أصول البحث الأدبي ومصادره - جامعة المدينة

جامعة المدينة العالمية

الدرس: 1 مقدمة في أصول البحث الأدبي ومصادره.

الدرس: 1 مقدمة في أصول البحث الأدبي ومصادره. بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الأول (مقدمة في أصول البحث الأدبي ومصادره) كلمة "بحث": معناها، ودلالتها الحمد لله الذي علم الإنسان ما لم يعلم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه، وبعد: فأريد أن ألقي الضوء على كلمة "بحث" نتعرف على: معناها، ودلالتها، والمجال المعرفي الذي يتحرك في إطاره الباحث: لو رجعنا إلى المعاجم اللغوية لوجدنا أن كلمة بحث يدور معناها في اللغة حول معنيين؛ أولهما: طلب الشيء والتفتيش عنه، ففي (لسان العرب): "البحث طلبك الشيء في التراب". وفي كتاب الله عز وجل يقول سبحانه وتعالى: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ} (المائدة: 31) {يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ} أي: يحفر فيها بمنقاره كأنه يفتش أو يطلب شيئًا في باطنها. ومن ذلك البحث عن المعادن وغيره. أما الدلالة الثانية لهذه الكلمة، فتعني السؤال عن الشيء والاستخبار عنه. بحث عن الخبر أي سأل وبحثه يبحثه بحثًا أي: سأل، وكذلك استبحثه واستبحث عنه، وبين المعنيين ترابط واضح، فمن أراد أن يطلب شيئًا غاب عنه أو يفتش عن شيء لا يقع تحت إدراكه؛ فإنه يبدأ بالمرحلة الأولى من مراحل هذا الكشف وهو التفتيش، يبدأ بالتفتيش والبحث أو التنقيب، فإن تعذر على الإنسان إيجاده

بواسطة التفتيش أو البحث أو التنقيب؛ يلجأ إلى المرحلة الثانية وهي السؤال عن ذلك الشيء؛ لكي يتعرف عليه ويدرك أبعاده. من خلال هذا المدلول نعلم أن كلمة بحث تدل على أن هناك شيئًا ما غاب عن الإدراك، وإن كان موجودًا في الحقيقة، شيء يفترض وجوده، وهي عبارة عن الفرضية التي يفترضها الباحث في بداية بحثه، ويحاول الكشف عنها، هذا الشيء الذي غاب عن الإدراك هو الحقيقة التي يفترض الباحث وجودها، ويسعى جاهدًا للكشف عنها، سالكًا عدة طرق، معتمدًا على ما لديه من حجج تؤكد صحة نتائجه، ومن ثم فالباحث يبدأ من حيث انتهى الآخرون، ويأتي بنتائج جديدة وأفكار مبتكرة، أما إن اكتفى بنقل ما ذكره الآخرون في قضية ما فإن ذلك لا يسمى بحثًا، وإنما يسمى تلخيصًا أو تقريرًا، هذا ما يفيده مدلول كلمة بحث، فمن أراد أن يبحث عن شيء موجود أو حقيقة علمية مقررة هذا لا يسمى بحثًا، يسمى تلخيصا يسمى تقريرا عن هذه الحقيقة. أما في الاصطلاح فيمكن أن نعرف كلمة بحث بأنه: عبارة عن تقرير يكتبه الباحث في قضية من القضايا الأدبية، يتناول من خلاله دراسة أجزائها، موظفًا ما لديه من إمكانات علمية للوصول إلى غاية معينة يسعى إليها، أو رأي واضح يهدف إليه، هذا هو المفهوم الذي اصطلح عليه علماء البحث الأدبي، أو البحث العلمي عامة. فالبحث العلمي لابد له من مجال علمي أو معرفي، يتحرك الباحث في إطاره -هذه حقيقة- يحلق في سمائه، ويدرك أبعاده ويستكشف كوامنه، فالبحث

العرب والثروة الأدبية.

الجغرافي مثلا مجاله علم الجغرافيا، والبحث الطبي مجاله العلوم الطبية، والبحث الأدبي مجاله الأدب بشعره ونثره، والدراسات التي دارت حولهما، وأعلام كل فن وقضاياه المختلفة، فالمجال المعرفي الذي يدور حوله البحث الأدبي هو الأدب. العرب والثروة الأدبية هل يملك العرب ثروة من علم الأدب تمكننا من النظر فيه، واستكشاف حقائقه، واستنباط مقاييسه والتعرف على قضاياه؟ هل يملك العرب ثروة من هذا المجال المعرفي تستحق الدراسة أو تستحق البحث؟ نعم لقد ترك العرب ثروة أدبية هائلة تفوقوا بها على سائر الأمم، وهي جديرة بالبحث للتعرف على ما فيها من قيم فنية وإنسانية، تؤكد عبقرية العربي، وقدرته على استيعاب الحياة، ومعايشتها فكريًا ووجدانيًا، والتعبير عنها في قالب فني. وإذا نظرنا إلى هذا التراث أو هذه الثروة العظيمة التي تركها أو امتلكها العرب؛ نجد أنها قد تطورت بتطور حياتهم عبر العصور المختلفة حتى يومنا هذا، ففي العصر الجاهلي أَوْلى العرب الشعر كبير عنايتهم، فهو مصدر عزتهم، وسِجِل مفاخرهم وأحسابهم وأنسابهم، وصورة صادقة لحياتهم، وفي صدر الإسلام واكب الأدب الحياة الجديدة، التي انعكست على موضوعاته وأفكاره ولغته وأخيلته، بل إن الإسلام أدى إلى قيام نهضة عامة في دنيا المعرفة والعلم، في ظلال الفكرة الإسلامية والمجتمع الذي آمن بها وهضمها، وسعى إلى تعزيزها ونشرها، ونتج عن ذلك ظهور حركتين أساسيتين في عصر صدر الإسلام: حركة دينية، وحركة ثقافية فكرية.

أما في عصر بني أمية -نحن نمر على الأدب مرورًا سريعًا؛ لكي نستكشف أو نتعرف على ما لحقه من تطور سريع، وفي نفس الوقت نتعرف على عناية العرب به- ظل الأدب وبخاصة الشعر محتفظًا بكثير من طوابعه البدوية، ومحافظًا على القالب الفني الموروث، ومع ذلك واصل السير في ميادين التطور السياسي والاجتماعي والديني والفكري، وأكبر دليل على ذلك أن الدكتور شوقي ضيف كتب كتابًا في هذا الشأن بعنوان (التطور والتجديد في الشعر الأموي)، كشف فيه عما لحق الشعر من تطور، وما طرأ عليه من جديد في ذلك العصر. ثم جاء العصر العباسي، ومنحت الدولة الحرية لرعاياها، وفتحت الباب على مصراعيه أمام الأجناس غير العربية، فاختلط العرب بغيرهم من الأعاجم، وامتزجت الأجناس واللغات والثقافات والحضارات، وذابت الفوارق بينها، وانصهرت جميعها في بوتقة عربية إسلامية، وتحولت إلى جنس عربي وثقافة عربية إسلامية، وحضارة عربية إسلامية، وشمل ذلك التغير والتطور والتجديد كل مناحي الحياة، وبالطبع لابد أن ينعكس على الأدب في ذلك العصر، فرأينا أدبًا مُجَدَّدًا، يعني أدبًا كان موجودًا في العصور السابقة، وأدخل العباسيون عليه بعض التجديدات، ثم رأينا أدبًا جديدًا في موضوعاته، وأفكاره ولغته وموسيقاه. فإذا وصلنا إلى العصر الحديث، ووقفنا على النهضة الأدبية التي تعددت أسبابها، وعرجنا على تأثر العرب بالغرب إبداعًا ونقدًا، ورأينا الأجناس الأدبية الجديدة التي جاءت نتيجة هذا التأثر، كالمسرحية والملحمة، والقصة والرواية، وغير ذلك مما أبدع العقل العربي، بالإضافة إلى النظريات والمذاهب النقدية الكثيرة؛ إذا عرفنا كل ذلك وغيره أدركنا قيمة هذا التراث، ووقفنا على قدرة

العقل العربي على الإبداع، ومواكبة الأعصر في تطورها من خلال ما أنتجته عقولهم. هذه لمحة سريعة عن ذلك التراث، أو عن ذلك المجال المعرفي الذي يدور حوله البحث الأدبي، وهو تراث عريق لأمة عريقة، وهو تراث جدير بالبحث، بل إنه في أشد الحاجة لاكتشاف عوالمه، والوقوف على جهود رجالاته، ويقوم بهذه المهمة رجال البحث العلمي والأدبي بوجه خاص، وإذا علمنا أن العرب في بداية حياتهم الفكرية لم يكن لديهم من وسائل الحفظ ما نملكه الآن، نحن الآن كما ترون في عصر المعرفة والتقنيات الحديثة، نمتلك كثيرا من الوسائل المتقدمة في حفظ المعلومات ونشرها، مما يساعد على ذيوع كل معلومة في وقت قصير والاحتفاظ بها إلى أمد طويل. أما العرب في حياتهم الأولى، فلم تكن متوفرة لديهم مثل هذه الوسائل، التي يمكنهم من خلالها حفظ هذا التراث، سنون مضت وتقلبات حدثت، وبلدان خربت على يد الأعداء، وكل ذلك كفيل بضياع ذلك التراث، حتى وإن كان العرب يمتلكون أدوات حفظه، فكيف وصل إلينا ذلك التراث؟ عصر الجاهلي ثم عصر صدر الإسلام ثم عصر بني أمية ثم العصر العباسي، حتى وصلنا إلى العصر الحديث، ونحن نعلم أن هذه العصور مر خلالها العرب بفترات ضعف وقوة، وحروب وتقلبات لا حصر لها، فكيف وصل إلينا ذلك التراث الذي هو جدير بالبحث كما قلت؟ وما الطرق التي ساعدتهم على حفظه وحمايته من الضياع. وهناك شيء أحب أن ألفت النظر إليه، ونحن نتحدث عن التراث الأدبي عند العرب الذي يمثل المجال المعرفي للبحث الأدبي، ذلك الشيء الذي أود الإشارة إليه هو: هناك من يظن أن هذا التراث من السهولة بمكان؛ لكثرة دورانه

الطرق التي ساعدت العرب على حفظ تراثهم.

على الألسنة، وتردد مسمياته وأجناسه الأدبية على ألسنتنا، فكثير من الناس يعتقد أنه إذا استمع إلى بيت من الشعر، أو قرأ قصة أو رواية أو مقالة أو خطبة؛ يظن أنه بإمكان أي إنسان أن يتمعنها ويتذوق ما فيها من جماليات فنية، هذا ظن خاطئ، هذا ظن غير صحيح؛ الحقيقة أن الأدب فن وصنعة وثقافة، لا يعرفها إلا أهل العلم بالأدب وحدهم، كما أشار إلى ذلك ابن سلام في طبقاته، ومهما حَلَّق الإنسان حولها أو تعمق فيها فلا يمكنه سبر أغوارها؛ فهي في أشد الحاجة إلى البحث والتأمل، والتذوق والتحليل، فالأديب ليس شخصًا عاديًا ولا يتحدث حديث الشخص العادي، وإنما يختلف حديثه باختلاف المواقف والمعاني، والأحاسيس والمشاعر. الطرق التي ساعدت العرب على حفظ تراثهم كيف استطاع العرب أن يحافظوا على تراثهم، وينتقل هذا التراث من جيل إلى جيل حتى وصل إلينا الآن؟ بمقدار ما للتراث من قيمة وأهمية تكون عناية الأمم به، والعمل على صيانته وحفظه من الضياع، والتراث العربي روح الأمة وشريان حياتها النابض، ومن ثم أولته جل عنايتها، وسعت للحفاظ عليه بكل ما لديها من وسائل أو طرق، تتناسب مع حياتهم في كل عصر. ومن أهم الطرق التي استعان بها العرب في حفظ تراثهم: الرواية الشفوية، ويقصد بالرواية الشفوية السماع والحفظ، ثم الاستظهار والنقل، وتعد الرواية الشفوية أول وسيلة من وسائل حفظ التراث الأدبي لدى العرب، وخاصة الشعر، بالإضافة إلى حفظ الأنساب والأخبار،

وتسجيل الوقائع التي كان الرواة يحرصون على تلقينها لمن يصغرهم، أو لأبنائهم، أو لمن يقوم بهذه المهمة في الأعصر التالية. وقد فرضت البيئة الجاهلية على العرب استخدام الرواية كوسيلة لحفظ تراثهم ونشره، بمعنى أن العرب في العصر الجاهلي -خاصة- لم يكن لديهم من الوسائل المتاحة غير وسيلة الرواية الشفوية، صحيح الكتابة كانت موجودة لكنها نادرة، ومن الصعب الحصول على أدواتها التي يستعان بها في الكتابة، كان ذلك صعبًا، وكان الله سبحانه وتعالى قد منح العربي قدرة على الحفظ، هذه طبيعة العربي وتلك عاملا مساعدًا، كون الله سبحانه وتعالى ميز الأعرابي بهذه الذاكرة القوية، وذلك القدر من الذكاء وصفاء الذهن، مكن العربي من الاستعاضة عن الكتابة بهذا القدر من الحفظ والاستذكار والنقل. والعرب كانوا يحرصون على ذلك حرصًا شديدًا، فيقول ابن رشيق القيرواني في كتاب (العمدة): "كانت القبيلة من العرب إذا نبغ فيها شاعر أتت القبائل فهنأتها، وصنعت الأطعمة، واجتمع النساء يلعبن بالمزاهر كما يصنعون في الأعراس، ويتباشر الرجال والولدان؛ لأنه حماية لأعراضهم، وذب عن أحسابهم، وتخليد لمآثرهم، وإشادة بذكرهم، وكانوا لا يهنئون إلا بغلام يولد، أو شاعر ينبغ فيهم، أو فرس تنتج". إن دل ذلك على شيء، فإنما يدل على عناية العرب بهذا التراث الأدبي؛ لأنه يسجل أحسابهم وأنسابهم ومفاخرهم، ومآثرهم ومثالب أعدائهم. وكان الرواة في الجاهلية طبقات: الطبقة الأولى: وهم الشعراء، ومنهم الشعراء المحترفون الذين تجمع بينهم حرفة الفن الشعري، يعني يمتلكون الموهبة الشعرية، وهي التي تجمع بينهم. فكان هؤلاء الشعراء المحترفون يلزمون شاعرًا بعينه أو غيره من الشعراء، ويروون عنهم

حتى ينفتق لسانهم ويسيل عليه ينبوع الشعر، يعني يتعلمون كيفية النظم واختيار الكلمات والأوزان والقوافي من خلال الحفظ. ويمثل هؤلاء الشعراء المحترفون: أوس بن حجر التميمي، وزهير بن أبي سلمى، والحطيئة، وهدبة بن خشرم، وغيرهم كثير من الشعراء في ذلك العصر، ومن هذه الطبقة أيضًا -طبقة الشعراء المحترفين- شعراء لكنهم ليسوا محترفين، جمع بينهم النسب، يعني ينتمون إلى قبيلة واحدة، يروي خلفهم شعر سلفهم، حتى يظل شعر القبيلة محفوظًا لديهم؛ لأنه -كما أشار ابن رشيق- يحمل مفاخرهم وأخبارهم وأحسابهم وأنسابهم، ويخلد مآثرهم، فكانوا يروون الشعر لخلفهم جيلا بعد جيل، ويمثل هؤلاء الشعراء: الأعشى، الذي كان يروي شعر خاله المسيب بن عَلَس، وأبو ذؤيب الهذلي الذي كان راوية لساعدة بن جؤية الهذلي، وطرفة بن العبد الذي كان يروي للمرقش الأصغر عمه وخاله المتلمس. ومن هذه الطبقة الأولى -أي طبقة الشعراء- شعراء لم يجمع بينهم نسب، ولم تجمع بينهم حرفة الفن الشعري، وإنما جمع بينهم سلوك معين في الحياة، فكان يروي بعضهم عن بعض، كالشعراء الصعاليك مثلا، حيث كان يأخذ بعضهم عن بعض، كما نلاحظ عند تأبَّطَ شرا والشنفرى، وأبي دؤاد الإيادي، وزيد الخيل. الطبقة الثانية من طبقات الرواة الذين قاموا بدور كبير في حفظ ذلك التراث الأدبي: هم أفراد القبيلة أنفسهم، أفراد كل قبيلة كانوا يحرصون على حفظ أشعار الشعراء، الذين ينتمون إلى هذه القبيلة وروايتها؛ لأنها تسجل مناقب قومهم، وانتصاراتهم في حروبهم، كما تسجل مثالب أعدائهم، فكان أفراد القبيلة جميعًا -شعراء وغير شعراء- يحفظون هذه الأشعار، وتنتقل من جيل إلى جيل عبر الأجيال المختلفة. أما الطبقة الثالثة فيمكن تسميتها: طبقة الحفظة، وهم الذين كانوا يرتادون المحافل والأسواق، وينشدون الأشعار التي يروونها عن جميع الشعراء، لا يلزمون

شاعرا بعينه ولا قبيلة بعينها، وإنما كانوا يحفظون عن كل الشعراء، ويؤثرون الأشعار التي تسجل المآثر والمثالب، والأحساب والأنساب والأيام والأخبار، وكان هذا شاغلهم ولم يكن لهم شاغل سواه، وهم الذين قال عمر بن الخطاب فيهم: "كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه"، فكانوا يحرصون -هذه الطبقة من الرواة- على إذاعة هذه الأشعار، ونقلها من بيئة إلى بيئة ومن قبيلة إلى قبيلة، ومن بلد إلى بلد، فذاعت وانتشرت، وتنوقلت على الألسن، وحفظتها الذاكرة عبر الأجيال المختلفة. هذا بالنسبة للعصر الجاهلي، وظلت هي الأداة المستخدمة كما رأينا في حفظ الأشعار، أو التراث الأدبي عمومًا، ثم ظهر الإسلام، وبعد ظهوره استمرت رواية الشعر، وأجاز النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك، وكان كثيرا ما يستنشد الصحابة شعرًا -رضي الله عنهم، كما شجع عليه صحابةُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فكان أبو بكر النسابة -رضي الله عنه- وكان راوية للشعر، وكذلك كان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه، ثم زادت الحاجة إلى الرواية بعد إنشاء الدواوين في عهد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه؛ إذ كانوا يرجعون إلى الرواة لمعرفة الأنساب؛ لأنها كانت تقوم بدور مهم في رواتب الجند الفاتحين، وفي مراكز القبائل بالمدن الجديدة مثل: البصرة والكوفة، ولم تعد الرواية قاصرة على الشعر فقط في عصر صدر الإسلام، وإنما اتسعت لتشمل القرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف، معنى ذلك أن الرواية كانت تمثل أداة مهمة في حفظ التراث الأدبي في عصر صدر الإسلام، بالإضافة إلى حفظ القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة. وظل الحال على ذلك طوال عصر صدر الإسلام، ثم قامت الدولة الأموية، وكانت نزعتها عربية خالصة، فعملت جاهدة على حفظ هذا التراث، واستخدمت الرواية وسيلة لهذا الحفظ، واهتم خلفاء بني أمية بذلك اهتمامًا لا حد له، كما فعل معاوية وعبد الملك بن مروان وغيرهما من الخلفاء، إذ كانوا

كثيرًا ما يسألون وفود القبائل التي تفد عليهم عن بعض شعرائها، وكانوا إذا اختلفوا في بيت من الشعر أبردوا بريدًا إلى العراق، يعني أرسلوا بريدا إلى العراق يسألون علماءها عن صحة ذلك البيت، وإن دل ذلك فإنما يدل على شدة حرصهم ودقة روايتهم، كما اهتموا بتأديب أبنائهم من خلال مؤدبين يروونهم أشعار الجاهلية وأيامها وأخبارها. ومما ساعد على ازدهار الرواية في ذلك العصر أيضًا: ظهور طائفة القصاص، الذين كانوا يجلسون للعظة في المساجد الجامعة، وكانوا كثيرا ما يروون الأشعار وينثرونها للإفادة بما فيها في وعظهم، كما ظهرت جماعة في ذلك العصر أيضًا عنيت بغزوات الرسول -صلى الله عليه وسلم- وما قيل فيها من أشعار، ومن هؤلاء: أبان بن عثمان بن عفان وعروة بن الزبير، وهناك جماعة أخرى اهتمت بأخبار العرب الماضين، وما كان يجري على ألسنة شعرائهم، كل هؤلاء كانوا يستخدمون الرواية في حفظ هذا التراث وفي نقله إلى غيرهم، كما ظهرت طائفة أخرى من الرواة لم يكونوا يحسنون نظم الشعر، فهم لا يروونه لغرض تعلمه، وإنما يروونه لنشره بين الناس، وهؤلاء يشير إليهم جرير بقوله: خروج بأفواه الرواة كأنها ... قَرَى هندواني إذا هُز صَمما هذه هي وظيفتهم، يحفظون أشعار الشعراء، ويروونها وينشرونها بين الناس، هذا ديدنهم، كان ذلك في عصر بني أمية، وكما رأينا اتسع مجال الرواية، واتسع أصناف الرواة وتعددت غاياتهم المختلفة، وكلهم يعتمد على الرواية، أي الحفظ والنقل والاستظهار. ثم جاء العصر العباسي، ونشأت طبقة من الرواة المحترفين، الذين يتخذون رواية الشعر عملًا أساسيًا لهم، فيهم عرب وفيهم موال، فيهم قراء للقرآن، وغير قراء، وهم جميعا حضريون، يعني كانوا يعيشون في البصرة والكوفة، وكانوا

يضيفون إلى رواية الأشعار كثيرا من الأخبار عن الجاهلية وأيامها، ومن هؤلاء الرواة: أبو عمرو بن العلاء، وحماد الراوية، وخلف الأحمر، ومحمد بن السائب الكلبي، والمفضل الضبي، وكانوا يرحلون إلى القبائل والأعراب في البادية وإلى نجد أحيانًا؛ ليأخذوا الأشعار والأخبار من ينابيعها الصحيحة، هذا في بداية العصر العباسي. ولا نكاد نمضي في ذلك العصر حتى يكون هؤلاء الرواة مدرستين متقابلين: مدرسة البصرة ومدرسة الكوفة، واستطاع رواة هاتين المدرستين جمع مادة كثيرة من الأشعار والأخبار وأيام العرب، اعتمد عليها المدونون فيما بعد. أخذوا هذه الأشعار والأخبار من ينابيعها الصحيحة، هكذا قامت الرواية الشفوية بدور كبير في حفظ التراث الأدبي للعرب، منذ العصر الجاهلي وحتى سنوات عدة من بداية العصر العباسي، وهذه الرواية الشفوية تمثل وسيلة مهمة في حفظ ذلك التراث، وهي الوسيلة الأولى. أما الوسيلة الثانية من طرق حفظ التراث عند العرب فهي التدوين، بمعنى الكتابة، أي تسجيل ذلك التراث، بمعنى نقله من الذاكرة إلى كلام مكتوب مدون. بدأ التدوين الفعلي للنصوص في فترة مبكرة من حياة العرب، ففي عهد أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- جمع القرآن الكريم ودون في كتاب واحد، بعد أن كان مفرقًا في صدور الحفظة، وفي النصف الثاني من القرن الأول الهجري عرف العرب بدايات التدوين، حيث يطالعنا عدد كبير من الرواة العلماء والأدباء من العرب والموالي على حد سواء، يعيشون في الحضر، وهم على دراية كاملة ومعرفة واسعة بالبادية، يرحلون إليها ويلتقون بأهلها أو يلقونهم في الحواضر والأسواق؛ ليجمعوا ما لديهم من أشعار وأخبار، ثم يقومون بتدوينها، ويعملون على حفظها مدونة أي: مكتوبة، ودرسها وشرحها لتلاميذهم وإذاعتها على الناس.

وما إن استكملت الحياة الثقافية في كل من مدينتي البصرة والكوفة، حتى اشتد التنافس بين علماء ورواة المدرستين في سبيل جمع وتدوين التراث العربي القديم، بدءوا يرحلون إلى البوادي، لكن ليس من أجل الحفظ فحسب، وإنما من أجل الحفظ للتدوين، وبخاصة حفظ الأشعار والشعر الجاهلي. ومن علماء مدرسة البصرة الذين كان ذلك هدفهم: الأصمعي، الذي نقل الكثير عن فصحاء الأعراب الذين كانوا يفدون إلى البصرة، كما أكثر الخروج إلى البادية وشافه أهلها ونقل عنهم، ودون ما تجمع لديه، وله مجموعة شعرية منتقاة من الشعر الجاهلي سميت باسمه (الأصمعيات). ومن رجال مدرسة الكوفة المبرزين في ذلك المجال: المفضل الضبي، وهو عربي صميم أسهم بشكل واضح في حركة التدوين، وقام بجمع كثير من أشعار العرب وأخبارهم، وتتلمذ على يديه مجموعة من العلماء والرواة منهم: أبو عمرو إسحاق الشيباني، وابن الأعرابي، والفراء، وأبو زيد القرشي، وغيرهم من أعلام اللغة والأدب، وخلال عملية البحث والتدوين هذه -التي أشرنا إليها- حرص هؤلاء العلماء على أن يلتزموا في عملهم هذا منهجًا محددًا، وقائمًا على أصول ثابتة، مما يجعلنا نطمئن لمنهجهم في جمع هذا التراث وتدوينه، ومدى الاهتمام به، ونثق في صحته وسلامة ما وصل إلينا منه عن طريق هؤلاء الرواة. أقول هذا حتى لا يؤثر فينا ما نسمعه من كلام في مثل هذه القضية، وهي قضية نسبة الأشعار إلى غير أصحابها، أو ما يعرف بقضية الانتحال، هذا المنهج الذي حرص عليه هؤلاء العلماء منهج دقيق، يتلخص في نقطتين مهمتين؛ النقطة الأولى: تحديد مصادر هذا التراث وتعيين أماكن وجوده، كانوا يحددون المصدر أين يوجد، وفي أي مكان، ثم يشدون الرحال إلى هذه الأماكن، إلى تلك البوادي والمناطق المعزولة، نعم كانت معزولة نسبيا عن اختلاط اللغة في العصر

العباسي بالذات؛ لأن العرب اختلطوا بالموالي وظهر اللحن، فكان هؤلاء الرواة يفضلون أن يذهبوا إلى هذه المناطق المعزولة نسبيا؛ حتى تكون اللغة لغة بعيدة وصحيحة وخالية من اللحن؛ ليأخذوا اللغة من أفواه الأعراب الذين لم تفش فيهم عجمة أو لحن، هذا هو المنهج الأول. المنهج الثاني: فحص ما جمعه الرواة من نصوص فحصًا دقيقًا؛ لتوثيق مصدره ومتنه على أيدي خبراء ذوي بصر باللغة والشعر، فكشفوا عن زائفه ومنحوله، وميزوا الرواة الذين عرفوا بالضبط والثقة من الذين لم يعرفوا بهذا، مِن الذين اشتهروا بالوضع والنحل، فجرَّحوهم ونبهوا وأشاروا إليهم، ولم يكونوا يتهاونوا في ذلك على الإطلاق، ونحن نعلم أنه بمقدار تراث الأمة -كما قلت- وأهميته بالنسبة لهم يكون الاهتمام بهذا التراث رواية وتدوينًا وتمحيصًا، فكانوا جادين في عملهم، كانوا جادين في فحص الروايات، كانوا جادين في امتحان الرواة والتشدد في ذلك تشددًا واضحًا، وكانت نتيجة هذه الحركة النشطة أن وصل إلينا كم ضخم من هذا التراث، عكف عليه الدارسون كل يعمل في مجال تخصصه. فاللغويون يستخلصون منه معجم ألفاظ اللغة، ويميزون قواعد نحوها من صرفها وضوابط شعرها، وخصائصها الأسلوبية والبيانية، وآخرون منهم اختصوا بدراسته وتحليله، فشرحوا ألفاظه وفسروا غريبه، واهتم غيرهم بتذوقه ونقده، كما اتجه آخرون إلى تراجم الشعراء وجمع المرويات عنهم. وهكذا نحن الآن صرنا ضمن هؤلاء الباحثين، ننظر في هذا التراث ونبحث فيه؛ لنستكشف عوالمه، ونستنبط المقاييس الفنية، والأجناس الأدبية التي ابتكروها وتوصلوا إليها. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 2 العرب والبحث العلمي - مناهج التأليف عند العرب (1).

الدرس: 2 العرب والبحث العلمي - مناهج التأليف عند العرب (1).

هل كان العرب مجرد مبدعين أم أنهم عرفوا طريق البحث العلمي؟.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثاني (العرب والبحث العلمي - مناهج التأليف عند العرب (1)) هل كان العرب مجرد مبدعين أم أنهم عرفوا طريق البحث العلمي؟ الحمد لله الذي علم الإنسان ما لم يعلم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه وبعد: فهل وقف العرب عند ذلك الحد حد جمع المعلومات ولم تكن لهم رؤية علمية في النظر في هذا الإبداع؟ بمعنى: هل كان العرب مجرد مبدعين أم أنهم عرفوا طريق البحث العلمي وأسسه واتجاهاته؟ عرف العرب البحث العلمي منذ فترة مبكرة من حياتهم، لا أقول: إنهم عرفوه في العصر الجاهلي مثلا، لا فإن البيئة التي عاشوها لم تكن لتؤهلهم إلى معرفة هذه النهضة العلمية، التي رأيناها في العصور التالية، ولكنهم عرفوها إبان نهضتهم وحضارتهم الإسلامية، عندما جاء الإسلام ولفت أنظارهم إلى البحث والتأمل والنظر، وأطلق لها الحرية في التأمل ومعرفة ما وراء الكونيات، فقد انطلق العرب -من خلال فهمهم لهذا الدين الإسلامي- يمهدون الطريق في هذا المجال أمام الغربيين، الذين أفادوا منهم إفادة عظيمة باعتراف المنصفين منهم، الغربيون أنفسهم يعترفون بفضل الحضارة والعلماء العرب على الحضارة الغربية مثل: "برنارد لويس" "سيديو" وغيرهما كثير. وعندنا كتب كثيرة تحدثت عن هذه القضية، عندنا كتاب (قصة الحضارة) لـ "ديوران"، (الإسلام والحضارة العربية) لـ "وثوب"، (حضارة العرب) "جوستاف لوبون"، فضل العرب على حضارة الغرب كثير، عندنا كثير من المؤلفات موجودة، وفيها اعترافات من الغرب أنفسهم بأن العرب قد تفوقوا عليهم، وأنهم أفادوا منهم إفادة كبيرة في مجال البحث العلمي. ولم يكن تفوق العرب في مجال البحث الأدبي فحسب، صحيح هم اتجهوا إلى جمع التراث الأدبي وبخاصة الشعر، ولكن بحثهم وانطلاقاتهم العلمية تجاوزت حدود الأدب، فكانت لهم أبحاث في العلوم، كان تفوقهم في شتى مجالات البحث العلمي، وأصبحوا في القرن التاسع الميلادي حراس العلم، وسدنة المعرفة والمهيمنين على معظم مراكز الثقافة والبحث العلمي، في الوقت الذي كان

العلم في أوربا في سبات عميق، وأصبحت اللغة العربية هي لغة العلم والثقافة والحضارة. هذا الكلام لا أدعيه، وإنما هناك أدلة كثيرة عليه تؤكده وتثبت صحته، ويكفي أن نذكر من هذه الأدلة عرض بعض الأسماء لعلماء العرب الذين لا يوجد قرين لهم بين أبناء الغرب، من أمثال: جابر بن حيان، والكندي، والخوارزمي، والرازي، وثابت بن قرة، وحنين بن إسحاق، والفارابي، والطبري، وابن البيطار، والبيروني، وابن سينا، وابن الهيثم، وغيرهم كثير ممن ذاع صيته وعمت شهرته الآفاق، هؤلاء العلماء عرفوا بما قدموه للعلم والعلماء، وقاموا بدور واضح في ازدهار الحضارة الإنسانية عامة، حتى صار الشرق الإسلامي في العصور الوسطى مهدًا للعلم والفكر، وأصبحت اللغة العربية لغة الحضارة، ونمت في أحضانها فروع العلم المختلفة، هذه حقيقة قررها الغربيون أنفسهم، وأكدها تراث هؤلاء العلماء الموجود الآن، والذي يلقى العناية والرعاية من الغربيين قبل العرب أنفسهم. كانت النتيجة الطبيعية لعناية العرب بالبحث العلمي واهتمامهم به أن نمت العلوم الإسلامية، ونشأ العديد من العلوم الإنسانية ومن بينها: علوم الأخلاق والفلسفة، وآداب السلوك، وسياسة الملك وغيرها، واتسع مجال البحث في العلوم التطبيقية، مِن طب وهندسة وفلك وطبيعة وكيمياء وحساب وجبر ومنطق إلى غير ذلك، واتسعت بذلك مجالات الابتكار العلمي أمام الجميع. ولا شك في أن دعوة العقيدة الإسلامية إلى البحث والتأمل، وتشجيعها للعلم والعلماء وتنظيمها للعقل وحرية الفكر، لا شك في أن ذلك جعل العلماء يتقدمون في طريق البحث العلمي بخطى واثقة، وانطلقوا يدرسون شتى ظواهر

الكون بعقلية متحررة، ويؤيدون النظريات العقلية بالعديد من التجارب العلمية، هذه حقيقة، فالإسلام له الفضل الأكبر في تحرير هذه العقول، وفي دفعها دفعًا إلى البحث العلمي، ولم يمض قرن من الزمان على تعريب التراث العلمي للأمم الأخرى، مِن فرس وهند ويونان وأتراك وغيرهم، هذه حقيقة. نحن نعلم أن البيئة العباسية كانت عبارة عن محطة كبيرة، التقت فيها جميع الأجناس والثقافات والحضارات واللغات، الفرس والهنود والترك واليونان، كل أمة من هذه الأمم لها ثقافتها ولها فكرها ولها حضارتها، لها خصائصها التي تتميز بها، التقت كل هذه الأشكال والأصناف في البيئة العباسية فذابت الفوارق، وتحولت إلى الخصيصة العربية في اللغة وفي الحضارة، في كل شيء، الثقافة أصبحت عربية إسلامية، الحضارة أصبحت عربية إسلامية، الدين أصبح عربيا، وهذا حقيقي، لم يمض قرن من الزمان على تعريب هذا التراث العلمي للأمم، الفرس كانوا يستخدمون العربية، والهنود كانوا يستخدمون العربية، واليونان والأتراك وغيرهم. وقدم العلماء المسلمون كل جديد في العلوم الطبيعية والرياضية، ودخلوا التاريخ العلمي روادًا لآفاق لم يصل إليها أحد من قبل، وإليهم يرجع الفضل في تأصيل مبادئ المنهج التجريبي الاستقرائي، هذه حقيقة لابد أن نعترف بها، المنهج التجريبي الاستقرائي الذي يدعي كثير من الغربيين أن الفضل يرجع إليهم في تأصيله، الحقيقة أننا إذا نظرنا إلى ما قدمه علماؤنا العرب في هذه الأعصر الأولى؛ نجد أنهم هم الذين قاموا بالتأصيل لهذا المنهج التجريبي الاستقرائي، ووضعوا أوليات الكتب التجريبية في الطب، وفي التشريح، وفي الصيدلة وفي الكيمياء، وفي الطبيعة وفي النجوم والفلك والملاحة والجغرافيا، وغيرها من

المؤلفات، منطلقين من حيث انتهى إليه الأمم التي سبقتهم، وهذا منهج علمي دقيق، يعني لم يكونوا عالة على الهنود أو اليونان أو الفرس إطلاقًا، وإنما كانت لهم رؤيتهم المستقلة. وكتبهم في هذا المجال تشهد بعبقريتهم، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر (المختصر في حساب الجبر والمقابلة) الخورازمي، وقد ترجم هذا الكتاب إلى اللغة اللاتينية، وله رسالة أخرى تسمى (الرسالة المنهجية في الحساب الرياضي)، وترجمت إلى اللاتينية أيضا، وكتاب (الحركات السماوية وجوامع علم النجوم) الفرغاني، وترجم أيضا إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر الميلادي، وكتاب (القانون المسعودي في الهيئة والنجوم) للبيروني، وكذا كتابيه (الآثار الباقية) و (الجماهر في معرفة الجواهر)، في هذه الكتب حديث عن الفلك وحساب المثلثات وحساب التوقيت والرياضة والجغرافيا، وكل هذه المعلومات وغيرها تؤكد عمق فكره ومتانة منهجه، بالإضافة إلى ما كتبه الكندي في المد والجزر، وابن سينا في علم الطبيعة والنبات والحيوان والمجال الطبي. وكانت براعتهم في الجانب الأدبي لا تقل عن براعتهم في الجانب العلمي التطبيقي والتجريبي، هذه حقيقة، وكتب التراث التي نحن الآن ننظر إليها ونتعامل معها، ونحاول فهم ما جاء بها تعلمًا وتذوقًا؛ لأكبر دليل على أن تفوقهم لم يكن في الجانب العلمي، أو التجريبي أو التطبيقي فحسب، وإنما كان في الجانب الأدبي قبل أن يكون في هذه الجوانب العلمية الأخرى، وجدير بالذكر أن هؤلاء العلماء الذين كتبوا في الفلك، أو في الجغرافيا أو في الطب أو في النبات أو في الحيوان أو غيرها من العلوم، كانوا أدباء في المقام الأول، ومنهم من نظم الشعر، فكانوا علماء يتصفون بالموسوعية.

أدوات البحث العلمي عند العرب.

وقد شهد بعبقرية هؤلاء العلماء "دوذي"، شهد بهذا التقدم العلمي للعرب، فله كتاب يسمى (تاريخ المسلمين في أسبانيا)، ذكر فيه أن الأوروبيين في العصور الوسطى كانوا يقعون تحت سيطرة البابوات، وكانوا تائهين في ظلام الجهالة، لا يرون النور إلا من سم الخياط، وكان النور لا يسطع إلا من جانب المسلمين، من علوم وآداب وفلسفة وصناعات، وكانت بغداد والبصرة والقاهرة ودمشق، وفارس، وقرطبة -كل هذه بلدان إسلامية كان المسلمون حكامها وتقع تحت إمرتهم- تمثل المراكز العظيمة للعلوم والمعارف، في وقت كانت فيه العواصم الأوروبية أشبه بالقرى الخالية من كل ما يشد الناس إليها، ويربطهم بها. فالعرب كان لهم السبق في مجال البحث العلمي لا شك في هذا، وأنهم أصلوا المناهج التجريبية التطبيقية. أدوات البحث العلمي عند العرب إذا ثبت لدينا أن العرب كان لهم باع في مجال البحث العلمي، ونحن نعلم أن البحث العلمي لابد له من أدوات بحثية، الآن البحث العلمي صار علما وله مناهج، فهل كان العرب ينطلقون في بحثهم هذا من خلال معرفة بمجموعة من الأدوات، أم ماذا كانوا يصنعون؟ ثبت لدينا حقيقة أنه كانت لهم تجارب بحثية رائعة، أفاد منها الغرب قبل العرب، فهل كان العرب يمتلكون أدوات البحث العلمي التي تؤهلهم لأن يكونوا أساتذة وروادًا في هذا المجال؟ من الأسباب التي مكنت العلماء العرب من الوصول إلى هذا المستوى في مجال البحث العلمي: دقة الأداة، وصحة المنهج، فقد استخدموا عدة أدوات تتفق مع بيئتهم وثقافتهم، يمكن إجمالها فيما يلي:

الأداة الأولى التي استخدمها العرب في مجال البحث العلمي، ومكنتهم من التفوق في هذا المجال على غيرهم: هي الروح العلمية، التي تتسم بالحيدة ونزاهة العقل، فقد أقبلوا على البحث بروح علمية واثقة وثابة، وفكر واع مستنير، مستعد لقبول الحق واعتقاده، متجرد من تأثير الأحكام المسبقة، وهذه مهمة جدا، هذه الأداة لابد أن يتصف بها كل باحث علمي مدقق حصيف واع، أن يمتلك الروح العلمية المحايدة والعقل النزيه، يقبل على البحث في ثقة وفكر واع، ويكون عنده استعداد لقبول الحقيقة أيًا كانت، طالما أن الحجة قد قامت عليها لابد أن يقبلها، بهذا استطاع العرب أن يبحثوا، وأن يستنتجوا وأن يتفوقوا، وأن يسيطروا على العالم كله في مجال البحث العلمي عندما اتصفوا بهذه الصفة. الأداة الثانية التي استخدمها العرب في بحوثهم: الشك في الموضوع، والشك قائم منذ أن تبدأ البحث في الأدب، وقلنا: إن كلمة بحث تعني أن هناك حقيقة مفترض وجودها، هي موجودة لكنك لا تدركها، فأنت تشك هل هي موجودة حقيقة؟ فإن كانت موجودة فعليك أن تأتي بالدليل، وتقيم الحجة على وجودها، فأنت تبدأ بالشك ثم تأتي بالأدلة حتى يتحول الشك إلى يقين. فالشك في الموضوع، أو في هذه الحقيقة المفترضة التي يتتبعها الباحث في بحثه؛ هذه أداة أخرى من أدوات البحث العلمي، وقد استخدمها العرب قديما، وكانت ضمن الوسائل التي مكنتهم من التفوق في هذا المجال، فادعى الآن في العصر الحديث "بيكون" و"ديكارت" أن الشك، أو المنهج الشكي من ابتكارهما، وهذا ادعاء خاطئ، والحقيقة أنهما كانا في ذلك تلميذين للباحثين العرب، وبخاصة النَّظَّام، والجاحظ والغزالي والخوارزمي، والبيروني، وعلماء كثر من المسلمين العرب وغير العرب، كان الشك أساسًا من أسس البحث العلمي عندهم.

فنأخذ مثلا الغزالي أوضح في كتابه (المنقذ من الضلال)، هذا دليل نستطيع أن نثبت من خلاله أن أداة الشك، أو هذا المنهج العلمي دليل أكيد على أن العرب قد سبقوا "ديكارت" و"بيكون" بأزمان طويلة، فيقول الغزالي في كتابه (المنقذ من الضلال) أنه مر بمرحلة الشك في الأمور حتى يقوم الدليل على صحتها، فيقول: "إن كل ما لا أعلمه على هذا الوجه، ولا أتيقنه هذا النوع من اليقين فهو علم لا ثقة به، ولا أمان معه، وكل علم لا أمان معه فليس بعلم يقيني". وعند النظام وعند الجاحظ كثير، وهذا معروف في كتب النظام والجاحظ. الأداة الثالثة من أدوات البحث العلمي التي استخدمها العرب: التجربة، التجربة تبدأ بالملاحظة ثم بعد ذلك الاستقراء ثم الموازنة، ثم التركيب، ثم الاستنباط القائم على المقدمات للوصول إلى نتيجة ثابتة، وهي النتيجة التي يظل الباحث يسعى وراءها، حتى تثبت لديه بالأدلة اليقينية، بعد مرحلة طويلة من الشك والتجريب، ومحاولة الموازنة، ومحاولة الاستنباط، هذا المنهج التجريبي كان من المناهج التي اعتمد عليها الجاحظ في بحوثه، وتحصيل العديد من معلوماته، اعتمد عليه اعتمادًا يكاد يكون كليًّا بالإضافة إلى الشك. وكان دائمًا يدعو الناس إلى أن يجربوا بأنفسهم، ويعد ذلك تأصيلًا لهذا المنهج، ومحاولة لزرع هذه الأداة في نفوس كل من يطلب العلم، فكانت المعاينة عنده تشكل العنصر الأول من عناصر البحث العلمي، يضم إليها التجربة والعرض والمقابلة والتصنيف، ومن ثم فإنه يعد أحد أعمدة علم الأحياء العرب، ومن أهم كتاباته في ذلك المجال كتاب (الحيوان)، الذي أكد فيه وحدة الطبيعة، وأوضح العلاقة بين المخلوقات المختلفة، وظلت آراؤه في التجربة منهجًا علميًا مقررًا لدى الباحثين من بعده.

وهو بهذا في الحقيقة يسبق "بيكون" الذي توفي سنة ألف وستمائة وست وعشرين، و"بيكون" هذا هو الذي نادى بأنه يجب علينا ألا نستند إلى أحكام المتقدمين ونسلم بآرائهم؛ لأنهم لا يعاينون الأمور عيانًا كافيًا، فما ينبغي لنا أن نكون أصحاب أفكار مسبقة نؤمن بها، بل يجب علينا أن نلجأ إلى المعاينة وإلى التجربة، ثم إلى استنباط النتائج العامة من الأمور التي نعاينها ونجربها، هذا كلام "بيكون"، و"ديكارت" له كلام يشبه هذا الكلام، فلسفته كانت تقوم على العقل. يقول: "لا تصدقوا إلا ما كان واضحًا"، فالوضوح إنما هو أصل الأمر في اليقين، فما ينبغي لقوة من القوى الظاهرة أن يكون لها سلطان على حرية تفكيرنا. هذا الكلام الذي قاله "بيكون" و"ديكارت" في القرن السابع عشر الميلادي -يعني بعد الجاحظ بمئات السنين- ليس جديدا في مجال البحث العلمي، هذه هي الحقيقة، ولكن إذا تأملنا كلام الجاحظ لوجدنا أنهما عالة على الجاحظ في أفكاره هذه، فمن كلام الجاحظ في كتاب (الحيوان): "لا أجعل الشيء الجائز كالشيء الذي تثبته الأدلة، ويخرجه البرهان من باب الإنكار". الشيء الجائز يعني هو الشيء الذي فيه احتمالان: احتمال أن يكون هو أو لا يكون، يعني الذي فيه شك، يعني لم تقم عليه الحجة. هذا كلام الجاحظ ولو تأملناه لوجدنا أنه أكثر دقة من كلام "بيكون" و"ديكارت"، فهو صاحب المنهج التجريبي فعلا القائم على التجريب. هذه مجموعة من الأدوات والأسس التي اعتمد عليها علماء العرب في بحثهم العلمي، بالإضافة إلى أداتين مهمتين كانتا ضمن أدوات حفظ التراث الأدبي لدى العرب، وهما أيضا أداتان مهمتان من أدوات البحث العلمي عند العرب؛ وهما: الرواية ثم الكتابة، نعم في المراحل الأولى اعتمد علماء العرب على الرواية في بحوثهم العلمية، ثم في مرحلة تالية اعتمدوا على الكتابة.

اتجاهات التأليف عند العرب "اتجاه الاختيارات الأدبية المجرد".

إذن اتضح أن العرب كانوا أصحاب سبق في مجال التأليف العلمي، وكان لهم سبق أيضا في معرفة الأدوات العلمية، أو أدوات البحث العلمي التي ينبغي أن يستخدمها الباحث حين بحثه. اتجاهات التأليف عند العرب "اتجاه الاختيارات الأدبية المجرد" هناك فرق بين المنهج والأداة: المنهج يأتي نتيجة تطور علمي وفكري وثقافي غير قليل حقيقة، الأمم التي تقدمت فكريًا وثقافيًا وعلميًا هي أفضل الأمم في معرفة المناهج العلمية السديدة، الموصلة إلى النتائج اليقينية التي لا شك فيها، فما موقف العرب من المناهج العلمية حين التأليف؟ هل كانت لهم مناهج حين استخدموا هذه الأدوات التي أشرت إليها؟ أم أن التأليف عندهم جاء تأليفًا انطباعيًا لم يكونوا يعرفوا منهجًا من المناهج؟ التدوين بدأ في فترة مبكرة من حياة العرب، وبدأ التأليف الحقيقي منذ أن بدأ التدوين يظهر في البيئة العربية، فلو رجعنا إلى عصر بني أمية لوجدنا أنه شهد حركة كبيرة في مجال التأليف، ولم تكن هذه الحركة قاصرة على علوم الدين واللغة والأخبار والأنساب فحسب، وإنما كانت لهم إسهاماتهم في مجال العلوم الأخرى كالكيمياء والطبيعة، فقد روي أن يزيد بن معاوية كتب أكثر من كتاب في الكيمياء والعلوم المعملية، ذكر منها ابن النديم كتاب (الحرارات)، وهذا دليل على أن العرب بدءوا يطرقون باب التأليف منذ فترة مبكرة، تواكب بداية التدوين عندهم. مما يؤكد ذيوع التأليف في عصر بني أمية: اشتهار عدد كبير من العلماء باقتناء المكتبات الخاصة والعامة، من هؤلاء: ابن شهاب الزهري التابعي، وكان من

أكابر الرواة الحفاظ الفقهاء، الوليد بن يزيد أبو عمرو بن العلاء وغيرهم، ومن المكتبات العامة في عصر بني أمية التي احتوت على ألوان شتى من العلوم والفنون، وارتادها طالب العلم مكتبة عبد الحكيم بن عمرو بن عبد الله بن صفوان، ويؤكد اهتمام بني أمية بالتأليف أيضًا وتفوقهم فيه -بجانب هذين- يؤكد هذا امتلاكهم لأهم أداة من أدوات التأليف؛ وهي الكتابة الفنية، وهذه أهم دليل. كلكم يعرف أن الكتابة الفنية في عهد بني أمية نهضت نهضة واضحة، واشتهر بها عدد من الكتاب مثل: يحيى بن يعمر العدواني وعبد الله الطالبي، وعبد الحميد بن يحيى الكاتب الذي وضع أسس الكتابة الفنية، هذه حقيقة، فكيف ترقى الكتابة إلى هذا المستوى ونقول: إن العرب لم يعرفوا المجال التأليفي؟! هذا لا يصح ولا يجوز، فرُقي الكتابة الفنية على يد عبد الحميد الكاتب -الذي وضع الأسس الفنية لها- لدليل أكيد على أن التأليف العلمي في ذلك العصر كان لا يقل في رقيه عن الكتابة الفنية بأي حال من الأحوال. فإذا جئنا إلى العصر العباسي وجدنا أن التأليف قد اتسع اتساعًا عظيما جدا، ونشطت الحركة العلمية نشاطا ملحوظًا، وظهرت الترجمة في عهد الرشيد والمأمون بعد أن أقيمت دار الحكمة، وترجم كثير من العلوم والفنون إلى اللغة العربية، كما اتسعت أرجاء الدولة العباسية، وامتدت مراكز الثقافة إلى الأقاليم التابعة لها، يعني لم تعد الثقافة قاصرة على البصرة والكوفة وبغداد، هذه مدن كبيرة مشهورة بالعلم والعلماء والتأليف والكتابة، ولكن اتسعت الأماكن والبلدان التي ظهر فيها كتاب ومؤلفون، امتدت امتدادًا لا حد له أقاليم تابعة، وأخذت هذه الأقاليم تنافس بغداد في التأليف.

إذن ظاهرة التأليف عند العرب لا يمكن إنكارها، الأدلة قائمة على أنها موجودة لدى العرب منذ أن بدأ التدوين يظهر، أو منذ أن اعتمد العرب على التدوين، في العصر الأموي ظهر التدوين وظهر معه بعض الكتب المؤلفة، ثم زادت الحركة في نهاية العصر الأموي، ثم اتسعت اتساعًا لا حد له، ونشطت نشاطا عظيمًا ملحوظًا في العصر العباسي، وكثير من المصادر تشهد بذلك. أما عن المناهج صحيح كانت لهم كتب، ونحن نتساءل هل كانت لديهم مناهج حين كتبوا هذه الكتب أم أنها كانت مجرد انطباعات شخصية صبوا فيها أفكارهم دون اتباع منهج أو دون الالتزام بمنهج؟ حقيقة يمكن أن نطلق عليها مناهج انطباعية بمعنى أنهم قد اكتشفوا طريقهم بأنفسهم. ليس معنى أنها مناهج انطباعية أننا لا يمكننا أن ندرجها تحت أي منهج من المناهج العلمية المتبعة، لا أقصد هذا، هي مناهج انطباعية صحيح ناتجة عن انطباع، لكن انطباع فكر راق، انطباع نفس واثقة وثابة نحو التقدم العلمي والرقي، انطباع علماء أجلاء كانوا في غاية الحرص على تعليم الأجيال أصول البحث العلمي، فليس معنى قولي: إنها مناهج انطباعية يعني لا ترقى إلى مستوى المناهج العلمية الحديثة، وإنما اكتشفوها بأنفسهم، ومهدوا الطريق لمن جاء بعدهم من خلال هذه المناهج وتوصلوا إلى ذلك عن طريق ذكائهم وخبرتهم وثقافتهم وعلمهم الذي ليس له حدود. لا يمكننا أن نقول: إنهم جميعًا اتبعوا منهجًا واحدًا، ولكن اختلفت اتجاهات هؤلاء العلماء وتعددت مناهجهم تبعًا لتعدد ثقافتهم واختلاف بيئتهم وغاياتهم، والموضوع الذي يكتبون فيه، كل عالم من هؤلاء العلماء كان يعيش في بيئة تختلف عن بيئة العالم الآخر، أو حتى إن كان يعيش في نفس البيئة، فكان يكتب

في موضوع يختلف عن الموضوع الذي يكتب فيه العالم الآخر، كان يملك لونًا من الثقافة يختلف عن ثقافة الآخر كانت لديه أو أمامه غاية أو لديه رؤية يود الوصول إليها من خلال هذه الكتابات وهكذا الاتجاهات تعددت، وتعددت المناهج تبعًا لتعدد هذه الاتجاهات والثقافات واختلاف البيئات. من خلال الاطلاع -الحقيقة- على المصادر الأدبية التي ورثناها عن العرب، والتي تمثل الثروة العربية الكبرى التي ينبغي أن نحافظ عليها من خلال الاطلاع على هذه المصادر يمكن إرجاعها إلى عدة اتجاهات بارزة نلخصها في التالي: الاتجاه الأول: اتجاه يسمى اتجاه الاختيارات الأدبية المجردة. الاتجاه الثاني: يسمى اتجاه الطبقات والتراجم. الاتجاه الثالث: يسمى اتجاه الدراسة الأدبية والنقدية. الاتجاه الرابع: اتجاه يسمى اتجاه الموسوعات العلمية. لو نظرنا إلى هذه الاتجاهات المتعددة لوجدنا أن كل مؤلف في تلك الاتجاهات يسلك منهجًا قد يتفق وقد يختلف مع غيره حتى في الاتجاه الواحد، يعني مثلا لو أخذنا الاختيارات الأدبية المجردة ووجدنا أن أكثر من عالم قد كتب فيها كتابًا أو أكثر فمن الممكن أن تتفق المناهج المتبعة في الاتجاه الواحد، ومن الممكن أن تتعدد المناهج بتعدد العلماء واختلاف ثقافاتهم وغاياتهم. الاتجاه الأول: الذي يسمى الاختيارات الأدبية المجردة. ما معنى الاختيارات الأدبية المجردة وما المقصود بها؟ الاختيارات الأدبية المجردة عبارة عن مجموعة من المختارات الشعرية التي انتقاها جامعوها من التراث الشعري القديم واعتمدوا في هذا الاختيار على ذوقهم الخاص، لماذا لجئوا إلى هذا المنهج أو إلى هذا الاتجاه؟ لماذا فكروا في جمع هذا التراث؟

الحقيقة أننا لو نظرنا إلى الغاية عند هؤلاء العلماء لوجدنا أن غايتهم نبيلة، فكانوا يجمعون هذه الأشعار ويودون حفظها أو يدعون إلى حفظها ويسجلونها أو يدونونها في كتب بقصد حفظها من الضياع. وهناك سبب آخر كانوا يقصدون من خلال ذلك تربية الملكة الأدبية والفنية لدى المتذوقين والمتعلمين هذه المختارات التي دونها هؤلاء العلماء في كتب أكيد سيأتي زمن -كالزمن الذي نحن فيه الآن، وقد سبقنا إلى هذا كثير في الأزمنة المتقدمة- ويطلعون على هذه النماذج، فيتذوقونها ويتعلمون منها من خلال الخبرة والممارسة والمران والتدريب. كانت هذه المختارات في الحقيقة مجالا خصبًا لكثير من الدراسات النقدية والأدبية التي استطاع أصحابها الوصول إلى مجموعة من المقاييس النقدية لازلنا نتدارسها إلى الآن ولو أخذنا مثلا كتاب (المفضليات) أو (الأصمعيات) أو المعلقات لوجدنا أن هناك كثيرا من الدراسات التي قامت حول هذه الأشعار التي دونت في هذه الكتب، ولم تكن هذه الدراسات مجرد نظرات عابرة بالعكس، وإنما كانت نظرات متعمقة، وكانت الغاية منها هي استنباط واستنتاج المقاييس الفنية لدى المبدعين، ولدى الذين قاموا على اختيار هذه النماذج التعرف على أذواقهم، والتعرف على الملكة الفنية التي كان يتصف بها هؤلاء المبدعون آنذاك في العصور المتقدمة. هذا الاتجاه -اتجاه الاختيارات الأدبية المجردة- ظهر في مرحلة مبكرة من مراحل التأليف عند العرب، ويمكن أن نعده أول اتجاه يظهر أو المرحلة الأولى من مراحل التأليف، وصرف أصحابه جل عنايتهم نحو الشعر خاصة لماذا؟ لأن الشعر له مكانة عظيمة لدى العرب ولأن الشعر له رواة، فمن المؤلفين من شغل نفسه بجمع نماذج من الشعر لشعراء مختلفين في العصر، بعض العلماء الذين كتبوا في هذا الاتجاه كان يختار مثلا شاعرا من الجاهلية، وشاعرا من صدر الإسلام وشاعرا من العصر

الأموي، ومنهم من كان يختار شعراء من العصر الجاهلي فقط، ومنهم من كان يختار شعراء من صدر الإسلام فقط، وهكذا. فمثلا عندنا المفضل الضبي وعندنا الأصمعي صرفوا عنايتهم إلى اختيار مجموعة من الأعصر المختلفة، والبيئات المختلفة، والاتجاهات الفنية المختلفة، لما نقرأ كتاب (الأصمعيات) نجد فيه مجموعة من الاختيارات المجردة لا تندرج كلها تحت فن أدبي واحد أو اتجاه فني واحد أو بيئة واحدة أو عصر واحد، وإنما تنوعت كل هذه الأشياء، وكذلك فعل المفضل الضبي في (المفضليات)، ومنهم من صرف جل عنايته نحو قبيلة بعينها، فيجمع شعرها بأي طريقة من الطرق، فرأينا مثلا السكري اهتم بجمع شعر قبيلة بني هذيل، ومنهم من اتجه نحو مجموعة من القصائد، كانت تتصف بصفة لا تتصف بها قصائد غيرها وعدها أفضل من غيرها وجمعها في ديوان كما صنع حماد الراوية عندما جمع المعلقات من مصادرها الأصلية. ومنهم من نظر إلى أبواب الشعر، هو يختار مجموعة من القصائد لا يشرحها، ولا يدرسها ولا يعلق عليها، وأحيانًا كان يذكر القصيدة دون قال الشاعر فقط لا غير، ليس له هدف ولا غاية إلا جمع وتسجيل وتدوين هذه المختارات الشعرية، فبعضهم كان ينظر إلى الغرض الشعري، وكان يجمع مجموعة من الأشعار، ويختار هذا الفن ويجعله عنوانا لكتابه كما وجدنا مثلا الحماسات، حماسة أبي تمام وحماسة البحتري وهكذا، ومع اختلاف طريقة كل واحد منهم إلا أنها جميعًا تندرج تحت اتجاه واحد يطلق عليه اتجاه الاختيارات الأدبية المجردة. وتعد هذه المختارات في الحقيقة مصدرًا مهمًا من مصادر الشعر العربي لابد لكل باحث في هذا المجال من الرجوع إليها، وليس الشعر العربي فحسب ولكن تعد مصدرًا من مصادر الدراسات الأدبية، فكل دارس للأدب، وكل دارس للشعر ينبغي له أن ينظر في هذه جيدا ويتأملها ولا تفوته، والحقيقة تتميز هذه المختارات

بميزة ربما لا تتميز بها غيرها من المؤلفات تتميز بصحة نسبة الأشعار الواردة بها إلى أصحابها، عندنا بعض المصادر فيها أشعار منسوبة نسبة خاطئة وأشعار منسوبة نسبة صحيحة، إلا هذه المصادر التي تندرج تحت هذا الاتجاه. يعني من يرجع إليها يرجع إليها وهو في غاية الاطمئنان من نسبة كل بيت إلى صاحبه؛ لأنها كانت تقوم على الرواية الصحيحة، كل مؤلف من المؤلفين الذين اتجهوا إلى هذا الاتجاه كان لا يجمع أو لا يدون كل الروايات التي تصل، أبدًا، فقد تجمعت لديهم أشعار كثيرة جدا لا حصر لها ولكنهم كانوا يخضعون هذه الأشعار للتدقيق والتمحيص من قبل جامعيها، فإذا شكوا في واحد من الرواة كانوا لا يأخذون عنه، إذا اختلفت الروايات كانوا يرفضون تسجيل هذه الروايات، ولم يأخذوا إلا ما صح لديهم، بناء على المقاييس التي أشرنا إليها قبل ذلك وهي مقاييس علمية لا شك فيها. ومن أشهر هذه المختارات التي تندرج تحت هذا الاتجاه المعلقات التي جمعها حماد الراوية، (المفضليات) التي جمعها المفضل الضبي، (الأصمعيات) التي جمعها الأصمعي، (جمهرة أشعار العرب) لأبي زيد القرشي، (الحماسات) وهي كثيرة، (مختارات ابن الشجري). والمنهج يظهر في الدراسة أكثر ما يظهر في مجرد الجمع أو تسجيل النموذج، ومن ثم فإن المناهج لم تتضح في هذا الاتجاه وضوحها في الاتجاهات التالية، يعني لو أحببنا أن نكشف على المنهج الذي اتبعه أو سلكه المفضل الضبي مثلا أو حماد الراوية في جمعه، لا نجد منهجًا بمعنى كلمة منهج، رجل راقته بعض الأشعار، ذوقه رضي عن مجموعة من الأشعار فجمعه في هذا الكتاب؛ لغاية هو يريدها. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 3 مناهج التأليف عند العرب (2).

الدرس: 3 مناهج التأليف عند العرب (2).

بعض المصادر التي تمثل اتجاه الاختيارات المجردة.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثالث (مناهج التأليف عند العرب (2)) بعض المصادر التي تمثل اتجاه الاختيارات المجردة الحمد لله الذي علم الإنسان ما لم يعلم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه، وبعد: فقد أشرت إلى اتجاهات التأليف عند العرب، وعلمنا أنه يمكن حصرها في أربعة اتجاهات: الاتجاه الأول: اتجاه الاختيارات المجردة. الثاني: اتجاه الطبقات والتراجم. الثالث: اتجاه الدراسة الأدبية والنقدية. الرابع: اتجاه الموسوعات العلمية. وعرفنا بالاتجاه الأول اتجاه الاختيارات الأدبية المجردة، ووضحنا الغاية منه عند أصحابه، والآن نعرض عرضًا سريعًا لبعض المصادر التي تمثل هذا الاتجاه، وهي كثيرة جدا لكنا نكتفي ببعضها على سبيل التمثيل، ونبدأ بأول مصدر وهو (المفضليات). (المفضليات) عبارة عن مجموعة من القصائد الطوال، اختارها المفضل الضبي، وجمعها في كتاب، ثم أطلق عليه اسمه، فصارت تعرف فيما بعد بـ (المفضليات) نسبة إليه. واسمه: المفضل بن محمد بن أبي يعلى الضبي، كنيته: أبو العباس، هذا الرجل ولد بالكوفة. أما تاريخ مولده بالتحديد فقد اختلف فيه، وكان المفضل لغويًا راوية للأخبار والآداب، وأيام العرب، وهو موثوق الرواية، ويعد من القراء المجيدين، كما يعد من المحدِّثين الذين يتصفون بالتقوى وحسن الخلق.

كان المفضل رأس مدرسة الكوفة، ولكنه قدم البصرة وأخذ عن علمائها، كما قدم بغداد في زمن الرشيد الخليفة العباسي، وحضر مجالسه ونال صِلاته، وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على أن العلماء الأجلاء -في الأزمنة السابقة- كانوا لا يتعصبون لأي فكرة أو رأي، ويبحثون دائمًا عن الحقيقة أينما كانت، فهذا هو المفضل الكوفي يبحث عن الحقيقة في البصرة وفي بغداد، وفي أي مكان يظن أنه سيجد الحقيقة فيه. وقد شهد للمفضل الضبي الخليفة المهدي بغزارة علمه وصحة روايته والثقة فيها، فقال: "يا معشر من حضر من أهل العلم؛ إن أمير المؤمنين ليعلمكم أنه قد وصل حماد الشاعر بعشرين ألف درهم؛ لجودة شعره -وصل حماد يعني أعطاه عطية أو هدية- وأبطل روايته لزيادته في أشعار الناس ما ليس منها -وهذا ما يسمى بالوضع أو الانتحال- ووصل المفضل الضبي بخمسين ألفًا لصدقه وصحة روايته، فمن أراد أن يسمع شعرًا جيدا مُحْدثًا فليسمعه من حماد، ومن أراد رواية صحيحة فليأخذها عن المفضل". هذا الخبر موجود في (معجم الأدباء) لياقوت، وله عدة دلالات ينبغي أن نتأملها ونحن نقرؤه. من هذه الدلالات: اهتمام الخلفاء بالرواية، أدرك الخليفة المهدي أن حماد الراوية كان وضاعًا، وأدرك أيضًا أن المفضل الضبي كان رجلًا ثقة في روايته مدققًا، نأخذ منها أيضًا: إعلام الناس بالموثوق بروايته وغير الموثوق بها؛ حتى يتنبه الناس عندما يقرءون شعرًا، أو يستمعون إلى شعر، أو يَرِد عليهم خبر، أو يقرءونه إلى آخره، لابد أن يكونوا على علم بمن هو الموثوق بروايته وغير الموثوق بها. ومن الدلالات أيضًا: الدراية التامة بالشعر الجيد وغير الجيد، والموضوع وغير الموضوع، ومن الدلالات: الاعتراف بصدق المفضل الضبي في روايته، وبحماد

الراوية في وضعه للشعر، والراجح أن المفضل الضبي توفي عام مائة وثمان وسبعين للهجرة، وقيل: سنة خمس وسبعين بعد المائة، وله مجموعة من الكتب منها: كتاب (الأمثال)، وكتاب (معاني الشعر)، وكتاب (الألفاظ)، وكتاب (العروض)، وأشهر كتبه (المفضليات). أما عن المؤلَف فما سبب تأليفه؟ يذكر ابن النديم في كتابه (الفهرست) أن المفضل الضبي خرج مع إبراهيم بن عبد الله بن الحسن القرشي الهاشمي، على الخليفة المنصور، يعني ثار عليه ضمن الثائرين، وكان ذلك بالبصرة في سنة 145، ثم ظفر المنصور بالمفضل الضبي وعفا عنه، وقتل إبراهيم بن عبد الله، ثم عهد إلى المفضل الضبي تأديب ولده المهدي، أي تعليمه، وكان هناك مجموعة من الأدباء يقومون بتأديب أولاد الخلفاء والأمراء والوزراء، وروايتهم الأشعار القديمة؛ حتى تستقيم ملكتهم، فاختار المفضل الضبي هذه الأشعار ليعلمها المهدي، وانتقاها لتثقيفه. يعني هذه القصائد التي وجدت في (المفضليات) عبارة عن قصائد اختارها المفضل الضبي؛ ليعلم بها المهدي، وإذا عرفنا عددها ندرك مدى الاهتمام الكبير برواية الشعر، وتعليمه لأبناء الخلفاء والأمراء، وهذا ابن خليفة أو أمير، فما بالنا بأولاد علية القوم الآن، اختار هذه الأشعار وأسماها (الاختيارات)، ولكنها اشتهرت بـ (المفضليات) بعد ذلك، حتى صار اسم (المفضليات) علمًا لها، و (المفضليات) التي بين أيدينا الآن تحتوي على مائة وست وعشرين قصيدة، وعدد شعرائها سبعة وستون شاعرًا، منهم ستة إسلاميون، وسبعة وأربعون جاهليًا، وأربعة عشر مخضرمًا، وقد أضيف إليها في بعض النسخ أربع قصائد، حيث بلغ عددها مائة وثلاثين قصيدة.

أما عن شروح (المفضليات) فقد حظيت بالكثير من الشروح، ولا شك في أن صحة رواية المفضل الضبي، وثقة العلماء في ذوقه وعلمه وأمانته، ثم مكانته التي تبوأها بينهم؛ لا شك في أن ذلك كله وغيره -مما يتصف به الرجل من صفات حسنة- جعل الشراح يقبلون على مختاراته شرحًا وتأملا وتذوقًا، فقد شرحها أبو محمد القاسم بن الأنباري، كما شرحها أبو جعفر أحمد بن محمد النحوي المصري، المعروف بابن النحاس، وشرحها أيضًا أبو علي أحمد بن محمد المرزوقي، وأبو زكريا التبريزي، وأبو الفضل الميداني، وطبعت هذه الشروح أكثر من مرة، واشترك في تصحيحها والتعليق عليها عدد من العلماء. ومن أشهر طبعاتها الطبعة التي قام فيها الأستاذان: أحمد محمد شاكر، وعبد السلام هارون بتحقيقها في جزأين، سنة ألف وتسعمائة وثنتين وأربعين للميلاد. ثم طبعة أخرى وهي من الأهمية بمكان أيضًا، وهي طبعة دار نهضة مصر سنة ألف وتسعمائة وسبع وسبعين للميلاد، بشرح التبريزي، والتي قام بتحقيقها الأستاذ محمد البيجاوي في أربعة أجزاء. أما القيمة العلمية والأدبية لـ (المفضليات) فإنها تعد أقدم مجموعة شعرية، قامت على منهج الاختيار المجرد لنماذج من الشعر العربي، هذه حقيقة، (المفضليات) هي أول كتاب يؤلف في اتجاه الاختيار الأدبي المجرد، أما قبل أن يؤلف المفضل الضبي هذه (المفضليات) كان الرواة يشغلون بجمع أشعار القبائل، ويتنازعون حول أفخر بيت أو أهجى بيت أو أغزل بيت وهكذا. ولكن فكرة هذا الاختيار المجرد لشعراء متعددين لا ينتمون إلى بيئة واحدة، ولا إلى قبيلة واحدة، هذه الفكرة طرأت أولا على ذهن المفضل الضبي، وهو يعلم المهدي، والتي وضعها في اختياراته التي سميت بعد ذلك بـ (المفضليات)، اللهم إلا ما كان من حماد الراوية، الذي قام باختيار المعلقات وجمعها في كتاب

واحد، صحيح فِعْلُ حماد هذا يعد سابقًا، وتحتل (المفضليات) منزلة عظيمة بين دارسي الأدب ونقاده، وتعد مصدرًا مهمًا من مصادر الشعر العربي، وتكتسب تلك المكانة من أن مؤلفها كان محل ثقة معاصريه، وموضع احترامهم وتقديرهم، إذ لم يطعن أحد في أمانته على الإطلاق، أو يشكك في روايته، كما أنها أول مجموعة تصل إلينا كاملة دون أن يسقط منها شيء، أو يدخله تحريف أو تزييف. (المفضليات) موثوقة الرواية، وأيضًا جمعت في بداية عصر التدوين، قبل أن ينتشر الانتحال في الشعر على يد حماد الراوية وغيره، فخلت من هذا، كما كانت (المفضليات) أيضًا بداية للتحول الفكري والنقدي فيما بعد، كثير من الناس أقبلوا عليها يشرحونها ويدرسونها دراسات متنوعة، يكشفون عن الخصائص الفنية فيها، ويوضحون ذوق الرجل في اختيارها، ومنهم من يكتشف الملامح البيئية، ومنهم من يكتشف الملامح الثقافية، ومنهم من يأخذ قوانين وقواعد لغوية نحوية وصرفية، ومنهم من ينظر إليها من الناحية البلاغية، وهكذا تعددت الدراسات حولها، وكان ذلك فتحًا عظيمًا. أما المنهج الذي سلكه المفضل الضبي في جمع مختاراته هذه: فالحقيقة أنه اعتمد فيه على ذوقه الخاص أولًا، فمن هذه الناحية هي تمثل منهج الاختيار الانطباعي المرتجل، المعتمد على الذوق الشخصي، ومن ثم لم يفرق بين شاعر مشهور وآخر مغمور، كما اعتمد على الثقة في صاحب النص ثانيًا، وقد سيطر هذان المبدآن عليه حتى أنسياه ترتيب الشعراء تاريخيًا أو هجائيًا، أو حتى ترتيب القصائد حسب القوافي أو الغرض، بل ربما غلبه الإعجاب بالنص فلم يذكر قائله، فجاءت بعض الأشعار غير منسوبة أحيانًا. ورغم ذلك فلو لم يصلنا من الشعر الجاهلي سوى هذه المجموعات الموثقة؛ لأمكن وصف تقاليده، ولغته وبيئته وعاداته، هذه حقيقة، فقد مثلت هذه

القصائد جوانب الحياة الجاهلية، ودارت مع الأحداث والأيام، وعلاقات القبائل بعضها ببعض، وبمن جاورهم من ملوك الغساسنة والمناذرة، وجاءت صورة صادقة لبيئتهم ولغتهم، ومن ثم فهي تعد مصدرًا مهمًا من مصادر الأدب العربي. النموذج الثاني هو (جمهرة أشعار العرب)، وجامع (الجمهرة) هو أبو زيد محمد بن أبي الخطاب القرشي، وقد أحاط الغموض بحياة ذلك الرجل، فلم تذكر المراجع ترجمة وافية له، واختلفت فيه الأقوال اختلافًا بينًا؛ بعض المؤرخين يجعله من أدباء القرن الثاني الهجري مثل: سليمان البستاني وبطرس البستاني، والبعض يجعله من أدباء القرن الثالث الهجري ومنهم: جورجي زيدان في كتابه (تاريخ آداب اللغة العربية)، ولكن المطلع على مقدمة (جمهرة أشعار العرب) يرى أن القرشي يروي عن الأصمعي. فقد ورد نص في هذه المقدمة يقول: "وعن المقنع عن أبيه عن الأصمعي، الذي يروي هو أبو زيد القرشي، صاحب الجمهرة قال: دخلت البادية من ديار فَهْم فقال لي رجل منهم: ما أدخل القروي باديتنا؟ فقلت: طلب العلم. قال: عليك بالعلم فإنه أُنس في السفر، وزين في الحضر، وزيادة في المروءة، وشرف في النسب". إذا علمنا أن الأصمعي توفي سنة مائتين وستة عشر، وأبو زيد القرشي لم يرو عنه مباشرة، روى عن جيلين بعده هما المقنع وأبوه، فإذا افترضنا أن بين كل جيل وسابقه خمسة وعشرين عامًا؛ يكون أبو زيد قد عاش سنة مائتين وخمسين من الهجرة، أي في منتصف القرن الثالث الهجري، وقد ذهب إلى هذا الرأي الدكتور مصطفى الشكعة في كتابه (مناهج التأليف عند علماء العرب) وهو أقرب إلى الصواب.

أما عن (الجمهرة) فيعد هذا الكتاب أول كتاب يجمع فيه مؤلفه نماذج شعرية بطريقة علمية منظمة، تعتمد على التقسيم والتبويب، والقرشي بذلك يخالف (المفضليات) من حيث التقسيم، قسمها إلى أبواب، أما المفضل الضبي فلم يقسم (المفضليات) إلى أبواب. كما خالفه أيضًا في التصدير لكتابه، أبو زيد القرشي بدأ كتابه بمقدمة نقدية طويلة، عرض فيها عدة قضايا مهمة حول الشعر والشعراء، تحدث فيها عن قضية المجاز في القرآن، وتحدث أيضًا فيها عن أولية الشعر، وأورد أبياتًا نسبت لآدم -عليه السلام- وعلق عليها، وذكر أشعارًا للملائكة والعمالقة وإبليس وعاد، إلى آخر هذه القضايا. كما تحدث فيها عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وعن الشعر، وذكر مواقف النبي -صلى الله عليه وسلم- التي تؤكد إعجابه بالشعر العفيف، الذي يحث على الفضيلة ويدعو إلى مكارم الأخلاق، وذكر أيضًا أن الخلفاء الراشدين ساروا على نهجه -رضي الله عنهم، في الحقيقة مقدمة جيدة، وينبغي أن تقرأ بعناية، وقد خلت (المفضليات) من هذه المقدمة، وبعد هذه المقدمة قسم القرشي مختاراته إلى سبعة أقسام، واختار لكل قسم اسمًا وعنوانًا، وأدرج تحت كل قسم سبعة شعراء، وأورد لكل شاعر قصيدة واحدة، فيكون المجموع تسعًا وأربعين شاعرًا وقصيدة، كل شاعر له قصيدة موزعة على النحو التالي: القسم الأول في (الجمهرة) سماه: المعلقات أو السموط، جمع سِمْط وهو العقد، وهذا اسم من أسماء المعلقات، والشعراء الذين يمثلون هذا القسم عند أبي زيد هم: امرؤ القيس، زهير، النابغة الذبياني، الأعشى، لبيد بن ربيعة، عمرو بن كلثوم، طرفة بن العبد. القسم الثاني من (الجمهرة) سماه القرشي: المجمهرات، ويقصد بها القصائد محكمة السبك، من الناقة المُجَمْهَرة أي المتداخلة الخَلْق، كأنها جمهور من

الرمل، وشعراء هذا القسم عنده: عبيد بن الأبرص، عنترة، عدي بن زيد، بشر بن أبي خازم، أمية بن أبي الصلت، خَدَّاش بن زهير، النمر بن تَوْلَب. أما القسم الثالث من (الجمهرة) فقد سماه: المنتقيات، وهي للمسيب بن عَلَس، والمُرَقِّش الأصغر، والمُتَلَمِّس، وعروة بن الوَرْد، والمُهَلْهِل بن ربيعة، ودُريد بن الصِّمَّة، والمُتَنَخِّل بن عويمر الهذلي. والقسم الرابع سماه: المُذَهَّبَات جمع مُذَهَّبَة وهم: حسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، ومالك بن العجلان، وقيس بن الخطيم، وأُحَيْحَة بن الجِلاح، وأبو قيس بن الأَسْلَت، وعمرو بن امرئ القيس، وجميعهم من الأوس والخزرج. والمجموعة الخامسة هم أصحاب المراثي، وأتى بسبعة من المراثي الجيدة التي نال بعضها شهرة واسعة، وشعراؤها عنده هم: أبو ذؤيب الهذلي، علقمة بن ذي جَدَن الحميري، ومحمد بن كعب الغنوي، وأعشى باهلة، وأبو زبيد الطائي، ومالك بن الريب، ومتمم بن نويرة. والمجموعة السادسة أطلق عليها اسم أصحاب المَشُوبات، أي: التي شابها الكفر والإسلام، اختار القرشي سبع قصائد هي: رائية النابغة الجعدي، ولامية كعب بن زهير بانت سعاد، ولامية القُطامي، ولامية الحطيئة، وزايية الشماخ بن ضرار، ورائية عمرو بن أحمر، ونونية تميم بن مقبل العامري. والقسم السابع والأخير وضعه القرشي تحت عنوان: أصحاب الملحمات، ويقصد بها القصائد الحماسية التي قيلت في الحروب، وهي للفرزدق، وجرير، والأخطل، وعبيد الراعي، وذي الرمة، والكميت، والطرماح بن حكيم الطائي، ونلاحظ أن القرشي اعتمد على الشعراء المشهورين من الفحول، بخلاف المفضل الضبي الذي ذكر كثيرًا من المغمورين، في سياق حديثه عن الشعراء في مفضلياته.

الاتجاه الثاني "اتجاه أصحاب الطبقات والتراجم".

وتمتاز (الجمهرة) بأنها خطت خطوة جديدة نحو المنهجية العلمية بهذا التقسيم، وبهذه المقدمة التي أتى بها أبو زيد القرشي في بداية جمهرته، وقد طبعت (جمهرة أشعار العرب) بمطبعة بولاق الأميرية سنة ألف وثلاثمائة وثمان من الهجرة، ثم طبعت بعد ذلك طبعات كثيرة، وقام الأستاذ علي محمد البيجاوي بتحقيقها، وطبعتها في دار نهضة مصر سنة ألف وتسعمائة وسبع وستين من الميلاد، كما قام بتحقيقها أخيرًا الدكتور محمد علي الهاشمي في المملكة العربية السعودية، عام ألف وثلاثمائة وتسعة وتسعين للهجرة، وطبعت بمطبعة لجنة البحوث والتأليف والترجمة والنشر. نكتفي بهذا القدر من الحديث عن هذين المصدرين كنموذجين لاتجاه الاختيار المجرد، وهو أول اتجاه من اتجاهات التأليف عند العلماء العرب. الاتجاه الثاني "اتجاه أصحاب الطبقات والتراجم" الاتجاه الثاني: يسمى اتجاه أصحاب الطبقات والتراجم: ونعني به ذلك الاتجاه الذي يعمد فيه المؤلفون إلى دراسة حياة الأديب، وبيان طبيعة بيئته التي نشأ فيها، والكشف عن منزلته بين الأدباء، أو وضعه في طبقته الفنية، لا يخضع هذا الاتجاه لغير هذين المقياسين: بيان حياة الأديب، والمقياس الثاني: تحديد طبقته الفنية، والمؤلفون في هذا الاتجاه لا يقصدون أديبًا واحدًا فحسب، وإنما تتجه الدراسة فيه إلى أكثر من أديب، يجمعهم عصر معين أو عصور متعددة، يضمهم إقليم واحد، وتشملهم عدة أقطار، يترجمون لهم ويُعرِّفون بهم، ويعرضون أمثلة من أدبهم، مصحوبة ببعض الآراء النقدية

الصادرة عن المؤلف، أو المنسوبة لغيره من العلماء أحيانًا، وقد تكون غير مصحوبة بهذه الآراء النقدية. وهم يهدفون من وراء هذه الدراسة، وذاك الاتجاه إلى تقويم أدب الأديب، وبيان منزلته بين نظرائه، وذلك من خلال تسجيل سيرته، والتعريف بأدوار حياته الفنية، والتعرض لنتاجه الأدبي، وذكر جملة مفيدة منه؛ حتى يمكن الحكم عليه، وتحديد مكانته الأدبية. والحقيقة أن هذا نمط جديد من التأليف، حاول أصحابه فيه تصنيف الأدباء، ووضعهم في طبقات محددة وفقًا لمقاييس معينة، يراها كل مؤلف حسب ذوقه، ومن ثم فهي تختلف من مؤلف لآخر، ولا شك في أن حاجة الباحث في الأدب إلى معرفة صاحب النص؛ لا تقل عن حاجته إلى النص ذاته، والمصادر التي تهتم بحياة الأدباء وأخبارهم وبيان منزلتهم، تعرف في مجال الدراسات الأدبية بكتب التراجم، وقد تسمى هذه الكتب باسم الطبقات. وقد استعمل هذا اللفظ على نطاق واسع بعدما استخدمه هؤلاء العلماء في مجال الأدب، وتجاوز ميدان الأدب إلى غيره من ميادين العلم والمعرفة، فرأينا طبقات الفقهاء، وطبقات المحدِّثين، وطبقات النحاة، وطبقات الأطباء، وطبقات الصوفية، وطبقات الشافعية، وطبقات الحنابلة، ومن المصادر الأدبية التي تحمل اسم الطبقات (طبقات فحول الشعراء) لمحمد بن سلام الجمحي، ثم (طبقات الشعراء) لابن المعتز، ومن المصادر التي تمت بالتراجم الأدبية كتاب (الشعر والشعراء) لابن قتيبة، و (الأغاني) للأصفهاني، وكتاب (الوزراء والكتاب) للجهشياري، و (معجم الأدباء) لياقوت الحموي، و (معجم الشعراء) للمرزباني. المصدر الأول الذي يمثل هذا الاتجاه -اتجاه الطبقات والتراجم- هو كتاب (طبقات فحول الشعراء) لمحمد بن سلام الجمحي.

يعد هذا الكتاب أقدم الكتب التي وصلتنا، هذا من حيث التأليف، ويهتم بالتعريف بالشعراء، وبيان طبقاتهم. ومؤلفه هو أبو عبد الله محمد بن سلام بن عبيد الله بن سالم الجمحي البصري، الذي ولد بالبصرة سنة مائة وتسع وثلاثين للهجرة، ونشأ هذا الرجل في بيت علم وأدب، فأبوه كان من رواة الأدب، وأخوه كان من رواة الحديث المشهورين، وقد تلقى العلم على طائفة من علماء عصره، في مقدمتهم: أبان بن عثمان، والمفضل الضبي، والأصمعي، وخلف الأحمر، ويونس بن حبيب النحوي، وغيرهم، ومن تلامذته: الإمام أحمد بن حنبل، وأحمد بن يحيى ثعلب، والمازني، والرياشي، وغيرهم. أما عن عنوان الكتاب فقد ظل معروفًا لفترة طويلة باسم (طبقات الشعراء)، وأشار إليه ابن النديم في فهرسته، وياقوت الحموي في (معجم الأدباء) أشار إليه بهذا الاسم (طبقات الشعراء)، وطبع بعض الطبعات بهذا الاسم، وظل معروفًا بطبقات الشعراء حتى جاء الأستاذ محمود شاكر -يرحمه الله- في العصر الحديث، وقام بتحقيق هذا الكتاب وجعل عنوانه (طبقات فحول الشعراء)، أضاف كلمة فحول طبعًا هذه الإضافة لم تكن عشوائية، وإنما كانت نتيجة بحث وتدقيق وتمحيص من قبل الشيخ. واعتمد محمود شاكر في هذا على نسخة مخطوطة وقعت في يده، وتحمل هذا العنوان (طبقات فحول الشعراء)، كما أن المؤلف ابن سلام أورد في الكتاب ذاته بعض الإشارات التي تدل على أنه قصد الفحول، ولم يقصد كل الشعراء، فيقول ابن سلام: "فاقتصرنا في هذه على فحول الشعراء الإسلاميين؛ للاستغناء عن فحول شعراء الجاهليين بطبقات المؤلفة في ذلك"، ثم يقول في موضع آخر: "ورتبت هذا المؤلف على عشر طبقات، كل طبقة تجمع أربعة من فحول شعراء الإسلام"،

تلاحظ معي أن كلمة فحول جرى ذكرها على لسان المؤلف، واعتمد محمود شاكر على ذلك، وعده دليلا على أنه يقصد الفحول، ولم يقصد كل الشعراء. كما اعتمد الشيخ محمود شاكر أيضًا في إثبات كلمة فحول على نصين وردا في كتاب (الأغاني) للأصفهاني، يؤيدان ما ذهب إليه. يقول الأصفهاني في ترجمته للمخبل السعدي: "وذكره ابن سلام في الطبقة الخامسة من فحول الشعراء". ثم يقول عند ترجمة عبيد بن الأبرص: "وجعله ابن سلام في الطبقة الرابعة من فحول الجاهليين"، فهذا كله جعل الشيخ محمود شاكر يرجح أن الكتاب اسمه (طبقات فحول الشعراء). أما عن الكتاب فقد بدأه ابن سلام بمقدمة نقدية مهمة، تعرض فيها لعدد من القضايا التي تتصل بأصول النقد الأدبي وثقافة الناقد، أشار في هذه المقدمة إلى ما يحتاجه الناقد من خبرة وثقافة، كما عرض فيها لنشأة العربية، وأولية علم النحو، وبعض الأخطاء النحوية للشعراء، وأشار إلى جمع الشعر، وما يفعله الرواة من وضع الأشعار على غير أصحابها، وانتحال الشعر، ويعد ابن سلام في طبقاته هو أول من أشار إلى هذه القضية، كما تحدث في المقدمة عن أولية الشعر العربي، وبيئته التي نشأ فيها، وأول من جمع الشعر. وبعد الانتهاء من المقدمة قسم ابن سلام الكتاب إلى قسمين؛ القسم الأول: جعله للشعراء الجاهليين، وقسمهم عشر طبقات وضع في كل طبقة أربعة شعراء، ثم ألحق بالشعراء الجاهليين طبقة أصحاب المراثي، ثم بعد ذلك ذكر شعراء مكة، ثم شعراء الطائف، يعني شعراء القرى. وهو الذي قال: "وجعلنا أصحاب المراثي طبقة بعد العشر طبقات"، يعني فصلهم واختار متمم بن نويرة، والخنساء، وأعشى باهلة، وكعب بن سعد الغنوي، وأفرد بابًا مستقلا في هذا القسم، وجعل له عنوانًا: شعراء القرى العربية وهن خمس: المدينة

ومكة والطائف، واليمامة، والبحرين، وذكر بعض الشعراء الذين يمثلون كل قرية من هذه القرى. أما القسم الثاني من الكتاب، فجعله ابن سلام للشعراء الإسلاميين، وقسمهم أيضًا إلى عشر طبقات، في كل طبقة أربعة شعراء فحول، وهم الشعراء الذين عاشوا في عصر بني أمية، أما الشعراء المخضرمون، فلم يفردهم بطبقة مستقلة، ولكنه ألحق بعضهم بالجاهليين والبعض الآخر بالإسلاميين، على حسب قربهم من هذه الطبقة أو تلك. أما عن منهج ابن سلام في طبقاته: فالإطار العام الذي يندرج تحته هذا الكتاب هو الإطار التاريخي، ويبدو ذلك من خلال التأريخ للشعراء، حين يسجل الوقائع الخاصة بهم، والظروف المؤثرة فيهم، كما يبدو أيضًا هذا المنهج التاريخي من خلال التركيز على البيئة، حيث أفرد لكل قرية عربية طبقة خاصة، وهو بذلك يؤكد أثر البيئة في الأديب من شتى النواحي، كما أن اعتماده على الزمان أيضا كمقياس للمفاضلة بين الشعراء في كتابه -حيث قسمهم إلى شعراء جاهليين وإسلاميين- يؤكد نزعته التاريخية الواضحة، يقول نفسه: "ففضلنا الشعراء من أهل الجاهلية والإسلام والمخضرمين فنزلناهم منازلهم". ولكن المتأمل لما أورده ابن سلام في كتابه، والمقاييس التي اعتمد عليها يدرك إدراكًا -لا شك فيه- أنه لم يقف عند حدود المنهج التاريخي فحسب، وإنما تخطاه إلى منهج فني واضح. نأخذ مثالا: عندما يورد بعض النماذج للشعراء الذين يترجم لهم، يورد بعض الآراء النقدية للنقاد، أو يبدي رأيه هو في هذه النماذج، هذا المنزع منزع فني لا محالة. تعقيبه على بعض النماذج والأخبار التي يوردها بنظرات نقدية صائبة هذا يعد منهج فني

كما أن فكرة الكتاب في حد ذاتها تقوم على مقياس فني دقيق، إذ إنه من غير اللائق أو المقبول أن يكون ابن سلام لا يعرف من الشعراء سوى هؤلاء الفحول الأربعة عشر بعد المائة، الذين جمعهم في كتابه، ولكنه نظر في شعر كثير لعدد كبير من الشعراء، ونخل ذلك الشعر وفحصه، واختار هؤلاء الفحول من خلال عدة مقاييس فنية اعتمد عليها، وكانت واضحة لديه ساعة تأليف هذا الكتاب. كما أن ترتيب الشعراء الأربعة داخل كل طبقة من الطبقات، كيف يرتب هؤلاء الشعراء؟ على أساس فني بحت، فالكتاب كما رأيت يجمع بين المنهجين التاريخي؛ من خلال التراجم والأخبار، وإيراد الأشعار، وذكر المناسبة والبيئة، والمنهج الفني ببنائه ومنهجه في المفاضلة، والآراء التي عرضها في المقدمة، ثم تعليقه على النماذج، وغير ذلك مما ورد في الكتاب. أما القيمة الأدبية لهذا الكتاب فإنه يمثل باكورة النتاج العلمي، المؤلف على أسس منهجية واضحة، هذه الأسس تدل على فكر صاحبه، وتكشف عن حسه النقدي والفني، وهو مصدر مهم من مصادر الأدب والنقد، لا يستغني عنه باحث في الأدب القديم، ليس لأنه يسرد لنا بعض الأخبار المجموعة عن الشعراء، وينزلهم منازلهم اللائقة بهم، ويوضح وجهتهم الفنية فحسب، وإنما لأسباب أخرى كثيرة، هذه الأسباب هي التي تجسد القيمة الحقيقية لهذا الكتاب، يمكن أن نشير إلى هذه الأسباب سريعًا: يرسي كتاب ابن سلام مبدءًا مهمًا ينبغي ألا يغفله الدارسون، وهذا مما يؤكد أهمية هذا الكتاب، هو توثيق النص الأدبي موضوع الدراسة، هذه قضية من أخطر القضايا التي يواجهها الباحثون، توثيق النص الأدبي قبل التعرض له، وقد ألح عليها ابن سلام إلحاحًا مستميتًا، فكان لا يقبل نصًا أو خبرًا إلا عن طريق الرواية الصحيحة، يقول: "ثم اقتصرنا بعد الفحص والنظر والرواية عمن مضى

من أهل العلم"، لا يسجل كل ما سمع، لا؛ لابد من النظر في المسموع وفحصه، والتأكد من صدق المسموع منه، وتسلمنا هذه القضية لقضية أخرى تتصل بها، وتشكل قيمة أخرى من قيم هذا الكتاب، وهي قضية الانتحال، التي أشار إليها ابن سلام، وهو أول من تنبه لها وعرض لها، وقال فيها قولًا فصلًا. ومما يزيد من قيمة هذا الكتاب أيضًا أن فيه دعوة للتخصص العلمي الدقيق، يبدو ذلك في تقرير ابن سلام أن الناقد وحده هو الذي يستطيع أن يميز بين جيد الشعر ورديئه، عندما يحكي عن خلف الأحمر ويقول: "وقال قائل لخلف: إذا سمعت أنا بالشعر واستحسنته فما أبالي ما قلت فيه أنت وأصحابك، فقال له: إذا أخذت أنت درهمًا فاستحسنته، فقال لك الصراف: إنه رديء، هل ينفعك استحسانك له؟! "، ومن ثم قرر ابن سلام أن الشعر صناعة وعلم مهم كبقية العلوم، يأتي عن طريق الدرس والممارسة، كذلك النقد أيضًا: "وللشعر صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم كسائر أصناف العلم والصناعات". هذه الحقيقة نظرة جيدة من ابن سلام، وربما كان الدافع وراء القول فيها ما رآه من وضع الرواة، وأنه لا ينهض بكشف هذا الموضوع إلا ناقد متخصص، ولا يتمكن من الوضع إلا شاعر صناعة، الحقيقة ابن سلام يعد نموذجًا فريدًا في الاعتداد بالرأي، والموضوعية في الحكم، ومخالفته الرأي السائد، طالما أن المخالفة قائمة على أسس علمية، ومقاييس ثابتة واضحة. بالإضافة إلى ما سبق يمكن أن نعد كتاب (طبقات فحول الشعراء) كتابا في الأنساب، وإن غلبت عليه سمة الترجمة الشخصية للشعراء، كما يمكن أن نعده كتابًا في التاريخ الأدبي؛ لأنه يرصد كثيرا من الظواهر الفنية والفوارق البيئية، ويوضح أهم المؤثرات في حياة الشعراء، وكذا يعد كتابًا في النقد الأدبي، انطلاقًا من فكرة الطبقات في حد ذاتها، ثم الآراء النقدية التي أوردها الرجل، وهو يعلق على النماذج، أو يحللها، أو يجري موازنة بين الشعراء. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 4 مناهج التأليف عند العرب (3).

