعهم من أساليب الدعوة والتبشير بالدين، وما خصصوا من أماكن لتعليم الدين. وهكذا استمر انتشار "دور التربية الدينية"، وكان ذلك بين مد وجزر؛ لأن الصراع كان دائما بين الكفر والإيمان، بين السحرة1 والكهان والعرافين، يربون الناس على الباطل، والخرافات الوثنية، وبين الرسل وأتباعهم يربون الناس على التفكير الصحيح، وتوحيد الله، والحرية والمسئولية والكرامة الإنسانية، والعدل، والإحسان، وتعليل الأمور تعليلا منطقيا بعيدا عن الخرافة والشرك، كما رأينا في "أسس التربية الإسلامية" في فصل سابق.

_ 1 ولا حاجة إلى اعتبار ما يسمونه "مدرسة القبيلة"، واتخاذ دور "الكهان" أو "العرافين" فيها: نواة لنشوء المدرسة؛ لأن الأخبار عن القبائل متناقضة ضعيفة السند في هذا الشأن بينما تجمع الأخبار الصحيحة من الأديان السماوية على ما ذهبنا إليه إجماعا لا يرقى إليه الشك، والوحي أقدم من الكهانة، والعرافة بصريح القرآن.

المدرسة في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم

2- المدرسة في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم: وبقي الأمر كذلك حتى ظهر الإسلام، واستقر حكمه في يثرب مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، فكان المسجد أول مدرسة جماعية منظمة عرفها العرب، لتعليم الكبار والصغار، ولتربية الرجال والنساء. كان لهذه المدرسة في "ليلي" ينام فيه من يأوي إليه من الأرياف، أو من الفقراء "كأهل الصفة"، فيجمعون بين التعلم الديني والدنيوي، حتى إذا أتقنوا حرفة أو وجدوا عملا ذهبو يطلبون الرزق، وبقوا يترددون إلى مدرستهم في النهار لطلب العلم وأداء العبادة، وكانت الألعاب والتمارين الحربية تقام في ساحته أحيانا، كما فعل الأحباش ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليهم من حجرته، ويقول لهم: "دونكم يا بني أرفدة"، والسيدة عائشة تنظر إليهم مع النبي صلى الله عليه وسلم1. وبقي المسجد يؤدي وظيفتي العبادة والتربية الإسلامية، دون تمييز واضح بينهما حتى كان عهد عمر بن الخطاب، أمير المؤمنين، فنشأ في عصره إلى جانب المسجد أو بعض زواياه، كتاتيب للأطفال يتعلمون فيها. وهنا بدأ بعض التنظيم لتعليم الأطفال، وكان يوم الجمعة يوم راحة أسبوعية استعدادا لصلاة الجمعة، فاقترح أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أن يصرف الطلاب ظهر يوم الخميس ليستعدوا ليوم الجمعة، فكانت نظاما متبعا إلى يومنا هذا3، وعم رأيه الأمصار، وربما انتشر وذاع بشكل كيفي، دون قصد أو تعميم رسمي، لما كان يتمتع به من شخصية فذة محبوبة، وإيمان قوي جعله مسموع الكلمة. وهكذا كان التعليم يقوم على جهود مؤسسات خاصة، يقوم عليها أشخاص يديرونها بجهود شخصية، وقد يتعاطى بعضهم أجرا زهيدا يقيم به أوده لانشغاله بالتعليم عن طلب الرزق. فأصبح تعليم الأطفال مهنة حرة، ذات نظام "لا مركزي" يخضع لإشراف الدولة، ومراقبتها بين الحين والحين. كان المسجد أو الغرف الملحقة به هو مكان هذه "الكتاتيب" في أول الأمر، وكان في المسجد حلقات علم بعضها يوازي مستوى "المرحلة الثانوية" في عصرنا هذا، وكانت الدولة تغدق العطايا لبعض العلماء القائمين على هذه الحلقات، وكانوا يدرسون كتبا معينة، في بعض العلوم، للمبتدئين في هذا العلم كالفقه والحديث، والتفسير، والنحو أحيانا.

_ 1 ثبت في القرآن وبعض مراجع التاريخ أن السحرة كانوا يعلمون الناس السحر، وكان الملوك الكافرون يغدقون عليهم العطايا ليؤيدوهم، ويدعوا الناس إلى عبادتهم، قصة الغلام والساحر، معروفة في الأحاديث الصحيحة، ولكن هذا كان في أحوال خاصة وظروف لا تتخذ مقياسا. 2 صحيح البخاري. 3 التراتيب الإدارية: عبد الحي الكناني.

المدارس في العصر العباسي المتأخر

3- المدارس في العصر العباسي المتأخر: فلما استقلت الدويلات عن الخلافة العباسية، بدأ بعضها يبني مدارس للعلم كل مدرسة تؤوي عشرات من طلاب العلم، وكان نظام هذه المدارس داخليا يقوم على الانقطاع لطلب العلم، فكان في دمشق وحدها، مثلًا، زهاء ثلاث مئة مدرسة في سفح جبل قاسيون ما تزال آثار كثير منها على شكل قباب تشرف على بعض الحدائق العامة، هذا عدا عن المدارس التي كانت في قلب المدينة، كالمدرسة الظاهرية التي بناها الملك الظاهر، والمدرسة النووية التي بناها نور الدين الزنكي، وبقي التعليم في هذه المدارس حرا لا مركزيا من حيث المناهج، والكتب والأساليب، مع ارتباطها ماليا بالدولة التي تجري لها الجرايات، وتخصص لها الأوقاف، والهبات دون أن تقيدها نظام معين، أو مناهج محدودة، ثقة منها بالعلماء الأفذاذ الذين كانوا يديرونها، ويغذونها بالعلم. وبقي الأمر كذلك زهاء عشرة قرون حتى جاء الاستعمار الغربي إلى بلادنا، فعم فيها نظام المدرسة الموحدة، والتعليم المركزي التابع لمركز العاصمة في البلاد، وللمستشارين الأجانب في الأقطار التي استعمرت عسكريا، ويرى علماء التربية أن لهذه المدرسة مهمات تربوية وجدت من أجل أدائها تذكر فيما يلي أهمها مع مناقشتها من وجهة النظر التربية الإسلامية:

المدرسة المعاصرة

4- المدرسة المعاصرة: *- أسباب وجود المدرسة الحديثة: الأسباب التي دعت إلى وجود المدرسة الحديثة بهذا الشكل الذي نراه اليوم، يرجع معظمها إلى تغير نظام الحياة السياسية، فقد هيمنت الدولة على كل أمور الشعب، واعتبرت نفسها مسئولية عن غذائه، وموارد رزقه، وثرواته، واتجاهاته السياسية، وتكتلاته الاجتماعية، بالإضافة إلى أمنه واستقراره، وتحقيق حرياته وكرامة أفراده، وكرامة الدولة نفسها تجاه الدول الأخرى. وهذه الأمور كلها تبنى على التعليم والتربية، فبالتربية تنمي الثروة البشرية كما يسمونها، بحيث تكون سببا لكل أنواع الثراء: ينمي أفراد المجتمع على حب العمل، واستغلال خيرات الأرض وثروات الوطن، بأسلوب تقني يعطي أكبر منتوج ممكن، بأقل جهد ممكن وفي أسرع وقت ممكن. وبالتربية يمكن إيجاد المحبة بين جميع طبقات الشعب، وطوائفه وفئاته، فيتحقق التجانس، والأمن والاستقرار، ويربي الجيل على احترام الأموال، والملكيات والأعراض والأرواح، فيستقر بذلك الأمن. هذه مجمل الأسباب السياسية، والاجتماعية التي دعت الدولة إلى الأخذ بزمام التعليم، ووضع مناهجه ونظمه، وتهيئة مدارسه ومعلميه. نقد هذه الأسباب، وموقف الإسلام منها: رأينا اهتمام الدولة في تاريخنا الإسلامي بالتعليم، ويمكننا أن نضيف إلى ما تقدم أنه إذا كان شعور خليفة عادل، كعمر بن الخطاب، أو عمر بن عبد العزيز، بالمسئولية عن كل ما يجري في دولته، حتى عن دابة تزل على جسم أقيم على نهر الفرات، ثم أفسدته الأمطار أو غيرها فغفل المسئولون عن إصلاحه، فكيف اهتمامهم بأرزاق الشعب وأقواته ونظم حياته، هذا أمر بدهي في الدولة المسلمة: اهتمامها بكل شئون الشعب، وعلى رأسها التعليم، ولكن الفارق يبدو واضحًا في أسلوب التطبيق، والسهر والتنفيذ، فالدولة المسلمة تعطي حرية كاملة للتعليم على أساس ثقتها بالمشرفين على التعليم، وبأن الشعب كله يؤمن بدستور واحد، وهدف واحد وتراث ثقافي واحد، فالشعب هو الرقيب المباشر على التعليم، وهو الذي يعرف كيف يوفر المؤسسات التعليمية، ويهيئ أسبابها. ضع للمدرسة هدفا أساسيا هو تحقيق التربية الإسلامية بأسسها، وأهدافها كما مرت معنا: وخرج لها أساتذتها والمسئولين، والمؤمنين بهذا الهدف، واتركها تنطلق على أساس هذا الهدف، تجد كل شيء فيها متناسقًا، وكل نتيجة خيرة يمكن أن ننتظرها من هذه المدرسة، سواء في المجال الاجتماعي أو الاقتصادي، أو الديمقراطي كما يسمونه أو الأمني. وتبقى الدولة مع ذلك رقيبًا، إلى جانب الشعب، تشجع التسابق إلى الخير في جميع مؤسسات التعليم، وتقوم كل ما اعوج منها، وتضرب بيد من حديد على كل من يتلاعب بعقيدة النشئ، أو ينحرف بأهدافهم فيغيرها، كما تمول الدولة كل ما تستطيع تمويله من هذه المؤسسات، فتعين الشعب على تربية أبنائه وتعليم أجياله، وتصبح الانطلاقة التربوية ذاتية لا مفروضة، بل نابعة من أعمال المعلمين والمتعلمين، وتصبح المسئولية التربوية مرتبطة بالنتائج التي يرتقبها المجتمع من كل مؤسسة تعليمية، بل إنها مرتبطة بالمسئولية أمام الله الذي يحصي كل مثقال ذرة من خير أو شر.

وظائف المدرسة الحديثة

وظائف المدرسة الحديثة * وظيفة التبسيط والتخليص ... أ- وظيفة التبسيط والتلخيص: إن تعقيد الحضارة المعاصرة واتساع ثقافتها، وتشابك الأمم والشعوب في المصالح والمنافع، واشتراك البشرية في وسائل الإذاعة، والاتصال السلكي واللاسلكي، وانتشار وسائل الرفاهية، والمخترعات التي زادت في سرعة الاتصال، والانتقال بين الشعوب زيادة مذهلة، واستخدام الكهرباء والسيارة، كل ذلك وغيره، جعل الطفل الناشئ بحاجة ماسة إلى تقريب المبادئ التي بنيت عليها هذه الوسائل، وتبسيطها بحيث يستطيع فهمها، والتعامل مع هذا الجو الحضاري العالمي الجديد، دونما دهشة أو ارتباك، أو خوف أو ارتياب أو غرور، أو إعجاب أو ترف أو استهتار. والتبسيط يجب أن يلتقي مع التلخيص، وهو اختصار هذه المظاهر، والعلوم الواسعة المترامية الأطراف، من دراسة كونية طبيعية، إلى معلومات جغرافية، إلى مسائل حسابية رياضية، واختزالها في قوانين أو دساتير، أو مبادئ يسهل استيعابها، وتشمل أكبر قدر ممكن من التطبيقات، ومما يحتاجه الناشئ في حياته ومجتمعه، بحيث يستطيع بهذه المعلومات والمبادئ والدساتير المحدودة، أن يحل رموز كل المخترعات التي يحتاج أن يتعامل معها، وأن يستخدم لغة الحساب والأرصاد الجوية، والرموز الجغرافية في تعايشه مع البيئة، والمجتمع الذي يعيش فيه، كما يستعمل لغة أمته في التفاهم مع إخوانه في العقيدة، وفي مناجاة ربه، والتعبير عن مشاعره وتبادل العواطف، والمشاعر مع الآخرين. والتربية الإسلامية بأهدافها، وأسسها التي مرت معنا تشمل هذا التبسيط، والتلخيص لأسباب أهمها: *- أن الله سخر لنا ما في الأرض جميعًا معه، فعلينا أن نستخدم كلما سخر لنا، وهذا الاستخدام لا يتم اليوم إلا بمعرفة قوانين الطبيعة وسننها وقواها، وهذه المعرفة لا يمكن تقديمها للناشئين إلا إذا لخصت، وبسطت وقربت إلى عقولهم، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. *- من طبيعة الأسلوب التربوي القرآني مراعاة التدج والتبسيط، والقرآن إنما اتبع هذا الأسلوب ليكون لنا قدوة في الدعوة إلى الله بالحكمة، والموعظة الحسنة، ومن مقتضى الحكمة وضع الأمور في مواضعها، وتقديم العلم تقديما يتناسب مع حالة المتعلم، والمتعلم الناشئ أشد الناس حاجة إلى هذا. *- كما أن الهدي النبوي التربوي صريح في هذا، فقد ورد في الأثر: "أمرنا أن نخاطب الناس على قدر عقولهم 1، والناشئون أشد الناس حاجة إلى تبسيط المعلومات، وتلخيصها لتأتي على قدر عقولهم، وكان أسلوب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الأطفال أكبر شاهد على هذا كما سيأتي شرحه، وبسطه في حينه إن شاء الله.

وظيفة التصفية والتطهير

ب- وظيفة التصفية، والتطهير: تمر العلوم أو العقيدة على عقول أجيال متتابعة من الناس والمجتمعات، فلا تبقى على حالها، بل تتحمل كثيرًا من الشوائب، والعواطف الكاذبة، والمبالغات الخاطئة، والاعتبارات الشخصية أو الاجتماعية في ظروف معينة، يكون الناس فيها أميل إلى الإشاعات، وسرعة التصديق، والارتماء في أحضنا التعليلات الساذجة غير العلمية، فتتغير الحقائق، وتنحرف العقيدة عند البعض، فيصبحون أقرب إلى الشرك أو الرياء، أو الكذب على رسول الله، أو نحو ذلك، وقد يؤلف بعضهم المؤلفات، ويكتب هذه الأباطيل في الكتب كما فعل بعض الصوفية والمبتدعة. والمدرسة عندما تقدم العقيدة والعلم إلى الناشئين، تعمد إلى تصفية الحقائق، وتنقيتها من كل الشوائب والأخطاء، والمبالغات والأكاذيب، لتبقى عقيدة الناشئين سليمة، وعقولهم قويمة، ومعارفهم صحيحة. هذه الوظيفة هي من طبيعة التربية الإسلامية، وهي من أهم أهدافها، ومهماتها التي تقوم على تحقيقها للأسباب الآتية: *- أن الإنسان يولد في نظر الإسلام على الفطرة السليمة، ثم يأتي الفساد عن طريق المجتمع الفاسد، فالتربية الإسلامية هي الدفاع عن براءة الفطرة وسلامتها. *- أن طبيعة النفس الإنسانية كما وصفها الإسلام قابلة للخير والشر: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 91/ 8] . *- إن الله امتحن الإنسان، فجعله إمام أمرين، إما أن يختار طريق الخير، وإما أن ينحرف إلى الوساوس والأوهام، التي تحاول إغراءه بشتى الوسائل، وقد أمهل

_ 1 ولعل أصل هذا الأثر ما ورد في صحيح البخاري من كلام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله"، ج1 كتاب العلم.

الله الشيطان وأعطاه كل مقدرة على الإغراء حتى يتم به ابتلاء الإنسان؛ فكان هذا أكبر داع إلى أن يتخذ المربي عدته للحذر من الانحراف؛ لأنه موجود في كل زمان ومكان، ومن أهم أساليب هذا الحذر، تصفية العقيدة والشريعة، والعلوم كلها من شوائب التحريف والتشويه التي توسوس لها الأهواء، أو يوحي بها المنحرفون من عباد الأهواء والشهوات، والمادة في كل زمان ومكان. *- وقد دعا الإسلام صراحة إلى الدفاع عن العقيدة، والشريعة والفطرة من التحريف، وإلى إبعاد الخرافات والتأويلات الباطلة للظواهر الكونية، فنهى عن التشاؤم كما مر معنا في عقيدة القضاء والقدر، ونهى الرسول الله عن تعليل الخسوف بموت ابنه، ونهى عن البدع والابتداع، والزيادة في الشرع والدين، حتى أصبحت مهمة ترك البدع، جانبا قائمًا بذاته من جوانب التربية الإسلامية. *- كذلك حذر الإسلام من الكذب أو التحريف في نقل الأخبار، والحوادث التاريخية، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلم الناشئ والإنسان: أنه مسئول عن كل ما يتحدث به تثبت، أو تأكد من صحته قال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} [الإسراء: 17/ 36] . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: $"كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع". وهكذا لم تكتف التربية الإسلامية بتقديم المنهج، والمواد العلمية للناشئ مصفاة خالصة من كل شائبة، أو تحريف بل ربت الناشئ على الامتناع عن قبول أي شيء دون التثبت منه، وبهذا ربت عنده مناعة ضد كل تحريف أو خرافة، وربته على "الأمانة العلمية"، و"التفكير المنطقي"، فأصبح لا يقبل حقائق العلم إلا صحيحة، ولا الأخبار التاريخية إلا صادقة.

توسيع آفاق الناشئ وزيادة خبراته بنقل التراث:

ج- توسيع آفاق الناشئ وزيادة خبراته بنقل التراث: لا يتكفي المدرسة بتنمية خبرات الناشئ الناجمة عن احتكاكه بالبيئة في المواقف التي تضطره ظروفه إليها، بل تكسبه خبرات من تجارب أجيال الإنسانية الماضية التي سبقته، منذ قرون طويلة، وخبرات من تجارب الأمم الأخرى المعاصرة. وهذا ما يسميه بعض علماء التربية وظيفة "نقل التراث"، ويمكن أن يسمى في التربية الإسلامية بـ"إحياء التراث" والوراثة في اللغة، وانتقال الثروة من السلف إلى الخلف، ويطلق على ذلك الثروات الفكرية، والمعاني الدينية والكتب السماوية قال سبحانه: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ} [الأعراف: 7/ 169] . وقال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: 35/ 32] . والحرص على التراث الفكري والثقافي أمر في غاية الأهمية؛ لأنه ينقل إلينا خبرات عظيمة، طالما انقضت أعمار الأجيال وجهودها في تحصيلها، وهي ثمرات إبداع الأسلاف وحضارتهم ومخترعاتهم، وأبحاثهم العلمية واكتشافاتهم، ولكن ضخامة هذا التراث، واندثار القديم منه، وتغير كثير من الظروف والأحوال، والعقيدة يجعل من المستحل أن تحرص كل أمة على تلقين أبنائها جميع تراثهم بقضه وقضيضه، وبما طرأ عليه من تغيرات بلغت حد التناقض، في بعض العصور والتقلبات التاريخية، لذلك لا بد من انتقاء "المدرسة" لعناصر التراث الفكري، والثقافي الذي يمكن تقديمه إلى الجيل الحاضر ليكون عونا له على وحدته النفسية1، وعونا على وحدة الأمة التي يعيش فيها، وعلى وحدة المجتمع الجغرافية، والتاريخية، وعلى التحقيق الخير لهذا المجتمع، وإبعاد الشرور والانحرافات عن أبنائه، وعن حياته وجميع مجالاته. ولا بد لهذا "الانتقاء" من معيار ومقياس، ولا بد لهذا المقياس من هدف يحققه، وقد بينا هدف التربية الإسلامية في فصل سابق، وعلى ضوء هذا الهدف يمكننا أن نصنف الأهداف التي تبتغى عند المحافظة على التراث كما يلي2. *- يحافظ بعض الناس على تراثهم الفكري تعصبا لآبائهم، وأجدادهم وقد أقيم على هذا المبدأ اتجاه اجتماعي سياسي، سمي بالقومية، وهو تعصب كل قوم لما هم عليه، ولآبائهم ولحضارتهم، ولمصالحهم القومية، سواء كانوا على هدى أو في ضلال، بل إن الهدى عند هؤلاء هو المصلحة القومية، لذلك نجد أن ظواهر الاستعمار، واستثمار خيرات الشعوب الضعيفة قد كانت من نتائج هذا الاتجاه3 في

_ 1 سيأتي شرح هذه النقطة عند بحث الوظيفة التالية من وظائف المدرسة "الصهر والتوحيد والتجانس". 2 استوحيت هذا التصنيف من تصلح آيات القرآن، وتأمل ما يدل على هذا الموضوع من هذا الكتاب. 3 انظر: التربية الإسلامية والمواطنة الصالحة في باب "أهداف التربية الإسلامية"، في هذا الكتاب.

القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين الميلادي، وقد نعى القرآن على هذا التعصب الأعمى للآباء، فقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} [البقرة: 2/ 170] . *- ويتلقف بعض الناس ما توصلت إليه حضارة الأقوام المتحضرة، سعيا وراء المظاهر الحضارية البراقة، وتحقيقا للرفاهية والتعاظم بالمال، والقصور والرياش، وأملا في تقليدهم والوصول إلى ما وصلوا إليه من الغنى، والترف وقد بين الإسلام أن هذا المقصد لا يستحق أن يكون هدفا لذاته، بل ربما كانت مظاهر الترف وسيلة لإغراء الكفار، وزيادة تمسكهم بالدنيا وتماديهم في الضلال وغرورهم، مما يزيد في مسئوليتهم وعذابهم، قال تعالى: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ، وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ، وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 43/ 33-35] . *- وأما إذا كانت الغاية من الأخذ بأسباب الحضارة، الأخذ بمبادئ القوة، والتمكن في الملك من أجل إقامة شعائر الإسلام، والدفاع عنه فهذا من أعظم المقاصد وأشرفها، قال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 22/ 39-41] . *- أما إحياء العقيدة في نفوس الأجيال: فهذا هو الهدف الأسمى للتربية الإسلامية، وهو عمل أسمى من أن يوصف بأنه "نقل التراث"، إنه صون الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وهي الاستعداد لتوحيد الله، وللتعرف على عظمته من تأمل مخلوقاته، ولتحقيق ذلك زودنا الله بهذا "الإسلام" دين الله، ليكون دليلًا ينير لنا الطريق لنسلكه للوصول إلى هدفنا "عبادة الله والعمل بشريعته".

وقد وصف الرسول صلى الله عليه وسلم العلم، والشريعة التي تركها الأنبياء لمن بعدهم بأنها هي الميراث الذي ورثوه للأمة، وأن الله حرم على الناس أن يرثوا من الأنبياء شيئا من المال أو المتاع؛ لأنهم ما أرسلوا لجميع المال، ولا للاغتناء، ولا ليورثوا ذريتهم المال. فالشريعة وتعاليم النبوة هي أعز ميراث يحيي في النفس عقيدة التوحيد، ويربي الناشئين على الفطرة السليمة. ولذلك كان إغناء خبرات الناشئين بتعاليم الشريعة، وعقيدة التوحيد، أول وظيفة وأهم مهمة تضطلع بها المدرسة في نظر التربية الإسلامية. وكل "تراث" آخر يجب أن يكون تبعًا لهذا التراث الإلهي، الذي أورثه الله الذين اصطفى من عباده من الأنبياء وأتباعهم، حتى وصلتنا الشريعة المحمدية بيضاء نقية لنعمل بها، ونحقق عبادة الله وتوحيده. فعلوم الأمم الأخرى وحضارتها: إنما نأخذ منها ما يمكننا في الأرض، ويعطينا أسباب القوة بكل معانيها: القوة الحربية، والقوة الاقتصادية، والقوة الإعلامية، والقوة التنظيمية، لندفع عن عقيدتنا وأرضنا، وديارنا ومساجدنا، وأرواحنا وأعراضنا. بهذا القصد نوسع خيرات النشء العلمية: الفيزيائية والكيميائية، والفلكية والجوية والجغرافية، والحسابية الرياضية، وغيرها وغيرها. لا يقصد التفاخر والتباهي، والتكاثر والظهور بمظهر المتحضرين، الذين تضاعفت عندهم أعداد المتعلمين أضعافا مضاعفة في ربع قرن من الزمن، أو انتشرت عندهم الثقافات العلمية، وكثرت المخابر والكليات العلمية. إن الأمم لا تقاس بالعدد، وإنما تكثر بالنصر وتقل بالخذلان، أي أنها تقاس بالنتائج التي تحققها في مجالات النصر، والتفوق الحربي والصناعي والمعنوي، تقاس بما غرست المدرسة في نفوس أبنائها من الإيمان بالله، والثقة بالنفس وطلب الموت في سبيل إعلاء كلمة الله، ومن الوعي العلمي، والثقافي المسلح بسلاح الإيمان، وعلوم اللغة العربية وآدابها، والتاريخ الإسلامي كل هذه المعارف، والعلوم جزء من التراث الإسلامي؛ لأنها ساعدت على فهم القرآن، وحفظ الشريعة والعمل بها، لذلك يجب انتقاء ما يحقق هذا الهدف، من تلك العلوم، وترك الشوائب والانحرافات التي حصلت على هامش هذا التاريخ الإسلامي العتيد، فضخمها الذين يتبعون الشهوات، ويريدون للمؤمنين أن يميلوا ميلا عظيما، وجعلوا يعرضون الخلافات والحروب الداخلية، والأخبار الماجنة المنسوبة إلى بعض الخلفاء والأمراء، وكأنها هي مقياس هذا التاريخ والأصل فيه، وغفلوا أو تغافلوا عن الهدف الأسمى الذي من أجله فتح أجدادنا الدنيا، وعن الإصلاحات الداخلية العظيمة التي قاموا بها. وجعلوا معظم شواهد علوم اللغة، وتاريخها وآدابها تدور حول أمور الحياة والشهوات والمجون، وغفلوا عن شواهد القرآن وآدابه، وهو الذي حفظ الله به اللغة العربية من الضياع، والانقسام والتفسخ، وجمع شمل الأمة وكلمتها.

وظيفة الصهر والتوحيد وإيجاد التجانس والتأليف بين الناشئين:

د- وظيفة الصهر والتوحيد وإيجاد التجانس، والتأليف بين الناشئين: يرتاد المدرسة اليوم مئات الطلاب من البيئات المختلفة في الفقر والغنى، وفي الجاه والمكانة الاجتماعية، وفي مدى التحضر والتمدن، وفي مدى التدين والشعور بالمسئولية أو الميوعة، والشعور بالضياع، ولو أخذنا مجموعة مدارس أي قطر أو مملكة لوجدنا اختلافا في العادات، واللهجات، والمفاهيم عن الحياة، ما بين ريف ومدينة وما بين ساحل، أو صحراء، أو مناطق زراعية أو صناعية، أو تجارية. ترى ما أثر المدرسة في هذا الاختلاف والتباين، وما موقفها منه؟ يرى فلاسفة التربية الحديثة أن من النتائج العفوية لتواجد الطلاب، وتعايشهم في ظل نظام مدرسي واحد، تربطهم روابط اجتماعية تشد قلوبهم، ونفوسهم بعضها إلى بعض، وهم في ميعة الصبا، وفرحة الطفولة، ومرح الشباب، كل ذلك كفيل بصهر أفراد المجتمع، ومحو الفوارق أو تقليلها بين أفراده، وطبقاته مهما تناءت بهم الديار، أو باعدت بينهم الاعتبارات، والعادات والتقاليد والأفكار على أن هذا الرأي مبالغ فيه، بل إن الواقع يخالفه إلى حد كبير. وإن نظرة إلى المجتمعات العربية والإسلامية، ترينا أن معظم أبنائها تخرجوا من مدارس ذات أنظمة واحدة ومناهج واحدة، ومع ذلك تجدهم في القطر الواحد.

مختلفين، بعد تخرجهم إلى معترك الحياة، لا تجمعهم راية واحدة ولا يستهويهم هدف واحد، بل تفرقهم المصالح والشهوات والأنانيات. ذلك أن الصهر والتجانس الحقيقي لا يتحقق على المدى البعيد، إلا إذا اجتمعت القلوب والعواطف، والأفكار على أسس نفسية عميقة تصلح لتكوين تصورات اجتماعية مشتركة، كما يسميها علماء الاجتماع، على أن تنبع من أعماق النفس عفوا من غير تكلف، ولا قسر اجتماعي. وهذه الأسس يجب أن تبنى على الإيمان الصحيح، الإيمان بحقائق سليمة، مسايرة للفطرة الإنسانية والعقل السليم، توحد نظرة الإنسان إلى أخيه الإنسان، وإلى الكون وإلى الحياة، وإلى القيم الإنسانية، وذلك بتوحيد خضوعهم إلى خالق الكون وموجد الموت، والحياة ومكرم الإنسان، وإلى تشريعه وأوامره. ولو تأملت معنى هذه الصفات لما وجدتها تنطبق إلا على "أسس التربية الإسلامية"، كما أوردناها في فصل سابق، ولعرفت مغزى قوله تعالى: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال: 8/ 63] ، فالتوحيد الذي دعا إليه القرآن، وأثر في نفوس العرب هو الذي صهرهم وألف بينهم. فالصهر والتجانس بين المواطنين لا يحصل إلا إذا ألف الإيمان الصحيح بين قلوبهم، وحينئذ تذوب جميع الفوارق، وتنمحي كل الاعتبارات المفرقة، ويتنازل الجميع من تلقاء أنفسهم عن كل الحزازات والضغائن، وأسباب الحسد أو التباعد، سعيا وراء مرضاة الله، وحبا لله وشكرًا له على نعمة الإيمان، والسعادة النفسية والاطمئنان. فالمدرسة لا تصهر المواطنين، ولا تحقق التجانس المطلوب بينهم إلا إذا بنيت على أسس التربية الإسلامية، وحققت أهدافها. أما المدارس القائمة على مبادئ "المواطنة الصالحة" في أمم الغرب، فإنها تصلح أداة لغرس خلق التواطؤ الاستعماري، وطغيان الشعوب القوية على الشعوب الضعيفة؛ لأنه ليس لديها مقياس حقيقي للمواطن الصالح إلا مسايرة قومه على الخير أو الشر، وعلى تحقيق الشهوات والمصالح الدنيوية، والقهر والجبروت، والتسلط والبغي. بغير حق، كما راينا في بحثنا لأهداف التربية عندما عالجنا موضوع "الإسلام والمواطنة الصالحة".

وظيفة تنسيق الجهود التربوية المختلفة وتصحيحها

هـ- وظيفة تنسيق الجهود التربوية المختلفة وتصحيحها: يساهم في تربية الجيل عوامل عديدة، منها المنزل وقد شرحنا دوره، ومنها المجتمع وسيأتي شرحه، ومنها وسائل الإعلام، والمسجد، والحي؛ على أن هذه العوامل والمؤسسات قد تترك في نفس الناشئ بعض النشاز، والتعارض بين الأفكار، والعواطف أو بعض الأخطاء، وإن لم تكن صادرة عن أهداف وأسس واحدة، فمبالغات بعض الصحف وتخير بعض محطات الإذاعة في أخبارها، وميوعة الأغاني التي تملأ الأسماع والأدمغة، وكثيرا من القلوب، كل ذلك وغيره لا يتناسب مع الأفكار التربوية السليمة، والمعلومات الصحيحة، التي تقدمها المدرسة، لذلك كان من واجب المدرسة إما أن تنسق جهود هذه المؤسسات بالتعاون العليم المباشر معها، في ظل الدولة الواحدة، وإما أن تعقد ندوات للطلاب خاصة بانتقاد كل ما يصر عن هذه المؤسسات، والمؤثرات التربوية، لنشر الآراء السليمة في منازلهم وبين ذويهم. وهذا العمل إنما يؤدي إليه تحقيق أهداف التربية الإسلامية، وأسسها التعبدية والتشريعية1 بشكل عفوي، فالشريعة الإسلامية ضابط أخلاقي للمجتمع، والمدرسة أحق مؤسسة اجتماعية بأن تتولى هذا الضبط عن طريق التنسيق، والتصحيح كما رأينا.

