أشعار الشعراء الستة الجاهليين

الأعلم الشنتمري

امرؤ القيس الشاعر الجاهلي المتوفي عام 560م - 80 ق. هـ

امرؤ القيس الشاعر الجاهلي المتوفي عام 560م - 80 ق. هـ ترجمة الشاعر - 1 - هو امرؤ القيس بن حجر بن الحارث بن عمرو بن حجر بن عمرو بن معاوية بن الحارث الأكبر. وهو من قبيلة كندة. وكندة قبيلة يمنية، كانت تسكن قبل الإسلام غربي حضرموت؛ وكانت على اتصال بالحميريين. وفي عهد حسان بن تبع ملك حمير كان حجر بن عمرو سيد كندة في حاشية حسان. وقد فتح حسان فتوحاً كثيرة في جزيرة العرب، فولى حجراً بعض قبائلها ودانت كلها لحجر الكندي؛ كما دان حجر بالولاء لحمير، ونزل حجر نجداً؛ وكان اللخميون ملوك الحيرة قد بسطوا نفوذهم على تلك البلاد؛ وخاصة بلاد بكر بن وائل؛ فحارب حجر اللخميين وأزال نفوذهم. وفي عهد الحارث بن عمرو بن حجر اتسع سلطان كندة؛ واتصل الحارث بقباذ ملك الفرس فولاه الحيرة مكان اللخميين؛ ونشر نفوذه - وسط الجزيرة - على كثير من قبائل العرب؛ وفرق الملك في أبنائه الأربعة: فولى ابنه حجراً (أبا امرئ القيس) بني أسد؛ وابنه شرحبيل بكر بن وائل؛ وابنه معد يكرب قبيلة قيس وكنانة وابنه سلمة قبيلتي تغلب والنمر بن قاسط. ولكن هذا النفوذ لم يدم طويلاً؛ فقد عاد اللخميون إلى نفوذهم في الحيرة وقربهم من ملك فارس؛ ودسوا الدسائس لأولاد الحارث فقتل سلمة وشرحبيل وتنكر بنو أسد لحجر؛ ونبذوا طاعته؛ وأمسكوا عن دفع الأتاوة له. واستعان حجر بجند من ربيعة وأعمل في بني أسد السيف؛ واستباح أموالهم؛ وحبس أسرافهم؛ ومنهم عبيد بن الأبرص الشاعر؛ ثم رق لهم وأطلق سراحهم فحقدوا عليه واغتالوه. وفي أخبار الرومان أن حجراً وأخاه معد يكرب قاما ببعض غزوات على حدود المملكة البيزنطية من أواخر القرن الخامس الميلادي. وبموت حجر تضعضعت سلطة كندة. - 2 - نشأ امرؤ القيس في بيت ملك واسع الجاه، وكان من صباح ذكياً متوقد الذهن فلما ترعرع أخذ يقول الشعر ويصور به عواطفه وأحلامه. نشأ نشأت ترف؛ يحب اللهو ويشبب بالنساء ويقول في ذلك الشعر الماجن. فطرده أبوه وآلى ألا يقيم معه فكان يسير في أحياء العرب، ومعه طائفة من شباب القبائل الأخرى؛ كطيئ وكلب، وبكر بن وائل، يجتمعون على الشراب والغناء عند روضة أو غدير، ويخرج هو للصيد فيصيد ويطعمهم من صيده. وظل كذلك حتى جاءه نعي أبيه وهو بدمون (قرية بالشام وقيل في اليمن) ، فرووا أنه قال: "ضيعني أبي صغيرا، وحملني دمه كبيرا، لا صحو اليوم، ولا سكر غدا، اليوم خمر، وغداً أمر". رحل امرؤ القيس يستنصر القبائل للأخذ بثأر أبيه من بني أسد فاستنجد بقبيلتي بكر وتغلب فأعانوه وأوقعوا ببني أسد؛ وقتلوا منهم، واكتفت بكر وتغلب بذلك وقالوا له قد أصبت ثأرك وتركوه. ولكن امرؤ القيس كان يريد التنكيل ببني أسد ويحاول أن يعيد لنفسه ملك أبيه، فلم يقنعه ما فعلت بكر وتغلب، فذهب إلى أهله باليمن يستنصرهم، فأعانوه بجنود ذهب بهم إلى بني أسد، ولكن ملك الحيرة أخذ يؤلب عليه ويدس الدسائس له حتى فشل.. وظل شريداً يتنقل بين أمراء العرب حتى نزل أخيراً على السموءل بتيماء فأجاره. وطلب إليه امرؤ القيس أن يكتب إلى الحارث - أمير الغساسنة بالشام - ليوصله إلى قيصر ملك الرومان ويمهد لامرئ القيس السبيل للسفر إلى القسطنطينية؛ يطلب المعونة منه ليعيد ملكه فأجاب السموءل طلبه فأودعه امرؤ القيس امرأته ودروعاً له كان يتوارثها ملوك كندة، ورحل إلى قيصر. وكان ذلك في عهد القيصر (يوستنيانوس) . ويرى أن القيصر أحسن وفادته، وكان السبب في ذلك - على ما يظهر - أن امرأ القيس كان طريد اللخميين في الحيرة، وأمراء الحيرة في كنف الفرس. والفرس أعداء الروم. فلعل (يوستنيانوس) أراد أن يعينه ويجعل منه ومن أعوانه جيشاً ينتقم بهم من أمراء الحيرة، ويصطنعه كما اصطنع غساسنة الشام. وقد ذكر بعض مؤرخي الرومان خبر رحلته إلى القسطنطينية، وسموه "قيساً" لا امرأ القيس، وذكروا أن القيصر وعده بإعادة ملكه ثم ولاه فلسطين، ولكن هذا لم يرض امرأ القيس فقفل راجعاً. ولكن مؤرخي العرب يروون أن القيصر قبل وفادته وضم إليه جيشاً وفيهم جماعة من أبناء الملك؛ وأن قوماً من أصحاب قيصر قالوا له: "إن العرب قوم غدر ولا تأمن أن يظفر بما يريد ثم يغزوك بمن بعثت معه".

ألوان من حياة امرئ القيس

وآخرون يروون أن بعض العرب ممن كان مع امرئ القيس ذكروا للقيصر أن امرأ القيس قال لقومه إنه كان يراسل ابنتك ويواصلها، فأرسل قيصر إليه حلة مسمومة فلما لبسها أسرع فيه السم وسقط جلده؛ ومن أجل هذا سمي "ذا القروح" ومات بأنقرة وهو عائد من القسطنطينية. والظاهر أن امرأ القيس أصيب أثناء عودته بمرض جلدي سبب له قروحاً. كان دين امرئ القيس الوثنية وكان غير مخلص لها. فقد روي أنه لما خرج للأخذ بثأر أبيه مر بصنم للعرب تعظمه يقال له ذو خلصة. فاستقسم بقداحه وهي ثلاثة: الآمر والناهي والمتربص. فأجالها فخرج الناهي. فعل ذلك ثلاثاً فجمعها وكسرها. وضرب بها وجه الصنم. وقال: "لو كان أبوك قتل ما عقتني". وكان امرؤ القيس يلقب بالملك الضليل؛ وبذي القروح؛ لما أصيب به في مرضه على ما ذكرناه. - 3 - ألوان من حياة امرئ القيس كان حجر في بني أسد، وكانت له عليهم إتاوة في كل سنة مؤقتة فغبر ذلك دهراً، ثم بعث إليهم جابيه الذي كان يجيبهم؛ فمنعوه ذلك - وحجر يومئذ بتهامة - وضربوا رسله؛ وضرجوهم ضرجاً شديداً قبيحاً. فبلغ ذلك حجراً، فسار إليهم بجند من ربيعة وقبس وكنانة. فأتاهم وأخذ سراتهم. فجعل يقتلهم بالعصا. وأباح الأموال؛ وصيرهم إلى تهامة؛ وآلى بالله ألا يساكنوهم في بلد أبداً؛ وحبس منهم عمرو بن مسعود الأسدي، وكان سيداً؛ وعبيد بن الأبرص الشاعر؛ فسارت بنو أسد ثلاثاً. ثم إن عبيد بن الأبرص قام فقال: أيها الملك اسمع مقالتي: يا عين فابكي من بني ... أسد فهم أهل الندامة أهل القباب الحمر والن ... عم المؤبل والمدامة وذوي الجياد الجرد والأ ... سل المثقفة المقامة حلا أبيت اللعن حلا ... إن فيما قلت آمة في كل واد بين يث ... رب فالقصور إلى اليمامة تطريب عان أو صيا ... ح محرق أو صوت هامة ومنعتهم نجداً فقد ... حلو على وجل تهامة برمت بنو أسد كما ... برمت ببيضتها الحمامة جعلت لها عودين من ... نشم وآخر من ثمامة إما تركت عف ... واً أو قتلت فلا ملامة أنت المليك عليهم ... وهم العبيد إلى القيامة ذلوا لسوطك مثل ما ... ذل الأشيقر ذو الخزامة فرق لهم حجر حين سمع قوله، فبعث في أثرهم فأقبلوا، حتى إذا كانوا على مسيرة يوم من تهامة تكهن كاهنهم فقال لبني أسد: من الملك الأصهب، الغلاب غير المغلب، في الإبل كأنها الربرب، لا يعلق رأسه الصخب؟ هذا دمه ينثعب وهذا غداً أول من يسلب. قالوا: من هو؟ قال: لولا أن تجيش نفس جاشية؛ لأخبرتكم أنه حجر ضاحية. فركبوا كل صعب وذلول، فما أشرق لهم النهار حتى أتوا على عسكر حجر فهجموا على قبته، وهزموا أصحابه وأسروه فحبسوه، وتشاور القوم على قتله، فقال لهم كاهن من كهنتهم بعد أن حبسوه ليروا رأيهم فيه: أي قوم! لا تعجلوا بقتل الرجل حتى أزجر لكم. فانصرف عن القوم لينظر لهم في قتله، فلما رأى ذلك علباء بن الحارث الكاهلي خشي أن يتواكلوا في قتله، فدعا غلاماً من بني كاهل - وكان ابن أخته - فقال: يا بني، أعندك خير فتثأر بأبيك، وتنال شرف الدهر، وإن قومك لن يقتلوك؟!. فلم يزل بالغلام حتى حربه، ودفع إليه حديدة وقد شحذها وقال: ادخل عليه مع قومك، ثم اطعنه في مقتله. فعمد الغلام إلى الحديدة فخبأها، ثم دخل على حجر في قبته التي حبس فيها. فلما رأى الغلام غفلة وثب عليه فقتله؛ فوثب القوم على الغلام فقالت بنو كاهل: ثأرنا وفي أيدينا!. فقال الغلام: إنما ثأرت بأبي، فخلوا عنه. وأقبل كاهنهم المزدجر فقال: أي قوم! قتلتموه! ملك شهر، وذل دهر، أما والله لا تحظون عند الملوك بعده أبدا. ولما طعن الغلام حجراً ولم يجهز عليه، أوصى ودفع كتابه إلى رجل وقال له: انطلق إلى ابني نافع. وكان أكبر ولده - فإن بكى وجزع فاله عنه؛ واستقرهم واحداً واحداً؛ حتى تأتي امرأ القيس - وكان أصغرهم - فأيهم لم يجزع؛ فادفع إليه سلاحي وخيلي وقدوري ووصيتي، وبين في وصيته من قتله؛ وكيف كان خبره.

فانطلق الرجل بوصيته إلى نافع ابنه، فأخذ التراب فوضعه على رأسه؛ ثم استقراهم واحداً واحداً، فكلهم فعل ذلك؛ حتى أتى امرأ القيس فوجده مع نديم له يشرب الخمر ويلاعبه بالنرد؛ فقال له: قتل حجر، فلم يلتفت إلى قوله، وأمسك نديمه. فقال له امرؤ القيس، اضرب فضرب، حتى إذا فزع قال: ما كنت لأسد عليك دستك. ثم سأل الرسول عن أمر أبيه كله، فأخبره؛ فقال الخمر علي والنساء حرام، حتى أقل من بني أسد مائة وأجز نواصي مائة. وكان امرؤ القيس قد طرده أبو حجر، وآلى ألا يقيم معه أنفة من قوله الشعر - وكانت الملوك تأنف من ذلك - فكان يسير في أحياء العرب ومعه أخلاط من شذاذ العرب: من طيئ وكلب وبكر بن وائل، فإذا صادف غديراً أو روضة أو موضع صيد أقام فذبح لمن معه في كل يوم؛ وخرج للصيد فتصيد فأكل وأكلوا معه. وشرب الخمر وسقاهم. وغنته قيانه. ولا يزال كذلك حتى ينفذ ماء ذلك الغدير. ثم ينتقل عنه إلى غيره. فأتاه خبر أبيه ومقتله وهو بدمون من أرض اليمن. فقال: تطاول الليل على دمون ... دمون إنا معشر يمانون وإننا لأهلنا محبون ثم قال: ضيعني صغيراً، وحملني دمه كبيراً. لا صحو اليوم؛ ولا سكر غداً، "اليوم خمر، وغداً أمر". ثم قال: خليلي لا في اليوم مصحى لشارب ... ولا في غد إذ ذاك ما كان يشرب. وقدم على امرئ القيس بن حجر الكندي بعد مقتل أبيه رجالات من بني أسد، فيهم المهاجر بن خداش؛ وعبيد بن الأبرص، وقبيصة بن نعيم - وكان رجلاً مقيماً في بني أسد ذا بصيرة بمواقع الأمور ورداً وإصداراً، يعرف ذلك له من كان محيطاً بأكناف بلده من العرب. فلما علم امرؤ القيس بمكانهم أمر بإنزالهم، وتقدم في إكرامهم والإفضال عليهم. واحتجب عنهم ثلاثا. فقالوا لمن ببابه من رجال كندة: ما بال الرجل لا يخرج إلينا؟ فقيل لهم: هو في شغل بإخراج ما في خزائن حجر من العدة والسلاح! فقالوا: اللهم غفرا! إنما قدمنا في أمر نتناسى به ذكر ما سلف. ونستدرك به ما فرط. فليبلغ ذلك عنا. فخرج إليهم بعد ثلاث في قباء وخف غمامة سوداء - وكانت العرب لا تعتم بالسواد إلا في التراث - فلما رأوه نهضوا له. وبدر إليه قبيصة فقال: إنك في المحل والقدر والمعرفة بتصرف الدهر. وما تحدثه أيامه وتتنقل به أحواله، بحيث لا تحتاج إلى تبصير واعظ. ولا تذكرة مجرب. ولك من سؤدد منصبك، وشرف أعراقك، وكرم أصلك في العرب محتمل يحتمل ما حمل عليه من إقالة العثرة، والرجوع عن الهفوة ولا تتجاوز الهمم إلى غاية إلا رجعت إليك فوجدت عندك من فضيلة الرأي وبصيرة الفهم وكرم الصفح ما يطول رغباتها ويستغرق طلباتها. وقد كان الذي كان من الخطب الجليل، الذي عمت رزيته نزاراً واليمن. ولم تخصص به كندة دوننا للشرف البارع الذي كان لحجر، ولولا كان يفدى هالك بالأنفس الباقية بعده لما بخلت كرائمنا على مثله ببذل ذلك، ولفديناه منه. ولكن مضى به سبيل لا يرجع أولاه على أخراه ولا يلحق أقصاه أدناه. فأحمد الحالات في ذلك: أن تعرف الواجب عليك في إحدى خلال ثلاث إما أن اخترت من بني أسد أشرفها بيتاً وأعلاها في بناء المكرمات صوتاً فقدناه إليك بنسعة تذهب مع شفرات حسامك بباقي قصرته. فيقال: رجل امتحن بهلك عزيز عليه. فلم تستل سخيمته إلا بتمكينه من الانتقام أو فداء بما يروح على بني أسد من نعمها فهي ألوف تجاوز الحسبة وكان ذلك فداء ترجع به القضب إلى أجفانها لم يردده تسليط الإحن على البراء وإما أن توادعنا حتى تضع الحوامل فتسدل الأزر وتعقد الخمر فوق الرايات. فبكى امرؤ القيس ساعة ثم رفع طرفه إليهم فقال قد علمت العرب أن لا كفء لحجر في دم وأني لن أعتاض به ناقة أو جملاً فأكتسب بذلك سبة الأبد وفت العضد وأما النظرة فقد أوجبتها الأجنة في بطون أمهاتها وإني لن أكون لعطبها سبيا وستعرفون طلائع كندة من بعد ذلك تحمل في القلوب حنقا وفوق الأسنة علقا. إذا جالت الخيل في مأزق ... تصافح فيه المنايا النفوسا أتقيمون أم تنصرفون؟ قالوا بل ننصرف بأسوأ الاختيار لحرب وبلية، ومكروه وأذية. ثم نهضوا عنه وقبيصة يقول متمثلا: لعلك أن تستوخم الموت إن غدت ... كتائبنا في مأزق الموت تمطر

فقال امرؤ القيس لا والله لا أستوخمه ولكن أستعذبه فرويداً ينكشف لك دجاها عن فرسان كندة وكتائب حمير. ولقد كان ذكر غير هذا أولى بي، إذ كنت نازلاً بربعي، ومتحرماً بذمامي، ولكنك قلت فأجبت. قال قبيصة: إن ما نتوقع فوق قدر المعاتبة والإعتاب. قال امرؤ القيس: هو ذاك!. ثم شرب امرؤ القيس سبعا، فلما صحا آلى ألا يأكل لحما، ولا يشرب خمرا، ولا يدهن بدهن، ولا يصب امرأة حتى يدرك بثأره، فلما جنه الليل رأى برقاً فقال: أرقت لبرق بليل أهل ... يضيء سناه بأعلى الجبل أتاني حديث فكذبته ... بأمر تزعزع منه القلل بقتل بني أسد ربهم ... ألا كل شيء سواه جلل فأين ربيعة عن ربها ... وأين تميم وأين الخول ألا يحضرون لدى بابه ... كما يحضرون إذا ما أكل وارتحل امرؤ القيس حتى نزل بكراً وتغلب، فسألهم النصر، وبعث العيون على بني أسد، فلما كان الليل قال لهم علباء: يا معشر بني أسد، تعلمون والله أن عيون امرئ القيس قد أتتكم، ورجعت إليه بخبركم، فارحلوا بليل، ولا تعلموا بني كنانة، ففعلوا. وأقبل امرؤ القيس بمن معه من بكر وتغلب، حتى انتهى إلى بني كنانة، وهو يحسبهم بني أسد، فوضع السلاح فيهم، وقال: يا لثارات الملك! يا لثارات الهمام. فخرجت إليه عجوز من بني كنانة فقالت: أبيت اللعن! لسنا لك بثأر، ونحن من كنانة فدونك ثأرك فاطلبهم؛ فإن القوم ساروا بالأمس. فتبع بني أسد ففاتوه ليلتهم تلك؛ فقال: ألا يا لهف هند إثر قوم ... هم كانوا الشفاء فلم يصابوا وقاهم جدهم ببني أبيهم ... وبالأشقين ما كان العقاب وأفلتهن علباء جريضا ... ولو أدركنه صفر الوطاب وأدركهم ظهراً، وقد تقطعت خيله، وقطع أعناقهم العطش، وبنو أسد جامون على الماء؛ فنهد إليهم فقالتهم حتى كثرت الجرحى والقتلى فيهم وحجز الليل بينهم وهربت بنو أسد. فلما أصبحت بكر وتغلب أبوا أن يتبعوهم؛ وقالوا له: لقد أصبت ثأرك. قال: والله ما فعلت ولا أصبت من بني كاهل ولا من غيرهم من بني أسد أحداً. قالوا: بلى، ولكنك رجل مشؤوم، وكرهوا قتالهم، وانصرفوا عنه، فمضى هارباً لوجهه حتى لحق بحمير. فاستأجر من قبائل العرب رجالاً، فسار بهم إلى بني أسد، ومر بتبالة وبها صنم للعرب تعظمه، فاستقسم عنده بقداحة، وهي ثلاثة: الآمر، والناهي، والمتربص. فأجالها فخرج الناهي، ثم أجالها فخرج الناهي، فجمعها فكسرها وضرب بها وجه الصنم وقال: لو أبوك قتل ما عقني، ثم خرج فظفر ببني أسد. وألح المنذر في طلب امرئ القيس، ووجه الجيوش في طلبه من إياد وبهراء وتنوخ، وأمده أنو شروان بجيش من الأساورة فسرحهم في طلبه، فلم يكن لامرئ القيس بهم طاقة؛ وتفرقت حمير ومن كان معه عنه، فنجا في عصبه من بني آكل المرار؛ ونزل ببعض رؤساء القبائل يستجير بهم وصار يتحول عنهم إلى غيرهم؛ حتى نزل برجل من بني فزارة يقال له عمرو بن جابر بن مازن، فطلب منه الجوار، حتى يرى ذات عيبه. فقال له الفزاري: يابن حجر؛ إني أراك في خلل من قومك؛ وأنا أنفس بمثلك من أجل الشرف؛ وقد كدت بالأمس تؤكل في دار طيئ؛ وأهل البادية أهل وبر؛ لا أهل حصون تمنعهم، وبينك وبين أهل اليمن ذؤبان من قيس، أفلا أدلك على بلد! فقد جئت قيصر، وجئت النعمان، فلم أر لضيف نازل ولا لمجتد مثله ولا مثل صاحبه. قال: من هو؟ وأين منزله؟ قال: السموءل بتيماء، هو يمنع ضعفك حتى ترى عيبك، وهو في حصن حصين وحسب كبير. فقال له امرؤ القيس: وكيف لي به؟ قال أو صلك إلى من يوصلك إليه. فصحبه إلى رجل من بني فزارة يقال له الربيع بن ضبع الفزاري ممن يأتي السموءل فيحمله ويعطيه. فلما صار إليه قال له الفزاري: إن السموءل يعجبه الشعر؛ فتعال نتناشد له أشعاراً؛ فقال امرؤ القيس: قل حتى أقول. فقال الربيع: قل للمنية أي حين نلتقي ... بفناء بيتك في الحضيض المزلق ولقد أتيت بني المصاص مفاخراً ... وإلى السموءل زرته بالأبلق فأتيت أفضل من تحمل حاجة ... إن جئته في غارم أو مرهق عرفت له الأقوام كل فضيلة ... وحوى المكارم سابقاً لم يسبق فقال امرؤ القيس: طرقتك هند بعد طول تجنب ... وهنا ولم تك قبل ذلك تطرق

شعر امرئ القيس

ثم مضى القوم حتى قدموا إلى السموءل فأنشدوه الشعر؛ وعرف لهم حقهم؛ ثم إنه طلب إليه أن يكتب له إلى الحارث بن أبي شمر الغساني ليوصله إلى قيصر. ومضى حتى انتهى إلى قيصر؛ فقبله وأكرمه؛ وكانت له عنده منزلة. ثم إن قير ضم إليه جيشاً كثيفاً؛ فيه جماعة من أبناء الملوك، فلما فصل قال لقيصر قوم من أصحابه: إن العرب قوم غدر، ولا تأمن أن يظفر بما يريد؛ ثم يغزوك بمن بعثت معه. فبعث إليه حينئذ بحلة وشى مسمومة منسوجة بالذهب، وقال له إني أرسلت إليك بحلتي كنت ألبسها تكرمة لك؛ فإذا وصلت إليك فالبسها باليمن والبركة، واكتب إلي بخبرك من منزل إلى منزل. فلما وصلت إليه لبسها، واشتد سروره بها، فأسرع فيه السم وسقط جلده، فقال: لقد طمح الطماح من بعد أرضه ... ليلبسني مما يلبس أبؤسا فلو أنها نفس تموت سوية ... ولكنها نفس تساقط أنفسا ويروى أن امرأ القيس آلى بألية ألا يتزوج امرأة حتى يسألها عن ثمانية وأربعة واثنتين؛ فجعل يخطب النساء، فإذا سألهن عن هذا قلن: أربعة عشر. فبينا هو يسير في جوف الليل إذ هو برجل يحمل ابنة له صغيرة كائنها البدر ليلة تمامه، فأعجبته؛ فقال لها: يا جارية! ما ثمانية وأربعة واثنتان؟ فقالت: أما ثمانية فأطباء الكلبة؛ وأما أربعه فأخلاف الناقة، وأما اثنتان فثديا المرأة. فخطبها إلى أبيها، فزوجه إياها وشرطت عليه أن تسأله ليلة بنائها عن ثلاث خصال، فجعل لها ذلك، وأن يسوق إليها مائة من الإبل وعشرة أعبد وعشر وصائف وثلاثة أفراس، ففعل ذلك. ثم إنه بعث عبداً له إلى المرأة، وأهدى إليها نحيا من سمن ونحيا من عسل وحلة من عصب، فنزل العبد ببعض المياه فنشر الحلة ولبسها فتعلقت بعشرة فانشقت؛ وفتح النحيين فطعم أهل الماء منهما فنقصا. ثم قدم على حي المرأة وهم خلوف فسألها عن أبيها وأمها وأخيها ودفع إليها هديتها، فقالت له: أعلم مولاك أن أبي ذهب يقرب بعيداً ويبعد قريباً، وأن أمي ذهبت تشق النفس نفسين، وأن أخي يرعى الشمس؛ وأن سماءكم انشقت، وأن وعاءيكم نضبا. فقدم الغلام على مولاه فأخبره. فقال: أما قولها: إن أبي ذهب يقرب بعيداً ويبعد قريباً، فإن أباها ذهب يحالف قوماً على قومه. وأما قولها: ذهبت أمي تشق النفس نفسين، فإن أمها ذهبت تقبل امرأة نفساء. وأما قولها: إن أخي يرعى الشمس، فإن أخاها في سرح له يرعاه فهو ينتظر وجوب الشمس ليروح به. وأما قولها: إن سماءكم انشقت؛ فإن البرد الذي بعثت به انشق. وأما قولها: إن وعاءيكم نضبا؛ فإن النحيين الذين بعثت بهما نقصا فاصدقني!. فقال: يا مولاي، إني نزلت بماء من مياه العرب، فسألوني من نسبي فأخبرتهم أني ابن عمك، ونشرت الحلة فانشقت، وفتحت النحيين فأطعمت منها أهل الماء. فقال: أولى لك!. ثم ساق مائة من الإبل وخرج نحوها ومعه الغلام، فنزلا منزلاً، فخرج الغلام يسقي الإبل فعجز، فأعانه امرؤ القيس، فرمى به الغلام في البئر، وخرج حتى أتى أهل المرأة بالإبل وأخبرهم أنه زوجها، فقيل لها: قد جاء زوجك، فقالت: والله ما أدري أزوجي هو أم لا! ولكن انحروا له جزوراً وأطعموه من كرشها وذنبها، ففعلوا فأكل ما أطعموه، فقالت: اسقوه لبناً حازراً، فسقوه فشرب. فقالت: افرشوا له عند الفرث والدم، ففرشوا له فنام. فلما أصبحت أرسلت إليه: إني أريد أن أسألك، فقال: سلي عما شئت، فسألته فلم يعجبها جوابه، فقالت: عليكم العبد فشدوا أيديكم به؛ ففعلوا. قال: ومر قوم فاستخرجوا امرأ القيس من البئر، فرجع إلى حيه، فاستاق مائة من الإبل وأقبل إلى امرأته، فقال لها: قد جاء زوجك! فقالت: والله ما أدري أهو زوجي أم لا، ولكن انحروا له جزوراً فأطعموه من كرشها وذنبها ففعلوا. فلما أتوه بذلك قال: وأين الكبد والسنام والملحاء! وأبى أن يأكل. فقالت: اسقوه لبناً حازراً؛ فأبى أن يشربه وقال: فأين الصريف والرثئة؟ فقالت: افرشوا له عند الفرث والدم، فأبى أن ينام وقال: افرشوا لي فوق التلعة الحمراء، واضربوا عليها خباء.. ثم أرسلت إليه: هلم شريطتي عليك في المسائل الثلاثة فأرسل إليها أن سلي عما شئت. فسألته، فأعجبها جوابه فقالت: هذا زوجي لعمركم؛ عليكم به، واقتلوا العبد، فقتلوه ودخل امرؤ القيس بالجارية. - 4 - شعر امرئ القيس

امرؤ القيس أسبق شعراء العربية إلى ابتداع المعاني والتعبير عنها، افتتح أبواباً من الشعر ووفق إلى تشبيهات وطوق موضوعات لم يسبق إليها. ففتح باب الغزل وأطال الوصف، وأمعن فيه، وأبدع تصويره هذا إلى لفظ جزل موجز. وسبك محكم يتخلله مثل مرسل، وحكمة بالغة. وكان شعره مرآة لحياته، وتاريخ قومه. فقد ذكرنا أنه كان لاهياً مولعاً بالشراب. فكذلك كان شعره في شبابه صورة لحياته. يمثل شعره حياته وترفه في بدء شبابه. فقد كان يخرج إلى الصيد بالطهاة يطهون له ولصحبه ما يصيد: وظل طهاة اللحم ما بين منضج ... صفيف شواه أو قدير معجل حتى إذا انتهت حياة اللهو والترف وحمل عبء أبيه كان شعره صورة لآماله: فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة ... كفاني، ولم أطلب، قليل من المال ولكنما أسعى لمجد مؤثل ... وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي وهو يصف حزنه على أبيه. وتهديده لقتلته بني أسد: تطاول ليلك بالأثمد ... ونام الخلى ولم ترقد وبات وباتت له ليلة ... كليلة ذي العائر الأرمد وذلك من نبأ جاءني ... وخبرته عن أبي الأسود ولو عن نثا غيره جاءني ... وجرح اللسان كجرح اليد لقلت من القول ما لايزا ... ل يؤثر عني يد المسند فإن تدفنوا الداء لا نخفه ... وإن تبعثوا الحرب لا تقعد وإن تقتلونا نقتلكمو ... وإن تقصدوا لدم نقصد وأعددت للحرب وثابة ... جواد المحثة والمرود وهو يتردد في القبائل يتصرخها، يمدح من نصره، ويذم من خذله، فيمدح سعد بن ضباب الإيادي. وكان قد نزل به فأنجده: سأشكرك الذي دافعت عني ... وما يجزيك مني غير شكري فما جاء بأوثق منك جاراً ... ونصرك للفريد أعز نصر ويهجو سبيع بن عوف: أبلغ سبيعاً إن عرضت رسالة ... إني كظنك إن عشوت أمامي أقصر إليك من الوغيد فإنني ... مما ألاقي لا أشد حزامي ثم هو يذهب إلى قيصر فيصف ذلك في شعره: بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه ... وأيقن أنا لاحقان بقيصرا فقلت له لا تبك عينك إنما ... نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا وهكذا كان شعره صورة لما روي من حياته. وأشهر شعره معلقته، ومطلعها: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل وتقع في واحد وثمانين بيتاً. وقد نظمها في أيام شبابه ولهوه وموضوعها الغزل في بنت عمه عنيزة. وله مطولات أخرى ذكرت في ديوانه وهو على كل حال قد امتاز بجودة الوصف، ولاسيما النساء والفرس والصيد. كما امتاز بكثرة متشبيه المبكر فشبه النساء بالظباء والبيض وشبه الخيل بالعقبان والعصي إلى كثير من أمثال ذلك. وقل أن ترى له أبياتاً خلت من التشبيه. وكان لرحلاته الكثيرة إلى الشام واليمن وغيرهما أثر في سعة خياله وحسن تصويره واستعماله ألفاظاً جديدة، فشبه في معلقته إشراق محبوبته بسراج الراهب، وحسن تصويره، وشبه ترائبها (وهي موضع القلادة منها) بالسجنجل (وهي كلمة رومية معناها المرآة) ، وهكذا. وأورث امرؤ القيس الأدب العربي أبياناً كثيرة يتمثل بها كقوله: (وحسبك من غنى شبع ورى) ، وقوله: وقد طوفت في الآفاق حتى ... رضيت من الغنيمة بالإياب وقوله: بنو أسد قتلوا ربهم ... ألا كل شيء سواه الجلل وقوله: وإنك لم يفخر عليك كفاخر ... ضعيف ولم يغلبك مثل مغلب وقوله: كذلك جدى لا أصاحب صاحباً ... من الناس إلا خانني وتغيرا وديوان امرئ القيس مشروح عدة شروح وطبع في باريس ومصر. وجمع أشعار امرئ القيس عدة من العلماء، وطبع ديوانه العلامة دي ستان في باريس سنة 1828 مع ترجمة لاتينية. وجمع الأب لويس شيخو اليسوعي أهم أخبار وأشعار امرئ القيس من كتب عديدة وسردها في كتابه المعروف بشعراء النصرانية المطبوع في بيروت سنة 1890.

آراء النقاد في شعره

ويعد امرؤ القيس أفحل شعراء الجاهلية وإمامهم ويقولون إنه كان أول من ابتدأ في شعره بذكر طلول محبوبته وباليقين في الأوصاف حتى إنه بلغ في ذلك مبلغاً عظيماً وانه طبع في كل قصيدة من قصائده صوراً كثيرة من حياة البدو أنشدها على نسق واحد بديع مقبول فإن تشبيهات واستعاراته حسنة جداً ولم يصل أحد إلى ما وصل إليه امرؤ القيس في المديح والهجو وأحسن صنعة في شعره هو وصفه جواده، فليس له في ذلك مثيل، ولذلك ضرب المثل بامرئ القيس إذا ركب والنابغة إذا رهب وزهير إذا رغب وهو أحد الأربعة الذين وقع الاتفاق على أنهم أشعر شعراء العرب: امرؤ القيس والنابغة وزهير والأعشى واختلفوا في أيهم أشعر وأحسن ديباجة شعر والأكثرون على أنه امرؤ القيس. قال لبيد: أشعر الناس ذو القروح. وقال الفرزدق: كان الشعر جملاً فنحر فجاء امرؤ القيس فأخذ رأسه. وقال جرير: اتخذ الخبيث الشعر نعلين. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرئ القيس: إنه يقدم بلواء الشعر إلى النار. وقال علي بن أبي طالب: رأيت امرأ القيس أحسن الشعراء نادرة وأسبقهم بادرة وأنه لم يقل لرغبة ولا لرهبة. وقد أجاد امرؤ القيس في الغزل والوصف ووصف الخيل والصيد وتشبيه النساء بالظباء والمها إلى غير ذلك مما ابتكره من معان واهتدى إليه من أغراض. وله أبيات وقصائد غير صحيحة النسبة إليه وينكر بعض الرواة أبياته في معلقته: وقربة قوم قد جعلت عصامها ... على كاهل مني ذلول مرحل إلى آخر هذه الأبيات. آراء النقاد في شعره أقبل قوم من أهل اليمن يريدون النبي صلى الله عليه وسلم فضلوا الطريق ووقعوا على غيرهما ومكثوا ثلاثاً لا يجدون الماء، ثم أقبل راكب فسمع بعضهم ينشد: ولما رأت أن الشريعة همها ... وأن البياض من فرائصها دامي تيممت العين التي عند ضارج ... يفيء عليها الظل عرمضها طامي فقال: من يقول هذا؟ قيل امرؤ القيس. قال: والله ما كذب هذا عارض عندكم. وأشار لهم إليه فوصلوه فإذا ماء عذب وإذا عليه العرمض والظل يفيء عليه فشربوا منه وحملوا ولما أتوا النبي قالوا يا رسول الله أحيانا الله عز وجل ببيتين من شعر امرئ القيس وأنشدوهما. فقال صلى الله عليه وسلم: "ذلك رجل مذكور في الدنيا شريف فيها متسي في الآخرة خامل فيها يجيء يوم القيامة معه لواء الشعر إلى النار". وسأل العباس بن عبد المطلب عمر بن الخطاب عن الشعراء، فقال امرؤ القيس سابقهم خسف لهم عين الشعر فافتقر من معان عور أصح بصر. وقال علي بن أبي طالب: "رأيت امرأ القيس أحسن الشعراء نادرة وأسبقهم بادرة وأنه لم يقل لرغبة ولا رهبة". ومر لبيد بالكوفة على مجلس وهو يتوكأ على محجن له فسألوه عن أشعر العرب فقال: الملك الضليل ذو القروح. وسئل جرير رأيه في امرئ القيس فقال: "اتخذ الخبيث الشعر نعلين"، وهذا رأي يمثل اقتدار امرئ القيس على الشعر وشدة تمكنه منه. وقيل للفرزدق من أشعر الناس يا أبا فراس؟ فقال: ذو القروح. قيل حين يقول ماذا؟ قال: حين يقول: وقاهم جدهم ببني أبيهم ... وبالأشقين ما كان العقاب وقال ابن يحيى: سمعت من لا أحصى من الرواة يقولون: "أحسن الناس ابتداء في الجاهلية امرؤ القيس حيث يقول: "ألا عم صباحاً أيها الطلل البالي"؛ وحيث يقول: "قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل"؛ وفي الإسلام القطامى حيث يقول: "إنا محيوك فاسلم أيها الطلل"؛ ومن المحدثين بشار حيث يقول: أبى طلل بالجزع أن يتكلما ... وماذا عليه لو أجاب متيما وقال بشار: لم أزل منذ سمعت قول امرئ القيس في تشبيهه بشيئين في بيت واحد حيث يقول: كأن قلوب الطير رطبا ويابسا ... لدى وكرها العناب والحشف البالي أعمل نفسي في تشبيه شيئين بشيئين في بيت واحد حتى قلت: كأن مثار النقع فوق رؤوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه وكان أبو عبيد الله بن محمد بن صفوان الجمحي يقول: أنسب بيت قالته العرب قول امرئ القيس: وما ذرفت عيناك إلا لتضربي ... بسهميك في أعشار قلب مقتل

وقال حماد بن إسحق قال لي أبو ربيعة لو لم تكن هذه القصيدة "بزينب ألمم" لنصيب؛ شعر من كانت تشبه؟ قلت: شعر امرئ القيس "لأنها جزلة الكلام جيدة. فقال: سبحان الله قلت: ما شأنك؟ قال: سألت أباك عن هذا فقال لي مثل ما قلت" فعجبت من اتفاقكما. وفي أسطورة أدبية رواها صاحب الجمهرة سئل جني من أشعر العرب؟ فقال: ذهب ابن حجر بالقريض وقوله ... ولقد أجاب فما يعاب زياد ويقول الآمدي: "وفضل امرؤ القيس لأن الذي في شعره من دقيق المعاني وبديع الوصف ولطيف التشبيه وبديع الحكمة؛ فوق ما استعار سائر الشعراء منه في الجاهلية والإسلام. ولولا لطيف المعاني واجتهاد امرئ القيس فيها وإقباله عليها لما تقدم على غيره ولكان كسائر شعراء أهل زمانه. ألا ترى أن العلماء بالشعر إنما احتجوا في تقديمه بأن قالوا هو أول من شبه الخيل بالعصا وذكر الوحش والطير وأول من قال قيد الأوابد الخ. فهل هذا التقديم إلا لأجل معانيه. ومن آثار شعر الطبيعة عند امرئ القيس وصفه الجميل الرائع لليل وطوله: وليل كموج البحر أرخى سدوله ... علي بأنواع الهموم ليبتلي فقلت له لما تمطى بصلبه ... وأردف أعجازاً وناء بكلكل ألا أيها الليل الطويل ألا انحلي ... بصبح وما الأصباح منك بأمثل فيا لك من ليل كأن نجومه ... بكل مغار الفتل شدت بيذبل والقارئ يقف أمام هذه القطعة الفنية الجميلة متأملاً معجباً مشدوهاً من روعة البيان وجمال التصوير ورقة التعبير وقوة التأثير ومن هذه الشخصية الفنية الكاملة التي تبرز من هذه الأبيات في وضوح وقوة وجمال. الليل رهيب، ظلماته كالموج، اللجى؛ وقد أقبل على الشاعر، فأثار في نفسه الذكريات، وهاج كوامن الأحزان وبعث الهموم من مرقدها، وترك النفس موزعة حيرى مفزعة. واستمرت صور الماضي وأحداث الحاضر تتراءى أمام عينيه يتذكرها ويذكرها، يتذكر حياته اللاهية العابثة في صباح، وهذه الآمال والآلام التي تعتلج في صدره وذكريات الحب والأحباب المؤثرة الباقية. وطال الليل على الشاعر وطال، وامتد وامتد، فرسم لطوله هذه الصورة البارعة التي تجدها في البيت الثاني، فكأنه يتمطى بصلبة، وكأن أعجازه وأواخره يردف بعضها بعضاً، وكأنه يقع بصدره على المهمومين والمحزونين ليوسعهم ألماً وشقاء. ويتمنى الشاعر أن يذهب الليل بظلمته ورهبته؛ وأن يشرق الصبح بضوئه وجماله ولكنه يعود فيتذكر أن أحزانه كامنة في نفسه فلن يسري عنها إشراق الصباح ولا ضجيج الحياة في أول النهار. وتستمر الصور والذكريات تطوف بخيال الشاعر وأمام عينيه اليقظتين والليل كما هو لم يذهب ولم يطلع الصباح الجميل، وكأنه لا يريد أن يذهب بل كأنه مشدود بحبال قوية شدت بصخرة من صخور هذا الجبل الغليظ. صور جميلة لا يعدل جمالها جمال، وخيال يقظ مشبوب لا يماثله في استنباط دقائق التصوير خيال. وهكذا كان امرؤ القيس وبحق ما كان زعيم الشعراء في الجاهلية. ويرى الأصمعي أن أحسن الناس تشبيهاً امرؤ القيس في قوله: كأن قلوب الطير رطباً ويابسا ... لدى وكرها العناب والحشف البالي وفي قوله: كأن عيون الوحش حول خبائنا ... وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب وفي قوله: ولو عن نثا غيره جاءني ... وجرح اللسان كجرح اليد وفي قوله: سموت إليها بعدما نام أهلها ... سمو حباب الماء حالاً على حال وأن أبدع تشبيهاته قوله يصف فرساً: كأن تشوفه بالضحى ... تشوف أزرق ذي مخلب إذا قرعته جلال له ... تقول سلبت ولم تسلب فقال الرشيد للأصمعي: هذا حسن؛ وأحسن منه قوله: فرحنا بكابن الماء يجنب وسطنا ... تصوب فيه العين طوراً وترتقي واجتمع عبيد الأبرص وامرؤ القيس يوماً فقال عبيد: كيف معرفتك بالأوابد؟ فقال قل ما شئت تجدني كما أحببت. فقال عبيد: ما حية ميتة قامت بميتتها ... درداء ما أنبتت ناباً وأضراسا فقال امرؤ القيس: تلك الشعير تسقى في سنابها ... قد أخرجت بعد طول المكث أكداسا فقال عبيد: ما السرد والبيض والأسماء واحدة ... لا يستطيع لهن الناس تمساسا فقال امرؤ القيس: تلك السحائب والرحمن أنشأها ... روى بها من محول الأبيض أبياسا فقال عبيد:

شرح المختار من شعر امرئ القيس

ما مرتجات على هول مراكبها ... يقطعن بعد المدى سيراً وأمراسا فقال امرؤ القيس: تلك النجوم إذا حانت مطالعها ... شبهتها في سواد الليل أقباسا فقال عبيد: ما القاطعات لأرض لا أنيس بها ... تأتي سراعاً وما يرجعن أنكاسا فقال امرؤ القيس: تلك الرياح إذا هبت عواصفها ... كفى بأذيالها للترب كناسا فقال عبيد: ما الفاجعات جهاراً في علانية ... أشد من فيلق ملمومة باسا فقال امرؤ القيس: تلك المنايا فما يبقين من أحد ... يأخذن حمقاً وما يبقين أكياسا فقال عبيد: ما السابقات سراع الطير في مهل ... لا يشتكين ولو طال المدى باسا فقال امرؤ القيس: تلك الجياد عليها القوم مذ نتجت ... كانوا لهن غداة الروع أحلاسا فقال عبيد: ما القاطعات لأرض الجو في طلق ... قبل الصباح وما يسوين قرطاسا فقال امرؤ القيس: تلك الأماني يتركن الفتى ملكا ... دون السماء ولم ترفع له راسا فقال عبيد: ما الحاكمون بلا سمع ولا بصر ... ولا لسان فصيح يعجب الناسا فقال امرؤ القيس تلك الموازين والرحمن أرسلها ... رب البرية بين الناس مقياسا ومما يتصل بشعر امرئ القيس ما يروى من أنه وصل إلى حضرة سيف الدولة رجل من أهل بغداد، وكان ينقر العلماء والشعراء بما لم يدفعه الخصم ولا ينكره الوهم. فتلقاه سيف الدولة باليمن، وأعجب به إعجاباً شديداً، فقال يوماً: أخطأ امرؤ القيس في قوله: كأني لم أركب جواد اللذة ... ولم أتبطن كاعباً ذات خلخال ولم أسبأ الزق الروى ولم أقل ... لخيلي كرى كرة بعد إجفال وهذا معدول عن وجهه ولاشك فيه. فقيل: وكيف ذلك؟ قال إنما سبيله أن يقول: كأني لم أركب جواداً ولم أقل ... لخيلي كرى كرة بعد إجفال ولم أسبأ الزق الروى للذة ... ولم أتبطن كاعباً ذات خلخال فيقترن ذكر الخيل بما يشاكلها في البيت كله، ويقترن ذكر الشراب واللهو بالنساء؛ ويكون قوله "للذة" في الشرب أطبع منه في الركوب! فبهت الحاضرون، واهتز سيف الدولة، وقال: هذا النهدي وحق أبي!. فقال له بعض الحاضرين من العلماء: أنت أخطأت وطعنت في القرآن إن كنت تعمدت!. فقال سيف الدولة: وكيف ذلك؟ فقال: قال الله تعالى: إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى، وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى"، وعلى قياسه يجب أن يكون: إن لك أن تجوع فيها ولا تظمأ ولا تعرى فيها ولا تضحى! وإنما عطفه امرؤ القيس بالواو التي لا توجب تعقيباً، ولا ترتب.. فخجل وانقطع!. شرح المختار من شعر امرئ القيس - 1 - قال امرؤ القيس بن حجر بن الحارث الكندي من معلقته المشهورة: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل لتوضح فالمقراة لم يعف رسمها ... لما نسجتها من جنوب وشمال ترى بعر الآرام في عرصاتها ... وقيعانها كأنه حب فلفل كأني غداة البين يوم تحملوا ... لدى سمرات الحي ناقف حنظل وقوفاً بها صحبي علي مطيهم ... يقولون لا تهلك أسى وتجمل وإن شفائي عبرة مهراقة ... فهل عند رسم دارس من معول كدأبك من أم الحريثرث قبلها ... وجارتها أم الرباب بمأسل ففاضت دموع العين مني صبابة ... على النحر حتى بل دمعي مخملي ألا رب يوم لك منهن صالح ... ولاسيما يوم بدارة جلجل ويوم عقرت للعذارى مطيتي ... فيا عجبا من كورها المتحمل فظل العذارى يرتمين بلحمها ... وشحم كهداب الدمقس المفتل ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة ... فقالت لك الويلات إنك مرجلي تقول وقد مال الغبيط بنا معاً ... عقرت بعيري ياامرأ القيس فانزل فقلت لها سيري وأرخى زمامه ... ولا تبعديني من جناك المعلل فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع ... فألهيتها عن ذي تمائم مخول إذا ما بكى من خلفها انصرفت له ... بشق وشقى تحتها لم يحول ويوماً على ظهر الكثيب تعذرت ... علي وآلت حلفة لم تحلل أفاطم مهلاً بعض هذا التدلل ... وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي وإن تك قد ساءتك مني خليقة ... فسلي ثيابي من ثيابك تنسل