الدرس: 4 مناهج التأليف عند العرب (3).

كتاب (الشعر والشعراء) كنموذج على اتجاه الطبقات والتراجم.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الرابع (مناهج التأليف عند العرب (3)) كتاب (الشعر والشعراء) كنموذج على اتجاه الطبقات والتراجم الحمد لله الذي علم الإنسان ما لم يعلم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه، وبعد: فأذكركم وأذكر نفسي أنني قد وعدتكم أننا سنأخذ مصدرين من مصادر اتجاه أصحاب الطبقات والتراجم كنموذجين من النماذج التي ندلل بها على هذا الاتجاه ومنهج العلماء فيه، ولكن الوقت لم يتسع آنذاك، فشرحنا مصدرًا واحدًا وهو كتاب (طبقات فحول الشعراء) لابن سلام. واليوم نشير إلى المصدر الثاني من مصادر اتجاه الطبقات والتراجم، ونأخذ كتاب (الشعر والشعراء) كنموذج على ذلك: كتاب (الشعر والشعراء) ألفه أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، أحد أعلام القرن الثالث الهجري في اللغة والأدب والنحو، والفقه وغريب القرآن ومعانيه، كان الرجل عالمًا واسع الفكر متنوع الثقافة ورعًا، صادق الرواية حسن العشرة، كثير التصنيف. ومن أشهر كتبه: كتاب (غريب القرآن) و (غريب الحديث) و (مشكل القرآن) و (مشكل الحديث)، و (عيون الأخبار) و (الشعر والشعراء)، و (أدب الكاتب) وكتاب (المعارف)، و (المعاني) وكتاب (الإمامة والسياسة)، وغير ذلك من مؤلفات جاءت صورة صادقة لفكره وثقافته وشمول معارفه. توفي هذا الرجل ببغداد سنة مائتين وست وسبعين للهجرة. أما عن محتوى الكتاب، فإن العنوان يدل على محتواه؛ الكتاب اسمه (الشعر والشعراء). العنوان ذو شقين؛ الشق الأول: الشعر وما يتصل به من قضايا الإبداع والنقد، وقد افتتح ابن قتيبة كتابه بمقدمة توضح ذلك، والشق الثاني في العنوان: الشعراء وأنسابهم وأخبارهم وبيئاتهم المختلفة، ولم يخرج ابن قتيبة عن هذا الإطار. تأمل العنوان (الشعر والشعراء) يدل دلالة دقيقة على محتوى الكتاب. قسم ابن قتيبة كتابه إلى قسمين؛ القسم الأول: وهو المقدمة، عالج فيها مجموعة من الآراء والقضايا النقدية المثارة في عصره. مثل: قضية القدم والحداثة، التي شغلت الأدباء والنقاد آنذاك لفترة

طويلة، وانقسموا حيالها قسمين: مؤيد للحديث، ومتعصب للقديم رافض لكل ما عداه، وقد تعصب معظم النقاد في عصره للقديم، وصور ذلك ابن قتيبة في مقدمته فقال: "فإني رأيت من علمائنا من يستجيد الشعر السخيف لتقدم قائله، ويضعه في متخيره، ويرذل الشعر الرصين ولا عيب له عنده إلا أنه قيل في زمانه، أو أنه رأى قائله". وابن سلام عرض للمحْدثين، ولكنه لم يذكرهم في طبقاته، ووقف ابن قتيبة موقفًا جريئًا من قضية القدم والحداثة، حين أعلن أنه لا يتعصب للقديم لقدمه ولا للحديث لحداثته، وإنما يتعصب للجيد من الأدب وإن كان حديثًا، فهو ينحي عنصر الزمان جانبًا عند الحكم على الشعر بالجودة أو الرداءة، وينظر إلى القيمة الفنية في النص ذاته، وأورد نماذج كثيرة لشعراء محْدثين، ودافع عنهم وأبدى إعجابه بهم. قضية أخرى: وهي قضية البناء الفني للقصيدة العربية، من حيث البداية والنهاية، وما بين البداية والنهاية، بحيث ذكر أن الشاعر كان يبدأ بالأطلال أو النسيب، ثم وصف الرحلة ثم الانتقال إلى وصف المطية، ثم الغرض الأساسي من القصيدة، وعرض ابن قتيبة وجهة نظره في ذلك البناء، وقدم تفسيرا له يسبق زمانه بكثير، تفسيرا جيدا، وجعل هذا الالتزام البنائي للقصيدة عند الشاعر الجاهلي مقياسًا من مقاييس الجودة، ولابد للشاعر أن يلتزم به، فقال: "وليس لمتأخري الشعراء أن يخرج عن مذهب المتقدمين في هذه الأقسام"، يعني جعله مقياسًا يحكم من خلاله على الجودة بالنسبة للشاعر، وله وجهة نظره وحلله وعلله تعليلا نفسيًا رائعًا. أيضًا تناول ابن قتيبة في المقدمة أقسام الشعر من حيث اللفظ والمعنى، وحصره في أربعة أضرب: ضرب حسن لفظه وجاد معناه، وضرب حسن لفظه، وإذا

فتشت في معناه لم تجد فيه فائدة، وضرب جاد معناه وقصرت ألفاظه، وضرب تأخر معناه وتأخر لفظه، وذكر أمثلة لكل واحد من هذه الأضرب. كما تناول في المقدمة أيضًا قضية في غاية الأهمية، وهي قضية الطبع والتكلف، فعرف كلا منهما وأورد أمثلة لهما، وأوضح علامات التكلف في الشعر، كما تحدث أيضًا في مقدمته عن مثيرات الشاعرية، فذكر منها الشوق والطمع والطرب والغضب، وأشار إلى الأوقات التي يصعب فيها القريض أو يسهل؛ لأنه كما قال: "للشعر تارات يبعد فيها قريبه، ويستصعب فيه رَيِّضُه". وفي نهاية المقدمة أشار إلى بعض عيوب الشعر وعرف بها، وعرض لأقوال العلماء فيها وبين خطرها، فذكر منها: الإقواء والإكفاء والسناد والإيطاء، والإجازة، كما أشار إلى العيوب التي تنجم عن الإعراب مثل: الضرورات التي تقوم على مخالفة القياس اللغوي، تسكين المتحرك، عطف المنصوب على المخفوض، مخالفة المشهور في مد المقصور وقصر الممدود، إلى آخر هذه الأشياء. أما القسم الثاني من الكتاب فقد ترجم فيه للشعراء، ذاكرًا أنسابهم وأخبارهم وأحوالهم، ونماذج من أشعارهم، وبلغ عدد الشعراء الذين ترجم لهم في كتابه مائتين وستة من الشعراء الجاهليين والإسلاميين، حتى العصر الذي عاش فيه ابن قتيبة، وتختلف تراجم ابن قتيبة لشعرائه طولا وقصرًا، تبعًا للأخبار التي رويت عن كل شاعر، كما أنه لم يهتم بشرح النصوص التي أوردها، ولكنه قد يعلق عليها أحيانًا بتعليقات نقدية تدل على ذوقه الفني. أما بالنسبة للمنهج الذي سلكه ابن قتيبة في كتابه؛ إذا أردنا أن نتعرف على منهج ما لأي مؤلف، يمكننا الوصول إليه من خلال أحد طريقين؛ الطريق الأول: المؤلف نفسه عندما يشير إلى منهجه، هذه الطريقة العلمية الصحيحة، أي مؤلِّف

في مقدمة المؤلَّف لابد أن يشير إلى المنهج الذي سلكه في تأليفه ليعرف الناس، ولابد أن يلتزم بهذا المنهج. أما الطريق الثاني الذي يمكننا أن نتعرف على المنهج من خلاله: فيتمثل في تتبع القضايا المطروحة في الكتاب، أو في المؤلَّف، والتعرف على طرق المعالجة كيف عالجها، ونوعية المقاييس المستخدمة. وقد نضطر إلى سلوك الطريقين معًا للكشف عن المنهج، قد يأتي مؤلف ويذكر في بداية المؤلف أنه التزم بمنهج ما، ولكن من خلال تتبع لعرض القضايا والمعالجة والمقاييس -التي اعتمد عليها- نكتشف أنه لم يلتزم بهذا المنهج، فينبغي ألا نسلم بهذا الاعتراف الذي يذكره المؤلف في بداية المؤلَّف. فإذا أردنا أن نتعرف على المنهج الذي سلكه ابن قتيبة في كتابه (الشعر والشعراء) نجد أن ابن قتيبة نفسه يشير إلى هذا المنهج، فيقول: "هذا كتاب ألفته في الشعراء أخبرت فيه عن الشعراء وأزمانهم وأقدارهم، وأحوالهم في أشعارهم، وقبائلهم وأسماء آبائهم، ومن كان يعرف باللقب أو بالكنية منهم، وعما يستحسن من أخبار الرجل ويستجاد من شعره، وما أخذته العلماء عليهم من الغلط والخطأ في ألفاظهم، أو معانيهم، وما سبق إليه المتقدمون فأخذه عنهم المتأخرون، وأخبرت فيه عن أقسام الشعر وطبقاته، وعن الوجوه التي يختار الشعر عليها ويستحسن لها". هذا كلام ابن قتيبة في المقدمة ينفي عن نفسه التبعية والتقليد، ويؤكد تفرده بهذا المنهج، وأن له مقاييسه التي يختلف فيها عن غيره، فيقول في المقدمة أيضًا: "ولم أسلك فيما ذكرته من شعر كل شاعر مختارًا له سبيل من قلد، أو استحسن باستحسان غيره، ولا نظرت إلى المتقدم منهم بعين الجلالة لتقدمه، ولا إلى المتأخر منهم بعين الاحتقار لتأخره، بل نظرت بعين العدل على الفريقين، وأعطيت كلا حظه ووفرت عليه حقه".

حديث ابن قتيبة عن الشعراء، وأزمانهم وأحوالهم وقبائلهم وأسماء آبائهم، ومعرفة السابق المبتكر أو المبدع واللاحق المتبع أو المقلد، كما قال هو نفسه في المقدمة، كل هذا يعد من صميم المنهج التاريخي، ولو تتبعنا معالجته للشعراء داخل الكتاب لوجدناه يسلك هذا المنهج، فهو يذكر نسب الشاعر من جهة أبيه وأمه، ويحدد موطنه وطبيعة البيئة التي نشأ فيها، ويسرد بعضًا من أخباره وأشعاره. ولو تأملنا قضايا الكتاب تتكشف لنا أبعاد ذلك المنهج التاريخي، ولكن يتضح لنا أيضًا من خلال هذا التأمل والتتبع لهذه القضايا؛ أنه تخطى حدود المنهج التاريخي إلى غيره من المناهج، فمثلا حديثه عن اختلاف طبائع الشعراء، وتفاوتهم في الأغراض الشعرية تبعًا لذلك، مما يتصف بالمنهج النفسي، وأيضًا لو تأملنا حديثه عن مثيرات الشاعرية عندما قال: "وللشعر دواعٍ تحث البطيء وتبعث المتكلف منها: الطمع والشكر"، إلى آخر ما ذكر، لو تأملنا هذا لوجدناه أيضًا يتحدث عن صفات العاطفة وآثارها، وهذا يتصل بالمنهج النفسي أيضًا، وليس فيه إشارة إلى المنهج التاريخي. كما أن حديثه عن البناء الفني للقصيدة، وتعليله لهذا المنهج المتبع لدى شعراء العرب تعليل نفسي واضح، لا شك في ذلك، وإذا أنت فتشت في الكتاب لا تخطئ العثور على ملامح واضحة للمنهج الفني، كحديثه عن أقسام الشعر، وتنقيح الشعر بطول التفتيش فيه، بعض الآراء النقدية التي أوردها وإن كانت قليلة، مناقشة بعض الآراء التي أوردها لغيره، كل هذا يتصل بالمنهج الفني، وإن كان ابن قتيبة قد قرر أنه لا ينظر إلى عامل الزمان في الحكم على الشعراء، وإنما ينظر إلى الجودة، فلابد أنه يعني الناحية الفنية عندما قال: "أنا لا أنظر إلى المتقدم لتقدمه ولا إلى المتأخر لتأخره، وإنما أنظر بعين العدل"، عين

العدل هذه مقياسها فني بحت لا شك في ذلك، كما أن له حديثا عن المعاني والتشبيهات والألفاظ، وغيرها من العناصر الفنية أثناء ترجمته للشعراء، كل هذا من قبيل المنهج الفني. مما تقدم يتضح لنا أنه قد سلك منهجًا تاريخيًا، ويتضح لنا أيضًا أنه سلك منهجًا نفسيا، وأنه سلك أيضًا منهجًا فنيا، اجتماع هذه المناهج يطلق عليه المنهج المتكامل، وهو أصح المناهج في البحث الأدبي أو البحث العلمي عمومًا. أما عن القيمة الأدبية لكتاب (الشعر والشعراء) فإنه في الحقيقة يعد من أقدم المصادر الأدبية وأهمها، بعد كتاب (طبقات فحول الشعراء) لابن سلام، ولا يمكن أن يستغني عنه باحث أو دارس للأدب، فهو يترجم لمجموعة كبيرة من الشعراء الجاهليين والإسلاميين حتى عصر ابن قتيبة، ويورد كثيرًا من أخبارهم ومواقفهم، التي يمكن الكشف من خلالها عن شخصية هؤلاء الشعراء، وتفسير اتجاههم الفني، وهو في ذلك كله يلتزم الدقة والأمانة في نقل الأخبار عن المتقدمين والمعاصرين. وتبدو قيمة الكتاب أيضًا في أنه يكشف لنا عن شخصية ابن قتيبة، وفكره الأدبي ومقدرته النقدية، إذ لم يكن مجرد ناقل عن غيره أو سارد لمجموعة من الأخبار، وإنما عرض علينا فكره، وكشف لنا عن ذوقه من خلال تلك المقدمة المهمة، ومن خلال الآراء المتفرقة في الكتاب الدالة على ذلك، هذه حقيقة لابد أن نقررها، فالرجل كان مشهورا بالتفسير، كان محدثا وكان فقيها، ويدل على قيمة الكتاب أيضًا ويعلي من شأنه وشأن صاحبه: وضوح المنهج العلمي لديه، وهو منهج يتناسب مع طبيعة عصره الفكرية والثقافية، ويبدو ذلك في الإشارة إلى المنهج الذي سلكه منذ البداية، هذه طريقة لا يعرفها إلا الذين درسوا علم المناهج في العصر الحديث، يعلمون أنه لابد لكل باحث أو مؤلف من الإشارة

إلى المنهج في بداية التأليف أو البحث، إن ابن قتيبة سبقنا بكثير عندما أشار في مقدمة كتابه إلى المنهج الذي اتبعه، وهو يدل فعلا على النهج العلمي الذي سلكه منذ البداية. مما يؤكد هذه النزعة العلمية المنهجية لديه: كان يستخدم بعض العناوين المناسبة، وجودة التقسيم عندما يقسم كان يختار عناوين، عنونة أيضًا هذه لم تكن سمة معروفة آنذاك، ولكن إذا تأملنا الكتاب نجد فيه أكثر من عنونة، هو الذي عنونه وليس المحقق، أقصد العناوين التي وضعها ابن قتيبة نفسه، هذه تدل أيضًا على منهج علمي دقيق التزمه. ولعلك تستطيع مما تقدم إدراك ما أضافه ابن قتيبة من جديد بعد ابن سلام، يعني لو أننا وازنا بين الكتابين لوجدنا أن كتاب (الشعر والشعراء) فيه خطى جديدة، صحيح استفاد من كتاب (طبقات فحول الشعراء)، لكنه أضاف جديدًا، واختلفوا في المنهج وفي كل شيء؛ فابن قتيبة لم يقتصر على الشعراء الجاهليين والإسلاميين فقط، كما فعل ابن سلام في كتابه، وإنما زاد عليهم شعراء عاصروه وعاشوا في زمانه، وأورد نماذج لهم وأبدى إعجابه بهم، وهذا يؤكد مبدأ المساواة والعدل الذي أشار إليه في تعامله مع الشعراء. كما نلاحظ أن ابن قتيبة في ترجمته للشعراء كان أكثر إحاطة من ابن سلام، من حيث عدد الشعراء المترجم لهم والأخبار المروية عنهم، والتي يمكن من خلالها التعرف على شخصية الشاعر، وما أبدعه في مجال الشعر، والوجهة الفنية التي يلتزمها، فقد ترجم لمائتين وستة من الشعراء، مقابل مائة وأربعة عشر شاعرًا لدى ابن سلام، طبعًا للأخير عذره في الاقتصار على هذا العدد؛ لأنه مشغول بوضع الشعراء في طبقات، المنهج دقيق عند ابن سلام، لو أنه

الاتجاه الثالث: "اتجاه الدراسة الأدبية والنقدية".

سار على منهج ابن قتيبة لجاء كتابه أضخم بكثير من كتاب ابن قتيبة، لكن فكرة الطبقات وضع كل شاعر في مكانته الفنية هذا مجال ضيق إلى أبعد حد، ومن ثم لم يأت بشعراء كُثر، ومما يحمد لابن قتيبة أيضًا أنه اهتم بالتنبيه إلى اشتراك الشعراء في المعاني والصور والأفكار، وله إشارات كثيرة في هذا الجانب ربما غفل عنها ابن سلام، وكانت تلك الإشارات هي النواة الأولى للحديث عن قضية كبيرة كانت لها منزلة، وهي قضية السرقات الشعرية، التي عالجها كثير من النقاد بعد ذلك. هذا بالنسبة لكتاب (الشعر والشعراء) وهو المصدر الثاني الذي يمثل الاتجاه الثاني من اتجاه أصحاب الطبقات والتراجم. الاتجاه الثالث: "اتجاه الدراسة الأدبية والنقدية" نعود إلى الاتجاه الثالث وهو: اتجاه الدراسة الأدبية والنقدية: وأعني به النظر في التراث الأدبي شعره ونثره، ودراسته دراسة فنية لغوية، يتناول فيها المؤلف وسائل الأداء، يقف على مواطن الجودة والرداءة فيه، يتعرف من خلاله على شخصية الأديب، وما أحاط به من مؤثرات مختلفة، مِن خلال تلك الوسائل الفنية التي يتعامل معها. تمثل تلك الدراسات الأدبية والنقدية مرحلة تالية لمرحلتي الجمع والطبقات، فمثلا المفضل الضبي جمع مجموعة من الأشعار، (الاختيارات) وضعها في كتاب لم يدرسها بأي نوع من أنواع الدراسة، مثلا كتاب (طبقات فحول الشعراء) لابن سلام، اهتم الرجل بالترجمة للشاعر، وذكر نماذج من شعره ووضعه في منزلته، لكنه لم يحلل، ولم يعلل، ولم يشرح.

الاتجاه الثالث اعتمد على هذين الاتجاهين السابقين، اعتمد على الذين جمعوا هذه الاختيارات، اعتمد على الذين ذكروا نماذج لأصحاب الطبقات، أو الذين ترجموا كابن قتيبة مثلا في كتابه (الشعر والشعراء)، ولم يأت هذا النمط من الدراسة على صورة واحدة، فأحيانًا يأتي في صورة نظرة عامة في التراث الأدبي، لم يتقيد بعصر أو بأديب أو بيئة، وأحيانًا أخرى يرد في صورة موازنة بين شاعرين أو أكثر من شاعر، وقد يتناول المؤلف شخصية أدبية واحدة، ويجري حولها دراسة متكاملة يكشف عن منزلتها، وقد يتناول موضوعًا أو قضية محددة ويحيط بها من شتى جوانبها. وهناك طريقتان من خلال تتبعنا للمصادر الأدبية التي تمثل هذا الاتجاه: إما أن يكتب المؤلف دراسته بنفسه، وإما أن يلقيها في مجلس، أو يمليها على تلاميذه، ثم تجمع بعد ذلك في حياته أو من بعد حياته، وقد تجمع في حياته وتعرض عليه لإقرارها، أو يقوم أحد الأتباع بمراجعتها وروايتها عنه، ويطلق على هذا النوع الأخير من هذه الدراسات الأمالي أو المجالس، وهي كثيرة جدًا في تراثنا، وتختلف الأمالي أو المجالس عن النوع الأول الذي يقوم المؤلف نفسه بتدوينه، فالنوع الأول يكون أكثر شمولا واتساعًا، فهي لا تقتصر على فن واحد أو اتجاه محدد، وقد جمعت تلك المؤلفات بنوعيها بين الشعر والنثر، واتجه أصحابها نحو الدراسات النقدية حتى اكتسبت تلك المصنفات سمة النقد. وأبرز ملامح تلك المؤلفات الأدبية وأهم ما يميزها عن غيرها صفتان واضحتان؛ الصفة الأولى: التوسع والشمول في الموضوعات التي تعرضها، فهي لا تقتصر على فن واحد أو موضوع واحد، وإنما تتناول العديد من الفنون والموضوعات.

الصفة الثانية: الاستطراد والانتقال من موضوع إلى آخر، فنرى المؤلف ينتقل من قصة إلى حديث، ومن مقطوعة شعرية إلى حكمة أو خطبة، ومن نادرة لغوية إلى فكاهة شعبية، وكان ذلك متعمدًا منهم في بعض الأحيان؛ بقصد التشويق والإثارة، وإزالة السأم والملل عن المتلقي، ومع ذلك فقد أدت هذه المؤلفات الأدبية -بفضل اتساعها وتعدد موضوعاتها- خدمة جليلة للأدب وطلابه، وأصبحت من أهم مصادر الدراسات الأدبية والنقدية. ومن المؤلفات التي سلك فيها أصحابها هذا الاتجاه -اتجاه الدراسات الأدبية والنقدية- كتاب (البيان والتبيين) للجاحظ، وكتاب (مجالس ثعلب) لأحمد بن يحيى ثعلب، وكتاب (الكامل في اللغة والأدب) للمبرد، وكتاب (نقد الشعر) لقدامة بن جعفر، وكتاب (الأمالي) لأبي علي القالي، كتاب (الوساطة بين المتنبي وخصومه) للقاضي الجرجاني، كتاب (الموازنة بين الطائيين) للآمدي، كتاب (الموشح) للمرزباني، (العمدة) لابن رشيق، ومؤلفات كثيرة وهي موجودة بين أيدينا لمن أراد أن يطلع عليها ويستزيد منها. ولنأخذ مثلا كتاب (البيان والتبيين) للجاحظ: كتاب (البيان والتبيين) من أشهر الكتب في مجال البلاغة والأدب والنقد، ألفه الجاحظ عمرو بن بحر بن محبوب، كنيته أبو عثمان، واشتهر بالجاحظ لجحوظ عينيه، ولد بالبصرة سنة مائة وخمس وخمسين وقال: سنة مائة وخمسين للهجرة، والبصرة آنذاك في هذا التاريخ -يعني في القرن الثاني الهجري- كانت في عنفوان شبابها العلمي والأدبي. كان الجاحظ حريصا على العلم منذ صغره، فلما شب كان يغشى المساجد ومجالس العلماء، يسمع منهم ويجادلهم، كما كان يتردد على سوق المربد

بالبصرة، والتقى بالأدباء فيها وشارك في المساجلات الأدبية التي كانت تدور بها. وبالإضافة إلى ذلك كان يقوم باستئجار حوانيت الوراقين للمبيت بها، والنظر فيما تضم من مؤلفات، وبذلك كله تكون عنده حصيلة عظيمة من اللغة، وأخذها من مصادرها الأصلية، أضف إلى ذلك أنه كان يأخذ اللغة ويستقيها من أفواه الرواة أحيانًا، في سوق المربد بالبصرة، أحيانًا من العلماء الأجلاء الذين يلتقي بهم ويسمع منهم، ويتتلمذ عليهم، وفي مقدمتهم الأخفش، وقد وجد الجاحظ في العصر الذهبي للعلم والأدب كوكبة من العلماء الأجلاء، استفاد منهم إفادة وضحت آثارها في مؤلفاته. ومن هذه المؤلفات كتاب (البيان والتبيين)، فقد عاصر مالكًا والشافعي وأحمد بن حنبل، وفي مجال الكتابة عاصر ابن المقفع والصولي وابن قتيبة والمبرد وابن الزيات، وفي مجال اللغة عاصر الخليل بن أحمد الفراهيدي، وعاصر من الشعراء الكثير مثل: بشار بن برد وأبا نواس، ومسلم بن الوليد وأبا تمام والبحتري، وابن الرومي وغيرهم، وتتلمذ على الأصمعي وأبي عبيدة والأخفش، كل هذا ترك أثره في الرجل، ووضح ذلك الأثر في كتاباته. للجاحظ في مجال الدراسات الأدبية منهج معروف، يمثل مدرسة تسمى المدرسة الجاحظية، وهي شبيهة بمدرسة ابن المقفع، وقامت حولها دراسات كثيرة، وتأثر بها أتباعه، كما شهد بفضله واعترف بعلمه، وعظيم فكره علماء عصره، يدل على ذلك ما ورد عن أبي القاسم السيرافي حيث قال: "حضرنا مجلس الأستاذ أبي الفضل بن العميد الوزير، فجرى ذكر الجاحظ فغض منه بعض الحاضرين وأزرى به، وسكت الوزير عنه فلما خرج الرجل

قلت له: سكتَّ أيها الأستاذ عن هذا الرجل في قوله، مع عادتك على الرد على أمثاله؟! فقال: لم أجد في مقابلته أبلغ من تركه على جهله، ولو واقفته وبينت له لنظر في كتبه وسار بذلك إنسانًا يا أبا القاسم، فكتب الجاحظ تعلم العقل أولا والأدب ثانيًا، ولم أستصلحه لذلك"، يعني لم أراجعه فيما قال؛ لأني لا أريد إصلاحه، أريد أن يظل على جهله الذي كشف عنه إنكاره لعلم ذلك الرجل، وهو الجاحظ. وقد وضحت ثقافته من خلال مؤلفاته الكثيرة، التي أوصلها البعض إلى ثلاثمائة وستين كتابًا، وكل كتب الجاحظ منارات يهتدى بها، وابتكارات تدل على عبقريته، يشهد بفضلها ابن العميد في قوله السابق، كما شهد بفضلها المسعودي حيث قال: "وكتب الجاحظ مع انحرافه المشهور تجلو صدأ الأذهان، وتكشف واضح البرهان؛ لأنه نظمها أحسن نظم، ورصفها أحسن رصف، وكساها من كلامه أجزل لفظ". ومن كتبه كتاب (الحيوان)، وكتاب (البيان والتبيين)، وكتاب (البخلاء)، وكتاب (مسائل القرآن)، وكتاب (فضيلة المعتزلة)، وكتاب (الرد على النصارى)، وكتاب (العرجان والبرصان)، وكتاب (الكيمياء)، وأشهر كتبه هو كتاب (الحيوان) ثم (البيان والتبيين)، فهما يمثلان زبدة فكره وخلاصة علمه. وقد عَمَّر الجاحظ حتى شارف المائة، وأصيب في آخر أيامه بمرض الفالج، ولم يمنعه ذلك من الدرس والتصنيف، وبينما هو يقرأ ذات ليلة بإحدى الحوانيت انهالت عليه الكتب فدفن تحتها، ومات شهيد العلم سنة مائتين وخمس وخمسين للهجرة.

أما عن المؤلف وهو كتاب (البيان والتبيين)؛ فإنه يعكس اهتمام العرب في عصره بصناعة الكلام، وأساليب الفصاحة والبيان، وفنون الجدل والمناظرة والتمرس بالخطابة، حيث أشار فيه صاحبه إلى حاجة المتكلم الماسة للبيان، كأداة من أدوات الاحتجاج المقنعة، فهو يؤلف لعصره ولأبناء جيله، وعصرُه عصر كثر فيه الصراع بين أرباب الملل والنحل. حصر الجاحظ البيان في خمسة أشياء: اللفظ والإشارة والعقد والخط والحال، اللفظ أهم تلك الوسائل عنده، ومن ثم تحدث عنه بإسهاب، وأوضح دور الصوت في هذا المجال، وأشار إلى العيوب التي تعتري البيان بسبب علة في الصوت؛ كالحبسة واللثغة واللكنة واللحن، وغيرها من العلل التي تلحق اللفظ، ومقياس الفصاحة عنده هو القرآن الكريم. ولم يقتصر الجاحظ على دراسة اللفظ المفرد، وإنما اهتم باللفظ داخل التركيب، فعقد بابًا للبلاغة، وعرض التعريفات التي دارت حولها، وقارن بين مفاهيمها لدى الأمم المختلفة، وبيَّن شروطها من إيجاز، وموافقة الكلام لمقتضى الحال، ومتانة العبارة، والطبع، والموهبة وغير ذلك، كما تعرض الجاحظ في كتابه لأصل اللغة، وكيفية تعلمها، وما يطرأ عليها من تطور، وأشار إلى حركة الترجمة التي نشطت في عصره نشاطًا لا حد له، كما أشار إلى ما ينبغي للترجمان أن يتصف به من علم باللغة وغيرها، ورأى أن الشعر لا يترجم، وإذا ترجم ذهب سحره وتقطع نظمه، وبطل وزنه وذهب حسنه، وهذه رؤية إن دلت فإنما تدل على تمكنه في باب الشاعرية والنقد. كما استحوذ الزهد على جانب كبير من كتابه، حيث أورد كثيرًا من مواعظ الزهاد والنساك، وذكر أسماءهم؛ كالحسن البصري وأبي حازم الأعرج وأبي

عبد الحميد وعمر بن عبد العزيز، وذكر من الشعراء الزهاد: أبا العتاهية وأبا نواس والطرماح بن حكيم. والكتاب يقع في ثلاثة أجزاء، تدور في مجملها حول البيان والبلاغة والفصاحة. تحدث الجاحظ في الجزء الأول عن البيان وعيوبه، وأدواته ومكانته، وحلل عناصره، ثم تحدث عن البلاغة ومذاهب رجالها، ومفهومها لدى كل منهم، وترجم لبعض البلغاء، كما أورد طرفًا من الخطب القصار للسلف، محاولا توضيح ما ينبغي أن يتوافر في الخطبة؛ مِن قوة الطبع، وشرف المعنى وجمال اللفظ، ومراعاة مقتضى الحال، وترجم لعدد من الخطباء، كما أشار في هذا الجزء إلى السجع المطبوع والمتكلف، ومنزلته الأدبية، وتعرض للكلمات التي وردت موزونة في كتاب الله عز وجل، ونفى أن يكون ذلك من قبيل الشعر على الإطلاق. أما في الجزء الثاني من الكتاب، فقد تحدث عن الخطابة وأقسامها، وكل ما يتصل بها، وعرض لبلاغة الرسول -صلى الله عليه وسلم- من خلال خطبه، كما تعرض لخطب بعض الصحابة والسلف الصالح -رضوان الله عليهم، وأشار في هذا الجزء أيضًا إلى مذاهب الشعراء المطبوعين، وطبقاتهم. وفي الجزء الثالث تحدث عن الشعوبية، فبين مزاعم الشعوبيين في الطعن على العرب، ورد على مزاعمهم وفند حججهم، خاصة فيما نعوه على العرب من عادة الإمساك بالعصى والقوس عند الخطبة. وكان الجاحظ منظمًا في رده، صادقًا في الإتيان بالحجة المفحمة، وينبع صدقه من ولاء واضح للدين والجنس واللغة، وفي ذلك الجزء أيضًا أورد الجاحظ كثيرا من المواعظ والحكم، والمقطعات الشعرية الدالة على الزهد، كما أشار إلى الرواية

وذكر طبقات الرواة، ويعد الجاحظ بكتابه هذا -وغيره من الكتب- رائدًا في ميدان دراسة علم البيان، وفلسفة اللغة العربية، وأستاذًا لمن جاء بعده كابن فارس، وابن جني، والسيوطي وغيرهم. وقد أهدى الجاحظ كتابه ذاك إلى القاضي أحمد بن أبي دؤاد المعتزلي وزير المأمون، وقيل: إنه ألف القسم الأول منه في الفترة التي توثقت فيها صلته بهذا القاضي، بعد سنة مائتين واثنتين وثلاثين، ونال به جائزة بلغت خمسة آلاف دينار، ثم أكمله بعد انتقاله إلى البصرة. هذا رأي ذكره ياقوت في (معجم الأدباء)، والثابت أن كتاب (البيان والتبيين) تم تأليفه بعد كتاب (الحيوان)، يدل على ذلك قوله: "كانت العادة في كتاب (الحيوان) أن أجعل في كل مصحف من مصاحفه عشر ورقات من مقطعات الأعراب ونوادر الأشعار". وكتاب (البيان والتبيين) من أشهر كتب الأدب التي لا تخلو من الإشارة إليه، والاقتباس منه، والإشادة به كتب المعاصرين له، والذين من بعده حتى عصرنا هذا. أما عن منهج الجاحظ في كتابه، وبيان قيمته؛ فرغم أن الجاحظ كان بارعًا في معالجة القضايا التي يطرقها، ويجيد الاستدلال ويحكم التعليل، إلا أن كتابه (البيان والتبيين) جاء متشعب الأفكار كتشعب ثقافته، ومتداخل الموضوعات كتداخلها في خاطره، إذ لم يلتزم الجاحظ منهجًا واحدًا واضحًا في كتابه، وإنما تغلب عليه سمة الاستطراد والانتقال من موضوع لآخر، دون أن يتم الأول، ثم يعود إليه مرة أخرى، وترتب على ذلك تكرار الموضوع الواحد في أكثر من موضع داخل الكتاب، وتكرار النصوص التي استشهد بها.

وقد أحس الجاحظ نفسه بهذا الخلل المنهجي عندما قال في بداية حديثه عن البيان، بعد أن أطال الحديث عن العي والعجز: "وكان الحق أن يكون هذا الباب في أول الكتاب، ولكنا أخرناه لبعض التدبير". ويبدو أن السر في سيطرة النزعة الاستطرادية عليه: أن الجاحظ كان لم يشغل نفسه بالترتيب والتنظيم، انشغاله بتدوين الفكرة، وأن ثقافته الواسعة المزدحمة هي التي أملت عليه ذلك المنهج الاستطرادي، ولكن رغم ذلك فإن الكتاب عالي القيمة، يعد مثلا يحتذى لمن جاء بعده من العلماء، فقد نهجوا نهجه في التأليف، كما فعل ابن قتيبة في (عيون الأخبار) وابن عبد ربه في (العقد الفريد)، وقد ذاع صيت الكتاب في الشرق والغرب في أيام الجاحظ، ومن بعده كثرت نسخه واتسع ذيوعه، وقد حظي (البيان والتبيين) باهتمام بالغ، وإقبال عظيم من قبل الناشرين والمحققين، فطبع أكثر من مرة في مجلدين وفي ثلاثة مجلدات، وقام بطبعه أكثر من طابع وحققه أكثر من محقق، وآخر هذه الطبعات هي الطبعة التي كانت سنة ألف وتسعمائة واثنتين وتسعين، والتي أشرف على شرحه وتبويبه فيها الدكتور علي أبو مِلْحَم، لكنها لم تبلغ مبلغ التحقيق الذي قام به عبد السلام هارون من قبل. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 5 مناهج التأليف عند العرب (4).

الدرس: 5 مناهج التأليف عند العرب (4).

الاتجاه الرابع "الموسوعات العلمية".

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الخامس (مناهج التأليف عند العرب (4)) الاتجاه الرابع "الموسوعات العلمية" الحمد لله الذي علم الإنسان ما لم يعلم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه، وبعد: فأشرنا إلى اتجاهات التأليف عند العرب، وعرضنا نماذج لكل اتجاه منها، وعرفنا من خلال ذلك العرض منهج العلماء في تلك المصادر، والموسوعات العلمية تمثل اتجاهًا من تلك الاتجاهات، وفي البداية نتعرف على الموسوعات العلمية: ما المقصود بها؟ ومتى ظهرت؟ وما العوامل التي ساعدت على ظهورها؟ الموسوعات العلمية عبارة عن كتب لا تختص بعلم معين أو فن محدد، وإنما تجمع بين عدة علوم وفنون مختلفة؛ أدبية وسياسية ولغوية، وفلكية، وجغرافية وغيرها، فمؤلف الموسوعة يسجل فيها كل ما يتوارد على خاطره، وتفيض به ثقافته حال تأليفها، وتغلب على هذا النوع من التأليف سمة الاستطراد والتفريع، وقد ظهرت الموسوعات العلمية في وقت مبكر من حياة العرب، بعدما طرقوا باب التأليف، ويعد كتاب (الحيوان) للجاحظ، وكتاب (عيون الأخبار) لابن قتيبة من بواكير التأليف الموسوعي لدى العرب. فإذا تأملنا في هذين الكتابين نلحظ أنهما موسوعتان أدبيتان لغويتان تاريخيتان سياسيتان متكاملتان، كما يعد كتاب (الأغاني) لأبي الفرج الأصفهاني -الذي عاش في النصف الأول من القرن الرابع الهجري- من أكبر وأغنى الموسوعات الأدبية والتاريخية والاجتماعية والموسيقية، كما يمثل كتاب (الأنساب) للسمعاني وكتاب (معجم البلدان) لياقوت الحموي مرحلة تالية من مراحل التأليف الموسوعي عند العرب، ولا شك في أن ظهور تلك الموسوعات في هذه المرحلة المبكرة يرجع إلى عدة عوامل، ساعدت على ميلادها وانتشارها، ونجاح مؤلفيها في تأليفها.

من هذه العوامل التي أدت إلى انتشار هذا النوع من التأليف لدى العرب في تلك المرحلة المبكرة من حياتهم: المفهوم السائد لكلمة أدب آنذاك، فكلمة أدب آنذاك كانت تعني الثقافة العامة، أو الأخذ من كل فن بطرف، وشاع استخدامها في تلك الفترة للدلالة على هذا المعنى، وقد أثرت تلك الدلالة تأثيرًا كبيرًا على هؤلاء العلماء، ووجهتهم تلك الوجهة الموسوعية في تأليفهم. ومن هذه العوامل أيضًا: تطور البيئة الثقافية والفكرية لدى العرب، ففي العصر الأول قبل الإسلام عاشت الأمة العربية في إطار فكر ضيق، لا يتجاوز حدود بيئتهم العربية بأقاليمها وأهلها، هذه الحقيقة معروفة، كان العرب يتحركون في إطار ضيق، رغم الرحلات التي كانت لهم خارج الجزيرة، لكن الاختلاط لم يصل إلى حد التأثير والتأثر من ناحية الفكر والثقافة. هذه الرحلات لم تتح لهم التعرف على حضارات الأمم الأخرى والتعمق فيها، فلما جاء الإسلام وتمت الفتوحات الإسلامية اتسعت الدولة الإسلامية، واختلط العرب بغيرهم من الأمم الأخرى، وامتزجت الثقافة العربية بالثقافات الأجنبية، بالإضافة إلى اشتغال عدد غير قليل من المسلمين غير العرب بالتأليف، فالتقت الحضارات والثقافات والأفكار واللغات، وفي ظل هذه البيئة الجديدة التي أحدثها الإسلام وُجدت طائفة من العلماء ذوي ثقافة علمية واسعة متنوعة، ونضج فكري يسمح لصاحبه باستيعاب الحضارات الأجنبية، وبلورتها في حضارة عربية إسلامية جديدة، محاطة بسياج من العقيدة الإسلامية واللغة، نطالع ذلك كله في تلك الموسوعات العلمية التي حملت ذلك الفكر، وعبرت عن هذه الوجهة. وفي سياق الإشارة إلى أسباب ظهور تلك الموسوعات في تلك الفترة المبكرة من حياة العرب أيضًا؛ ينبغي ألا ننسى طبيعة تلك الفترة التي ظهرت فيها، وهي

فترة ميلاد التأليف لدى العرب، وتدوين علومهم ومعارفهم، فهي تمثل طورًا أوليًا من أطوار الحركة العلمية، وفي مثل هذا الطور يكتب المؤلفون ما تمليه ثقافتهم، وما تتطلبه بيئتهم، غير خاضعين لقوالب بحثية، أو منهجية تلزمهم بالتخصص في علم أو فن، هذه هي طبيعة هذه الفترة، وهذا ما حدث إزاء تأليف هذا النمط الموسوعي، فرأيناه يعكس صورة العقلية العربية والبيئة العربية في تلك الفترة المبكرة، ثم تطورت الحياة بعد ذلك وتطور معها التأليف الموسوعي، وانتقل من الإطار الفردي إلى الإطار الجماعي كما نرى الآن، هناك مؤسسات وهيئات علمية وبحثية متخصصة، تسعى جاهدة لإخراج مثل هذه الموسوعات العلمية عربية وغير عربية. ومما تجدر الإشارة إليه أنه لا تذكر الموسوعات العلمية إلا ويذكر معها العصر المملوكي، ذلك العصر الذي أطلق عليه عصر الموسوعات العلمية، وهو حكم صحيح إلى حد كبير، والسبب في أن ذلك العصر أطلق عليه هو أن عصرًا تكتب فيه هذه المجموعة من الكتب، التي جمعت إلى ضخامة الحجم نفاسة المحتوى، وإلى وفرة العدد أصول علومنا الحضارية؛ لا ينبغي لأحد أن يبخل عليه بهذه التسمية، فهو بحق عصر الموسوعات العلمية. ورغم ما كانت تعانيه الدولة الإسلامية آنذاك من تمزق وضعف؛ نتيجة الغزو التتري الغاشم، وضياع جزء كبير من تراثها العريق، رغم ذلك كله ازدهر فيها التأليف الموسوعي ازدهارًا عظيمًا، وظهرت أشهر الموسوعات العلمية في تلك الفترة؛ منها على سبيل المثال لا الحصر: (لسان العرب) لابن منظور، و (نهاية الأرب في فنون الأدب) لشهاب الدين النويري، و (مسالك الأبصار في ممالك الأمصار) لابن فضل الله العمري، و (صبح الأعشى في صناعة الإنشا) للقلقشندي، و (الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة) لابن حجر، وغير ذلك من موسوعات كثيرة.

ومما تجدر الإشارة إليه أيضًا أن العصر المملوكي لم يكن مجرد عصر إحياء ما زوى، ولَمّ شتات ما اندثر من آثارنا الفكرية والحضارية، وتسجيل ما هو مهدد بالزوال من أدبنا، ما كان منه مسطرًا في الكتب أو مبعثرًا في الأذهان، لم يكن ذلك العصر هكذا بأي حال من الأحوال، وإنما كان عصر عطاء وبناء وابتكار، والدليل على ذلك هؤلاء الأعلام الذين أشرت إلى بعضهم، بالإضافة إلى العالم الجليل، والمفكر الأديب، والمؤرخ الدقيق، والفيلسوف العميق: عبد الرحمن بن خلدون. ورغم أن الحكام لم يكونوا عربًا آنذاك لكنهم كانوا مسلمين، والحضارة في جوهرها إسلامية قبل أن تكون عربية، وليس من المعقول أو المقبول أن يقف هؤلاء الملوك -الذين قهروا التتار وحاربوا الصليبيين- في وجه الفكر الإسلامي، والحيلولة دون عطائه، وفي ظل هذا الوضع الذي كان عليه الحال في تلك الفترة من تمزق وضعف، وغزو تتري وضياع ثروة طائلة، وحكام ليسوا عربًا، في ظل هذا الوضع كله تنبثق هذه الموسوعات ويظهر هذا الفكر؛ إنه لأمر عجيب حقًا يدعو إلى التأمل، ومعرفة الأسباب الداعية لذلك، فكم من عصور عاش فيها العرب آمنين مستقرين، ولم تبدع عبقريتهم مثل ما أبدع العلماء في العصر المملوكي، الأمر الذي يدعونا إلى الجري وراء الأسباب والكشف عنها، فما السبب وراء ذلك؟ في الحقيقة هناك عدة أسباب نشير إليها في عجالة: أولا: خوف العلماء من ضياع التراث العربي والإسلامي، واندثاره على يد المغول والتتار، هذا الخوف كان يسيطر على قلوبهم، فماذا يفعلون تجاه ذلك التراث؟ أقبلوا عليه يجمعون ما بقي منه، ويضمنوه موسوعاتهم، وساعدهم على ذلك تمتعهم بموهبة فطرية في شتى ميادين العلم والمعرفة، وفكر ناضج وقدرة فائقة على التأليف. ثانيا: التنافس الشديد بين العلماء في ذلك المجال، إذ اتخذوا من تأليف الموسوعات ميدانًا للمفاخرة والمباهاة، فالسيوطي مثلا زادت مؤلفاته على ستمائة

الصور التي جاءت عليها الموسوعات، ونماذج لها.

مؤلف، وزادت مؤلفات ابن تيمية على خمسمائة، وابن حجر العسقلاني بلغت مؤلفاته مائة وخمسين كتابًا، وبلغت مؤلفات صلاح الدين الصفدي أكثر من مائتي كتاب، وهكذا أصبح مجال التأليف مجالا فسيحًا للمنافسة بين العلماء، وكان هذا ضمن أسباب انتشار هذا النوع من التأليف في ذلك العصر. سبب ثالث: يتمثل ذلك السبب في تشجيع السلاطين المماليك على نشر العلم، واهتمامهم باقتناء الكتب، ومنحهم الجوائز السخية لأصحاب تلك الموسوعات، رغم أنهم لم يكونوا عربًا كما ذكرت، لكن الحس الإسلامي دفعهم إلى الحفاظ على ذلك التراث. السبب الرابع: هو توفر المادة العلمية، الممثلة في المعارف الثقافية والعلوم العربية الإسلامية، على مدى قرون ثمانية مضت، ويمكن القول في تعليل تلك الظاهرة: إن البيئة التي نشأت فيها الموسوعات المملوكية كانت بيئة خصبة مستنيرة، غير جامدة ولا متخلفة، وإن فترة تأليفها كانت فترة ازدهار ثقافي، وتألق حضاري في مختلف فروع الآداب، وجوانب المعرفة الإنسانية، وفنون العمارة الإسلامية، التي لا تزال شامخة في كل المدن الكبرى إلى الآن في مصر والشام. الصور التي جاءت عليها الموسوعات، ونماذج لها لو تأملنا هذه الموسوعات التي ألفت في العصر المملوكي لرأينا أنها تأتي على صورتين أو شكلين من أشكال التأليف: الصورة الأولى: وهي عبارة عن موسوعات عامة، تحتوي على علوم مختلفة ومعارف وفنون شتى؛ كالتاريخ والأدب واللغة والفقه والفلك، وغير ذلك من العلوم والفنون، ويمثل هذا النوع من الموسوعات كتاب (نهاية الأرب في فنون

الأدب) للنويري، ثم كتاب (مسالك الأبصار في ممالك الأمصار) لابن فضل الله العمري، ثم كتاب (التذكرة الصفدية) للصفدي، وغيرها من موسوعات موجودة بين أيدينا. الصورة الثانية من صور التأليف: موسوعات متخصصة، تتناول علمًا أو فنًا واحدًا تعرضه من جميع جوانبه عرضًا شاملا، يستوعب كل ما يدور حوله من قريب أو بعيد. مثل: كتب الحديث والفقه والتاريخ والتراجم والطبقات، فقد اهتم أصحاب هذه الكتب بالبحث في كل جوانب تلك العلوم، لم يتركوا جانبًا من جوانبها إلا وأحاطوا به علمًا في بحوثهم، ومن هذا النوع كتاب (النجوم الزاهرة) لابن تغري بردى، وكتاب (البداية والنهاية) لابن كثير، وكتاب (وفيات الأعيان) لابن خلكان، و (لسان العرب) لابن منظور، وغيرها من الكتب، وقد قامت تلك الموسوعات بدور عظيم في تطور النقد العربي، ووضع المقاييس الفنية التي يحتاجها الناقد. هذه حقيقة لا ينبغي إنكارها أو تجاهلها، هذه الموسوعات أدت خدمة جليلة للأدب والنقد، إذ حشد فيها مؤلفوها مجموعة من الرؤى النقدية لهم، أو لغيرهم من العلماء السابقين، كانت هذه الموسوعات مصدرًا من مصادر التعرف على تلك المقاييس؛ مِن خلال الأحكام النقدية التي يبحث عنها الباحثون، فيجدونها داخل هذه الموسوعات عبارة عن آراء لأصحابها أحيانًا، أو منقولة عن غيرهم أحيانًا أخرى، كما تعد هذه الموسوعات نواة طيبة لنشأة الفن القصصي فيما بعد، كيف ذلك؟ ما علاقة هذه الموسوعات بالفن القصصي الذي ذاع وانتشر في تلك الآونة؟

الفن القصصي يعتمد في جوهره على السرد، والسرد فن من الفنون الأدبية الحديثة، ومؤلفو هذه الموسوعات اختاروا النمط السردي حين تأليفهم لها، فهُم بذلك وضعوا حقيقة نواة طيبة لنشأة هذا اللون من الأساليب، وهو الأسلوب السردي. والآن سنعرض لبعض هذه الموسوعات عرضًا سريعًا؛ لمعرفة مدى الجهد الذي بذله أسلافنا من ناحية، ثم نتعرف على ما كان يتصف به هؤلاء العلماء من فكر وعلم وموهبة من جهة ثانية، ونتعلم أيضًا كيفية اختيار المنهج العلمي السديد حين نلجأ أو نتوجه إلى كتابة مثل هذه الموسوعات. أولًا: كتاب (العقد الفريد)، نتحدث عنه كنموذج من نماذج هذه الموسوعات العلمية. مؤلفه الأديب الأريب أبو عمر شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه القرطبي الأندلسي، وهو أحد علماء وأدباء الأندلس المشهورين. ولد في قرطبة سنة مائتين وست وأربعين للهجرة، وكانت قرطبة آنذاك من أعظم المدن الأندلسية حضارة ونهضة علمية، وهي تشبه بغداد حاضرة الدولة العباسية في ذلك الوقت، مِن حيث النهضة العلمية، والحضارة والحركة التأليفية النشطة فيها. نشأ ابن عبد ربه بين أحضان تلك الطبيعة الساحرة، فبعثت في نفسه حب الشعر فقرضه وبرع فيه، وظهر صداها في شعره، كما تتلمذ في تلك المدينة على طائفة من شيوخ عصره؛ كالخشني وابن وضاح، ويحيى بن الفقيه وجرياب المغني المشهور، وعاصر ابن عبد ربه ثلاثة من ملوك الأندلس المشهورين، ومدحهم بشعره ونال التكريم منهم؛ وهم: المنذر بن محمد بن عبد الرحمن الأوسط، وعبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الأوسط، وعبد الرحمن الناصر، أشهر ملوك

الأندلس، وأسعدهم حظًا، وأطولهم فترة حكم، كما حكى لسان الدين بن الخطيب. لزم ابن عبد ربه قرطبة طوال حياته، ونهل من علوم الشرق التي زحفت إلى الأندلس، عن طريق استقدام الأدباء والعلماء إليها، ثم أصيب في أواخر حياته بمرض الفالج، كما أصيب الجاحظ من قبله بهذا المرض. وتوفي ابن عبد ربه بقرطبة سنة ثلاثمائة وثمان وعشرين للهجرة. يقول عنه الثعالبي صاحب (يتيمة الدهر): "إنه أحد محاسن الأندلس علمًا وفضلا وأدبًا ومثلًا، وشعره في نهاية الجزالة والحلاوة، وعليه رونق البلاغة والطلاوة". أما محتوى الكتاب ومنهج المؤلف فيه؛ فقد بدأ ابن عبد ربه كتابه بمقدمة وضح فيها مضمون الكتاب، والمنهج الذي سلكه؛ أما عن المحتوى فيقول: "وقد ألفت هذا الكتاب، وتخيرت جواهره من متخير جواهر الآداب، ومحصول جوامع البيان، فكان جوهر الجوهر ولباب الألباب، وإنما لي فيه تأليف الأخبار، وفضل الاختيار، وحسن الاختصار، وما سواه -يقصد المعلومات- فمأخوذ من أفواه العلماء، ومأثور عن الحكماء والأدباء، واختيار الكلام أصعب من تأليفه". هذا حق. ويقول في موضع آخر في بيان المحتوى: "وقد نظرت في بعض الكتب الموضوعة، فوجدتها غير متصرفة في فنون الأخبار، ولا جامعة لجمل الآثار، فجعلت هذا الكتاب كافيًا شافيًا، جامعًا لأكثر المعاني التي تجري على أفواه العامة والخاصة، وتدور على ألسنة الملوك والسوقة، وحليت كل كتاب منها بشواهد من الشعر، تجانس الأخبار في معانيها، وتوافقها في مذاهبها؛ ليعلم الناظر في كتابنا هذا أن لمغربنا على قاصيته، وبلدنا على انقطاعه حظًا من المنظوم والمنثور".

فالكتاب -كما هو واضح من تلك العبارات التي أوردها المؤلف، وتدل على تواضعه أيضًا- يعد من الموسوعات الأدبية التاريخية الاجتماعية، جمع فيه مؤلفه مجموعة من النصوص الأدبية في الشعر والنثر، ما بين حكمة مأثورة أو قول مشهور أو مثل سائر، بالإضافة إلى طائفة من الأخبار التاريخية والاجتماعية وغيرها، وطبائع النفس والنوادر والملح، وغير ذلك، ومن ثم ندرجه ونعده ضمن الموسوعات العلمية المشهورة. وفي مقدمة الكتاب أشار المؤلف إلى عنوانه، والسبب في اختياره فقال: "وسميته كتاب (العقد الفريد) لما فيه من مختلف جواهر الكلام، مع دقة السلك وحسن النظام، وجزأته على خمسة وعشرين كتابًا، كل كتاب منها جزآن، فتلك خمسون جزءًا، في خمسة وعشرين كتابًا، وقد انفرد كل كتاب منها باسم جوهرة من جواهر العقد". هذه الفكرة عن التسمية التي ذكرها المؤلف في المقدمة؛ تقطع كل ما دار حول العنوان من أقاويل، وتؤكد أن اسمه (العقد الفريد)، وأنه قائم على التخييل والتشبيه، كما يؤكد ذلك أيضًا تقسيم الكتاب، وتسمية كل قسم منها، فقد تخيل ابن عبد ربه كتابه عقدًا منظومًا، وسمى كل باب باسم من أسماء ذلك العقد، والعقد في حقيقته يتكون من خمسة وعشرين حبة ثمينة، لكل حبة منها اسم معروف، وأنفس حبات العقد هي الحبة الوسطى التي تسمى واسطة العِقد، عن يمينها اثنتا عشرة حبة، وعن يسارها اثنتا عشرة حبة، وأسماء الحبات من جهة اليمين تختلف، نبدؤها كالتالي مما يلي الواسطة مباشرة: المُجَنَّبَة، ثم العسجدة، ثم اليتيمة، ثم الدرة، ثم الزمردة، ثم الجوهرة، ثم الياقوتة، ثم المرجانة، ثم الجمانة، ثم الزبرجدة، ثم الفريدة، ثم اللؤلؤة، تلك هي الأسماء مما يلي الواسطة من جهة اليمين.

أما أسماء الحبات من جهة اليسار، فهي نفس الأسماء، لكن تضاف إليها كلمة الثانية فيقول: المجنبة الثانية، ثم العسجدة الثانية، ثم اليتيمة الثانية، ثم الدرة الثانية، ثم الزمردة الثانية، ثم الجوهرة الثانية، وهكذا حتى آخر الأسماء التي استخدمها ابن عبد ربه أسماء لأبواب مؤلفه، يعني أخذ كل اسم من أسماء العقد، ووضعها عنوانًا لباب من أبواب كتابه، فيقول: "الكتاب الأول -يعني الباب الأول: اللؤلؤة في السلطان، الثاني: الفريدة في الحروب ومدار أمرها، والثالث: الزبرجدة في الأجواد والأصفاد"، وهكذا حتى يصل إلى الواسطة فيقول: "كتاب الواسطة في الخطب". الواسطة التي هي أرفع حبات العقد يجعلها للخطب. ثم يبدأ من جهة اليسار فيقول: "كتاب المجنبة الثانية في التوقيعات والفصول والصدور، وأخبار الكتب، ثم العسجدة الثانية في الخلفاء وتواريخهم وأيامهم"، وهكذا حتى يصل إلى اللؤلؤة الثانية، وهي في النتف والهدايا والفكاهات والمُلح. أما عن المنهج الذي سلكه ابن عبد ربه في كتابه فيقول هو عنه: "فتطلبت نظائر الكلام، وأشكال المعاني، وجواهر الحكم، ودروب الأدب، ونوادر الأمثال، ثم قرنت كل جنس منها إلى جنسه، فجعلته بابًا على حدته؛ ليستدل الطالب للخبر على موضعه من الكتاب، ونظيره في كل باب"، يشير هذا إلى جزء من المنهج الذي اتبعه المؤلف، وهو منهج علمي سديد، يعتمد على الترتيب المنطقي المنظم للأفكار والموضوعات، وجعلها في باب واحد، والحقيقة أن هذا المنهج الذي اتبعه قد جنبه الوقوع في عيب التكرار، الذي رأيناه في بعض المؤلفات، وكان ابن عبد ربه دقيقًا عندما وضع في اعتباره حال المتلقي ساعة تأليف الكتاب، إذ كان من دوافع اختيار ذلك المنهج -كما أشار إلى ذلك- تجنيب القارئ مغبة الجهد في البحث عما يريد، فجاءت أبواب الكتاب بمثابة الفهارس، أو المنارات التي يهتدي بها القارئ، هذه خطوة أولى من خطوات المنهج العلمي، أشار إليها الرجل في كتابه.

ثم نمضي خطوة أخرى في طريق المنهج أيضًا نلمحها في قوله: "وقصدت من جملة الأخبار وفنون الآثار أشرفها جوهرًا، وأظهرها رونقًا، وألطفها معنى، وأجزلها لفظًا، وأحسنها ديباجة، وأكثرها طلاوة وحلاوة". هذه الفكرة تكشف عن منهجه في اختيار النماذج التي أتى بها، وضمنها كتابه، والأخبار والنوادر التي أوردها، وهو منهج يعتمد على التأثر الذاتي، والتذوق الفردي، ويفصح عن تمتع المؤلف بذوق فني رفيع يعتد به، ومعرفة تامة بمواطن الجودة والرداءة من الكلام، فالرجل لم يسجل في موسوعته إلا أشرف المعاني وأجودها، هذا جزء من المنهج أيضًا يتعلق بمسألة اختيار النماذج، والجزء الأول يتعلق بمسألة الترتيب والتنظيم. جانب ثالث من جوانب المنهج العلمي الذي استخدمه يشير إليه أيضًا بقوله: "وحذفت الأسانيد من أكثر الأخبار طلبًا للاستخفاف والإيجاز، وهربًا من التثقيل والتطويل؛ لأنها أخبار ممتعة وحكم ونوادر، لا ينفعها الإسناد باتصاله، ولا يضرها ما حذف منها"، فالرجل كما ترى في هذه الفكرة لا يكثر من ذكر الأسانيد عند إيراد الأخبار؛ حتى لا يمل القارئ أو يطول الكتاب، هذا أيضًا ملاحظة نضيفها إلى الملاحظة السابقة، من أنه يراعي حال المتلقي عند تأليفه ذلك الكتاب. وهذه الطريقة التي أشار إليها -حذف الأسانيد لأنها لا تفيد من وجهة نظره- رغم أنها تفيد القارئ في الحصول على المعلومة من أيسر الطرق؛ لأن الذي ينظر في كتاب من الكتب يود الحصول على المعلومة بسرعة، وفي وقت وجيز، لا يتعلق بذكر الأسانيد، فهو بهذا يقدم المعلومة لمن يطلع على الكتاب في أقل وقت زمني، رغم أنها تفيد القارئ في الحصول على المعلومة من أيسر الطرق، إلا أنها لا تفي بالغرض، أحيانًا الإنسان يقرأ خبرًا من الأخبار، فيرى أنه في حاجة ملحة إلى معرفة أصل ذلك الخبر، وتتبع رجاله، في هذه الحالة لابد من

الرجوع إلى الأصل الذي نقل عنه، لا ينفعه الاعتماد على هذا المصدر وهو كتاب المؤلف، لماذا؟ لأنه حذف الأسانيد. وهكذا نحس وراء هذا المنهج فكرًا ناضجًا، وشخصية تتصف بالذكاء والخبرة والتحضر، وتجمع بين عدة ثقافات متنوعة، ذكر المنهج كاملا في كتابه حتى لا يترك القارئ في حيرة للبحث عن منهجه، وهو كما رأيت منهج علمي سديد، يتصل بالترتيب، يتصل باختيار النماذج وكيفية توظيفها توظيفًا جيدًا، حتى تتسم وتتسق مع الأفكار، أو الموضوعات التي يعرضها، ثم لم يحرم المتلقي من مراعاة ظروفه من حيث التخفيف، وتقديم المعلومة في وقت وجيز؛ حتى لا يمل أو يجهد نفسه. أما بالنسبة لقيمة كتاب (العقد) في ميدان الأدب؛ فإن الكتاب يمثل موسوعة ضخمة في الثقافة العربية، ودائرة معارف تكاد تكون مكتملة الحلقات من الأخبار والنصوص الأدبية، ويعد أول كتاب في الأندلس من حيث الإفاضة والشمول والتنوع، وكثرة التمثل عن أدب المشارقة، كما يعد كتاب (العقد الفريد) أيضًا مصدرًا مهمًا لمن يريد التعرف على حياة العرب؛ الأدبية والاجتماعية والسياسية وغيرها، ففيه حديث طويل عن الأدب، فيه اختيارات متنوعة من النصوص الأدبية الجيدة ما بين قصيدة وخطبة وحكمة ومثل. وهذه الاختيارات ناتجة عن ذوق فردي، وبالتأمل فيها نجد أنها اختيارات دقيقة تنم عن ذوق فني رفيع، قصائد ذات موضوعات جيدة، ذات أساليب فنية جيدة، حكم سائرة، أمثال جيدة، فهي فعلا زاد أدبي لمن أراد أن يتزود بمثله، كما يحتوي الكتاب أيضًا على دراسة وافية لأوزان الشعر العربي، والعروض والقافية، وما يتصل بهذا الجانب من زحاف وعلل، مع ذكر نماذج عدة لكل ذلك، وفي الكتاب أيضًا حديث عن التاريخ العربي والإسلامي، إذ تحدث عن

أيام العرب وأنسابهم والحروب ومدارها، كما تحدث عن السلطان والخلفاء في المشرق والمغرب، وشيء من أخبارهم. وتناول ابن عبد ربه في كتابه أيضًا الجانب الاجتماعي، فعقد كتاب الزبرجدة الثانية للحديث عن طبائع الإنسان والحيوان، تحدث عن النفس والدار واللباس والتزين والتطيب، ثم ذكر أنواعًا من الحيوان وصفاتها، وفي كتاب الفريدة الثانية تحدث عن الطعام والشراب، وما يتعلق بهما من آداب، وتحدث عن بعض ألوان التسلية والترفيه؛ حتى لا يمل القارئ كما ذكر. ورغم أن المؤلف لم يترك جانبًا إلا وأشار إليه في كتابه، نجد أن السمة الأدبية سيطرت عليه من أوله لآخره في عرض المادة العلمية، بأسلوب أدبي جيد، والاستشهاد في كل موقف بما يستجاد من الأدب، فصاحبه أديب بارع، ومما يؤكد أهمية الكتاب أيضًا إشادة العلماء به، ونقلهم عنه حين تأليفهم، كالأبشيهي في (المستطرف)، والبغدادي في (خزانة الأدب)، وابن خلدون في (المقدمة)، والقلقشندي في (صبح الأعشى) وغيرهم. وفي نهاية الحديث عن كتاب (العقد الفريد) تجدر الإشارة إلى أن ابن عبد ربه قد تأثر بالمشارقة في موسوعته؛ بدليل قول الصاحب بن عباد فيه عندما وصل إليه الكتاب وقرأه، قال الصاحب: "هذه بضاعتنا ردت إلينا"، كما يدل على تأثره أيضًا أخذ كثيرًا من أقسام كتاب (عيون الأخبار) لابن قتيبة، وجعلها أبوابًا عنده. مثل: كتاب السلطان، كتاب الحرب، كتاب السؤدد، كتاب الطبائع، كتاب العلم، وذلك لا يعيب المؤلف ولا الكتاب؛ لأن منافسة الأندلسيين للمشارقة والاعتناء بآدابه وأخباره، ودراستها تعد منهجًا من مناهجهم آنذاك، فهذا التأثر بالمشارقة لا يعيب الكتاب، ولا يعيب صاحبه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 6 مناهج البحث الأدبي في العصر الحديث.

الدرس: 6 مناهج البحث الأدبي في العصر الحديث.

حقيقة المنهج وأهميته في مجال البحث العلمي.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السادس (مناهج البحث الأدبي في العصر الحديث) حقيقة المنهج وأهميته في مجال البحث العلمي الحمد لله الذي علم الإنسان ما لم يعلم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه؛ وبعد: ففي بداية الحديث نتعرف على حقيقة المنهج، وأهميته في مجال البحث العلمي، وكيفية نشأة المناهج الحديثة. كلمة منهج: مصدر ميمي من الفعل نهج، وإذا رجعنا إلى قواميس اللغة، نبحث عن دلالة هذه المادة مادة نهج، نجد أنها تدور حول عدة معان من هذه المعاني: الوضوح والبيان، كما في حديث العباس -رضي الله عنه- حيث قال: "لم يمت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى ترككم على طريق ناهجة"، ناهجة؛ أي: بينة واضحة مستقيمة. ونقول: طريق نهج؛ أي: بين واضح وأنهج الطريق؛ أي: وضح واستبان، ونهجت الطريق؛ أي: أبنته وأوضحته، من معاني هذه المادة أيضًا الطريق الواضحة، ففي كتاب الله -عز وجل- يقول سبحانه: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (المائدة: 48)، والمنهاج كالمنهج، ومن معاني هذه المادة كذلك، سلوك الطريق الواضحة سلوك؛ أي: السير في الطريق الواضحة، ففي (لسان العرب): نهجت الطريق؛ أي: سلكته فهي تدور هذه المادة مادة نهج، تدور حول الوضوح والبيان، أو الطريق الواضحة، أو سلوك الطريق الواضحة. ثم أخذت الكلمة مدلولًا اصطلاحيًّا، عندما نشأ علم مناهج البحث، وأصبحت تطلق على مجموعة من القوانين والقواعد، التي تسيطر على سير العقل وتحدد

عملياته، حتى يصل إلى طريقة معدومة في موضوع من الموضوعات البحثية، مجموعة من القواعد والقوانين، اصطلح عليها علماء المناهج، يلتزم بها الباحث في موضوع ما، يود التعرف من خلاله على حقيقة علمية، سالكًا إحدى المناهج، التي سوف نشير إليها، ويمكن أن نعرفها بأسلوب آخر. نعرف المناهج فنقول: هي عبارة عن الطرق، التي يسلكها من يريد البحث في الأدب؛ لتحصيل المعرفة، وتحديد المشكلة المفترضة ومعالجتها، أو هي الوسيلة التي يتوصل الباحث من خلالها إلى هدفه المحدد، كل هذه التعريفات صحيحة، وتؤدي إلى غاية واحدة، فهي طريق يسلكها الباحث للوصول إلى الحقيقة، التي يحددها منذ بداية بحثه أو يفترضها بمعنى أدق. ولابد للبحث العلمي من منهج يسلكه الباحث، فهو بمثابة الأداة، التي يستخدمها؛ لتحصيل المعرفة، لا يوجد بحث دون منهج، لا بد لأي بحث علمي من منهج واضح، يسلكه صحابه. الكشف عن الحقائق يحتاج إلى منهج محدد، تحصيل المعرفة يحتاج إلى منهج محدد، الاستدلال يحتاج إلى منهج، المناقشة تحليل، كل هذه الوسائل تحتاج إلى منهج، فلابد للبحث العلمي من منهج واضح يسلكه الباحث، وبمقدار جودة الأداة، التي يستخدمها الباحث تكون دقة النتائج. وينبغي للباحث أن يدرس المناهج العلمية أولًا، قبل إقدامه على البحث، ينبغي أن يتعرف على طبيعة كل منهج، ومجالات استخدامه قبل دراسة الظاهرة العلمية، التي يود دراستها؛ لأن دراسة الظاهرة العلمية قبل دراسة المنهج، يعد مغامرة غير مأمونة، إذ أنه بدون منهج يحكم طريقة تحصيل المعرفة، والكشف عنها، أو معيار يحتكم إليه عند تحليلها، واستنباط النتائج منها تكون النتائج غير

دقيقة، ويترك القارئ كالمحتطب في ليلة ظلماء، هذه حقيقة، بدون المنهج المنهج يحكم طريقة تحصيل المعرفة، ويكشف عنها أو مقياس أو معيار، أو قانون يحتكم إليه الباحث، وهو يحلل وهو يستنبط تكون النتائج غير دقيقة، والقارئ نفسه يود الحصول على المعلومة، أو النتيجة فيجد نفسه في حيرة لا يدرك أبعادها. فالمنهج يكشف الطريق أمام الباحث، ويفتح أمامه أبواب المعرفة، ويجلي الفكرة للمتلقي ويكسب النتائج صفة الدقة والثبوت، هذه أشياء مهمة، ينبغي ألا ننساها ونحن نسلك بحوثنا، أو نتعامل مع قضايانا البحثية، والمنهج لا يفرض على الباحث فرضًا بأي حال من الأحوال، لا يمكن أن يفرض المنهج على الباحث، ولكن تحدده طبيعة الموضوع أولًا، ثم ثقافة الباحث ثانيًا، ثم اتجاهه الفكري ثالثًا. فكل موضوع له منهج يتناسب معه، يستطيع من خلاله أن يصل الباحث إلى نتائج دقيقة ومثمرة، كل فكر يناسبه منهج يتوائم معه، وينسجم معه، فثقافة الباحث، اتجاهه الفكري، الموضوع، هذه عوامل تحدد المنهج أو تعلب دورًا مهمًّا في اختياره، ولابد أن أشير هنا إلى نقطة مهمة، وهي أن المنهج غير الخطة، عندنا في مجال البحث الأدبي شيء يسمى الخطة، وشيء آخر يسمى المنهج، المنهج غير الخطة. الخطة عبارة عن الخطوط العريضة، التي تشكل إطار البحث، وهي تتمثل في الأبواب والفصول والمباحث، وهذه تتضح من خلال نظرة سريعة إلى فهرس الكتاب، لو نظرت في فهرس أي كتاب تتكشف لك خطته، وسوف نتحدث

عنها لاحقًا إن شاء الله تعالى، أما المنهج فيتضح من خلال معالجة الباحث لقضاياها المطروحة، داخل الأبواب أو الفصول، نتعرف عليه من خلال مناقشته للأفكار المعروضة، وتحليله لها، وكيفية الاستنباط منها. هذه هي المواطن التي نتعرف منها على منهج الباحث، كيف يناقش؟ كيف يحلل؟ كيف يعرض الأفكار؟ كيف يرتبها؟ نستنبط من هذا كله من صلب البحث، نستنبط منه المنهج الذي يسلكه الباحث، وجادلهم بالذكر أن المنهج ليس علمًا، حتى وإن أطلق على مجال درسه في العصر الحديث، علم المناهج، المنهج لا يعد علمًا ذو أصول يعني: ثابتة، لكنه فلسفة للعلم، بمعنى: أن المناهج تحلل العلوم، وتغوص في أعماقها، ولا تكون جزءًا منها. نفهم هذه العبارة جيدًا، هناك فرق بين المنهج وبين العلم، صحيح عندنا علم مناهج البحث، هذا علم أن أصبحت له أصول وقواعد، لكن ونحن نتعامل بمنهج علمي في أي قضية من القضايا العلمية، المنهج يعد فلسفة لهذا العلم، وأضرب مثلًا: فالباحث في علم الطب مثلًا قد يسلك منهجًا في بحثه، ويكشف عن نظرية طبية، لكنها لا تتصل بالمنهج الذي اتبعه لا من قريب ولا من بعيد. فالمنهج أداة يصل من خلالها الباحث إلى حقيقة علمية، قد تكون هذه الحقيقة العلمية، لا علاقة لها بالمنهج المتبع، قد يبحث في علم الجغرافيا، أو قد يبحث في علم الأدب سالكًا منهجًا من المناهج، وليكن المنهج النفسي مثلًا، ويصل من خلال القواعد النفسية، التي وضعها علماء النفس إلى حقيقة نقدية، أو أدبية عامة نتيجة أدبية بحتة، لكنها لا تتصل على الإطلاق بعلم النفس، أو بقضاياه، فالمنهج فلسفة للعلم وليس علمًا ساعة أن نستخدمه في بحوثنا.

-هذا شيء أحب أن أشير إليه أيضًا- نرى بعض الباحثين يقدم على البحث، ولا فكرة لديه عن المناهج العلمية، يثق في ذكائه والكم المعرفي عنده، ويعتمد في بحثه على التأثر الذاتي التلقائي فحسب، والتحليل الشامل للظاهرة، غير آبه بما وضع من مناهج علمية، تساعد على الوصول إلى الحقيقة، ولا يملك تصورًا لمنهج يسلكه حتى وإن كان مبتكرًا. كثير من الباحثين يقبلون على بحوثهم بهذا الفكر، لا يملكون تصورًا لمنهج ما، حتى وإن كان من ابتكاره، هذا في الحقيقة غير مقبول على الإطلاق في مجال البحث العلمي، إطلاقًا، فالتأثر التلقائي، والتحليل الشامل المعتمد على التأثر الذاتي، وسائل مشروعة ولازمة في مجال البحث الأدبي، لا ننكرها إطلاقًا، بل لا بد منها، لكنها غير كافية؛ لتحقيق أهداف مفترضة، والوصول إلى معطيات أكثر دقة، إذ لا بد من استخدام أدوات مساعدة، أدوات تساعد بجانب هذا التأثر الذاتي التلقائي، بجانب التحليل الشامل للظاهرة، لا بد من أداة تساعد الباحث. وأهم هذه الأدوات هي: المنهج الواضح لديه، ثم الإفادة من العلوم الأخرى، وبخاصة علوم اللغة والنحو والفلسفة والتاريخ والأخلاق، وكذا النظريات الحديثة في جميع المجالات العملية والفنية، لا بد أن يستفيد منها الباحث في مجال الأدب والنقد. ومما تجدر الإشارة إليه أيضًا أن مناهج البحث الأدبي، والعلمي بوجه عام، لا تتصف بالجمود ليست قوالب صماء، لكنها في تطور مستمر؛ نظرًا لتطور آليات البحث العلمي، والنتائج التي يتوصل إليها من خلال ذلك، فهي في الحقيقة ينبغي أن تعدل من حين لآخر، بل وترفض من جيل إلى جيل، إذا ما ثبت عدم صلاحيتها، وعلى الباحث متابعة تلك الحركة المتطورة؛ للتعرف على أحدث

نشأة المناهج العلمية وتطورها.

النظريات والمناهج؛ بقصد الوصول إلى نتائج أكثر دقة، لا يعيش بمعزل عن المناهج والنظريات العلمية الحديثة، التي تتصل بالأدب، والتي يمكنه الإفادة منها في مجال البحث الأدبي. وقد نصادف باحثًا فطنًا لبيبًا، يتصور طريقًا يسلكها بحثًا عن الحقيقة، لم تحدد أصول هذه الطريقة من قبل، الطريقة التي يتصورها الباحث لم تحدد أصولها من قبل، لكنه اقتنع بها، ورآها صالحة مجدية، ومناسبة للموضوع الذي يعالجه في بحثه، ورأى أنه بإمكانه التوصل من خلال هذه الطريقة إلى نتائج مرضية، ماذا نفعل في هذه الحالة؟ هل نقبل منه ذلك المنهج، أم نرفضه؛ لأنه ليس منهجًا مشهورًا؟ الحقيقة: أنه في هذه الحالة يحسب ذلك للباحث، إذ من حقه أن ينظم أفكاره بالطريقة، التي يراها صالحة، بحيث تكون صحيحة في النهاية، وتسلم إلى نتائج دقيقة، وتسمى هذه الطريقة حينئذ بالمنهج التلقائي، ولو اطلع عليه علماء المناهج فيما بعد، لربما ارتضوا منهجًا ضمن مناهجهم البحثية في مجال الأدب والنقد، إذا تحققت عندهم المقاييس الموضوعة في علم المناهج، هذا بالنسبة لمفهوم المنهج، وأهميته في مجال الدراسات الأدبية. نشأة المناهج العلمية وتطورها أما عن نشأة المناهج العلمية وتطورها، فيمكن القول: إن أرسطو يعد أول من استخدم منهجًا علميًّا في البحث، واتخذه طريقًا للاستدلال والاستنباط، حين تحدث عن الكليات الخمس المعروفة لدينا: الجنس، النوع، الفصل، الخاصة، العرض. وقد لعبت هذه الكليات دورًا عظيمًا في دراسة جميع العلوم عند العرب، استفاد منها العرب في الحقيقة في مجال التأليف، وأهم من الكليات عند أرسطو، تلك

القضايا التي تتكون منها مقدمات القياس، وتتنوع أشكال القياس عنده تنوعًا واسعًا، وقد اهتم العرب بمنطق أرسطو، منذ أن طرقوا باب التأليف، فأخذوا يترجمونه ويشرحونه، ويلخصونه في مؤلفات كثيرة، لم يقفوا عند هذا الحد، ولكنهم استخدموه منهجًا لهم في وضع علومهم، ليس في مجال الأدب فحسب، وإنما نجده ماثلًا في علم الفقه مثلًا، وأصول الفقه، حيث تحدث الفقهاء عن الحدود والتعاريف، والكلي، والجزئي، والعام، والخاص، والقياس. كما وضح في علوم اللغة والنحو، حين توسع النحاة في الحديث عن القياس، كما توسعوا في الحديث عن العلل، التي يقوم عليها القياس، وهم بذلك في الحقيقة يحاكون أرسطو، حين تحدث عن العلل الأربعة: المادية والصورية والفاعلية والغائية، وقد أدرك العرب قبل غيرهم أن القياس الأرسطي قياس رياضي، يبدأ من الكليات، ثم يطرد في المفردات الجزئية، وإن صح ذلك في الرياضيات، لا يصح في مجال الدراسات الطبيعية والإنسانية، فإن القياس في هذه الدراسات، يبدأ من المفردات الجزئية إلى الكلية العامة، ومن ثم عد الاستقراء، والملاحظة أصلين أساسيين في دراسة تلك العلوم وبحثها. وضمت التجربة إلى العلوم الطبيعية، هذا في الحقيقة يشهد بعبقرية العرب، وأنهم لا يكونوا مجرد مقلدين، وإنما كانت لهم رؤيتهم الفكرية والمنهجية، التي أدركوا من خلالها أن القياس الأرسطي قياس رياضي، وفهموا ذلك فهمًا عميقًا، ومن خلال إدراك العرب ذلك، تمكنوا من تحقيق نهضة علمية شاملة، تجاوزت حدود العلوم اللغوية والدينية، وحققت ازدهارًا عظيمًا في مجال الطب والصيدلة، والكيمياء، والفلك؛ بفضل التجارب الكثيرة، التي كان يجريها العلماء، وبفضل العبقرية التي كانوا يتصفون بها، والتي من خلالها قدموا إضافاتهم إلى ذلك المنطق الأرسطي.

ومن أهم البحوث الأدبية عند العرب، التي اتضح فيها المنهج الأرسطي، كتاب (البرهان في وجوه البيان)، لابن وهب، الذي نشر باسم (نقد النشر)، ونسب إلى قدامة، فقد عقد المؤلف فيه فصلًا للقياس، تحدث فيه عن الحد والوصف والمقولات، وفصل صور القياس، وصرح أنه نقل الفصل كله عن المناطقة، هذه أمانة علمية ينبغي التنبه لها. فإذا تركنا كتاب (البرهان) إلى كتاب آخر، وليكن مثلًا كتاب (الأغاني) للأصفهاني، وهو أكبر مصنف يحتوي على ترا جم الشعراء في العصر الجاهلي، وما تلاه من عصور، يعرض المؤلف لآراء النقاد في هؤلاء الشعراء، نراه حين يتناول شاعرًا من الشعراء، يعرض أخبارًا متفرقة عن الشاعر في مواقف شتى، لا يعرضها عرضًا تاريخيًّا منظمًا أو مرتبًا، ليس معنى ذلك أنها أخبار غير دقيقة، لا هي في نفس الوقت تتسم بالدقة، لا تلبث هذه الأخبار المتفرقة، لا تلبث حين تمسها يد صناع، أن تسوى منها حياة الشاعر، وأطورها، وتكشف عن ثقافته وظروفه وفنه. يعني: نعرف من خلال هذه الأخبار المتفرقة، كل ما يتصل بالشاعر من قريب أو بعيد، ونحس ونحن نقرأ هذه الأخبار ميل الأصفهاني الشديد، إلى لاستقصاء والاستقراء، ودقة الملاحظة، والاستنباط، هذه كلها تتصل بالمنطق الأرسطي، ولكن ذلك المنطق وظف توظيفًا جيدًا. وعلى هذا النحو كان العرب يستضيئون بمنطق أرسطو في بحوثهم الأدبية، وغيرها، وكانت لهم محاولات خصبة للعناية بالجزئيات، والمفردات، واكتمال الاستقراء، وصحة الاستنباط تتسع في الملاحظة اتساعًا شديدًا، وقد ظلوا مع ذلك يحتكمون إلى المنطق الأرسطي، مكثرين من القواعد والضوابط والأقيسة،

وكانت لهم رؤيتهم الخاصة، وهم يتعاملون مع هذا الفكر، حسبما تقتضيه طبيعة علومهم، وبيئتهم، ظلوا على ذلك حتى ظهر عصر النهضة. هذا عن موقف العرب من المناهج، وهو موقف مشرف، إن دل فإنما يدل على صحة فكرهم، وعبقريتهم في ذلك المجال، بدليل تلك الإضافات والنهضة العلمية الرائعة، التي لا زلنا إلى الآن ننبهر، ونحن نتعمق فيها. أما الغرب فإنهم بدأوا يتعرفون على العلوم العربية، عرفنا الآن ما قدمه العرب نتيجة استخدامهم لهذا المنطق، وتوظيفهم له، وإضافتهم إليه، الغرب تعرف على العلوم العربية ومؤلفاتهم وتأملوها بدقة، وقفوا أمام تجاربهم، تأملوا ما نادى به العلماء والمفكرون العرب، من العناية بالاستقراء الكامل، والملاحظة والتجربة. استوعب الغربيون كل ذلك الفكر العربي استيعابًا جيدًا، وبدأ بعض الفلاسفة الغربيين يهاجم منطق أرسطو، والسر في ذلك هو الفهم العميق، لما قدمه العرب، فالفكر العربي هو الشرارة، التي انطلق منها البحث العلمي، أو المناهج البحثية عند الغرب، استوعب الغربيون الفكر العربي استيعابًا جيدًا، وبدأ بعض الفلاسفة الغربيين، يهاجموا منطق أرسطو. فرأينا الفيلسوف الإنجليزي روجر بيكون، الذي عاش في القرن الثالث عشر الميلادي، رأيناه يهاجم المنطق الأرسطي، وما يفضي إليه من اعتماد العلم على الطريقة القياسية فحسب، لم يعجبه هذا، وقال: إنه ينبغي أن يعتمد على التجربة قبل كل شيء، وهذا ليس بجديد، وإنما فعله العرب من قبله، وهاجم أتباع أرسطو روجر بيكون، لم يعجبهم رأيه، هاجموه مهاجمة عنيفة حينذاك.

لكن فكرته ظلت حية، حتى بعث فيها الحياة من جديد أحد أتباع مدرسته، وهو الفيلسوف الإنجليزي فرانسيس بيكون، الذي عاش في النصف الثاني من القرن السادس عشر، والربع الأول من القرن السابع عشر الميلادي. تأمل هذا التسلسل، وذلك الترتيب ونحن نتحدث عن نشأة المناهج الحديثة، كيف نشأت وتبلورت؟ فرانيسيس بيكون الذي عاش في النصف الثاني من القرن السادس عشر، يعد فاتحة عصر جديد في مجال البحث العلمي، ماذا فعل فرانسيس بيكون في هذا المجال؟ أخذ هذا الرجل يحذر من استخدام المنطق الأرسطي، وأقيسته في علوم الطبيعة لماذا؟ لماذا حذر فرنيسيس بيكون من استخدام هذا المنطق، وأقيسته في علوم الطبيعة؟ أو في العلوم الطبيعية؟ لاعتماده على أمثلة جزئية في وضع القوانين الطبيعية العامة؛ لأنه يعتمد أمثلة جزئية، ورأى أنه لا بد من الاستقراء الكامل، والاستعانة بالتجارب المتعددة بجانب الأقيسة، والاعتماد على هذه الأمثلة الجزئية، إضافات تعلم من العرب، تعلم كيف يتعامل مع الفكر الأرسطي، وسبقه العرب في الحقيقة إلى ذلك. كما رأى أن هذا أيضًا لا يكفي، رأى أن الاستقراء الكامل، والاستعانة بالتجارب المتعددة، رأى أن هذا أيضًا لا يكفي في مجال البحث في العلوم الطبيعية، بل لا بد من جمع الأمثلة القليلة، التي تنقض القانون العام، لماذا؟ لأن الأمثلة مهما كثرت وكانت صحيحة حقيقية، يمكن لمثال واحد سلبي أن ينقضها جميعها، ومن ثم فهو يرتب أمثلة أي قانون، فهو يرتب أمثلة أي قانون في ثلاث مجموعات مهمة، مجموعة إيجابية مجموعة سلبية، مجموعة متفاوتة الدرجة، يعني بين الإيجاب والسلب.