التكميل لمهمة المنزل التربوية

و التكميل لمهمة المنزل التربوية: تعتبر المدرسة بحق أداة مكملة؛ لأن تربية الناشئ تبدأ في أحضان أبويه، يلقنانه مبادئ اللغة، ومفاهيم الحياة الاجتماعية، وأساليب التعايش مع البيئة، والتفاعل مع ظروف الحياة، ويغرسان في قلبه مبادئ الإيمان الصحيح. لذلك لا بد من إقامة تعاون صريح بين المنزل والمدرسة، وأن تخصص المدرسة جهازا لتنسيق الاتصال بالأولياء: آباء الطلاب وأمهات الطالبات، ومعرفة هواتفهم ومناطق سكنهم وأماكن عملهم، ومعرفة ما يمكن معرفته من الظروف التي يربى فيها الناشئون في منازلهم، وأساليب تربيتهم هناك، لتصحيح الخاطئ منها وإكمال الصالح، والتعاون مع الأولياء على إصلاح الناشئين، وحسن تربيتهم ليكمل كل من المنزل، والمدرسة ما بدأ به الآخر، من غرس الإيمان الصحيح والسلوك القويم، ويقوم ما يعرض من انحرافات، ومشكلات في حياة الناشئ، ولئلا يحدث تعارض وتناقض، بين أسلوب المنزل التربوي، وأسلوب المدرسة، فيقع الأطفال، والناشئون ضحية هذا التعارض. وهذه الوظيفة التربوية للمدرسة، إنما تتحق على الوجه الأكمل حينما تتبنى مبدأ "التواصي بالحق"، وهو من أهم مبادئ التربية الإسلامية الاجتماعية، فتتعاون المدرسة مع المسجد والمنزل والمجتمع، ويكون هدف الجميع تحقيق العبودية لله، وتطبيق شريعته، وتحقيق العزة، والكرامة للأمة الإسلامية وأجيالها، والنصح لأولياء الأمور القائمين على الإذاعة، والصحافة والرائي، وهي من أهم الوسائل المؤثرة في تربية الجيل بأسلوب غير مباشر. مزالق المدرسة الحديثة، وعلاجها: على الرغم من العبء الكبير الذي تحملته المدرسة اليوم في تربية الأجيال، فقد وقعت في مزالق رهيبة، كادت معها أن تؤدي بالأمة الإسلامية، وتسلم أجيالها إلى الخذلان والاستسلام، والإباحية والإلحاد في كثير من الأقطار العربية والإسلامية. ومن أهم هذه المزالق: *- الانعزالية: كانت الكتاتيب، وحلقات المساجد من الشعب لتربية الشعب المسلم، وكانت على صلة دائمة بالشعب، فلم تكون طبقة مهنية معزولة عن الشعب، بل بقيت تعالج دائما مشكلات المجتمع الإسلامي، وكان طلاب العلم المخلصون، نقادا لأخطاء الحكام والتجار، والأمراء وأصحاب المهن، ينصحونهم ولا يبالون في الله لومة لائم، وكانوا يشاركون الشعب أفراحه وآلامه وحروبه، كما فعل شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، وطلابه عند حروف الفرق الباطنية التي كانت تطعن الأمة في

_ 1 انظر أثر الشريعة في تربية الخلق، من الفصل الثالث "أسس التربية الإسلامية" من هذا الكتاب.

ظهرها أيام الحروب الصليبية، ذلك أن علمهم، وتربيتهم الإسلامية قد هيأتهم لخدمة مجتمعهم وأمتهم. بيد أن المدرسة الحديثة اليوم أصبحت في معزل عن الحياة الاجتماعية قلما تشعر بحاجات مجتمعها، فتحققها أو بأخطائه فتقومها. لقد أصبح معظمها يعيش في برجه العاجي، وفي عالمه المغلق على نفسه، همه إنهاء المناهج وتنظيم الطلاب، وتهيئة الجو المدرسي الملائم، والسمعة الطيبة والنتائج المدرسية المرجوة، ونسبة النجاح المرموقة. وتعالت صيحات بعض المربين مثل "جون ديوي" لجعل المدرسة مجتمعا مصغرا، لكن هذا لم يكن كافيا، فقد سميت المدرسة مجتمعا طلابيا طفوليا، لا يمثل مجتمع الكبار، ولا يتعاطف مع إلا نادرًا، وفي حدود دراسة البيئة، والتربية الوطنية. والتربية الإسلامية التي تهدف إلى تخريج مصلحين حقيقيين، ورواد اجتماعيين، تدعو المدرسة إلى المشاركة الفعلية في النصح للمجتمع، والمساهمة في إصلاحه، ولترسل من طلابها وعاظا إلى المساجد، ومساهمين في الحض على نظام السير، مثلان أو نظافة المدينة وحدائقها، والحض على جمع التبرعات للجهاد، أو لمساعدة الفقراء، والعمل على محو الأمية، وكل ما يحتاجه المجتمع. ولتحقق ذلك، يجب على المدرسة أن تستقي مناهجها وكتبها، ومقرراتها ونشاطها من صميم عقيدة الأمة وتاريخها، وأهدافها ومتطلباتها وآمالها وآلامها، حتى تخرج جيلا يحس بمشكلات مجتمعه، ويعمل على حلها، ويحس بآلام أمته ويربى على السعي إلى محوها، يعادي من يعادي أمته، وتحيا في نفسه مثلها العليا، ومصالحها فيعمل على تحقيقها منذ نشأته، ليستمر متعاطفًا مع مجتمعه وقضايا أمته مواليا للأمة الإسلامية مخلصًا لها طيلة حياته. وتلتقي المدارس كلها على ذلك بالتقاء العاملين فيها على الإخلاص، وصدق الإيمان، والعمل لإعلاء كلمة الله في نفوس الأجيال وقلوبهم، وبتنظيم المشرفين على المدارس، لأمورها ومناهجها ونشاطها على هذه الأسس، وبحسن الإشراف والنصح والتوجيه، والتعاون مع أساتذة المدارس، ومدرائها والعاملين فيها، بوعي

وجد وتفان، وإخلاص للمصلحة العامة، التي لا تتحقق إلا باستهداف مرضاة الله، فهذا هو ما تجتمع عليه قلوب المخلصين ومساعيهم. *- التبعية لثقافة الغرب، وفلسفتها المبنية على الإلحاد: لو تأملنا معظم كتبنا المدرسية، والمراجع التي أخذت عنها لوجدناها مترجمة بعضها بالنص، وبعضها بالمعنى عن المراجع والثقافات الغربية، فتاريخنا ينقله المؤلفون عن مراجع لمؤرخين أجانب، وكتب العلوم الطبيعية من فيزياء وكيمياء، وتشريح لجسم الإنسان، مترجمة عن الأبحاث الطبيعية التي قام بها علماء الغرب، وكذلك سائر العلوم الإنسانية من تربية وعلم نفس، وعلم اجتماع، وباقي العلوم الأخرى من جيولوجيا وجغرافيا. ولقائل أن يقول: ماذا يضير المسلم لو أخذ الحكمة من أعدائه، ما دام بحاجة إليها، وما داموا قد سبقونا إلى اكتشاف هذه العلوم والتوسع فيها، بعد أن وضع أجدادنا أسس البحث العلمي لاكتشافها، وبدءوا فعلًا في التأليف في مبادئ الطب والفيزياء، والكيمياء والجبر وعلم الاجتماع؟ قد يكون هذا صحيحًا لو أمكن أن نأخذ هذه العلوم دون أن تزعزع عقيدة الناشئين، وتفت في كيانهم النفسي وتعيث فسادا، وتخريبا في كيان الأمة الاجتماعي، فقد غير هؤلاء الغربيون كل المبادئ التي بنى عليها أجدادنا بحثهم، وأخذوا بالأساليب المنطقية والتجريبية، دون الأسس الدينية والفكرية. وهكذا أصبح لهذه العلوم الغربية "منطلقات عقائدية" تعارض عقيدة التوحيد التي تحيا في قلب كل مسلم، ويدافع عنها كل غيور على الإسلام، فهي "أي العلوم الغربية"، تنطلق من تصور خاطئ للوجود كله يغاير الأسس الفكرية الإسلامية التي شرحناها في الفصل الثالث من هذا الكتاب. ونستطيع أن نلخص هذه الخلفية، أو المنطلقات العقائدية المشتركة بين كل فروع المعرفة، والثقافة الغربية بقولنا: الوجود كله، في زعمهم، منحصر في الطبيعة والإنسان، وهو أي الإنسان جزء منها ونوع من أنواعها، والطبيعة وجدت هكذا بنفسها، وكذلك سننها أو قوانينها، فهي، حسب رأيهم، مقدرة بنفسها من غير

مقدر لها، والعقل، عندهم، وحدة طريق معرفة الحقائق، وليس ثمة طريق آخر، وليست المثل الأخلاقية والقيم، والمفاهيم الحقوقية إلا وقائع أو حوادث كالحوادث الطبيعبة، نشأت وتطورت، فهي ليست ثابته، والإنسان نفسه إنما هو حيوان اجتماعي مفكر فحسب، وليست النفس الإنسانية إلا مجموعة من الغرائز. وليس في هذه الفلسفة الغربية، أو التصور الوجودي للكون كما نرى مكان للإله، وصلته بالإنسان وبالكون ونظامه السببي، ولا بالوحي والنبوات، ولا للجزاء والحياة الخالدة، ولا لسائر الغيبيات1. "إن هذه المفاهيم منبثة مفرقة في مختلف العلوم التي تعلم في نظم التعليم السائدة في العالم الإسلامي، ويتكون من مجموعها مركب فكري عقائدي يخالف الإسلام مخالفة جذرية"2. هذه هي الكارثة التي أدخلتها المدرسة الحديثة على أمتنا، وأجيالنا في طول البلاد الإسلامية وعرضها، كارثة "لم تعرف الأمة الإسلامية في التاريخ كارثة أشد هولا، وأفظع في نتائجها منها، ولا تعدلها كارثة التتار ولا الحروب الصليبية، ولا حروب الاستعمار، بل إن جميع المشكلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، والتربوية التي تعانيها، فروع لهذه المشكلة الأساسية"3. "إن حل هذه المشكلة ليس بطرد هذه العلوم، وإيصاد الأبواب أمامها، وإنما الحل الذي نطرحه، وندعو إلى الأخذ به هو صياغة العلوم جميعا صياغة إسلامية، أو بعبارة

_ 1 الأستاذ محمد المبارك -عن مجلة البعث الإسلامي "مجلد 21 - عدد 10 - ص32" تصدر في ندوة العلماء بالهند. 2 ففي كتب العلوم الطبيعية تجد مثل قولهم: إن الطبيعة وهبت الإنسان كذا وكذا من الطاقات والقابليات، وأوجدت في الأكجسين والهيدروجين مثلا خاصة التأليف لتركيب الماء، وهكذا والتاريخ قد قسم إلى القرون الأولى والعصور الوسطى، والحديثة على أساس حوادث أوروبية، فهو يجعل العالم كله تبعا للاعتبارات الأوروبية في تاريخه، وعلم الجغرافيا يقسم الشعوب حسب الاعتبارات الأوروبية المادية، وهكذا سائر العلوم. 3 والفقرة 2 من الصفحة السابقة من مقال للأستاذ بعنوان "نحو صياغة إسلامية لعلم الاجتماع"، مجلة البعث الإسلامي عدد رجب 1397هـ ص34-35.

أدق إقامتها على أسس إسلامية، والسير بها من منطلقات إسلامية، أي بناؤها على التصور العام للوجود كما يقدمه الإسلام"1. وهذا الكتاب محاولة لحل جانب من جوانب هذه المشكلة في مجال التربية، إنه محاولة لصياغة منهج تربوي إسلامي متكامل، لتربية الأجيال على أساسه معتمد على أسس فكرية إسلامية تصاغ على ضوئه المناهج المدرسية، وتؤلف على هدية الكتب المدرسية، ويقام النشاط المدرسي، وجميع ما تستلزمه المدرسة، وتربية الأجيال. *- انشطار شخصية الناشئ، وانفصام عرى وحدتها: وهذا المنزلق نتيجة عقوبة لما قبله، وذلك أن سواد الشعوب الأوروبية لم تستطع الانسلاخ نهائيا من العقيدة الدينية، ومن الاعتقاد بوجود الخالق، وباليوم الآخر على نحو ما، فلم يجد أربابا الفكر والثقافة الغربية بدا من الفصل بين العلم، والدين وبين الكنيسة والحكم، وانتشر المبدأ الخاطئ الذي يقول: "دع ما لله لله، وما لقيصر لقيصر"، وكان من نتيجة ذلك ترسيخ دعائم الاتجاه الإلحادي الذي قامت عليه الثقافة الغربية كما رأينا في جميع المدارس، والمنشورات العلمية، وميادين العلم المختلفة، بدعوى أنها علوم وضعية "تدرس الواقع"، ولا علاقة لها بالدين، مع أن الاستدلال على عظمة الله جزء من الواقع الذي يعيشه كل عقل سليم يفكر تفكيرا منطقيا، وينطلق من المحسوس الذي حوله إلى الأسباب، كما رأينا في بحث أسس التربية الإسلامية. ولم تحدد التربية الغربية الحديثة لها موقفا منطقيا من هذا الصراع، مع أنها تؤمن في مجال النفس، والعمل التربوي بوحدة النفس الإنسانية، وبوحدة الخبرة التي يقتبسها الناشئ مهما اختلفت وجوه هذه الخبرة. ولكنها تنازلت عن هذه الوحدة، واستسلمت لهذه الفلسفة الانشطارية التي تقسم

_ 1 نفس المصدر السابق. وقد شرحنا هذا التصور في فصل: "أسس التربية الإسلامية"، وخاصة "الأسس الفكرية".

النفس إلى شقين متنازعينن، أحدهما يؤمن بالله المهيمن الخالق، والآخر يؤمن بالطبيعة، التي هي في زعمهم، مصدر الطاقات، والقوى، والقوانين. تلك هي الفلسفة التي تسود معظم مدارس الأقطار الإسلامية اليوم، من غير أن نشعر، فترى أستاذ الطبيعية أو الجغرافية مثلا إذا سأله طالب عن حكمه الخالق في أمر من أمور العلم الذي يقرره يحوله إلى أستاذ الدين بدعوى أنه لا علاقة له بالأمور الدينية، ويتكرر مثل هذا الموقف، فيعتقد الناشئ أن معاني العقيدة، والتصور الإسلامي للكون لا علاقة لها بالعلوم الكونية، أو الجغرافية أو حتى التاريخية، وأن مكانها هو كتب الدين فقط، وزمانها هو دروس التوحيد، والفقه والحديث، والقرآن والتفسير، وربما ظن أن هذه العلوم الإسلامية لا تفسر وقائع الكون بنفس الوضوح الذي تفسره دروس العلوم، والجغرافيا "تفسيرًا قاصرا على القوانين الوضعية الطبيعية دون نسبتها إلى تنظيم الخالق، وتربيته لسنن الكون وقواه". إن هذه الفلسفة التي تفصل الدين عن الدولة "في المجتمع الواحد"، والروح عن الجسد في الكائن الواحد، والعلم عن الأخلاق في الكيان الإنساني الواحد، والعقل عن الوجدان، لهي فلسفة مبلبلة تدع الناشئ حيران لا كيان له، ولا يقين عنده ولا ثقة له بشيء، بل تعلمه النفاق والتلون، وانتحال شخصيات متناقضة متعددة. وعلاج هذه المشكلة، كعلاج سابقتها يقوم على إعادة تأليف مناهج، وكتب لسائر المعارف، والعلوم من منطلق إسلامي، ولكن بشرط القيام بدورات تربوية إسلامية تدرب المعلمين، والمدرسين على تحقيق هذه المنطلق في جميع جوانب التربية، والتعليم المدرسي1 ... *- وثنية الشهادات، والامتحانات، وجعلها غاية في ذاتها: كانت "الإجازة العلمية" قديما عند أسلافنا شهادة من عالم جليل، يشهد بها لأحد طلابه بالقدرة على تدريس كتاب معين، ويسمح له بذلك، ويكتب ما يفيد هذا

_ 1 هذه الفقرة والفقرتان د وهـ من يجيش للمؤلف أحدهما بعنوان "من حصاد التربية الحديثة في بلادنا" 2/ 83، والآخر بعنوان "نقد التربية الحديثة" ص80 من كتاب "التربية وطرق التدريس"، للمؤلفين عبد الرحمن نحلاوي، عبد الكريم عثمان، محمد خير عرقسوسي ط الكليات والمعاهد بالرياض 1392هـ.

المعنى: "أجزت فلانًا بتدريس الكتاب الفلاني في العلم الفلاني"، ولم تكن "الإجازة" تعطي إلا بعد شعور صحيح بقدرة هذا "المدرس الجديد"، وبعد مرافقته لشيخه مدة كافية، ومناقشته لجميع قضايا الكتاب مع فهم، وإتقان ومعالجة، ويبقى "المجاز" بعد ذلك على صلة بشيخه، وهكذا كانت الشهادة نقطة بداية للدراسة والبحث العلمي، أما اليوم فقد أصبح الطالب يقصر همته على نيل الشهادة، فإذا حصل عليها انتهت حياته العلمية، ونسي كل شيء، وصارت قيمة الشهادة تقدر بمقدار ما تتيح لصاحبها من عمل يدر عليه الأرباح الطائلة بأقل جهد ممكن، حتى كأنها "صك" يحمله المتخرج يطرق به أبواب الشركات، أو الدوائر الحكومية، ليحصل على مركز اجتماعي، ويقبض راتبا شهريا كبيرا. *- تخريج موظفين آليين: وهكذا صارت جامعاتنا ومدراسنا تخرج شبابا قليلة ثقافتهم، سطحيا تفكيرهم لا هم لهم إلا الوصول إلى الشهادة، لا يؤمنون بالحقائق العليمة لذاتها، ولا يستمتعون بنتائجها الفكرية والتطبيقية، إنما همهم أن يصبوا حروفا، وعبارات على ورقة الامتحان ثم ينسوها إلا تخرجوا، فإذا تسلموا عملا في دائرة أو شركة، أصبحوا موظفين كالآلة الصماء يتحركون حسب الأوامر المعطاة لهم، فاقدين كل قدرة على المبادهة والأصالة، وابتكار الحلول الشخصية للمشكلات التي تعترضهم، ولا هم لهم إلا أن يعدوا الأيام ليقبضوا رواتبهم، والأشهر أو السنوات لينتظروا علاواتهم وترفيعهم. وتحل هاتان المشكلتان باتباع، أو تحقيق الأمور الآتية: - تدريب الشبان في حياتهم الجامعية، أو في المعاهد الفنية أو السلكية، على استعمال معارفهم والعلوم، والفنون التي يتلقونهم في حل مشكلات مجتمعهم، أي الإكثار من البحوث والتجارب العلمية الميدانية والدورات الصيفية، يقضونها في بعض الأعمال من النوع الذي يناسب تخصصهم الفني، أو العلمي الجامعي. - إيقاظ الوازع الرباني، والوعي التربوي الإسلامي عند الشبان حتى يشعروا بمسئوليتهم عن علمهم، ماذا عملوا به تجاه خالقهم يوم الجزاء، وبهذا يشعرون بأن تعلمهم هو إعدادهم للجهاد في سبيل إعلاء كلمة الله عن طريق إصلاح مجتمعم، والنهوض بواقع أمتهم الإسلامية. - غرس الثقة عند الشبان، والإيمان بالكرامة التي كرم الله بها الإنسان، والاعتقاد بأن الذي يشرف الشاب هو علمه، وبحثه وما يتقن من مهارات، وما يقدم من أعمال مخلصًا، وأن الشهادة إنما هي رمز لاجتياز مرحلة، ليست دليلا على التأهيل لعمل، فكم من حامل شهادة أخفق في حياته، وكم من عالم نحرير، شهادته هي مؤلفاته وأبحاثه، وإخلاصه في بث العلم والعمل به. وكم من خبير طبقت شهرته الآفاق، قبل أن يحمل الشهادات العليا.

رابعا: المربي المسلم

رابعا: المربي المسلم 1- تمهيد حول أهمية المربي: أشار القرآن إلى دور المعلمين من الأنبياء وأتباعهم، وإلى أن وظيفتهم الأساسية دراسة العلم الإلهي وتعليمه، وذلك في سورة آل عمران بقوله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران: 3/ 79] . وأشار جل جلاله إلى أن من أهم وظائف الرسول صلى الله عليه وسلم تعليم الناس الكتاب والحكمة، وتزكية الناس أي تنمية نفوسهم، وتطهيرهم بقوله تعالى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ} [البقرة: 2/ 129] . وقد بلغ من شرف مهنة التعليم أن جعلها الله من جملة المهمات التي كلف بها رسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 3/ 164] . ويتضح من هذه الآيات أن المربي وظائف أهمها. أ- التزكية أي التنمية والتطهير، والسمو بالنفس إلى بارئها وإبعادها عن الشر، والمحافظة على فطرتها. ب- التعليم أي نقل المعلومات، والعقائد إلى عقول المؤمنين، وقلوبهم ليطبقوها في سلوكهم وحياتهم.

صفات المربي المسلم وشروطه

2- صفات المربي المسلم وشروطه: لكي يحقق المعلم اليوم وظيفته التي كلف الله بها الرسل، وأتباعهم يجب أن يتصف بصفات أهمها: أ- أن يكون هدفه وسلوكه، وتفكيره ربانيا كما صرح بذلك في سورة آل عمران: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران: 3/ 79] ، أي تنتسبون إلى الرب جل جلاله بطاعتكم إياه، وعبوديتكم له، واتباعكم لشريعته ومعرفتكم لصفاته، وإذا كان المعلم ربانيا، استهدف من كل أعماله التعليمية، ودروسه أن يجعل طلابه أيضا ربانيين، يرون آثار عظمة الله، ويستدلون عليها في كل ما يدرسون، ويخشعون لله ويشعرون بإجلاله عند كل عبرة من عبر التاريخ، أو سنة من سنن الحياة، أو سنن الكون أو قانون من قوانين الطبيعة، وبدون هذه الصفة لا يمكن للمعلم أن يحقق هدف التربية الإسلامية؛ لأن عبادة الله كما رأينا يجب أن تعم نظرتنا إلى الكون، وأعمالنا كلها في الحياة وتفكيرنا كله. ب- أن يكون مخلصًا، وهذا من تمام صفة الربانية وكمالها، أي ألا يقصد بعمله التربوي وسعة علمه، واطلاعه إلا مرضاة الله، والوصول إلى الحق، وإحقاق الحق أي نشره في عقول الناشئين، وجعلهم أتباعا له. فإذا زال الإخلاص، حل محلة التحاسد بين المعلمين، فيصبح كل منهم يتعصب لرأيه أو طريقته، ويسود الغرور والأثرة عوضا عن التواضع للحق وعن الإيثار، إيثار الحق على الهوى. وهكذا، بدون إخلاص، يصبح مجال التعليم مسرحا للمهاترات، أو بث الدعوات المغرضة، أو تضليل عقول الناشئين بدعوتهم إلى مذاهب مضللة، أو مظاهر براقة كالفن للفن والموضوعية، والعلم للعلم1، ونحو ذلك من الشعارات التي لا

_ 1 شرحنا ذلك قبل عدة صفحات في بحث "وظائف المدرسة ومزالقها".

هدف لها، ولا مجد لهذه الأمة إلا بتربية أجيالها على تحقيق مرضاة الله وشريعته، واستهداف ذلك في كل المجالات التعليمية، والتربوية بإخلاص وعناية، لا بأن يكتفي بكلمة في مقدمة الدرس، أو الكتاب قد لا تؤدي الغرض المطلوب، وقد يقصد بها التمويه، أو مجرد مسايرة المنهج، فالإخلاص معناه أن ينبعث الهدف من أعماق النفس عن قناعة، وأن يصبر المعلم على تحقيقه وبلوغه. ج- أن يكون صبورًا على معاناة التعليم، وتقريب المعلومات إلى أذهان الطلاب؛ لأن ذلك يقتضي مراسًا وتكرارًا، وتنويعا للأساليب ومكارهة للنفس على تحمل المشقة؛ ولأن الناس ليسوا سواء في القدرة على التعلم، فلا يستطيع المعلم أن يساير هوى نفسه، فيتعجل رؤية نتائج عمله قبل نضج المعلومات في نفس الناشئ نضجا تصبح معه قابلة للتطبيق العملي، وقبل تطوير السلوك، وقبل أن تكتمل القناعة عند الطلاب، تتحمس نفوسهم وعواطفهم، وتستثار انفعالاتهم استثارة كافية لتحقيق ما يتعلمونه في حياتهم ومجتمعهم، فتنهض به أمتهم. د- أن يكون صادقا فيما يدعو إليه، وعلامة الصدق أن يطبقه على نفسه، فإذا طابق علمه عمله اتبعه الطلاب، وقلدوه في كل من أقواله وأفعاله، أما إذا خالف عمله لما يدعو إليه، فإن طلابه يشعرون بعدم عزمه على تحقيق ما يقول، أو بعدم إيمانه بما يقول، أو بعدم جدية أقواله. وقد عاتب الله المؤمنين على عدم صدقهم فيما يقولون بقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 61/ 2-3] . وعدم صدق المربي، قد يعلم الرياء للطلاب، بدون أن يشعر بذلك؛ لأن الطلاب وخاصة الناشئين منهم يتأثرون بسلوك معلمهم كما يتأثرون بكلامه، فهو قدوتهم في كل ما يقول ويعمل. فهو بعدم الصدق قد يسيء إلى النفوس طلابه، وينحط بها بدلًا من أن يزكيها وينهض بأخلاقهم. هـ- أن يكون دائم التزويد بالعلم والدراسة له، وقد رأينا كيف أمر الله أتباع

الرسل بأن يكونوا ربانيين بتحقيق دراسة الكتاب وتعليمه، فقال: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران: 3/ 79] . وأن يكون على نصيب وافر من المعرفة بالعلم الذي يدرسه، من علوم إسلامية شرعية، أو تاريخ أو جغرافيا أو لغة، أو علوم كونية طبيعية أو علوم رياضية؛ لأن تعليم العلم وتبسيطه للناشئين لا يأتي إلا بعد هضمه، والتعمق في فهمه. ولأن كثرة الأخطاء العلمية عند المعلم تقلل من ثقة الطلاب بمدرسهم، وتؤدي إلى استهتارهم به، وبما يدعوهم إليه من الفهم، والإتقان العلمي والحفظ والتطبيق، وقد يؤدي ذلك إلى شك الطلاب بما يعلمهم إياه، فلا يستفيدون منه شيئًا. فيجب على المدس أو المعلم المسلم أن يكون على سعة من العلم، وقوة في الحافظة وعمق في الفهم، حتى يكسب احترام طلابه، وثقتهم به وحتى يفيدهم الفائدة المرجوة. و أن يكون مفتنا في تنويع أساليب التعليم، مفتنا لتلك الأساليب، عارفا بالأسلوب الذي يصلح لكل موقف من مواقف التدريس ومواده. فلا يكفي الإتقان العلمي؛ لأنه ما كل عالم يستطيع تبسيط معلوماته، ونقلها إلى عقول الناشئين، فذلك يحتاج إلى خبرة خاصة ومران، وحسن تدريب واتباع أساليب مدونة في كتب أصول التدريس، والتربية وعلم النفس التعليمي. على أن التربية الإسلامية أساليب مستقاة من القرآن، ومن تعليم الرسول لأصحابه سنبسطها فيما بعد هذا الفصل إن شاء الله. ز- أن يكون قادرًا على الضبط والسيطرة على الطلاب، حازما، يضع الأمور في مواضعها، ويلبس لكل حالة لبوسها فلا يشتد حيث ينبغي التساهل، ولا يتساهل حيث تجب الشدة، وهذه من صفات القائد، ولا غرو، فهو قائد الفصل، به يقتدي الطلاب وبأمره يأتمرون. وأن يكون محبوبا من الطلاب رحيما بهم من غير تفريط، حريصًا على مصلحتهم، يسامحهم أحيانا دون أن يترك لهم مجالا للشطط والتراخي. وأن يكون عارفا بأساليب العبث، والشغب عند بعض الطلاب، فلا تفوته، متنبها لكل حركات الطلاب ومقاصدهم.

ح- وأن يكون دارسا لنفسية الطلاب في المرحلة التي يدرسها، حتى يعاملهم على قدر عقولهم واستعداداتهم النفسية، عملًا بقول علي بن أبي طالب: "خاطبوا الناس بما يعلمون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟ ". وهذا يحصل بدراسة مراحل الطفولة في علم نفس الطفل، أو علم النفس التكويني أو التربوي. ط- أن يكون واعيا للمؤثرات والاتجاهات العالمية، وما تتركه في نفوس الجيل، من أثر على معتقداتهم، وأساليب تفكيرهم، فاهمًا لمشكلات الحياة المعاصرة، وعلاج الإسلام لها، مرنا كيسا، يستمع لكل اعتراضات الطلاب واستفساراتهم وشكوكهم، فيتتبع أسبابها ويعالجها بحكمة وروية. والمعلم لا يكفيه أن يعرف الخبر فيدعو إليه، بل لا بد له أن يطلع على ما يبيته دعاة الشر، والكفر من الكيد لهذه الأمة المؤمنة، وللعاملين على تحقيق أهداف التربية الإسلامية؛ لأنه يتعامل مع نفوس غضة معرضة للتأثر بالفتن، والأهواء والتيارات السائدة في هذا العصر، وهي تيارات غير مؤمنة، ولا مبنية على شيء من الإيمان بالله. وعلاج هذه المشكلات، والتيارات مبسوط في كتب الثقافة الإسلامية، وفي الدراسات الحديثة، للإسلام، كدراسات سيد قطب، وأبي الأعلى المودودي، ومحمد قطب، وأبي الحسن الندوي وغيرهم. وقد تنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه التيارات، فذكر أن أمته ستفترق بضعا وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وأنها ستتبع اليهود والنصارى: $"لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا حجر ضب لدخلتموه"، وإنما قال الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك ليحذرنا مما سيقع لمعظم الناس. وأشار القرآن إلى ذلك في فاتحة الكتاب التي يقرؤها المسلم كل يوم بضع عشر مرة: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 1/ 7] ، وقد أجمع المفسرون على أن المراد بالمغضوب عليهم اليهود، والمراد بالضالين النصارى. وفي هذا المعنى ألف شيخ الإسلام ابن تيمية كتابه: "اقتضاء الصراط المستقيم، مخالفة أصحاب الجحيم". ي- أن يكون عادلا بين طلابه لا يميل إلى أي فئة منهم، ولا يفضل أحدا على أحد إلا بالحق، وبما يستحق كل طالب حسب عمله ومواهبه، فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قدوة المعلمين بالعدل، قال تعالى مخاطبا نبيه: {وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} [الشورى: 42/ 15] ، وقال سبحانه: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 5/ 8] .

خامسا: المجتمع ومسئوليته التربوية

خامسًا: المجتمع ومسئوليته التربوية تتجسد مسئولية المجتمع الإسلامي عن تربية أبنائه في أمور، وأساليب تعتبر من أفضل أساليب التربية الاجتماعية أهمها: إن الله جعله آمرًا بالمعروف ناهيا عن المنكر كما سبقت الإشارة إلى ذلك في بحث "الأسس التشريعية من أسس التربية الإسلامية"، فقال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 3/ 104] . وقال جل جلاله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 3/ 110] . وتربية الناشئين على هذا الأساس معناه أن نصون فطرتهم الطاهرة عن التدنس وارتكاب الأخطاء، أو عن أن تستهويهم الرذيلة؛ لأن مجرد استحسانها سيعدهم لارتكابها إذا كبروا واصبحوا قادرين عليها، هذا من جهة ومن جهة أخرى، فإن من واجب الراشدين أن يغرسوا معاني الإيمان في قلوب الناشئين بشتى المناسبات، بأن يلفتوا نظرهم إلى كل ظاهرة من ظواهر الكون الدالة على قدرة الله، وعظمته ووحدانيته، وأن يوجهوا ويهذبوا سلوكهم بآداب الإسلام، وأن ينصحوهم إذا دخلوا المسجد، ويعلمون عبادة الله وآداب المساجد. 2- اعتبار الناشئين أبناء أو أبناء إخوة الراشدين: جميع الناشئين في المجتمع الإسلامي هم أبناء، أو أبناء إخوة لجميع الراشدين أو للكهول، فكل كهل ينادي أي

ناشئ مسلم "يا بن أخي"1، وكل ناشئ ينادي أي كهل بلفظ "يا عم" عملًا بقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة} [الحجرات: 49/ 10] ، وقد شعر المسلمون منذ فجر الإسلام بهذه المسئولية المشتركة عن تعليم الناشئين، فقد روى البخاري في الأدب المفرد عن أنس قال: "كنت خادمًا للنبي صلى الله عليه وسلم، قال: فكنت أدخل بغير استئذان، فجئت يوما، فقال: "كما أنت يا بني، فإنه قد حدث بعدك أمر، لا تدخلن إلا بإذن"، فقد علمه الرسول الاستئذان، وكان يناديه يا بني"2، وعن ابن أبي صعصعة عن أبيه أن أبا سعيد الخدري قال له: "يا بني"3. وهكذا نرى أن العطف على الناشئين، وإشعارهم بصلة العقيدة من أهم أساليب التربية الاجتماعية في الإسلام. 3- التأديب بسخط المجتمع وتعنيفه للمسيء: اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم المجتمع وسيلة لتأديب الرجل يؤذي جاره، فقد ورد عن أبي هريرة قال: قال رجل: يا رسول الله: "إن لي جارا يؤذيني"، فقال: "انطلق فأخرج متاعك إلى الطريق"، فانطلق فأخرج متاعه فاجتمع الناس عليه، فقالوا: "ما شأنك؟ " قال: لي جار يؤذيني، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "انطلق فأخرج متاعك إلى الطريق"، فجعلوا يقولون: "اللهم العنه، اللهم اخزه"، فبلغه فأتاه فقال: "ارجع إلى منزلك فوالله لا أوذيك"4، وفي هذا دليل على أن النقد الاجتماعي اللاذع من أساليب التربية الاجتماعية في الإسلام، ولكن لا يلجأ إليه إلا عند الضرورة القصوى. 4- التأديب بالحرمان الاجتماعي أو الهجر والمقاطعة: اتخذ الرسول صلى الله عليه وسلم المجتمع "بأمر من الله" وسيلة لتأديب من تخلف عن الحرب، فأمر الصحابة بمقاطعة الثلاثة الذين تخلفوا عن تقديم أنفسهم للجندية، حين أعلن النفير العام، فكانت هذه التربية

_ 1 فإن كان أبوه لم يدرك الإسلام نادوه يا بني كما روى البخاري في الأدب المفرد عن الصعب بن حكم، عن أبيه عن جده قال: أتيت عمر بن الخطاب: رضي الله عنه، فجعل يقول: يا بن أخي!! ثم سألني فانتسبت له، فعلم أن أبي لم يدرك الإسلام، فجعل يقول: "يا بني، يا بني" الأدب المفرد. 2 الأدب المفرد، الحديث 807. 3 الأدب المفرد، الحديث 808، وكل هذا في باب قول الرجل: يا بني لمن أبوه لم يدرك الإسلام. 4 الأدب المفرد، الحديث 68، 1/ 216.