أغرك مني أن حبك قاتلي ... وأنك مهما تأمري القلب يفعل وما ذرفت عيناك إلا لتضربي ... بسهميك في أعشار قلب مقتل وبيضة خدر لا يرام خباؤها ... تمتعت من لهو بها غير معجل تجاوزت أحراساً إليها ومعشراً ... علي حراصاً لو يسرون مقتلي إذا ما الثريا في السماء تعرضت ... تعرض أثناء الوشاح المفصل فجئت وقد فضت لنوم ثيابها ... لدى الستر إلا لبسة المتفضل فقالت يمين الله مالك حيلة ... وما إن أرى عنك الغواية تنجلي خرجت بها نمشي نجر وراءها ... على أثرينا ذيل مرط مرحل فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى ... بنا بطن خبت ذي حقاف عقنقل هصرت بفودي رأسها فتمايلت ... علي هضيم الكشح ريا المخلخل إذا التفتت نحوي تضوع ريحها ... نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل مهفهفة بيضاء غير مفاضة ... ترائبها مصقولة كالسجنجل كبكر مقاناة البياض بصفرة ... غذاها نمير الماء غير المحلل تصد وتبدي عن أسيل وتتقي ... بناظرة من وحش وجرة مطفل وجيد كجيد الرئم ليس بفاحش ... إذا هي نصته ولا بمعطل وفرع يغشى المتن أسود فاحم ... أثيث كقنو النخلة المتعثكل غدائره مستشزرات إلى العلى ... تضل المذارى في مثنى ومرسل وكشح لطيف كالجديل مخصر ... وساق كأنبوب السقي المذلل وتغطو برخص غير شثن كأنه ... أساريع ظبي أو مساويك إسحل تضيء الظلام بالعشاء كأنها ... منارة ممسى راهب متبتل وتضحى فتيت المسك فوق فراشها ... نئوم الضحى لم تنطق عن تفضل إلى مثلها يرنو الحليم صبابة ... إذا مااسبكرت بين درع ومجول تسلت عمايات الرجال عن الصبا ... وليس صباي عن هواها بمنسل ألا رب خصم فيك ألوى رددته ... نصيح على تعذاله غير مؤتل وليل كموج البحر أرخى سدوله ... علي بأنواع الهموم ليبتلي فقلت له لما تمطى بصلبه ... وأردف أعجازاً وناء بكلكل ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي ... بصبح وما الإصباح منك بأمثل فيا لك من ليل كأن نجومه ... بكل مغار القتل شدت بيذبل كأن الثريا علقت في مصامها ... بأمراس كنان إلى صم جندل وقد اغتدى والطير في وكنانها ... بمنجرد قيد الأوابد هيكل مكر مفر مقبل مدبر معاً ... كجلمود صخر حطه السيل من عل كميت يزل اللبد عن حال متنه ... كما زلت الصفواء بالمتنزل مسح إذا ما السابحات على الونى ... أثرن غباراً بالكديد المركل على العقب جياش كأن اهتزامه ... إذا جاش فيه حميه غلا مرجل يطير الغلام الخف عن صهواته ... ويلوى بأثواب العنيف المتبل درير كخذروف الوليد أغره ... تقلب كفيه بخيط موصل له أيطلا ظبي وساقا نعامة ... وإرخاء سرحان وتقريب تتفل كأن على الكتفين منه إذا انتحى ... مداك عروس أو صلاية حنظل وبات عليه سرجه ولجامه ... وبات بعيني قائماً غير مرسل فعن لنا سرب كأن نعاجه ... عذارى دوار في الملاء المذيل فأدبرن كالجرع المفصل بينه ... بجيد معم في العشيرة مخول فألحقنا بالهاديات ودونه ... جواجرها في صرة لم تزيل فعادى عداء بين ثور ونعجة ... دراكاً ولم ينضح بماء فيغسل وظل طهاة اللحم ما بين منضج ... صفيف شواء أو قدير معجل ورحنا وراح الطرف ينفض رأسه ... متى ما ترق العين فيه تسفل كأن دماء الهاديات بنحره ... عصارة حناء بشيب مرجل وأنت إذا استدبرته سد فرجه ... بضاف فويق الأرض ليس بأعزل أحار ترى برقاً أريك وميضه ... كلمع اليدين في حبي مكلل يضيء سناه أو مصابيح راهب ... أهان السليط في الدبا والمفتل قعدت له وصخبتي بين حامر ... وبين إكام بعد ما متأمل وأضحى يسج الماء عن كل فيقة ... يكب على الأذقان دوح الكنهبل وتيماء لم يترك بها جذع نخلة ... ولا أطماً إلا مشيداً بجندل كأن ذرى رأس المجيمر غدوة ... من السيل والغثاء قلكة مغزل

تحليل القصيدة

كأن أبانا في أفانين ودقه ... كبير أناس في بجاد مزمل وألقى بصحراء الغبيط بعاعه ... نزول اليماني ذي العياب المخول كأن سباعاً فيه غرقى غدية ... بأرجائه القصوى أنابيش عنصل على قطن بالبشيم أيمن صوته ... وأيسره على الستار فيذبل وألقى ببسيان مع الليل بركه ... فأنزل منه الغضم من كل منزل تحليل القصيدة قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسيط الورى بين الدخول فحومل مطلع معلقة امرئ القيس الرائعة الشهرة، والتي تدل على شخصية صاحبها المرحة وروحه الموهوب، مجوته المأثور، وأسلوب القصيدة أسلوب جزل فيه أسر وقوة في عذوبة حيناً مع الجمال والصدق والتنقل في الخيال ومع سحر المطلع وفخامته. ومعانيها قريبة لا تعقيد فيها تنكئ على الحسن والمشاهدات، فهو حين يتحدث عن الحب يصف جمال المرأة ومحاسنها، وحين يصف الفرس يتحدث عن ساقه ومتنه وشعره وحين يتحدث عن المطر يصف كثرته وأنه ألقى مياهه على جبل كذا وكذا ففزعت العصم وهدمت البيوت وسقطت جذوع النخل، دون أن يتحدث الشاعر عما وراء هذه الأوصاف الحسية في الخيل والمطر أو عن عواطفه الإنسانية في حبه وغزله. وتمتاز المعلقة بأنها مظهر للبلاغة العربية، وبما فيها من أساليب البيان، ومناهج الأداء وصور التعبير، وألوان الرسم والخيال والتفكير، فيها تشبيهات بليغة عذبة كثيرة واستعارات جميلة بالغة، وكنايات أنيقة ساحرة، وسوى ذلك من أدوات التعبير والبيان. ولتفصيل ذلك كله نقول: للمعلقة مطلعها الساحر القوي وأسلوبها الجزل، وخيالها البدوي الموهوب وتشبيهاتها الحسية الساذجة المكرورة أحياناً، وفيها فوق ذلك وبرغم الكثير من ألفاظها البدوية الجافة ورقة النسيب ودقة الوصف وتنوع الأغراض وبراعة التصوير والبيان، وفيها جل ما ابتكره امرؤ القيس من المعاني الشعرية التي فضل بها على غيره من الشعراء وعدبها أميرهم وقائدهم، ففيها بكاء للديار واستيقاف للصحب وتجويد في النسيب وتصوير لاستهتاره ومجونه، وقص لذكرياته وأيامه، وإبداع في وصف الليل وطوله "والفرس ومحاسنه، والبرق، والمطر وآثاره". وفي المعلقة الكثير من التشبيهات الجميلة، كتشبيه موقفه حين رحيل أحبابه بموقف الحنظل، وغزارة ما ينهمر منهما من دموع، وكتشبيه عبق الرائحة من حبيبه بعبق رائة النسيم، قد جاء بريا القرنفل. وتشبيه شحم ناقته بهداب الدمقس المفتل، والثغر بالأقحوان المنور، وتعرض الثريا في السماء بتعرض أثناء الوشاح المفصل، وتشبيه ترائب المرأة بالمرآة المجلوة، وجيدها بجيد الظباء، وبنانها بأساريع الظبي، وجمالها المشرق بمنارة الراهب المتبتل، وتشبيه الليل بموج البحر واهتزام الفرس بغلي المرجل. فقد أخذ الحسن من جميع الحيوانات، أخذ من الظبي خاصرته، ومن النعامة ساقها، ومن الذئب والثعيلب مشيهما، فهو جواد ويا له من جواد ضافي الذيل مستقيم العسيب، لماع الظهر كما تلمع صلاية الحنظل مما يعلق بها من الدهن اللامع، أو صلاية عروس تدق فيها العطر والطيب، وكأن دماء هوادي فرائسه في نحره المخضوب عصارة حناء في شيب مسرح. وتمتاز المعلقة بكناياتها الساحرة، كنؤوم الضحى في وصف المرأة بالترف والنعمة وقوله "لم تنتطق عن تفضل" في وصفها بأنها عزيزة منعمة لم تعز بعد ذل ولم تنعم بعد شقاء، وقوله "إذا ما اسبكرت بين درع ومجول" يريد إذا بلغت سن الشباب لأنه الدرع هو قميص المرأة والمجول ثوب تلبسه الفتاة وتجول فيه قبل أن تخدر، وقوله "قيد الأوابد" في وصف الفرس بسرعة العدو، وقوله: ولم ينضح بماء فيغسل في وصفه بالنشاط. ومنها كثير من المجازات الجميلة والاستعارات المبدعة كقوله "فسلي ثيابي من ثيابك تنسلي" يريد بالثياب القلب أو الصداقة. وقوله "وبيضة خدر" يريد امرأة كريمة مخدرة. وقوله في وصف الليل بالطول "فقلت له لما تمطى بصلبه" وقوله "وتتقي بناظرة من وحش وجرة" وكذلك قوله "له أيطلا ظبي وساقا نعامة" من أساليب التجريد أو التشبيه الجميلة.

وقد تجد في المعلقة تنقلاً في الخيال وفي رسم الصور الشعرية، ولكن لا ضير في ذلك، لأن الشعر فن والفنون تأبى أن تخضع لقيود المنطق والفلسفة وحريتها في التعبير والتصوير هو سر جمالها وخلودها وفق ذلك فإن الشعر صورة للحياة العربية في سذاجتها وبساطتها فضلاً عن أثر الارتجال والبديهة في نظم الشعر وإنشاده وخاصة في العصر الجاهلي. وفي المعلقة وصف لما يحبه العربي من مظاهر الجمال في المرأة وفي الفرس وفيها بيان مفصل لزينة المرأة وترفها وفيها نواة للقصص الشعري وخاصة في الغزل، مما نهج نهجه عمر بن أبي ربيعة ثم بشار وأبو نواس. وليس فيها أثر للمدح لأن شخصية امرئ القيس العظيمة أرفع من المدح، ولأن المعلقة لم تنظم إلا لوصف ذكرياته ولهوه وترفه ومجونه، مما يرجع أنها نظمت في أيام صبواته وشبابه قبل أن يحمل عبء الأخذ بثأر والده، حيث تجدها خالية من ذكر الأحداث التي طافت به بعد ذلك. وتعدد الأعراض والفنون في القصيدة يتفق ونهج العرب والشعراء الجاهليين في صياغة قصائدهم؛ حيث كانوا يروحون عن أنفسهم وسامعيهم بهذا الاستطراد الجميل وبتعدد نواحي القصيدة ومراميها حتى تكون أشد أثراً وسحراً. وروح الشاعرية في المعلقة متحدة متناسقة إلا في أبيات يضيفها بعض الرواة إليها وهي: وقربة أقوام جعلت عصامها ... على كاهلي مني ذلول مرحل وما بعده من أبيات، مما تخالف روحها روح المعلقة. والصحيح أن هذه الأبيات لتأبط شراً وأنكرها الكثير من الرواة، وقيل هي لامرئ القيس في عصر مشيبه وكهولته وأضيفت إلى المعلقة إضافة، فهي لا تمثل روحه في فترة شبابه اللاهية الماجنة التي نراها في معلقته. وتمثل هذه المعلقة الحياة العربية في كثير من نواحيها المختلفة، كما تصور حياة امرئ القيس وترفه وروحه اللاهي المسرف في العبث والمجون أتم التصوير، فهي صورة جميلة واضحة لحياة الشاعر وقومه، وأثر أدبي كبير نستطيع أن نفهم منه الكثير من عادات العرب وأخلاقهم. نشأ امرؤ القيس في بيت سؤدد ومجد ونعمة، فخب في سبل اللهو وذاق أفاويق الجمال والحب وقضى أيام شبابه في مغازلة الغيد الحسان؛ فكانت له معهن أيام وذكريات قص الكثير منها في هذه المعلقة، وما برح في لهوه ومجونه حتى ضاق به والده ذرعاً فأبعده عنه، فأقام مع أمثاله من أهل البطالة واللهو حتى قتل أبوه فذهبت سكرته وطالت حسرته، وهب للأخذ بثأره حتى قضى عليه أخيراً إسرافه في الانتقام. ذلك هو امرؤ القيس قائد الشعراء في الجاهلية، وحامل لواء الشعر في ذلك العصر البعيد، والمفتن في أبواب الشعر وأغراضه، والمجلى في بيان أسرار الجمال واللهو وفي رقة الأسلوب وسحره، وفي جزالة اللفظ وأسره، وفي روائع التشبيه وبدائع الخيال، وفي ابتداع الكثير من المعاني الشعرية الطريفة التي قلده فيها سواء من الشعراء وتتناول المعلقة كثيراً من فنون الشعر، وتحوي الكثير من الأفكار المنوعة، ففيها بكاء لديار أحبابه في ثلاثة أبيات وتصوير لحيرته وذهوله يوم رحيلهن واستيقاف لأصحابه ليحملوا معه عبء الحزن والشجى في بيتين وفيها شرح للهوه وعبثه وقص لذكرياته وأشجانه مع محبوباته ووصف للجمال العربي وزينة المرأة في الجاهلية ولأثر الجمال وسحره في النفوس وذلك في عشرين بيتاً، وفيها مناجاة الليل وذكر لطوله وآلامه فيه في خمسة أبيات ووصف دقيق لفرسه في ثمانية عشر بيتاً، وللبرق والمطر ونشوة الطبيعة في عشرة أبيات فأبياتها تبلغ الستين أو تزيد وهي كلها في درجة عالية من الإحسان. ويقول الزوزني في سبب إنشاد هذه القصة: "السبب في إنشادها هو قصة غدير دارة جلجل حيث كان امرؤ القيس يحب ابنة عمه عنيزة فتركها تستحم في هذا الغدير مع أتراب لها وجمع ملابسهن ثم لم يعطها لهن إلا بعد مرورهن أمامه عاريات، ثم ذبح لهن ناقته وقسم متاعه عليهن يحملنه وركب مع عنيزة في هودجها". وقد بدأها ببكاء الديار بمطلع جميل ساحر ثم يستمر في وصف الديار وآثارها حتى يقول: وقوفاً بها صحبي على مطيهم. ثم يصف ذكريات لهوه وعبثه وغزله. ثم يصف الليل وطوله، وطوله والفرس وقوته ويذكر الصيد الذي صاده وطهى الطهاة له وسط الصحراء ويصف البرق والمطر في عذوبة وسحر وجمال. - 2 - وقال أيضاً: ألا عم صباحاً أيها الطلل البالي ... وهل يعمن من كان في العصر الخالي

وهل يعمن إلا سعيد مخلد ... قليل الهموم ما يبيت بأوجال وهل يعمن من كان أحدث عهده ... ثلاثين شهراً في ثلاثة أحوال ديار لسلمى عافيات بذي خال ... ألح عليها كل أسحم هطال وتحسب سلمى لا تزال ترى طلا ... من الوحش أو بيضاً بميثاء شملال وتحسب سلمى لا تزال كعهدنا ... بواد الخزامى أو على رس أو عال ليالي سلمى إذ تريك منصباً ... وجيداً كجيد الرئم ليس بمعطال ألا زعمت بسباسة اليوم أنني ... كبرت وأن لا يحسن اللهو أمثالي كذبت لقد أصبى على المرء عرسه ... وأمنع عرسي أن يزن بها الخالي ويا رب يوم قد لهوت وليلة ... بآنسة كأنها خط تمثال يضيء الفراش وجهها لضجيعها ... كمصباح زيت في قناديل ذبال كأن على لباتها جمر مصطل ... أصاب غضى جزلا وكف بأجذال وهبت له ريح بمختلف الصوا ... صباً وشمال في منازل قفال ومثلك بيضاء العوارض طفلة ... لعوب تنسيني إذا قمت سربالي إذا ما الضجيع ابتزها من ثيابها ... تميل عليه هونة غير مجبال كحقف النقا يمشي الوليدان فوقه ... بما احتسبا من لين مس وتسهال لطيفة طي الكشح غير مفاضة ... إذا انفلتت مرتجة غير متفال تنورتها من أذرعات وأهلها ... بيثرب أدنى دارها نظر عال نظرت إليها والنجوم كأنها ... مصابيح رهبان تشب لفقال سموت إليها بعد ما نام أهلها ... سمو حباب الماء حالا على حال فقالت سباك الله، إنك فاضحي ... ألست ترى السماء والناس أحوالي فقلت يمين الله أبرح قاعداً ... ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي حلفت لها بالله حلفة فاجر ... لناموا فما إن من حديث ولا صال فلما تنازعنا الحديث وأسمحت ... هصرت بغصن ذي شماريخ ميال وصرنا إلى الحسنى ورق كلامنا ... ورضت فذلت صعبة أي إذلال فأبحت معشوقاً وأصبح بعلها ... عليه القتام سيئ الظن والبال يغط غطيط البكر شد خناقه ... ليقتلني والمرء ليس بقتال أيقتلني والمشرفي مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أعوال وليس بذي رمح فيطعنني به ... وليس بذي سيف وليس بنبال أيقتلني وقد شغفت فؤادها ... كما شغف المهنوءة الرجل الطالي وقد علمت سلمى وإن كان بعلها ... بأن الفتى يهذي وليس بفعال وماذا عليه أن ذكرت أوانسا ... كغزلان رمل في محاريب أقيال وبيت عذارى يوم دحن ولجته ... يطفن بحباء المرافق مكسال سباط البنان والعرانين والقنا ... لطاف الخصور في تمام وإكمال نواعم يتبعن الهوى سبل الردى ... يقلن لأهل الحلم ضل بتضلال صرفت الهوى عنهن من خشية الردى ... ولست بمقلي الخلال ولا قال كأني لم أركب جواداً للذة ... ولم أتبطن كاعباً ذات خلخال ولم أسبإ الزرق الروى ولم أقل ... لخليلي كري كرة بعد إجفال ولم أشهد الخيل المغيرة بالضحى ... على هيكل عبل الجزارة جوال سليم الشظى عبل الشوى شنج النسا ... لع حجبات مشرفات على الفال وصم صلاب ما يقين من الوحي ... كأن مكان الردف منه على رال وقد أغتدي والطير في وكناتها ... لغيث من الوسمي رائده خال تحاماه أطراف الرماح تحامياً ... وجاد عليه كل أسحم هطال بعجلزة قد أترز الجري لحمها ... كميت كأنها هراوة منوال ذعرت بها سرباً نقياً جلوده ... وأكرعه وشي البرود من الخال كأن الصوار إذ تجهد عدوه ... على جمزى خيل تجول بأجلال فجال الصوار واتقين بقرهب ... طويل الفرا والروق أخنس ذيال فعادى عداء بين ثور ونعجة ... وكان عداء الوحش مني على بال كأني بفتحاء الجناحين لقوة ... صيود من العقبان طأطأت شملالي تخطف خزان الشربة بالضحى ... وقد حجرت منها ثعالب أورال كأن قلوب الطير رطباً ويابساً ... لدي وكرها العناب والحشف البالي فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة ... كفاني ولم أطلب قليل من المال ولكنما أسعى لمجد مؤثل ... وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي

وطر المرء مادامت حشاشة نفسه ... بمدرك أطراف الخطوب ولا آلي - 3 - وقال امرؤ القيس أيضاً: خليلي مرا بي على أم جندب ... نقض لبانات الفؤاد المعذب فإنكما إن تنظراني ساعة ... من الدهر تنفعني لدى أم جندب ألم ترياني كلما جئت طارقاً ... وجدت بها طيباً وإن لم تطيب عقيلة أتراب لها لا دميمة ... ولا ذات خلق إن تأملت جأنب ألا ليست شعري كيف حادث وصلها ... وكيف تراعى وصلة للتغيب أقامت على ما بيننا من مودة ... أميمة أم صارت لقول المخبب فإن تنأ عنها حقبة لا تلاقها ... فإنك مما أحدثت بالمجرب وقالت متى يبخل عليك ويعتلل ... يسؤك وإن يكشف غرامك تدرب تبصر خليلي هل ترى من ظعائن ... سوالك نقبا بين حزمى شعبعب علون بأنطاكية فوق عقمة ... كجرمة نخل أو كجنة يثرب ولله عيناً من رأى من تفرق ... أشت وأنأى من فراق المحصب فريقان منهم جازع بطن نخلة ... وآخر منهم قاطع بحد كبكب فعيناك غرباً جدول في مفاضة ... كمر الخليج في صفيح مصوب وإنك لم يفخر عليك كفاخر ... ضعيف ولم يغلبك مثل مغلب وإنك لم تقطع لبانة عاشق ... بمثل غدو أو رواح مؤوب بأدماء حرجوج كأن قتودها ... على أبلق الكشحين ليس بمغرب يغرد بالأسحار في كل سدفة ... تغرد مياح الندامى المطرب أقب رباع من حمير عماية ... يمج لعاع البقل في كل مشرب بمحنية قد آزر الضال نبتها ... مجر جيوش الغانمين وخيب وقد أغتدي والطير في وكناتها ... وماء الندى يجري على كل مذنب بمنجرد قيد الأوابد لاحه ... طراد الهوادي كل شأو مغرب على الأين جياش كان سراته ... على الضمر والتعداء سرحة مرقب يباري الخنوف المستاقل زماعه ... ترى شخصه كأنه عود مشحب له أيطلا ظبي وساقا نعامة ... وصهوة عير قائم فوق مرقب ويخطو على ضم صلاب كأنها ... حجارة غيل وارسات بطحلب له كفل كالدعص لبده الندى ... إلى حارك مثل الغبيط المذأب وعين كمرآة الصناع تديرها ... لمحجرها من النصيف المنقب له أذنان تعرف العتق فيهما ... كسامعتي مذعورة وسط ربرب ومستفلك الذفرى كأن عنانه ... ومثناته في رأس جذع مشذب وأسحم ريان العسيب كأنه ... عثاكيل قنو من سميحة مرطب إذا ما جرى شأوين وابتل عطفه ... تقول هزير الريح مرت بأثأب يدير قطاة كالمحالة أشرفت ... إلى سند مثل الغبيط المذأب ويخضد في الاري حتى كأنما ... به غرة من طائف غير معقب فيوماً على سرب نقي جلوده ... ويوماً على بيدانة أم تولب فبينا نعاج يرتعين خميلة ... كمشي العذارى في الملاء المهدب فكان تنادينا وعقد عذاره ... وقال صحابي قد شأونك فاطلب فلأياً بلأي ما حملنا غلامنا ... على ظهر محبوك السراة محنب وولى كشؤبوب العشي بوابل ... ويخرجن من جعد ثراه منصب فللساق ألهوب وللسوط درة ... وللزجر منه وقع أهوج منعب فأدرك لم تجهد ولم يثن شأوه ... يمر كخذروف الوليد المثقب ترى الفأر في مستنقع القاع لاجباً ... على جدد الصحراء من شد ملهب خفاهن من أنفاقهن كأنما ... خفاهن ودق من عشي مجلب فعادى عداءً بين ثور ونعجة ... وبين شبوب كالقضيمة قرهب وظل لثيران الصريم غماغم ... يداعسها بالسمهري المعلب فكاب على حر الجبين ومتق ... بمذرية كأنها ذاق مشعب وقلنا لفتيان كرام ألا انزلوا ... فعالوا علينا فضل ثوب مطنب وأوتاده ماذية وعماده ... ردينية فيها أسنة قعضب وأطنابه أشطان خوض نجائب ... وصهوته من أتحمى مشرعب فلما دخلناه أضفنا ظهورنا ... إلى كل حاري جديد مشطب كأن عيون الوحش حول خبائنا ... وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب نمش بأعراف الجياد أكفنا ... إذا نحن قمنا عن شواء مضهب ورحنا كأنا من جؤائي عشية ... نعالى النعاج بين عدل ومحقب

وراح كتيس الربل ينفض رأسه ... أذاة به من صائك متحلب كأن دماء الهاديات بنحره ... عصارة حناء بشيب مخضب وأنت إذا استدبرته سد فرجه ... بضاف فويق الأرض ليس بأصهب - 4 - وقال أيضاً حين توجه إلى قيصر: سما لك شوق بعدما كان أقصرا ... وحلت سليمى بطن قو فعرعرا كنانية بانت وفي الصدر ودها ... مجاورة غسان والحي يغمرا بعيني ظعن الحي لما تحملوا ... لدى جانب الأفلاج من جنب تيمرى فشبهتهم في الآل لما تكمشوا ... حدائق دوم أو سفيناً مقيرا أو المكرعات من نخيل ابن يامن ... دوين الصفا اللآلئ يلين المشقرا سوامق جبار أثيث فروعه ... وعالين قنواناً من البسر أحمرا حمته بنو الربداء من آل يامن ... بأسيافهم حتى أقو وأوقرا وأرضى بني الربداء واعتم زهوه ... وأكمامه حتى إذا ما تهصرا أطافت به جيلان عند قطاعه ... تردد فيه العين حتى تحيرا كأن دمى شغف على ظهر مرمر ... كسا مزبد الساجوم وشياً مصورا غرائر في كن وصون ونعمة ... يحلين ياقوتاً وشذراً مفقرا وريح سناً في حقه حميرية ... تخص بمفروك من المسك أذفرا وبانا وألويا من الهند ذاكيا ... ورندا ولبنى والكباء المقترا غلقن برهن من حبيب به ادعت ... سليمى فأمسى حبلها قد تبترا وكان لها في سالف الدهر خله ... يسارق بالطرف الخباء المسترا إذ نال منها نظرة ريع قلبه ... كما ذعرت كأس الصبوح المخمرا نزيف إذا قامت لوجه تمايلت ... تراشى الفؤاد الرخص ألا تخترا أأسماء أمسى ودها قد تغيرا ... سنبدل إن أبدلت بالود آخرا تذكرت أهلي الصالحين وقد أتت ... على خملي خوص الركاب وأوجرا فلما بدا حوران والآل دونه ... نظرت فلم تنظر بعينيك منظرا تقطع أسباب اللبانة والهوى ... عشية جاوزنا حماة وشيزرا بسير يضج العود منه يمنه ... أخو الجهد لا يلوى على من تعذرا ولم ينسى ما قد لقيت ظعائنا ... وخملا لها كالقر يوما مخدرا كأثل من الأعراض من دون بيثشة ... ودون الغمير عامدات لغضورا فدع ذا وسل اللهم عنك بجسرة ... ذمول إذا صام النهار وهجرا تقطع غيطاناً كأن متونها ... إذا أظهرت تكسى ملاء منشرا بعيدة بين المنكبين كأنما ... ترى عند مجرى الضفر هراً مشجرا تطاير ظران الحصى بمناسم ... صلاب العجى ملثومها غير أمعرا كأن الحصى من خلفها وأمامها ... إذا نجلته رجلها حذف أعسرا كأن صليل المروحين تشده ... صليل زيوف ينتقدن بعبقرا عليها فتى لم تحمل الأرض مثله ... أبر بميثاق وأوفى وأصبرا هو المنزل الآلاف من جونا عطٍ ... بني أسد حزناً من الأرض أوعرا ولو شاء كان الغزو من أرض حمير ... ولكنه عمداً إلى الروم أنفرا بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه ... وأيقن أنا لاحقان بقيصرا فقلت له لا تبك عينك إنما ... نحاول ملكا أو نموت فنعذرا وإني زعيم إن رجعت مملكا ... بسير ترى منه الفرانق أزورا على لاحبٍ لا يهتدى بمناره ... إذا سافه العود النباطي جرجرا على كل مقصوص الذنابي معاود ... يريد السرى بالليل من خيل بربرا أقب كسرحان الغضى متمطر ... ترى الماء من أعطافه قد تحدرا إذا زعته من جانبيه كليهما ... مشى الهيدبى في دفه ثم فرفرا إذا قلت زوحنا أرن فرانق ... على جلعد واهي الأباجل أبترا لقد أنكرتني بعلبك وأهلها ... ولابن جريج في قرى حمص أنكرا نشيم يروق المزن أين مصابه ... ولا شيء يشفي منك يا ابنة عفزرا من القاصرات الطرف لو دب مخول ... من الذر فوق الإتب منها لأثرا له الويل إن أمسى ولا أم هاشم ... قريب ولا البسباسة ابنة يشكرا أرى أم عمرو دمعها قد تحدرا ... بكاء على عمرو وما كان أصبرا إذا نحن سرنا خمس عشرة ليلة ... وراء الحساء من مدافع قيصرا إذا قلت هذا صاحب قد رضيته ... وقرت به العينان بدلت آخرا

كذلك جدي ما أصاحب صاحباً ... من الناس إلا خانني وتغيرا وكنا أناساً قبل غزوة قرمل ... ورثنا الغنى والمجد أكبر أكبرا وما جبنت خيلي ولكن تذكرت ... مرابطها في بربعيص وميسرا ألا رب يوم صالح قد شهدته ... بتادف ذات التل من فوق طرطرا ولا مثل يوم في قداران ظلته ... كأني وأصحابي على قرن أعفرا ونشرب حتى نحسب الخيل حولنا ... نقاداً وحتى نحسب الجون أشقرا - 5 - قال أيضاً: أعني على برق أراه وميض ... يضيء حبياً في شماريخ بيض ويهدأ تارات سناه وتارة ... ينوء كتعتاب الكسير المهيض وتخرج منه لامعات كأنها ... أكف تلقى الفوز عند المفيض قعدت له وصحبتي بين ضارج ... وبين تلاع يثلث فالعريض أصاب قطاتين فسال لواهما ... فوادي البدي فانتحى للأريض بلاد عريضة وأرض أريضة ... مدافع غيث في فضاء عريض فأضحى يسح الماء عن كل فيقة ... يحوز الضباب في صفاصف بيض فأسقى به أختي ضعيقة إذ نأت ... وإذ بعد المزار غير القريض ومرقبة كالزج أشرفت فوقها ... أقلب طرفي في فضاء عريض فظلت وظل الجون عندي بلبده ... كأني أعدي عن جناح مهيض فلما أجن الشمس عني غيارها ... نزلت إليه قائماً بالحضيض يباري شباة الرمح خد مذلق ... كصفح السنان الصلبي النحيض أخفضه بالنقر لما علوته ... ويرفع عزفاً غير جاف غضيض وقد أعتدي والطير في وكناتها ... بمنجرد عبل اليدين قبيض له قصريا عير وساقا نعامة ... كفحل الهجان ينتجى للعضيض يجم على الساقين بعد كلاله ... جموم عيون الحسى بعد المخيض ذعرت بها سرباً نقياً جلودها ... كما ذعر السرحان جنب الربيض ووالى ثلاثاً واثنتين وأربعاً ... وغادر أخرى في قناة الرفيض فآب إياباً غير نكد مواكل ... وأخلف ماء بعد ماء فضيض وسن كسنيق سناء وسنما ... ذعرت بمدلاج الهجير نهوض أرى المرء ذا الأذواد يصبح محرضا ... كإحراض بكر في الديار مريض كأن الفتى لم يغن في الناس ساعة ... إذا اختلف اللحيان عند الجريض - 6 - وقال أيضاً: غشيت ديار الحي بالبكرات ... فعارمة فبرقة العيرات فغول فحليت فنفى فمنعج ... إلى عاقل فالجب ذي الأمرات ظللت ردائي فوق رأسي قاعداً ... أعد الحصى ما تنقضي عبراتي أعني على التهمام والذكرات ... يبتن على ذي الهم معتكرات بليل التمام أو وصلن بمثله ... مقايسة أيامها نكرات كأني وردفي والقراب ونمرقي ... على ظهر عير وارد الخبرات أرن على عقب حيال طروقة ... كذود الأجير الأربع الأشرات عنيف بتجميع الضرائر فاحش ... شتيم كدلق الزج ذي ذمرات ويأكلن بهمى جعدة حبشية ... ويشربن برد الماء في السبرات فأوردها ماء قليلاً أنيسه ... يحاذرن عمراً صاحب القترات تلت الحصى لتاً بسمر رزينة ... موازن لا كزم ولا معرات ويرخين أذناباً كأن فروعها ... عرا خلل مشهورة ضفرات وعنس كألواح الإران فسألتها ... على لاحب كالبرد ذي الخبرات فغادرتها من بعد بدن ردية ... تغالى على عوج لها عود لها كدنات وأبيض كالمخراق بليت حده ... وهبته في الساق والقصرات - 7 - وقال أيضاً يمدح غوير بن شجنة بن عطارد من بني تميم، وبني عوف رهطه: ألا إن قوماً كنتم أمس دونهم ... هم منعوا جاراتكم آل غدران عوير ومن مثل العوير ورهطه ... وأسعد في ليل البلايل صفوان ثياب بني عوف طهارى نقية ... وأوجههم عند المشاهد غران هم أبلغوا الحي المضلل أهلهم ... وساروا بهم بين العراق ونجوان فقد أصبحوا والله أصفاهم به ... أبر بميثاق وأوفى بجيران - 8 - وقال أيضاً: لمن طلل أبصرته فشجاني ... كخط زبور في عصيب بمان ديار لهند والرباب وفرتني ... ليالينا بالنعف من بدلان ليالي يدعوني الهوى فأجيبه ... وأعين من أهوى إلي رواني

فإن أمس مكروباً فيا رب بهمة ... كشفت إذا ما اسود وجه الجبان وإن أمس مكروباً فيا رب قينة ... منعمة أعملتها بكران لها مزهر يعلو الخميس بصوته ... أجش إذا ما حركته اليدان وإن أمس مكروباً فيا رب غارة ... شهدت على أقب رخو اللبان على ربذ يزداد عفواً إذا جرى ... مسح حثيث الركض والذألان ويخدى على صم صلاب ملاطس ... شديدات عقد لينات المثاني وغيث من الوسمي حو تلاعه ... تبطنته بشيظم صلتان مكر مفر مقبل مدبر معاً ... كتيس ظباء الحلب الغذوان إذا ما جنبناه تأود متنه ... كعرق الرخامى اهتز في الهجلان تمتع من الدنيا فإنك فاني ... من النشوات والنساء الحسان من البيض كالآرام والأدم كالدمى ... حواصنها والمبرقات الرواني أمن ذكر نبهانية حل أهلها ... بجزع الملا عيناك تبتدران فدمعهما سكب وسح وديمة ... ورش وتوكاف وتنهملان كأنهما مزادتا متعجن ... فريان لما تسلقا بدهان - 9 - وقال أيضاً: قفا نبك من ذكرى حبيب وعرفان ... ورسم عفت آياته منذ أزمان أتت حجج بعدي عليها فأصبحت ... كخط زبور في مصاحف رهبان ذكرت بها الحي الجميع فهيجت ... عقابيل سقم من ضمير وأشجان فسحت دموعي في الرداء كأنها ... ثكلى من شعيب ذات سح وتهتان إذا المرء لم يحزن عليه لسانه ... فليس على شيء سواه بخزان فإما تريني في رحالة جابر ... على حرج كالقر تخفق أكفاني فيا رب مكروب كررت وراءه ... وعان فككت الغل عنه ففداني وفتيان صدق قد بعثت بسخرة ... فقاموا جميعاً بين عاث ونشوان وخرق بعيد قد قطعت نياطه ... على ذات لوث سهوة المشي مذعان وغيث كألوان الفنا قد هبطته ... تعاون فيه كل أوطف حنان على هيكل يعطيك قبل سؤاله ... أفانين جرى غير كز ولا وان كتيس الظباء الأعفر انضرجت له ... عقاب تدلت من شماريخ ثهلان وخرق كجوف العير قفر مضلة ... قطعت بسام ساهم الوجه حسان يدافع أعطاف المطايا بركنه ... كما مال غصن ناعم فوق أغصان ومجر كغلان الأنيعم بالغ ... ديار العدو ذي زهار وأركان مطوت بهم حتى تكل مطيهم ... وحتى الجياد ما يقدن بأرسان وحتى ترى الجون الذي كان بادنا ... عليه عواف من نسور وعقبان - 10 - وقال أيضاً يمدح جارية بن مر أبا حنبل، ويذم خالد بن سدوس بن أصمع النبهاني: دع عنك نهباً صبح في حجراته ... ولكن حديثاً ما حديث الرواحل كأن دثاراً حلقت بلبونه ... عقاب تنوفي لا عقاب القواعل تلعب باعث بذمة خالد ... وأودى عصام في الخطوب الأوائل وأعجبني مشي الحزقة خالد ... كمشي أتان حلئت بالمناهل أبت أجأ أن تسلم العام جارها ... فمن شاء فلينهض لها من مقاتل تبيت لبوني بالقرية أمنا ... وأسرحها غباً بأكناف خائل بنو ثعل جيرانها وحماتها ... وتمنع من رماة سعد ونائل تلاعب أولاد الوعول رباعها ... دوين السماء في رؤوس المجادل مكللة حمراء ذات أسرة ... لها حبك كأنها من وصائل - 11 - وقال أيضاً: أرانا موضعين لأمر غيب ... ونسحر بالطعام وبالشراب عصافير وذبان ودود ... وأجرأ من مجلحة الذئاب فبعض اللوم عاذلني فإني ... ستكفيني التجارب وانتسابي إلى عرق الثرى وشجت عروقي ... وهذا الموت يسلبني شبابي ونفسي سوف يسلبها وجرمي ... فيلحقني وسيكا بالتراب ألم أفض المطي بكل خرق ... أمق الطول لماع السراب وأركب في اللهام المجر حتى ... أنال مآكل القحم الرغاب وكل مكارم الأخلاق صارت ... إليه همتي وربه اكتسابي وقد طوفت في الآفاق حتى ... رضيت من الغنيمة بالإياب أبعد الحارث الملك ابن عمرو ... وبعد الخير حجر ذي القباب أرجي من صروف الدهر ليناً ... ولم تغفل عن الصم الهضاب وأعلم أنني عما قريب ... سأنشب في شبا ظفر وناب

كما لاقى أبي حجر وجدي ... ولا أنسى قتيلا بالكلاب - 12 - وقال: أماوي هل لي عندكم من معرس ... أم الصرم تختارين بالوصل نيأس أبيني لنا إن الصريمة راحة ... من الشك ذي المخلوجة المتلبس كأني ورحلي فوق أحقب قارح ... بشربة أوطاف بعرنان موجس تعشى قليلاً ثم أنحى ظلوفه ... يشير التراب عن مبيت ومكنس يهيل ويذري تربها ويثيره ... إثارة نباث الهواجر مخمس فبات على خد أحم ومنكب ... وضجعته مثل الأسير المكردس وبات إلى أرطأة حقف كأنها ... إذا التقتها غبية بيت معرس فصبحه عند الشروق غدية ... كلاب ابن مر أو كلاب ابن سنبس مغرثة زرقا كأن عيونها ... من الذمر والإيحاء نوار عضرس فأدبر يكسوها الرغام كأنها ... على الصمد والآكام جذوة مقبس وأيقن إن لاقينه أن يومه ... بذي الرمث إن ماوتنه يوم أنفس فأدركنه يأخذن بالساق والنسا ... كما شبرق الولدان ثوب المقدس وغورن في ظل الغضى وتركنه ... كقرم الهجان القادر المتشمس - 13 - وقال: ألما على الربع القديم بعسعسا ... كأني أنادي أو أكلم أخرسا فلو أن أهل الدار فيها كعهدنا ... وجدت مقيلاً عندهم ومعرسا فلا تنكروني إنني أنا ذاكم ... ليالي حل الحي غولاً فألعسا فإما تريثي لا أغمض ساعة ... من الليل إلا أن أكب فأنعسا تأوبي دائي القديم فغلسا ... أحاذر أن يرتد دائي فأنكسا فيا رب مكروب كررت وراءه ... وطاعنت عنه الخيل حتى تنفسا ويا رب يوم قد أروح مرجلا ... حبيباً إلى البيض الكواعب أملسا يرعن إلى صوتي إذا ما سمعنه ... كما ترعوي عيط إلى صوت أعيسا أراهن لا يحببن من قل ماله ... ولا من رأين الشيب فيه وقوسا وما خفت تبريح الحياة كما أرى ... تضيق ذراعي أن أقوم فألبسا فلو أنها نفس تموت جميعة ... ولكنها نفس تساقط أنفسا وبدلت قرحاً دامياً بعد صحة ... فيا لك من نعمى تحولن أبؤسا لقد طمح الطماح من بعد أرضه ... ليلبسني من دائه ما تلبسا ألا إن بعد العدم للمرء قنوة ... وبعد المشيب طول عمر وملبسا - 14 - وقال: لعمرك ما قلبي إلى أهله بحر ... ولا مقصر يوماً فيأتيني بقر ألا إنما الدهر ليال وأعصر ... وليس على شيء قويم بمستمر ليال بذات الطلح عند محجر ... أحب إلينا من ليال على أقر أعادي الصبوح عند هر وفرتني ... وليداً وهل أفنى شبابي غير هر إذا ذقت فاه قلت طعم مدامة ... معتقة مما تجيء به التجر هما نعجتان من نعاج تبالة ... لذي جؤذرين أو كبعض دمى هكر إذا قامتا تضوع المسك منهما ... نسيم الصبا جاءت بريح من القطر كأن التجار أصعدوا بسبيئة ... من الخص حتى أنزلوها على يسر فلما استطابا صب في الصحن نصفه ... وشجت بماء غير طرق ولا كدر بماء سحاب زل عن متن صخرة ... إلى بطن أخرى طيب ماؤها خصر لعمرك ما إن ضرني وسط حمير ... وأقوالها إلا المخيلة والشكر وغير الشقاء المستبين فليتني ... أجر لساني يوم ذلكم مجر لعمرك ما سعد بخلة آثم ... ولا نأنإ يوم الحفاظ ولا حصر لعمري لقوم قد نرى أمس فيهم ... مرابط للأمهار والعكر الدثر أحب إلينا من أناس بقنة ... يروح على آثار شأنهم النمر يفاكهنا سعد ويغدو لجمعنا ... بمثنى الزقاق المترعات وبالجزر لعمري لسعد حيث حلت دياره ... أحب إلينا منك فافرس حمر وتعرف فيه من أبيه شمائلاً ... ومن خاله ومن يزيد ومن حجر سماحة ذا وبر ذا ووفاء ذا ... ونائل ذا إذا صحا وإذا سكر - 15 - وقال يجيب سبيع بن عوف بن مالك: لمن الديار غشيتها بسحام ... فعمايتين فهضب ذي أقدام فصفا الأطيط فصاحتين فغاضر ... تمشي النعاج بها مع الآرام! دار لهند والرباب وفرتني ... وبليس قبل حوادث الأيام عوجا على الطلل المحيل لاننا ... نبكي الديار كما بكى ابن خذام

أو ما ترى أظعانهن بواكراً ... كالنخل من شوكان حين صرام حور تعلل بالعبير جلودها ... بيض الوجوه نواعم الأجسام فظلت في دمن الديار كأنني ... نشوان باكره صبوح مدام أنف كلون دم الغزال معتق ... من خمر عانة أو كروم شبام وكأن شاربها أصاب لسانه ... موم يخالط جسمه بسقام ومجدة نسأتها فتكمشت ... رتك النعامة في طريق حام تخدى على العلات سام رأسها ... روعاء منسمها رثيم دام جالت لتصرعني فقلت لها اقصري ... إني امرؤ صرعي عليك حرام فجزيت خير جزاء ناقة واحد ... ورجعت سالمة القرا بسلام وكأنما بدر وصيل كتيفة ... وكأنما من عاقل أرمام أبلغ سبيعاً إن عرضت رسالة ... إني كهمك إن عشوت أمامي أقصر إليك من الوعيد فإنني ... مما ألاقي لا أشد حزامي وأنا المنبه بعد ما قد نوموا ... وأنا المعالن صفحة النوام وأنا الذي عرفت معد فضله ... ونشدت عن حجر ابن أم قطام وأنازل البطل الكريه نزاله ... وإذا أناضل لا تطيش سهامي خالي ابن كبشة قد علمت مكانه ... وأبو يزيد ورهطه أعمامي وإذا أذيت ببلدة ودعتها ... ولا أقيم بغير دار مقام - 16 - وقال: يا دار ماوية بالحائل ... فالسهب فالخبتين من عاقل صم صداها وعفا رسمها ... واستعجمت عن منطق السائل قولا لدودان عبيد العصا ... ما غركم بالأسد الباسل قد قرت العينان من مالك ... ومن بني عمرو ومن كاهل ومن بني غنم بن دودان إذ ... نقذف أعلاهم على السافل نطعنهم سلكي ومخلوجة ... لفتك لأمين على نابل إذ هن أقساط كرجل الدبى ... أو كقطا كاظمة الناهل حتى تركناهم لدى معرك ... أرجلهم كالخشب الشائل حلت لي الخمر وكنت امرأ ... عن شربها في شغل شاغل فاليوم أسقى غير مستحقب ... إثماً من الله ولا واغل - 17 - وقال: رب رام من بني ثعل ... مثلج كفيه في قتره عارض زوراء من نشم ... غير باناة على وتره قد أتته الوحش واردة ... فتنحى النزع في يسره فرماها في فرائصها ... بإزاء الحوض أو عقره برهيش من كنانته ... كتلظي الجمر في شرره راشه من ريش ناهضة ... ثم أمهاه على حجره فهو لا تنمى رميته ... ماله لا عد من نفره مطعم للصيد ليس له ... غيرها كسب على كبره وخليل قد أفارقه ... ثم لا أبكي على أثره وابن عم قد تركت له ... صفو ماء الحوض عن كدره وحديث الركب يوم هنا ... وحديث ما على قصره - 18 - وقال: يا هند لا تنكحي بوهة ... عليه عقيقته أحسبا مرسعة بين أرساغه ... به عسم يبتغي أرنبا ليجعل في رجله كعبها ... حذار المنية أن يعطبا ولست بخزرافة في القعود ... ولست بطياخة أحدبا ولست بذي رثية إفر ... إذا قيد مستكرهاً أصحبا وقالت بنفسي شباب له ... ولمته قبل أن يشجبا وإذ هي سوداء مثل الفحيم ... تغشى المطانب والمنكبا - 19 - وقال في قتل شرحبيل بن عمرو بن حجر عمه ويهجو البراجم من بني تميم ويربوعاً ودارما: ألا قبح الله البراجم كلها ... وجدع يربوعاً وعفر دارما وآثر بالملحاة آل مجاشع ... رقاب إماء يقتنين المفارما فما قاتلوا عن ربهم وربيبهم ... ولا آذنوا جاراً فيظفر سالما وما فعلوا فعل العوير بجاره ... لدى باب هند إذ تجرد قائما - 20 - وقال يمدح العوير بن شجنة وقؤمة بني عوف: إن بني عوف ابتنوا حسبا ... ضيعه الدخللون إذ غدروا إدوا إلى جارهم خفارته ... ولم يضع بالمغيب من نصروا لم يفعلوا فعل آل حنظلة ... إنهم جير بئس ما ائتمروا لا حميري وفي ولا عدس ... ولا أست عير يحكها النفر لكن عوير وفي بذمته ... لا عور شانه ولا قصر - 21 - وقال حين بلغه أن بني أسد قتلت أباه: تالله لا يذهب سيخي باطلا حتى أبير مالكاً وكاهلا القاتلين الملك الحلاحلا