ودائمًا في كل خطواته لا بد من التجريب، والتجربة وحدها لا تكفي عنده، التجربة وحدها لا تكفي عنده، بل لا بد من الاستنباط والنشاط العقلي، تأمل ماذا فعل الرجل فرانيسيس بيكون؟ إنه أحدث ثورة حقيقية في مجال البحث العلمي، مهتديًا بأفكار العرب، ورؤيتهم التي أضافوها إلى منطق أرسطو، فالمنهج العلمي في البحث عن فرانسيس بيكون، يتمثل في الجمع بين التجربة، وبين القياس، أو بعبارة أخرى أدق: هو الذي يجمع بين الاستقراء القائم على التجربة، وبين القياس العقلي المحكم، يجمع بين الاستقراء القائم على التجربة، وبين القياس العقلي المحكم. أين هذا مما فعله العرب من قبله؟ هل هذا بجديد؟ إطلاقًا، هذا ما سلكه العرب من قبله في بحوثهم، التي أشرنا إليها، ثم ظهر بعد ذلك الفيلسوف الفرنسي ديكارت، في القرن السابع عشر، ورأى أن يضع للعلوم كلها رياضية، وطبيعية منهجًا واحدًا، صور هذا المنهج في مبحثه، أو في بحثه مقال في المنهج، أولًا: هاجم منطق أرسطو، كما هاجمه الفلاسفة من قبله، لماذا هاجمه؟ لأنه يفترض في مقدمات أقيسته، أنها يقينية لا يرقى إليها شك. ديكارت طبعًا لا يرضى بهذا على الإطلاق، كما سيتضح، أرسطو يفترض في مقدمات أقيسته أنها يقينية لا يرقى إليها شك، طيب ما موقفه من فرانسيس بيكون؟ الفيلسوف السابق ما موقف ديكارت من فلسفة فرانسيس بيكون؟ هاجمها كما هاجم منطق أرسطو، هاجم فرانسيس بيكون لماذا؟ لأنه اعتقد بالتجربة والمشاهدة الحية، في استنباط القوانين الطبيعية، اعتد بالتجربة والمشاهدة الحية في استنباط القوانين الطبيعية. وبدأ الرجل ديكارت يكشف عن منهجه الجديد، وهو منهج يعتمد على البراهين الرياضية، إذ العقل الإنساني في جوهره يكون وحدة، وما دام هذا العقل يسلم بقوانين الرياضة، فلابد أن تكون قوانينه عامة، تشمل الرياضة والطبيعة معًا، هذه هي وجهة نظر ديكارت، وهو يؤصل لمنهج موحد، يشمل العلوم جميعها

رياضية وطبيعية، ويرى أنه لكي نقف على المنهج القويم، لهذا العقل في البحث العلمي، ينبغي أن نعتمد على القياس. لكن لا قياس أرسطو، هو لا يقصد قياس أرسطو، بل نحلل نحن القياس، فنراه يبتدئ بأشياء بسيطة يسلم بها العقل، وهي البدهات وينتهي إلى أشياء مركبة، وقد رأى ديكارت أن يضع مكان قواعد المنطق الأرسطي القديم، الشديدة التعقيد من وجهة نظره أربع قواعد، تختصر المنهج السديد، لكل البحوث النظرية، يعني: اختصر منطق أرسطو، وما جاء به فرانسيس بيكون، وكل ما سبقه من معلومات، أو من فلسفة منهجية، حصرها في قواعد أربعة، يمكن أن نجملها فيما يلي: القاعدة الأولى: التوثيق وهي تفرض على الباحث ألا يسلم بشيء، إلا إذا بدى بديهي في نظر العقل، في الحقيقة هذا شيء جيد التوثيق، فالبحوث أيا كان نوعها يعتمد على مجموعة من الوثائق، والباحث يحللها ويشرحها، ويفسرها، يتعامل معها بطريقة من الطرق، التي يختارها؛ ليصل إلى النتيجة من خلالها. القاعدة الثانية: التحليل وهي تفرض على الباحث، أن يقسم كل مشكلة، يتناولها بالبحث إلى أكبر عدد ممكن من الأجزاء، التي يمكن أن تدرك بالحدث المباشر لماذا؟ لماذا لجأ ديكارت إلى هذه القاعدة؟ وهي تحليلية تحليل المشكلة إلى جزئيات صغيرة، يمكن أن تدرك بالحدث المباشر؛ لأنه بهذا يضمن صدق الإدراك لكل خطوة من خطوات البحث على حدة، كما تتاح له فرصة الكشف عن الجوانب المجهولة من المشكلة، كلما جزئت إلى جزئيات صغيرة، كان من السهل إدراك حقيقة هذه الجزئيات، ومعرفة اليقيني من غير اليقيني، يدركها يحيط بها.

القاعدة الثالثة: التركيب وهي تفرض على الباحث، أن يعيد ترتيب ما سبق أن حلله من مشكلة، أو من العناصر التي حلل المشكلة إليها، مراعيًا التسلسل المنطقي في ترتيب هذه العناصر، يعني بعدما يحلل هذه العناصر إلى جزئيات صغيرة، ويتعرف على كل جزئية، ويدرك أبعادها، وينظر فيها تفسيرًا وتحليل، يبدأ من جديد يعيد ترتيب هذه العناصر في تسلسل منطقي، بحيث تكون كل فكرة نتيجة لازمة للفكرة، التي سبقتها، ومقدمة طبيعية توجب الفكرة التي بعدها، يعني: فيه ترابط قوي بين هذه التركيبات، التي يعيدها الباحث في القاعدة، أو كما ذكر أو في الخطوة الثالثة. القاعدة الرابعة: المراجعة النهائية، وفيها يقوم الباحث في النهاية بإحصاء دقيق، ومراجعة تامة شاملة لكل جوانب المشكلة، وتفصيلاتها المختلفة، لا ينتهي عند هذا الحد، إنما التوثيق آه، تأكد من صحة المعلومات؟ نعم، يبدأ يحلل يفسر يشرح يتعامل مع هذه الوثائق، ويحللها إلى عناصر صغيرة، وإذا ما أحاط بها تفسيرًا وإدراكًا وتحليلًا، يبدأ في إعادة تركيبها، لا يقف عند هذا الحد، وإنما يراجع مراجعة، دقة مراجعة نهائية، يقوم الباحث في النهاية بإحصاء دقيق، ومراجعة تامة شاملة لكل جوانب المشكلة، وتفصيلاتها المختلفة. إذا تأملنا هذا نجد أن أساس الفلسفة الديكارتية، هو الشك المنهجي، إذا تأملنا هذه القواعد وما ذكره الرجل والفلسفة، التي يدعو إليها، وتصوره لمنهج موحد للعلوم الرياضية والطبيعية، نجد أن أساس الفلسفة الديكارتية هو الشك المنهجي، فهو يشك في جميع معارفه؛ لاحتمال أن يكون مخدوعًا فيها، وفي هذا قال عبارته المشهورة: أنا أفكر وإذن أنا موجود. هذا ديكارت فليسوف القرن السابع عشر، وهكذا نلاحظ أن هذا القرن، قد شهد ثورة فكرية على المنطق الأرسطي، تمخضت هذه الثورة عن ظهور منطق

حديث، عبر بمصطلح جديد يسمى علم مناهج البحث، نتج عن هذه الثورة الفكرية في مجال علم المناهج، نتج عنه ظهور علم له أصوله وقواعده، وتعنى به الجامعات، والأقسام الأكاديمية، يسمى علم مناهج البحث. كما أسفرت هذه الثورة أيضًا، عن ظهور ثلاثة مناهج أساسية: المنهج الاستقرائي، والمنهج الاستدلالي، والمنهج الاستردادي، والمنهج الأول هو منهج العلوم الطبيعية، المنهج الأول من المناهج، التي جاءت كثمرة لهذه الثورة الفكرية في القرن السابع عشر، على يد ديكارت والسابقين عليه، المنهج الأول وهو ما يسمى بالمنهج الاستقرائي، وهو منهج العلوم الطبيعية، ويعتمد هذا المنهج على الملاحظة والتجربة والفرض. والمنهج الثاني: هو المنهج الاستدلالي وهو منهج العلوم الرياضية، وهو منهج استنباطي، ينتهي في الباحث إلى النتائج المأخوذة من المقدمات، دون حاجة إلى الملاحظة، وأما المنهج الاستردادي، فهو المنهج المستخدم في العلوم التاريخية وما شابهها، وفيه يقوم الباحث بعملية استرداد للماضي من خلال الآثار، التي خلفها يعني: يسترجع المعلومات، وهو استرجاع أو استرداد يراد به الكشف عن حركة سير التاريخ، وتفسيرها، والربط بين خطواتها. ثم تلى بيكون وديكارت فلاسفة، ومفكرون مختلفون اتفقوا جميعًا على أن المنطق الأرسطي، لم يعد صالحًا كمنهج للبحث العلمي، وأنه قد انتهى زمنه، وبدأوا يبحثون عن مناهج علمية جديد، تعتمد على دراسة الظاهرة ورصدها، مع الجمع بين التفكير النظري والملاحظة، والتجربة في إطار قوانين علم مناهج البحث.

وفي بداية القرن التاسع عشر، شهد الشرق العربي تتطورًا ملحوظًا في شتى مجالات الحياة: السياسية، والاجتماعية، والأدبية، والفكرية بوجه عام، وقوي اتصال الشرق بالغرب، وازدهرت الحركة العلمية والفكرية، وتعمقت الصلة بين الأدب والعلوم الأخرى، وامتزج الأدب بهذه العلوم امتزاجًا لا ينكر هذه حقيقة؛ لدرجة أننا أصبحنا أمام ألوان من الإبداع الفكري المعقد، لا يمكن استكشاف عوالمه اعتمادًا على القيم الفنية المجردة، التي كان يعتمد عليها الباحثون في القديم، ويعدونها أسًّا مهمًّا من أسس البحث العلمي، أو الأدبي. أضف إلى ذلك ما رأيناه من صراع شديد بين العلوم، والفنون في ابتكار الأنظمة، والقوانين التي تحكم كل علم أو فن، هذه حقيقة نلمسها جميعًا، ثورة علمية في شتى المجالات، وهناك تسابق، هناك صراع شديد بين العلوم جميعها، والفنون جميعها في محاولة ابتكار الأنظمة، والمقاييس والمعايير، التي تحكم كل فن، ويحتكم إليها الباحثون في هذا المجال، ولا ننسى ونحن نتحدث في هذا السياق. ولا ننسى استقرار الحياة الجامعية في عالمنا العربي، وتأصل تقاليدها، ومقوماتها العلمية في مجال البحث، بصورة منهجية دقيقة، لا ننسى ذلك اهتمت الجامعات بهذه المناهج؛ من أجل الكشف عن مناطق جديدة في عالم المعرفة، الذي لا حدود له، هذا أيضًا واضح أمامنا على مستوى الجامعات في العالم العربي أجمع، من أجل ذلك كان لازمًا على القائمين بالبحث الأدبي التنبه لهذا التطور، والوقوف على المناهج العلمية الجديدة في مجال البحث العلمي، والأدبي خاصة؛ للتعامل مع الأدب الجديد، والكشف عن خصائصه. نعم وجد العلماء الذين يبحثون في الأدب أنفسهم، أمام نماذج أدبية معقدة لو أنهم اعتمدوا على الخصائص الفنية الموجودة في الأدب وحدها، لم يستطيعوا الكشف عن حقيقة ذلك الأدب، وسبب تعقيدها أنها امتزجت بالعلوم الأخرى،

فأصبح لزامًا عليهم التعرف على حقيقة هذا المزيج، هذا العنصر الجديد، الذي أصبح باديًا في الأدب، فكان لا بد للتعامل مع الأدب الجديد تعامل تعاملًا علميًّا حقيقيًّا، والكشف عن خصائصه، والوصول إلى نتائج حقيقة في هذا المجال. كان لا بد أو كان لزامًا عليهم من الوقوف على المناهج العلمية الجديدة، في مجال البحث العلمي والأدبي خاصة، وبدت الحاجة ملحة إلى التدقيق والتنظيم، وتحديد الغاية، والتفكير في الطرق، التي تتناسب مع التطور الجديد في الحقل الأدبي، وعلى إثر ذلك تطورت مناهج البحث الأدبي تطورًا ملحوظًا، خاصة بعد إخضاعها للمناهج والنظريات، التي أسفرت عنها الحركة العلمية النشطة، في شتى مجالات العلم والمعرفة. ففي مجال العلوم التجريبية ظهرت القوانين، التي تحكمها، ثم حاول دارسوا الأدب وناقدوه الإفادة من تلك القوانين، وتطبيقها على الأدب، وترددت بعض المصطلحات الخاصة بالعلوم التجريبية، على ألسنة الباحثين والنقاد، وأصبحنا نعلم ديناميكية الأدب، إستاتيكية الأدب، النمو الطبيعي، النبض، وغير ذلك من مصطلحات منقولة، من المجال التجريبي إلى ميدان الأدب والنقد. هذا في مجال العلوم التجريبية، انتقلت المصطلحات من هذه العلوم، وأصبحت تجري على ألسنة الباحثين والنقاد، والمبدعين أنفسهم، وفي مجال الدراسات الإنسانية، كعلم النفس والاجتماع والتاريخ والأخلاق، وغير ذلك، سجل الباحثون تقدمًا ملحوظًا، ووصلوا إلى عدة نظريات أفاد منها الأدب إلى حد كبير، إذ حاول دارسوا الأدب، وناقدوه تطبيقها في المجال الأدبي الإبداعي منه، والنقدي. ورغم تسرب تلك النظريات إلى الأدب تسربًا ملحوظًا، وسيطرتها على المجال البحثي فيه، ظلت طائفة من الباحثين، يعتقدون أن الأدب ينبغي أن يكون بمعزل عن تلك العلوم، هذا رأيهم وحجتهم أن هذه العلوم، لو اعتمدنا عليها في

بحوثنا الأدبية، فإنها تحول الأدب إلى قواعد جامدة، فالفن الأدبي عند هؤلاء مهما لحقه من تطور، لا يخرج عن كونه فنًّا، يخضع في المقام الأول لذوق الباحث والناقد، وتأثره ونبضه وشعوره، ولا يمكن إخضاع ذلك لقانون ثابت، كقوانين العلوم التجريبية، وكان لهؤلاء منهجهم الواضح في البحث الأدبي، وهو منهج يقوم على تفسير العمل الأدبي، وتحليله من خلال عناصره المعروفة: الخيال، والعاطفة، والفكرة، والأسلوب. من هنا كانت تعدد المناهج في مجال البحث الأدبي، فرأينا المنهج التاريخي، والمنهج النفسي، والمنهج الفني، والمنهج المتكامل، كلها تعبر عن وجهات أصحابها، وتصور تلك الحركة العلمية النشطة في ذلك الوقت، وهكذا يتضح لنا من الحديث السابق، أن مناهج البحث الأدبي في العصر الحديث متشعبة تشعبًا لا حد له، وأن الباحث مطالب حتمًا باستكمال أدواته المعرفية، من خلال الاطلاع على علم المناهج الحديثة؛ لمعرفة آخر ما وصل إليه العلم في هذا المجال، والوقوف على أصحها، وأنسبها، وهو علم متطور دائمًا بتطور العلوم التاريخية والاجتماعية والنفسية، وبقية العلوم الإنسانية الأخرى. وجدير بالذكر أنه لا يصح الاعتماد على منهج واحد، في مجال البحث الأدبي، بل لا بد من توظيف هذه المناهج كلها، حتى تكون النتائج دقيقة مثمرة؛ لأن الأدب نتاج بشري معقد، والعنصر البشري يؤثر ويتأثر بكل ما يحيط به، فمن اللازم أن يحيط الباحث في الأدب بكل هذه المؤثرات، بيئية كانت أم غير بيئية، كما أنه من الخير للأدب أن نأخذ بكل هذه المناهج، ونحاول الإفادة منها، ونحن نبحث في الأدب، فبذلك نربط الأدب بالحياة في تطورها، وهذا ما ينبغي أن يكون، إذ لا يليق بالباحث الأدبي، أو الأديب عمومًا أن يعيش بمعزل عن عالمه، بما فيه من حركة تطورية ناهضة. بهذا العرض السريع الموجز، نكون قد انتهينا من الحديث عن نشأة المناهج البحثية الحديثة في مجال الأدب، تعرفنا من خلاله على مفهوم المنهج، وأهميته في مجال البحث العلمي، ثم أشرنا إلى نشأته وتطوره، حتى وصل إلى ما هو عليه الآن. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 7 المنهج التاريخي.

الدرس: 7 المنهج التاريخي.

المنهج التاريخي: مفهومه، ونشأته، ومقياس الجودة عند أصحابه.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السابع (المنهج التاريخي) المنهج التاريخي: مفهومه، ونشأته، ومقياس الجودة عند أصحابه الحمد لله الذي علم الإنسان ما لم يعلم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه؛ وبعد: فنبدأ بعون الله -سبحانه وتعالى-: المنهج التاريخي: هو الذي ينهج بتقويم العمل الأدبي، أو الأدباء أنفسهم، والكشف عن جوانبهما المختلفة، على أساس ما بينهما من علائق وثيقة، تربطهما بالبيئة والعصر، والمجتمع، فالأدب في رأي أصحاب هذا المنهج وليد البيئة، وصدًى لأحداث المجتمع، وتلك الأحداث هي الملهمة الأولى للأدباء، والمثير الأقوى لإشعال عواطفهم، وتحريك وجدانهم، وتفجير كوامن الشاعرية داخلهم. تلك الأحداث هي النبع الذي يستمد منه المؤرخون للأدب، والمنظرون له والمبدعون أيضًا، فهي المصدر الذي يستمد منه كل طالب أي جانب من جوانب الأدب، ويعد التاريخ العام مصدرًا مهمًّا من مصادر الأدب، كما يعد تاريخ الأدب جزءًا من تاريخ الحضارة، والعلاقة بين التاريخ العام، وتاريخ الأدب علاقة وطيدة وثيقة، لا يمكن بحال من الأحوال أن نفصل بينهما، بل نعبر عن هذه العلاقة بقولنا: إنهما وجهان لعملة واحدة. فالمؤرخ يركز على الحدث في إطاره الزماني والمكاني، أما الأديب فإنه يخرج بهذا الحدث من إطاره الخاص إلى إطار عام، متخطيًا حدود الزمان والمكان، ومن المعلوم أن كل حدث تاريخي له جانبان: جانب مقيد بالإطار الزماني والمكاني والظروف، التي أدت لوقوعه، وجانب مطلق، هذا الجانب المطلق، يتمثل في القيم الفكرية

والأخلاقية، والإنسانية، التي يمكن أن يشكلها ذلك الحدث في جميع الأزمنة، والأمكنة. مهمة المؤرخ تتمركز في الجانب الأول، أما الجانب الثاني، فيمثل المادة الخام للأديب، يستقي منها مضامينه الفكرية، وأشكاله الفنية، وكل ما يريد أن يبدع فيه، ولو تأملنا النماذج الأدبية الخالدة لوجدنها تستمد أصولها من قضايا تاريخية، أو سياسية، أو إنسانية بارزة، هذه حقيقة جميع النماذج الأدبية، التي التفت إليها النقاد، وأعجبوا بها، ولا تزال تتردد إلى الآن على ألسنة الباحثين، والدارسين وغيرهم ممن يتذوقون الأدب، هذه النماذج لو تأملنا فيها جيدًا، لوجدناها تستمد أصولها من قضايا تاريخية بارزة، أو سياسية خطرة، أو إنسانية، فالتاريخ والأدب وسيلتان لغاية واحدة. هذه الغاية هي استيعاب الأحداث بأبعادها المختلفة، وتصويرها بطريقة ما، مع اختلاف أدوات كل من المؤرخ والأديب في هذا، فالمؤرخ وسيلته تحليلية، أما الأديب فوسيلته فنية بحتة، كما أنه لا يمكن إنكار أو تجاهل ما بينهما من تأثير وتأثر، لا يمكن بحال من الأحوال إنكار أن الأدب يؤثر في التاريخ، وأن التاريخ يؤثر في الأدب تأثيرًا بارزًا وواضحًا، ومن ثم فليس من السهل دراسة الأدب، أو الكشف عن طبائع الأدباء، واتجاهاتهم الفنية وغيرها، إلا بعد دراسة عصورهم، التي نشأوا فيها، وبيان أحوال مجتمعهم، وأثر البيئة في حياتهم. كل هذه الأشياء تكشف لنا عن جوانب كثيرة من الأدب، والإبداع الفني والخصائص، التي يتميز بها ذلك الفن، وهذا المبدع، وينبغي لمن ينشد الحقيقة من باحثي الأدب ودارسيه، ألا ينظر في الأدب أو الأدباء نظرة استقلالية، ويجعلهما في معزل عن تيارات عصرهما، والأحداث الكبرى التي تصنعهما، بل لا بد أن يدرس الأدب في إطار تلك الأحداث في إطار ذلك التاريخ؛ لأنهم لا ينفصلان كما ذكرنا.

ومجالات المنهج التاريخي في البحث الأدبي متعددة كثيرة، إذ لا بد من اللجوء إليه عند دراسة تأثر العمل الأدبي، أو الأديب ذاته بالبيئة، التي عاشها، لو أردنا أن نكشف عن بيئة من البيئات، أو أديب من الأدباء، ونبحث عن تأثره بهذه البيئة، هل استطاع أن يتفاعل معها أو يعيشها؟ هل انعكست أحداث هذه البيئة على فنه الأدبي؟ لا يمكن أن نصل إلى نتيجة في هذا المجال، إلا إذا لجأنا إلى المنهج التاريخي. وكذلك لو أردنا أن نتعرف على أثر البيئة في أي أديب من الأدباء يعيش فيها، لا بد من اللجوء إلى المنهج التاريخي، هو وحده الذي يستطيع أن يكشف لنا عن هذا التأثر، وكذلك عند دراسة الأطوار المختلفة للفنون الأدبية، والوقوف على آراء النقاد والعلماء في الأعمال الأدبية، والموازنة بينها، ومعرفة السابق، واللاحق منها، لو أننا وقفنا أمام قضية مثلًا من القضايا، أو أمام فن من الفنون الأدبية الكثيرة، وأردنا أن نتتبعه، ونعرف نشأته، نعرف من الذي ابتكر هذا؟ وما أول رأي قيل في تلك القضية. كل هذا لا ييجبنا أو لا يفيدنا أو لا يسعفنا، للوصول إلى نتائج مثمرة، إلا للوصول إلى نتائج مثمرة، إلا إذا لجأنا إلى منهج تاريخي، وكذلك الموازنة لو أردنا أن نوازن بين شاعرين، أو بين ناقدين حول قضية من القضايا، لا بد من اللجوء إلى المنهج التاريخي، وكذلك نلجأ إلى المنهج التاريخي أيضًا عند إرادة التأكد من نسبة النصوص لأصحابها، لو أردنا أن ننسب نصًّا اختلف فيه النقاد، فبعضهم ينسبه إلى قائل، وبعضهم ينسبه إلى قائل آخر، من الذي يفصل في هذه القضية؟ هو المنهج التاريخي. وغير ذلك من مجالات لا حصر لها، نحتاج إلى المنهج التاريخي في بحثها، والوصول إلى نتائج دقيقة من خلال ذلك البحث.

أما عن نشأة هذا المنهج: ففي القرن التاسع عشر، نلاحظ أن الحياة العقلية في أوربا، سجلت نهضة رائعة في مجال العلوم الطبيعية والتجريبية، نهضة لا ينكرها منكر، وأخذت مناهج هذه العلوم تفرض سلطانها على عقول الناس، وتسيطر على تفكيرهم، وراحت تجتذب إليها طائفة من مؤرخي الأدب، أخذوا ينادون بمحاولة تطبيق هذه المناهج، على الدراسات الأدبية، وإخضاعها لأساليبها، وقواعدها، وقوانينها العلمية. يعني: حاول جماعة من النقاد، أو الدارسين للأدب أن يأخذوا هذه القواعد، التي توصل إليها علماء البحث في العلوم الطبيعية والتجريبية، حاولوا أن يستفيدوا، أو يوظفوا هذه القواعد، التي توصل إليها هؤلاء العلماء في تلك العلوم، حاولوا أن يوظفوها في دراسة الأدب، وارتفعت ثلاث صيحات تدعو إلى هذه المحاولة، أو التجربة الجديدة، يمثل هذه الصيحات الثلاثة من النقاد الغربيين: ناقد يسمى "سانت بيف"، الذي عاش في القرن التاسع عشر، وناقد آخر يسمى "تين" هيبلاي تين"، وناقد ثالث يسمى "برنتير". وقد مضى هؤلاء الثلاثة ينكرون التذوق الشخصي، وكل ما يتصل بالذوق وأحكامه، وبدأوا يحاولون وضع قوانين ثابتة للأدب، ثبات قوانين العلوم الطبيعية، قوانين تطبق على كل الأدباء، كما تطبق قوانين الطبيعية على كل العناصر والجزئيات، وكل الكائنات، وهم في الحقيقة بهذا يلغون ذاتية الأديب، ويسوون بين الأعمال الإبداعية. ظهرت أولى تلك المحاولات على يد "سانت بيف"، الذي دعى إلى العناية بالشخصية الأدبية، ودراستها دراسة عضوية، ونفسية واجتماعية، ومعرفة مدى

تأثرها بالأحداث السياسية، والاجتماعية وغيرها من مؤثرات البيئة، ولم يهتم على الإطلاق بعواطف الأديب، لم ينظر إليها، ولا بحقيقة انفعاله بتلك البيئة التي عاش فيها، وعايشها، وبث سانت بيف أفكاره تلك في أحاديثه المعروفة، باسم أحاديث الاثنين، وأحاديث الاثنين الجديدة. طرح أفكاره في هذين العنوانين، التي دعى فيها إلى دراسة الأدباء دراسة علمية، على أساس علاقاتهم بالجنس، والبيئة، والعصر، والأدباء في رأي سانت بيف فصائل، كفصائل النبات والحيوان، تتشكل هذه الفصائل حسب ما يقع عليها من مؤثرات خارجية، والكشف عن هذه الخصائص عنده، يحتاج إلى بحث عميق في كل فصيلة من حيث علاقاتها، التي لا تنحصر بما يحيط بها من أشياء. هذه الرؤيا رؤية بيف، تعني أن الباحث الذي يسلك هذا المنهج، سيتحول إلى مؤرخ للأدب ليس إلا، هذه حقيقة ومن خلال تأريخه ذاك، يمكنه تصنيف الأدباء، وبيان ما ينفرد به كل منهم، وما يشتركون فيه، هذا المنهج أو هذه الرؤيا تفرض على الباحث في الأدب أن يسلك هذا التاريخ، طريق التأريخ للأدب، وتصنيف الأدباء، وبيان ما ينفرد به كل واحد من هؤلاء، وما يشترك فيه مع غيره، وسانت بيف نفسه يدرك هذا جيدًا، كما يدرك أن لكل شخصية أدبية من الخصائص ما يميزها عن غيرها، نعم لا ينكر هذا لا ينكر أن كل شخصية من الشخصيات الأدبية لها خصائص، تميزها عن غيرها من الشخصيات الأخرى. لكنه لم يشغل نفسه بالكشف عن تلك الخصائص، لماذا؟ لماذا لم يشغل نفسه ببيان تلك الخصائص، التي تميز كل شخصية أدبية عن غيرها من الشخصيات؟ لأن هذه الخصائص من وجهة نظره، لا تحقق الأهداف التي يسعى إليها، وما الأهداف التي يسعى إليها؟ سانت بيف كان يسعى إلى إخضاع الأدباء إلى قوانين ثابتة، كقوانين الطبيعة، قوانين ثابتة كقوانين الطبيعة، ومن ثم فإن معرفة الخصائص، التي تميز كل شخصية أدبية عن غيرها لا تحقق له هدفه.

ومن ثم لم يلتفت إليها وإن صح أن نقول: إن بعض الناس يتشابهون في الشكل، أو في الطباع مثلًا، أو في نمط سلوكي معين، فمن الصعب أن نقول ذلك في مجال العواطف، والأحاسيس، والاستعداد الفطري الذي يشكل الأديب، يعني: إذا تأملنا قول سانت بيف أو رؤيته جيدًا يعني: من المستحيل أن نطبق بعض الجوانب التي نادى بها، فإذا تشابه الأدباء في أي شيء، فإنهم لا يتشابهون في العواطف، والأحاسيس، والاستعداد الفطري الذي يشكل كل واحد منهم. فالأديب الواحد لا يخضع لقانون ثابت في هذا الجانب، الأديب الواحد عواطفه تتفاوت أحاسيسه ومشاعره، تعلو أحيانًا، وتهبط أحيانًا أخرى، فلا يمكن أن تكون ثابتة كثبات القوانين الطبيعية، إذا كان هذا يحدث للأديب الواحد، فما بالنا بطائفة من الأدباء مختلفي الحس والشعور، والتوجه الفني؟ بتلك الرؤية، وهذه الآراء التي طرحها سانت بيف، استطاع أن يضع جذور المنهج التاريخي. ثم جاء من بعده هيبوليت تين، فأسقط الخصائص الفردية التي يتميز بها الأديب، أسقطها إسقاطًا تامًّا، وحولها إلى خصائص جماعية، وقوانين حتمية، تشبه قوانين الطبيعة، وظهر صدى ذلك في كتابه (تاريخ الأدب الإنجليزي)، أصل لهذه الرؤية في هذا الكتاب، وأخضع تين الأدب والأديب معًا خضوعًا تامًّا جبريًّا؛ لعدة معايير نتأملها جيدًا، هذه المعايير هي: الجنس والبيئة والعصر. فيقول: أعثر على حالات البلد والإقليم والجنس والبيئة والتربية، والعادات التي عاش فيها إنسان ما، واسنتتج منها موقفًا طبيعيًّا، يكشف عن موهبة الأديب، وأعماله، هذا كلامه الذي يؤكد به تلك الرؤية، ويقصد بالجنس هنا: مجموعة من الصفات والخصائص الموروثة لدى أمة من الأمم، انحدرت من أصل واحد، ويعني بالبيئة المكان أو الوسط الجغرافي، الذي نشأ فيه الأديب أو جنس بشري ما، وما يشكله من عوامل طبيعية واجتماعية مختلفة، تؤثر في فكره.

ويقصد تين بالعصر: الزمان الذي تعيش فيه أمة ما، وما يسود فيه من سياسة ودين وعادات وتقاليد وغير ذلك، أو الحركة المكتسبة من ثقافة الشعب وتاريخه، أو بمعنى آخر، يقصد بها تأثير الماضي في الحاضر، ومناصرته له، والحقيقة أننا لا ننكر أثر الخصائص الجنسية في الإبداع الأدبي، لا ننكرها على الإطلاق، ونشهد بالتقدم العلمي الهائل في العصر الحديث، والتسابق الواضح بين الدول؛ لمعرفة خصائص الجنس البشري في كل إقليم، هذا شيء جيد لا ننكره، وهو ما يعرف بعلم الجينات، لا ننكره ولا ينكره أحد. ولكن لا بد أن نعترف: أنه إذا كان بالإمكان تطبيق ما نادى به تين في إقليم من الأقاليم، أو عصر من العصور الماضية، فمن الصعب تطبيقه الآن؛ بسبب الامتزاج الشديد بين الشعوب، واختلاط الأجناس إلى حد بعيد، فمن السهل فعلًا أن نطبق هذا القانون في الأزمنة، التي كان مثلًا يعيشها فيها الجاهليون؛ لأنهم كانوا أمة واحدة جنسًا واحدًا عرب، لكن في العصور التالية بعد ذلك، بداية بالعصر العباسي، وانتهاءًا بالعصر الحديث الذي نعيشه الآن. من الصعب في الحقيقة تطبيق هذا القانون؛ بسبب الاختلاط الشديد بين الأجناس، والامتزاج القوي بين الأمم، وتجدر الإشارة إلى أنه مع إيماننا الشديد بوحدة الأدب العربي، واتفاقه في كثير من الخصائص الفنية؛ رغم اختلاف البيئات وتباينها، إلا أننا لا ننكر أثر البيئة في تشكيل الإبداع الأدبي، كل بيئة ينعكس أثرها على الأدب الذي يقال فيها، ومع ذلك هناك خصائص عامة، مشتركة بين الآداب جميعها على اختلاف البيئات والأزمنة أيضًا، خاصة في العصر الحديث. ولدينا في الحقيقة طائفة من النماذج الأدبية، التي تختلف خصائصها تبعًا لاختلاف البيئات، التي قيلت فيها، كالأدب المهجري مثلًا، حيث إن له من

الخصائص ما يميزه عن غيره من الآداب، ولو فتشنا في النماذج، التي يحاكي فيها الأدباء الأدب القديم، كالمعارضة، والتقليد، ويتفقون معه في كثير من الخصائص، لرأينا أثر البيئة التي يعشونها واضحًا جليًّا، وأن محاكاتهم للأدب القديم، لا تلغي تأثرهم بتلك البيئة. يعني: لو أن شاعرًا من العصر الحديث، عارض شاعرًا من العصر العباسي، كالمتنبي أو البحتري مثلًا، وبرع في المعارضة من الناحية الفنية، هل نعدم أثر البيئة، التي عاش الشاعر فيها البيئة الحديثة، هل نعدم أثرها في هذا الفن الأدبي لا، لو تأملنا ودققنا وحللنا تحليلًا فنيًّا جيدًا، لتكشفت لنا ملامح البيئة التي يعيشها ذلك الشاعر في هذه النماذج، التي يحاكي أو يعارض، أو يقلد بها ذلك الشاعر العباسي. ورغم ذلك كله، فإننا ينبغي أن نطبق قانون البيئة في بحوثنا الأدبية، بحذر شديد عند الاحتياج إليه، هذا بالنسبة للرائد الثاني من رواد المنهج التاريخي، وهو هيبولاي تين، وتلك رؤيته التي كشف عنها، أما ثالث رواد هذا المنهج وهو برونت يير، صاحب نظرية تطور الأنواع الأدبية في الأدب والنقد، إذ حاول في كتابه (أصل الأنواع)، ألف كتابًا بعنوان (أصل الأنواع)، حاول في هذا الكتاب أن يمهد لتطبيق نظرية دارون، عن علم الأحياء المسماة بنظرية النشوء والارتقاء، وهي نظرية مشهورة ومعروفة. واقتفى برونت يير أثر سبنسر، الذي طبقها على علم الأخلاق والاجتماع يعني: قلد سبنسر الذي طبق هذه النظرية -نظرية النشوء والارتقاء-، قلد برنت يير سبنسر في تطبيقها على الأخلاق والاجتماع، وطبقها هو أيضًا على الأدب. وفي سبيل هذا -في سبيل تحقيق ذلك- كتب برونت يير كتابًا سماه (تطور الأنواع الأدبية)، وقسم فيه الأدب إلى فصائل، كفصائل الكائنات الحية الخاضعة للتطور

والنمو والتكاثر والكمال، ثم التلاشي وفي النهاية العدم، مؤكدًا خضوع الأدب في ذلك كله لعوامل بيئية واجتماعية مختلفة، فكل جنس أدبي له زمان خاص به، يولد فيه وينمو فيه، ويموت فيه، فله حياة خاصة به، في امتداد زمني معين، مثل الأجناس الحيوانية تمامًا. وفي سبيل تأكيد ذلك اختار برونت يير ثلاثة أنواع أدبية، هي المسرح والنقد الأدبي، والشعر الغنائي، وراح يطبق عليها نظريته السالفة الذكر، والحقيقة أن نظرية تطور الأنواع الأدبية، التي نادى بها برونت يير في حد ذاتها صحيحة، هي صحيحة في حد ذاتها؛ لأن الأدب ينمو، ويصيبه شيء من التطور، مثلما يصيب الكائنات الحية، ولكن الفرق شاسع بين تطور الكائنات، وتطور الآداب، فالكائنات الحية تتلاشى، وينفي بعضها بعضًا بخلاف الأدب، فإنه لا يصيبه شيء من ذلك على الإطلاق، ولا زلانا نستمع إلى الآن بالدرر الخالدة من أدبنا العربي في العصر الجاهلي والإسلامي، والأندلسي وغيرها من عصور، رغم ما طرأ على الأدب من تطور في هذه العصور، وعبر الأزمان المتلاحقة من بعدها، هذه أو هذا موجز عن نشأة هذا المنهج، وهم علماء ثلاثة، أبدى كل واحد منهم رؤيته، وأصلوا لهذا المنهج في الآداب الغربية. والحقيقة أن العرب عرفوا هذا المنهج قبل الأوربيين بأزمنة طويلة، وإن غاب عنهم المصطلح، فالفكرة لم تغب عن خاطرهم، ومؤلفاتهم التي بين أيدينا تشهد بذلك، وسبق أن أشرنا إلى بعضها، هم عرفوا المنهج التاريخي، عرفوا الفكرة عرفوا المفهوم، ولكن المصطلح والقوانين الحديثة، هذه هي التي لم يعرفها العرب. وهذا المنهج بمفهومه وأصوله الحديثة، التي انتشرت في البيئة الغربية، انتقل إلى البيئة العربية من خلال عدة طرق،

قيمة المنهج التاريخي في مجال البحث الأدبي.

أهمها المستشرقون وهم: جماعة من الغرب تخصصوا في دراسة اللغات الشرقية وآدابها، حاولوا أن ينقلوا هذا المنهج من البيئة الغربية إلى البيئة العربية، من خلال تآليفهم، ومن خلال محاضراتهم، التي كانوا يلقونها على طلابهم، ونجحوا في ذلك أيما نجاح. الطريق الثاني: الذي انتقل هذا المنهج من البيئة الغربية إلى البيئة العربية من خلاله: البعثات العلمية الموفدة إلى أوربا، والذين ذهبوا إلى هذه البلدان، لا شك في أنهم قد انتهجوا ذلك المنهج في بحوثهم، وتأثروا به ثم نقلوه إلى أوطانهم بعد عودتهم، وفي أبحاثهم التي كتبوها، مستعينين بها أما ثالث هذه الطرق: فهي الترجمة، وقد قامت بدور عظيم في نقل الأفكار الغربية إلى البيئة العربية، في مجال البحث العلمي وغيره من مجالات العلم والمعرفة. هذا عن المنهج التاريخي وأصوله، التي وضعها هؤلاء العلماء، وقد انتقل بهذه الأصول إلى البيئة العربية، وبدأ العلماء يلتزمون به في تآليفهم، كما سنعرف الآن. قيمة المنهج التاريخي في مجال البحث الأدبي والآن نطرح سؤالًا قد يتبادر إلى الذهن بطبيعة الحال: هل هذا المنهج له قيمة في مجال الدراسات الأدبية؟ المنهج التاريخي هذا ما قيمته؟ ما قيمته في مجال البحث الأدبي، أو الدراسات الأدبية؟ هل يفيدنا أم أن الباحث سيضيع وقتًا في الأحاديث التاريخية، ولا فائدة من ورائها تتصل بالأدب كما قال البعض؟ نجيب على هذا، فنقول: بعد توضيح الأسس التي قام عليها المنهج التاريخي، وتتبع نشأته وتطوره، حتى صار منهجًا مستخدمًا في مجال الدراسات الأدبية، نقف على أهميته وقيمته في مجال هذه الدراسات الأدبية، فنقول: نعم للمنهج التاريخي قيمة عظيمة، في مجال الدراسات الأدبية، نشير إلى أهمها

أولًا: إذا أردنا معرفة تطور الأدب واللغة في عصر من العصور، فأي منهج يفيدنا في هذا؟ لو أردنا أن نتعرف على تطور الأدب في العصر الأموي، أو العصر العباسي، أو العصر الحديث مثلًا، فينبغي أن نسلك أي المناهج، حتى نصل إلى نتيجة صحيحة ودقيقة في هذا المجال؟ لا بد أن نلجأ إلى منهج تاريخي، فإنه هو المنهج الوحيد الذي يعيننا على معرفة ذلك التطور. ثانيًا: إذا أردنا الوقوف على تأثر الأدب بالحياة السياسية، أو الاجتماعية في مجتمع ما من المجتمعات، فلا يسعفنا في الحصول على هذه المعلومات، إلا المنهج التاريخي. ثالثًا: إذا أردنا أن نعرف السر في ازدهار فن النقائض مثلًا في عصر بني أمية، أو أي فن من الفنون الشعرية، في أي عصر من العصور، كالشعر الماجن مثلًا في العصر العباسي، أي المناهج يفيدنا في هذا المجال؟ إنه المنهج التاريخي، فهو الذي يكشف لنا عن الظروف السياسية والاجتماعية، التي هيأت لظهور هذه الفنون. كما يفيدنا المنهج التاريخي أيضًا في مجال الموازنات بين الأدباء، وفي الوقوف على آراء الأدباء، وعقائدهم، واتجاهاتهم المختلفة من خلال دراسة العصر، وما يشتمل عليه من معتقدات، ومذاهب مختلفة، كما يفيدنا أيضًا في دراسة النصوص الأدبية وتحليلها، من خلال الكشف عن الظروف، التي أحاطت بها، وأثرت فيها، كما يفيدنا أيضًا في التعرف على الأفكار الجديدة في مجال الأدب والنقد، وتحديد مبتدعيها، ومعرفة السابق واللاحق. كما يفيدنا أيضًا عند التأصيل للنظريات، والقضايا النقدية المهمة، وفي مجال الكشف عن التأثير والتأثر بين الآداب، قيم كثيرة وفوائد جمة لا يمكن أن ننكرها

في مجال، أو حين نستخدم المنهج التاريخي في مجال البحث الأدبي، ورغم هذه الفوائد، وغيرها للمنهج التاريخي في مجال الدراسات الأدبية، فإنه لا يخلوا من بعض العيوب، التي تلحق به إذا اعتمدنا عليه وحده، إذا اعتمدنا عليه وحده، لا يمكن أن نصل إلى نتائج يقينية. نشير سريعًا إلى بعض هذه العيوب منها: المنهج التاريخي كما رأيت يربط بين الأدب والسياسة برباط قوي، بمعنى أن الازدهار السياسي في أي عصر من العصور عند أصحاب المنهج التاريخي، يترتب عليه نهضة أدبية عامة، ونحن لا ننكر العلاقة القوية المتبادلة بين الأدب، والسياسة، هذا شيء ثابت، ولكن ذلك التلازم والترابط ليس مطردًا في كل العصور، فقد تأتي النتيجة عكسية تمامًا بمعنى: أنه قد يكون الاضطراب السياسي مقرونًا بازدهار أدبي واضح، وقد يكون العكس صحيحًا. وأوضح مثل لذلك: الأدب في القرن الرابع الهجري، أو عصر ملوك الطوائف بالأندلس، فقد ازدهرت فيهما الحياة الأدبية ازدهارًا لا شك فيه، بينما كانت الحياة السياسية تعاني ضعفًا شديدًا هذا عيب. من العيوب أيضًا: الاعتماد على المنهج التاريخي وحده، في مجال البحث الأدبي، يبعدنا عن استظهار الخصائص الفنية للأدب، لا ننظر إلى صورة فنية، ولا لفظة موحية، ولا أي ملمح من ملامح الأسلوب الفني، وهذه الملامح تعد أسمى غايات الأدب، المنهج التاريخي يهملها إهمالًا، كما أنه يهمل النوازع الفردية عند الأدباء، ويغفل العبقريات الشخصية، وهي من أهم مقاييس المفاضلة بينهم.

ومن ثم فأصحاب هذا المنهج يسوون بين الشعراء، من حيث الإبداع الفني؛ لأن مقياس الجودة عندهم: هو مدى انعكاس البيئة، أو المجتمع على الأدب، ونجاح الأديب في تصوير البيئة والمجتمع، لكن لا ينظرون إلى الناحية الفنية على الإطلاق، ومن العيوب أيضًا التي تؤخذ على هذا المنهج بهذا المفهوم، الذي رأيناه عند رواده، أنهم يضعون حدودًا فاصلة بين العصور الأدبية، والبيئات الفنية يعني: عندما يقسمون الأدباء إلى فصائل، كفصائل النبات، ويضعون لها قوانين ثابتة، لا يمكن أن تتداخل أو تتواصل، هذا شيء مرفوض الحقيقة في الأدب؛ لأنه من الثابت أن العصور الأدبية متداخلة، ولا يتأتى لنا الفصل التام بينها. كما أن الاعتماد على المنهج التاريخي وحده يؤدي إلى نتائج ناقصة؛ لأنه قائم على استقراء ناقص، ونظرية جزئية ضيقة، ولا تظن أيها الباحث أننا عندما نذكر هذه العيوب، أو المآخذ لا تظن أننا نرفض المنهج التاريخي، لا نحن نرفضه وإنما نقبله، بل نؤكد على لزومه، ولكن في ظل مجموعة من المناهج الأخرى المتكاملة، لا يكن هو المنهج الوحيد، الذي يستخدمه الباحث في بحثه للوصول من خلاله إلى نتائج يقينية، هذا لا يجوز. وفي نهاية الحديث عن هذا المنهج، المنهج التاريخي، تجدر الإشارة إلى شيء أو أمر مهم، ينبغي لنا أن نعيه جيدًا، شاع بين بعض المؤصلين للمناهج الحديثة، أن المنهج التاريخي من صنع الغرب، ليس المنهج التاريخي فحسب، ولكن كل المناهج الحديثة، بعض المؤصلين للمناهج في العصر الحديث، يدعون أن هذه المناهج من صنع الغرب، وعندما يتحدثون عن أي منهج منها، لا يذكرون إلا أسماء الأعلام الغربيين.

والحقيقة أن في هذا ظلم للعرب ظلم بين؛ لأن علماء العرب قد عرفوا أصول هذا المنهج قبل الأوربيين بأزمنة طويلة، يبدو لنا ذلك من خلال مؤلفاتهم، التي لا تزال منارة يهتدي بها كل من يسلك هذا الدرب، في الوقت الذي أقبل فيه هؤلاء العلماء، يؤلفون موسوعاتهم دون علم بالمصطلحات الحديثة، نعم لم يكن هناك علم يسمى علم المصطلح، أو علم المنهج، ورغم ذلك نجحوا في التأصيل لمناهج كثيرة. كتبوا هذه المؤلفات بفطرتهم، واعتمدوا فيها على أذواقهم، ونضرب مثلًا بهذا بكتاب (طبقات فحول الشعراء)، لابن سلام الجمحي، حيث سار فيه على منهج واضح أقرب ما يكون إلى المنهج التاريخي، كيف ذلك؟ عرفت كما سبق أن أصول المنهج التاريخي، التي وضعها علماء الغرب تتمثل في الزمان، والمكان، والبيئة، والجنس، إذا دققنا النظر في كتاب ابن سلام، نجد أنه سار على نفس هذه المبادئ، التي اهتدى إليها الغربيون في العصر الحديث. ونوضح ذلك ونشير إلى ذلك سريعًا، فمن حيث الزمان قسم ابن سلام الشعراء إلى قسمين: جاهليين، وإسلاميين، أما المخضرمون فإنهم ينتمون إلى أحد القسمين حسب تراث كل منهم، وعنصر الزمن هنا واضح جدًّا، كما ترى استخدم الزمان؟ نعم استخدمه في كتابه أو في تقسيمه للشعراء، وأما من حيث المكان، فالشعراء عنده أصلًا من أهل البادية، ولكن الرجل نظر فوجد أن شعراء القرى، أي: الحواضر يختلفون عن شعراء البادية، فعقد بابًا لشعراء القرى، ورأى أن لكل قرية شعراءها الفحول، كما فاضل بين شعراء كل قرية، وهو بذلك يؤكد أثر البيئة في الأديب من شتى النواحي. وهذا ما نبه إليه تين وبرنتيير وسانت بيف من الغربيين، سبقهم ابن سلام إلى هذا، بهذا يتأكد لنا أن ابن سلام سبق الغربيين بمئات السنين، في الاهتداء للمنهج

التاريخي، رغم أنها كانت محاولة مبتدأة منه، إلا أنه كان أكثر توفيقًا من نقاد الغرب، حيث لم يقتصر على المنهج التاريخي وحده في بحثه، كما سبق أن بينا. لم يكن ابن سلام وحده الذي اهتدى إلى المنهج التاريخي في كتابه، ولكن أدعوك إلى تأمل هذه الفقرة، التي ذكرها ابن قتيبة في بداية كتاب (الشعر والشعراء)، فهو يقول: هذا كتاب ألفته في الشعراء، أخبرت فيه عن الشعراء وأزمانهم، وأقدارهم، وأحوالهم في أشعارهم وقبائلهم، وأسماء آباءهم، ومن كان يعرف باللقب أو بالكنية منهم، وعما يستحسن من أخبار الرجل، ويستجاد من شعره، وما سبق إليه المتقدمون، فأخذه عنهم المتأخرون. هذا كلام الرجل لو تأملناه، لوجدنا أن كل ما دعى إليه ابن قتيبة من صميم المنهج التاريخي، مما يؤكد لنا، أنه أدرك قيمة هذا المنهج، وعرف أصله وسار عليه، وليس معنى ذلك أننا ننكر فضل الغربيين، أو نقلل من شأنهم، وإنما نرجع الفضل للسابق لسبقه وابتكاره، وللاحق بتنظيمه وتقنينه وإيجاد المصطلح. هذا بالنسبة للدراسات القديمة، وعلاقتها بالمنهج التاريخي في البيئة العربية، وكما لاحظت أن العرب قد عرفوا أصول هذا المنهج، وإن غاب عنهم المصطلح، أما عن موقف الدراسات الأدبية في العصر الحديث، من المنهج التاريخي، فإن أقدم كتاب تناول الأدب بالدرس على أساس هذا المنهج، هو كتاب (تاريخ آداب اللغة العربية) لحسن توفيق العدل. الذي تخرج في دار العلوم، ثم سافر إلى ألمانيا؛ لتدريس اللغة العربية في المدرسة الشرقية ببرلين، فهو أول من وضع نظرية الربط بين الأدب والعصور السياسية، وقسم الأدب العربي إلى عصور معروفة: جاهلية، وإسلامية، وأموية، وعباسية، وأندلسية، ودول متتابعة ناظرًا في تقسيمه هذا إلى التاريخ السياسي والديني.

هذا من ناحية ومن ناحية أخرى، نرى هذا المنهج قد استخدم أيضًا عند أحمد السكندري في كتابه (الوسيط)، وهو واضح في هذا الكتاب، كما استخدمه أحمد حسن الزيات في كتابه (تاريخ الأدب العربي)، واستخدمه جورجي زيدان في كتابه (تاريخ آداب اللغة العربية). ومن الكتب، التي كتبت على أساس هذا المنهج، وهي ذائعة مشهورة: سلسلة كتب الدكتور شوقي ضيف -يرحمه الله-، التي سماها (تاريخ الأدب العربي)، وبدأها بالعصر الجاهلي حتى العصر الحديث، مستضيئًا أثناء ذلك بدراسات نفسية، واجتماعية، وتاريخية وغيرها، ولم يقتصر استخدام المنهج التاريخي في الدراسة الشاملة، لتاريخ الأدب العربي عبر عصوره المتعاقبة فحسب، وإنما استخدمه الباحثون في دراسة بعض الشخصيات الأدبية، بل ودارسة بعض الظواهر الأدبية المختلفة. فأصبحنا نرى كثيرًا من الدراسات، التي تتناول هذه الشخصيات وتلك الظواهر، سالكة ذلك المنهج، واستطاع الباحثون من خلاله أن يرسموا صورًا واضحة لكثير من الشخصيات الأدبية، ويحولوا كثيرًا من الظواهر الأدبية إلى قصص حياة، تكشف عن حركتها التاريخية في تطورها المستمر، ونضرب مثالين بكتابين، يؤكدان ذلك الأول، أو المثال الأول: كتاب (مع المتنبي) للدكتور طه حسين، الذي تتبع فيه حياة المتنبي، منذ أن تفتحت عيناه على الحياة في الكوفة، حتى أغمضها الموت على سيوف بني ضبة، في طريق عودته من فارس إلى العراق. تتبع المؤلف خط هذه الحياة، من خلال تقسيم دراساته إلى خمسة فصول أو كتب، كما سماها، تتبع هذه الحياة من خلال أحداثها من ناحية، وما صاحب هذه الأحداث من شعر يصورها، ويعبر عنها من ناحية أخرى، وهي تمضي على

هذا النحو التاريخي الدقيق، صبا المتنبي شباب المتنبي، ثم في ظل الأمراء، ثم في ظل سيف الدولة، ثم في ظل كافور، ثم أخيرًا غنيمة الإياب. هذا هو المثال الأول الذي عرضناه، أما المثال الثاني: فهو كتاب (حياة الشعر في الكوفة إلى نهاية القرن الثاني الهجري)، وقد كتبه الأستاذ الدكتور يوسف حليف، الذي اتخذ من المنهج التاريخي أساسًا لدراسته، وأتاح له هذا المنهج متابعة جوانب الحياة المختلفة في الكوفة، وتطور حركتها التاريخية على مدى قرنين من الزمان، نعم، وما كان له أن يسلك غير هذا المنهج، ما كان له أن يسلك غير هذا المنهج؛ لأنه أراد أن يتتبع، -تأمل عنوان الكتاب- (حياة الشعر في الكوفة)، حياة ونحن أشرنا إلى ذلك. قلنا: إنه في مثل هذه الموضوعات، التي يود الكاتب فيها أن يتعرف، أو يتتبع الأدب في أي عصر من العصور؛ ليكشف عنه أو عن حياته، ويوضح خصائصه، وتأثره أو تأثيره في البيئة، لا يجد أمامه إلا هذا المنهج، المنهج التاريخي، فهذا المنهج فرض نفسه على الأستاذ الدكتور يوسف خليف، في كتابه هذا (حياة الشعر في الكوفة إلى نهاية القرن الثاني الهجري). تتبع جوانب هذه الحياة، وتطور حركتها التاريخية على مدى قرنين من الزمان، ومواكبة الشعر لها، وإلى أي مدى كان صدًى لأحداثها السياسية، وانعكاسًا لظواهرها الاجتماعية، وصورة من نشاطها العقلي. وهناك كثير من الدراسات الأدبية، غير التي ذكرنا سلكت المنهج التاريخي منها مثلًا: كتاب (شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي) للأستاذ عباس محمود العقاد، ثم كتاب (فصول في الأدب والنقد) للدكتور طه حسين، وكتاب (تاريخ آداب العرب) للرافعي، وغير ذلك من كتب كثيرة، موجودة بين أيدينا لمن أراد أن يطلع عليها. بهذا نكون قد انتهينا من الحديث عن أول منهج، من المناهج الحديثة للبحث الأدبي في العصر الحديث، وهو المنهج التاريخي، عرفنا مفهومه، ونشأته، ومقياس الجودة عند أصحابه، ثم تبين لنا أن هناك أسسًا يقوم عليها ذلك المنهج، ثم ذكرنا قيمته في مجال الدراسات الأدبية، وأشرنا إلى بعض المآخذ، التي يمكن أن توجه له إذا اعتمدنا عليه وحده، كمنهج مستقل في مجال البحث الأدبي. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 8 المنهج النفسي.

الدرس: 8 المنهج النفسي.

صلة الأدب بالنفس.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثامن (المنهج النفسي) صلة الأدب بالنفس الحمد لله الذي خالق الإنسان، وعلمه البيان، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه، وبعد: فقد تعرفنا على أول منهج منهاج البحث الأدبي في العصر الحديث هو المنهج التاريخي، اليوم نتعرف -بمشيئة الله تعالى- على المنهج النفسي: لا شك في أن صلة الأدب بالنفس وثيقة جدًا، فالأدب في حقيقته تعبير عن النفس الإنسانية، وتصوير لما يدور فيها من مشاعر وأحاسيس، بل هو أروع ما تنتجه النفس البشرية، فالعنصر النفسي أصيل بارز في العمل الأدبي، لا نراه في الشكل الخارجي الذي تقع عليه كل عين، وإنما نراه في كل مرحلة من مراحله. فالعمل الأدبي: عبارة عن استجابة معينة لمؤثرات نفسية خاصة، وهو بهذا عمل صادر عن مجموعة من القوى النفسية، ونشاط ممثل لتلك القوى، هذا من حيث المصدر أي: المبدع. فهو انعكاس نفسي، وفكري للأديب، يصور حياته، وعلاقته بالعالم من حوله، نشاط نفسي، وفكري، ونتاج شعوري، وحسي. أما من حيث الوظيفة: فهو مؤثر يستدعي استجابة معينة في نفوس المتلقين، هذه الاستجابة عبارة عن مزيج من العمل الفني، والحالة النفسية للمتلقي. كما أن الأدب عبارة عن مجموعة من القيم الشعورية، والتعبيرية. هذه القيم الشعورية والتعبيرية معًا تسمى: قيم فنية. تتمثل القيم التعبيرية في الألفاظ، والأساليب، والتصوير يعني: الشكل الذي نراه. أما القيم الشعورية -وهي الجزء الثاني، أو الشق الثاني من شقي الأدب-: فمسألة نفسية بالمعنى الشامل، وملاحظتها، وتصويرها مسألة نفسية كذلك. إذا أردنا أن نتكشفها، ونتعرف على حقيقتها، هذا كله يدور في فلك النفس، وعمل النفس، فصلة الأدب بالنفس لا يمكن إنكارها بحال من الأحوال؛ لأنها ثابتة من حيث المصدر والغاية، فهو نتاج نفسي قصد به التأثير في نفس المتلقي، يعني: صدر من نفس إلى نفس أخرى.

وجدير بالذكر، أنه لا يوجد أدب دون تجربة شعورية، هذه التجربة الشعورية يعايشها الأديب، ويتفاعل معها بمشاعره وأحاسيسه حتى لو كانت تجربة متخلية، فإنه يعايشها أي لون من ألوان المعايشة حتى ينفعل ويتأثر بها. لو تأملنا التجربة الشعورية هذه؛ لتبين لنا أنها ناطقة بألفاظها عن أصالة العنصر النفسي في مرحلة العنصر النفسي في مرحلة التأثير الدافعي للإبداع الأدبي. فالعمل الأدبي ذو شقين: شقي نفسي، يتمثل في التجربة الشعورية، وهي العنصر الذي يدفع إلى التعبير، هي المحرك، هي الدينمو، لكنها بذاتها ليست هي العمل الأدبي؛ لأنها مضمرة في النفس، لم تظهر في صورة لفظية معينة في تلك المرحلة، وإنما هي مجرد إحساس وانفعال، لا يتحقق العمل الأدبي إلا به، هذا هو الشق الأول من شقي الأدب. أما الشق الثاني: فلفظي، يتحقق عندما يتحول هذا الانفعال وذلك الإحساس إلى قالب لفظي، أو صورة لفظية ذات دلالات مختلفة. لا يوجد أدب -أيا كان ذلك الأدب- دون هذه التجربة الشعورية، تنشأ هذه التجربة بملاحظة العالم الخارجي؛ لأنها تمثل مادة التعبير الأدبي الذي هو ترجمة لفظية لها. ومن ثم، قيل في تعريف الأدب: إنه تعبير عن تجربة شعورية في صورة موحية. وإذا كانت التجربة الشعورية هي مادة العمل الأدبي -وهذه حقيقة كما وضح لنا ولك- فإنها لا تصبح محل بحث إلا حين تأخذ صورتها اللفظية؛ لأنها قبل ذلك تكون كامنة في نفس الأديب.

ولا شك في أن تلك الصورة اللفظية تحمل ما بداخل الأديب من مشاعر وأحاسيس، وتنقلها إلى المتلقي؛ فتنعكس على نفسه بشكل ما. وكل تغيير في الصورة اللفظية، ونظام ترتيبها يؤثر بالطبع في صورتها التي ينقلها التعبير إلى المتلقي، ويؤثر تبعًا لذلك في طبيعة الأثر النفسي والشعوري، وفي نوعه، ودرجته؛ لأن وظيفة التعبير في الأدب لا تنتهي عند الدلالة المعنوية للألفاظ والعبارات، بل هناك مؤثرات أخرى يكمل بها الأداء الفني، وهي جزء أصيل من التعبير الأدبي، كالإيقاع مثلًا، والتصوير، وطريقة عرض الأسلوب. وكل هذه المؤثرات تحمل كما من المشاعر والأحاسيس؛ فهي ليست قيم تعبيرية مجردة من المشاعر، ولكن الخيال يتأثر بها، والشعور يتملاها. فلو أخذنا اللفظ مثلًا كمؤثر من ضمن هذه المؤثرات، نجد أنه حين النطق به أو سماعه يثير في ذاكرتنا صورًا من الأحاسيس التي تختلج بها النفس، ولا نستطيع أن نجرد معناه من تلك الملابسات والمشاعر النفسية التي صاحبته، ولا يمكننا إطلاقا بأي حال من الأحوال أن نجرد اللفظ من تلك الملابسات النفسية والشعورية، فكل لفظ له مدلول ذهني مجرد، ومدلول شعوري يشمل هذا المدلول الذهني، ويضيف إليه تلك الذكريات الغامضة والواضحة. والمدلول الذهني التجريدي ثابت لا يتغير على مدى الزمان. أما المدلول الشعوري: فيتغير، ويكتسب ملابسات شعورية جديدة باختلاف المواقف والأزمنة. فإذا ما تركنا الألفاظ إلى العبارات، وأخذنا الصورة مثلًا؛ لبيان علاقتها بالنفس، وتأثيرها في الحس والشعور، نجد أنها تفوق اللفظ في الإيحاء النفسي؛ فهي تحمل نفس المعنيين الذين يحملهما اللفظ: المعنى الذهني المجرد، والشعوري النفسي، ولكن بصورة أكثر شمولية وعمقا؛ فاللفظ لا يعطي دلالة شعورية كاملة إلا في نسق معين، هو ما يسمى: بالصورة الإيحائية التي تفيض بالمشاعر، والأحاسيس النفسية التي تعجز الألفاظ وحدها عن كشفها، ونقلها إلى المتلقي.

حقيقة المنهج النفسي، وعلاقة النفس بالأدب.

حقيقة المنهج النفسي، وعلاقة النفس بالأدب يتضح من هذا العرض السابق: أن علاقة الأدب بالنفس علاقة قوية ثابتة، وأنهما لا ينفصلان، وقد أدرك العلماء تلك العلاقة؛ فأقبلوا على الدراسات النفسية؛ محاولين الإفادة منها في مجال البحث الأدبي، حدث هذا منذ زمن بعيد، أدرك العلماء هذه العلاقة، وحاولوا أن يوظفوا الدراسات النفسية في مجال البحث الأدبي. هذا الإدراك لهذه الصلة قديم، يرجع إلى زمن أرسطو، ونظرية التطهير التي نادى بها. والواقع، أن جميع النظريات التي حاول علماء النفس ابتكارها منذ أواخر القرن التاسع عشر؛ بقصد بيان الأثر النفسي الذي يحدثه العمل الأدبي في نفس المتلقي، هذه النظريات لم تذهب بعيدا عن نظرية التطهير التي نادى بها أرسطو قبل الميلاد بحوالي ثلاثة قرون ونصف، بل كانت هذه النظريات بمثابة الشرح والتحليل لها. ومنذ فجر المعرفة أدرك العلماء أن الدراسات النفسية تتفق مع الأدب في الغاية، وإن اختلفت وسيلة كل منهما في تحقيق هذه الغاية. فالغاية منهما: الحصول على المعرفة الإنسانية. ووسيلة الأدب: التركيز والإيجاز. أما وسيلة علم النفس: التحليل والشرح والتوضيح. ثم تتطورت وتعمقت رؤية العلماء للدراسات النفسية، وعلاقتها بالأدب بعد ذلك؛ حتى أثمرت بعد ذلك بما يسمى: علم نفس الأدب، أي: العلم الذي يختص بدراسة السلوك الإنساني من خلال الأدب.

نتج عن كل ذلك -عن إدراك الصلة بين النفس والأدب، وعن توجه العلماء في مجال البحث الأدبي إلى الدراسات النفسية للإفادة منها - ظهور منهج جديد في مجال البحث الأدبي، يتولى القيام بهذه المهمة، ويكشف عن علاقة النفس بالأدب، هذا المنهج يسمى: بالمنهج النفسي. فالمنهج النفسي يقوم بتحليل الشخصية الأدبية، وبيان خصائصها النفسية، اعتمادًا على العمل الأدبي، واعتباره صورة تعكس نفسية الأديب، وحياته من خلال تطبيق نتائج علم النفس الحديث على الأدب والأدباء. أما إذا تطرق أصحاب هذا المنهج النفسي إلى ظاهرة فنية واضحة في العمل الأدبي؛ فإنهم يفسرونها استنادًا على عوامل نفسية؛ لتنمية الذوق الأدبي، والجمالي في الآثار الأدبية. ولا ينظرون إليها نظرة فنية مجردة، كما ينظر أصحاب المنهج الفني. والمنهج النفسي يتناول الجوانب التالية في الأدب، أو بتعبير آخر: يجيب هذا المنهج عن عدة أسئلة يمكن أن يطرحها الذهن حين البحث في الأدب. هذه الجوانب، أو تلك الأسئلة هي: أولا: كيف تتم عملية الإبداع الأدبي؟ وما هي طبيعة هذه العملية من الوجه النفسية؟ وما العناصر الشعورية وغير الشعورية الداخلة فيها؟ وكيف تتركب وتتناسق؟ كم من هذه العناصر ذاتي، وكم منها خارج عن الذات؟ وما العلاقة النفسية بين التجربة الشعورية والصورة اللفظية؟ وما الحوافز الداخلية والخارجية لعملية الإبداع الأدبي؟ كل هذه الأسئلة وغيرها يجيب عنها المنهج النفسي المعتدل حين البحث في الأدب وهذا شيء طيب.

ثانيا: يوضح المنهج النفسي دلالة العمل الأدبي على نفسية صاحبه، وكيفية ملاحظة هذه الدلالة، واستنطاقها، ومعرفة التطورات النفسية لصاحب العمل الأدبي. الجانب الثالث: يكشف المنهج النفسي عن تأثير العمل الأدبي في نفس المتلقي، كما يوضح العلاقة بين الصورة اللفظية، والتجارب الشعورية لدى الآخرين. فهو بهذا منهج يتناول العمل الأدبي منذ بدايته حتى نهايته، ويوضح كيف تتم عملية الإبداع، ويكشف عن طبيعة هذه العملية من الوجهة النفسية، والعناصر الشعورية الداخلة فيها، وكيفية تركيبها وتماسكها، كما يوضح ويفسر دلالة العمل الأدبي على نفسية صاحبه، والتطورات النفسية التي تعتريه، كما يكشف عن أثر العمل الأدبي في نفوس المتلقين، وإحياء تجاربهم الشعورية. وهو بهذا المعنى جديد على ساحة الأدب العربي؛ فلم يعرف أدبنا العربي هذه الدراسات النفسية بهذا المعنى الحديث قبل ذلك، أي: قبل العصر الحديث؛ لأن استخدام علم النفس، وما وصلت إليه الدراسات من نظريات مرسومة، وقواعد محددة، وطرائق خاصة لفهم الأدب، كل هذه أشياء مستحدثة بلا جدال، ليس لها أصول في ثقافتنا العربية الأدبية. أما عن الملاحظات النفسية بصفة عامة، وتوظيفها في درس الأدب وبحثه، فهي أقدم من ذلك بكثير؛ إذ أشار أفلاطون إليها أثناء حديثه عن الإلياذة، حيث ذكر أن الشاعر ينظم شعره عن إلهام، وحال تشبه الجنون. ويعد أول من وصف الشاعر بأنه مريض نفسيًّا أو عصبيًّا. هذا بالنسبة لأرسطو، هذه لفتة نفسية قديمة. أما بالنسبة للمؤلفين العرب في القديم: فإن تلك الملاحظات النفسية كانت أمام أعينهم، وفي خاطرهم، وهم يبحثون في الأدب، ويؤلفون هذه المؤلفات القيمة،

والتي إذا تأملناها جيدًا -وهي ثرية بحق- نجد فيها إشارات ذكية عن هذه الملاحظات النفسية، ودورها في مجال الإبداع وغيره. ومعنى ذلك: أن مفهوم المنهج النفسي قديم قدم الأدب، وإن المصطلح لم يظهر إلا متأخرا. ولنضرب بعض الأمثلة من تراثنا للتدليل على ذلك؛ حتى لا يكون كلامنا مجرد ادعاء. ولنأخذ ابن قتيبة مثلًا: ابن قتيبة يبحث قضية البناء الفني للقصيدة الجاهلية في كتابه (الشعر والشعراء) فيقول في هذه القضية: "وسمعت بعض أهل الأدب يذكر أن مقصد القصيد إنما ابتدأ فيها بذكر الديار، والدمن، والآثار، فبكى، وشكى، وخاطب الربع، واستوقف الرفيق، ثم وصل ذلك بالنسيب، فشكى شدة الوجد، وألم الفراق، وفرط الصبابة، والشوق؛ ليميل نحوه القلوب، ويصرف إليه الوجوه، وليستعدي به إصغاء الأسماع إليه؛ لأن التشبيب قريب من النفوس، لائط بالقلوب؛ لما قد جعل الله في تركيب العباد من محبة الغزل، وإلف النساء". فابن قتيبة ينظر في هذه الفقرة إلى منهج القصيدة من زواية نفسية بحتة، ويرى أن الشاعر العربي لجأ إلى هذا المنهج بقصد التأثير في نفس المتلقي. ومن ثم، يختار ما هو قريب إلى النفس، كالحديث عن المرأة عموما، ثم تأمل قوله: "لأن التشبيب قريب من النفوس، لائط بالقلوب" تجده يثبر أغور النفس البشرية بعيدًا عن تعقيدات علم النفس في نظرياته الحديثة. نطالع مثل هذه التحليلات النفسية والإشارات الكثيرة لابن قتيبة بين دفتي الكتاب عند حديثه مثلا: عن الطبع والتكلف، وعند حديثه عن مثيرات العاطفة، والأوقات التي يسهل فيها نظم الشعر، وغير ذلك من قضايا. ليس ابن قتيبة وحده هو الذي تنبيه إلى هذا الجانب النفسي، ودوره في عملية الإبداع، وما يترتب عليها، وتعرض له حين البحث في الأدب. وإنما هناك

علماء أجلاء كانت لهم مثل تلك الإشارة، من هؤلاء العلماء: الأديب الجليل القاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني في كتابه (الوساطة بين المتنبي وخصومه)، سوف أعرض عليكم فقرة قصيرة أو فقرتين نتأملهما، وسيتضح لنا من خلال هاتين الفقرتين: أن الرجل كانت له رؤية نفسية وهو يتناول هذه القضية، يقول عند حديثه عن اختلاف الشعراء باختلاف الطبائع: "وقد كان القوم يختلفون في ذلك، وتتباين فيه أحوالهم، فيرق شعر أحدهم، ويصلب شعر الآخر، ويسهل لفظ أحدهم، ويتوعر منطق غيره، وإنما ذلك بحسب اختلاف الطبائع، وتركيب الخلق، فإن سلامة اللفظ تتبع سلامة الطبع، ودماثة الكلام بقدر دماثة الخلقة". الرجل يشير في هذه الفقرة إلى أثر الطبائع والغرائز البشرية في الأدب، وذلك عماد المنهج النفسي الحديث حين تتبعه للعمل الأدبي، كما نلمح ذلك أيضا عند حديثه عن مواقع الكلام، وأن الصورة قد تكون جيدة، ولا أثر لها في النفس، وقد تكون أقل جودة، لكنها تمتزج بالنفس امتزاجا، يقول: "وأنت قد ترى الصورة تستكمل شرائط الحسن، وتستوفي أوصاف الكمال، ثم تجد أخرى دونها في انتظام المحاسن، والتئام الخلقة، وهي أحظى بالحلاوة، وأدنى إلى القبول، وأعلق بالنفس، وأسرع ممازجة للقلب، ثم لا تعلم وإن قاسيت، واعتبرت، ونظرت، وفكرت لهذه المزية سببا" يشير الجرجاني في هذه الفقرة إلى آثر العمل الأدبي في نفس المتلقي، وهذا يمثل أحد جوانب المنهج النفسي الحديث. ونلحظ مثل هذه الإشارات النفسية عند أبي هلال العسكري، وعبد القاهر الجرجاني، وأبي الفرج الأصفهاني، وغيرهم من العلماء الأجلاء الذين أتحفوا المكتبة العربية بتراثهم.

نشأة المنهج النفسي، وتطوره في العصر الحديث.

من خلال هذا العرض نستطيع القول: إن المنهج النفسي لم يغب عن خاطر العرب القدامى حين تصنيف علومهم، وأنهم بحثوا على أساسه كثيرًا من قضاياهم، وتوصلوا إلى نتائج مثمرة، وإذا كانوا لم يعرفوا المصطلح بلفظه، فقد عرفوه بصفاته. ومن ثم، فإن الفضل يرجع إليهم؛ لسبقهم، وإلى المحدثين؛ لتقنينهم وتنظيمهم، واختيارهم للمصطلح، وضبطهم لأصول المنهج، هذا بالنسبة لمعرفة القدماء بهذا المنهج، وبيان حقيقة المنهج النفسي، وعلاقة النفس بالأدب. نشأة المنهج النفسي، وتطوره في العصر الحديث أما عن نشأة هذا المنهج، وتتطوره في العصر الحديث: فالحقيقة، أن المصطلح لم يظهر إلا في عصر النهضة الأوربية بعدما تخطى الأوربيون عقبة الجهل والتخلف في العصور الوسطى، ثم اطلاعهم على الآداب اليونانية والرومانية، وتأثرهم بالتراث العربي، وتطوريهم للنظرية النفسية، بعدما تم لهم ذلك شاع بينهم هذا المصطلح الذي ابتكروه، وقننوا له، ونظروا. ويعد "كلوريدج" أول من أشار إلى هذا المنهج عندما تحدث في كتابه (سيرة أدبية)، وقد نشر كلوريدح هذا الكتاب عام 1817م. تحدث هذا الرجل عن الشعر والعلم، وفرق بينهما، وبين دور العاطفة في الشعر، وتنبه لنظرية اللاشعور التي يجتاز فيها الشاعر حدود العقل الواعي. كل ذلك أشار إليه كلوريدج في كتابه (سيرة أدبية). ولم تتضح معالم ذلك المنهج، ويصطبغ بصبغة علمية إلا على يد فرويد عام 1899م، عندما نشر كتابه (تفسير الأحلام)، وتحدث فيه عن الفن والفنان، ورأى أن الإبداع في حقيقته

تعبير عن رغبة مكبوتة، أو قمعت قمعا شديدًا، ووقف أمام عقدة أديب، وعقدة ألكترا كما صورتهما الأساطير القديمة. ومعنى الرغبة المكبوتة عنده: أن الأديب إذا شعر برغبة جامحة في الشيء ولم ينله، أو يظفر به كبت ذلك الشعور في نفسه، وحبسه بين نبضات الحس، وخوالج النفس، حتى يستجيب له، ويبرزه في قطعة أدبية، فيكون بذلك قد نفس عن نفسه هذا الكبت، وخفف من حدة تلك الرغبة الجموح. وفسر فرويد المواقف الأدبية تبعًا لذلك، واختار مجموعة من الفنانين، وطبق عليهم نظريته تلك، من خلال دراساتهم دراسة نفسية تحليلية، تتبع فيها حياتهم تتبعا دقيقًا، وسجل كل صغيرة وكبيرة. ولا شك في أن نظرية فرويد قد لاقت قبولا لدى بعض النقاد والدارسين، وصار له أتباع يعملون على نشر آرائه، منهم: "أتورانج" الذي اعتنى بالدراسة النفسية للفنان المبدع، وطبق عقدة أدويب على بعض أعمال شكسبير، وكان يرى "أتورانج" أن الفنان يهرب من الواقع في آثاره من خلال عالمه الخيالي، معبرًا عن انفعالاته في صور تمتع الناس دون أن تتضح فيها عقده ورغباته المكبوتة. ومن هؤلاء التلامذة: "تشارل أدون، ورنيه، وإدلر". "إدلر" الذي توصل إلى نظرية مركب النقص لدى الأديب، أو الفنان ورأى إدلر أن الأدب تعبير عن مركب النقص هذا، ويقصد بمركب النقص: شعور الإنسان بعيب عضوي، أو غير عضوي، فيحاول إخفاءه، ثم يظل يعاوده ذلك مرارًا حتى يتخلص منه بوسيلة من الوسائل الفنية التي تتاح له. فامرئ القيس مثلا: حينما يلجأ إلى الغزل الفاحش، إنما يعبر عن شعور بمركب النقص لديه. وأبو نواس في غزله وفحشه في بداية حياته، يحاول إخفاء مرضه بالنرجسية. وعمر بن أبي ربيعة في

طلبه للمرأة، يعبر عن عاطفة معكوسة ناتجة عن تعلقه بأمه، ونشأته الناعمة المدللة. وربط "إدلر" تفوق المبدع بمقدار إحساسه بهذا الشعور، أي: شعور الإحساس بمركب النقص عنده، فكلما كان الإحساس بمركب النقص قويًّا كلما كان الأديب ممتعا، ولعلك تلاحظ من خلال حديثنا السابق: أن الأدب عن فرويد وإدلر ما هو إلا تعبير عن ذات الأديب، وإن جعله الأول تعبيرا عن رغبات مكبوتة، والثاني: تعبيرا عن مركب النقص لديه، لكنه في النهاية تعبير عن ذات الأديب. ومن تلاميذ فرويد المنشقين عليه "يونج"، حيث ذهب إلى أن الرغبة المكبوتة عند الأديب، والتي قال بها فرويد لا تفسر لنا الإبداع، وإنما تفسر شخصية المبدع. ونقل "يونج" البحث من دائرة اللاشعور الفردي الذي نادى به فرويد إلى اللاشعور الجماعي، حين رأى أن الأدب ليس تعبيرا عن ذات الأديب، ولكنه تعبير عن أساطير الأولين المختزنة في ماضي الإنسان منذ زمن بعيد. من خلال هذا العرض نستطيع أن نقول: إن أعلام هذا المنهج هم: "فرويد، وإدلر، وينوج"، وإن تباينت وجهات نظرهم في تفسير معنى الأدب، لكنها في النهاية لا تخرج عن دائرة النفس الإنسانية، وما يعتريها من أحوال، ويطرأ عليها من تغير. بهذا وضع هؤلاء العلماء الثلاثة أصول ذلك المنهج؛ فذاع وانتشر في الغرب، ثم انتقل إلى البيئة العربية من خلال قنوات الاتصال المتعددة بين العرب والغرب، وأغرى بعض الباحثين في الأدب العربي، وجذب انتباههم، وخاصة بعد تقدم

الدراسات النفسية، وتعدد مدارسها للسعي من أجل معرفة النفس الإنسانية، وما تنطوي عليه من الغرائز، ولما كان الأدب تعبيرًا عن هذه النفس الإنسانية، وتصويرا لما يدور فيها من مشاعر وانفعالات، كان من الطبيعي أن يستعين علماء الأدب، ومؤرخوه بالدراسات النفسية في مجال البحث الأدبي. وحاولوا استخدام نظريات علماء النفس، وتطبيق تجاربهم على الأدب إبداعًا وتأريخًا، بل قام علماء النفس أنفسهم بتوجيه انتباههم نحو الأدب، يجرون عليه تجاربهم من أجل الوصول إلى تفسير لهذه الأعمال الأدبية من وجهة نظر نفسية؛ وللكشف عن أسرار العبقرية في الإبداع الفني. وبذلك أصبح للمنهج النفسي حضور قوي في مجال البحث الأدبي في عالمنا العربي المعاصر، وبدأ الباحثون يؤلفون الكتب التي يؤصلون فيها لهذا المنهج، ويضعون قواعده لدراسة الأدب، ومن أهم المؤلفات في هذا المجال: كتاب (الأسس النفسية للإبداع الفني في الشعر خاصة) للدكتور مصطفى سويف، ثم كتاب (من الوجهة النفسية في دارسة الأدب ونقده) للدكتور محمد خلف الله أحمد، ثم كتاب (درسات في علم النفس الأدبي) دكتور حامد عبد القادر، ثم كتاب (التفسير النفسي للأدب) للدكتور عز الدين إسماعيل، وغير ذلك من كتب كثيرة، وأبحاث متعددة تؤكد صيرورة هذا المنهج ضمن مناهج البحث الأدبي، كما اعتمد عليه كثير من الباحثين والدارسين، في مقدمتهم عباس محمود العقاد في كتابه (ابن الرومي حياته من شعره)، وكتاب (أبو نواس الحسن بن هانئ)، وكذا الدكتور طه حسين في بعض كتبه ككتاب (مع أبي العلاء في سجنه)، وكتاب (صوت أبي العلاء)، وغير ذلك كثير من الكتب.

مقياس الجودة الفنية عند أصحاب المنهج النفسي، وقيمته.

مقياس الجودة الفنية عند أصحاب المنهج النفسي، وقيمته ما مقياس الجودة الفنية عند أصحاب هذا المنهج؟ بمعنى: ما هو الأدب الجيد من وجهة نظر أصحاب المنهج النفسي؟ الحقيقة، أن جودة العمل الأدبي عند أصحاب المنهج النفسي لا ترتبط بجماليات النص الإبداعي ذاته، وما فيه من لفتات ذوقية وشعورية، ونبضات حسية، والتماعات خيالية. بماذا ترتبط إذا كانت لا ترتبط بهذا؟ هي في الحقيقة ترتبط بما يحمله النص من قيم نفسية، ومدى تأثيره فلي نفس المتلقي. ومن ثم، فهم يختلفون في تحديد الغاية من الأدب، أهي الحس على الأخلاق، والدعوة إلى الفضيلة والاتجاه الحسن والسلوك الحميد، أم أنها تتمثل فيما يؤديه الأدب في المجتمع من خدمات اجتماعية؟ يجيبون عن ذلك: بأنهم لا الأخلاق، ولا الخدمات الاجتماعية هي كل دواعيه وبواعثه، ولكنها على أية حال تمثل عنصرًا واحدًا من مجموعة الدوافع، وليست هي كل الدوافع؛ إذ إن الأدب في الحقيقة تنظيم لعدة دوافع تنظيما نشعر إزائه بنوع من التسامي النفسي، وهذا التسامي هو المقياس الحقيقي لجودة الأدب، وهو أوسع دائرة من أن نعيش في قيم خلقية أو اجتماعية خاصة. هذه هي المقاييس التي يعتمدون عليها في رؤيتهم، أو في نظرتهم للعمل الأدبي الجيد، وهي خارجة كما ترى عن القيم الفنية الموجودة في النص. هذا هو المنهج النفسي، وهذه هي أسسه. بعد هذا الذي ذكرناه، ما قيمته في مجال الدراسات الأدبية؟ هل يفيدنا المنهج النفسي في مجال البحث الأدبي؟

مما تقدم يتضح لك: أن المنهج النفسي المعتدل -وأقول: المعتدل- ينظر إلى المنبع الأصلي للعمل الأدبي، أي: النفس -نفس الأديب-، هذا هو المنبع، إذ ينبغي أن تدرس هذه النفس، ويحيط الباحث بشتى جوانبها، وما يصدر عنها. ولا شك في أن التعرف على نفسية الأديب يكشف لنا عن كثير من الجوانب النفسية في العمل الأدبي، فلا يمكن بأي حال من الأحوال أن نفهم شعر امرئ القيس مثلًا إلا إذا وقفنا على طبيعته النفسية، وما طرأ عليها من تحول، كما أنه لا يمكن فهم شعر الحطيئة إلا إذا فتشنا عن غرائزه، وصفاته النفسية التي جعلته منبوذًا يحترف فن الهجاء، وتشترى منه أعراض الناس بالمال. كل هذا لا يكشف عنه إلا المنهج النفسي، فنحن في أشد الحاجة إلى هذا المنهج؛ للكشف عن مثل هذه القضايا، أو الجوانب، ونحن نبحث في الأدب. هذا وللمنهج النفسي أيضا في الأغراض الشعرية دور كبير، فالأغراض تتفاوت من شاعر لآخر، كما تتفاوت لدى الشاعر الواحد، فهناك شعراء برعوا في فن الغزل مثلًا، لكنهم لم يبرعوا في فن الوصف، وآخرون برعوا في فن الهجاء، لكنهم لم يجيدوا الشعر الحماسي. هذا موجود على مدار التاريخ الأدبي في جميع العصور، عندنا شعراء مشهورون بالغزل، وشعراء مشهورون بوصف الطبيعة، وشعراء مشهورون بالمدح، هذا على مستوى الشعراء عامة، عندي شاعر واحد يستطيع أن يتغزل، ولا يستطيع أن يصف، أو يستطيع أن يصف، ولا يستطيع أن يتغزل. نماذج كثيرة: هناك شعراء يتهتمون بالطبيعية يهيمون بها هياما. البحث في هذه القضايا؛ لمعرفة السر في هذا التنوع أو هذا التوجه، يحتاج إلى منهج دقيق، ما الذي يفيدنا؟ ما المنهج الذي يساعدنا على الكشف عن سر هذا التوجه من

الشعراء؟ لا يمكن للمنهج التاريخي أن يتطرق إلى مثل هذه الأشياء، بل لابد من اللجوء إلى المنهج النفسي. المنهج النفسي هو الذي يكشف عن طبيعة النفس البشرية للشاعر، يعرف حقيقتها، ويدرك المؤثرات التي شكلتها، هو الذي يتفهم غرائز هذه النفس وصفاتها النفسية، ليس غيره. فنحن في أشد الحاجة إلى هذا المنهج عندما نبحث في تلك القضايا. أيضا مما يؤكد ويوضح قيمة المنهج النفسي في مجال الدراسات الأدبية: أنك إذا نظرت إلى العمل الأدبي وجدت أن له جانبان: جانب شعوري، وجانب تعبيري. جانب شعوري يعني: الجانب النفسي. شعوري أي: نفسي. وجانب تعبيري -كما تعلم في الشكل-: ألفاظ، وأساليب، وصور. يتشكل الأسلوب الأدبي من خلال المواقف الشعورية التي يعيشها الأديب ويتأثر بها، يعني: الشاعر لا ينفصل أسلوبه عن حسه وشعوره، أو عاطفته، يعني: الجانب التعبيري يتوقف في ترتيبه، وتنسيقه، وشكله، وكل شيء يدخل في بنائه، يتوقف على الجانب الشعوري، ولا يمكن الكشف عن هذا الجانب الشعوري إلا من خلال منهج نفسي واضح. كيف نتعرف على الجانب الشعوري؟ لأن تعرفنا على الجانب الشعوري يساعدنا على التعرف على القيم التعبيرية، ليس هناك منهج يكشف لنا عن الجانب الشعوري إلا المنهج النفسي. أما الكشف عن الخصائص الفنية للتعبير: ألفاظ، وأساليب، وصور، فيتكفل به المنهج الفني. ومن ناحية أخرى، فإن العمل الأدبي في صميمه استجابة لمؤثر خارجي، وكما تتفاوت تلك الاستجابة قوة وضعفًا، فيحق لنا أن نصفها بالصدق، أو الكذب. هذه

المآخذ على المنهج النفسي.

حقيقة هذه الاستجابة لذلك المؤثر الخارجي قد تكون قوية، وقد تكون ضعيفة، وبالتالي نحكم عليها بأنها صادقة، أو بأنها كاذبة؛ نتيجة لمؤثر صادق أو كاذب. المنهج الذي ينهض بذلك ويكشف عن الصدق أو الكذب، والقوة أو الضعف هو المنهج النفسي من خلال دراسة نفسية الأديب، وبيان طبيعتها. كما أنه لا يمكن التعرف على أثر العمل الأدبي في نفس المتلقي -كما سبق- إلا من خلال منهج نفسي واضح، وهذان أهم عنصرين في العمل الأدبي: مصدر الإبداع، وعلاقة الأديب به، ثم المتلقي، ومدى استجابته للعمل الفني. مصدران مهمان جدًّا يكشف المنهج النفسي عن جوانب كثيرة منهما، ولا يحق لمنهج آخر أن يحل محله في ذلك. ومن ثم، فنحن في أشد الحاجة إليه. المآخذ على المنهج النفسي ويمكننا القول: إن المنهج النفسي يساعد على فهم الأدب وتفسيره، وإدراك بواعثه، وأثره في نفس المتلقي، كما يساعدنا على فهم طبيعة الأديب نفسه. رغم هذه الكلمات التي قلتها عن قيمته إلا أن هناك بعض المآخذ التي يمكن أن تؤخذ عليه، منها: أولا: الأدباء في نظر واضعي المنهج النفسي شخصيات غير سوية -هذه حقيقة- والأدب عبارة عن حصيلة نفوس شاذة، تشعر بمركب النقص أحيانا، أو تعاني من صراع الرغبة المكبوتة أحيانًا أخرى، وهذا غير صحيح؛ فالواقع يؤكد أن الأدباء من أرقى طبقات المجتمع حسًّا، وأصفاهم نفسًا، وأصحهم فكرًا، وهم قلب أمتهم النابض، ووترهم الحساس، وأن الأدب أرقى أنواع الفنون كلها، فهذا مأخذ.

مأخذ آخر: تفسيرهم للعمل الأدبي على أساس أنه تعويض عن مركب النقص، أو تعبير عن أساطير الأولين -كما اتضح لنا- أو إظهار لتلك الرغبة الاستبطانية الذاتية التي ترجع في جوهرها إلى عقد نفسية متنوعة، كل ذلك التفسير يسلب النص الأدبي قدره، ويخرج بالأعمال الأدبية التي تصور المجتمع عن مسارها، ولم يقل بذلك أحد؛ لأن هذه الأعمال هي أعمال أدبية رائعة جيدة. ثالثا: المنهج النفسي كما مر بك يهتم بالأديب أولا، وقبل كل شيء؛ لأنه يبحث في النفس، ويتتبع تطورات نفسه، وأشكال غرائزه، ويهمل النص الأدبي ذاته، ويدرس النماذج الأدبية باعتبارها نماذج بشرية، وهذا تحليل للعمل الأدبي من جانب واحد، وإهمال لمواطن الجمال والقوة فيه. ومن ثم، يستوي أمام هذا المنهج العمل الأدبي الجيد والرديء، فكلاهما يصلح شاهدًا في ضوء النظريات النفسية الحديثة. رابعا: التوسع في استخدام الدراسات النفسية في مجال البحث الأدبي، وإرجاع كل صياغة فنية إلى أصل نفسي دون النظر إلى المقاييس الجمالية والفنية، كل ذلك يقتل الأدب، ويحوله إلى درس في التحليل النفسي، ويفقد المتلقي الإحساس بالمتعة الفنية التي هي غايته. وجدير بالذكر أيضا، أن علم النفس مهما بلغ من تقدم في نظرياته ومقاييسه، فإنه لم يحط إحاطة كاملة بكل الجوانب الإنسانية، أو النفسية لشخصية ما، وأن فروضه، وتحليلاته، ونتائجه ليست أمورًا مسلمة، لكنها نسبة تحتمل الصدق والكذب. والسلام عليكم رحمة الله وبركاته.