بواسطة الضغط الجماعي الواعي المقصود من أبلغ الوسائل، وأشدها تأثيرًا في النفوس. وقد وصف الله تعالى بعض نتائجها النفسية وصفا بليغا حيث قال: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ، وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْإِرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة: 9/ 117-118] . فأشار إلى الأثر الذي بلغه المجتمع المسلم من نفوس أفراده، فأحاطها من كل جانب، حتى أن أحدهم تضيق به الدنيا عندما يقاطعه، ويهجره جميع أفراد المجتمع من أجل مرضاة الله. النتيجة التربوية: وهكذا نرى أن الرجوع إلى أمر الله، وتحكيم شريعته في تنظيم المجتمع، من أهم مصادر الروابط، والتصورات والأهداف الاجتماعية، فيحق للمجتمع بل يجب عليه أن يربي الناشئين، ويؤدبهم بطلب مرضاة الله، فإذا زاغ الفرد عن هذا الهدف هجره المجتمع، أو زجره أو اتخذ معه شتى الأساليب التربوية، حتى يعود إلى حظيرة الإيمان والتوبة، والندم على الخطأ والعمل بمقتضى الشريعة وآدابها. وهذا يدل على أن مؤدب الناشئين، يحق له بل يجب عليه أحيانا، أن يحرم المخطئين من معاشرة زملائهم فترة من الزمن، عقوبة وردعا لهم حتى يشعر بندمهم وتوبتهم، ورجوعهم إلى الصواب، أو يأخذ عليهم العهد بذلك، شريطة أن يعرفوا أخطاءهم، وسبب إنزال هذه العقوبة بهم، وأن يتوسم فيهم الاستفادة من هذه العقوبة، فقد ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم عددًا من المنافقين لم يعاقبهم على تخلفهم، وخص هؤلاء الثلاثة بهذه العقوبة، لعلمه بأنها هي الأنفع لهم، وأنهم أجدر أن يتعظوا بها. 5- التربية الاجتماعية بالتعاون: تقوم التربية الإسلامية على اعتبار المجتمع المسلم كيانا حيا واحدا، فقد شبه رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المجتمع بالجسد حيث قال: "ترى

المؤمنين في توادهم، وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضو تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى" 1. وعلى هذا الأساس العيظم رغب القرآن بالتعاون، فقال تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 5/ 2] . وتدل الآية على أن أواصر المحبة التي تقوم عليها التعاون بين أفراد المجتمع المسلم، إنما تقوم على تحقيق الخير والبر، وعلى التقوى أي الخوف من ارتكاب معصية أو شرك بالله، أو بعد عن شريعته، أو إيذاء بغير حق، ولذلك نهى الله عن أن يكون التعاون في الإثم، والعدوان. وهذا ما يميز التربية الإسلامية، التي تربي المواطن المؤمن على تحقيق الخير والبر والعدل دون تعصب، هذا ما يميزها عن التربية القومية التي تستهدف إيجاد "المواطن الصالح"، الذي يتعصب لقومه، ووطنه دون أن يستهدف خيرًا أو عدلا، أو يبعد شرا عن الآخرين. ومما يحقق معنى التعاون في التربية الاجتماعية الإسلامية، قضاء حاجات الناس، والتفريج عنهم، وستر عيوبهم، ونحهم على انفراد، إن كانت من العيوب التي يمكن تركها. عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يثلمه، من كان حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة" 2، وهكذا يدرج الناشئ في مجتمع، قائم على الإيثار، بعيد عن الأثرة، مبني على مساعدة الآخرين من أجل الحق والخير، وإدخال السرور وإبعاد الكروب.

_ 1 صحيح البخاري، 4/ 37ط/ المطبعة العثمانية المصرية 1351هـ. 2 رواه البخاري ومسلم، الترغيب والترهيب من الحديث: عبد العظيم المنذري المتوفي 656هـ، 3/ 75، ط/ دار إحياء الكتب العربية بمصر "عيسى البابي الحلبي".

6- تربية الناشئين على الحب في الله: تبني التربية الاجتماعية على أساس عواطف اجتماعية، أهمها المحبة، وتنبع المحبة من تربية الأبوين للناشئ، فإن وهباه ما يحتاج من الحب والعطف، والعناية أصبح عنده استعداد لمحبة الآخرين، وإن لم يرويا عنده الحاجة إلى أن يحب، ظهر عنده الشذوذ والتبرم، والسخط على الآخرين، كما رأينا في بحث "الأسرة" في هذا الفصل. على أن التربية الإسلامية أضافت إلى محبة الأبوين ينبوعا ثرًّا، لا ينضب، من ينابيع العاطفة الصادقة، إنه محبة الله الذي أنعم علينا، والذي يرحمنا في الشدائد، عندما نلجأ إليه وندعوه في المحن، فيكشف السوء. وعلى أساس محبة الله يجب المؤمن كل من يشاركه في الولاء لله، ومحبة الله وطاعته والانقياد لشريعته، والاعتزاز بالسير تحت لوائه، وهذا ما يسمى "الحب في الله"، وله في النفس أثر عظيم وسعادة نفسية قال فيها بعض الزهاد: "لو يعلم الملوك ما نحن فيه لحاربونا عليه"، وهذا اقتباس لطيف وتصديق واقعي لما رواه أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: - أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما. - وأن يحب المرء لا يحبه إلا الله. - وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه، كما يكره أن يقذف في النار" 1. وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم محبة قوم ثبتت نصرتهم لله، ورسوله من علامات الإيمان، وبغضهم من علامات النفاق: عن البَرَاء بن عازب رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الأنصار: $"لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق، من أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله"2.

_ 1 متفق عليه، رياض الصالحين، 3/ 87، للإمام يحيى بن شرف النووي، ت671هـ، شركة الشمولي بمصر. 2 متفق عليه، رياض الصالحين، 3/ 78، شركة الشمولي بمصر.

كما جعل مصير الإيسان يوم القيامة، مرتبطا بمصير من يحبهم ويتعلق بهم، ويرتبط بهم برباط اجتماعي في الدنيا، ويعمل بعملهم، ويبذل من أجلهم. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من عباد الله عبادًا ليسوا بأنبياء، يغبطهم الأنبياء والشهداء، قيل: من هم لعلنا نحبهم؟ قال: هم قوم تحابوا بنور الله من غير أرحام ولا أنساب، وجوههم نور، على منابر من نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس، ثم قرأ: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 10/ 62] 1. وعن أنس رضي الله عنه أن رجلًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: "متى الساعة؟ قال: "وما أعددت لها؟ " قال: لا شيء إلا أني أحب الله ورسوله"، قال: "أنت مع من أحببت" 2. التطبيق التربوي: يجب على المربي أن يذكر الناشئ بهذه المعاني عندما يصطحبه، أو يرسله لزيارة أخ له في الله، أو عيادة مريض، أو اجتماع على ذكر الله أو طلب العلم، وأن يبني النشاط الاجتماعي المدرسي على هذا المعنى، وبهذا تربى تدريجيا عند الناشئين عاطفة الحب في الله فيجدون لذتها، ولا يستطيعون تركها. 7- حسن انتقاء الأصدقاء على أساس التقوى والإيمان: يميل الناشئون بفطرتهم، وخاصة منهم الفتيان والمراهقون، إلى محبة الأصدقاء والانخراط في جوهم، فيجب إعطاؤهم مناعة، وحذرًا حتى لا يصاحبوا الأشرار، أو يلازموا شبابا ضائعين، لا هم لهم إلا العبث وضياع الوقت دونما هدف صالح من الحياة، وقد أوصانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، وحذرنا القرآن من قرين السوء في "حوار قرآني"3 أجراه على لسان أحد أهل الجنة يوم القيامة، قال تعالى: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ، قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ، يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ، أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ، قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ، فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ

_ 1 رواه النسائي وابن حبان في صحيحه، واللفظ له "الترغيب والترهيب 3/ 262، ط/ دار إحياء الكتب العربية بمصر". 2 رواه البخاري ومسلم، الترغيب والترهيب، 3/ 263، ط دار إحياء الكتب العربية بمصر. 3 من أساليب القرآن التربوية، وسيأتي تفصيله إن شاء الله في "أساليب التربية الإسلامية".

قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ، وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [الصافات: 37/ 50-57] . وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تصاحب إلا مؤمنًا، ولا يأكل طعامك إلا تقي" 1. وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء، كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحًا نتنة" 2. الأثر التربوي: ينتج مما تقدم أنه لا يكفي الاعتماد على المجتمع المؤمن الذي يحيط الناشئ عادة، بل يجب تحذيره من جليس السوء، وأن نختار له مجالس الصالحين، والرفقة المؤمنة، والأتراب والأنداد الذي ربوا تربية صالحة، مع إشغال مجالسهم، ومجتمعاتهم بما يرضي الله، ويزكي نفوسهم، وتحذيرهم مما يدنس نفوسهم، أو يضيع أوقاتهم في غير ما طاعة أو فائدة علمية، أو كسب دنيوي حلال، عملا بقوله تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 4/ 114] .

سادسا: النشاط المدرسي والتربية الإسلامية

سادسا: النشاط المدرسي والتربية الإسلامية: 1- تعريف النشاط: من أهم المعاني التي يعنيها "النشاط المدرسي" اليوم، صرف طاقات الناشئين أو تشجيعها أو بعثها، في أعمال وألعاب يقبلون عليها من تلقاء أنفسهم، إذ أنها تستهويهم وتحقق ميولهم وذاتيتهم، وتناسب استعدادهم، وتبعث فيهم المرح والحيوية والتفاؤل، وتحبب المدرسة إلى نفوسهم، وتشعرهم بكيانهم الاجتماعي، وبعضويتهم في الجماعة، واندماجهم في المجتمع، وتشبع بعض حاجاتهم النفسية كالحاجة إلى التقدير، واللعب والمرح، وربما نشأت فكرة النشاط في المدرسة الحديثة، يقصد الترويح عن نفوس الناشئين، وإراحتهم من عناء الجهد الفكري المستمر، فكان لها أوقات مستقلة منفصلة عن الجو العلمي، وعن الدروس المدرسية ذات الطابع الفكري، والمسئولية الجدية المرتبطة بالدرجات والنجاح، والعقاب، والتقيد بالنظام الفصلي بحذافيره. بيد أن بعض المربين الغربيين، رأوا أن النشاط يمكن أن يكون وسيلة مباشرة للتعليم، فأدخلوه في صلب المنهج، بل أصبح في كل المناهج المعمول بها، جزءًا من المنهج ينص عليه عند سرد مفردات المنهج، أو مواده أو توصياته أو أهدافه، إما في بعض المواد الدراسية، وإما في معظمها أو كلها، ويكون له بعض الدرجات، فيؤثر في النجاح. 2- النشاط في مدارسنا: إن التطبيق العملي السائد عندنا للنشاط المدرسي، لا يدل على ارتباط حقيقي بينه، وبين الأهداف التي وضع من أجلها في المناهج، حتى ليظن المتتبع لنشاطات المدارس، أنها أقرب إلى تحقيق الاستمتاع والمرح، والشعور بالظفر والغلبة والقوة: منها إلى تحقيق نمو المواهب والشعور بالمسئولية النابعة من أعماق النفس دون أن تفرض فرضًا، وإن هذه النشاطات الشائعة، كأنما ابتغي بها إرضاء الآخرين، وإشباع حب الظهور بالمظهر اللائق، أكثر من أن يقصد بها أي قصور تربوي آخر. فالنشاط الرياضي مثلًا، أصبح اليوم يأخذ بألباب الطلاب ويستهويهم، دون أن يعرفوا له هدفا ساميا أو وجهة تتعلق بعقيدتهم، أو بحاجة مجتمعهم الإسلامي أجل الدفاع عن العقيدة والأنفس، والأوطان والديار والمقدسات، والأموال والأرواح. والنشاط الفني، أو ما يسمونه بالتعبير الفني، أصبح مجالًا للمباهاة ومضاهاة خلق الله بلوحات فنية؛ وهو الذي لم تكن غايته في الأصل مجرد الاستمتاع بالفن

_ 1 رواه ابن حبان في صحيحه، الترغيب والترهيب، 3/ 264، ط/ عيسى البابي الحلبي. 2 متفق عليه، رياض الصالحين ص84، ط/ شركة الشمولي بمصر.

وحسب، وإنما غايته تربية الأنامل المتقنة لبعض الصناعات الدقيقة، وإيصال المعاني السامية، عن طريق الخطوط الجميلة، والمناظر الخلابة الخالية من المحرمات، إلى الأذواق والعقول، لدلالتها على عظمة الله وضرورة الخضوع له، والشعور بما وهبنا من تذوق للجمال. أما أن يصبح اللعب هدفا لذاته، والرسم غاية لذاتها، فهذا يؤدي إلى الانشغال بالوسائل عن الأهدف، ويصبح مثلنا كمثل إنسان أراد أن يركب طائرة لتوصله إلى مكة لأداء فريضة الحج، فأعجب بهيكل الطائرة وآلاتها، واستمتع بمكيفاتها وصورها المتحركة، ثم انتقل إلى طائرة أخرى، وثالثة حتى قرر أن يصبح طيارا، ونسي هدفه الأول، وهو الحج. هذا هو مثل الذي تلهيه ألعاب الرياضة، عن الاستعداد الحربي أو عن إعداد القوة للأعداء، وعن الصلاة ومراقبة الله. أو يلهيه الجدل وابتغاء البراعة الأدبية والشعرية، عن الاستعداد لفهم الإسلام، أو عن تذوق إعجاز القرآن. أو الذي يشغله النادي، أو مجموعة الأنداد، والأتراب عن تمتين العلاقات الإسلامية، والارتباط بالمجتمع المسلم الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فإذا استمر في ألعاب القوى والرياضة، دونما هدف أسمى يحققه من وراء القوة، أصبح كبيرا في جسمه، صغيرا في عقله، قاصرا حياته على طلب القوة الكاذبة، والبطولة الزائفة، التي لا تنصر حقا ولا تبعد أذى، ولا تبطل باطلًا: لا هم له إلا المظاهر الجوفاء، زاعمًا أن يهوى "الفن للفن" و"العلم للعلم". 3- النشاط التربوي في فجر الإسلام: على أننا لو تتبعنا التربية الإسلامية منذ فجر بزوغها، لوجدنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "كان يعلم الصحابة من خلال مواقف من الحياة، ففي إحدى الغزوات نزلت آية التيمم، وتعلم الصحابة التيمم وطبقوه"1.

_ 1 تفسير ابن كثير، 1/ 506، ط/ دار المعرفة بيروت.

وفي حجة الوداع كان يقول للصحابة: "لتأخذوا عني مناسككم"، وكانت ترد عليه عشرات الأسئلة عن مناسك الحج فيعلم السائلين، كما رواه مسلم عن جابر1. كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقيم سباقا للخيل، بين الصحابة2. وكان يسمع للأحباش أن يلعبوا بالحراب في مسجده ويشجعهم قائلا: "دونكم يا بني أرفده" 3. وقد سابق بنفسه السيدة عائشة جريا فسبقها أول مرة، قالت عائشة: "فلما أسن رسول الله صلى الله عليه وسلم سابقني فسبقته" 4. وعندما اشترى أرضًا من بني النجار، وسواها ليبني عليها مسجدا في المدينة، كان الصحابة يرتجزون الأناشيد، وهم ينقلون اللبن والطين: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة ... فارحم الأنصار والمهاجرة5 وكانوا في بعض الغزوات ينشدون: والله لولا الله ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا6 فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا وكان الصحابة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبارون برمي السهام بعد صلاة المغرب، وكانت هذه عادة لهم على ما يبدو من صيغة الحديث7. إذا تأملنا هذه الأحاديث أمكننا أن نعتبر النشاط التربوي على شكلين أساسيين:

_ 1 هذا لفظ مسلم: "لتأخذوا"، وعند غيره بلفظ: "خذوا": "حجة النبي صلى الله عليه وسلم" تأليف محمد ناصر الدين الألباني ص46 لجنة الشباب المسلم القاهرة 1372هـ. 2 صحيح البخاري كتاب الصلاة "باب جواز أن يقال: مسجد بني فلان" ج1. 3 صحيح مسلم ج3 كتاب العيدين. 4 زاد المعاد لابن قيم الجوزية. 5 البخاري ج1 كتاب الصلاة باب استقبال القبلة. 6 سيرة ابن هشام. 7 وقد أوردنا الحديث بتمامه، في الفصل الرابع ص117-118 "التربية الإسلامية والنمو الجسمي".

أ- نشاط ترويحي يجدد العزيمة ويزيل الكآبة، وكان هذا النشاط يتجلى في حياتهم عفويًّا كلما دعت الحاجة إليه، وكان بريئا من كل فحش أو محرم، كالمعازف والصور والغزل، والكذب، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمزح ولا يقول إلا حقا، وكان يرتجز معهم البيت والبيتين عندما يكونون في عمل جماعي، كبناء المسجد، وحفر الخندق، فيتغنى الأرجوزة الإسلامية كما أثبتناها آنفًا. وكان يسمح في الأعياد بهذا المرح، وكذلك في الأعراس، ويشارك في الولائم لإظهار البهجة والسرور. ب- نشاط تعليمي، أو تعبدي غايته التعليم، والتهذيب والتربية العسكرية: من خلال الحياة والممارسة، كما رأينا تعليمه صلى الله عليه وسلم التيمم، ومناسك الحج وكذلك تعليمه أركان الصلاة للمسيء صلاته، وتعليمه الفروسية، وأمره بتعليم الرمي، وإقامته مباريات في ذلك، شارك فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، وكان يقيم حفلا اجتماعيا لكل مناسبة موسمية أو طارئة، فيخطب أو يعظ الناس ثم يصلي بهم، كالاحتفال بالعيدين: الفطر والأضحى، وكصلاة الخسوف والكسوف، وكجمع المسلمين في المسجد للجهاد والدفاع والحرب، أو للاحتفال بالنصر وتوزيع الغنائم، وكان يقوم بزيارة المرضى. وفي كل هذه المناسبات التي يمكن اعتبارها نشاطا تربويا، ربى رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفوس المسلمين كثير من المعاني السامية والثقة بالله، وعلمهم كثيرا من أحكام الجهاد والغنائم، والزواج والحج، والعلاقات الشورية التعاونية، والروحية الربانية، فيما بنيهم، وعلمهم كثيرا من الأذكار، والأدعية والعبادات كتشميت العاطس، والدعاء للمريض، وتجهيز الميت والصلاة عليه، وحضهم على كثير من الفضائل، كحب العمل وكره البطالة أو الاستجداء. 4- شروط النشاط الذي يحقق هدف التربية الإسلامية: لو قارنا بين النشاط التربوي النبوي، وبين النشاط المدرسي القائم اليوم، لوجدنا أن النشاط في فجر الإسلام، يمتاز بميزات تنبع من صميم هدف التربية الإسلامية، ومن طبيعة الإسلام، ومن خلق النبوة، وهذه الميزات تصلح أن تكون شروطًا لأي

نشاط مدرسي، فإذا استوفاها النشاط صح أن يكون وسيلة، أو واسطة من وسائط التربية الإسلامية وهي: أ- أن يجعل النشاط الترويجي عفويا يجيب المواقف، والمناسبات الملائمة، ولا يخصص له أوقات تزاحم الدروس، أو عطل رسمية، إلا ما خصصه الإسلام من الأعياد والولائم، وبهذا يحتفظ هذا النشاط برونقه وأثر في النفوس، وتبقى النفوس مستعدة له، وقد يقل أو يكثر بحسب طبيعة المدارس، ولكن لا يجوز أن يغلب الهزل فيه على الجد. ب- أن يكون النشاط بريئا من كل اختلاف، أو إسفاف أو خروج على الأخلاق والمبادئ الإسلامية، كالخوض في آيات الله، أو التندر بمن غلبت عليهم سيما الوقار والعبادة، أو إثارة الضغائن، أو الاستهزاء ببعض الطلاب، أو الغيبة، أو النميمة، أو كشف العورة، أو ما يقرب منها مما فيه فتنة، أو الفحش والبذاءة، في الكلام، أو التغزل وإثارة الشهوات، أو رواية القصص الخرافية التي ثبت كذبها أو اختلاقها. ج- أن يكون النشاط التعليمي، والتربوي نشاطا واقعيا لا مصطنعا، وهذا من أهم خصائص النشاط الإسلامي، فتعليم الصلاة إنما يكون بإقامتها فعلًا، والشعور بأدائها فريضة الله عز وجل، لا بتمثيلها، واتباع الجنائز يكون بقصد الثواب، وكذا التعزية، والتشميت، وزيارة المريض، وتقديم الصدقات من قبل الطلاب، وتقديم النصح والإرشاد، وتنظيم المساجد، وإقامة الخطب والنصائح، يجب أن يبتغى بها وجه الله ومرضاته. د- أن يكون محققا للغاية المثلى للتربية الإسلامية: أي لشريعة الله وعبوديته، ولجميع ما ينتج عن التصورات الإسلامية للكون، والحياة والإنسان ومسئوليته، فتحقيق ذلك من خلال النشاط إنما ينتج عفويا، إذا تحققت الفقرات السابقة، وتنزه النشاط عن العبث والشكلية والمظهرية، وأصبح جزءًا حقيقا من الحياة من الحياة التي يحياها المجتمع المطبق لشريعة الله. هـ- أن يقوم النشاط بما حققه من الغايات، والأهداف التربوية، لا بما أحرزه الطلاب من قصب السبق، ومن أقام اصطلح على أنها تدل على التقدم والقوة، وما جعلت في الأصل إلا لتكون حافزًا على الدأب، والصراع والقوة، والغلبة والبأس، فنتائج النشاط تقاس بما يتركه من آثار تربوية وأخلاقية، كحب العمل والنصيحة والتفاني في الحق، والتواضع والصدق والاستقامة، والصبر على البحث العلمي. 6- أن يكون المربي عاملًا إيجابيا فعالًا في هذا النشاط، لا أن يكتفي بدور المشرف المترفع، فالمربي هو العنصر الأساسي، والقدوة المثالية الفعلية في كل أحوال النشاط وأشكاله، يتحمل مع طلابه قسمًا من المسئولية، ويساهم معهم في العمل دون أن يتعالى عليهم، بل يشعرهم بالأخوة التي تربطه بهم تحت لواء رب واحد، وفي سبيل هدف واحد، هو إرضاء الله وتحقيق أوامره كما هو ملحوظ في صفات المربي المسلم.

سابعا: المنهج التربوي الإسلامي وخصائصه

سابعا: المنهج التربوي الإسلامي وخصائصه 1- تعريف المنهج: تقوم عملية التربية اليوم، على خطة ترسم فيها أهداف التربية، وأساليبها والخطوات التي يجب اتباعها لتنشئة جيل في مرحلة معينة من عمره، في أمة معينة. والمنهج هو الذي يرسم للمدرسة أساليب التي تعطي لكل مرحلة، أو لكل مجموعة في كل عام دراسي، ويعين الموضوعات التي تعطى لكل مرحلة، أو لكل مجموعة بحسب أعمارهم أو ثقافتهم، والنشاط الذي يقوم به الطلاب في كل مادة من مواد التدريس. ولو تصفحنا أي منهج مدرسي لوجدناه في مجمله "مجموعة من الخطط، والأهداف القريبة والأساليب التربوية، وخلاصة عن المواد والمعلومات والمسائل، والمشكلات التي يجب أن نؤثر بها في عقل الناشئ، ووجدانه وسلوكه ونشاطه، لنبلغه تحقيق الأهداف الكبرى الفكرية، والاعتقادية والاقتصادية والسياسية والتشريعية، التي رسمتها الأمة لأبنائها، ولمستقبلها أو ورثتها عن حضارتها، ودينها تحقيقا تدريجيا يناسب مستوى كل مرحلة من العمر الزمني والعقلي والثقافي، وكل بيئة من البيئات". والمنهج بهذا المعنى هو خطة لمرحلة دراسية في بيئة مدرسية معينة، أو لمجموعة

المراحل المدرسية، التي تبلغ الناشئين المستوى التربوي، والسلوكي والفكري المطلوب ليصبحوا أعضاء نافعين صالحين في أمتهم ومجتمعهم، عاملين على النهوض بمستوى أمتهم، وتحقيق مثلها العليا. 2- أشكال المناهج الحديثة: وقد اختلف المربون في أساليب وضع المناهج، وترتيب المواد الدراسية، باختلاف فهمهم لأهداف التربية ومعناها وأساليبها، وسنستعرض أهم أشكال المناهج لنرى رأي الإسلام فيها مرة واحدة، بعد أن نستعرضها واحدة واحدة. أ- منهج المواد المنفصلة: وهو المنهج الذي يكون فيه لكل مادة دراسية شخصية مستقلة، ومعلومات مستقلة تماما عن كل اعتبارات المواد الأخرى ومعلوماتها. فلا يهتم واضعوا مثل هذا المنهج، بإيجاد أي ارتباط أو علاقة بين مادة وأخرى، وهذا المنهج يتنافى مع الوحدة النفسية للناشئ، فهو يعتمد على النظرية النفسية التي سادت أوروبا في القرن الوسطى "الأوروبية"، منحدرة عن فلاسفة اليونان، أعني نظرية الملكات، التي تؤمن بأن العقل البشري ملكات، تنمو كل ملكة منها مستقلة عن سائر الملكات الأخرى، كملكة التذكر والحفظ، والملكة اللغوية، والملكة الحسابية، والنخيل، والمحاكمة، كما أنها تقول بأن رعاية هذه الملكات تكون بتدريب كل ملكة على انفراد، فإذا كانت المواد الدراسية هي وسيلة تنمية هذه الملكات كان من الطببعي "عند هؤلاء" أن توضع في المنهج لكل مادة اعتباراتها، ومعلوماتها المستقلة عن المواد الأخرى. ب- منهج المواد المترابطة: ولعل هذا الشكل من أشكال المنهج قد بني على نظرية نفسية ظهرت في أواخر القرون الوسطى، ومطلع عصر النهضة الأوروبية لتحل محل سابقتها، "الملكات"، وهي نظرية الترابطيين، الذين يعتقدون أن عقل الإنسان إنما تكون من ترابط، وتفاعل بن مدركاته وإحساساته، حدث على نحو ما، وأن أي إدراك جديد لا بد له من ارتباط بخيرة سابقة، أو بإدراك سابق.

والمنهج الذي يرتب على هذا الشكل، يعرض المواد الدراسية، وكأنها سلسلة حلقات متشابكة، كل حلقة منها يجب أن تنسجم مع ما قبلها، أو تبنى على سابقتها، فلا بد في كل درس من تذكير بالدروس السابقة، ولا بد في كل عام من تذكير بمواد الأعوام السابقة للبناء عليها؛ وقد ترتبط المادة بغيرها من المواد في نفس العام الدراسي، كارتباط اللغة بالدين، والدين بالتاريخ الإسلامي وعلوم الطبيعة، دواليك. ج- المنهج المحوري أو المتمركز: وهو أشد أشكال المناهج تلاحمًا، واتصالًا بين أجزائه ومواده الدراسية إذ أن جميع هذه المواد، والمعلومات التي يراد إعطاؤها للطلاب يجب أن تتصل، وترتبط بمحور معين، أو بموضوع أو بأمر يميل إليه الطلاب، ويهتمون به، وهذا الأمر يسمى "محورا" أو "مركز اهتمام". والمحور في اللغة وفي العلوم الرياضية هو المركز بالنسبة للدائرة، وإلى هذا أشار الدكتور عبد اللطيف فؤاد إبراهيم بقوله: "إن معنى كلمة المحور، لغويا، هو الجزء المركزي لشيء ما، الذي يدور حوله الشيء، وحين استخدمت هذه الكلمة في المنهج المدرسي، قصد بها أن تدل على وجود مركز معين في المنهج، ترتبط به كل أجزاء المنهج ارتباطا وثيقا ويؤثر فيها، وأن تدل على وجود مركزي، أو رئيسي في المنهج المدرسي يعمل فيه كل التلاميذ"1. ولكي يكون هذا المنهج المحوري ناجحا ينبغي أن يكون محوره، أو مركز الاهتمام فيه، موضوعًا يميل إليه الطلاب، ويستحوذ على اهتمامهم، وأن يكون في الوقت ذاته قادرًا على استقطاب جميع المواد الأخرى، وتسخيرها لتحقيقه أو البحث عما يحققه. د- منهج النشاط: هذا المنهج يمكن اعتباره تنظيما لسلسلة من النشاطات كالرحلات، والمشاريع

_ 1 في كتاب: المناهج: أسسها وتنظيماتها، وتقويم أثرها -القاهرة- مكتبة مصر عام 1972 ص579.

العملية، والمحاورات والمحاضرات، وغيرها من الجهود المنظمة المشتقة من حياة الطلاب المدرسية، أو من حياة مجتمعهم المحيط بهم، بحيث تؤدي هذه النشاطات إلى نمو مدارك الطلاب ومعارفهم، وتحقيق أهداف أمتهم، وأهدافهم التعليمية والتربوية. فهناك نشاط لغوي لتربية الطلاب تربية لغوية، وتنمية مدركاتهم الكلامية، والحوارية عن طريق المحاضرة، والصحف والمراسلة، ونشاط ديني لتربية عواطفهم الربانية وتفكيرهم الإلهي، وسلوكهم على أساس طاعة الله، كإحياء المساجد، ومشروعات جمع الزكاة، وتقسيم بعض التركات إذا سئلوا عنها وإقامة الصلاة، إلخ.. 3- خصائص المنهج الإسلامي المنشود: إن المنهج المدرسي الذي تتطلبه التربية الإسلامية، يجب أن ينطبع بطابعها، ويتصف بأهم صفاتها ومميزاتها ويحقق أهدافها، ويبني على أسسها وتصوراتها الفكرية عن الكون، والحياة والإنسان، وذلك بأن تتحقق فيه الصفات الآتية: أ- أن يكون في تربيته وموضوعاته موافقًا للفطرة الإنسانية يعمل على تزكيتها، وحفظها من الانحراف، وسلامتها، تلك الفطرة التي أشار إليها الحديث القدسي: "خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين..". والحديث النبوي: "كل مولود على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه أو يمجسانه ... ". ب- أن يكون محققا لهدف التربية الإسلامية الأساسي "إخلاص الطاعة والعبادة لله"، ولجميع أهدافها الفرعية التي ترمي إلى تقويم الحياة، وتوجيهها لتحقق هذا الهدف في جميع جوانب الثقافة والتربية، التي وضع المنهج لتعهدها والنهوض بها، كالجانب العقلي والجانب الوجداني والجسمي، والاجتماعي. ج- أن يكون في تدرجه ومستواه، موافقا، في كل جزء منه، للمرحلة التي يوضع لها من حيث طبيعة الطفولة فيها، ومستواها، ومفاهيمها، ومن حيث الأنوثة والرجولة، والمهمات الاجتماعية التي يهيأ لها كل من الجنسين. د- أن يراعي في تطبيقاته ونشاطاته، وأمثلته ونصوصه، حاجات المجتمع

الواقعية، المعاشية، ومنطلقاته الإسلامية المثالية كالاعتزار بالأمة الإسلامية والولاء لها، وذلك: يتحقق الولاء لله، والطاعة لرسوله الذي أرسله ليطاع بإذن الله، وبمراعاة الاختصاصات التي تحتاجها الأمة، في كل بيئة بحسب ظروفها الطبيعية التي يسرها الله، من خامات صناعية أو بيئة زراعية، أو مناخ مداري، أو مكانة تجارية بحرية أو برية، إلخ. والاختصاصات التي لا بد منها لرقي المجتمع في كل بيئة كالاختصاصات الصحية، والحربية، والإدارية، والإسلامية، والثقافية، أي الأخذ من كل جانب من جوانب الحضارة بطرف مما لا يتعارض مع الإسلام، ولا يختلف معه إيما اختلاف، بل يعين على رفع شأن الأمة، وتحقيق شريعة الله وعدله، وحضارة الإسلام الفكرية والروحية. هـ- أن يكون المنهج بمجموعه، ونظامه، سليما من التعارض، موجها وجهة إسلامية واحدة، موافقا للوحدة النفسية التي فطر الله الناس عليها، ولوحدة الخيرة التي يراد إعطاؤها للناشئ حول أسرار الكون، وكائناته، وسننه، وقوانينه، ونظمه، ووقائعه، فلا تعلل هذه الوقائع والكائنات تعليلات متعارضة، تعارضا يظهر بين مادة دراسية وأخرى. بل يجب أن تبنى العلوم والموضوعات بعضها على بعض، وأن يأخذ بعضها بأطراف البعض الآخر. فيكون بينها ترابط وتناسق يشمل موضوعات كل مادة على مدى العام الدراسي، فيعتمد منهج كل مرحلة على سابقه أو يرتبط به. ويكون بينها تناسق وترابط بين كل سنة، والتي تليها والتي تسبقها فترتب مناهج كل سنة من المرحلة ذاتها ترتيبا متسقا متواصلا. وفي السنة الواحدة يجب الربط ما أمكن، بين كل مادة وأخرى، كما يجب صبغ جميع المواد بصبغة إسلامية واحدة، وتوجيهها بحيث تحقق بمجموعها هدفا أسمى واحدا. وكذلك في سائر السنوات والمراحل المختلفة من الحياة المدرسية والجامعية، أي يجب أن يصدر جميع هذه المناهج عن أصل واحد، وهو أن العالم كله ملك "لله"، وأن

جميع الناس فيه، عباد يحيون وفق مشيئة الله، وحسب شريعته، وعلى هذا تتحول جميع العلوم لتصبح عاملًا من عوامل تكوين النفس الإنسانية تكوينا ربانيا على طريقة التربية الإسلامية وأسسها، ولا حاجة حينئذ إلى تقسيم مواد المنهج إلى علوم دينية وعلوم دنيوية. و أن يكون واقعيا أي ممكن التطبيق متناسبا مع إمكانيات البلاد التي تريد تطبيقه، ومع ظروفها ومتطلباتها. ز- أن يكون مرنا في أسلوبه يمكن تكييفه مع مختلف الظروف، والبيئات والأحوال التي سيطبق فيها، ومع مختلف القابليات بحيث تراعى فيه الفروق الفردية. وإنما حرصنا على ذكر هاتين الصفتين؛ لأن التربية الإسلامية إنما تتطلب منهجا لكل أبناء العالم الإسلامي الذي يحوي جميع المناخات الطبيعية، ومختلف الدرجات الاجتماعية من أعلى درجات الغنى إلى أبسط مظاهر الفقر والشظف. ح- أن يكون فعالا، يعطي نتائج تربوية سلوكية، ويترك أثرا عاطفيا جياشا في نفوس الأجيال بما يمتاز به من أساليب تربوية بعيدة الأثر، ونشاطات إسلامية مثمرة عظيمة الأثر، سهلة المنال والتطبيق، معروضة عرضًا واضحًا. ط- أن يكون كل جزء منه مناسبا للمرحلة التي يوضع لها من مراحل أعمار الناشئين كبناء التعليم الديني، والثقافي في مرحلة الطفولة على أساس يتناسب مع تطور الشعور الديني، والنمو اللغوي لهذه المرحلة، ومعالجة مشكلات الشباب في المرحلة الثانوية، وتربية الانتماء الاجتماعي إلى الأمة الإسلامية في المرحلة المتوسطة، وهكذا يتمشى المنهج مع النمو اللغوي، كما اكتشفته الأبحاث النفسية، ونمو الاستعداد الديني والاستعداد الاجتماعي، فيختار لكل مرحلة ما يناسب الاستعداد، والنمو الذي بلغه الناشئ فيها، ويحتاج هذا الشرط إلى دراسات نفسية إسلامية لطبيعة الجيل المسلم، ولمراحل نموه، ولنمو استعداداته وقدراته. ي- أن يعنى بالجوانب الإسلامية السلوكية العملية كالتربية على الجهاد، وعلى نشر الدعوة الإسلامية، وإقامة المجتمع المسلم في الجو المدرسي، بحيث يحقق جميع أركان الإسلام وشعائره، وأساليبه التربوية، وتعاليمه، وآدابه في حياة الطلاب الفردية، وعلاقاتهم الاجتماعية، ورحلاتهم للدعوة إلى الله.