خير معد حسباً ونائلا يا لهف هند إذ خطئن كاهلا نحن جلبنا القرح القوافلا يحملننا والأسل النواهلا مستفرمات بالحصى جوافلا تستنفر الأواخر الأوائلا - 22 - وقال لما ذهبت إبله: ألا إلا تكن إبل فمعزى ... كأن قرون جلتها العصي وجاد لها الربيع بواقصات ... فآرام وجاد لها الولي إذا مشت حوالبها أرنت ... كأن الحي صبحهم نعي تروح كأنها مما أصابت ... معلقة بأحقبها الدلي فتوسع أهلها أقطاً وسمناً ... وحسبك من غنى شبع وري - 23 - وقال حين غزا بني أسد فأخطأهم وأوقع ببني كنانة وهو لا يدري: ألا يا لهف هند إثر قوم ... هم كانوا الشفاء فلم يصابوا وقاهم جدهم ببني أبيهم ... وبالأشقين ما كان العقاب وأفلتهن علباء جريصاً ... ولو أدركنه صفر الوطاب - 24 - وقال يمدح المعلى أحد بني تميم ب- 24 -ن ثعلبة من جديلة طيئ وكان أجاره والمنذر بن ماء السماء يطلبه فمنعه ووفى له: كأني إذ نزلت على المعلى ... نزلت على البواذخ من شمام فما ملك العراق على المعلى ... بمقتدر ولا ملك الشآم أشد نشاص ذي القرنين حتى ... تولى عارض الملك الهمام أقر حشا امرئ القيس بن حجر ... بنو تيم مصابيح الظلام - 25 - وقال يمدح طريف بن مالك: لنعم الفتى تعشو إلى ضوء ناره ... طريف بن مال ليلة الجوع والخصر إذا البازل الكوماء راحت عشية ... تلاوذ من صوت المبسين بالشجر - 26 - وقال يصف تقلب الزمان ودورانه: أبعد الحارث الملك بن عمرو ... له ملك العراق إلى عمان مجاورة بن شمحى بن جرم ... هوانا ما أتيح من الهوان ويمنعها بنو شمحى بن جرم ... معيزهم خانك ذا الحنان - 27 - وقال يصف الغيث ديمة هطلاء فيها وطف ... طبق الأرض تحرى وتدر تخرج الود إذا ما أشجدت ... وتواريه إذا ما تشتكر وترى الضب خفيفاً ماهراً ... ثانياً برثنه ما ينعفر وترى الشجراء في ربقه ... كروس قطعت فيها الخمر ساعة ثم انتحاها وابل ... ساقط الأكناف واه منهمر راح تمريه الصبا ثم انتحى ... فيه شؤبوب جنوب منفجر ثج حتى ضاق عن آذيه ... عرض خيم فجفاف فيسر قد غدا يحملني في أنفه ... لاحق الإطلين محبوك ممر - 28 - وقال ينازع الحارث التوءم اليشكري قال امرؤ القيس: أحار ترى بريقاً حب وهناً فقال الحارث بن التوءم: كنار مجوس تستعر استعارا ثم قال امرؤ القيس: أرقت له ونام أبو شريح فقال الحارث: إذا ما قلت قد هدأ استطارا فقال امرؤ القيس: كان هزيزه بوراء غيب فقال الحارث: عشار وله لاقت عشارا فقال امرؤ القيس: فلما أن دنا لقفا أضاخ فقال الحارث: وهت أعجاز ريقه فحارا فقال امرؤ القيس: فلم يترك بذات السر ظبيا فقال الحارث: ولم يترك بجلهتها حمارا - 29 - وقال: أحار بن عمر وكأني خمر ... ويعدوا على المرء ما يأتمر لا وأبيك ابنة العامر ... ي لا يدعي القوم أني أفر تميم بن مر وأشياعها ... وكندة حولي جميعاً صبر إذا ركبوا الخيل واستلأموا ... تحرقت الأرض واليوم قر تروح من الحي أم تبتكر ... وماذا عليك بأن تنتظر أمرخ خيامهم أم عشر ... أم القلب في إثرهم منحدر وفيمن أقام عن الحي هر ... أم الظاعنون بها في الشطر وهر تصيد قلوب الرجال ... وأفلت منها ابن عمرو حجر رمتني بسهم أصاب الفؤاد ... غداة الرحيل فلم أنتصر فأسبل دمعي كفض الجمان ... أو الدر رقراقه المنحدر وإذ هي تمشي كمشي النزي ... ف يصرعه بالكثيب البهر برهرهة رؤدة رخصة ... كخرعوبة البانة المنفطر فتور القيام قطيع الكلا ... م تفتر عن ذي غروب خصر كأن المدام وصوب الغمام ... وريح الخزامى ونشر القطر يعل به برد أنيابها ... إذا طرب الطائر المستحر فبت أكابد ليل التما ... م والقلب من خشية مقتشعر فلما دنوت تسديتها ... فثوباً نسيت وثوباً أجر

ولم يرنا كالئ كاشح ... ولم يفش منا لدى البيت سر وقد رابني قولها يا هنا ... هـ ويحك ألحقت شراً بشر وقد اغتدى معي القانصان ... وكل بمربأة مقتفر فيدركنا فغم داجن ... سميع بصير طلوب نكر ألص الضروس حتى الضلوع ... تبوع طلوب نشيط آشر فأنشب أظفاره في النسا ... فقلت هبلت ألا تنتصر فكر إليه بمبراته ... كما خل ظهر اللسان المجر فظل يرنح في غيطل ... كما يستدير الحمار النعر وأركب في الروع خيفانة ... كسا وجهها سعف منتشر لها حافز مثل قعب الولي ... د ركب فيه وظيف عجر لها ثنن كخوافي العقا ... ب سود يفئن إذا تزبئر وساقان كعباهما أصمعا ... ن لحم حماتيهما منبتر لها عجز كصفاة المسي ... ل أبرز عنها جحاف مضر لها ذنب مثل ذيل العروس ... تسد بها فرجها من دبر لها متنتان خظاتاكما ... أكب على ساعديه النمر لها عذر كقرون النسا ... ء ركبن في يوم ريح وصر وسالفة كسحوق الليا ... ن أضرم فيها الغوى السعر لها جبهة كسراة المج ... ن حذفه الصانع المقتدر لها منخر كوجار الضباع ... فمنه تريح إذا تنبهر وعين لها حذرة بدرة ... وشقت مآقيها من أخر إذا أقبلت قلت دباءة ... من الخضر مغموسة في الغدر وإن أدبرت قلت أثفية ... ململمة ليس فيها أثر وإن أعرضت قلت سرعوفة ... لها ذنب خلفها مسبطر وللسوط فيها مجال كما ... تنزل ذو برد منهمر لها وثبات كصوب السحاب ... فواد خطاء وواد مطر وتعدو كعدو نجاة الظبا ... ء أخطأها الحاذف المقتدر - 30 - وقال: ألا انعم صباحاً أيها الربع وانطق ... وحدث حديث الركب إن شئت واصدق وحدث بأن زالت بليل حمولهم ... كنخل من الأعراض غير منبق جعلن حوايا واقتعدن قعائدا ... وخففن من حوك العراق المنمق وفوق الحوايا غزلة وجآذر ... تضمخن من مسك ذكي وزنبق فأتبعتهم طرفي وقد حال دونهم ... غوارب رمل ذي ألاء وشبرق على إثر حي عامدين لنية ... فحلوا العقيق أو ثنية مطرق فعزيت نفسي حين بانوا بجسرة ... أمون كبنيان اليهودي خيفق إذا زجرت ألفيتها مشمعلة ... تنيف بعذق من غرس ابن معنق تروح إذا راحت رواح جهامة ... بإثر جهام رائح متفرق كأن بها هراً جنيباً تجره ... بكل طريق صادفته ومأزق كأني ورحلي والقراب وتمرقي ... يرفئ ذي زوائد نقنق تروح من أرض لأرض نطية ... لذكرة قيض حول بيض مفلق يجول بآفاق البلاد مغربا ... وتسحقه ريح الصبا كل مسحق وبيت يفوح المسك في حجراته ... بعيد من الآفات غير مروق دخلت على بيضاء جم عظامها ... تعفى بذيل الدرع إذ جئت مودقي وقد ركدت وسط السماء نجومها ... ركود نوادي الربرب المتورق وقد أغتدي قبل العطاس بهيكل ... شديد مشك الجنب فعم المنطق بعشا ربيئاً قبل ذاك مخملاً ... كذئب الغضى يمشي الضراء ويتقي فظل كمثل الخشف يرفع رأسه ... وسائره مثل التراب المدقق وجاء خفياً يسفن الأرض بطنه ... ترى الترب منه لاصقاً كل ملصق وقال ألا هذا صوار وعانة ... وخيط نعام.. يرتعي متفرق فقمنا بأشلاء اللجام ولم نقد ... إلى غصن بان ناضر لم يحرق نزاوله حتى حملنا غلامنا ... على ظهر ساط كالصليف المعرق كأن غلامي إذ علا حال متنه ... على ظهر باز في السماء محلق رأى أرنباً فانقض يهوى أمامه ... إليها وجلاها بطرف ملقلق فقلت له صوب ولا تجهدنه ... فيدرك من أعلى القطاه فتنزلق فأدبرن كالجزع المفصل بينه ... بجيد الغلام ذي القميص المطوق وأدركهن ثانياً من عنانه ... كغيث العشي الأقهب المتودق فصاد لنا عيراً وثوراً وخاضباً ... عداء ولم ينضح بماء فيعرق وظل غلامي يضجع الرمح حوله ... لكل مهاة أو لأحقب سهوق وقام طوال الشخص إذ يخضبونه ... قيام العزيز الفارسي المنطق

فقلنا ألا قد كان صيد لقانص ... فخبوا علينا كل ثوب مزرق وظل صحابي يشتوون بنعمة ... يصفون غارا باللكيك الموشق ورحنا كأنا من جؤاثى عشية ... نعالي النعاج بين عدل ومشنق ورحنا بكابن الماء يجنب وسطنا ... تصوب فيه العين طوراً وترتقي وأصبح زهلولاً يزل غلامنا ... كقدح النضي باليدين المفوق كأن دماء الهاديات بنحره ... عصارة حناء بشيب مفرق - 31 - وقال: أمن ذكر سلمى إذ نأتك تنوص ... فتقصر عنها خطوة وتبوص وكم دونها من مهمة ومفازة ... وكم أرض جدب دونها ولصوص تراءت لنا يوماً بجنب عنيزة ... وقد حان منها رحلة فقلوص بأسود ملتف الغدائر وارد ... وذي أشر تشوفة وتشوص منابته مثل السدوس ولونه ... كشوك السيال فهو عذب يفيض فهل تسلين الهم عنك شملة ... مداخلة صم العظام أصوص تظاهر فيها الني لا هي بكرة ... ولا ذات ضغن في الزمام قموص أؤوب نعوب لا يواكل نهزها ... إذا قيل سير المدلجين نصيص كأني ورحلي والقراب وغرقي ... إذا شب للمرو والصغار وبيص على نقنق هيق له ولعرسه ... بمنعرج الوعساء بيض رصيص إذا راح للأدحي أوباً يفنها ... تحاذر من إدراكه وتحيص أذلك أم جون يطارد آتناً ... فأربى حملهن دروص طواء اضطمار الشد فالبطن شارب ... معالي إلى المتنين فهو خميص بحاجبه كدح من الضرب جالب ... وحاركه من الكدام حصيص كأن سرته وجدة ظهره ... كنائن يجري بينهن دليص ويأكلن من قو لعاعاً وربة ... تجبر بعد الأكل فهو نميص تطير عفاء من نسيل كأنه ... مسدس أطارته الرياح وخوص تصيفها حتى إذا لم يسغ لها ... حلي بأعلى حائل وقصيص تغالبن فيه الجزء لولا هواجر ... جنادبها صرعى لهن فصيص أرن عليها قارباً وانتحت له ... طوالة أرساغ اليدين نحوص فأوردها من آخر الليل مشرباً ... بلائق خضراً ماؤهن قليص فيشربن أنفاساً وهن خوائف ... وترعد منهن الكلى والفريص فأصدرها تعلو النجاد عشية ... أقب كمقلاء الوليد خميص فجحش على أدبارهن مخلف ... وجحش لدى مكرهن وقيص وأصدرها بادي النواجذ قارح ... أقب كسكر الأندري محيص - 32 - وقال: تطاول ليلك بالأثمد ... نام الخلي ولم ترقد وبات وباتت له ليلة ... كليلة ذي العائر الأرمد وذلك من نبأ جاءني ... وحبرته عن أبي الأسود ولو عن نثا غيره جاءني ... وجرح اللسان كجرح اليد لقلت من القول ما لايزا ... ل يؤثر عني يد المسند بأي علاقتنا ترغبون ... أعن دم عمرو على مرثد فإن تدفنوا الداء لا تخفه ... وإن تبعثوا الحرب لا نقعد فإن تقتلونا نقتلكم ... وإن تقصدوا لدم نقصد متى عهدنا بطعان الكما ... ة والحمد والمجد والسؤدد وبني القباب وملء الجفا ... ن والنار والحطب المفاد وأعددت للحرب وثابة ... جواد المحثة والمرود سبوحاً جموحاً وإحضارها ... كمعمعة السعف الموقد ومشدودة السك موضونة ... تضاءل في الطي كالمبرد تفيض على المرء أردانها ... كفيض الأتي على الجدجد ومطرداً كرشاء الجرو ... ر من خلب النخلة الأحرد وذا شطب غامضاً كلمه ... إذا صاب بالعظم لم ينأد - 33 - وقال: حي الحمول بجانب العزل ... إذ لا يلائم شكلها شكلي ماذا يشق عليك من ظعن ... إلا صباك وقلة العقل منيتنا بغد وبعد غد ... حتى بخلت كأسوأ البخل يا رب غانية لهوت بها ... ومشيت متئداً على رسلي لا استقيد لمن دعا لصبا ... قسراً ولا أصطاد بالختل وتنوفة جرداء مهلكة ... جاوزتها بنجائب فتل فيبتن ينهشن الجبوب بها ... وأبيت مرتفقاً على رحلي متوسداً عضباً مضاربه ... في متنه كمدبة النمل يدعى صقيلاً وهو ليس له ... عهد بتمويه ولا صقل عفت الديار فما بها أهلي ... ولوت شموس بشاشة البذل

علقمة الفحل الشاعر الجاهلي

نظرت إليك بعين جازئة ... حوراء حانية على طفل فلها مقلدها ومقتلها ... ولها عليه سراوة الفضل أقبلت مقتصداً وراجعني ... حلمي وسدد للتقى فعلي الله أنجدح ما طلبت به ... والبر خير حقيبة الرحل ومن الطريقة جائر وهدى ... قصد السبيل ومنه ذو دخل إني لأصرم من يصارمني ... وأجد وصل من ابتغى وصلي وأخي إخاء ذي محافظة ... سهل الخليقة ماجد الأصل حلو إذا ما جئت قال ألا ... في الرحب أنت ومنزل السهل نازعته كأس الصبوح ولم ... أجهل مجدة عذرة الرجل إني بحبلك واصل حبلي ... وبريش نبلك رائش نبلي ما لم أجدك على هدى أثر ... يقرو مقصك قائف قبلي وشمالي ما قد علمت وما ... نبحت كلابك طارقاً مثلي - 34 - وقال: جزعت ولم أجزع من البين مجزعا ... وعزيت قلباً بالكواعب مولعا وأصبحت ودعت الصبا غير أنني ... أراقب خلات من العيش أربعا فمنهن قولي للندامى ترفقوا ... يداجون نشاجاً من الخمر مترعا ومنهن ركض الخيل ترجم بالقنا ... يبادرن سرباً آمناً أن يفزعا ومنهن نص العيس والليل شامل ... تيمم مجهولاً من الأرض بلقعا خوارج من برية نحو قرية ... يجددن وصلاً أو يقربن مطمعا ومنهن سوفي الخود قد بلها الندى ... تراقب منظوم التمائم مرضعا تعز عليها ريبتي ويسوءها ... بكاه فتثنى الجيد أن يتضوعا بعثت إليها والنجوم طوالع ... حذاراً عليها أن تقوما فتسمعا فجاءت قطوف المشي هيابة السرى ... يدافع ركناها كواعب أربعا يزجينها مشي النزيف وقد جرى ... صباب الكرى في مخها فتقطعا تقول وقد جردتها من ثيابها ... كما رعت مكحول المدامع أتلعا وجدك لو شيء أتانا رسوله ... سواك ولكن لم نجد لك مدفعا فبتنا تسد الوحش عنا كأننا ... قتيلان لم يعلم لنا الناس مضرعا تجافى عن الماثور بيني وبينها ... وتدنى على السايري المضلعا إذا أخذتها هزة الروع أمسكت ... بمنكب مقدام على الهول أروعا علقمة الفحل الشاعر الجاهلي ترجمة الشاعر هو علقمة بن عبدة، بن النعمان التميمي، من نجد وسادات تميم وشعرائهم المشهورين المتوفي عام 561 م. شب وترعرع في بادية نجد وكان للبيئة أثرها في الشاعر فأرهفت حسه وصقلت خياله وجلت قريحته، وألهمته الشعر الرصين الرائع الديباجة، الفخم الأسلوب الذي يمتلك المشاعر ويستلب الحواس الحقيق بأن يلقب صاحبه بالفحل. وسبب تلقيبه بهذا اللقب كما يقال -أنه ابن امرأ القيس وخلفه على زوجته بعد تحاكمهما إليها. وتفصيل الخبر أن علقمة ضاف امرأ القيس - وصديقاً له - فتذاكرا القريض، وادعاه كل منهما على صاحبه، ولج في ذلك فقالت لهما "أم جندب" وكانت سليمة الذوق: قولا شعراً تصفان فيه الخيل وتذكران الصيد على قافية واحدة وروى واحد، لأنظر أيكما أشعر فرضيا بحكمها وأنشداها على البديهة قصيدتين كبيرتين وأول قصيدة امرئ القيس: خليلي مرابي على أم جندب ... لنقضي لبانات الفؤاد المعذب وأول قصيدة علقمة: ذهب من الهجران في غير مذهب ... ولم يك حقاً كل هذا التجنب ولما فرغا من إنشادهما قالت أم جندب لبعلها علقمة أشعر منك. فقال وهو يكاد يتميز من الغيظ: وكيف ذاك؟ قالت لأنك قلت: فللسوط ألهوب وللساق ذرة ... وللزجر منه وقع أهوج منعب فزجرت فرسك وجهدته بسوطك ومريته بساقك، وقال علقمة: فأدركهن ثانياً من عنانه ... يمر كمر الرائح المتحلب فأدرك الطريدة وهو ثان من عنان فرسه. لم يضربه بسوط ولا مراه بساق، ولا زجره فتزبد وجهه. وقال لها ما هو بأشعر مني ولكنك له وامق وطلقها فخلفه عليها علقمة وسمي لذلك الفحل. ويروى أن علقمة لقب بالفحل تمييزاً له عن سمي من قومه هو علقمة بن سهل أحد بني ربيعة بن مالك التميمي، وكان شاعراً مثله، ومن شعره: يقول رجال من صديق وصاحب ... أراك أبا الوضاح أصبحت ثاويا فلن يعدم الباقون قبراً لجثتي ... ولن يعدم الميراث من المواليا

وخفت عيون الباكيات وأقبلوا ... إلى ما لهم قد بنت عنه بماليا حراصاً على ما كنت أجمع قبلهم ... هنيئاً لهم جمعي وما كنت واليا وقد وفد علقمة على الحارث الوهاب سيد بني غسان ملك الشام ومدحه بقصيدته طحا بك قلب في الحسان طروب ... يعيد الشباب عصر حان مشيب وكان أخو علقمة شاس أسيراً عند الحارث مع عدة رجال من بني تميم فطلب علقمة إطلاقهم وكان سبب أسرهم على ما يروى أن الحارث الغساني خطب إلى المنذر ابنته هنداً فوعده بها وكانت هند لا تريد الرجال فصنعت بجلدها شبه البرص فندم المنذر على تزويجها وأمسكها عن ملك غسان فنشبت الحرب بسبب ذلك وأسر خلق كثير من أصحاب المنذر منهم شاس بن عبدة أخو علقمة فلما مدح علقمة الحارث بقصيدته المذكورة وطلب منه فك أسر أخيه لبى الملك دعاءه وأطلق له أخاه وكل الأسرى من قبيلته. ومن شعر علقمة الجيد قصيدة مطلعها: هل ما علمت وما استودعت مكتوب ... أم حبلها إذ نأتك اليوم مصروم أم هل كبير بكى لم يقض عبرته ... أثر الأحبة يوم البين مشكوم والنقاد يعجبون بشعر علقمة إعجاباً شديداً. اجتمع الزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهتم والمخبل السعدي وعلقمة الفحل قبل أن يسلموا وبعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، فنحروا جزوراً واشتروا خمراً ببعير، وجلسوا يشوون ويأكلون، فقال أحدهم وقد لعبت برأسه سورة الحميا: لو أن قوماً طاروا من جودة أشعارهم لطرنا. وقال كل منهم لصاحبه أنا أشعر منك، ثم تحاكموا إلى أول من يطلع عليهم. ومن غرائب المصادفات أن يكون أول طالع حكم العرب وقاضيها الحصيف الرأي ربيعة بن حذار الأسدي. ولما طلع رحبوا به وقالوا له: أخبرنا أينا أشعر؟ قال أخاف أن تغضبوا. فأمنوه من ذلك. فقال: أما أنت يا زبرقان فإن شعرك كلحم لا أنضج فيؤكل؛ ولا ترك نيئاً فينتفع به. وأما أنت يا عمرو فإن شعرك كبرد حبرة يتلألأ فيه البصر فكلما أعدته نقص. وأما أنت يا مخبل فشعرك شهب من نار الله يلقيها على من يشاء. وأما أنت يا علقمة فإن شعرك كمزادة قد أحكم خرزها فليس يقطر منها شيء. وقال ابن الأعرابي (150-240 هـ) لم يصف أحد قط الخيل إلا احتاج إلى أبي دؤاد، ولا وصف الخمر إلا احتاج إلى أوس بن حجر ولا وصف أحد النعامة إلا احتاج إلى علقمة بن عبدة ولا اعتذر أحد في شعره إلا احتاج إلى النابغة الذبياني. وقال أبو عبد الله بن سلام الجمحي المتوفي عام 231 هـ في كتابه طبقات الشعراء لابن عبدة ثلاث روائع جياد لا يفوقهن شعر: الأولى "طحا بك قلب في الحسان طروب" والثانية "ذهبت من الهجران غير مذهب"، والثالثة "هل ما علمت وما استودعت مكتوم". وقد شارك ابن سلام في رأيه هذا ابن رشيق القيرواني في كتابه "العمدة" وقد ذكره ابن سلام في الطبقة الرابعة من شعراء الجاهلية. وقال ابن سعيد المغربي (610-693 هـ) في كتابه "عنوان المرقصات والمطربات" "معاني الغوص في شعر علقمة معدومة، وأقرب ما وقع له قوله: أوردتها وصدور العبس مسنفة ... والصبح بالكوكب الدري منحور يشير إلى أن كوكب الصبح مثل سنان الحربة طعن به فسال منه دم الشفق وإذا تبين هذا المعنى كان من المرقصات.. وقوله: يحملن أترجة نضح العبير بها ... كأن تطيابها في الأنف مشموم يشير إلى أن ما نال هذه المرأة من مضض السير واصفرار لونها كالأترجة وأنها كلما تحركت تزيد طيباً! ومنه أخذ ابن الرمى وغيره تشبيه المرأة بالروضة لطيب ثغرها". وقال أبو عمرو بن العلاء (68-154 هـ) أعلم الناس بالنساء علقمة بن عبدة حيث يقول: فإن تسألوني بالنساء فإنني ... بصير بأدواء النساء طبيب إذا شاب رأس المرء أو قل ماله ... فليس له من ودهن نصيب يردن ثراء المال حيث علمنه ... وشرخ الشباب عندهن عجيب وكانت العرب - كما يقول حماد الراوية - تعرض أشعارها على قريش، فما قبلوا منها كان مقبولاً، وما ردوا منها كان مردوداً، فقدم علقمة بن عبدة فأنشدهم قصيدته التي أولها: هل ما علمت وما استودعت مكتوم؟ ... أم حبلها إذ نأتك اليوم مصروم فقالوا: هذا سمط الدهر.. ثم عاد إليهم في العام المقبل فأنشدهم درته التي مطلعها "طحابك" فقالوا: هاتان سمطا الدهر.

شرح المختار من شعر علقمة

وقد عمر علقمة طويلاً، وتوفي عام 561، ويروي بعض الباحثين أنه عمر بعد ذلك طويلاً وتوفي 265؛ وله أبناء شعراء منهم خالد، وعلي، ولعلي ابن شاعر اسمه عبد الرحمن. شرح المختار من شعر علقمة - 1 - قال علقمة بن عبدة يمدح الحارث بن أبي شمر الغساني: طحا بك قلب في الحسان طروب ... بعيد الشباب عصر حان مشيب يكلفني ليلي وقد شط وليها ... وعادت عواد بيننا وخطوب منعمة لا يستطاع كلامها ... على بابها من أن تزار رقيب إذا غاب عنها البعل لم تفش سره ... وترضى إياب البعل حين يؤوب فلا تعدلي بيني وبين مغمر ... سقتك روايا المزن حيث تصوب سقاك يمان ذو حي وعارض ... تروح به جنح العشي جنوب وما أنت أم ما ذكرها ربعية ... يخط لها من ثرمداء قليب فإن تسألوني بالنساء فإنني ... بصير بأدواء النساء طبيب إذا شاب رأس المرء أو قل ماله ... فليس له من ودهن نصيب يردن ثراء المال حيث علمنه ... وشرخ الشباب عندهن عجيب فدعها وسل الهم عنك بحسرة ... كهمك فيها بالرداف خبيب وناجية أفنى ركيب ضلوعها ... وحاركها تهجر فدؤوب وتصبح عن غب السرى وكأنها ... مولعة تخشى القنيص شبوب تعفق بالأرطى لها وأرادها ... رجال فبذت نبلهم وكيب إلى الحارث الوهاب أعملت ناقتي ... لكلكلها والقصر بين وجيب لتبلغني دار امرئ كان نائياً ... فقد قربتني من نداك قروب إليك "أبيت اللعن" كان وجيفها ... بمشتبهات هو لهن مهيب تتبع أفياء الظلال عشية ... على طرق كأنهن سبوب هداني إليك الفرقدان ولاحب ... له فوق أصراء المتان علوب بها جيف الحسرى فأما عظامها ... فبيض، وأما جلدها فصليب فأوردتها ماء كأن جمامه ... من الأجن حناء معاً وصبيب تراد على دمن الحياض فإن تعف ... فإن المندى رحلة فركوب وأنت امرؤ أفضت إليك أمانتي ... وقبلك ربتني فضعت ربوب فأدت بنو كعب بن عوف ربيبها ... وغودر في بعض الجنود ربيب فوالله لولا فارس الجون منهم ... لآبوا خزايا والإياب حبيب تقدمه حتى تغيب حجوله ... وأنت لبيض الدارعين ضروب مظاهر سربالي حديد عليهما ... عقيلاً سيوف مخذم ورسوب فجالدتهم حتى اتقوك بكبشهم ... وقد حان من شمس النهار غروب تجود بنفس لا يجاد بمثلها ... وأنت بها يوم اللقاء تطيب قاتل من غسان أهل حفاظها ... وهنب وقاس جالدت وشبيب تخشخش أبدان الحديد عليهم ... كما خشخشت يبس الحصاد جنوب كأن رحال الأوس تحت لبانه ... وما جمعت جل معاً وعنيب رغا فويهم سقب السماء فداحض ... بشكته لم يستلب وسليب كأنهم صابت عليهم سحابة ... صواعقها لطيرهن دبيب فلم تنج إلا شطبة بلجامها ... وإلا طمر كالقناة نجيب وإلا كمي ذو حفاظ كأنه ... بما ابتل من حد الظبات خضيب وفي كل حي قد خبطت بنعمة ... فحق لشأس من نداك ذنوب وما مثله في الناس إلا قبيله ... مساو ولا دان لذاك قريب فلا تحرمني نائلاً عن جنابة ... فإني امرؤ وسط القباب غريب فلست لإنسي ولكن لملاك ... تنزل من جو السماء يصوب - 2 - وقال علقمة أيضاً: هل ما علمت وما استودعت مكتوم ... أم حبلها إذ نأتك اليوم مصروم أم هل كبير بكى لم يقض عبرته ... إثر الأحبة يوم البين مشكوم لم أدر بالبين حتى أزمعوا طعناً ... كل الجمال قبيل الصبح مزموم رد الإماء جمال الحي فاحتملوا ... فكلها بالتزيديات معكوم عقلاً ورقماً تظل الطير تتبعه ... كأنه من دم الأجواف مدموم يحملن أترجة نضج العبير بها ... كأن تطيابها في الأنف مشموم كأن فارة مسك في مفارقها ... للباسط المتعاطي وهو مزكوم فالعين مني كأن غرب تحط به ... دعماء حاركها بالقنب محزوم قد عريت حقبة حتى استطف لها ... كتر كحافة كير القين ملموم كأن غسلة خطمي بمشفرها ... في الخد منها وفي اللحيين تلغيم

قد أدبر العر عنها وهي شاملها ... من ناصع القطران الصرف ترسيم تسقي مذانب قد زالت عصيفتها ... حدورها من أتي الماء مطموم من ذكر سلمى وما ذكرى الأوان لها ... إلا السفاه وظن الغيب ترجيم صفر الوشاحين ملء الدرع خرعبة ... كأنها رشأ في البيت ملزوم هل تلحقي بأولي القوم إذ شحطوا ... جلذية كأتان الضحل علكوم تلاحظ السوط شزراً وهي ضامرة ... كما توجس طاوي الكشح موشوم كأنها خاضب زعر قوائمه ... أجنى له باللوى شرى وتنوم يظل في الحنظل الخطبان ينقفه ... وما استطف من التنوم مخدوم فوه كشق العصا لأياً تبينه ... أسك ما يسمع الأصوات مصلوم حتى تذكر بيضات وهيجه ... يوم رذاذ عليه الريح مغيوم فلا تزيده في مشيه نفق ... ولا الزفيف دوين الشد مسؤوم يكاد منسمه يختل مقلته ... كأنه حاذر للنحس مشهوم يأوي إلى خرق زعر قرادتها ... كأنهن إذا بركن جرثوم وضاعة كعصي الشرع جؤجؤه ... كأنه يتناهى الروض علجوم حتى تلافى وقرن الشمس مرتفع ... أدحي عرسين فيه البيض مركوم يوجي إليها بإنقاض ونقنقة ... كما تراطن في أفدانها الروم صعل كأن جناحيه وجؤجؤه ... بيت أطافت به خرقاء مهجوم تحفه هقلة سطعاء خاضعة ... تجيبه بزمار فيه ترنيم بل كل قوم وإن عزوا وإن كثروا ... عريفهم بأثافي الشر مرجوم والجود نافية للمال مهلكة ... والبخل مبق لأهليه ومذموم والمال صوف قرار يلعبون به ... على نقادته واف ومجلوم والحمد لا يشترى إلا له ثمن ... مما تضن به النفوس معلوم والجهل ذو عرض لا يستراد له ... والحلم آونة في الناس معدوم ومطعم الغنم يوم الغنم مطعمه ... أنى توجه والمحروم محروم ومن تعرض للغربان يزجرها ... على سلامته لابد مشؤوم وكل بيت وإن طالت إقامته ... على دعائمه لابد مهدوم قد أشهد الشرب فيهم مزهور رنم ... والقوم تصرعهم صهباء خرطوم كاس عزيز من الأعناب عتقها ... الغض أربابها حانية حوم تشفى الصداع ولا يؤذيك صالبها ... ولا يخالطها في الرأس تدويم عانية قرقف لم تطلع سنة ... يجنها مدمج بالطين مختوم ظلت ترقرق في الناجود يصفقها ... وليد أعجم بالكتان مفدوم كأن إبريقهم ظبي على شرف ... مقدم بسبا الكتان ملثوم أبيض أبرزه للضح راقبه ... مقلد قضب الريحان مفعوم وقد غدوت على قرني يشيعني ... ماض أخو ثقة بالخير موسوم وقد علوت قتود الرحل يسفعني ... يوم تجيء به الجوزاء مسموم حام كأن أوار النار شامله ... دون الثياب ورأس المرء معموم وقد أقود أمام الحي سلهبة ... يهدي بها نسب في الحي مغلوم لا في شظاها ولا أرساغها عتب ... ولا السنابك أفناهن تقليم سلاءة كعصا النهدي غل بها ... ذو فيئة من نوى قران معجوم تتبع جوناً إذا ما هيجت زجلت ... كأن دفا على علياء مهزوم يهدي بها أكلف الخدين مختبر ... من الجمال كثير اللحم عبثوم إذا ترغم من حافاتها ربع ... حنت شغاميم في حافاتها كوم وقد أصاحب فتياناً طعامهم ... خضر المزاد ولحم فيه تنشيم وقد يسرت إذا ما الجوع كلفه ... معقب من قداح النبع مقروم لو ييسرون بخيل قد يسرت بها ... وكل ما يسر الأقوام مغروم - 3 - وقال علقمة أيضاً يعارض امرأ القيس: ذهبتَ من الهجران في غير مذهب ... ولم يك حقاً كل هذا التجنب ليالي لا تبلى النصيحة بيننا ... ليالي حلوا بالستار فغرب مبتلة كأن أنضاء حليها ... على شادن من صاحة متربب محال كأحواز الجراد ولؤلؤ ... من القلقى والكبيس الملوب إذا ألحم الواشون للشر بيننا ... تبلغ رس الحب غير المكذب وما أنت أم ما ذكرها ربعة ... تحل بأير أو بأكناف شربب أطعت الوشاة والمشاة بصرمها ... فقد أنهجت حبالها للتقضب وقد وعدتك موعداً لو وفت به ... كموعود عرقوب أخاه بيثرب

وقالت متى تبخل عليك بعثلل ... تشك وإن يكشف غرامك تدرب فقلت لها فيئ فما تستفزني ... ذوات العيون والبنان المخضب ففاءت كما فاءت من الآدم مغزل ... بيشة ترعى في أراك وحلب فعشنا بها من الشباب ملاوة ... فأنجح آيات الرسول المخبب فإنك لم تقطع لبانة عاشق ... بمثل بكور أو رواح مؤوب بمجفرة الجنبين حرف شملة ... كهمك مرقال على الأين دغلب إذا ما ضربت الدف أوصلت صولة ... ترقب مني غير أدنى ترقب بعين كمرآة الصناع تديرها ... لمحجرها من النصيف المنقب كأن بحادتها إذ ما تشذرت ... عثاكيل عذق من سميحة مرطب تذب به طوراً وطوراً تمره ... كذب البشير بالرداء الهذب وقد أغتدي والطير في وكناتها ... وماء الندى يجري على كل مذنب بمنجرد قيد الأوابد لاحه ... طراد الهوادي كل شأن معرب بغوج لبانيه ثم بريمه ... على نفث راق خشية العين مجلب كميت كلون الأرجوان نشأته ... لمع الرداء في الصوان المكعب ممر كعقد الأندري يزينه ... مع العتق خلق مفعم غير جأنب له حرتان تعرف العتق فيهما ... كسامعتي مذعورة وسط ربرب وجوف هواء تحت متن كأنه ... من الهضبة الخلقاء زحلوف ملعب قطاة تكردس المحالة شرفت ... إلى سند مثل الغيط الم1اب وغلب كأعناق الضباع مصيغها ... سلام النظى يغشى بها كل مركب وسمر يفلقن الظراب كأنها ... حجارة غيل وارسات بطحلب إذا ما افتصنا لم نخاتل بجنه ... ولكن نادى من بعبد ألا اركب أحاتفة لا يلعن الحي شخصه ... صبوراً على العلات غير مسبب إذا انفدوا زاداً فإن عنانه ... وأكرعه مستعملا حير مكسب رأينا شياهاً ترتعين خميلة ... كمشي العذارى في الملاء المهدب فينا تمارينا وعقد عذاره ... خرجن علينا كالجمار المثقب فأتبع أدبار الشياه بصادق ... حثيث كغيث الرائح المتحلب ترى الفأر عن مسترغب القدر لائحاً ... على جدد الصحراء من شد ملهب خفى الفأر من أنفاقه فكأنما ... تجلله شؤوب غيث منقب فظل لنيران الصريم غماغم ... يداعسهن بالنضي المعلب فهاو على حر الجبين ومتق ... بمدراته كأنها ذلق مشعب وعادى عداء بين ثور ونعجة ... وتيس شبوب كالهشيمة قرهب فقلنا ألا قد كان صند لقانص ... فخبوا علينا فضل برد مطنب فظل الأكف يختلفن بحاند ... إلى جؤجؤ مثل المداك المخضب كأن عيون الوحش حول خبائنا ... وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب ورحنا كأنامن جؤاثى عشية ... نعالي النعاج بين عدل ومحقب وراح كشاة الربل ينغض رأسه ... أذاة به من صائك متحلب وراح يباري في الجناب قلوصنا ... عزيزاً علينا كالجباب المسبب قال الأعلم: كمل جميع ما رواه الأصمعي من شعر علقمة، ونذكر قطعاً من شعره مما رواه أبو علي إسماعيل بن القاسم البغدادي (القالي) عن الطوسي وابن الأعرابي وغيرهما. - 4 - وقال في فكه أخاء شأسا: دافعته عنه بشعري إذ ... كان لقومي في الفداء جحد فكان فيه ما أتاك وفي ... تسعين أسرى مقرنين صفد دافع قومي في الكتيبة إذ ... طار لأطراف الطبات وقد فأصبحوا عند ابن جفنة في ال ... أغلال منهم والحديد عقد إذ مخنب في المخنبين وفي الن ... هكة غي بادئ ورشد - 4 - وقال علقمة أيضاً: تراءت وأستار من البيت دونها ... إلينا وحانت غيلة المتفقد بعيني مهاة يخدر الدمع منهما ... بريمين شتى من دموع وإثمد وجيد غزال شارد فردت له ... من الحلي سمطى لؤلؤ وزبرجد - 6 - وقال علقمة أيضاً أو علي بن علقمة في يوم الكلاب الثاني: ود نفير للمكاور أنهم ... بنجدران في شاء الحجار الموقر أسعيا إلى نجران في شهرناجر ... حفاة وأعيا كل أعيس مسفر وقرت لهم عيني بيوم حذنة ... كأنهم تذبيح شاء معتر عمدتم إلى شلو تنوذر قبلكم ... كثير عظام الرأس ضخم المذمر - 7 - وقال علقمة أيضاً:

النابعة الذبياني 535 - 604 م

وأخي محافظة طليق وجهه ... هش جررت له الشواء بمسعر من بازل ضربت بأبيض باتر ... بيدي أغر يجر فضل المئزر ورفعت راحلة كأن ضلوعها ... من نص راكبها سفائف عرعر حرجاً إذا هاج السراب على الصوى ... واستن في أفق السماء الأغبر - 8 - وقال في مولى له، وينسب هذا الشعر لابنه خالد: ومولى كمولى الزبرقان دملته ... كما دملت ساق تهاض بها وقر إذا ما أحالت والجبائر فوقها ... أتى الحول لا برء جبير ولا كسر تراه كأن الله يجدع أنفسه ... وعينيه إن مولاه ثاب له وفر ترى الشر قد أفنى دوائر وجهه ... كضب الكدى أفنى أنامله الجفر - 9 - وقال علقمة وينسب هذا الشعر لحفيده عبد الرحمن بن علي بن علقمة: وشامت بي لا تخفي عداوته ... إذا حمامى ساقته المقادير إذا تضمنني بيت برابية ... آبوا سراعاً وأمسى وهو مهجور فلا يغرنك جري الثوب معتجراً ... إني امرؤ في عند الجد تشمير كأنني لم أقل يوماً لعادية ... شدوا ولا فتية في موكب سيروا ساروا جميعاً وقد طال الوجيف بهم ... حتى بدا واضح الأقراب مشهور ولم أصبح جمام الماء طاوية ... بالقوم وردهم للخمس تبكير أوردتها وصدور العيس مسنفة ... والصبح بالكوكب الدري منحور تباشروا بعد ما طال الوجيف بهم ... بالصبح لما بدت منه تباشير بدت سوابق من أولاه نعرفها ... وكبره في سواء الليل مستور كمل المختار من شعر علقمة بن عبدة التميمي. النابعة الذبياني 535 - 604 م - 1 - هو زيادة بن معاوية من غيظ بن مرة من ذبيان من قيس من مضر؛ وكنيته أبو أمامة، ولقب بالنابغة لنبوغه في الشعر وهو كبير دفعة واحدة بعد أن أحكمته التجارب ومشى به السن وهو أحد الأشراف الذين غض الشعر منهم، ويعد من شعراء الطبقة الأولى مع امرئ القيس، وكانت تضرب له قبل بسوق عكاظ فتأتيه الشعراء تعرض عليه أشعارها فيفاضل بينهم. وكان النابغة من أشراف قومه، ومع تكسبه بالشعر فإنه كان يعتز بنفسه، لا كما صنع الأعشى. وكان يقصد الملوك ويمدحهم في غير صنعة فيجزلون له العطاء. اتصل بالنعمان بن المنذر أبي قابوس ملك الحيرة الذي تولى الملك من عام 580 - 602 م، ومدحه بقصائد رائعة كثيرة، فقربه النعمان إليه، وصار أثيراً عنده ومن ندمائه، وغمره بعطائه الجزل، حتى صار النابغة يأكل في صحاف الذهب والفضة، ثم غضب عليه.. وتختلف الروايات في سبب ذلك. قيل إن النابغة رأى زوجة النعمان "المتجردة" يوماً في حين غفلة فسقط نصيفها عن وجهها فاستترت بيدها وذراعها، فقال فيها قصيدته: أمن آل أمية رائح أو مغتدي ... عجلان ذا زاد وغير مزود فامتلأ النعمان غضباً وأوعد النابغة فهرب.. وقيل إن غضب النعمان عليه لأن أحد خصوم النابغة وهو عبد القيس التميمي ومرة بن سعد السعدي نظما هجاء في النعمان على لسان النابغة وأنشد النعمان أبياتاً منها: قبح الله ثم ثنى بلعن ... وارث الصائغ الجبان الجهولا من يضر الأدنى ويعجز عن ض ... ر الأقاصي ومن يخون الخليلا يجمع الجيش ذا الألوف ويغزو ... ثم لا يرزأ العدو فتيلا وكانت أم النعمان بنت صائغ من فدك - بلدة قريبة من المدينة - فنبر النابغة من ذلك الشعر، ولكنه خاف على نفسه فهرب إلى الشام. وقيل ان سبب وعد النعمان للنابغة أنه كان هو والمنخل اليشكري جالسين في مجلس النعمان ومعهم زوجته المتجردة، فقال النعمان للنابغة: صفها في شعرك. فقال قصيدته: أمن آل مية رائح أو مغتدي ... عجلان ذا زاد وغير مزود

فلحقت المنخل غيرة، فقال للنعمان: ما يستطيع أن يقول هذا الشعر إلا من عرف. فحقد النعمان على النابغة وعلم بذلك فخافه وهرب. وقيل إن النابغة وصف امرأة بقصيدته "يا دار مية بالعلياء فالسند" فوشى للنعمان أنه يعني زوجته المتجردة.. وأياً ما كان فقد كان لوشايات خصوم النابغة أثرها في تغير قلب النعمان وسخطه عليه، فهرب وأتى قومه، ثم شخص إلى ملوك غسان بالشام، وكانوا أعداء لملوك الحيرة، فاتصل النابغة بعمرو بن الحارث الأصغر ملك غسان ومدحه ومدح أخاه النعمان وظل لديه حتى مات، وملك أخوه النعمان، فأقام عنده أثيراً لديه. ولكنه كان يحن إلى بلاط النعمان بن المنذر ملك الحيرة، ويرسل إلى الملك قصائد من اعتذارياته الرائعة يتبرأ فيها مما رمى به ويعتذر مما كان. وتوالت اعتذاراته على النعمان فعفا عنه فعاد إليه وعاشره في الحيرة.. ويقال أن النابغة استجار ببعض المقربين لدى النعمان فكلموه في شأنه، حتى أمنه وأمر له بمائة بعير. ويقال أن النابغة علم بمرضه فلم يملك صبره وسار إليه فألفاه في مرضه فمدحه. ثم عوفي النعمان فأمنه وأقام عنده، وظل النابغة عظيماً شريفاً مكرماً عند الملوك والأمراء، وتوفي عام 604 م. - 2 - وفي الأغاني ترجمة طويلة له، وكذلك في الشعر والشعراء لابن قتيبة كما عرض له ابن سلام في طبقات الشعراء، وكذلك شعراء النصرانية، وكذلك صاحب كتاب تاريخ الأدب في العصر الجاهلي، وأخرج الأستاذ عمر الدسوقي كتاباً عنه، كما نشر عدد عنه في سلسلة "الروائع".. وعرض له صاحب الجمهرة، والمرزباني في الموشح، وكثير من العلماء، كما كتب عنه الزيات وجورجي زيدان وأصحاب الوسيط والمفصل، وسواهم. وشعر النابغة لطيف رقيق إذا تملكته عاطفة قوية من إشفاق أو حماسة أو رهبة كما ترى في أهاجيه ومدائحه واعتذارياته، وقيل عنه أشعر الناس إذا رهب وهو في اعتذارياته حزين عميق الحزن قلق مضطرب يداخله التشاؤم واليأس الشديد ذلك كله لأن خيال الشاعر دقيق واسع، يسمو إلى درجة عالية في إكمال الصورة وإيضاح المشابهات، يتوسع بالتشبيه، ويفسح له خياله المجال في التصوير، كما في وصفه للفرات أو لغيره. وتمتاز معانيه بالدقة والانسجام والتآلف والصدق والقرب من العقل والبعد عن التعقيد والغموض، مع مراعاة المخاطبين، ومع البصر بمواقع الكلام. وقد أجاد النابغة في المدح والاعتذار والعزل والفخر إجازة بالغة كما أجاد في الوصف والرثاء والحكمة إجادة دون ذلك. وأسباب إجادته في المدح معروفة منها حب المال، وخصب الخيال، وقوة الذكاء، وميله إلى التجويد والتنقيح، والتهذيب إلى غير ذلك من الأسباب. وإجادته في الاعتذار كذلك كان الباعث عليها الرهبة والخوف مع الرغبة والأمل. أما الوصف فقد أجاد في بعض دون البعض الآخر، فأجاد في وصف الثور والوحش والفرات وما إلى ذلك. وقال الأصمعي: لم يكن النابغة وزهير وأوس يحسنون صفة الخيل، ولكن طفيل الغنوي أحسن في صفة الخيل غاية الإحسان. - 3 - ويمتاز شعر النابغة ببلوغه غاية الحسن والجودة ونقاوته من العيوب وجودة مطالع قصائده وأواخرها. وكان البدو من أهل الحجاز يحفظون شعره ويفاخرون به لحسن ديباجته وجمال رونقه وجزالة لفظه وقلة تكلفه وليس له نظير في وصف الإحساسات النفسية كالخوف وما شابه ذلك. أجاد في المدح كما بلغ الغاية في الاعتذار واعتذارياته إلى النعمان من عيون الشعر العربي وهي فن جديد من فنون الشعر الجاهلي. وتبلغ غاية الجودة والإحسان ومنها قوله: نبئت أن أبا قابوس أوعدني ... ولا قرار على زأر من الأسد مهلاً فداء لك الأقوام كلهم ... وما أثمر من مال ومن ولد وقوله: أتاني أبيت اللعن أنك لمتني ... وتلك التي تستك منها المسامع مقالة أن قد قلت سوف أناله ... وذلك من تلقاء مثلك رائع فإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع وأنت ربيع ينعش الناس سيبه ... وسيف أعيرته المنية قاطع أبى الله إلا عدله ووفاءه ... فلا النكر معروف ولا العرف ضائع وقوله: أتاني أبيت اللعن أنك لمتني ... وتلك التي أهتم منها وأنصب فبت كأن العائدات فرشنني ... هراساً به يعلى فراشي ويقشب

حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وليس وراء الله للمرء مذهب ألم تر أن الله أعطاك سورة ... ترى كل ملك دونها يتذبذب فإنك شمس والملوك كواكب ... إذا طلعت لم يبد منهن كوكب وقد عده بعض العلماء من شعراء المعلقات ومطلع معلقته: يا دار مية بالعلياء فالسند ... أقوت وطال عليها سالف الأمد وتقع في واحد وخمسين بيتاً. وهي من قصائده الاعتذاريات، بدأها ببكاء الاطلاق كالمألوف من أشعار الجاهلية، ثم انتقل من ذلك إلى وصف ناقته: فقد عما ترى إذ لا ارتجاع له ... وانم القتود على عيرانة أجد وشبهها بوحش وجرة، ثم أفاض كعادته في وصف وحش وجرة، والكلاب الصائدة، ودخل من ذلك إلى النعمان: فتلك تبلغني النعمان إن له ... فضلاً على الناس في الأدنى وفي البعد ولا أرى فاعلاً في الناس يشبهه ... وما أحاشي من الأقوام من أحد ثم طلب إليه أن يكون حكيماً في أمره، لا يقبل سعاية الساعين، ونفى عن نفسه ما اتهم به ما إن أتيت بشيء أنت تكرهه ... إذا فلا رفعت سوطي إلى يدي هذا لأبرأ من قول قذفت به ... كانت نوافذه حراً على الكبد ثم مدحه بالكرم، وأنه يشبه نهر الفرات، واسترسل في وصف الفرات كعادته أيضاً.. وختمها بقوله: ها إن تاعذرة إلا تكن نفعت ... فإن صاحبها قد تاه في البلد ويظهر من شعره التدين والتزام مكارم الأخلاق، فهو يقول: قالت أراك أخاً رحل وراحلة ... تغشى متالف لن ينظرنك الهرما حياك ربي فأنا لا يحل لنا ... لهو النساء وإن الدين قد عزما مشمرين على خوص مزممة ... نرجو الإله ونرجو البر والطعما وقوله: تعدو الذئاب على من لا كلاب له ... وتتقي حومة المستأسد الحامي وقوله: نفس عصام سودت عصاما ... وعلمته الكر والإقداما وصيرته ملكاً هماماً ... من علا وجاوز الأقواما وقدم عمر بن الخطاب النابغة على جميع الشعراء في غير موضع، وفضله على جميع شعراء غطفان في موضع آخر، ويروى عن حسان قصة تدل على مكان النابغة عند النعمان وفضله لديه على جميع الشعراء، وحسان منهم. وحضر النابغة سوق عكاظ مرة فأنشده الأعشى ثم حسان ثم شعراء آخرون ثم الخنساء فقال لها: لولا أن أبا بصير أنشدني لقلت إنك أشعر الجن والإنس، فقال له حسان: أنا أشعر منك ومن أبيك. فقال له النابغة: يابن أخي إنك لا تحسن أن تقول: فإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتأى عنك أواسع ومن روائع شعره قصيدته: كليني لهم يا أميمة ناصب ... وليل أقاسيه بطيء الكواكب ومن معانيه المبتدعة قوله: نبئت أن أبا قانوس أوعدني ... ولا قرار على زأر من الأسد وقوله: فلو كفى اليمين بغتك خونا ... لا فردت اليمين عن الشمال وأخذه عن المثقب العبدي فقال: ولو أني تخالفني شمالي ... بنصر لم تصاحبها يميني وقوله: فحملتني ذنب امرئ تركته ... كذي العري يكوي غيره وهو رائع وقد أخذت الكميت فقال: ولا أكوى الصحاح براتعات ... بهن العر قبلي ما كوينا وقوله وهو أحسن ما قيل في العفة: رقاق النعال طيب حجزاتهم ... يحيون بالريحان يوم السباسب وما يتمثل به من شعره: ومن عصاك فعاقبه معاقبة ... تنهى الظلوم ولا تقعد على ضمد وقوله: واستبق ودك للصديق ولا تكن ... فتبا يعض بغارب ملحاحا أخذه ابن ميادة فقال: ما إن ألح على الإخوان أسألهم ... كما يلح بعض الغارب القتب ومما يمثل به من شعره قوله: لونها عرضت الأشمط راهب ... عبد الإله ضرورة متعبد لرنا لبهجتها وحسن حديثها ... ولخاله رشدا وإن لم يرشد أخذه ربيعة بن مقروم فقال: لو أنها عرضت لأشمط راهب ... في رأس مشرفة الذرى يتبتل لرنا لبهجتها وحسن حديثها ... ولهم من ناموسه يتنزل ومن أمثالها ثم أصدق من قطاة - قال النابغة تدعو القطاويها تدعى إذا نسبت ... يا حسنها حين تدعوها فتنسب أخذه ابو نواس فقال أصدق من قوة قطاة قطا. ومن حكمه: ولست بمستبق أخاً لا تلمه ... على شعث، أي الرجال المهذب؟

ومما سبق إليه قوله: نظرت إليك بحاجة لم تقضها ... نظر السقيم إلى وجوه العود وقد أخذه أبو نواس فقال: ضعيفة كر الطرف تحسب أنها ... قريبة عهد بالأفاقة من سقم ومما يستحسن من قوله: حسب الخليلين نأي لأرض بينهما ... هذا عليها وهذا تحتها بالي وقوله: المرء يأمل أن يعي ... ش وطول عيش قد يضره تفنى بشاشته ويب ... قى بعد حلو العيش مره وتخونه الأيام ح ... تى لا يرى شيئاً يسره كم شامت بي إن هلك ... ت وقائل: لله دره ومما سبق إليه ولم يحسن تشبيهه قوله: من وحش وجرة موشى أكارعه ... طاوي المصير كسيف الصيقل الفرد فشبه الثور في بياضه والتماعه بالسيف المجرد من الغمد، ولم تسمع كلمة "الفرد" إلا في هذا الشعر؛ وللطرماح في المعنى نفسه: يبدو وتضمره البلاد كأنه ... سيف على شرف يسل ويغمد وهذا أكمل في التشبيه لدلالته على الاختفاء، والظهور المأخوذ من حركة هذا الثور الوحشي. وفضل ناقد أمام الأصمعي قول النابغة: نظرت إليك بحاجة لم تقضها ... نظر السقيم إلى وجوه العود وقوله: فإنك كالليل الذي هو مدكي ... وإن خلت أن المنتأى عنك أوسع وقوله: من وحش وجرة موشى أكارعه ... طاوي المصير كسيف الصيقل الفرد فقال الأصمعي: أما تشبيهه مرض الطرف فحسن، إلا أنه هجنه بذكره العلة وتشبيهه المرأة بالعليل، وأحسن منه قول عدي بن الرقاع العاملي: وكأنها بين النساء أعارها ... عينيه أحور من جآذر جاسم وسنان أقصدة النعاس فرنقت ... في عينه سنة وليس بنائم وأما تشبيه الإدراك بالليل فقد تساوى الليل والنهار فيما يدركانه، وإنما كان سبيله أن يأتي بما ليس له سيم؛ حتى يأتي بمعنى ينفرد به ولو قال قائل: إن قول "النمري" في هذا أحسن لو وجد مساغاً إلى ذلك، حيث يقول: فلو كنت بالعنقاء أو بسنامها ... لخلتك إلا أن تصد تراني وأما قوله: "طاوي المصير كسيف الصيقل الفرد" فالطرماح أحق بهذا المعنى؛ لأنه أخذه فجوره، وزاد عليه، وإن كان النابغة اخترعه، وقول الطرماح هو: يبدو وتضمره البلاد كأنه ... سيف على شرف يسل ويغمد فقد جمع في هذا البيت استعارة لطيفة بقوله "وتضمره البلاد" وتشبيهه اثنين بقوله "يبدو وتضمر، ويسل ويغمد"؛ وجمع حسن التقسيم، وصحة المقابلة. وقال جعفر أمام الأصمعي في مجلس الرشيد: لست أفص على شاعر واحد أنه أحسن الناس في بيت تشبيها، ولكن قول امرئ القيس: كائن غلامي إذ علا حال متنه ... على ظهر باز في السماء محلق وقول عدي بن الرقاع: يتعاوران من الغبار ملاءة ... غبراء محكمة هما نسجاها تطوى إذا وردا مكاناً خاسئاً ... وإذا السنابك أسهلت نشراها وقول النابغة: بأنك شمس والملوك كواكب ... إذا طلت لم يبد منهن كوكب قال الأصمعي: قلت هذا حسن كله بارع، وغيره أحسن منه؛ وإنما يجب أن يقع التعيين على ما اخترعه قائله، ولم يتعرض له أحد، أو تعرض له شاعر فوقه دونه. فأما قول امرئ القيس: "على ظهر باز في السماء محلق". فمن قول أبي داود. إذا شاء راكبه ضمه ... كما ضم بازي السماء الجناحا وأما قول عدي: "يتعاوران من الغبار ملاءة" فمن قول الخنساء: جارى أباه فأقبلا وهما ... يتعاوران ملاءة الحضر وأول من نطق به جاهلي من بني عقيل، قال: ألا يا دار الحي بالبرهان ... عفت حجج بعدي لهن ثماني فلم يبق منها غير نؤدى مهدم ... وغيره أثاف كالركى دفان وآثار هاب أورق اللون سافرت ... به الريح والأمطار كل مكان قفار مريرات يحاز بها القطار ... ويضحى بها الجنان يعتركان يثيران من نسج الغبار عليهما ... قميص أسمالا ويرتديان وشارك عدياً أبو النجم، وأورده في أحسن لفظ، قال يصف عيراً وأتاناً، وما أثاراه من الغبار بعدوهما: ألقى بجنب القاع من حبالها ... سرباله وانشام في سربالها وأما قول النابغة: "بأنك شمس والملوك كواكب" فقد تقدمه فيه شاعر قديم من شعراء كندة يمدح عمرو بن هند، وهو أحق به من النابغة إذ كان أبا عذرته، فقال:

وكادت تميد الأرض بالناس إذ رأوا ... لعمرو بن هند غضبة وهو عاتب هو الشمس وافت يوم سعد فأفضلت ... عل كل ضوء والملوك كواكب قال الأصمعي: فكأني والله ألقمت جعفراً حجراً فاهتز الرشيد فوق سريره وكاد يطير عجباً وطرباً. وقال: والله لله درك يا أصمعي اسمع الآن ما كان عليه اختياري ليقل أمير المؤمنين فقال عينت على ثلاثة أشعار أقسم بالله أني أملك السبق بأحدها ثم قال الرشيد أتعرف يا أصمعي تشبيهاً أفخر أو أعظم في أحقر مشبه وأصغره في أحسن معرض من قول عنترة الذي لم يسبقه إليه سابق ولا نازعه منازع ولا طمع في مجاراته طامع حين شبه ذباب الروض العازب في قوله: وخلا الذباب بها فليس مبارح ... غردا كفعل الشارب المترنم هزجا يحك ذراعه بذراعه ... فعل المكب على الزناد الأجذم ثم قال: يا أصمعي هذا من التشبيهات العقم التي لا تنتج، فقلت كذلك هو يا أمير المؤمنين وبمجدك آليت ما سمعت قط أحداً يصف شعره بأحسن من هذه الصفة ولا استطاع بلوغ هذه الغاية فقال مهلاً لا تعجل.. أتعرف أحسن من قول الحطيئة يصف لغام ناقته أو تعلم أحداً قبله أو بعده شبه تشبيهه، حيث يقول: ترى بين لحييها إذا ما ترغمت ... لغاماً كنسج العنكبوت الممدد فقلت والله ما علمت أحداً تقدمه إلى هذا التشبيه، أو أشار إليه بعده ولا قبله قال أتعرف بيتاً أبدع وأوقع من تشبيه الشماخ لنعامة سقط ريشها وبقي أثره في قوله: كأنما منثنى أقماع ما مرطت ... من العفاء بليتيها الثآليل فقلت ولا والله يا أمير المؤمنين، فالتفت إلى يحيى، فقال أوجب؟ فقال وجب، ويؤخذ على النابغة بعض مبالغات في معانيه كقوله: إذا ارتعثت خاف الجبان رعاثها ... ومن يتعلق حيث علق يفرق وكقوله: تقد السلوقى المضاعف نسجه=وتوقد بالصفاح نار الحباحب فقد ذهب إلى أن سيفه يقطع الدرع المضاعف والفارس والفرس ثم يذهب في الحجارة فيقدح فيها الشرر. ويؤخذ عليه قوله: وكنت امرأ لا أمدح الدهر سوقه ... فلست على خير أتاك بجاحد فتراه يمتن على ممدوحه بمدحه إياه، وجعله خيراً أتاه ولا يحسد عليه، وإنما يحسن الثناء إذا كان خالصاً من كل وجه. وأخذوا عليه الخنونة في بعض معانيه، كقوله: سقط النصيف ولم ترد إسقاطه ... فتناولته واتقتنا باليد - 1 - قال النابغة الذبياني يمدح النعمان ويعتذر إليه: يا دار مية بالعلياء فالسند ... أفوت وطال عليها سالف الأبد وقفت فيها أصيلانا أسائلها ... عيت جواباً وما بالربع من أحد إلا الأوارى لأياً ما أبينها ... والنؤى كالحوض بالمظلومة الجلد ردت عليه أقاصيه ولبده ... ضرب الوليدة بالمسحاة في الثأد خلت سبيل أني كان يحبسه ... ورفعته إلى السجفين فالنضد أمست خلاء وأمسى أهلها احتملوا ... أحنى عليها الذي أحنى على لبد فعد عما ترى إذ لا ارتجاع له ... وانم القتود على عيرانة أجد مقذوفة بدخيس النحض بازلها ... له صريف صريف القعو بالمسد كأن رحلي وقد زال النهار بنا ... يوم الجليل على مستأنس وحد من وحش وجرة موشى أكارعه ... طاوي المصير كسيف الصيقل الفرد فظل يعجم أعلى الروق منقبضاً ... في حالك اللون صدق غير ذي أود لما رأى واشق إقعاص صاحبه ... ولا سبيل إلى عقل ولا قود قالت له النفس إني لا أرى طمعاً ... وإن مولاك لم يسلم ولم يصد فتلك تبلغني النعمان إن له ... فضلاً على الناس في الأدنى وفي البعد أسرت عليه من الجوزاء سارية ... تزجى الشمال عليه جامد البرد فارتاع من صوت كلاب فبات له ... طوع الشوامت من خوف ومن صرد فبثهن عليه واستمر به ... صمع الكعوب بريات من الحرد وكان ضمران منه حيث يوزعه ... طعن المعارك عند المحجر النجد شك الفريصة بالمدرى فأنفذها ... طعن المبيطر إذ يشفى من العضد كأنه خارجاً من جنب صفحته ... سفود شرب نسوه عند مفتأد ولا أرى فاعلاً في الناس يشبهه ... ولا أحاشى من الأقوام من أحد إلا سليمان إذ قال الإله له ... قم في البرية فاحددها عن الفند

وخيس الجن إني قد أذنت لهم ... يبنون تدمر بالصفاح والعمد فمن أطاعك فانفعه بطاعته ... كما أطاعك وادلله على الرشد ومن عصاك فعاقبه معاقبة ... تنهي الظلوم ولا تقعد على ضمد إلا لمثلك أو من أنت سابقه ... سبق الجواد إذا استولى على الأمد أعطى لفارهة حلو توابعها ... من المواهب لا تعطى على نكد الواهب المئة المعكاء زينها ... سعدان توضح في أوبارها اللبد والأدم قد حيست فثلاً مرافقها ... مشدودة برحال الحيرة الجدد والراكضات ذيول الريط فانقها ... برد الهواجر كالغزلان بالجرد والخيل تمزع غرباً في أعنتها ... كالطير تنجو من الشؤوب ذي البرد احكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت ... إلى حمام شراع وارد الثمد يحفه جانباً نيق وتتبعه ... مثل الزجاجة لم تكحل من الرمد قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا ... إلى حمامتنا ونصفه فقد فحسبوه فألفوه كما حسبت ... تسعاً وتسعين لم تنقص ولم تزد فكملت مئة فيها حمامتها ... وأسرعت حبسة في ذلك العدد فلا لعمر الذي مسحت كعبته ... وما هريق على الأنصاب من جسد والمؤمن العائذات الطير تمسحها ... ركبان مكة بين الغيل والسعد ما قلت من سيء مما أتيت به ... إذن فلا رفعت سوطي إلى يدي إلا مقالة أقوام شقيت بها ... كانت مقالتهم قرعاً على الكبد إذن فعاقبني ربي معاقبة ... قرت بها عين من يأتيك بالفند أنبئت أن أبا قوس أوعدني ... ولا قرار على زأر من الأسد مهلاً فداء لك الأقوام كلهم ... وما أثمر من مال ومن ولد لا تقذفني بركن لا كفاء له ... وإن تأنفك الأعداء بالرفد فما الفرات إذا هب الرياح له ... ترمى غواربه العبرين بالزبد يمده كل واد مترع لجب ... فيه ركام من الينبوت والخضد يظل من خوفه الملاح معتصماً ... بالخيزرانة بعد الأين والنجد يوماً بأجود منه سيب نافلة ... ولا يحول عطاء اليوم دون غد هذا الثناء فإن تسمع به حسناً ... فلم أعرض أبيت اللعن بالصفد ها إن ذي عذرة إلا تكن نفعت ... فإن صاحبها مشارك النكد - 2 - وقال يعتذر إلى النعمان بن المنذر: عفا ذو حساً فرتني بالفوارع ... فجنباً أريك فالتلاع الدوافع فتجمع الأشراج غير رسمها ... مصايف مرت بعدنا ومرابع توهمت آيات لها فعرفتها ... لستة أعوام وذا العام سابع رماد ككحل العين لأيا أبينه ... ونؤى كجذم الحوض أثأم خاشع كأن مجر الراميات ذيولها ... عليه حصير نمقته الصوانع على ظهر مبناة جديد سيورها ... يطوف بها وسط اللطيمة بائع فكفكفت مني عبرة فرددتها ... على النحر منها مستهل ودامع على حين عاتبت المشيب على الصبا ... وقلت ألما أصح والشيب وازع وقد حال هم دون ذلك شاغل ... مكان الشغاف تبتغيه الأصابع وعيد أبو قابوس في غير كنهه ... أتاني ودوني راكس فالضواجع فبت كأني ساورتني ضئيلة ... من الرقش في أنيابها السم ناقع يسهد من ليل التمام سليمها ... لحلي النساء في يديه قعاقع تناذرها الراقون من سوء سمها ... تطلقه طوراً وطوراً تراجع أتاني أبيت اللعن أنك لمتني ... وتلك التي تستك منها المسامع مقالة أن قد قلت سوف أناله ... وذلك من تلقاء مثلك رائع لعمري وما عمري علي بهين ... لقد نطقت بطلاً على الأقارع أقارع عوف لا أحاول غيرها ... وجوه قرود تبتغي من تجادع أتاك امرؤ مستبطن لي بغضة ... له من عدو مثل ذلك شائع أتاك بقول هلهل النسج كاذب ... ولم يأت بالحق الذي هو ناصع أتاك بقول لم أكن لأقوله ... ولو كبت في ساعدي الجوامع حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وهل يأتمن ذو أمة وهو طائع بمصطحبات من لصاف وثبرة ... يزرن إلالاً سيرهن التدافع سماماً تبارى الريح خوصاً عيونها ... لهن رذايا بالطريق ودائع عليهن شعث عامدون لحجهم ... فهن بأطراف الحي خواضع

لكلفتني ذنب امرئ وتركته ... كذي العر يكوي غيره وهو راتع فإن كنت لاذ والضعن عني مكذب ... ولا حلفي على البراءة نافع ولا أنا مأمون بشيء أقوله ... وأنت بأمر لا محالة واقع فإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع خطاطيف حجن في حبال متينة ... تمد بها أيد إليك نوازع أتوعد عبداً لم يخنك أمانة ... وتترك عبداً ظالماً وهو ضالع وأنت ربيع ينعش الناس سيله ... وسيف أعيرته المنية قاطع أبى الله إلا عدله ووفاءه ... فلا النكر معروف ولا العرف ضائع وتسقى إذا ما شبت غير مصرد ... بزوراء في حافاتها المسك كانع - 3 - وقال أيضاً: كليني لهم يا أميمة ناصب ... وليل أقاسيه بطيء الكواكب تطاول حتى قلت ليس بمنقض ... وليس الذي يرعى النجوم بآئب وصدر أراح الليل عازب همه ... تضاعف فيه الحزن من كل جانب علي لعمر ونعمة بعد نعمة ... لوالده ليست بذات عقارب حلفت يميناً غير ذي مثنوية ... ولا علم إلا حسن ظن بصاحب لئن كان للقبرين قبر بجلق ... وقبر بصيداء الذي عند حارب وللحارث الجفني سيد قومه ... ليلتمسن بالجيش دار المحارب وثقت له بالنصر إذ قيل قذ غزت ... كتائب من غسان غير أشائب بنو عمه دنيا وعمرو بن عامر ... أولئك قوم بأسهم غير كاذب إذا ما غزوا في الجيش حلق فوقهم ... عصائب طير تهتدي بعصائب يصاحبنهم حتى يغرن مغارهم ... من الضاريات بالدماء الدوارب تراهن خلف القوم خزراً عيونها ... جلوس الشيوخ في ثياب المرانب جوانح قد أيقن أن قبيله ... إذا ما التقى الجمعان أول غالب لهن عليهم عادة قد عرفنها ... إذا عرض الخطي فوق الكواثب على عارفات للطعان عوابس ... بهن كلوم بين دام وجالب إذا استنزلوا عنهن للطعن أرقلوا ... إلى الموت إرقال الجمال المصاعب فهم يتساقون المنية بينهم ... بأيديهم بيض رقاق المضارب يطير فضاضاً بينها كل قونس ... ويتبعها منهم فراش الحواجب ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب تورثن من أزمان يوم حليمة ... إلى اليوم قد جربن كل التجارب تقد السلوقي المضاعف نسجه ... وتوقد بالصفاح نار الحباحب بضرب يزيل الهام عن سكناته ... وطعن كإبزاغ المخاض الضوارب لهم شيمة لم يعطها الله غيرهم ... من الجود والأحلام غير عوازب محلتهم ذات الإله ودينهم ... قويم فما يرجون غير العواقب رقاق النعال طيب حجزاتهم ... يحيون بالريحان يوم السباسب نحييهم بيض الولائد بينهم ... وأكسية الإضريج فوق المشاحب يصونون أجساداً قديماً نعيمها ... بخالصة الأردان خضر المناكب ولا يحسبون الخير لا شر بعده ... ولا يحسبون الشر ضربة لازب حبوت بها غسان إذ كنت لاحقاً ... بقومي، وإذ أعيت علي مذاهبي - 4 - وقال أيضاً: إني كأني لدى النعمان خبره ... بعض الأود حديثاً غير مكذوب بأن حصناً وحياً من بني أسد ... قاموا فقالوا حمانا غير مقروب ضلت حلومهم عنهم وغرهم ... سن المعيدي في رعي وتعزيب قاد الجياد من الجولان قائظة ... من بين منعلة تزجى ومجنوب حتى استغاثت بأهل الملح ما طمعت ... في منزل طعم نوم غير تأويب ينضحن نضح المزاد الوفر أتأفها ... شد الرواة بماء غير مشروب قب الأياطل تردى في أعنتها ... كالخاضبات من الزعر الظنابيب شعث عليها مساعير لحربهم ... شم العرانين من مرد ومن شيب وما بحصن نعاس إذ تؤرقه ... أصوات حي الأمرار محروب ظلت أقاطيع أنعام مؤبلة ... لدى صليب على الزوراء منصوب فإذ وقيت بحمد الله شرتها ... فانجى فزار إلى الأطواد فاللوب ولا تلاقى كما لاقت بنو أسد ... فقد أصابتهم منها بشؤبوب لم يبق غير طريد غير منفلت ... وموثق في حبال القد مسلوب

أو حرة كمهاة الرمل قد كبلت ... فوق المعاصم منها والعراقيب تدعو قعيناً وقد عض الحديد بها ... عض الثقاف على صم الأنابيب مستشعرين قد الفوا في ديارهم ... دعاء سوع ودعمي وأيوب - 5 - وقال يهجو زرعة بن عمرو: نبئت زرعة والسفاهة كاسمها ... يهدي إلى غرائب الأشعار فحلفت يا زرع بن عمر وأنني ... بما يشق على العدو ضراري أرأيت يوم عكاظ حين لقيتني ... تحت العجاج فما شققت غباري إذا اقتسمنا خطتينا بيننا ... فحملت برة واحتملت فجار فلتأتينك قصائد وليدفعن ... جيش إليك قوادم الأكوار رهط بن كوز محقي أدراعهم ... فيهم ورهط ربيعة بن حذار ولرهط حراب وقد سورة ... في المجد ليس غرابهم بمطار وبنو قعين لا محالة أنهم ... آتوك غير مقلمي الأظفار سهكين من صدأ الحديد كأنهم ... تحت السنور جنة البقار وبنو سواءة زائرك بوفدهم ... جيشاً يقودهم أبو المظفار وبنو جذيمة حتى صدق سادة ... غلبوا على خبت إلى تعشار متكنفي جني عكاظ كليهما ... يدعو بها ولدائهم عرعار قوم إذا كثر الصياح رأيتهم ... وقرا غداة الروع والإنفار والغاضريون الذين تحملوا ... بلوائهم سيراً لدار قرار تمشي بهم أدم كأن رحالها ... علق هريق على متون صوار شعب العلاقيات بين فروجهم ... والمحصنات عوازب الأطهار برز الأكف من الخدام خوارج ... من فرج كل وصيلة وإزار شمس موانع كل ليلة حرة ... يخلفن ظن الفاحش المغيار جمعاً يظل به الفضاء معضلاً ... يدع الإكام كأنهن صحارى لم يحرموا حسن الغذاء وأمهم ... طفحت عليك بناتق مذكار حولي بنو دودان لا يعصونني ... وبنو بغيض كلهم أنصاري زيد بن زيد حاضر بعراعر ... وعلى كنيب مالك بن حمار وعلى الرميثة من سكين حاضر ... وعلى الذثيمة من بني سيار فيهم بنات المسجدي ولا حق ... ورقا مراقلها من المضمار يتجلب اليعضيد من أشداقها ... صفراً مناخرها من الجرجار تشلى توابعها إلى ألاقها ... خبب السباع الوله الأبكار إن الرميث مانع أرماحنا ... ما كان من سخم بها وصفار فأصبن أبكاراً وهن بإمة ... أعجلنهن مظنة الإعذار - 6 - وقال أيضاً: كانت سعاد وأمسى حبلها انجذما ... واحتلت الشرع فالأجزاع من اضما إحدى بلي وما هام الفؤاد بها ... إلا السفاه وإلا ذكرةً حلما ليست من السود أعقاباً إذا انصرفت ... ولا تبيع بجنبي نخلة البرما غراء أكمل من يمشي على قدم ... حسناً وأملح من حاورته الكلما قالت أراك أخاً رحل وراحلة ... تغشى متالف لن ينظرنك الهرما حياك ربي فإنا لا يحل لنا ... لهو النساء وإن الدين قد عزما مشمرين على خوص مزممة ... نرجو الإله ونرجو البر والطعما هلا سألت بني ذبيان ما حسى ... إذا الدخان تغشى الأشمط البرما وهبت الريح من تلقاء ذي أرل ... تزجى مع الليل من صرادها صرما صهب الظلال أتين التين عن عرض ... بزحين غيماً قليلاً ماؤه شبما ينبئك ذو عرضهم عني وعالمهم ... وليس جاهل شيء مثل من علما إني أتمم أيساري، وأمنحهم ... مثنى الأيادي، وأكسوا الجفنة الأدما وأقطع الخرق بالخرقاء قد جعلت ... بعد الكلال تشكى الأين والسأما كادت تساقطني رحلي وميثرتي ... بذي المجاز ولم تحسن به نعما من قول حرمية قالت وقد ظعنوا ... هل في مخفيكم من يشتري أدما قلت لها وهي تسعى تحت لبتها ... لا تحطمنك إن البيع قد زرما باتت ثلاث ليال ثم واحدة ... بذي المجاز تراعى منزلاً زيما فانشق عنها عمود الصبح حافلة ... عدو النحوص تخاف القانص اللجما تحيد عن أستن سود أسافله ... مشى الإماء الغوادي محمل الحزما أو ذي رشوم بحوضي بات منكرساً ... في ليلة من جمادى أحضلت ديما بات بحقف من البقار يحفزه ... إذا استكف قليلاً تربه انهدما

مولى الريح روقيه وجبهته ... كالهبرقي تنخى ينفخ الفحما حتى غدا مثل نصل السيف منصلتاً ... يقرو الأماعز من لبنان والأكما - 7 - وقال يعتذر إلى النعمان ويمدحه: كتمتك ليلاً بالجمومين ساهرا ... وهمين هماً مستكنا وظاهرا أحاديث نفسي تشتكي ما يريبها ... وورد هموم لن يحدن مصادرا تكلفني أن يفعل الدهر همها ... وهل وجدت قبلي على الدهر قادرا ألم تر خير الناس أصبح نعشه ... على فتية قد حاوز الحي سائرا ونحن لديه نسأل الله خلده ... يرد لنا ملكاً وللأرض عامرا ونحن نرجي الخلد إن فاز قدحنا ... ونرهب قدح الموت إن جاء قامرا لك الخير إن وارت بك الأرض واحدا ... وأصبح جد الناس يطلع عاثرا وردت مطايا الراغبين وعريت ... جيادك لا يخفى لها الدهر حافرا رأيتك ترعاني بعين بصيرة ... وتبعث حراساً علي وناظرا وذلك من قول أتاك أقوله ... ومن دس أعدائي إليك المآبرا فآليت لا آتيك إن جئت مجرما ... ولا أبتغي جاراً سواك مجاورا فأهلي فداء لامرئ إن أتيته ... تقبل معروفي وسد المفاقرا سأكعم كلبي أن يريبك نبحه ... وإن كنت أرعى مسحلان فحامرا وحلت بيوتي في يفاع ممنع ... يخال به راعي الحمولة طائرا تزل الوعول العصم عن قذفاته ... وتضحى ذراه بالسحاب كوافرا حذاراً على ألا تنال مقادتي ... ولا نسوتي حتى يمتن حرائرا أقول وإن شطت بي الدار عنكم ... إذا ما لقينا من معد مسافرا ألكنني إلى النعمان حيث لقيته ... فأهدى له الله الغياث البواكرا وصبحه فلج ولا زال كعبه ... على كل من عادى من الناس ظاهرا ورب عليه الله أحسن صنعه ... وكان له على البرية ناصرا فألفيته يوماً يمير عدوه ... وبحر عطء يستخف المعابرا - 8 - وقال يعتذر إلى النعمان بن المنذر، ويمدحه: أتاني أبيت اللعن أنك لمتني ... وتلك التي أهتم منها وأنصب فبت كأن العائدات فرشنني ... هراساً به يعلى فراشي ويقشب حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وليس وراء الله للمرء مذهب لئن كنت قد بلغت عني خيانة ... لمبلغك الواشي أغش وأكذب ولكنني كنت امرأ لي جانب ... من الأرض فيه مستراد ومذهب ملوك وإخوان إذا ما أتيتهم ... أحكم في أموالهم وأقرب كفعلك في قوم أراك اصطنعتهم ... فلم ترهم في شكر ذلك أذنبوا فإنك شمس والملوك كواكب ... إذا طلعت لم يبد منهن كوكب فلا تتركني بالوعيد كأنني ... إلى الناس مطلي به القار أجرب ألم تر أن الله أعطاك سورة ... ترى كل ملك دونها يتذبذب ولست بمستبق أخاً لا تلمه ... على شعث أي الرجال المهذب؟ فإن أك مظلوماً فعبد ظلمته ... وإن تك ذا عتبى فمثلك يعتب - 9 - وقال أيضاً: لقد نهيت بني ذبيان عن أقر ... وعن تربهم في كل أصفار وقلت يا قوم إن الليث منقبض ... على براثنه لوثبة الضاري لا أعرفن ربرجاً حوراً مدامعها ... كأن أبكارها نعاج دوار ينظرن شرراً إلى من جاء عن عرض ... بأوجه منكرات الرق أحرار خلف العضاريط لا يرقين فاحشة ... مستمسكات بأقتاب وأكوار يذرين دمعاً على الأشفار منحدراً ... يأملن رحلة حصن وابن سيار إما عصيت فإني غير منفلت ... مني اللصاب فجنبا حرة النار أو أضع البيت في سوداء مظلمة ... تقيد الغير لا يسري بها الساري تدافع الناس عنا حين تركبها ... من المظالم تدعى أم صبار ساق الرفيدات من جوش ومن عظم ... وماش من رهط ربعي وحجار قرمى قضاعة حلا حول حجرته ... مدا عليه بسلاف وأنفار حتى استقل بجمع لا كفاء له ... ينفي الوحوش عن الصحراء جرار لا يخفض الرز عن أرض ألم بها ... ولا يضل عن مصباحه الساري وعيرتني بنو ذبيان خشيته ... وهل علي بأن أخشاك من عار - 10 -

وقال النابغة يرد على بدر بن حذار ويذكر حزيما وزبان ابني سيار بن عمرو بن جابر لأنه بلغه أنهما أعانا بدراً ورويا شعره فيه: ألا من مبلغ عني حريماً ... وزبان الذي لم يرع صهري فإياكم وعوراً داميات ... كأن صلاءهن صلاء جمر فإني قد أتاني ما صنعتم ... وما وشحتم من شعر بدر فلم يك نولكم أن تشقذوني ... ودوني عازب وبلاد حجر فإن جوابها في كل يوم ... ألم بأنفس منكم ووفر ومن يتربص الحدثان تنزل ... بمرلاه عوان غير بكر - 11 - وقال أيضاً: قالت بنو عامر خالوا بنو أسد ... يا بؤس للجهل ضراراً لأقوام يأبى البلاء فلا نبغي بهم بدلاً ... ولا نريد خلاء بعد إحكام فصالحونا جميعاً إن بدا لكم ... ولا تقولوا لنا أمثالها عام إني لأخشى عليكم أن يكون لكم ... من أجل بغضائهم يوم كأيام تبدو كواكبه والشمس طالعة ... لا النور نور ولا الإظلام إظلام أو تزجروا مكفهراً لا كفاء له ... كالليل يخلط أصراماً بأصرام مستحقبي خلق المادي يقدمهم ... شم العرانين ضرابون للهام لهم لواء بكفي ماجد بطل ... لا يقطع الخرق إلا طرفه سام يهدي كتائب خضراً ليس يعصمها ... إلا ابتدار إلى موت بإلجام كم غادرت خيلنا منكم بمعترك ... للخامعات أكفاً بعد أقدام يا رب ذات خليل قد فجعن به ... وموتمين وكانوا غير أيتام والخيل تعلم أنا في تجاولها ... عند الكعان أولو بؤسي وإنعام ولوا وكبشهم يكبو لجهته ... عند الكماة صريعاً جوفه دام - 12 - وقال في أمر بني عامر: ليهنئ بني ذبيان أن بلادهم ... خلت لهم من كل مولى وتابع سوى أسد يحمونها كل شارق ... بألفي كمي ذي سلاح ودارع قعوداً على آل الوجيه ولاحق ... يقيمون حولياتها بالمقارع يهزون أرماحاً طوالاً متونها ... بأيد طوال عاريات الأشاجع فدع عنك قوماً لا عتاب عليهم ... هم ألحقوا عبساً بأرض القعاقع وقد عسرت من دونهم بأكفهم ... بنو عامر عسر المخاض الموانع فما أنا في سهم ولا نصر مالك ... ومولاهم عبد بن سعد بطامع إذا نزلوا ذا ضرغد وعتائداً ... يغنيهم فيها نقيق الضفادع قعوداً لدى أبياتهم يثمدونها ... رمى الله في تلك الأنوف الكوانع - 13 - وقال يصف المتجردة زوج النعمان بن المنذر: أمن آل مية رائح أو مغتد ... عجلان ذا زاد وغير مزود أفد الترحل غير أن ركابنا ... لما تزل برحالنا وكأن قد زعم البوارح أن رحلتنا غداً ... وبذاك خبرنا الغداف الأسود لا مرحباً بغد ولا أهلاً به ... إن كان تفريق الأحبة في غد حان الرحيل ولم تودع مهدداً ... والصبح والإمساء منها موعدي في إثر غانية رمتك بسهمها ... فأصاب قلبك غير أن لم تقصد غنيت بذلك إذ هم لك جبرة ... منها بعطف رسالة وتردد ولقد أصابت قلبه من حبها ... عن ظهر مرنان بسهم مصرد والنظم في سلك يزين نحرها ... ذهب توقد كالشهاب الموقد صفراء كالسيراء أكمل خلقها ... كالغصن في غلوائه المتأود والبطن ذو عكن لطيف طيه ... والإتب تنفجه بثدي مقعد محطوطة المتنين غير مفاضة ... رياً الروادف بضة المتجرد قامت تراءى بين سجفي كلة ... كالشمس يوم طلوعها بالأسعد أو درة صدفية غواصها ... بهج متى يرها يهل ويسجد أو دمية من مرمر مرفوعة ... بنيت بآجر تشاد بقرمد سقط النصيف ولم ترد إسقاطه ... فتناولته واتقتنا باليد بمخضب رخص كأن بنانه ... عدم يكاد من اللطافة يعقد نظرت إليك بحاجة لم تقضها ... نظر السقيم إلى وجوه العود نجلو بقادمتي حمامة أيكة ... برداً أسف لثاته بالإثمد كالأقحوان غداة غب سمائه ... جفت أعاليه وأسفله ندى زعم الهمام بأن فاها بارد ... عذب مقبله شهي المورد زعم الهمام "ولم أذقه" أنه ... عذب إذا ما ذقته قلت ازدد

زعم الهمام "ولم أذقه" أنه ... يشفى بريا ريقها العطش الصدى أخذ العذارى عقده فظمنه ... من لؤلؤ متتابع متسرد لو أنها عرشت لأشمط راهب ... عبد الإله صرورة متعبد لرنا لبهجتها وحسن حديثها ... ولخاله رشداً وإن لم يرشد بتكلم لو تستطيع سماعه ... لدنت له أروى الهضاب الصخد وبفاحم رجل أثيث نيته ... كالكرم مال على الدعام المسند فإذا لمست لمست أخثم جاثماً ... متحيزاً بمكانه ملء اليد وإذا طعنت طعنت في مستهدف ... رابي المجسة بالعبير مقرمد وإذا نزعت نزعت عن مستحصف ... نزع الحزور بالرشاء المحصد لا وارد منها يحور لمصدر ... عنها، ولا صدر يحور لمورد وإذا يعض تشده أعضاؤه ... عض الكبير من الرجال الأدرد ويكاد ينزع جلد من يصلى به ... بلوافح مثل السعير الموقد - 14 - وقال يمدح بني عذرة: لقد قلت للنعمان يوم لقيته ... يريد بني حن ببرقة صادر تجنب بني حن فإن لقاءهم ... كريه وإن لم تلق إلا بصابر عظام اللهى أولاد عذرة إنهم ... لهاميم يستلهونها بالحناجر وهم منعوا وادي القرى من عدوهم ... بجمع مبير للعدو المكاثر من الواردات الماء بالقاع تستقى ... بأعجازها قبل استقاء الحناجر بزاخية ألوت بليف كأنه ... عفاء قلاص طار عنها تواجر صغار النوى مكنوزة ليس قشرها ... إذا طار قشر التمر عنها بطائر هم طردوا عنها بليا فأصبحت ... بلي بواد من تهامة غائر وهم منعوها من قضاعة كلها ... ومن مضر الحمراء عند التغاور وهم قتلوا الطائي بالحجر عنوة ... أبا جابر واستنكحوا أم جابر - 15 - وقال يمدح غسان حين ارتحل من عندهم راجعاً: لا يبعد الله جيراناً تركتهم ... مثل المصابيح تجلو ليلة الظلم لا يبرمون إذا ما الأفق جلله ... برد الشتاء من الأمحال كالأدم هم الملوك وأبناء الملوك لهم ... فضل على الناس في اللأواء والنعم أحلام عاد وأجساد مطهرة ... من المعقة والآفات والإثم - 16 - وقال أيضاً: جمع محاشك يا زيد فإنني ... أعددت يربوعاً لكم وتميما ولحقت بالنسب الذي عبرتني ... وتركت أصلك يا يزيد ذميما عيرتني نسب الكرام وإنما ... فخر المفاخر أن يعد كريما حدبت على بطون ضنة كلها ... إن ظالماً فيهم وإن مظلوما لولا بنو عوف بن بهثة أصبحت ... بالنغف أم بني أبيك عقيما - 17 - وقال أيضاً: أبلغ بني ذبيان أن لا أخالهم ... بعبس إذا حلوا الدماخ فأظلما بجمع كلون الأعبل الجون لونه ... ترى في نواحيه ذهيراً وحذيما هم يردون الموت عند لقائه ... إذا كان ورد الموت لابد أكراما - 18 - وقال لعضام بن شهبرة الجرمي حاجب النعمان بن المنذر: ألم أقسم عليك لتخبرني ... أمحمول على النعش الهمام فإني لا ألام على دخول ... ولكن ما وراءك يا عصام فإن يهلك أبو قابوس يهلك ... ربيع الناس والشهر الحرام ونمسك بعده بذناب عيش ... أجب الظهر ليس له سنام - 19 - وقال أيضاً يمدح النعمان بن الحارث الأصغر وكان قد خرج إلى بعض متنزعاته: إن يرجع النعمان نفرح ونبتهج ... ويأت معدا ملكها وربيعها ويرجع إلى غسان ملك وسؤدد ... وتلك المنى لو أننا نستطيعها وإن يهلك النعمان تغر مطيه ... ويلق إلى جنب الفناء قطوعها وتنحط حصان آخر الليل نحطه ... تقضقض منها أو تكاد ضلوعها على إثر خير الناس إن كان هالكاً ... وإن كان في جنب الفراش ضجيعها - 20 - وقال أيضاً: فإن يك عامر قد قال جهلاً ... فإن مظنة الجهل الشباب فكن كأبيك أو كأبي براء ... توافقك الحكومة والصواب ولا تذهب بحلمك طاميات ... من الخيلاء ليس لهن باب فإنك سوف تحلم أو تناهى ... إذا ما شبت أو شاب الغراب فإن تكن الفوارس يوم حسى ... أصابوا من لقائك ما أصابوا فما إن كان من نسب بعيد ... ولكن أدركوك وهم غضاب

فوارس من منولة غير ميل ... ومرة، فوق جمعهم العقاب - 21 - وقال يهجو يزيد بن عمرو بن الصعف الكلابي: لعمرك ما خشيت على يزيد ... من العحر المضلل ما أتاني كأن التاج معصوباً عليه ... لأذواد أصبن بذي أبان فحسبك أن تهاض بمحكمات ... تمر بها الروى على لساني فقبلك ما شتمت وقاذعوني ... فما نزر الكلام ولا شجاني يصد الشاعر الثنيان عني ... صدود البكر عن قرم هجان أثرت الغي ثم نزعت عنه ... كما حاد الأزب عن الطعان فإن يقدر عليك أبو قبيس ... تمط بك المعيشة في هوان وتخضب لحية غدرت وخانت ... بأحمر من نجيع الجوف آني وكنت أمينه لو لم تخنه ... ولكن لا أمانة لليمان - 22 - وقال يرثي النعمان بن الحارث بن أبي شمر الغساني: دعاك الهوى واستجهلتك المنازل ... وكيف تصابى المرء والشيب شامل وقفت بربع الدار قد غير البلى ... معارفها والساريات الهواطل أسائل عن سعدى وقد مر بعدنا ... على عرصات الدار سبع كوامل فسليت ما عندي بروحة عرمس ... تخب برحلي تارة وتناقل موثقة الأنساء مضبورة القرا ... نعوب إذا كل العتاق المراسل كأني شددت الرحل حين تشذرت ... على قارح مما تضمن عاقل أقب كعقد الأندي مسحج ... حزابية قد كدمته المساحل أضر بجرداء النسالة سمحج ... يقلبها إذ أعوزته الحلائل إذا جاهدته الشد جد وإن ونت ... تساقط لا وان ولا متخاذل وإن هبطا سهلاً أثار عجاجة ... وإن علوا حزناً تشظت جنادل ورب بني البر شاء ذهل وقيسها ... وشيبان حيث استبهلتها المنازل لقد عالني ما سرها وتقطعت ... لروعاتها مني القوى والوسائل فلا يهنئ الأعداء يصرح ملكهم ... وما عتقت منه تميم ووائل وكانت لهم ربعية يحذرونها ... إذا خضخضت ماء السماء القبائل يسير بها النعمان تغلي قدوره ... تجيش بأسباب المنايا المراحل تحث الحداة جالزاً بردائه ... بقي حاجبيه ما يثير القنابل يقول رجال ينكرون خليقتي ... لعل زياداً "لا ابا لك" غافل أبي غفلتي أني إذا ما ذكرته ... تحرك داء في فؤادي داخل وإن تلادى إن ذكرت وشكتي ... ومهري وما ضمت لدي الأنامل حباؤك والعيس العتاق كأنها ... هجان المها تحدى عليها الرحائل فإن تك قد ودعت غير مذمم ... أواسي ملك ثبتتها الأوائل فلا تبعدن إن المنية موعد ... وكل امرئ يوماً به الحال زائل فما كان بين الخير لو جاء سالماً ... أبو حجر إلا ليال فلائل فإن تحي لا أملل حياتي وإن تمت ... فما في حياتي بعد موتك طائل فآب مصلوه بعين جلية ... وغودر بالجولان حزم ونائل سقى الغيث قبراً بين بصرى وجاسم ... بغيث من الوسمي قطر ووابل ولا زال ريحان ومسك عنبر ... على منتهاه ديمة ثم هاطل ونبت حوذاناً وعوف منورا ... سأتبعه من خير ما قال قائل بكى حارث الجولان من فقد ربه ... وحوران منه موحش متضائل قعوداً له غسان يرجون أوبه ... وترك ورهط الأعجمين وكابل قال الأعلم الشنتمري في شرحه للديوان: كمل جميع ما رواه الأصمعي من شعر النابغة نصل به قصائد متخيرة مما رواه غير الأصمعي إن شاء الله تعالى. - 23 - وقال: غشيت منازلاً بعريتنات ... فأعلى الجزع للحي المبن تعاورهن صرف الدهر حتى ... عفون؛ وكل منهمر مرن وقفت بها القلوص على اكتئاب ... وذاك تفارط الشوق المعني أسائلها وقد سفحت دموعي ... كأن مفيضهن غروب شن بكاء حمامة تدعو عديلاً ... مفجعة على فنن تغني ألكي يا عيين إليك قولاً ... سأهديه إليك: إليك عني قوافي كالسلام إذا استمرت ... فليس يرد مذهبها التظني بهن أدين من يبغي أذاتي ... مداينة المداين فليدني أتخذل ناصري وتعز عبساً ... أيربوع بن غيظ للمعن كأنك من جمال بني أقيش ... يقعقع خلف رجليه بشن تكون نعامة طوراً وطوراً ... هوى الريح تنسج كل فن