الدرس: 9 نظرية الفلسفة الجمالية وعلاقتها بالدراسات الأدبية.

الدرس: 9 نظرية الفلسفة الجمالية وعلاقتها بالدراسات الأدبية.

نظرية الفلسفة الجمالية وقيمتها في مجال البحث الأدبي.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس التاسع (نظرية الفلسفة الجمالية وعلاقتها بالدراسات الأدبية) نظرية الفلسفة الجمالية وقيمتها في مجال البحث الأدبي الحمد لله، الذي خالق الإنسان وعلمه البيان، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه، وبعد: فالجمال سمة بارزة من سمات هذا الوجود، وهو نوع من النظام، والتناغم، والانسجام ذو مظاهر لا تحد، وتجليات لا حصر لها، فالدقة، والرقة، والتناسق، والتوازن، والترابط، ومظاهر أخرى كثيرة يشعر بها الإنسان في هذا الوجود، وإن لم يستطع التعبير عنها، أو بمعنى آخر: الجمال هو كل ما يثير الحواس، ويلهب المشاعر الإنسانية، وهو مصدر من مصادر الإحساس بالمتعة والرضا عن الفنون. وإذا تأملنا تعريفات الجمال لدى الفلاسفة، وجدنها تنحصر في عدة اتجاهات: الاتجاه الأول: يجعل علم الجمال مجرد دراسة للمفاهيم والمصطلحات الجمالية؛ فيكون هناك تحليل لمعاني الشكل، والمضمون، والنمط، والذوق. وفي هذا الصدد يقول عالم الجمال الفرنسي "فيلدمن" في كتابه "علم الجمال الفرنسي المعاصر": علم الجمال هو بحث في أحكام الناس الجمالية. ويقصره هذا الفيلسوف على البحث في أحكام الناس الجمالية من خلال التحليل: تحليل الشكل، تحليل المضمون. أما "للدند" في معجمه الفلسفي، فيقصره على دراسة موضوع حكم التقدير والذوق، يعني: يحتكم إلى تقدير القيم الجمالية، ومدى تذوقها. أما الاتجاه الثاني: فهو اتجاه يجعل علم الجمال دراسة للصور الفنية، وفي هذا يقول عالم الجمالي الفرنسي "سريو": إن غاية علم الجمال هي الوقوف على المقولات الأساسية، أو المبادئ الصورية الثابتة التي تنتظم وفقا لها شتى المظاهر الجمالية لهذا الكون المنظم.

أما الاتجاه الثالث: فإنه يربط كل هذه الاتجاهات بالإنسان؛ حيث يرى أن الفن نتاج إنساني، وأن التذوق بعد إنساني، وأن الحكم سمة إنسانية، وأن الصور الفنية منتجات إنسانية. ويتمثل هذا الاتجاه عند "هيجل" بصفة خاصة، فهو الذي يرى أن علم الجمال هو فلسفة الفن الجميل، ورغم إحساس البشر جميعًا بالجمال، وتمتعهم به إلا أن مقاييسه تظل نسبية عند كل أمة من الأمم، بل عند كل فرد من الأفراد. ولو نظرنا إلى الجمال وتأملناه جيدا لعلمنا أنه من القيم المطلقة التي لا تحد بحدود، وقديما قال أفلاطون: الروح هي التي تدرك الجمال. أما الحواس فلا غير انعكاسات ظلال الجمال. ولكن عندما نبحث عن الجمال في الأدب: لابد أن نفرق بين الجمال في الفنون، والجمال المطلق، أما الجمال المطلق: فهو موجود في الطبيعة سواء حوله الفنان إلى عمل فني أم لا. وأصحاب الفلسفة الجمالية لا يعنيهم جمال الطبيعة، أي: لا يعنيهم الجمال المطلق، وإنما يعنيهم الجمال الموجود في الفنون، الجمال الذي يثير فينا نوعًا من الشعور عندما نتأمله، ونعيش معه. والفنان عندما ينقل جمال الطبيعة إلى عمل فني لا ينقله مجردًا، وإنما يخلع عليه من نفسه وذاته ما يجعلنا نراه في صورة أخرى غير الصورة التي كنا نراه عليها في مظاهر الطبيعة، ونتأثر به، ويثير فينا نوعًا من المشاعر والعواطف التي تتناسب معه. وليس بلازم أن يأتي العمل الفني موافقًا للطبيعة من حيث الجمال والقبح؛ فقد يتناول الأدبية حقيقة من حقائق الطبيعة تتسم بالقبح في الواقع ليس فيها ملمح جمالي، لكنه يحاولها إلى لوحة فنية جمالية بما يضفي عليها من نفسه، وحسه، ويصبغه عليها من ذاته، يعني: ينقل الجمال في الطبيعة، ويبدو هذا

الجمال لنا، ونتأثر به، ونحس بقيمته من خلال أحاسيس الشاعر، فهي التي تصوره، وهي التي تلبسه حلة جمالية جديدة حتى لو كان قبيحا في الطبيعة. ونظرية الفلسفة الجمالية تبحث عن الجمال، وكيفية إدراكه في العمل الفني، كما تكشف عن مقاييسه التي تحكمه، وهي التي تعد ضمن مناهج البحث الأدبي في العصر الحديث، وهي تهدف إلى دراسة القيم الجمالية في العمل الأدبي من أجل تقويمه، ووضعه في مكانه الصحيح بين الأعمال الأدبية الأخرى التي تمثل التطور الفني لتاريخ الأدب. وهو لذلك يتقارب إلى درجة كبيرة من مناهج النقد الأدبي، لو تأملناه من خلال هذا المفهوم، وهذه الوظيفة لرأيناه فعلًا يتقارب جدًّا من مناهج النقد الأدبي، ومن ثم كان طبيعي أن يكون الأساس الذي يقوم عليه أساسًا نقديًّا، ومنهج البحث في نطاق نظرية الفلسفة الجمالية يدور حول محورين: المحور الأول: يتعلق بالمتلقي، ومسألة تذوقه، وتقديره للقيمة الجمالية، ثم الانعكاسات النفسية للعمل الأدبي عليه. وأما المحور الثاني: فيتعلق بجانب الإبداع، والمقاييس الجمالية التي اصطلح عليها النقاد؛ لتقويم ذلك الإبداع على حسب نوعه، أو الجنس الذي ينتمي إليه، والكشف عن ملامح العبقرية فيه. والفلسفة الجمالية لا تبحث بحثًا جزئيًّا في المفردات الفنية، ولا تنظر في قيمتها من حيث الجودة والرداءة، وإنما تبحث في الفنون عامة بحثًا كليًّا من حيث الإبداع، وتذوق جماله، والحكم عليه، بمعنى: أنها تبحث في القيم الفلسفية التي تفسر الجمال في الفنون جميعها، لا في فن بعينه، يعني: لا تأخذ فنًّا مستقلا، إنما تنظر إلى الجنس الأدبي أو الفن الأدبي نظرة عامة، نظرة كلية من خلال مقاييس

موضوعة، وقد تبحث في فن من الفنون، ولكن لكي تصل من خلال هذا البحث إلى أحكام كلية، تصلح لتطبيقها على جميع الفروع التي تندرج تحت هذا الفن؛ لتصل إلى أحكام كلية تطبق على جميع الفنون بلا استثناء. ولذا يتضح لنا أن البحث في الفنانين، وبيئاتهم وعصورهم، وظروفهم، وخصائصهم من أجل الوصول إلى نتائج تتعلق بكل جزئية من تلك الجزئيات خاصة، مثل هذا البحث ليس من مجالات الفلسفة الجمالية، وإنما من عمل من يؤرخون للفنون. لابد أن نفرق بين عمل الباحث الذي يؤرخ للفن أو للفنان، وبين عمل الباحث الذي يبحث للأدب من خلال فلسفة جمالية. وكذلك البحث في قصيدة بعينها أو قصة أو مسرحية؛ للكشف عن معايير الجودة في كلا منها، لا يدخل ضمن مباحث الفلسفة الجمالية. وفكرة الفلسفة الجمالية فكرة قديمة، نجدها عن أفلاطون في حديثه عن قضية الإلهام في الشعر، فإنه ذكر أنه حين النظم يأخذه ما يشبه الجنون وأنه -أي الشاعر- يصدر في شعره عن عقله الباطن، أو عن اللاشعور. كما ذهب أفلاطون إلى أن الشعر يحاكي حقائق الواقع، وهي في رأيه صورة للجمال المطلق، وعالمه المثالي. وبهذا يكون أفلاطون أول من تحدث عن الجمال الكلي بين الفلاسفة. أما تلميذه أرسطو: فهو أول من تحدث عن اللذة التي نحثها في الفنون حين تحدث عن نظرية التطهير. ونمضي حتى نصل إلى القرن الثالث الميلادي، فنلتقي بالناقد الإغريقي "لون جنيوس"، وما ذهب إليه من أن غاية الشعر جمالية ليس إلا، تتمثل هذه الغاية: في التأثير في المتلقي تأثيرًا جماليًّا، وليست وراءه غاية تربوية، أو أخلاقية، أو نفسية. ورغم أنه لم يستخدم مصطلح الفلسفة الجمالية في بحوثه، لكنه يعد أول فيلسوف جمالي.

ظلت فكرة لون جنيوس كامنة حتى كان القرن الثامن عشر؛ فأخذت مكانها بين دراسة الأدب، والفنون عامة على يد فيلسوف مشهور يسمى: "باوم جارتن"، وهو ألماني في كتابه الذي وضعه باللغة اللاتينية، واتخذ مصطلح "الإستطيقا" عنوانًا له، ومنذ هذا الوقت شاع المصطلح، وصار محل بحث لدى الفلاسفة، وفي مقدمتهم: الفليسوف "كانت"، و"هيجل"، وشوبن هور". يرى "كانت" أن الفن ليس له غاية إلا المتعة الجمالية الخالصة التي تحدث من الانسجام بين ملكاتنا الإنسانية، ويعتقد "كانت" أن وعي المرء بجمال الأشياء يتأتى أولًا: من تأمله الدقيق للأشياء. وثانيا: من حصول التوافق والانسجام بين إدراكه، وتصوره من ناحية وبين ميزات تلك الأشياء المادية من ناحية أخرى. والمعيار الجمالي الأمثل عند "كانت": هو مدى تطابق أحداث وشخوص الرواية، أو القصيدة على أحداث الواقع، أي: أنه يربطها بالواقع. أما "هيجل": فيذهب إلى أن الجمال الفني يتألف من المادة المحسوسة، والتصور العقلي المجرد. أما "شوبن هور": فكان يرى أن الفن تأمل صوفي تكاد تنمحي فيه الإرادة تماما، بل إنه يتحرر منها تحررا تامًّا، بحيث ينسى فيه الفنان إرادته وفرديته مستغرقا في الوجود أو في المثال المطلق. ويعد "باوم جارتن" الألماني أول من استخدم مصطلح الفلسفة الجمالية، أو الاستطيقا، وظلت ألمانيا تقود حركة مباحث الفلسفة الجمالية حتى إذا كان القرن التاسع عشر، أخذت تلك المباحث تنشط في فرنسا وإنجلترا وغيرهما من بقية البلدان نشاطًا ملحوظًا، وكثر الحديث عن الجمال الفني، وحقيقته، ومعاييره، وعناصره، وكل ما يتعلق بهذه النظرية أو الفلسفة. ففي فرنسا سيطر فكر الروحانيين على نظرية الفلسفة الجمالية، وهم يرون أن الجمال ظاهرة روحية لا يمكن حصرها في الوجود المادي، ورغم أنهم أقروا

المعايير المادية، مثل: وحدة البناء والتكامل، وقوة تأثير اللون، والمرونة الإنسانية في الشكل، رغم ذلك إلا أنهم أصروا بأنه لا يمكن لهذه العناصر أن تتضافر لإنتاج ما هو جميل إلا إذا كانت ذات تأثير، وسيطرة، وقوة عليا سامية غير مادية، الأمر الذي صبغ كل أفكارهم بصبغة روحانية واضحة. هذا بالنسبة للمدرسة الفرنسية. أما المدرسة الإنجليزية: فقد اهتم أصحابها بالعميلة السيكولوجية في تفسيرهم للجمال، وانقسموا قسمين: الحدثيون: الذين اعتبروا الجمال ظاهرة موضوعية يتم إدراكها بالبداهة، هؤلاء هم الحدثيون. أما الفريق الثاني: فهم التحليليون: الذين اعتبروا الجمال ظاهرة أعقد بكثير مما يمكن أن تعالج بالحدث والبديهة، وإنما يتطلب إدراكها الكامل التحليل العلمي للعمل الأدبي، لا يمكن عند هؤلاء التحليليين أن ندرك الجمال الكامل إلا إذا قمنا بتحليل العمل الأدبي تحليلًا دقيقًا شاملًا. وتعددت بحوث الفلاسفة للبحث في كيان الجمال، وهل يكون في المضمون أم في الشكل؟ اختلفوا في هذا، ذهب بعضهم إلى أن المضمون لا يعني الموضوع، فالموضوع واحد، ولكن تتغير صورته من مبدع إلى آخر. فهناك فرق بين الموضوع ومضمون القصيدة، فالمضمون: هو الإبداع نفسه. لابد أن نتبنه لهذا؛ هم يفرقون بين المضمون والموضوع، فالمضمون عندهم غير الموضوع؛ مضمون القصيدة: هي القصيدة ذاتها، وقيل: المضمون هو موقف الفنان من الموضوع، ورؤيته البصيرة فيه للحياة والوجود بكل ما يؤدي من أفكار ومشاعر.

والصورة أو الشكل -تقابله عندهم بهذا الفهم- تقابله الصورة أو الشكل والقالب الذي يصاغ فيه المضمون. ومنذ القرن التاسع عشر وفلاسفة الجمال يثيرون مباحث كثيرة، تدور حول منبع الإحساس الجمال وحقيقته، وحقيقة الإحساس المقترن به. ويذهب كثيرون من هؤلاء الفلاسفة إلى أن التأثير الجمالي في الفنون يرجع إلى استغراق الإنسان في الآثار الفنية استغراقًا يفقد في تضاعيفه شعوره بفرديته؛ فينسى نفسه، وتذوب شخصيته فيما ينثره من لوحة، أو يقرأه من شعر، أو يسمعه من موسيقا، وذلك مصدر لذته ونشوته إزاء الجمال في الفنون. ويقول آخرون: إن مصدر اللذة عبارة عن إشباع الجمال الفني لعواطفنا، وإدراكنا العقلي، ومخيلاتنا. ندرك قيمة الجمال ونتلمسه ونحسه؛ فهي لا تستمد من العواطف وحدها، وإنما تستمد من الخيال والعقل أيضا. وقد رد "نيتشه" الفيلسوف الألماني الإحساس بالجمال إلى نشوة حسية ترتبط بالغريزة الجنسية، وكأنه كان إرهاصا لفرويد، ونظريته التي أشرنا إليها، وغيره من أصحاب التحليل النفسي للاشعور، ومكبوتاته الجنسية المستكنة في دخائل الفنانين. ويدلل بعض فلاسفة الجمال على هذا الربط بين غريزة الجنس والإحساس بالجما ل بما يت ر اء ى لنا في الطيور، وما يختص به قرين الطائرة من الريش الجميل حتى يستهويها بجمال منظره، وبالمثل أيضا: جمال الصوت عن البلابل، إنما هو لغرض الاستهواء والإغراء بين الجنسين. هذه وجهة نظر هذا الفريق، كما تحدث فلاسفة الجمال أيضا عن مصدر القيم الجمالية، وهل هي خارجة عن الفنون أم كامنة فيها؟ أم هي موجودة في ذهن المتلقي، أم هي شيء مشترك بين الأثر الفني والمتلقي؟ والأولى من كل ذلك أن نرد الإحساس بالجمال إلى المبدع، وأثره الفني، أو إلى الإبداع نفسه، ومدى تحقق معايير الجمال فيه.

فيلسوف آخر "ريتشاردز": وذهب "ريتشارد" إلى أن الجمال يكون في الفن وآثاره، حيث يجعل مصدر المتعة اللذة الناشئة من تنسيق الأعمال الفنية لدوافعنا الداخلية المتصارعة والمتناقضة. كما تحدث هذا الفيلسوف عن صلة الجمال الفني بالمجتمع والواقع، فبعضهم ذهب إلى أن الجمال الفني مستمد من البيئة والمجتمع، فلا يوجد عمل فني دون بيئة ينشأ فيها، ومجتمع يتنفس فيه، فالفن يصدر عن البيئة والمجتمع صدور الضوء عن الشمس، أو صدور الزهرة عن الشجرة في بيئة معينة. وهم بذلك يعترفون أن الأصل في نشأة الفنون نفع الجماعة، وسيطرتها على الطبيعة من خلال بث القيم الجمالية والاجتماعية في السلوك، بحيث لا يمكن التفريق بينهما. وعارض فريق من فلاسفة الجمال هذا الرأي، ورأى أن الفن لا يقصد به سوى الإحساس بالجمال، وأن كل ما عدا ذلك يعد قيما طارئة عليه. ويرى أصحاب هذا الرأي أن الناس يطلبون الفن؛ ليبعدهم عن واقعهم وعالمهم اليومي الذي يعيشون فيها. ويرون أيضًا أن الفن يعمل على إبراز شخصيات أصحابه إزاء الجماعة التي يعايشونها رغم كيانهم الفردي الذاتي. والحقيقة، أنه مع التسليم لبعض ما يقوله أصحاب هذا الرأي، فإنه لا يمكن فصل الفن عن المجتمع بحال من الأحوال؛ فإن ذلك لا يتعارض مع اتصاله بالمجتمع، وسيظل الفن يحمل من القيم الجمالية ما يسعد به الناس، ويؤدي رسالة اجتماعية قيمة مع ذلك. وقد أثيرت قضية مهمة لها علاقة بنظرية الفلسفة الجمالية، وهي قضية الشعر والأخلاق، أو نظرية الفن للفن بمسماها الحديث، وأثيرت عدة أسئلة حول هذه القضية: هل يطلب المتلقي القيم الخليقة والاجتماعية عند تلقيه للشعر مثلًا كفن

من الفنون؟ وهل يضع الفنان أو الشاعر ذلك في اعتباره حين إبداعه؟ أو هل للشعر أو الفن عموما رسالة اجتماعية، أم أن الغاية منه مجرد المتعة فحسب؟ أسئلة كثيرة نشأت إثر ظهور هذه القضية، هذه في الحقيقة قضية قديمة اتضحت منذ طرد أفلاطون الشعراء من جمهوريته لأخلاقهم المذرية المنحرفة، ورد عليه أرسطو بأن الشعراء يطهرون المجتمع، ويخلصونه من أدران هذه الأخلاق السيئة، وكما كان لهذه القضية أيضا حضور قوي في فكر نقادنا العرب القدامى، وهم يعالجون شتى القضايا في كتبهم. وظلت القضية قائمة حتى القرن التاسع عشر، حيث ظهرت نظرية الفلسفة الجمالية، وشاع بين فلاسفة الجمال: أن الفن لا غاية من ورائه إلا الإحساس بالمتعة والجمال. واحتدم الصراع بين هؤلاء وخصومهم، واتخذ شكل معارك عنيفة خاصة بعد ظهور ديوان "أزهار الشر" لـ"بوتير"، ورأى هؤلاء أنه لا ينبغي أن نحكم على الفن بمقاييس أجنبية عنه أخلاقية كانت أو غير أخلاقية، وإنما نحكم عليه بمقاييس الجمال الفني، وهذه المقاييس في رأيهم تنفصل عن قيم الأخلاق انفصالًا تامًّا. أما خصوم هؤلاء: فرأوا أن الفن لا ينبغي أن يكون أداة لنشر الرذائل في المجتمع، وإنما ينبغي أن تكون له رسالة اجتماعية يؤديها، ويؤثر بها في الحياة. والحقيقة، أنه لا ينبغي أن نجرد الفن من رسالته الاجتماعية، وهذا -كما أشرت- لا يتناقض أو يتنافى مع ما فيه من قيم جمالية، بل العكس هو الصحيح، فإن من يرسي قيمة خلقية لفن من الفنون في قالب بلغ الغاية من الجمال، يكون كمن يقدم هدية في طبق من ذهب، ولا مانع من الجمع بينهما، ولكن إذا انهارت الأخلاق في مجتمع من المجتمعات انعدم إحساس ذلك المجتمع بالجمال أيًّا كان.

ومن فلاسفة الجمال الذين ظهروا في أواخر القرن التاسع عشر "كروتشيه" وهو فيلسوف إيطالي امتاز هذا الرجل بالتعمق في مباحثه، والطرافة في التفكير. يرى "كروتشيه" أن الجمال في الفن يعود أو يمكن في تعبيره، والتعبير عنده ذو مدلول واسع إذ يجعله مرادفا للصورة، ولا يقصد به الألفاظ المفردة فحسب، ويرى أن تبديل أو تغيير في العبارة يجعلها جديدة في بنائها، فهو مصدر الجمال وينبوعه لا المضمون ولا المحتوى، ولذلك فإن كل موضوع صالح لأن يكون مادة للفن، وليس هناك موضوع لفن الشعر، وليس هناك موضوع فني يصلح للشعر، وموضوع آخر لا يصلح للشعر. ويستدل على ذلك: بأن الشاعر قد يتخذ من الشيء غير الحسن في الظاهر موضوعًا له، كالبائس التعس الممزق الثياب تزور منه العيون، يأخذه الشاعر ويحوله إلى لوحة فنية مؤثرة، تجذب الأبصار، وتستهوي القلوب. ويرى "كروتشيه" أن الجمال والقبح ليسا ذاتيين في الطبيعة والإنسان، وإنما هما مقيدان باللحظات النفسية للناس والفنانين من حولهم، وهو يرى أن غاية الفن الجمال، وهو بهذا يجسد الجمال الفني في التعبير، والأداء الكلي للصياغة، ويعزله عزلًا تاما عن المجتمع، وكل ما يتصل به، وكأن الفن شيء والمجتمع شيء آخر، ولا صلة بينهما. أو بعبارة أدق: ينبغي ألا تبحث هذه الصلة، وألا تدخل بأي حال من الأحوال في حساب أصحاب الفلسفة الجمالية. ومن فلاسفة القرن التاسع عشر أيضا: الفيلسوف الفرنسي "شارل لالو" الذي ذهب إلى أن الفلسفة الجمالية ينبغي ألا تظل في الإطار المعياري الذاتي الذي ساغه لها "كانت"، ويرى أنه لابد أن تدخل في هذا الإطار نسب موضوعية في الأشياء الجميلة، تجذب قلوبنا، وهي نسب من شأنها أن تتسع لمجال البحث في

الفلسفة الجمالية، فلا تجعلها فلسفة ذاتية تقوم على القيم وحدها، وإنما تخوض بها في مباحث وقواعد موضوعية تتصل بالحياة بشتى أشكالها. ويرى هذا الفيلسوف أن الطبيعة في حد ذاتها ليست لها قيمة جمالية إلا حين ينشئ فنان بينه وبينها صلة، فتتراءى جميلة من خلال أعماله. وهو بذلك يفصل بين الفن والطبيعة، بحيث لا يصح أن نحكم عليه من خلالها، ومع كل هذا الاستقلال الذي فرضه "لالو" على الفن نجده يصله وصلا وثيقًا بالحياة. فإذا تأملنا كلام فيلسوف آخر مثل: "سريو" الفيلسوف الفرنسي نجد أنه يصل وصلا وثيقا بين الفن والصناعة، أو بعبارة أكثر دقة: بين الإنتاج الفني والإنتاج الصناعي، ملاحظا دائما الوظيفة الاجتماعية للفنون، وأنها تلبية لحاجات المجتمع، مثلها في ذلك مثل الصناعات، بل هي صناعة بالمعنى الدقيق لكلمة صناعة. وليس بصحيح مطلقًا أنها درب من اللهو أو التسلية، أو أنها تعبير عن نشاط فائض عن حاجة المجتمع، وإنما هي تعبير عن حاجة ملحة في المجتمع، كالحاجة الملحة إلى الحرف والصناعات. ويستبعد "سريو" فكرة الجمال من تعريف الفنون الرفيعة، ويضع مكانا فكرة النفع حتى يستبين دور الفن في الحياة الاجتماعية، ويقوم هؤلاء الغربيون بتنظيم جمعيات للدراسات الجمالية، ويهتمون بإصدار مجلات تبحث مباحث قيمة في الفلسفة الجمالية، وتقيم من حين إلى آخر مؤتمرات لعرض دراسات جمالية مختلفة. وقد انتقلت هذه النظرية الجمالية إلى البيئة العربية كغيرها من النظريات، وأصبحت تمثل منهج ضمن مناهج البحث الأدبي في العصر الحديث، وقد اتجه هذا المنهج في دراسة الأدب العربي اتجاهين أساسيين:

الاتجاه الأول: يتمثل في دراسة الشخصيات الأدبية. والاتجاه الثاني: يتمثل في دراسة الظواهر الأدبية. ومن واقع الدراسات الكثيرة التي قامت على أساس هذا المنهج، أثبت أنه صالح لكلا الاتجاهين. ومن ثم، حقق ذيوعًا وانتشارًا واسعًا بين الباحثين في مجال الأدب، فبالنسبة للاتجاه الأول: وهو دراسة الشخصيات الأدبية، يتم فيه اختيار شخصية أدبية، واتخاذها موضوعًا لدراسة مستقلة مفصلة؛ بقصد بيان الدور الأدبي الذي قامت به، وقياس مستواها الفني. ومحور الدراسة في هذا الاتجاه: هو نتاج هذه الشخصية، أي: الإبداع والفن الذي أنتجته. ومن خلال تسليط الضوء على هذا الإبداع تتكشف ملامحه، وتتضح أسراره الفنية، وهذا النتاج في الحقيقة هو نتاج شخصية أدبية هي التي أبدعته، وهي التي أعطته طاقاته الفنية، والعقلية، والجمالية حتى استوى على هذه الصورة. ولذا؛ كانت الشخصية الأدبية هي المحور الأول للدراسة في هذا الاتجاه؛ بقصد الكشف عن مقوماتها الخلقية، والاجتماعية، والعقلية، وتبين ملامحها وسماتها المميزة لها، والمؤثرة فيها إلى آخر ما يتصل بهذه الشخصية. هذه الشخصية ذاتها نتاج بيئة عاشت فيها، وعصر تأثرت به، وتفاعلت معه، واستجابت لمؤثرات البيئة والعصر، ولا يمكن أن نفهم هذه الشخصية فهمًا صحيحًا دون دراسة البيئة التي عاشت فيها، وتفاعلت معها. ولذلك؛ كان من اللازم الوقوف على البيئة والعصر قبل الإقدام على دراسة الشخصية ونتاجها، ومعنى ذلك: أن هناك محاور ثلاثة يدور حولها هذا الاتجاه -اتجاه دراسة الشخصيات الأدبية يدور حول محاور ثلاثة-:

المحور الأول: البيئة والعصر. المحور الثاني: الحياة: حياة الشخصية الأدبية ذاتها. المحور الثالث: العمل الفني نفسه. وفي حالة البحث من خلال هذا المنهج، يمكن الاستغناء عن المحور الأول وعرضه في صورة تمهيد، لو أردنا ذلك يجوز هذا. وأما الاتجاه الثاني: وهو دراسة الظواهر الأدبية، فإنه يتحرك في إطارين: الإطار الأول: يقف عن الأعمال الأدبية التي تشكل الظاهرة موضوع الدراسة، من أجل معرفة القيم الجمالية التي تشترك فيها، هذا هو الإطار الأول. الإطار الثاني: يقوم بتصنيف هذه الأعمال الأدبية في شكل مجموعات، بحيث تمثل كل مجموعة منها مذهبًا فنيًّا متميزًا، أو مدرسة فنية مستقلة. وهذا يشبه منهج "سانت بيف" الذي سبق أن أشرنا إليه. ويعد هذا الإطار تمهيدا لدراسة تكشف ما تتميز به كل مجموعة أو مدرسة، وما تشترك فيه من صفات. ويمثل الاتجاه الأول -وهو دراسة الشخصيات- دراسات قام بها الدكتور طه حسين، وهي دراسات كثيرة، منها: كتابه (حديث الأربعاء)، وكتابه (من حديث الشعر والنثر)، وكتابه (مع أبي العلاء في سجنه) و (تجديد ذكرى أبي العلاء)، وغير ذلك من دراسات تعد رائدة ورائعة أدارها الدكتور طه حسين حول عدد كثير من الشخصيات الأدبية. كما يتضح هذا الاتجاه أيضا في دراسات الدكتور شوقي ضيف، مثل: (شوقي شاعر العصر الحديث)، وكتابه الآخر (البارودي رائد الشعر الحديث)، وكذلك (دراسات في الشعر الحديث). ويتمثل هذا الاتجاه أيضا في كتاب (ذو الرمة شاعر الحب والصحراء) للدكتور يوسف خليف، وغير ذلك من دراسات قدمها كثير من الأدباء وكان هدفها:

رؤية العربي لفكرة الجمال الأدبي.

محاولة الكشف عن الشخصية الأدبية، وبيان منزلتها الفنية، والدور الفني الذي قامت به من خلال النتاج الفني الذي أبدعته تلك الشخصيات. أما الاتجاه الثاني: فيمثله كتابان هما: (الفن ومذاهبه في الشعر العربي)، ثم كتاب (الفن ومذاهبه في النثر العربي)، والكتابان للدكتور شوقي ضيف -يرحمه الله-، فقد حاول تصنيف الأدباء منذ العصر الجاهلي حتى العصر الحديث إلى مجموعات، أو مذاهب فنية متميزة، كان لها دور في الحركة الأدبية والنقدية خلال عصورها المختلفة، وحصرها المؤلف في ثلاثة مذاهب: مذهب الصنعة، ومذهب التصنيع، ومذهب التصنع. وقد التزم المؤلف بالمنهج الجمالي حيث تحرك في الإطارين اللذين أشرت إليهما. وقف أولا عند الأعمال الأدبية التي أنتجها أعلام هذا الأدب؛ ليكشف عما فيها من قيم جمالية، وخصائص فنية، ثم صنف هؤلاء الأعلام وفقًا لهذه المذاهب الفنية الثلاثة التي رآها تمثل حركة أدبنا العربي. رؤية العربي لفكرة الجمال الأدبي بعد هذا العرض السريع لنظرية الفلسفة الجمالية وقيمتها في مجال البحث الأدبي بقيت كلمة لا بد منها: لا جدال في أن الجمال الأدبي يستحق بحثا ودراسة دقيقة مستوعبة لا شك في هذا؛ لأنه الغاية التي يريدها الأديب الناجح في ابتكاراته الفنية، وهو في الوقت نفسه الغاية التي يوجه لها الناقد الحصيف كل دراساته؛ فالمبدع يريد أن يضع كل جمال في إبداعه، والناقد يريد أن يظفر بالقيم الجمالية حتى يسجلها في بحوثه النقدية المقنعة. ولهذا بذل النقاد قصارى جهدهم في التعرف على كل ما يضفي

على النماذج الأدبية جمالا، ويهبها روعة وفتنة، بحثوا طريقة تناول الأدباء أجزاء المعنى الواحد، وتنوعت دراساتهم عن الأسلوب الذي يحتوي المعنى، ويفصح عنه، وامتدت دراساتهم إلى الأدباء أنفسهم، والمؤثرات التي أثرت فيهم، كل هذا جيد، ولكن المتأمل في نظرية الفلسفة الجمالية التي سبق عرضها يلاحظ شيئين: أولا: أنها أخذت طابعًا غربيًّا، وكأن العرب لا علم لهم بها. ثانيًا: أن دراسات الغرب، ومن لف لفهم من العرب في الغالب أخذت طابعًا فلسفيًّا، فهي دراسات فلسفية، قدمت للمتلقي جانبا من المعرفة، لكنها لم تقدم له شيئا عن الجمال الأدبي؛ ولذلك أردت أن نتعرف على رؤية العربي لفكرة الجمال الأدبي، وماذا قدموا في هذا المجال. الحقيقة، أن رؤية العرب لفكرة الجمال الأدبي كانت أكثر عمقا وموضوعية؛ لأن العرب لم يذهبوا إلى الأخذ بنظرية الجمال المطلق، أو المثالي المجرد في أدبهم ذلك الجمال الذي يدرك بالعقل دون التماسه في العمل الأدبي نفسه. العرب لم يهتموا بهذا، لم يهتموا بنظرية الجمال المطلق، وهم يبحثون في الفن الأدبي، وقد ظهرت عندهم بعض الاتجاهات الجمالية التي تربط الجمال بالفضائل والوعظ، كما عند ابن قتيبة في كتابه (الشعر والشعراء) مثلًا، أو تربطه بالفكر الإغريقي كما عند قدامة بن جعفر مثلًا، لكنها لم تلبث طويلًا في الذوق العربي العام في تقويم جمال الأدب. وكان عبد القاهر الجرجاني حامل اللواء في هذا المجال؛ فقد اتجه إلى أن فكرة الجمال الأدبي تكمن في الإنتاج الأدبي نفسه، ونفى كونها فكرة مجردة تقوم على النظريات والافتراضات، فمظاهر الجمال لدى عبد القاهر إنما هو نتاج مواهب فنية ذات كفاءة عالية في صياغة المعاني، وإفراغها في أسلوب مطابق في نظامه،

وترتيبه لذلك النسق الذي ترتبت عليه المعاني، كما تصور الفكر أجزاءها، وهي في دور التكوين. عملية تخلق الجمال الأدبي عند عبد القاهر ليست عملية سهلة، وإنما هي عملية في غاية الدقة، تمر بمراحل أو أطوار: الطور الأول: النظام والترتيب. الطور الثاني: تحديد قسمات هذا الوليد الجديد، وتعهده حتى يصير محل إعجاب وإغراب، وهذا التحديد لا يكون إلا من خلال مجموعة من المزايا في اللفظ، والأسلوب، ونوعا من العلاقات بين الجمل، تملأ النفس بجمال إشعاعها، فإذا نثر الخيال وشيه على الأسلوب، وأشاع فيه النماء والحركة باستعارة تقع موقعها مثلًا، أو تشبيه يحدث أثره في النفس، فذلك هو الجمال الذي يملك الألباب، ويسري بالروح في معارج المتعة والرضا. وخلاصة القول، أن الجمال الأدبي كامن في الأدب ذاته، يحتويه الأسلوب، ويستشفه الذوق الفني المرهف حين تصنعه الموهبة الفنية، وتدركه أذواق النقاد ذوي المواهب، وأن وعاء الجمال هو على التحديد مادة اللغة، وبراعة استعمالها. وعلى هذا، فإن للجمال الأدبي وجودًا ثابتًا حددته العبقريات الأدبية العملاقة. إنه يتمثل في القدرة الفائقة التي يلائم بها الأديب ملائمة كاملة بين شعوره بالفكرة، وبين إحساسه اللغوي، فإذا امتزج كل منهما بالآخر تخلق منهما كائن جديد، له مزايا الفكر والإحساس جميعًا. وما يزال الأديب يخلع على هذا الوليد مطارق خياله، ووشي براعته؛ حتى يتم له الجمال كما يريده صانعه. هذا مضمون النظرية العربية كما رآها نقادنا في القديم، وهي -كما ترى- نظرية واقعية موضوعية في تعاملها مع النص الأدبي، أو العمل الأدبي، وهي تبحث عن فكرة الجمال فيه. والسلام عليكم رحمة الله وبركاته.

الدرس: 10 المنهج المتكامل وقيمته في مجال البحث الأدبي الحديث.

الدرس: 10 المنهج المتكامل وقيمته في مجال البحث الأدبي الحديث.

أهم المناهج البحثية: المنهج المتكامل.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس العاشر (المنهج المتكامل وقيمته في مجال البحث الأدبي الحديث) أهم المناهج البحثية: المنهج المتكامل الحمد لله، الذي خالق الإنسان وعلمه البيان والصلاة والسلام على سيدنا محمد خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه، وبعد: فاتضح لنا من خلال الحديث عن مناهج البحث الأدبي في العصر الحديث أن علماء الأدب وباحيثه لم يتفقوا على منهج واحد يمكن أن يلتزم به جميع الباحثين في الأدب والدارسين له، ورأينا أن هناك مناهج متعددة مختلفة اختلافًا بينًا، وكأن الأدب أعقد من أن يحيط به منهج، أو أن البحث الأدبي أعقد من أن يخضع لمنهج واحد. ولما كانت الغاية من البحث الأدبي والوصول إلى نتائج دقيقة، كان من اللازم أن يسلك الباحث منهجًا يجمع بين جميع المناهج، نحن عرفنا من المناهج: المنهج النفسي، والمنهج التاريخي، والمنهج الجمالي، وكل منهج له عيوبه، وله قيمته في مجال الدراسات الأدبية. الغاية من البحث الأدبي: أن نصل إلى نتائج دقيقة، نتائج شاملة. لا يمكن أن نصل إلى هذه النتائج إلا إذا كان هناك منهج يأخذ من هذه المناهج جميعها في آن واحد، ولكن ما اسم هذا المنهج؟ وما حقيقته؟ وكيف يتحقق؟ ما اسم هذا المنهج الذي يجمع بين المناهج جميعها في آن واحد، ونصل من خلاله إلى نتائج دقيقة تتسم بالمصداقية؟ هذا المنهج هو الذي يسمى: بالمنهج المتكامل، أو المنهج التكاملي. ومن حق الباحث أن يستخدم في بحثه أكثر من منهج، ما دام ذلك يتيح له التعرف على جوانب أكثر بالنسبة لموضوعه، ويمكنه من الوصول إلى نتائج أكثر موضوعية وشمولية، خاصة أن المناهج البحثية متداخلة، فالمنهج النفسي يتداخل مع المنهج التاريخي، والمنهج التاريخي يتداخل مع الجمالي، والمنهج الجمالي

يتداخل مع المنهج النفسي، وهكذا لا يمكن أن نضع حدود فاصلة بين المناهج. فمن حق الباحث أن يستخدم في بحثه أكثر من منهج، طالما أن ذلك سيوصله إلى نتائج دقيقة. ولو تأملنا طبيعة الأدب وعناصر العمل الأدبي؛ لتأكد لنا أنه يحتاج إلى أكثر من منهج للكشف عن حقائقه. ولا يستطيع منهج واحد أن يكشف عن تلك الحقائق وتجليتها؛ فالعمل الأدبي نتاج نفس إنسانية، وبمقدار ما تحمله تلك النفس من أسرار، وما يشكلها من مؤثرات خارجية، يكون ذلك العمل الأدبي. فالعمل الأدبي يموج بالحياة من داخلها موجان النفس البشرية، وإن كان في نظر البسطاء مجرد كلام ينقل لنا فكرًا المبدع، ويصور أحاسيسه، ويترك فينا لونا من المتعة. هذه صورته التي نراها، ولكن لو فتشنا في حقيقته، لو حللناه لرأينا أنه عمل مركب، ويحمل عدة دلالات مختلفة من شأن الباحث الفطن الكشف عنها، ففيه دلالة على شخصية الأديب، ونفسيته، وفكره، ولغته، وفيه صورة للعصر والبيئة، بالإضافة إلى ما يحمله من مجموعة الخصائص الفنية التي اتحدت، وكونت ذلك البناء الفني. ومثل الباحث الأدبي كمثل الغواص يجوب أعماق البحار؛ ليكشف عن أسرارها، ويصور لنا الحياة بداخلها. إذا كانت تلك هي طبيعة العمل الفني، وهذه هي طبيعة الباحث فيه، فليس من اللائق أن يسلك الباحث منهجا جزئيا في بحثه؛ يكشف له عن جانب واحد من جوانب متعددة؛ لأنه لن يصل من خلاله إلى نتائج كاملة صحيحة، يمكننا أن نعدها حكمًا صادقًا على العمل وصاحبه، هذا لا يليق بأي حال من الأحوال، وقد اتضح لنا من خلال حديثنا عن المناهج البحثية في العصر الحديث أن لكل منهج عيوبه التي تقدح فيه، وتجعله قاصرًا

عن الوصول إلى نتائج كاملة في مجال البحث الأدبي، أو الموضوع الذي يبحث فيه؛ لأنها لا تنظر إلى العمل الأدبي من جميع الجوانب، إنما تتناوله من جانب واحد، فالمنهج التاريخي مثلًا: يربط بين البيئة والأدب برباط وثيق، ويفسر العمل الأدبي على أساس ذلك الرباط متجاهلا ذات الأديب، وما يعتمل في فيها من مشاعر وأحاسيس، ويأتي المنهج النفسي على النقيض من ذلك تمامًا؛ المنهج النفسي لا ينظر إلى البيئة، ولا ينظر إلى العصر، ولا إلى الأحداث، يعني: لا يربط بين العمل الأدبي وبيئته، وإنما يولي اهتمامه إلى نفس الأديب المبدع ذاته، محاولا الغوص في أعماقها، واستخراج ما بها من أزمات وعقد. وجدير بالذكر، أن تعدد المناهج، وتمسك أصحاب كل منهج بقوانين ثابتة، وردهم الأخذ، أو الإفادة بالمناهج الأخرى أبرز البحث الأدبي في صورة معقدة، وأصابه بالجمود والعقم، وبدا للباحثين أنه لا يخضع لأي من المناهج، والحقيقة غير ذلك تماما؛ إذ ينبغي الأخذ بهذه المناهج مجتمعة، والإفادة منها في مجال البحث الأدبي، وإدماجها في منهج واحد، يجمع بين خصائصها ويتلاشى، أو يبتعد عن عيوبها، ويسمى هذا المنهج -كما قلت-: بالمنهج المتكامل، أو المنهج التكاملي. فإذا أردنا أن نضع تعريفًا له أو مفهومًا لهذا المنهج التكاملي، فنقول: هو عبارة عن المزج بين مجموعة من المناهج، والأخذ بها، وتطبيقها في آن واحد عند الكشف عن الجوانب المختلفة في الأدب أو الأديب، وجدير بالذكر، أن الإفادة من هذه المناهج لا تتحقق إلا إذا اتخذت منارات ومعالم يهتدى بها، أما إذا تعامل الباحث معها على أساس أنها قيود أو حدود لا ينبغي تجاوزها، فإنها تضر وتفسد، ولا تنفع؛ لأنها حينئذ تصبح قيودًا على فكر الباحث وحريته.

وإذا أحس الباحث بأن هناك قيدًا يحد من حرية فكره، فلا يمكن أن يستمر، أو يصل إلى الحقيقة من خلال بحثه، كيف نتوصل إلى ذلك المنهج؟ كيف نحقق ما يسمى بالمنهج المتكامل، أو التكاملي؟ كيف نجمع بين المناهج التي ذكرناها النفسي، والتاريخي، والجمالي في وقت واحد؟ كيف يمكننا الإفادة من المناهج جميعها، وتحويلها إلى منهج واحد، منهج سديد نستطيع من خلاله أن نصل إلى نتائج تتسم بالمصداقية والدقة؟ لا يمكن أن نصل إلى هذا المنهج المتكامل إلا من خلال منهج واحد، وهو المنهج الفني. المنهج الفني: هو الذي نستطيع من خلاله أن نصل إلى منهج متكامل، يعني: يمكن نحقق ما يدعو إليه أصحاب المنهج النفسي من خلال المنهج الفني. نعم، ومن الممكن أن نصل إلى ما يدعو إليه أصحاب المنهج التاريخي من خلال المنهج الفني. نعم، ومن الممكن أن نتعرف على القيم الجمالية التي يبحث عنها أصحاب نظرية الفلسفة الجمالية، أو المنهج الجمالي من خلال المنهج الفني. نعم، هذه حقيقة؛ فالمنهج الفني يتعامل أو يتناول العمل الأدبي، ويقومه معتمدًا على ما فيه من قواعد وأصول فنية مباشرة -هذه حقيقتها. أود أن أعطي فكرة سريعة عن المنهج الفني الذي سنصل من خلاله إلى منهج متكامل؛ حتى نتعلم كيف نصنع منهجًا متكاملا. أنا قلت -من خلال المنهج الفني-: ما هو المنهج الفني؟ -سأعطي إشارة سريعة- المنهج الفني يتناول العمل الأدبي، ويقومه متعمدًا على ما فيه من قواعد وأصول فنية مباشرة مثل: العاطفة، والخيال، والأفكار، والأسلوب. هذه العناصر الفنية للأدب، أي: أنه يعتمد في تقويمه على القيم الشعورية، والتعبيرية معًا ليصل من خلال ذلك إلى نتائج تتعلق بالأدب والأديب معًا، دائما النتائج التي يصل إليها البحث من خلال المنهج الفني تتعلق بالإبداع ذاته، أي:

العمل الأدبي، أي: النص الأدبي، وبالمبدع أي: الأديب نفسه، وما يتعلق بهما من بيئة، وعصر، وقضايا -كما سنأخذ نموذجا إن شاء الله بعد قليل-. والمنهج الفني في حقيقته منهج ذاتي موضوعي، ذاتي؛ لأنه يعتمد على التأثر الذاتي للباحث أولًا. نعم، هناك قيم تعبيرية تحتاج في التعامل معها إلى تذوق فني، هذا التذوق موجود لدى الباحث، وهو منهج ذاتي، ثم إنه يعتمد على مجموعة من العناصر الموضوعة، أو المقاييس، والأصول الفنية الثابتة التي اصطلح عليها الباحثون والنقاد. ومن ثم، فهو موضوعي من هذه الناحية، فهو منهج ذاتي موضوعي. المنهج الفني يحتاج إلى توفر عدة شروط في الباحث، وإلى ألوان من الدراسات الفنية واللغوية؛ كونه يعتمد على التأثر الذاتي، أو كونه منهجًا ذاتيًّا يتطلب أن يسبق ذلك التأثر ذوق فني رفيع يعتمد على الموهبة الفطرية لدى الباحث، والتجارب الفنية الذاتية، والاطلاع الواسع على مأثور الأدب والنقد؛ حتى يكون التأثر مأمونًا، هو منهج ذاتي؛ لأن الباحث يعتمد في جانب كبير منه على ذوقه. إذا لابد أن أن ننمي ذلك الذوق عند الباحث حتى يصبح ذوقه رفيعًا، لابد أن ندرب تلك الموهبة الفطرية الموجودة من خلال التجارب الفنية، من خلال الاطلاع الواسع على مأثور الأدب والنقد. وكونه يتعمد على الأصول الفنية الموضوعية الممثلة في القيم الشعورية والتعبيرية، فإن ذلك يتطلب إحاطة تامة بتلك الأصول، من خلال منهج فني يعتمد على عدة معايير أو مقاييس موضوعة، إذا لابد له أن يتعرف ويحيط إحاطة تامة بتلك المقاييس، أو الأصول.

ولابد أن يكون عنده صدر رحب، يكون فيه فسحة تسمح له بتملي ألوان التجارب الشعورية، كما يتطلب وجود خبرة لغوية وفنية، وموهبة خاصة في التعامل مع النص، واستعداد جديد لتقبل الأنماط الجديدة. عندما يسلك الباحث المنهج الفني، فإنه يعتمد على الأصول الفنية للعمل الأدبي، يدرسها دراسة تحليلية جيدة، معتمدا على الملاحظة الدقيقة، والاستقصاء التام، فيدرس العاطفة، ويكشف عن طبيعتها، وقوتها، وصدقها، يقف أمام الصورة الفنية، فيوضح بناءها الفني، ومدى التواؤم بينها وبين العاطفة، ودلالة هذه الصورة على نفسية الأديب، ثم يتناول الأسلوب، وما يتألف منه من ألفاظ، وتراكيب، وإيقاع، ودلالة ذلك كله الدلالة الذاتية، والدلالة الموضوعية، والدلالة البيئية، من خلال ما تحمله من إيحاءات، الصورة لها إيحاء، واللفظة لها إيحاء، والإيقاع له إيحاء، قد يكون الإيقاع له إيحاء ذاتي، وقد يكون له إيحاء موضوعي يتصل بالموضوع نفسه، قد يكون الإيحاء بيئي، وكذا اللفظ، وكل الصور. كما يكشف أيضا عن الانسجام بين العاطفة والأسلوب، ويتناول الأفكار والمعاني، فيوضح دقتها، وعمقها، ومناسبتها للموضوع، إلى آخر هذه الأشياء التي لابد للباحث على منهج فني أن يتعامل معها ويتناولها. من خلال تناوله لهذه العناصر يمكنه أن يكشف عن البيئة، وعن الجانب النفسي لدى المبدع، كما يمكنه أن يكشف عن القيم الجمالية الموجودة في العمل الأدبي، بمعنى: أنه يمكنه من خلال ذلك الجمع بين عدة مناهج في وقت واحد، وقد ولد المنهج الفني، ونشأ في ظل الأدب العربي، المنهج الفني الذي يمكننا إلى التوصل إلى منهج متكامل نشأ في بيئة عربية خاصة، فقد فطن علماؤنا الأجلاء في مراحل مبكرة من

التأليف إلى قيمة ذلك المنهج، واستخدموه في مؤلفاتهم، وتعاملوا مع الإبداع الأدبي على أساسه. بدأ هذا المنهج فطريًّا معتمدًا على التأثر الذاتي للمؤلف، ثم قطع شوطًا طويلًا فيما بعد، وتعدى مرحلة الطفولة إلى مرحلة أعمق، وأكثر تحليلا، وتعليلا، وتأصيلا لقواعده بفضل مجموعة من العلماء الأجلاء، كابن سلام الجمحي، وابن قتيبة، والآمدي، والقاضي الجرجاني، وأبي هلال العسكري، وعبد القاهر الجرجاني، وغير هؤلاء من علماء أجلاء ساهموا في وضع الأصول الفنية لهذا المنهج. ثم جاء العصر الحديث، وحدث التفاعل بين الشرق والغرب، وانتشرت الثقافة الأوربية، وأقبل الدارسون والباحثون على تلك الثقافة، وما أنتجه الغرب في ميدان الدراسات الأدبية من نظريات؛ فتأثروا بها تأثرا واضحًا كما سبق، وحالوا أن يقننوا لأدبنا العربي في ظل تلك النظريات الغربية، وعلى إثر ذلك -نتيجة لهذا وفي ظل هذه البيئة- تقدمت الدراسات الأدبية تقدما ملحوظًا، وبدأ العلماء يؤصلون للقضايا النقدية الكبرى في كتبهم، كقضية الوحدة العضوية، والصدق الفني، والصورة الخيالية، واتجه علماؤنا في العصر الحديث نحو تفسير النص الأدبي، وتحليله تحليلًا أسلوبيًّا يكشف عن طبيعة التراكيب، ويبرز الدلالات الإيحائية وغيرها. وظهرت دراسات عدة في هذا المجال، كما تناولوا الصورة الأدبية من شتى جوانبها، فبينوا أركانها، وطريقة بنائها، ودلالتها على شخصية صاحبها، والتلاؤم بين أجزائها، واستخرجت كوامن أنفس المبدعين، وكشفت لنا عن ملامح البيئة والعصر الذي أبدعت فيه.

المنهج الفني هو أقرب المناهج إلى طبيعة الفني الأدبي؛ لأنه يتعامل مع العناصر الفنية التي تشكل هذا العمل. إذا أردنا أن نبحث في أي فن من الفنون فلابد أن تكون المقاييس التي يعتمد عليها البحث تمثل عناصر مهمة في ذلك الفن؛ حتى يكون البحث مجديا، وتكون النتائج تتسم بالمصداقية. فالمنهج الفني يبحث في عناصر فنية هي الأسس التي يقوم عليها الفن الأدبي، كما أنه يكشف عن الخصائص الفنية والجمالية في العمل الأدبي. ومن ثم، فهو يسهم في تربية الذوق الفني وتكوينه وثقله لدى دراسي الأدب وباحثيه، وهذه قيمة أخرى من قيم المنهج الفني، نتوصل من خلاله إلى منهج متكامل، نتعرف على الجانب النفسي وعلى الجانب البيئي، وعلى الجانب الجمالي، كما أنه يفيد الباحث من ناحية أخرى في تربية وتنمية ذوقه الفني. ومع أن هذا المنهج هو أقرب المناهج وأصحها في مجال البحث الأدبي إلا أنه لا يخلو من المآخذ عندما يحيد الباحث عن الطريق المرسوم له، فقد أشرت إلى أن هذا المنهج يجمع بين الذاتية والموضوعية، فقد يعتمد الباحث على الأصول والقواعد المقررة فحسب، إذا حدث هذا من الباحث، فإنه يحول المنهج الفني إلى مجرد قالب جاف، وهذا يتنافى مع طبيعته؛ لأن القواعد التي يصلح تطبيقها على نص ما قد لا تصلح للتطبيق على نص آخر، فلابد أن يكون الباحث فطنًا يجمع بين الذاتية والموضوعية يعني: يكون لذوقه نصيب، ويكون للمقاييس الموضوعية نصيب لا يهمل التأثر الذاتي، ولا يهمل المقاييس الموضوعية؛ لأن الاعتماد الذوق الذاتي وحده قد يجره إلى الخطأ أحيانا، يعني: لو أن الباحث اعتمد على تذوقه للأعمال الأدبية، ولم يسترشد، أو يأخذ بالمعايير الموضوعة، فإن ذلك يجعله يدور في فلك ضيق عندما لا يعدو المشاهير من الأدباء؛ لأن ذوقه قد لا يستجيد أعمالا لغير هؤلاء المشاهير، ويتجاهل غيرهم ممن هم أقل شهرة، كما

أنه يخشى من سيطرة الهوى على الباحث؛ فيؤثر ذلك في حكمه عندما يعتمد على ذوقه الفني فحسب. صحيح، الاعتماد على الذوق الفني أحيانا يجر الإنسان إلى الوقوع في الهوى. هذا عرض سريع للمنهج الفني، المنهج الذي يمكننا أو نتمكن من خلاله إلى تحقيق ما يسمى: بالمنهج المتكامل، المنهج الوحيد الذي يمكن أن نصل من خلاله إلى عدة مناهج، كالمنهج التاريخي، والمنهج النفسي، والجمالي، كيف نطبق هذا؟ سأقدم لك نموذجين تطبيقيين يوضحان إمكانية تحقيق المنهج المتكامل من خلال منهج فني واضح وسيتضح لك أنني سأتوصل إلى نتائج تتصل بالمنهج النفسي، أو التاريخي، أو الجمالي، من خلال تعاملي مع النص الإبداعي بمقاييس فنية بحتة. النموذج الأول: عبارة عن أبيات من لامية كعب بن زهير، وهي اللامية المشهورة ب"بانت سعاد فقلبي اليوم متبول" يقول كعب في هذه اللامية: أُنبِئتُ أن رَسُولَ اللهِ أَوْعَدنِي ... والعفو عند رسولِ الله مأمولُ مهلًا هداكَ الذي أعطاكَ نافلةَ ال ... قرآنِ فيها مواعِيظ وتفصِيلُ لا تأخذنّي بأقوالِ الوشاةِ ولمْ ... أذنبْ وإن كثرتْ في الأقاويلُ إن الرّسولَ لنور يستضاءُ بهِ ... مهندٌ من سيوفِ الله مسلولُ تأمل جيدًا معي هذه الأبيات؛ ترى أنها تدور حول فكرة واحدة، الفكرة هي: اعتذار كعب بن زهير لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومدحه له. هذه هي الفكرة الجزئية التي تدور، أو تعبر عنها هذه الأبيات. من خلال تحليل هذه الأبيات تحليلًا فنيًّا بالنظر في صياغتها، والعناصر الفنية المشكلة لها، وإدراك ما وراءها من دلالات متنوعة، من خلال ذلك كله يمكننا التوصل إلى منهج متكامل.

تأمل الفعل "أنبئت" مادة وصياغة، تجد أن هذا الفعل يكشف لك عن جوانب نفسية في الأديب، كما أنه يصور طبيعة المجتمع الذي كان يعيش فيه كعب بن زهير، فمن حيث المادة: اختيار الفعل "أنبأ" دون أخبر يدل على عظم وقع الخبر على نفسه النبأ هو الخبر العظيم، فعندما استخدم الفعل أنبأ يدل على عظم وقع الخبر على نفسه، وأنه بات مغتمًّا عند سماعه نبأ إهدار دمه، وهذه حقيقة لو أنك قرأت جو النص والظروف التي ألمت بكعب بن زهير عندما سمع نبأ إهدار دمه لتأكد لك هذا جيدا. هذا جانب نفسي كشف عنه وجود هذا الفعل بهذه المادة أنبأ دون أخبر، فلو تأملت الصياغة؛ لرأيت أنه ورد بصيغة المبني للمجهول "أنبئت"؛ مما يدل على انتشار الخبر بين الناس، وأنه أصبح من الصعب تحديد مخبر بعينه، الخبر يدور على ألسنة الناس انتشر بحيث لا يمكنه تحديد شخص بعينه، هذه دلالة بيئية علمناها من خلال صيغة وردت لفعل من الأفعال. المنهج الذي يكشف عن وقع الخبر على النفس هو المنهج النفسي، والمنهج الذي يعرف حال المجتمع وهل الخبر ذاع أم لم يذع؟ موقفه منه بعد سماع النبأ، وكل هذا منهج تاريخي، ولكننا كما رأيت توصلنا إليهما من خلال منهج فني، من خلال النظر والتأمل في الصياغة، والكشف عما وراءها من دلالات إيحائية. ومن خلال المنهج الفني أيضا يمكننا معرفة الناحية العقيدة للشاعر، وتلك مهمة المنهج التاريخي معرفة العقيدة، لكن بإمكاننا أن نتعرف عليها من منهج فني. تأمل معي قول الشاعر: "رسول الله" تجدها قد تكررت في البيت الأول مرتين، مع إمكان الإتيان بالضمير مكانها "أنبئت أن رسول الله أوعدني والعفو عند رسول الله مأمول" كان بإمكانه أن يقول: "والعفو عنده مأمول"، ولكنه آثر أن

يكرر لفظة "رسول الله" -صلى الله عليه وسلم- مرتين، مع إمكان أن يأتي بها ضميرًا، ثم أعيدت كلمة رسول في البيت الرابع مرة ثانية "إن الرسول لنور يستضاء به" لم يكن كعب لينطق بهذه الكلمة وهو على كفره؛ لأن مشكلة هؤلاء القوم هي الاعتراف برسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- كما حكى القرآن الكريم عنهم، فتكرار الكلمة هنا يدل على اعتراف كعب برسالته -صلى الله عليه وسلم- وهذا يعني إيمانه بما جاء به -صلى الله عليه وسلم- ويؤكد هذا ورود بعض العبارات في سياق هذه القصيدة، عبارات لا تصدر إلا عن قلب مؤمن بالقضاء والقدر. كقوله مثلًا: فكل ما قدر الرحمن مفعول وقوله: كلُّ ابنِ أنثَى وإنْ طالتْ سلامتهُ يومًا على آلةٍ حدباءَ محمولُ المنهج الذي نتعرف من خلاله على عقيدة الشاعر وأثرها في نفسه هو المنهج التاريخي، لكن تعرفنا عليه هنا من خلال منهج فني واضح لديك، خلال استخدامه لألفاظ بعينها، وتكشف هذه الاستخدامات عن عقيدة الشاعر الواضحة. ثم تأمل معي مجيء العفو في البيت الأول بعد الفعل "أوعد"، انظر "والعفو عن رسول الله" الفعل الذي قبلها أوعدني، مجيء العفو في البيت الأول بعد الفعل أوعد التي تستخدم في الشر، هناك فرق بين وعد وأوعد، أوعد تستخدم في الشر، وعد في الخير، مجيء العفو بعد أوعد؛ يدل على مقدار الأمل الذي كان يراود كعب، وهو في طريقه لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-. أوعد: يعني: هناك شر كبير ينتظره -إهدار دمه- ولكن رغم كلمة العفو هنا تفصح لك عن مدى الأمل الذي كان يراود الشاعر، وهو يمضي في طريقه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم.

هذا جانب نفسي تعرفنا عليه من خلال التأمل في لفظة وردت بطريقة معينة، وفي مكان معين، وتمضي الأبيات متخطية حال المبدع إلى المتلقي، وفي نفس المتلقي أثر العمل الأدبي على المتلقي أو على نفس المتلقي. تضمي الأبيات متخطية حال المبدع إلى المتلقي حين حاول الشاعر استمالة قلب النبي -صلى الله عليه وسلم-، والتأثير في نفسه؛ ليظفر بما يريد من عفوه -صلى الله عليه وسلم-. نريد أن نكشف عن هذه الاستمالة، وهل تمكن الشاعر من التأثير في نفس النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي يمثل المتلقي في هذا الموقف؟ هل تمكن كعب من الوصول إلى قلب النبي -صلى الله عليه وسلم- والتأثير فيه حتى يظفر بما يريده من عفو؟ كيف نكشف عن هذا؟ نكشف عن هذا الآن من خلال منهج فني، عندما نحلل البيتين الثاني والثالث تحليلًا فنيًا دقيقًا نتأكد، أو يتبين لنا أن الشاعر قد نجح فعلا في استمالة قلب النبي -صلى الله عليه وسلم-، واستطاع أن يؤثر في نفسه بعدما وضح له حقيقة الموقف، وأتى بالحجة الدامغة، كيف ذلك؟ لاحظ أسلوب الدعاء: "هداك الذي أعطاك نافلة القرآن": أسلوب دعاء المقصود منه التأثير في نفس المتلقي، ثم محاولة إثبات براءته بقوله: "ولم أذنب" وهذه حجة يكشف عن حال المدعى عليه. لم أذنب: لم أرتكب ذنبًا أستحق عليه العقاب. تكشف لنا هذه العبارة أيضا عن القلق الذي كان يعتري قلب كعب آنذاك، وهو يقف أمام رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا يملك إلا التوسل، والتذلل. تأمل ذلك الخضوع، ذلك التذلل: "هداك الذي أعطاك نافلة القرآن" دعاء محاولًا أن يرقق قلب النبي -صلى الله عليه وسلم-. ولو تأملت الأسلوب في البيتين الثاني والثالث، وأدركت ما بينهما من فروق؛ لاتضح لك، أو لتكشفت لك نفس الشاعر. فالبيت الثاني فيه تذلل وخضوع "مهلا هداك الذي"، وهذا يناسب الاستمالة. ومن ثم، جاء الإيقاع متسمًا بالهدوء، يوظف الإيقاع أيضا، جاء الإيقاع متسما

بالهدوء والامتداد، وكأني بالشاعر في هذا البيت قد أوشك قلبه أن ينخلع عنه من شدة خوفه، ولكن بعدما أحس بعلامات الرضا في وجه الرسول -صلى الله عليه وسلم- بدأ صوته يعلو شيئًا فشيئًا، وتطمئن نفسه، ويستجمع قواه للدفاع عن نفسه قائلًا: "لا تأخذني بأقوال الوشاة"، تأمل، الإيقاع مختلف تمامًا "مهلا هداك لم أذنب لا تأخذني بأقوال الوشاة" اطمئنان منحه الثقة، فقدم مطلبه مشفوعًا بالحجة القوية. إنه يطلب من الرسول -صلى الله عليه وسلم- ألا يؤاخذه، والدليل على عدم أحقيته للعقاب من وجهة نظره أنه لم يذنب، وأما ما قيل عنه ونسب إليه قوله: فإنما هو من فعل الوشاة، ولا يعدو كونه مجرد أرجايف لا صحة لها. ثم تأمل معي البيت الرابع، ولاحظ أسلوب التوكيد "إن، اللام": "إن الرسول لنور" انظر ما قيمة هذا هذا التأكيد، أو هذا الأسلوب ينفي زعم من زعم أن خوف كعب كان سبب ذهابه كعب لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذا زعم غير صحيح بدليل: "إن الرسول" ينفي هذا التأكيد زعم من زعم خوف كعب كان سبب ذهابه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإن صح هذا الزعم، فلماذا لم يذهب إليه كعب فور سماعه نبأ إهدار دمه؟ وقد ملأ الخوف قلبه، وأخبره أخوه أنه لن يفلت من العقاب، لماذا لم يبادر كعب بذهابه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين ذاك؟ نحن لا ننكر وجود الخوف، وكعب صرح بهذا في نفس القصيدة، لكن الإيمان الذي مس شغاف قلبه هو الذي ساقه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وانطلق به إليه. والدليل على ذلك: هذا التأكيد "إن الرسول" كلمة "الرسول ونور" يتفق مع ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم-، أرأيت كيف يمكننا استكشاف عوالم النفس، وما يموج فيها من مشاعر وأحاسيس من خلال المنهج الفني الذي ينهض بتحليل العمل الأدبي تحليلًا فنيًّا. اقرأ معي هذا البيت:

إن الرّسولَ لنور يستضاءُ بهِ ... مهندٌ من سيوفِ الله مسلولُ وتأمله جيدا تأمل القيد "يستضاء به" الذي أتى به الشاعر في سياق وصفه لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالنور، تجد هذا الوصف يكشف عن طبيعة البيئة التي بعث الله فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يستضاء به الفعل يكشف عن البيئة التي بعث فيها -صلى الله عليه وسلم-، كما يكشف الدور الذي قام به -صلى الله عليه وسلم- في هذه البيئة، فالإضاءة تسبقها ظلمة، وتلك كانت حال البيئة الجاهلية قبل أن يبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما صورها القرآن الكريم، حيث يقول عن رسوله -صلى الله عليه وسلم-: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (المائدة: 16) السر في استخدام الفعل المضارع يستضاء؛ للدلالة على عالمية الرسالة الإسلامية واستمرارها، وأن الغاية منها إنقاذ البشرية من التردي في تلك الظلمات. الشطر الثاني من هذا البيت نجد فيه عدة صفات لشخصية الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ولولا الترتيب الفني للعبارة ما كان لنا أن نفمهما إطلاقا، فقد شبه الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالسيف في قوله مهند، وهذا يفيد إثبات القوة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولكن القوة إذا أطلقت لم تكن مأمونة العواقب، وكان كعب ذكيًّا جدًّا عندما قال: من سيوف الله، فأضاف السيف إلى الله على سبيل التشريف والتأييد أولا، ثم يبين أن تلك القوة كان موجهة لنصرة دين الله -سبحانه وتعالى-، وإظهار دينه، ولم تستخدم فيما حرم الله. وكلمة "مسلول" تكشف عن شجاعة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأنه كان على أهبة الاستعداد لنصرة دين الله في أي لحظة، وأنه -صلى الله عليه وسلم- قضى حياته في جهاد مستمر لم ينقطع شاهرًا سيفه مستعدًا.

هكذا يمكننا معرفة الجانب النفسي للأديب والمتلقي، وتتكشف لنا البيئة وأحوال المجتمع، ونحدد مواطن الجمال الفني من خلال تحليل النص تحليلًا فنيا، وهذا هو المنهج المتكامل. نبدأ بالتعامل الفني مع العنصر، نتعامل مع اللفظة، نتعامل مع الصورة، نتعامل مع أي عنصر من العناصر الفنية الموجودة في النص، ثم نصل من خلاله إلى شيء يتعلق بالمبدع، أو المتلقي، أو البيئة أو جانب من الجوانب الخارجة عن هذا الإطار الفني. هذا هو النموذج الأول سأعرض عليك نموذجا آخر لشاعر من شعراء العصر الحديث، وهو الشاعر أحمد شوقي، والأبيات من قصيدته السينية المشهورة التي قالها وهو في منفاه بالأندلس، وعارض بها سينية البحتري التي وصف فيها إيوان كسرى، يقول شوقي في قصيدته: اِختِلافُ النَهارِ وَاللَيلِ يُنسي ... اُذكُرا لِيَ الصِبا وَأَيّامَ أُنسي وَصِفا لي مُلاوَةً مِن شَبابٍ ... صُوِّرَت مِن تَصَوُّراتٍ وَمَسِّ عصفتْ كالصَّبا اللعوبِ ومرّت ... سِنة حُلوة ولذَّة ُ خَلْس وسلا مصرَ: هل سلا القلبُ عنها ... أَو أَسا جُرحَه الزمان المؤسّي؟ كلما مرّت الليالي عليه ... رقَّ والعهدُ في الليالي تقسِّي مُستَطارٌ إذا البواخِرُ رنَّتْ ... أَولَ الليلِ، أَو عَوَتْ بعد جَرْس هذه الأبيات جزء من قصيدة جميلة طويلة، قالها شوقي في منفاه في الأندلس، يعارض بها قصيدة البحتري -كما قلت- التي مطلعها: صُنْتُ نَفْسِي عَمّا يُدَنّس نفسي، وَتَرَفّعتُ عن جَدا كلّ جِبْسِ فإذا أردنا أن نبحث هذا النص، ونصل من خلال بحثنا إلى حكم صحيح بالنسبة للنص والأديب والعصر، فما علينا إلى أن نلجأ إلى منهج متكامل، ولكن كيف نصل إلى المنهج المتكامل؟ من خلال منهج فني. نبدأ بتأمل الصياغة، ونقف أمام

الألفاظ، ونغوص في أعماق التراكيب، ونستخرج منها ما تحمله من دلالات مختلفة، وسنصل من خلال ذلك كله إلى طبيعة البيئة التي عاشها، ونتعرف على الحالة الشعورية التي شكلت نفس شوقي، ومدى تمكن الشاعرية من نفسه. فإذا نظرنا نظرة فاحصة في النص يمكننا الوصول إلى أعماق نفس الشاعر، وذاك غاية المنهج النفسي، نتأمل مثلًا قوله: "اذكرا لي، صفا لي، سنة حلوة، أسى جرحه، مسطتار، رق" هذه الألفاظ وغيرها تكشف لنا عن نفس منقسمة على نفسها حزينة؛ لبعدها عن وطنها، مضطربة بسبب هذا البعد، ولو أردت فهمًا أكثر لهذه النفس لأمكنك ذلك من خلال البيت الأول فحسب، لو تأملت حروف المد الكثيرة فيه، وهي تحتاج إلى نفس أطول من غيرها؛ لأن هذا يناسب أو يتفق، أو ينسجم مع حال الشاعر، نفس قد امتلأت بالأحاسيس والمشاعر، نفس قد أصيبت بالحزن والألم، تحتاج إلى إيقاع هادئ ممتد طويل؛ لكي يحمل كل هذه الأحاسيس والمشاعر، ولو أننا نظرنا نظرة سريعة، ووزانا فيها بين بيتين، بين مطلع القصيدتين، مطلع شوقي، ومطلع البحتري؛ لتأكد لنا ذلك جيدًا. الإيقاع عنصر فني موجود، لكن من خلال تعاملنا مع الإيقاع نتعرف على نفسية الشاعرين، يعني: نصل إلى ما يمكن أن يوصلنا إليه المنهج النفسي. تأمل الإيقاع عند شوقي: اِختِلافُ النَهارِ وَاللَيلِ يُنسي ... اُذكُرا لِيَ الصِبا وَأَيّامَ أُنسي تأمل حروف المد، الإيقاع ممتد طويل؛ مما يؤكد أن نفسية شوقي نفسية مكلومة حزينة ممتلئة مشاعر حزينة، يحتاج إلى بحر، وإيقاع طويل يكفي لاستيعاب هذه المشاعر والأحاسيس، لكن تأمل بيت البحتري: صُنْتُ نَفْسِي عَمّا يُدَنّس نفسي، وَتَرَفّعتُ عن جَدا كلّ جِبْسِ تلاحظ سرعة في الإيقاع، وهذا يدل على ما كان يعتريه من خوفًا، وهو في طريقه إلى إيوان كسرى هاربا بعد مقتل المتوكل الخليفة العباسي.

ملاحظات لمن يريد استخدام المنهج المتكامل، وبيان قيمته.

أما الإيقاع في بيت شوقي: شوقي رجل يجلس في قصره في الأندلس، يصل إليه راتبه في بداية كل شهر، كل ما عنده حزن، حنين، شوق، ألم فقط، لكن لم يكن يشعر بالاضطراب الذي ألم بالبحتري. هذا من خلال الإيقاع. التعرف على البيئة من خصائص المنهج التاريخي، لكن يمكننا أن نصل إليها من خلال منهج فني. نقف أمام كلمة واحدة كلمة "اختلاف"، أول كلمة في قصيدة شوقي "اختلاف النهار"، هذه اللفظة في الحقيقة تصور طبيعة البيئة المصرية آنذاك، وما ألم بها من تنازع في الأهواء، وتصارع في الآراء؛ أدى إلى اختلافهم، وكذا قوله: "مستطار إذا البواخر رنت" فإنه ينقلنا إلى البيئة الأندلسية، شوقي هنا يحدد المكان الذي حل به، كما ينقل لنا صورة البواخر، ومنظر السفن، وهي رابضة في الميناء، وأصوات الضجيج التي تطلقها، وغير ذلك من حركة مضطربة ينقلنا شوقي عندما يأتي بهذه الألفاظ، ينقلنا إلى البيئة الأندلسية تارة، وإلى البيئة المصرية تارة أخرى عندما نطق بكلمة اختلاف. وهكذا اتضحت لنا نفس الشاعر، وبيئته، ومواطن الجمال في النص، وكل ذلك لا يتم إلا من خلال منهج فني. ملاحظات لمن يريد استخدام المنهج المتكامل، وبيان قيمته ينبغي للباحث الأدبي إذا استخدم المنهج التكاملي أو المتكامل أن يستخدمه استخدامًا واعيًا، بحيث نلمسه في كل خطوة من خطواته، هذه ملاحظات مهمة أردت أن أنبه عليها الباحث الذي يود استخدام المنهج التكاملي ينبغي أن يستخدمه استخداما واعيا بحيث نلمسه في كل خطوة من خطوات بحثه، فلا يوزع المناهج على أبواب بحثه أو فصوله، بحيث نرى المنهج النفسي في فصل، والتاريخي في فصل، والجمالي في فصل ثم يسمي هذا منهجا متكاملا،

لا أنا قلت في البداية المنهج المتكامل: هو منهج تجتمع، تتداخل، تمتزج فيه مجموعة من المناهج، لكن الذي يستخدم منهجا في فصل، ثم منهجا آخر في فصل ثم منهجت ثالثا في فصل، هذه مناهج متجاورة المنهج المتكامل تتداخل فيه المناهج، وتمتزج. فإذا استخدم المنهج المتكامل بطريقة صحيحة، فإننا نراه في حديثه عن البيئة، وعن الأغراض، وعن الخصائص الفنية، كما نراه في كل قضية من قضايا البحث، ففي حديثه عن البيئة مثلًا: قد يقول باحث كيف أستخدم منهجًا فنيًّا في الحديث عن البيئة؟ بإمكاننا ذلك جيدا في حديث الباحث عن البيئة مثلًا يتحدث عنها من الناحية التاريخية، هذا منهج تاريخي، ثم يوضح الارتباط النفسي بينها وبين الشاعر، ويكشف عن انعكاسات البيئة على فنه مستدلا بنماذج، هذا منهج نفسي وفني في نفس الوقت. وعند الحديث عن الخصائص يكشف لنا عنها من الناحية الفنية أولا، ثم يوضح مدى دلالتها على نفس صاحبها، أو مبدعها، وعلى البيئة كما صنعنا في تحليل النموذجين السابقين. وهكذا ينبغي أن يكون البحث، لابد أن يتحول عقل الباحث إلى ما يشبه المرآة تعكس أضواء تلك المناهج، كما تعكس فكرة الفردية، والأصالة، والمدرسة الفنية، وأفكار البيئة، والعصر، ورواسب اللاشعور الفردي والجماعي، وعناصر الجمال الفني في التعبير وموسيقاه، كما تعكس انطباعات الباحث الممتعة، وصلة الأديب بالتراث الفني. وللمنهج المتكامل قيمة عظيمة، ينبغي أن نشير إليها في نهاية حديثنا، فالمنهج المتكامل له قيمة عظيمة، وفائدة كبيرة في مجال البحث الأدبي، تبدو قيمته في أنه

يتناول العمل الأدبي من جميع زواياه، ويتناول صاحبه كذلك، يعني: يكشف لنا عن المبدع وعن الإبداع، بجانب تناوله للبيئة والتاريخ، وفي نفس الوقت لا يغفل القيم الفنية الخالصة، ولا يهملها في غمار البحوث التاريخية، أو الدراسات النفسية. وهذه ميزة لا تحقق في أي من المناهج، كما يجعلنا نعيش في جو الأديب والأدب الخاصين، دون أن ننسى مع هذا أنه أحد مظاهر النشاط النفسي، وأحد مظاهر المجتمع التاريخية. المنهج المتكامل أيضا يجنب الباحث الوقوع في المآخذ التي تؤخذ على المناهج الأخرى، وقد أشرنا إليها، فهو لا يقيد الباحث أو الأديب ببيئة معينة، أو عصر معين، ولا يتجاهل المواهب الفردية الفذة والعبقريات الذاتية، كما أنه لا يهمل النص -كما رأيت- وإنما يصل إلى تلك النتائج من خلال النص ذاته. ومما يؤكد قيمة هذا المنهج، وأنه أصح المناهج في مجال البحث الأدبي: أن جميع كتب التراث التي شهد بقيمتها العلماء على مر العصور جاءت على هدي هذا المنهج، واحتلت مكانة خالدة، ولازلنا نتعلم منها إلى الآن. وقد ظهر هذا المنهج في طائفة كثيرة من الدراسات الحديثة -هو منهج مستخدم وعلى نطاق واسع دراسات حديثة كثيرة- رأيناها تقوم على منهج متكامل، بدأت بمناهج فردية سابقة، لكنها لا ترفض الإفادة من غيره من المناهج التي تتكامل بها جوانبها المختلفة، فمثلًا: كتاب (العصر الجاهلي) للدكتور شوقي ضيف، قام هذا الكتاب في أساسه على منهج تاريخي، لكنه استضاء بدارسات النفسيين والاجتماعيين. مثلًا: كتاب (مع المتنبي) للدكتور طه حسين، نرى المنهج

التاريخي هو المحور الأساسي الذي تدور حوله الدراسة، لكننا نراه قد أفاد من المنهج الجمالي، والمنهج النفسي. كتاب مثلًا: (الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي) للدكتور يوسف خليف، الذي قام على المنهج النفسي والجمالي بجانب المنهج الاجتماعي. وهكذا، توجد عندنا كثير من الدراسات التي قامت على أساس هذا المنهج، كما عند سيد قطب، زكي مبارك، العقاد، محمد مندور. ونرى هذا المنهج المتكامل في كثير من الدراسات الأسلوبية الحديثة التي اتجه فيها أصحابها اتجاهًا معتدلًا، أما التي يجنح فيها أصحابها نحو الغموض والفلسفة الغربية المعقدة، فإنها لا تندرج تحت هذا الصنف الدراسات المقبولة، ولا يخرج القارئ منها بشيء سوى الجهد الذي بذله، لكن أنا قلت: الدراسات الأسلوبية الحديثة التي اتجه أصحابها اتجاهًا معتدلًا. والسلام عليكم رحمة الله وبركاته.

الدرس: 11 خطوات البحث الأدبي (1).

الدرس: 11 خطوات البحث الأدبي (1).

مادة البحث الأدبي.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الحادي عشر (خطوات البحث الأدبي (1)) مادة البحث الأدبي الحمد لله الذي خلق الإنسان وعلمه البيان، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه؛ وبعد: فإن أي بحث علمي لا يحقق النتائج المرجوة منه إلا إذا قام على مجموعة من الأسس اصطلح عليها العلماء، والتزم بها الباحث أثناء بحثه. وقبل الحديث عن هذه الخطوات، أو تلك الأسس ينبغي أن نعرف أول ً ابمادة البحث الأدبي، ونكشف عن طبيعته؛ حتى يكون الباحث على دراية تامة بها قبل الانطلاق في بحثه، يعرف حدوده من أي ن يبدأ، وإلى متى سينتهي. مادة البحث الأدبي: هو الأدب بفرعيه: الشعر والنثر. والأدباء أيضًا على اختلاف اتجاهاتهم الفنية، وما يتفرع عن ذلك من قضايا مختلفة. الأدب كظاهرة فنية يختلف عن بقية الظواهر الطبيعية الموجودة في الحياة، فالظواهر الطبيعية يحللها العلم فيذهب ما فيها من خفاء، يتوصل العلم فيها إلى نتائج ثابتة، وتصبح بعد ذلك تلك الظواهر واضحة جلية، أما الأدب فتحوطه هالة من الغموض؛ لأنه يخاطب العواطف، ويصدر عنها. والعواطف بطبيعتها غامضة، لم يستطيع أن يسبر أغوارها محلل أو باحث، وما توصل إليه العلماء في هذا الشأن إنما هو ظواهر مادية للعواطف كالضحك مثلًا، والبكاء، واصفرار الوجه، إلى آخر هذه الظواهر. أما العواطف نفسها فلم يستطع أحد من العلماء أن يتوصل إلى نتائج ثابتة فيها، والأديب حين يتحدث لا يتحدث حديث الشخص العادي، وإنما يتحدث بالصورة واللفظة الموحية، وهو حديث يختلف باختلاف معانيه، والمواقف الداعية له، وطبيعة الأحاسيس لدى المبدع، والتي تنعكس على صفحة الطبيعية

فيراها في صورة غير التي نراها عليها، والأديب ينقل إلينا مشاعر وأفكارًا؛ فيؤثر فينا، ويجعلنا نشعر بالمتعة، ولا يطلب منه أن يؤدي حقائق عقلية أو ذهنية، وإنما يؤدي حالات ومواقف وجدانية. ومن ثم، نجد أن الحقائق تتبدل عنده بتبدل أحواله -أي أحواله الشعورية-، فإذا كان فرحًا هش للطبيعة، وتراءى له كل شيء فيها كأنه يداعبه ويضاحكه، وكل شيء حوله ضاحك، أما إذا كان حزينًا مهمومًا فيبدو كل شيء في الطبيعة من حوله كأنه يغاضبه، وكل عنصر من عناصر الطبيعية حوله عابث متجهم. الحقيقة أن الطبيعة لم تتبدل، وإنما تبدلت مشاعر الشاعر فتبدلت الحقائق في خياله وتصوره، وخرجت ألفاظه وصوره تحمل ذلك التبدل، وتعكس تلك المشاعر. ومن ثم لم يرتبط الأدب بحقيقة ما، ولا بصدق أو كذب، وليس معنى هذا أن الأدب لا يؤدي حقيقة البتة، فقد يؤدي بعض الحقائق، ولكن ليست هذه غايته، وإنما غايته إثارة المشاعر والأحاسيس، وفي ذات الوقت لا ينفصل عن حاجات مجتمعه، وإنما يمتزج به، ويكون جزءا مهمًا منه. والأديب عندما يصنع الأدب لا يصنعه لنفسه، وإنما يصنعه للجماعة التي يعايشها، لو كان الأديب يصنع الأدب لنفسه لاكتفى به، ولم يخرجه للناس؛ لأنه يشعر بما يقول؛ تعبير عن حسه وشعوره، فكان يكفيه أن يعبر عما في نفسه لنفسه، لكنه يخرجه للناس. ومن ثم، كان الأدب ذاتيًّا غيريًّا في نفس الوقت، ذاتي في صدوره عن صاحبه، وتعبيره عن أحاسيسه ومشاعره؛ فهو يعبر عن ذات تحمل كمًّا من المشاعر والأحاسيس، وغيري في تصويره لمشاعر الناس وأحاسيسهم، وكل ما يموج به مجتمعهم من قيم مختلفة. فالمتلقي حين يقرأ العمل

الأدبي إنما يقرأ نفسه وأنفس من حوله، فالقصيدة الواحدة عن الشاعر مثلًا تصبح أكثر من قصيدة عند المتلقين؛ فكل واحد منهم يراها بصورة غير التي يراها عليها غيره من المتلقين. ولذلك؛ يسري بعض الغموض في المعاني الأدبية؛ لأنها تصور المعاني العاطفية، والمعاني العاطفية يلفها الغموض بطبيعتها. ويتأكد لنا ذلك، مما يؤكد أن المعاني العاطفية يلفها الغموض، لا يمكن أن تنكشف لأحد إلا لصاحبها إن استطاع ذلك، يتأكد ذلك عند ترجمة الأعمال الأدبية، ونقلها إلى لغة غير لغتها. فإن المترجم لا يستطيع مهما كان بليغًا في لغته أن يؤدي بلغته ما تؤديه الألفاظ الأصلية للأديب وعباراته؛ لأنها تعبر عن معاني عاطفية غير محصورة، وما لا ينحصر لا يمكن تحديده. ولا تتوقف دلالة الألفاظ والتراكيب في الأعمال الأدبية عند دلالاتها اللغوية فحسب، ولكنها تحمل معانٍ عدة، بيانية، ومجازية، وإيحائية، وغيرها. فقد يضطر الأديب أثناء بحثه عن الأداء الدقيق لمعانيه الشعورية وغيرها -أقصد: المبدع- الفكرة تكون مختمرة في ذهنه، فيبحث لها عن اللفظ الذي يحملها، ويستطيع من خلاله أن ينقل هذا الفكر وذلك الشعور إلى المتلقي. أثناء بحثه عن الأداء الدقيق لمعانيه الشعورية وغيرها يضطر أن يسمي الأسماء بغير أسمائها، ويضع مدلولات جديدة لألفاظه من خلال التأكيد أحيانًا، أو الإيقاع الصوتي أحيانًا أخرى، هذه حقيقة نلحظها عند المبدعين. مهمة الباحث الأدبي: الكشف عن كل ذلك خلال بحثه، وبمقدار ما في العمل الأدبي من غموض يحيط به تكون صعوبة البحث، والسير فيه حتى النهاية. وهذه عملية ليست من السهولة بمكان، وإنما هو بناء متكامل، لا بد له من أسس. ولذلك؛ اصطلح العلماء على مجموعة من الأسس ينبغي للباحث أن يلتزمها

خطوات البحث العلمي: اختيار موضوع البحث.