4- أي أشكال المناهج يصلح للتربية الإسلامية؟ أ- لسائل أن يسأل بعد أن اتضحت أهم صفات المنهج التعليمي الإسلامي، وشروطه: ترى أي أشكال المناهج الأربعة أقرب إلى تحقيق أهداف التربية الإسلامية؟ وقبل الجواب عن هذا السؤال يجب أن أنبه إلى أن التربية الإسلامية ذات طبيعة خاصة، فهي لا تحتاج إلى ثوب يستعار لها لنقول للناشئ، مثلا، أنها هي "التربية في أحضان الطبيعة" التي نادى بها "روسو"، أو أن منهجها "هو المنهج المحوري" المبني على اهتمامات الناشئين، أو نحو ذلك مما يفعل مثله بعض الباحثين. فالإسلام هو الإسلام وهو أسمى من أن ينتسب إلى أي مبدأ من المبادئ. وكذلك التربية الإسلامية، هي الأسس والأساليب والأفكار، والعقائد التي تأثر بها المسلمون الأوائل، ونشئوا عليها فنمت عقولهم وعواطفهم، وتألفت قلوبهم ومجتماعتهم ونظمت حياتهم، وعلاقاتهم على العمل بها والتفكير بمقتضاها، والحماسة لها، والتوجه إليها في كل ظروفهم ومتطلباتهم، عملا بقوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثية: 45/ 18] ، وقوله سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 12/ 108] . غير أن المسلمين، كما وجدوا أنفسهم أمام المدرسة الحديثة التي اجتذبت أبناءهم، وقد بينا رأي الإسلام والتربية الإسلامية فيها، كذلك أصبحوا مضطرين أن يبحثوا في المناهج التي تسير عليها هذه المدرسة ليأخذوا بخيرها ويستبعدوا شرها. وليعرفوا طبيعتها بالنسبة إلى طبيعة التربية الإسلامية، ومدى صلاحها لها. ب- الإسلام ومنهج المواد المنفصلة: قد يظن الباحث الذي يأخذ التربية الإسلامية على أنها ظواهر نظم التعليم في حلقات المساجد، وتحت قباب المدارس التي أنشئت منذ تمزقت الخلافة الإسلامية. قد يظن أن مناهج تلك الحلقات والمدارس، كانت منظمة على أساس تدريس

مواد منفصلة، فلكل علم حلقاته وعلماؤه، ولكل كتاب اختصاص في علم معين، والطالب الذي يريد دراسة عدة علوم كان عليه أن يرتاد عدة حلقات، قد يبدو هذا للوهلة الأولى. ولو تعمقنا في فهم تلك الكتب، وما كان يدرس في تلك الحلقات لوجدنا أن أي علم من العلوم الإسلامية، في ذلك الوقت كان ذا صلة وثيقة بالعلوم الأخرى، والكتب الإسلامية التي كانت تدرس ما زالت شاهدا على ذلك. فالتفسير مملوء بالإعرابات النحوية، والإعلانات الصرفية، وتفسير الجلالين فيه مئات من هذه الإعرابات والإعلالات، مع أنه من أصغر التفاسير حجمًا، وكتب النحو: جل شواهدها من القرآن والحديث، والشعر الجاهلي أو الإسلامي الأول، وشراحها يفسرون تلك الشواهد أو يعزونها إلى قائلها، فيبحثون جانبا من علم التفسير، ومن علم الحديث، ومن الأدب العربي. وكتب الفقه والأصول لها اعتماد كبير على المفاهيم اللغوية، كالباء في آية التيمم: {بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 5/ 6] ، والعطف الذي بعدها، وقد ألف ابن تيمية من أجل الحفاظ على العقيدة رسالة في البلاغة "في المجاز والحقيقة"، والتاريخ آخذ بأدلة من القرآن، وقل مثل هذا في جميع العلوم. فانفصال المواد الدراسية، على إطلاقه، ليس من طبيعة الثقافة الإسلامية، ولا من شأن التربية الإسلامية، التي تأخذ بالإسلام كلا لا يتجزأ، وتعتبر كل العلوم التي انبثقت عنه ما تزال وظيفتها توضيح الشريعة الإسلامية، والحفاظ عليها، فلا بد من ربط كل هذه العلوم بهدف التربية الإسلامية، كما رأينا في الكلام عن شروط المنهج الإسلامي وصفاته. ج- المنهج المترابط أم المحوري؟ إن هذين الشكلين لا تنافي بينهما، فكل منهج منهجي محوري يجب أن يكون كل مواده مترابطة فيما بينها، ومرتبطة بمحور معين. وإذا كان "هدف التربية الإسلامية" هو المحور الذي يشد إليه كل موادها، وسائر المواد الأخرى، وإليه تتجه كل أهداف النمو اللغوي، والاجتماعي والفكري، وبه

يحصل التناسف والتكامل التربوي الرائع الذي كان عليه أصحاب رسول الله، ومن تبعهم بإحسان ووعي وبصيرة. فإن ما ظهر للباحث المنصف أن التربية الإسلامية يمكن أن توصف بأنها تربية محورية، بهذا المعنى الذي شرحناه، على أن يكون "المحور الأساسي" هو "إخلاص العبودية لله"، وهذا المحور يمكن أن تدور عليه جميع المواد الدراسية، والعملية كما حصل في صدر الإسلام. فتعلم القراءة والكتابة، واللغة وسائر علومها إنما يهيئ الناشئين لطاعة الله، وذلك بتفهم كلامه الذي أنزله لنعمل به، وكلام رسوله الذي أرسله ليطاع بإذنه، ومن هذا الأصل الأخير تنبع علوم الحديث والفقه. والعلوم الكونية إنما ندرسها لنستفيد مما سخر الله لنا في البر والبحر، والجو من قوى ورياح ومياه، وزراعة ومعادن، ونشكر الله على ذلك ونسبحه مستشعرين عظمته، كما أمرنا كتابه. والعلوم الاجتماعية تدلنا على سنن الله في الأمم والمجتمعات، وتربطنا بأمتنا الإسلامية، وتشعرنا بالولاء لله، ولدينه ولرسوله. فإذا توارت كل الثقافات والعلوم على هذا الهدف العظيم، توحدت المجتمعات الإسلامية في مجتمع واحد، واستقامت نفس كل ناشئ مسلم، واتحدت نوازعها ومشاربها وتصوراتها، لصدورها عن أصل واحد، وخضوعها لهدف واحد: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 39/ 29] ، وتفيد الآية هنا أن التربية الوثنية الجاهلية، إذ تجعل نفس الناشئ نهبا بين الأهواء والنوازع المختلفة، ليست كالتربية الإسلامية الموحدة للنوازع، والأهداف والأفكار، حيث توجهها جميعا نحو عبادة الله وطاعته. د- أما دور النشاط المنهجي، أو منهج النشاط في التربية الإسلامية، فقد بسطنا القول عن النشاط في البحث السابق، عندما تحدثنا عن النشاط المدرسي على أنه واسطة من وسائط التربية الإسلامية، بيد أن تجميع المعلومات لدراستها على مدى العام على شكل نشاطات، لا بد من ترابط أو تسلسل، أو استقطاب محوري، لئلا

تبقى الحياة المدرسية فوضى أو تابعة للمصادفات، ولكي نضمن للجيل الحد الأدنى من المعومات، والنوعية المطلوبة من التوجيهات لتحقيق أهداف التربية الإسلامية وغايتها الأساسية، ولكي نضمن، كذلك، صون فطرة الجيل من الانحرافات، وإبعاده عن مزالق المدرسة الغربية الحديثة، ومزالق نشاطها القائم اليوم على المباهاة، أو الاستهتار أو طلب المتعة لذاتها. وهكذا نلاحظ أنه لو كان هناك منهج نشاط بكل معنى الكلمة، لاضطر أن ينضوي تحت لواء أحد أنواع المناهج السابقة، فإما "منهج نشاط مترابط"، وإما "منهج نشاط محوري" وهكذا، فيبقى دور النشاط متمما للمنهج ومحققا لأهدافه، ومع ذلك يجب النص عليه، كلما اقتضى الأمر، أو احتاج المنهج إلى ذلك. فالتربية الإسلامية تتطلب منهجا محوريا، أو مترابطا مملوءًا بالنشاطات المحققة لأهداف التربية المنضوية تحت لواء الإسلام، المنضبطة بضوابطه، وقد عددنا أهمها في بحث النشاط المدرسي، على أن يكون هذا المنهج محققا في ترابطه، ونوعيته ومواده، شروط المنهج التربوي الإسلامي، كما بحثنا في هذا الفصل.

الفصل السادس: أساليب التربية الإسلامية

الفصل السادس: أساليب التربية الإسلامية مدخل ... الفصل السادس: أساليب التربية الإسلامية تمهيد: يمكن للباحث أن يهتدي إلى بعض ما اختطته العناية الإلهية في القرآن العظيم، والسنة النبوية من أساليب مؤثرة، بليغة، ربت النفوس، وارتقت بالهمم، حتى حدت ببضع عشرات من ألوف المؤمنين أن يفتحوا قلوب البشر المهدي الإلهي، وللحضارة الإسلامية، ومكنت لهم في الأرض: في سعتها وفي عمق الزمان، ما لم يتح لغيرهم من أمم الأرض أن يتمكنوا فيه. ولعل أهم هذه الأساليب، أو أبرزها للباحث: أولًا: أسلوب الحوار القرآني والنبوي. ثانيا: التربية بالقصص القرآني والنبوي. ثالثا: التربية بالأمثال القرآنية والنبوية. رابعا: التربية بالقدوة. خامسا: التربية بالممارسة والعمل. سادسا: التربية بالعبرة والموعظة. سابعا: التربية بالترغيب والترهيب. وسنشرح في طيات هذه الفقرات إن شاء الله، كيف ربى الإسلام العواطف الربانية والعقل الإنساني، على التفكير المنطقي السليم، والسلوك البشري الرباني السديد المستقيم، فسعدت بذلك المجتمعات، وسعدت الدنيا بنور الحضارة الإسلامية، يوم قادت الأمة الإسلامية أمم الأرض إلى نور العلم، وسمو الخلق، وتحرير العقل من الخرافات والأوهام؛ وتحرير الإنسان من ظلم الإنسان إلى عدالة الإسلام.

أولا: التربية بالحوار القرآني والنبوي

أولًا: التربية بالحوار القرآني والنبوي مدخل ... أولا: التربية بالحوار القرآني والنبوي معنى الحوار وأثره التربوي وأنواعه: الحوار: أن يتناول الحديث طرفان أو أكثر، عن طريق السؤال والجواب، بشرط وحدة الموضوع أو الهدف، فيتبادلان النقاش حول أمر معين، وقد يصلان إلى نتيجة، وقد لا يقنع أحدهما الآخر، ولكن السامع يأخذ العبرة ويكون لنفسه موقفًا، وللحوار أثر بالغ في نفس السامع أو القارئ، الذي يتتبع الموضوع بشغف واهتمام، وذلك لأسباب كثيرة أهمها: 1- عرض الموضوع عرضا حيويا، إذ يتناوله الخصمان بالأخذ والرد، مما لا يدع مجالا للملل، بل يدفع السامع أن القارئ إلى الاهتمام والتتبع، لما يتوقعه من جديد، أو من انتصار أحد الخصمين عى الآخر. 2- إغراء القارئ والسامع بالمتابعة بقصد معرفة النتيجة، وهذا أيضا يبعد الملل ويجدد النشاط. 3- إيقاظ العواطف والانفعالات مما يساعد على تربيتها، وتوجيهها نحو المثل الأعلى، كما يساعد على تأصل الفكرة في النفس وعمقها. 4- عرض الموضوع عرضا واقعيا بشريا، تتبناه فئة مؤمنة، وتدافع عنه، أو تحكي لنا أثره في سلوكها وحياتها، مما يجعل لهذا الحوار نتائج سلوكية طيبة، وهذا من أهم أغراض التربية الحقة. وقد تعددت أنواع الحوار، وأساليبه وأشكاله في القرآن، والسنة من أهم ما يسر الله لي بحثه: أ- الحوار الخطابي أو التعبدي، وقد فصلت فيه ستة أشكال. ب- الحوار الوصفي. ج- الحوار القصصي. د- الحوار الجدلي. هـ- الحوار النبوي. وقد بينت في كل حوار جوانبه التعليمية، وآثاره التربوية ليجني المربي فائدة كل حوار، في تنمية الناشئ من جميع جوانبه العاطفية الربانية، والعقلية الربانية، والسلوكية الربانية. وليستفيد منه كأسلوب تعليمي في غير درس القرآن، فهو أسلوب عقلي عام يربي الفكر على تحري الحقائق كما سنرى.

الحوار الخطابي أو التعبدي

1- الحوار الخطابي أو التعبدي: أنزل الله القرآن ليكون هداية للبشرية، وبشرى للمتقين، وقد خاطب الله عباده المؤمنين في عشرات المواضع من كتابه مصدرًا خطابه بنداء التعريف بالإيمان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} ، وكلما قرأه مؤمن لهج قلبه بالجواب: "لبيك يا رب"، ولذلك اعتبرت هذا الأسلوب حوارا، وقد يجري العكس، فإذا خاطب المؤمن ربه داعيا إياه في بعض آيات القرآن، أجابه الحق جل جلاله بما يناسب المقام، والأدلة على ذلك واضحة أشهرها ما رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل". فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين} [الفاتحة: 1/ 2] قال الله تعالى: "حمدني عبدي". وإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيم} [الفاتحة: 1/ 3] ، قال الله تعالى: "أثنى علي عبدي". وإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّين} [الفاتحة: 1/ 4] ، قال: "مجدني عبدي"، وقال مرة: "فوض إلي عبدي". فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة 1/ 5] ، قال: "هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل". فإذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة 1/ 6-7] قال: "هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل"1.

_ 1 صحيح الإمام مسلم، 2/ 9 ط/ دار الطباعة العامرة سنة 1330هـ.

وما رواه أبو داود والبيهقي بسند صحيح 1: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ: {لَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 75/ 40] ، قال: "سبحانك فلبى"، وإذا قرأ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 87/ 1] قال: "سبحان ربي الأعلى". فهذان دليلان على الحوار التعبدي، أحدهما دليل على إجابة الرب لعبده، والآخر دليل على تلبية العبد لنداء ربه، أو سؤاله أثناء تلاوة القرآن، وقد حض رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه على مثل هذه التلبية عندما قرأ عليهم سورة الرحمن: روى الحاكم عن جابر قال: "قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الرحمن حتى ختمها، ثم قال: "مالي أراكم سكوتا؟ للجن كانوا أحسن منكم ردًّا، ما قرأت عليهم هذه الآية: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَان} [الرحمن: 55/ 13] ، وبعدها 31 موضعا بنفس السورة، إلا قالوا: ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب، فلك الحمد"2. كما كان صلى الله عليه وسلم قدوتنا في الاستجابة لمعاني القرآن أثناء الصلاة قال حذيفة بن اليمان: "صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فافتتح "البقرة"، فقلت: يركع عند المئة ثم مضى، فقلت: يصلي بها في ركعتين، فمضى، فقلت: يركع بها، ثم افتتح "النساء" فقرأها، ثم افتتح "آل عمران" فقرأها، يقرأ مترسلًا: إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ"3. فتسبيح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعوذه، وسؤاله، مناجاة لله تعالى، أثناء تلاوة القرآن، فهو أشبه ما يكون بالحوار. النتائج التربوية: يربي القرآن في نفوس الناشئة بواسطة الحوار التعبدي، أو الخطابي أمورا هامة، على المدرسين والمربين وقراء القرآن، أن ينتبهوا إليها، ويراعوا مدى تأثر الناشئين بها، وعلمهم بمقتضاها منها:

_ 1 صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم: محمد ناصر الألباني ط المكتب الإسلامي ص101 الطبعة السادسة 1391هـ. 2 تفسير الجلالين، سورة الرحمن. 3 صفة صلاة النبي: محمد ناصر الألباني ص117 الطبعة السادسة، ط المكتب الإسلامي.

*- التجاوب مع أسئلة القرآن والتفكير بمعناها، والجواب على ما يمكن الجواب عليه، أو استحضار الجواب في القلب. *- التأثر العاطفي بمعاني القرآن، فقد بلغ التأثر برسول الله صلى الله عليه وسلم مبلغًا عظيمًا، وذلك مرة عندما قرئ عليه قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء: 4/ 41] ، وقال القارئ "حسبك"، رواه أحمد والبخاري في صحيحه من حديث ابن مسعود أنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقرأ علي"، قلت: يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: "نعم أحب أن أسمعه من غيري"، فقرأت سورة النساء حتى أتيت هذه الآية: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا} [النساء: 4/ 41] ، فقال: "حسبك الآن"، فإذا عيناه تذرفان1. *- توجيه السلوك والعمل بمقتضى القرآن الكريم، وذلك نتيجة طبيعية للتأثر العاطفي والقناعة الفكرية، الناشئة عن أسلوب الحوار، فالذي يستجيب لسؤال ربه، أو وصفه للعذاب والجنة، أو لوعده أو لوعيده، حري بأن يستجيب بسلوكه. *- إشعار الناشئ، والمسلم القارئ للقرآن بعزة الإيمان، ومكانته عند الله حتى خاطب عباده بوصفهم به. أشكال الحوار الخطابي: تعددت أشكال الخطاب الموجه من الله تعالى، ومقاصد الأسئلة القرآنية العامة، التي لم تكن موجهة إلا من الله، لجميع خلقه، أو لجميع المؤمنين، أو لجميع الناس، وأحيانا يوجه الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، ويراد به التشريع لجميع المؤمنين، ويمكن تعداد أهم الأشكال لهذا الحوار الخطابي كما يلي: *- الخطاب الموجه للذين آمنوا، أو المصدر بنداء التعريف بالإيمان؛ وفي هذا الخطاب يكون المنادى معرفا، فهو اسم موصول صلته جملة "آمنوا"، والقصد من هذا التعريف الإيماء للمخاطبين: أن يعتزوا بإيمانهم؛ لأن الله جل جلاله يرفع من شأنهم ويخصهم بهذا الوصف العظيم، ويناديهم به حتى أصبح، وكأنه علم عليهم.

_ 1 تفسير المنار 5/ 110، وانظر تفسير ابن كثير 1/ 498 ط دار المعرفة بيروت.

وأن يحرصوا على هذا الإيمان ويستمسكوا به، فهو صفتهم المميزة أمام الناس وأمام الإنسانية، وما كان لهم أن يتراجعوا عنه. وأن يشعروا بمسئولية التكليف فهو مبني على الإيمان، وما دامعوا قد أخذوا أنفسهم بالإيمان بالله، فقد أخذوا أنفسهم بالعمل بكل ما يأمرهم به الله. والتكليف بالأوامر الإلهية في القرآن يأتي على أشكال: *- فإما على شكل بيان حكم الله للعمل به: كحكم الخمر، وصفة الوضوء، والتيمم، وكل هذه التكاليف مصدرة بنداء عرف به المنادى بصفة الإيمان. *- وإما على شكل نهي عن أمور حرمها الشرع، كالخمر والميسر، وقتل الصيد في الحرم، وعضل النساء، وقد صدرت هذه النواهي بهذا الخطاب الإيماني، للشعور بضرورة الابتعاد عن المحرمات. وإما على شكل حض على أمور عظيمة لا يقدر عليها إلا المؤمنون، كالصبر، وتقوى الله، والتوبة إلى الله: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ} [النور: 24/ 31] والجهاد. الحوار الخطابي التذكيري: ويقوم على التفكير بنعم الله، أو تذكير بعض الطوائف بذنوب أجدادهم، وانحرافاتهم التي ما زالوا بتصفون بها، كتذكير بني إسرائيل: {سَلْ بَنِي إِسْرائيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ} [البقرة: 2/ 211] {يَا بَنِي إِسْرائيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ} [طه: 20/ 80] {يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 2/ 122] ، والآيات في ذلك معروفة معظمها في سورة البقرة. وأما التذكير بنعمة الإيمان، فكقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 3/ 102-103] ، وقوله تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى، وَوَجَدَكَ ضَالًا فَهَدَى، وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى: 93/ 6-8] .

ولهذا الحوار أثر نفسي عميق فهو يوقظ في النفس عاطفة العرفان بالجميل والشكر لله، وبالتالي يربي عاطفة الخضوع، والانقياد لأوامر الله تعالى، وإنما تربي العاطفة بتكرار إثارة انفعال معين نحو موضوع معين، فإذا قرأ الإنسان في عدد من الصلوات عددا من هذه الآيات، وخشع لها قلبه كل مرة، أصبح عنده استعداد للخشوع كلما تذكر هذا الأمر، إن الاستعداد هو العاطفة المطلوبة. على أن العاطفة يجب أن تكون قوة دافعة تدفع صاحبها إلى التطبيق، والتضحية والسلوك المستقيم، فالتذكير بنعمة الغنى تدفع إلى البذل والسخاء في سبيل الله، والتذكير بنعمة الإيواء تدفع إلى رحمة الأيتام، ورعايتهم وهكذا. والآيات القرآنية ذات الأسلوب الاستفهامي دالة على هذا، فكلما ورد سؤال يذكر نعمة من نعم الله، كان جوابه إما ملحوظا وإما صريحا، كما في سورة الضحى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ، وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ، وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 93/ 9-11] . الحوار الخطابي التنبيهي أو الإيضاحي: من أوضح صور هذا الحوار، أن يرد سؤال من الحق جل جلاله، يليه جواب، فتكون غايته لفت الأنظار إلى أمر هام، ثم شرح هذا الأمر كقوله تعالى: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ، عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ، الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} [النبأ: 78/ 1-3] . {الْحَاقَّةُ، مَا الْحَاقَّةُ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ، كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ} [الحاقة: 69/ 1-4] . {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ، وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ} [الغاشية: 88/ 1-2] . وقد اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلوب القرآن في هذا اللون من الحوار، فقال فيما رواه أبو هريرة: "أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته"، رواه مسلم1.

_ 1 رياض الصالحين ص269، شركة الشمولي بالإسكندرية بمصر.

وهذا أسلوب رائع، يضاهي أسلوب الاستجواب في المدرسة الحديثة، ويزيد عليه: فالاستجواب المدرسي مقصور على أمور عادية علمية جافة، والحوار القرآني، أو النبوي يتحدى عقول السامعين، وأفكارهم بأمور جديدة أو غامضة، ثم يشرحها لهم ويوجههم إلى الأخذ بخيرها وترك شرها، فغايته وجدانية سلوكية: وجدانية بحيث يكره إلى السامع أو المخاطب الشر، ويجيب إليه الخير، ويثير عواطفه وانفعالاته في سبيل تحقيق سلوك طيب، والابتعاد عن سلوك شرير. ولهذا الحوار التنبيهي أغراض كثيرة منها: *- التنبيه إلى أمر عظيم كقيام الساعة. *- التنبيه إلى قانون عام، أو سنة إلهية للبشر كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} [الحج: 22/ 5] . الحوار الخطابي العاطفي: وهو خطاب أو استفهام يعتمد على إثارة عواطف إنسانية، أو انفعالات وجدانية، تترك أثرًا فعالا في الانقياد للسلوك الطيب والعمل الصالح، كالخوف والأمل، الرغبة والرهبة. *- فالخشوع لله والشعور بعظمته كقوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} [الملك: 67/ 3] ، وفي هذا تحد للإنسان، ليتأمل في عظمة خلق الله للسماوات والكواكب، وقد نوه الله تعالى ببعض الآثار النفسية لهذا التحدي، والتأمل بقوله: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك: 67/ 4] ، فالشعور بعظمة الله هنا يتجلى حين يرافقه شعور بضعف الإنسان، ويلازمه انقياد وطاعة، وخشوع لله. *- والشعور بالندم إزاء المعاتبة، والتأنيب كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا

مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة: 9/ 38] . وكقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 61/ 2-3] . *- والخوف من عذاب يوم القيامة، وأهواله واضح في قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء: 4/ 41] ، ثم يبين الله تعالى بعض الآثار النفسية لذلك الموقف بقوله: {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء: 4/ 42] . *- وإثارة عواطف الشكر لله والشعور بفضله ومنه، مبثوثة في كثير من الآيات، كقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ، أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ} [الواقعة: 56/ 68-69] . وقوله: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ، أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ} [الواقعة: 56/ 71-72] ، وبعد كل استفهام دليل دامغ على عجز الإنسان، وعظمة الله وقدرته، فالماء الذي نشربه لا نملك أن نجعله حلوًا لو كان مالحا {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ} [الواقعة: 56/ 70] ، والنبات الذي نزرعه لا نملك ربه لو حبست عنه الأمطار، وغارت الآبار والأنهار، أو جاءته ريح سموم، فأصبح حطاما أو هشيما: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ، أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ، لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ، إِنَّا لَمُغْرَمُونَ، بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} [الواقعة: 56/ 63-67] ، فلا يملك القارئ المتدبر إلا أن يخشع قلبه لفضل الله، ويلهج لسانه بحمده وشكره. تربية العواطف الربانية: وتربية هذه العواطف أو غيرها يخضع، كما تدل الحياة، ونتائج أبحاث علم النفس، شروط أهمها: *- أن تثور الانفعالات الوجدانية في مواقف من الحياة الفردية، أو الاجتماعية المناسبة وترافقها استجابات سلوكية مناسبة. *- أن تتكرر هذه الانفعالات، وتتكرر معها الاستجابات السلوكية المناسبة،

كالصلاة والبكاء من خشية الله، وقراءة القرآن والدعاء، والتلذذ بمعاني القرآن وأساليبه. *- أن يؤدي هذا التكرار إلى استعداد وجداني، يجعل صاحبه مستعدًّا للانفعال، كلما تكررت المناسبة، أو تكرر المعنى أو الموضوع الذي أثار الانفعال أول مرة، كاستعداد المؤمن للحماسة من أجل العقيدة، ولتحقيق أوامر الله والغضب لله، والدعوة إلى دينه. *- والعاطفة الفعالة تؤدي بصاحبها إلى سلوك مناسب يرضيها ويحقق غايتها، فهي قوة دافعة ما تزال تدفع صاحبها حتى يسلك ذلك السلوك، فعاطفة الخشوع تدفع المؤمن إلى طاعة الله وتحقيق أوامره، وكذلك الشكر على النعم يدفع إلى الصدقة، أو حسن استعمال المال أو الجاه أو البصر، في طاعة الله وتحقيق شريعته، دواليك. الحوار العاطفي الترديدي: وهو الذي يتردد فيه سؤال معين، مثير لعواطف متشابهة، فيتكرر عددًا من المرات، بينها فواصل من الآيات المؤثرة، فيأخذ هذا السؤال كل مرة معنى يتناسب مع ما سبقه من الآيات بالإضافة إلى معناه الأصلي كتكرار قوله تعالى في سورة الرحمن: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 55/ 13] ، وبعدها 31 موضعا بنفس السورة، وقوله تعالى في سورة القمر: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 54/ 17] ، وأربع مواضع بعدها في نفس السورة، وقوله أيضا: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} [القمر: 54/ 16] وأربع مواضع بعدها أيضا من نفس السورة، وهذا التكرار يساعد على نشوء العاطفة الربانية، وتمكينها وترتيبها في النفس، ونموها، كما يساعد على استعدادها للثورة في عدد من المواقف المتنوعة، بحسب تنوع الآيات السابقة للسؤال المتكرر، فقد وردت آية: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 55/ 13] ، في أول السورة بعد ذكر نعم الله في خلق الإنسان وتعليمه، وأن الله سخر له الشمس والقمر، والنجم والسماء، والميزان والأرض والنبات، فأثار هذا السؤال عواطف الشكر لله، ثم ورددت تارة أخرى بعد ذكر قدرة الله على الإنسان: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنْتَصِرَانِ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 55/ 35-36] ، فأثارت انفعال الخوف من الله، وربت عاطفة الخشوع لله.

كل ذلك إلى جانب تربية العبودية لله، وهو الهدف الأصلي المقصود بالدرجة الأولى من هذه الآية الكريمة، فالتصديق بآلاء الله ونعمه، وآيات قدرته ووحدانيته، يثمر في قلب المؤمن ثمرة عظيمة هي إخلاص الخضوع، والعبودية والانقياد لله وحده، وهذا من أهم نتائج "العاطفة الربانية"، وهي العاطفة السائدة تترعرع في التربية الإسلامية، فتتوجه سائر العواطف بتوجيهها، وتهذب الغرائز، والنزعات الإنسانية بسيطرتها، فتستقيم الشخصية، وتقوى وتتضافر جميع الطاقات والاستعدادات، وتتجه إلى تحقيق هدف واحد. الحوار الخطابي التعريضي: وهو خطاب من الحق جل جلاله إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم يتضمن تعريضا بالمشركين كوصف مساوئهم أو ضعفهم، أو الاستهزاء بباطلهم، أو تهديدهم بعذاب الله. أ- فالتنويه ببعض ترهاتهم، واتهاماتهم الباطلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ} [الطور: 52/ 29] ، وفي هذا الشكل من أشكال الحوار الخطابي تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وللمؤمنين، وتقوية لعزائم الدعاة إلى الله: كما في الشكل الذي يليه: ب- والتهديد من الله تعالى، كقوله جل جلاله: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ، وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِين} [القلم: 68/ 44-45] . ج- ووصف مساوئ بعض المشركين، كقوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى، عَبْدًا إِذَا صَلَّى} [العلق: 96/ 9-10] ، وقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى، وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى، أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى، أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى، وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى، أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [النجم: 53/ 33-38] . الآثار التربوية: يلاحظ أن للحوار الخطابي التعريضي آثارًا تربوية في النفس أهمها: 1- تسلية المؤمنين والدعاة إلى الله تعالى عما يلاقون من عنت، وإرهاب فيسبيل الله، وإشعارهم بأن النتيجة لهم، وأن الله معهم ضد أعمال أعداء الله. 2- الإيحاء إلى قارئ القرآن بأن تحتقر صفات المشركين، وأعمالهم، وإيقاظ انفعالات الاشمئزاز من باطلهم وكفرهم، حتى تصبح هذه الانفعالات عاطفة متأصلة في نفس الناشئ عن طريق التكرار كما مر معنا. والإيحاء كما يرى علماء النفس هو: إيصال القناعة بفكرة ما إلى ذهن السامع عن غير طريق التلقين المباشر، فقد يكون عن طريق القصة، أو التعريض، كما رأينا في الآيات السابقة، وهو أشد تأثيرًا في بعض الأحيان من التلقين المباشر.