تمن بعادهم واستبق منهم ... فإنك سوف تترك والتمني لدى جرعاء ليس بها أنيس ... وليس بها الدليل بمطمئن إذا حاولت في أسد فجوراً ... فإني لست منك ولست مني فهم درعي التي استلامت فيها ... إلى يوم النسار، وهم مجني وهم وردوا الجفار على تميم ... وهم أصحاب يوم عكاظ إني شهدت لهم مواطن صادقات ... أتيتهم بود الصدر مني وهم ساروا لحجر في خميس ... وكانوا يوم ذلك عند ظني وهم زحفوا لغسان بزحف ... رحيب السرب أرعن مرجحن بكل مجرب كالليث يسمو ... على أوصال ذيال رفن وضمر كالمداح مسومات ... عليها معشر أشباه جن غداة تعاورته ثم بيض ... دفعن إليه في الرهج المكن ولو أني أطعتك في أمور ... قرعت ندامة من ذاك سني - 24 - وقال أيضاً: أتاركة تدللها قطام ... وضناً بالتحية والكلام فإن كان الدلال فلا تلجي ... وإن كان الوداع فبالسلام فلو كانت غداة البين منت ... وقد رفعوا الخدور على الخيام صفحت بنظرة فرأيت منها ... تحيت الخدر واضعة القرام ترائب يستضيء الحلي فيها ... كجمر النار بدر بالظلام كأن الشذر والياقوت منها ... على جيداء فاترة البغام خلت بغزالها ودنا عليها ... أراك الجزع أسفل من سنام تسف بريره وترود فيه ... إلى دبر النهار من البشام كان مشعشعاً من خمر بصرى ... نمته البخت مشدود الختام تمين قلاله من بيت رأس ... إلى لقمان في سوق مقام إذا فضت خواتمه علاه ... يبيس القمحان من المدام على أنيابها بغريض مزن ... تقبله الجباة من الغمام فأضحت في مداهن باردات ... بمنطلق الجنوب على الجهام تلذ لطعمه وتخال فيه ... إذا نبهتها بعد المنام فدعها عنك إذا شطت نواها ... ولجت من بعادك في غرام ولكن ما أتاك عن ابن هند ... من الجزم المبين والتمام؟ فداء ما تقل النعل مني ... إلى أعلى الذؤابة للهمام ومغراه قبائل غائظات ... على الذهيوط في لجب لهام يقدن مع امرئ يدع الهوينى ... ويعمد للمهمات العظام أعين على العدو بكل طرف ... وسلهبة تجلل في السمام وأسمر مارنٍ يلتاح فيه ... سنان مثل نبراس النهام وأنباه المنبئ أن حيا ... حلولاً من حزام أو جذام وأن القوم نصرهم جميع ... فئام مجلبون إلى فئام فأوردهن بطن الأتم شعثاً ... يصن المشي كالحداء التؤام على إثر الأدلة والبغايا ... وخفق الياجيات من الشآم فباتوا ساكنين وبات يسرى ... يقربهم له ليل التمام فصيحهم بها صهباء صرفاً ... كأن رؤوسهم بيض النعام فذاق الموت من بركت عليه ... وبالناجين أظفار دوامي وهن كأنهن نعاج رمل ... يسوين الذيول على الخدام يوصين الرواة إذا ألموا ... شعث مكرهين على الفطام وأضحى ساطعاً بحبال حسمي ... دقاق الترب محتزم القتام فهم الصالبون ليدركوه ... وما راموا بذلك من مرام إلى صعب المقادة ذي شريس ... نماه في قروع المجد نامي أبوه قبله وأبو أبيه ... بنوا مجد الحياة على إمام فدوحت العراق فكل قصر ... يجلل خندق منه وحام وما تنفك محلولاً عراها ... على متناذر الأكلاء طام - 25 - وقال يمدح النعمان بن وائل بن الجلاح الكلبي: أهاجك من سعدك مغنى المعاهد ... بروضة نعمي فذات الأساود تعاورها الأرواح ينسفن تربها ... وكل ملث ذي أهاضيب راعد بها كل ذيال وخنساء ترعوي ... إلى كل رجاف من الرمل فارد عهدت بها سعدى وسعدى غريرة ... عروب تهادى في جوار خرائد لعمري النعم الحي صبح سر بنا ... وأبياتنا يوماً بذات المراود يقودهم النعمان منه بمحصف ... وكيد يغم الخارجي مناجد وشيمة لا وان ولا واهن القوى ... وجد إذا خاب المفيدون صاعد فآب بأبكار وعون عقائل ... أوانس يحميها امرؤ غير زاهد

يخططن بالعيدان في كل مقعد ... ويخبأن رمان الثدي النواهد ويضربن بالأيدي وراء براغز ... حسان الوجوه كالظباء العواقد غرائر لم يلقين بأساء قبلها ... لدى ابن الجلاح ما يثقن بوافد أصاب بني غيظ فأصحوا عباده ... وحللها نعمى على غير واحد فلابد من عوجاء تهوى براكب ... إلى ابن الجلاح سيرها الليل قاصد تخب إلى النعمان حتى تناله ... فدى لك من رب طريفي وتالدي فسكنت نفسي بعدما طار روحها ... وألبستني نعمى ولست بشاهد وكنت امرأ لا أمدح الدهر سوقة ... فلست على خير أتاك بحاسد سبقت الرجال الباهشين إلى العلا ... كسبق الجواد اصطاد قبل الطوارد علوت معداً نائلاً ونكاية ... فأنت لغيث الحمد أول رائد - 26 - وقال في وقعة عمرو بن الحارث الأصغر الغساني ببني مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان: أهاجك من أسماء رسم المنازل ... بروضة نعمي فذات الأجاول أربت بها الأرواح حتى كأنما ... تهادين أعلى تربها بالمناخل وكل ملث مكفهر سحابه ... كميش التوالي مرثعن الأسافل إذا رجفت فيه رحى مرجحنة ... تبعق ثجاج غزير الحوافل عهدت بها حياً كراماً فبدلت ... حناطيل آجال النعام الجوافل ترى كل ذيال يعارض ربرباً ... على كل رجاف من الرمل هائل يثرن الحصى حتى يباشرن برده ... إذا الشمس مجت ريقها بالكلاكل وناجية عديت في متن لاحب ... كسحل اليماني قاصد للمناهل له خلج تهوى فرادى وترعوي ... إلى كل ذي نيرين بادي الشواكل وإني عداني عن لقائك حادث ... وهم أتى من دون همك شاغلي نصحت بني عوف فلم يتقبلوا ... وصاتي ولم تنجح لديهم وسائلي فقلت لهم لا أعرفن عقائلاً ... رعابيب من جنبي أريك وعاقل ضوارب بالأيدي وراء براغز ... حسان كآرام الصريم الخواذل خلال المطايا يتصلن وقد أتت ... قنان أبير دونها والكواثل وخلوا له بين الجناب وعالج ... فراق الخليط ذي الأذاة المزايل ولا أعرفني بعد ما قد نهيتكم ... أجادل يوماً في شوي وجامل وبيض غريرات تفيض دموعها ... بمستكره يذرينه بالأنامل وقد خفت حتى ما تزيد مخافتي ... على وعل في ذي المطارة عاقل مخافة عمرو أن تكون جياده ... يقدن إلينا بين حاف وناعل إذا استعجلوها عن سجية مشيها ... تتلع في أعناقها بالجحافل شوازب كالأجلام قد آل رمها ... سماحيق صفراً في تليل وفائل ويقذفن بالأولاد في كل منزل ... تشحط في أسلائها كالوصائل ترى عافيات الطير قد وثقت لها ... بشبع من السخل العتاق الأكائل برى وقع الصوان حد نسورها ... فهن لطاف كالصعاد الذوابل مقرنة بالعيس والأدم كالقنا ... عليها الحبور محقبات المراجل وكل صموت نثلة تبعية ... ونسج سليم كل قضاء ذائل علين بكديون وأبطن كرة ... فهن وضاء صافيات العلائل عتاد امرئ لا ينقض البعد همه ... طلوب الأعادي واضح غير خامل تحين بكفيه المنايا وتارة ... تسحان سحا من عطاء ونائل إذا حل بالأرض البرية أصبحت ... كئيبة وجه غبها غير طائل يؤم بربعي كأن زهاءه ... إذا هبط الصحراء حرة راجل - 27 - وقال يمدح النعمان بن المنذر: أمن ظلامة الدمن البوالي ... بمرفض الحي إلى وعال فأمواه الدنا فعويرضات ... دوارس بعد أحياء حلال تأبد لا ترى إلا صواراً ... بمرقوم عليه العهد خال تعاورها السواري والغوادي ... وما تذرى الرياح من الرمال أثيت نبته جعد ثراه ... به عوذ المطافل والمتالي يكشفن الألاء مزينات ... بغاب ردينة السحم الطوال كأن كشوحهن مبطنات ... إلى فوق الكعوب برود خال فلما أن رأيت الدار قفرا ... وخالف بال أهل الدار بالي نهضت إلى عذافرة صموت ... مذكرة تجل عن الكلال فداء لامرئ سارت إليه ... بعذرة ربها عمي وخالي ومن يغرف من النعمان سجلاً ... فليس كمن يتيه في الضلال

زهير بن أبي سلمى

فإن كنت امرأ قد سؤت ظناً ... بعبدك والخطوب إلى تبال فأرسل إلى بني ذبيان فاسأل ... ولا تعجل إلي عن السؤال فلا عمر الذي أثنى عليه ... وما رفع الحجيج إلى إلال لما أغفلت شكرك فانتصحني ... وكيف ومن عطائك جل مالي ولو كفي اليمين بغتك خوناً ... لأفردت اليمين من الشمال ولكن لا تخان الدهر عندي ... وعند الله تجزية الرجال له بحر يقمص بالعدولي ... وبالخلج المحملة الثقال مضر بالقصور تذود عنها ... قراقير النبيط إلى التلال وهوب للمخيسة النواجي ... عليها القانئات من الرحال - 28 - وقال أيضاً: ألا أبلغا ذبيان عني رسالة ... فقد أصبحت عن منهج الحق جائره أجدكم لن تزجروا عن ظلامة ... سفيهاً ولن ترعوا لذي الود آصره فلو شهدت سهم وأبناء مالك ... فتعذرني من مرة المتناصره لجاءوا بجمع لم ير الناس مثله ... تضاءل منه بالعشي قصائره ليهنئ لكم أن قد نفيتم بيوتنا ... مندى عبيدان المحلئ باقره وإني لألقى من ذوي الضعن منهم ... وما أصبحت تشكو من الوجد ساهره كما لقيت ذات الصفا من حليفها ... وما انفكت الأمثال في الناس سائره فقالت له أدعوك للعقل وافيا ... ولا تغشيني منك بالظلم بادره فوثقها بالله حين تراضيا ... فكانت تديه المال غبا وظاهره فلما توفي العقل إلا أقله ... وجارت به نفس عن الحق جائره تذكر أني يجعل الله جنة ... فبصبح ذا مال ويقتل واتره فلما رأى أن ثمر الله ماله ... وأثل موجوداً وسد مفاقره أكب على فأس يحد غرابها ... مذكرة من المعاول باتره فقام لها من فوق جحر مشيد ... ليقتلها أو تخطئ الكف بادره فلما وقاها الله ضربة فأسه ... وللبر عين لا تغمض ناظره فقال تعالى نجعل الله بيننا ... على مالنا أو تنجزي لي آخره فقالت يمين الله أفعل أنني ... رأيتك مسحوراً يمينك فاجره أبى لي قبر لا يزال مقابلي ... وضربة فأس فوق رأسي فاقره - 29 - وقال أيضاً: ودع أمامة والتوديع تعذير ... وما وداعك من قفت به العير وما رأيتك إلا نظرة عرضت ... يوم النمارة والمأمور مأمور إن إلى الفول حي وإن بعدوا ... أمسوا ودونهم ثهلان فالنير هل تبلغينهم حرف مصرمة ... أجد القفار وإدلاج وتهجير قد عريت نصف حول أشهر جددا ... يسفى على رحلها بالحيرة المور وفارقت وهي لم تجرب وباع لها ... من الفصافص بالنمي سفسير ليست ترى حولها إلفاً وراكبها ... نشوان في جوة الباغوث مخمور تلقى الإوزين في أكناف دارتها ... بيضاً وبين يديها التين منشور لولا الهمام الذي ترجى نوافله ... لقال راكبها في عصبة سيروا كأنها خاضب أظلافه لهق ... قهد الإهاب تربته الزنانير أصاخ من نبأة أصغى لها أذناً ... صماخها بدخيس الروق مستور من حس أطلس تسعى تحته شرع ... كأن أحناكها السفلى مآشير يقول راكبها الجني مرتفقاً ... هذا لكن ولحم الشاة محجور تمت القصائد المختارة من شعر النابغة. زهير بن أبي سلمى ترجمة الشاعر - 1 - هو زهير بن ربيعة الملقب بأبي سلمى، من قبيلة مزينة من مضر. كان يقيم هو وقومه في بلاد غطفان وأسرته أسرة شاعرة فكان أبوه شاعراً وخال أبيه - واسمه بشامة بن الغدير - شاعراً؛ جمع إلى الشعر الحكمة وجودة الرأي، وكانت غطفان إذا أرادوا الغزو أتوه فاستشاروه وصدروا عن رأيه، فإذا رجعوا من الحرب قسموا له مثل ما يقسمون لأفضلهم، وقد لازمه زهير وأخذ عنه الشعر وجودة الرأي. وكان زوج أمه أوس بن حجر - شاعراً. وكان أبو شاعراً وأخته سلمى شاعرة، وابناه - كعب ويجير - شاعرين، وابن ابنه المضرب بن كعب بن زهير كان كذلك شاعراً.

أسباب شاعرية زهير

وكانت بلاد غطفان ساحة للعداء الشديد والحرب المستعرة بين قبيلتين من قبائلهما وهما عبس وذبيان، وكانت هذه الحروب وهذا العداء سبباً في ثروة أدبية كبيرة من شعر ملئ بالفخر والهجاء والتحريض على القتال والأخذ بالثأر، ومن قصص تدور وقائعها على ما كان بين الفريقين. فكثير من شعر عنترة العبسي مثلاً يصف الأطوار الأخيرة لحرب داحس والغبراء الطاحنة، وكان كثير من شعر زهير يدور حول السلم بين القبيلتين والدعوة إليه وإظهار نتائجه، والإعجاب برجلين من رؤساء ذبيان، وهما هرم بن سنان والحارث بن عوف، سعيا في الصلح بين عبس وذبيان واحتملا ديات القتلى ونشرا السلام في غطفان، فكان هذا داعياً لزهير ليصور حبه للسلام واستفظاعه للحرب وأهوالها، وليمدح هذين العظيمين على ما قاما به من جهود لتوطيد دعائم السلم في هذه الجزيرة العربية المتنافرة المتخاصمة. وقد مدح هرم بن سنان بمدائح كثيرة، وأجزل هرم له العطاء وله نحو العشرين قصيدة، يمدحه هو والحارث بن عوف بها؛ لسعيه في الصلح بين عبس وذبيان. ومات قبل البعثة بقليل. وكان سنان أبو هرم سيد غطفان وماتت أمه وهي حامل به. وقالت: إذا أنا مت فشقوا بطني. فإن سيد غطفان فيه، فلما ماتت شقوا بطنها فاستخرجوا منه سنانا. وفي بني سنان يقول زهير: قوم أبوهم سنان حين تنسبهم ... طابوا وطاب من الأولاد ما ولدوا لو كان يقعد فوق الشمس من كرم ... قدم بأولهم أو مجدهم قعدوا جن إذا فزعوا أنس إذا أمنوا ... مرزؤون بهاليل إذا قصدوا محسدون على ما كان من نعم ... لا ينزع الله منهم ماله حسدوا وقال زهير في هرم بن سنان: وأبيض فياض يداه غمامة ... على معتفيه ما تغب فواصله تراه إذا ما جئته متهللا ... كأنك تعطيه الذي أنت سائله أخو ثقة لا تتلف الخمر ماله ... ولكنه قد يتلف المال نائله وقال زهير أيضاً في هرم بن سنان وأهل بيته: من أهل بيت يرى ذو العرش فضلهم ... يبني لهم في جنان الخلد مرتفق المطعمين إذا ما أزمة أزمت ... والطيبين ثياباً كلما عرقوا كأن آخرهم في الجود أولهم ... إن الشمائل والأخلاق تتفق إن قامروا قمروا أو فاخروا فخروا ... أو ناضلوا نضلوا أو سابقوا سبقوا تنافس الأرض موتاهم إذا دفنوا ... كما تنافس عند الباعة الورق قال الميداني في مجمع أمثاله عند قولهم أجود من هرم: هو هرم بن سنان بن أبي حارثة المري وقد سار بذكر جوده المثل، وقال زهير بن أبي سلمى فيه: إن البخيل ملوم حيث كان ... ولكن الجواد على علاته هرم هو الجواد الذي يعطيك نائله ... عفواً ويظلم أحياناً فيظلم ووفدت ابنة هرم على عمر، فقال لها: ما كان الذي أعطى أبوك زهيراً حتى قابله من المديح بما قد سار فيه، فقالت: أعطاه خيلاً تنضى، وإبلاً تتوى وثيابا تبلى ومالاً يفنى. فقال عمر: لكن ما أعطاكم زهير لا يبليه الدهر، ولا يفنيه العصر.. ويروى أنها قالت: ما أعطى هرم زهيراً قد نسي. قال: لكن ما أعطاكم زهير لا ينسى. - 2 - وزهير من شعراء الطبقة الأولى من شعراء الجاهلية، وفضله كثير ممن لهم معرفة بنقد الشعر على امرئ القيس والنابغة وأضرابهما، وقال أناس: هو أشعر العرب وعده عمر أشعر الشعراء لأنه لا يعاظل بين الكلام ولا يتتبع حواشيه ولا يمدح أحد بغير ما فيه. وذكره الأصمعي قال: كفاك من الشعراء أربعة: "زهير إذا طرب والنابغة إذا رهب والأعشى إذا غضب وعنترة إذا كلب". وكان زهير يتأله ويتعفف في شعره، ويدل شعره على إيمانه بالبعث كقوله: يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر ... ليوم الحساب أو يعجل فينتقم وكان عمر بن الخطاب يعجب بقوله: فإن الحق مقطعه ثلاث ... يمين أو نفار أو جلاء يعني يميناً أو مناقرة إلى الحاكم أو برهان. ومما جرى من شعره مجرى المثل قوله: وهل ينبت الخطى إلا وشيجه ... وتغرس إلا في منابتها النخل أسباب شاعرية زهير

أثر حياة زهير في شعره

كان زهير شاعراً مجيداً معدوداً من فحول الشعراء في الجاهلية، وكان النقاد يضعونه مع امرئ القيس والنابغة والأعشى في طبقة واحدة، هي الطبقة الأولى من شعراء الجاهلية. وكان الذي بلغ به إلى هذه المنزلة الكبيرة في الشعر، ووثق أسباب شاعريته عدة أسباب كثيرة منها: أولاً - هذه البيئة العربية البدوية الشاعرة. ثانياً - تلك النهضة الأدبية في الشعر التي كانت تموج بها نجد والقرى العربية في عصر زهير. ثالثاً - وراثته الشعر عن أسرته. فقد كان خاله بشامة بن الغدير شاعراً وكانت أسرة زهير من ذريته من المجيدين في الشعر قالوا: "لم يتصل الشعر في أهل بيت من العرب كما اتصل في بيت زهير" فأبوه وأبناؤه وأحفاده وأخته الخنساء كلهم من الشعراء المجيدين. رابعاً - اشترك زهير في الملاحم الحربية في الجزيرة العربية. وفي حرب داحس والغبراء، والحروب تثير الشاعرية، وتهيج الخيال، وتحرك الشعور، وتبعث على الكلام. خامساً - المنافسات الأدبية بين زهير والشعراء المعاصرين له، كانت سبباً أيضاً من أسباب نضوج شعره وشاعريته. سادساً - قصد زهير بشعره إلى المدح كان يدفعه إلى الإجادة والتهذيب في شعره، مما رفع من مكانته، وقوى أسباب الرغبة في نفسه وشاعريته. أثر حياة زهير في شعره أولاً - نشأته في أسرة شاعرة جعلته يجود من شعره ويهذب من شاعريته. ثانياً - اتصاله بهرم وتوالي أيادي هرم عليه جعله يجود في المدح. ثالثاً - مشاهدته حرب داحس والغبراء الطاحنة، ومآسيها الدامية، دفعه إلى نظم الشعراء في التنفير من الحرب والدعوة إلى السلام. رابعاً - تجارب زهير وخبرته بالحياة أنضجت شعر الحكمة عنده. خامساً - التنافس الأدبي بينه وبين الشعراء، وتلمذته على أوس بن حجر، دفعاه إلى تجويد شعره والعناية بتهذيبه. - 3 - خصائص شعره أولاً - من حيث الألفاظ: كان زهير يختار ألفاظه اختيار، ويبالغ في اختيارها بذوقه وفطرته الأدبية، وقد يسرف في الغرابة حيناً، ولكن لا يخلو أغلب شعره من سهولة في اللفظ حيناً، وجزالة وقوة غالبتين عليه أحياناً. ثانياً - من حيث الأسلوب: وأسلوب زهير من أساليب الشعراء المجددين المصنعين في شعرهم، وأنتم تعلمون مذهب زهير في الروية وتهذيب الشعر وتنقيحه للوصول به إلى منزلة الكمال الفني في النظم وإدراكاً للمنزلة السامية بين الشعراء. ومذهب الروية في شعر زهير واضح كل الوضوح في جميع قصائده، ويتجلى في عدة مظاهر في أسلوب زهير، من إمعان في تنقيح الأسلوب ونفي كل ما يعاب به، وإسقاط كل ما يؤخذ عليه، ومن إدخال الرونق والبهاء والجمال على كل بيت من أبيات قصيدته، ومن قصد للسهولة والوضوح والإمتاع واللذة الفنية التي تبعث على الإعجاب والروعة والتأثر. ويغلب على شعر زهير ألوان كثيرة من الصنعة، يدخلها فيه من استعارة وتشبيه وكناية وطباق، ولكن هذه الألوان الفنية تجيء في شعره عفو القريحة، من غير قصد إليها وتعمل لها وتكلف فيها وغلو في طلبها، وإنما تنبعث من ذوق الشاعر وموهبته وروحه الصناع الموهوب وهذه الخصائص التي امتاز بها أسلوب زهير كانت هي السبب الأهم في تقديم كثير من النقاد له، ويجمع أغلبهم على وصف أسلوبه بالخلو من التعقيد والتكلف، وبالمساوقة للطبع وبالسهولة والوضوح في قوة وجزالة.. وعلى أي حال، فأسلوب زهير ذوب شاعريته وملكاته في الشعور، ومذهبه في الصنعة الذي شهر به، والذي أخذه عنه تلاميذه من أمثال الحطيئة، وكعب ابن شاعرنا زهير. ثالثاً - من حيث المعاني: ومعاني زهير كما قلت تنبع من نفسه وتصدر عن حسه، وتتصل بمظاهر البيئة في حياته لا يمعن فيها في طلب المحال، ولكنه يعمد إلى الصدق فإذا بالغ في أداء المعنى اختار طريق المبالغة المقبولة فقال مثلاً: فلو كان حمد يخلد الناس أخلدوا ... ولكن حمد الناس ليس بمخلد

وإذا أراد أن يجود في المدح اختار ما هو أليق به وأقرب إلى ذوق الناس في عصره من وصف ممدوحه بالبطولة والشجاعة والعفة والنائل الكثير، والتهلل عند ورود العفاة ولكنه لا يزعم أبداً أن ممدوحه فعل المعجزات وصنع المستحيلات ونالت قدرته السموات، كما يزعم المحدثون من الشعراء. وتشيع في معاني زهير الحكمة الصادقة، والتجربة الصحيحة، والخبرة الواعية بالحياة وأحداثها ومشكلاتها. ومن ثم عد من شعراء الحكمة في الشعر الجاهلي. رابعاً - من حيث الخيال: ومعاني زهير لا يسوقها سوق الحس والمشاهدة فحسب، ولكنه يتكئ فيها على خياله، ليبرزها في ألوان مجنحة من صنعة الخيال المتصرف في ملكات النفس والشعور وهذا الخيال عند زهير من صنعته أن يقرب البعيد، ويسهل الصعب من المعاني ويوضح الغامض، وأجنحة هذا الخيال في مبالغة مقبولة أو استعارة صادقة، أو كناية قريبة، أو تشبيه مستطرف في ثنايا شعره. خامساً - من حيث الأغراض: أجاد زهير إجادة عالية في الحكمة والمدح والغزل، وقارب من الإجادة في الوصف والفخر والعتاب، وكان متوسطاً في الهجاء والرثاء والاعتذار.. وقد مضت نماذج لهذه الفنون من شعره، ولكن الذي نريد أن نتحدث عنه هو أسباب تجويده في المدح.. وهذه الأسباب من أهمها: أولاً: حرص زهير على تسجيل بعض مآثر سادات العرب الذين كان لهم مكان مرموق في الحياة الجاهلية، وأثر واضح في فض مشكلات الحرب بين قبائلها. ثانياً: الوفاء الذي طبعت عليه نفس زهير وشدة تأثر بأيدي ممدوحيه عليه. ثالثاً: اعتزازه بمفاخر القبيلة، ومجدها ومآثرها، مما كان يدفعه إلى مدح قومه. رابعاً: اتصاله بهرم وتوالي أيادي هرم عليه.. كل هذه الأسباب جعلته جيد المدح. ولذلك قالوا: "كان أشعر الناس امرئ القيس إذا ركب، وزهير إذا رغب، والنابغة إذا رهب، والأعشى إذا طرب". ويقصدون من ذلك أن أجود شعر امرئ القيس كان في وصف الخيل والصيد، وأجود شعر زهير كان في المدح، وأجود شعر النابغة كان في الاعتذار، وأجود شعر الأعشى كان في وصف الخمر. - 4 - وكان زهير ينقح شعره مدة طويلة فتسمى كبار قصائده "الحوليات"، وعد من عبيد الشعر.. ولذلك كان زهير "أبعد الشعراء عن سخف، وأجمعهم لكثير من المعنى في قليل من اللفظ، وأكثرهم أمثالاً في شعره".. وكان لا يتتبع حوشي الكلام ولا يمدح الرجل إلا بما يكون فيه. والظاهر أن طول تهذيبه لشعره إنما كان في طوال قصائده.. وهي أربع: أحداها مطلعها: قف بالديار التي لم يعفها القدم ... بلى وغيرها الأرواح والديم والثانية: إن الخليط أجد البين فانفرقا ... وعلق القلب من أسماء ما علقا والثالثة: بأن الخليط ولم يأووا لمن تركوا ... وذودوك اشتياقا أية سلكوا والرابعة: لمن طلل برامة لا يريم ... عفا وخلا له حقب قديم تظهر هذه الروية في شعره كل الظهور، فهو هادئ رزين في تفكيره، يتخير المعاني التي تناسب موضوعه، ويتخير لهذه المعاني خير الألفاظ، يرفق مواضع الرفق، ويشتد في مواضع الشدة. كذلك عرف بالميل إلى الحكمة، جرب الدهر وحلب أشطره وخبر الناس وعرف نفوسهم فعمد إلى صياغة ذلك كله في شعره -وكان ملهما - فأتى بما لم يسبق إليه وقد أعجب المسلمون في الصدر الأول بحكمه، وفضله بعضهم من أجلها على سائر الشعراء، لما فيها من صدق القول، وحسن النظر، ولما فيها من نظرات تتفق ومبادئ الإسلام كقوله: فلا تكتمن الله ما في نفوسكم ... ليخفى ومهما يكتم الله يعلم يؤخر فوضع في كتاب فيدحر ... ليوم حساب أو يعجل فينقم وخير شعره هو في مدح هرم بن سنان، كقوله: قد جعل المبتعون الخير في هرم ... والسائلون إلى أبوابه طرقا من يلق يوماً على علاقة هرما ... يلق السماحة منه والندى خلقا ليث بعثر يصطاد الليوث إذا ... ما الليث كذب عن أقرانه صدقا يطعنهم ما ارتموا حتى إذا طعنوا ... ضارب حتى إذا ما ضاربوا اعتنقا لو نال حي من الدنيا بمكرمة ... أفق السماء لنالت كفه الأفقا وقوله: دع ذا وعد القول في هرم ... خير البداة وسيد الحضر لو كنت من شيء سوى بشر ... كنت المنور ليلة البدر ولأنت أوصل من سمعت به ... لشوابك الأرحام والصهر

المختار من شعر زهير

ولنعم حشو الدرع أنت إذا ... دعيت نزال ولج في الذعر وأراك تفري ما خلقت وبع ... ض القوم يخلق ثم لا يفري أثنى عليك بما علمت وما ... سلفت في النجدات من ذكر والستر دون الفاحشات ولا ... يلقاك دون الخير من ستر ولما مات هرم رثاه زهير بقصيدته: إن الرزية لا رزية مثلها ... ما تبتغي غطفان يوم أضلت إن الركاب لتبتغي ذا مرة ... بجنوب نخل إذا الشهور أحلت ينعين خير الناس عند شديدة ... عظمت مصيبته هناك وجلت ولنعم حشو الدرع كان إذا سطا ... نهلت من العلق الرماح وعلت وأولى قصائده معلقته التي مطلعها: أمن أم أو في دمنة لم تكلم ... بحومانة الدراج فالمتثلم وهي في تسعة وخمسين بيتاً وموضوعها إطراء الصلح بين عبس وذبيان ومدح هرم والحارث بن عوف لقيامهما بهذا العمل الجليل. - 5 - وقد ظهر منذ حين شرح لديوان زهير بن أبي سلمى، ويهو يقع في نحو 460 صفحة من القطع الكبير، وطبع بمطبعة دار الكتب المصرية - وللديوان قصة فإنه منذ سنوات أتيح للمستشرق المعروف الأستاذ أوجست فيشر الاطلاع على مخطوط قديم بمكتبة الجمعية الألمانية الشرقية بمدينة هلة، شرح فيه مصنفه ديوان الشاعر الجاهلي الكبير زهير بن أبي سلمى المزني وديوان ولده كعب. ويمتاز هذا المخطوط بأنه نسخة ديوان زهير فيه أقدم نسخه المعروفة جميعاً، إذ يرجع تاريخها إلى سنة 533 هجرية، كما أن ديوان كعب فريد لا يعرف له نسخة ثانية. ويقول الأستاذ فيشر في وصفه إنه مخطوط بقلم لغوي يدير، يندر أن تفوته غلطة، كتبه بخط واضح كامل الشكل، ومما يذكر أن هذا المخطوط كان قد عثر عليه الأستاذ ألبرت سوتسن في زيارة له لدمشق 1783، وآلت ملكيته إلى الجمعية الألمانية بعد وفاته وليس زهير في حاجة إلى تعرف، فهو أحد ثلاثة كانوا أقطاب الشعر في الجاهلية والمقدمين على سائر الشعراء. وكان يسمي قصائده المطولة "الحوليات" لكثرة ما يعود إليها بالنظر والتروية والتنقيح، حتى كان الأصمعي يقول "زهير والحطيئة وأشباههما من الشعراء عبيد الشعر لأنهم نقحوه ولم يذهب فيه مذهب المطبوعين". ورغم مكانة زهير هذه، فإن ديوانه لم يطبع غير مرة واحدة منذ قرابة نصف قرن، وكانت الحاجة ماسة لذلك، إلى إعادة نشره من جديد على طريقة التحقيق العلمي الحديث.. وهذلت ما تكفلت به الطبعة التي بين أيدينها. ورواية زهير وشارحه في هذه الطبعة هو الإمام أبو العباس أحمد بن يحيى بن زيد الشيباني المعروف بثعلب اللغوي الكوفي الحجة. وقد كان كما يقول عنه القطربلي "من الحفظ والعلم وصدق اللهجة والمعرفة بالغيب ورواية الشعر القديم ومعرفة النحو على مذهب الكوفيين على ما ليس عليه أحد" ووصفه المبرد بأنه "أعلم الكوفيين" على رغم ما كان بينهما من تنافس ونزاع. وذكر له ابن النديم اثنين وعشرين كتاباً في النحو والأدب واللغة، من أشهرها كتاب الفصيح المعروف باسمه. وله شرح على ديوان الأعشى نشره المستشرق رودلف جيد، وشرح ديوان زهير الذي نحن بصدده، وقد تواتر الإجماع بروايته له في سائر نسخ الديوان المعروفة بغير شك أو خلاف. أما شرح ديوان كعب فالمحقق الأوجه لنسبته لثعلب. ويقطع الأستاذ فيشر بأنه للسكري اللغوي البصري (المتوفي سنة 275هـ) .. ويرجح ذلك عنده ما ورد في نهاية المخطوط حيث ذكر ناسخه بعد الفراغ من شعر كعب: "تم شعر كعب في رواية السكري"، ثم ما ورد في رواية بعض القصائد مما يغلب أن يكون رواية من غير أهل الكوفة. المختار من شعر زهير - 1 - قال زهير بن أبي سلمى: أمن أم أوفى دمنة لم تكلم ... بحومانة الدراج فالمتثلم ودار لها بالرقمتين كأنها ... مراجيع وشم في نواشر معصم بها العين والآرام يمشين خلفة ... وأطلاؤها ينهضن من كل محثم وقفت بها من بعد عشرين حجة ... فلأياً عرفت الدار بعد توهم أثافي سفعاً في معرس مرجل ... ونؤياً كجذم الحوض لم يتثلم فلما عرفت الدار قلت لربعها ... ألا انعم صباحاً أيها الربع واسلم تبصر خليلي هل ترى من ظعائن ... تحملن بالعلياء من فوق جرثم علون بأنماط عتاق وكلة ... وراد حواشيها مشاكهة الدم

تحليل لمعلقة زهير

ووركن في السوبان يعلون متنه ... عليهن دل الناعم المتنعم وفيهن ملهى للصديق ومنظر ... أنيق لعين الناظر المتوسم بكرن بكوراً واستحرن بسحرة ... فهن لوادي الرس كاليد للفم جعلن القنان عن يمين وحزنه ... ومن بالقنان من محل ومحرم ظهرن من السوبان ثم جزعنه ... على كل قيني قشيب مفأم كأن فتات العهن في كل منزل ... نزلن به حب الفنا لم يحطم فلما وردن الماء زرقاً جمامه ... وضعن عصي الحاضر المتخيم سعى ساعياً غيط ابن مرة بعدما ... تبزل ما بين العشيرة بالدم فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله ... رجال بنوه من قريش وجرهم يميناً لنعم السيدان وجدتما ... على كل حل من سحيل ومرم تدار كتما عبساً وذبيان بعدما ... تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم وقد قلتما إن ندرك السلم واسعاً ... بمال ومعروف من الأمر نسلم فأصبحتما منها على خير موطن ... بعيدين فيها من عقوق ومأتم عظيمين في عليا معد وغيرها ... ومن يستبح كنزاً من المجد يعظم فأصبح يجري فيهم من تلادكم ... مغانم شتى من إقال المزنم تعفى الكلوم بالمئين فأصبحت ... ينجمها من ليس فيها بمجرم ينجمها قوم لقوم غرامة ... ولم يهريقوا بينهم ملء محجم فمن مبلغ الأحلاف عني رسالة ... وذبيان هل أقسمتم كل مقسم فلا تكتمن الله ما في نفوسكم ... ليخفى ومهما يكتم الله يعلم يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر ... ليوم الحساب أو يعجل فينقم وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم ... وما هو عنها بالحديث المرجم متى تبعثوها تبعثوها ذميمة ... وتضر إذا أضربتموها فتضرم فنعرككم عرك الرحى بثقالها ... وتلقح كشافاً ثم تحمل فتتئم فنتج لكم غلمان أشأم كلهم ... كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم فتعلل لكم مالا تغل لأهلها ... قرى بالعراق من قفير ودرهم لعمري لنعم الحي حر عليهم ... بما لا يواتيهم حصين بن ضمضم وكان طوى كشحاً على مستكة ... فلا هو أبداها ولم يتجمجم وقال سأقضي حاجتي ثم أتقي ... عدوي بألف من ورائي ملجم فشد ولم تفزع بيوت كثيرة ... لدى حيث ألقت رحلها أم قشعم لدى أسد شاكي السلاح مقذف ... له لبد أظفاره لم تقلم جريء متى يظلم يعاقب بظلمه ... سريعاً، وإلا يبد الظلم بظلم رعوا ما رغوا من ظمئهم ثم أوردوا ... غماراً تسيل بالرماح وبالدم فقضوا منايا بينهم ثم أصدروا ... إلى كلأ مستوبل متوخم لعمرك ما جرت عليهم رماحهم ... دم ابن نهيك أو قتيل المثلم ولا شاركوا في القوم في دم نوفل ... ولا وهب منهم ولا ابن المحزم فكلأ أراهم أصبحوا يعقلونهم ... علالة ألف بعد ألف مصتم تساق إلى قوم لقوم غرامة ... صحيحات مال طالعات بمخرم لحي حلال يعصم الناس أمرهم ... إذا طلعت إحدى الليالي بمعظم كرام فلاذوا لوتر يدرك وتره ... لديهم ولا الجاني عليهم بمسلم سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ... ثمانين حولاً لا أبالك يسأم رأيت المنايا خبط عشواء من تصب ... تمته ومن تخطئ يعمر فيهرم وأعلم علم اليوم والأمس قبله ... ولكنني عن علم ما في غد عم ومن لا يصانع في أمور كثيرة ... يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم ومن يجعل المعروف من دون عرضه ... يفره ومن لا يتق الشتم يشتم ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله ... على قومه يستغن عنه ويذمم ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه ... يهدم ومن لا يظلم اليأس يظلم ومن هاب أسباب المنية يلقها ... ولو رام أسباب السماء بسلم ومن يعص أطراف الزجاج فإنه ... يطيع العوالي ركبت كل لهدم ومن يوف لا يذمم ومن يفض قلبه ... إلى مطمئن البر لا يتجمجم ومن يغترب يحسب عدواً صديقه ... ومن لا يكرم نفسه لا يكرم ومهما تكن عند امرئ من خليقة ... ولو خالها تخفى على الناس تعلم ومن لا يزل يستحمل الناس نفسه ... ولا يغنها يوماً من الدهر يسأم تحليل لمعلقة زهير

هذه المعلقة هي أثر آخر من آثار البلاغة العربية القديمة، يقع في تسعة وخمسين بيتاً، وصاحبها هو زهير بن أبي سلمى ربيعة بن رباح المزني. نشأ في أقاربه بني غطفان وتخرج في الشعر على خال أبيه بشامة بن الغدير، وكان يروي لأوس بن حجر أيضاً وكان أوس زوج أمه، فكان شاعراً فحلاً، كما كان صائب الرأي عاقلاً حازماً حكيماً وكان يتأله ويتعفف في شعره.. ويدل شعره على إيمان بالبعث: يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر ... ليوم حساب أو يعجل فينقم وفضله عمر بن الخطاب على الشعراء، لأنه كان لا يعاظل بين القول ولا يتبع حوشي الكلام ولا يمدح الرجل إلا بما هو فيه. وكان زهير أحكمهم شعراً، وأبعدهم من سخف وأجمعهم لكثير من المعنى في قليل من المنطق وأشدهم مبالغة في المدح. كانت حرب داحس والغبراء بين عبس وبيان تؤرق زهيراً وتضنيه، وتثير شاعريته. ولما سعى هرم بن سنان والحارث بن عوف المريان في الصلح وحقن الدماء وتحملا ديات القتلى أنطلقت تلك المأثرة زهيراً، فنظم معلقته هذه يمدح هذين السيدين، وينوه بعملهما الجليل ويدعو إلى السلم وينفر من الحرب ويصف مآسيها وآلامها، وهي قصيدة رائعة، تمتاز بحكمها الكثيرة، وكان زهير ذا حكمة في شعره.. وقد بدأ زهير معلقته بذكر الديار وزيارته لها ووقوفه فيها عشرين عاماً طوالاً يتذكر ذكريات حبه ووفائه، قال: أمن أم أوفى دمنه لم تكلم ... بحوماته الدراج فالمتثلم وقفت بها من بعد عشرين حجة ... فلأياً عرفت الدار بعد توهم فلما عرفت الدار قلت لربعها ... ألا أنعم صباحاً أيها الربع واسلم ثم أخذ يصف النساء اللاتي ارتحلن عنها، فيتبعن ببصره كئيباً حزيناً، ويصف الطريق التي سلكنها، والهوادج التي كن فيها، والمياه التي نزلنها، في عذوبة وسهولة وجمال، إلى أن يقول: فلما وردن الماء زرقا جمامه ... وضعن عصى الحاضر المتخيم تذكرني الأحلام ليلى ومن تطف ... عليه خيالات الأحبة يحلم ثم ينتقل إلى مدح هرم الحارث والإشادة بمنقبتهما الكريمة في إنقاذ السلام وإطفاء الحرب بين عبس وذبيان وتحملهما ديات القتلى من ما لهما، وقد بلغت ثلاثة آلاف بعير. قال: سعى ساعياً "غيظ بن مرة" بعدما ... تبزل ما بين العشيرة بالدم فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله ... رجال بنوه من قريش وجرهم يميناً لنعم السيدان وجدتما ... على كل حال من سحيل ومبرم تداركتما عبساً وذبيان بعدما ... تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم وقد قلتما إن ندرك السلم واسعاً ... بمال ومعروف من الأمر نسلم فأصبحتما منها على خير موطن ... بعيدين فيها من عقوق ومآثم ثم ندد بالحرب ووصف فظائعها؛ ودعا إلى السلم وأكده وأوجبه على المتحاربين، قال: وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم ... وما هو عنها بالحديث المرجم متى تبعثوها تبعثوها ذميمة ... وتضر إذا ضربتموها فتضرم ثم ينصح قومه بأن يبقوا على السلم، ويندد بالحصين بن ضمضم وبآثار عمله في تهييج الشر وإعادة نار المحرب، وكان الحصين حين اجتمع القوم للصلح قد حمل على رجل له عنده ثأر في الحرب فقتله، ويعيد التنويه بالرجلين اللذين احتملا ديات القتلى واحداً واحداً على غير جريرة كانت منهما. ثم ينتقل من هذا المجال الرهيب مجال النصح والتوجيه وتأكيد السلام، إلى مجال الحكمة الإنسانية العامة، حكمة الرجل المجرب للحياة الذي ذاقها وخبرها، وعاش في خضمها، ثم امتد به العمر فزهدها وانصرف عنها.. قال: ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله ... على قومه يستغن عند ويذمهم إلى أن قال: سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ... ثمانين حولاً لا أبالك يسأم وأعلم ما في اليوم والأمس قبله ... ولكنني عن علم ما في غد عم رأيت المنايا خبط عشواء من تصب ... تمته ومن تخطئ يعمر فيهرم ويختمها بتأكيد معروف السيدين الممدوحين عليه فيقول: سألنا فأعطيتم وعدنا فعدتم ... ومن يكثر التسآل يوماً سيحرم - 2 - وقال أيضاً يمدح سنان بن أبي حارثة المري: صحا القلب عن سلمى وقد كاد لا يسلو ... وأقفر من سلمى التعانيق فالثقل

وقد كنت من سلمى سبين ثمانيا ... على صبر أمر ما يمر وما يحلو وكنت إذا ما جئت يوماً لحاجة ... مضت وأجمت، حاجة الغد ما تخلو وكل محب أحدث النأي عنده ... سلو فؤاد غير حبك ما يسلو تأوبني ذكر الأحبة بعده ما ... هجعت ودوني قلة الحزن فالرمل فأقسمت جهداً بالمنازل من منى ... وما سحقت فيها المقادم والقمل لأرتحلن بالفجر ثم لأدأبن ... إلى الليل إلا أن يعرجني طفل إلى معشر لم يورث اللؤم جدهم ... أصاغرهم وكل فحل له نجل تربص فإن تقو المروراة منهم ... وداراتها لا تقو منهم إذن نخل فإن تقويا منهم فإن محجراً ... وجزع الحسا منهم إذن قلما يخلو بلاد بها ندمتهم وألفتهم ... فإن تقويا منهم فإنهما بسل إذا فزعوا طاروا إلى مستغيثهم ... طوال الرماح لا ضعاف ولا عزل بخيل عليها جنة عبقرية ... جديرون يوماً أن ينالوا فيستعلوا وإن يقتلوا فيشتفى بدمائهم ... وكانوا قديماً من مناياهم القتل عليها أسود ضاريات لبوسهم ... سوابغ بيض لا تخرقها النبل إذا لقحت حرب عوان مضرة ... ضروس تهر الناس أنيابها عصل قضاعية أو أختها مضرية ... يحرق في حافاتها الخطب الجزل تجدهم على ما خيلت هم إزاءها ... وإن أفسد المال الجماعات والأزل يحشونها بالمشرفيات والقنا ... وفتيان صدق لا ضعاف ولا نكل تهامون نجديون كيداً ونجعة ... لكل أناس من وقائعهم سجل هم ضربوا عن فرجها بكتيبة ... كبيضاء حرس في طوائفها الرجل متى يشتجر قوم تفل سرارتهم ... هم بيننا فهم رضا وهم عدل هم جددوا أحكام كل مضلة ... من العقم لا يلقى لأمثالها فصل بعزمة مأمور مطيع وآمر ... مطاع فلا يلقى لحزمهم مثل ولست بلاق بالحجاز مجاورا ... ولا سفراً إلا له منهم حبل بلاد بها عزوا معدا وغيرها ... مشاربها عذب وأعلامها ثمل هم خير حي من معد علمتهم ... لهم نائب في قومهم ولهم فضل فرحت بما خبرت عن سيديكم ... وكانا امرأين كل أرهما يعلو رأى الله بالإحسان ما فعلا بكم ... فأبلاهما خير البلاء الذي يبلو تداركتما الأحلاف قد ثل عرشهم ... وذبيان قد زلت بأقدامها النعل فأصبحتما منها على خير موطن ... سبيلكما فيه وإن أحرثوا سهل إذا السنة الشهباء بالناس أجحفت ... ونال كرام المال في الحجرة الأكل رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم ... قطيناً بها حتى إذا نبت البقل هنالك إن يستخبلوا المال يخبلوا ... وإن يسألوا يعطوا وإن يسروا يغلوا وفيهم مقامات حسان وجوههم ... وأندية ينتابها القول والفعل على مكتريهم رزق من يعتريهم ... وعند المقلين السماحة والبذل وإن جئتهم ألفيت حول بيوتهم ... مجالس قد يشفى بأحلامها الجهل وإن قام فيهم حامل قال قاعد ... رشدت، فلا غرم عليك ولا خذل سعى بعدهم قوم لكي يدركوهم ... فلم يفعلوا، ولم يليموا، ولم يألوا فما يك من خير أتوه فإنما ... توارثه آباء آبائهم قبل وهل ينبت الخطي إلا وشيجه ... وتغرس إلا في مناتها النخل - 3 - وقال يمدح خصن بن حذيفة بن بدر: صحا القلب عن سلمى وأقصر باطله ... وعرى أفراس الصبا ورواحله وأقصرت عما تعلمين وسددت ... علي سوى قصد السبيل معادله وقال العذارى إنما أنت عمنا ... وكان الشباب كالخليط زايله فأصبحت ما يعرفن إلا خليفتي ... وإلا سواد الرأس والشيب شامله لمن طلل كالوحي عاف منازله ... عفا الرس منه فالرسيس فعاقله فرقد فصارات فأكناف منعج ... فشرقي سلمى: حوضه فأجاوله فوادي البدي فالطوي فنادق ... فوادي القنان: جزعه فأفاكله وغيث من الوسمي حو تلاعه ... أجابت روابيه النجا وهواطله هبطت بممسود النواشر سابح ... ممر أسيل الخد نهد مراكله تميم فلوناه فأكمل صنعه ... فتم وعزته يداه وكاهله أمين شظاه لم يخرق صفاقة ... بمنقبة ولم تقطع أباجله