بدقة؛ حتى يصل إلى نتائج دقيقة، وهذه الأسس هي بعبارة عن عدة خطوات نجملها، ثم نعود إليها بالتفصيل: أولًا: اختيار موضوع البحث. ثانيًا: رسم خطة مفصلة للبحث تحدد عناصره، وتوضح أبوابه، وفصوله، ومباحثه التي يتكون منها. ثالثًا: التعرف على المصادر، والمراجع التي يستعين بها الباحث. رابعًا: استقراء تلك المصادر والمراجع؛ لاستنباط المادة العلمية المتصلة ببحثه منها وجمعها وتدوينها. خامسًا: صياغة البحث، أي: إخراجه في صورته الأخيرة. هذه خطوات خمس يلتزمها الباحث بنفس الترتيب الذي ذكرته، لا يقدم خطوة على أخرى، ولا يؤخر خطوة عن مكانها الذي ينبغي أن تكون فيه؛ لأنها مترتبة على بعضها البعض كما سنرى الآن، وسوف نقف عند خطوة من هذه الخطوات وقفة توضيحية. خطوات البحث العلمي: اختيار موضوع البحث الخطوة الأولى من خطوات البحث العلمي هي اختيار موضوع البحث: في الحقيقة يمثل مشكلة من المشكلات التي تواجه المشتغلين بالبحوث العلمية في كل مكان، ليس في مجال الأدب فحسب، لكن في جميع مجالات البحث العلمي؛ لأن طبيعة البحث العلمي تقتضي الجدة والابتكار -كما أشرت إلى ذلك آنفًا، ونحن نتحدث عن مدلول كلمة بحث. البحث العلمي يقتضي

الجدة والابتكار، ولا يقبل التكرار؛ فالباحثون في حاجة من أجل هذا الابتكار وتلك الجدة إلى الإلمام التام بكل ما كتب حول الموضوع الذي سيدرسونه، ورصد آخر ما وصل إليه التطور العلمي في مجال من المجالات البحثية. لا يمكن لباحث جاد يعرف طبيعة البحث العلمي أن يقبل على البحث إلا إذا فعل ذلك، يرصد آخر ما وصل إليه التطور العلمي في مجال بحثه، ويستقرئ جميع الكتابات التي كتبت حول موضوعه، ويبدأ من حيث انتهى الباحثون قبله، يفعل الباحث ذلك؛ لكي يستطيع أن يدرس موضوعه، ولا يأتي تكرارًا لبحث آخر سبقه في مكان ما. فاختيار موضوع البحث من أصعب ما يواجه الباحث، فإذا وفق الباحث في اختيار موضوع تحققت فيه مقاييس الجودة، وناسب ثقافته، ولائم ميوله النفسية فإن ذلك يمثل نصف البحث. ومن ثم، ينبغي للباحث الفطن أن يحسن اختيار موضوعه، ويحدده تحديدًا دقيقًا، ويعرف أبعاد المشكلة التي سيعالجها قبل المضي في بحثه، قبل أن يكتب أو يقرأ سطرًا واحدًا عليه أن يحدد الموضوع تحديدًا دقيقًا، ويعرف أبعاد المشكلة التي يفترضها، والتي ينبغي أن يعالجها قبل المضي في بحثه. وتتوقف جودة الموضوع أو رداءته على فطنة الباحث من ناحية، وعمق ثقافته من ناحية أخرى، فكلما كان الباحث فطنًا ذا ثقافة واسعة ملمًا بالعلوم الأدبية والنقدية، وما يتصل بهما إلمامًا تامًا كان التوفيق حليفه في اختيار موضوع بحثه؛ لأن ثقافة الباحث تمكنه من إدراك جوانب النقص في مجال الدراسات الأدبية والنقدية التي هي مجال بحثه، أما فطنته فتجعله قادرًا على تمييز الموضوع الجيد من غيره. كما ينبغي أيضًا أن تتحقق ملكة الذوق لدى الباحث في الأدب، بمعنى: أن يكون عنده قدر من التذوق الفني، وأن يكون قادرًا على فهم النصوص وتحليلها؛

حتى يستطيع استنباط ما فيها من قيم فنية وجمالية وفكرية مختلفة، وأن يكون ملمًا بالحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية وغيرها؛ حتى يستطيع توجيه النص توجيهًا صحيحًا، وتحديد اتجاه الأديب تحديدًا دقيقًا ولا يجنح إلى التأويل والافتراض القائم على الظن، ولا بد أن يكون الباحث أيضًا ملمًّا بفنون الأدب وقضايا النقد، ومناهج البحث فيهما مدركًا لشتى الاتجاهات والمذاهب الأدبية والنقدية الحديثة؛ لأن ذلك يمكنه من وضع النص وصاحبه في المكان الصحيح. ولا شك في أن ذلك كله وغيره مما ذكرنا يؤثر في اختيار الموضوع، فلو كان هناك باحث لا يملك الاستعداد لتذوق الفن الأدبي فكيف يتعامل مع النص، لا بد أن يتعرض له، كيف يتعامل مع النص وهو ليس عنده قدر من التذوق الفني له؟ كيف يطبق المناهج البحثية التي أشرنا إليها سابقًا من خلال تعامله مع النص وهو لا يستطيع أن يتذوقه؟ كيف يصدر حكمًا على شيء لا يستطيع تذوق ما فيه من قيم جمالية وغيرها؟ هذا بالنسبة للتذوق الذي اشترطناه في الباحث. أما بالنسبة لإمامه بفنون الأدب، أو بالحياة الثقافية أو بالاتجاهات والمذاهب الأدبية في عصر ما، فكيف يتأتى لباحث غير ملم بفنون الأدب بالحياة الثقافية، أو بالاتجاهات والمذاهب الأدبية في عصر ما لمثل هذا الباحث أن يعالج مشكلة في فنون الأدب؟ أو يعالج قضية أدبية لها علاقة بالحياة الثقافية، أو يتحدث عن مذهب أدبي في عصر من العصور، لا يمكنه ذلك بحال من الأحوال. وبالتالي، لا يمكنه اختيار موضوع يتصل بهذه الجوانب. من أجل ذلك، اشترطنا هذه الشروط في الباحث الأدبي. وينبغي للباحث أن يختار موضوعه بنفسه عن طريق الاطلاع الواسع المدقق، والدراسة المتعمقة المتأنية، والوقوف على دراسات السابقين وبحوثهم. فكثيرًا ما يجد الباحث في القراءة ميادين متعددة، قد تكون بعيدة عن اهتماماته لكنها تساعده بطريقة ما في الاستبصار بموضعه الذي سيبحث فيه، ومن خلال القراءة والتقصي يعثر الباحث على مشكلة ما، أو قضية من القضايا، أو ظاهرة

من الظواهر الأدبية التي تثير اهتمامه فيسعى إلى تحديدها وحصرها؛ ليبدأ من حيث انتهى الباحثون الآخرون فيها. كل هذا يأتي عن طريق الاطلاع، والدراسة، والاستقصاء؛ فتحديد نقطة البداية مهم جدًّا، نقطة البداية هذه تسمى: بمرحلة التوثيق العلمي الذي يتم من خلاله الوقوع على الموضوع والاقتناع به، ويتم ذلك من خلال الاطلاع الواسع على كل ما كتب حول موضوع ما؛ إذ ليس من المعقول أن يقدم الباحث على موضوع من الموضوعات، أو قضية من القضايا الأدبية دون التعرف على ما كتب حولها، أو ما توصل إليه الباحثون الذين تناولوها بصورة مباشرة، أو غير مباشرة. هذا لا يمكن على الإطلاق أن يقبل، بل لا بد أن يقرأ الباحث كل ما كتب حول موضوعه، ويتعرف على ما توصل إليه الباحثون. إن التريث والصبر في اختيار موضوع البحث، واعتماد الباحث على نفسه في اختياره يزيد من مدى فهمه لمشكلته، ويسهل عليه المضي في بحثه بشكل جيد، ويمكنه من تحديد أهدافه، ووضع خطته، وصياغة فرضياته، ثم في النهاية التوصل إلى نتائج تتسم بالدقة والمصداقية. وقد ثبت بالتجربة أن الباحث الذي يختار موضوعه بنفسه، ويتعايش معه، وينشأ لون من الألفة بينهما يكون هذا الباحث أسرع إنجازًا، وأصدق حكما من الباحث الذي يأخذ موضوعًا معدًّا أي: جاهزًا يفرض عليه من قبل غيره كأساتذته، أو زملائه، أو أي أحد سواه. ومن صفات الباحث الجيد أيضًا: الاستقلالية في الفكر والرأي، واختيار الباحث موضوعه بنفسه منذ البداية يربي في نفسه تلك الاستقلالية التي نشهدها في الباحثين الجادين. أما إذا اعتمد على غيره فإنه يفقد هذه الصفة المهمة، ويظل عالة على غيره دائمًا، وقد شبه الدكتور شوقي ضيف -يرحمه الله- تلك الفئة

من الباحثين الذين يعتمدون على غيرهم شبههم تشبيهًا له دلالات شبههم بالنباتات التي تتسلق الأشجار الشامخة، فقال: ومن أخطر الأشياء أن يبدأ الباحث حياته عالة على غيره من الباحثين الذين سبقوه؛ فإن ذلك يصبح خاصة من خواص بحوثه، ولا يستطيع فيما بعد أن يتحول باحثًا بالمعنى الدقيق لكلمة باحث، فوجوده دائمًا تابع لوجود غيره كوجود النباتات المتسلقة على الأشجار الشامخة، هذه حقيقة، وهذا واقع، فكم من باحث كان بهذا الشكل رأيناه بعد أن ينتهي من بحثه لكن بعدما ينتهي من بحثه يتوقف، وإن تقدم خطوة واحدة، فإنه يكون أيضًا عالة على غيره فيها، ولا يمكن بحال من الأحوال أن يبتكر، أو يجدد، أو يأتي بشيء جديد في مجاله. ماذا يفعل الباحث إن عجز عن اختيار موضوعه؟ إن عجز الباحث عن اختيار موضوعه بنفسه، فإن ذلك دليل ضعفه أولًا، وبرهان على كسل فكره، وإشارة إلى أنه يستمرئ الاعتماد على غيره وهذا يضره، ولا يفيده في مستقبل أيامه، فماذا يفعل؟ إنه قرأ واستقصى، وعاد النظر في كتب الأدب التي تتصل بالشمول والعمق، واطلع على دوائر المعارف المختلفة، والمصادر القديمة وغير ذلك من الطرق التي يمكنه من خلاله استنباط مشكلة بحثية، يبحث فيها فعل كل هذا، لكنه لم يصل إلى موضوع ما، إذا عجز عن اختيار الموضوع، ولم يتمكن من ذلك فلا مانع من الاستعانة بغيره كالأساتذة المتخصصين أو غيرهم من الباحثين؛ لأن نظرتهم تكون أكثر إحاطة، وأشد عمقًا، والاستعانة بالغير في اختيار الموضوع لها حدود ينبغي أن نفهما فهمًا جيدًا، ويجب ألا يتجاوزها الباحث، وإلا كانت آثارها سلبية. فينبغي ألا تخرج هذه الاستعانة عن مجرد الإضاءة أو الإرشاد، الأستاذ يضيء لك الطريق، يرشدك، وفي النهاية تكون أنت الذي اخترت موضوعك.

فأحيانًا يأتي أحد الباحثين، ويطلب منا أن نختار له موضوعًا لبحثه، وهذا ما يسمى بالموضوع الجاهز، فهب أن الأستاذ قال له: اكتب مثلًا عن الخوف في شعر المتنبي، وكان ذلك الباحث غير ملم بفن المتنبي وشعره، وحياته، وسماته الشخصية والخلقية. نفرض أن الباحث لم يكن يعلم شيئًا عن ذلك الشعر إطلاقًا، أو لا يقبل بنفس راضية عن الشعر العباسي مثلًا في نفسه شيء من الشعر العباسي، والمتنبي فحل من فحول شعراء العباسيين. هل يمكن أن يتقدم مثل ذلك الباحث في بحثه خطوة واحدة؟ لا يمكن، وإن تقدم فلن يصل إلى نتائج صحيحة. الطريقة المثلى في مثل هذا الموقف لا أرفض أن أساعدهم، ولكن يأتيني الباحث، ويطلب مني مساعدته في اختيار الموضوع، فأسأله إلى أي العصور تميل يا بني، أو في أي عصر تقرأ أنت الآن؟ فيقول مثلًا: أقرأ في الشعر العباسي. فأقول له: هل قرأت المتنبي؟ فيقول: نعم أو لا. فأطلب منه أن يقرأ حياة المتنبي وفنه بتأن، وأقول له: وأنت تقرأ حاول اكتشاف شخصية ملامح ذلك الرجل من خلال فنه الشعري، ثم أطلب منه تسجيل أبرز الصفات النفسية ظهورًا في شعره. أقول له: وأنت تقرأ حاول أن تقع على بعض الملامح النفسية لهذا الشاعر، فإذا كان الباحث نجيبًا فطنًا وقع على الموضوع بنفسه، الموضوع الذي هو ظاهرة الخوف في شعر المتنبي؛ لأنها واضحة، وإن لم يستطيع ذلك نفرض أنه قرأ المتبني، ولم يصل إلى تلك الظاهرة نفرض أرشده إلى أول الخيط فأقول له: يا بني إن المتنبي كان يتصف بالإباء والشجاعة أليس كذلك؟ فيجيب: بلى؛ لأن هذه ظاهرة لا تنكر. فأقول له: ألا ترى في شعره ما يخالف هذه الظاهرة؟ وبذلك أكون قد حصرت دائرة الإطلاع في جانب واحد، وهو جانب الشجاعة ونقيضها فيذهب الباحث مرة أخرى إلى ديوان المتنبي ويعيد القراءة من جديد، يعيد الباحث النظر من جديد هذه قضية

تناقضية جانب الشجاعة ونقيضها، ولا بد أنه سيهتدي للموضوع بنفسه في النهاية، إن أجاد القراءة وأحسن التأمل. أما إن لم يجد القراءة ولم يحسن التأمل فلا ينبغي أن يكون باحثًا. هكذا ينبغي أن يكون دور المرشد، وهذا نموذج لما يمكن أن يحدث، وينبغي للطالب أن يقف عند هذا الحدود، الإرشاد، والتوجيه نحو القراءة حول قضية عامة، وتركه يسجل ملاحظاته، وما يظهر له من موضوعات. لدينا كثير من الطرق التي يمكن أن نوجه الباحث ونفيده من خلالها، وندفعه للقراءة، والتعرف على موضوعه بنفسه. هناك طرق كثيرة جدًا لكن في النهاية لا ينبغي أن يفرض موضوع على الباحث فرضًا، وهذا ما نسميه في مجال البحث العلمي: بالموضوع الجاهز؛ لأن الباحث لا يقبل عليه بنفس راضية، وإن أقبل فإنه لا يعرف حدوده؛ لأنه لم يختر منذ البداية. موضوعات البحث الأدبي ما هي؟ هل البحث الأدبي له موضوعات يصلح فيها وموضوعات أخرى لا؟ لا، إطلاقًا تتنوع موضوعات البحث الأدبي تنوعًا كبيرًا، فقد يكون الموضوع دراسة شخصية أدبية دراسة عامة، وقد يكون الموضوع دراسة جانب من جوانب هذه الشخصية، وقد يكون الموضوع موضوعًا من موضوعات الأدب أو قضية من قضاياه، وقد يكون اتجاهًا نقديا، أو تأريخًا للأدب في فترة زمنية محددة أو إقليم من الأقاليم مثلًا، وقد يكون الموضوع موازنة بين نصين أو شخصيتين أو فنين إلى آخر هذه الموضوعات التي لا حصر لها، وفي النهاية هي كلها مستمدة من أين؟ من الأدب أو الأدباء أنفسهم لا تخرج عن هذين الإطارين.

هناك أمور أيها الباحث ينبغي أن تراعى عند اختيار موضوع البحث؛ حتى يكون الموضوع صالحًا للبحث، وحتى تتمكن من إنجازه والوصول إلى نتائج دقيقة. أهم هذه الأمور: أولًا: أن يكون الموضوع في مقدور الباحث واستطاعته، وأن يوافق ميوله واستعداده الفكري والثقافي والمادي والزماني، هذه أمور مهمة قد يظنها بعض الباحثين أنها أشياء ثانوية، لكنها من الأهمية بمكان لا بد أن تراعي الميول النفسية، والاستعداد الفكري، والثقافي والمادي والزمني؛ حتى تستطيع النهوض ببحثك، فلا يصح أن يختار الباحث موضوعًا في النقد الأدبي مثلًا، وهو لا يميل إلى الدراسات النقدية، ولا يجيد التعامل مع النصوص الأدبية. الباحث الذي يتناول قضية نقدية هو ناقد في المقام الأول، فكيف يكون ناقدًا وهو لا يستطيع التعامل مع النص الأدبي، ولا يجيد ذلك، كيف يكون باحثًا نقديا؟ من الممكن أن يختار الباحث موضوعًا في النثر مثلًا وهو لم يقرأ عن النثر الفني ولم يعرف خصائصه ولكن ميوله تميل إلى الشعر أو النقد مثلًا إنه إذا اختار موضوعًا بهذا الشكل فإنه لا ينجز فيه، ولن يتقدم خطوة واحدة، أو يختار موضوعًا في الأدب المقارن مثلًا، وهو لا يجيد إحدى اللغات الأجنبية كيف ينجز بحثه؟ لا أعتقد ذلك على الإطلاق. كما ينبغي أن يراعي الوقت المحدد لإنجاز بحثه، هناك بحوث يقدمها طلاب الإجازة العالية وقتها لا يتجاوز عدة أشهر فلا تصلح لها إلا الموضوعات القصيرة غير المتشعبة، يعني: يكفي أن يكتب الطالب عن قصيدة من القصائد أو عن فن شعري لدى شاعر من الشعراء.

هناك بحوث أخرى يكتبها طلاب الدراسات العليا في المرحلة التمهيدية هم أكثر نضجًا، ولديهم من الوقت فترة زمنية أطول من وقت طلاب الإجازة العالية. فلا مانع من أن نتوسع في الموضوع بعض الشيء مع التعمق أكثر في اختيار الفكرة. هناك بحوث تقدم لنيل درجتي الماجستير والدكتوراه، الباحث حينئذ يكون قد اكتمل نضجه، وتكونت لديه ملكات البحث العلمي، وله مطلق الحرية في الكتابة، الوقت أمامه متسع. هكذا يختار من الموضوعات ما يتفق مع الوقت، يختار الموضوع ويحدد أبعاده في إطار هذه الفترة الزمنية الممتدة. نرى أن لكل بحثًا وقت محدد تفرضه طبيعة البحث وظروف الباحث، ولا بد من وضع ذلك في الاعتبار عند اختيار الموضوع، لا بد نحدد الوقت سأنجز بحثي في سنة، سنتين، سنة ونصف، ويختار الموضوع الذي يتناسب مع هذا الوقت. وهناك بحوث تتطلب من الباحث الانتقال من مكان لمكان آخر، ومن بلد إلى بلد آخر كأن يقوم الباحث بدراسة ميدانية مثلًا حول ظاهرة فنية في بيئة معينة، وقد يختار موضوع لا تتوافر مصادره إلا في بلد أجنبي، ولا يمكنه الحصول عليها إلا بالانتقال إلى هذا البلد، هذا يحتاج منه إلى جهد مادي ومعنوي، وأعباء نفسية وثقافية خاصة، قد لا يملكها ذلك الباحث، أو لا تتوفر لديه كل هذه الإمكانات. هل يصلح أن يأخذ بحثًا بهذا الشكل؟ لا، لابد أن يراعي هذا عند اختيار الموضوع؛ حتى لا يتعثر، لا يأتي في منتصف الطريق ويقف، ويكون الوقت قد فلت من بين يديه دون أن يصل إلى نتيجة، أو يتقدم خطوة واحدة. الأمر الثاني الذي ينبغي مراعاته عند اختيار الموضوع: أن يكون الموضوع مفيدًا نافعًا يستحق ما سيبذل فيه الباحث من جهد، وما يلاقيه في سبيله من تعب ومشقة، ولا يتحقق ذلك إلا إذا كان الموضوع المختار يضيف جديدًا إلى الحياة العلمية، الإفادة والنفع من أين نحتسبها، أو كيف نقيسها؟ لا بد أن يكون أمام الباحث قضية تضيف

هذه القضية جديدا إلى الحياة العلمية والأدبية، ولم يكن قد سبقه أحد إلى دراسته وأن تتحقق فيه الجدة والطرافة، الجدة والطرافة تشمل الابتكار والافتراض الصحيح، الشرح الغامض، إتمام الناقص، اختصار المبسوط دون إخلال بالمعنى، ثم ترتيب المادة العلمية ترتيبًا جيدًا وجديدًا. وعلى الباحث أن يتأكد من ذلك بنفسه فيقوم بمراجعة مكتبات الماجستير والدكتوراه على مستوى الأقسام العلمية المتناظرة، ولا يترك الأمر للإداريين كما يفعل بعض الباحثين، كما ينبغي ألا ينظر إلى التقاء العناوين دون تأمل المادة العلمية داخل البحث. كثير من الباحثين يذهب ويبحث عن عنوان يتفق مع عنوانه، فقد يختلف العنوان، ولكن الموضوع يدرس تحت عنوان آخر أو كجزئية أو كقضية ضمن قضايا عدة، والباحث لم يطلع على صلب الرسالة أو البحث لكنه طابق العناوين على العنوان الذي اختاره، وقال: إنه لم يكتب فيه شيء. هذا من الخطأ الواضح البين الذي إن دل فإنما يدل على كسل الباحث. الأمر الثالث الذي يجب مراعاته عند اختيار الموضوع: أن يتحرى الباحث الدقة في اختيار موضوعه، وأعني بذلك: تحديد الموضوع تحديدًا دقيقًا في شتى جوانبه فربما راق فن الوصف مثلًا بعض الباحثين في الشعر العربي، وأراد أن يكتب فيه بحثًا، وجعل عنوان بحثه الوصف في الشعر الجاهلي، عنوان جذاب فلا يصح هذا بحال من الأحوال؛ لأن الموضوع بهذا الشكل فيه اتساع وشمول، فالعربي لم يترك شيئًا وقعت عليه عيناه إلا وتناوله بالوصف، وصف الجبال، والوهاد، والحيوان، والنبات، والرعد، والبرق، والسحاب، والمطر، ولكل شاعر طريقة خاصة في هذا الفن فن الوصف، فوصف عنترة في الخيل مثلًا غير وصف أبي دؤاد الإيادي، ووصف زهير للحرب غير وصف النابغة مثلًا، وهكذا فماذا يكتب الباحث في هذا الموضوع، إنه صنع خرقًا لا يمكن رتقه عندما اختار

موضوعًا بهذه الصفة من الشمول والاتساع، ولا بد من التحديد حينئذ كأن يحصر الوصف مثلًا في شيء محدد، فيقول: وصف الليل أو وصف الخيل، أو وصف الرعد والبرق أو يقصره على شاعر واحد، فيقول: فن الوصف في شعر امرئ القيس، أو يتناول فن الوصف من خلال عدة قصائد مشهورة كالمعلقات، يقول: وصف كذا في المعلقات. والحقيقة، أننا نصادف بحوثًا كثيرة على هذه الشاكلة، ونرى أصحابها كالغرقى في يم غابت شواطئه، وكانت النتيجة أن جاءت تلك البحوث سطحية التناول والدرس، لا عمق فيها، اعتمد فيها صاحبها على مجرد الوصف، ولم يصل إلى نتائج دقيقة، ومثل هذه البحوث لا ترقى إلى مستوى البحث العلمي الجاد بحال من الأحوال. فانتبه لذلك جيدًا، واعلم أن السبب هو اختيار الموضوع غير الدقيق. وإذا كان الموضوع الذي اختاره الباحث شخصية أدبية موسوعية مشهورة فلا بد من تحديد جانب معين في تلك الشخصية، فعندما يتناول الباحث مثلًا: شخصية كشخصية زهير بن أبي سلمى، أو النابغة الذبياني، أو الجاحظ، أو المتنبي، أو شوقي، أو العقاد مثلًا، لا يصح أن يأتي الموضوع عامًا، فيقول: زهير، أو أدب زهير، أو أدب الجاحظ، أو نثر العقاد؛ لأن كل واحد من هؤلاء قد برع في اتجاه محدد، وأتى بدروب تعبيرية وتصويرية متنوعة في فنه، فإذا أراد أن يكتب الباحث عن هذه الشخصية، أو عن شخصية من هذه الشخصيات، فليحدد وليختر منذ البداية جانبًا أو اتجاهًا بارزًا لدى أي منهم، وينهض بدرسه فيقول مثلًا: الحكمة في شعر زهير، أو الصورة الفنية في شعر النابغة، أو أسلوب الحوار في أدب الجاحظ، كل هذا مقبول؛ إذ أن من شأن الباحث الفطن أن يثير قضايا جديدة

ويصل إلى نتائج حقيقية صادقة، ولا يتأتى له ذلك إلا إذا حصر نفسه وفكره في دائرة ضيقة يتأملها، ويغوص في أعماقها، ويستكشف ما غمض منها. ولا بد من مراعاة هذا الأمر أيضًا عند دراسة الإقليم بحيث لا يكن متسعًا؛ لأن اتساعه يوقع الباحث في تيه لا حدود له، وقد يكون الموضوع في حد ذاته يتصف بالعموم والاتساع، ولكنه يكتسب التحديد من قلة ورود الظاهرة. انتبه إلى ذلك الموضوع قد يكون موضوع متسعا في ظاهره لكن الظاهرة التي يريد الباحث غرسها في زمان ما أو مكان ما تكون ظاهرة نادرة فالموضوعات اتساع الزمن موجود، والمكان موجود لكن الظاهرة نادرة، نضرب لذلك مثلًا: نرى موضوع مثل الماء في الشعر الجاهلي، أو بكاء الأطلال في الشعر الحديث، هذا موضوع وهذا موضوع نلمح فيها اتساع الماء في الشعر الجاهلي الشعر الجاهلي كله أو الأطلال في الشعر الحديث الشعر الحديث كله؟ نعم، نلمح فيها اتساعًا من حيث الزمان والمكان، ولكن يحد من هذا الاتساع أن الظاهرة نفسها غير منتشرة في جميع البيئات، أو بين الشعراء جميعًا. ومن ثم، يسمح بالكتابة في مثل هذه الموضوعات. ويعتقد كثير من الباحثين أن اتساع الموضوع يفيده من حيث الحصول على المادة العلمية، كثير من الباحثين يعتقد هذا هذا اعتقاد خاطئ غير صحيح؛ لأن الغرض من البحث ليس مجرد جمع المادة العلمية وعرضها بطريقة ما، وإنما البحث العلمي الجاد يسعى وراء اكتشاف الحقيقة الغائبة، هذا هو عمل الباحث، عمل الباحث ليس جمع المادة، هو يجمع المادة، نعم، لكن يجمعها لا من أجل المادة نفسها، وإنما من أجل الوصول أو اكتشاف الحقيقة الغائبة المفترضة. ولا يتأتى ذلك إلا بالتعمق في الموضوع والإحاطة به من جميع جوانبه، ومعرفة

دقائقه، واتساع الموضوع يتنافى مع كل ذلك، ويحول الباحث إلى مجرد جماع لأراء غيره ليس إلا، وتختفي شخصيته تمامًا. والحقيقة، أنه كلما كان الموضوع ضيقًا محدودًا كلما كانت فرصة الباحث للتعمق في أغوار البحث أكبر، واكتشاف خفاياه أمكن، ونتائجه أصدق وأنفع. الأمر الرابع الذي ينبغي مراعاته عند اختيار موضوع البحث: التأكد من توفر المادة العلمية المتصلة بموضوع البحث: المادة العلمية المطلوب توافرها قد تكون صلب الباحث، أو الموضوع ذاته كأن يكون موضوع البحث تحقيقًا لمخطوط ما، أو دراسة لديوان من الدواوين، أو لقصيدة معينة، وقد تكون المادة العلمية عبارة عن دراسات دارت حول موضوع البحث، تتمثل هذه الدراسات في المصادر والمراجع المختلفة، وسواء كانت هذا أو ذاك، يعني: سواء كانت المادة العلمية هي صلب البحث، أو كانت هي الدراسات التي دارت حول الموضوع وموجودة في مختلف المصادر، لا بد أن يتأكد الباحث أنها متوفرة وفي إمكانه الحصول عليها، فأحيانًا نجد بعض الباحثين يختاروا ظاهرة محددة في شعر شاعر من الشعراء، ويبني تصوره حول الموضوع على أبيات متناثرة للشاعر في بعض المصادر. قرأ في كتاب (الأغاني) مثلًا بعض الأبيات، أو قرأ في كتاب (العقد الفريد) بعض الأبيات لشاعر من الشعراء، هذه الأبيات ركز المؤلف على ظاهرة فيها فلفتت نظره، وظن الباحث أنها تمثل ظاهرة في شعره، لكن أين شعر ذلك الرجل؟ أو ربما يشير بعض الدارسين إليه، ثم يأتي الباحث ويبدأ يسجل هذا الموضوع، ويبدأ في التحرك والكتابة فيكتشف في النهاية أن شعر الرجل غير مجموع، وليس بإمكانه جمعه من مصادره المختلفة، فماذا يفعل؟ يتوقف بلا شك، لا بد أن يتوقف.

بعض الباحثين يختار مثلًا مخطوطًا من المخطوطات لمؤلف ما قرأ عنه في كتب التراجم، قرأ في كتاب مثلًا (الفهرست)، أو قرأ في كتاب (معجم المؤلفين)، أو إلى آخره أن فلانًا له من المخطوطات كذا وكذا وكذا فيختر هذا موضوعًا ماجستير أو دكتوراه، ويسجله والموضوع جديد نعم، ثم يذهب لإحضار المخطوط فيجد أن المخطوط ناقص أو مفقود، فهل يستطيع المضي في بحثه؟ لا يمكنه بحال من الأحوال. قد يوجد النص، أحيانًا يختار نص، ولكن لا توجد الدراسات التي دارت حوله، أو توجد في أماكن بعيدة ليس في مقدور الباحث الحصول عليها، كل ذلك ينبغي أن يتنبه له الباحث قبل أن يختار موضوعه؛ لأنه يمثل عقبة في طريق البحث العلمي، ولا يتيح للباحث الإحاطة بموضوعه أو معالجته معالجة جيدة، وتأتي نتائجه ناقصة لا محالة. تلك هي أمور ينبغي للباحث أن يراعيها عند اختيار موضوع بحثه، ويجب على الباحث عند اختيار الموضوع وتحديد المشكلة التي يود دراستها أن يسأل نفسه عدة أسئلة تتعلق بالموضوع والمشكلة، ويحاول الإجابة عنها هذه الأسئلة تعد معايير أو قواعد أو مقاييس أساسية للموضوع الجيد لو استطاع أن يجيب عليها. هذه المجموعة من الأسئلة التي سنعرضها الآن لو أجاب عنها الباحث قبل أن يقدم على بحثه؛ فإنها تعد بمثابة المعايير أو المقاييس. 1 - لماذا اخترت هذا الموضوع؟ 2 - هل هذا الموضوع يثير اهتمامي وما مدى رغبتي الشخصية لمعالجته؟ 3 - ما مكانة هذا الموضوع بالنسبة للدراسات الأدبية والنقدية، وما الفائدة من دراسته؟ 4 - ما الوقت الذي سأستغرقه في دراسة هذا الموضوع، وما الأهداف التي أسعها إليها من وراء درسه؟ 5 - هل موضوع البحث يناسب تخصصي، وهل سيؤدي هذا الموضوع إلى تطوير معلوماتي الثقافية في مجال تخصصي؟

6 - هل هذا الموضوع في مستوى قدراتي الثقافية، والفكرية، والمادية، واللغوية وغيرها؟ 7 - ما الصعوبات، أو المعوقات التي من الممكن أن تواجهني أثناء دراسة هذا الموضوع؟ أما بالنسبة لمشكلة البحث المفترضة: فمن الممكن أن يطرح الأسئلة التالية على نفسه، ويحاول الإجابة عنها: هل المشكلة التي افترضها ملحة وتستحق الدراسة؟ حاول أن تجيب على هذه الأسئلة. هل المشكلة التي افترضتها ملحة وتستحق الدراسة؟ هل يوجد باحث آخر قام بدراسة هذه المشكلة؟ هل هذه المشكلة محددة؟ هل المشكلة جديدة وتتصف بالأصالة؟ هل تتوافر المعلومات، والمصادر الأولية والثانوية اللازمة لدراسة هذه المشكلة؟ حاول أيها الباحث أن تجيب على هذه الأسئلة، فإن وفقت في إجابتك فقد وفقت في اختيار موضوعك، وحينئذ أقدر على الباحث بخطى واثقة وفكر واعي، هكذا يكون اختيار الموضوع، وتلك هي شروطه. بقي شيء لا بد أن أنبه عليه يتصل بموضوع البحث وهو: اختيار العنوان: اختيار العنوان لا يقل أهمية عن اختيار الموضوع؛ فهو المرآة التي ينظر القارئ إلى البحث من خلالها أي خلل في تلك المرآة يؤدي إلى اضطراب الصورة، وعدم وضوحها. ولذلك؛ يجب على الباحث أن يعير العنوان اهتمامه، وعادة يبدأ الباحث بفكرة عامة تشكل موضوع البحث عندما يشعر بوجود قضية أو مشكلة تستحق البحث والدراسة والاكتشاف يبدأ في تجميع خيوط تلك القضية؛ حتى تتبلور الفكرة في ذهنه، وتتضح أبعادها، ويضع يده على المشكلة بعد الانتهاء من ذلك كله؛ ليأتي دور اختيار العنوان الصالح لتلك القضية، والدال على كيفية المعالجة. لعلك لاحظت إذا الفرق بين الموضوع والعنوان، كثير

من الباحثين يخلط بين موضوع البحث وعنوانه، ويظن أن العنوان هو الموضوع. موضوع البحث: هو الفكرة أو القضية التي يود الباحث درسها. أما العنوان: فهو الدال على تلك الفكرة أو القضية، لما كان اختيار العنوان من الأهمية بمكان يجب أن يراعى عند اختياره ما يلي: أولًا: أن يكون العنوان واضحًا في صياغته ودلالته بحيث يسمح للقارئ تصور ما بداخل البحث من أفكار وعناصر، ووضوح العنوان مرتبط بوضوح الفكرة في ذهن الباحث؛ فكلما كانت الفكرة واضحة كلما كان العنوان واضحًا. ثانيًا: ينبغي أن يكون العنوان دقيقًا، تختار كلماته بدقة بحيث تشير كل كلمة فيه إلى جزء من المشكلة، أو طريقة من طرق المعالجة. ثالثًا: ينبغي أن يكون العنوان موجزًا إيجازًا غير مخل، وأن يكون مثيرًا وجذابًا بحيث يجذب القارئ إلى الإقبال على الباحث، والبحث، والإفادة منهما. ويمكن أن يصاغ عنوان الباحث في هيئة فرض عام، أو سؤال يحتاج إلى إجابة محددة. المهم، أن يكون بطريقة تسمح للقارئ فهم دلالته على محتواه. وفي نهاية الحديث عن كيفية اختيار الموضوع أود الإشارة إلى أن موضوعات البحث الأدبي تتنوع تنوعًا كبيرا كما أشرت؛ لأن المادة الأدبية ثرية ومتجددة دائمًا سواء كانت شخصية، أو أدبية، أو قضية من القضايا. كما أود أن أوجه نصيحة إلى كل باحث عند اختيار موضوع بحثه، وأقول له: عليك أيها الباحث أن توازن بين جهدك الذي ستبذله في دراسة الموضوع، وبين الفوائد التي تتراءى لك من وراء تلك الدراسة، فليس كل موضوع يستحق ما يبذل فيه من جهد، فإن كان الموضوع حيًّا يمكن أن تتوصل من خلاله إلى نتائج ينتفع بها فأقبل على بحثك مستعذبًا كل ما تلقاه فيه من مشقة وعناء، وإلا فاصرف نفسك عنه، واستثمر جهدك فيما يفيد. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 12 خطوات البحث الأدبي (2).

الدرس: 12 خطوات البحث الأدبي (2).

رسم الخطة.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثاني عشر (خطوات البحث الأدبي (2)) رسم الخطة الحمد لله، الذي خلق الإنسان وعلمه البيان والصلاة والسلام على سيدنا محمد خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه؛ وبعد: فقد بدأنا الحديث عن خطوات البحث الأدبي تكلمنا فيه عن مادة البحث الأدبي ثم الخطوة الأولى وهي التي تتمثل في اختيار موضوع البحث. الخطوة الثانية من خطوات البحث الأدبي: الخطة. رسم الخطة: هو الخطوة الثانية من خطوات البحث الأدبي بعد اختيار الموضوع، نفس الترتيب كما أشرت سابقًا. فبعد أن يستقر الباحث على موضوع بحثه الذي توفرت فيه الشروط التي أشرنا إليها، يأتي دور التخطيط والتنظيم، ووضع الملامح الرئيسة التي سيسير عليها في بحثه. الخطة شرط أساسي في كل عمل منهجي علمي منظم يراد له النجاح، والبحث الأدبي يشبه البناء التام المتماسك المتناسق الأجزاء، فكل لبنة لها مكانها، وكل خط له دلالته، ويتم هذا وفق تخطيط متقن، وكذا كل معلومة جمعها الباحث، أو رأي اهتدى إليه له مكانه الذي لا يصلح إلا فيه داخل البحث. فالبحث الأدبي ليس مجرد حشو للمعلومات المنقولة، أو الآراء المطروحة دون نظام أو ترتيب، لكنه ضرب من تنظيم المعلومات، والربط بينها بطريقة منهجية صحيحة، ثم التوصل إلى مجموعة من الحقائق، وكل ذلك يأتي بعد تخطيط محكم دقيق، هو ما نسميه برسم الخطة. وخطة البحث تشبه اللوحة الهندسية التي يصممها المهندس عند إنشاء مبنى من المباني، غير أن المهندس حين يصمم تلك اللوحة يتعامل مع مواد جامدة يستطيع أن يتحكم فيها، ويخرجها بمواصفات يعرفها، بل يحددها مسبقًا. أما في البحث العلمي: فإن الباحث يضع خطته، ولا يملك أي يقرر، أو يحكم، أو يعطي حتى مجرد صورة عما سيحدث، وإنما يترك ذلك كله لما ينتهي إليه الباحث من نتائج.

وإذا أردنا أن نضع مفهومًا لخطة البحث فيمكن أن نقول: هي تنسيق البحث، ووضع الخطوط الرئيسة التي سيسير عليها الباحث في دراسته للموضوع الذي اختاره، من خلال تقسيم البحث إلى مجموعة من الأبواب والفصول، تخضع لطبيعة الموضوع، وتشكل الإطار العام له. والخطة قد تكون موجزة، وقد تكون مفصلة، والخطة المفصلة في مجال البحوث العلمية أفضل؛ لأنها تلم بالموضوع إلمامًا واسعًا، ويتعرف القارئ من خلالها على الموضوع ومصادره وقضاياه ومشكلاته، فهي أقرب إلى البحث نفسه، بل هي بمثابة مشروع البحث. ويتوقف رسم الخطة على صلة الباحث بموضوعه، ومدى إلمامه بشتى جوانبه، فكلما أحاط الباحث بموضوعه إحاطة شاملة، كلما وضحت الخطوط الرئيسة أمامه، وانكشف الطريق له. كما تختلف الخطة أيضًا باختلاف الباحثين، ومناهجهم التي يسلكونها أثناء بحوثهم، وتختلف أيضًا باختلاف الموضوع الذي اختاره الباحث، والمادة العلمية التي تشكله، والمدة الزمنية المحددة لإتمامه. ومن ثم، لا يمكن وضع ضوابط ثابتة أو قوانين محددة للخطة بحيث يلتزم بها كل باحث، فكل موضوع له ظروفه، وله ملابساته التي تشكل خطته. نعم، ثقافة الباحث، طبيعة الموضوع، طبيعة المادة العلمية، الفترة الزمنية نفسها تتحكم في رسم الخطة. ورغم أن لكل موضوع خطته التي تناسبه، ولكل باحث شخصيته وفكرته ورؤيته، إلا أنه يمكن أن نقول إن هناك إطارًا عامًا يوجد في كل خطة يتكون هذا الإطار العام من أولًا: المقدمة، وفيها يحدد الباحث أهمية البحث، ويشير في المقدمة أيضًا إلى ما يضيفه هذا البحث من جديد في مجال الدراسات الأدبية، ثم يذكر في

المقدمة أيضًا الأسباب التي دفعته لدراسة هذا الموضوع، ويحدد المشكلة المفترضة، والمقترح علاجها خلال هذا البحث، كما يشير في المقدمة أيضًا إلى المنهج الذي سيسلكه في بحثه، ودراسة مشكلته. وفي المقدمة أيضًا يعرض للدراسات الأدبية التي سبقته، وأشارت إلى الموضوع الذي يبحث فيه. وتتسم المقدمة عمومًا بالإيجاز، والتركيز، وبراعة الاستهلال. وكانت المقدمة تسمى في المؤلفات القديمة بخطبة الكتاب، وموجودة إلى الآن في الكتب المحققة. وقد يضاف تمهيد بعد المقدمة ويسمى: المدخل أحيانًا، ويسميه بعض الباحثين تمهيد أو توطئة، هذا كله جائز. وإذا كانت هناك مقدمة، ثم تليها توطئة، أو يليها مدخل أو تمهيد، يتحدث الباحث في هذه التوطئة أو ذلك المدخل عن العصر، وصلته بموضوع البحث. وفي حال الذكر التمهيدي أيضًا بعد المقدمة يجعل الدراسات التي لها صلة بموضوع بحثه، والتي سبقته ينقلها إلى التمهيد، ويدرسها دراسة مفصلة؛ ليقف على كل ما انتهت إليه تلك الدراسات، ويبدأ من حيث انتهت، هذا أولًا: المقدمة تليها التوطئة، أو التمهيد، أو المدخل. ثانيًا: النقطة الثانية أو الجزء الثاني الذي يمثل إطارًا من أطر الخطة: صلب البحث، وأعني به: الأجزاء الأساسية التي تشكل البحث من أبواب أو فصول، وإذا اتسعت الفصول قسمت إلى مباحث، يتم تقسيم الموضوع وتجزئته؛ لكي يمكن توزيع المادة العلمية والأفكار المنبثقة عنها على هذه الأقسام، أو الأجزاء، ثم يتألف من مجموعها في النهاية كيان كامل حي يشد بعضه بعضًا. نعم، تقسيم البحث إلى فصول وأبواب، أو مباحث، أو خلاف ذلك متوقف على المادة العلمية، وطبيعة الموضوع. وهذا جيد في مجال البحوث نجزئ الموضوع أو القضية أو الفكرة؛ لكي نتمكن من بحث كل جزئية بحثًا دقيقًا عميقًا، ثم في الآخر يتألف من مجموع هذه الجزئيات كيان كامل حي هو البحث،

وكل هذا يؤدي في النهاية إلى نتيجة صحيحة تتسم بالموضوعية، والمصداقية. فالتجزئة لا تعني التقطيع، وإنما تعني: لم ما تبعثر وتباعد، وتحويله إلى وحدة واحدة. إننا نجزئ العمل من أجل تسهيل الدراسة، ولكن لا نجعل التجزئة غاية؛ هي أجزاء ضمن وحدة واحدة كما سبق، وتختلف الأبواب والفصول -كما قلت-؛ تبعًا لاختلاف موضوع البحث، والمادة العلمية المطروحة للدراسة، والظروف المحيطة بها. إذا كان طول المادة العلمية التي جمعها محدودًا اكتفى الباحث بتقسيم البحث إلى فصول، فيقول: الفصل الأول، الفصل الثاني، الفصل الثالث، وهكذا يعرض كل قضية في فصل، إن كانت هناك قضايا. فإذا تضاعف عدد الصفحات، وكان بالإمكان تقسيم الوحدة الكبيرة داخل البحث إلى وحدتين أو أكثر، وكانت الوحدات المتوسطة يمكن تقسيمها إلى وحدات أصغر، ففي هذه الحالة يتم تقسيم البحث إلى أبواب، يقول: الباب الأول، الباب الثاني، الباب الثالث، ثم يقسم كل باب إلى فصول، يقول: الفصل الأول من الباب الأول، الفصل الثاني من الباب الأول، الفصل الثالث من الباب الأول، ثم الفصل الأول من الباب الثاني، ثم الفصل الثاني من الباب الثاني، وهكذا. ومن الممكن أن يأتي كل هذا في جزء واحد، يعني: ممكن أن يأتي البحث في جزء واحد يقسم إلى باب، إلى بابين، ثلاثة أبواب، وكل باب فصلين، أو فصل على حسب ما تفرضه المادة العلمية. فمن الممكن أن يقسم أو يأتي كل هذا في جزء واحد إذا طالت الأبواب والفصول، وكانت المادة العلمية من الاتساع بمكان، فمن الممكن أن يقسم الباحث بحثه إلى أجزاء، ويسمي كل جزء، يقول: الجزء الأول، الجزء

الثاني، وهكذا. ويطلق على الجزء مجلد. ويحمل الباب عادة عنوانًا كليًّا شاملًا، إذا قسم البحث إلى أبواب؛ يمثل قضية عامة تندرج تحتها عدة عنواين كل عنوان يمثل قضية جزئية، وليس هناك حد معين للفصول أو الأبواب يلتزم به الباحث، ولكن عند تقسيم البحث إلى فصول أو أبواب نراعي التقارب النسبي في الحجم، أي: عدد الصفحات، فإذا بلغ عدد صفحات الفصل الأول مثلًا عشرين صفحة وجب أن تكون بقية الفصول تتراوح ما بين ثماني عشرة أو عشرين أو ثلاث وعشرين صفحة مثلًا، يعني: يكون التفاوت بين صفحة أو ثلاث صفحات وهكذا. وليس من المقبول أن يكون في البحث فصل صفحاته عشر صفحات، وهناك فصل آخر عدد صفحاته أربعون صفحة، أو ثلاثون صفحة. كما يراعى هذا في الأبواب أيضًا، فإذا كان البحث مقسمًا إلى أبواب، وكان الباب الأول مثلًا مائة صفحة، ينبغي أن يتراوح الباب الثاني ما بين التسعين أو المائة أو المائة وعشر، وهكذا في بقية أبواب البحث وفصوله. ويخطئ من يظن أن المسألة مسألة حجم فقط؛ فإن هذا الحجم يحمل فكرة ويعالج قضية أو وحدة معينة من وحدات البحث، يكبر الحجم ويصغر باتساع هذه الوحدة أو ضيقها، يترتب عليه كبر الحجم أو صغره، فكلما كبر الحجم كان ذلك دليلًا على اتساع القضية أو الوحدة، فإذا لم يتم التناسب بين الأبواب والفصول داخل البحث فإن ذلك يدل على عدم تناسب الأفكار أو القضايا أو الوحدات. هذه حقيقة، وهذا يعني: سوء التخطيط منذ البداية. الباحث وهو يخطط ينظر هذه قضية فيها اتساع، هذه قضية فيها ضيق، هذه قضية تستحق أن تكون باب، هذه قضية تستحق أن تكون مبحث، وهكذا. ينسق ويرتب وينظم، ويحدث لونًا من التناسب بين فصول بحثه، أو أبوابه.

كما ينبغي أن تترابط أبواب البحث وفصوله فيما بينها ترابطًا منطقيًّا سديدًا بحيث يتمم بعضها بعضًا، فتصير كالجسد الحي، ويشبه بعض الباحثين ترابط الأبواب والفصول داخل البحث بترابط الأحداث داخل المسرحية، فيقول: فكما أن المسرحية تنقسم إلى فصول ومشاهد، كذلك البحث الأدبي ينقسم إلى فصول وأجزاء، وكما أنه ينبغي أن تسود في المسرحية وحدة الحدث، كذلك ينبغي أن تسود في البحث الأدبي وحدة العمل بحيث تتسلسل أجزاؤه تسلسلًا دقيقًا، بل يصبح كالمسرحية تعمها وحدة عضوية، تتولد في أثنائها المشاهد. كما ينبغي عند تقسيم البحث إلى أبواب أو فصول أن يراعى ما يلي: أولًا: أن تكون عناوين الأبواب والفصول فيها دقة، وأنت تختار العنوان عنوان الباب أو الفصل كن دقيقًا بحيث يفصح العنوان عما بداخل الباب أو الفصل من معلومات، بالإضافة إلى اتصافها بالطرافة والجاذبية. ثانيًا: الأمر الثاني الذي ينبغي مراعاته تقسيم مشكلات البحث ومعالجة كل مشكلة في باب أو فصل مستقل بحيث ينتهي القارئ من الباب أو الفصل؛ فيكون قد ألم بالمشكلة وعرف حدودها. بحيث يخرج القارئ من قراءة الباب أو الفصل فيكون قد ألم بهذه المشكلة إلمامًا تامًا، وعرف حدودها. الأمر الثالث الذي ينبغي مراعاته: إذا اتسعت المشكلة أو القضية فيمكن تقسيمها إلى قضايا جزئية، ويعالج الباحث كل واحدة منها في فصل مستقل. رابعًا: أن يتم ترتيب الأبواب والفصول على أساس منطقي، وفكري منظم، بحيث لو انتهى القارئ من فصل وجد نفسه في حاجة إلى الفصل الذي يليه. وترتيب أبواب البحث وفصوله يدل على مدى فهم الباحث لقضيته، وحسن استخدامه لعناصر بحثه وتوظيف مادته. وفي هذا القسم من البحث أي: في صلب

البحث الذي يقسم فيه الباحث بحثه إلى أبواب أو فصول تتم مناقشة القضايا، وإبراز الحجج والبراهين، وإبداء الرأي. هذا بالنسبة للقسم الثاني من الأقسام التي تشكل الإطار العام لخطة البحث. القسم الثالث من هذا الإطار: الخاتمة: يشير الباحث في الخاتمة إلى أهم النتائج التي توصل إليها من خلال بحثه، وإلى الجديد الذي أضافه، وفي ضوء تلك النتائج يمكن أن يعرض لبعض توصياته ومقترحاته التي توصل إليها من خلال البحث، وعادة نجد أن البحث الجيد يثير في النهاية عدة تساؤلات أو مشكلات تحتاج إلى علاج. ولا تقاس أهمية البحوث بما تتوصل إليه من نتائج وتفسيرات فحسب، وإنما بما تثيره من مشكلات، وتكشف عنه من قضايا تصلح أن تكون موضوعات لبحوث أخرى. هذه حقيقة، قيمة البحث ليست في التحليل فقط، ولا في التفسير فقط، ولا في النتائج فقط، وإنما قيمة البحث في أن تشعر وأن تقرأه أنه يثير في فكرك عدة مشكلات. يعني: تقرأ بحثًا فتخرج منه بموضوعين أو أكثر من الموضوعات التي يمكن أن تبحث فيها من جديد. هذه هي الجدة وذاك هو الابتكار. القسم الرابع من الأقسام التي تشكل الإطار العام للخطة: هو الفهارس: وتعد الفهارس ضمن خطة البحث وتنظيمه، وهي لازمة من لوازمه وضرورية بالنسبة للباحث والقارئ معًا، فهي الأداة التي يمكن من خلالها الوصول إلى مكان المعلومة داخل البحث بسهولة ويسر. والفهارس أنواع، هناك فهرس للآيات القرآنية، هناك فهرس للأحاديث النبوية الشريفة، هناك فهرس للقوافي، وفهرس للأمثال، فهرس للأعلام، فهرس للأمم والقبائل، فهرس للبلدان والمواضع، وفهرس لموضوعات البحث وأبوابه التي توجد بداخله، كل هذه أنواع من الفهارس. تخضع هذه الأنواع من الفهارس لطبيعة البحث، فهناك بحوث لا بد فيها من جميع هذه الفهارس مجتمعة، كالموضوعات التي تتناول المخطوطات العلمية

بالتحقيق والدراسة مثلًا، فلا بد فيها من كل هذه الفهارس، هناك بحوث أخرى يكتفى فيها بفهارس المصادر والمراجع، ثم الموضوعات، ولا يضيرها ذلك طالما أن طبيعتها تتطلب هذا، ويخضع كل نوع من أنواع الفهارس السابقة لطريقة معينة في ترتيب ما يشتمل عليه، كاتباع الهجائية أو الأبجدية العربية مثلًا. هذه هي أهم الأجزاء أو الأقسام التي تشكل الإطار العام لكل خطة بحث، مقدمة، ثم تمهيد، وبعد ذلك صلب البحث، ثم خاتمة، وفي النهاية الفهارس. هذا إطار يوجد في كل بحث، حتى في العلوم غير الأدبية، كل بحث له مقدمة، ثم هناك تمهيد، ثم هناك صلب بحث، يعني: أبواب وفصول، ثم خاتمة، ثم فهارس. وفي سياق حديثنا عن الخطة ينبغي أن نفرق بين الخطة والمنهج، فالخطة: -كما رأيت- هي عبارة عن تقسيم البحث إلى أبواب أو فصول، وهي عملية تنظيمية، تشبه الخطوط المنتظمة التي يضعها المهندس على اللوحة لتنفيذها فوق سطح الأرض المعدة للبناء، كما قلت. ويمكن أن نتعرف على خطة أي بحث من خلال النظر في فهرسه، لو أمسكت بأي كتاب أي بحث، ونظرت في فهرسه لأمكنك تحديد الخطة. أما المنهج: فهو الطريقة التي يسلكها الباحث عند معالجة القضايا المختلفة داخل الأبواب والفصول، يعني: في صلب البحث، بقصد الوصول إلى الحقيقة، يناقش، يحلل، يفسر، يشرح، كل هذا في صلب البحث داخل الأبواب والفصول. هذا هو المنهج، يظهر من خلال هذه المعالجة. وإذا كانت الخطة تشبه الخطوط التي يضعها المهندس على لوحته، فإن المنهج يشبه مسلك البناء، وطريقته في وضع اللبنات والربط بينها بطريقة ما، المهندس

الذي وضع هذه الخطوط من خلال فكره ورؤيته، يعطي هذه الخطوط إلى بناء ماهر، فينفذ هذه الخطوط، يحولها إلى مبنى. وظيفة الباحث أو المنهج يتضح من صنع الباحث في صلب البحث، فمثله مثل ذلك البناء، يتضح المنهج من خلال المناقشة، من خلال الشرح، من خلال التفسير، من خلال التحليل لسائر القضايا أو الموضوعات التي وردت في صلب البحث. وكما أشرت سابقًا، لا بد من التخطيط والتنظيم للبحث، وأن نجاح البحث العلمي يتوقف على جودة التخطيط له. ومن ثم، فإن الخطة من الأهمية بمكان. وتتضح أهمية الخطة في الأمور التي سأذكرها الآن على سبيل الإجمال: أولًا: عندما يستقر الباحث على موضوع ما لدراسته، فإنه يكون هناك هدف عام يجول في خاطره، يعني: فكرة عامة. عملية التخطيط هذه فيها تفتيت لهذا الهدف بقصد تجميعه مرة أخرى بعد دراسته دراسة جزئية منفصلة، فيها عمق، فيها شمول؛ لأن دراسة الجزئية الصغيرة غير دراسة القضية العامة. عندما يكون عندي جزئية صغيرة، وأنا أدرسها، أتعمق فيها، ألم بها، أحيط بها، على خلاف القضية الواسعة، هذا معروف في مجال البحث، كلما كانت القضية صغيرة ضيقة كلما حصر الباحث فيها فكره، وتوصل إلى نتائج جيدة. فالباحث عندما يختار الموضوع هذا عبارة عن فكرة كلية عامة، تجول في خاطره، يأتي دور التخطيط، والتخطيط: عبارة عن تجزئة هذه الفكرة إلى جزئيات، الجزئيات مفتتة، لكن تفتيت لكي أجمعها فيما بعد من صالح البحث، هذه التجزئة عملية أقوم بها لصالح البحث؛ حتى أتمكن من دراسة كل وحدة،

أو كل جزئية دراسة متعمقة. خطة البحث هي التي تساعد الباحث على تحقيق ذلك، وتمكنه من تنظيم الأهداف وصياغتها، وإيجاد مناسبة لتحقيقها. بدون التخطيط لا يمكن أن نقوم بهذه العملية. ثانيًا: من الأشياء التي تؤكد أهمية الخطة: يستطيع الباحث من خلال الخطة التي رسمها يستطيع تحديد أهدافه، ورسم الطريق الصحيح للوصول إليها، وبدون هذا التخطيط لا يستطيع الباحث الربط بين أهدافه. وهذه حقيقة حتى أصل إلى الخاتمة في النهاية، وأربط بين هذه الأهداف التي في الفصل الأول والثاني والثالث وهكذا، تتكون أو تتحقق لدي مجموعة من النتائج أو الأهداف مجتمعة من خلال هذه الخطة، أو من خلال هذا الترتيب أو التنظيم الموجود داخل الخطة. ثالثًا: يكتسب البحث السمة العلمية من خلال هذا التخطيط: إن أي بحث علمي، أو عمل علمي منهجي لا بد فيه من تحديد الهدف منذ البداية؛ حتى لا يقع الباحث في تيه لا حدود له، وينعكس ذلك على نتائجه، وعلى بحثه. كما أنها تؤكد أن البحث لا يأتي عن طريق الصدفة لكنه تخطيط وتنظيم ووسائل في ضوء أهداف محددة. لا يمكن أن يقبل باحث على بحثه بلا تخطيط، لا يمكن هذا، لا يجوز إطلاقًا، ولا يصح. رابعًا: الخطة تمد الباحث بنوع من الثقة بالنفس؛ لكونها عملية فيها جانب من الابتكار والابتداع، الباحث يضع الخطة نتيجة فكر، وتبلغ الثقة ذروتها عندما ينجح في تحقيق أهدافه من خلال الخطة التي وضعها، عندما يصل الباحث في نهاية بحثه إلى مجموعة من الأهداف التي كان يود تحقيقها، أو نتائج مرجوة يكون في قمة السعادة، وفي قمة الثقة بالنفس؛ لأنه نجح في تخطيطه، ونجح في درسه، ونجح في الوصول إلى هدفه.

هذه هي أهمية الخطة بالنسبة بالباحث والبحث معًا، ينبغي ألا نغفلها، وعلى الباحث أن يتجنب الخطط الجاهزة، فإنها تضر ولا تنفع، فأحيانًا يأتي باحث يعرض موضوعًا للدراسة، فيطلب منه الأستاذ إعداد خطة لدراسة هذا الموضوع، فيذهب ذلك الباحث إلى مكتبة الرسائل، ويبحث عن موضوع يشبه موضعه الذي اختاره، وينقل خطته، ويضع عناوين للأبواب والفصول من خياله. المهم، أن تتفق هذه العناوين مع موضوع البحث الذي اختاره، ولا يدري أتوجد المادة العلمية الصالحة لوضعها تحت هذه العناوين أم لا؟ حقيقة، هذا يحدث كثيرًا الآن من كثير من الباحثين، مثل هذه الخطة لا تفيد شيئًا، ولا تكشف إلا عن كسل صاحبها وجهله بأسس البحث العلمي. وهي لا تعني شيئًا بالنسبة للباحث، الباحث يظن أنه وقع على كنز أحيانًا، بل ربما ظنها كسبًا وإنجازًا له، يقول: أنا في ربع ساعة استطعت أن أضع خطة لبحثي، هذا خطأ إن كانت لا تعني شيئًا بالنسبة للباحث، فهي تعني الكثير بالنسبة للأستاذ المشرف، تعني: فقدان ثقته في هذا الباحث. وقد ذكر بعض الباحثين أن مثل من يفعل هذا كمثل حائك للثياب، لا يعرف إلا نمطًا واحدًا يحيك عليه جميع الملابس لكل قادم إليه، دون النظر إلى حجمه، أو عمره، أو نوع قماشه، أو مثله كمثل مهندس معماري، يقدم خريطة واحدة نموذج واحد لكل من يطلب منه رسمًا هندسيًّا، دون النظر إلى مساحة الأرض، وموقعها، أو الأسرة التي ستسكن ذلك البيت، هذا كله لا قيمة له في مجال البحث العلمي؛ فالتقسيم وحده ليس غاية، ولكن الغاية ما يعنيه التقسيم، وما يترتب عليه من نتائج. ونضرب لذلك مثالًا نتعرف من خلال على خطر هذا السلوك غير المنهجي، والذي لا يقوم على أساس علمي منظم، فمثلًا: يقع اختيار باحث من الباحثين

على شخصية شاعر من الشعراء، ويريد أن يقيم حولها دراسة، فيطلب منه تقديم خطة للموضوع، يقول له الأستاذ المشرف: أعطني خطة، فيذهب ذلك الباحث إلى مكتبة الرسائل، فيبحث عن موضوع تناول شخصية أدبية، ثم ينقل نفس الخطة التي وجدها بعينها، وجدها الباحث مذكورة في موضوع درس، يشبه الموضوع الذي اختاره، المقدمة، التمهيد، الباب الأول: حياة الشاعر، الفصل الأول من الباب الأول: نشأة الشعر، الفصل الثاني من الباب الأول: شبابه، الفصل الثالث: تعليمه، يعني: الباب الأول في فصول ثلاثة. الباب الثاني بعنوان: شعره، ويقع في فصول ثلاثة، الفصل الأول: المدح، الفصل الثاني: الغزل، الفصل الثالث: الرثاء. الباب الثالث تحت عنوان: الدراسة الفنية، الفصل الأول: الأسلوب، الفصل الثاني: الخيال، الفصل الثالث: التجديد في الأوزان والقافية، ثم تأتي بعد ذلك الخاتمة، ثم المصادر والمراجع. وفي البداية أقول: هذه الخطة التي ذكرتها الآن خطة بحث درس ونوقش صاحبه، والباحث ذهب ونقل هذه الخطة؛ لأن موضوعه شخصية أدبية فقال: هذه خطة أنقلها وأريح نفسي من العناء والتعب، والبحث والتفكير، نحن لا ننكر أن هناك خطوطا عامة للبحث، ولكن الخطوط العامة المناسبة لبحث قد لا تتناسب مع بحث آخر، لا بد أن تدرك ذلك جيدًا. ومن ثم، فإن أهمية الخطة تنبع من كونها مستمدة من الجزئيات المنبثقة عن القضايا العامة، الخطة أنا لا أخترعها، وإنما تتشكل نتيجة النظر في المادة العلمية التي عندي في القضايا التي سأبحثها، المشكلة التي سأعالجها، هي التي تفرض عليّ خطوطًا معينة وتنظيمات. فالخطة التي عرضتها الآن، والتي نقلها

الباحث من دراسة مشابهة تمامًا لموضوعه، مثلًا: فيها باب عن حياة الشاعر الباب الأول بعنوان: حياة الشاعر، وقسمه الباحث إلى فصول، وقد تكون المادة العلمية التي تشكل حياة الشاعر عند الباحث الذي نطلب منه خطة، قد تكون المادة العلمية التي تشكل حياة الشاعر لا تنهض لتكون بابا؛ مادة علمية قليلة جدًا، فكيف يصنع منها بابًا؟ ماذا يفعل إذا انقطع به الطريق عند هذا الحد من المعلومات؟ انظر في باب آخر نرى فيها أيضًا فصلًا بعنوان: الغزل، وهو الفصل الثاني من الباب الثاني، عنوانه: الغزل، نفرض أن الشاعر الذي اختاره الباحث لم يتطرق إلى فن الغزل، لم ينظم فيه بيتًا واحدًا. في الباب الثالث مثلًا، الذي بعنوان: الدراسة الفنية، نجد هناك فصلًا بعنوان: التجديد في الأوزان والقوافي، فماذا يفعل الباحث إذا عرف أن الباحث أو الشاعر الذي يبحث فيه ليس له دور في التجديد، ولا يعرف معنى التجديد؟ هذا لا يصح؛ لأنه عندما يجيء ليطبق على بحثه فلم يجد من المادة العلمية. اعلم أيها الباحث أن ما عندك يختلف عما عند غيرك، وما عند شاعرك يختلف عما عند الشاعر الآخر، فعليك أن تقلب الموضوع الذي اخترته للدراسة على أكثر من وجه؛ حتى تهتدي إلى الخطة الجيدة التي لا تفضلها خطة أخرى، والتي لو نوقشت فيها لأمكنك النقاش والدفاع؛ لأنك ستكون أعرف بها من غيرك؛ لأنها نابعة من فكرك وصميم موضوعك. من أجل ذلك أقول: إن العجلة غير مطلوبة عند إعداد الخطة، بل لا بد من التأني والتفكير المستمر، والدقة في التخطيط والتنظيم بعد أن ينتهي الباحث إلى صورة مناسبة للخطة يجلس وينظر فيها مرات ومرات، ثم يعدل ويبدل ويغير معتمدًا على المادة العلمية التي لديه، ثم الخبرة المكتسبة عنده، وثقافته في مجال كيفية إعداد البحوث العلمية. وليكن في غاية الحذر من أن يعتري الخلل خطته من أي جانب.

ومن أجل أن تخرج الخطة كاملة لا يعتريها نقص أو خلل أرى أنه ينبغي للباحث أن يترك خطته مدة من الزمن، ولا ينقطع تفكيره عنها خلال هذه المدة، يعني: يظل على اتصال بها، يترك خطته مدة من الزمن، وكلما عرض له رأي خلال هذه المدة التي يتركها فيها، أو عنت له فكرة، أو ظهر له خاطر، أو جد خبر، رجع إلى الخطة فتأملها، وأجرى عليها من التعديل ما يجعلها قابلة لاحتواء كل جديد، هذه المدة التي أشرت إليها تسمى: فترة التخمير، أو تسمى: فترة اختمار الخطة. فإذا ما استوت الخطة، واكتملت عناصرها يعرضها الباحث على الأستاذ المشرف. واعلم أيها الباحث أن الخطة هي أساس بحثك، وهي المحك الذي يكشف عن علمك وفكرك ودرايتك وثقافتك، وهي أخطر ما تقابل به المشرف، فاحذر العجلة، وإياك أن تقدم عملًا غير كامل، واحذر أن تعرض على أستاذك أمرًا من الأمور التي تدل على ضعفك، أو كسلك، أو تقصيرك. احذر ذلك جيدًا، وتنبه له. وقد ترفض الخطة من أستاذك، وهذا أمر لا يقلل من شأنك إلا إذا كنت قد قصرت، ولم تتبع الخطوات الصحيحة في رسمها، وقد يقوم الأستاذ المشرف بالتعديل فيها، فقد يضيف إليها أشياء، أو يحذف منها شيئًا، كل هذا وارد، فلا تنزعج، ولا تقلق، فلكل رؤيته المبنية على علم وخبرة بطرق البحث العلمي وإجراءاته، ولا تتعجل الانتهاء من خطتك إذا طلب منك تعديلها، بل لا بد من التأني والإفادة من توجيهات أستاذك، هذا الذي أشرنا إليه من التنظيم والإعداد، ووضع الإطار العام لخطة البحث لا يعني أنك وصلت إلى نهاية المطاف، وأن عملك في الخطة قد انتهى عند هذا الحد. هذا الذي أشرنا إليه يمثل صورة أولية من صور الخطة، وهي صورة تعتمد على الخيال، وبعض المعلومات وخبرة الباحث آنذاك، ويراها الباحث مقبولة حينئذ.

تحديد المصادر والمراجع.

ولكن بعدما يتعمق الباحث في بحثه تبدو له أشياء، وتظهر قضايا قد يضيف إليها بعض الإضافات، يعني: يرجع إلى الخطة، ويضيف إليها بعض الإضافات، أو يحذف منها ما يراه غير صالح، فقد يحذف بابًا كاملًا، وقد يضيف بابًا؛ تبعًا لما يجد له من مادة علمية وآراء وأفكار متنوعة. هذا بالنسبة لإعداد الخطة، وهي تمثل الخطوة الثانية من خطوات البحث، وهي من الأهمية بمكان -كما رأينا. وأقول في النهاية: كل خطة بحث قابلة للتعديل والتغيير حتى آخر كلمة يكتبها الباحث في بحثه، والخطة قابلة للتعديل والتغيير. تحديد المصادر والمراجع الخطوة الثالثة التي تلي هذه الخطوة: فبعد أن ينتهي الباحث من التخطيط لبحثه يبدأ في تحديد المصادر والمراجع التي سيستعين بها في إعداد البحث، هناك فرق بين تحديد المصدر، وبين استقرائه. في هذه الخطوة نحدد المراجع والمصادر، ونعدها في قوائم أو بطاقات خاصة بها، نشير إلى أمكنتها، وإلى رموزها وإلى أرقامها في أماكنها، وينصفها الباحث إلى مجموعات تتناسب مع تقسيم البحث؛ حتى يسهل عليه الرجوع إليها فيما بعد. وللمصادر أهمية كبرى في مجال البحوث العلمية كما نعلم، فهي بمثابة النواة التي ينبثق منها البحث ويؤتي ثماره، وهي تنير الطريق للباحث، وتساعده على الإحاطة بموضوع بحثه، وتمكنه من الوقوف على مدى ما وصل إليه الباحثون قبله. ومن ثم، يستطيع أن يقرر من أي يبدأ، وما الجديد الذي يمكنه إضافته، كل ذلك من خلال المصادر والمراجع. كما أن جمع المصادر والمراجع بالطريقة التي سنشير إليها ينمي مهارة البحث والاستقصاء لدى الباحث، ويوفر عليه كثير من الجهد والوقت عند إعداد الفهارس، لا بد أن يراعي الباحث ذلك ويتنبه له.

المصادر تنقسم إلى قسمين: مصادر أصلية: ويقصد بها: أول ما كتب عن موضوع البحث، وصورها متعددة كثيرة، كالمخطوطات، والإملاءات، ودواوين الشعراء، وغيرها. ويندرج تحت القسم من المصادر أي: المصادر الأصلية، القواميس، والمعاجم اللغوية، والرسائل الجامعية، والدوريات، والموسوعات العلمية، وكذا سجلات الدواوين الحكومية؛ لأنها تعطينا معلومات موثقة عن الشخص المراد بحثه. النوع الثاني من المصادر تسمى: المصادر الثانوية، أو المراجع، وهي كل ما كتب متأخرًا عن المصدر الأصلي، وغالبًا ما يعتمد أصحاب المصادر الثانوية على المصادر الأصلية، فيأخذون منها، ومن ثم تتفاوت المراجع في درجة أصالتها بالنظر إلى هذا الجانب، فأكثر المراجع أصالة أكثرها أخذًا من المصدر الأصلي، وتوجد بعض المصادر الثانوية، ولا تقل من حيث الأهمية عن المصدر الأصلي، مثل: شروح الدواوين، مثل: الكتابات التاريخية، وغيرها مما يكشف عن البيئة التي يجري فيها البحث، فمثل هذه المصادر هي ثانوية، ولكن لا غنى للباحث في الأدب عنها، وهي تتفاوت في أهميتها، ويستطيع الباحث أن يحدد أولويات القراءة، وأهمية المصدر بالنسبة لموضوع بحثه، هو الذي يملك ذلك، هو الذي يعيش مع مادته، ومع قضاياه، ومع مشكلاته التي افترضها، فهو الذي يستطيع أن يحدد المصادر المهمة والأهم، والمصادر الثانوية، والمصادر الأصلية. ويمكن للباحث أن يتعرف على المصادر والمراجع التي تتصل بموضوع بحثه من خلال عدة وسائل نشير إلى بعضها بسرعة: أولًا: الاستعانة بالمشرف، أو الأساتذة المتخصصين في مجال بحثه؛ للتعرف منهم على أحدث ما كتب في المجال الذي يبحث فيه. ولا شك أنهم أكثر خبرة منه، وأوسع مجالًا في الاطلاع.

الوسيلة الثانية: الاطلاع على الكتب المتخصصة في هذا المجال، في مجال المؤلفات، ككتاب (الفهرست) لابن النديم، و (كشف الظنون) لحاجي خليفة، و (تاريخ الأدب العربي) ل"بروكلومان"، و (معجم المؤلفين) لكحالة، وغير ذلك. وسيجد الباحث في مثل هذه الكتب كمًّا هائلًا من المصادر والمراجع التي يمكنه الانتفاع بها. الوسيلة الثالثة: الاطلاع على دوائر المعارف العالمية، كدائرة المعارف الإسلامية والبريطانية والأمريكية، بالإضافة إلى دوائر المعارف المتخصصة في هذا المجال. الوسيلة الرابعة: الاطلاع على فهارس المكتبات العامة: يذهب إلى المكتبات العامة، ويطلع على فهارس الكتب، هناك فهارس على حسب العنوان أو المؤلف، يعني: المؤلَف أو المؤلِف، وكذا مكتبات الرسائل الجامعية التي تعنى بمثل دراسته، أو بموضوع قريب منها يمكنه من خلال ذلك التعرف على كثير من المصادر والمراجع. الوسيلة الخامسة التي يمكنه التعرف على المصادر والمراجع من خلالها: الاستعانة بالببلوجرافية: وهو علم يهتم برصد الكتب ووصفها، والتعريف بها، وعرض المطبوعات التي تنشر في مختلف نواحي المعرفة مع إعطاء فكرة موجزة عنها. في الآونة الأخيرة تطورت الفهرسة الالكترونية تطورًا ملحوظًا، وانتشرت مراكز المعلومات، وأصبح من السهل جدًا الحصول على كل ما كتب حول موضوع ما، فهذا أمر متيسر، هذا عن الوسائل التي يستطيع الباحث من خلالها أن يتعرف على المصادر والمراجع. أما عن كيفية تسجيلها: فللباحث أن يحصرها، ويسجلها بالطريقة التي تناسبه، إما في قوائم، وإما في بطاقات خاصة من الورق السميك تسمى: بمدونة المصادر،

أو البطاقة الببلوجورافية، ويجعل كل مصدر في بطاقة مستقلة، وترتب المصادر بطريقة معينة يختارها الباحث، لكن كل هذا من حقه أن يتصرف فيه بأي طريقة شاءها هو، لكن بشرط: أن تحتوي على المعلومات الآتية: المؤلِف، عنوان الكتاب، اسم الناشر، مكان النشر، تاريخ النشر، الجزء إن كان الكتاب مكون من أجزاء يذكر الجزء الأول، الجزء الثاني، رقم الكتاب في المكتبة التي يوجد بها، اسم المكتبة الموجود فيها المصدر. ومن الممكن أن يستغل الباحث ظهر البطاقة؛ لتسجيل أي ملاحظة: ملاحظة طباعة، ملاحظة في التقسيم، ملاحظة في أي شيء، عنده ظهر البطاقة بإمكانه أن يستخدم هذا الظهر في كل الملاحظات، وبعد الانتهاء من حصر المصادر التي يحتاجها الباحث، وتصنيفها حسب أبواب البحث وفصوله، ووضعها في قوائم أو بطاقات خاصة كما سبق، ينبغي له أن يراعي ما يلي: أولا: عدم تعدد الطبعات في المصدر الواحد إلا في حالة الضرورة القصوى، وإذا اضطر لذلك لا بد من الإشارة في الهامش إلى الطبعة التي اعتمد عليها عند كل اقتباس. ثانيًا: لقد عرفت أن هناك مصدرًا أصليًّا وآخر ثانويًا، فإذا وقع الباحث على مادة علمية في مصدر ثانوي منقولة من مصدر أصلي، فلا بد من الرجوع إلى المصدر الأصلي؛ لتوثيق هذه المعلومة، وسوف نوضح ذلك في الاستقراء. ثالثًا: لا بد من مراعاة الدقة في التخصص عند النقل من المصادر، وتوثيق المعلومات، فإذا أراد أن يوثق الشعر فعليه بالرجوع إلى دواوين الشعراء، وسوف يتضح لنا ذلك أيضًا كثيرًا عند الاستقراء. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 13 خطوات البحث الأدبي (3).

الدرس: 13 خطوات البحث الأدبي (3).

استقراء المصادر والمراجع.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثالث عشر (خطوات البحث الأدبي (3)) استقراء المصادر والمراجع الحمد لله، الذي خلق الإنسان وعلمه البيان والصلاة والسلام على سيدنا محمد خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه؛ وبعد: فلقد حدد الباحث مصادره ومراجعه التي سوف يستعين بها في إعداد بحثه، هذه خطوة لا بد أن نفصل بين هذه الخطوة وبين خطوة تحديد المصادر ومعرفة أماكنها، وتسجيل كل البيانات التي تتعلق بها هذه الخطوة مستقلة، أما استقراء المراجع والمصادر، واستنباط المادة العلمية منها هي حديثنا اليوم. الباحث العلمي لا يبدأ من الصفر، وإنما يبدأ من حيث انتهى الآخرون، وطريق ذلك هو الاستقراء، والاستنباط، والإحاطة بالمعلومات الجزئية والكلية المطروحة في ثنايا المصادر والمراجع. والقراءة والاستنباط أداتان مهمتان من أدوات البحث العلمي، وهما يحتاجان إلى استعداد خاص، ليس كل باحث يستطيع أن يقرأ ويستنبط؛ هذه مهارة يحتاج إلى خبرة ومران وتدريب. فالاستنباط يحتاج إلى فطنة وخبرة، والقراءة فن وعلم ومهارة لا بد من إجادتها، الباحث الذي لا يجيد القراءة، ولا يحسن الاستنباط يفقد أهم أدوات البحث العلمي، هذا أمر بدهي؛ لأن الغرض من قراءة المصادر والمراجع استخلاص النصوص، أو العلل، أو الآراء المستكنة بين سطور هذه المصادر، وليس استخلاصها فحسب، ولكن توظيف هذه النصوص في أماكنها داخل البحث بطريقة علمية جيدة، حسبما تقتضيه الفكرة أو الموضوع. فقد يقيس عليها مثلًا، أو يناقشها، أو يدعم بها أفكاره، أو يقارن بينها فكل الناس يقرءون، ولكن كلهم لا يصلح أن يكون باحثًا أدبيًا؛ لأنهم لا يملكون المهارة اللازمة للباحث بالنسبة للقراءة والاستنباط، فقراءة المصادر لاستنباط المادة العلمية منها ليست

بالأمر الهين، ولا تؤتي ثمارها، وتتم فائدتها إلا إذا تذرع الباحث بالصبر والأناة، واتصف بعمق الفهم، واتزان الفكر، ورجاحة الرأي، وقوة الملاحظة، هذه أمور ينبغي للباحث أن يراعيها، وهو يقرأ ويستنبط، ويتعامل مع المادة العلمية التي توجد في ثنايا مصادره ومراجعه. كما ينبغي له أن يتخير أفضل الأوقات للقراءة، وأفضل الأوقات هي الأوقات التي يكون فيها خالي الذهن، غير مجهد؛ حتى يستطيع أن يحصل ويستوعب، ويتفاعل مع ما يقرأ، ولا ينشغل بشيء سواه. يبدأ الباحث في قراءة المصادر التي رصدها، وحددها، وعرف أماكنها - وكلما وقع على معلومة تتصل بموضوع بحثه دونها بالطريقة التي يختارها ويراها مناسبة. وهناك طريقتان صالحتان لجمع المادة العلمية وتسجيلها، نعرضهما الآن، وليس عرضهما فرضًا، فللباحث أن يختار إحداهما، أو أن يختار طريقة أخرى غير هاتين الطريقتين طالما أنه رأى هذه الطريقة صالحة لتسجيل مادته العلمية، ومناسبة لموضوعه، ووقته، وظروفه، فلا بأس، ولا حرج عليه. الطريقة الأولى: تسمى: طريقة البطاقات، والبطاقة عبارة عن ورقة سميكة متوسطة الحجم 10 سنتيمتر × 15 سنتيمتر، أو 12 سنتيمتر × 15 سنتيمتر تقريبًا، قد تزيد أو تنقص، وتسمى: بطاقة تدوين معلومات، وهي موجودة في المكتبات، يسجل الباحث ما يجمعه من معلومات على وجه واحد من هذه البطاقات، ويستحسن أن يضع عنوانًا لكل فقرة يسجلها، أو نص يختاره؛ حتى يسهل عليه الرجوع إليها، وتجميعها مرة أخرى عند صياغة بحثه، وترتيب المادة العلمية، يضع في أعلى البطاقة، وجد فقرة تحتوي على مضمون ما، يندرج هذا المضمون تحت باب، أو فصل، أو مبحث في خطته، يختار عنوانًا صالحًا لهذه

الفكرة، ويضعه في أعلى البطاقة عنوان بارز، وليكن بخط واضح ومختلف عن اللون الذي يكتب به مادته العلمية، وفي أسفل البطاقة يسجل اسم المصدر -الكتاب-، واسم المؤلف، ورقم الصفحة التي استنبط، أو نقل منها هذه الفقرة، ومكان الطبع، وسنة الطبع، كل هذه المعلومات لا بد أن يسجلها الباحث في أسفل البطاقة. الطريقة الثانية: وتسمى: طريقة الدوسيه، والدوسيه: عبارة عن غلاف من الكرتون له كعب به حلقتان، يمكن التحكم فيهما من خلال فتحهما وإغلاقهما بسهولة، بإمكان وضع الأوراق المخزونة فيهما، فبإمكانك أن تغير أو تبدل من خلال هاتين الحلقتين، يقوم الباحث بتقسيم الدوسيه إلى أبواب أو فصول حسب الخطة التي رسمها لبحثه، يفصل بين كل باب وباب، أو فصل وفصل بورقة مقواة -ورقة سميكة-، ويكتب عليها عنوان الباب أو الفصل، ويجعل لها لسانًا بارزًا، يكتب على هذا اللسان نفس العنوان الذي يوجد في داخل هذه الورقة المقواة؛ حتى يسهل عليه الرجوع إليه عند الحاجة، يكون لسانًا بارزًا وعليه العنوان، فينظر في الألسنة فيجد جميع العناوين، عناوين الفصول أو الأبواب التي شكل بها خطته. كأن الدوسيه أصبح خطة فارغة من المعلومات، كل فصل يقسم مثلًا: فصل هذا عشر صفحات، الفصل هذا اثنتى عشرة صفحة، الباب هذا له خمسين صفحة فارغة. فالدوسيه عبارة عن خطة مبحث مفرغة، داخل الدوسيه عناوين، عناوين أبواب، عناوين فصول، عناوين مباحث، يسجل الباحث المادة العلمية المستمدة من المصادر في مكانها من أوراق الدوسيه على وجه واحد، يكتب على وجه واحد من أوجه الصفحة مع الإشارة إلى اسم المصدر، واسم المؤلف، ورقم

الصفحة والطبعة وتاريخها. وإذا ازدحم الدوسيه بالأوراق لجأ الباحث إلى دوسيه آخر بعد إجراء تعديل على الدوسيه الأول، كأن يجعله خاص بفصل أو باب معين، ثم يكمل ما بقي من البحث في دوسيهات أخرى، أو يخصص الجزء الأخير منها للفهارس، وهكذا للباحث أن يتصرف كيفما شاء، يجعل دوسيهًا واحدًا، أو اثنين على حسب المادة العلمية التي يستنبطها من المصادر والمراجع. يقرأ الباحث في مصدر ما فيقع على معلومة تتصل مثلًا بالباب الثاني من البحث، والفصل الأول من هذا الباب، فيفتح الباحث الورقة المقواة التي تشير إلى هذا الباب أو ذلك الفصل، ويسجل المادة العلمية في مكانها، فإذا ما انتهى الباحث من قراءة المصادر والمراجع يكون قد ملأ الفراغات التي تشكل خطط البحث. هذه هي الطريقة الثانية. بعض الباحثين يفضل الطريقة الأولى، وهي طريقة البطاقات؛ لأن البطاقة أيسر في الاستخدام عند التدوين من الدوسيه -هذا صحيح-، وكذا عند صياغة البحث؛ إذ بالإمكان أن نطرح أكبر عدد من البطاقات أمامنا، وننظر فيها في وقت واحد. عندي عشرين خمسين بطاقة مثلًا، كل بطاقة فيها مادة علمية على وجه واحد كما اتفقنا، وكل فقرة، أو كل مادة علمية معنونة، أو معنون لها بعنوان يدل عليها، أضع هذه البطاقات أمامي، بإمكاني أن أنظر في عشرين أو خمسين بطاقة في وقت واحد، وأجمعها بسهولة. فبعض الباحثين يفضل هذه الطريقة؛ لهذا السبب. وأنت نفسك إذا اعتدت نظام البطاقات، وطبقته جيدًا، فإنك لن تستغني عنه حتى بعد الانتهاء من إعداد بحثك، فكثير من الأساتذة الكبار في ذوي الخبرة في مجال البحث العلمي لا تفارقهم البطاقات، وإنما يحملونها معهم أينما حلو؛ يسجلون فيها ما يعثرون

عليه من معلومات، أو يجد لهم من أفكار. ومما يروى في هذا المقام -مقام البطاقات وتسجيل المادة العلمية فيها- ما قيل: إن المستشرق الألماني "فيشر" اعتزم تأليف معجم تاريخي لألفاظ اللغة العربية، وهذا عمل مضن بلا شك، يتطلب وقتًا وجهدًا، وبدأ الرجل بالفعل أول خطوة مستخدمًا نظام البطاقات، ثم قطع شوطًا غير قصير في هذا الطريق، لكنه توفي قبل أن يصل للنهاية، ويحقق غايته، وبقيت البطاقات حية بما فيها من معلومات؛ حتى ابتاعها مجمع اللغة العربية بالقاهرة بثمن مناسب، فليتك أيها الباحث تعود نفسك على ذلك، وتسلك مسالك العلماء. والبعض الآخر من الباحثين يفضل طريقة الدوسيه؛ لأن الدوسيه يحفظ الأوراق بخلاف البطاقة، فإنه من السهل أن تفقد، كما أن الدوسيه يمكن بسهولة الرجوع إلى النص فيه من خلال اللسان البارز في الورقة المقواة التي تفصل بين الفصول والأبواب، كما أن الورقة في الدوسيه أكثر اتساعًا، فيمكن للباحث أن يسجل فيها أكثر من نص، أو يضيف عليها تعليقًا، أو فكرة طارئة، أو معلومة جديدة، يعني: أمامه متسع لأكثر من معلومة، لكن البطاقة محدودة المساحة، وتفضيل إحدى الطريقتين على الأخرى أمر مرده إلى الباحث نفسه، هذا بالنسبة لطرق تسجيل المعلومة. أما اقتباس المعلومة من المصادر: فهو أنواع هناك اقتباس يسمى: الاقتباس الحرفي، وهو نقل النص دون تدخل من الناقل فيه، لا يبدل، ولا يغير، ويكون ذلك في حالة الاستشهاد بالنص، أو مناقشة النص، أو تحليله، أو التنبيه على الانفراد بالرأي فيه، أو ما أشبه ذلك من مواقف تستدعي عدم التبديل في النص المنقول، في حالة الاقتباس الحرفي يوضع الكلام المنقول

بين علامتي تنصيص، وينبغي ألا يكون الاقتباس الحرفي، ولا يلجأ إليه الباحث إلا عند الضرورة، فإن طال أو زاد عن حد المعقول فمن الممكن أن يستغني عن علامات التنصيص، ويكتب النص ببنط مختلف عن بقية الكلام، ويضيق ما بين السطور من مسافات، ويترك مسافة سنتيمتر واحد عند بداية الكلام ونهايته في كل سطر. والهدف من ذلك: تمييز هذا النص، فنفرض مثلًا: أن باحثًا سوف يقتبس عشرين سطرًا أو عشرة أسطر، هذا كم كبير النص طال، ماذا يفعل؟ يستغني عن علامة التنصيص في بداية ونهاية النص، ويكتب هذا الكلام بخط مختلف في الحجم، بنط مختلف في الحجم لونه أسود سميك، ثم يترك مكانة سنتيمتر يمين ويسار الهامش زائد عن بقية الكلام، فيتميز هذا الجزء؛ لأنه نص منقول ومختلف عن بقية الكلام، هذا بالنسبة للاقتباس الحرفي. هناك اقتباس آخر يسمى: اقتباس التلخيص، وهو نقل مضمون الفكرة من المصدر بعد استيعابها واختصارها، وتلخيصها بأسلوب الباحث، ومن حق الباحث حينئذ تقديم بعض الألفاظ، أو تأخيرها، أو حذف وإضافة ما يراه صالحًا. وفي كل هذه الأحوال لا يوضع الكلام بين الأقواس، وإنما يشار في الهامش إلى المصدر الذي استفاد منه الباحث والمؤلف، ورقم الصفحة، والطبعة، ثم تضاف كلمة: "بتصرف"، ولا يوضع الكلام بين علامتي تنصيص، أو أي نوع من أنواع الأقواس، وإنما يترك حرًّا كبقية الكلام، ولا بد من التنبيه عليه في الهامش -كما قلت- بإضافة كلمة: بتصرف. ولا ينبغي للباحث أن يهمل مصدرا لوجود بديل له مهما كان الأمر، وبعض الباحثين يقع في هذا الخطأ، فقد يكون موضوع بحثه عن جانب من جوانب شعر شوقي، أو شخصيته مثلًا، وفي نفس هذا الموقف يحتاج الباحث إلى استقراء عدة

مصادر تاريخية وسياسية مختلفة، وهي كثيرة جدًّا في هذا العصر، كما يحتاج إلى قراءة عدد كبير من الدراسات التي كتبت حول الشاعر أحمد شوقي، وفنه الشعري، وهي من الكثرة بمكان، فيكتفي الباحث ببعض هذه المصادر؛ ظنًّا منه أن هذا البعض يفي بالمطلوب، أو بحجة أن المادة العلمية واحدة، بعض الباحثين يقول هذا، ويحتج بذلك، يقول: فلان هذا نقل عن فلان هذا، كلها منقولة، ومتشابهة، المادة العلمية فيها متشابهة. أيًّا كان، لا يصح بحال من الأحوال في مجال البحث العلمي أن تكتفي بمصدر بهذه الحجة، أو بأية حجة من الحجج، فربما لو اطلعت على مصدر من المصادر التي تركتها لوجدت فيها عبارة أو فقرة تفتح لك بابًا كان مغلقا، أو تغير مفهومًا لديك كان سائدًا؛ فالباحث الناضج لا يترك مصدرًا أو مرجعًا له صلة ببحثه إلا وقرأه، وعرف ما به. ولا تقتصر المصادر على الكتب الموجودة في المكتبة وحسب، بعض الباحثين يظن هذا، يظن أن المصدر أو المرجع لا يخرج عن إطار الكتب المدونة والموجودة في المكتبات، وإنما قد يكون المصدر مقابلة شخصية تجري مقابلة شخصية مع عالم ما، أو أي إنسان له علاقة بهذا الموضوع، وقد يكون المصدر محاضرة علمية تتصل بموضوع بحثه، قد يكون المصدر سجلًا من السجلات الحكومية، فكل ما يندرج تحت وعاء المعرفة يعد مصدرًا من مصادرها، ويندرج تحت ما نشير إليه الآن من مصادر ومراجع. وفي هذا المقام، مقام الحديث عن المصادر، وكيفية جمع المادة العلمية منها، هناك مجموعة من الإرشادات أو النصائح أود الإشارة إليها، والانتفاع بها، أعرضها بإيجاز فيما يلي: 1 - البحث العلمي ليس تجميع مادة علمية صحيحة، أو تلخيصًا لكتاب أو تنظيمًا لهذه المادة العلمية، ثم جمعها بعد ذلك بطريقة ما، كثير من الباحثين

يفرح بذلك، ويعتقد أنه قد انتهى من بحثه عند انتهائه من جمع المادة العلمية، ويرى أن ما بقي ليس من الصعوبة بمكان. ومن ثم، يركز اهتمامه على جمع المادة العلمية التي تتصل بمشكلة البحث، وربما ينجح في ذلك إلى أبعد مدى، ولكنه لا ينجح في دراسة المشكلة، وتوظيف تلك المادة التي دارت حولها. 2 - يجب أن تتوفر الموضوعية، والصدق، والتنوع، وقابلية الاستعمال في المادة العلمية المجموعة، لا تجمع أي مادة علمية تقابلك تتصل بموضوع بحثك من قريب أو من بعيد، لا بد أن تكون هناك موضوعية، وصدق، وتنوع، تكون هذه المادة قابلة للاستعمال من خلال الربط بينها وبين الخطة من ناحية، وبينها وبين موضوع البحث من ناحية ثانية. 3 - كما يجب أن تتوفر الدقة في النقل، كن دقيقًا في نقلك بحيث تنقل المعلومة كما هي بخط واضح، ونسق جيد، لا تصحح خطأ، وإن رأيت شيئًا في النص ينبغي تغييره نبه على ذلك في الهامش، وإياك أن تتدخل بتغيير النص ذاته، وخاصة إذا وضعت نصك بين علامتي تنصيص. 4 - بإمكانك أن تفسر كلمة أو تضبطها أو تصلحها تضع كل ذلك في متن البحث بين قوسين معكوفين تمييزًا له عن النص الأصلي. 5 - ومن هذه الإرشادات في بعض الأحيان يقع الباحث على مصدر لا يعرف مكان نشره، ولا تاريخ طبعه أو مكانه فيعزف عنه، وقع مصدر في يدك ليست عليه أي معلومة غير اسم الكتاب، واسم المؤلف، فماذا تفعل؟ كثير من الباحثين يعزف عن مثل هذا المصدر، وبعضهم ينقل منهم دون توثيق للمعلومة، يقتبس من هذا المصدر، ولكنه لا يوثق المعلومة التي نقلها، لا يشير إليها، وهذا لا يليق، ولا يصح بأي حال من الأحوال، وإنما يتعامل

الباحث مع مثل هذا المصدر كغيره من المصادر التي دونت عليها جميع البيانات. وعند التوثيق يضيف هذه الرموز التي أشير إليها، فإن وجدته دون طبع أضف "د، ط" في الهامش، وأنت تشير إلى المرجع، وأن توثق المعلومة اذكر "د، ط" أي: دون طبع، أو "د، ت" أي: دون تاريخ للطبع، أو "د، م" أي: دون ذكر لمكان الطبع، وتكتفي بالمعلومات، أو البيانات التي دونت على الكتاب عند توثيق المعلومة، لكن لا تنقل المعلومة دون توثيق، ولا تترك المصدر دون أن تفيد منه بأي حال من الأحوال. 6 - ومن الإرشادات أيضًا أن يستخدم الباحث أكثر من لون في الكتابة، وأن تسجل المادة العلمية التي استنبطها من المصادر والمراجع، يفضل أن تستخدم أكثر من لون في الكتابة، تمييزًا للمادة العلمية المنقولة عن غيرها، كأن تجعل مثلًا اللون الأزرق للمادة العلمية التي تنقلها من المصادر، واللون الأحمر للتعليقات التي تبديها على تلك المادة، واللون الأسود لبيانات المصادر والمراجع، وتكون ملتزم بهذه الألوان. واعلم أن ذلك سوف يساعدك عند تصنيف المادة العلمية، وصياغة البحث. وإذا صادفك نص أو معلومة موزعة على أكثر من صفحة في مصدر من المصادر لا بد من الإشارة إلى الصفحات، ولا تكتفي بذكر رقم الصفحة الأولى فقط، فمثلًا: أنت تنقل من كتاب (العمدة) لابن رشيق مثلًا فوجدت نصًا يبدأ في نهاية ص مثلًا 50 يتصل ببحثك، وينتهي في ص 51 ونقلت النص نصفه في ص 50 والنصف الآخر في ص 51 كثير من الباحثين يشير إلى النص على أنه في ص 50، (العمدة) الجزء الأول، ص 50، هذا لا يصح، اكتب 50 - 51، هذا هو التوثيق الصحيح. وإذا كان النص المراد اقتباسه من المصدر طويلًا، وأنت لا تحتاج في بحثك منه إلا إلى بعض جمل، فمن الممكن أن تنقل من النص الجمل التي

تحتاجها أو يحتاجها بحثك، وتضع مكان الجمل المحذوفة ثلاث نقاط أو أكثر؛ حتى يفهم القارئ أن هناك جملًا محذوفة. 7 - ومن الأمور التي يجب مراعاتها أيضًا أنه إذا كثرت المادة العلمية الموجودة في مصدر من المصادر بحيث لا تتسع لها بطاقة واحدة، يعني: أنت تنقل من كتاب (البيان والتبيين) حول فكرة من الأفكار التي تتصل ببحثك، وامتلأت البطاقة، لكن لا زالت هناك معلومات موجودة في الصفحة التي تتعامل معها، أو في الكتاب، فإياك أن تضيق، أو تزحم البطاقة بالكتابة، أو تكتب على ظهرها، إياك أن تفعل هذا، وإنما تكتب كتابة حسنة منظمة مرتبة، ثم تضع بقية المادة العلمية في بطاقة ثانية، وتكتب على هذه البطاقة الثانية نفس البيانات التي سجلتها على البطاقة الأولى، وتعطيها رقمًا تقول: بطاقة رقم واحد بنفس العنوان، بطاقة رقم اثنين، بطاقة رقم ثلاثة، حتى تنتهي من المعلومة التي تتصل بهذه الفكرة. 8 - ومن الإرشادات أيضًا في هذا السياق: إذا وقعت على مصدر من المصادر فخذ منه كل ما تحتاجه، وإياك أن تكتفي منه ببعض العناوين أو أرقام الصفحات، أو تلخيص ما قرأت على أن ترجع إليه بعد ذلك، إياك أن تفعل ذلك، فقد لا يتيسر لك الرجوع إلى هذا المصدر مرة ثانية، وإذا تيسر فقد لا يتسع وقتك، فانتهز وجود المصدر بين يديك، وخذ منه كل ما تريد بحيث إذا تركته فلن ترجع إليه مرة أخرى، وإذا صادفتك معلومة تتصل بموضوع بحثك في مصدر ما، ثم وجدت نفس المعلومة في مصدر آخر، فلا تكتفي بالإشارة إلى مصدر واحد، وإنما عليك أن تسجل المعلومة، ثم تشير إلى المرجعين معًا، مع ملاحظة السابق واللاحق منهما، وإن وجدت اختلافًا بينهما فلا بد أن تعلق عليه، ولا تمر عليه مرورًا عابرًا.