الحوار الوصفي وآثاره التربوية

2- الحوار الوصفي، وآثاره التربوية: تمهيد: يرى الباحث في أشكال الحوار الخطابي في الصفحات الماضية، أن ذلك الحوار يبدو لأول وهلة من طرف واحد، وقد أوضحت أن الطرف الثاني إنما يستجيب بعواطفه، ووجدانه وانفعالاته وتفكيره، وهي استجابة لا تقل أثرا وأهمية عن ظهور الطرف الثاني، والتصريح به في نص القرآن أو الحديث، كما أنها استجابة واقعية إذ تعتبر التربية الإسلامية: أن كل ناشئ وقارئ للقرآن، أو متعبد بقراءته، مخاطب فعلا بهذه الأنواع من الأسئلة والنداءات القرآنية، وأنه لا بد مستجيب بفكره أو عاطفته، ما دام حاضر القلب، والفكر أثناء تلاوة القرآن، أو القيام به في الصلاة، فذلك الحوار قائم بين الله وعباده. أما هذا النوع الثاني، وما يليه من أنواع الحوار "أعني الوصفي والقصصي والجدلي"، فيبدو كاملا في النص القرآني، والحوار الوصفي، الذي صرح فيه بذكر المتحاورين، وقصد من الحوار إثبات وصف حي لحالة نفسية، أو واقعية لهؤلاء المتحاورين، بقصد الاقتداء بصالحهم، والابتعاد عن شريرهم، والتأثر بهذا الجو تأثرا وجدانيا ينمي العواطف الربانية، والسلوك الإنساني التعبدي الفاضل، والأمثلة على هذا الحوار وافرة في القرآن الكريم نذكر منها قوله تعالى في حوار أهل النار: {وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ، هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ، احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ، مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 37/ 20-23] . فالحوار هنا بين الحق جل جلاله، وبين ملائكته، والحديث عن الظالمين الذين

استحقوا عذاب جهنم، لقد استفاقوا من قبورهم، فأدركوا أن هذا اليوم هو يوم الدين، وجاء النداء الرباني لزبانية جهنم ليدلوا الظالمين إلى طريق النار، ثم استمر الحوار لبيان ضعفهم، والاستهزاء بهم بعد أن ينالوا حسابهم، في ذلك الموقف: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ، مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ} [الصافات: 37/ 24-25] ، وعجزوا عن الجواب، فأخبرنا الله جل جلاله عن حالهم: {بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} [الصافات: 37/ 26] ، ثم دار الحوار بين قادة الظلم والباطل، وبين السوقة الذين استسلموا للباطل في الدنيا، فحشروا في العذاب جميعا: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ، قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} [الصافات: 37/ 27-28] ، وتنصل قادة الظلم من المسئولية: {قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ، وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ، فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ، فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ} [الصافات: 37/ 29-32] . النتائج التربوية: *- يعرض لنا الحوار الوصفي صورة حية لأحوال أهل النار، أو أهل الجنة النفسية فهو يستعين بالمخيلة والوصف الدقيق، على تربية العواطف الربانية، والتأثير في نفس القارئ أو السامع بهذه الآيات، ومما يزيد هذه الصورة تأثيرا أن الوصف جاء على ألسنتهم وباعترافهم، فهم يصفون ندمهم وآلامهم، وأي عاقل يسمح لنفسه أن يكون مكانهم؟ *- يعتمد الحوار الوصفي على الإيحاء، كما يعتمد عليه الحوار التعريضي، فالآيات هنا تحذرنا من هذا المصير، دون أن تقول لنا: "إياكم أن تقعوا فيما وقع فيه هؤلاء"، وهذا الإيحاء "كما رأينا" أشد تأثيرا من التلقين، ولكن يحسن مع ذلك استجواب الناشئين أثناء تدريس القرآن، عن رأيهم في هذا المصير الذي صار إليه هؤلاء الكفار، وعن سببه؟ ليتأكد المربي من أنهم يتابعون هذه الصورة بالتأمل والتفكير، وليختبر أحاسيسهم ومشاعرهم، ومدى استجابة عواطفهم وانفعالاتهم، فهو مطالب بتربية هذه الانفعالات، والعواطف كالخشوع والرغبة والرهبة، كما أنه مطالب بإفهامهم المعنى وتحسين تلاوتهم، سواء بسواء. ولم يقتصر القرآن على وصف مشاعر أهل النار، بل وصف لنا بعض مشاعر أهل الجنة في حوار وصفي رائع، وسنعرض مثالا عنه دون تعليق تربوي؛ لأن ما مر ينطبق عليه وفيه كفاية. قال تعالى: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ، قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ، يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ، أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ، قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ، فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ، قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ، وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [الصافات: 37/ 50-57] .

الحوارص القصصي

الحوارص القصصي ... 3- الحوار القصصي: وهو الذي يأتي في طيات قصة واضحة في شكلها وتسلسلها القصصي، وهذا الحوار لا يتعدى أن يكون جزءا من أسلوب القصة، أو عناصر في القرآن، أما أن يكون هناك قصة كلها حوار على غرار ما يسمونه اليوم بـ"المسرحية"، فهذا لم يرد في القرآن بهذا الشكل المسرحي، ولكن بعض القصص جاءت في بعض المواضع يغلب فيها الحوار على الإخبار، كقصة شعيب مع قومه في سورة هود، فالآيات العشر الأولى من هذه القصة كلها حوار، ثم ختم الله القصة بآيتين، بين فيها عاقبة قوم شعيب، وهاك القصة بأكلمها، من سورة هود: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ، وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ، بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ، قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ، قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ، وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ، وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ، قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ

وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ، قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ، وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ، وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ، كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} [هود: 11/ 84-95] . التحليل التربوي: انتشر هذا الحوار في كثير من القصص القرآن، والحوار القصصي ذو أثر فكري رائع بالإضافة إلى أثره الوجداني العاطفي، وذلك للأسباب التالية: *- يعتمد تأثير الحوار القصصي على الإيحاء، شأنه في ذلك شأن الحوارين السابقين، فهو يوحي إلى القارئ بطريق غير مباشر أن يكره حجج الكافرين وأحوالهم، وخاصة عندما يرى مصيرهم في آخر القصة. *- وهو كسابقيه، يربي العواطف الربانية في النفس، كالحب في الله، والرغبة في الدعوة إلى الله، والحماسة لأنبياء الله. *- ويمتاز عن سابقيه، بأنه يعرض حجج الأنبياء عرضا فكريا ربانيا، وتدحض فيه حجج الظالمين الماديين، ويبين لنا منطقهم المتهافت. فقوم شعيب لم يبقوا عليه حياته، إلا خوفا من "رهطه"، وشعيب ما كان ينصحهم إلا خوفا من الله ورغبة في إرضائه، فانظر ما أبعد الشقة بينهما؟! *- ويمتاز بذكر نتيجة القصة، ومصير كل من الظالمين والمؤمنين، وتصويره تصويرا مرتبطا بالحوار وبمراحل القصة ارتباطا وثيقا، وذلك بعد ترقب وتلهف يشد القارئ والسامع إلى تتبع الحوار، وتأمل معانيه، فهو يربي الفكر والتصور الرباني لأمور الحياة، ولروابط الحياة الاجتماعية، مع مقارنة ذلك بتصورات الظالمين المترفين، القائمة على القوة أو المنفعة العاجلة، أو الجاه أو المصالح الشخصية. ويجب ألا يخلو تعليم أي نص قرآني فيه حوار قصصي، من استجواب المتعلم عن رأيه في الحوار أو موقفه منه، ونحو ذلك بقصد تربية مشاعره، وعواطفه الربانية وتفكيره الديني عن الحياة والعلاقات الاجتماعية، والتصور الفكري عن الإنسان ومهمته في الكون.

الحوار الجدلي لإثبات الحجة

د- الحوار الجدلي لإثبات الحجة: وهو حوار يجري فيه نقاش، أو جدال غايته إثبات الحجة على المشركين للاعتراف بضرورة الإيمان بالله وتوحيده، والاعتراف باليوم الآخر، وبرسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وببطلان آلهتهم، وصدق أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم، كوصفه لما رأى، عندما عرج به إلى السموات العلى، كما في سورة النجم: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى، مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى، وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى، عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم: 53/ 1-5] إلى أن قال: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى، مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى، أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى، وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى، عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى، إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى، مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى، لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 53/ 10-18] . وفي هذا المقطع من السورة، يثبت الحق جل جلاله الحجة على المشركين، وذلك أن رسوله يصدر في أخباره عن يقين وعن رؤية حقيقية، بادئة من البصر الذي لا يزيغ، واقرة في الفؤاد الذي لا يكذب، وما سبق لصاحبه أن كذب فيكم قط، مؤيدة من الله جل جلاله، بالآيات الكبرى التي أراه الله إياها. أما الطرف الآخر من الحوار، والذي ينتظر أن يكون رد المشركين، فقد جاء بأسلوب الاستفهام منكرا عليهم معبوداتهم، وكأنه يقارن بين الحقائق الدامغة التي جاء بها رسول الله من أخبار السماء ليلة المعراج، وبين معبوداتهم السخيفة التي يرونها أو يرون فيها القدرة، والجدارة بالعبادة في زعمهم، وكأنه يقول لهم: أرأيتم هذه الأصنام هل هي أحق بأن تصدق عليها الألوهية من أن تصدقوا محمدا، وهو الذي لم يكذب فيكم قط، وهذا معنى قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 53/ 19-20] ، ثم يعيرهم الحق جل جلاله في نسبة البنات "الملائكة" إلى الله مع أنهم يكرهون أن تكون لهم البنات، ويتمنون البنين.

{أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى، تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى، إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم: 53/ 21-23] . وفي هذا ما فيه من تناقض المشركين، إذ ينسبون إلى خالقهم المنعم المتفضل عليهم، ما يكرهونه لأنفسهم. ثم يبين الله لهم معيارهم في التفكير، ومبلغهم من العلم، وأنه ميعار خاطئ فارغ لا يغني ولا ينتج شيئا، إنه معيار الظن والهوى. {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 53/ 23] ، فكيف انصرفوا عما جاءهم من ربهم من الهدى؟ وما ظنهم بالمستقبل في الدنيا والآخرة؟ إن هي إلا آمالهم الكاذبة، وما من إنسان يكون له كل ما يتمنى في الحياة وبعد الممات، لذلك يسأل الله سبحانه، ويستمر أسلوب الحوار الاستفهامي الجدلي التهكمي في قوله تعالى: {أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى، فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى} [النجم: 53/ 24-25] . نتائج تربوية: يشترك الحوار الجدلي مع سابقيه بأمور تربوية، ويمتاز بأمور أخرى أهمها: *- يربي الحوار الجدلي الحماسة للحق، وتحري الصواب والرغبة في الحجة الدامغة، وهذا من العواطف الربانية التي يجب الحرص عليها على تنميتها عند الناشئين. *- كما يربي، عن طريق الإيحاء، كراهية الباطل والأفكار الشركية والإلحادية، وتفاهة هذه الأفكار وبطلانها. *- كذلك يربي العقل على التفكير السليم، والوصول إلى الحقائق بأسلوب صحيح أ- كالحصر أو ما يسمونه بـ" الثالث المرفوع"، فإذا كان هناك قضية لها ثلاثة حلول لا رابع لها، وأسقطنا حلين، تعين أن يكون الثالث هو الصواب الذي نرفعه ونقيم له وزنا، كقوله تعالى في تقرير خلق الإنسان: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور: 52/ 35] ، فإذا كان مما يستحيل عقلا أن يخلقوا من غير خالق كما يستحيل واقعا، وعقلا أن يخلقوا أنفسهم، إذن لا بد لهم من خالق، ويسري هذا المبدأ

على السماوات والأرض، وخزائن رزق الله: {أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ، أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} [الطور: 52/ 36-37] ، وهذه الأمور العظام، والمخلوقات الجسام لا يمكن أن توجد وحدها، ولا يستطيع البشر أن يدعي أنه خلقها، فلا بد من الاعتراف بأن الله خلقها. ب- وكالقياس الصحيح كقوله تعالى باسطًا رأي المنكرين للبعث: {كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} [الإسراء: 17/ 49] ، فيأمر الله رسول الله صلى الله عليه وسلم بجوارهم، وإقناعهم بالحجة والمنطق: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا، أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء: 17/ 50-51] . وفي هذا قياس للبعث على الخلق الأول، فالله كما فطرهم أول مرة، قادر على أن يعيد خلقهم مرة أخرى، ولو كانوا من حجارة أو حديد، أو أي مادة أخرى، إنه مبدأ عقلي منطقي لا شك فيه ولا مراء، ولا يستطيع إنكاره عاقل. ج- وأهم مزاياه أنه يربي العقل على التفكير الموضوعي الواقعي، والارتقاء بالحجج من المشهود المحسوس إلى المطلوب المغيب، فقصة إبراهيم مع النمرود جاء فيها الحوار الآتي: بدأت القصة بلفت نظر القارئ، على طريقة الحوار الخطابي، إلى أهميتها: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} [البقرة: 2/ 258] . وبهذا الإيجاز بين الله لنا بطلي القصة: إبراهيم المؤمن بربه، ورجل غره أن أتاه الله ملكا، فأراد أن يزعم لنفسه بعض صفات الألوهية، لكن إبراهيم ضرب له أمثلة محسوسة يراها كل إنسان ولا ينكرها عاقل: {إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة: 2/ 258] ، فكابر الملك الظالم، وزعم أنه يقتل من يشاء ويذر لمن يشاء حياته، {قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة: 2/ 258] وشعر إبراهيم أن خصمه يزيغ ويحيد عن موضوع النقاش الحقيقي، إلى مواقف متشابهة، فحاصره في أمر لا يستطيع أن يحيد عنه، إلا لا شبيه له عالم الإنسان: {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 2/ 258] . ومن أروع الأمثلة على هذه المزية: حوار إبراهيم مع قومه حين حطم الأصنام إلا صنمًا كبيرًا نسب إليه تحطيم الأصنام، وطالب قومه بأن يسألوا الأصنام، ليثبت لهم بشكل حسي، أن ما يعبدون من دون الله لا يستطيعون شيئا، ولا يستحقون التقديس والعبادة.

الحوار النبوي

5- الحوار النبوي: لقد اقتبس رسول الله صلى الله عليه وسلم، من كل ما مر من أنواع الحوار القرآني وأشكاله، وكل ما هو مثبت في القرآن العظيم من أساليب التربية والتعليم، ولا غرو فقد كان خلقه القرآن، وكانت حياته التربوية والتعليمية ترجمة حية بشرية، لآيات الله ومراده ووحيه. *- الحوار طريقة تربوية نبوية: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصا على تعليم الصحابة بطريق الحوار، وكانت رغبته أشد في أن يكون الصحابة هم البادئون بالسؤال، فقد روى البخاري ومسلم "واللفظ له" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما بارزًا للناس، وفي رواية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سلوني"، فهابوه أن يسألوه فجاء رجل، فجلس عند ركبتيه، فقال: يا رسول الله ما الإسلام؟ قال: "لا تشرك بالله شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان"، قال: صدقت، ثم سأله عن الإيمان والإحسان وموعد قيام الساعة، قال أبو هريرة: ثم قال الرجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ردوه علي" فالتمس فلم يجدوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا جبريل أراد أن تعلموا إذا لم تسألوا" 1 وفي لفظ للبخاري: "هذا جبريل جاء يعلم الناس دينهم" 2. ويؤخذ من هذه الأحاديث أمور تربوية أهمها: أ- مشروعية ترغيب المعلمين في أن يكونوا هم السائلين، ليكون التعليم مبنيا على رغبتهم، وليكون أشد وقعا في نفوسهم.

_ 1 صحيح الإمام مسلم 1/ 30، ط دار الطباعة العامرة استانبول 1329هـ. 2 صحيح البخاري، كتاب الإيمان 1/ 12، ط المطبعة العثمانية المصرية 1932م.

ب- إجراء حوار أمام المتعلمين، ليتابعوا الحوار ويتعلموا منه أمر دينهم، وهذه الطريقة كانت مقصودة من قبل الشارع، بدليل لفظ البخاري: $"هذا جبريل جاء يعلم الناس أمر دينهم"، وكانت هذه الطريقة تروق بعض الصحابة رضي الله عنهم، كما ثبت في صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال: "كنا نهينا في القرآن أن نسأل رسول الله صلى عليه وسلم عن شيء، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية، العاقل، فيسأله ونحن نسمع، فجاء رجل من أهل البادية، فقال: يا محمد: أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك، قال: "صدق"، الحديث"1. وحديث جبريل جاء مخصصًا لعموم الآية: {لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 5/ 101] ، ولعموم حديث: "نهينا عن قيل وقال، وكثرة السؤال وإضاعة المال"، ولعل الصحابة كانوا يتهيبون السؤال بعموم الآية والحديث، فجاء حديث جبريل مبيحا السؤال بقصد الاستفادة، والتعليم وخاصة لأمور الدين وأسسه وعقائده. فثبت من هذا كله أن أسلوب الحوار من أساليب التربية الإسلامية، لذلك أرسل الله جبريل يسأل الرسول ويصدقه، والصحابة يسمعون بكل لهفة وشوق، ليقتدي المعلمون والمربون بهذا الأسلوب في حياتهم التعليمية والتربوية. *- الحوار النبوي العاطفي: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أقدر الناس على تربية العواطف الربانية، والاعتماد عليها عند الضرورة. آمن من الأنصار وفيه الرجل والمرأة، والشاب والكهل، والطاعن في السن، فربى نفوسهم على الحب في الله والحماية لدين الله، والبغض لأعداء الله، وكراهية العودة إلى الكفر والجاهلية، فلما وزع الرسول صلى الله عليه وسلم بعض الغنائم في قريش وجدوا وعتبوا, كما ورد عن أبي سعيد الخدري قال2: لما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطى من تلك العطايا "أي من غنائم هوازن وسباياها" في قريش، ولم يكن في الأنصار

_ 1 ج1 باب الإيمان 1/ 32، ط دار الطباعة العامرة 1329هـ. 2 تهذيب سيرة ابن هشام: عبد السلام هارون ص316-318، ط دار الفكر دمشق.

منها شيء، وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم، حتى كثرت منهم القالة، فأمر سعد بن عباة فجمعهم، فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: $"يا معشر الأنصار، ما قالة بلغتني عنكم؟ وجدة وجدتموها علي في أنفسكم؟ ألم آتكم ضلالا فهداكم الله؟ وعالة فأعطاكم الله؟ وأعداء فألف بين قلوبكم؟ ". قالوا: بلى والله ورسوله أمن وأفضل. ثم قال: "ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟ " قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله؟ لله ولرسوله المن والفضل. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما والله لو شئتم لقلتم، فلصدقتم ولصدقتم: أتيتنا مكذبا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدا فآويناك، وعائلا فآسيناك، أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم، في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا، وركلتكم إلى إسلامكم، ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة، والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحابكم؟ فوالذي نفس محمد بيده، لولا الهجرة لكنت أمرأ من الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار". قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: "رضينا برسول الله قسما وحظا". هذه التربية النبوية العظيمة، وهذا الحوار النبوي العاطفي يدلنا من الناحية التربوية على أمور أهمها: أ- أن الاعتماد على العواطف الربانية في المواقف الخطيرة، يجب أن يسبقه تربية صحيحة وعميقة لهذه العواطف، وكان رسول الله كما قلنا قد ربى هذه العواطف في نفوس الأنصار، حتى أصبح الله ورسوله أحب إليهم من المال، والولد والناس أجمعين. ب- استخدام رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلوب القرآن الاستفهامي، لإثارة العواطف: وكأنه اقتبس من سورة الضحى ذلك القبس الإلهي حين قال لهم: "ألم آتكم ضلالا فهداكم الله، وعالة فأعطاكم الله، وأعداء فألف بين قوبكم؟ ".

ج- وراعى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم بشر وليسوا ملائكة، وأرادهم أن يدافعوا عن أنفسهم بشيء من القول، فلما استحيوا منه، دافع عنهم بالنيابة عن أنفسهم، لئلا يترك في نفوسهم شيئا من الواجد، فقال: $"أما والله لو شئتم لقلتم فلصدقتم ولصدقتم: أتيتنا مكذبا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدا فآويناك.."، وهكذا نجد أن على المربي في المواقف الحرجة، ألا يصدر حكمه قبل أن يسمع من الذين يربيهم، أو يريد أن يحاكمهم، في هفوة ارتكبوها. *- الحوار النبوي الإقناعي: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحاور في سبيل الإقناع وإقامة الحجة، فقد أراد شخص أن يدخل في الإسلام، فاستأذن رسول الله أن يبيح له الزنا، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم ما معناه1: "ألك أم؟ " قال: نعم، "ألك أخت؟ " قال: نعم، ثم قال: "أتريد أن يزنى بأمك؟ " قال: لا"، وهنا أقلع الرجل وتاب عن هذا الخلق الدنيء، وتم إقناعه بترك الزنى عن طريق هذا الحوار النبوي، الذي يتضمن قياس معاملة الغير على معاملة النفس، وأن يترك الإنسان أذى الآخرين، ما دام لا يريد أن يؤذيه الآخرون. وكذلك محاورته مع عدي بن حاتم: قال الإمام الرازي في تفسيره2: نقل أن عدي بن حاتم كان نصرانيا، فانتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقرأ سورة براءة، فوصل إلى هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة: 9/ 31] ، قال، فقلت: لسنا نعبدهم، فقال: "أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه؟ ويحلون ما حرم الله فتستحلونه؟ " قلت: بلى، قال: "فتلك عبادتهم". وروى الإمام أحمد والترمذي، وابن جرير من طرق عن عدي بن حاتم.. فذكر خبر فراره إلى الشام، وأسر أخته وإسلامها وترغيبها إياه بالإسلام، وقدومه إلى المدينة، وسماعه سورة "براءة" من رسول الله صلى الله عليه وسلم، واعتراضه على آية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ

_ 1 شعب الإيمان للإمام البيهقي. 2 كما نقله عنه صاحب تفسير المنار 10/ 366، ط مطبعة المنار بمصر 1349هـ-1931م.

وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا} ، وجواب الرسول ثم قال1: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عدي ما تقول؟ أيضرك أن يقال: الله أكبر؟ فهل تعلم شيئا أكبر من الله؟ ما يضرك؟ أيضرك أن يقال: لا إله إلا الله؟ فهل تعلم إلها غير الله؟ " ثم دعاه إلى الإسلام فأسلم وشهد شهادة الحق، قال2: فلقد رأيت وجهه استبشر، ثم قال: "إن اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون". هذا الحوار الإقناعي يقوم على سؤال المتعلم، أو المخاطب عما يعرفه بالحس أو البداهة، ثم يبني السائل على الجواب ما يريد بناءه من استجواب آخر، حتى يصل إلى الإقناع بكل ما يريد تعليمه إياه أو إقناعه به، فقد كان حوار رسول الله صلى الله عليه وسلم حوارًا تدريجيا بدأ المناقشة حول معنى الآية، وحول اتخاذ النصارى لأحبارهم أربابا، أي مشرعين من دون الله، ثم تبين خطؤهم لعدي بن حاتم، فلما أنس منه الرسول صلى الله عليه وسلم تعقلا، ورغبة في الحق تابع سؤاله عن رأيه في شعار المسلمين "الله أكبر" و"لا إله إلا الله" حتى أقر بشهادة الحق. وهكذا كان الحوار الاستجوابي في التربية الإسلامية بعد قراءة القرآن، من الوسائل الناجحة لإقناع من يرجي إسلامه من المفكرين والعقلاء، وهو وسيلة ناجحة في التدريس، وما زال من أفضل الوسائل المتبعة إلى يومنا، إنه وسيلة للتعليم والإقناع، وإلزام الخصم بالحجة.

_ 1 تفسير المنار ص365 وقد لخصت أول الرواية، واقتصرت على التقيد بنص آخرها كما ورد. 2 يعني عدي بن حاتم رواي الحديث.

ثانيا: التربية بالقصص القرآني والنبوي

ثانيًا: التربية بالقصص القرآني والنبوي الميزات التربوية للقصص القرآني والنبوي ... ثانيا: التربية بالقصص القرآني والنبوي 1- تمهيد في أهيمة القصة التربوية: للقصة في التربية الإسلامية وظيفة تربوية لا يحققها لون آخر من ألوان الأداء اللغوي. ذلك أنها أعني "القصة القرآنية النبوية" تمتاز بميزات جعلت لها آثارا نفسية وتربوية بليغة، محكمة، بعيدة المدى على مر الزمن، مع ما تثيره من حرارة العاطفة، ومن حيوية وحركية في النفس، تدفع الإنسان إلى تغيير سلوكه، وتجديد عزيمته بحسب مقتضى القصة وتوجيهها وخاتمتها، والعبرة منها، وتتخلى أهم هذه الميزات فيما يلي1: 1- الميزات التربوية للقصص القرآني والنبوي: أ- تشد القصة القارئ، وتوقظ انتباهه، دون توان أو تراخ، فتجعله دائم التأمل في معانيها والتتبع لمواقفها، والتأثر بشخصياتها وموضوعاتها حتى آخر كلمة فيها. ذلك أن القصة تبدأ غالبا، وفي شكلها الأكمل، بالتنويه بمطلب أو وعد أو الإنذار بخطر، أو نحو ذلك مما يسمى عقدة القصة، وقد تتراكم، قبل الوصول إلى حل هذه العقدة، مطالب أو مصاعب أخرى، تزيد القصة حبكا، كما تزيد القارئ، أو السامع شوقا وانتباها، وتلهفا على الحل أو النتيجة. ففي مطلع قصة يوسف، مثلا، تعرض على القارئ "رؤيا يوسف عليه السلام" يصحبها وعد من الله، على لسان أبيه، بمستقبل زاهر، ونعم من الله يسبعها على هذه الأسرة الفقيرة المتعثرة، الداعية إلى الله. وتتتابع المصائب والمشكلات على بطل القصة "يوسف عليه السلام"، ويتابع القارئ اهتمامه ينتظر تحقيق وعد الله، ويترقب انتهاء هذه المصائب، والمشكلات بتلهف. ب- تتعامل القصة القرآنية، والنبوية مع النفس البشرية في واقعيتها الكاملة، متمثلة في أهم النماذج التي يريد القرآن إبرازها للكائن البشري، ويوجه الاهتمام إلى كل نموذج بحسب أهميته، فيعرض عرضًا صادقًا يليق بالمقام، ويحقق الهدف التربوي من عرضه، ففي قصة يوسف يعرض نموذج الإنسان الصابر على المصائب في سبيل الدعوة إلى الله "في شخص يوسف"، ونموذج المرأة المترفة تعرض لها حبائل الهوى، فيملأ قلبها الحب والشهوة، ويدفعها إلى محاولة ارتكاب الجريمة، ثم إلى سجن إنسان بريء مخلص، لا ذنب له إلا الترفع عن الدنايا والإخلاص لسيده، ومراعاة أوامر ربه.

_ 1 اعتمدت في بعض هذه الميزات على قصة يوسف من خلال تفسير "سيد قطب" "في ظلال القرآن" ص1949 إلى 1951 وغيره ...

ونموذج إخوة يوسف: تدفعهم هواتف الغيرة والحسد، والحقد والمؤامرة والمناورة ومواجهة آثار الجريمة والضعف، والحيرة أمام هذه المواجهة. ونموذج يعقوب: الوالد المحب الملهوف والنبي المطمئن الموصول، يعرض القرآن كل هذه النماذج البشرية عرضا واقعيا نظيفا من غير إفحاش، ولا إغراء بفاحشة أو جريمة، كما يفعل مؤلفو القصص التي يسمونها واقعية أو طبيعية، من رواد جاهلية القرن العشرين، ذلك أن من أهم غايات القصة القرآنية: التربية الخلقية عن طريق علاج النفس البشرية علاجا واقعيا. فالقصة القرآنية ليست غريبة عن الطبيعة البشرية، ولا محلقة في جو ملائكي محض؛ لأنها إنما جاءت علاجا لواقع البشر، وعلاج الواقع البشري لا يتم بذكر جانب الضعف والخطأ على طبيعته، ثم بوصف الجانب الآخر الواقعي المتسامي الذي يمثله الرسل والمؤمنون، والذي تؤول إليه بقصة بعد الصبر والمكابدة والجهاد والمرابطة، أو الذي ينتهي عند المطاف لعلاج ذلك الضعف والنقص، والتردي البشري في مهاوي الشرك، أو حمأة الرذيلة، علاجا ينهض بالهمم، ويدفع بالنفس للسمو، ما استطاعت، إلى أعلى القمم، حيث تنتهي القصة بانتصار الدعوة الإلهية، ووصف النهاية الخاسرة للمشركين الذين استسلموا إلى الضعف والنقص، ولم يستجيبوا لنداء ربهم فيزكوا أنفسهم.

تربي القصة القرآنية العواطف الربانية وذلك:

2- تربي القصة القرآنية العواطف الربانية وذلك: *- عن طريق إثارة الانفعالات كالخوف والترقب، وكالرضا والارتياح والحب، وكالتقزز والكره، كل ذلك يثار في طيات القصة بما فيها من وصف رائع ووقائع مصطفاة، فقصة يوسف مثلا تربي الصبر والثقة بالله، والأمل في نصره، بعد إثارة انفعال الخوف على يوسف، ثم الارتياح إلى استلامه منصب الوزارة. *- وعن طريق توجيه جميع هذه الانفعالات حتى تلتقي عند نتيجة واحدة هي النتيجة التي تنتهي إليها القصة، فتوجه مثلا حماسة قارئ القصة نحو يوسف وأبيه، حتى يلتقيا في شكر الله في آخر القصة، ويوجه بغض الشر الذي صدر عن إخوة يوسف حتى يعترفوا بخطئهم، ويستغفر لهم أبوهم في آخر القصة، وهكذا.. *- وعن طريق المشاركة الوجدانية حيث يندمج القارئ مع جو القصة العاطفي حتى يعيش بانفعالاته مع شخصياتها، ففي قصة يوسف يعتري القارئ خوف أو قلق عندما يراد قتل يوسف، وإلقاؤه في الجب، ثم تنسرح العوطف قليلا مع انفراج الكربة عنه، ثم يعود القارئ إلى الترقب عندما يدخل يوسف دار "العزيز"، وهكذا يعيش القارئ مع يوسف في سجنه، وهو يدعو إلى الله، حتى يفرح بإنقاذه، ثم بتوليه وزارة مصر، وبنجاة أبيه من الحزن، وهو في كل ذلك رسول الله والداعية إلى دينه. د- تمتاز القصة القرآنية بالإقناع الفكري بموضوع القصة: *- عن طريق الإيحاء، والاستهواء والتقمص، فلولا صدق إيمان يوسف لما صبر في الجب على الوحشة، ولما ثبت في دار امرأة العزيز على محاربة الفاحشة، والبعد عن الزلل، هذه المواقف الرائعة توحي للإنسان بأهمية مبادئ بطل القصة وصحتها، وتستهويه صفات هذا البطل، وانتصاره بعد صبر ومصابرة طويلة، فيتقمص هذه الصفات حتى إنه ليقلدها، ولو لم يقصد إلى ذلك، وحتى إنه ليردد بعض هذه المواقف ويتصورها، ويسترجعها من شدة تأثره بها. *- عن طريق التفكير والتأمل: فالقصص القرآني لا يخلو من محاورات فكرية ينتصر فيه الحق، ويصبح مرموقا محفوظا بالحوادث، والنتائج التي تثبت صحته، وعظمته في النفس وأثره في المجتمع، وتأييد الله له، ففي قصة يوسف تجد حوارا يدور بينه وبين فتيين عاشا معه في السجن فدعاهما إلى توحيد الله، وقصة نوح كلها حوار بين الحق والباطل، وكذلك قصة شعيب، وصالح وسائل الرسل، حوار منطقي مدعوم بالحجة، والبرهان1 يتخلل القصة، ثم تدور الدوائر على أهل الباطل، ويظهر الله الحق منتصرا في نتيجة القصة، أو يهلك الباطل وأهله، فيتظاهر الإقناع العقلي المنطقي والإثارة الوجدانية، والإيحاء وحب البطولة "الاستهواء"، والدافع الفطري إلى حب القوة وتقليد الأقوياء، تتظاهر كل هذه العوامل وتتضافر، يؤيدها التكرار مرة بعد مرة، فما أكثر تكرار بعض قصص القرآن، حتى تؤدي بمجموعها إلى تربية التصور الرباني للحياة، وللعقيدة واليوم الآخر، وإلى معرفة كل جوانب الشريعة الإلهية

_ 1 تقدم شرح ذلك في الحوار القصصي، والحوار الجدلي.