إذا ما غدونا نبتغي الصيد مرة ... متى نره فإننا لا نخاتله فبينا نبغي الصيد جاء غلامنا ... يدب ويخفى شخصه ويضائله فقال شياه راتعات بقفرة ... بمستأسد القريان حو مسائله ثلاث كأقواس السراء مسحل ... قد اخضر من لس الغمير جحافله وقد خرم الطراد عنه جحاشه ... فلم تبق إلا نفسه وحلائله فقال: أميري ما ترى رأي ما نرى ... أنختله عن نفسه أم نصاوله فبتنا عراة عند رأس جوادنا ... يزاولنا عمن نفسه ونزاوله ونضربه حتى اطمأن قذاله ... ولم يطمئن قلبه وخصائله وملجمنا ما إن ينال قذاله ... ولا قدماه الأرض إلا أنامله فلأياً بلأي ما حملنا وليدنا ... على ظهر محبوك ظماء مفاصله فقلت له سدد وأبصر طريقه ... وما هو فيه عن وصاتي شاغله وقلت: تعلم أن للصيد غرة ... وإلا تضبعها فإنك قاتله فتمع آثار الشياه وليدنا ... كشؤبوب غيث يحفش الأكم وابله نظرت إليه نظرة فرأيته ... على كل حال مرة هو حامله يثرن الحصى في وجهه وهو لاحق ... سراع تواليه صياب أوائله فرد علينا العير من دن إلفه ... على رغمه يدمى نساه وفائله ورحنا به ينضو الجياد عشية ... مخضبة أرساغه وعوامله بذي ميعة لا موضع الرمح مسلم ... لبطء ولا ما خلف ذلك خاذله وأبيض فياض يداه غمامة ... على معئفيه ما تغب فواضله بكرت عليه غدوة فرأيته ... قعوداً لديه بالصريم عواذله يفدينه طوراً وطوراً يلمنه ... وأعيا فما يدرين أين مخاتله فأقصرن منه عن كريم مرزأ ... عزم على الأمر الذي هو فاعله أخي ثقة لا تتلف الخمر ماله ... ولكنه قد يهلك المال نائله تراه إذا ما جئته متهللاً ... كأنك تعطيه الذي أنت سائله وذي نسب ناء بعيد وصلته ... بمال وما يدري بأنك واصله وذي نعمة تممتها وشكرتها ... وخصم يكاد يغلب الحق باطله دفعت بمعروف من القول صائب ... إذا ما أضل الناطقين مفاصله وذي خطل في القول يحسب أنه ... مصيب فما يلمم به فهو قائله عبأت له حلماً وأكرمت غيره ... وأعرضت عنه وهو باد مقاتله حذيفة ينميه وبدر كلاهما ... إلى باذخ يعلو على من يطاوله ومن مثل حصن في الحروب، ومثله ... لإنكار ضيم، أو لأمر يحاوله؟ أبي الضيم والنعمان يخرق نابه ... عليه فأفضى والسيوف معاقله عزيز إذا حل الخليفان حوله ... بذي لجب لجاته وصواهله يهد له ما دون رملة عالج ... ومن أهله بالغور زالت زلازله وأهل خباء صالح ذات بينهم ... قد احتربوا في عاجل أنا آجله فأقبلت في الساعين أسأل عنهم ... سؤالك بالشيء الذي أنت جاهله - 4 - وقال يمدح هرم بن سنان وأباه وإخوته: إن الخليط أجد البين فانفرقا ... وعلق القلب من أسماء ما علقا وفارقتك برهن لا فكاك له ... يوم الوداع وأمسى الرهن قد غلقا وأحلفتك ابنة البكري ما وعدت ... فأصبح الحبل واهناً خلقا قامت تراءى بذي ضال لتحزنني ... ولا محالة أن يشتاق من عشقا بجيد مغزلة أدماء خازلة ... من الظباء تراعى شادناً خرقا كأن ريقتها بعد الكرى اغتبقت ... من طيب الراح لما يعد أن عتقا شج لسقاة على ناجودها شبما ... من ماء لينة لا طرقاً ولا زنقا مازلت أرمقهم حتى إذا هبطت ... أيدي الركاب بهم من راكس فلقا دانية لشروري أو قفا أدم ... يسعى الحداة على آثارهم حزقا كأن عيني في غربي مقتلة ... من النواضح تسقى جنة سحقا تمطو الرشاء فتجري في ثنايتها ... من المحالة ثقباً رائداً قلقا لها متاع وأعوان غدون به ... قتب وغرب إذا ما أفرغ انسحقا وخلفها سائق يحذو إذا خشيت ... منه اللحاق تمد الصلب والعنقا وقابل يتغنى كلما قدرت ... على العراقي يداه قائماً دفقا يحيل في جدول تخبو ضفادعه ... حبو الجواري ترى في مائه نطقا يخرجن من شربات ماؤها طحل ... على الجذوع يخفن الغم والغرقا

بل اذكرن خير قبس كلها حسباً ... وخيرها نائلاً وخيرها خلقا القائد الخيل منكوباً دوابرها ... قد أحكمت حكمات القد والأبقا غزت سماناً فآبت ضمرا خدجا ... من بعد ما جنبوها بدناً عققا حتى يئوب بها عوجاً معطلة ... تشكو الدوابر والأنساء والصفقا يطلب شأو امرأين قدما حسنا ... نالا الملوك وبذا هذه السوقا هو الجواد فإن يلحق بشأوهما ... على تكاليفه فمثله لحقا أو يسبقاه على ما كان من مهل ... فمثل ما قدما من صالح سبقا أغر أبيض فياض يفكك عن ... أيدي العناة وعن أعناقها الربقا وذاك أحزمهم رأياً إذا نب ... أمن الحوادث عادى الناس أو طرقا فضل الجياد على الخيل البطاء فلا ... يعطى بذلك ممنوناً لا نزقا قد جعل المبتغون الخير في هرم ... والسائلون إلى أبوابه طرقا وليس مانع ذي قربى وذي رحم ... يوماً ولا معدما من خابط ورقا إن تلق يوماً على علاته هرما ... تلق السماحة منه والندى خلقا ليث بعثر يصطاد الرجال إذا ... ما كدب الليث عن أقرانه صدقا يطعنهم ما ارتموا حتى إذا طعنوا ... ضارب حتى إذا ما ضاربوا اعتنقا هذا وليس كمن يعيا بخطته ... وسط الندى إذا ما ناطق نطقا لو نال حي من الدنيا بمنزلة ... أفق السماء لنالت كفه الأفقا - 5 - وقال أيضاً: بان الخليط ولم يأووا لمن تركوا ... وزودك اشتياقاً أية سلكوا رد القيان جمال الحي فاحتملوا ... إلى الظهيرة أمر بينهم لبك ما إن يكاد يخليهم لوجهتهم ... تخالج الأمر إن الأمر مشترك ضحوا قليلاً قفا كتبان أسنمة ... ومنهم بالقسوميات معترك ثم استمروا وقالوا إن مشربكم ... ماء بشرقي سلمى قيد أوركك يغشى الحداة بهم وعث الكثيب كما ... يغشى السفائن موج اللجة العرك هل تبلغني أذني دراهم قلص ... يزحى أوائلها التبغيل والرتك مقورة تتبارى لا شوار لها ... إلا القطوع على الأنساع والورك مثل النعام إذا هيجتها ارتفعت ... على الواجب بيض بينها الشرك وقد أروح أمام الحي مقتنصاً ... قمراً مراتعها القيعان والنبك وصاحبي وردة نهد مراكلها ... جرداء لا فحج فيها ولا صكك مرا كفاتاً إذا ما الماء أسهلها ... حتى إذا ضربت بالسوط تبترك كأنها من قطا الأجباب حلأها ... ورد وأفرد عنها أختها الشرك جونية كحصاة القسم مرتعها ... بالسي ما تنبت القفعاء والحسك أهوى لها أسفع الخدين مطرق ... ريش القوادم لم ينصب له السبك لا شيء أسرع منها وهي طيبة ... نفساً بما سوف ينجيها وتترك دون السماء وفرق الأرض قدرهما ... عند الذنابى، فلا فوت ولا درك عند الذنابي لها صوت وأزملة ... يكاد يخطفها طوراً وتهتلك حتى إذا هوت كف الغلام لها ... طارت وفي كفه من ريشها بتك ثم استمرت إلى الوادي فألجأها ... منه وقد طمع الأظفار والحنك حتى استغاثت بماء لا رشاء له ... من الأباطح في حافاته البرك مكلل بأصول النبت تنسجه ... ريح خريق لضاحي مائه حبك كما استغاث بسيء فز غيطلة ... خاف العيون فلم ينظر به الحشك فزل عنها وأوفى رأس مرقبة ... كمنصب العتر دمى رأسه النسك هلا سألت بني الصيداء كلهم ... بأي حبل جوار كنت أمتسك فلن يقولوا بحبل واهن خلق ... لو كان قومك في أسبابه هلكوا يا حار لا أرمين منكم بداهية ... لم يلقها سوقة قبلي ولا ملك فاردد يساراً لا تعف علي ولا ... تمعك بعرضك إن الغادر المعك ولا تكونن كأقوام علمتهم ... يلوون ما عندهم حتى إذا نهكوا طابت نفوسهم عن حق خصمهم ... مخافة الشر فارتدوا لما تركوا تعلمن ها "لعمر الله" ذا قسما ... فاقدر بذرعك وانظر أين تنسلك لئن حللت بجو في بني أسد ... في دين غمرو وحالت بيننا فدك ليأتينك مني منطق قذع ... باق كما دنس القبطية الودك - 6 - وقال أيضاً:

تعلم أن شر الناس حي ... ينادي في شعارهم يسار ولولا عسبه لرددتموه ... وشر منيحة عسب معار إذا جمحت نساؤكم إليه ... أشظ كأنه مسد مغار يبربر حين يغدو من بعيد ... إليها وهو قبقاب قطار كطفل ظل يهدج من بعيد ... ضئيل الجسم يعلوه انبهار إذا أبزت به يوماً أهلت ... كما تبزى الصفائد والعشار فأبلغ إن عرضت لهم رسولا ... بني الصيداء إن نفع الجوار فإن الشعر ليس له مرد ... إذا ورد المياه به التجار - 7 - وقال أيضاً: أبلف بني نوفل عني وقد بلغوا ... مني الحفيظة لما جاءني الخبر القائلين يساراً لا تناظره ... غشاً لسيدهم في الأمر إذا أمروا إن ابن ورقاء لا تخشى غوائله ... لكن وقائعه في الحرب تنتظر لولا ابن ورقاء والمجد التليد له ... كانوا قليلاً فما عزوا ولا كثروا المجد في غيرهم لولا مآثره ... وصبره نفسه والحرب تستعر أولى لهم ثم أولى أن تصيبهم ... مني بواقر لا تبقي ولا تذر وأن يعلل ركبان المطي بهم ... بكل قافية شنعاء تشتهر - 8 - وقال أيضاً يمدح الحارث: أبلغ لديك بني الصيداء كلهم ... أن يساراً أتانا غير مغلول ولا مهان ولكن عند ذي كرم ... وفي حبال وفي غير مجهول يعطي الجزيل ويسمو وهو متئد ... بالخيل والقوم في الرجراجة الجول وبالفوارس من ورقاء قد علموا ... فرسان صدق على جرد أبابيل في حومة الموت إذ ثابت حلائبهم ... لا مقرفين، ولا عزل، ولا ميل في ساطع من غيابات ومن رهج ... وعثير من دقاق الترب منخول أصحاب زند وأيام لهم سلفت ... من حاروا أعذبوا عنه بتنكيل أو صالحوا فله أمن ومنتفذ ... وعقد أهل وفاء غير مخذول - 9 - وقال يمدح هرم بن سنان المري: قف بالديار التي لم يعفها القدم ... بلى وغيرها الأرواح والديم لا الدار غيرها بعدي الأنيس ولا ... بالدار لو كلمت ذا حاجة صمم دار لأسماء بالغمريز ماثلة ... كالوحي ليس بها من أهلها أرم وقد أراها حديثاً غير مقوية ... السر منها فوادي الجفر فالهدم فلا لكان إلى وادي الغمار، ولا ... شرقي سلمى، ولا قيد، ولا رهم شطت بهم قرقرى: برك بأيمنهم ... والعاليات، وعن أيسارهم خيم عوم السفين، فلما حال دونهم ... فند الفريات فالعتكان فالكرم كان عيني وقد سال السليل بهم ... وعبرة ما هم لو أنهم أمم! غرب على بكرة أو لؤلؤ قلق ... في السلك خان به رباته النظم عهدي بهم يوم باب القريتين ... زال الهماليج بالفرسان واللجم فاستبدلت بعدنا داراً يمانية ... ترعى الخريف فأدنى دارها ظلم إن البخيل ملوم حيث كان ول ... كن الجواد على علاته هرم هو الجواد الذي يعطيك نائله ... عفواً ويظلم أحياناً فيظلم وإن أتاه خليل يوم مسئلة ... يقول لا غاثب مالي ولا حرم القائد الخيل منكوباً دوابرها ... منها الشنون ومنها الزاهق الزهم قد عوليت فهي مرفوع جواشنها ... على قوائم عوج لحمها زيم تنبذ أفلاءها في كل منزلة ... تفتح أعينها العقبان والرخم فهي تتلع بالأعناق يتبعها ... خلج الأجرة في أشداقها ضجم تخطو على ربذات غير فائرة ... تحذى وتعقد في أرساغها الخدم قد أبدأت قطفاً في المشي منشرة ال ... أكتاف تنكبها الحزان والأكم يهوى بها ماجد سمح خلائقه ... حتى إذا ما أناخ القوم فاحتزموا صدت صدوداً عن الأشوال واشترفت ... فبلا تقلقل في أعناقها الجذم كانوا فريقين يصغون الزجاج على ... قعس الكواهل في أكتافها شمم وآخرين ترى الماذي عدتهم ... من نسج داود أو ما أورثت إرم هم يضربون حبيك البيض إذ لحقوا ... لا ينكصون إذا ما استلحموا وحموا ينظر فرسانهم أمر الرئيس وقد ... شد السروج على أثباجها الحزم يمرونها ساعة مرياً بأسوقهم ... حتى إذا ما بدا للغارة النعم

شدوا جميعاً وكانت كلها نهزاً ... تحشك درتها الأرسان والجذم ينزعن إمة أقوام لذي كرم ... بحر يفيض على العافين إذ عدموا حتى تآوى إلى لا فاحش برم ... ولا شحيح إذا أصحابه غنموا يقسم ثم يسوي القسم بينهم ... معتدل الحكم لا هار ولا هشم فضله فرق أقوام ومجده ... مالم ينالوا وإن جادوا وإن كرموا قود الجياد وإصهار الملوك وصبر ... في مواطن لو كانوا بها سئموا ينزع إمة أقوام ذوي حسب ... مما ييسر أحياناً له الطعم ومن ضريبته التقوى ويعصمه ... من سيئ العثرات الله والرحم مورث المجد لا يغتال همته ... عن الرياسة لا عجز ولا سأم كالهندواني لا يحزنك مشهده ... وسط السيوف إذا ما تضرب البهم - 10 - وقال زهير أيضاً يمدح هرما: لمن الديار بقنة الحجر ... أقوين من حجج ومن شهر؟ لعب الزمان بها وغيرها ... بعدى سوافي المور والقطر قفراً بمندفع النحائت من ... ضفوى أولات الضال والسدر دع ذا وعد القول في هرم ... حير البداة وسيد الحضر تالله قد علمت سراة بني ... ذبيان عام الحبس والأصر أن نعم معترك الجياع إذا ... خب السفير وسابي الخمر ولنعم حشو الدرع أنت إذا ... دعيت نزال ولج في الذعر حامي الذمار على محافظة ال ... جلى أمين مغيب الصدر حدب على المولى الضريك إذا ... نابت عليه نوائب الدهر ومرهق النيران يحمد في ال ... لأواء غير معلن القدر ويقيك ما وفى الأكارم من ... حوب تسب به ومن غدر وإذا برزت به برزت إلى ... صافي الخليقة طيب الخبر متصرف للمجد معترف ... للنائبات يراح للذكر جلد يحث على الجميع إذا ... كره الظنون جوامع الأمر فلأنت تفرى ما خلقت وبع ... ض القوم يخلق ثم لا يفرى ولانت أشجع حين تتجه ال ... أبطال من ليث أبي أجر ورد عراض الساعدين حدي ... د الناب بين ضراغم غثر يصطاد أحدان الرجال فما ... تنفك أجريه على ذحر والستر دون الفاحشات وما ... يلقاك دون الخير من ستر أثنى عليك بما علمت وما ... سلفت في النجدات والذكر لو كنت من شيء سوى بشر ... كنت المنور ليلة البدر - 11 - وقال أيضاً: عفا من آل فاطمة الجواء ... فيمن فالقوادم الحساء فذو هاش فميث عريينات ... عفتها الريح بعدك والسماء فذروة فالجناب كأن خنس النعاج ... الطاويات بها الملاء يشمن بروقه ويرش أرى ال ... جنوب على حواجبها العماء فلما أن تحمل آل ليلى ... جرت بيني وبينهم ظباء جرت سنحاً فقلت لها أجيزي ... نوى مشمولة فمتى البقاء؟ تحمل أهلها منها فبانوا ... على آثر من ذهب العفاء كأن أوابد الثيران فيها ... هجائن في مغابنها الطلاء لقد طالبتها ولكل شيء ... وإن طالت لجاجته انتهاء تنازعها المها شبهاً ودر الن ... حور وشاكهت فيها الظباء فأما ما فويق العقد منها ... فمن أدماء مرتعها الخلاء وأما المقلتان فمن مهاة ... وللدر الملاحة والصفاء فصرم حبلها إذ صرمته ... وعادى أن تلاقيها العداء بآرزة الفقارة لم يخنها ... قطاف في الركاب ولا خلاء كأن الرحل منها فوق صعل ... من الظلمان جؤجؤه هواء أصك مصلم الأذنين أجنى ... له بالسي تنوم وآء أذلك أم شتيم الوجه جأب ... عليه من عقيقته عفاء تربع صارة حتى إذا ما ... فنى الدحلان عنه والإضاء ترفع للقنان وكل فج ... طباه الرعي منه والخلاء فأوردها حياض صنيبعات ... فألفاهن ليس بهن ماء فشج بها الأماعز فهي تهوى ... هوي الدلو أسلمها الرشاء فليس لحاقه كلحاق إلف ... ولا كنجائها منه نجاء وإن مالا لوعث خازمته ... بألواح مفاصلها ظماء يخر نبيذها عن حاجبيه ... فليس لوجهه منه غطاء يغرد بين خرم مفضيات ... صواف لم يكدرها الدلاء

يفضله إذا اجتهدا عليه ... تمام السن منه والذكاء كأن سحيله في كل فجر ... على أحساء يمئود دعاء فآض كأنه رجل سليب ... على علياء ليس له رداء كأن بريقه برقان سحل ... جلا عن متنه حرض وماء فليس بغافل عنها مضيع ... رعيته إذ غفل الرعاء وقد أغدو على ثبة كرام ... نشاوى واجدين لما نشاء لهم راح وراووق ومسك ... تعل به جلودهم وماء يجرون البرود قد تمشت ... حميا الكأس فيهم والغناء تمشى بين قتلى قد أصيبت ... نفوسهم ولم تغرق دماء وما أدرى وسوف إخال أدرى ... أقوم آل حصن أم نساء فإن قالوا: النساء مخبئات ... فحق لكل محصنة هداء وإما أن يقول بنو مصاد ... إليكم إننا قوم براء وإما أن يقولوا قد وفينا ... بذمتنا فعادتنا الوفاء وإما أن يقولوا قد أبينا ... فشر مواطن الحسب الإباء وإن الحق مقطعه ثلاث ... يمين أو نفار أو حلاء فذلكم مقاطع كل حق ... ثلاث كلهن شفاء فلا مستكرهون لما منعتم ... ولا تعطون إلا أن تشاءوا جوار شاهد عدل عليكم ... وسيان الكفالة والتلاء بأي الجيرتين أجرتموه ... فلم يصلح لكم إلا الأداء وجار شار معتمداً إليكم ... أجاءته المخافة والرجاء فجاور مكرماً حتى إذا ما ... دعاه الصف وانقطع الشتاء ضمنتم ماله وغدا جميعاً ... عليكم نقصه وله النماء ولولا أن ينال أبا طريف ... إسار من مليك أو لحاء لقد زارت بيوت عليم ... من الكلمات آنية ملاء فتجمع أيمن منا ومنكم ... بقسمة تمور بها الدماء سيأتي آل حصن حيث كانوا ... من المثلات باقية ثناء فلم أر معشراً أسروا هدياً ... ولم أر جاء بيت يستباء وجار البيت والرجل المنادي ... أمام الحي عقدهما سواء أبى الشهداء عندك من معد ... فليس لما تدب له خفاء تلجلج مضغة فيها أنيض ... أصلت فهي تحت الكشح داء غصصت بنيئها فبشمت منها ... وعندك لو أردت لها دواء وإني لو لقيتك فاجتمعنا ... لكان لكل مندية لقاء فأبرئ موضحات الرأس منه ... وقد يشفى من الجرب الهناء فمهلاً آل عبد الله عدوا ... مخازي لا يدب لها الضراء أرونا سنة لا عيب فيها ... يسوى بيننا فيها السواء فإن تدعوا السواء فليس بيني ... وبينكم بني حصن بقاء ويبقى بيننا قدع وتلفوا ... إذن قوماً بأنفسهم أساءوا وتوقد ناركم شرراً ويرفع ... لكم في كل مجمعة لواء - 12 - وقال زهير أيضاً يمدح هرما: لمن طلل برامة لا يريم ... عفا وخلا له حقب قديم تحمل أهله منه فبانوا ... وفي عرصاته منهم رسوم يلحن كأنه يدا فتاة ... ترجع في معاصمها الوشوم عفا عن آل ليلى بطن ساق ... فأكثبة العجالز فالقصيم تطالعنا خيالات لسلمى ... كما يتطلع الدين الغريم لعمر أبيك ما هرم بن سلمى ... بملحي إذا اللؤماء ليموا ولا ساهى الفؤاد ولاعبي ال ... لمسان إذا تشاجرت الخصوم وهو غبث لنا في كل عام ... يلوذ به المخول والعديم وعود قومه هرم عليه ... ومن عاداته الخلق الكريم كما قد كان عودهم أبوه ... إذا أزمتهم يوماً أزوم كبيرة مغرم أن يحملوها ... تهم الناس أو أمر عظيم لينجو من سلامتها وكانوا ... إذا شهدوا العظائم لم يليموا كذلك خيمهم ولكل قوم ... إذا مستهم الضراء خيم وإن سدت به لهوات ثغر ... يشار إليه جانبه سقيم مخوف بأسه يكلاك منه ... عتيق لا ألف ولا سئوم له في الذاهبين أروم صدق ... وكان لكل ذي حسب أروم - 13 - وقال أيضاً: ألا أبلغ لديك بني تميم ... وقد تأتيك بالخبر الظنون بأن بيوتنا بمحل حجر ... بكل قرارة منها نكون إلى قلهى تكون الدار منا ... إلى أكتاف دومة فالجحون بأودية أسافلهن روض ... وأعلاها إذا خفنا حصون نحل بسهلها فإذا فزعنا ... جرى منهن بالأصلاء عون

وكل طوالة وأقب نهد ... مراً كلها من النعداء جون تصمر بالأصائل كل يوم ... تسن على سنابكها القرون وكانت تشتكي الأضغان منها ال ... لجون الخب واللحج الحرون وخرجها صوارخ كل يوم ... فقد جعلت عرائكها تلين وعزتها كواهلها وكلت ... سنابكها وقدحت العيون إذا رفع السياط لها تمطت ... وذلك من علالتها متين ومرجعها إذا نحن انقلبنا ... نسيف البقل واللبن الحقين فقري في بلادك إن قوماً ... متى يدعوا بلادهم يهونوا أو انتجعي سناناً حيث أمسى ... فإن الغيث منتجع معين متى تأتيه تأتي لج بحر ... تقاذف في غواربه السفين له لقب لباغي الخير سهل ... وكيد حين تبلوه متين - 14 - وقال أيضاً: رأيت بني آل امرئ القيس أصفقوا ... علينا وقالوا: إننا نحن أكثر سليم بن منصور وأفناه عامر ... وسعد بن بكر والنصور وأعصر خذوا حظكم يا آل عكرم واذكروا ... أواصرنا والرحم بالغيب تذكر خذوا حظكم من ودنا إن قربنا ... إذا ضرستنا الحرب نار تسعر وإنا وإياكم إلى ما تسومكم ... لمثلان أو أنتم إلى الصلح أفقر إذا ما سمعنا صارخاً معجت بنا ... إلى صوته ورق المراكل ضمر وإن شل ريعان الجميع مخافة ... نقول جهاراً ويلكم لا تنفروا على رسلكم إنا سنعدي وراءكم ... فتمنعكم أرماحنا أو سنعذر وإلا فإنا بالشر به فاللوى ... نعقر أمات الرباع ونيسر - 15 - وقال أيضاً: لعمرك والخطوب مغيرات ... وفي طول المعاشرة التقالي لقد باليت مظعن أم أوفى ... ولكن أم أوفى لا تبالي - 16 - وقال أيضاً: إن الرزية لا رزية مثلها ... ما تبتغي غطفان يوم أضلت إن الركاب لتبتغي ذا مرة ... بجنوب نخل إذا الشهور أحلت ينعون خير الناس عند كريهة ... عظمت رزيتهم هناك وجلت ولنعم حشو الدرع كان إذا سطا ... نهلت من العلق الرماح وعلت - 17 - وقال زهير أيضاً: ألا ليت شعري هل ترى الناس ما أرى ... من الأمر أو يبدو لهم ما بدا ليا بدا لي أن الله حق فزادني ... إلى الحق تقوى الله ما كان باديا بدا لي أن الناس تفنى نفوسهم ... وأموالهم ولا أرى الدهر فانيا وإني متى أهبط من الأرض تلعة ... أجد أثراً قبلي جديداً وعافيا أراني إذا ما بت بت على هوى ... وأني إذا أصبحت أصبحت غاديا إلى حفرة أهدى إليها مقيمة ... يحث إليها سائق من ورائيا كأني وقد خلفت تسعين حجة ... خلعت بها عن منكبي ردائيا بدا لي أني لست مدرك ما مضى ... ولا سابقي شيء إذا كان جاثيا أراني إذا ما شئت لاقيت آية ... تذكرني بعض الذي كنت ناسيا وما إن أرى نفسي تقيها كريهتي ... وما إن تقي نفسي كرائم ماليا ألا لا أرى على الحوادث باقيا ... ولا خالداً إلا الجبال الرواسيا وإلا السماء والبلاد وربنا ... وأيامنا معدودة واللياليا ألم تر أن الله أهلك تبعاً ... وأهلك لقمان بن عاد وعاديا وأهلك ذا القرنين من قبل ما ترى ... وفرعون جباراً طغى والنجاشيا ألا لا أرى ذا أمة أصبحت به ... فتتركه الأيام وهي كما هيا ألم تر للعمان كان بنجوة ... من الشر لو أن امرأ كان ناجيا فغير منه ملك عشرين حجة ... من الدهر يوم واحد كان غاويا لم أر مسلوباً له مثل ملكه ... أقل صديقاً باذلاً أو مؤاسيا فأين الذين كان يغطى جياده ... بأرسائهن والحسان الغواليا وأين الذين كان يعطيهم القرى ... بغلاتهن والمئين الغواديا وأين الذين يحضرون جفانه ... إذا قدمت ألقوا عليها المراسيا رأيتهم لم يشركوا بنفوسهم ... منيته لما رأوا أنها هيا خلا أن حياً من رواحة حافظوا ... وكانوا أناساً يتقون المخازيا فساروا له حتى أناخوا ببابه ... كرام المطايا والهجان المتاليا فقال لهم خيراً وأثنى عليهم ... وودعهم وداع أن لا تلاقيا

وأجمع أمراً كان ما بعده له ... وكان إذا ما اخلولج الأمر ماضيا - 18 - وقال زهير أيضاً لأم ولده كعب: قالت أم كعب لا تزرني ... فلا والله مالك من مزار رأيتك عبتني وصددت عني ... فكيف عليك صبري واصطباري فلم أفسد بنبك ولم أقرب ... إليك من الملمات الكبار أقيمي أم كعب واطمئني ... فإنك ما أقمت بخير دار - 19 - وقال زهير يمدح هرم بن سنان أيضاً عن أبي عمرو المفضل: خشيت دياراً بالبقيع فثهمد ... دوارس قد أقوين من أم معبد أربت بها الأرواح كل عشية ... فلم يبق إلا آل خيم منضد وغير ثلاث كالحمام خوالد ... وهاب محيل هامد متلبد فلما رأيت أنها لا تجيبني ... نهضت إلى وجناء كالفحل جلعد جمالية لم يبق سيري ورحلتي ... على ظهرها من نيها غير محفد متى ما تكلفها مآبة منهل ... فتستعف أو تنهك إليه فتجهد برده ولما يخرج السوط شأوها ... مروحاً جنوح الليل ناجية الغد كهمك إن تجهد تجدها نجيحة ... صبوراً وإن تسترخ عنها تزيد وتنضح ذفراها بجون كأنه ... عصيم كحيل في المراجل معقد وتلوى بربان العسيب تمره ... على فرج محروم الشراب مجدد تبادر أغوال العشي وتاتقي ... علالة ملوي من القد مخصد كخنساء سفعاء الملاطم حرة ... مسافرة مزؤودة أم فرقد غدت بسلاح مثله يتقى به ... ويؤمن جأش الخائف المتوحد وسامعتين تعرف العتق فيهما ... إلى جذر مدلوك الكعوب محدد وناظرتين تطرحان قذاهما ... كأنهما مكحولتان بإثمد طباها ضحاء أو خلاء فحالفت ... إلي السباع في كناس ومرقد أضاعت فلم تغفر لها خلونها ... فلاقت بياناً عند آخر معهد دماً عند شلو تخجل الطير حوله ... وبضع لحام في إهاب مقدد وتنفض عنها غيب كل خميلة ... ونخشى رماة الغوث من كل مرصد فجالت على وحشيها وكأنها ... مسربلة في رزاقى معضد ولم تدر وشك البين حتى رأتهم ... وقد قعدوا أنفاقها كل مقعد وثاروا بها من جانبيها كليهما ... وحالت وإن تجشمنها الشد تجهد تبذ الألى يأتينها من ورائها ... وإن تتقدمها السوابق تصطد فأنقذها من غمرة الموت أنها ... رأت أنها إن تنظر النبل تقصد نجاء مجد ليس فيه وتيرة ... وتذيبها عنها بأسحم مذود وجدت فألقت بينهن وبينها ... غباراً كما فارت دواخن غرقد بملتئمات كالخذاريف قوبلت ... إلى جوشن خاطى الطريقة مسند إلى هرم تهجيرها ووسيجها ... تروح من الليل التمام وتغتدي إلى هرم سارت ثلاثاً من اللوى ... فنعم مسير الواثق المتعمد سواء عليه أي حين أتيته ... أساعة نحس يتقي أم بأسعد أليس بضراب الكماة بسيفه ... وفكاك أغلال الأسير المقيد كليث أبي شبلين يحمي عرينه ... إذا هو لاقى نجدة لم يعرد ومدره حرب حميها يتقى به ... شديد الرجام باللسان وباليد وثقل على الأعداء لا يضونه ... وحمال أثقال ومأوى المطرد أليس بفياض يداه عمامة ... ثمال اليتامى في السنين محمد إذا ابتدرت قيس بن عيلان غاية ... من المجد من يسبق إليها يسود سبقت إليها كل طلق مبرز ... سبوق إلى الغايات غير مجلد كفضل جواد الخيل يسبق عفوه ال ... راع وإن يجهدن يجهد ويبعد تقي نقي لم يكثر غنيمة ... بنهكة ذي القربى ولا بحقلد سوى ربع لم يأت فيه مخونة ... ولا رهقاً من عائذ متهود يطيب له أو افتراض بسيفه ... على دهش في عارض متوقد فلو كان حمد يخلد الناس لم تمت ... ولكن حمد الناس ليس بمخلد ولكن منه باقيات وراثة ... فأورث بنيك بعضها وتزود تزود إلى يوم الممات فإنه ... ولو كرهته النفس آخر موعد - 20 - وقال يمدح سنان بن أبي حارثة: أمن آل ليلى عرفت الطلولا ... بذي حرض ماثلات مثولا بلين وتحسب آياته ... ن عن فرط حولين رقاً محيلا إليك سنان الغداة الرحي ... ل أعصى النهاة وأمضى الفئولا

ترجمته والمختار من شعره

فلا تأمني غزو أفراسه ... بني وائل وازهبيه جديلا وكيف اتقاء امرئ لا يئو ... ب بالقوم في الغزو حتى يطيلا بشعث معطلة كالقسي ... غزون مخاضاً وأدين حولا نواشز أطباق أعناقها ... وضمرها قافلات قفولا وإذا أدلجوا لحوال الغوا ... ر لم تلف في القوم نكساً ضئيلا ولكن جلداً جميع السلا ... ح ليلة ذلك عضاً بسيلا فلما تبلج ما فوقه ... أناخ فشن عليه الشليلا وضاعف من فوقها نثرة ... يرد القواضب عنها فلولا مضاعفة كأضاة المسي ... ل تغشى على قدميه فضولا فنهنهها ساعة ثم قا ... ل للوازعين خلوا السبيلا فأتبعهم فيلقاً كالسراب ... جأواء تتبع شخباً ثعولا عناجيج في كل رهو ترى ... رعالاً سراعاً تبارى رعيلا جوانح يخلجن الظبا ... ء يركضن ميلاً وينزعن ميلا فظل قصيراً على صحبه ... وظل على القوم يوماً طويلا @طرفة بن العبد ترجمته والمختار من شعره طرفة الشاعر الشاب 540 - 565 م ترجمة الشاعر تمهيد طرفة شاعر صاحب شخصية واضحة في شعره، وصاحب مذهب واضح في حياته، وداعية من دعاة اللهو واللذة والعبث، وشاب جمع إلى فتوة الشاب وطيشه حكمة الشيوخ وتفكيرهم، ويعجب النقاد والمستشرقون به وبشخصيته وشعره إعجاباً شديداً؛ وشعره صورة واضحة لحياته كل الوضوح، بما كان فيها من مطامح وآمال وآلام وأحداث. أسرة الشاعر وبيئته 1 - وطرفة شاعر فحل من أعلام الشعر الجاهلي، وهو من ربيعة من بكر بن وائل إحدى قبيلتيها العظيمتين المشهورتين - وهما بكر وتغلب - فهو بكري ربعي. وربيعة أخت مضر في الشرف والسيادة وضخامة الحسب والقوة والعدد. وبكر أخت تغلب في المجد والجاه والعزة والأنفة، وهما جميعاً من ربيعة. ومن شعراء بكر: الحارث بن حلزة الشاعر الجاهلي المشهور والمعدود من أصحاب المعلقات، وتوفي أواخر القرن السادس الميلادي، ومنهم المرقش الأكبر والمرقش الأصغر. ذلك هو نسب الشاعر بين العرب وحسبه، أما أسرته القريبة فهي سعد بن مالك من بني قيس. إذ هو طرفة بن العبد بن سفيان بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة من بكر بن وائل من ربيعة بن نزار من عدنان الجد الأعلى للعرب الحجازيين العدنانيين كما علمت.. واسم طرفة عمرو، وكنيته أبو عمرو. 2 - كان قومه في عزة ومنعة بعددهم وحسبهم وشرفهم ومكانتهم بين العرب وكان جده سفيان موصوفاً بالشرف والرئاسة، وكان أبو شاباً قوياً ظاهر الفتوة والجرأة والإقدام، مات وطرفة طفل صغير. وترك غير طرفة ابناً آخر اسمه معبد ورد ذكره في معلقة طرفة: إذا مت فانعيني بما أنا أهله ... وشقي على الجيب يا ابنة معبد وأم طرفة اسمها وردة، وورد ذكرها في شعره، قال: ما تنظرون بحق وردة فيكمو ... صغر البنون ورهط وردة غيب ولا نعلم من أمر وردة هذه شيئاً آخر غير هذا البيت، ولكننا نعرف أن المتلمس الشاعر خال طرفة، فهو غالباً أخو وردة لأمه وأبيه، وتكون هي بنت عبد المسيح من بني ضبيعة من بكر من ربيعة من عدنان، فصلة القرابة واضحة بين أسرتي والدته وأبيه. 3 - كان طرفة وقومه يعيشون في البحرين، وهي واقعة في شرق الجزيرة العربية وتمتد من عمان إلى حدود العراق، ومن أشهر مدنها هجر التي ضرب المثل بكثرة تمرها، فقالوا: "كناقل التمر إلى هجر"، ومن مدنها كذلك "قطر" كان يسكن البحرين قبائل كثيرة من العرب، وجوها جميل معتدل نوعاً لقربها من البحر، وهي قريبة من الحيرة وكانت تخضع لنفوذها.. والقبائل التي تعيش فيها والشعراء الذين نشأوا في أرضها لهم صلات واضحة بملوك الحيرة الذين يخضعون لنفوذ أكاسرة الفرس وسلطانهم. وهذه البقعة من أرض الجزيرة العربية قريبة من العراق وإيران، يمر بها الكثير من المسافرين بين هذه البلاد، وهي خاضعة للحيرة، والحيرة ملتقى الأفكار والديانات والمذاهب المختلفة، وتعيش في ظلال قسط من الحضارة، والنصرانية منتشرة فيها، فلابد أن يكون لكل هذه العوامل الظاهرة أثرها في عقلية أبنائها وتفكيرهم في الحياة، وفي عقلية وتفكير شاعرنا طرفة بوجه خاص.

نشأة الشاعر وحياته

4 - ولا يفوتنا أن نذكر أن المرقش الأصغر والمرقش الأكبر من أسرة طرفة الشاعر. فالمرقش الأصغر 560 م عم طرفة. والمرقش الأكبر 552 م عم المرقش الأصغر. ومن أقارب طرفة خاله المتلمس 580 م. ويعد من الطبقة الثانية عند بعض النقاد، وله قصيدة سينية في الجمهرة وقد نظمها بعد قتل ابن أخته طرفة يوقظ فيها بكراً ويدعوها إلى الانتقام من عمرو بن هند ملك الحيرة، ويقول فيها: يا آل بكر ألا لله أمكمو ... طال الثواء وثوب العجز ملبوس أغنيت شاتي فأغنوا اليوم تيسكمو ... واستحمقوا في مراس الحرب أو كيسوا وتتصل حياة المتلمس بحياة طرفة اتصالاً وثيقاً، كما سترى فيما نقصه عليك في القريب. وترجم له ابن قتيبة. ويقول صاحب الأغاني عنه: "وهو من شعراء الجاهلية المغلين المفلسين ويرى صاحب "الأدب الجاهلي" على مذهبه من إنكار الشعر الجاهلي أن شعر المتلمس "مخترع منحول"، وأنه قد يكون المتلمس نفسه أيضاً شخصاً روائياً مخترعاً وهو رأي غريب. نشأة الشاعر وحياته 1 - لا ندري متى ولد طرفة على وجه التحديد. وإن كان قد أدرك عهد عمرو بن هند ملك الحيرة، وأمر عمرو بقتله في أوائل حكمه، وقد حقق بعض المؤرخين والمستشرقين أن عمرو بن المنذر الثالث المشهور بابن هند تولى ملك الحيرة عام 562 م، فإذا كان طرفة قد قتل في مطلع حكمه، فيكون تاريخ موته نحو عام 565 م، وإن كان جورجي زيدان يذكر أن وفاته سنة 550 م. وقد قتل طرفة وهو شاب صغير في العشرين أو الخامسة والعشرين أو السادسة والعشرين من عمره على اختلاف الروايات، إذ تقول أخته الخرنق تبكيه: عددنا له ستاً وعشرين حجة ... فلما وتوفاها استوى سيدا ضخما فجعنا به لما رجونا إبابه ... على خير حال، لا وليدا ولا قحما فيكون ميلاد طرفة نحو عام 540 ميلادية وتكون حياته على الراجح من سنة 540 إلى 565 م. ويجعل باحث آخر ميلاده عام 538 م، والرأيان متقاربان. 2 - نشأ طرفة في هذه البيئة العامة من بلاده، وتلك البيئة الخاصة من أسرته وحسنها، يجول ببصره في هذه الفيافي المترامية القبح ومشاهدها، ويصعد بفكره في هذه الحياة البدوية، وما خالطها من أفكار وأديان ومبادئ ليفهمها ويتمثلها، وأخذ يعيش بين حسب كريم وعدد كثير وحمية ظاهرة. ولكنه فوجئ وهو طفل صغير بوفاة والده، فكان لذلك أثره البليغ في نفسه وحياته، فكفله أعمامه وقاموا بواجب تربيته. وبعثت بيئته وحياته ووراثته مواهب الشاعرية في نفسه، فنظم الشعر وهو صغير، يصف فيه مناظر الصحراء وألوان حياته فيها، ولذاته منها، وما يجده من قومه من تقصير في حق رعايته، ويشيد فيه بمجد قومه وأحسابهم، ويذود عن شرفهم وحياضهم ويهجو خصومه وخصومهم. وكان ليتمه أثره الواضح فيه منذ حداثته فشب متوقد الذهن، مضطرم الشعور، حاد العاطفة سريع التأثر والغضب قوي الفطرة، صادق النظر يفزع إلى هجاء من يشعر منه بتقصير نحوه كما كان لحسبه ومجد قومه أثره في اعتزازه بنفسه، وتمجيده لشخصيته، وحبه الظهور بمظهر البطل الشجاع والشاب المقدام. وأول شعر قاله هو هذه الأبيات التي أنشدها حين وجد أعمامه يظلمونه ويغتصبون حقاً لوردة أمه إذ أبوا أن يقسموا مال أبيه، ومنعوا حق أمه منه فثارت نفسه واشتعلت شاعريته، وقال: ما تنظرون بحق وردة فيكم ... صغر البنون ورهط وردة غيب قد يبعث الأمر العظيم صغيره ... حتى تظل له الدماء تصبب والظلم فرق بين حي وائل ... بكر تساقبها المنايا تغلب إلى أن قال: أدوا الحقوق تفر لكم أعراضكم ... إن الكريم إذا يحرب يغضب 4 - وأخذ الشعر يميل إلى اللهو ويسرف فيه ويعتنق البطالة والدعة والعبث ويهجو قومه وسواهم، ويسير وفق رغبات نفسه ونوازعها. ويذهب إلى حوانيت الخمر ويشربها مع نداماه وأصدقاء لهوه. فأخذ أهله يلومونه وينصحونه ويعاتبونه، حتى ضاق بعتابهم، فاقتاد راحلته يسير متنقلاً بين القبائل والأحياء. سار إلى اليمامة وأناخ راحلته بفناء قتادة بن سلمة الحنفي فمدحه بقصيدة، ذكر فيها طرفة إسراف ابن عمه عبد عمرو في تنقصه وشتمه، ثم افتخر بنفسه، وخلص إلى مدح قتادة، وذكر ما كان من صنيعه مع قومه حين أتوه في قحط أصابهم فأكرم وفادتهم وبذل لهم من ماله وأكرم مثواهم ورفدهم، قال:

إن امرأ سرف الفؤاد يرى ... عسلاً بماء سحابة شتمي وأنا امرؤ ألوي من القص ... ر البادي وأغشى الدهم بالدهم وأصيب شاكله الرمية إن ... صدت بصفحتها عن السهم إلى أن قال: أبلغ قتادة غير سائله ... من الثواب وعاجل الشكم إني حمدتك للعشيرة إذ ... جاءت إليك مرقتة العظم ففتحت بابك للمكارم حين ... تواصت الأبواب بالأزم فسقى بلادك غير مفسدها ... صوب الربيع وديمه تهمي وتعيره حبيبته لسيره في البلاد وتنقله فيها بعيداً عن أهله وبلاده فيقول: تعير سيري في البلاد ورحلتي ... ألا رب دار لي سوى حر دارك وليس امرؤ أفنى الشباب مجاورا ... سوى حبه إلا كآخر هالك ألا رب يوم لو سقمت لعادني ... نساء كرام من حي ومالك وطال تنقله في البلاد فذهب إلى اليمن، ثم رحل منها إلى النجاشي في الحبشة، وقال في اطراده إلى النجاشي قصيدته: لخولة بالأجزاع من إضم طلل. ولم فزعته الغربة وحرق قلبه الحنين إلى أهله وبلده، عاد إلى الموطن الذي هجره، فأمده أخوه "معبد" بمال من ماله، ولكنه أتلفه في لذاته ولهوه وعبثه. 4 - ثم قصد أملاً في إصلاح حاله ملك الحيرة عمرو بن المنذر الثالث الذي يلقب باسم أمه حتى اشتهر بعمرو بن هند، وتولى ملك الحيرة عام 554 م كما يقول البعض، أو عام 562، أو 563 كما يرجح آخرون. وكان الشعراء يرحلون إليه وينشدونه قصائدهم في مدحه فيجزل لهم العطاء. فوفد عليه طرفة مع خاله المتلمس فأحسن وفادتهما وجعلهما في حاشية أخيه قابوس بن المنذر وكان مرشحاً للملك بعده، وكان شاباً يميل إلى اللهو والترف، ويخرج إلى الصيد، فكان يخرج معه طرفة إذا خرج وينادمه على الشراب، وهكذا اطمأن به الحال، واستقرت حياته بعض الاستقرار. ولكن طرفة الشاعر لم يرضه أن يكون تابعاً لأحد، أو أن يشعر بأنه أقل شرفاً ومجداً من إنسان. 5 - طرفة وابن عمه عبد عمرو: كان عبد عمرو بن بشر بن مرثد بن سعد بن مالك زوجاً للخرنق أخت طرفة، وكان عبد عمرو سيداً كريماً شجاعاً مطاعاً في قومه، ظاهر الثراء والقوة والفتوة، وكان من أجمل العرب، كما كان أثيراً رفيع المنزلة عند عمرو بن هند يداعيه وينادمه، وسيد أهل زمانه كما يقولون. فجاءت أخت طرفة تشكو إليه شيئاً من أمر زوجها، فغضب الشاعر وهجاه بعد ذلك بقصيدته: أيا عجبا من عبد عمرو وبغيه ... لقد رام ظلمي عبد عمرو فأنعما ولا خير فيه غير أن له عني ... وأن له كشحا إذا قام أهضما يظل نساء الحي يعكفن حوله ... يقلن: عسيب من سرارة ملهما وبدأت الخصمة والشحناء بين الشاعر وابن عمه، وفيه أيضاً يقول من قصيدة له: ألا أبلغ عبد الضلال رسالة ... وقد يبلغ الأنباء عنك رسول دببت بسري بعد ما قد علمته ... وأنت بأسرار الكرام نسول وكيف تضل القصد والحق واضح ... وللحق بين الصالحين سبيل ومنها: وأعلم علماً ليس بالظن أنه ... إذا ذل مولى المرء فهو ذليل وإن لسان المرء ما لم تكن له ... حصاة على عوارته لدليل قتل طرفة: 1 - كان ملك الحيرة عمرو بن هند جباراً عنيداً متكبراً، لا يرى في الناس من يدانيه شرفاً ومجداً، وكان له يوم بؤس ويوم نعيم كل سنة، يركب يوم بؤسه فيقتل أول من يلقاه، وفي يوم نعيمه يقف الناس ببابه فإن اشتهى حديث رجل أذن له فأصاب مجداً ومالاً وملك ثلاثاً وخمسين سنة، وكان العرب تهابه هيبة شديدة، وكان أخوه قابوس ولي عهده جباراً متكبراً مستبداً كذلك. ولم يرض طرفة الشاعر عن طغيانهما واستبدادهما وكبريائهما، فنظم قصيدة يهجوهما بها، وهي طويلة.. ومنها: فليت لنا مكان الملك عمرو ... رغوثا حول قبتنا تخور لعمرك إن قابوس بن هند ... ليخلط ملكه نوك كثير ومنها: ولما أن أنخت إلى مليك ... مساكنه الخورنق والسدير لينجزني مواعد كاذبات ... بطي صحيفة فيها غرور فأوعدني فأخلف ثم ظني ... وبئس خليقة الملك الفجور وتمادى طرفة في هجاء عمرو بن هند وأسرته. ومما هجاه به قوله: ولا خير فيه غير أن له غنى ... وأن له كشحا إذا قام أهضمها