9 - ومن الأمور التي أود التنبيه إليها كثير من الباحثين ينشغل عن الخطة بعد وضعها والاطمئنان إليها، بل ينسى خطته، أو تضيع منه، هذا لا يليق، لا تجعل استقراء المصادر يشغلك عن خطة بحثك بأي حال من الأحوال، ولا عن عنوان موضوعك، خطتك أمامك دائمًا، عنوان بحثك، أو عنوان موضوعك في ذهنك وقلبك وخاطرك. ومن ثم، ينبغي أن تخصص بطاقة أو أكثر تجعلها لتسجيل أي فكرة طارئة تتصل بالخطة أو عنوان البحث، ولا تتركها دون تسجيل، فإنك لن تستطيع استحضارها فيما بعد، وأنت تستنبط ضع بجوارك بطاقتين بطاقة للملاحظات على الخطة، بطاقة أخرى ملاحظات على العنوان، ربما وأنت تقرأ يبدو لك أنه من الأفضل أن تغير فصلًا في خطته، أو تضيف فصلا، أو تغير العنوان، كل هذه الأفكار أو الملاحظات سجلها في البطاقات الخاصة بالخطة والعنوان. وكذلك إذا عثرت على معلومة جديدة تتصل بموضوع بحثك، ولكن ليس لها محل في الخطة الموضوعة من قبل، لا تترك هذه المعلومة بحجة أنها لا توجد في الخطة، لا بل أسرع إلى تسجيلها، وبعد الانتهاء من ذلك كله عد إلى خطتك وأعد فيها النظر مرة أخرى بحيث تستوعب جميع ما حصلت من مادة علمية. 10 - ومن تلك الإرشادات أيضًا: أحيانًا يقع الباحث على معلومة في مرجع من المراجع، وهذه المعلومة منقولة عن مصدر قديم، ووثقها صاحب المرجع الحديث فيأخذها الباحث ويسجلها في بحثه، ويعتمد على توثيق صاحب المرجع لها دون الرجوع إلى المصدر القديم، أو الإشارة إلى المرجع الذي أخذ منه المعلومة، هذا من أخطر ما يقع فيه الباحث، يعني: مثلًا: أقرأ كتابًا لعالم من علمائنا الأجلاء في العصر الحديث، وأراه يستشهد بنص من كتاب (الموازنة) للآمدي، وينقل النص يقتبسه اقتباسا حرفيا، ويوثق النص في الهامش، وأنا جئت عند قراءتي لهذا المرجع، وكان بحثي يحتاج إلى نقل هذا النص الذي نقله من كتاب

الموازنة فأنقل النص من هذا المرجع الحديث دون الرجوع إلى كتاب (الموازنة)، هذا خطأ بين، ولا يجوز بحال من الأحوال، فلا بد من الرجوع للمصدر القديم، ثم الإشارة إلى المرجع اللاحق، وإلا فإن ذلك يعرضك للاتهام بالسرقة، ويصمك بعدم الأمانة العلمية، هذا لا يجوز، فربما يكون الناقل أو الطابع قد ترك كلمة أو حرّف في ضبط كلمة، أو تصحيف، إلى آخره. فلا بد أن تطمئن بنفسك إلى صحة النص في مصدره الأصلي. ومن تلك الفوائد: إذا كان موضوع بحثك يدور حول نص من النصوص فاحرص على أن يكون النص محققًا تحقيقًا علميًّا ومطبوعًا طبعة جيدة، وإلا فسوف تتضاعف مهمتك، وتقوم بدور الباحث والمحقق معًا، كما يستحسن إذا كان موضوع بحثك نصًّا، كأن يكون ديوان شعر، أو قصيدة، أو خطبة، يستحسن أن تقتني المصدر الذي فيه النص الذي هو محور بحثك، وتديم فيه النظر مرة بعد أخرى، وتعقب على مفرداته، وأسلوبه، وتحلل ما يحتاج إلى تحليل، موضحًا الأفكار، وتسلسلها، والجيد، والرديء منها، وتضع كل هذه التعليقات على هامش الكتاب نفسه، وهذه التعليقات تكون بمثابة المفاتيح التي تمكنك من الدخول إلى عالم النص عند الحاجة، وتذكرك بما فيه. أيها الباحث، عندما تنتهي من جمع المادة العلمية، فإن كنت قد اتبعت طريقة الدوسيه، فإنك ستجد أن جميع العناوين في الدوسيه المكونة للأبواب والفصول تحتها مادة علمية وفيرة، لا تحتاج منك أكثر من تنظيمها وترتيبها، ودرسها، ثم صياغتها صياغة علمية جديدة. وأما إذا كنت اتبعت نظام البطاقات في جمع المادة العلمية، فعليك بعد الانتهاء من استقراء جميع المصادر، واستنباط المادة العلمية منها أن ترتب هذه البطاقات على حسب عناوين الأبواب، أو الفصول، وتجعلها في شكل حزم، يعني:

أجمع بطاقات الفصل الأول في حزمة، الفصل الثاني في حزمة، كل فصل، أو كل باب، أو كل مبحث، أجمع البطاقات التي تتصل أو تجمع مادة علمية تتصل به، وأضعها في حزمة، وهكذا يصبح لديك مجموعة من الحزم، قم بفحصها جيدًا، ومطابقتها على خطة بحثك، فربما وجدت حزمة لا يوجد في الخطة ما يمكن إدراجها تحتها، ممكن تجد حزمة فيها مادة علمية، لكن هذه المادة العلمية ليس لها مكان في خطتك التي وضعتها، ماذا تفعل؟ حينئذ تنظر في المادة العلمية الموجودة في هذه الحزمة، فإن كانت تصلح لأن تجعل لها مكانًا في الخطة، فلا تتردد، وإن كان بالإمكان إدراجها تحت أي فصل أو باب فلا مانع، كل ذلك يتم بالتشاور مع أستاذك المشرف، أما ما تبقى من بطاقات منفردة قليلة، ولا تحتاجها في بحثك فاجمعها في حزمة واحدة، واكتب عليها متفرقات، وسوف تحتاجها في يوم ما كما أشرت قبل ذلك. وجدير بالذكر أن مرحلة جمع المادة العلمية تظل مفتوحة حتى كتابة آخر كلمة في البحث، ففي أي مرحلة كنت من مراحل البحث، وعثرت على مصدر جديد، أو طبعة جديدة، أو مخطوطًا جديدة، ورجعت إليها، واقتبست منها، فلا بد أن تدون هذا الاقتباس في مكانه حتى وإن كنت قد انتهيت منه. وإياك أن تضق ذرعًا بعملية استقراء المصادر والمراجع، وجمع المادة العلمية منها؛ لأن هذه مرحلة لا بد منها، وعلى قدر جدك فيها، ودقتك في التعامل معها يكون تمكنك من المضي في الخطوة التالية من خطوات بحثك، بحيث تقبل عليه بنفس وثقة، وفكر ناضج واعٍ، وفي نفس الوقت ينبغي للباحث أن يتنبه إلى أن كثرة النقول من المصادر والتسجيل في البطاقات بلا وعي لا يستجد أبدًا؛ لأن ذلك سوف يكون عبئًا على الباحث بعد ذلك، ويحتاج إلى وقت وجهد لحصر ما يحتاجه من البطاقات، وفرز المادة العلمية. ومن ثم، يجب أن تتريث في قراءتك، وتكون فطنًا في استنباطك بحيث لا تسجل في الدوسيه أو البطاقة إلا ما يحتاجه بحثك.

كيفية استخدام القدماء والمحدثين للمصادر.

ومن الملاحظات المهمة أيضًا التي يجب التنبيه عليها نرى بعض الباحثين يطلب من أحد زملائه، أو من أي أحد آخر أن يقوم بعملية جمع المادة العلمية من مصادرها أو معاونته، هذا تصرف من أخطر ما يكون، ويعد من الأخطاء الجسيمة التي يقع فيها بعض الباحثين، هذا لا يجوز. وهب أن باحثًا ما تمكن من جمع المادة العلمية من خلال غيرك، فإنه لن يتمكن من صياغتها صياغة جيدة، وتوظيفها في بحثه توظيفًا صحيحًا، بالإضافة إلى أنه سيكون باحثًا غير جاد، يعيش عالة على غيره، ولن يأتي بجديد في مستقبل أيامه. وليعلم الباحث أن جمعه للمادة العلمية بنفسه فيه عدة فوائد: فإن ذلك يجعله في قمة الوعي بما يأخذ ويترك من مواد علمية داخل المصادر، كما أنه يثير في خاطره كثيرًا من الأفكار والآراء، وهو يقرأ، ويستوعب، ويستنبط. ويفيده أيضًا في إيجاد لون من الألفة بينه وبين موضوعه، فيقبل عليه بنفس راضية. وفي سياق حديثنا عن المصادر والمراجع لا بد لنا من وقفة نتعرف من خلالها على تنوعها، وكيفية استخدام القدماء والمحدثين لها. كيفية استخدام القدماء والمحدثين للمصادر لقد عرفت في بداية حديثي للمصدر والمرجع، وفرقت بينهما وأشرت إلى تنوع المصادر إلى مصادر أصلية، ومصادر ثانوية، وضربت أمثلة لكل نوع، والآن نتعرف على كيفية استخدام القدماء للمصادر. القدماء اعتمدوا على الرواية الشفوية الرواية الشفوية، كانت هي الغالبة على مصادر المعرفة عندهم، هي الأداة الأولى في التأليف، ولذلك اهتم بها العلماء وبأسانيدها، ومتنها اهتمامًا كبيرًا، حتى بعد ظهور التدوين، وخاصة في مراحله الأولى، نلحظ ذلك في كثرة الأسانيد التي تذكر مع الأشعار والأخبار للدلالة على صدقهما.

هذا الوضع الذي كان عليه العرب لفت أنظارهم إلى فكرة المصدر، كل خبر معه مصدره، كل كلمة لها مصدرها. لما ظهر التصنيف في اللغة والأدب ظلت فكرة المصدر تشغلهم، وبدأت تظهر عند المصنفين في اللغة والأدب عناية شديدة بذكر المصادر الأساسية التي اعتمدوا عليها في تأليف مصنفاتهم مع عنايتهم الشديدة بالأساليب التي تحمل الأخبار الواردة فيها؛ لأنها المصدر الأصلي الذي ينبغي الرجوع إليه دائمًا، فنراهم يعرضون في مقدمات مصنفاتهم لأئمة اللغة والأدب الذين اعتمدوا عليهم في جمع المادة العلمية، وكلما تقدمنا مع الزمن وجدنا اهتمامًا بالغًا بالمصادر. فعلى سبيل المثال: لو تأملنا كتاب (المخصص) لابن سيدة المتوفى سنة ثمان وخمسين وأربعمائة، وجدناه يذكر في مقدمته مصادره التي استقى منها مادته العلمية، وفي مقدمتها كتب الأصمعي، وكتب أبي زيد، وكتب أبي حاتم، وكتب ابن شمين، وابن الأعرابي، وكتاب تعلب (الفصيح والنوادر)، وغير ذلك من مصادر أثبتها ابن سيدة في مقدمة معجمه، ولم يكن ديدن ابن سيدة وحده، وإنما فعله معاصروه أيضًا، فهذا ابن عبد البر النمري القرطبي الحافظ المتوفى سنة ثلاث وستين وأربعمائة، يصنع في كتابيه (الاستيعاب في معرفة الأصحاب)، و (الدرر في اختصار المغازي) مثل ما صنع ابن سيدة، وكلما دار الزمن دورة رأينا اهتمام العلماء بالمصادر يزداد توثيقًا لما يؤلفون ويصنفون. وياقوت الحموي يعد نموذجًا وعلمًا بارزًا يحتذى في هذا المجال في كتابيه: (معجم الأدباء) و (معجم البلدان)، ولعل علمًا لم يعن حملته والمؤلفون فيه بذكر المصادر مثل علم القراءات، ومن يرجع إلى كتاب السبعة لمجاهد المتوفى سنة أربع وعشرين وثلاثمائة يجده يهتم بذلك اهتمامًا لا حد له، وكذلك كتاب (النشر في القراءات العشر) لابن الجزري، وغير ذلك من كتبه.

وكانوا أحيانًا لا يسجلون مصادرهم في مقدمات مصنفاتهم، ولكنهم كانوا يسجلون المصدر باسمه في تضاعيف الكتاب حين النقل منه، فلو تأملنا مثلًا كتاب (المغني) لابن سعيد نجده يعنى بذكر مصادره عناية دقيقة، حيث تتردد كثيرًا في تضاعيف كلامه، ككتاب (المسهب) للحجاري، وكتاب أحمد بن موسى الرازي، وكتاب (المسالك والممالك) لابن حوقل، وكتاب (فرحة الأنفس) لابن غالب، و (نقد العروس) لابن حازم، وكتاب (البديع في فصل الربيع)، وغير ذلك مما ورد في تضاعيف الكتاب. كل هذا يؤكد اهتمام القدامى بالمصادر، وانتفاعهم بها، وكانوا غالبًا إذا نقلوا عنها لم يلخصوا أو يحرفوا في عباراتها، وإنما يتقيدون بالألفاظ تقيدًا شديدًا. وقد نقدوا المصادر أيضًا، واعتنوا بنقدها عناية لا مثيل لها، وربما كانت عنايتهم بالحديث الشريف ومصادره وراء ذلك النقد، فقد ألفوا كتبًا كثيرة في الرواة، ورجال الأسانيد، وصوروا حياتهم، وسلوكهم، وكل ما اقتربوا فيه من شئون الحياة العلمية؛ حتى يكونوا على بينة من جميع أمورهم، وجرحوا من استحق التجريح منهم، وألفوا الكتب الكثيرة في الجرح والتعديل، وكانت التعديل يقوم على أساس اتصاف الراوي بالعدالة، وثبوت الأهلية للرواية، فلا بد أن يكون ممن عرفوا بالتقوى، والصدق، والأمانة. أما التجريح: فيقوم على اتصاف الراوي ونقص العدالة، والصدور عن الهوى، أو عن الكذب والتخليط، وقد تأثر علماء اللغة والأدب بعلماء الحديث في هذا الجانب تأثرًا واضحًا، فقد فحصوا رواة اللغة والشعر منذ القرن الثاني الهجري، واكتشفوا كذب حماد وابن الكلبي وجناد ورفضوا روايتهم، كما اكتشفوا وضع خلف الأحمر للأشعار، وكذبه في روايته، وأشادوا بثقة العدول من الرواة، كالمفضل الضبي، وابن الأعرابي، والأصمعي وغيرهم.

أما عن استخدام المحدثين للمصادر: فقد تعددت المصادر تعددًا ملحوظًا في العصر الحديث، وأصبحنا نجد أكثر من مصدر في الموضوع الواحد، وفي بعض الأحيان يصعب جمع هذه المصادر. ومن ثم، اهتم المحدثون بتحديد المصدر الأسبق، أو المتقدم وعدوه أصلًا، كما اهتموا بكيفية الإفادة من المصادر، ولم يكتفوا بجمعها أو الإشارة إليها فحسب، كما اهتموا بلغة المصدر أيما اهتمام في عصر تعددت فيه اللغات، وكثرت الترجمات، وأصبح لزامًا على الباحث الإلمام بهذا جميعًا. أما من حيث نقلهم للمصادر: فقد انصرف هذا النقد إلى الرواية والرواة كما فعل القدماء من قبل، فقد لفت نقد القدماء للرواية والرواة أنظار المستشرقين، وبدل أن يقفوا عند حد الإعجاب بصنيع هؤلاء، ودقتهم، وتمحيصهم مضوا يتهمون الشعر الجاهلي عامة دون الاعتماد على أدلة تؤيد ما ذهبوا إليه، ولعل "مارجليوس" يأتي في مقدمة هؤلاء الذين نقدوا المصادر من المستشرقين، حيث كتب مقالًا طويلًا في مجلة الجمعية الملكية الأسيوية سنة خمس وعشرين وتسعمائة بعد الألف، بعنوان: "أصول الشعر العربي" محاولًا التشكيك في الرواية والرواة، وكذا نقد المستشرق الألماني "فلهوزن" لرواية الطبري، وطريقته العلمية في استخلاص الصحيح منها، والنفي الزائف. وقد فحص هذا المستشرق روايات الطبري فحصًا دقيقًا، وقام بجهد كبير في المقارنة بين روايات الأخبار، والأحداث، واستخلاص الصحيح منها، وهذا لا يقلل من شأن الطبري بحال من الأحوال، ولا من شأن منهجه، وهو لم يجمع تلك الروايات عبثًا، وإنما جمعها؛ لأنها تمثل مصادر

متعددة، ومن واجبه أن يضعها تحت أعين الناس؛ ليبينوا، أو ليتبين الصادق منها من غيره. أما بالنسبة للعرب في العصر الحديث: فيعد الدكتور طه حسين أول من نقد مصادر الشعر الجاهلي، وذلك في كتابه (في الأدب الجاهلي) الذي هاجم فيه رواية الشعر الجاهلي هجومًا عنيفًا، وجرحها تجريحًا شديدًا، وأتى بمجموعة من البراهين يؤيد بها وجهة نظره من أن الشعر الجاهلي لا يصور حياة الجاهليين الدينية، أو العقلية، أو السياسية، أو الاقتصادية، كما لا يصور لغتهم، وقد سقطت كل هذه البراهين أمام ردود الباحثين المخلصين الجادين عليها، واجتثت من جذورها، فلم يعد لها صوت يسمع. ومما يذكر في هذا المقام بكل تقدير، ما قامت به الأقسام العلمية في الجامعات من تحقيق، وتمحيص للتراث، وكشف غثه من سمينه بالاعتماد على مجموعة من المقاييس العلمية الدقيقة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 14 خطوات البحث الأدبي (4).

الدرس: 14 خطوات البحث الأدبي (4).

صياغة البحث.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الرابع عشر (خطوات البحث الأدبي (4)) صياغة البحث الحمد لله، الذي خلق الإنسان وعلمه البيان والصلاة والسلام على سيدنا محمد خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه؛ وبعد: فالخطوة الأخيرة من خطوات البحث الأدبي هي: صياغة البحث: وصياغة البحث: هي المرحلة النهائية التي يسجل فيها الباحث جميع الخطوات التي قام بها أثناء بحثه، وهي الصورة التي يقدمها الباحث للقارئ، ولجنة المناقشة، ويعرض من خلالها فكره، وصياغة البحث تعني: تصنيف المادة العلمية المجموعة، ووضعها في مكانها داخل البحث والربط بينها، ومناقشتها للوصول إلى حقيقة علمية مؤيدة بالبراهين أو الحجج. وتعد صياغة البحث أهم ركيزة من ركائزه التي لا يتم إلا بها، وعليها يتوقف نجاح الباحث أو فشله، فقد يكون الموضوع جيدا، والخطة متقنة منظمة، ويحيط الباحث بمصادر البحث إحاطة تامة، ويجيد استنباط المادة العلمية منها، ثم يأتي عند صياغة البحث، ويضع الكلام في غير موضعه، أو لا يحسن الربط بين العبارات والفقر، ويشوه الأسلوب، فيفسد ما صنع، وتضطرب الفكرة، وينهار البحث في النهاية. ومثل الباحث الفطن مثل البناء الماهر، يتأمل المواد الأولية، فيختار منها أجودها، ويجيد توظيفها، ثم يعمد على المواد الأقل جودة فيحولها إلى مواد جيدة صالحة بفضل مهارته، وبراعة فنه. ومثل الباحث الغفل مثل البناء غير الماهر، عندما توضع أمامه المواد الخام الجيدة، فلا يحسن استخدامها، أو استغلالها، بل يحولها إلى بناء مشوه لا قيمة له، وليست فيه لمسة جمالية رغم جودة المادة الخام التي استخدمها. وصياغة البحث -أيها الباحث- ليست مجرد حشد للمعلومات المجموعة من المصادر والمراجع في مكان ما، أو أماكن متفرقة من بحثك؛ لكي تسد بها فراغا، لكنها عملية فنية وفكرية معقدة؛ إذ من خلالها تبدو شخصية الباحث، ونتعرف على قدراته

الفنية، والعلمية، والفكرية، واللغوية، وندرك أيضا مدى تذوقه للنصوص وقدرته على تحليها، وتقويمها تقويما صحيحا. ومن ثم، ينبغي للباحث أن يجيد عرض المادة التي جمعها بطريقة منطقية منظمة؛ لأنه يعرض يناء متناسقا، يسود بين أجزاءه وفقراته المنطق، والروابط الذهنية المحكمة، ولا يعرضها عرضا عشوائيا؛ هذه الصياغة هي المرآة التي نراه من خلالها، نرى كل ما فيه داخليا وخارجيا من خلال هذه الصياغة. وعرض المادة العلمية، وتحليها ومناقشتها، وتنظيمها داخل البحث فن وعلم يحتاج إلى فطنة وخبرة وثقافة واسعة، وقد نصادف بحوثا لا يجيد أصحابها الربط بين أجزاءها، ولا يحسنون عرض ما جمعوه من معلومات، ولا توظيفه توظيفا جيدا، فتختفي شخصيتهم، وتضطرب أفكارهم، وتفقد نتائجهم المصداقية، وأولئك ينبغي ألا يكلفوا أنفسهم مؤنة البحث وعناءه؛ لأنهم لا يملكون وسائله الأولى من الترتيب، والتنسيق. وهناك أمور ينبغي أن تتوفر في صياغة البحث، وللباحث أن يراعيها جيدا، ولا يغفل عنها بأي حال من الأحوال، من هذه الأمور: دقة التفسير، ودقة التفسير في الحقيقة ترجع إلى ملكة في الباحث، وقدرة على تبينه العلل الكلية للظواهر الأدبية، يبدأ الباحث بدراسة العلل والأسباب، علل وأسباب فرعية، ثم ينتهي منها إلى علل وأسباب عامة. فقد يقف الباحث أمام ظاهرة غامضة اختلف فيها الباحثون، أو ظاهرة يكون هناك إجماع من النقاد عليها' ويحوط هذا الإجماع شيء من الغموض والاضطراب، وتحتاج هذه الظاهرة إلى كشف ما فيها من غموض، وإزالة ما لحقها من اضطراب، وفي مثل هذه الحالة ينبغي أن يكون الباحث فطنا قادرا على التعليل الصحيح، والتفسير الدقيق للظاهرة. ومن خلال التفسير الدقيق يمكن أن يصل إلى نتيجة، فلابد أن يكون قادرا على التعليل

الصحيح، وهو يتعامل مع هذه القضايا الغامضة، أو التي كثرت فيها الآراء، واختلفت حولها وجهات النظر. والباحث الجيد يلتقط مثل هذه القضايا، ويخوض غمارها، ويلم بأطرافها، ثم يخرج في النهاية منها بتصور جيد ربما خالف الرأي المشهور فيها، ولا ضير في ذلك على الإطلاق طالما أن أحكامه تدور على الحجة القوية، والدليل الواضح. ولنضرب لذلك مثلا: الاضطراب الذي لحق الشعر في عصر بني أمية حيث مضى الباحثون من المستشرقين والعرب يقررون أن الشعر في عصر بني أمية لم يصبه التطور والتجديد، ولم يخرج هذا الشعر عن التقاليد المورثة من العصر الجاهلي -اللهم ما ظهر من شعر سياسي أو غزل عذري- وصار هذا الرأي كالحكم القاطع على الشعر في ذلك العصر، ومثل هذا الموقف يحتاج إلى باحث فطن يستخدم التفسير الدقيق، ويتعمق في ذلك الشعر، يرفع الحجب عنه. وقد حدث هذا بالفعل عندما قام الدكتور شوقي ضيف بهذا العمل، وكتب بحثًا قيمًا بعنوان: "التطوير والتجديد في الشعر الأموي"، وبدأ يتعمق في هذا الشعر، ويفسره بدقة، ومن خلال التفسير الدقيق هذا أبطل هذا الرأي السائد، وقرر أن صور التجديد والتطور بادية في الشعر الأموي، وأنها تحولت به إلى ما يشبه العالم الفني المستقل، لا يتحضر فيه العرب فحسب، بل ينغمسون في الترف، وأن الشعر الأموي مرآة صافية ترتسم عليها حياة العرب الجديدة بكل قسماتها وملامحها، بل بكل ما صادفها من تطور. ورأى أيضا أنه لا يوجد عنصر من عناصر التطور إلا وسجله الشعراء في شعرهم، سواء من حيث السمو الروحي، أو من حيث السمو العقلي، أو من حيث نظام الدولة والمعيشة. وأتى المؤلف بألوان من صور التطور والتجديد التي تفصح عن نفسها، ممثلة في شعر عمر بن

أبي ربيعة، والوليد بن يزيد، والكميت الزيدي، وركبة العجاج، وجرير، والفرزدق، والأخطل، وغيرهم من الشعراء في ذلك العصر. وأثبت الباحث من خلال التفسير الدقيق أن هؤلاء الشعراء جميعا أحدثوا تغيرات وتتطورات واسعة النطاق في الشعر الأموي، كما ظهرت ألوان جديدة من الفنون الشعرية، كفن الشكوى من السجون مثلا، والحنين إلى حياة الصحراء. وهكذا استطاع هذا الباحث الجاد أن يسعى وراء قضيته، ويفسر الظواهر بدقة؛ حتى تمكن في النهاية من الوصول إلى حقيقة تخالف رأيًا سائدًا أجمع عليه النقاد من العرب والمستشرقين سنوات طوال. هذا نموذج، ينبغي أن يحتذى، ولا أعني بكلمة تفسير التي أشرت إليها الآن شرح النصوص أو تحليلها؛ فهذا عمل مدرسي يتسم بالسطحية، وإنما أعني التفسير بمعناه الواسع الشامل الذي يستخدم في شتى ميادين الأدب والنقد، التفسير الذي يستخدم في دراسة العصور الأدبية دراسة تتسم بالعمق الذي من شأنه أن يلجأ إلى التفسير الدقيق للحركات، والظواهر الأدبية في عصر ما من العصور. وخير شاهد على ذلك: العصور المتأخرة، وبخاصة عصري الأيوبيين والمماليك، فقد قيل مرارًا: إن الشعراء نضبت قرائحهم، وجفت ينابيع الشعر لديهم في هذين العصرين، وأنهم عاشوا على اجترار الماضي ومحاكاته محاكاة تقصر عن الأصول قصورا شديدا، كل ذلك فيه ظلم لشعراء هذين العصرين، وهو ظلم جره التفسير الخاطئ لمحافظة الشعراء حينئذ، فقد ظن الباحثون أن هذه المحافظة أثر من آثار الجمود وخمول الفكر، والحق، أنه لم يكن هناك خمود ولا ركود، ولا تعطل ذهني على الإطلاق، إنما كان هناك لون من المحافظة القوية بدافع الاحتفاظ بالشخصية العربية أمام أعدائها من الصليبيين والتتار؛ خشية أن تضعف أو يصيبها وهن فيؤثر على قواها العاتية.

وكما نحتاج إلى التفسير الدقيق لبحث الظواهر الأدبية في العصور المختلفة -كما أشرت-، نحتاج إليه أيضا في التعرف على حقيقة المذاهب الفنية، كمذهب التصنع، أو التكلف الشديد الذي ساد في القرن الرابع الهجري مثلًا بين الشعراء، فإن التفسير الدقيق لهذا المذهب يكشف عن جانب مهم من جوانبه، وهو أنه جاء صدى لتصنع مماثل في الحياة، فالحياة العربية آنذاك، والحضارة الإسلامية وصارت لغة التصنع هذه في الحياة الأدبية انتقلت من الحضارة، ومن المجال الحياتي عند العرب، انتقلت إلى فنهم الأدبي، فرأينا كتابات بديع الزمان الهمذاني المثقلة بالتكلف والتصنع، كما رأينا صورة من هذا عند أبي العلاء المعري في لزومياته، كل هذا يكشف عنه التفسير الدقيق. كما نحتاج إلى دقة التفسير أيضا في البحوث التي تدور حول الشعراء أنفسهم، وخاصة حين يصدرون في شعرهم عن عقائد مختلفة، أو فلسفة معينة، فلابد أن ندرك هذه العقائد، وتلك الأفكار الفلسفية إدراكًا جيدًا، من خلال التفسير الصحيح؛ حتى نستطيع الوصول إلى نتيجة صحيحة وصادقة، ولنضرب بذلك مثلا: ابن هانئ عندما يقول في مدح المعز لدين الله الفاطمي: ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار وكذا من ضمن هذه النماذج، ما أشيع حول أبي العلاء المعري من أنه لم يكن يؤمن بشيء بعد الله -سبحانه وتعالى- إلا بالعقل وحده. فما رآه العقل حقا فهو حق، وما رآه باطلًا فهو باطل، هذه الحقيقة كررها النقاد عند أبي العلاء. والباحث لا يعرف الوجه الصحيح لما ورد في بيت ابن هانئ أو فكر المعري إلا من خلال التفسير الدقيق، التفسير الدقيق يكشف عن أن الشاعر ابن هانئ كان يعتنق العقيدة الإسماعيلية، وأن هذه العقيدة كانت تؤمن بانتقال قدرة الله -سبحانه وتعالى- إلى

الإمام الناطق، وعنه تصدر جميع المخلوقات؛ وأن الشاعر أبا العلاء المعري كان متأثرًا بالفكر الاعتزالي، ومعلوم أن المعتزلة يقدسون العقل ويكبرونه إكبارا، وإذا تركنا الأدب القديم، وتأملنا الأدب الحديث لوجدنا عند شعرائنا كثيرًا من الجوانب التي تحتاج في التعامل معها إلى دقة التفسير، وفهمها فهمًا صحيحًا. ولنضرب لذلك مثلا بشاعرين كبيرين هما: محمود سامي البارودي، والشاعر أحمد شوقي أمير الشعراء، فقد اتهم البارودي أنه كان لا يصدر عن نفسه في شعره، وإنما كان يصدر عن محفوظه من الشعر القديم. ومن ثم، قيل: أنه شاعر مقلد للشعر القديم وليس مبدعا، هذا الحكم حكم شائع، واقرأ إن شئت كثيرا من الكتابات التي كتبت عنه، ويسمونه: شاعر الإحياء، يعني: شعره لا يعبر عنه نفسه، ولا ثقافته، ولا عن فكره، وإنما هي مجرد أبيات حفظها من الشعر القديم، وينسج على منوالها. ولكن الدقة في التفسير عندما نأتي إلى هذه القضية، ونتعامل معها من خلال التفسير لهذه الظاهرة في شعر البارودي يتضح لنا أنه كان صاحب أذن مرهفة، وعين شاعرة، وأنه لجأ إلى ذلك لغاية سامية في نفسه يود تحقيقها، وقد نجح فعلا في تحقيق هذه الغاية حين أعاد الحياة إلى الشعر العربي من جديد. ومن ثم، عد أبا للشعر العربي الحديث ومدارسه. كما يكشف التفسير الدقيق أيضا أن شعر البارودي يصور نفسه بأحاسيسها ومشاعرها خير تصوير، وأن كل لفظة نطق بها أو صورة التقطها خياله إنما هي صورة لحسه وشعوره، وليس كما قال هؤلاء المدعون، المتهمون. هذه هي قضية البارودي. أما الشاعر الثاني هو أحمد شوقي: وقد شنت عليه حملة شعواء في ذلك العصر، مفادها: أنه لا يعبر عن نفسه في شعره، ولا يصور ذاته بأهوائها وخواطرها،

وسرت روح هذه الحملة بين الباحثين حتى صارت كأنها حقيقة، ولكن لو اعتمدنا على مبدأ التفسير الدقيق في بحثنا لشوقي، والبيئة التي عاش فيها؛ لتكشفت لنا مجموعة من الحقائق. ومن بعض هذه الحقائق التي تتكشف لنا: أن الشعراء ينقسمون إلى قسمين: شعراء ذاتيين، وشعراء غيريين. فالشعراء الذاتيون يتغنون بمشاعرهم وعواطفهم الذاتية، أما الغيريون: فيتغنون بعواطف أمتهم، ومشاعر قومهم، وجماهيرهم الجماعية، كما يتضح أيضا من خلال التفسير للشاعر، وبيئته، والظروف التي عاش فيها أن الشاعر لا يقاس بذاتيته، أو غيريته، وإنما يقاس بمدى براعته في فنه، وشوقي كان بارعا في فنه أيما براعة، وقد عد أكبر شاعر في عصره، وليس معنى أنه شاعر غيري أن ذاته لم تتضح في شعره، هذا غير صحيح، فكم له من شعر عبر فيه عن عواطفه ومشاعره بجانب مشاعر قومه الفياضة. هكذا، نجد أنفسنا أمام كثير من الظواهر الأدبية لا تنجلي ولا تتضح إلا من خلال التفسير الدقيق للظاهرة الذي يعد من أهم الأسس التي يلتزم الباحث بها عند صياغة بحثه، فكن دقيقًا في تفسيرك للمعلومات التي جمعتها. ومن الأمور المهمة التي يجب تحققها في الباحثين ومراعاتها عند صياغة البحث: قدرة الباحث على التذوق والتحليل، وأعني بالتذوق: تذوق النص الأدبي، وأعني بالتحليل: التحليل الفني، لا مجرد الشرح، أو بيان المعنى، أو التفسير السطحي. لم أقصد هذا. التذوق ملكة تنمو بالمران والممارسة، وقد أشرنا قبل ذلك إلى أن البحث الأدبي بناء تام متكامل، وإذا صح هذا فالتذوق هو أس هذا البناء، أي: أساسه الذي يقوم عليه، وأن التحليل الفني هو البناء نفسه، وعندما أقول: التذوق هو التحليل لا أعني التذوق المجرد الذي يقف عند حد

الإحساس بما في النص من متعة جمالية وفنية، لا أقصد هذا ولا أقصد التحليل السطحي الذي يقف عند حد المعنى الظاهر كما أشرت، وإنما أقصد التذوق الذي يدفع الباحث إلى الجري وراء العلل، والكشف عنها. أقصد: التحليل الذي يجعله يغوص في أعماق النص، ويكشف عن عناصر الجمال فيه، ويوضح تأثيرها في نفس المتلقي، يتخطى جانب الذات عنده، وجانب المتعة إلى الكشف عن العلل والأسباب، بل يتخطى ذلك كله إلى أثر ذلك في نفس المتلقي. فالتذوق لا يقصد لذاته، ولا لمجرد الكشف عن أحاسيس الباحث إزاء الأعمال الأدبية فحسب، فإذا وقف باحث أمام فن المتنبي الشعري مثلا، وتذوقه تذوقا صحيحا، ثم انتقل من التذوق إلى البحث عن مصادر الجمال فيه، فإنه سوف يقف على روعة لا مثيل له، روعة تجسيده لمعاني العروبة وأحاسيسها، ومعاني الفتوة والبطولة، وتصويره الرائع لاعتداده بنفسه، وغير ذلك من خصائص فنية تبدو من خلال هذا التذوق، وذلك التحليل. ولا شك في أن ذلك كله سوف ينعكس على نفس القارئ نتيجة لما يقوم به الباحث من تسجيل آثار انعكاساته على نفسه، وكما يحلل الباحث فن شاعر ويتذوقها، ينبغي أن يحلل شخصية الشاعر، ويكشف عن أثر العناصر الداخلية والخارجية فيها، أي: في هذه الشخصية. بمعنى: أنها يحلل المؤثرات ذاتها التي كونت شخصيته، فالشاعر ثمرة ظروف كثيرة متشابكة، والباحث يكشف من خلال تحليله لشخصيته عن طبيعة تلك الظروف وأبعادها النفسية والشخصية، كما يحلل الباحث المؤثرات التي تعاونت على تكوين غرض معين. تأمل استخدامات التحليل، أو مجالات استخدام التحليل، ليس في تحليل النص فقط، وإنما يحلل المؤثرات التي تعاونت على تكوين غرض معين، أو التي طبعت فن

شاعر ما بطابع خاص. فإذا وقلنا مثلا أمام غزل عمر بن ربيعة، ومخالفته للشعراء في ذلك، حين تحول في غزله من عاشق إلى معشوق، وأردنا أن نكشف عن سر ذلك التحول من خلال التحليل، فإن تحليلنا للمؤثرات التي أثرت في حياته يمكن أن يضيء لنا الطريق، ويكشف عن جانب كبير من هذا السر، وندرك أن حياته في كنف أمه، وتدليلها له، وتعلقها به تعلقًا زائدًا قد انعكس على شخصيته، وشكل فنه تشكيلا مخالفًا لما عليه الشعراء. وعلى نحو ما تحلل أغراض الشعراء وشخصياتهم تحلل اتجاهاتهم الفنية، هذا أيضا مسلك من مسالك التحليل، ويوضح التحليل مسالك تلك الاتجاهات، ومنابعها خاصة في العصر الحديث بعدما قوي اختلاط العرب بالغرب، وأصبح التأثير والتأثر حتميًّا، وظهرت بعض الاتجاهات الفنية المستوردة، كالنزعة التشاؤمية، والامتزاج بالطبيعة، والاتجاه الرومانسي عامة. ومن المهم أن يلاحظ الباحث الأمور التي أملت بالأديب، أو رافقته في حياته، فإن ذلك سيفيده في تحليل بعض الاتجاهات الفنية عنده، والمظاهر الفنية في الأدب تقوم مقام النظريات في العلوم، فكما أن النظريات في العلوم ترد طائفة كبيرة من الظواهر إلى مبدأ كلي يفسرها جميعًا بحيث لا تخرج عنه ظاهرة من الظواهر، كذلك المذهب الأدبي يجمع طائفة من الظواهر الفنية، والخصائص، ويتوصل إليها من خلال استقراء النصوص، وتذوقها، وتحليلها تحليلًا دقيقًا، وتصير تلك الخصائص مقياسًا فنيًّا للباحث. ومن الأمور التي ينبغي مراعاتها عند صياغة البحث أيضا: الدقة في عرض المعلومات بحيث يبدو الكلام مترابطا ترابطا منطقيا في كل فقرة من فقراته، بل في العنوانين ذاتها فيما بينها وبين بعضها البعض من ناحية، وبينها وبين ما تحتها من

معلومات من ناحية أخرى، ويتطلب هذا استيعاب المادة العلمية استيعابا دقيقا من قبل الباحث بحيث تتحول في نفسه من مجرد معارف متجاورة إلى عمل موحد له كيانه، وهذا يعني: أن البحوث لا تقوم على جمع المعارف والمعلومات فحسب، وإنما تقوم على الاستيعاب والتمثل؛ إذ لابد للباحث أن يعايش موضوعه، ويخالط المادة العلمية التي جمعها ويتمثلها تمثلا يحيلها إلى عمل متكامل، فالباحث لا يعرض معلومات، وإنما يعرض بناء متماسكا يسود بين أجزائه وفقراته المنطق والروابط الذهنية المحكمة، فلا نشاذ، ولا تكرار، ولا اضطراب، وبمقدار ما يحتاج البحث إلى تمثل قوي من الباحث فإنه يحتاج إلى شيء من الدقة حين عرض المعلومات والأفكار، ومراعاة حال المتلقي، وطبيعة البحث. كما يجب أن تتوفر في الباحث صحة الأداء بحيث يجيد استخدام الألفاظ، ويعرف موقعها، ودلالتها، ويقف على المصطلحات الأدبية والنقدية، ويدرك أبعاد هذه المصطلحات، فلا يردد ألفاظا أو مصطلحات لا يدرك معناها جيدًا، كما نرى في كثير من البحوث التي تكتب. كما يجب أن يتحرى الدقة في استخدام كلمات الأحكام الأدبية، فلا يوردها بصيغ التعميم إلا إذا تأكد من اندراج جميع الجزئيات في الحكم الأدبي، يعني: لا يصدر حكمًا عامًا إلا إذا كانت هذه الجزئيات تندرج تحت هذا الحكم، ولابد أن يفسح لصيغ الاحتمالات مجالا، ويبتعد عن كل حشو، ويتجنب كل تكلف في الأسلوب، فلا يستخدم السجع إلى ما قد يأتي عفوا، ولا يستخدم الصور البيانية إلا إذا التحمت بالكلام التحاما وجاءت في الحين البعيد بعد الحين، والأولى أن يتحاشاها؛ حتى لا تجره إلى أخلية معقدة، وحتى لا يؤدي به ذلك أحيانا إلى استخدام صور محفوظة تضر بأسلوبه، وسياقه، وتخرجه عن مجال الفكرة التي يتحدث عنها.

ولابد أن يتمرن طويلا؛ حتى يستقيم له أسلوب واضح فصيح، يخلو من الألفاظ الغريبة أو العامية المبتذلة، أسلوب وسط لا يعلو على أفهام المثقفين، ولا يهبط إلى لغة العوام، أسلوب فيه تناسق، فيه استواء. نجد ذلك عند كثير من النقاد، والأدباء المشهورين بجودة دراساتهم الأدبية الذي يملكون القدرة والبراعة، وربما كانت أفكارهم ضحلة، أو سطحية. ومع ذلك، يقبل عليهم القراء؛ لما يجدون عندهم من التناسق في العبارات، والصفاء، وحسن الأداء. نتعلم جميعًا من مثل تلك الأساليب، ونتمرن، ونتمرس. وينبغي أيضا أن تظهر شخصية الباحث العلمية خلال تصنيف المادة العلمية، وصياغتها، وتركيبها، ومناقشتها، ولابد أن يتسم بالحيدة، ويتحلى بالنزاهة، ويتصف بالموضوعية والإنصاف، وأن يتأدب في مناقشة الآراء، فلا يغلو في التسفيه، أو يشتط في الحملة، ويتجنب الحديث عن نفسه بألفاظ التفخيم، والتعظيم. كل هذا ينبغي أن يبتعد عنه الباحث، ولا يقع فيه بحال من الأحوال. ومما يتعلق بالصياغة أيضا وينبغي مراعاته جيدا: العبارة أو الأسلوب: فالبحث -كما أشرت آنفا- بنية واحدة متكاملة، كل عبارة فيه تمثل لبنة أساسية في تلك البنية، يضطرب البحث باضطرابها، ويستجاد بدقتها، وصحة تركيبها. ومن ثم، لابد للباحث من الدقة في التعبير عند الصياغة البحثية بحيث تأتي العبارة على قدر المعنى، دون زيادة أو نقصان، وأن تكون منسجمة في مكانها، فلا يضع عبارة مكان أخرى؛ لأن هذا يفقد البحث أهميته، ويجعله كالخيط المعقد النشاز. وينبغي للباحث أن يختار الجمل القصيرة البسيطة التركيب غير المعقدة، وأن يتجنب المبالغات الممقوتة، وأسلوب السخرية والتهكم، وكل ما يثير الخلاف، ويدعو إلى الجدل، ويخلو أسلوبه بكل ما يخل بالبلاغة والأساليب الأدبية. ومن ثم، لابد للباحث من ثقافة واسعة، ودراية كاملة بعلوم اللغة العربية،

والأخبار، والسير وغير ذلك من العلوم. ومما يتصل بالصياغة أيضا: تأمل الفقرات: والفقرة: مجموعة من الجمل تدور حول فكرة واحدة واضحة، وينبغي أن تكون متوسطة الطول متلاحمة مع نفسها ومع بعضها البعض، ومن الأمور التي يجدر الإشارة إليها في سياق الحديث عن صياغة البحث الحاشية، وأقصد بالحاشية: الجزء أسفل الصفحة، ويستخدم لأغراض كثيرة، كأن تشير مثلا إلى مرجع أو مصدر أخذت منه معلومة، أو مادة علمية، أو أن تحيل الباحث مثلا إلى صفحة من صفحات بحثك؛ حتى لا يقع تكرار داخل البحث، أو تفسير بعض المفردات التي تحتاج إلى تفسير، وتوضح بعض الأشياء التي وردت مجملة في صلب بحثك، أو تصحح ما تراه من أخطاء في نصوص نقلتها، أو جمعتها من هنا أو من هناك، أو تترجم للأعلام، وتعرف بالأماكن والبلدان. كل هذا يكون في الحاشية، وينبغي أن يهتم بها الباحث اهتمامًا لا يقل عن اهتمامه بالصياغة ذاتها، من حيث التنظيم، وحسن الإخراج، ومراجعة ما سجل فيها. فبعض الباحثين يهملها؛ فتصير وصمة عار في بحثه، وتبدو فيها الأخطاء جمة، أرجو أن يتخلص الباحثون من الوقوع في هذا الخطأ. ومما يتصل بالصياغة أيضا: قائمة المصادر والمراجع في نهاية البحث: يجمع الباحث المصادر والمراجع التي استمد منها مادته العلمية يجمعها من ثبت المصادر والمراجع في الحاشية، ثم يسجلها في نهاية البحث، يعني: يراجع الحاشية من أول صفحة حتى نهاية الصفحة الأخيرة من البحث، يجمع كل مرجع ذكره، ويسجلها في نهاية البحث تحت عنوان فهرس المصادر والمراجع، أو قائمة المصادر والمراجع، يذكر فيها اسم المرجع، وكل ما يتعلق به من معلومات، كاسم المؤلف، ورقم الجزء، وسنة الطبع، ومكان الطبع، واسم المحقق، أو الشارح، إلى آخر هذه المعلومات التي أشرنا إليها سابقًا.

والباحث مخير بين طريقين، يختار أحدهما لتسجيل هذه المصادر والمراجع في نهاية بحثه، الطريق الأول: يبدأ باسم المؤلف، ويضع إزاءه اسم الكتاب، وكل المعلومات التي تتعلق بها والمشار إليها سابقًا، فيقول مثلًا: ابن قتيبة (الشعر والشعراء) تحقيق أحمد شاكر الجزء الأول دار المعارف بمصر سنة ست وستين وتسع مائة وألف، أو مرجع آخر عند تسجيله: عبد الرحمن بدوي (مناهج البحث العلمي)، وكانت المطبوعات بدولة الكويت سنة سبع وسبعين وتسع مائة وألف، وهكذا بقية المراجع، تبدأ باسم المؤلف، ثم اسم المرجع، ثم يتلو ذلك المعلومات التي تتعلق بالمرجع كسنة الطبع والمحقق، أو الشارح وهكذا. وإن وجد للمؤلف أكثر من كتاب تذكر هذه المؤلفات مرتبة ترتيبا هجائيا، وكذا ترتب أسماء المؤلفين ترتيبا هجائيا، أو أبجديا، هذه طريقة. الطريقة الثانية: أن اسم المصدر أو المرجع مرتبًا ترتيبًا هجائيًّا أو أبجديًّا، ثم يشفعه بذكر اسم المؤلف، ثم بقية المعلومات عن هذا المصدر، فيقول مثلا: (الكامل في اللغة والأدب) المبرد، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، الجزء الأول، طبع نهضة مصر، عام ست وخمسين وتسع مائة وألف، وهكذا بقية المصادر. وللباحث الحرية في اختيار أي الطريقين شاء، ولكن مع ملاحظة أنه ينبغي أن تكون صياغة المصادر والمراجع في نهاية البحث متفقة مع ما ورد في عرضها بحاشية البحث، فإن كنت في الحاشية تبدأ باسم المؤلف، ثم المرجع عند تسجيل المراجع فعليك أن تلتزم بهذا النهج عند ثبت المراجع في نهاية البحث. وإن كنت تبدأ بذكر اسم المرجع أولا، ثم المؤلف فالتزم بهذا عند إعداد قائمة المراجع والمصادر، مع ملاحظة إذا كان للكتاب أكثر من طبعة لابد من الإشارة إليها.

مراعاة قواعد الكتابة العربية في صياغة البحث.

مراعاة قواعد الكتابة العربية في صياغة البحث من أهم الأمور التي تتصل بصياغة البحث، ولا يحق للباحث إغفالها بحال من الأحوال: مراعاة قواعد الكتابة العربية؛ إملائية ٍ، ونحوية ٍ، وصرفية ٍ، وكل ما يتصل بهذا؛ إذ يكثر فيها الخطأ، ويشيع بين الباحثين خاصة في الآونة الأخيرة في هذا العصر، مما يقلل من قيمة البحث، ويحط من شأن الباحث، وسوف نعرض بعض هذه القواعد عرضا سريعا؛ للإفادة منها عند صياغة بحثك، ونختار من هذه القواعد علامات الترقيم. وعلامات الترقيم، عبارة عن رموز اصطلاحية معينة، توضع بين الكلمات والجمل، والقصد منها: تيسير عملية الفهم والإفهام، ولهذه الرموز قواعد تنظمها، وليست مجرد علامات شكلية لا، لها قواعد منظمة ومحددة لموقعها بين الكلمات والجمل، وهي ليست شيئًا شكليًّا، ولكنها تنظم المعنى من خلال تقسيم الكلام، فلا يتداخل بعضه في بعض، ولو لم توضع هذه الرموز في الكلام، أو وضعت في غير أماكنها؛ لترتب على ذلك اضطراب وفساد في المعنى، هذه الرموز التي هي تسمى: بعلامات الترقيم هي: الفاصلة، الفاصلة المنقوطة، النقطة، النقطتان، الشرطة، الشرطتان، علامة التنصيص، علامة الحذف، علامة الاستفهام، علامة التعجب، أو التأثر. وسوف نشير سريعًا إلى مواضع كل علامة، أو كل رمز من هذه الرموز في الكلام. أولا: الفاصلة: ومن حق القارئ أن يسكت عندها سكتة خفيفة بمقدار أخذ النفس؛ لتمييز بعض أجزاء الكلام عن بعض، ولأن الكلام لم ينته بعد، وتوضع في الأماكن الآتية،:

أولا: بين أقسام الشيء، أو أنواع الشيء، فإذا قلنا مثلا: مثال: الشعر أقسام ثلاثة: غنائي، وقصصي، وتمثيلي. نضع فصلة بعد كلمة غنائي، وقصصي، وبعد كلمة تمثيلي وكقول بعض العلماء: بني الشعر على أربعة أركان هي: المدح، والهجاء، والنسيب، والرثاء. نضع فاصلة بعد كلمة المدح، والهجاء، والنسيب، والرثاء. الموضع الثاني: توضع بين الكلمات المفردة المرتبطة بكلمات أخرى تجعلها شبيهة بالجملة في طولها، كأن أقول مثلا: على العاقل ألا يكون راغبا إلا في أحد ثلاث: تزود لميعاد، أو مرمة لمعاش، مرمة: يعني إصلاح، أو لذة في غير محرم. تضع فاصلة بعد كلمة معاد، وكلمة معاش. الموضع الثالث: توضع الفاصلة بين الجمل التي يكون بينها ارتباط في المعنى والإعراب، كأن تكون الجملة الثانية صفة، أو حالا، أو ظرفا، أو خبرا ثانيا، ونضرب مثالا نقول: رأيت هلال المحرم، وهو بين السحاب كأنه الحسناء في خدرها. فتضع فاصلة بين كلمة المحرم، وبين وهو. ومثال آخر نقول: علي رجل صالح، يحافظ على الصلاة، ويعامل الناس معاملة حسنة، ولا يكذب بحديثه. فتضع فصالة بعد كلمة المحرم، وكلمة سحاب، وكلمة صالح، وكلمة حسنة. الموضع الرابع من مواضع الفاصلة: توضع بين الشرط وجزائه، والقسم وجوابه إذا طالت جملة الشرط أو القسم نأخذ مثالا: نقول إن استطعت أن تجوب أرجاء الدنيا كلها بحثا عن كتاب يفيدك في دنياك وآخرتك فلا تقصر، انظر إن استطعت "شرطية"، إن استطعت أن تجوب أرجاء الدنيا كلها؛ بحثا عن كتاب يفيدك في دنياك وآخرتك هذه كلها جملة الشرط، عندما آتي إلى الجواب، فلا فأقول: فلا تقصر، لابد أن تضع فاصلة قبل هذا الجواب.

الموضع الخامس من مواضع الفاصلة: توضع بين لفظ المنادى وما يليه من الكلام تقول مثلا: يا محمد، خذ الكتاب. تضع فاصلة بعد كلمة محمد، ومثل: أي بني، إياك والنميمة. تضع فاصلة بعد كلمة بني،. الموضع السادس: توضع الفاصلة بعد حرف الجواب إذا وقع في أول الجملة، ووصل بكلام بعده، توضع الفاصلة بعد حرف الجواب بشرط: إذا وقع في أول الكلام، ووصل بكلام بعده، كان تقول مثلا: نعم، إن العلم نور، سائل يسألك: هل العلم نور؟ فتقول: نعم، إذا سكت فضع النقطة، لكن إذا قلت: نعم، إن العلم نور، تضع فاصلة بعد كلمة نعم، ومثلها كلمة لا، وكلمة بلى، كل أدوات أو أحرف الجواب. العلامة الثانية: الفاصلة المنقوطة، ويسكت القارئ عندها سكتة متوسطة أطول بقليل من سكتة الفاصلة، وتستخدم في موضعين: الموضع الأول: توضع بين الجملة الطويلة التي يتركب من مجموعها كلام مرتبط في المعنى دون الإعراب؛ وذلك لإمكان أخذ النفس بين الجمل عند قراءتها، ومنع الخلط بين بعضها البعض؛ بسبب تباعدها. فنقول: ليست مشكلة البحث العلمي الآن ندرة الموضوعات الصالحة، أو قلة المراجع والمصادر، أو الإهمال في أداء الخدمة المكتبية، ونقص عدد المراجع بها، وقلة خبرة العاملين فيها؛ إنما المشكلة الحقيقية في الباحث نفسه. قبل كلمة إنما أضع فاصلة منقوطة. الموضع الثاني: توضع الفاصلة المنقوطة بين جملتين تكون الثانية منهما سببًا في الأولى، أو مسببة عنها، مثل: أقبل على قراءة الشعر الجاهلي؛ لأستمتع بما فيه

من روعة فنية. تأمل، فتضع فاصلة بعد كلمة الجاهلي. ومثل: استحوذ المتنبي بفنه على قلوب الخلفاء؛ فلا غرابة في كثرة حساده. فنضع فاصلة منقوطة بعد كلمة الخلفاء. العلامة الثالثة: النقطة: ويسكت القارئ عندها سكتة طويلة، ولذلك؛ تسمى: الوقفة، وتوضع في نهاية الجمل التامة المعنى المستقلة عما بعدها، وفي نهاية الفقرة، وعند انتهاء الكلام. العلامة الرابعة: النقطتان: وتستخدمان في المواضع التالية: بين القول ومقوله لفظًا معنى. قال الله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} (البقرة: 282)، قبل "واتقوا الله" أضع نقطتين. الموضع الثاني: توضع النقطتان بين الشيء وأقسامه، أقسام الشيء كما ذكرنا يوضع بينها فواصل، لكن الشيء نفسه، وأقسامه توضع النقطتان. نقول: الخلفاء الراشدون أربعة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي. نضع نقطتين بعد كلمة أربع، وفواصل بعد أبو بكر، وعمر، وعثمان. الموضع الثالث: قبل الكلام الذي يوضح ما قبله، أو الأمثلة التي تبين قاعدة. نقول مثلًا: في قراءة القرآن الكريم فوائد جمة: يزيد الحسنات، ويحط السيئات، ويطرد الشطيان، إلى آخر هذه الفوائد. قبل كلمة يزيد الحسنات، وبعد كلمة جمة أضع نقطتين؛ للفصل بين الجملتين. العلامة الخامسة: وهي الشرطة: وتستخدم الشرطة في المواضع التالية: نضعها بين العدد والمعدود إذا وقع في أول الكلام، أو في أول السطر. فتقول مثلًا: شروط الصلاة في بداية السطر: أولا تضع شرطة، ثانيا تضع

شرطة في أول السطر، لكن إذا كان الكلام على سبيل السرد: أولا، وثانيا، وثالثا، فهذا فيه كلام. الموضع الثاني من مواضع الشرطة: توضع بين ركني الجملة إذا طال الركن الأول. مثل: إن الباحث الجاد الذي يقدر قيمة البحث، ويتسلح بالثقافة والفطنة، ويطلع على مستجدات عصره -لاحظ هذا ركن إلى الآن لم يأت خبر إن، إن الباحث الجاد هذا هو الركن الأول- الذي يقدر قيمة البحث، ويتسلح بالثقافة والفطنة، ويطلع إلى مستجدات عصره -قبل أن أذكر الركن الثاني أضع شرطة- ثم أقول: يحقق نتائج جيدة. الموضع الثالث من مواضع الشرطة: توضع بين كلمات المسرودة، قد أسرد كلمات، أو جمل متتالية منقطعة عما قبلها، كل كلمة لا علاقة لها بما قبلها، وما بعدها، وكذلك كل جملة ليست هناك صلة بينها، وبين التي تسبقها، أو تلحقها. أقول مثلا، بين معنى الكلمات الآتية: مهيمن- عزيز- مستنفرة. تضع بين كل كلمة وكلمة شرطة، وكذا الجمل لو أنك تسأل عن معنى جمل وهكذا. الموضع الرابع من مواضع الشرطة: توضع في ابتداء السطر حال المحاورة بقصد فصل الكلام بين المتحاورين، لو عندي حوار كما في المسرحيات مثلا أو في المناظرات، وتأتي في أول السطر وتضع الشرطة هذه اختصارا لاسم الشخصية المتحاورة. العلامة السادسة: الشرطتان: يوضع بينهما الألفاظ التي ليست من أركان الجملة، أو الكلام عمومًا، كالجمل المعترضة وألفاظ الاحتراز والتفسير، وما أشبه ذلك، توضع بين شرطتين، والبعض يضعها بين قوسين.

العلامة الرابعة: علامة التنصيص: ويوضع بينهما كل كلام منقول بنصه وحرفه -كما أشرنا من قبل- وكذا الكلمات التي قصد لفظها، مثل: تستعمل "مِن" لعدة معان، أضع كلمة من، أو حرف من بين علامتي تنصيص. العلامة الثامنة: علامة الحذف: وهي عبارة عن ثلاث نقط أو أكثر توضع مكان الكلام المحذوف. العلامة التاسعة: وهي علامة الاستفهام: وتوضع في نهاية الجمل الاستفهامية إذا ذكرت فيها أداة الاستفهام، أو قدرت. العلامة العاشرة: علامة التعجب: وتوضع بعد الجمل التي تعبر عن الانفعالات النفسية كالتعجب، والفرح، والدهشة، ونحو ذلك. هذه هي أهم علامات الترقيم المشهورة، والمواضع التي تستخدم فيها، وإن أولى الناس بمراعاتها الباحث في اللغة والأدب، ومن العيب أن يغفل عنها، كما أنه من العيب أن يغفل عن بقية القواعد الإملائية، وهي موجودة ومتيسرة في الكتب المتخصصة بها، فعليك الرجوع إليها أيها الباحث، والإفادة منها. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 15 مفهوم التحقيق والتوثيق وشروط المحقق.

الدرس: 15 مفهوم التحقيق والتوثيق وشروط المحقق.

مفهوم التحقيق والتوثيق.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الخامس عشر (مفهوم التحقيق والتوثيق وشروط المحقق) مفهوم التحقيق والتوثيق الحمد لله الذي خلق الإنسان وعلمه البيان، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه وبعد: فكلمة "تحقيق" مصدر للفعل حقق. جاء في (لسان العرب) لابن منظور: "حَقَّ الأمْرُ يحِقُّ ويَحُقُّ حَقّا وحُقُوقا أي صار حَقا وثبتَ، وحقه وأحقه أي: أثبته وصار عنده حقا لا يشك فيه، وأيضا ورد: وحقه وحققه أي: صدقه، وحقق الرجل: إذا قال: هذا الشيء هو الحق بمعنى: أنه اعترف بأحقية ذلك الشيء وصدقه، وأحققت الأمر إحقاقا: إذا أحكمته وصححته، ويقال أيضا: كلام محقق أي كلام محكم منظم، ويقال أيضا: أحق الله الأمر أي: أظهره وأثبته للناس، والحق هو الثابت الصحيح، وهو ضد الباطل، وقال أبو البقاء: التحقيق تفعيل يعني على وزن: تفعيل من حق بمعنى: ثبت. وقال بعضهم: التحقيق في اللغة رجع الشيء إلى حقيقته أي: رد الشيء إلى حقيقته بحيث لا يشوبه شبهة، وهو المبالغة في إثبات حقيقة الشيء بالوقوف عليه، والتحقيق مأخوذ من الحقيقة، وهو كون المفهوم حقيقة". من خلال هذه النصوص وغيرها نستنتج أن مادة حقق ومشتقاتها تدور حول عدة معان من أهم هذه المعاني: الإثبات والتصديق والإحكام والتنظيم والتصحيح والإظهار. هذا من حيث الدلالة اللغوية، أما في اصطلاح أهل الفن، فقد تعددت فيه الأقوال فمن قائل: إنه بذل العناية بالمخطوطات؛ لتكون أقرب إلى الصورة التي كتبها مؤلفها من حيث الدقة

والسلامة مما يجعل الإفادة منها كبيرة. ومن قائل: إنه بذل عناية خاصة بالمخطوطات حتى يمكن التثبت من استيفائها لشرائط معينة، والكتاب المحقق هو: الذي صح عنوانه، واسم مؤلفه، ونسبة الكتاب إليه، وكان متنه أقرب ما يكون إلى الصورة التي تركها مؤلفه. وبعضهم قال: إن التحقيق هو: بذل الجهد، واستقصاء البحث بغية الوصول إلى حقيقة ما قالها مؤلف النص. وبعضهم قال: إن التحقيق هو الاجتهاد في جعل النصوص مطابقة لحقيقتها في النشر، كما وضعها صاحبها ومؤلفها من حيث اللفظ والخط والمعنى. وهناك أقاويل كثيرة غير التي ذكرت، لكنها تدور حول هذا المعنى، ولا تخرج عن هذا الإطار، ولو تأملت معي هذه الأقاويل جيدا لاتضح لك أنها تتوجه بالتحقيق نحو النص نفسه، وتكتفي بتقديم النص المخطوط كما أراده مؤلفه، وتغفل خدمة النص تماما، فلم يشر أي من هذه التعريفات السابقة إلى تخريج النص أو شرح غامضه أو فهرسته أو ضبطه، أو غير ذلك مما يخدم النص، أعني: التعريف لم يشتمل على إشارة إلى هذه الأشياء، لكن جميع المحققين الذين أشاروا إلى هذه التعريفات بلا شك يتحدثون عن كل هذه الجوانب التي أشرت إليها، ولم توجد لها إشارة في التعريف، بمعنى أنهم عند التطبيق يخدمون النص، ويتناولونه من جميع جوانبه لكن التعريف لا يشتمل على إشارة تدل على هذه الخدمة، وليس هذا الذي أشرت إليه من خدمة النص من قبيل النافلة، وإنما هي قضايا أساسية تدخل في صميم العمل التحقيقي. إن العالم الذي يحقق كتابا من كتب التراث يصبح أقرب الناس إليه، وأكثرهم فهما لغامضه، وإدراكا لمشكلات نسخه ومعرفة بمصادره وطريقته؛ لأنه قرأ

الكتاب وتمثله وخبر أرضه، فالتحقيق ينبغي أن يعني بتحرير النص وخدمته معا، ولا يقف عند مجرد إخراجه على الصورة التي كتبه بها مؤلفه، ومن ثم أرى أن أفضل تعريف للتحقيق هو ما قال به أحد الباحثين حيث قال: إنه الجهد الذي يبذله العالم في سبيل الوصول إلى نص يجتهد في كونه مماثلا لنص صاحبه، وفي سبيل تيسير الإفادة منه. العبارة الأخيرة -التي هي في سبيل تيسير الإفادة منه- هي التي زادت عن التعريفات السابقة، وهي تعني خدمة النص إذ لا تتيسر الإفادة منه إلا بشرح غامضه وضبط مشكله وتخريجه، وهذا كله يسمى بخدمة النص. وجدير بالذكر أن أي باحث في العلوم الإنسانية مطالب بتحقيق النص الذي يستنبط منه أحكامه -حتى ولو كان غير مخطوط- هو أمام نص لابد أن يحققه، ويتثبت من صحته أولا، ويتوصل إلى نتائج قبل أن يصدر أحكامه ويسجل نتائجه، وليس من اللازم أن يكون ذلك النص مخطوطا -كما ذكرت، لا؛ مسألة التحقيق بمعنى: التثبت هذه صفة في الباحث، فكثير من الكتب المطبوعة التي بين أيدينا تحتاج إلى تحقيق؛ لأن الذين تولوا طبعها ونشرها جماعة من الذين لا علم لهم بالتحقيق ولا دراية لهم بأصوله، ومن ثم جاءت هذه المطبوعات مليئة بالتصحيف والتحريف واضطراب في النصوص، تبعد بها كثيرا عن الأصل الذي كتبه مؤلف هذه النصوص. التحقيق العلمي لون من ألوان البحث، إياك أن تظن أننا خرجنا بهذا عن إطار البحث لا، فالتحقيق العلمي لون من ألوان البحث، يعنى بتوثيق النص وسلامته وشرحه والاستنباط منه، على هدي من الأصول العلمية التي وضعت لهذا النوع من البحوث، وإذا راعى الباحث هذه الأصول العلمية

وطبقها بدقة وصل إلى الغاية المنشودة، وأخرج عملا علميا من الظلمات إلى النور يستفيد به كثير من الباحثين. أما كلمة توثيق فهي مصدر للفعل وثق نقول: وثق الشيء توثيقا فهو موثق أي: محكم، والوثيق هو: الشيء المحكم، ووثقت فلانا إذا قلت: إنه ثقة، ووثق به أي: ائتمنه، فالمادة مادة: الواو والثاء والقاف تدور حول الاطمئنان إلى الشيء وإحكامه. والمراد بتوثيق النص: التأكد من صحة نسبته إلى مؤلفه، والعصر الذي قيل فيه، والاطمئنان إلى أن النص وصل إلينا كما تركه مؤلفه، فلم يلحقه تزوير أو تحريف أو حشو أو إكمال أو أي شيء من هذا القبيل، وهو بذلك يصبح وثيقة من الوثائق يعني لا يتطرق إليه شك. والتحقيق والتوثيق مصطلحان يشيعان في حقل الدراسات الأدبية أكثر من أي حقل علمي آخر، فهما يستخدمان في مجال نشر التراث الأدبي في صورة صحيحة وتنقيته من كل شائبة، وتراث أي أمة جزء أصيل من كيانها، وإحياء ذلك التراث إحياء لماضيها المعرق وتاريخها المشرق، وفي إحيائه أيضا استجلاء لآفاق وجدانية وفكرية وحضارية مهمة في تاريخ الأمة، وتذكير بما أسداه علماؤها إلى العالم في مواكب التحضر والرقي، وتراث أمتنا العربية هو رصيدها الباقي وذخيرتها الثابتة، والأمم بماضيها قبل أن تكون بحاضرها، وفرق بين أمة لها موروث وأمة لا موروث لها، وتراث أمتنا العربية يشهد بما لديها من فكر ومعرفة وثقافة وحضارة، فقد كانت ومازالت نبراس حضارة العالم أجمع، ورائد عبقرية الإنسانية في كل مكان، وما حرص الأمة العربية على إحياء تراثها إلا لكي تعيش حاضرا موصولا بماض عريق، وتبني على هذا الماضي العريق حاضرها الوطيد، وأول ما لنا من هذا التراث هو لغته التي كتب بها ذلك التراث، أدبه الذي عكس

فكرها، وسجل حضارتها، وصور عبقريتها، هذه من البديهيات الظاهرة التي يلحظها كل من يبحث في المخطوطات حتى لو كانت غير متخصصة في الأدب. كلمة تراث مأخوذة من: ورث، فالتاء في كلمة تراث مبدلة من الواو فالعرب يقولون: ورثت الشيء من أبي أرثه وراثة وإرثا، وهو متعدد الجوانب عند العرب، وأنا لا أعني التراث بمعناه العام، ولكن التراث الذي أعنيه هنا هو: ما خلفه العرب من ألوف الكتب والرسائل، والتي لا يزال كثير منها مخطوطا في مكتبات العالم شرقه وغربه، وما تحتوي هذه الكتب من آراء ونظريات تشهد على أصحابها أو لهم، وتعكس فكرهم وثقافتهم، وتصور حضارتهم، وليس هناك حدود معينة لتاريخ أي تراث، فكل ما خلفه المؤلف من نتاج يعد تراثا فكريا له قيمته، والأمة العربية تملك أعظم ثروة تراثية في مختلف مجالات العلم والمعرفة، وحري بنا أن نقف أمام هذه الكنوز وقفة إكبار وإجلال، ونطاول بها أعنان السماء في اعتزاز وفخر وشموخ. وقد توالت على التراث العربي نكبات عدة ومحن عاتية عصفت به -اقرءوا التاريخ فإنه خير شاهد على ذلك- وذهبت بالكثير من كنوزه ونفائسه كالغزو المغولي الذي دمر مراكز الحضارة الإسلامية في بغداد، وقضى على مقتنيات بيت الحكمة، فأحرق بعضها وأغرق البعض الآخر في مياه دجلة، ومن ثم ضاع كثير من هذه الكنوز وتلك النفائس، ولو بقيت لبقي علم وفكر لا حدود لهما. ومن تلك النكبات أيضا الغزو الصليبي الذي ضيع مراكز الحضارة الإسلامية في منطقة الشام، وأهدر الألوف من الكتب القيمة كما يشهد بذلك التاريخ أيضا، ومن تلك النكبات الفتن الداخلية المذهبية في داخل الأوطان العربية ذاتها، هذه الفتن المذهبية والسياسية والاقتصادية التي انعكست آثارها على تراث الأمة الحضاري والفكري، وراح ضحيتها آلاف الكتب.

هذه نكبات وفتن أدت إلى نتيجة واحدة: إهدار كثير من تراثنا، وضياع فكر كنا في أشد الحاجة إليه، هذه النكبات تمثل جراحات غائرة في جسد تراثنا المخطوط لازلنا نعاني منها إلى الآن ما بين تمزيق وإتلاف وتشويه وسرقة، وأصبحنا في أشد الحاجة إلى تضميد تلك الجراحات ولَمّ شعث هذا الشتات ورتق خرقه، وقد هيأ الله سبحانه وتعالى لهذا التراث من ينهض به، ويدفع عنه عاديات الزمان، ويجدّ في تحقيقه وتوثيقه رجالات وهيئات ومؤسسات وجامعات، كل هؤلاء -أخذوا على عاتقهم هذه المهمة الصعبة- الرجالات والهيئات والمؤسسات تسعى بخطى وثابة نحو تحقيق هذا التراث، وتوثيقه وإحيائه ونشره في صورة رائقة رائعة، وإنها لعملية معقدة تحتاج إلى جهد جهيد وعزيمة قوية وتعاون وشد أزر. متى ظهر التحقيق والتوثيق؟ الحقيقة أن تحقيق النصوص وتوثيقها فن عربي المولد والنشأة منذ فجر التاريخ والحضارة، ولم تعرفه أوربا إلا في القرن الخامس عشر الميلادي عندما اهتموا بإحياء الآداب اليونانية واللاتينية، وعندما عرفته أوربا بعلمائها لم يأتوا به على أكمل وجه حين ذاك؛ إذ عمدوا إلى المهم منه، واستنتجوا اصطلاحات حدسية خالفوا بها ما في النسخ الأصلية، وهذا يخالف الأصول التي وضعها العلماء للتحقيق العلمي. أما إذا نظرنا إلى الفكر العربي وجهود العرب في ميدان التحقيق، فيعد القرآن الكريم أول كتاب تم تحقيقه وتدوينه، كان ذلك في النصف الأول من القرن الأول الهجري، ثم بعد ذلك دون الشعر الجاهلي بعد تحقيقه في النصف الثاني من القرن الأول الهجري، ولا شك في أن الشعر الجاهلي قد تعرض لآفات كثيرة

فحمل عليه ما ليس منه، وضاع منه الكثير في غمار الزمن، وقامت الطبقة الأولى من الرواة العلماء الثقات بتحقيق ذلك التراث الشعري وتنقيته من الشوائب، ودونوه بقصد إنقاذه من الضياع والتشويه والتزوير، واشتهر بعض الرواة بالضبط والثقة والأمانة والبعض الآخر بالكذب والتهاون والوضع. هذا هو ميدان التحقيق والتثبت من النصوص وإخراجها كما صدرت عن مؤلفها، هذا في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري. وفي القرن الثالث قامت حركة منظمة للجمع والتدوين على أيدي أئمة من الخبراء بالشعر الذين يعرفون صحيحه من زائفه، وجمعت هذه الحركة تراثا ضخما من هذا الشعر الذي قيل في الأزمنة السابقة عليهم، بداية من العصر الجاهلي، جمعوا تراثا ضخما عكف عليه الدارسون يستخلصون منه معجم ألفاظهم، وقواعد نحوهم وصرفهم، وأساليبهم البيانية وخصائصها التعبيرية، وقد قام رواة الشعر وعلماؤه بدور عظيم في مجال تحقيق هذه النصوص وتوثيقها، فتارة يراجعون الدواوين التي تقع بين أيديهم، وتارة يعرضون هذه النصوص على الأحداث أو التاريخ وأعلامه؛ ليكشفوا صحيحها من زائفها وسليمها من سقيمها، وقاموا بمراجعات كثيرة لألفاظها؛ لتوضيح ما دخلها من تصحيف وتحريف حتى في اللفظ وكتب التراث التي تناولت هذا بين أيدينا، وفيها تنبيهات كثيرة على هذه التحريفات وتلك التصحيفات، وهي خير شاهد على هذا الجهد الذي بذله هؤلاء العلماء الرواة في سبيل تحقيق وتصحيح وتوثيق هذا التراث الشعري الأصيل. ومن ثم يمكننا القول: إن التوثيق عند هؤلاء العلماء الذين اشتهروا برواية الشعر والعلم به بدأ بتمييز الرواة الموثقين من الرواة المتهمين، ونصوا على كل طائفة منهم فذكروا من الموثَقين الأثبات أسماء كثيرة كالمفضل الضبي مثلا والأصمعي

وابن سلام الجمحي، وذكروا من الذين اتهموا بالوضع والانتحال والتزييف: حماد الراوية، وخلف الأحمر، وابن إسحاق، وغيرهم، وقام هؤلاء العلماء الموثقون بفحص الشعر وتمحيصه وتصفيته من شوائبه ورفضوا رواية الرواة الوضاعين ممن أجادوا فن الشعر، كما رفضوا ما حمله رواة السير والأخبار من أشعار غثة. علم من هؤلاء الأعلام الذين عنوا بالتحقيق والتوثيق: أبو سعيد السكري الذي توفي سنة خمس وسبعين ومائتين للهجرة، وقد اهتم السكري بجمع الدواوين من أشعار الجاهليين والإسلاميين إلى أيامه، نقدها، تأملها، شرحها، فسر غريبها، وقد استقصى ابن النديم ذكر الشعراء الذين حمل الرواة دواوينهم، ثم أعقبهم السكري، فاختار من جملة هذه الروايات ما رآه جديرا بالاختيار، بلغ عدد هؤلاء الشعراء الذين حقق السكري دواوينهم ستة وخمسين شاعرا، وإذا علمنا أنه وقف على ثلاث من الروايات، وهو يصنع ديوان هزيل لعلمنا مدى دقته في التحقيق والتثبت. الرواية الأولى: هي الرواية التي رويت عن الرياشي شيخه، وهي مروية عن الأصمعي عن عمارة بن أبي طرفة الهزلي. الرواية الثانية: عن أستاذه أبي جعفر محمد بن حبيب وهي مروية عن ابن الأعرابي وأبو عمرو الشيباني. الرواية الثالثة: عن محمد بن الحسن عن عبد الله بن إبراهيم الجمحي. وازن السكري بين هذه الروايات وحقق ومحص، ثم في النهاية اختار ما اعتقد أنه صواب، وهذا هو عمل المحقق يجمع النسخ، وكان للسكري منهج واضح في الجمع بين الروايات، فالقصائد المجمع على صحة نسبتها ونصها، كان يوردها

دون نص على هذا الإجماع، أما الروايات التي وقع فيها خلاف في روايتها، فإنه كان ينص على أوجه الخلاف، ليس في رواية الديوان أو في رواية القصيدة، وإنما كان ينبه إلى أوجه الخلاف في رواية الأبيات المفردة ذاتها. لم يكن السكري وحده وإنما كان العلماء جميعا هذا ديدنهم، وذاك منهجهم توثيق الدواوين، تحقيقها، وبالإضافة إلى ذلك كانوا ينصون على ما زاد في بعض الروايات، وينصون على أوثقها يقولون: وزاد فلان في روايته كذا على رواية الأصمعي أو على رواية الشيباني، ثم يقولون: هذه أوثق الروايات، وهذه تأتي في الدرجة الثانية بعد الثقة، فمثلا هذا ابن النديم صاحب كتاب (الفهرست) يذكر (المفضليات) ثم يقول: "هي مائة وثمان وعشرون قصيدة، وقد تزيد وتنقص، وتتقدم القصائد وتتأخر بحسب الرواية عن المفضل، والصحيحة -يعني الرواية الصحيحة- التي رواها عنه ابن الأعرابي". هذا الحكم لم يصدر عن ابن النديم عشوائيا، ولكن صدر عن تمحيص أو على الأقل عن تتبع لآراء المحققين في تلك الروايات، وأي الرواية أصح وأيها فيه شك أو ما يشبه ذلك، فابن النديم يرى أن رواية ابن الأعرابي أعلى الروايات وأوثقها، وهي الرواية التي بنى عليها ابن الأنباري شرحه لـ (المفضليات). ومما تجدر الإشارة إليه أن الرواد الأوائل من الرواة والعلماء لم يلتزموا الإسناد فيما رووه إلا نادرا، ولكن بعد أن اتسع القول في علم الحديث ووضعت أصوله وحددت مصطلحاته، بدأ رواة الأدب يحرصون على رواية ما اتصل من الأسانيد عند ذكر الأخبار والأشعار والسير. وقد اتضح هذا السلوك في مؤلفات القرن الثالث الهجري والقرون التي بعده، ونراه ماثلا في كتابي (الأغاني) للأصفهاني، و (مجالس ثعلب) بل بلغ الأمر

ببعضهم أن وضع شروطا لرواية الأدب هي بعينها شروط رواية الحديث الشريف، فيقول الصاحبي مثلا: "تؤخذ اللغة سماعا من الرواة الثقات، ويتقى -يعني يتجنب- المظنون"، وقد صرح ابن الأنباري بقياس رواية الأدب على رواية الحديث حين قال: "يشترط أن يكون ناقل اللغة عدلا رجلا كان أو امرأة، حرا كان أو عبدا، كما يشترط في ناقل الحديث؛ لأن به معرفة تفسيره وتأويله، فاشترط في نقله ما اشترط في نقله"، يعني اشترط في نقل اللغة أو الأدب ما يشترط في نقل الحديث، بل إن بعض الفقهاء قد عرض لرواة اللغة والأدب، فاشترط فيهم العدالة، ومن هؤلاء الفقهاء العز بن عبد السلام في القرن السابع الهجري. كما اشترط العلماء في راوي الأدب واللغة أن يكون الأثر معروفا ناقله وقائله، وردّوا من الآثار واللغات ما كان مجهول القائل أو الناقل، ورفضوا الاحتجاج به، وهذا الشرط في الحقيقة مكمل لشرط العدالة؛ لأن الجهل بالناقل أو القائل يوجب الجهل بالعدالة هذا منطقي. هذا بالنسبة للجهود العربية في القديم، فهل كان لعلماء أوربا في ذلك الوقت دور في هذا المجال؟ لا، لم يهتد علماء أوربا لهذا الفن إلا في القرن الخامس عشر الميلادي، حين اهتموا بإحياء الآداب اليونانية واللاتينية، وكانوا إذا وجدوا كتابا من كتب القدماء قاموا بطبعه، ولا يبحثون عن النسخ الأخرى لهذا الكتاب، ولا يصححون إلا أخطاءه البسيطة. فلما ارتقى علم الآداب عندهم عمدوا إلى جمع النسخ المتعددة لكتاب من الكتب القديمة وقابلوا بينها، وكانوا كلما تخالفت النسخ اختاروا إحدى الروايات المختلفة، ومع ذلك كانوا ينتقون المهم منها، ويستنتجوا الاصطلاحات الحدسية التي تخالف ما هو مروي في النسخ، ولم يكن لهم منهج معلوم، ولا قواعد متبعة كما رأينا عند العرب الأوائل، وظل الأمر على هذا الحال حتى أواسط

القرن التاسع عشر، حين وضعت الأصول العلمية لنقد النصوص ونشر الكتب القديمة، واستنبطوا هذه القواعد والأصول من الآداب اليونانية واللاتينية، ثم من آداب القرون الوسطى، هذا الكلام أشار إليه المستشرق "برجشتر" المستشرق الألماني الذي يعد أول من طبق هذه الأصول، ودعا إليها في محاضرته التي ألقاها على طلاب الدراسات العليا، في قسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة القاهرة، سنة إحدى وثلاثين وتسعمائة وألف. جهود المستشرقين في مجال تحقيق التراث العربي: لقد نجح علماء الغرب حقيقة في وضع مجموعة من الأصول والقواعد اللازمة لنقد النصوص وتحقيقها، حدث هذا خلال القرن التاسع عشر، وقد تأثر المستشرقون بهؤلاء العلماء، واعتمدوا على تلك الأصول والقواعد في نشرهم لأمهات الكتب العربية. المستشرقون عندما ولوا وجوههم نحو التراث العربي في لغته وأدبه، وبدؤوا يحققون هذه المخطوطات نقلوا مناهج علمائهم في أوربا وأفادوا منها. أولا: من هؤلاء العلماء الذين كان لهم دور في تأصيل هذه الأصول: "وليم رايت" الإنجليزي الذي نشر كتاب (الكامل) للمبرد، والحقيقة نشره نشرة متقنة مزودة بفهارس دقيقة، وطبعه سنة أربع وستين وثمانمائة وألف. عالم آخر "جوستاف يان" الألماني ونشر (شرح المفصل) لابن يعيش سنة اثنتين وثمانين وثمانمائة وألف، وكان هذا المستشرق ضليعا في النحو العربي. ومن هؤلاء أيضا: "بيفان" الهولندي، الذي نشر نقائض جرير والفرزدق نشرة علمية مزودة بالفهارس والتعليقات، نشرها في "ليدن" سنة ألف وتسعمائة وخمس. ومن هؤلاء أيضا "تشارلز ليل" الإنجليزي الذي نشر (شرح المفضليات) لابن الأنباري، مع ترجمة بالإنجليزية في بيروت سنة ألف وتسعمائة وعشرين. ومنهم

أيضا "رودل فيجير" الألماني، ونشر ديوان الأعشى الكبير، والأعشيين الآخرين، في كتاب سماه (الصبح المنير في شعر أبي بصير) وقيل: إنه استخدم في نشر شعر هؤلاء أكثر من خمسمائة مصدر عربي مطبوع، وطبع كتابه في لندن سنة ثمان وعشرين وتسعمائة وألف، وكثير من المستشرقين غير هؤلاء تركوا بصمات في مجال التحقيق، وأفاد منهم العرب. أما عن جهود العرب في هذا العصر فإنها ذات شقين؛ الشق الأول: ما قام به العلماء الأجلاء من تحقيق ونشر لكنوز من تراثنا، مقتفين آثار أجدادهم في عصورهم العلمية المزدهرة، وناظرين إلى الأصول والقواعد التي وضعها علماء الغرب في هذا المجال، يعني أخذوا من الطريقتين: الطريقة العربية القديمة والطريقة الغربية الحديثة، وأفادوا في هذا المجال. أما الشق الثاني من تلك الجهود: فيتمثل في مجموعة من المؤلفات والكتابات الحديثة، التي أصل فيها أصحابها لقضية التحقيق والتوثيق وعالجوها من شتى جوانبها، يعني هذا شق تأصيلي تنظيري، وضعوا الأصول والقوانين والمقاييس التي ينبغي للمحقق أن يلتزمها ويسير عليها. أما بالنسبة للشق الأول -وهو الذي قام به العلماء في إخراج كثير من الكتب يعني: قاموا بالتحقيق الفعلي لمجموعة من الكتب- تطالعنا أسماء أعلام كان لهم باع طويل، وفضل لا ينسى في مجال تحقيق التراث ونشره، أذكر منهم: العلامة أحمد زكي باشا الذي حقق كتابي (أنساب الخيل)، و (الأصنام) لابن الكلبي، وهو يعد بحق شيخ المحققين في العصر الحديث. ومنهم أيضا الشيخ العلامة محمود محمد شاكر، وحقق مجموعة من كتب التراث منها على سبيل المثال (دلائل الإعجاز) لعبد القاهر، (طبقات فحول الشعراء) لابن سلام الجمحي، (الحماسة الصغرى)

تسمى كتاب (الوحشيات) لأبي تمام وغيرها كثير، وهو شيخ المحققين بعد أحمد زكي باشا. ومنهم أيضا الشيخ أحمد محمد شاكر، وله أكثر من تحقيق منها كتاب (الشعر والشعراء) لابن قتيبة، و (الأصمعيات) بالاشتراك مع عبد السلام هارون وله (المفضليات). ومن هؤلاء الأعلام أيضا: الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد، وتحقيقاته كثيرة جدا منها كتاب (أدب الكاتب) لابن قتيبة، وكتاب (العمدة) لابن رشيق، و (وفيات الأعيان) لابن خلكان، و (مروج الذهب) للمسعودي، و (مجمع الأمثال) للميداني وغير ذلك كثير. ومنهم أيضا محمد أبو الفضل إبراهيم حقق آمال المرتضي والشريف، والمسماة بـ (غرر الفوائد ودرر القلائد)، كتاب (تاريخ الأمم والملوك) للطبري، وحقق ديوان امرئ القيس. ومن هؤلاء المحققين أيضا علي محمد البيجاوي، ومن تحقيقاته: كتاب (زهر الآداب وثمر الألباب) للحصري القيرواني، وشرح (المفضليات) للتبريزي، وكتاب (الصناعتين) للعسكري بالاشتراك مع محمد أبي الفضل إبراهيم، وكتاب (مختارات شعراء العرب) لابن الشجري. وغير ذلك أسماء لامعة في هذا المجال: منهم: على النجدي ناصف، مصطفى السقا، محمد زغلول سلام، محمد عبد المنعم خفاجي، إحسان عباس، نوري حمودي القيسي، عبد العزيز الميمني وغيرهم كثير. هذا بالإضافة إلى ما قام به، ويقوم به الباحثون في الأقسام العلمية داخل الجامعات، يحققون المخطوطات في مرحلتي الماجستير والدكتوراه ويوثقونها، وتنشر هذه الرسائل، وعندنا المكتبة الأدبية تحتوي على كم زاخر من مثل هذه الدراسات القيمة، والتي أشرف عليها أساتذة أجلاء تشهد بعبقريتهم وعبقرية هؤلاء الباحثين.

أما الشق الثاني من جهود العلماء في العصر الحديث في مجال التأصيل للتحقيق ونشر التراث، من هذه المؤلفات ما كتبه الدكتور محمد مندور في مقالين نشرهما في مجلة الثقافة المصرية، سنة أربع وأربعين وتسعمائة وألف، وتم نشر الم قالين بعد ذلك في كتابه الذي يسمى (في الميزان الجديد)، وهو كتاب قيم في الأدب والنقد عرض فيه الناقد العلامة الدكتور محمد مندور لكثير من آرائه التأصيلية، تكلم فيها عن التحقيق. من هذه الكتابات كتاب (تحقيق النصوص ونشرها) للأستاذ عبد السلام هارون، وطبع سنة أربع وخمسين وتسعمائة وألف، وهو كتاب قيم متخصص في هذا المجال، ولا يجوز بأي حال من الأحوال أن يغفل عنه أي محقق يخوض مجال التحقيق التراثي. من هذه الكتابات أيضا (قواعد تحقيق النصوص) للدكتور صلاح الدين المنجد، عبارة عن مقالة نشرها بالمجلد الأول من مجلة معهد المخطوطات العربية بالقاهرة، سنة خمس وخمسين وتسعمائة وألف. ومن هذه الكتابات أيضا (منهج تحقيق النصوص) للدكتور نوري حمودي القيسي بالاشتراك مع الدكتور سامي مكي العاني، طبع هذا الكتاب في بغداد سنة خمس وسبعين وتسعمائة وألف. ومن هذه الكتابات أيضا كتاب (تحقيق التراث العربي منهجه وتطوره) للدكتور عبد المجيد دياب، وطبع في دار المعارف بالقاهرة سنة ثلاث وثمانين وتسعمائة وألف. ومن هذه الكتابات أيضا (مدخل إلى تاريخ نشر التراث العربي) للدكتور محمود محمد الطناحي، وطبع بالقاهرة سنة أربع وثمانين وتسعمائة وألف. أيضا (مناهج تحقيق التراث بين القدامى والمحْدثين) للدكتور رمضان عبد التواب، وغير ذلك كثير من الكتابات.