معرفة إجمالية، وإلى تربية العواطف الربانية من حب في الله، وكراهية للكفر وحماسة لدين الله ولحماته، ولرسل الله، وولاء الله وانضواء تحت لوائه، وإلى السلوك المستقيم وفق شريعة الله، والتعامل حسب أوامره، وبهذا تحيط القصة القرآنية نفس الناشئ بالتربية الربانية من جميع جوانبها العقلية، والوجدانية والسلوكية. 2- أغراض القصة القرآنية 1: ليست القصة القرآنية عملا فنيا مطلقا مجردا عن الأغراض التوجيهية، إنما هي وسيلة من وسائل القرآن الكثيرة إلى تحقيق أغراضه الدينية الربانية، فهي إحدى الوسائل بإبلاغ الدعوة الإسلامية وتثبيتها. والتعبير القرآني مع ذلك يؤلف بين الغرض الديني والغرض الفني، وبهذا امتازت القصة القرآنية بميزات تربوية وفنية، ذكرنا بعضها في الصفحات الماضية حيث لاحظنا أن القصص القرآني يجعل الجمال الفني أداة مقصودة للتأثير الوجداني، وإثارة الانفعالات، وتربية العواطف الربانية. وسنعرض للقارئ بعض أغراض القصة القرآنية2 لكي يكون المربي على بينة من هذه الأغراض، فيوجه الطلاب بالاستجواب عن كل غرض إلى معرفة هذا الغرض، وتحقيقه في نفوسهم أو في سلوكهم، أو في تربية عقولهم ووجدانهم وعواطفهم، وهاك أهم هذه الأغراض: أ- كان من أغراض القصة القرآنية إثبات الوحي والرسالة، وتحقيق القناعة بأن محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الأمي الذي لا يقرأ، ولا عرف عنه أنه يجلس إلى أحبار اليهود والنصارى، يتلو على قومه القصص من كلام ربه، وقد جاء بعضها في دقة وإسهاب، فلا يشك عاقل في أنها وحي من الله، وأن محمدا رسول الله يبلغ رسالة ربه، والقرآن ينص على هذ الغرض نصا في مقدمات بعض القصص، أو في أواخرها فقد جاء في أول سورة يوسف:

_ 1 التصوير الفني في القرآن: سيد قطب ص117-128، الطبعة الثانية دار المعارف بمصر، وقد اقتبست أهم هذه الأغراض باختصار حينا، وبالنص حينا آخر. 2 من أهم أغراض القصة عمومًا الاعتبار، وقد أجلت ذلك إلى بحث" التربية بالعبرة والموعظة"، وذكرت هناك بعض خطوات تدريس القصة للوصول إلى العبرة منها بالاستجواب.

{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف: 12/ 2-3] ، وجاء في سورة هود بعد قصة نوح: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} [هود: 11/ 49] . ب- ومن أغراض القصة القرآنية: بيان أن الدين كله من عند الله. ج- وأن الله ينصر رسله والذين آمنوا، ويرحمهم وينجيهم من المآزق والكروب، من عهد آدم ونوح إلى عهد محمد صلى الله عليه وسلم، وأن المؤمنين كلهم أمة واحدة، والله الواحد رب الجميع. وكثيرا ما وردت قصص عدد من الأنبياء مجتمعه في سورة واحدة، معروضة عرضا سريعا بطريقة خاصة لتؤيد هذه الحقيقة، كما في سورة الأنبياء، حيث ورد ذكر: موسى وهارون، ثم لمحة موجزة عن قصة إبراهيم ولوط، وكيف نجاهما الله وأهلك قومهما، وقصة نوح، وجانب من أخبار داود وسليمان، وما أنعم الله وكلهم من الصابرين الصالحين، وذكر الله لنا: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا} [الأنبياء: 21/ 87] ، والتقمه الحوت: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 21/ 87] ، قال تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء: 21/ 88] ثم قال تعالى: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء: 21/ 90] ، ويختم الله هذه السلسلة من الأنبياء بخبر مريم، وابنها عيسى عليهما السلام: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 21/ 91] ، ثم يخاطب الله مباشرة جميع أنبيائه ورسله وأتباعهم بقوله: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 21/ 92] . فتبين بهذه الآية الكريمة تقرير الغرض الأصيل من هذا الاستعراض الطويل، وهو

أن جميع الأنبياء يدينون دينًا واحدًا يخضعون لرب واحد يعبدونه وحده لا يشركون به شيئا. وعندما نستعرض خير كل نبي نجد أن الله قد شد أزره، ونصره ونجاه من الكرب الذي نزل به، أو المأزق الذي أوشك أن يقع فيه، كما نجى ذا النون "يونس" واستجاب لزكريا، وكما نجى إبراهيم، وقد أوشك أن يخترق بالنار، وأنه سبحانه دائما ينعم على رسله، والذين آمنوا إذا صبروا وصدقوا، كما أنعم على داود بالنصر، وسليمان بالملك، فشكروا نعمة ربهم. د- وفي هذا شد الأزر المؤمنين، وتسلية لهم عما يلاقون من الهموم والمصائب، وتثبيت لرسول الله ومن تبعه من أمته، وتأثير في نفوس من يدعوهم القرآن إلى الإيمان وأنهم إن لم يؤمنوا لا محالة هالكون، وموعظة وذكرى للمؤمنين، وقد صرح القرآن بهذا المعنى في قوله تعالى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود: 11/ 120] . وجاء في سورة العنكبوت لمحة خاطفة عن قصة كل نبي، مختومة بالعذاب الذي عذب به المذنبون من قومه حتى ختمت جميع القصص المجملة بقوله تعالى: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت: 29/ 40] فعلى المربي أن يستحضر مكان الموعظة، والذكرى من كل قصة، ليحاور الطلاب حوارا يوجههم إلى معرفتها، والتأثر بها والعمل بمقتضاها. هـ- ومن أغراض القصة في التربية الإسلامية: تنبيه أبناء آدم إلى خطر غواية الشيطان1، وإبراز العداوة الخالدة بينه وبينهم منذ أبيهم إلى أن تقوم الساعة، وإبراز هذه العداوة عن طريق القصة أروع وأقوى، وأدعى إلى الحذر الشديد من كل هاجسة في النفس تدعو إلى الشر، ولما كان هذه موضوعا خالدا، فقد تكررت قصة

_ 1 [الأعراف: 7/ 25-30] .

آدم في مواضع شتى، مما يدعو المربي إلى الإلحاح على هذا الموضوع، وتوجيه الطلاب إلى الحذر من غواية الشيطان في كل مناسبة ملائمة. و ومن أغراض القصص التربوية: بيان قدرة الله تعالى، بيانا يثير انفعال الدهشة، والخوف من الله لتربية عاطفة الخشوع، والخضوع والانقياد ونحوها من العواطف الربانية. كقصة الذي أماته الله مئة عام ثم بعثه1 وقصة خلق آدم2، وقصة إبراهيم والطير الذي آب إليه بعد أن جعل على كل جبل جزءا منه قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 2/ 260] . القصص النبوي: لا يختلف القصص النبوي من حيث أهميته، وميزاته التربوية عن القصص القرآني، ولكننا قد نجد فيه تفصيلا، وتخصيصا من حيث الأهداف، فللقصص النبوي، بالإضافة إلى الأهداف الأصلية التي رأينا للقصص القرآني، أهداف فرعية وأخلاقية نذكر منها على سبيل المثال: الهدف الأول: بيان أهمية إخلاص العمل الصالح لله، والتوسل به إلى الله لتفريج الأزمات، وفيه جاءت قصة الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى غار، فانحدرت صخرة من الجيل فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا لله بصالح أعمالكم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: $"قال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق3 قبلهما أهلا ولا مالا، فنأى بن طلب شجر يوما، فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبت فلهما غبوقهما4، فوجدتهما نائمين فكرهت أن أغبق5

_ 1 [البقرة: 259] . 2 [البقرة من 33 إلى 37] ، [آل عمران: 59] . 3 لا أسقي. 4 اللبن الذي خصصت لسقيهما. 5 أسقي.

قبلهما أهلًا أو مالًا، فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما، فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك، ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة.."، فانفرجت الصخرة شيئا لا يستطيعون الخروج، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "قال الآخر: "اللهم كانت لي ابنة عم كان أحب الناس إلي، فأردتها عن نفسها فامتنعت مني، حتى ألمت بها سنة من السنين، فجاءتني فأعطيتها عشرين ومئة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها ففعلت، حتى إذا قدرت عليها قالت: لا أحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه، فتحرجت من الوقوع عليها، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي، وتركت لها الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج عنا ما نحن فيه"، فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وقال الثالث: اللهم استأجرت أجراء وأعطيتهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمرة أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين فقال لي: يا عبد الله أد لي أجري، فقلت: كل ما ترى من أجرك، من الإبل والغنم والبقر، فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي، فقلت: إني لا أستهزئ بك، فأخذه كلهه فاستاقه، فلم يترك منه شيئا، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الضخرة، فخرجوا يمشون" 1. بعض مميزات القصص النبوي: ومن هذه القصة نجد أن القصص النبوي يمتاز: أ- ببساطة الأسلوب وتفصيله ووضوحه، مما يجعله مناسبا للأطفال والكبار، سهل الفهم قريب المنال مبسطًا. ب- بتكرار بعض الألفاظ والعبارات للإلحاح على الغرض من الحديث، أو القصة كتكرار قول كل واحد: "اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج عنا ما نحن فيه". ج بطرافة الموضوع وجاذبيته للنفوس، وأخذه بمجامع القلوب، وهكذا سنرى

_ 1 رواه البخاري ومسلم، والنسائي، الترغيب والترهيب، ج1، ورياض الصالحين ص16، ط دار القلم.

أن لكل قصة من القصص النبوي موضوعًا جديدًا وأسلوبًا طريفًا، واتجاهًا مغايرًا للقصص الأخرى. الهدف الثاني: الحث على الصدقة، وشكر نعمة الله. وفي هذا المعنى عدد من القصص النبوي: منها قصة الأقرع والأبرص، والأعمى وقد أرسل الله ملكا إلى كل منهم وقف بطريقة فمسحه فعافاه الله، وأعطاه مالا ثم أرسل الله الملك ذاته يطلب من كل صدقة، فرفض الأقرع والأبرض وأنكرا نعمة الله إذ ذكرهما بها الملك فأذهبها الله، ورضي الأعمى واعترف بنعمة الله، فقال للملك السائل: خذ ما شئت، فأبقى الله عليه النعمة1. ومنها قصة السحابة: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينما رجل في فلاة من الأرض، فسمع صوتا في سحابه: "اسق حديقة فلان" فتنحى ذلك السحاب فأفرغ ماءه في حرة، فإذا شرجة من تلك الشراج 2 قد استوعبت ذلك الماء كله، فتتبع الماء فإذا رجل قائم في حديقة يحول الماء بمسحاته، فقال له: يا عبد الله ما اسمك؟ قال: فلان -للاسم الذي سمع في السحابة- فقال له: يا عبد الله لم سألتني عن اسمي؟ قال: سمعت في السحاب الذي هذا ماءه يقول: اسق حديقة فلان لاسمك، فما تصنع فيها، قال: أما إذا قلت هذا فإني أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدق بثلثه، وآكل أنا وعيالي ثلثا، وأرد فيه ثلثه" 3. القصص النبوي التاريخي: يستطيع الباحث أن يميز بين ثلاثة أشكال لقصص الرسول التاريخية: أ- كان بعض القصص النبوي التاريخي تكميلا وتوضيحا، وتوسيعا لما ورد في القرآن من إشارات إلى قصص مختصرة اقتصر القرآن منها على ما يحقق غرضه من إيرادها، كقصة إسماعيل وإبراهيم عليهما السلام إذ يرفعان القواعد من البيت، وإذ

_ 1 حديث أبي هريرة في البخاري ومسلم، الحديث 66، ص22، رياض الصالحين، ط شركة الشمولي بالإسكندرية. 2 الشرجة: مسيل الماء إلى الأرض السهلة. 3 رواه مسلم، الترغيب والترهيب من الحديث، 1/ 261-262.

ترك إبراهيم زوجه وطفله، ثم أنعم الله عليهما ببئر زمزم، وقد أورد البخاري القصة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يقارب ثلاث صفحات، وكذلك قصة الخضر وموسى عليهما السلام، ومثل هذه القصص النبوية منثورة في كتب الحديث والسنة، وخاصة في أبواب التفسير. ب- والبعض الآخر ليس كله من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنها قصص فيها عبرة، وفي عرضها فائدة عظيمة، فهي وقائع بارزة من حياة بعض الصحابة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، كان لها وقع عظيم، وربما نزل فيها قرآن. كقصة الثلاثة الذين خلفوا عن الجهاد، ثم قاطعهم الرسول والصحابة، حتى أنزل الله توبتهم في القرآن، "في سورة التوبة: 118". وقصة الإفك حيث اتهم المنافقون عائشة رضي الله عنها حتى أنزل الله براءتها في القرآن: "سورة النور: من 11 إلى 25". وقصة المرأة التي ظاهر منها زوجها، وراحت تشتكي إلى الله حتى نزل فيها قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة: 58/ 1] ، وهذه القصص نجدها أيضا في كتب التفسير وأسباب النزول. ج- أما الوقائع التاريخية وغزوات الرسول صلى الله عليه وسلم، فهي قصص متتابعة آخذ بعضها بأطراف بعض، يجدها المربي في كتب السيرة، ولا يستغني أي منهاج عن حصة، أو أكثر في الأسبع تخصص لدراسة السيرة النبوية لما فيها من عبرة وقدرة وفقه نبوي، وبيان لأسباب النزول، وتاريخ التشريع الإسلامي، ولحياة الرسول القدوة صلى الله عليه وسلم يقتدي الجيل بسجاياه الحميدة.

ثالثا: التربية بضرب الأمثال

ثالثا: التربية بضرب الأمثال: أ- معنى الأمثال: قال السيد رشيد رضا في "تفسير القرآن الحكيم، الذي اشتهر بتفسير المنار"1 في معنى قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} [البقرة: 2/ 17] . "المثل بفتحتين، والمثل بالكسر، والمثل كالشبه والشبه والشبيه وزنا، ومعنى في الجملة، وهو من "مثل الشيء مثولا" إذا انتصب بارزا فهو مائل، ومثل الشيء بالتحريك، صفته التي توضحه وتكشف عن حقيقته، أو ما يراد بيانه من نعته وأحواله، وقد يكون تمثيل الشيء، أو وصفه والكشف عن حقيقته عن طريق المجاز، أو الحقيقة، بتشبيهه، وأبلغه تمثيل المعاني المعقولة بالصورة الحسية، وعكسه ومنه الأمثال المضروبة"2. ثم قال في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة: 2/ 26] ما مؤداه3: "وضرب المثل عبارة عن إيقاعه وبيانه، وهو في الكلام أن يذكر "لإيضاح حال من الأحوال" ما يناسبها، ويشابهما ويظهر من حسنها أو قبحها ما كان خفيا، واختبر له لفظ "الضرب"؛ لأنه يأتي عند إرادة التأثير وهيج الانفعال، كأن ضارب المثل يقرع به أذن السامع قرعا ينقذ أثره إلى قلبه، وينتهي إلى أعماق نفسه، ولكن في الكلام قلبا حيث جعل المثل هو المضروب، وإنما هو مضروب به"، ثم قال السيد رشيد رضا: هذا ما قاله الأستاذ "يعني الشيخ محمد عبده"، ثم عقب عليه بقوله: "وإذا كان الغرض التأثير، فالبلاغة تقتضي أن تضرب الأمثال لما يراد تحقيره والتنفير عنه، بحال الأشياء التي جرى العرف بتحقيرها، واعتادت النفوس النفور منها". فيشبه ما يراد تحقيره بالأشياء التي عرفت حقارتها كتشبيه معبودات المشركين، وأوليائهم ببيت العنكبوت في قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 29/ 41] ، ومثل هذا لا يخفى على بليغ، ولا على عاقل أيضا ولكن بعض اليهود، والمنافقين والمشركين لم يروا في القرآن شيئا يعاب، فتمحلوا بنحو قوله: إنه لا يليق بالله ضرب هذه الأمثال "كالذباب والعنكبوت"، وقول بعضهم: ما هذا

_ 1 لأنه نشر أول ما نشر في مجلة المنار المصرية التي أنشأها السيد محمد رشيد رضا. 2 تفسير القرآن الحكيم" 1/ 167، ط مطبعة المنار 1346هـ. 3 المصدر ذاته: 1/ 226.

من الأمثال فيضرب، ولذلك رد الله عليهم بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} [البقرة: 2/ 26] . ينتج معنا مما تقدم أن للأمثال في القرآن، واللغة معان أهمها: أ- تشبيه شيء يراد بيان حسنه، أو قبحه بشيء مألوف حسنه أو معروف حقارته، كتشبيه اتخاذ المشركين أولياء من دون الله بالعنكبوت تصنع بيتا. ب- ذكر حال من الأحوال، ومقارنتها بحال أخرى مع وجود جامع بينهما لبيان الفارق كقوله تعالى في أول سورة محمد: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ، ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} [محمد: 47/ 1-3] أي يبين أحوالهم، فالكافر يحبط عمله والمؤمن يغفر زلَلُه1. والجامع بين الفريقين أن كلاهما بشر، قد وهبه الله عقلا وأرسل إليه رسولا، فهذا معنى المثلية هنا ومع هذا التماثل كان الفارق كبيرا من حيث النتائج؛ لأن كلا منهما سلك طريقا مغايرا، واتخذ أسباب مباينة لما سلكه واتخذه الآخر. ج- بيان استحالة التماثل بين شيئين يزعم المشركون أن بينهما جانبا من التماثل، فآلهة المشركين لا يعقل بحال أن ترقى إلى المماثلة مع الخالق فتعبد معه، لذلك ضرب الله المثل الآتي: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج: 22/ 73] ، فكيف يعبدون هذه الآلهة التي بلغ بها الضعف هذا المبلغ، مع الله خالق كل شيء؟!

_ 1 تفسير الجلالين، ط محمد هاشم الكتبي بدمشق.

ب- بعض الأهداف التربوية التي حققتها الأمثال القرآنية النبوية: لم تكن الأمثال القرآنية، والنبوية مجرد عمل فني يقصد من ورائه الرونق البلاغي فحسب، بل إن لها غايات نفسية تربوية، حققتها نتيجة لنبل المعنى، وسمو الغرض، بالإضافة إلى الإعجاز البلاغي وتأثير الأداء، ومن أهم هذه الأهداف التربوية: أ- تقريب المعنى إلى الأفهام فقد ألف الناس تشبيه الأمور المجردة بالأشياء الحسية، ليستطيعوا فهم تلك الأمور المعنوية أو الغيبية، وقد بلغت الحكمة النبوية غاية في روعة الوضوح، كما حصل حين مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسوق، ورأى تهافت الناس على مغانم الدنيا، ومصالحها ومرابحها، فأراد أن يبين لهم هوانها كما ثبت ذلك في حديث عن جابر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بالسوق والناس كنفتيه: أي على جانبيه، فمر بجدي أسك؛ صغير الأذن ميت فتناوله فأخذ بأذنه، ثم قال: "أيكم يجب أن يكون له هذا بدرهم؟ " فقالوا: "ما نحب أنه لنا بشيء وما تصنع به؟ " ثم قال: "أتحبون أنه لكم؟ "؛ أي بدون عوض: قالوا: "والله لو كان حيا كان عيبه أنه أسك فكيف وهو ميت؟ " فقال: "فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم" 1، وهكذا شبه رسول الله صلى الله عليه وسلم قيمة الدنيا عند الله بقيمة هذا الجدي الميت عند الصحابة الذين كانوا معه. وقد استخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأساليب التربوية: *- استخدام ذوات الأشياء لتكون هي الوسائل الحسية المعينة على الفهم والوضوح. *- ضرب المثل حيث مثل لهم الرسول صلى الله عليه وسلم هوان الدنيا على الله بهوان هذا الجدي عندهم. ومن الأمثال النبوية المعروضة بأسلوب الحوار الخطابي أيضًا2 الحديث التالي:

_ 1 رواه مسلم، رياض الصالحين من كلام سيد المرسلين للإمام النووي المتوفى 671هـ، ص105، ط شركة الشمولي بالإسكندرية بمصر. 2 مر شرح هذا الأسلوب في البحث الماضي "التربية بالحوار".

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: $"أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات هل يبقى من دونه شيء؟ " قالوا: "لا يبقى من دونه" قال: $"فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا"1. أما الأمثال القرآنية فقد بلغت ذروة الإعجاز، والبلاغة من حيث استكمال الوضوح وأداء المعنى، وتقريبه للأفهام نذكر منها على سبيل المثال: المعنى الذي ضربه الله مثلًا للحق والباطل: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} [الرعد: 13/ 17] ، فالباطل يضمحل وينمحق كالزبد الذي يحتمله السيل، وإن علا على الحق في بعض الأوقات كما يعلو الزبد، والحق ثابت باق يمكث في القلب فينتفع به المؤمن، فيثمر عملا صالحا كما يمكث الماء، وأسباب الإنبات في الأرض فيثمر عشبا وزرعا، ونخيلا وأعنابا.. ب- إثارة الانفعالات المناسبة للمعنى، وتربية العواطف الربانية كما قال الشيخ محمد عبده: "واختير له لفظ "الضرب"؛ لأنه يأتي عند إرادة التأثير وهيج الانفعال كأن ضارب المثل يقرع به أذن السامع قرعا ينفذ أثره إلى قلبه، وينتهي إلى أعماق نفسه". ولاختيار المشبه به أكبر الأثر في إثارة الانفعال المناسب، فاختيار العنكبوت يثير انفعال التقزز، والاحتقار تجاه المشركين، والشعور يضعف عقولهم، وازدراء أفكارهم. واختيار الحمار لتشبيه من يقرأ كتاب الله ولا يعمل به، يثير انفعال الاشمئزاز من هؤلاء، والشعور بتفاهتهم وضياع عقولهم، واقرأ معي قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا} [الجمعة: 62/ 5] أي كلفوا العمل بها، ولم يعملوا بما فيها: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة 62/ 5]

_ 1 متفق عليه، رياض الصالحين، ص104، ط دار الكتاب العربي بيروت.

وفي الوقت ذاته يلاحظ أن إثارة انفعالات التقزز، والكره والاحتقار لمعاني الشرك والكفر، ولضياع التفكير السليم عند المشركين أو الضالين، يقابله إثارة انفعال الارتياح لمعاني الإيمان لدى المؤمن، والاعتزاز بالولاء لله لمجرد شعور المؤمن بالخلاص مما وقع فيه هؤلاء، والترفع عن أحوالهم بما هداه الله إليه. وقد جمع القرآن بين الإثارتين في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ، وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة: 2/ 264-266] . فهذا المثل القرآني العظيم يثير في النفس نوعين من الانفعالات: ففي الآية الأولى والأخيرة، يثير المثل انفعال الخوف من الخسران، وإحباط العمل وخسارة الثواب، في حال لا يستطيع فيها الإنسان الاستغناء عن ثمرات أعماله، كما لا يستطيع الأب العاجز الضعيف الاستغناء عن ثمرات جنته، وفيها تنفير من الرياء الذي يؤدي إلى هذا الخسران المبين، أما الآية الثانية، ففيها إثارة انفعال الرغبة في ثواب الله، والاعتزاز بكرم الله، والشعور بفضله ونعمته، وبهذه الإثارات، إذا تكررت بنوعيها تربي عاطفة1 الشكر لله، والخضوع له، والشعور بقدرته وعظمته. ج- تربية العقل على التفكير الصحيح، والقياس المنطقي السليم: تنطوي معظم الأمثال على قياس تذكر مقدماته، ويطلب من العقل أن يتوصل إلى

_ 1 مر في بحث "الحوار العاطفي" معنى العاطفة وشروط نموها.

النتيجة التي لا يصرح القرآن بها في كثير من الأحيان، بل يشير إليها ويترك للعقل معرفتها، فعندما ضرب الله مثلا للحق والباطل1 وصف المشبه به "الماء والسيل، والزبد، وما ينفع الناس فيمكث في الأرض، وما يذهب جفاء"، ثم اكتفى بإشارة سريعة إلى النتيجة: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ} [الرعد: 13/ 17] ، وترك العقل أن يكتشف أن الحق يبقى وأن الباطل يذهب جفاء، كما يذهب الزبد بعد انتهاء السيل، ويشعر الإنسان بلذة الظفر بالوصول إلى اكتشاف "اللغز" الذي أشارت إليه الآية، وقد يشعر بلذة "المفارقة"، والسخرية بالباطل كما في المثل: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا} [الحج: 22/ 73] . د- الأمثال القرآنية والنبوية دوافع تحرك العواطف والوجدان، فيحرك الوجدان الإرادة، ويدفعها إلى عمل الخيرات واجتناب المنكرات، وبهذا تساهم الأمثال في تربية الإنسان على السلوك الخير وتهذيب نزعاته الشريرة، فتستقيم حياة الأفراد والمجتمعات، وتسير الأمة الإسلامية سيرتها نحو حضارة مثلى تحقق للإنسانية الرخاء والعدالة، والتحرر من كل خرافة أو ظلم، ويجب على المربي العمل على تحقيق هذا الجانب من تربية السلوك والإرادة الطيبة، والنزوع إلى الخير؛ وذلك باستحضار الأمثال القرآنية في المواقف الحياتية، والنشاطية المدرسية المناسبة، والتعقيب عليها بذكر نتائجها السلوكية، والاجتماعية الطيبة بأسلوب يقوي إرادة الخير عند الطلاب، ويحقق عزمهم على توجيه سلوكهم بما تقتضيه أمثال القرآن وتعاليمه. فالأمثال القرآنية والنبوية سلاح "بلاغي، عاطفي، عقلي" ماض، بليغ الأثر، عظيم النتائج، جم الفائدة. وقد وردت في القرآن عشرات الأمثال، وكذلك في السنة ويكفي الباحث أن يفتح أحد المعاجم المفهرسة لآيات القرآن على مادة "مثل" ليجد منبعا زاخرا بالأمثال البليغة المؤثرة، والتشابيه الطريفة المثيرة للانفعالات، والعاطفة والوجدان. أما الأمثال النبوية فكثيرة مستفيضة، ولكنها تحتاج إلى تتبع وصبر، وأن يعيش الباحث مع أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم شطرا من عمره ليحصي منها ما يريد.

_ 1 أوردنا قبل قليل آيات هذا المثل كاملة، وشرحناها شرحا تربويا.

رابعا: التربية بالقدرة

رابعًا: التربية بالقدرة ... رابعًا: التربية بالقدوة: 1- الحاجة إلى القدوة: أ- مهما يكن من أمر إيجاد منهج تربوي متكامل، ورسم خطة محكمة لنمو الإنسان، وتنظيم مواهبه وحياته النفسية والانفعاليه، والوجدانية والسلوكية واستنفاد طاقاته على أكمل وجه. مهما يكن من ذلك كله، فإنه لا يغني عن وجود واقع تربوي يمثله إنسان مرب يحقق بسلوكه وأسلوبه التربوي، كل الأسس والأساليب والأهداف التي يراد إقامة المنهج التربوي عليها. لذلك بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، ليكون قدوة للناس يحقق المنهج التربوي الإسلامي: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 33/ 21] . ولقد سئلت عائشة رضي الله عنها، عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: "كان خلقه القرآن"1. ب- وحقا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بشخصه، وشمائله وسلوكه وتعامله مع الناس، ترجمة عملية بشرية حية لحقائق القرآن وتعاليمه، وآدابه وتشريعاته، ولما فيه من أسس تربوية إسلامية، وأساليب تربوية قرآنية2. ج- ولقد فطر الناس على افتقاد القدوة والبحث عن الأسوة، ليكون لهم نبراسا يضيء سبيل الحق، ومثالا حيا يبين لهم كيف يطبقون شريعة الله، لذلك لم يكن لرسالات الله من وسيلة لتحقيقها على الأرض إلا إرسال الرسل، يبينون للناس ما أنزل الله من شريعة قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ، بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 16/ 43-44] . د- وتتجلى هذه الفطرة عند الناس في مواقف غريبة عليهم، لم يألفوها بل ربما ألفوا غيرها، كما حصل عندما أراد الله لرسوله أن يتزوج امرأة زيد، الذي كان

_ 1 محمد قطب - منهج التربية الإسلامية. 2 محمد قطب - منهج التربية الإسلامية.

رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تبناه، ليبين للناس عمليا أن زيدًا ليس له شيء من حقوق النبوة الطبيعية أو تشريعاتها، قال تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [الأحزاب: 33/ 37] . هـ- كما تتجلى في المواقف التي تحتاج إلى التضجية، كالحروب والإنفاق ونحو ذلك، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغزوات يتقدم الصحابة، أو يوجههم من مركز القيادة، وكان في غزوة الخندق يربط الحجر على بطنه، ويحفر الخندق مع الصحابة، ويرتجز مثل ما يرتجزون، فكان مثالا للمربي القدوة يتبعه الناس ويعجبون بشجاعته وصبره. وكان قدوة في حياته الزوجية، والصبر على أهله وحسن توجيههن، فقال: "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي" 1. وكان قدوة في حياته الأبوية وفي حسن معاملته للصغار ولأصحابه، ولجيرانه وكان يسعى في قضاء حوائح المسلمين، وكان أوفى الناس بوعده، وأشدهم ائتمانا على الودائع، وأكثرهم ورعا وحذرا من أكل مال الصدقة، أو الاقتراب مما استرعاه الله من أموال المسلمين. وكان أفضل داعية إلى الله يصبر على الشدائد الناجمة عن كيد أعداء الله، وأعداء الفضيلة وتواطئهم، وكان حازما لا يفقد حزمه في أشد المواقف هولا وهلعا وجزعا؛ لأن ملجأه إلى الله يستلهم من القوة، والصبر: وموقفه من ثقيف في الطائف عندما ذهب لدعوتهم خير دليل على ذلك2. 2- التطبيقات التربوية: يلاحظ من الناحية العلمية أن للقدوة آثارا، وأسسا تربوية أهمها: أ- أن حياة المربي المسلم هي حياة الداعية إلى الله، يحتاج أن يكون قدوة أمام طلابه، يسارع إلى المفاداة والتضحية، ويمتنع عن سفاسف الأمور.

_ 1 رواه ابن حبان، عن عائشة رضي الله عنها، الترغيب والترهيب، 2/ 8، ط دار إحياء الكتب العربية بمصر. 2 سيرة ابن هشام، وكتب الحديث والتفسير.

فالطفل لا بد له من قدوة في أسرته، ووالديه لكي يتشرب منذ طفولته المبادئ الإسلامية، وينهج على نهجها الرفيع. والتلميذ في المدرسة لا بد له من قدوة يراها في كل معلم من معلميه، أو مدرس من مدرسيه، ليقتنع حقا بما يتعلمه، وليرى فعلا أن ما يطلب منه من السلوك المثالي أمر واقعي ممكن التطبيق، وأن السعادة الحقيقية الواقعية لا تكون إلا في تطبيقه. فلا بد للأب والمعلم -وكلاهما مرب- من التحلي بأفضل الأخلاق يستلهمانها من القرآن، ومن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويصبران على تطبيقها والتحلي بها. ب- وقد جعل الإسلام القدوة الدائمة لجميع المربين شخصية الرسول، قدوة متجددة على الأجيال، متجددة في واقع الناس "كلما قرآنا أخباره ازددنا حبا له واقتداء به". والإسلام لا يعرض هذه القدوة للإعجاب السالب، والتأمل التجريدي في سبحات الخيال. إنه يعرضها عليهم ليحققوها في ذوات أنفسهم: كل بقدر ما يستطيع أن يقتبس، وكل بقدر ما يصبر على الصعود. وهكذا تظل القدوة في الإسلام، شاخصة ماثلة للعيان تتدفق حيويتها، ولا تتحول إلى خيال مجرد تهيم في حبه الأرواح، دون تأثير واقعي؛ ولعل الحكمة في ذلك ما أودعه إله في طبيعة النفس الإنسانية من استعداد للمحاكاة. 3- الأسس النفسية لاتخاذ القدوة: التقليد: إن حاجة الناس إلى القدوة نابعة من غريزة تكمن في نفوس البشر أجمع هي التقليد، وهي رغبة ملحة تدفع الطفل والضعيف، والمرءوس إلى محاكاة سلوك الرجل والقوي والرئيس، كما تدفع غريزة الانقياد في القطيع جميع أفراده إلى اتباع قائده، واقتفاء أثره. ولكن التقليد الغريزي في القطيع، أحد أنواع التقليد، ويرتقي التقليد بارتقاء المجتمع، حتى يبلغ في التربية الإسلامية ذروته من الوعي، والسمو والهدف النبيل، ويتضح لنا ذلك إذا عرفنا عناصر التقليد وأسسه.