تظل نساء الحي يعكفن حوله ... يقلن عسيب من سرارة ملهما 2 - وبلغ ذلك عمرو بن هند فامتلأ حقداً وغضباً على طرفة وأضمر له الشر. قالوا: إن الذي نقل إليه أهاجي طرفة فيه هو عبد عمرو ابن عمر الشاعر، فثارت حفيظة الملك عليه، ولكنه كره العجلة عليه لمكان قومه فتظاهر بالرضا عن طرفة والتنويه به وبشعره، حتى أمن الشاعر ولم يخفه على نفسه وظن أنه قد رضي، فقدم طرفة والمتلمس على عمرو بن هند يتعرضان لفضله ومعروفه وكان المتلمس أيضاً قد هجا عمرو بن هند الملك في قصيدة من شعره، وكان في نفس الملك موجدة عليه يكتمها عنه كذلك. أظهر عمرو بن هند الاحتفاء بالشاعرين، وتلطف معهما تلطفاً جميلاً وكتب لكل منهما كتابا إلى عامله بالبحرين وأوهمهما أنه أمر لهما بعطاء كثير سيدفعه إليهما هذا العامل عندما يتوجهان إليه بهجر، وقال لهما: انطلقا إليه فخذا جوائزكما منه، وكان قد أعطاهما هدية من عنده وحملهما. ولعل إيثاره لهذا الأسلوب في الانتقام من الشاعرين لخوفه من قبيلتهما - بكر - حتى لا يرمى الملك بقتلهما، أو بمثابة الرد على قول طرفة في هجائه: لينجزني مواعد كاذبات ... بطي صحيفة فيها غرور كان مكتوباً في صحيفة المتلمس: "باسمك اللهم، من عمرو بن هند إلى المكعبر: إذا جاءك كتابي هذا مع المتلمس فاقطع يديه ورجليه وادفنه حياً"، وكذلك كانت صحيفة طرفة. وخرج الشاعران من بلاط الملك، فلما وصلا النجف قال المتلمس: يا طرفة إنك غلام حديث السن، والملك من عرفت حقده وغدره، وكلانا قد هجاه فلست آمنا أن يكون قد أمر بشر، فهلم فلننظر في كتبنا هذه، فإن يكن قد أمر لنا بخير مضينا فيه، وإن تكن الأخرى لم نهلك أنفسنا، فأبى طرفة أن يفك خاتم الملك، وعدل المتلمس إلى غلام من غلمان الحيرة عبادي، فأعطاه الصحيفة ليقرأها، والغلام لا يعرف المتلمس ولا من كتب الصحيفة، فقرأها فقال: ثكلت المتلمس أمه، فانتزع المتلمس الصحيفة من يده، واتبع طرفة فلم يلحقه. 3 - ألقى المتلمس الصحيفة في نهر الحيرة، وسار هارباً إلى الشام وهو يقول: وألقيتها بالشنى من جنب كافر ... كذلك أقنو كل قط مضلل رضيت لها بالماء لما رأيتها ... يجول بها التيار في كل جدول وأخيراً استقر به المقام عند بني غسان فأكرموا وفادته، وأخذ الشاعر يهجو ملوك الحيرة وبني المنذر، فشق ذلك على عمرو بن هند، وكان بنو غسان قد قتلوا أباه يوم "أباغ" فحلف ألا يدخل المتلمس العراق ولا يطعم بها حتى يموت، وكتب إلى عماله بنواحي الريف يأمرهم أن يأخذوا المتلمس إن قدروا عليه وهو يمتار طعاماً أو يدخل الريف، وفي ذلك يقول المتلمس يحرض قومه بعد قتل طرفة: يا آل بكر ألا لله دركمو ... طال الثواء وثوب العجز ملبوس ومنها: آليت حب العراق الدهر أطعمه ... والحب يأكله في القرية السوس وقال: أيها السائلي فإني غريب ... نازح عن محلتي وصميمي وقال: إن العراق وأهله كانوا الهوى ... فإذا نآنا ودهم فليبعدوا ومات ببصرى بأرض الشام نحو عام 580 م. 4 - وأما طرفة فقد سار حتى قدم على عامل البحرين ربيعة بن الحرث العبدي على الأرجح بهجر، فدفع إليه كتاب عمرو بن هند فقرأه فقال: هل تعلم يا طرفة ما أمرت به؟ قال: نعم، أمرت أن تجيرني وتحسن إلي. فقال: يا طرفة بيني وبينك خؤولة أنا لها راع حافظ فاهرب في ليلتك هذه فإني قد أمرت بقتلك، فاخرج قبل أن تصبح ويعلم بك الناس. فقال طرفة: اشتدت عليك جائزتي فأردت أن أهرب؟ فسكت ربيعة، وأصبح الصباح فأمر بحبسه ولم يقتله، وكتب إلى عمرو بن هند ابعث إلى عملك من تريد فإني غير قاتله، فبعث عمرو بن هند رجلاً من تغلب فاستعمله على البحرين وأمره بقتل طرفة وربيعة بن الحارث العبدي، فاجتمعت بكر تريد الفتك بالعامل الجديد، ولكنها لم تستطع، وجيء بطرفة إليه فقال له: إني قاتلك لا محالة فاختر لنفسك ميتة تهواها. فقال: إن كان ولابد فاسقني الخمر وافصدني. ففعل به ذلك، فما زال ينزف دمه حتى مات. قال صاحب الجمهرة 215 هـ وقبر طرفة اليوم معروف بهجر بأرض لبنى قيس بن ثعلبة، ويروى أنه قال قبل صلبه: فمن مبلغ أحياء بكر بن وائل ... بأن ابن عبد راكب غير راجل

شعر طرفة

على ناقة لم يركب الفحل ظهرها ... مدببة أطرافها بالمناجل وقال أيضاً: لعمرك ما تدري الطوارق بالحا ... ولا زاجرات الطير ما الله فاعل وهكذا انتهت حياة هذا الشاعر الشاب طرفة، وودع الدنيا وداع الناقم عليها، الساخط من ظلمها وآلامها، وكان قتله نحو عام 565 م. 6 - ورثت الخرنق أخاها طرفة وبكته بكاء شديدا، وهجت عبد عمرو الذي وشى به إلى الملك عمرو بن هند فقالت: ألا ثكلتك أمك عبد عمرو ... أبا الخزيات وأخيت الملوكا فيومك عند زانية هلوك ... تظل لرجع مزهرها ضحوكا وقال المتلمس يحرض قوم طرفة: أبني "قلابة" لم تكن عاداتكم ... خذ لدنية قبل خطة معضد وقال: من مبلغ الشعراء عن أخويهم ... خبرا فتصدقهم بذاك الأنفس أودى الذي علق الصحيفة منهم ... ونجا حذار حبائه المتلمس الق الصحيفة لا أبا لك إنه ... يخشى عليك من الحباء النقرس شعر طرفة أهم الدراسات عن طرفة وشعره والدراسات عن طرفة كثيرة، ولكنها لا تزال غامضة. 1 - ذكره ابن سلام 231هـ في كتابه "طبقات الشعراء". 2 - وترجم له ابن قتيبة 276 هـ في الشعر والشعراء ترجمة صغيرة جداً. 3 - وذكر بعض أخباره أبو زيد الأنصاري 215 هـ في كتابه جمهرة أشعار العرب. 4 - وذكر أبو الفرج بعض أخباره في الأغاني في ترجمته للمتلمس وفي مواضع أخرى. 5 - وشرح الزوزني معلقته في كتابه "شرح المعلقات السبع" كما شرحها النعساني في كتابه "نهاية الأرب في شرح معلقات العرب" وقد ذكر كل منهما تصديراً للمعلقة ضمنه بعض أخباره، ورواها صاحب الجمهرة. وقد طبعها العلامة "وليرس" في مدينة بونا 1829 م. 6 - وطبع شعره مع شعر خمسة من شعراء الجاهلية هم امرؤ القيس والنابغة وزهير وعلقمة وعنترة في مجموعة تسمى "العقد الثمين" والذي جمعها هو والمستشرق الألماني وليم بن الورد البروسي، وطبع شعره أيضاً مع شعر امرؤ القيس وزهير في مجموعة أخرى مختصرة من الأولى سميت: العقد الثمين أيضاً، وهي منقولة عن النسخة المطبوعة في لندرة عام 1870، وطبعت هذه المجموعة في المطبعة اللبنانية ببيروت سنة 1886. وشرح ديوان يعقوب بن السكيت 244 هـ، وشرحه أيضاً الأعلم الشنتمري، وقد نشر شرحه مع ترجمة فرنسية للمستشرق "مكس سلغسون" الذي كتب رسالة عن حياة طرفة ونال بها درجة علمية في التاريخ واللغات من جامعة باريس عام 1892 م، وطبع هذا المستشرق أشعار طرفة بشالون بفرنسا سنة 1900. 7 - وعده صاحب كتاب "شعراء النصرانية" من شعراء النصارى وأرخ له (298 - 320 ج1) . 8 - وترجم له البغدادي في خزانة الأدب ترجمة موجزة (414 - 1) وكذلك ترجم جورجي زيدان (116-1) . 9 - كما ترجم له الزيات وأصحابه الوسيط والمفصل والأستاذ هاشم في كتاب "الأدب العربي وتاريخه في العصر الجاهلي" والدكتور طه حسين في الأدب الجاهلي وسواهم من الباحثين والمؤلفين. وذكره اسكندر ابكاريوس السوري في كتابه "روضة الأدب في طبقات شعراء العرب" وله ترجمة في حياة الحيوان للدميري وفي المجلة الآسيوية الفرنسية عام 1841 مقال عنه وعن المتلمس. طبقته وآراء النقاد فيه 1 - جعله ابن سلام الجمحي 231 هـ في الطبقة الرابعة من طبقات شعراء الجاهلية، وعد معه: عبيد بن الأبرص وعلقمة بن عبدة وعدي بن زبده. وقال عنه: وهو أشعر الناس واحدة. وجعله أبو عبيدة 209 هـ في الطبقة الثانية مع الأغشى ولبيد، أما الطبقة الأولى عنده فهي: امرؤ القيس والنابغة وزهير. ووافقه على ذلك أبو زيد 215 في الجمهرة. 2 - ويقول ابن مقبل في طرفة: هو أشعر الناس وكذلك يروى عن النضر بن شمبل أما أبو عمرو بن العلاء 154هـ فكان يقول: أشعر الناس أربعة: امرؤ القيس والنابغة وطرفة ومهلهل. ويقول قتيبة بن مسلم: أشعر الجاهلية امرؤ القيس وأضربهم مثلاً طرفة. ويقول لبيد بن ربيعة الشاعر الجاهلي المشهور: أشعر الناس الملك الضليل ثم الشاب القتيل ثم الشيخ أبو عقيل. وأشاد به وبشاعريته جرير والأخطل. كما ذكره المرزباني في كتابه الموشح والثعالبي في كتابه خاص الخاص.

طرفة والشعراء الجاهليون

3 - ويقول ابن قتيبة فيه ما قاله ابن سلام: فهو أجودهم طويلة وهو صاحب المعلقة "لخولة أطلال" وليس عند الرواة من شعره وشعر عبيد بن الأبرص القليل. ويقول فيه صاحب الجمهرة: هو أشعرهم إذ بلغ بحداثة سنه ما بلغ القوم في طوال أعمارهم فجب وركض معهم. وسئل حسان من أشعر الناس فقال قبيلة أم قصيدة. قيل كلاهما قال أما أشعرهم قبيلة فهذيل، وأما أشعرهم قصيدة فطرفة. وسئل جرير من أشعر الناس؟ قال الذي يقول: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا - البيت. وقال القالي في أماليه حدثنا أبو بكر بن الأنباري، نبأنا أبو حاتم، نبأنا عمارة بن عقيل، نبأنا أبي: يعني عقيل بن بلال، سمعت أبي يعني بلال بن جرير يقول عن أبيه جرير دخلت على بعض خلفاء بني أمية، فقال ألا تحدثني عن الشعراء؟ فقلت بلى قال: فمن أشعر الناس؟ قلت ابن العشرين، يعني طرفة. قال فما تقول في ابن أبي سلمى والنابغة؟ قلت كانا ينيران الشعر ويسديانه. قال فما تقول في امرئ القيس بن حجر؟ قلت: اتخذ الخبيث الشعر نعلين يطؤهما كيف يشاء. قال: فما تقول في ذي الرمة؟ قلت: قدر من الشعر على ما لم يقدر عليه أحد. قال فما تقول في الأخطل؟ قلت: ما باح بما في صدره من الشعر حتى مات. قال: فما تقول في الفرزدق؟ قلت: بيده نبعة الشعر قابضاً عليها. قال: فما أبقيت لنفسك شيئاً. قلت: بلى، والله يا أمير المؤمنين، أنا مدينة الشعر، التي يخرج منها ويعود إليها. ويقول السيوطي 911 في المزهر: طرفة من المقلين وفضل الناس بواحدة وهي معلقته "لخولة أطلال"، وله سواها يسير لأنه قتل صغيراً حول العشرين فيما روي. ويقول فيه صاحب الأدب الجاهلي على مذهبه في إنكار الشعر الجاهلي وانتحاله: "معلقة طرفة تبدو فيها شخصية قوية ومذهب في الحياة واضح هو مذهب اللهو واللذة، وهذه الشخصية ظاهرة البداوة والإلحاد، وهذا الشعر واضح لا تكلف فيه ولا انتحال، وفي المعلقة شعر وصفي صنعه علماء اللغة وشعر صدر عن الشاعر حقاً وهو الذي سجل عواطف الشاعر وآراءه في الحياة. طرفة والشعراء الجاهليون والشعراء الجاهليون باعتبار أزمنتهم ثلاث طبقات: 1 - الطبقة الأولى، ومن شعرائها المهلهل 530 م والشنفري 510، وتأبط شراً 530م، وسواهم من الشعراء. 2 - الثانية، ومن شعرائها: امرؤ القيس 560 م، والسموأل 560 م، وعلقمة الفحل 561 م والمرقش الأصغر نحو عام 560 م، والمرقش الأكبر 552 م، وعبيد 555 م، والمتلمس 580 م والحارث ابن حلزة 580 م، والمثقب العبدي 587 م، والأفوه الأودي 570 م ومنها طرفة 565 م، ولقد عاش طرفة إبان هذه النهضة الشعرية التي حمل لواءها امرؤ القيس ومن عاصره أو جاء بعده من الشعراء. 3 - الطبقة الثالثة، ومن شعرائها: النابغة 604 م، وعمرو بن كلثوم 600 م، وحاتم 605 م، وعروة بن الورد 596 م، وعنترة 651 م، والأعشى 629 م، وزهير 630 م، ولبيد 662 م، وسواهم. أسباب شاعريته كانت كل الظروف تعمل عملها في خلق شاعرية طرفة وتكوينها: 1 - فالصحراء تغذي الخيال وتثير العاطفة والشعور وتلهم الناس بآيات الشاعرية وموهبتها. فضلاً عن مشاهدها المنوعة التي تستثير المشاعر والملكات. 2 - وأسرة الشاعر بما كان فيها من أعلام في الشعر جعلته يرث هذه المواهب ومن أسرته المرقش الأكبر، وخاله هو المتلمس، وكانت أخته الخرنق شاعرة، كما كان من شعراء بكر قومه: الحارث بن حلزة، وسواه. 3 - ومجد طرفة وحسبه أنطقاه وألهماه القول والبيان، وكما يقول الشاعر: فلو أن قومي أنطقتني رماحهم ... نطقت ولكن الرماح أجرت 4 - ويتمه أليس هو الذي أثار فيه بواعث الشعر وأسبابه الأولى وأمده بهذه العاطفة المتأججة المشتعلة، وتلك الملكة القوية الحادة؟. 5 - ورحلة الشاعر في البلاد ما بين اليمامة واليمن والحبشة إلى الحيرة وبعض أرجاء البلاد العربية أمدته بمدد لا ينفذ وبثروة فنية وفكرية واسعة مما ظهر في شعر الشاعر وأفكاره وآرائه وحكمته. 6 - والخصومات العنيفة بين قومه وخصومهم من تغلب وسواها، وبين الشاعر والعاصرية، كابن عمه عبد عمرو، وكعمرو بن هند ملك الحيرة وسواهما هذه الخصومات هي التي أججت شاعريته وأحكمت فنه.

خصائص شاعريته

7 - يضاف إلى ذلك فطرة الشاعر وخلقه وصفاته من حدة الذهن واضطرام الشعور وثوران العواطف والتهاب المشاعر، إلى ما سوى ذلك من أسباب الشعر وبواعثه في نفس الشاعر. ولا عجب ذلك، فقد كانت ملكات البلاغة والشعر قوية في نفس طرفة حتى في طفولته، ولقد روي أن المتلمس شاعر ربيعة في زمانه وخال طرفة وقف على مجلس لقومه من بني قيس بن ثعلبة فاستنشدوه، فأنشدهم شعراً، جاء فيه: وقد أتناسى الهم عند احتضاره ... بناج عليه الصيعرية مكدم والصيعرية: سمة تكون للإناث خاصة فقال له طرفة وهو غلام - وطرفة لا يعرفه -: استنوق الجمل، أي وصفت الجمل بوصف الناقة وخلطت، فذهبت كلمته مثلاً، وضحك القوم وغضب المتلمس، ونظر إلى لسان طرفة وقال: ويل لهذا مني. يعني رأسه من لسانه. ويروى أن تلك القصة كانت مع عمرو بن كلثوم لا مع المتلمس (40 و 41 جمهرة أشعار العرب) . خصائص شاعريته أولاً، من حيث الألفاظ: يجمع طرفة بين العذوبة الجميلة السلسة والوحشية الغريبة المعقدة في ألفاظه. فإذا وصف رأيت ألفاظاً بعيدة غريبة قوية ضخمة مسرفة في حوشيتها وغرابتها، وإذا فخر أو هجا رأيته يقرب من السهولة والوضوح في لفظه، وإذا أرسل الحكمة رأيت جمالاً وسلاسة وسهولة. والظاهر أن مرجع ذلك هو حياة الشاعر الشعرية، فقد بدأ في صغره ينظم الشعر، يصف به مشاهد الطبيعة وروائعها الماثلة أمام بصره، وكانت شاعريته في بدء أمرها قوية خشنة قوة البداوة وخشونة الصحراء، فقوي في ألفاظه وأغرب، ثم أخذت شاعريته تنضج وبدأ يكثر من قصائده في الفخر بأحسابه وهجاء خصومه فأخذت ألفاظه تلين وتسهل، ثم خبر الحياة وطاف في الأرجاء وشاهد ألواناً من التفكير والمذاهب والآراء، فكانت شاعريته قد كمل نضجها. فبدأت ألفاظه تسلس وتسهل وتقرب من ذوق البدوي المتحضر الذي يبعد عن حياة الخشونة ومظاهر الإغراب في البداوة. ثانياً، من حيث الأسلوب: وأسلوب طرفة قوي جزل رصين، يمتاز بالمتانة، وأسر اللفظ وفخامة الأسلوب وقوة القافية مع سهولتها. تجد فيه جزالة وقوة في كثير من شعره، ورقة وسهولة في بعض غزله وفي حكمته وفي عتابه وفي وصف مطامحه وآماله وآلامه. والجزالة والرقة تختلف موضعها باختلاف المقام ومواطن الكلام وفنونه والمناسبات التي تسنح للشاعر فتجعل نفسه مرحة فرحة أو تجعلها مكتئبة كزة نافرة. وفي أسلوبه معاظلة في التركيب وتعقيد في الكلام حيناً، وفي غالب الأحايين نجد وضوحاً ودقة تصوير وجمال تعبير وقرب مأخذ وسهولة عرض ورشاقة بيان. ثالثاً، من حيث المعاني والأخيلة: معاني طرفة تتصل بنفسه وحياته وقبيلته وبالصحراء والبادية التي عاش فيها وبتاريخ قومه وأحسابهم وبالحياة العربية عامة اتصالاً وثيقا. وطرفة في معانيه قريب، واضح أحياناً، وخفي معقد حيناً، يقتصر على بيان الحقيقة، قليلة الغلو والمبالغة، يصور الحقائق والواقع تصويراً قوياً. وخياله خيال يقظ مشبوب حاد. يحلق قريباً من الحياة والواقع، يظهر في أسلوب الاستعارة والتشبيه أحياناً، ويجنح إلى القصد والاعتدال والصدق. وفي معانيه معان مكرورة، متقاربة الخيال. وطرفة على أي حال من المقلين في الشعر، ومعلقته سبب شهرته وتمتاز بوفرة معانيها وتنوع أغراضها وقوة قافيتها وصدق تصويرها. رابعاً، من حيث أغراض الشعر وفنونه: ولقد نظم طرفة الشعر في أغراض كثيرة وأجاد فيها إجادة بليغة. ومن أهم هذه الأغراض: 1 - الهجاء: فقد كان طرفة هجاء. هجا عمرو بن هند الملك، كما هجا ابن عمه عبد عمرو. وهجا قومه كما هجا أعداءهم، وتنبأ له المتلمس منذ طفولته بالقتل بسبب نشأته وفطرته على الهجاء. ترجع أسباب ميله إلى الهجاء إلى توقد عاطفته وحدة شعوره واضطرام حسه وإلى قوة اعتزازه بنفسه وشدة تأثره مما يشعر به من تقصير في حقه من قومه وسواهم وإلى يتمه الذي جعله يتوهم العداوة من الصديق والضر حتى من القريب. يقول في قومه: أدوا الحقوق تفر لكم أعراضكم ... إن الكريم إذا يحرب يغضب ويقول في ابن عمه: ولا خير فيه غير أن له غنى ... وأن له كشحا إذا قام أهضما ويقول في عمرو بن هند: فليت لنا مكان الملك عمرو ... رغوثا حول قبتنا تخور

2 - الفخر: ولقد كان طرفة يشعر بحسب قومه ومجدهم بين العرب وكثرة عددهم وقوتهم وشوكتهم، ويعتز بذلك اعتزازاً كبيراً، وينظم شرف قومه في قصائده، فيمدحهم بحماية الجار، وقرى الضيف والغناء في الحرب وجلال المجلس ووقاره، ويسوي ذلك من مظاهر الفخر وألوانه. (أ) قال في قومه من قصيدة في الفخر: يزعون الجهل من مجلسهم ... وهم أنطارى ذي الحلم الصمد سماء الفقر أجواد الغنى ... سادة الشيب، مخاريق المرد (ب) وقصيدته: أصحوت اليوم أم شاقتك هر ... ومن الحب جنون مستعمر وقف على الفخر بقومه وأحسابهم ومجدهم.. وهي إحدى قصائده الجياد وأشاد بها ابن سلام وسواه من النقاد، بدأها بالنسيب والتغزل في محبوبته "هر" في أبيات طويلة، ثم ذكر الناقة في بيتين، ثم التفت إلى نفسه وقومه فافتخر ببأسهم وكرمهم وبطولتهم ومكانتهم بين العرب واعتزازهم بالخيل للحرب والنضال، فخراً قوياً كثيراً، جاء فيه قوله: وهم ما هم إذا ما لبسوا ... نسج داود لبأس محتضر ولقد تعلم بكر أننا ... آفة الجزر مساميح يسر ولقد تعلم بكر أننا ... فاضلو الرأي وفي الروغ وقر ثم ختمها بالرضاء على قومه وذكر ما آل إليه من رشد: ولقد كنت عليكم عاتبا ... فعقبتم بذنوب غير مر كنت فيكم كالمغطى رأسه ... فانجلى اليوم قناعي وخمر سادراً أحسب غي رشداً ... فتناهيت وقد صابت بقر ويبدو من هذه الأبيات أنه نظمها بعد عودته إثر تنقله بين الأحياء والبلاد، وأن قومه أعانوه بمالهم وعطفهم، وأنه رضي بعد سخط، واطمأن فيهم بعد قلق، ورشد بعد غي. (ج) ويقول طرفة من قصيدة في الفخر؛ ختمها بحكمته: إنا لنكسوهم وإن كرهوا ... ضربا يطير خلاله شرره والمجد ننميه ونتلده ... والحمد في الاكفاح ندخره (د) ويقول يفتخر بقومه وأبيه من قصيدة طويلة بدأها بالحديث عن نفسه وغربته وتنقله بين القبائل: وأنمي إلى مجد تليد وسورة ... تكون تراثاً عند حي لهالك أبي أنزل الجبار عامل رمحه ... عن السرج حتى خر بين السنابك _هـ) ويفتخر بقومه وبطولتهم وما سجلوه في أمسهم البعيد من مجد تليد وبطولة نادرة في حروبهم يوم التحاليق، وهو يوم من أيام حرب البسوس وكان لبكر على تغلب، وذلك في قصيدة مطلعها: سائلوا عنا الذي يعرفنا ... بقوانا يوم تحلاق اللمم وهي وقف على الفخر ويقول فيها: نزع الجاهل في مجلسنا ... فترى المجلس فينا كالحرم وتفرعنا من ابني وائل ... هامة المجد وخرطوم الكرم نمسك الخيل على مكروهها ... حين لا يمسك إلا ذو كرم (و) ويفتخر بنفسه في قصيدته في مدح قتادة الحنفي وقد مضت الإشارة إليها، وكذلك قصيدته: أشجاك الربع أم قدمه ... أم رماد دارس حممه قد ذكر فيها شيئاً من تاريخ قومه إبان حرب البسوس، وسعى الغلاق" أحد قواد ملك الحيرة بين تغلب وقومه بكر من أجل الصلح، وكان الغلاق يميل إلى تغلب، وهدد طرفة فيها تغلباً بالعودة إلى الحرب باللسان وبالسيوف جميعاً، وعلى الجملة، فقد كان طرفة مجيداً في فخره، كما كان لاذعاً في هجائه. 3 - الغزل: ويتغزل طرفة في شعره بخولة: لخولة أطلال ببرقة ثهمد ... تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد وينسبها إلى قومها الحنظليين فيقول من قصيدة بدأها بذكر خوله: فقل لخيال الحنظلية ينقلب ... إليها فإني واصل حبل من وصل ويذكرها في معلقته بالمالكية ولعل ذلك نسبة إلى مالك بن ضبيعة من عمومة الشاعر. ويتغزل بهر "أصحوت اليوم أم شاقتك هر" كما يتغزل بهند "لهند بحزان الشديف طلول"، وبسلمى: ديار سليمى إذ تصيدك بالمنى ... وإذ حبل سلمى منك دان تواصله وهو في غزله يذكر الديار ويقف عليها ويبكيها كما في معلقته، ويذكر خيال الحبيب وسراه إليه، ويصف جمال حبيبته وتقاطيع جسمها كما في قصيدته "أصحوت اليوم"، ويدعو لدارها بالمطر كما في قصيدته "لخولة بالأجزاع من إضم طلل". وله قصيدة مفردة في الغزل قصرها عليه، ومطلعها: أتعرف رسم الدار قفراً منازله ... كجفن اليماني زخرف الوشي ماثله وهي في محبوبته سليمى أو سلمى، بدأها بذكر ديارها، ثم قال:

شعر طرفة في ميزان النقد

ديار سليمى إذ تصيدك بالمنى ... وإذ حبل سلمى منك دان تواصله وإذ هي مثل الرئم صيد غزالها ... لها نظر ساج إليك تواغله غنينا وما نخشى التفرق حقبة ... كلانا غرير ناعم العيش باجله ليالي أقتاد الصبا ويقودني ... يجول بنا ربعانه ونجاوله ثم يصف خيالها الذي سرى إليه من مكان بعيد ويتعجب لاهتدائه إليه، ثم يقول: وقد ذهبت سلمى بعقلك كله ... فهل غير صيد أحرزته حبائله كما أحرزت أسماء مرقش ... بحب كلمع البرق لاحت مخايله ثم يذكر قصة المرقش مع محبوبته أسماء، ويختمها بقوله: فوجدي بسلمى مثل وجد مرقش ... بأسماء إذ لا تستفيق عواذله قضى نحبه وجدا عليها مرقش ... وعلقت من سلمى خبالا أماطله وبعد، فمعاني طرفة في غزله قليلة بدائية وشتان بينه وبين امرئ القيس في هذا الباب والنقاد يقولون إن طرفة لا يحسن العشق، أليس هو الذي يقول: وإذا تلسنني ألسنها ... أنني لست بموهون قفر أي إذا افتخرت عليه افتخر عليها لأنه ليس بضعيف ولا دنيء. وهو الذي يقول: فقل لخيال الحنظلية ينقلب ... إليها فإني واصل حبل من وصل وأين هذا من قول امرئ القيس: أغرك مني أن حبك قائلي ... وأنك مهما تأمري القلب يفعل 4 - الوصف: وهو كثير في شعر طرفة، ويمتاز بغرابة اللفظ وقوة الأسلوب وصدق الوصف وصحة التصوير والرسم، ويبدو فيه أثر بيئته واضحاً، فوصفه للسفينة في معلقته يرجع إلى كثرة ما شاهد من سفن تسير في البحر في البحرين وسواها. ووصف الصحراء كما وصف الناقة والفرس ومجالس الشراب، والغيث والرعد، وسوى ذلك من مشاهد الصحراء ومناظرها، ولاشك أن شعره يتصل بالصحراء اتصالاً وثيقاً لأنه صورة منها ورسم لمناظرها وألوان الحياة والطبيعة فيها، ونماذج وصفة في معلقته فارجع إليها. 5 - الحكمة: وهي كثيرة في شعر طرفة، عميقة رائعة تدل على صدق النظر وقوة الفراسة وعلى ثقوب الذهن وحدة الفكر، وهي مبكرة في طرفة الشباب، ولعل أسفاره ورحلاته وبيئته وقربه من ألوان الحياة والتفكير في الحيرة قد نمتها فيه رغم صغر سنه، ومعلقته فيها الكثير من الحكم.. ومن حكمه قوله: والأثم داء ليس يرجى برؤه ... والبر برء ليس فيه معطب والصدق يألفه اللبيب المرتجى ... والكذب يألفه الدني الأخيب ويقول: وليس امرؤ أفنى الشباب مجاورا ... سوى حيه إلا كآخر هالك ويقول: للفتى عقل يعيش به ... حيث تهدى ساقه قدمه وسوى ذلك من صادق حكمه وبعيد فراسته وتفكيره للأمور وحكمه عليها. شعر طرفة في ميزان النقد 1 - قال الأصمعي: لم يكن طرفة يحسن أن يتعشق. قال في قصيدته: أصحوت اليوم أم شاقتك هر ... ومن الحب جنون مستعر أرق العين خيال لم يقر ... طاف والركب بصحراء بسر أي زار في مكان لا يزار فيه، فتراه يقول هذا القول، أنه لم ينم ولم يهج من حبها، ثم يقول: وإذا تلسنني ألسنها ... إنني لست بموهون غمر 2 - وقال المبرد: عاب الناس قول طرفة: أسد غيل فإذا ما شربوا ... وهبوا أمون وطمر فقيل إنما يهبون عند هذه الآفة التي تدخل على عقولهم، وفضلوا قول عنترة: وإذا شربت فإنني مستهلك ... مالي وعرضي وافر لم يكلم وإذا صحوت فأقصر عن ندى ... وكما علمت شمائلي وتكرمي فخبر عنترة أن جوده باق لأنه لا يبلغ من الشراب ما يثلم عرضه. قالوا: وقول عنترة حسن جميل إلا أنه أتى به في بيتين، هلا قال كما قال امرؤ القيس: سماحة ذا، وبر ذا، ووفاء ذا ... ونائل ذا، إذا صحا وإذا سكر قال الصولي: وقد تبغ حسان طرفة، فقال وهو أعيب من الأول: ونشربها فتتركنا ملوكا ... وأسدا ما ينهنهنا اللقاء فقول طرفة خير من هذا، لأنه قال "أسد غيل فإذا ما شربوا" فجعل الشجاعة لهم قبل الشرب، وحساب قال نشرب فنشجع ونهب كأنا ملوك إذا شربنا، فلهذا كان قول طرفة أجود، وقول عنترة أحسن، لأنه احترس من عيب الإعطاء على السكر وأن السكر زائد في سخائه، فقال: "وإذا شربت فإنني مستهلك - البيتين". وقال زهير: أخي ثقة لا تهلك الخمر ماله ... ولكنه قد يهلك المال نائله

فهذا من أحسن الكلام، يريد أنه لا يشرب بماله الخمر، ولكنه يبذله للحمد. وقال البحتري: تكرمت من قبل الكؤوس عليهم ... فما اسطعن أن يحدثن فيك تكرما 3 - وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتمثل بقول طرفة، ولا يقيم وزنه: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود وكان ابن عباس يقول إنه كلام نبي يجمع الحكمة والمثل. 4 - ويقال إن أمير شعره قوله: قد يبعث الأمر الكبير صغيره ... حتى تظل له الدماء تصيب 5 - ويمتثل من شعره قوله: بحسام سيفك أو لسانك وال ... كلم الأصيل كأرغب الكلم 6 - وقال ناقد أمام الأصمعي إن طرفة أحسن الناس تشبيهاً في قوله: ووجه كأن الشمس ألقت رداءها ... عليه نقي اللون لم يتخدد وفي قوله: يشق حباب الماء حيزومها بها ... كما قسم الترب المفايل باليد قال الأصمعي: فقلت هذا حسن، وغيره حسن منه، وقد شركه في هذا المعنى جماعة من الشعراء، وبعد فطرفة صاحب واحد لا يقطع بقوله مع التجوز، وإنما يعد أصحاب الواحدة. قال: ومن أصحاب الواحدة؟ قلت الحرث بن حلزة في قوله: آذنتنا ببينها أسماء ... رب ثاو يمل منه الثواء والأسعر الجعفي في قوله: هل دان قلبك من سليمى فاشتفى ... ولقد عنيت بحبها فيما مضى والأفوه والأودي في قوله: إن ترى رأسي فيها نزع ... وشواتى خلة فيها دوار وعلقمة في قوله: طحابك قلب في الحسان طروب ... بعيد الشباب عصر حان مشبب وسويد بن أبي كاهل في قوله: بسطت رابعة الحبل لنا ... فوصلنا الحبل منها فاتسع وعمرو بن كلثوم في قوله: ألا هبي بصحنك فأصبحينا ... ولا تبقى خمور الأندرينا وعمرو بن معد يكرب في قوله: أمن ريحانة الداعي السميع ... يؤرقني وأصحابي هجوع 7 - وقال طرفة: يشق حباب الماء حيزومها بها ... كما قسم الترب المفايل باليد أخذه لبيد فقال يصف ثورا: تشق خمائل الدهنا يداه ... كما لعب المقامر بالفيال 8 - وقال طرفة: وبلاد زعل ظلمانها ... كرجال الحبش تمشى بالعمد قد تبطنت وتحتي جسرة ... غير أسفار كمخراق وحد أخذه لبيد فقال: وبلاد زعل ظلمانها ... كحزيق الحبشيين الزجل قد تبطنت وتحتي جسرة ... حرج في مرفقيها كالقتل 9 - ولطرفة أبيات مشهورة منها: كلهم أروغ من ثعلب ... ما أشبه الليلة بالبارحة ومنها: قد يبعث الأمر العظيم صغره ... حتى تظل له الدماء تصبب وقوله: وظلم ذوي القربى أشد مضاضة ... على المرء من وقع الحسام المهند وقوله: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود وقوله: ثم راحوا عبق المسك بهم ... يلحفون الأرض هداب الأزر وقوله: نحن في المشتاة ندعو الجفلى ... لا ترى الأدب فينا ينتقر وقوله: تذكرون زعل نقاتلكم إذا لا يضير معدما عدمه وقوله: للفتى عقل يعيش به ... حيث تهدى ساقه قدمه 10 - وينسب إليه شعر منحول، ومنه قصيدته: أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيك، بعض الشر أهون من بعض 11 - ويقول امرؤ القيس في ديار محبوبته: وقوفا بها صحبي على مطيهم ... يقولون لا تهلك أسى وتجمل أخذه طرفة بنفسه فقال: وقوفا بها صحبي على مطيهم ... يقولون لا تهلك أسى وتجلد 12 - ويقول طرفة في الفخر بنفسه: إذا القوم قالوا: من فتى؟ خلت أنني ... عنيت فلم أكسل ولم أتبلد أخذه النهشلي فقال في الفخر بقومه: لو كان في الألف منا واحد فدعوا ... من فارس؟ خالهم إياه يعنونا فالمعنى واحد. ولكن طرفة: أ - أسلوبه بدوي مطبوع جزل عن أسلوب النهشلي.

شرح المختار من شعر طرفة

ب - ومعناه أتم، فقال قال: "القوم" وهو يشمل القليل والكثير مهما تجاوز العدد. وقال النهشلي "الألف" فقصر بهذا التسديد. وقال طرفة "من فتى" وقال النهشلي "من فارس"، فشمل كلام طرفة تميزه عليهم بالشجاعة والجود وكرم الخلق وسمو النفس وجلال المحتد وسواها، من حيث قصر النهشلي فخره على الشجاعة. وقال طرفة "فلم أكسد ولم أتبلد" وهي زيادة لا نظير لها في بيت النهشلي. شرح المختار من شعر طرفة - 1 - قال طرفة بن العبد البكري: لخولة أطلال ببرقة تهمد ... تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد وقوفا بها صحبي علي مطيهم ... يقولون لا تهلك أسى وتجلد كأن حدوج المالكية غدوة ... خلايا سفين بالنواصف من دد عدولية أو من سفين ابن يامن ... يجور بها الملاح طوراً ويهتدي يشق حباب الماء حيزومها بها ... كما قسم التراب المفايل باليد وفي الحي أحوى بنفض المرد شادن ... مظاهر سمطي لؤلؤ وزبرجد خذول تراعى ربرباً بخميلة ... تناول أطراف البرير وترتدي وتبسم عن ألمى كان منوراً ... تخلل حر الرمل دعص له ندي سقته إياة الشمس إلا لثاته ... أسف، ولم تكدم عليه، بإثمد ووجه كأن الشمس ألقت رداءها ... عليه نقي اللون لم يتحدد وإني لأمضي لهم عند احتضاره ... بعوجاء مرقال تروح وتغتدي أمون كألواح الإران نصأتها ... على لاحب كأنه ظهر برجد حمالية وجناء تردى كأنها ... سفنجة تبرى لأزعر أربد تبارى عتاقا ناجيات وأتبعت ... وظيفاً وطيفاً فوق مور معبد تربعت القفين في الشول ترتعي ... حدائق مولى الأسرة أغيد تريع إلى صوت المهيب وتتقي ... بذي خصل روعات أكلفت ملبد كان جناحي مضرحي تكنفا ... حفافية شكا في العسيب بمسرد فطوراً به خلف الزميل وتارة ... على حشف كالشن ذار مجدد لها فخذان أكمل النحض فيهما ... كأنهما بابا منيف ممرد وطي محال كالحنى خلوفه ... وأجرنة لزت بدأي منضد كأن كناسي ضالة يكنفانها ... وأطر قسي تحت صلب مؤبد لها مرفقان أفتلان كأنما ... تمر بسلمى دالج متشدد كقنطرة الرومي أقسم ربها ... لتكتنفن حتى تشاد بقرمد صهابية العثنون مؤجدة القرا ... بعيدة وخد الرجل موارة اليد أمرت يداها فتل شزر وأجنحت ... لها عضداها في سقيف مسند جنوح دفاق عندل ثم أفرعت ... لها ستفاها في معالي مصعد كأن علوب النسغ في دأياتها ... موارد من خلقاء في ظهر قردد تلافى وأحياناً تبين كأنها ... بنائق غر في قميص مقدد وأتلع نهاض إذا صعدت به ... كسكان بوصي بدجلة مصعد وجمجمة مثل العلاة كأنما ... رعى الملتقى منها إلى حرف مبرد وخد كقرطاس الشآمي ومشفر ... كسبت اليماني قده لم يجرد وعينان كالماء بتين استكنتا ... بكهفي حجاجي صخرة قلت مورد طحوران عوار القذى فتراهما ... كمكحولتي مذعورة أم فرقد وصادقتا سمع التوجس للسرى ... لهجس خفي أو لصوت مندد مؤللتان تعرف العتق فيهما ... كسامعتي شاة بحومل مفرد وأروع نباض أحذ ململم ... كمرداة صخو من صفيح مصمد وإن شئت سامي واسط الكور رأسها ... وعامت بضبعيها نجاء الخفيدد وإن شئت لم ترقل وإن شئت أرقلت ... مخافة ملوي من القد محصد وأعلم مخزوت من الأنف مارن ... عتيق متى ترجم به الأرض تزدد على مثلها أمضى إذا قال صاحبي ... ألا ليتني أفريك منها وأفتدي وجاشت إليه النفس خوفاً وخاله ... مصاباً لو أمسى على غير مرصد إذا القوم قالوا من فتى خلت أنني ... عنيت فلم أكسل ولم أتبلد أحلت عليها بالقطيع فأجذمت ... وقد خب آل الأمعز المتوقد فذالت كما ذالت وليدة مجلس ... ترى ربها أذيال سحل ممدد ولست بحلال التلاع مخافة ... ولكن متى يسترفد القوم أرفد وإن تبغني في حلقه القوم تلقني ... وإن تلتمسني في الحوانيت تصطد متى تأتني أصبحك كأساً روية ... وإن كنت عنها ذا غنى وازدد

وإن يلتق الحي الجميع تلاقني ... إلى ذروة البيت الشريف المصمد نداماي بيض كالنجوم وقينة ... تروح علينا بين برد ومجسد رحيب قطاب الجيب منها رفيقة ... بحس الندامى بضة المتجرد إذا نحن قلنا أسمعينا انبرت لنا ... على رسلها مطروفة لم تشدد إذا رجعت في صوتها خلت صوتها ... تجاوب أظآر على ربع ردي وما زال تشرابي الخمور ولذتي ... وبيعي وإنفاقي طريقي ومتلدي إلى أن تحامتني العشيرة كلها ... وأفردت إفراد البعير المعبد رأيت بني غبراء لا ينكرونني ... ولا أهل هذاك الطراف الممدد ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى ... وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي فإن كنت لا تستطيع منع منيتي ... فدعني أبادرها بما ملكت يدي فلولا ثلاث هن من عيشة الفتى ... وجدك لم أحفل متى قام عودي فنهن سبق العاذلات بشربة ... كميت متى ما نعل الماء تزبد وكرى إذا نادى المضاف محنباً ... كسيد الغضى نبهته المتورد وتقصير يوم الدجن والدجن معجب ... ببهكنة تحت الخباء المعمد كأن البرين والدماليج علقت ... على عشر أو خروع لم يعضد فذرني أرةي هامتي في حياتها ... مخافة شرب في الممات مصرد كريم يروي نفسه في حياته ... ستعلم إن متنا غداً أبنا الصدى أرى قبر نحام بخيل بماله ... كقبر غوي في البطالة مفسد ترى جثوتين من تراب عليهما ... صفائح صم من صفيح منضد أرى الموت يعتام الكرام ويصطفى ... عقيلة مال الفاحش المتشدد أرى العيش كنزاً ناقصاً كل ليلة ... وما تنقص الأيام والدهر ينفد لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى ... لكالطول المرخى وثنياه باليد متى ما يشأ يوماً يفده لحتفه ... ومن يك في حبل المنية ينقد فمالي أراني وابن عمي مالكاً ... متى أدن منه ينأ عني ويبعد يلوم وما أدري علام يلومني ... كما لامني في الحي قرط بن أعيد وأيأسني من كل خير طلبته ... كأنا وضعناه إلى رمس ملحد على غير شيء قلته غير أنني ... نشدت ولم أغفل حمولة معبد وقربت بالقربى وجدك إنه ... متى يك عهد للنكيثة أشهد وإن أدع للجلى أكن من حماتها ... وإن يأتك الأعداء بالجهد أجهد وإن يقذفوا بالقذع عرضك أسقهم ... بشرب حياض الموت قبل التهدد بلا حدث أحدثته وكمحدث ... هجائي وقذفي بالشكاة ومطردي فلو كان مولاي امرأ هو غيره ... لفرج كربى أو لأنظرني غدي ولكن مولاي امرؤ هو خانقي ... على الشكر والتسآل أو أنا مفتد وظلم ذوي القربى أشد مضاضة ... على المرء من وقع الحسام المهند فذرني وخلقي إنني لك شاكر ... ولو حل بيني نائياً عند ضرغد فلو شاء ربي كنت قيس بن خالد ... ولو شاء ربي كنت قيس بن مرثد فأصبحت ذا مال كثير وزارني ... بنون كرام سادة لمسود أنا الرجل الضرب الذي تعرفونه ... خشاش كرأس الحية المتوقد فآليت لا ينفك كشحي بطانة ... لعضب رقيق الشفرتين مهند حسام إذا ما قمت منتصراً به ... كفى العود منه البدء ليس بمعضد أخي ثقه لا ينثني عن ضريبة ... إذا قيل مهلاً قال حاجزه قدي إذا ابتدر القوم السلاح وجدتني ... منيعاً إذا بلت بقائمه يدي وبرك هجود قد أثارت مخافتي ... بواديها أمشي بعضب مجرد فموت كهاة ذات خيف جلالة ... عقيلة شيخ كالوبيل يلندد يقول وقد تر الوظيف وساقها ... ألست ترى أن قد أتيت بمؤيد وقال ألا ماذا ترون بشارب ... شديداً علينا بغيه متعمد وقال ذروه إنما نفعها له ... وإلا تكفوا قاصي البرك يزدد فظل الإماء يمتللن حوارها ... ويسعى علينا بالسديف المسرهد فإن مت فأنعيني بما أنا أهله ... وشقي علي الجيب ياابنة معبد ولا تجعليني كامرئ ليس همه ... كهمي ولا يغنى غنائي ومشهدي بطيء عن الجلى سريع إلى الخنا ... ذليل باجماع الرجال ملهد فلو كنت وغلاً في الرجال لضرني ... عداوة ذي الأصحاب والمتوحد

ولكن نفى عني الرجال جراءتي ... عليهم وإقدامي وصدقي ومحتدي لعمرك ما الأيام إلا معارة ... فما اسطعت من معروفها فتزود عن المرء لا تسأل وأبصر قرينه ... فإن القرين بالمقارن مقتدي لعمرك ما أمري علي بغمة ... نهاري ولا ليلي علي بسرمد ويوم حبست النفس عند عراكه ... حفاظاً على عوراته والتهدد على موطن يخشى الفتى عنده الردى ... متى تعترك فيه الفرائص ترعد وأصفر مضبوح نظرت جواره ... على النار واستودعته كف مجمد أرى الموت أعداد النفوس ولا أرى ... بعيداً غداً ما أقرب اليوم من غد ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ... ويأتيك بالأحبار من لم تزود ويأتيك بالأخبار من لم تبع له ... بتاتاً ولم تضرب له وقت موعد وما لام نفسي مثلها لي لائم ... ولا سد فقري مثل ما ملكت يدي تحليل القصيدة: 1 - طرفة بن العبد البكري شاعر جاهلي مشهور، نشأ يتيماً في كفالة أعمامه، يؤثر اللهو والدعة والبطالة ويدمن الخمر ويهجو الناس، حتى الملك عمرو بن هند الذي أضمر له الشر وأرسله لعامله بالبحرين فقتله ولم يتجاوز السادسة والعشرين. وتقول أخته الخرنق في رثائه: عددنا له ستا وعشرين حجة ... فلما توفاها استوى سيدا فخما وكان طرفة ملتهب المشاعر والعواطف حاد التفكير واللسان متأجج الشاعرية نظم الشعر يصور فيه حياته وآماله وبطالته يصف فيجيد الوصف ويأتي بالحكمة العالية والفكرة الرائعة "وهو أجود الجاهليين طويلة كما يقول ابن قتيلة وشعره قليل بأيدي الرواة. 2 - ومطلع هذه المعلقة الرائعة: لخولة أطلال ببرقة ثهمد ... تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد وقد عد بها الشاعر من فحول الشعراء الجاهليين ومشهوريهم، واستحق من أجلها أن يضعه أبو عبيدة في الطبقة الثانية منه وابن سلام في الطبقة الرابعة وأن يذهب بعض الشعراء والنقاد إلى أنه أشعر الجاهليين. وهي أطول المعلقات، أبياتها خمسة أو عشرة ومائة بيت، وتمتاز بكثرة معانيها وجزالة أسلوبها نظمها طرفة بعد عودته إلى أرض قومه إثر تنقله في الأحياء حين كان مغاضباً لقومه وعشيرته وقبل أن يتصل بملوك الحيرة وينادمهم. ويبدو من روح المعلقة ولهجتها أن الشاعر نظمها عتاباً لابن عمه، ويبدو أيضاً أن السبب في عتابه له أن أخاه "معبدا" كان له إبل يرعاها هو وأخوه طرفة فأغبها طرفة في المرعى حتى دخلت مرعى ابن عمه فحجزها، فلام معبد أخاه وألقى عليه عبء طلبها واستردادها من ابن عمه فذهب طرفة إليه فلم يجد كلامه معه فعاد ثائراً غاضباً، ونظم قصيدته يعاتب فيها عبد عمرو عتاباً شديداً قاسياً مما نقرؤه في المعلقة، في قوله: فمالي أراني وابن عمي مالكا ... متى أدن منه ينأ عني ويبعد وأيأسني من كل خير طلبته ... كأنا وضعناه على رمس ملحد على غير شيء قلته غير أنني ... نشدت فلم أغفل حمولة معبد وإن أدع للجلى أكن من حماتها ... وإن تأتك الأعداء بالجهد أجهد فلو كان مولاي امرأ هو غيره ... لفرج كربي أو لأنظرني غدي ولكن مولاي امرؤ هو خانقي ... على الشكر والتسآل أو أنا مفتدي وظلم ذوي القربى أشد مضاضة ... على المرء من وقع الحسام المهند فلو شاء ربي كنت قيس بن خالد ... ولو شاء ربي كنت عمرو بن مرثد فأصبحت ذا مال كثير وعادني ... بنون كرام سادة لمسود ولما سمع عبد عمرو بن مرثد معلقة طرفة أرسل إليه، فقال له أما الولد فالله يعطيكه وأما المال فلا تبرح حتى تكون من أوسطنا فيه وأمر سبعة من أبنائه وثلاثة من بني أبنائه أن يعطوه عشرا عشرا من الإبل ففعلوا. 4 - ويذكر بعض الباحثين من المستشرقين أن المعلقة لم توضع مرة واحدة، كقوله: إذا مت فانعيني بما أنا أهله ... وشقي على الجيب ياابنة معبد وما يليه من أبيات قالها وهو في سجن البحرين قبيل موته وهذا خطأ في البحث فلم يقل طرفة هذه الأبيات وهو في سجن البحرين بل نظمها ونظم القصيدة كلها مرة واحدة وهو صحيح مقيم في أرض قومه والقصيدة قطعة واحدة من الشعر الحي والتصوير الرائع والديباجة الساحرة والوصف الصادق.