شروط المحقق.

شروط المحقق أشرنا إلى صفات الباحث، والمحقق باحث يتصف بما يتصف به أي باحث، يعني: أضف إلى الشروط التي ذكرتها قبل ذلك في الباحث ما أشير إليه الآن، يظن البعض أن التحقيق عمل سهل وهين، وأنه مجرد نسخ لمخطوط ما مصحوب ببعض التعليقات من هنا أو من هناك، هذا خطأ بيِّن، فالتحقيق ليس بالعمل السهل ولا الهين ولا يعرفه إلا من سلك ضروبه وخاض غماره، فقد يقضي المحقق يوما كاملا في تصحيح كلمة أو إقامة عبارة أو تخريج بيت من الشعر، أو البحث عن علم من الأعلام الواردة في المخطوط، وقد لا يجد في النهاية شيئا من ذلك بعد مشقة وعناء. إن الباحث حين يتخذ من التحقيق مجالا للدرس والبحث فإنه سوف يواجه كثيرا من الصعاب والمشاق، التي لا يقدر على تحملها إلا عالم كفء، ومن هنا فإن ثمت شروط ينبغي أن تتوفر في كل من يصح عزمه، ويختار التحقيق مجالا لدرسه وبحثه: أولا: سعة الصدر والجَلَد والمثابرة وتجنب العجلة والجزع، فالمحقق قد تنغلق أمامه عبارة محرفة لا يجد لها أثرا فيما بين يديه من مراجع، فيقضي في سبيل ذلك وقتا طويلا، ويسعى جاهدًا لتقويمها، وأنى له ذلك إذا كان لا يتصف بسعة الصدر والتؤدة والتأني. ثانيا: يشترط في الباحث المحقق أن يكون على دراية واسعة بعلم التحقيق، يعرف قواعده وأصوله حتى يكون على بصيرة من أمره في تعليقاته في تخريجاته، ولا يجنح أو يجمح.

ثالث هذه الشروط: أن يكون الباحث المحقق متمكنا من المادة العلمية للنص المراد تحقيقه، أن يكون محيطا بها من شتى جوانبها بحيث يكون خبيرا بها، وبالخط الذي كتبت به، وبالعصر الذي كتبت فيه، فلا يصح أن يحقق الباحث مخطوطا في الشعر مثلا وهو لا يعرف أصول الشعر وطرائقه، أو لا يعرف نوع الخط الذي كتب به، أو العصر الذي سجل فيه. الشرط الرابع: أن يكون المحقق ذا ثقافة واسعة متنوعة، لا يقتصر في تحصيل المعرفة على المادة العلمية المتخصصة فحسب، وإنما يأخذ من كل علم بطرف، فقد يكون صاحب النص الذي يريد تحقيقه ذا فكر موسوعي شامل، يحتاج في التعامل مع نصه إلى صاحب فكر شامل وثقافة متنوعة، وقد تصادف المحقق معلومة خارج تخصصه، فلا يقف حيالها متحيرا، فلا بأس إذن من الإلمام بعدة ثقافات. وبالإضافة إلى هذه الشروط هناك أخلاقيات ينبغي أن يتصف بها المحقق، أهم هذه الأخلاقيات: الصدق والأمانة والموضوعية، البعد عن الهوى، التحقيق نتاج علمي وخلقي لا يقوى عليه إلا من يتصف بهذه الأخلاق، ومن ثم فالأمانة العلمية تحكم المحقق بتسجيل النص على صورته الحقيقية الموروثة، وليس من الأمانة إطلاقا استبدال كلمة بأخرى بحجة الدلالة أو الدقة أو الرشاقة أو الرقة، أو أي شيء من هذه الحجج، فليس تحقيق النص تحسينا أو تصحيحا، لا. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 16 كيف نحقق نصا أو مخطوطا؟.

الدرس: 16 كيف نحقق نصا أو مخطوطا؟.

جمع النسخ، وترتيبها

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السادس عشر (كيف نحقق نصا أو مخطوطا؟) جمع النُسخ، وترتيبها الحمد لله الذي خلق الإنسان وعلمه البيان، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه، وبعد: فتحقيق النص أو المخطوط يعني إخراجه في الصورة التي كان عليها عندما كتبه صاحبه، من خلال معالجة ما في المخطوط من أشياء تتطلب المعالجة؛ للوصول به إلى صورته الحقيقية، وهذا ما أقره علماء التحقيق. للوصول إلى هذه الصورة الحقيقية لهذا المخطوط هناك خطوات تتبع؛ أولى هذا الخطوات: جمع النسخ المخطوطة للنص، هب أنك تريد أن تحقق نصا ما، الخطوة الأولى التي ينبغي أن تتبعها لتحقيق ذلك النص لابد من جمع جميع النسخ المخطوطة لهذا النص، هذا أمر من الصعوبة بمكان، ولكن لابد للمحقق أن يبذل كل ما لديه من جهد في البحث عن مخطوطات النص في مظانها في العالم كله، وذلك من خلال عدة طرق: أولا: بإمكانك من خلال فهارس المكتبات العامة على مستوى العالم كله مثل الفهارس القديمة في دور الكتب في أوربا مثل الفهرست الكبير للكتب العربية المحفوظة في دار الكتب البروسية بـ "برلين" الذي ألفه "أهلورت"، المكتبة الأهلية بباريس، و"ليدن" في هولندا، و"الإسكوريال" بإسبانيا. وهناك فهارس مصنوعة لهذه المخطوطات خصيصا، فلو أن الباحث اطلع على مثل هذه الفهارس لابد أن يقع على معلومات عن النص أو عن المخطوط الذي سيحاول تحقيقه، وهكذا اطلاعه على فهارس المكتبات في المشرق، وهي كثيرة جدا مثلا مكتبة بيت الحكمة في بغداد، معهد المخطوطات العربية في القاهرة ويقوم بجهد مشكور في هذا المجال، ومنها خزائن كتب النجف الأشرف، خزائن

سيف الدولة بحلب، ومثل مكتبة أبي الفداء بحماة، مثل الجامع الأعظم في القيراون، جامع الزيتونة بتونس، جامع القرويين بفاس، مكتبة الزهراء بقرطبة، وغير ذلك كثير. هذا بالإضافة إلى المكتبات الخاصة التي يملكها أفراد معروفون، ولهم خبرة بالمخطوطات ويعرفون قيمتها، وهؤلاء منتشرون في شتى بقاع العالم العربي، ويعرفهم الباحثون معرفة تامة. هناك طريق ثان يمكن للمحقق التعرف على المخطوطات من خلاله وهي الكتب التي اهتم أصحابها بالإشارة إلى المخطوطات وأماكنها. من هذه الكتب: كتاب (تاريخ الأدب العربي) لـ "كارل بروكلمان"، وهو مستشرق ألماني وألف كثيرا من الكتب القيمة في اللغة العربية واللغات السامية جميعا، كتابه عنوانه يوحي بأنه أرخ للأدب العربي بالمعنى الشائع المعروف لدى الكتاب العرب عندما يؤرخون للأدب في عصر من العصور، وإنما هو سجل لكل ما وصل إليه علم مما ألف في اللغة العربية بجميع فروعها، فقد أفرغ المؤلف جميع فهارس المكتبات التي عرفها في بطاقات يكتب فيها: اسم الكتاب، مؤلف الكتاب، رقم الكتاب، المكتبة التي يوجد بها إن كان مخطوطا، تاريخ طبعه إن كان مطبوعا، المكان الذي طبع فيه، ثم صنف الرجل هذه البطاقات في كل عصر حسب الموضوعات المختلفة، قسم كتابه إلى أربعة أقسام: الكتاب الأول: الأدب العربي حتى أواخر العصر الأموي سنة اثنتين وثلاثين ومائة للهجرة. الكتاب الثاني: لبداية العصر العباسي إلى سقوط بغداد. الكتاب الثالث: يبدأ من حكم المغول حتى سنة تسع وأربعين وتسعمائة وألف.

الكتاب الرابع: خاص بالأدب العربي الحديث في مصر منذ الاحتلال الإنجليزي، وكذا في سوريا والمهجر والعراق والجزيرة العربية والمغرب، فهو كتاب قيم بحق يستطيع الباحث المحقق من خلاله أن يتعرف على مخطوطه، والمعلومات التي تتصل به والتي تشير إلى النسخ الموجودة وأماكنها. من هذه الكتب أيضا التي لا يفوت باحث أن يطلع عليها لمعرفة النسخ كتاب (تاريخ آداب اللغة العربية) لجورجي زيدان، وكتاب (تاريخ التراث العربي) لفؤاد ساركين، وهو أحد الأتراك الذين يشتغلون بالدراسات العربية، وسيجد المحقق في هذه الكتب وأمثالها معلومات غزيرة عن المخطوطات ومؤلفيها وأماكنها. هناك طريق ثالث يمكن للباحث من خلاله معرفة نسخ المخطوط، وهو أن يسأل أهل العلم المتخصصين في هذا المجال، لدينا علماء أجلاء أوقفوا حياتهم على تحقيق التراث وإخراجه من الظلمات إلى النور، أفنوا عمرهم في هذا العمل القيم الذي سيكون ذخرا لهم عند الله سبحانه وتعالى، فإنهم أدرى الناس بهذه المخطوطات وبخاصة التي لم تدرج ضمن الفهارس، توجد مخطوطات لم يشر إليها زيدان ولا "كارل بروكلمان" ولا "ساركيس"، ولا توجد في فهارس المكتبات التي أشرت إليها لكن يعرفها أهل العلم، وقعوا عليها بطريق أو بآخر، فإنهم يبذلون كل غال لديهم للحصول على مثل هذه النسخ، فلابد للباحث أن يرجع إلى هؤلاء، وأن يسألهم، وأن يفيد من توجيهاتهم ومن آرائهم ومن تحديداتهم ومن أوصافهم لمثل هذه المخطوطات. هذه هي أهم الطرق، لكن الباحث لو رأى أن هناك طريقا آخر غير هذه فليسلكه. ويفضل أن يدرس المحقق النسخ المخطوطة للكتاب قبل جمعها أولا، يتعرف على النسخ من خلال البيانات المدونة في بطاقة كل مخطوطة، فقد تكون

بعض المخطوطات منقولة عن الأخرى، وجد مثلا نسخة في معهد المخطوطات العربية، ثم وجد نسخة في "برلين"، لا يُقبل على النسخة ويجمعها على أساس أن هذه النسخة غير هذه النسخة إلا إذا تأكد من خلال البيانات، فربما تكون النسخة التي وجدت في معهد المخطوطات العربية مصورة عن نسخة "برلين" أو العكس. فإذا كانت البيانات المدونة في البطاقة تؤكد أن هذه النسخة هي تلك فلا داعي لإحضار نسختين، عليه أن يتصفحها سريعا بالطريقة الميسرة له في المكتبة الموجودة بها، ويثبت هذا ويقول: وجدت نسخة مصورة في مكتبة كذا، وهي منقولة من النسخة الموجودة في مكتبة كذا، اللهم إلا إذا كان بعض النسخ الحديثة قد كتبها علماء معروفون في مجال التحقيق أو في مجال العلم، ففي هذه الحالة لابد من الحصول على هذه النسخ كذلك؛ لأنه سيجد فيها تعليقا، وإذا ثبت أن الكتاب المخطوط نسخة واحدة فلا حرج من تحقيقه، ربما بعض الباحثين يحجم عن تحقيق مخطوط لا توجد له إلا نسخة واحدة ويقول: سوف يرهقني، وسوف أقابل صعوبات. هذا حق الصعوبات موجودة حتى لو تعددت النسخ، فلنفرض أنك وقعت على مخطوط فيه علم قيم، وينبغي أن يظهر وينكشف للعلماء ليستفيدوا منه، أما إذا تعددت نسخ المخطوط، فمن الخطورة أن يعتمد المحقق على نسخة واحدة؛ لأننا لا نضمن إن كانت هذه النسخة مستوفية لكل النص أم لا. كما لابد أن يتأكد المحقق أيضا قبل إقدامه على تحقيق كتاب مخطوط من أن الكتاب قد نشر من قبل أم لا؟ ربما يكون باحث آخر قد وقع على ذلك المخطوط، وقام بتحقيقه تحقيقا علميا جيدا، تعرف كيف أن هذا المخطوط حقق

أم لا؟ هذه مسألة في غاية السهولة واليسر، اطلع على الفهارس والمعاجم المصنفة للكتب المطبوعة، عندنا في كل عام تصدر نشرة، اطلع على (معجم المطبوعات العربية والمعربة) ليوسف ليان ساركيس، شامل لأسماء الكتب المطبوعة في الأقطار العربية الشرقية والغربية، ومقرونة بأسماء مؤلفيها إلى سنة 1919. ومثل النشرة المصرية للمطبوعات، وهذه يصدرها قسم الإيداع القانوني بدار الكتب المصرية، كل عام يصدر نشرة فيها كل الكتب المصرية التي طبعت عام 1956 ولا زالت إلى اليوم، فإن وجد المحقق أن الكتاب الذي وقع على مخطوطته قد سبق نشره ماذا يفعل؟ يقرأ الكتاب، ينظر فيه نظرة نقد وتمحيص، فإن ثبت لديه أن الناشر قد استخدم الطرق العلمية في تحقيقه ونشره، واطلع على جميع النسخ المخطوطة اكتفى بهذا النشر، أما إذا اتضح له أن الكتاب لم ينشر من قبل أو نشر، وكانت نشرته فاسدة لسبب أو لآخر، أقبل على تحقيقه ونشره بنفس راضية وثقة عالية. ترتيب النسخ: إذا كان للكتاب أو النص الذي يريد الباحث تحقيقه أكثر من نسخة مخطوطة تجمعت لديه، فكيف يرتبها؟ وما هي أعلى النسخ منزلة عنده؟ إذا حدث هذا يكون الفيصل في ترتيب النسخ من حيث الأهمية واختيار الأمهات ثلاثة أمور؛ أولا: قِدَم النسخة، ويعرف ذلك من التاريخ المدون على آخرها، أو من شكل الورق أو فحصه فحصا جيدا، إذ من خلال ذلك يمكن تحديد عمر النسخة، ولا ينخدع المحقق بما يراه من فعل الأرضة بالورق وغير ذلك من مظاهر القدم، فيحكم على النسخة بأنها قديمة لا، فإن ذلك كله قد يكون طارئا، ولا

يدل دلالة قاطعة على طول الزمن أو قصره. كما يمكن للباحث أن يتعرف على زمن النسخة أيضا من خلال فحص المداد -الحبر- الذي كتبت به النسخة، فإنه يكشف عن الزمن وعن البيئة. وكذا يفحص الخط؛ فإن لكل عصر نهجا معينا في الخطوط ونظام الكتابة، والحكم في هذه الأمور التي لن يعتمد فيها على تاريخ ثابت حكم تقريبي، فإنه لا توجد عندنا دلائل قاطعة بانتماء مخطوطة ما إلى عصر معين على وجه التحديد، اعتمادا على شكل الورق أو نوع الخط والمداد، لا على الرغم من كثرة الدراسات التي تمت في هذا الميدان، فإنها غير كافية في إثبات زمن المخطوطة، لكن نلجأ إليها عندما لا نجد إلا هذه الطرق، فهي احتمالية أو ظنية تقريبية. ويمكن التعرف على زمن النسخة أيضًا من خلال ما يذكر في المقدمة، أو في تضاعيف المخطوطة، ربما أشار المؤلف إلى علم من الأعلام من عاصره، كأن يشير في المقدمة إلى من أهدى إليه النسخة يقول: أهديت هذه النسخة إلى فلان الفلاني، فتبحث عن تاريخ هذا العلم فتجده في سنة كذا، بناء على ذلك تحدد، وتجد مثل هذا في صلب المخطوطة مثلا يقول لك: سمعت من فلان أو جلست مع فلان وأنا أكتب فقال لي رأيا في كذا، وأنت تعرف تاريخ هذا الذي أشار إليه المؤلف، كل هذه دلالات يستطيع المحقق من خلالها أن يحدد الزمن الذي كتبت فيه. وقد ذهب بعض العلماء المحققين إلى أن قدم النسخة لا يشكل بالضرورة مبررا لاتخاذها أما أو أصلا، ما لم يكن هناك من الدواعي ما يجعلها قادرة على قيامها مقام نسخة الأم، لابد أن يكون عنده دليل فقد تكون النسخة حديثة ودقيقة، لكنها أنفع من الاعتماد على نسخة قديمة مشحونة بالأخطاء مملوءة بالتصحيف

والتحريف، ومن الجائز أن تكون النسخة الحديثة منقولة عن أصل قديم، وهذا الأصل القديم ضبطت روايته وصححت قراءته بطريق السماع أو الرواية، في هذه الحالة تصبح النسخة الحديثة أصلا، وتعتمد النسخ الأخريات للمقابلة والتصويب والتصحيح، والحقيقة أن هذا رأي لا بأس به في حالة غياب النسخة الأم الصحيحة من كل الجوانب: خط جيد، ما فيها خرم، ما فيها تصحيف، ما فيها تحريف، نعتمد النسخة الأم بأي حال من الأحوال. الأمر الثاني الذي يرتب على أساسه الباحث المحقق النسخ من حيث الأهمية: علم الناسخ، فقد تكون هناك نسخة قديمة غير أن ناسخها جاهل، يكثر الخطأ والتصحيف والتحريف في نسخه، بجوار نسخة أخرى حديثة غير أن ناسخها عالم جليل مشهود له بالدقة وتحري الصواب، لو وضعنا هذه بجوار تلك، وعندئذٍ لابد للمحقق أن يعد هذه النسخة الحديثة أمًّا يعتمد عليها في نشر المخطوط؛ لأنها أصح، وفي تراثنا أمثلة لهؤلاء العلماء الأجلاء، والذين كتبوا بخط أيديهم مجموعا من المخطوطات، وهي صحيحة وتعد أصولا يعتمد عليها، منهم على سبيل المثال لا الحصر أبو منصور الجواليقي توفي سنة تسع وثلاثين وخمسمائة للهجرة، فقد كتب مجموعة تحتوي على ثمانية كتب: (أسماء خيل العرب وفرسانها) لابن الأعرابي، (نسب الخيل في الجاهلية والإسلام وأخبارها) لابن الكلبي، (الإبل والشاء) للأصمعي، (الأمثال) لأبي عكرمة الضبي، (نسب عدنان وقحطان) للمبرد، و (ما يذكر ويؤنث من الإنسان واللباس) لأبي موسى الحامض، و (الأمثال) للسدوسي، هذه أمثلة نسخها نسخا، وهو عالم جليل علمه وفكره اتضح فيها، فا لاعتماد على مثل هذه النسخ اعتماد أكيد، ومقدم على الاعتماد على أية نسخة أخرى لهذه المخطوطات الثمانية التي أشرت إليها.

الأمر الثالث الذي يمكن أن ترتب عليه النسخ من حيث الأهمية: كمال النسخة، فقد تكون هناك نسخة قديمة، وبخط عالم من العلماء، يعني كتبها عالم جليل مشهود بعلمه وفضله غير أن بها خرما، أو تنقص عدة أوراق من أولها أو من وسطها أو من آخرها، لكن عندي نسخة كاملة من المخطوط تحتفظ بالنص كاملا بلا نقصان؛ لكنها متأخرة أو لكاتب أقل درجة علمية من هذا العالم الذي كتبها، أو متأخرة في الزمن من حيث مقارنتها بالنسخة القديمة، نفضل النسخة التي كانت كاملة لا نقص بها، لا خرم بها، لا تصحيف بها، كاملة من جميع الجوانب. وليحذر المحقق من الخروم الوهمية التي تأتي نتيجة لاضطراب ترتيب أوراق المخطوطة، وليعلم أن اختلاف النسخ من حيث الزيادة والنقصان لا يعني دائما أن بالنسخة الناقصة خرما فربما يكون المؤلف ألف كتابه عدة مرات، ربما يكون المؤلف كتب الكتاب في سنة، ثم راجعه، وأعاد كتابته في سنة تالية، فكان يزيد وينقص فيها أو كان يمليه أكثر من مرة، وكان في كل مرة يملي فيها كانت تحدث زيادة أو نقصان عن المرة السابقة، تسمى هذه الإملاءات المختلفة للكتاب الواحد: إبرازات، في زماننا هذا الإبرازة الأولى يعني الطبعة الأولى، الإبرازة الثانية يعني الطبعة الثانية، وكثير من الكتب العربية أبرز أكثر من مرة، وبينها فروق بالزيادة أو النقصان، والمحققون يعرفون ذلك جيدا، وفي كل مرة يرى من الزيادة والنقصان ما يلفت نظره؛ لأن المؤلف يطلع على الكتاب بعد إبرازه، فيقوم بتصحيحه أو توسيع مضمونه أو إضافة ما يراه صالحا أو حذف ما يراه غير صالح. أما إذا تجمعت عدة نسخ للمخطوط وأراد المحقق أن يرتب هذه النسخ من حيث علو الدرجة؛ فيكون ترتيبها على النحو التالي؛

أولا: النسخة التي كتبت بخط المؤلف أو أشار بكتابتها أو أملاها أو أجازها، ووصلت إلينا كاملة، ونرى عليها اسم المؤلف، عنوان المخطوط، هذه النسخة هي أعلى النسخ منزلة، وهي التي تسمى النسخة الأم أو الأصل، وإذا استطاع المحقق أن يحصل على نسخة للمخطوطة لكتاب ما كتبت بخط المؤلف فإنها تكون من النفاسة بمكان عظيم، وهي حينئذ تحمل شهادة توثيقها وصحتها، أنها فعلا كتبت بخط المؤلف فإن هذه تعد شهادة لا يرقى إليها شك. وكذلك الشأن في النسخ المعارضة على الأصول، وخاصة إذا كان الذي عارضها لا يقل عن مؤلفها علما وفضلا، فإنها تلحق النسخة الأم في الثقة بها، وقد أدرك العلماء الأجلاء قيمة مثل هذه النسخة، ويؤكد ذلك ما يروى عن الجاحظ من أنه لما قدم من البصرة إلى بغداد أهدى إلى محمد بن عبد الملك الزيات في وزارته للمعتصم نسخة من كتاب سيبويه، وقبل أن يحملها إلى مجلسه أُعْلِم بها محمد بن عبد الملك الزيات، يعني أخبره بعض الموظفين أن الجاحظ أهداك نسخة من كتاب كذا، فقال له محمد: "أو ظننت أن خزائننا خالية من هذا الكتاب؟!، قال الجاحظ: ما ظننت ذلك، ولكنها بخط الفراء، ومقابلة الكسائي، وتهذيب عمر بن البحر الجاحظ، فقال له ابن الزيات شاكرا: هذه أجَلُّ نسخة توجد للكتاب"، فأحضرها الجاحظ إليه، وسر بها ابن الزيات، ووقعت منه أجمل موقع. في هذا السياق لابد أن يتأكد المحقق أن النسخة الأم هذه هي التي اعتمدها المؤلف، فقد يكون المؤلف ألف الكتاب مرتين أو أكثر من مرة، كما حدث مثلا في (البيان والتبيين)، وفي جمهرة ابن دريد وغيرهما؛ إذ لابد أن ينص المؤلف على ذلك. كما ينبغي للمحقق أيضا أن يتيقن من أن النسخة الموجودة ليست هي

مسودة المؤلف، المقصود بالمسودة النسخة الأولى للمؤلف قبل أن يهذبها ويخرجها سوية، ومن الوسائل التي يستطيع المحقق من خلالها أن يكشف عن المسودة: ملاحظة ما يشيع فيها من اضطراب في الكتابة، هناك محو أو تغيير، ترك بياض، عدم تنسيق، مثل هذه الأشياء تكشف عن أن هذه هي المسودة، وليست هي النسخة الأخيرة التي قام بتهذيبها واعتمادها. فإن ورد نص تاريخي يفيد أن المؤلف لم يخرج غير هذه المسودة، فتعد هذه المسودة أصلا أولا، وإن وجدت مبيضة المؤلف ومسودته عددنا المبيضة أصلا أولا، والمسودة أصلا ثانيا، وهذا شيء قيم يفيد الباحث المحقق إفادة عظيمة، وتوجد بعض المخطوطات قام بعض الأفراد بطبعها دون تحقيق، ثم فقد الأصل، أو تعذر الوصول إليه بحيث أصبح في حكم المفقود، فإذا تحقق المحقق من أمانة الناشر ودقته عُدت هذه النسخة المطبوعة أصلا ثانويا، أما إذا كان الناشر غير أمين، فهذه نسخة لا قيمة لها ولا يعتمد عليها في التحقيق. أما في عصرنا هذا الذي نعيشه فإن المصورات تعد بمنزلة الأصل الذي صورت عنه؛ لأن التصوير لا يحرف ولا يبدل طالما أنه تصوير جيد، فإن صورت عن نسخة أم فهي أم، وإن صورت عن نسخة ثانوية فهي نسخة ثانوية وهكذا. ثانيا: النسخة المقروءة على المؤلف، وتأتي في المنزلة الثانية بعد النسخة التي كتبها المؤلف بنفسه، وقد تكون أمليت من قبل المؤلف، ثم قرئت عليه بعد ذلك وأقرها. النسخة التي تأتي في المرتبة الثالثة هي: النسخة المنقولة عن نسخة المؤلف أو قوبلت بنسخته، فمن الممكن أن تنسخ النسخة الأم أكثر من مرة، وكل نسخة نقلت عن النسخة الأم تسمى أصلا ثانويا إن وجد معها الأصل الأول.

المرتبة الرابعة: النسخة التي كتبت في حياة المؤلف، وهذه يمكن أن نعرفها من خلال تاريخ النسخ، ناسخها قال: كتبت هذه النسخة في حياة الجاحظ أو في كذا، وكانت نسخة مثلا لكتاب (الحيوان) أو لكتاب (البيان والتبيين) واعترف المؤلف في بدايتها أو في آخرها بتاريخ النسخ، وردت عبارة من الناسخ كأن يقول بعد ذكره: أطال الله عمره، أو أدام الله توفيقه، أو مثل هذا، وذلك على العكس من قوله مثلا عن المؤلف: رحمه الله تعالى، أو غفر له أو ما أشبه ذلك، فإنه يدل على أن المؤلف كان حين نسخ الناسخ الكتاب قد توفي إلى رحمة الله تعالى. لابد أن يتنبه الباحث أن هناك نسخًا نقلت عن النسخة الأم أثناء كتابة صاحبها لها مثلما نجد في كتاب (خزانة الأدب) للبغدادي، و (المغازي) للواقدي، وغيرهما وهذا النوع من الأصول لا يخرج كتابا محققا، وإنما يستعان به في تحقيق النص؛ لأن الناقلين حينئذ تكون لهم حرية التصرف بالنص، إلا إذا نصوا في نسخهم على أن هذا هو لفظ المؤلف، وأنهم لم يتدخلوا بالتغيير أو التعديل، في هذه الحالة من الممكن أن نعتمد عليها في التحقيق كأصل ثانوي. ومن الأمور أيضا التي يجب التنبيه عليها: في بعض الأحيان يعمد الناسخ إلى نسخة أصلية وينسخها، وينسخ معها عبارة المؤلف التي يذيل بها المخطوط، يعني يقول المؤلف: انتهيت من كتابة هذه النسخة في رجب سنة مثلا عشرين أو سنة ثلاثين بعد المائة من الهجرة، المؤلف نفسه يكتب هذا فيأتي ناسخ وينسخ هذه المخطوطة بدقة وأمانة لا نشك في هذا، ثم ينسخ -ضمن الكلمات التي نسخها- التذييل الذي ذيل به هذه المخطوطة، ثم لا يعقب ويقول: أنا نقلت، أو لا يشير إلى أنه نسخها من النسخة الأم، فيظن المحقق أن هذه هي النسخة الأم

التي كتبها المؤلف، وهذا خطأ، وخاصة إذا كان الناسخ قريب عهد بالمؤلف، لابد أن يحذر المحقق هذا، وبإمكانه التحقق من ذلك من خلال: الخط، التاريخ، نوع الورق، ولابد أن يبذل جهدا مضنيا في التفريق بين هذه النسخة وتلك. ويمكن للمحقق بعد أن يحصل على نسخ المخطوطة ويفحصها فحصا جيدا، أن يصنفها في مجموعات تبين علاقة إحداهما بالأخرى، من حيث الابتعاد والقرب وعندئذ يمكنه تحديد النسخ الأصول والفروع. نضرب مثلا: لو عندنا مخطوط نسخ من الأصل ثلاث نسخ ألف باء جيم، ثم نسخ من هذه النسخ الثلاث مجموعة من النسخ، ثم ضاع الأصل أو فقد، فإن النسخ ألف وباء وجيم تعد أصولًا أو أمهات، وما عدا هذه الأصول، فهي نسخ ثانوية منقولة عن هذه الأمهات، ويعد من النسخ الثانوية كذلك الشروح المتضمنة للمتون، وكذلك الا قتباسات. ولا يظن المحقق أنه ينبغي إهمال النسخ غير الموثقة أو النسخ الثانوية، فقد لا توجد سوى نسخة واحدة متأخرة ثانوية مليئة بالأخطاء، وفقد الأصل فلو أهملناها لضاع الكتاب كله، لابد من نشرها، ولابد من الاجتهاد في تصحيحها ما أمكن، وإن ظهرت نسخ أخرى بعد نشرها يعيد المحقق تحقيقها مرة ثانية، وقد حدث هذا بالفعل عندما قام المستشرق "جاير" بنشر ديوان الأعشى، واعتمد على نسخة مخطوطة منسوبة إلى ثعلب تحمل سبعا وسبعين قصيدة ومقطوعة، ثم أضاف إليها خمس قصائد وجدها في مخطوطات أخرى مجهولة النسب وخرج الديوان، وبين سطوره بياض وفي أبياته تحريفات وتصحيفات مختلفة، ثم نشر الديوان في القاهرة بعد ذلك، واعتمد ناشره على نسخة "جاير" دون الرجوع إلى نسخة مخطوطة جديدة، وطبعا وقع في نفس الأخطاء التي وقع فيها "جاير"، ثم

تصادف بعد ذلك أن صورت دار الكتب المصرية مخطوطة من المكتبة المتوكلية اليمنية، بها ست وأربعون قصيدة ومقطوعة من شعر الأعشى زائدة رغم أنها غير موثقة؛ لكنها يمكن أن تملأ البياض الذي تركه "جاير" وتصلح الخطأ الذي ظهر بين السطور. وقد أدرك علماؤنا القدامى أهمية النسخ الأصول الصحيحة، عرفوا قيمتها وميزوا بدقة بين خطوط المؤلفين والعلماء المصنفين، ويؤكد ذلك قول أبي حيان وقد نقل عن الجاحظ بعض النصوص: "ومن خطه الذي لا أرتاب فيه نقلت"، كأن العالم كان يحرص على أن يكون اطلاعه على النسخة الأم، أما في حالة عدم كتابتها بخط المؤلف، فقد شددوا كثيرا على أن تكون المخطوطة مقابلة أو معارضة على النسخة الأصلية. وإذا اجتمع لدى الباحث مجموعة من النسخ المخطوطة لكتاب ما، لكنها مجهولة النسب ماذا يفعل؟ لابد من ترتيب هذه النسخ، ترتيبها يحتاج إلى حذق ومهارة، ولابد أن يراعي في الترتيب النسخة ذات التاريخ الأقدم إلا إذا كان ناسخا مغمورا أو ضعيفا، فلا ريب حينئذ من تقديم النسخة الأحدث تاريخا لعلم كاتبها ودقته، أو لكونها مشفوعة بإجازة من شيوخ موثقين، مشهود لهم بالثقة ومشهود لهم بالأمانة والدقة والصدق، في هذه الحالة يقدم هذه النسخة الأحدث ويعتمد عليها. أيضا إذا جمع الباحث المحقق النسخ، وفحصها ورتبها وأنزل كلا منها منزلتها عليه أن يلاحظ عدة أمور مهمة؛ أولا: في حالة تعدد نسخ المخطوط يقوم بوضع رمز لكل نسخة، ويعتمد في وضع هذا الرمز على اسم المكتبة مثلا، أو راوي المخطوط أو اسم البلد الذي وجد فيه المخطوط، أو أي شيء آخر يكون معلوما لديه، المهم أن يضع رمزا

ويشير إلى ذلك حتى يعرف القارئ هذا الرمز، ويكون على دراية به، فإذا وجد نسخة في القاهرة مثلا ونسخة في لندن فيرمز لنسخة القاهرة مثلا بحرف قاف، ولنسخة لندن بحرف نون، وإذا تعددت النسخ في بلد واحد، وكان قد اتبع الرمز بالنظر إلى اسم البلد، فليزد أو يضف بعد كل رمز حرفًا من حروف الهجاء، فليكن مثلا: ق1 أو ق أ، وتصبح "قا" رمزا للنسخة الأولى من القاهرة، ويقول: ق ب يعني: قب، والثالثة: ق ج، يعني: قج. وقد تنبه أسلافنا إلى فكرة الرمز هذه في أسماء العلماء، نجدها شائعة بينهم ففي (خزانة الأدب) مثلا يرمز صاحبها إلى سيبويه بالحرف س، كما وضعوا رموزا ويختصرون بها بعض الألفاظ مثل: ثنا أي: حدثنا، وأنبا أي: أنبأنا، وأنا أي: أخبرنا، ورح أي: رحمه الله، وتع أي: تعالى، غير ذلك كثير، وكانوا يكرهون الرمز فيما يتصل بلفظ الجلالة والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يعني: لابد أن يذكرونه بلفظه ويذكرون العبارة بجملتها: صلى الله عليه وسلم، بتمامها، فلينتبه الباحث المحقق إلى ذلك جيدا. الأمر الثاني من الأمور التي أحببت التنبيه عليها: إذا تعددت نسخ المخطوطة الواحدة تحت يد المحقق فلا يعتمدها جميعا دفعة واحدة، يعتمد نسخة واحدة بعينها ويتخذها أصلا أو أمًّا، ثم بعد ذلك يذكر ما بين النسخ من خلافات أو فروق في الحواشي والهوامش. الأمر الثالث الذي أحببت الإشارة إليه: إذا أشار مؤلف المخطوط إلى المصادر التي نقل منها، فلابد أن يرجع المحقق إلى الأصل الذي نقل منه المؤلف، ويعارض الأصل الذي بيده على مصادره، ويثبت ما بينه وبين تلك المصادر من اختلافات، فمن خلال هذه المعارضة ربما وجد أن المؤلف قد نسب كلاما إلى مصدر، وهو من مصدر آخر عن طريق السهو، أو ربما غفل عن اسم المصدر عفوا.

تحقيق العنوان، واسم المؤلف، ونسبة الكتاب.

تحقيق العنوان، واسم المؤلف، ونسبة الكتاب الخطوة الثانية من خطوات التحقيق بعد جمع النسخ وهو تحقيق عنوان الكتاب المخطوط، عنوان الكتاب هو المرآة التي يطل القارئ من خلالها على الكتاب، فتعكس صورته أمامه، وتحقيق عنوان الكتاب وتوثيقه ليس بالأمر الهين، فبعض المخطوطات يكون خاليا من العنوان؛ إما لفقد الورقة الأولى منه أو انطماس العنوان، وأحيانا نجد عنوانا واضحا للمخطوطة، ولكن عند قراءة ذلك العنوان نراه مخالفا للمادة العلمية التي بداخل هذا الكتاب، ويكون ذلك إما بداع من دواعي التزييف، وإما لجهل قارئ ما من القراء وقعت في يده هذه النسخة الخالية من العنوان، فاخترع لها عنوانًا من خياله. فتحقيق العنوان لا يقل أهمية عن تحقيق النص ذاته؛ لأن الكتاب سوف ينشر بعد تحقيقه، سوف ينسب إلى المؤلف، سوف يشتهر به المؤلف، ومن ثم لابد من تحري الدقة في تحقيقه وتوثيقه، ونسبته إلى صاحبه. إذا كانت النسخة التي تحت يد المحقق هي النسخة التي كتبها المؤلف بخطه أو النسخة الأم، وسجل عليها العنوان وتحقق الباحث من ذلك، فليعتمد العنوان المكتوب، وليبدأ في التحقيق. أما إذا خلا المخطوط من العنوان أو شك الباحث في العنوان بأي شكل من أشكال الشك، فلكي يطمئن إلى صحة العنوان علي اتباع الآتي: إذا كان العنوان مفقودا لضياع الورقة الأولى من المخطوط مثلا، أو كان مثبتا ولكن تطرق إليه شك الباحث، أو كان في العنوان طمس في هذه الحالات الثلاث؛ فإن ذلك

يحتاج إلى إعمال فكره من خلال عدة محاولات، كالرجوع إلى مقدمة المخطوط، فربما أشار المؤلف إلى العنوان في سياق حديثه، يقول مثلا: هذا مؤلف بعنوان كذا ألفته عن كذا، أو يرجع إلى كتب المؤلف الأخرى ربما يكون قد عرض لذكر هذا المؤلف في إحدى كتبه يقول: لنا مؤلف بعنوان كذا، أو: انظر مؤلفنا بعنوان كذا، أو يرجع الباحث إلى الكتب التي ألفت في الموضوع ذاته الذي تدور حوله هذه المخطوطة. وذكروا أسماء المؤلفين في هذا فيقولون: فلان ألف كتابا بعنوان كذا، فربما وجد من أصحاب هذه الكتب من اقتبس من المخطوط وذكر عنوانه، أو أشار إليه أو انتفع به بأي صورة من صور الانتفاع العلمي، أو بالرجوع إلى كتب التراجم التي تترجم للعلماء فربما وجد ترجمة لهذا المؤلف، ثم أشار المترجم إلى مؤلفاته، فيقول: ألف كتابا بعنوان كذا، فيعرف العنوان من خلال هذه الإشارة، أو يرجع الباحث مثلا إلى كتب الفهارس التي تكلمت عن مجاميع الكتب في أبوابها مثل (فهرست) ابن النديم، ابن خير الإشبيلي (كشف الظنون) وغيرها من الكتب التي تعد فهارس جامعة لهذه الكتب وعناوينها ومؤلفيها. الخطوة الثالثة بعد تحقيق العنوان: تحقيق اسم المؤلف، وأقصد بهذا التحقيق التحقق والتثبت من صحة الاسم المذكور، وليس من صحة نسبة المخطوط إليه، هذه خطوة تالية، قد يعتري التصحيف والتحريف أسماء المؤلفين المثبتة على المخطوط، فالمصري قد يحرف إلى البصري، والخراز يحرف إلى الخزاز، الحسن يحرف إلى الحسين، تتأكد من أن الاسم صحيح، وهذا يحتاج إلى تحقيق لا يكتفي الباحث بمجرد الاسم الموجود على المخطوط، ويعارض ويجد الاسم مكتوبا لدى محقق آخر، وهو يحقق كتابا آخر من كتبه، ويتهم هذا

المحقق بأنه أخطأ في الاسم، ولكن هو المخطئ؛ لأن المحقق الآخر تحقق وأثبت أن الاسم فيه تحريف أو كان مكتوبا بطريقة صحيحة على مخطوطه، لابد من التحقق من صحة الاسم بالرجوع إلى كتب التراجم، وستعرف من خلالها الاسم الحقيقي ولا تكتفي بمرجع واحد، فقد يكون وقع التصحيف في ذلك المرجع، وإنما عليك الرجوع إلى أكثر من مرجع. الخطوة الرابعة بعد تحقيق الاسم والتثبت من صحته: التحقق من نسبة الكتاب أو المخطوط إلى المؤلف، فلا يكفي أن يجد المحقق عنوان الكتاب أو المخطوط واسم المؤلف في بداية النسخة الأم أو في جميع النسخ؛ ليحكم بأن هذا المخطوط من مؤلفات هذا المؤلف، بل لابد من التحقق من صحة النسبة من خلال التحقيق العلمي الذي يطمئن الباحث إليه، ويكون ذلك بالرجوع إلىفهارس المجاميع. أحيانا تجد العنوان لكن لا تجد اسم المؤلف، فيمكن من خلال العنوان أن تصل إلى اسم المؤلف، ترجع إلى فهارس المكتبات أو كتب التراجم التي أخرجت إخراجا حديثا، وفُهرست فيها الكتب فهرسة جيدة فتجد فيها اسم المؤلف، وعنوان المخطوط أو الكتاب. وقد يصادف الباحث مشكلة في هذه القضية التي يجد نفسه فيها أمام مخطوط مجهول الاسم، واشترك معه كثير من المؤلفين في نفس العنوان، ولابد من الحذر حينئذ في إثبات المؤلف المجهول. كما لابد من مراعاة اعتبارات تحقيق المادة العلمية للنسخة، الربط بينها وبين أسلوب المؤلف وعصره وحياته، وليعلم الباحث أن عدم ذكر الكتاب في كتب التراجم والطبقات لا يعني الشك في نسبته إلى مؤلفه؛ فإن كتب التراجم والطبقات لم تحط إحاطة تامة بكل المؤلفات، وستظل المصادر الأخرى التي

أشرنا إليها متممة لها في هذا المجال، فتحقيق نسبة الكتاب إلى مؤلفه ليس بالأمر الهين ولاسيما الكتب التي لم تنل شهرة واسعة، فلابد أن تعرض نسبة مثل هذه الكتب على فهارس المكتبات، والمؤلفات التي تختص بالكشف عن مثل هذه النسبة؛ ليكون الباحث على يقين من صحة نسبة الكتاب إلى مؤلفه. وفي تراثنا العربي بعض الكتب التي دار حول نسبتها لأصحابها كلام، واستطاع العلماء أن يحققوا هذه النسبة ويتيقنوا من صحتها من خلال اعتبارات معروفة، كاعتبار القدر العلمي للمؤلف مثلا، استخدام المادة العلمية التي تدور حولها تلك المخطوطة، بالإضافة إلى الاعتبارات التاريخية، وهي من أقوى المقاييس في تصحيح نسبة الكتاب إلى مؤلفه أو نفيه عنه، وخير دليل على ذلك كتاب (تنبيه الملوك والمكايد) الذي نسب على سبيل الخطأ إلى الجاحظ؛ لأن الأخبار التاريخية التي وردت به وقعت في العصر التالي للجاحظ، فكيف ينسب الكتاب له؟! إنها نسبة مزيفة دون شك. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 17 تحقيق متن المخطوط.

الدرس: 17 تحقيق متن المخطوط.

مقدمات الدخول إلى النص.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السابع عشر (تحقيق متن المخطوط) مقدمات الدخول إلى النص الحمد لله الذي خلق الإنسان وعلمه البيان، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خير خلق الله أجمعين وعلى آله وصحبه، وبعد: فأشرت سابقا إلى أن تحقيق المخطوط يعني: أن يظهر المحقق متنه بصدق وأمانة كما وضعه مؤلفه كما وكيفا بقدر الإمكان، وليس معنى تحقيق المخطوط الارتقاء بأسلوبه أو تلخيص عبارته وفقراته، بأن يختار المحقق أسلوبا غير أسلوب المؤلف مثلا، أو يضع كلمة مكان كلمة أخرى بدعوى أنها أبلغ أو أجمل، وليس من حقه أيضا أن يوجز في عبارة المؤلف أو أي شيء يشبه هذا، فتحقيق المتن أو النص أمانة في الأداء تقتضيها أمانة التاريخ وأمانة العلم، فإن متن المخطوط حكم على صاحبه وعلى عصره وبيئته، وهذه اعتبارات تاريخية لها حرمتها ينبغي أن يراعيها المحقق. كما أن التصرف في المتن بأي شكل من الأشكال يعد عدوانا على حق المؤلف، فالمؤلف وحده هو الذي يملك حق التبديل والتغيير والتلخيص؛ لأن النص ملكه، وإذا كان المحقق يتصف بصفة الجرأة أو أحس أنها تغلب على نفسه، فالحقيقة ينبغي له أن يتنحى عن مثل هذا العمل وليدعه لغيره ممن هو موسوم بالإشفاق والحذر؛ لأن التحقيق نتاج خُلقي قبل أن يكون نتاجا علميا لا يقوى عليه إلا من اتصف بالأمانة والصبر. فتحقيق النص إذًا يعني: إبرازه كما وضعه صاحبه، أو بعبارة أخرى تحقيق المتن عبارة عن تحرير النص في شكل يجعله أقرب ما يكون إلى الصورة التي كتبها مؤلفه، ويكون ذلك بإصلاح ما طرأ عليه من فساد أو لحقه من عوج، والفساد الذي يطرأ على النص ويجعله بحاجة إلى التقويم والإصلاح ليعود إلى أصله الذي أنشأه عليه صاحبه، أو أراد على الأقل أن يكون عليه هذا الفساد ينشأ عادة عن

عدة أشياء: عن سهو يقع من المؤلف، أو غفلة من الناسخ مثلًا، أو جهل من الناسخ، أو تعمد منه ذلك لغاية ما أو بسبب عوامل أخرى تختلف باختلاف الزمان والمكان. ويمكن حصر أشكال الفساد في المخطوطات في ثلاثة أشكال؛ أول هذه الأشكال: الخطأ. الشكل الثاني من الفساد: التصحيف والتحريف. الشكل الثالث: الخرم والسقط. مقدمات الدخول إلى النص: فتحقيق النص ليس بالأمر الهين، ولكنه يحتاج إلى جهد وعناية ويقظة وفكر أكثر مما يحتاج إليه التأليف. يؤكد لنا هذه الحقيقة قول الجاحظ في هذا الشأن: "ولربما أراد مؤلف أن يصلح تصحيفا أو كلمة ساقطة، فيكون إنشاء عشر ورقات من حر اللفظ، وشريف المعنى أيسر عليه من إتمام ذلك النقص، حتى يرده إلى موضعه من اتصال الكلام"، يعني: من الأسهل والأيسر أن يكتب ذلك الرجل عشر ورقات من حر اللفظ وشريف المعنى، هذا أيسر من أنه يتم نقصا أو يصلح خطأ رآه في مخطوط ما، وصاحبه غير موجود، هذه أمانة، إذا كان هذا حال المؤلف وهو يصلح ما كتب فما بالك بحال المحقق، وهو لم يكتب شيئا في النص، وإنما يحاول أن يرجعه إلى أصلٍ كَتَبه صاحبه، وصاحبه ليس بين يديه. ولما كان الأمر بهذه الأهمية، فقبل أن يلج الباحث المحقق إلى النص هناك مقدمات لابد أن يعرفها: أولا: لابد أن يتمرس الباحث بقراءة النسخة التي يريد تحقيقها حتى يتمكن من قراءتها قراءة صحيحة، يتدرب على قراءة المخطوط مجرد قراءة، نطق

الكلمات، تركيب الجمل، فإن القراءة الخاطئة لا تنتج إلا خطأ، ويتحقق له هذا المراس بالدربة على التمييز بين أنواع الخطوط، بحيث تكون لديه خبرة بخطوط المخطوطات التي يستخدمها؛ حتى لا يقرؤها بالطريقة التي تعود عليها في إملاء وخط عصره هو، قد يفرح الباحث أنه وقع على مخطوط ما، ولكن لم ينظر في هذا المخطوط لم يقلب صفحاته، ويفاجأ عند النظرة الأولى في أية ورقة من ورقات المخطوط أنه لم يستطع القراءة. سوف تكون عدم القدرة على القراءة عقبة كبيرة في سبيل التحقيق، فلابد أن يتمرس الباحث بقراءة النسخة التي سوف يقبل على تحقيقها؛ لأن هناك فرقا بين الكتابة المغربية وبين الكتابة المشرقية، فمثلا القاف والفاء مثلا في الكتابة المغربية تختلف عن كتابة الفاء أو القاف في الكتابة المشرقية، فالفاء بنقطة من أسفلها عند أهل المغرب، والقاف بنقطة واحدة من أعلاها فلو أن الباحث المحقق لم يتنبه لمثل هذا، ولم يكن متمرسا بفن الخطوط وقراءة النسخة، فسوف يخلط بين الفاء وبين القاف، وبعض المخطوطات تحتاج إلى مراس طويل وخبرة خاصة حتى يتعرف عليه الباحث، ويتمكن من قراءتها بطريقة صحيحة وخاصة تلك المخطوطات التي لا يضطرد فيها النقط والإعجام، وكذا المخطوطات التي كتبت بخط أندلسي أو مغربي، فلمثل هذه المخطوطات رسمها الخاص في الكتابة، ينبغي أن يتعرف عليها المحقق في البداية قبل أن يلج إلى الدخول في النص والتعامل معه، كما أن المؤلفين والنُسَّاخ يختلفون في رسم الحروف، فلكل كاتب طريقته الخاصة في الكتابة تتطلب خبرة خاصة للتعرف عليها. الجواليقي مثلا يكتب ألف المد بألفين، ويكتب التاء المفتوحة تاء مربوطة، فيقول في ذات ذاة بالتاء المربوطة. كما يكتب كلمة: لكن وهكذا بألف بعد اللام في:

لكن، وبعد الهاء في: هكذا، ولا يضع الألف الفارقة في مثل: قالوا هنا ألف فارقة بعد الواو، وغير ذلك كثير. وبعض النُسَّاخ كان يقارب بين رسمي الدال واللام أو بين رسمي الغين والفاء، ولا يدرك الفصل بينهما إلا من أوتي حظا من الخبرة بالخطوط وأصحاب الخطوط، فلابد إذًا من المران على قراءة خطوط القدماء والوقوف على طريقة النُسَّاخ في كتابتهم للحروف الهجائية؛ حتى لا يخلط المحقق بين الراء والدال أو اللام والكاف، وقد كان لبعض النُسَّاخ في الزمن القديم اصطلاحات خاصة في الضبط بالشكل مثلا. فلابد للباحث المحقق من التعرف على هذه المصطلحات في المخطوطة قبل الدخول إلى النص، يعرف من الذي كتبها من النُسَّاخ، وما طريقته؟ وما هي الطريقة التي كانت تتبع آنذاك في النقط والشكل، فقد كان بعض الكتاب يكتب الشدة والفتحة، والشدة والكسرة بطريقة تخالف طريقتنا اليوم؛ إذ يضع الفتحة تحت الشدة، فيخيل لمن لم يتمرن على خط المخطوط أنها شدة وكسرة، في حين أن طريقة هذا الكاتب وضع الشدة فوق الحرف والكسرة تحته للدلالة على الشدة والكسرة. وليحذر الباحث من تطبيق القواعد الإملائية التي درسها، ويستخدمها اليوم في كتابته على المخطوطات التي يستخدمها ظنا منه أن هؤلاء العلماء هم الذين وضعوا القواعد، وأصلوا الأصول كثير من الباحثين المحققين يقع في هذا الخطأ، هؤلاء علماء نعم لكن لهم طريقة في الكتابة والرسم تختلف، أقول: إن الإملاء العربي لم يبحث بحثا كافيا، ولم تقعد قواعده إلا في فترة متأخرة، وإن وجدنا بعض العلماء يهتمون بالإملاء في مؤلفاتهم، فإن ذلك الاهتمام ينصرف إلى الرسم القرآني كما في (أدب الكاتب) لابن قتيبة مثلا، وفي (صبح الأعشى) للقلقشندي، و (الكتاب) لابن درستويه.

فقد اقتبس هؤلاء أشياء كثيرة من رسم القرآن الكريم مع أن العادة في الرسم قبل ذلك كانت تخالف رسم القرآن الكريم، لو تأملنا كثيرا من الكتب الخطية لوجدناها تخالف القواعد الإملائية الموضوعة في هذه الكتب، فلا يكاد يوجد في الكتب الخطية القديمة ما يوافق قواعد العلماء في الإملاء إلا نادرا، فلينتبه الباحث إلى مثل هذه الأشياء، وليعلم أن لكل مخطوط طريقته في الكتابة ربما تخالف ما شاع حينئذ، وربما تتفق معه، وبعض الكتاب القدامى يضعون علامات تدل على إهمال الحروف، فبعضهم يشير إلى السين المهملة بوضع نقاط ثلاث من أسفلها إما صفا واحدا، وإما صفين، وبعضهم كان يكتب سينا صغيرة تحت السين، وكانوا يكتبون حاء صغيرة تحت الحاء المهملة، ومنهم من يضع فوق الحرف المهمل أو تحته همزة صغيرة، ومنهم من يضع خطا أفقيا فوقه، وهكذا تكثر تلك العلامات والرموز. ولا يمكن للباحث أن يقرأ النص قراءة صحيحة إلا إذا تمرس بكل ذلك ومرن نفسه، واكتسب خبرة بها من خلال اطلاعه على الكتب التي اهتمت بدراسة الخطوط ككتاب (المطالع النصرية) للشيخ نصر البوريني، وغيره من الكتب. كما يحتاج المحقق أيضا قبل الولوج إلى المتن إلى خبرة خاصة في معرفة التشكيل والضبط، وهو الذي كان يسميه أبو الأسود الدؤلي: النقط، فيروى عن المبرد أنه قال لما وضع أبو الأسود النحو قال: "ابغوا لي رجلا لَقِنا -يعني سريع الفهم- فطلب الرجل فلم يوجد إلا في عبد القيس، فقال أبو الأسود: إذا رأيتني لفظت الحرف فضممت شفتي فاجعل أمام الحرف نقطة، فإذا ضممت شفتي بغنة فاجعل نقطتين، فإذا رأيتني قد كسرت شفتي فاجعل أسفل الحرف نقطة، فإذا كسرت شفتي بغنة فاجعل نقطتين، فإذا رأيتني قد فتحت شفتي فاجعل على الحرف نقطة، فإذا فتحت شفتي بغنة فاجعل نقطتين"، وهكذا كانت الحركات،

ثم تطورت بعد ذلك على يد الخليل بن أحمد حتى صارت بالشكل الذي نكتب به نحن الآن، ورغم أن الخليل قد ضبط هذه الحركات، فقد ظلت طريقة أبي الأسود تستخدم لفترة طويلة فتنبه لمثل ذلك جيدا. ومما يلحق بالضبط أيضا وينبغي للمحقق الإحاطة به: الهمزة وكيفية كتابتها، ففي الكتابة القديمة كثيرا ما تهمل الهمزة، فيكتبون مثلا كلمة "ماء" يكتبون" ما" بدون همزة، و"سماء" يكتبون "سما" دون همز، وهناك بعض الإشارات أو العلامات الكتابية ينبغي للباحث أيضا أن يعرفها جيدا قبل أن يفحص النص ويتأمله كعلامة الإلحاق، وهي علامة توضع لإثبات بعض الأسقاط خارج سطور الكتاب المخطوط، هي في الغالب عبارة عن خط رأسي يرسم بين الكلمتين، ويعطف بخط أفقي يتجه يمينا أو يتجه يسارا إلى الجهة التي دون فيها السقط، فلو لم يتنبه المحقق إلى مثل هذا لظن أن هذا الكلام الذي في الهامش تعليق أو تفسير أو ما أشبه ذلك، ولكنه إتمام لسقط أو نقص ورد بين الكلمات أو بين السطور. هناك أيضا ما يسمى: علامة التمريض أو التطبيب، وهي عبارة عن رأس صاد ممدودة توضع فوق العبارة التي هي صحيحة في نقلها، ولكنها خطأ في ذاتها، هذه أمانة النُسَّاخ القدامى، وأحيانا كانوا يضعون الحرف "ضاد" في وسط الكلام إشارة إلى وجود بياض في الأصل المنقول عنه، تأمل النُسَّاخ فينبغي ألا نكون أقل أمانة منهم. وكذلك ينبغي أن يكون المحقق عارفا بما يسمى بالتعقيبة، وهي كلمة تكتب في ذيل ظهر الورقة، تكون هي بداية الورقة التالية، كانوا يفعلون ذلك للاهتداء إلى ترتيب الأوراق عند اضطرابه، كذلك الرموز والاختصارات لبعض الكلمات أو

الجمل حتى طريقة استخدامهم للأرقام كانت تختلف. كل هذا يحتاج من الباحث إلى خبرة خاصة قبل الإقدام على قراءة النص وتحقيقه. الأمر الثاني من الأمور التي ينبغي للمحقق أن يراعيها قبل إقدامه على فحص النص هي: التمرس بأسلوب المؤلف؛ إذ لابد له من المران على أسلوب المؤلف، فلكل مؤلف أسلوبه، عباراته التي يرددها، لزماته التي تدور في كلامه، وهذا يفيده لو أن هناك تصحيفا، تحريفا. خبرة المحقق بأسلوب المؤلف لا تقل أهمية عن خبرته بالخطوط وطرق النُسَّاخ في الكتابة، من حيث الإفادة في معرفة قصد المؤلف؛ إذ من الأشياء المهمة في التحقيق معرفة رأي المؤلف وغرضه في الكتاب، هذه المعرفة لا تتم إلا من خلال الطرائق التي ينتهجها المؤلف، أقل شيء يمكن أن يتعرف الباحث من خلاله على أسلوب المؤلف هو قراءة المخطوط أكثر من مرة، ويتأمل العبارات، يتأمل التراكيب، يتأمل الألفاظ، القاموس الذي يستخدمه هذا المؤلف، لابد أن يقف أمامه وقفة طويلة يقرأ المخطوط قراءة متأنية يركز فيها على طرائقه في التعبير، يرصد الظواهر الأسلوبية عنده، يسجل اتجاهه الذي يؤثره في الصياغة. وأعلى صور التمرس بأسلوب المؤلف أن يرجع المحقق إلى مؤلفات المؤلف، بقراءة هذه المؤلفات ويربط بين أسلوبه في المخطوط وبين أسلوبه في الكتب الأخرى إن كانت مخطوطة أو كانت مطبوعة محققة أو غير ذلك، يقرؤها جيدا ليزداد خبرة بأسلوبه ويحاول أن يربط بين أساليب كتبه التي قرأها، وأسلوب المخطوط الذي يستخدمه ويسجل ملاحظاته ويرصد ما بينها من اختلاف، فإن ذلك سوف يعينه على تحقيق النص والوصول إلى الصواب لا محالة. الأمر الثالث من الأمور التي ينبغي أن يراعيها المحقق قبل الولوج إلى النص: هو إلمام الباحث بالموضوع الذي يعالجه المخطوط حتى يتمكن المحقق من فهم النص فهما

جيدا، وتوجيهه توجيها صحيحا، وأقول هذا لأن بعض الباحثين المحققين يظن أنه يتعامل مع قوالب جامدة لا روح فيها، لا يعنيه ما وراءها من معنى أو ما تحمله من أفكار، هذا ظن لا يصح أن يصدر من عالم باحث محقق، فهب أن باحثا استطاع قراءة المخطوط قراءة جيدة من خلال خبرته بالخطوط وأنواعها، وطرائق النُسَّاخ في الكتابة، وتعرف على أسلوب المؤلف لكنه غير ملم بالموضوع ولا يدرك أبعاده. كأن يكون الموضوع مثلا في فن المقامات، والباحث لم يقرأ عن المقامات شيئا، لكنه قرأ عن فن الرسائل أو غيرها من فنون الأدب الكثيرة، فكيف يتعامل مع نص المخطوط الذي كتبه المؤلف في فن المقامات وهو لا يدري عنه شيئا إذا كان هذا حاله؟! إن خطأه محتمل لا محالة بل إنه قد يحول الخطأ إلى صواب، والصواب إلى خطأ وليتجنب الباحث مثل هذا، ولا يقدم على مخطوط في موضوع من الموضوعات وهو بعيد عنها، أو لا ينسجم مع فكره، لابد أن تكون لدى الباحث المحقق ثقافة شاملة عن الموضوع، من خلال اطلاعه على الكتب التي كتبت في هذا الموضوع، أو في موضوع قريب منه؛ ليكون على دراية تامة به فيستطيع أن يحلل، يستطيع أن يناقش، يستطيع أن يوجه النص توجيها صحيحا. هذه هي مقدمات الدخول إلى النص، وهي لازمة كما رأيت لكل من يقدم على تحقيق مخطوط من المخطوطات، الآن أصبح الباحث جاهزا للدخول إلى عالم النص وفحصه وتحقيقه، انتهى من جمع نسخ المخطوط الذي يريد تحقيقه، حقق العنوان، حقق اسم المؤلف، وثق نسبة المخطوط إلى المؤلف، تعرف على أنواع الخطوط التي يستطيع من خلالها قراءة النص، أحاط بأسلوب المؤلف وعرف اتجاهاته وألم بموضوع المخطوط إلماما تاما، يستطيع المحقق حينئذ أن يلج إلى النص ويبدأ في تحقيقه، ويسير وفق خطوات موضوعة متفق عليها.

أولى هذه الخطوات: يقوم الباحث أولا بنسخ نص النسخة الأم بخطه مهما كانت منزلتها عنده، ينسخها نسخا حرفيا، لا يتدخل بالتصحيح أو التعليق، لا تظهر شخصيته هنا بأي شكل من الأشكال، هو مجرد ناسخ، وإنما تكون مهمته في هذه الخطوة هو نقل رسم المتن في كراسته، يكتب النص على وجه، ويترك الوجه الآخر للورقة ليكون هذا الوجه حاشية له بعد ذلك. عليه أن يترك سطرا فارغا بين السطرين، والباحث المحقق سيمر في هذه المرحلة بكلمات كثيرة لا يعرف قراءتها، أو يشك في تلك القراءة عليه أن يكتبها كما هي، وقد يمر بسطور جانبية كثيرة ينبغي أن يجتهد في معرفة مكانها الحقيقي من النص الأصلي، ويكفيه في هذه المرحلة قليل من الجهد؛ لأن اجتهاده في معرفة أصل الكلمة مثلا، أو مكان السطر الجانبي ليس اجتهادا نهائيا، وعليه أن يضع هذه الأسطر بين قوسين؛ ليعطيها المزيد من اهتمامه وملاحظاته بعد ذلك حتى تحتل مكانها الصحيح الذي أراده المؤلف. الخطوة الثانية: بعد انتهاء عملية نسخ النسخة الأم يتفق الباحث مع عدد من أصدقائه الذين يتصفون بشيء من العلم والاطلاع على الخطوط، ويفضل أن يكونوا في نفس التخصص الذي يعمل فيه الباحث، وأن يكون عددهم بعدد النسخ التي تم الحصول عليها لهذا المخطوط؛ لإجراء عملية المقابلة بين النسخ، يعطى كل منهم رمزا للمخطوطة التي معه، ثم يبدأ هو في قراءة المتن من النسخة التي نقلها، أصبح عندي ثلاث أو أربع نسخ كل نسخة مع شخص من الأشخاص ولها رمز، فلان هذا رمزه ألف، فلان هذا رمزه باء هذا رمزه دال. وهكذا يبدأ الباحث في قراءة المتن من النسخة التي نقلها، وإخوانه يتابعونه في النسخ التي بين أيديهم، حتى إذا صادف أي خلاف بين النسخ سجل في الصفحة

المقابلة نص هذا الخلاف، وسجل إلى جانب التعليق رمز المخطوطة التي وقع فيها ذلك الخلاف، وربما يسأل سائل: ما فائدة الاعتماد على فريق العمل هذا، وكيف يعتمد الباحث على غيره في إعداد بحثه؟ الجواب: أن عملية المقابلة تلك تحتاج إلى دقة ويقظة حتى لا يفوت الباحث شيء، وإن اعتمد الباحث على نفسه فقد يفوته شيء كثير وكذلك فإنه يأخذ وقتا طويلا، أما بالاعتماد على أصدقائه فإنه سوف ينجز عملية المقابلة في وقت قصير، وتكون أكثر دقة، وينبغي أن تكون المقابلة دقيقة وشاملة، ويسجل الباحث المحقق في الحواشي كل شيء حتى ولو كانت نسخة المؤلف بيده، فقد يظن أنه عرف قراءة كلمة من الكلمات، ثم يتبين له من خلال المقابلة أنه وهم في قراءتها؛ لأن نسخة من النسخ قد أوضحتها، وقد يكون هناك خرم في نسخة المؤلف مثلا، فيكون الترميم من النسخ الأخرى سهلا، وقد تكون هناك إضافات جانبية في النسخة الأم، ولا يعرف الباحث مكانها، من خلال النسخ يستطيع الباحث أن يعرف مكان هذه الإضافات، ويحدد موقعها تحديدا دقيقا. أما اعتماده على غيره فهذا اعتماد مجرد، ولا يتدخلون في شيء على الإطلاق، وليحذر الباحث أن يأخذ رأي أي واحد فيهم، هم مجرد آلة تكشف له عن الرسم الذي أمامه فقط، ومن حق الباحث أن يستعين بأية آلة من الآلات الحديثة. الخطوة الثالثة: بعد انتهاء عملية المقابلة بين النسخ يتم التبادل بين النسخ، فتعطى للصديق صاحب النسخة أفي المرة الأولى النسخة ب، وتعطى للصديق صاحب النسخة ب في المقابلة الأولى نسخة أ، وتظل النسخة التي مع المحقق في يده وهكذا، ثم تبدأ عملية المقابلة من جديد، وذلك لضبط الاختلافات بين النسخ التي سجلها المحقق في حاشيته فقد يسهو أحد أو يضل.

رابعا: وبعد أن ينتهي الباحث من هذه المقابلة في المرة الثانية ينظر في الأمر، فإن كان لديه نسخة بخط المؤلف اطمأن أولا إلى وصوله لحد الثقة الكاملة في قراءتها، وفهم مصطلحاتها، ويحتفظ باختلافات النسخ والملاحظات التي سجلها حين المقابلة؛ لكي تساعده على القراءة الصحيحة والترميم، وهنا في الحقيقة تظهر الشخصية العلمية للباحث في الإحاطة الدقيقة بالمادة العلمية للمخطوط. يبدأ الباحث بقراءة المتن قراءة واعية، وهذه مرحلة تعد من أخطر المراحل، وتظهر من خلالها ثقافة الباحث وملاحظته ومدى تعمقه في تخصصه العلمي، ويثبت الباحث الرسم الذي اعتمده في النهاية، وهو الرسم الذي يورده المؤلف، بمعنى أنه يثبت المتن كما أراده صاحبه دون تدخل في تعديله أو تحسينه فلا يغير شيئا في المتن أو يبدله. وقد يقال: كيف نترك الخطأ يشيع في المتن، وما قيمة التحقيق حينئذ؟ لم يقل أحد: إن الباحث سيترك الخطأ يشيع في المتن، لقد اتفقنا على أن التحقيق عبارة عن محاولة المحقق الوصول بالنص إلى أقرب صورة لما أراده المؤلف، ولا شك في أن المؤلف لا يريد شيوع الخطأ في متن مؤلفه هذا شيء بدهي، ومن ثم لابد أن يتدخل الباحث بالإصلاح، لكنه إصلاح مقنن له نظام وطريقة خاصة يعتمد الباحث على ما لديه من حس لغوي، وهو يعالج النص، فإن استغلق عليه فهم شيء من النص فهو بين أمرين هما سبب هذا الاستغلاق، ومن خلال تحديد أحد الأمرين يستطيع أن يحدد طريقة العلاج والإصلاح. الأمر الأول: قد يكون العيب في الباحث نفسه، كأن يكون محصوله اللغوي قليلا مثلا لا يؤهله لفهم دلالات الألفاظ والتراكيب داخل المخطوط.

الخطأ وكيفية علاجه.

الأمر الثاني: قد يكون العيب في النص ذاته، كأن يكون فيه خطأ أو وقع فيه تصحيف أو تحريف أو أصابه خرم أو سقط، أو أي شيء من هذا القبيل، أي صورة من صور الفساد. الخطأ وكيفية علاجه المحقق المنصف هو الذي يتهم نفسه أولا قبل أن يتهم النص الذي أمامه بالخطأ، فإذا ما وقع المحقق على شيء ورآه من وجهة نظره خطأ، أو صعب عليه أن يفهمه، لا يتسرع في الحكم عليه قبل أن يبحث عن صحة التركيب في كتب اللغة، وقبل أن يتعرف على أنماط التعبير في الأساليب القديمة، فإن الجهل بالأساليب القديمة ينعكس أثره على معالجة النصوص، لا شك في هذا، فليحذر الباحث المحقق من تغيير شيء لا يفهمه، أو الحكم على شيء بالخطأ إلا بعد التثبت بالدليل القاطع. وليس كل نص يراه المحقق صعبا غير مفهوم يعد مغلوطا، فقد يحدث في بعض الأحيان أن يغير النُسَّاخ بعض العبارات الصعبة غير المفهومة بعبارات سهلة مفهومة، وعند المقابلة يظن المحقق أن النسخة ذات العبارات الصعبة مغلوطة، وهذا غير صحيح فإن كثيرا ما يختبئ الصحيح فيما مظهره غير مفهوم، وعلينا إذًا أن نستخرجه ولا نكتفي بتغيير النُسَّاخ، ولا يصح أن ننسب الخطأ في متن المخطوط إلى المؤلف إلا إذا قامت الأدلة على ذلك، كاتفاق النسخ التي لم ينقل بعضها عن بعض على هذا الخطأ، أو اضطرد مثلا وقوع الخطأ نفسه في مواضع مختلفة من الكتاب. أما إذا وجدنا النسخ غير متفقة في الخطأ كان هناك احتمالان:

إما أن يكون الخطأ ليس من المؤلف، وإما أن يكون من المؤلف وانتبه إليه بعض النُسَّاخ فأصلحه، ولا يمكن نسبة الخطأ إلى المؤلف إلا إذا كانت النسخة الأصلية التي كتبها بيده محفوظة وورد بها ذلك الخطأ، وإذا كان الخطأ نحويا واضحا فاضحا كأن ينصب الخبر مثلا، أو يرفع اسم إن، أو ينصب اسم كان، فينبغي للباحث أن يقوم بتصحيحه، ثم يشير في الحاشية إلى ذلك وينبه عليه بقوله: وفي الأصل كذا وكذا، ويذكر العبارة التي ورد فيها الخطأ. أما إذا كان الخطأ له وجه من الصحة فلا يصححه، وإنما يتركه على حاله ويشير في الحاشية إلى ما يريد أن يقوله من تضعيف لما ذكره المؤلف أو غير ذلك. وهناك أخطاء لا يتردد أحد في الحكم عليها بأنها من قبيل السهو الخالص، ويدخل في ذلك سقوط حرف أو حرفين من الكلمة مثلا كأن يقول المؤلف: ولا أرى لا جها، والمقصود: وجها، أو يقول: إنما الأعمال النيات، ويقصد بالنيات، فعلى المحقق حينئذ أن يضع الزيادة بين قوسين معكوفين، ويحذف ما زيد سهوا، ويشير إلى ذلك كله في الحاشية. في بعض الأحيان ينقل مؤلف المخطوط عبارة عن غيره يستدل بها أو يناقشها، ثم ينص على اسم المصدر المنقول منه وصاحبه، وقد تسقط من النص المنقول كلمة أو أكثر عن طريق السهو الواضح، ولا يمكن أن تستقيم العبارة المنقولة إلا بما سقط، عندئذ يثبت المحقق ما سقط، ويضعه بين قوسين معكوفين، ويشير إلى ذلك في الهامش أيضا. وأما الشواهد القرآنية فلما لها من تقدير ديني لابد أن توضع في مكانها، وينبغي للمحقق أن يستشعر الحذر الكامل في تحقيق الآيات القرآنية، وألا يركن إلى أمانة

غيره في ذلك مهما بلغ قدر غيره من العلم والثقة، لابد أن يقدر النص القرآني، وينبغي له أن يتحقق ويضبط النص القرآني، ينظر فيه إلى عدة اعتبارات، ومن ثم لا يكفي أن نرجع إلى المصحف المتداول، بل لابد من الرجوع إلى كتب القراءات، كتب القراءات السبع، ثم العشر، ثم الأربع عشر، ثم كتب القراءات الشاذة، وكتب التفسير يرجع إلى التي تهتم بالقراءات كتفسير القرطبي، وأبي حيان وغيرهما. وإذا كان الخطأ الوارد في النص القرآني من جهة الرسم أو الضبط، فلا يتسرع المحقق في ضبطه، وعليه أن يتأكد إذا ما كان المؤلف يعرب أو يكتب على حسب قراءة معينة، فعلى المحقق أن يحافظ على ما قاله حينئذ، ربما يكون كتب الآية على حسب قراءات من القراءات المعترف بها والمشهورة، فلابد أن يرجع إلى مثل هذه الكتب للتأكد من هذه الآيات. ويرى بعض العلماء إبقاء النص القرآني المحرف كما هو في صلب المتن التزاما بمبدأ الأمانة العلمية في نقل النص؛ إذ تقتضي الأمانة أن يؤديه كما وقع في المؤلَّف، والمسألة فيها خلاف قديم بسطه ابن كثير في كتابه (اختصار علوم الحديث) حيث قال: "وأما إذا لحن الشيخ فالصواب أن يرويه السامع على الصواب، وهو محكي عن الأوزاعي وابن المبارك والجمهور، وحكي عن محمد بن سيرين، وأبي معمر عبد الله بن سخبرة أنهما قالا: يرويه كما سمعه من الشيخ منحولا. قال ابن الصلاح: وهذا غلو في مذهب اتباع اللفظ، وعن القاضي عياض أن الذي استمر عليه عمل أكثر الأشياخ أن ينقلوا الرواية كما وصلت إليهم، ولا يغيروها في كتبهم، حتى في أحرف من القرآن الكريم استمرت الرواية فيها على خلاف التلاوة، ومن غير أن يجيء ذلك في الشواذ كما وقع في الصحيحين

و (الموطأ)، ولكن أهل المعرفة منهم ينبهون على ذلك عند السماع في الحواشي". فالمسألة مردها إلى الأمانة عند الفريقين، والحقيقة أن إبقاء النص القرآني المحرف في الصلب كما هو لا يليق؛ لأن مكانة القرآن الكريم تجل عن أن نجامل فيه مخطئا، أو أن نحفظ فيه حق مؤلف لم يلتزم الدقة مهما كان هذا المؤلِّف، فلابد أن نصلح الخطأ القرآني، وأشر في الحاشية إلى هذا، لكن لا تصلح إلا بعد التأكد من أن المؤلف لم يرد قراءة معينة أو رسما معينا. وأما نصوص الحديث الشريف، فينبغي للمحقق أن يعرضها على كتب الحديث للتأكد من صحتها، أنت تعلم أن الحديث له أكثر من راو، فقد يكون رواه راو بلفظ ورواه راو آخر بلفظ، ولذلك نحن نحمل مؤلف المخطوط أمانة روايته، وتسجيله بالطريقة التي خط بها، فنبقيها كما هي، إذا تأكدنا أنه كتبها بهذه الصورة، وللمحقق أن يعلق في الحاشية، ويثبت ضعف الرواية أو قوتها. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 18 الخروم والسقط، والتصحيف والتحريف.

الدرس: 18 الخروم والسقط، والتصحيف والتحريف.

الخروم والسقط.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثامن عشر (الخروم والسقط، والتصحيف والتحريف) الخروم والسقط الحمد لله الذي خلق الإنسان وعلمه البيان، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خير خلق الله أجمعين وعلى آله وصحبه وبعد: فنبدأ حديثنا عن الخروم والسقط: الخر وم والسقط ظاهرتان واردتان في المخطوطات القديمة، فقد يحدث في بعض النسخ المخطوطة تآكل في بعض أوراقها من أعلاها أو أسفلها أو وسطها، فتمحى بعض الكلمات أو العبارات أو العناوين التي مكان الخرم، كما يحدث أن تسقط بعض الأوراق من النسخة أو يضطرب ترتيبها، ولا تعد هاتان الظاهرتان دليلا على قدم النسخة أو حداثتها كما يظن بعض الباحثين، ينظر إلى المخطوط فيرى به خرما أو سقطا، فيعتقد أن هذه النسخة قديمة، لا الخرم ولا السقط يعد دليلا على قدم النسخة أو حداثتها، وذلك لأن كثيرا من المخطوطات القديمة تحفظ من الحشرات والرطوبة والمسح بطرق علمية دقيقة، فيقل بها الخرم، وكثير من المخطوطات الحديثة تتعرض للإهمال، فيصيبها الخرم. وقد تصور المخطوطة تصويرا رديئا فلا تظهر بعض الجوانب من الورقة أو تطمس بعض الكلمات، فيصير الأمر قريبا من الخرم، فليتنبه الباحث إلى هذا، إذا صادف خرما أو سقطا يمكن أن يعالج الباحث هذا بأكثر من طريقة؛ فإن كان يعتمد في تحقيقه على نسخة المؤلف، وكان الخرم والسقط موجودًا في نسخة المؤلف؛ فعليه الاستعانة بغيرها من النسخ. ولابد أن يكون الباحث قد تدارك هذا الخلل عند مقابلة النسخ، فإذا اتفق جميع النسخ في وجود الخلل بها أو لم يكن لديه غير نسخة واحدة، عليه أن يستعين بالنصوص التي نقلت عن المؤلف، ممكن يكون مؤلف آخر نقل نصوصا يستدل بها عن هذا المخطوط، فربما يكون نقل هذه العبارة التي بها خرم، فإذا رجع إليها المحقق لوجد النص كاملا وبه الخرم الذي انمحت العبارة بسببه أو الكلمة بسببه،

التصحيف والتحريف.

فعليه أن يستعين بالنصوص التي نقلت عن المؤلف أي: التي اقتبسها المؤلفون من هذا المخطوط. وعلى أي حال يضع هذا الذي وجده بين قوسين في المتن، ويشير في الحاشية إلى ذلك، أو يضع عدة نقاط في المتن مكان الخرم، ويذكر الناقص في الحاشية، فإن لم يجد النص الذي أصاب الخرم بعض كلماته، يرجع إلى المؤلفات الذي كتب فيه المؤلف مخطوطه، ويستوعبها جيدا، ثم يجتهد في الترميم مستعينا بما حصله من معلومات يمكنه الإفادة منها في إصلاح الخرم ويحاول بقدر الإمكان أن يكون الترميم في نفس مساحة الخرم، يعني: المساحة تتحمل كلمة، يكون الترميم بكلمة، كلمتين يكون الترميم بكلمتين وهكذا. هناك سقط في الأوراق عليه أن يأتي بالفهرس إن كان المؤلف قد وضع فهرسا لمخطوطه، وبإمكانه أن يصلح السقط من خلال العناوين التي توجد في أوراق المخطوط، فإن لم يهتد إلى ترميم الخرم أو إصلاح السقط كأن تجمع النسخ على ذلك مثلا، يشير المحقق إلى ذلك في الحاشية، ثم يجتهد في معرفة مضمون السقط، ويذكره في الحاشية. التصحيف والتحريف هذه هي الصورة الثالثة من صور الخلل أو الفساد الذي يلحق بالنص. الحقيقة أن قضية التصحيف والتحريف تعد من أخطر القضايا التي تواجه الباحث ولا يصح التهاون أو التقصير فيها بحال من الأحوال؛ لأنها تتصل بجوهر التحقيق، وهو سلامة النص وتأديته على الوجه الذي تركه عليه صاحبه. ومما يزيد من خطورة التصحيف والتحريف أنه قد يبنى على اللفظ المصحف أو المحرف رأي في العقيدة أو اللغة أو الأدب، فحكى الحافظ السيوطي قال: "قيل: إن النصارى كفروا

بلفظة أخطئوا في إعجامها، وشكلها أي بسبب لفظة قال الله تعالى في الإنجيل لعيسى -عليه السلام: أنت نبيي ولدتك من البتول، فصحفوها وقالوا: أنت بنيي ولدتك من البتول". وتعالى الله سبحانه علوا كبيرا. وكذلك ما روي عن الخليفة سليمان بن عبد الملك وكان غيورا على الحرم، فقيل له: إن المخنثين قد أفسدوا النساء في المدينة، فكتب سليمان بن عبد الملك إلى قاضي المدينة وواليها أبي بكر بن حزم أن احص مَن قِبلك من المخنثين، فصحف كاتبه وكتب أن اخص بدل أن احص، كتبها بالخاء المعجمة مكان الحاء المهملة، وابن جُعْدُبة هو راوي هذا الخبر، فدعاهم فخصاهم. وقد عرف العلماء التصحيف والتحريف بتعريفات شتى، فبعضهم جعلهما مترادفين، وبعضهم فرق بينهما في الدلالة، عرف الجاحظ التصحيف بأنه يكون من وجوه من التخفيف ومن التثقيل، ومن قِبل الإعراب أيضا ومن تشابه صور الحروف. الحسن بن عبد الله العسكري استخدم التصحيف عند الخطأ في النقط والرسم أو فيهما معا، أو الخطأ في الرسم والشكل معا، واستخدم مصطلح التحريف للدلالة على الخطأ في بناء الكلمة أو شكلها، استخدم مصطلح التغيير والتبديل كبديل للتحريف، واستخدم مصطلحات أخرى كثيرة كالقلب والغلط والوهم إلى آخر تلك المصطلحات التي وردت عنه. وكان للشعراء أيضا رأي في هذه القضية. يقول أبو نواس في هجاء أبان اللاحقي: صحفت أمك إذ سمتك في المهد أبانا سيرت باء مكان التاء تصحيفا عيانا قد علمنا ما أرادت لم ترد إلا أتانا

والأتان هي الحمارة. بدل أبان أتان، يعني هي أرادت أتانا وأنت صحفت. مثال آخر: قال المفجع البصري وهو يهجو دريد صاحب (الجمهرة) ويتهمه بالتصحيف: ألست مما صحفت تغترق الطرق بجهلِ فقلت: تعترك وقلت كان الخباء من أدمِ ... وهو حباء يهدى ويستدق المتنبي سوى بين التصحيف والتحريف حيث قال: وإنك إن قويت صحف قارئ ذئابا ... ولم يخطئ فقال: ذباب فالهمزة هنا غيرت إلى باء، وسمى المتنبي ذلك تصحيفا. ومن خلال هذه التعريفات الكثيرة نرى أن أقرب التعريفات وأعدلها، ما قيل من أن التصحيف هو تغيير في نقط الحروف أو حركاتها مع بقاء صورة الخط كالذي يحدث في كلمات مثل: عباس وعياش، العيب العتب، نَمت نِمت، العدل العذل، حمزة حمرة وغيرها مما هو على هذه الشاكلة. أما التحريف فهو العدول بالشيء عن جهته. قال الله تعالى: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} (النساء: 46)، وقال سبحانه وتعالى: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (البقرة: 75) وهو خاص بتغيير شكل الحروف ورسمها، كالدال والراء أو الدال واللام أو النون والزاي أو الميم والقاف أو اللام والعين، إلى آخر هذه الصور التي تتصل بتغيير شكل الحروف أو رسم الحروف، والأصل اللغوي لكلمة تصحيف يرجع إلى الأخذ عن الصحف دون التلقي من أفواه المشايخ، يقول العسكري: "فأما

معنى قولهم: الصحفي والتصحيف، فقد قال الخليل: إن الصحفي الذي يروي الخطأ عن قراءة الصحف بأشباه الحروف، وقال غيره: أصل هذا أن قوما كانوا قد أخذوا العلم عن الصحف من غير أن يلقوا فيه العلماء، فكان يقع فيما يروونه التغيير والتبديل، فيقال عنده: قد صحفوا، أي رددوه عن الصحف وهم مصحفون، والمصدر التصحيف". وانطلاقا من هذا رأينا العلماء يشددون في ضرورة الأخذ والتلقي والمشافهة، وعدم الاعتماد على الصحف في تلقي العلم، وقد مدحوا من يأخذ العلم من أفواه العلماء وذموا من يأخذه من الصحف؛ لمظنة الوقوع في التصحيف، فيقول الشاعر: من يأخذ العلم عن شيخ مشافهة ... يكن عن الزيف والتصحيف في حرم ومن يكن آخذا للعلم عن صحف ... فعلمه عند أهل العلم كالعدم ويقول أبو نواس في رثاء خلف الأحمر: أودى جماع العلم مذ أودى خلف ... راوية لا يجتني من الصحف يعني: هو كان راوية لا يأخذ من الصحف وإنما يتلقى مشافهة من العلماء. وهجا شاعر أبا حاتم السجستاني بضد ذلك فقال: إذا أسند القوم أخبارهم ... فإسناده الصحف والهاجس هناك أخبار كثيرة لدى الشعراء، ولدى غير الشعراء تكشف عن أن التصحيف هو الأخذ من الصحف، ولم يتلق صاحبه العلم مشافهة من أفواه العلماء. وأما التحريف فإنه أنواع قد يكون بإبدال حرف مكان حرف، وقد يكون بزيادة كلام في النص الذي كتبه المؤلف، وغالبا ما تقع الزيادة من قبل النساخ والقراء، ونضرب مثالا لذلك، لابن المعتز كتاب يسمى (فصول التماثيل) هذا الكتاب له

نسخة مخطوطة في "كوبنهاجن" ورد في هذه النسخة نص طويل بعنوان: باب ما قيل في أسماء الشراب قال صاحب (قطب السرور)، ينقل ابن المعتز نص (قطب السرور)، وهذا الشيء نفسه في نسخة أخرى موجودة في "برلين" غير نسخة "كوبنهاجن". وبالفحص الدقيق والتحقيق العلمي والتأمل الواعي ندرك أن هذا النص لا يمكن أن يكون ابن المعتز قد كتب هذا النص في مؤلفه؛ لأن كتاب (قطب السرور) ألفه الرقيق القيرواني، وهذا الرجل كان حيا سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة من الهجرة، وابن المعتز مؤلف كتاب (فصول التماثيل) مات سنة ست وتسعين ومائتين، فكيف ينقل ابن المعتز عن كتاب ألفه صاحبه بعد وفاته بأكثر من قرن من الزمان؟! هذا لا شك أنه تحريف. وقد يكون التحريف بالنقص كأن يكون هناك سقط ولا يتنبه له الناسخ أو القارئ أو المحقق، فتبدو العبارة محرفة غير واضحة الدلالة، ويبدو السياق مضطربا. ورد في (معجم الأدباء) حين الترجمة لأحمد بن الحسين بديع الزمان الهمذاني قال المؤلف: "ثم أنشد الخوارزمي على هذا النمط، فلما فرغ من إنشاده قال البديع للوزير الرئيس: لو أن رجلا حلف بالطلاق: إني لا أقول شعرا، ثم نظم تلك الأبيات التي قالها الخوارزمي، ولا يقال: نظرت لكذا، ويقال: نظرت ... "، إلى آخر النص الذي ورد في (معجم الأدباء). "ولا يقال: نظرت"، هنا اضطراب وخلل واضح نتج عن التحريف الناشئ عن نقص في النص، هذا النقص هو: "هل كنتم تطلقون امرأته عليه؟ فقالت الجماعة: لا يقع بهذا طلاق، ثم قلت: انقد عليّ في ما نظمت، واحكم عليه كما حكمت فأخذ الأبيات، وقال: يقال: نظرت إلى كذا أو نظرت في كذا ولم

أنظر"، بهذا يستقيم السياق وتطمئن العبارة، فلينتبه المحقق إلى مثل هذا الاضطراب، وليتأكد من سلامة العبارة واتصالها قبل أن يحكم بالخطأ على المؤلف أو الناسخ. وقد تنبه العلماء في القديم إلى خطورة ظاهرة التصحيف والتحريف، انطلاقا من دقتهم وأمانتهم في الحفاظ على النص يقول الزمخشري: "التصحيف قفل ضل مفتاحه، ومن أجل ذلك اصطنعوا وسائل شتى لصون الكلام منه والتغلب عليه"، ومن هذه الوسائل التي لجأ إليها العلماء القدماء لحفظ الكلام وصونه من التصحيف؛ أولا: ضرورة التقييد والضبط والإعجام، والإعجام هو إزالة إبهام الكتابة بالنقط والتشكيل، يقول الأوزاعي: "نور الكتاب إعجامه". ولهم في الضبط طريقتان؛ الأولى: كانوا يضبطون حروف الكلمة بأن توضع الفتحة أو الضمة أو الكسرة على الحرف نفسه، وأمعن بعضهم في الدقة فرسم تحت الحاء حاء صغيرة، وتحت الدال نقطة، وتحت السين المهملة ثلاث نقاط، وفوق الحرف المخفف كلمة خف، وغير ذلك من مصطلحات استخدموها في مخطوطاتهم. الطريقة الثانية من طرق الضبط: الضبط بالحرف؛ بأن يصف الكاتب حروف الكلمة التي هي مظنة التصحيف، بما يزيل أو يبعد عنها شبهة التصحيف في ضبط كلمة العتب يكتب الكلمة، ثم يقول: بالعين المهملة والتاء الفوقية والباء الموحدة، وبذلك لا يلحق الكلمة تصحيف على الإطلاق. ومن تلك الوسائل الوقائية التي لجأ إليها هؤلاء العلماء لتجنب التصحيف والتحريف: أنهم كانوا يشرحون الكلمة الواضحة الظاهرة لا لخفاء معناها، ولكن لأنها مظنة تصحيف.