فالتقليد يرتكز على ثلاثة عناصر: أولها الرغبة في المحاكاة والاقتداء، فالطفل أو الفني مدفوع برغبة خفية لا يشعر بها، نحو محاكاة من يعجب به في لهجة الحديث، وأسلوب الحركة والمعاملة والكتابة، ومعظم عادات السلوك، دون أن يقصد، وهذا التقليد غير المقصود لا يقتصر على حسنات السلوك، بل قد يتعداها إلى غيرها، فالشخص المتأثر يتقمص، عن طريق لا شعوري، شخصية المؤثر كلها أو جلها، ولذلك كان من الخطورة بمكان ظهور المساوئ في سلوك القدوة؛ لأنه بذلك يحمل وزر من يقلده فيها. لذلك نبه القرآن الآباء إلى أن الاستمتاع بالأطفال، والحنان والعطف عليهم، يجب ألا يشغلهم عن أن يكونوا قدوة صالحة لهم، فقال في وصف عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 25/ 74] ، فوصف عباد الرحمن بأنهم يرغبون في أن تقر أعينهم بالزواج، والولد كما يرغبون في أن يكونوا قدوة وإماما. كما نبه رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم البشرية عموما إلى ما يتحمله كل من يؤثر في سلوك الآخرين، من النتائج حين يقلدونه بخير أو شر، قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه أبو عمر، وجرير بن عبد الله: "من سن في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها من عمل بها إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أوزارهم شيء". وقد كان سبب ورود الحديث أنه جاء قوم مجتابي النمار يبدو عليهم الفقر، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة ليتصدقوا فلم يتقدم أحد، فأعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم الدعوة، حتى قال صحابي: فجاء بوسق من تمر، ثم قلده الصحابة، فتتابعوا يجلبون مما عندهم فذكر الحديث1.. العنصر الثاني الاستعداد للتقليد: فلك مرحلة من العمر استعدادات، وطاقات محدودة لذلك لم يأمر الإسلام الأطفال بالصلاة قبل سبع سنين، ولا يمنع ذلك من

_ 1 رواه مسلم، رياض الصالحين ص93.

ترك الطفل يقلد أبويه بحركات الصلاة قبل أن يبلغ سبع سنين، ولكن لا يؤمر بكل أذكارها. وعلى العموم يجب أن نحسب حسابا لاستعداد الطفل، وطاقاته عندما نطلب منه تقليد أحد أو الاقتداء به. ومن الظروف التي تهب الناس عموما استعدادا للتقليد، والأزمات والآلام الاجتماعية والكوارث، هناك يخرج المجتمع مهيض الجناح، فيفتقد القائد القدوة ليجد فيه أبا عطوفا، وبطلا منقذا يحاكيه الناس في كل سلوك من حياته النفسية والاجتماعية، وفي آرائه وأفكاره ومن تلك الأسباب: الشعور بالضعف أمام القوة، فالمغلوب يقلد غالبه بعد أن يستكين ويخضع لحكمه، والمرءوس يقلد رئيسه والطفل يقلد أباه، وقد نبه ابن خلدون على هذا المبدأ في مقدمته، وذكر أدلة ووقائع تاريخية على ذلك، بيد أن الرسول صلى الله عليه وسلم حذرنا من مغبة هذا التقليد إذا كان بغير هدف، وكانه انكشف له حجب الغيب، فتوقع الضعف الذي سينزل بهذه الأمة، فقال: "لتتبعن سنن من قبلكم شبرا وذراعا بذراع..". العنصر الثالث من عناصر التقليد: الهدف. لكل تقليد هدف قد يكون معروفا لدى المقلد وقد لا يكون، والهدف الحيوي "الغامض"1 الأول من غريزة التقليد، والانقياد لدى الأطفال، والجماعات هو غرض دفاعي، إنه الدفاع عن الكيان الفردي وكأنه انضواء في ظل الشخص القوي المرموق، يقلده شخص أضعف منه، لعله يستمد من هذا التقليد قوة وبأسا، من جنس قوة الشخص الذي حاز إعجابه فراح يحاكيه في كل شيء. فإذا ارتقى الوعي عند المقلد، عرف الهدف من التقليد، فأصبح هذا التقليد عملية فكرية، يمزج فيها بين الوعي والانتماء، والمحاكاة والاعتزاز، ويصبح لهذا بصيرة أي معرفة بالغاية والأسلوب، وفي هذا المعنى يقول اله تبارك وتعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 12/ 108] .

_ 1 أي الذي قد لا يشعر به الطفل أو الحيوان.

فيعرف الناشئ، أن في تقليد قادة المسلمين الأوائل: الفلاح والقوة والبأس وطاعة الله، ويدعو الله في كل صلاة أن يرزقه الاقتداء بهم: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 1/ 6-7] . 4 - الأشكال التربوية للقدوة: ينتقل تأثير القدوة إلى المقتدي على أشكال أهمها: 1- التأثير العقوي غير المقصود: وهنا يقوم تأثير القدوة على مدى اتصافه بصفات تدفع الآخرين إلى تقليده، كتفوقه بالعلم، أو الرئاسة، أو الإخلاص، أو.. وفي هذه الحال يكون تأثير القدوة عفويا غير مقصود، وهذا يعني أن على كل من يرجو أن يكون قدوة، أن يراقب سلوكه، ويعلم أنه مسئول أمام الله في كل ما يتبعه الناس، أو يقلده المعجبون، وكلما ازداد حذرًا وإخلاصًا ازداد الإعجاب به، فتزداد فائدته، وأثره الطيب في النفوس. 2- التأثير المقصود: على أن تأثير القدوة قد يكون مقصودا. فيقرأ المعلم قراءة نموذجية ليقلده الطلاب، ويجود الإمام صلاته ليعلم الناس الصلاة الكاملة، ويتقدم القائد أمام الصفوف في الجهات ليبث الشجاعة، والتضحية والإقدام في نفوس الجند وهكذا. وقد تعلم الصحابة كثيرًا من أمور دينهم بطلب من رسول الله أن يقتدوا به، فكان يقول لهم: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، رواه البخاري1 وكان يأمرهم في الحج أن يقتدوا به قائلا: "خذوا عني مناسككم"، ثم كان الصحابي يقول للتابيعين: ألا أصلي لكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وصلى صلى الله عليه وسلم على المنبر2 "وفي رواية: أنه ذو ثلاث درجات" "فقام عليه" فكبر، وكبر الناس وراءه وهو على المنبر "ثم ركع وهو عليه"، ثم رفع فنزل القهقري حتى سجد في أصل المنبر، ثم عاد، "فصنع فيها كما صنع في الركعة الأولى" حتى فرغ من آخر صلاته، ثم أقبل على الناس فقال: "يا أيها الناس إني صنعت هذا لتأتموا بي، ولتعلموا صلاتي" 1. وروى البخاري ومسلم أنه كان صلى الله عليه وسلم يسمعهم الآية أحيانا "في صلاة الظهر مع أنها سرية"، و"كانوا يسمعون منه النغمة بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 87/ 1] و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَة} [الغاشية: 88/ 1] 2. وهكذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم رائد التربية الإسلامية أن يقصد المربي إلى تعليم طلابه بأفعاله، وأن يلفت نظرهم إلى الاقتداء به؛ لأنه إنما يقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يحسن صلاته وعبادته، وسلوكه بهذا القصد، فيكسب ثواب: "من سن سنة حسنة" إلى يوم القيامة.

_ 1 صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، من التكبير إلى التسليم كأنك تراها، تأليف محمد ناصر الدين الألباني ص72 الطبعة التاسعة؟ المكتب الإسلامي. 2 صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، من التكبير إلى التسليم كأنك تراها، تأليف محمد ناصر الدين الألباني ص72 الطبعة التاسعة؟ المكتب الإسلامي.

خامسا: التربية بالممارسة والعمل

خامسا: التربية بالممارسة والعمل 1- أهمية العمل في الإسلام: لم يكن الإسلام دينا كهنوتيا مقتصرا على الطقوس والطلاسم؛ أي الألفاظ الفخمة التي لا يعرف المتدين معناها. بل هو، كما يلاحظ القارئ لهذا الكتاب في مباحثه الأولى، دين قوم على علاقة متينة بين الإنسان، وربه خالق الأكوان، وهو دين يطالبنا بالأعمال الصالحة التي يرضاها الله، كما يطالبنا أن نوجه كل سلكونا وغرائزنا، وحياتنا توجيها يحقق الآداب، والتشريعات الإلهية تحقيقا عمليا. ذلك أن الكائن البشري مكون من روح وجسد، والإسلام أقام توازنا بين الروح والجسد، بين الواقع البشري والاجتماعي، والأهداف والتشريعات الإلهية المثالية،

_ 1 رواه البخاري ومسلم، والرواية الأخرى "ألفاظها بين قوسين كبيرين" لمسلم وابن سعد، 1/ 253. 2 كما روى ابن خزيمة في صحيحه 1/ 67/ 2، والضياء المقدسي في المختارة بسند صحيح، صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم من التكبير إلى التسليم كأنك تراها، تأليف محمد ناصر الدين الألباني ص112، الطبعة التاسعة، المكتب الإسلامي.

فهو يترجم هذه الأهداف دائمًا إلى سلوك عملي يحقق متطلبات الطبيعة البشرية، ومقتضيات الشريعة الإلهية في وقت معا. لذلك كان لأعمال الإنسان الكاملة الأولى في نجاته من عقاب الله يوم الحساب، وكان من شرار الناس الذي يعلم ولا يعمل بعلمه، عن أسامة بن زيد رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتابه، فيدور بها كما يدور الحمار برحاه، فيجمع أهل النار عليه فيقولون: يا فلان ما شأنك؟ ألست كنت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن الشر وآتيه"، قال: وإني سمعته يعني النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "مررت ليلة أسري بي بأقوام تقرض شفاههم بمقاريض من نار: قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: خطباء أمتك الذي يقولون ما لا يفعلون" 1. وقد حكي عن بعض علماء السلف أن العلم ينقص، أو ينسى بترك العمل به أو الدعوة إليه أو نشره، ويزداد متانة بالعمل به، والدعوة إليه وتعليم الناس، وهذه حقيقة من حقائق التربية، وعلم النفس التي أثبتتها تجربة هذه العلوم، وقد سبق إليها الإسلام بقرون عديدة. فمن البدهي أن التعليم بالأسلوب العملي، أو بقصد التطبيق، أوقع في النفس وأدعى إلى إثبات العلم، واستقراره في القلب والذاكرة. أما التعلم بقصد التطبيق فقد ثبت لنا من هذه المقدمة، أنه شرط من شروط صحة العلم وقبوله عند الله، وهذا القصد يجعل تصور الطالب للأمور التي يتعلمها أوسع تفصيلا، وأعمق أثرا في نفسه، وأقرب إلى الفائدة في الحياة. التطبيق التربوي: يتضح لنا من هذه المقدمة أن على المربي دائما أن يربي طلابه على أن يعتزموا أن يحققوا في حياتهم ما يدرسهم إياه، وأن يلقي إليهم بأسئلة من واقع الحياة، ليتأكد كيف سيطبقون علمهم في مواقف معينة من حياتهم الفردية، والاجتماعية، ويكرر هذا

_ 1 رواه البخاري ومسلم واللفظ له، والترغيب والترهيب 1/ 61، باب الترهيب: من أن يعلم ولا يعمل بعلمه، لعبد العظيم المنذري المتوفى 656هـ، ط دار إحياء الكتب العربية بمصر لعيسى البابي الحلبي.

في كل درس جديد يلقيه عليهم، وأن على مؤلفي الكتب المدرسية أن يضعوا عددا من هذه الأسئلة التطبيقية، في أعقاب كل بحث. 2- التعليم بالأسلوب العملي: بالممارسة والتكرار: كان من أسلوب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلم الصحابة بالممارسة العملية، وقد رأينا في بحث "التربية بالقدوة" كيف صلى على المنبر والصحابة يصلون خلفه، ثم قال لهم: إنما فعلت ذلك لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي. ومن الأدلة على هذا الأسلوب النبوي حديث المسيء صلاته: عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رجلًا دخل المسجد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في ناحية المسجد فصلى، ثم جاء فسلم عليه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وعليك السلام، ارجع فصل، فإنك لم تصل"، فصلى ثم جاء فسلم، فقال: "وعليك السلام، ارجع فصل، فإنك لم تصل" فقال في الثانية أو في التي تليها: "علمني يا رسول الله" 1، فقال: "إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة، فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع حتى تستوي قائما، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها"، رواه البخاري ومسلم، ثم قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: "فإذا فعلت ذلك فقد تمت صلاتك، وإن انتقصت من هذا فإنما انتقصته من صلاتك". وهذه الزيادة في رواية لأبي دواد. ومن البدهي أن الصحابي عاد فصلى كما علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقرينة تكرار صلاته قبل ذلك، وتلهفه على التعلم، ولكن رواة الحديث اكتفوا بإرضاء رغبتهم في وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة كما يجب أن تصلي، ويؤخذ من هذا الحديث من الناحية التربوية نتائج أهمها: أ- تشويق الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا المتعلم. ب- وتركه يحاول تصحيح خطئه بنفسه أو يعجز فيسأل، وهذا أصل انبثق عنه أسلوب "التعلم بالمحاولة والخطأ"، كما يسمونه في التربية الحديثة.

_ 1 وفي رواية لمسلم: "والذي بعثك بالحق ما أحسن غير هذا فعلمني"، وقد نقلت الحديث من كتاب الترغيب والترهيب لعبد العظيم المنذري ت656هـ، دار إحياء الكتب العربية بمصر لعيسى البابي الحلبي.

ج- أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبين له الصلاة الصحيحية حتى سأل عنها بنفسه، فكان هذا الأسلوب أوقع في نفس المتعلم، وأدعى إلى قبوله، وانطباع أعمال الصلاة في ذاكرته. ومن التعلم بالعمل والممارسة: تعلم الصحابة وضوء الرسول صلى الله عليه وسلم، وتصحيح الرسول لهم أو تصحيح بعضهم لبعض، وقد نقلت إلينا كتب الحديث جانبا من هذه الأساليب التربوية، منها على سيل المثال عن عثمان بن عفان: أنه دعا بماء فتوضأ، ثم ضحك فقال لأصحابه: ألا تسألونني ما أضحكني؟ فقالوا: ما أضحكك يا أمير المؤمنين؟ قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ كما توضأت ثم ضحك، فقال: "ألا تسألونني ما أضحكني"، فقالوا: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: "إن العبد إذا دعا بوضوء فغسل وجهه، حط الله عنه كل خطيئة أصابها بوجهه، فإذا غسل ذراعيه كان كذلك، وإذا طهر قدميه كان كذلك". رواه أحمد بإسناد جيد، وأبو يعلى، ورواه البزار بإسناد صحيح وزاد فيه1، "فإذا مسح رأسه كان كذلك". وفي هذا الحديث قول عثمان: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ كما توضأت"، وهذا هو التعليم بالمتابعة والعمل والممارسة والاقتداء العملي. وفيه أيضا تمثيل عملي للناحية العاطفية: أي تمثيل أقوال الرسول، وانفعالاته كالضحك، وقد يتابع الصحابي على ذلك سائر الرواة، فيضحك كل راو ليقول لتلاميذه الرواة: "ألا تسألوني ما أضحكني؟ " ويتوضأ أمامهم ليقول لهم: رأيت فلانا توضأ وقد رأى فلانا توضأ.. كما توضأ رسول الله.. وهذا النقل لحركات الرسول راويا عن راو قد جمعت فيه أحاديث سميت بالأحاديث المسلسلة2. فهذا أسلوب من أساليب التربية الإسلامية، ترك أثره واضحا عند بعض علماء الحديث، فلم يكتفوا بحكاية أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم بل قلدوا لنا أعماله وحركاته. وفيه عبرة للمربي، وأن عليه أن يتوضأ، مثلا، أمام طلابه وضوءا سابغا وهم

_ 1 نقلت الحديث من الزيادة من الترغيب والترهيب لعبد العظيم المنذري 1/ 77، ط دار إحياء الكتب العربية بمصر. 2 منها للشيخ عبد الحي الكتاني ولغيره.

ينظرون إليه "وقد طالبهم مسبقا بالانتباه ليرى أيهم سيكون أشد تقليدا لوضوئه، أو وصفا له"، ثم يطلب منهم أن يتوضئوا مثل وضوئه، أو يصفوا جميع حركاته، وفي هذا اقتداء بأسلوب من أساليب التربية الإسلامية، نقل إلينا عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوجيه منه. 3- الطريقة العملية للاستحفاظ: أما الأدعية الضرورية وآيات القرآن، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمها للصحابة تعليما عمليا، فيرددها الصحابي أمام الرسول، بطريقة الترديد والتسميع بقصد التصحيح، وفي ذلك ورد حديث في تعليم كلمات تقال قبل النوم: عن البراء بن عازب قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أتيت لمضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن، ثم قل: "اللهم إني إسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت"، فإن مت من ليلتك فأنت على الفطرة، واجعلهن آخر ما تتكلم به"، قال: فرددتها على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما بلغت: آمنت بكتابك الذي أنزلت قلت: "ورسولك" قال: "لا، ونبيك الذي أرسلت" 1. وأما تعليم القرآن، فقد أشار إليه الصحابي الجليل جابر بن عبد الله في حديث تعليم الاستخارة: قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن يقول لهم: إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: "اللهم إني أستخيرك بعلمك ... الحديث"2. والشاهد قول جابر: "كما يعلمنا السورة من القرآن"، فدل على أن التعليم القرآن أسلوبا نبويا خاصًّا، ولم أقف على تفاصيل عملية لهذا الأسلوب، ولكن بعض علماء القرآن والقراءات حاولوا، وإليك صورة من هذه المحاولة: قال الإمام جلال الدين السيوطي في كتاب الإتقان في علوم القرآن "النوع الرابع والثلاثون في كيفية تحمله"، أي القرآن 3: اعلم أن حفظ القرآن فرض عين على الأمة، والمعنى فيه ألا

_ 1 رواه البخاري ومسلم، والترمذي، والنسائي، الترغيب والترهيب، 1/ 177، ط عيسى البابي الحلبي. 2 رواه البخاري، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، الترغيب والترهيب 1/ 211. 3 الإتقان في علوم القرآن، الإمام جلال الدين السيوطي، 1/ 171، ط مكتبة محمد توفيق 1941 بالقاهرة.

ينقطع عدد التواتر فيه، فلا يتطرق إليه التبديل والتحريف، وتعليمه أيضا فرض كفاية، وهو أفضل القرب. وأوجه التحمل "أي أساليب التعلم، وطرق نقل الحديث" عند أهل الحديث: "السماع من لفظ الشيخ والقراءة عليه، والسماع عليه بقراءة غيره، والمناولة والإجازة والمكاتبة، والعرضية والإعلام والوجادة"، فأما غير الوجهين الأولين فلا يأتي هنا "أي في تحمل، أو تعلم القرآن" لما يعلم مما سنذكره، وأما القراءة على الشيخ، فهي المستعملة سلفا وخلفا، وأما السماع من لفظ الشيخ، فيتحمل أن يقال به هنا؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم إنما أخذوا القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لم يأخذ به أحد من القراء، والمنع فيه ظاهر؛ لأن المقصود هنا كيفية الأداء، وليس كل من سمع من لفظ الشيخ يقدر على الأداء كهيئته، بخلاف الحديث فإن المقصود فيه المعنى، أو اللفظ لا بالهيئات المعتبرة في أداء القرآن، وأما لصحابة فكانت فصاحتهم، وطباعهم السليمة تقتضي قدرتهم على الأداء كما سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه نزل بلغتهم، ومما يدل للقراءة على الشيخ: عرض النبي صلى الله عليه وسلم القرآن على جبريل في رمضان كل عام، ويحكى أن الشيخ شمس الدين بن الجزري لما قدم القاهرة، وازدحمت عليه الخلق لم يتسع وقته لقراءة الجميع، فكان يقرأ عليهم الآية، ثم يعيدونها عليه دفعة واحدة، فلم يكتف بقراءته، وقد كان الشيخ علم الدين السخاوي يقرأ عليه اثنان وثلاثة في أماكن مختلفة، ويرد على كل منهم؛ أي يصحح خطأهم إذا أخطئوا، ويؤخذ من كلام السيوطي أنه لا يجوز تحمل القرآن؛ أي تعلمه بقصد تبليغه على أنه كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا بأسلوب من ثلاثة: وذلك: عند قراء القرآن: أ- أن يسمع المتعلم ويرد القراءة بعد السماع ليصحح له الشيخ إذا أخطأ، فيتقن بذلك أداء القرآن، وترتيله وتجويده ومخارج حروفه. ب- أن يسمع المتعلم من الشيخ، ويكتفي بالسماع إلا إذا شك المتعلم بقدرته على أداء جملة، فيستوقف الشيخ ليقرأها عليه. ج- أن يقرأ المتعلم ويسمع له الشيخ، ثم يصحح له إذا أخطأ.

4- الأثر النبوي للتعليم بالعمل، والممارسة: يربي هذا الأسلوب في النفس أخلاقًا تجعل حياة لفرد أكثر استقامة، وسعادة، وتجعل المجتمع أشد تماسكا، وأكبر إنتاجا منها: أ- الإتقان العملي خير مقياس للتعلم، سواء في ذلك الاستحفاظ، أو أداء العبادات، لذلك كان من نتائج هذا الأسلوب: تعود الدقة وتوخي صحة النتائج، فكل متعلم يمارس العمل أمام معلمه، أو كل معلم يمارس العمل ثم يتابعه المتعلم، ثم يناظره المعلم ويصحح له أخطاءه كما صحح رسول الله صلى الله عليه وسلم لفظ دعاء النوم للبراء بن عازب، وكما صحح صلاة المسيء صلاته. ب- شعو الإنسان بالمسئولية عن صحة العمل، وهذا يجعل منهجية التربية الإسلامية منهجية حركية فكرية عاطفية مبنية على الوعي، والدقة صحة الأداء. فالدقة في العواطف، والاتجاهات والأفكار، تتجلى في إخلاص النية وتوجيه العمل نحو إرضاء الله جل جلاله بلا رياء، ولا استكبار ولا استهتار. تواكبها الدقة في حركية العمل أو لفظية الدعاء، فلا تقبل العبادات إلا ضمن منهجية حركية لفظية معينة وصفها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونقلها لنا الصحابة فالتابعون، فالأئمة الأربعة فالفقهاء المتأخرون إلى يومنا هذا. وقد جمع بين الأمرين في بلاغة، وإيجاز قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 18/ 110] . وقد فسر الصحابة والتابعون: "الصلاح"؛ بموافقة السنة، وعدم الشرك في العبادة؛ بعدم الرياء، وبإخلاص النية لله تعالى في العبادة. ج- التواضع وحب العمل واستبعاد الغرور، وترك الكسل والتواكل، فكل إنسان مؤاخذ بعمله، لا يغني عنه نسب، ولا جاه، ولا مال، ولا مجرد الانتساب إلى ملة أو دين معين. وقد تفاخر أفراد من اليهود، وأفراد من النصارى، وأفراد من مشركي قريش،

وأفراد من المسلمين، فقال المشركون: "إنا لا نبعث"، وقال كل من أتباع الأديان "نحن أفضل"، فنزل قوله تعالى1: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا، وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [النساء: 4/ 123-1242] 2، أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس، وابن جرير عن مسروق، وعن قتادة والضحاك، والسدي وأبي صالح. د- شدة الاقتناع، وبلوغه أعماق النفس: أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطي الصحابة درسا عمليا في ترك التسول، والاعتماد على النفس في كسب الرزق، فقص علينا أنس رضي الله عنه ذلك بقوله: إن رجلا من الأنصار أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فسأله، فقال: "أما في بيتك شيء؟ " قال: "بلى حلس نلبس بعضه ونبسط بعضه، وقعب نشرب فيه الماء" قال: "ائتني بهما" فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، وقال: "من يشتري هذين؟ " قال رجل: "أنا آخذهما بدرهمين"، فأعطاهما إياه وأخذ الدرهمين، وأعطاهما الأنصاري، وقال: "اشتر بأحدهما طعاما فانبذه إلى أهلك، واشتر بالآخر قدوما فأتني به"، فأتاه به فشد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عودا بيده، ثم قال: "اذهب فاحتطب وبع، لا أرينك خمسة عشر يوما"، ففعل فجاء وقد أصاب عشرة دراهم فاشترى ببعضها ثوبا وببعضها طعاما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة" 3. فهذا الدرس لا ينساه الأنصاري، ولا جميع الصحابة الذين رأوا صنع رسول الله معه؛ لأنهم رأوا النتائج الطيبة للعمل بأعينهم بشكل واقعي. فعلى المربي أن يقتدي بهذا الأسلوب ما استطاع إلى ذلك سبيلا.

_ 1 تفسير ابن كثير، 1/ 557، ط دار الفكر - بيروت. 2 أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عابس، وابن جرير عن مسروق، وعن قتادة والضحاك، والسدي، وأبي صالح. 3 رواه أبو داود والبيهقي بطوله، واللفظ لأبي دواد الترغيب والرهيب من الحديث لعبد العظيم المنذري 1/ 254-255، ط دار إحياء الكتب العربية بمصر.

سادسا: التربية بالعبرة والموعظة

سادسًا: التربية بالعبرة والموعظة التربية بالعبرة ... سادسا: التربية بالعبرة والموعظة كثيرا ما تسعمل هاتان الكلمتان، وكأنهما لفظان مترادفان. وقد بحثت عنهما في معاجم اللغة وآيات القرآن، فوجدت بينهما اختلافا في المعنى، ولاحظت أن لكل منها نتائج تربوية خاصة بها، عدا النتائج المشتركة؛ لذلك أثرت أن أبحث كلا منهما على انفراد. 1- التربية بالعبرة: آ- المعنى اللغوي والقرآني: العبرة على وزن فِعْلة، وهو وزن مصدر من مصادر "عبر" الرؤيا؛ فسرها وعرف ما تئول إليه في حياة صاحبها أو بعد موته، وعبر الوادي أن النهر تجاوزه من طرف إلى طرف يقابله، قال الراغب1: واصل العبر: تجاوز من حال إلى حال، فأما العبور فيختص بتجاوز الماء، وفي تفسر سورة يوسف2 "والاعتبار والعبرة: الحالة التي يتوصل بها من معرفة المشاهد إلى ما ليس بمشاهد، والمراد منه التأمل والتفكير"، فالعبرة والاعتبار حالة نفسية توصل الإنسان إلى معرفة المغزى والمآل لأمر ما، يشاهده الإنسان ويتبصر فيه، ويقوم باستقرائه وموازنته ومقايسته، ومحاكمته محاكمة عقلية، فيصل إلى نتيجة مؤثرة يخشع لها قلبه، فيدفعه ذلك إلى سلوك فكري واجتماعي مناسب، والغاية التربوية من العبرة في القرآن العظيم الوصول بالسامع إلى قناعة فكرية بأمر من أمور العقيدة، تحرك في القلب أو تربي عواطف ربانية كما تغرس، وتثبت وتنمي عقيدة التوحيد، والخضوع لشرع الله والانقياد لأوامره. ب- أنواع العبر في القرآن والسنة: اختلفت أساليب الاعتبار في القرآن الكريم، والسنة المطهرة باختلاف موضوع العبرة، وها هي ذي أهم الموضوعات الباعثة على التأمل والاعتبار:

_ 1 ص154 تفسير سورة يوسف بقلم السيد محمد رشيد رضا، وقد طبع مستقلا وأضيف إلى نهاية الجزء 12 من تفسير المنار. 2 ص154 تفسير سورة يوسف بقلم السيد محمد رشيد رضا، وقد طبع مستقلا، وأضيف إلى نهاية الجزء 12 من تفسير المنار.

أ- الاعتبار بالقصص: لكل قصة قرآنية أو نبوية، كما رأينا، هدف تربوي رباني سيقت من أجله، والعبرة بالقصة إنما يتوصل إليها صاحب الفكر الواعي، والذي لا يطغى هواه على عقله وفطرته، بل يستنبط من القصة المغزى الحق وفي ذلك يقول الله تعالى بعد ذكر قصة يوسف: {فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 12/ 111] . "ووجه الاعتبار بهذه القصة: أن الذي قدر على إنجاء يوسف بعد إلقائه في الجب، وإعلائه بعد وضعه في السجن، وتمليكه مصر بعد أن بيع بيع العبيد بالثمن الخسيس، والتمكين له في الأرض من بعد ذلك الإسار، والحبس الطويل وإعزازه على من بغاه سوءا من إخواته، وجمع شمله بهم وبأبويه على ما أحب بعد المدة الطويلة، والمجيء بهم من الشقة النائية البعيدة. إن الذي قدر على ذلك كله أيها الناس!! لقادر على إعزاز محمد صلى الله عليه وسلم، وإعلاء كلمته وإظهار دينه فيخرجه من بين أظهركم ثم يظهره عليكم، ويمكن له في البلاد ويؤيده بالجند والرجال والأتباع والأصحاب، وإن مرت به الشدائد، وأتت دونه الأيام والليالي والحوادث. وإنما قال: {لِأُولِي الْأَلْبَاب} ، وهم أصحاب العقول الراجحة؛ لأن أهل البصيرة والروية من العقلاء، هم الذين يعتبرون بعواقب الأمور التي تدل عليها أوائلها، ومقدماتها بعد التأمل في صفاتها وحقيقتها، وأما الأغرار الغافلون، والظالمون المعاندون فلا يمرنون عقولهم على الاستقلال في النظر الاعتبار بما جرى على الأفراد والأمم، فلا يفيدهم النصح والتذكير، ولا سوء العاقبة والمصير"1. التعليق التربوي: تهتم التربية الإسلامية إذن، بالعبرة من القصة، وبهذه العبرة تربي عند الناشئ الأخلاق الإسلامية والعواطف الربانية، ولما كانت العبرة إنما تواتي أصحاب

_ 1 تفسير سورة يوسف للسيد رشيد رضا ص154-155، ط مطبعة المنار بمصر.

العقول الراجحة كان على المربي أن يوقظ في نفوس الطلاب التأمل، ويعودهم التفكير السليم: 1- فيطرح عليهم عددا من الأسئلة المهيأة لهذه الغاية، لتتوصل عقولهم الغضة إلى العبرة، م كل قصة قرآنية، بعد أن يكون هو قد استوعبها، أو درسها في كتب التفسير. 2- ثم يطرح عليهم أسئلة أخرى يستشف بها انطباعاتهم، وعواطفهم نحو القصة أو نحو مواقف معينة من القصة، فيربي بذلك عواطفهم الربانية. 3- ثم يطرح عليهم أسئلة تطبيقية، يقارن بها بين مواقف من القصة، ومواقف من حياة الطلاب أو المجتمع، ليربي عندهم الإرادة الخيرة، والنزوع إلى تحقيق الأخلاق القرآنية في سلوكهم وحياتهم، كالصبر على الشدائد، في سبيل الدعوة إلى الله كما يؤخذ من قصة يوسف وغيره من الرسل، عليهم السلام والتعفف عن الشهوات المحرمة، ونحو ذلك. ب- العبرة بمخلوقات الله ونعمه: التي سخرها للإنسان، ومنها قوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ، وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [النحل: 16/ 66-67] . ولما كانت العبرة مبنية على تفكير عميق، وملاحظة دقيقة، أمكننا أن نعرف الحكمة الربانية من الإشارة إلى أمور تثير الدهشة وتدعو التأمل، من عجائب صنعه تعالى فيما أنعم علينا، كما أشار هنا إلى اللبن الأبيض الخالص من كل الشوائب، والأوساخ مع أنه مستخلص "من بين فرث ودم"، وأشار أيضا إلى ثمرات النخيل والأعناب، التي تستخلص غذاءها من الماء والتراب، وتعطي الإنسان بقدرة الله "سكرا ورزقا حسنا"، فيخزنها ويحتفظ بها على مدى أيام السنة بجميع فصولها، ويستخلص منها المادة السكرية التي تشكل نصف غذاء البشرية في بعض القارات أو الأقطار. وإثارة انفعال الدهشة، والتعجب من لوازم العبرة، لذلك فسر صاحب القاموس

العبرة بما يفيد هذا المعنى حيث قال: ".. والعبرة بالكسر: العجب، واعتبر منه: تعجب". ولكن المربي لا يقف عند هذا الانفعال بل يجب أن يحوله إلى عاطفة الخشوع لله وإجلاله، وتسبيحه وتكبيره، وهذا نتيجة طبيعية للتعجب من قدرة الله. وقد استعان القرآن على إثارة هذه الانفعالات بأسلوب الحوار، والاستفهام وقد مر معنا في بحث "الحوار العاطفي". التوجيه التربوي: يجب على المربي أن يمرن عقول الطلاب على تأمل عجائب صنع الله، وخاصة ما يحيط بنا ونراه كل يوم أو نعيش في كنفه، من دلائل حكمة الله ودقة صنعه كالغلاف الجوي يحيط بالكرة الأرضية، فتهيأ به للنبات والحيوان، وللإنسان أسباب الحياة، وكالرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض، وأن يناقشهم ويستجوبهم حول هذه الأمور بأسئلة محكمة معدة لهذا الغرض، يتوصلون بها تلقائيا إلى الاعتراف بوحدانية الله وألوهيته، وقدرته وحكمته وسائر صفاته العليا وأسمائه الحسنى، مما هو مبثوث في القرآن والسنة، ومما نحسه ونراه في كل ما نأكل، ونشرب ونتنفس ونستخدم ونركب، وندرس في دروس الجغرافية والفيزياء والكيمياء. فالتربية بالعبرة يجب أن تشمل جميع مواقف الحياة وحوادث الكون، ومظاهر القدرة والعناية الإلهية "في كل شيء له آية، تدل على أنه واحد"، كما تشمل معظم الدروس، والمواد الدراسية دون تفريق بين مواد دينية، أو غير دينية. فالتربية الإسلامية تربية شاملة تحيط الحياة التعليمية من جميع جوانبها، كما أحاطت العناية الإلهية هذا الكون، والإنسان من جميع جوانبه، ورافقته في كل أحواله، فلا يجوز إغفال "العبرة"، وتأمل عظمة الله في أي درس أو مادة درسية، ولا عند دراسة أي قانون من قوانين الطبيعة، وهي سنن الله في تسيير شئون الكون، وإقامة الحياة فيه. ج- الاعتبار بالحوادث التاريخية: أشار القرآن إلى حوادث تاريخية بارزة كان لها ما بعدها، كغزوة بدر والأحزاب، وأشار إلى العبرة من هذه الحوادث كغزوة بني النضير حيث وصف الله جلاءهم

بقوله: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 59/ 2] . وكغزوة بدر التي أشار القرآن إليها: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ، قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} [آل عمران: 3/ 12-13] . "فالكفار على كثرتهم كانوا يرون المسلمين القليلين مثليهم، وكان هذا من تدبير الله حيث خيل للمشركين أن المسلمين كثرة، وهم قلة فتزلزلت قلوبهم"1 ووجه العبرة أن هناك قوة فوق جميع القوى تؤيد المؤمنين، وتخذل الكافرين فهذه سنة الله ما زالت، وستبقى ماضية إلى يوم القيامة، فوعد الله بهزيمة الذين يكفرون ويكذبون، وينحرفون عن منهج الله، قائم في كل لحظة، ووعد الله بنصر الفئة المؤمنة -ولو قل عددها- قائم كذلك في كل لحظة، وليس على الفئة المؤمنة إلا أن تطمئن إلى هذه الحقيقة، وتثق في ذلك الوعد، وتأخذ للأمر عدته التي في طوقها، كاملة، وتصبر حتى يأذن الله، ولا تستعجل ولا تقنط إذا طال عليها الأمد المغيب في علم الله، المدبر بحكمته، المؤجل لموعده الذي يحقق هذه الحكمة: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} [النور: 24/ 44] . التوجه التربوي: يوجهنا القرآن الكريم إلى أن الهدف من ذكر الحوادث التاريخية أو تعليمها، ليس التعصب لقوم أو ملة معينة، ولا مجرد التباهي والتفاخر بالآباء والأجداد، ولكن الهدف هو الاعتبار، ومعرفة المغزى: *- كمعرفة سنة الله في إهلاك المفسدين بسبب فسادهم وظلمهم، وإبقاء الصالحين.