مثال ذلك ما جاء في (النهاية في غريب الحديث والأثر) في حديث عمر -رضي الله عنه- أن امرأة نشزت على زوجها فحبسها في بيت الزبل. قال ابن الأثير: "هو بالكسر السِّرْجِين وبالفتح مصدر زبلت الأرض إذا أصلحتها بالزِّبْل. قال: وإنما ذكرنا هذه اللفظة مع ظهورها؛ لئلا تصحف بغيرها، فإنها بمكان من الاشتباه". كما كانوا يتدخلون أثناء الكلام أو عقبه بتقييد ينفي التصحيف عن الكلمة. مثال ذلك ما ذكره ابن السبكي في ترجمة أبي القاسم بن السمرقندي حيث قال: "قال أبو شجاع عمر البسطامي، أبو القاسم إسناد خراسان كله والعراق"، ثم وضع بين علامتي الاعتراض قوله: "وإسناد بنون"، يعني: مسنده، وواضح أن مظنة تصحيف إسناد هي أستاذ، فوضع بين علامتي اعتراض الكلمة الصحيحة وقال: "بنون". ولا شك في أن علماء اللغة والأدب مدينون لعلماء الحديث بأصول ذلك المنهج المحكم في القبول والرد والتصحيح والتضعيف، وفي لفت أنظارهم إلى كشف هذه الظاهرة، فيما انتهى إليهم من كلام العرب، وتدوين ما وقعوا عليه من تصحيف، وإفرادهم المؤلفات الخاصة بالتصحيف والتحريف. وهناك كتب تحدث العلماء فيها عن أشكال التصحيف والتحريف. ربما يكون ابن قتيبة الذي توفي سنة ست وسبعين ومائتين للهجرة أول من صنف كتابا برأسه في هذا المجال سماه (تصحيف العلماء) ولكن الكتاب لم يصل إلينا. ثم جاء من بعده أبو بكر الصولي الذي توفي سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة للهجرة فصنف كتابه واسمه (ما صحف فيه الكوفيون) وهو مفقود أيضا، ثم جاء حمزة بن الحسن الأصفهاني الذي توفي سنة ستين وثلاثمائة، فوضع كتابه الشهير الذي نشر أكثر من مرة بعنوان (التنبيه على حدوث التصحيف)، ومن بعده كتاب

(التنبيهات على أغلاط الرواة) لعلي بن حمزة البصري الذي توفي سنة خمس وسبعين وثلاثمائة، ثم ألف أبو أحمد الحسن بن عبد الله العسكري -الذي توفي سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة- كتابين هما كتاب (شرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف) وطبع محققا، والكتاب الثاني بعنوان (تصحيفات المحدِّثين) ونشر أيضا محققا، وألف معاصره علي بن مردار القطني البغدادي الذي توفي سنة خمس وثمانين كتابا عنوانه (التصحيف) لكنه لم يصلنا بعد. ومن الكتب التي ألفت في هذا المجال أيضا كتاب (الرد على حمزة في حدوث التصحيف) لكنه مفقود، وهو لإسحاق بن أحمد بن شبيب، كما صنف الخطيب البغدادي الذي توفي سنة ثلاث وستين وأربعمائة كتابه (تلخيص المتشابه في الرسم وحماية ما أشكل فيه عن نوادر التصحيف والوهم). ومن الكتب أيضا (التصحيف والتحريف) لعثمان بن عيسى البلطي، وكتاب (صحائف التصحيف ولطائف التحريف) لمحمد بن محمد الأزهري، وكتاب (التطريف في التصحيف) للسيوطي، وكتاب (التنبيه على غلط الجاهل والنبيه) لأحمد بن سليمان بن كمال، وكتاب (التعريف في فن التصحيف) لمحمد بن علي بن طولون الصالحي. من خلال هذا العرض السريع لتلك المصنفات نستطيع القول: إنهم حاصروا هذه الظاهرة، وقاوموا هذه الآفة العلمية بما يقضي عليها أو يخفف من حدتها، ولم يقفوا عند حد التصحيف الوارد في النص، وإنما لجئوا إلى تأليف الكتب التي تبحث في المؤتلف والمختلف، منها ما هو في أسماء الرجال، وألف في ذلك الدارقطني، وأحمد بن علي الخطيب البغدادي، وابن ماكولا، وابن نقطة الحنبلي، والذهبي وغيرهم كثير، ومنها ما هو في أسماء الشعراء، وقد ألف فيه الحسن بن بشر الآمدي، ومنها ما هو في أسماء القبائل، وقد ألف فيه محمد بن

أسباب انتشار ظاهرة التصحيف والتحريف.

حبيب، كل هذا الذي ذكر لابد لكل باحث محقق من الاطلاع عليه، واستيعابه جيدا للتعرف من خلاله على أشكال التصحيف والتحريف، والوقوف على كيفية اكتشافه وإصلاحه. أسباب انتشار ظاهرة التصحيف والتحريف لقد كان انتشار هذه الظاهرة، واهتمام العلماء بها، وكثرة التصنيفات العلمية فيها مدعاة للبحث عن أسبابها، والوقوف على دوافعها، يعنيني الباحث المحقق في المقام الأول، ليحاول أن يستفيد بها في تحقيق ما لديه، فإن لكل مخطوط ظروفه وملابساته، كما أن الحديث عن تلك الأسباب يعد خطوة ضمن خطوات العلاج؛ لأن تشخيص الداء جزء من الدواء، وإليك بيان هذه الأسباب: أولا: تشابه كثير من الحروف العربية في الرسم كالباء والتاء والثاء، والفاء والقاف، والطاء والظاء، والصاد والضاد، والسين والشين مع إهمال النقط والشكل في الكتابة العربية لفترة طويلة، مما جعل العين تتشبث بنطق معين لا تجد منه مفرا، بل يحاول القارئ أو الكاتب أن يجد لما قرأ أو كتب وجها، ومن ذلك ما رواه الحاكم والسيوطي أن بعضهم صحف حديث ((زر غبا تزدد حبا)) فقال: زرعُنا تردد حِنًّا، ثم فسره بأن قوما كانوا لا يؤدون زكاة زروعهم، فصارت كلها حناء، طبعا هذا تصحيف واضح سببه هو تشابه الحروف وعدم التشكيل. السبب الثاني من أسباب الوقوع في هذه الظاهرة: اختلاف الخط العربي بين المشارقة والمغاربة اختلافا بينا، فأحيانا ينسخ ناسخ شرقي كتابا بخط مغربي، وهو يجهل رسوم ذلك الخط المغربي، فيقع في التصحيف، فإن المغاربة يضعون فوق

القاف نقطة واحدة، فإذا وجد الناسخ كلمة سقر مثلا نسخها إلى سفر، فيقع التصحيف، ومن ثم أوصى علماء التحقيق والمخطوطات بالحذر الشديد والتنبه لمثل هذا عند تحقيق المخطوطات الأندلسية المكتوبة بخط مشرقي. السبب الثالث: عدم الخبرة بلغات القبائل، فقبيلة تميم مثلا تقلب الهمزة عينا، فيقولون في أني: عني، وتسمى: عنعنة، ومثلها الكشكشة والفخفخة، وغير ذلك من لغات العرب، فقد يجهل الناسخ أو القارئ أو الراوي هذه اللغة، ويثبت ما هو مألوف لديه في لغته، فيقع التصحيف، ولعل بعضا من روايات الشعر إنما هي تصحيفات من هذا القبيل، والتمس لها الشراح وجها من العربية. السبب الرابع من أسباب التصحيف والتحريف هو: إهمال علامات الترقيم أو استخدامها استخداما خاطئا، أو عدم ترك مسافة كافية بين الكلمات مما يؤدي إلى تقارب الحروف، فتصير الكلمتان كالكلمة الواحدة. نضرب مثالا لذلك عبارة: تحار به القطا، وردت في بيت لامرئ القيس لكن صحفها بعض المصحفين إلى: تحاربه القطا؛ لأنه لم يترك مسافة بين الفعل تحار وبين الجار والمجرور به، فصارت الكلمتان كلمة واحدة. ومن ذلك ما ذكره أبو أحمد العسكري عن أحمد بن موسى بن إسحاق الأنصاري أنه قال: "حدثني فلان عن هندان المعتوه"، تصحيف لقوله: عن هند أن المغيرة، فحدث تداخل بين الكلمات فنتج عن ذلك تصحيف واضح لا محالة. ومن هذا القبيل التصحيف الواقع في عبارة: على جَدِيلته، وجديلته بمعنى: طريقته، فإنها صحفت إلى: على حد يليه، ومثل هذا التصحيف كثير ويخفى صوابه على النساخ، فليحذر المحقق مثله وليقلب المعنى على جميع وجوهه حتى تستقيم له العبارة. السبب الخامس: هناك تصحيف يسمى التصحيف السمعي، نسبة إلى السبب الذي أدى لوقوعه، وأكثر ما يأتي هذا النوع من طريق الإملاء خاصة في كتب الأمالي،

حيث التفاوت الواضح بين التلاميذ في قواعد الإملاء من ناحية، والتنبه لما يملى عليهم قوة وضعفا من ناحية ثانية، فقد يكتب بعضهم شيئا على غير وجهه نتيجة لخداع السمع حين يخلط المهموس بالمجهور. يندرج تحت هذا السبب أيضا عدم قدرة المملي على الإبانة، فلا يراعي مخارج الحروف ولا يفصلها تفصيلا، فينخدع السمع لدى الكاتب، ويقع التصحيف فيما كتب لا محالة. ومن أمثلة ذلك ما روي من قول علي بن الحسن الأحمر للكسائي: "سمعت أعرابيا ينشد يقال له مزيد: كأن في ريقته لما ابتسم بَلْقَاءَة ... في الخيل عن طفل متم يعني: السحاب، فقال له الكسائي: ويحك إنما هو: ...... ... بلقاء تنفي الخيل عن طفل متم" هذا خطأ في السماع والإلقاء معا، فعلى المحقق أن يدرك ذلك جيدا، وليدرس أحوال الرجال نساخا ومؤلفين وقراء، فلربما كان أحدهم يتصف بصفة مما ذكرنا، فيكون ذلك مدعاة لوقوع التصحيف. هناك سبب سادس: خفاء معنى الكلمة عند الناسخ أو القارئ، فيعدل عنها إلى كلمة مأنوسة مألوفة لديه تؤدي المعنى، وتتفق مع السياق من وجهة نظره، فيقع التصحيف حينئذ، ومثال ذلك ما جاء في حديث استسقاء عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- للعباس بن عبد المطلب قال عمر: "اللهم إنا نتقرب إليك بعم نبيك، وقفية آبائه"، أي: تَلْوُهُم وتابعهم، وقد ورد هذا القول في بعض الكتب مصحفا فقيل: وبقية آبائه، ولا معنى له، ولا شك في أن هذا التدخل حدث من الناسخ، أو القارئ وهو يعد إخلالًا بالأمانة العلمية. هناك سبب سابع: وهو جهل النساخ أو القراء أو المحققين أيضا بغريب كلام العرب، وهذا السبب يختلف عن سابقه، ففي السابق لما خفي عليهم المعنى وضعوا كلمة مكان أخرى، مع تيقنهم أن المؤلف استخدم الكلمة المحذوفة، أما

هنا فإنهم يحرفون الكلمة الأصلية ظنا منهم أنها خاطئة، وهذا باب واسع في التصحيف والتحريف وأمثلته كثيرة جدا؛ منها عبارة تتردد كثيرا في الترجمة للأعلام وهي: أنه احتضر سنة كذا في سياق الحديث عن موت المترجم له، وهو في سن الشباب، وهي خطأ والصواب اخْتُدر سنة كذا، يقال: اختدر الشاب أي: مات فَتِيًّا كأنه أُخِذَ طريا غضا، ويدخل تحت هذا السبب الجهل بأنماط التعبير عند القدماء، الجهل بسياق الكلام، وهو مدعاة للتصحيح، وليتجنب المحقق مثل هذا حتى لا يكون حاله كحالهم. هناك سبب ثامن وهو: الجهل بمصطلحات العلوم، قد يكون ناسخ ينسخ كتابا، وهو لا فكرة عنده بهذا العلم، ولا يدري معنى مصطلحات هذا العلم فيسجل أشياء خاطئة، ومثال ذلك عبارات تتردد كثيرا في مجال الترجمة للأعلام، وصارت كالمصطلح هي: فَقَد سُمعته في بلد كذا، العبارة بهذا الضبط فيها تصحيف، الصحيح فيها وفَقد أَسْمِعَتَه أي: سماعاته ومروياته التي حصلها من شيوخه في ذلك البلد، والأسمعة جمع سماع. سبب آخر من أسباب الوقوع في التصحيف أيضا والتحريف: الجهل بأسماء البلدان. نضرب مثلا لذلك بعبارة وردت في بعض الكتب تقول هذه العبارة: وعلي بن عثمان بن محمد بن الشمس لؤلؤ، وأخته زينب بقراءتي عليهما ببيت لها من غُوطَة دمشق. فقوله: ببيت لها، تصحيف واضح والصواب: ببيت لِهْيا، وبيت لهيا: قرية مشهورة بغوطة دمشق. كثيرا ما يقع المحققون في مثل هذه التصحيفات نتيجة جهلهم بأسماء البلدان. ومن ذلك قول ابن أحمر: "لو كنت بالطَّبْسَيْن أو بالآلة أو بَرْبَعِيص مع الجنان الأسود"، علق أحد المحققين قائلا: الآلة اسم موضع لم أجد لها ذكرا إلا هنا، والحقيقة أن هذا تصحيف واضح ناتج عن جهل المحقق بأسماء البلدان والصواب: أُلَالة بوزن حُثَالة وهو موضع بالشام ذكره ياقوت في (معجم البلدان).

عاشرا من أسباب الوقوع في التصحيف أيضا: الإلف؛ أي أن الإنسان يألف الكلمة أو ينطق الكلمة التي ألفها على غير ما يراد منها، ويقع هذا كثيرا، وأكثر ما يظهر هذا اللون من التصحيف في ضبط الأعلام والأنساب. ومن أمثلة هذا التصحيف ما ورد في (ميزان الاعتدال) أن عثمان بن أبي شيبة قرأ أول سورة الفيل هكذا: الم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل، وكأن ذلك وقع منه نتيجة لما ألفه من هذا الافتتاح في أول سورة البقرة وآل عمران، وأشباه هاتين السورتين. مما ورد من تصحيف في أسماء الأعلام نرى مثلا في بعض المراجع عبارة: ومن يقرأ عَلِي بن رباح، والصواب عُلي بن رباح بضم العين، وكان عالما ثقة كان اسمه عليًّا بفتح العين، ولكن سمع أبوه أن بني أمية يقتلون كل مولود اسمه علي، أقبل على تصغيره فقال: عُلي، واشتهر بذلك. ومما يتصل بتصحيف الأسماء أيضا ما نسمعه في ترجمة ابن النفيس الطبيب المشهور حيث قالوا: علي بن أبي الحزم القُرشي، هذا تصحيف، والصواب القَرشي بفتح القاف وسكون الراء نسبة إلى قَرْش، وقرش اسم بلدة فيما وراء النهر، ولكي يتجنب المحقق الوقوع في مثل هذه التصحيفات عليه الرجوع إلى كتب الأعلام والبلدان، وغيرها من كتب تكشف له عن هذا. وقد تأتي بعض التصحيفات من توليد واختراع بعض الأدباء واللغويين الذين لديهم القدرة على تشقيق الكلام، وتحليل أجزائه وإعادة تركيبه والتلاعب به إظهارا للمهارة أو استخراجا للضحك؛ يؤكد هذا أمران: أن بعض صور التصحيف اقترنت بعبارة تصحيفات أضحكت من قائليها أو أزرت بهم. والثاني: أن بعض صور التصحيف اصطنعت اصطناعا، وألغز فيها إلغازا كما روي أن إبراهيم بن المهدي كتب إلى إسحاق بن إبراهيم النديم: "أيُّ شيء

تصحيف: لا ترتج مثل الأسنة؟ فكتب: لا يرث جميل إلا بثينة". هذا النمط غريب فعلا من التصحيف ناتج عن التلاعب بالحروف، وشاع هذا النمط من التصحيف في كتب المتأخرين للدلالة على المهارة كصلاح الدين الصفدي والأبشيهي وابن حجة الحموي وغيرهم. هناك صور من التصحيف تصطنع اصطناعا؛ لتغيير كلام غير مستقيم أو مرفوض في موازين الأخلاق أو الطباع السوية، ومثال ذلك ما فعله بعضهم من تغيير: اتق شر من أحسنت إليه، إلى: أبق سر من أحسنت إليه؛ لأن العبارة الأولى داعية إلى تبغيض الإحسان إلى الناس، وتنفيرهم منه. بعض المحققين قد يظن أن ظاهرة التصحيف والتحريف خاصة بالمخطوطات، والمؤلفات القديمة، هذا ظن غير صحيح، ظاهرة التصحيف والتحريف تشيع بين المحققين والكتاب في العصر الحديث، وربما كان جهل القائمين على الطباعة باللغة العربية وقواعدها وراء انتشار هذه الظاهرة، بالإضافة إلى إهمال المحققين والكتاب مراجعة البروفات النهائية للطباعة، وبعضهم ينيب عنه من يقوم بهذه المراجعة ممن لا خبرة لهم باللغة والأسلوب، وصور التصحيف والتحريف في المؤلفات الحديثة لا تحصى كثيرة، وتحتاج إلى بحوث وليس إلى بحث. وإذا كان القدماء قد أكثروا من التصنيف في هذه الظاهرة؛ فنحن الآن في أشد الحاجة إلى التأليف فيها والكشف عنها، منها كثير في (ريحانة الكتاب) وفي كتاب (الكامل) لابن الأثير، كثير من الذين قاموا بتحقيق (ريحانة الكتاب) للسان الدين بن الخطيب، والدكتور محمد عبد الله عنان حققه، وفي كتاب (الكامل) لابن الأثير طرنبرج أيضا حققه، فيه تصحيفات لا تليق على الإطلاق لا بالكتاب ولا بالمؤلف، وهي في حاجة إلى الكشف عنها وتوضيحها للمحققين حتى يتعلموا ويفيدوا منها فائدة جمة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 19 تخريج النصوص وإخراج المخطوط.

الدرس: 19 تخريج النصوص وإخراج المخطوط.

تخريج النصوص.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس التاسع عشر (تخريج النصوص وإخراج المخطوط) تخريج النصوص الحمد لله الذي خلق الإنسان وعلمه البيان، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه، وبعد: فلعله قد اتضح ما ينبغي أن يقوم به المحقق تجاه النص من تحقيق، وتوثيق، وضبط، وتصحيح، وترميم؛ حتى يخرج النص كما أراده صاحبه، ولا شك في أن هذا عمل شاق، ومن أجل ذلك أردت أن أعرض عليك أيها الباحث المحقق مجموعة من المراجع العلمية التي تخدم عملية التحقيق، يمكنك الاستعانة بها، وأنت تمضي في تحقيق المتن، وسوف تساعدك في الوصول بالمخطوط إلى أفضل صورة، لا أعرض عليك هذه المراجع بأسمائها فذلك يحتاج إلى وقت طويل، ولكن عرضها مصنفة في صورة مجموعات على النحو التالي: أولًا: كتب المؤلف نفسه صاحب المخطوط المطبوع منها والمخطوط، لا ينبغي لمن يحقق أو يقدم على تحقيق مخطوط ما أن يهمل بعض المخطوطات أو الكتب المطبوعة التي ألفها صاحب المخطوط بنفسه، فإنها ستفيده إفادة لا شك فيها. ثانيًا: الكتب التي لها علاقة مباشرة بالمخطوط كالشروح مثلًا، والمختصرات، والتهذيبات، وهذه الكتب تفيد الباحث في ضبط النصوص وبيان غوامضها، وهذا أمر له أهميته في مجال التحقيق. ثالثًا: الكتب التي اعتمدت اعتمادًا ملحوظًا على المخطوط، فغالبًا ما تحتفظ هذه الكتب بالنص الأصلي أو ببعض النصوص، فإذا أراد محقق تحقيق كتاب (البيان والتبيين) مثلًا، أو كتاب (الحيوان) للجاحظ لا بد له من الرجوع إلى كتاب (عيون الأخبار) لابن قتيبة، لماذا؟ ابن قتيبة اعتمد على الجاحظ في تأليف كتابه (عيون الأخبار).

رابعًا: الكتب التي استقى منها المؤلف مادته العلمية، فإذا اهتدى المحقق إلى المنابع التي استمد منها المؤلف مادته العلمية كان ذلك عونًا له على إقامة النص، وبعض المؤلفين لا ينص على تلك الكتب مباشرة، وعلى الباحث حينئذٍ أن يسعى للكشف عن منابع المادة العلمية في المخطوط المراد تحقيقه. خامسًا: هناك كتب ألفت في زمن المؤلف، وتعالج نفس الموضوع الذي كتب فيه المؤلف مخطوطه، أو تعالج موضوعًا قريبًا منه، وحينئذٍ لا بد من الرجوع إلى مثل هذه الكتب؛ فهي قد تخدم التحقيق من جهة ما لا يهملها المحقق بأي حال من الأحوال. سادسًا: كتب اللغة، ومثل هذه الكتب تفيد الباحث في إقامة أسلوبه الذي يصدر عنه، وفي اكتشاف التحريف الذي يقع في المتن، وكتب اللغة تشمل المعاجم اللغوية بأنواعها كمعاجم الألفاظ، ومعاجم الأساليب، ومعاجم المعاني إلى آخر هذه المصنفات الكثيرة، كما تشمل أيضًا المراجع النحوية والصرفية، والمراجع العلمية الخاصة التي يراها الباحث مهمة في مجال تحقيقه وتتصل باللغة لا بد من الرجوع إليها، ولا ينخدع المحقق بمكانة المؤلف، أو توثيقه من قبل العلماء، أو سعة علمه، لا ينخدع بذلك على الإطلاق؛ فيمنعه ذلك من تقويم النص، وملاحظة ما قد يطرأ عليه أو يقع فيه من تحريف أو تصحيف، إلا إذا أثبت المؤلف على هوامش المخطوط ما يدل على أنه راجعه وصححه وقوم ما به من عوج واضطراب، وكان المؤلف مع ذلك ثقة مشهودًا له بالدقة والعلم، فكثيرًا ما يسهو المؤلف أثناء كتابته، وخاصة إذا كان عاجلًا، فيترك النقط مثلًا، أو يزيد فيه، أو يترك الشكل، أو يخطئ فيه، أو تسقط منه كلمة، أو أكثر من كلمة، وقد يخطئ في بعض أسماء المصادر، أو الأعلام أو الأماكن ... إلى غير ذلك مما هو مظنة الخطأ والسهو.

من أجل ذلك وجبت مراجعة النسخة التي كتبها المؤلف مهما كان ثقة؛ لأن سهوه وارد، ونضرب مثلًا لهذا بكتاب (المُغرب) لابن سعيد، فإنه نقل في ترجمة أبي حفص عمر بن الشهيد نصًّا، وقال: إنه اقتبسه من (الذخيرة) سهوًا، والصحيح أنه اقتبسه عن (جذوة المقتبس) للحميدي، وعلى المحقق الوقوف طويلًا أمام أسماء المؤلفين؛ حيث إن القدماء كانوا يخطئون أحيانًا فيها بسبب الاشتباه عليهم، ومن ثم يجب مراجعة الأسماء التي توضع على المخطوط بدقة. ومن صور الخطأ الوارد في الاسم أن الشهرستاني ذكر في أوائل كتابه (الملل والنحل) فلاسفة الإسلام الذين فسروا كتب الحكمة من اليونانية إلى العربية، وذكر من بينهم أبا حامد أحمد بن محمد الإسفزاري، وهو من إسفزار، بلدة بين هراة وسجستان، واشتبه الأمر على بعض العلماء، فجزم بأن الإسفزاري المذكور هو الإسفراييني، لاشتراكهما في الاسم، والكنية، واسم الأب، واقتراب الإسفزاري في الصورة الخطية من الإسفراييني، فلينتبه المحقق إلى مثل هذا التشابه. من الأمور التي تتصل بتحقيق المتن أيضًا: تخريج النصوص، أي ردها إلى مصادرها التي تشهد بصحتها وتؤيدها، وهذا أمر مهم في مجال التحقيق، ولا ينبغي للباحث أن يهمله أو يغفل عنه بأي حال من الأحوال، والنصوص التي ينبغي تخريجها في المخطوط المراد تحقيقه كثيرة ومتنوعة، وفي مقدمتها القرآن الكريم، ولا يصح أن يثق المحقق بحفظه لكتاب الله عز وجل عند تخريجه لآيات كتاب الله الحكيم؛ فإن آياته تتشابه، وكثيرًا ما يحدث فيها السهو والخلط لدى بعض المؤلفين أو النساخ، يستعين الباحث في تخريج النصوص القرآنية بالمصحف، أو ببعض المعاجم الخاصة بألفاظ القرآن الكريم، وهذه

المعاجم تعين الباحث على استخراج النص من المصحف في سهولة وسرعة، لا يُوَثِّق من هذه المعاجم، ولكن وظيفة المعجم هي سرعة الاستدلال من خلالها على مكان الآية في كتاب الله سبحانه وتعالى، ولا يتعجل الباحث في تخطئة النص قبل الرجوع إلى كتب القراءات، فربما أراد المؤلف قراءة من القراءات، فعليه أن يستوثق من ذلك قبل أن يخطِّئ هذه القراءة. وفي تخريج النص القرآني يشير الباحث إلى اسم السورة ورقمها ورقم الآية على النحو التالي يقول: سورة البقرة 2 مائة خمس وعشرون، سورة البقرة، رقمها، الآية رقم 125، وبعض الباحثين يهمل رقم السورة، ولكن ذلك ييسر الرجوع إلى السورة خاصة في العصر الحديث؛ فقد رقمت فيه السور. وتخريج الأحاديث النبوية الشريفة من الأمور المهمة أيضًا التي ينبغي للباحث أن يهتم بها، حتى يطمئن إلى سلامتها من التصحيف والتحريف، ومما يعين الباحث على ذلك (المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي الشريف في كتب السنة) وكتبه المستشرق "فننسنك"، وكذا كتاب (مفتاح كنوز السنة) لمحمد فؤاد عبد الباقي، وكذا كتاب (الجامع الصغير في أحاديث البشير النذير) للسيوطي، وغير ذلك من كتب تهتم بالحديث النبوي الشريف شرحًا، وتصنيفًا، وتخريجًا، وللأحاديث التي يستشهد بها في اللغة مراجع خاصة مثل (غريب الحديث) لأبي عبيد القاسم بن سلام، و (غريب الحديث) لابن قتيبة، و (الفائق في غريب الحديث) للزمخشري، و (النهاية في غريب الحديث والأثر) لابن الأثير، وغير ذلك من كتب تخصصت في هذا المجال. أما بالنسبة للأمثال العربية فعلى المحقق أن يلجأ إلى كتب الأمثال المختلفة لتحقيقها، حتى يطمئن إلى سلامتها، وصدق روايتها، وضبط كلماتها، ومعرفة

مواردها ومضاربها، وهناك كتب كثيرة، ومن أهم هذه الكتب (مجمع الأمثال) للميداني، و (المستقصى) للزمخشري، و (جمهرة الأمثال) لأبي هلال العسكري، و (فصل المقال) لأبي عبيد البكري، و (أمثال العرب) للمفضل الضبي، و (الأمثال) للسدوسي، و (الأمثال) لأبي عكرمة الضبي، وغير ذلك من كتب تخصصت في مجال الأمثال، وشرحها، وبيان مواردها، ومضاربها. أما تخريج الأشعار ومراجعة المصادر الأصلية المختلفة في تحقيق الأبيات الشعرية فشيء لا يغني عنه مهارة الباحث المحقق، وحذقه بالأسلوب العربي، وأنظمة قرض الشعر، ولا بد من الرجوع إلى ديوان الشاعر إن كان له ديوان؛ فإن لم يكن له ديوان رجع المحقق إلى ما روي من شعره في المجاميع الشعرية المختلفة، وعندنا من المجاميع الكثير كـ (الأصمعيات)، و (المفضليات)، و (جمهرة أشعار العرب) للقرشي، وحماسة أبي تمام، وحماسة البحتري، و (الحماسة البصرية)، و (الأشباه والنظائر) للخالديَّيْن، وغير ذلك من مجاميع شعرية، وتضم المصادر العربية بين دفتيها كثيرًا من المقطوعات الشعرية والأبيات المفردة، ولا بد للمحقق أن يرجع إليها ليقف على الروايات المختلفة والشروح المتنوعة، ويمكنه من خلال ذلك تقويم ما اعوج من نص المخطوط، يتتبع المحقق الأبيات الشعرية المتنوعة حتى وإن تعددت تلك المصادر ليتم له استقصاؤها، وهذا يبعد الأبيات عن مظنة الخطأ أو التحريف. أيضًا من النصوص التي ينبغي أن تخرج بدقة: الأعلام التي ترد في متن المخطوط كأسماء الأشخاص، أو الأماكن، أو البلدان، للتأكد من صحتها، وخلوها من التصحيف والتحريف، لا بد للمحقق أن يخرجها، وتوجد مجموعة من المصادر الصحيحة يمكن للمحقق أن يخرج الأعلام من خلالها، وتعرف هذه المصادر

بكتب التراجم والطبقات، عندنا كتب للتراجم والطبقات للنحاة، وللغويين، والفقهاء، والمحدِّثين، والمفسرين، والقراء، والشعراء، والأطباء، وغيرهم، ومن هذه المصادر أيضا (معجم الأدباء) لياقوت الحموي، (وفيات الأعيان) لابن خلكان، و (بغية الوعاة) للسيوطي، و (طبقات فحول الشعراء) لابن سلام الجمحي. أيضًا ألف العلماء في الأنساب بعض الكتب، وعلى الباحث المحقق أن يرجع إلى مثل هذه الكتب للتأكد من أسماء الأعلام الواردة في متن المخطوط، ومن هذه المؤلفات (جمهرة أنساب العرب) لابن حزم، وبعضهم خصص بعض مؤلفاته لتراجم علماء بلد من البلدان كـ (تاريخ بغداد) مثلًا للبغدادي، كما ألفوا في تراجم علماء عصر من العصور كـ (الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة) لابن حجر، ومثل (الضوء اللامع في أعيان القرن التاسع) للسخاوي. أما أسماء الأماكن والبلدان فهناك مجموعة من المصادر التي تخرج منها، أهم هذه المصادر (معجم ما استعجم) لأبي عبيد البكري، و (معجم البلدان) لياقوت. من هذا العرض السريع لكيفية تخريج النصوص نفهم أن الباحث يرد كل نص يريد تخريجه إلى مصدره الأصلي، الأدب من كتب الأدب، الحديث من كتب الصحاح، التاريخ من مصادر التاريخ، وعلى المحقق أن يلتزم بذلك، فلا يصح أن يُخَرِّج الباحث بيتًا من الشعر من كتاب للسيرة النبوية مثلًا، أو يخرج حديثًا شريفًا من كتاب في تاريخ الأدب، وإنما ترد كل معلومة إلى مصدرها الأصلي، وهكذا نرى أن تحقيق النص ليس بالأمر الهين، بل لا بد فيه من معرفة واسعة بالمصادر العربية، وطريقة استخدامها، والإفادة منها في تحقيق النص، حتى يخرج النص قريبًا من أصله الذي كتبه المؤلف.

عملية إخراج المخطوط.

بهذا أيها الإخوة ينتهي الحديث عن تحقيق المتن. عملية إخراج المخطوط إذا فرغ الباحث من تحقيق المتن، ووثقه، وقومه، وأصلح فاسده، وصيره على صورة أقرب ما تكون إلى الصورة التي كتبها صاحبه، بعد ذلك يبدأ في إعداده للطباعة والنشر، وهذا يسمى بعملية الإخراج؛ فإخراج المخطوط يعني إعداده للطباعة والنشر بحيث يخرج في صورة جيدة تتيح للقارئ الاطلاع عليه، والانتفاع بمادته العلمية في يسر وسهولة، ورغم أن عملية الإخراج تعد من المكملات الحديثة إلا أنها من الأهمية بمكان، فكم من كتاب محقق ومنشور وينفر منه القراء، والسبب هو سوء الإخراج. وفي الأزمنة السالفة كان الناشرون يدفعون بالمخطوط إلى المطبعة دونما أدنى اهتمام بإخراجه، ولم يكن يعنيهم سوى طبع أكبر عدد منه دون العناية بالنص ذاته، اللهم إلا من كان لديه قدر من الدقة والأمانة، ومن ثم أعيد إخراج وطبع عدد كبير من هذه الكتب بطريقة علمية صحيحة، بعد إخضاع الكتاب المطبوع لعدة إجراءات علمية دقيقة قبل نشره، وإذا كان الفضل يرجع للعرب في وضع الأسس العلمية للتحقيق والتوثيق فقد حازوا قصب السبق في هذا المجال؛ فإن فضل المستشرقين واضح في تأسيس المدرسة الطباعية الأولى للتحقيق والنشر، وقام العلامة الدكتور أحمد زكي باشا بدور الوساطة بين العرب والمستشرقين في هذا المجال، ونقل خبرتهم إلى البيئة العربية نقلًا أمينًا، وأفاد منه المتخصصون في هذا المجال فائدة كبرى. هناك خطوات تتبع قبل نشر المخطوط وإخراجه يسير عليها الباحثون ليخرج المخطوط على أفضل صورة، نشير إلى هذه الخطوات فيما يلي:

أولًا: إذا كان المؤلف قد قسم المخطوط إلى أبواب أو فصول، ووضع عناوين للأفكار، وكان تقسيمه ذاك -تقسيمه للفصول إلى أجزاء- مناسبًا للطبع فعلى الباحث الالتزام بهذا التقسيم عند إخراج المخطوط وإعداده للنشر، أما إذا كان المؤلف لم يقسم المخطوط إلى أجزاء، أو فصول، أو أبواب كحال كثير من العلماء في العصور القديمة، أو كان المؤلف قام بتقسيم مخطوطه تقسيمًا غير مناسب أو غير مساير للأحجام المعتادة للطباعة، فللمحقق حينئذٍ أن يقسم المخطوط ويضع العناوين المناسبة التي تعينه وتعين القارئ على الاستيعاب. وفي حال تقسيم المؤلف للمخطوط تقسيمًا غير مناسب فللباحث الحق في إعادة التقسيم، وكل هذا الذي أشرت إليه مشروط بالمحافظة على الإطار العام للنص، وارتباط المضامين داخل المخطوط، ويستحسن أن يضع المحقق أرقامًا للأبيات الشعرية، وتوضع الأرقام في الهامش بجانب المتن والبيت الشعري. ثانيًا: التقديم للنص، قبل نشر المخطوط لا بد من التعريف بالمؤلف من خلال الترجمة له ترجمة وافية تكشف عن مولده، وثقافته، ومصادر هذه الثقافة، وأعماله التي تقلدها، وآراء العلماء فيه، وإن كان لهؤلاء الذين كتبوا مخطوطات اهتمام فني غير الذي كتبوا فيه تلك المخطوطات على الباحث أن يكشف عن هذه الاهتمامات، كما يذكر الباحث أيضًا المؤلفات التي ألفها صاحب المخطوط، ويشير إلى المطبوع منها والذي لا زال مخطوطًا، ثم يوضح أثره في الحياة العلمية والثقافية، ويشير إلى عصره، وطبيعة ذلك العصر من شتى الجوانب، يستقي الباحث المعلومات المتصلة بهذه العناصر من المراجع المعروفة بكتب الأخبار، والتراجم، والطبقات، وغيرها.

وقد كان الناشرون الأقدمون يعنون بهذا بعض العناية، وربما اقتصر جهدهم في هذا المجال على نقل نص بأكمله من كتاب معين من الكتب التي ترجمت للمؤلف، نحن الآن في ظل هذه القوانين العلمية التي تتسم بالدقة والتمحيص لا نقبل من الباحث الوقوف عند هذا الحد، وإنما يجب أن يعمل فكره بالتدقيق، والتمحيص، والنقد لما ينقله من معلومات عن المؤلف من شتى المصادر؛ لأنها في النهاية تمثل فكره، وتعبر عن رأيه، ومما يتصل بالتقديم للنص أيضًا التعريف بالكتاب، أي المخطوط، يقدم الباحث دراسة خاصة بالكتاب المخطوط يوضح فيها منزلته، وطريقة معالجته للموضوع، والأشياء الجديدة التي يقدمها إلى الفن الذي ينتمي إليه، وإن كان الكتاب أو بعضه قد نشر قبل ذلك لا بد أن يصف الباحث تلك النشرة القديمة، كما يقوم المحقق بوصف الأصول الخطية التي اعتمد عليها في تحقيقه. وينبغي أن توصف كل النسخ، وفي مقدمتها النسخة التي اعتمد عليها في تحقيقه بتفصيل تام، دون إغفال أي نسخة من النسخ حتى لو كانت مستبعدة، يصفها ويشير إلى أنه استبعدها، ويذكر الأسباب التي أدت إلى استبعادها، حتى لو نسخة استعان بها في بعض المواضع لا بد أن يشير إليها ويصفها وصفًا كاملًا، ويبين العلاقة القائمة بين هذه النسخ كلما أمكن مبينًا درجات هذه النسخ في الأصالة، وواصفًا الخطوط التي كتبت بها هذه النسخ فيذكر نوع الخط، وكيفية تنقيطه، وما يشاهده فيه من زخرفة وغيرها إن وجد مثل هذا، وهل قوبلت النسخة بأصلها أم لا، ويصف المحقق صفحة العنوان، ويوضح ما كتب عليها من تمليكات، أو سماعات، أو وقف، أو خواتيم، أو مثل هذه الأشياء، ويقتصر في كل ذلك على ما له قيمة، ويستحسن أن يترجم المحقق لمن ورد اسمه في هذه التمليكات أو السماعات ما أمكنه ذلك، وبمقدار ما تسعفه به مصادره؛ فإن مثل هذه الترجمة تكشف لنا عن جوانب مهمة.

من هذه الجوانب مثلًا معرفة عصر المخطوط إن كانت قد خلت من ذكر تاريخ النسخ، أو الكشف عن قيمته من خلال معرفة العلماء المشهود لهم بالكفاءة والتفوق ممن تملكوها، أو أجازوا روايتها لتلاميذهم، أو قرءوها وعلقوا عليها، كل هذه أشياء مهمة لا ينبغي للباحث المحقق أن يغفل عنها بأي حال من الأحوال عند إخراج المخطوط، كما ينبغي للباحث أيضًا أن يكشف عن إملاء النسخة وخصائصها التي تنفرد بها، ويحكم هل هي صحيحة، أو مغلوطة، أو متوسطة، ويقدر قيمتها، وهل الكتابة، واضحة، أو مطموسة، وهل النسخة سليمة، أو ممزقة، أو فيها خرم، هل هي كاملة أو ناقصة، وإن كان فيها نقص فأين هو، في أولها، في آخرها، في أوسطها؟ لا بد للباحث المحقق أن يحدد ذلك، وهو يصف النسخة. ثم يصف الورق والتجليد وعدد الأوراق، ومقاس المخطوطة من خارج الغلاف طولًا وعرضًا، والسطور، ومتوسط عدد الكلمات في السطر الواحد، كما ينبغي أن توصف خاتمة المخطوط، ويشير إلى ما فيها من تاريخ للنسخ، وإجازات، وسماعات إن وجد، ويستحسن أن يقرن الباحث ذلك كله بتقديم نماذج مصورة لبعض صفحاتها، ويفضل أن يكون من بين هذه الصفحات المصورة صفحة العنوان، والصفحة الأولى، والصفحة الأخيرة؛ لأنها أدق الصفحات في التعبير عن تقدير المخطوطات. ومن الأفضل ألا يقدم الباحث على ذلك ويقدمه إلى المطبعة إلا بعد الفراغ من طبع نص الكتاب، حتى يتمكن من إتمام دراسته في ضوء النسخة الأخيرة التي تخرجها المطبعة، كما أنه قد يشير في التقديم للنص أو المتن إلى صفحة في الكتاب، فتكون الإشارة في موضعها، ويجب ألا يدع المحقق مجالًا للشك فيما هو موجود في النسخة أو النسخ، وأن يقابلها بعناية تامة، ويبين بلفظ صريح ما ذهب إليه عند اختلاف النسخ.

والأهم من هذا كله ألا يغير المحقق شيئًا دون أن ينبه القارئ عليه، ويحدد ذلك الشيء حتى يمكن للقارئ من قبول أو رفض هذا الشيء الذي قرأه، ولا يتركه هكذا، وكذلك يجب عليه الامتناع عن إسقاط شيء من النص دون تنبيه القارئ عليه؛ حتى لا يضلل القارئ تضليلًا يصرفه عن سياق النص أو عن فهم الموضوع الذي يريد أن يتعرف على شيء منه. واعلم أن تغيير النص أو إسقاط شيء منه بغير إشارة إلى ذلك يعد تزييفًا للنص نربأ بالباحث المحقق عنه. ثالثًا: العناية بالإخراج الطباعي، وأعني بهذا شيئين: إعداد الكتاب للطبع، ثم معالجة تجارب الطبع معالجة دقيقة. أما بالنسبة لإعداد المخطوط للطبع فإن لهذا الإعداد أثره العظيم في إخراج العمل على أفضل وجه، ومن ثم ينبغي أن يكون الأصل المعد للطبع دقيقًا، وتمت مراجعته بعناية، وروعي فيه التنسيق الكامل، والوضوح التام في كتابته، ويتحقق ذلك بكتابة النسخة المحققة بعد مراجعتها بخط واضح لا لبس فيه ولا غموض، ومن نعم الله سبحانه وتعالى علينا في هذا العصر أن سبل الكتابة على الحاسوب أصبحت في متناول كل باحث، فأصبح الأمر يسيرًا، واحتمال الأخطاء أصبح قليلًا، والحاسوب الآن هو نفسه فيه تصحيح إملائي. فعلى الباحث أن ينتبه إلى السياقات بعد ذلك والربط بينها، ويتحقق التنسيق والوضوح أيضًا بمراعاة علامات الترقيم واستخدامها استخدامًا صحيحًا، وقد أشرنا إلى ذلك من قبل عند صياغة البحث، وعرفنا أن الاستخدام السيئ لعلامات الترقيم قد يدخل الجمل في بعضها البعض، مما يؤدي إلى سوء فهمها، واضطراب فكرتها، فعلى الباحث أن يستخدم العلامات الترقيم استخدامًا جيدًا، وألا يهملها.

ويتحقق التنسيق أيضًا بتنظيم الفقرات والحواشي، وكان القدماء لا يعنون بتنظيم الفقرات إلا بقدر يسير؛ فكان بعضهم يضع خطًّا فوق أول كلمة من الفقرة، وبعضهم يميز تلك الكلمة بأن يكتبها بمداد مخالف، أو بخط مختلف، أما الآن فللفقرة نظام في الكتابة؛ حيث تبدأ الفقرة بسطر جديد، ويترك الكاتب بعض الفراغ في أول ذلك السطر، وكذا الحواشي والتعليقات لم يكن لها نظام معين عند الأقدمين، فأحيانًا كانوا يضعونها بين الأسطر، وبعضهم كان يضعها في جانب الصفحة في الهامش، ويشير إليها، أو لا يشير إليها. الآن يجب أن نفصل الحواشي عن المتن، وتكون الحاشية عادة في أسفل الصفحة، وتكتب بحروف تختلف عن حروف المتن حتى تتميز، لو أن الباحث كتبها بنفس الحروف في الحجم وفي النظام لالتبس على بعض القارئين، وهناك طرق لكتابة الحواشي، فالبعض يجعل حواشي كل فصل والتعليقات التي فيها في آخر الفصل، والبعض يجعل الحواشي بما فيها من تعليقات في آخر الكتاب. والبعض يجعل الإشارات إلى اختلاف النسخ في حاشية الصفحة نفسها، أما التعليقات وبقية ما يرد بالحاشية فيجعله في آخر الكتاب كالشرح، والتحليل، والتعليق، والتفسير، ولهؤلاء حجتهم، فهم لا يريدون أن ينشغل القارئ بشيء غير المتن، وهناك من يجعل حواشي كل صفحة أسفلها، والحقيقة أنا أميل إلى حواشي كل صفحة موجودة في أسفلها، بالإشارات، بالتعليقات، بالتفسيرات، كل شيء. فكثيرًا ما يحتاج القارئ إلى معرفة معنى كلمة مثلًا، أو موضع صفحة، أو اسم مرجع، أو اسم مؤلف، أو أي شيء مما يسجل في الحاشية، فليس من اللائق أن يترك القارئ الصفحة موضع تأمله، ويذهب إلى آخر الفصل، أو إلى آخر الكتاب ليعرف ما يريد من كلمة، أو اسم مرجع، أو اسم مؤلف؛ فإن في ذلك ضياعًا للوقت، وانفصالًا للفكر عن الموضوع الذي يقرؤه، ويستحسن أن تبتدئ كل

فقرة بسطر مستقل، لا تتداخل الفقرات بأي حال من الأحوال، ومما يتصل بإعداد الكتاب للطبع أيضًا أرقام الصفحات في المخطوط الأصلي، أو في الطبعات السابقة إن كان المحقق يحقق كتابًا قد طبع قبل ذلك، ثم أرقام الأسطر داخل المخطوط، وعلى الباحث المحقق أن يضع أرقام صفحات المخطوط الأصلي في أحد جانبي الصفحة. على أن يحدد بداية الصفحة في متن الكتاب المطبوع بوضع علامة تميز ذلك، كأن يضع مثلًا خطّا مائلًا أو رأسيًّا، أو يضع نجمة مثلًا، وفائدة هذا الترقيم هنا التيسير على من يريد الرجوع إلى المخطوط لمعرفة النص، وإذا كان المحقق يحقق كتابًا مطبوعًا قبل ذلك فعليه أن يشير إلى أرقام الطبعة التي كثر تداولها؛ إذ إن وضع تلك الأرقام من شأنه التسهيل على القارئ عند إرادة التعرف على تلك النصوص في النسختين القديمة والجديدة، أما أرقام الأسطر فتوضع على جانب آخر غير الجانب الذي توضع فيه الأرقام السابقة، وتفيد أرقام السطور عند الحاجة إلى معرفة الاقتباس والرجوع إليه يحتاج إليها القارئ إذا أراد التأكد من هذا الاقتباس، فرقم السطر يفيده وييسر عليه الرجوع إلى ذلك. ومما يتصل بإعداد الكتاب للطباعة أيضًا تجنب التعقيدات الطباعية التي تؤدي إلى الغموض وانشغال القارئ بها عن التفكير في النص ذاته، حقيقة هذه التعقيدات الطباعية تؤلم القارئ ألمًا لا حد له، وتأتي هذه التعقيدات نتيجة استخدام بعض الرموز التي تحتاج إلى كد للذهن في فهمها، سواء كانت هذه الرموز حرفية أم عددية، فبعض الناشرين يستخدم مثل هذه الرموز، وهي في الحقيقة عندما يستخدمها يظن أنها تساعده في فهم النص، وتيسر عليه أشياء كثيرة، وهو يقرأ ويستوعب ما يقرؤه، ولكن في الحقيقة هذه الرموز الكثيرة تعد تعقيدات تحول بين

فهم القارئ للنص، وبين التعرف على ما فيه من أفكار، والربط بين الفقرات، وتجعل القارئ ينشغل بفك شفرات هذه الرموز، وهي كثيرة. نضرب مثلًا ببعض الناشرين الذين يستخدمون هذه الرموز، فبعضهم يستخدم القوس، بعضهم يضع حرف الميم، بعضهم يستخدم القوس المعكوف، بعضهم يستخدم كلمة نعم، بعضهم يكتب كلمة نون، هم يقصدون بهذا الإشارة إلى أن كلمة نعم وضعت في المتن في نسخة "م"، وسقطت من نسخة "ن"، ولا ريب أن استعمال هذه التعبيرات الرمزية يخرج بالقارئ عن النص إلى محاولة حلها وفهمها، وماذا على الناشر أو المحقق لو أنه استعاض عن هذه الرموز المعقدة إلى الكتابة الصريحة، فليقل مثلًا: سقطت من نسخة "م"، أو زائدة عن نسخة "أ"، وهكذا يستخدم الألفاظ الصريحة في التعبير عن مضمون هذه الرموز. الجانب الثاني من جوانب العناية بالإخراج الطباعي، هو: معالجة تجارب الطبع؛ إذ ينبغي للباحث المحقق أن يباشر عملية الطبع بنفسه، ويعيش معها خطوة خطوة، فالطباعة فن يحتاج إلى تدريب وممارسة طويلة، ويقوم بالطباعة متخصص في فن الطباعة، والتصحيح أيضًا يحتاج إلى إلمام المصحح بأنواع الخطوط، والمقاسات المختلفة، وحجم الصفحة، وعدد الأسطر ... إلى آخر هذه التنظيمات المعروفة، بمعنى أن المصحح لا بد أن يكون على دراية وخبرة بما يكون عليه المتخصص في فن الطباعة نفسه، المتخصص في فن الطباعة يعرف أنواع الخطوط، ينبغي للمصحح أيضًا أن يعرف أنواع الخطوط حتى يستطيع أن يخرج المخطوط في صورة خطية جيدة، القائم بالطباعة يعرف المقاسات المختلفة، يعرف حجم الصفحة، يعرف عدد الأسطر ... إلى آخر هذه الأشياء، ينبغي للمصحح أن يكون على دراية تامة بمثل هذه الأشياء أيضًا، وإلا فكيف يقول للمتخصص بفن الطباعة أن الخط رديء، أو أن المقاس غير مضبوط، أو أن حجم الصفحة صغير أو كبير، أو أن عدد الأسطر قليل أو كثير، لا بد لمن يقوم بمهمة التصحيح أن يكون على دراية تامة بهذه الأشياء.

ومن الأسباب القوية التي تؤدي إلى وقوع المصحح في الخطأ من حيث لا يدري: اعتماده على إلفه للكلمات والحروف، وهو يقوم بعملية التصحيح، فإنه إذا اعتمد على إلفه للكلمات والحروف وهو يقرأ لا بد أن يخطئ؛ لأنه لا يقرأ بعينه كلها، وإنما يقرأ بجزء منها مع جزء من تفكيره، وصور الأخطاء الطباعية كثيرة جدًّا كتكرار كلمة، أو زيادة لفظة، أو حذف لفظة، كالتباس الضمة بالسكون، أو الشدة المفتوحة بالشدة المكسورة، وعلى المصحح تدارك كل هذا، وإن بدا في نظره قليلًا أو هينًا لا يفرط فيه بحال من الأحوال، وعليه ألا يقر من الحروف إلا ما هو واضح تمام الوضوح، ظاهر كل الظهور؛ فإن الحرف الضعيف في الكتابة يكون ضعيفًا في القراءة والاستيعاب، ومن الأفضل أن يستعين الباحث في مراجعة البروفات الأخيرة بعين أخرى غير عينه؛ لأن القارئ الغريب أيقظ نظرًا، وأشد انتباهًا. وإذا عَنَّ للمحقق رأي بعد نشر الكتاب، أو ظهر له خطأ، أو غيَّر فكرة كان قد طرحها قبل ذلك، أو ظهرت له نسخة من المخطوط جديدة لم يكن قد اطلع عليها حال التحقيق وهي نسخ مهمة، وفيها من الزيادة ما ليس في النسخ الأصلية، أو كانت النسخ الأم التي اعتمد عليها في التحقيق فيها سقط، فيها خرم، وفي النسخة التي عثر عليها فيها إصلاح لهذا، ماذا يفعل المحقق في مثل هذه الحالة؟ لا يتردد لحظة في إعادة طبع المخطوط مرة ثانية، وإضافة ما يراه ناقصًا، أو حذف ما يراه زائدًا، ويعدل ما ينبغي تعديله، والمخطوط بعد طبعه كالمولود يحتاج إلى تعهد بالرعاية حتى يستوي على عوده، ومن ثم لا ينبغي للمحقق أن يهجر المخطوط بعد نشره، بل يظل على صلة به دائمة، ويعلم الكتابات والآراء التي تدور حول هذا المخطوط بالنقد، أو التعليق، أو الثناء، أو غير ذلك، يستوعبها المحقق جيدًا فلربما أضاءت له طريقًا كان خافيًا عنه حين التحقيق، وليحاول الإفادة من كل ذلك عند كل مرة يعيد فيها نشر هذا المخطوط. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 20 صنع الفهارس.

الدرس: 20 صنع الفهارس.

التعريف بالفهارس وأنواعها.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس العشرون (صنع الفهارس) التعريف بالفهارس وأنواعها الحمد لله الذي خلق الإنسان وعلمه البيان، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه، وبعد: فنكمل خطوات إخراج المخطوط، وإعداده للنشر: صنع الفهارس هو الخطوة الرابعة من خطوات إخراج المخطوط وإعداده للنشر: وكلمة فهارس جمع: فهرس، وهي كلمة فارسية معربة، وهي تعني الكتاب الذي تجمع فيه أسماء الكتب، واستخدمت بهذا المعنى لدى العرب في القديم؛ فرأينا ابن النديم يؤلف كتابًا سماه (الفهرست)، ثم صارت الكلمة تطلق على السجل الذي يسجل فيه أسماء الكتب، أو عناوين الموضوعات، أو أسماء الأعلام، ويطلق عليها أحيانًا الكشاف، ولا شك في أن صناعة الفهارس عمل شاق يتطلب جلدًا وصبرًا، ومهما بذل المحقق من جهد في تحقيق المخطوط فإن عمله لا يكتمل إلا بصنع الفهارس؛ لأن القصد من نشر المخطوط عموم الفائدة، والفهارس هي مفاتيح الحقائق الكامنة بين دفتي الكتاب عن طريقها يستطيع الباحث الوصول إلى المعلومة بسهولة وسرعة، وبدونها يحتاج القارئ إلى وقت طويل وجهد كبير للوصول إلى المعلومة، وقد لا يصل إليها، وقد أصبحنا الآن في زمن يتطلب اختزال الوقت، وتوظيف كل دقيقة فيما يفيد، حتى نساير ركب التقدم والرقي في شتى المجالات، وقد عرف العرب نظام الفهرسة قديمًا، وتعد كتب التراجم والبلدان والمعاجم دليلًا على ذلك. أما المستشرقون فقد توسعوا في هذا المجال توسعًا واضحًا، وتنوعت أنواع الفهارس لديهم لتشمل الأعلام، والبلدان، والشعر، والأيام، والأمثال، وتبعهم الباحثون والمؤلفون العرب في ذلك، وزادوا عليهم كثيرًا، وبذلوا جهودًا

محمودة في صنعها رغبة منهم في تقديم وتيسير كل طريق يفيد العلم والحضارة، وتتعدد أنواع الفهارس، وأهمها: فهارس الموضوعات، فهارس الآيات القرآنية، فهارس الحديث والأثر، فهارس الأمثال والحكم وأقوال العرب، فهارس اللغة، فهارس القوافي، فهارس الأعلام والأمم والقبائل والأماكن والبلدان ... إلى آخر هذه الأنواع. ونبدأ بفهرس الموضوعات، ويستحسن أن يكون هذا الفهرس مفصلًا، تظهر فيه جميع الجزئيات التي عالجها المؤلف في مخطوطه، ويكون ترتيبها بنفس الترتيب الوارد داخل المخطوط المحقق، إلا إذا رأى المحقق مبررًا لتغيير هذا الترتيب فله أن يغيره شريطة أن ينبه إلى ذلك، ويذكر في التنبيه المبرر الذي دعاه إلى التغيير، وقد رأينا شيخنا محمد عبد الخالق عضيمة -يرحمه الله تعالى- يرتب فهرست كتاب (المقتضب) لأبي العباس المبرد على حسب ترتيب أبواب ألفية ابن مالك؛ لشهرة هذا الترتيب عند دارسي النحو العربي، وخالف بذلك ترتيب الموضوعات الواردة في الكتاب، لكنه أشار إلى المبرر. أما الآيات القرآنية فهناك طرق لترتيبها في فهارسها؛ فالبعض يرتبها في سورها، ثم ترتب السور حسب ورودها في المصحف الشريف، والبعض يرتبها على حسب ورودها في النص المحقق، وبعضهم يرتب السور على حسب حروف الهجاء، وقد اهتدى العلامة المحقق الأستاذ عبد السلام هارون إلى طريقة جديدة في ترتيبها، وعدها ميسرة للتهدي إلى الآيات الواردة بالكتاب المحقق، قام بترتيبها في نطاق المواد اللغوية، واعتمد على الكلمات البارزة في الآية؛ فمثلًا إذا أراد أن يفهرس لقول الله سبحانه وتعالى: {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} (طه: 18)، وضعها تحت مادة أرب، أو قوله مثلًا: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} (المزَّمل: 8) فوضعه تحت مادة بتل،

وقوله عز وجل: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّر} (المدَّثر: 4) يضع فهرسة هذه الآية تحت مادة ثوب، وهكذا، ثم يضع اسم السورة ورقم الآية عقب الآية مباشرة، وللباحث المحقق أن يختار، المهم أن ييسر الطريق للقارئ لكي يحصل على مكان الآية في صلب الكتاب، أو في المتن المحقق. وأما الأحاديث النبوية الشريفة؛ فمن الممكن أن يتم ترتيبها على حسب أول حرف في أول كلمة وردت فيها، ويمكن أن تفهرس كل كلمة فيها في فهرس عام يشبه (المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي الشريف)، ويمكن أن تفهرس بترتيبها لغويًّا على حسب أبرز كلمة فيها، وتتبع هذه الطريقة في فهرسة الأمثال والحكم وأقوال العرب. وأما فهرسة الأشعار فإنها ترتب ترتيبًا هجائيًّا على حسب القوافي من الهمزة إلى الياء، وتوضع الألف اللينة في آخرها، ثم ترتب كل قافية على أربعة أقسام: الساكنة، ثم المفتوحة، ثم المضمومة، ثم المكسورة، ويضاف إلى آخر كل قسم من هذه الأقسام ما يمكن أن يختم بالهاء الساكنة في القوافي، ثم المضمومة، ثم المفتوحة، ثم المكسورة، وبعضهم يرتبها على حسب البحور الستة عشر، وهناك ترتيب ثالث يعتمد على صاحب الشعر في ترتيب الأبيات، يعني يذكر اسم الشاعر، ثم يأتي بالأبيات، وفي جميع هذه الحالات التي ذكرت ترتب الصفحات في كل قافية على حدة، ويستحسن أن تذكر الكلمة الأخيرة من كل بيت مع وزن البيت، وأحيانًا يذكر اسم الشاعر، وبعض المحققين يذكر الكلمة الأولى إذا تشابه بيتان من وزن واحد في الكلمة الأخيرة. وإذا ذكر في النص المحقق صدر بيت، أو عجز بيت، أو قطعة منه، وعرف المحقق تكملة هذا البيت وجب وضعه في فهرس القوافي مع وضع علامة بجوار كلمة

الروي، كأن يضع مثلًا نجمة للدلالة على جهد المحقق في إتمام البيت، ولا يوضع مثل هذا في أنصاف الأبيات في الفهرس إلا إذا عجز المحقق عن الاهتداء إلى تتمته، فعليه أن يضع البيت في أنصاف الأبيات، وإذا ورد بيت غير منسوب في الأصل، واستطاع المحقق نسبته إلى صاحبه بالرجوع إلى المصادر المختلفة؛ فيوضع اسم الشاعر في فهرس القوافي بين قوسين للدلالة على أنه كان بلا نسبة في الأصل، ويستحسن ألا يفصل الرجز عن القصيد في فهرس الشعر، فكثير من القراء لا يفرق بين الرجز والقصيد، ويمزج بينهما، ومن ثم فيضطر إلى مراجعة نوعين من الفهارس في حرف معين بدلًا من مراجعة فهرس واحد، وفي هذا إرهاق وضياع للوقت. ويا حبذا لو أن المحقق فهرس كل بيت ورد في الكتاب المحقق، ولم يكتف بفهرس البيت الأول من المقطوعة أو القصيدة التي أوردها المؤلف؛ فقد يكون المؤلف أورد عدة أبيات من قصيدة ما، فيأتي بعض المحققين ويفهرس البيت الأول فقط، ويستحسن أن يفهرس كل بيت، ويتبع نظام القافية على حسب الحروف الهجائية، فربما يبحث القارئ عن البيت الثاني أو الثالث مثلًا في المقطوعة، والمحقق فهرس البيت الأول فقط، وبعد بحث طويل لا يجد مثل هذا البيت؛ لأنه لا يوجد في الفهرس، وهذه حقيقة، ولكن لو أنه فهرس كل بيت على حسب القوافي فإنه يسهل بذلك الرجوع إلى البيت نفسه ومعرفة صفحته. أما فهرسة الأعلام فنرى بعض المحققين يستبعدون الشعراء، ويجعلونهم في فهرس مستقل خاص بهم، والبعض الآخر يدرجهم ضمن الأعلام، ولا ضير في الطريقتين، وفي فهرسة الأعلام تستبعد الألف واللام التي للتعريف، فالعباس مثلًا يذكر تحت حرف العين، واليزيدي يذكر تحت حرف الياء، أما الأسماء

المبدوءة بـ أبو أو ابن أو أم فيمكن إسقاط هذه الثلاثة من الاسم عند الترتيب؛ فأبو عمرو بن العلاء مثلًا يذكر في حرف العين، ابن جني يذكر في حرف الجيم، وهكذا، ويمكن أن توضع هذه الأسماء في ترتيب الهمزة شريطة أن تتبع طريقة واحدة، ويشار إليها في مقدمة الفهارس العامة، وإذا ورد العلم في النص المحقق باسمه مرة ومرة أخرى بكنيته أو لقبه فتحول أرقام كل -مِن الكنى والألقاب- عند الفهرسة إلى الاسم الظاهر، قل: انظر اسم كذا، أو العلم كذا؛ لأنه هو المعتمد في الترتيب، وأما الكنى والألقاب التي لم يرد لها اسم ترد إليه فتوضع كما هي في ترتيبها، ومثل هذا الذي أشرت إليه في فهرسة الأعلام يمكن أن يستخدمه المحقق عند ترتيب القبائل والبلدان حين فهرستها. وقد يجد الباحث بعض الصعوبات التي تحتاج إلى إعمال فكر وهو يقوم بالفهرسة، وحينئذٍ عليه أن يجتهد، عليه أن يتحرر من إسار التقليد إن كان من هؤلاء الذين تلك صفتهم، وعليه أيضًا أن يجد حلًّا لما صادفه من صعوبات ما دام عمله يلتزم منهجًا واضحًا محددًا، وفي حدود الدقة المطلوبة في مثل هذا، فهذه الآراء التي أشرت إليها ليست قوانين مقدسة، ولكنها وجهات نظر لك أن تأخذ بها، ولك أن تتركها إذا ما كان عندك البديل الصالح لمثل هذا. أما فهرسة المراجع والمصادر؛ فهي نوعان: مصادر استمد منها المؤلف مادة علمية داخل المخطوط، أو مصادر ورد ذكرها على سبيل التنبيه، هذه تجمع وترتب على حسب الاسم الذي وردت به داخل المخطوط، مع الإشارة إلى أسماء مؤلفيها، وإن كان هناك تغيير أو تبديل في اسم المصدر يشار إليه، وترتب ترتيبًا أبجديًّا. النوع الثاني من المراجع والمصادر وهي التي استعان بها المحقق عند التحقيق والتوثيق، وترتب هذه المراجع والمصادر بنفس الطريقة التي أشرت إليها عند

كيفية صناعة الفهارس.

الحديث عن ثبت المراجع والمصادر، ونحن نتحدث عن صياغة البحث، ولا بد أن يحتوي هذا الترتيب على اسم المرجع بالكامل، واسم المؤلف، واسم المحقق إن كان الكتاب محققًا، وتاريخ الطبع ومكانه، والمحقق إذا كان قد اتبع طريقة محددة في تسجيل المراجع داخل الهامش بالبحث؛ فعليه أن يلتزم الطريقة نفسها عند الفهرسة؛ فإن كان يذكر في الهامش اسم المؤلف أولًا ثم اسم المرجع ثانيًا التزم ذلك النظام في فهرسة المراجع في آخر البحث، وإن اتبع طريقة اختصار أسماء المصادر والمراجع في الهوامش فتذكر المختصرات في الفهرسة، كثير من الباحثين والمحققين يختصر طالما ورد ذكر اسم المرجع مرة أو اثنين. عند الفهرسة لا بد من ذكر اسم المرجع كاملًا، لا يذكره مختصرًا، وهناك فهارس للمصطلحات التي وردت في متن المخطوط بحسب مضمونه واختصاصه، كفهرسة المصطلحات الأدبية والنقدية إذا كان المخطوط في مجال الأدب والنقد، وفهرس المصطلحات البلاغية إذا كان المخطوط في مجال البلاغة، وهكذا على الباحث المحقق أن يتنبه لمثل هذا، وهذا يثري عمله في التحقيق، وترتب هذه المصطلحات ترتيبًا هجائيًّا، ويمكن للمحقق أن يتبع ذلك بتعريف موجز لكل مصطلح، يكشف عن معنى الكلمة اللغوي على الأقل. كيفية صناعة الفهارس هناك طريقتان لصنع هذه الفهارس وجمع المعلومات في كل فهرس: الطريقة الأولى تسمى: طريقة الجُذَاذات، وهي عبارة عن جذاذات صغيرة يكتب المحقق في كل جذاذة المادة التي يريد فهرستها، يجمع المادة من حاشية المخطوط ويسجلها في هذه الجذاذات، ثم يرتبها ترتيبًا هجائيًّا على أوائل الكلمات، ثم ثوانيها، ثم ثوالثها، وهكذا، وبعدما ينتهي من تسجيل هذه المادة من الحاشية في تلك

الجذاذات؛ تفرز هذه الجذاذات بعد تدوين ما يراد فهرسته فيها، وتوضع جذاذات كل حرف من حروف الهجاء في صندوق صغير أو علبة خاصة مسجل عليها اسم الحرف الهجائي، وبعد ذلك يبدأ المحقق في ترتيب ما دون في كل حرف ويسجله. هناك طريقة ثانية وهي: طريقة الدفتر المفهرس، عبارة عن دفتر يخصص لكل حرف من الحروف عدد من الأوراق به، يكتب المحقق كل مادة من مواد الفهرسة في مكانها حسب الترتيب الهجائي الذي قسم إليه الدفتر، وبعد الانتهاء من التدوين يقوم المحقق بترتيب مواد كل حرف فيما بينها، على حسب نوع الفهرس الذي توضع فيه، سيجد تحت الحرف الواحد عددًا من المواد التي يود فهرستها، بعد الانتهاء من التدوين يقوم المحقق بترتيب مواد كل حرف فيما بينها، على حسب نوع الفهرس الذي توضع فيه، الأعلام في الأعلام، والشعر في الشعر، وهكذا. هذه الطريقة في الحقيقة أكثر ضبطًا من طريقة الجذاذات؛ إذ تكون مواد الفهرس تحت المراقبة الدقيقة، والمقارنة المستمرة، وينبغي للمحقق أن يستخرج الفهارس بطريقة منظمة حتى لا يحدث تكرار أو يسقط بعض الفهارس، ويتم ذلك من خلال قراءة المخطوط من أوله لآخره، وبجواره الدفتر أو الجذاذات، فإذا ما وقع على مادة من مواد الفهرسة سجلها في مكانها، ثم وضع عليها علامة في المخطوط تفيد أنه سجلها، يعني أدركها، كأن يضع مثلًا بجوارها رمزًا، أو يلونها بلون معروف من الألوان المستخدمة، وبعد الانتهاء من القراءة وتسجيل هذه المواد؛ يعيد قراءة المخطوط مرة ثانية للتأكد من أنه لم يترك مادة من مواد الفهرسة. هكذا تكون فهرسة المواد داخل المخطوط بعد تحقيقه، ولا شك في أنه عمل شاق يحتاج إلى جلد وصبر، ودقة ويقظة، يقوم به المحقق، ولا يكتمل عمله العلمي إلا به.

فهرسة المخطوطات.

فهرسة المخطوطات فهرسة المخطوطات لا تقل أهمية عن فهرسة المخطوط الذي قام المحقق بتحقيقه، وفهرسة المخطوطات تعني ضبطها وتوثيقها، ثم تسجيلها في قوائم، أو بطاقات، أو كتب لحفظها، هذا من حيث الوصف الشكلي دون التعرض للمتن بأي شكل من أشكال الدراسة؛ لأن التعرض للمتن بأي شكل من أشكال الدراسة من عمل المحقق لا من عمل المفهرس، وحديثي عن هذه الفهرسة سيكون في اتجاهين؛ الاتجاه الأول: أهمية فهرسة المخطوطات، وأهم هذه الفهارس. الاتجاه الثاني: دور العرب في هذا المجال العظيم، وأهم ما قدموه. أهمية فهرسة المخطوطات، وأهم هذه الفهارس: العبء الملقى على عاتق المفهرس أشد بكثير من العبء الذي يحمله المحقق، فعملية التحقيق تبدأ من الفهرسة، فلولا هذه الفهارس ما استطاع باحث أو محقق الحصول على مخطوط ما، كما أن الذي يقوم بفهرسة المخطوطات وجمعها في سجل خاص إذا لم يحسن التعامل معها، وفك رموزها، وتوصيفها توصيفًا جيدًا، وتوثيقها بدقة -انغلقت الأبواب أمام المحقق، وإذا أخطأ هذا المفهرس في وصف المخطوطة أو توثيقها فإما أن يسدل الستار على المخطوطة وصاحبها، وإما أن يضلل المحقق، وقد يكتشف المحقق هذا الخطأ، وهو في مرحلة التوثيق. إن فهرسة المخطوطات عمل له قيمته في مجال نشر التراث والحفاظ عليه؛ فهو يضيء الطريق للمحقق، ويذلل الصعاب أمامه، ويساعده في عملية التوثيق؛ إذ

لو كان المفهرس ثقة وصاحب خبرة في هذا المجال لوفر عليه من الوقت والجهد الكثير، ولما كان الأمر بهذه الأهمية؛ فإن الذي يقوم بفهرسة المخطوطات ينبغي أن يتصف بالنباهة والفطنة بالإضافة إلى سعة علمه واطلاعه، فقد يحدث أن يقع في يده مخطوط ما يحمل أكثر من عنوان، أو يحمل عنوانا مزورًا، أو اسم مؤلف ملفقًا، أو مخطوط لا عنوان له، أو يوجد بداخله أي نوع من أنواع الخلل، أو يلاحظ المفهرس أن هذا المخطوط يحتوي على حواشٍ كثيرة قد تكون رسائل في شرح المتن، أو تفسير للخطوط، وغير ذلك من المشكلات الكثيرة التي قد تصادفه حين الفهرسة للمخطوط. ماذا يفعل الذي يقوم بهذه الفهرسة؟ هل يدون المعلومات التي أمامه وهو غير مقتنع بها، ويلقي العبء على المحقق، أم أنه يقوم بتحقيق ذلك كله يوثق العنوان، واسم المؤلف، والنسبة، ثم يقدم المخطوط إلى المحقق في حالة جيدة من التوثيق؟ عليه في الحقيقة أن يقوم بتحديد الموضوع، والمؤلف، والزمن، والعنوان، ويوثق ذلك بطرق علمية دقيقة بالإضافة إلى بقية المعلومات عن المخطوط، ثم ينتظر دور المحقق؛ فهو أقدر على فحص المادة العلمية التي بداخله، وتفسيرها، وتحليلها، والتعامل معها بأي شكل من الأشكال. فعمل المفهرس لا ينفصل عن عمل المحقق بأي حال من الأحوال، فهما معًا يؤديان رسالة واحدة هي خدمة التراث والتعريف به، فكل منهما يخدم الآخر ويكمله، ولكل منهما مجاله الذي يتقنه ويفيد فيه فائدة كبيرة. هناك صعوبات كثيرة تواجه القائم على فهرسة المخطوطات وعرضها للباحث الراغب في تحقيقها، هذه الصعوبات لا تقل عن الصعوبات التي تواجه المحقق، من هذه الصعوبات: تعدد العناوين للمخطوطة الواحدة مثلًا، أو أسماء

المؤلفين، أو جهل المسئولين الإداريين بالعناء الذي يلقاه مفهرس المخطوطات؛ فبعضه في الحقيقة لا يدرك قيمة المخطوطات، ويظن أنها عبارة عن ورق أصفر ينبغي التخلص منه، وبعضهم يظن أن فهرسة المخطوطات ما هي إلا تسجيل المعلومات المدونة عليها دون التحقق من صحتها كأنها كتاب مطبوع، وهذا عمل من السهولة بمكان لا يحتاج إلى متخصص، وهذا كله ظن خاطئ؛ لأن فهرسة المخطوطات عمل مضنٍ وشاق لا يقوم به إلا من أوتي حظًّا من الدقة والفطنة والمعرفة، وتكونت لديه خبرة جيدة في هذا المجال. وخلاصة القول في هذا: إن الذين يشتغلون بفهرسة المخطوطات خاصة الهواة منهم -الذين يتخذونها هواية- يستعذبون الصعاب، ويجدون متعة لا تعدلها متعة في عملهم هذا، إضافة إلى الفوائد الجمة التي يجنونها من التعرف على المجهول، واكتشاف المغمور، والغوص العميق في المصادر التي قد تزيل الستار، وتزيح الظلمات عن اسم مؤلف، أو عنوان كتاب، فتغمر الفرحة قلوبهم والسرور جوانحهم حين يظفرون بلمحة أو إشارة أو اقتباس من مخطوط عنوانها مجهول، أو مؤلفه مغمور، ولا يدرك هذه الفرحة إلا من عاش في هذا الجو، وعايش هذا المخطوط، وذاق معاناة هذا العمل. يصور هذه الفرحة علم من أعلام المحققين هو الأستاذ الدكتور محمود محمد الطناحي؛ فيقول عن هذه المتعة: "وهي متعة لا يعرفها إلا عاشق للمخطوطات المُدَلَّهُ بحبها فأي سنا يلمع في عينيك، وأنت ترى توقيع ابن الجوزي بخطه بصحة سماع عليه، أو خط ابن خلكان بتملك، بل أي نور يغشاك، وأنت تقرأ لتلميذ وهو يقول: إنه قرأ هذه النسخة على مؤلفها بالبيت الحرام تجاه الكعبة المعظمة، ثم يؤرخ لذلك بسنة تسع وثلاثين وستمائة، فتكاد تكتحل بذلك التراب الذي

ينبعث من تلك الأوراق؛ لأنه تراب أربع وسبعين وسبعمائة سنة". هذا في الحقيقة هو إحساس من عانى وأخلص وجد في سعيه، وأحب التراث وأهله. وفي فهرسة المخطوطات يقوم المفهرس بتدوين كل المعلومات التي تتعلق بالمخطوط كالعنوان، اسم المؤلف، واسم الناسخ، وتاريخ النسخ، عدد الأوراق، عدد السطور في كل صفحة، حجم الورقة، نوع الورق، نوع المداد الذي كتب به، بداية المخطوط ونهايته، حال المخطوط، وغير ذلك من أوصاف يراها المفهرس، وفي الحقيقة هذا موضوع واسع، لكني قصدت شيئين: الإشارة إلى أن هذا عمل مهم لا يقل أهمية عن تحقيق المخطوط نفسه، الشيء الثاني: أردت أن أعرض على المحقق بعض هذه الفهارس العظيمة، التي يمكنه الاستعانة بها حين البحث عن مخطوط ما إذا فكر في التوجه نحو التحقيق. من أهم هذه الفهارس: هناك فهارس عامة أهمها (تاريخ الأدب العربي) للمستشرق الألماني "كارل بروكلمان"، وقد استخدم الأدب بمعناه الواسع؛ إذ يعني به كل ما أنتجه الفكر الإنساني، أيضًا من هذه الفهارس العامة (تاريخ آداب اللغة العربية) لجورجي زيدان، ومنها (تاريخ التراث العربي) لفؤاد سزكين، ومنها (فهارس المكتبة العربية في الخافقين) الذي أصدره يوسف أسعد داغر سنة سبع وأربعين وتسعمائة وألف، وغير ذلك من فهارس عامة موجودة، ويمكن للباحث الاطلاع عليها بسهولة. أما بقية الفهارس منها فهرس الكتب العربية المحفوظة بالكاتب خانة الخديوية بمصر، الصادر سنة ألف وثمانمائة وثلاث وتسعين، هناك فهرس الخزانة التيمورية بالقاهرة سنة ألف وتسعمائة وخمسين، هناك فهرس المخطوطات المصورة، وموجود في القاهرة من سنة ألف وتسعمائة وأربع وخمسين حتى سنة ستين ألف

وتسعمائة، ويحتوي هذا الفهرس على وصف المخطوطات التي صورتها بعثات معهد المخطوطات العربية التابع لجامعة الدول العربية إلى مختلف أنحاء العالم. من هذه الفهارس قائمة ببليوجرافية بالمخطوطات التي تم تصويرها في مكتبات الأزهر وأروقته في القاهرة سنة ألف وتسعمائة وأربع وستين، هناك فهرس بعض المخطوطات العربية الموضوعة بمكتبة البلدية بالأسكندرية، منذ إنشائها سنة ألف وثمانمائة واثنتين وتسعين إلى سنة ألف وتسعمائة وثلاثين، وصنع هذا الفهرس محمد البشير الشندي، هناك فهرس مخطوطات المسجد الأحمدي بمدينة طنطا، والذي صنعه علي سامي النشار وعبده الراجحي وجلال أبو الفتوح، هناك المخطوطات العربية بالرباط، الذي صنعه "ليفي بروفن سال" في باريس سنة ألف وتسعمائة وإحدى وعشرين، هناك فهرس المخطوطات العربية المحفوظة في الخزانة العامة برباط الفتح بالمغرب الأقصى، والذي صنعه عبد الله الرجراجي. أيضًا من هذه الفهارس فهرس مخطوطات خزانة الكرويني، والذي صنعه محمد العابد الفاسي بالدار البيضاء سنة ألف وتسعمائة وتسع وسبعين، ومن هذه الفهارس أيضًا فهرس المخطوطات في لبنان، والذي صنعه نصر الله سنة ألف وتسعمائة وإحدى وستين، ومن هذه الفهارس فهرس المخطوطات بدار الكتب الوطنية ببيروت، ومنها أيضًا فهرس المخطوطات العربية في مكتبة فروج سلاطيان صنعه صلاح الدين المنجد في بيروت سنة ألف وتسعمائة وخمس وستين، ومن هذه الفهارس أيضًا فهرس مخطوطات جامعة الرياض، وفهرس المخطوطات والمصورات بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ومن هذه الفهارس أيضًا فهرس المخطوطات في المكتبة المركزية بجامعة الملك عبد العزيز، والذي صنعه حسن أبو صالح الناغي بجدة.

ومن هذه الفهارس فهرس المصورات الميكروفلمية، الموجودة بمكتبة الميكروفيلم بمركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بمكة المكرمة، وهو فهرس عظيم وفيه مخطوطات قيمة، من هذه الفهارس أيضًا دليل دارة الملك عبد العزيز بالرياض، ومن هذه الفهارس أيضًا مخطوطات المدينة المنورة، يحيى الساعاتي وعبد العزيز المسفر وعبد الله سالم القحطاني، قاموا بصنعه سنة ألف وثلاثمائة وثلاث وتسعين للهجرة، وهناك أيضًا فهرس المخطوطات العربية في مكتبة الأوقاف ببغداد صنعه عبد الله الجبوري، وهناك أيضًا فهرست مخطوطات المجمع العلمي العراقي، وهناك أيضًا فهرس مخطوطات كلية الآداب في جامعة بغداد، صنعه الدكتور حسين علي محفوظ ونبيلة عبد المنعم داود سنة ألف وتسعمائة وسبع وسبعين. وهناك أيضًا فهرس المخطوطات العربية في خزانة قاسم محمد الرجب ببغداد، صنعه كوركيس عواد بغداد سنة ألف وتسعمائة وخمس وستين، وهناك أيضًا فهرس مخطوطات خزانة الروضة الحيدرية في النجف الأشرف صنعه السيد أحمد الحسيني، وهناك أيضًا ف هرس بعنوان مخطوطات المكتبة المركزية في الموصل، صنعه سعيد الديوجمي ببغداد سنة ألف وتسعمائة وسبع وستين، ومن هذه الفهارس أيض ًا فهرس المخطوطات العربية، والمصورة في العراق من قِبل منظمة اليونسكو صنعه مصطفى مرتضى الموسوي، وهناك أيضًا المخطوطات اللغوية في مكتبة المتحف العراقي، صنعه أسامة ناصر النقشبندي ببغداد سنة ألف وتسعمائة وتسع وستين، وهناك أيضًا فهرست المخطوطات المودعة في خزانة معهد التراث العلمي العربي بدمشق، والذي صنعه معهد التراث العلمي. ومن هذه الفهارس فهرس مخطوطات دار الكتب الظاهرية، ومنها فهرس المخطوطات العربية بالمكتبة الرئيسة بمدرسة تلمسان كور بالجزائر سنة ألف

وتسعمائة وسبعة، ومنها أيضًا فهرست مخطوطات مكتبة الجامع الكبير بالجزائر صنعه محمد بن شنب سنة ألف وتسعمائة وتسع، ومنها أيضًا فهرست مخطوطات المكتبة الأحمدية بتونس، خزانة جامع الزيتونة صنعه عبد الحفيظ منصور، طبع في بيروت سنة ألف وتسعمائة وتسع وستين للميلاد. أما بالنسبة لفهارس المخطوطات العربية الموجودة في البلدان غير العربية فأشير إلى بعضها، من هذه الفهارس: المخطوطات العربية بمكتبة الأسكوريال ديرنبرج وليزي بروفنسال هما اللذان قاما بصنع هذه الفهرسة، هناك مخطوطات " الأسكوريال " صنعها "رينو" بباريس سنة ألف وتسعمائة وإحدى وأربعين، ومن هذه الفهارس أيضًا فهرست المخطوطات العربية بالمكتبة الملكية في "برلين"، ومنها أيضًا فهرست المخطوطات العربية المحفوظة في مكتبة الجمعية الاستشراقية الألمانية، وصنعه الدكتور عدنان جواد الطعمة، ومنها أيضًا فهرس المخطوطات الشرقية في المتحف البريطاني، ومنها أيضًا فهرست المخطوطات العربية بمكتبة جمعية الآداب والعلوم في باتافيا سنة ألف وثمانمائة ثلاث وسبعين للميلاد، ومن هذه الفهارس أيضًا فهرست المكتبة المركزية بجامع طهران، ومنها أيضًا فهرست المخطوطات بمكتبة الفاتيكان. ومنها أيضًا قائمة المخطوطات المختارة من مكتبات برسا باسطنبول، ومنها أيضًا فهرست المخطوطات العربية بمكتبة متحف توب قبوسراي، وكثير غير هذا من الفهارس. دور العرب في مجال فهرسة المخطوطات، وما قدموه في هذا الجانب: في الحقيقة لقد عرف العرب المسلمون نظام الفهرسة منذ وقت مبكر، فهذا هو ابن النديم يؤلف كتابًا في نهاية القرن الرابع الهجري، ويسميه (الفهرست)، ولم يكن ابن

النديم هو أول من استخدم هذا اللفظ للدلالة على ما يطلق عليه الآن ببليوجرافيا، فابن النديم نفسه نقل عن فهرست كتاب لجابر بن حيان الذي توفي على رأس المائة الثالثة، كما نقل عن فهرست كتب الرازي، ونقل عن فهرست كتب عبدان، وفهرست كتب جالينوس الذي أعده حنين بن إسحاق، وكما أطلق لفظ الفهرست في تراثنا العربي على الأعمال الببليوجرافية، التي تحصي المؤلفات كذلك استخدم منذ القدم بدلالته الحالية عند المكتبيين العرب والأجانب، بدليل ما نجده في المصادر التاريخية من حديث عن فهارس بيت الحكمة أو خزانة الحكمة في بغداد، وخزانة العزيز الفاطمي بالقاهرة، وخزانة الحكم المستنصر في قرطبة، وغيرها من خزائن ومكتبات. في (رسائل البلغاء) تحدث الحسن بن سهل بأن خزانة الحكمة في بغداد كان لها فهرس في زمن الخليفة المأمون، وذكر ابن الجوزي أنه في سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة اشترى سابور بن أردشير -وزير بني بويه- دارًا في الكرخ بين السورين، وعمرها، وبيضها، وسماها دار العلم، ووقفها على أهل العلم، ونقل إليها كتبًا كثيرة ابتاعها، وجمعها، وعمل لها فهرسًا. كما روى ابن خلدون عن ابن حزم عن بكية الخصي، الذي كان يعمل على خزانة العلوم والكتب في قصر الخلافة الأموية بالأندلس، في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري، روى عنه أن عدد الفهارس التي فيها تسمية الكتب أربعة وأربعون فهرسة في كل فهرسة عشرون ورقة، ليس فيها إلا ذكر أسماء الدواوين، إلى غير ذلك من أخبار تؤكد معرفة العرب في القديم لنظام الفهرسة، وأنهم عرفوا نظام الأبجدية في ترتيبهم، كما اتضح ذلك من خزانة التربة الأشرفية في عهد الملك الأشرف موسى بن الملك العادل الأيوبي.

ومع أن الفهارس والببلوجرافيات تدخل تحت مظلة العمليات الإحصائية فهناك فرق بينها وبين الفهرسة، فالفهرسة تهتم بإحصاء الكتب الموجودة في مكتبة ما، أما الببلوجرافيا فإنها تهتم بإحصاء المؤلفات التي كتبت في موضوع معين، وترك لنا العرب نوعين من الفهارس يمكن تسمية النوع الأول بفهارس كتب العلماء، وخلف العلماء العرب الأجلاء وراءهم عددًا غير قليل من هذه الفهارس، وهي تنقسم من حيث طريقة تقسيمها إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: أن يؤلف العالم نفسه كتابًا أو رسالة يذكر فيها أسماء مؤلفاته، مثل (أسماء مؤلفات ابن أبي الدنيا) وهو عبد الله بن محمد القرشي الذي توفي سنة إحدى وثمانين ومائتين للهجرة، ومنها (فهرسة كتب ابن عربي) الذي توفي سنة ثمان وثلاثين وستمائة للهجرة، ونشره كوركيس عواد في مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق، وكذا فهرست مؤلفات جلال الدين السيوطي، إلى غير ذلك من فهارس. النوع الثاني: أن يقوم عالم بتأليف رسالة يذكر فيها مؤلفات عالم آخر، ومثال ذلك (فهرست كتب محمد بن زكريا الرازي) للبيروني، و (فهرسة مؤلفات ابن الجوزي) لسبط بن الجوزي، و (فهرسة مؤلفات ابن تيمية) لابن القيم. النوع الثالث: أن يذكر المؤلف أسماء مؤلفاته في إحدى إجازاته لمن طلب روايتها عنه، ومن ذلك مؤلفات عبد الغني النابلسي، التي ذكرها في إجازته لعبد الرحمن بن محمد الشهير بابن كوسبر بتاريخ تسع وثلاثين ومائة وألف من الميلاد. أما فهارس الكتب العامة أشير بإيجاز إلى فهرسين مهمين؛ الفهرس الأول: (الفهرست) لابن النديم، انتهى محمد بن إسحاق النديم من تسويد (الفهرست) سنة سبع وسبعين وثلاثمائة للهجرة، وكان وراقًا ينتسخ الكتب، ويصححها، ويجلدها، ويبيعها، ودفعه هذا العمل إلى تسجيل أسماء الكتب المصنفة

والمعروفة في عصره، كما صور ذلك في مقدمته، وقد رتب ابن النديم فهرسته على حسب الموضوعات، وعرض هذه الموضوعات في صورة مقالات: المقالة الأولى: عن لغات الأمم من عرب، وعجم، ونعوت أقلامها، وأنواع خطوطها. المقالة الثانية: في النحويين واللغويين. المقالة الثالثة: في الأخبار والآداب، والسير والأنساب. المقالة الرابعة: في الشعر والشعراء. المقالة الخامسة: في الكلام والمتكلمين. المقالة السادسة: في الفقه والفقهاء والمحدِّثين. المقالة السابعة: في الفلسفة والعلوم القديمة. المقالة الثامنة: في الأسماء، والخرافات، والعزائم، والسحر، والشعوذة. المقالة التاسعة: في المذاهب والاعتقادات. المقالة العاشرة: في أخبار الكيميائيين والصنعاويين. وإذا كان ابن النديم قد راعى الترتيب على حسب الموضوعات، فإنه لم يراع الترتيب الأبجدي في ذكر أسماء العلماء الذين اشتهروا في كل فن، ولا في ترتيب أسماء المؤلفات التي ألفها كل منهم. الفهرس الثاني من فهارس الكتب العامة هو كتاب (كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون) لمصطفى بن عبد الله المشهور بحاجي خليفة، وهو كاتب جلد أيضًا اشتهر بهذا، ويعد هذا الكتاب بنيانًا شامخًا في تراثنا، وهو أعظم ما قدمه العلماء الأتراك من خدمة للتراث الإسلامي، كان حاجي خليفة عالمًا، وفي إحدى رحلاته إلى سوريا زار حلب، وهناك أخذ يحرر أسماء الكتب التي كان يجدها عند

الوراقين، وفي خزائن الكتب بحلب، بإلهام من الله سبحانه وتعالى كما عبر الرجل في ترجمته التي كتبها عن نفسه في آخر كتابه (ميزان الحق)، وكان ينقب عن الكتب في كل مكان، ثم عاد إلى اسطنبول وأراد أن يتم عمله الذي بدأ به في حلب، وهو تدوين أسماء الكتب؛ فكان يكتب أسماء الكتب، ولا سيما كتب التاريخ، والطبقات، والوفيات التي كان يجدها في خزائن الكتب بالأستانة، وكان يقتني هو نفسه المؤلفات، وساعده على ذلك ثراؤه الذي مكنه من شراء الكتب. وقد وضع في كتابه أسماء الكتب التي رآها في خلال عشرين سنة؛ فجاء كتابه من أجمع ما قد يكون ألف في موضوعه؛ حيث زاد على ما ألف قبله ولم يؤلف بعده مثله، وتوفي حاجي خليفة سنة سبع وستين وألف للميلاد، ودون في كتابه ما يقرب من خمسة عشر ألف اسم لمؤلفين متنوعين، رتب حاجي خليفة كتابه على الحروف الأبجدية، وأدخل العلوم في هذا الترتيب، وذكر ما ألف فيها، وكان يذكر فاتحة الكتاب أحيانًا، وأحيانًا أخرى خاتمته، كما ذكر سبب تأليف الكتاب، وفي بعض الأحيان كان يذكر أبواب الكتاب وفصوله، كما كان يذكر وفيات المؤلفين في أغلب الأحيان، ورأيناه عند الإيجاز يذكر اسم الكتاب والمؤلف وسنة وفاته، وفي الكتب المهمة كان يذكر الكتاب ويتبعه بما جاء بعده من شروح، أو تعليقات عليه، أو ذيول له، كما أورد في بعض الأحيان تعليقات خاصة به على الكتاب، وأحيانًا كان يعين أو يذكر عدد الأوراق بذكر الكراريس. وبهذا المنهج يعد حاجي خليفة أحد الرواد الذين وضعوا علم فهرسة المخطوطات في عالمنا الإسلامي. وبهذا نكون قد وصلنا إلى نهاية الحديث عن مفردات مقررات البحث ومصادره، أدعو الله -سبحانه وتعالى- أن يجعل علمنا هذا خالصا لوجهه، وأن ينفع به. والحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

§1/1