_ 1 في ظلا القرآن: سيد قطب 1/ 372.

{وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 11/ 102] ، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 11/ 117] . *- ومعرفة: أن تأجيل التوبة، والندم إلى حين نزول الهلاك أو استيلاء الأعداء، لا ينفع الذين كانوا منغمسين في الشرك أو موالين لأعداء الله: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ، فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} [غافر: 40/ 84-85] . *- ومعرفة سنة الله في نصر عباده المؤمنين حقا العاملين بشريعته: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا، سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الفتح: 48/ 22-23] . *- ومعرفة سنة الله في إهلاك المنافقين، ومرضى القلوب إذا تمادوا في إفساد المجتمع، وإنشاء الفتن والإشاعات الكاذبة بقصد الإيقاع بين المسلمين: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا، مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا، سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 33/ 60-62] . *- وإن الرؤساء والمترفين والأغنياء، كثيرًا ما يكونون سببا في إهلاك قومهم وأمتهم إذا فسقوا عن أمر ربهم، وشريعته ولم يردعهم العلماء. {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 17/ 16] . ج- أهم أهداف تدريس التاريخ في نظر التربية الإسلامية: يتبين مما سبق أن أهداف تدريس التاريخ: *- البحث عن العبرة من كل واقعة تاريخية تدرس، ويجب توجيه كتب التاريخ ومدرسيه هذه الوجهة. *- البحث عن تحقيق سنة من سنن الله في الأمم والأجيال، وكيف يداول الله الأيام بين الناس.

وقد استخرجت خمسا من هذه السنن في الفقرات السالفة، ويمكن التوسع في ذلك لمن شاء أن يتوسع، وليست تلك السنن قاصرة على الأقوام البائدة بل إنها من السنن التي لن تجد لها تبديلا، فيجب أن نحاول معرفة تحقيق بعض هذه السنن في كل ما ندرس من انهيار الدول، أو انتصارها أو نشوئها، أو ارتقائها. *- البحث عن أثر إصلاح النفس البشرية وتربيتها في مجرى الحوادث التاريخية {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 8/ 53] ، وهذه سنة سادسة من سنن الله في التاريخ، وتطور المجتمعات. *- البحث عن حكمة لله، وتدبيره في ضرب الظالمين بعضهم ببعض لإراحة المؤمنين من شرورهم: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 22/ 40] ، وهذه من سنن الله. *- معرفة أن الغاية من القوة والغلبة، والتمكن في الأرض إقامة شرع الله، وتحقيق الصلاح ومحو الفساد وعلى هذا يجب أن تبنى الدولة المسلمة: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 22/ 41] . *- يكتسب الناشئ من دروس التاريخ، بتطبيقه لسنن الله على ما يدرس من تظورات التاريخ وحوادثه، يكتسب موازين ربانية يزن بها منجزات كل دولة، وكل أمة يدرس تاريخها، فيتسنى له أن يضع كل شيء من هذه المنجزات في موضعه، وأن يعرف حقيقة كل شعب وقدره بعيدا عن التهور، ودون غمط أو تفخيم. *- وبالجملة يجب "أن يكون تدريس التاريخ وسيلة لتثبيت العقيدة، وترسيخها بحيث يحس الطالب بأن هذا الكون الذي تتابعت فيه الأمم، والأحداث على هذا النسق المدهش، لا بد له من موجد مهيمن عليه قوي قادر جبار قاهر عليم حكيم رءوف رحيم منعم حليم، بحيث يكون تدريس التاريخ توضيحا طبيعيا لهذه الصفات"1.

_ 1 أهداف تدريس التاريخ، من منهج المرحلة الثانوية العامة بالمملكة العربية السعودية، المطبوع سنة 1394هـ/ 1974م، ص165.

التربية بالموعظة

2- التربية بالموعظة: معنى الموعظة اللغوي والقرآني: *- في القاموس المحيط "وعظه يعظه وعظا وموعظة: ذكره ما يلين قلبه من الثواب، والعقاب فاتعظ". *- المعنى القرآني كما ورد في تفسير المنار1. وذلك في تفسير قوله تعالى: {ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 2/ 232] . "الوعظ: النصح والتذكير بالخير والحق على الوجه الذي يرق له القلب، ويبعث على العمل؛ أي ذلك الذي تقدم من الأحكام، والحدود المقرونة بالحكم والترغيب والترهيب يوعظ به أهل الإيمان بالله، والجزاء على الأعمال في الآخرة، فإن هؤلاء هم الذين يتقلبونه، ويتعظون به، فتخشع له قلوبهم ويتحرون العمل به قبولا لتأديب ربهم، وطلبا للانتفاع به في الدنيا، ورجاء في مثوبته ورضوانه في الأخرى. وأما الذين لا يؤمنون بما ذكر حق الإيمان، كالمعطين والمقلدين الذين يقولون آمنا بأفواههم؛ لأنهم سمعوا قومهم يقولون ذلك، ولم تؤمن قلوبهم؛ لأنهم لا يتلقوا أصول الإيمان بالبرهان القرآني، أو النبوي الذي يملك من القلب مواقع التأثير ومسالك الوجدان، فإن وعظهم به عبث لا ينفع، وقول لا يسمع". ب- تحليل لأهم معاني الوعظ، وأشكاله: ينتج معنا من تأمل هذا التفسير وغيره من تفاسير الآيات التي ورد فيها لفظ "وعظ" في القرآن الكريم أن لأسلوب الوعظ أشكالا، ومعاني أهمها: *- النصح وهو بيان الحق والمصلحة، بقصد أن نجنب المنصوح الضرر، وندله على ما يحقق سعادته وفائدته، ودليل النصح ألا يتوخى الناصح مصلحة شخصية دنيوية مادية لنفسه، ولذلك وجب على المربي الناصح أن يتنزه أثناء أداء واجبه التربوي، عن كل رياء وعن كل ما يوحي للآخرين بأن له في فعله مصلحة

_ 1 تفسير القرآن الكريم، تفسير المنار للسيد رشيد رضا، ص403، الطبعة الأولى 1346هـ.

خاصة، لئلا يشوب إخلاصه وسمعته، فيفقد هيبته التربوية وتأثيره في نفوس طلابه، وقد بين الله ذلك عند ذكر الحوار الذي جرى بين الرسل وأقوامهم، فقال مخاطبا رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [الفرقان: 25/ 57] . وقال على لسان نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 26/ 109 و127، 145، 164، 180] . فتكررت هذه الآية خمس مرات في هذه السورة، لتؤكد إخلاص الرسل، وتنزههم عن المصالح المادية الشخصية في دعوتهم إلى الله. وفي المعنى اللغوي لـ"نصح" ما يدل على الخلاص من الشوائب، والغش ففي القاموس: ورجل ناصح الجيب: لا غش فيه، والناصح: العسل الخالص، وهكذا يتفق المعنى اللغوي مع المعنى الشرعي والهدف التربوي، وقد تكرر ورود ألفاظ من هذه المادة "نصح" في مواطن من القرآن الكريم على لسان الرسل في حوارهم مع أقوامهم، كقول نوح: {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود: 11/ 34] ، وكقول هود لقومه "عاد": {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} [الأعراف: 7/ 68] ، فدلت هذه الآية على أن من شروط النصح الأمانة، وهي هنا تبليغ الحق والشرع، وأخبار الغيب، كما وردت بدون تحريف ولا تشويه، مع نحري الصحة في الأسانيد إن كان العالم يستدل بأحاديث نبوية. *- التذكير: وهو أن يعيد الواعظ إلى الذاكرة معاني وذكريات، وتستيقظ معها مشاعر ووجدانات وانفعالات، تدفع للمبادرة إلى العمل الصالح، والمسارعة إلى طاعة الله وتنفيذ أوامره، وهذا يقتضي أن يكون في ذكريات الموعوظ، ووجدانه ما يعتمد عليه الواعظ من إيمان بالله، وخوف من الحساب، ورغبة في الثواب وللتذكير وسائل أهمها: 1- التذكير بالموت؛ وقد كان عمر بن الخطاب يخاطب نفسه قائلا: كفى بالموت واعظا يا عمر، وكان الخوف من الله ومن الحساب بعد الموت بين يدي الله قد أسال

دموع هذا الخليفة الصالح حتى ترك الدمع أثرا واضحا في خديه، أصبح يعرف به بين أصحابه، ومما يتبع الموت التذكير بعذاب القبر، وسؤال الملكين في القبر، وتنشأ العظة بالموت عن أنه آت لا محالة لا ينجو منه إنسان، وأنه لا يأتي في الوقت الذي يريده الإنسان، فهو من صنع الله وتقديره، استأثر الله وحده بعلمه، وقد شرع الله لنا تغسيل الميت وتجهيزه، وتشييعه وزيارة القبور لنزداد عظة الموت. 2- التذكير بالموض؛ فالحياة دائما مهددة بالمصائب والأمراض، وهي أمور تفاجئ الإنسان فتنغص عليه حياته، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة"، فالحياة الدنيا تحمل بين طياتها الدليل على نقصها وفنائها، وإن الآخرة هي الحياة الحقة الباقية: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 29/ 64] ، ففي هذا موعظة لمن يعقل ويفكر في هذه الحياة، ونقصها ونكدها، ليرجع إلى الله وتستيقظ عنده الخشوع لله، والخوف منه، والخضوع لأوامره، ولذلك شرع لنا زيارة المرضى لنشكر الله على الصحة من جهة، ونواسي المريض من جهة أخرى، كما شرع لنا الصبر على المرض والمصائب، ووعدنا عليه بثواب عظيم، وأدبنا رسول الله أن ندعو للمريض بمثل قولنا: "أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك"01 3- التذكير بيوم الحساب، يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات، وقد يجيء مقترنا بالوعظ، وذلك ما ورد في بعض الآيات كقوله تعالى: {ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [الطلاق: 65/ 2] . لأن تقبل الوعظ والامتناع عن المحرمات، وعن الاستبداد بالزوجة، مثلًا، بقصد مكارهتها وظلمها وأكل صداقها، هذا الامتناع يحتاج إلى رادع، ووازع من نفس الإنسان، ولا رادع كالخوف الحقيقي من الله، ومن يوم الحساب، ووجود هذا الخوف يعتمد على تربية إسلامية تنمو معها العواطف الربانية كما أشرنا إلى ذلك في حينه من مباحث هذا الكتاب.

_ 1 رواه أبو داود، والترمذي وحسنه، والنسائي وابن حبان في صحيحه، والحاكم وقال: صحيح على شرط البخاري، الترغيب والترهيب لعبد العظيم المنذري، 4/ 103، ط عيسى البابي الحلبي.

ج- النتائج التربوية: يعتمد الوعظ من الناحية النفسية، والتربوية على أمور أهمها: *- إيقاظ عواطف ربانية كانت قد ربيت1 في نفس الناشئين بطريق الحوار، أو العمل والعبادة والممارسة، أو غير ذلك كعاطفة الخضوع لله، والخوف من عذابه أو الرغبة في جنته، وكذلك يربي الوعظ هذه العواطف وينميها، وقد ينشئها من جديد. *- الاعتماد على التفكير الرباني السليم الذي كان الموعوظ قد ربي عليه، وهو التصور السليم للحياة الدنيا والآخرة، ودور الإنسان أو وظيفته في هذا الكون ونعم الله، وأنه خلق الكون والموت والحياة، ونحو ذلك مما أوضحته في "أسس التربية الإسلامية" كأركان الإيمان، وتوحيد الله بالتشريع والعبادة، والجبروت والقدرة المطلقة. *- الاعتماد على الجماعة المؤمنة، فالمجتمع الصالح يوجد جوا يكون فيه الوعظ أشد تأثيرا وأبلغ في النفوس، لذلك جاءت معظم المواعظ القرآنية، والنبوية بصيغة الجماعة كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 4/ 58] ، وكالحديث: "وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة، وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا..". *- ومن أهم آثار أسلوب الموعظة تزكية النفس، وتطهيرها وهو من الأهداف الكبرى للتربية الإسلامية، وبتحقيقه يسمو المجتمع، ويبتعد عن المنكرات وعن الفحشاء، فلا يبغي أحد على أحد ويأتمر الجميع بأمر الله، بالمعروف والعدل والصلاح والبر، والإحسان وقد جمعت هذه المعاني في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 16/ 90] .

_ 1 كما مر في بحث الحوار العاطفي.

سابعا: التربية بالترغيب والترهيب

سابعا: التربية بالترغيب والترهيب: الأسس النفسية والتربوية: بني هذا الأسلوب التربوي الإسلامي على ما فطر الله عليه الإنسان من الرغبة في اللذة والنعيم، والرفاهية وحسن البقاء، والرهبة من الألم والشقاء وسوء المصير. ويشترك الحيوان مع الإنسان في أدنى درجاب هذه الرغبة والرهبة، فجميع الكائنات الحية تقريبا، تبتعد عما يؤذيها حال شعورها به، وتقبل على ما يلذها، ويحق استمرار الحياة لها أو لجنسها. لكن الله ميز الإنسان -كما لاحظنا في بحثنا لأسس التربية الإسلامية- بالقدرة على التعلم والاعتبار، والتفكير لما بعد الفترة التي يعيشها، والعمل والتحضير للمستقبل والتمييز بين الضار والنافع، والاختيار بينهما، عاجلا حينا، وآجلا حينا آخر. ومن أوضح الأمثلة على ذلك أن الفتى تستيقظ عنده الرغبة الجامحة في الزواج منذ بلوغه الحلم، لكنه يؤجل ذلك إذ يجد نفسه عاجزا عن نفقات الحياة الزوجية، فيفضل لذة ومتعة مؤجلة، ولو كان التأجيل مديدًا، لكنها مكفولة الاستقرار بحسب ما يبدو له، على لذة عاجلة ينغصها الحرمان والنكد، أو خراب البيوت وسوء السمعة، أو نقمة المجتمع، إلخ ... وهكذا يرغبه مجتمعه بزواج هانئ مستقر إن هو صبر، ونال الشهادات أو الخبرات أو القدرة على الكسب، وإعالة الزوجة وتأمين المسكن. كما يرهبه المجتمع كالأبوين والأصدقاء والأقارب، من النتائج الوخيمة إن هو اقترف لذة غير مشروعة، أو تسرع في زواج غير مناسب ولا ملائم. تعريف: يمكننا باستقراء آيات القرآن أن نعرف الترغيب، والترهيب كما يلي: الترغيب وعد يصحبه تحبيب وإغراء، بمصلحة أو لذة أو متعة آجلة، مؤكدة، خيرة، خالصة من الشوائب، مقابل القيام بعمل صالح، أو الامتناع عن لذة ضارة أو عمل سيئ ابتغاء مرضاة الله، وذلك رحمة من الله لعباده.

والترهيب وعيد، وتهديد بعقوله تترتب على اقتراف إثم، أو ذنب مما نهى الله عنه أو على التهاون في أداء فريضة مما أمر الله به، أو هو تهديد من الله يقصد به تخويف عباده، وإظهار صفة من صفات الجبروت، والعظمة الإلهية، ليكونوا دائما على حذر من ارتكاب الهفوات والمعاصي، كقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا، ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم: 19/ 71-72] . وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ، لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} [الزمر: 39/ 15-16] . مميزات الترغيب، والترهيب القرآني والنبوي: يمتاز الترغيب والترهيب في التربية الإسلامية عما يسمونه في التربية الغربية "الثوب والعقاب" بميزات صادرة عن الطبيعة الربانية المواتية لفطرة الإنسان التي تتسم بها التربية الإسلامية، وأهم هذه المميزات: 1- يعتمد الترغيب والترهيب القرآني، والنيوي على الإقناع والبرهان، فليس من آية فيها ترغيب أو ترهيب بأمر من أمور الآخرة إلا، ولها علاقة أو فيها توجيه خطاب إلى المؤمنين. وهذا معناه تربويا أن نبدأ بغرس الإيمان، والعقيدة الصحيحة في نفوس الناشئين، ليتسنى لنا أن نرغبهم بالجنة، أو نرهبهم من عذاب الله، وليكون لهذا الترغيب والترهيب ثمرة عملية سلوكية، ولهذا بدأنا في هذا الكتاب بعرض أسس التربية الإسلامية قبل أساليبها، وقد يكون الإقناع عن طريق أخذ العبرة من القصة القرآنية، ثم يعقبها التهديد أو الترغيب.

2- يكون الترغيب والترهيب القرآني، والنبوي مصحوبا بتصور فني رائع، لنعيم الجنة أو لعذاب جهنم، بأسلوب واضح يفهمه جميع الناس. لذلك يجب على المربي أن يستخدم الصور، والمعاني القرآنية والنبوية في عرضه لعقاب الله وثوابه، وتقريبها إلى إفهام الناشئين كتصوير مواقف القيامة بالصور القرآنية مدعومة بالتفاصيل النبوية كقصة الشفاعة يطلبها الناس في موقف الحشر من جميع الأنبياء، لشدة الهول فيعتذرون، إلا رسول الله محمدا صلى الله عليه وسلم، وقصة آخر رجل يدخل الجنة، ونحو ذلك من القصص النبوي عن مواقف القيامة. وعلى المربي هنا ألا يتقيد بنصوص المنهج وحدها بل يجب اقتباس تفاصيل من كتب الحديث "كرياض الصالحين" و"الترغيب والترهيب" وغيرها، من كتب الحديث عندما يدرس التلاوة، أو التفسير أو التوحيد، أو أي مادة يمكن عرضها بأسلوب الترغيب والترهيب. 3- يعتمد الترغيب والترهيب القرآني، والنبوي على إثارة الانفعالات، وتربية العواطف الربانية، وهذه التربية الوجدانية مقصد من مقاصد الشريعة الإسلامية. أ- كعاطفة الخوف من الله التي أمر الله بها: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 3/ 175] ومدح عباده الذين يخافونه، ووعدهم بالثواب العظيم: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 55/ 46] بل أمرنا أن ندعوه، خوفا من عذابه، وطمعا في ثوابه. {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ، وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 7/ 55-56] . وعلى تربية هذه العاطفة الربانية بنيت بعض العبادات كالصوم، وتحريم الصيد في

الحج: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} [المائدة: 5/ 94] . كما بني كثير من المعاملات الإسلامية عليها كالنصح في البيع والشراء، ورعاية اليتيم وحسن معاملة الزوجة، والعدل بين الأولاد، فكل من خاف ربه كان إنسانا فاضلا عادلا في سلوكه ومعاملاته، ومن لم يستح من ربه يفعل ما يشاء بلا ضابط ولا وازع، له قلب كالحجارة، أو أشد قسوة. ب- الخشوع ومعناه التذلل، والخضوع والشعور بالانقياد، والعبودية لله تعالى وهو ثمرة للخوف، فنحن نرى في الدنيا أن الناس إذا خافوا من بعض الطواغيت الباطشين، سارعوا إلى الانقياد لأوامرهم والخضوع لها، ولو ظاهريا، ولكن الخشوع لله يمتاز عن الخضوع الظاهري بأنه مصحوب بشعور حقيقي بالتبعية لله تعالى، وبطاعته، والإذعان لعظمته، إذعانا ناتجا عن الأعجاب بآثار إبداعه، وتدبيره في هذا الكون وفي أنفسنا. وقد ورد الحض على الخشوع عند ذكر الله، وقراءة القرآن في قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 57/ 16] . ولهذا الخشوع عند تلاوة القرآن علامات، وتغيرات جسدية وردت في قوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 39/ 23] ، وذلك من شدة الخوف من الله، والشعور برقابته أثناء تلاوة كتابه. تربية عواطف الخوف والخشوع: هذه أهم الانفعالات المصاحبة لآيات الترهيب

ولحالة الإنسان الخاشع الخائف من ربه، وقد عبر عنها القرآن بالخوف، والرهبة والخشية، والخشوع. وينبغي أن يستشعرها المربي فتنتقل إلى طلابه، أو أبنائه بالعدوى الانفعالية، والاقتداء به والمحبة والتقليد. كما ينبغي أن يتخذ في ملامح وجهه، ولهجة كلامه الهيئة التي تثير هذه الانفعالات كلما اقتضى الأمر ذلك، في نفوس الناشئين كذلك ينبغي الاعتماد على الإقناع، والبرهان والتكرار لتربية العواطف الربانية، فتكرار الانفعالات1 المتشابهة مرة بعد مرة حول موضوع معين وبمناسبات مختلفة، كالقصة والوصف والحوار، والاستفهام واستجواب الطلاب، هذا التكرار يربي في النفس الاستعداد الدائم الثورة انفعالية وجدانية كلما وجد الإنسان في موقف مشابه، وهذا الاستعداد يسمى عاطفة. والعواطف قوى دافعة للسلوك، محرضة على الصبر، مثيرة ومغذية لطاقات الإنسان، لا تقل أهمية عن الدوافع الغريزية بل إنها تهيمن عليها، وتوجهها وتنظمها وتسمو بها، وبها يمتاز الإنسان على الحيوان، وكما أن في النفس عواطف سلبية ترافق التربية بالترهيب كالخف، والخشوع كذلك في النفس عواطف إيجابية ترافق التربية بالترغيب أهمها: ج- المحبة: فطر الإنسان منذ طفولته على الميل إلى أن يحب ويكون محبوبا، وقد ورد الحب في القرآن في عدد من الآيات، والحب في الأصل -كما هو معروف بين الناس- تعرق المحب بالمحبوب، وتتبع آثاره، ودوام تذكره، وحضور القلب معه، وعمل ما يرضيه ويحقق سروره.

_ 1 أوضحنا هذا المعنى في فقرة "الحوار العاطفي" في بحث التربية بالحوار القرآني.

قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 2/ 165] ، قال ابن كثير في "تفسير القرآن العظيم": "ولحبهم له وتمام معرفتهم به وتوقيرهم، وتوحيدهم له لا يشركون به شيئا، بل يعبدونه وحده، ويتوكلون عليه ويلجئون إليه في جميع أمورهم"1. قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 3/ 31] . فجعل الله اتباع رسوله الذي يبلغ أوامره من شروط محبته، كما وصف الله الذين يحبهم الله، ويحبونه بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 5/ 54] . وإذا تتبعنا حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصحابه نرى أن محبة الله من أهم الدوافع التي تجعل الإنسان حريصًا على تحقيق شريعة الله في سلوكه وحياته، دون أن يكون عليه رقيب من البشر، وأن من أهم العوامل التي تؤدي إلى محبة الله، والشعور بفضله والتعرف إلى نعمه، وإلى ما أعد للمتقين في جنات النعيم، وطول مناجاته وقراءة كلامه، وتأمل آثار رحمته، إلخ. د- الرجاء وهو الطمع في رحمة الله، والأمل في ثوابه وجزيل الأجر عنده، وقد كان هذا الرجاء دافعا إلى الجهاد، وطلب الموت في سبيل الله، فكان الصحابي والمجاهد يقول: "بخ، بخ، هل بيني وبين الجنة إلا أن أقاتل فأقتل في سبيل الله؟ " ويهجم على الأعداء حتى يستشهد.

_ 1 تفسر ابن كثير، 1/ 202، ط دار الفكر - بيروت.

وقد أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة "عبد الله بن جحش، ومعه ثمانية من المهاجرين، ومعه كتاب أمره ألا يفتحه إلا بعد مرحلة من الطريق، فلما فتحه وجد فيه الأمر بالذهب إلى نخلة بين الطائف ومكة، ليرصد قريشا ويعلم من أخبارهم، ويعود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم". فذهب مع ثنانية من أصحابه، وقتلوا قتيلًا من المشركين وأسروا أسيرين وبعيرا، وكان ذلك في آخر يوم من رجب، وتكلم فيها الناس وزعموا أنهم انتهكوا حرمة الشهر الحرام، فأنزل الله قرآنا ودافع عنهم، وأباح قتال المشركين في الشهر الحرام، فلما سري عنهم قالوا: "يا رسول الله! أنطمع أن يكون لنا غزوة نعطى فيها أجر المجاهدين؟ " فأنزل الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 2/ 218] . فكانت أول غنيمة غنمها المسلمون على يد تسعة من المهاجرين ساروا أياما في أراضي الأعداء، كل ذلك تحقيقا لأمر رسول الله، ورجاء رحمة الله وجنته وثوابه1. فانظر إلى أثر هذا الرجاء ما أعظمه في نفوسهم، لقد كانوا حقا يرجون رحمة الله. وغرس هذا الرجاء في نفوس الناشئة يبنى على الإيمان بالله واليوم الآخر، وعلى الإكثار من وصف الجنة، ونعيمها وربطها بضرورة التقيد بأوامر الله وترك نواهيه، وبالجهاد وإعلاء كلمة الله. 4- تعتمد التربية بالترغيب والترهيب على ضبط الانفعالات، والعواطف والموازنة بينها. فلا يجوز أن يطغى الخوف، على الأمل والرجاء فيقنط المذنب من عفو الله ورحمته، وقد نهى الله عن هذا اليأس، فقال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى

_ 1 في ظلال القرآن، 1/ 225، وتفسير المنار 2/ 317-318، الطبعة الأولى 1346هـ.

أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 39/ 53] . مع علم الله بأن من عادة الإنسان إن لم يتسلح بالإيمان، والأمل بثواب الله أن يتصف باليأس، والقنوط عند نزول الشدائد: {لا يَسْأَمُ الْأِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ} [فصلت: 41/ 49] ، ولكن الله يرضى لعباده اليأس والقنوط، ولذلك قرن اليأس بالكفر: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُوسٌ كَفُورٌ، وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ، إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [هود: 11/ 9-11] . كذلك لا ينبغي أن يطغى الفرح بزوال الشدة، فينسى الإنسان عقاب الله وقدرته، ويجعله فخورا بنفسه، معتدا بحوله وقوته مما يدعوه للعودة إلى المعاصي. بل ينبغي أن يجمع الإنسان بين الخوف والرجاء، الخوف من عقاب الله وعظمته ومقامه، فلا يطغى ولا يتملكه الغرور، والرجاء في رحمة الله، فلا ييأس من عفوه. وكل من اليأس والغرور يؤدي إذا تمادى بصاحبه إلى الكفر، أو الفسوق والطغيان: كما يفهم من الآيات السابقة، ومن قوله تعالى: {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 7/ 99] ، وقوله: {وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 12/ 87] . ولو استجمع الإنسان في ذهنه صفة من صفات الكمال الإلهي، مع ما يقابلها من تلك الصفات، لما وقع في شيء من التناقض، أو الإفراط والتفريط في جنب الله، فاستشعار غضب الله يجب ألا ينسينا رحمته، وإرادته المطلقة ينبغي ألا تنسينا حكمته، وهكذا يقول الله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأعراف: 7/ 167] .

ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما رواه عنه أبو هريرة رضي الله عنه: "لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من جنته أحد" 1، رواه مسلم. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار كذلك" 2، رواه البخاري. وهكذا ينبغي أن نربي العواطف الربانية عند الناشئين باعتدال واتزان، فلا يتمادون في المعاصي مغترين برحمة الله ومغفرته، مسوفين ومؤجلين توبتهم إلى الله، ولا ييأسوا من نصر الله، ورحمته بدعوى أن المجتمع كله منغمس في المعاصي، منحرف عن الإسلام الصحيح، فيتركوا العمل بشريعة الله والدعوة إليها، والله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 29/ 69] . تم بحث التربية بالترغيب والترهيب، وتم الفراغ من مراجعته ظهر التاسع من ذي الحجة عام 1398هـ، وبه يتم هذا القسم من كتاب "أصول التربية الإسلامية"، وأرجو الله أن يوفقني إلى متابعة هذا البحث الجليل في مؤلفات أخرى. "والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات".

_ 1 رياض الصالحين للنووي، ص176، ط/ دار القلم بيروت سنة 1389هـ-1970م. 2 رياض الصالحين للنووي، ص176، ط/ دار القلم بيروت سنة 1389هـ-1970م.

مستخلص

مستخلص: يتناول الكتاب التربية الإسلامية، وأنها هي العلاج، ويوضح مفهومها ومفهوم الدين والإسلام، والعلاقة بينه وبين التربية. ويبين استقاء مصادر التربية الإسلامية من القرآن والسنة، ويبين أسسها الفكرية، ومميزات التصور الإسلامي عن الإنسان، والكون والحياة. ويوضح أسسها التعبدية والتشريعية، وأثر الشريعة في تربية الفكر والخلق، والحفاظ على الضروريات الخمس: الدين والنفس والمال، والعقل والعرض والنسل والأنساب، من خلال بحث الأسس الدينية، والاجتماعية والسياسية والحضارة والإنسانية، والتعليمية والغريزية والجسمية. ويعرض للعقيدة الإسلامية وأثرها التربوي، وأهمية الإيمان وضرورته، من خلال دراسة أركان الإيمان بالله والملائكة، والكتب المنزلة والرسل واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، متحدثا عن الآثار التربوية، والمعنوية لكل ركن إيماني إسلامي. ويبحث في أهداف التربية الإسلامية موازنا بينها، وبين التربية الغربية، ويوضح أهميتها بمعناها الخاص في تحقيق الأهداف. ويعرج على وسائط التربية الإسلامية من مسجد، ومدرسة ومرب مسلم، ومجتمع مدرك مسئوليته التربوية، ودور النشاط المدرسي في التربية، وأهمية المنهج التربوي الإسلامي وخصائصه. ويدرس أساليب التربية الإسلامية بالحوار القرآني، والنبوي والخطابي والتعبدي والوصفي، والقصصي والجدلي، والعاطفي والإقناعي، وبالقصص القرآني والنبوي، وبضرب الأمثال، وبالقدوة الحسنة، والنضج، والممارسة والعمل، والرياضة، وبالعبرة والموعظة، وبالترغيب والترهيب، والنتائج التربوية لكل ذلك.

Abstract: A book handling the Islamic Education. It proves its being a cure and clarifies its concept as well as the concept of the Islamic Religion and the relation between Islam and education. It indicates the fact that the sources of the Islamic education are derived from the Qur'an and the Sunnah and states their intellectual bases and the characteristics of the Islamic concept of the human, the cosmos and life. It clarifies the devotional and legislative bases of the Islamic Education, the effect of religion on educating the human intellectually and morally and maintaining the five necessities represented in Religion, Soul, Wealth, Reason, Honor, and Lineage through discussing the religious, social, political, civilizational, human, didactic instinctive and physical bases. It displays the educational influence as well as the significance and importance of belief through discussing the pillars of the belief in Allah, the angels, the Scriptures that Allah sent down, the Hereafter and fate whether good or evil, and talks about the educational and moral effects of each fiducial and Islamic pillar. It discusses the aims of the Islamic education and compares it with the Western education, and clarifies the significance of the Islamic education within its sense connected with realizing those aims. It mentions the means of the Islamic education represented in mosques, schools, Muslim educators, a society which perceives its educational responsibility, the role of the school efficiency in education and the significance and characteristics of the Islamic educational approach. It studies the methods of the Islamic education through the Qur'anic, Prophetic, elocutionary, devotional, descriptive, narrative, dialectical, emotional and persuasive dialogue, and through the Qur'anic and Prophetic stories, setting examples, good guidance, maturity, practice, deed, sport, lessons, preaching and rousing desire or fear as well as the educational results of them all.

§1/1