4 - وتمتاز المعلقة بوفرة معانيها وتنوع أغراضها وجمعها بين السهولة والغرابة في اللفظ وبين الرقة والمتانة في الأسلوب وبين الحكمة واللهو والجد والهزل في النهج والحياة. وتصور الشاعر وحياته وأمانيه ومطامحه ولذاته ولهوه وبيئته والحياة فيها تصويراً جميلاً رائعاً حد الدقة والإحكام والجمال. 5 - وحدة القصيدة وفنونها: ونحن نقف أمامها معجبين بجمالها وانسجامها وقوة شاعريتها وتأجج عواطف الشاعر فيها، وهذه الوحدة التامة الظاهرة على أغراضها وفنون القول فيها. (أ) بدأها الشاعر بالغزل فذكر أطلال خولة محبوبته ووقف عليها وبكاها: لخولة أطلال ببرقة ثهمد ... تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد وقوفاً بها صحبي على مطيهم ... يقولون لا تهلك أسى وتجلد ثم يذكر قباب خولة وهي ظاعنة ويشبهها بالسفينة تشبيهاً جميلاً قوياً، فيقول: كأن حدوج المالكية غدوة ... خلايا سفين بالنواصف من دد عدولية أو من سفين ابن يامنيجور بها الملاح طورا ويهتدي يشق حباب الماء حيزومها بها ... كما قسم الترب المفايل باليد وهو في هذا الوصف يرسم صورة جميلة للسفن الكبيرة التي كان يراها ويشاهدها تسير في الماء على شواطئ البحرين وسواها. ثم يصف جمال محبوبته وينعتها نعتاً جميلاً قوياً مؤثراً عذباً، يدل على امتلاء نفسه بالحب، وعلى خضوعه لأسر الجمال: وفي الحي أحوى ينفض المرد شادن ... مظاهر شمطي لؤلؤ وزبرجد وتبسم عن ألمي كأن منوراً ... تخلل حر الرمل دعص له ندى ووجه كأن الشمس حلت رداءها ... عليه، نقي اللون لم يتخدد (ب) ثم يأخذ الشاعر في وصف ناقته التي يسير عليها ليسلي عن نفسه الهموم والأحزان، ووصفه لها طويل في خمسة وثلاثين بيتاً، ويجيء به في لفظ غامض غريب، لا تكاد تفهمه إلا بصعوبة وعسر ومشقة ومراجعة وطول عناء. قال طرفة فيما قال في وصف ناقته: وإني لأمضي الهم عند احتضاره ... بهوجاء مرفال تروح وتغتدي أمون كألواح الأران نسأتها ... على لاحب كأنه ظهر برجد إلى أن يقول: وإن شئت لم ترقل وإن شئت أرقلت ... مخافة ملوى من القد محصد على مثلها أمضى إذا قال صاحبي ... ألا ليتني أفديك منها وأفتدي وجاشت إليه النفس خوفاً وخاله ... مصاباً ولو أمسى على غير مرصد (ج) ثم يفتخر الشاعر بنفسه ويفرغ لها. ويصف فتوته وكرمه ولذاته ومجده، ولهوه بشرب الراح، في وضوح وسهولة فيقول: إذا القوم قالوا: من فتى خلت أنني ... عنيت، فلم أكسل ولم أتبلد ولست بحلال التلاع مخافة ... ولكن متى يسترفد القوم أرفد وإن تأتني في حلقة القوم تلقني ... وإن تقتنصني في الحوانيت تصطد وإن يلتق الحي الجميع تلاقني ... إلى ذروة البيت الرفيع المصمد راماي بيض كالنجوم وقينة ... تروح علينا بين برد ويحسد ثم يذكر أثر لهوه وشربه الخمر في حياته وبين قبيلته، ويتحدث عن لذاته في الحياة ويصفها، ويلوم من يعذله في اللهو والإسراف، ويفند رأيهم ويقول: إن الكريم المسرف والبخيل المقتر مآلهما واحد إلى القبر: ومازال تشرابي الخمور ولذتي ... وبيعي وإنفاقي طريقي ومتلدي إلى أن تحامتني العشيرة كلها ... وأفردت إفراد البعير المعبد رأيت بني غبراء لا ينكرونني ... ولا أهل هذاك الطراف الممدد ألا أيهذا اللائمي أحضر الوغى ... وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي فإن كنت لا تستطيع دفع منيتي ... فدعني أبادرها بما ملكت يدي ويعتد بلذاته اعتداداً كبيراً وبذكرها: فلولا ثلاث هن من عيشة الفتى ... وجدك لم أحفل متى قام عودي فمنهن سبقي العاذلات بشربة ... كميت متى ما تعل بالماء تزيد وكرى إذا نادى المضاف مجنبا ... كسيد الغضا نبهته المتورد وتقصير يوم الدجن والدجن معجب ... ببهكنة تحت الطراف الممدد أي شرب الراح وركوب الخيل، واللهو مع امرأة جميلة: أرى قبر نحام بخيل بماله ... كقبر غوى في البطالة مفسد أرى الموت يعنام الكرام ويصطفى ... عقيلة مال الفاحش المتشدد

أرى الدهر كنزاً ناقصاً كل ليلة ... وما تنقص الأيام والدهر ينفد لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى ... لكالطول المرخى وثنياه باليد (د) ثم ينتقل إلى عتاب ابن عمه مالك وقد سبق أن ذكرناه في أول المعلقة. (هـ) ثم يعود إلى التحدث عن نفسه ووصفها بالذكاء والشجاعة، ويتنبأ بموته ويطلب من ابنة أخيه معبد أن تبكيه إذا مات: إذا مت فانعيني بما أنا أهله ... وشقي على الجيب يا ابنة معبد ولا تجعليني كامرئ ليس همه ... كهمي، ولا يغنى عنائي ومشهدي وهو في هذا البيت يعرض بابن عمه. (و) ثم ينتقل إلى الحكمة فيأتي منها بحكم رائعة وأمثال بليغة رويت على مر الزمان: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود لعمرك ما الأيام إلا معارة ... فما اسطعت من معروفها فتزود عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدى لعمرك ما أدرى وأتى لواجل ... أفي اليوم أقدام المنية أو غد إذا أنت لم تنفع بودك أهله ... ولم تنك بالبؤس عدوك فابعد - 2 - وقال يصف أحواله وتنقله في البلاد ولهوه: أصحوت اليوم أم شاقتك هر ... ومن الحب جنون مستمر لا يكن حبك داء قاتلا ... ليس هذا منك ماوي بحر كيف أرجو حبها من بعد ما ... علق القلب بنصب مستسر أرق العين خيال لم يقر ... طاف والركب بصحراء يسر جازت البيد إلى أرحلنا ... آخر الليل بيعفور خدر ثم زارتني وصحبي هجج ... في خليط بين برد ونمر تخلس الطرف بعيني برغز ... وبخدي رشاء آدم غر ولها كشحاً مهاة مطفل ... تقترى بالرمل أفنان الزهر وعلى المتنين منها وارد ... حسن النبت أثيث مسبكر جأبة المدرى لها ذو جدة ... تنفض الضال وأفنان السمر بين أكتاف خفاف فاللوى ... مخرف تحنو لرخص الظلف حر تحسب الطرف عليها بحدة ... يا لقومي للشباب المسبكر حيثما قاظوا بنجد وشتوا ... حول ذات الحاذ من ثني وقر فله منها على أحيانها ... صفوة الراح بملذوذ خصر إن تنوله فقد تمنعه ... وتريه النجم يجري بالظهر ظل في عسكرة من حبها ... ونأت شحط مزار المدرر فلئن شطت نواها مرة ... لعلي عهد حبيب معتكر بادن تجلو إذا ما ابتسمت ... عن شتيت كأقاح الرمل غر بدلته الشمس من منبته ... برداً أبيض مصقول الأشر وإذا تضحك تبدي حبباً ... كرضاب المسك بالماء الخصر صادفته حرجف في تلعة ... فسجا وسط بلاط مسبطر وإذا قامت تداعى قاصف ... مال من أعلى كثيب منقعر تطرد القر بحر صادق ... وعكيك القيظ، إن جاء، بقر لا تلمني إنها من نسوة ... رقد الصيف مقالبت نزر كبنات المخر يمأذن كما ... أنبت الصيف عساليج الخضر فجعوني يوم زموا عيرهم ... برخيم الصوت ملثوم عطر وإذا تلسنني ألسنها ... إنني لست بموهون فقر لا كبير دالف من هرم ... أرهب الليل ولا كل الظفر وبلاد زعل ظلمانها ... كالمخاض الجرب واليوم الخدر قد تبطنت وتحتي جسرة ... تتقى الأرض بملثوم معز فترى المرو إذا ما هجرت ... عن يديها كالفراش المشفتر ذاك عصر وعداني أنني ... نابى العام خطوب غير سر من أمور حدثت أمثالها ... تبتري عود القوي المستمر وتشكى النفس ما صاب بها ... فاصبري إنك من قوم صبر إن تصادف منفساً لا تلفنا ... فرح الخير ولا نكبوا لضر أسد غيل فإذا ما فزعوا ... غير أنكاس ولا هوج هذر ولي الأصل الذي في مثله ... يصلح الآبر زرع المؤتبر طيبوا الباءة، سهل ولهم ... سبل إن شئت في وحش وعر وهم ما هم إذا ما لبسوا ... نسج داود لبأس محتضر وتساقى القوم كأساً مرة ... وعلا الخيل دماء كالشقر ثم زادوا أنهم في قومهم ... غفر ذنبهم غير فخر لا تعز الخمر إن طافوا بها ... بسباء الثول والكوم البكر فإذا ما شربوها وانتشوا ... وهبوا كل أمون وطمر

ثم راحوا عبق المسك بهم ... يلحفون الأرض هداب الأزر ورثوا السؤدد عن آبائهم ... ثم سادوا سؤدداً غير زمر نحن في المشتاة ندعو الجفلى ... لا ترى الأدب فينا يفتقر حين قال الناس في مجلسهم ... أقتار ذاك أم ريح قطر بجفان تعترى نادينا ... من سديف حين هاج الصنبر كالجوابي لا تني مترعة ... لقرى الأضياف أو للمحتضر ثم لا يخزن فينا لحمها ... إنما يخزن لحم المدخر ولقد تعلم بكر أننا ... آفة الجزر مساميح يسر ولقد تعلم بكر أننا ... واضحوا الأوجه في الأزمة غر ولقد تعلم بكر أننا ... فاضلو الرأي وفي الروع وقر ولقد تعلم بكر أننا ... صادقو البأس وفي المحفل غر يكشفون الضر عن ذي ضرهم ... ويبرون على الآبي المبر فضل أحلامهم عن جارهم ... رحب الأذرع بالخبر أمر دلق في غارة مسفوحة ... ولدى البأس حماة ما نفر تمسك الخيل على مكروهها ... حين لا يمسكها إلا الصبر حين نادى الحي لما فزعوا ... ودعا الداعي وقد لج الذعر أيها الفتيان في مجلسنا ... حردوا منها ورادا وشقر أعوجيات طوالاً شرباً ... دوخل الصنعة فيها والضمر من يعابيب ذكور وقح ... وهضبات إذا ابتل العذر جافلات فوق عوج عجل ... ركبت فيها ملاطيس سمر وأنافت بهواد تلع ... كجذوع شذبت عنها القشر علت الأيدي بأجواز لها ... رحب الأجواف ما إن تنبهر فهي تردى فإذا ما ألهبت ... طار من إحمائها شد الأزر كائرات وتراها تنتحي ... مسلحبات إذا جد الحضر دلق الغارة في إفزاعهم ... كرعال الطير أسراباً تمر تذر الأبطال صرعى بينها ... ما يني منهم كمي منعفر ففداء لبني قيس على ... ما أصاب الناس من سر وضر خالتي والنفس قدما إنهم ... نعم الساعون في القوم الشطر وهم أيسار لقمان إذا ... أغلت الشتوة أبداء الجزر لا يلحون على غارمهم ... وعلى الأيسار تيسير العسر كنت فيكم كالمغطى رأسه ... فانجلى اليوم قناعي وخمر ولقد كنت عليكم عاتباً ... فعقبتم بذنوب غير مر سادراً أحسب غيي رشداً ... فتناهيت وقد صابت بقر - 3 - وقال طرفة أيضاً أشجاك الربع أم قدمه ... أم رماد دارس حممه كسطور الرق رقشه ... بالضحى مرقش يشمه لعبت بعدي السيول به ... وجرى في ريق رهمه فالكثيب معشب أنف ... فتناهيه فمرتكمه جعلته حم كلكلها ... لربيع ديمة تثمه حابسي رسم وقفت به ... لو أطيع النفس لم أرمه لا أرى إلا النعام به ... كالإماء أشرفت حزمه تذكرون إذ نقاتلكم ... لا يضر معدماً عدمه أنتم نخل نظيف به ... فإذا جز نصطرمه وعذاريكم مقلصة ... في دعاع النخل تجترمه عجز شمط معالكم ... تصطلي نيرانه خدمه خير ما ترعون من شجر ... يابس الطحماء أو سحمه فسعى الغلاق بينهم ... سعي خب كاذب شيمه أخذ الأزلام مقتسماً ... فأتى أغواهما زلمه والقرار بطنه غدق ... زينت جلهاته أكمه ففعلنا ذلكم زمناً ... ثم دانى بيننا حكمه إن تعيدوها نعدلكم ... من هجاء سائر كلمه وقتال لا يغبكم ... في جميع جحفل لهمه رزه قدم وهب وهلا ... ذي زهار جمة بهمه يتركون القاع تحتهم ... كمراغ ساطع قتمه لا ترى إلا أخا رجل ... آخذاً قرناً كملتزمه فالهبيت لا فؤاد له ... والتثبيت ثبته فهمه للفتى عقل يعيش به ... حيث تهدى ساقه قدمه - 4 - وقال في عبد عمرو بن بشر بن مرثد: هند بحزان الشريف طلول ... تلوح وأدنى عهدهن محيل وبالسفح آيات كأن رسومها ... يمان وشته ريدة وسحلول أربت بها نتاجة تزدهي الحصى ... وأسحم وكاف العشي هطول فغيرن آيات الديار مع البلى ... وليس على ريب الزمان كفيل بما قد أرى الحي الجميع بغبطة ... إذا الحي حي والحلول حلول

ألا أبلغا عبد الضلال رسالة ... وقد يبلغ الأنباء عنك رسول دببت بسري بعدما قد علمته ... وأنت بأسرار الكرام نسول وكيف نضل المصد والحق واضح ... وللحق بين الصالحين سبيل وفرق عن بيتيك سعد بن مالك ... وعوفاً وعمراً ما تشي وتقول فأنت على الأدنى شمال عرية ... شآمية تزوى الوجوه بليل وأنت على الأقصى صباً غير قرة ... تذاءب، منها مرزغ ومسيل فأصبحت فقعاً نابتاً بقرارة ... تصوح عنه والذليل ذليل وأعلم علماً ليس بالظن أنه ... إذا ذل مولى المرء فهو ذليل وإن لسان المرء ما لم تكن له ... حصاة على عوراته لدليل وإن امرأ لم يعف يوماً فكاهة ... لمن لم يرد سوءاً بها لجهول تعارف أرواح الرجال إذا التقوا ... فمنهم عدو يتقى وخليل - 5 - وقال حين أطرد فصار في غير قومه: قفي ودعينا اليوم يا ابنة مالك ... وعوجي علينا من صدور جمالك قفي لا يكن هذا تعلة وصلنا ... لبين، ولا ذا حظنا من نوالك أخبرك أن الحي فوق بينهم ... نوى غربة ضرارة لي كذلك ولم ينسني قد لقيت وشفني ... من الوجد أني غير ناس لقاءك وما دونها إلا ثلاث مآوب ... قدرن لعيس مسنفات الحورك ولا غرو إلا جارتي وسؤالها ... ألا هل لنا أهل؟ سئلت كذلك تعير سيري البلاد ورحلتي ... ألا رب دار سوى حرداك وليس امرؤ أفنى الشباب مجاوراً ... سوى حيه إلا كآخر هالك ألا رب يوم لو سقمت لعادني ... نساء كرام من حي ومالك ظللت بذي الأرطى فويق مثقب ... ببيئة سوء هالكاً أو كهالك ترد عليها الريح ثوبى قاعداً ... إلى صدفي كالحنية بارك رأيت سعوداً من شعوب كثيرة ... فلم تزعيني مثل سعد بن مالك أبر وأوفى ذمة يعقدونها ... وخيراً إذا ساوى الدرا بالحوارك وأنمى إلى مجد تليد وسورة ... تكون تراثاً عند حي لهالك أبى أنزل الجبار عامل رمحه ... على السرج حتى قر بين السنابك وسيفي حسام أختلي بذبابه ... قوانس بيض الدار عين الدوارك - 6 - وقال أيضاً في اطراده إلى النجاشي: لخلوة بالأجزاع من إضم طلل ... وبالسفح من قو مقام ومحتمل تربعه مرباعها ومصيفها ... مياه من الأشراف يرمى بها الحجل فلا زال غيث ربيع وصيف ... على دارها حيث استقرت له زجل مرته الجنوب ثم هبت له الصبا ... إذا مس منها مسكناً عد ملاً نزل كأن الخلايا فيه ضلت رباعها ... وعوذاً إذا ما هزه رعده اجتفل لها كبد ملساء ذات أسرة ... وكشحان لم ينقض طواءهما الحبل إذا قلت هل يسلو اللبانة عاشق ... تمر شؤون الحب من خولة الأول وما زادك الشكوى إلى متنكر ... تظل به تبكي وليس به مظل متى تر يوماً عرصة من ديارها ... ولو فرط خول تسجم العين أو تهل فقل لخيال الحنظلية ينقلب ... إليها فإني واصل حبل من وصل ألا إنما أبكي ليوم لقيته ... بجرثم قاس كل ما بعده جلل إذا جاء مالا بد منه فمرحبا ... به حين يأتي لا كذاب ولا علل ألا إنني شربت أسود حالكاً ... ألا بجلى من الشراب ألا بجل فلا أعرفي إن نشذتك ذمي ... كداعي هديل لا يجاب ولا يمل - 7 - وقال يهدد المسيب بن علس، ويمدح قتادة بن مسلمة الحنفي وأصاب قومه سنة، فبذل لهم: إن امرأ سرف الفؤاد يرى ... عسلا بماء سحابة شتمي وأنا امرؤ أكوى من القصر ال ... بادي وأغشى الدهم بالدهم وأصيب شاكلة الرمية إذ ... صدت بصفحتها عن السهم وأحر ذا الكفل القداة على ... أنسائه فيظل يستدمي وتصد عنك مخيلة الرجل ال ... عريض موضحة عن العظم بحسام سيفك أو لسانك وال ... كلم الأصيل كأرغب الكلم أبلغ قتادة غير سائله ... منه الثواب وعاجل الشكم أني حمدتك للعشيرة إذ ... جاءت إليك مرقة العظم ألقوا إليك بكل أرملة ... شعثاء تحمل منقع البرم ففتحت بابك للمكارم ح ... ين تواصت الأبواب بالأزم

وأهنت إذ قدموا التلاد لهم ... وكذاك يفعل مبتنى النعم فسقى بلادك ... غير مفسدها صوب الغمام وديمة تهمى - 8 - وقال طرفة يهجو عبد عمرو بن بشر وكان وقع بينهما شر: يا عجباً من عبد عمرو وبغيه ... لقد رام ظلمي عبد عمر فانعما ولا خير فيه غير أن له غنى ... وأن له كشحا إذا قام أهضما يظل نساء الحي يعكفن حوله ... يقلن عسيب من سرارة ملهما له شربتان بالنهار وأربع ... من الليل حتى آض سخداً مورما ويشرب حتى يغمر المحض قلبه ... وإن أعطه أترك لقلبي مجثما كان السلاح فوق شعبة بانة ... ترى نفخاً ورد الأسرة أسحما - 9 - وقال طرفة أيضاً يهجو عمرو بن هند وأخاه قابوس بن هند: فليت لنا مكان الملك عمرو ... رغوثاً حول قبتنا تخور من الزمرات أسبل قادماها ... وضرتها مركنة درور يشاركنا لها رخلان فيها ... وتعلوها الكباش فما تنور لعمرك إن قابوس بن هند ... ليخلط ملكه نوك كثير قسمت الدهر في زمن رخي ... كذاك الحكم يقصد أو يجور لنا يوم وللكروان يوم ... تطاردهن البائسات ولا نطير فأما يومهن فيوم نحس ... تطاردهن بالحدب الصقور وأما يومنا فنظل ركباً ... وقوفاً ما نحل وما نسير - 10 - وقال يعتذر إلى عمر بن هند حين بلغه أنه هجاه فتوعده: إني وجدك ما هجوتك وال ... أنصاب يسفح بينهن دم ولقد هممت بذاك إذ حبست ... وأمر دون عبيدة الوذم أخشى عقابك إن قدرت ولم ... أغدر فيؤثر بيننا الكلم - 11 - قال طرفة في حق لأمه ظلمته: ما تنظرون بحق وردة فيكم ... صغر البنون ورهط وردة غيب قد يبعث الأمر العظيم صغيره ... حتى تظل له الدماء تصبب والظلم فرق حيي وائل ... بكر تساقيها المنايا تغلب قد يورد الظلم المبين آجناً ... ملحاً يخالط بالذعاف ويقشب وقراف من لا يستفيق دعارة ... يعدى كما يعدى الصحيح الأجرب والإثم داء ليس يرجى برؤه ... والبر برء ليس فيه معطب والصدق يألفه الكريم المرتجى ... والكذب يألفه الدنيء الأخيب ولقد بدا لي أنه سيغولني ... ما غال عاداً والقرون فأشعبوا أدوا الحقوق نفر لكم أعراضكم ... إن الكريم إذا يحرب يغضب - 12 - وقال يذكر يوم قضة: سائلوا عنا الذي يعرفنا ... بقوانا يوم تخلاق اللمم يوم تبدى البيض عن أسؤقها ... وتلف الخيل أعراج النعم أجدر الناس برأس صلدم ... حازم الأمر شجاع في الوغم كامل يحمل آلاء الفتى ... نبه سيد سادات خضم خير حي من معد علموا ... لكفي والجار وابن عم يجبر المحروب فينا ماله ... ببناء وسوام وخدم نقل للشحم في مشتاتنا ... عقر للنيب طراد القرم نزع الجاهل في مجلسنا ... فنرى المجلس فينا كالحرم وتفرعنا من ابني وائل ... هامة العز وخرطوم الكرم من بني بكر إذا ما نسبوا ... وبني تغلب ضرابي البهم حين يحمى الناس نحمي سربنا ... واضحي الأوجه معروفي الكرم بحسامات تراها رسباً ... في الضريبات مترات العصم وفحول هيكلات وقح ... أعوجيات على الثأو أزم وقناً جرد وخيل ضمر ... شرب من طول تغلاك اللجم أدت الصنعة في أمتنها ... فهي من تحت مشيحات الحزم تتقي الأرض برح وقح ... ورق يقعرن أنباك الأكم وتفرى اللحم من تغدائها ... والتغالي فهي قب كالعجم خلج الشد ملحات إذا ... شالت الأيدي عليها بالجذم قدما تنضو إلى الداعي إذا ... خلل الداعي بدعوى ثم عم بشباب وكهول نهد ... كليوث بين عريس الأجم نمسك الخيل على مكروهها ... حين لا يمسك إلا ذو كرم نذر الأبطال صرعى بينها ... تعكف العقبان فيها والرخم - 13 - وقال طرفة أيضاً يهجو بني المنذر بن عمرو: من الشر والتبريح أولاد معشر ... كثير ولا يعطون في حادث بكرا هم حرمل أعيا على كل آكل ... مبير ولو أمسى سوامهم دثرا

جماد بها البسباس نرهض مغزها ... بنات اللبون والسلاقمة الحمرا فما ذنبنا في أن أداءت خصاكم ... وأن كنتم في قومكم معشرا أدرا إذا جلسوا خيلت تحت ثيابهم ... خرانق توفى بالضغيب لها نذرا أبا كرب أبلغ لديك رسالتي ... أبا جابر عني ولا تدعن عمرا هم سودوا رهواً تزود في استه ... من الماء خال الطير واردة عمرا - 14 - وقال طرفة أيضاً لعمر بن هند يلوم أصحابه في خذلانهم: أسلمى قومي ولم يغضبوا ... لسوءة حلت بهم فادحه كل خليل كنت خاللته ... لا ترك الله له واضحه كلهم اروغ من ثعلب ... ما أشبه الليلة بالبارحه - 15 - وقال طرفة أيضاً: أعرف رسم الدار قفراً منازله ... كجفن اليماني زخرف الوشي ماثله بتثليث أو نجران أو حيث تلتقي ... من النجد في قيعان جاش مسابله ديار لسلمى إذ تصيدك بالمنى ... وإذ حبل سلمى منك دان تواصله وإذ هي مثل الرئم صيد غزالها ... لها نظر ساج إليك تواغله غنينا وما نخشى التفرق حقبة ... كلانا غرير ناعم العيش باجله ليالي أقتاد الصبا ويقودني ... يجول بنا ريعانه ونجاوله سمالك من سلمى خيال ودونها ... سواد كثيب عرضه فأمايله فذو النير فالأعلام من جانب الحمى ... وقف كظهر الترس تجرى أساجله وأنى اهتدت سلمى وسائل بيننا ... بشاشة حب باشر القلب داخله وكم دون سلمى من عدو وبلدة ... يجار بها الهادي الخفيف ذلاذله يظل بها غير الفلاة كأنه ... رقيب يخافى شخصه ويضائله وما خلت سلمى قبلها ذات رجلة ... إذا قسوري الليل جيبت سرابله وقد ذهبت سلمى بعقلك كله ... فهل غير صيد أحرزته حبائله كما أحرزت أسماء قلب مرقش ... بحب كلمع البرق لاحت مخايله وأنكح أسماء المراذي يبتغي ... بذلك عوف أن تصاب مقاتله فلما رأى أن لا قرار يقره ... وأن هوى أسماء لابد قاتله ترحل من أرض العراق مرقش ... على طرب تهوى سراعا رواحله إلى السرو أرض ساقه نحوها الهوى ... ولم يدر أن الموت بالسرو عائله فغودر بالفردين: أرض نطية ... مسيرة شهر دائب لا يواكله فيا لك من ذي حاجة حيل دونها ... وما كل ما يهوى امرؤ هو نائله لعمري لموت لا عقوبة بعده ... لذي البث أشقى من هوى لا يزايله فوجدي بسلمى مثل وجد مرقش ... بأسماء إذ لا تستفيق عواذله قضى نحبه وجداً عليها مرقش ... وعلقت من سلمى خيالاً أماطله - 16 - وقال طرفة أيضاً: إني من القوم الذين إذا ... أزم الشتاء ودوخلت حجره يوماً ودونيت البيوت له ... فثنى قبيل ربيعهم قرره رفعوا المنيح وكان رزقهم ... في المنقيات يقيمه يسره شرطاً قويماً ليس يحبسه ... لما تتابع وجهة عسره تلقى الجفان بكل صادقة ... ثمت تردد بينهم حيره وترى الجفان لدى مجالسنا ... متحيرات بينهم سؤره فكأنها عقرى لدى قلب ... يصفر من أغرابها صقره إنا لنعلم أن سيدركنا ... غيث يصيب سوامنا مطره وإذا المغيرة للهياج غدت ... بسعار موت ظاهر ذعره ولو وأعطونا الذي سئلوا ... من بعد موت ساقط أزره إنا لنكسوهم وإن كرهوا ... ضرباً يطير خلاله شرره والمجد ننميه ونتلده ... والحمد في الأكفاء ندخره نعفو كما تعفو الجياد على ال ... علات والمخذول لا ندره إن غاب عنه الأقربون ولم ... يصبح بريق مائه شجره إن التبالي في الحياة ولا ... يغنى نوائب ماجد عذره كل امرئ فيما ألم به ... يوماً يبين من الغنى فقره - 17 - وقال طرفة أيضاً: إنا إذا ما الغيم أمسى كأنه ... سما حبق ثرب وهي حمراء حرجف وجاءت بصراد كأن صقيعه ... خلال البيوت والمنازل كرسف وجاء قريع الشول يرقص قبلها ... من الدفء والراعي لها متحرف ترد العشار المنقيات شظيها ... إلى الحي حتى يمرح المتصيف تبيت إماء الحي تطهى قدورنا ... ويأوي إلينا الأشعث المتجرف

عنترة العبسي

ونحن إذا الخيل زايل بينها ... من الطعن نشاج مخل ومزعف وجالت عذارى الحي شتى كأنها ... توالى صوان والأسنة ترعف ولم يحم فرج الحي إلا ابن حرة ... وهم الدعاء المرهق المتلهف ففئنا غداة الغب كل نقيذة ... ومنا الكمي الصابر المتعرف وكارهة قد طلقتها رماحنا ... وأنقذنها والعين بالماء تذرف نرد النجيب في حيازيم غصة ... على بطل غادرنه وهو مزعف - 18 - وقال أيضاً: وركوب تعزف الجن به ... قبل هذا الجيل من عهد أبد وضباب سفر الماء بها ... غرقت أولاجها غير السدد فهي موتى لعب الماء بها ... في غثاء ساقه السيل عدد قد تبطنت بطرف هيكل ... غير مرباء ولا جأب مكد قائداً قدام حي سلفوا ... غير أنكاس ولا وغل رفد نبلاء السعي من جرثومة ... تترك الدنيا وتنمى للبعد يزعون الجهل في مجلسهم ... وهم أنصار ذي الحلم الصمد حبس في المحل حتى يفسحوا ... لابتغاء المجد أو ترك الفند سمحاء القفر، أجواد الغنى ... سادة الشيب، مخاربق المرد عنترة العبسي ترجمة الشاعر - 1 - عنترة بن شداد العبسي أحد شعراء العرب وفرسانهم وأبطالهم ومن أصحاب المعلقات. أمه كانت أمة حبشية يقال لها زبيبة، وكان لعنترة أخوة من أمه عبيد وكان هو عبداً أيضاً لأن العرب كانت لا تعترف ببني الإماء إلا إذا امتازوا على أكفائهم ببطولة أو شاعرية أو سوى ذلك. ولكن عنترة سرعان ما اعترف أبوه به لبسالته وشجاعته، وكان السبب في ذلك أن بعض أحياء العرب أغاروا على بني عبس فأصابوا منهم فتبعهم العبسيون فلحقوهم فقاتلوهم وفيهم عنترة، فقال له أبوه: كر يا عنترة. فقال له: العبد لا يحسن الكر إنما يحسن الحلاب والصر. فقال: كر وأنت حر. فكر وقاتل يومئذ فأبلى واستنقذ ما في أيدي القوم من الغنيمة، فادعاه أبوه بعد ذلك. وعنترة أحد أغربة العرب، وهم ثلاثة: عنترة وأمه سوداء، وخفاف بن ندبة السلمى وأبوه عمير وأمه سوداء وإليها نسب، والسليك بن السلطة السعدي. وكان عنترة من أشجع الفرسان وأجود العرب بما ملكت يداه وكان لا يقول من الشعر إلا البيتين والثلاثة حتى سابه رجل فذكر سواده وسواد أمه وأنه لا يقول الشعر. فقال عنترة: والله إن الناس ليترافدون الطعمة فما حضرت أنت ولا أبوك ولا جدك مرفد الناس وإن الناس ليدعون في الغارات فيعرفون بتسويمهم فما رأيتك في خيل مغيرة في أوائل الناس قط، وإن اللبس ليكون بيننا فما حضرت أنت ولا أبوك ولا جدك خطة فصل، وإني لأحضر اللبس وأوفي المغنم وأعف عند المسألة وأجود بما ملكت يدي وأفصل الخطة الصماء وأما الشعر فستعلم، فكان أول ماقاله معلقته المشهورة: هل غادر الشعراء من متردم ... أم هل عرفت الدار بعد توهم؟ وحضر عنترة حرب داحس والغبراء وحسن فيها بلاؤه وحمدت مشاهده وعاش طويلاً حتى كبر ومات نحو سنة 615 م. وقد عشق عنترة في شبابه بنت عمه عبلة وكان ذلك قبل أن يحرره أبوه ويدعيه فأبى عمه أن يزوجه ابنته وهو عبد فحفزه ذلك للمعال وعظائم الأمور وهاج ذلك من شاعريته فاجتمع له الشعر السلس القوي والشجاعة النادرة والمروءة المأثورة. وكان عنترة ينوه عن نسبه في شعره، من ذلك قوله: إني امرؤ من خير عبس منصبا ... شطري واحمي سائري بالمنصل وإذا الكتيبة أحجمت وتلاحظت ... ألفيت خيراً من معمم مخول وقضى عنترة كل عمره في الحروب والقتال وقول الشعر فصارت العرب تعده من فحول أبطالها وأخذت تروى عند النوادر والأحاديث ومازالت الرواية بذلك تنتقل من جيل إلى آخر ويزداد فيها حتى صارت مع الزمان رواية كبيرة كتبت أخيراً وتعرف الآن بقصة عنترة بن شداد العبسي ويلتذ بقراءتها إلى الآن كثيرون من أهالي الشام ومصر. - 2 - ويمتاز شعر عنترة بعذوبة الأسلوب وسهولة اللفظ ورقة المعنى ومعلقته من أجمل المعلقات وأكثرها انسجاماً وأبدعها وصفا وأشدها حماسة وفخراً وله حلاوة الغزل ومتانة الفخر، وديوانه مطبوع ولكن أكثره منحول عليه.. ومما سبق إليه ولم ينازع فيه قوله: إني امرؤ من خير عبس منصبا ... شطري وأحمي سائري بالمنصل

المختار من شعر عنترة العبسي

وإذا الكتيبة أحجمت وتلاحظت ... ألفيت خيراً من معمم مخول ومن إقراطه قوله: وأنا المنية في المواطن كلها ... والطعن مني سابق الآجال وكثيراً ما يتغنى في شعره بمكارم الأخلاق كقوله: ولقد أبيت على الطوى وأظله ... حتى أنال به كريم المأكل وقوله: وأغض طرفي ما بدت لي جارتي ... حتى توارى جارتي مأواها ومن محاسن شعره قوله: ولقد أبيت على الطوى وأظله ... حتى أنال به كريم المأكل وأنشد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا البيت، فقال: "ما وصف لي أعرابي قط فأحببت أن أراه إلا عنترة". وعده صاحب الجمهرة ثاني أصحاب المجمهرات. قال: "وقد أدركنا أكثر أهل العلم يقولون إن بعدهن (السموط وهي المعلقات) سبعاً ما هن بدونهن ولقد تلا أصحابهم أصحاب الأوائل فما قصروا وهن المجمهرات لعبيد بن الأبرص، وعنترة بن عمرو وعدي بن زيد ونشر بن أبي خازم وأمية بن أبي الصلت وخداش بن زهير والنمر بن تولب. وذكره أبو عبيدة في الطبقة الثالثة من الشعراء. ويقول ابن قتيبة وكان لا يقول من الشعراء إلا البيت والبيتين والثلاثة حتى سابه رجل من قومه فذكر سواده وسواد أمه وغيره ذلك، وأنه لا يقول الشعر فقال عنترة والله إن الناس ليترافدون الطعمة فما حضرت أنت ولا أبوك ولا جدك مرفد الناس قط وإن الناس ليدعون في الغارات فيعرفون بتسويمهم فما رأيتك في خيل مغيرة في أوائل الناس قط وإن اللبس ليكون بيننا فما حضرت أنت ولا أبوك ولا جدك حطة فصل وإنما أنت فقع بقرقر وإني لأحتضر البأس وأوفى المغنم وأعف عن المسألة وأجود بما ملكت يدي وأفضل الخطة الصماء وأما الشعر فستعلم. فكان أول ما قال: هل غادر الشعراء من متردم وكانت العرب تسميها المذهبة. المختار من شعر عنترة العبسي - 1 - قال عنترة العبسي: هل غادر الشعراء من متردم ... أم هل عرفت الدار بعد توهم أعياك رسم الدار لم يتكلم ... حتى تكلم الأصم الأعجم ولقد حبست بها طويلاً ناقتي ... أشكو إلى سفع رواكد جم يا دار عبلة بالجواء تكلمي ... وعمي صباحاً دار عبلة واسلمي دار لآنسة غضيص طرفها ... طوع العناق لذيذة المتبسم فوقفت فيها ناقتي وكلها ... فدن، لأقضي حاجة المتلوم وتحل عبلة بالجواء وأهلنا ... بالحزن فالصمان فالمتثلم حييت من طلل تقادم عهده ... أقوى وأقفر بعد أم الهيثم حلت بأرض الزائرين فأصبحت ... عسراً علي طلابك ابنة مخوم علقتها عرضاً وأقتل قومها ... زعماً لعمر أبيك ليس بمزعم ولقد نزلت فلا تظني غيره ... مني بمنزلة المحب المكرم كيف المزار وقد تربع أهلها ... بعنيزتين وأهلنا بالغيلم إن كنت أزمعت الفراق فإنما ... زمت ركابكم بليل مظلم ما راعني إلا حمولة أهلها ... وسط الديار تسف حب الخمخم فيها اثنتان وأربعون حلوبة ... سوداً كخافية الغراب الأسحم إذ تستبيك بأصلتي ناعم ... عذب مقبله لذيذ المطعم وكأنما نظرت بعيني شادن ... رشإ من الغزلان ليس بتوءم وكأن فارة تاجر بقسيمة ... سبقت عوارضها إليك من الفم أو روضة أنفاً تضمن نبتها ... غيث قليل الدمن ليس بمعلم جادت عليها كل عين ثرة ... فتركن كل حديقة كالدرهم سحا وبسكاباً فكل عشية ... يجري عليها الماء لم يتصرم فترى الذباب بها يغني وحده ... هزجاً كفعل الشارب المترنم غرداً يسن ذراعه بذراعه ... فعل المكب على الزناد الأجذم تمسي ويصبح فوق ظهر حشية ... وأبيت فوق سراة أدهم ملجم وجشيتي سرج على عبل الشوى ... نهد مراكله نبيل المحزم هل تبلغني دارها شدنية ... لعنت بمحروم الشراب مصرم خطارة غب السرى زيافة ... تطس الإكام بكل خف مثيم وكأنما أقص الإكام عشية ... بقريب بين المنسمين مصلم يأوي إلى حزق النعام كما أوت ... حزق يمانية لأعجم طمطم يتبعن قلة رأسه وكأنه ... زوج على حرج لهن مخيم صعل يعود بذي العشيرة بيضه ... كالعبد ذي الفرو الطويل الأصلم

تحليل القصيدة

شربت بماء الدحرضين فأصبحت ... زوراء تنفر عن حياض الديلم وكأنما تنأى بجانب دفها ال ... وحشي من هزج العشي مؤوم هر جنيب كلما عطفت له ... غضبى اتقاها باليدين وبالفم أبقى لها طول السفار مقرمدا ... سنداً ومثل دعائم المتخيم بركت على ماء الرداع كأنما ... بركت على قصب أجش مهضم وكأن ربا أو كحيلا معقداً ... حش القيان به جوانب قمقم ينباع من ذفرى غضوب جسرة ... زيافة مثل الفنيق المقرم إن تغد في دوني القناع فإنني ... طب بأخذ الفارس المستلم أثنى علي بما علمت فإنني ... سمح مخالقتي إذا لم أظلم فإذا ظلمت فإن ظلمي باسل ... مر مذاقته كطعم العلقم ولقد شربت من المدامة بعدما ... ركد الهواجر بالمشوف المعلم بزجاجة صفراء ذات أسرة ... قرنت بأزهر في الشمال مقدم فإذا شربت فإنني مستهلك ... مالي، وعرضي وافر لم يكلم وإذا صحوت فما أقصر عن ندى ... وكما علمت شمائلي وتكرمي وحليل غانية تركت مجدلا ... تمكو فريصته بشدق الأعلم عجلت يداي له بمارق طعنة ... ورشاش نافذة كلون العندم هلا سألت القوم يا ابنة مالك ... إن كنت جاهلة بما لم تعلمي إذ لا أزال على رحالة سابح ... نهد تعاوره الكماة مكلم طوراً يعرض للطعان وتارة ... يأوي إلى حصد القسي عرمرم يخبرك من شهد الوقائع أنني ... أغشى الوغى وأعف عند المغنم فأرى مغانم لو أشاء حويتها ... ويصدني عنها الحيا وتكرمي ومدجج كره الكماة نزاله ... لا ممعن هرباً ولا مستسلم جادت يداي له بعاجل طعنة ... بمثقف صدق الكعوب مقوم برحيبه الفرغين يهدي جرسها ... بالليل معتس السباع الضرم كمشت بالرمح الطويل ثيابه ... ليس الكريم على القنا بمحرم وتركته جزر السباع ينشنه ... ما بين قلة رأسه والمعصم ومشك سابغة هتكت فروجها ... بالسيف عن حامي الحقيقة معلم ربذ يداه بالقداح إذا شتا ... هتاك غايات التجار ملوم بطل كأن ثيابه في سرحة ... يحذى نعال السبت ليس بتوءم لما رآني قد قصدت أريده ... أبدى نواجذه لغير تبسم فطعنته بالرمح ثم علوته ... بمهند صافي الحديدة مخذم عهدي به شد النهار كأنما ... خضب اللبان ورأسه بالعظلم يا شاة ما قنص لمن حلت له ... حرمت علي وليتها لم تحرم فبعثت جاريتي فقلت لها اذهبي ... فتحسسي أخبارها لي واعلي قالت رأيت من الأعادي غرة ... والشاة ممكنة لمن هو مرتم وكأنما التفتت بجيد جداية ... رشاء من الغزلان حر أرثم نبئت عمراً غير شاكر نعمتي ... والكفر مخبثة لنفس المنعم ولقد حفظت وصاة عمي بالضحا ... إذ تقلص الشفتان عن وضح الفم في حومة الموت التي لا تشتكي ... غمراتها الأبطال غير تغمغم إذ يتقون بي الأسنة لم أخم ... عنها ولم أني تضايق مقدمي لما رأيت القوم أقبل جمعهم ... يتذامرون كررت غير مذمم يدعون عنتر والرماح كأنها ... أشطان بئر في لبنان الأدهم مازلت أرميهم بثغرة نحره ... ولبانه، حتى تسربل بالدم فازور من وقع القنا بلبانه ... وشكا إلي بعبرة وتحمحم لو كان يدري ما المحاورة أشتكي ... أو كان يدري ما جواب تكلمي والخيل تقتحم الخيار عوابسا ... ما بين شيظمة وأجرد شيظم ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها ... قيل الفوارس ويك عنتر أقدم ذلل جمالي حيث شئت مشايعي ... قلبي، وأحفزه برأي مبرم إني عداني أن أزورك فاعلمي ... ما قد علمت وبعض مالم تعلمي حالت رماح أنني بغيض دونكم ... وزرت جواني الحرب من لم يجرم ولقد كررت المهر يدمى نحره ... حتى اتقتني الخيل يا بني حذيم ولقد خشيت بأن أموت ولم تدر ... للحرب دائرة على ابني ضمضم الشاتمي عرضي ولم أشتمهما ... والناذرين إذا لم ألقهما دمي إن يفعلا فلقد تركت أباهما ... جزراً لخامعة ونسر قشعم تحليل القصيدة

أ - عنترة بن عمرو بن شداد العبسي 615 م أحد فرسان العرب وأبطالها وشعرائها، كان عبداً أسود. وكان لا يقول من الشعر إلا البيتين أو الثلاثة، فخاصمه رجل وعيره بسواده وسواد أمه وسوى ذلك وأنه لا يقول الشعر. فقال عنترة: والله إن الناس ليترافدون الطعام فما حضرت أنت ولا أبوك ولا جدك مرفد الناس قط، وإن الناس ليدعون في الغارات فيعرفون بتسويمهم فما رأيتك في خيل مغيرة في أوائل الناس قط، وإن اللبس ليكون بيننا فما حضرت أنت ولا أبوك ولا جدك خطة فصل. وإني لأحضر البأس وأوفى المغنم، وأعف عن المسألة، وأجود بما ملكت يدي، وأفصل الخطة الصماء، وأما الشعر فستعلم. فغاب حيناً وعاد إليه فأنشده معلقته: هل غادر الشعر من متردم ... أم هل عرفت الدار بعد توهم وهي أجود شعره. وكان العرب تسميها الذهبية. وشجاعة عنترة وبسالته دفعت أباه إلى أن يستلحقه بنسبه، وإلى أن يزوجه عمه ابنته عبلة، وكان فارس داحس والغبراء، كما كان فارس عبس، وأحد أغربة العرب المشهورين. ب - تحليل ونقد للمعلقة: 1 - هي إحدى المعلقات السبع، ومن روائع الشعر العربي القديم مطلعها: هل غادر الشعراء من متردم ... أم هل عرفت الدار بعد توهم 2 - وتمتاز بالسهولة واللين الباديين فيها، والذين قلما يوجدان في الشعر النجدي القديم، والذين لا يخلوان من فخامة وجزالة واضحة جلية، سهلة اللفظ، قريبة المعنى، ليس بينها وبين النفس حجاب من هذه الجزالة التي تكاد تبلغ الغرابة، وإنما تسير في سهولة ويسر، وترتفع عن الإسفاف والابتداء دون تورط في الغلظة والإغراب، وعنترة فيها رقيق في غزله والإشادة ببطولته، بل هو رقيق في حديثه عن أعدائه. أليس هو الذي يقول: فشككت بالرمح الأصم ثيابه ... ليس الكريم على القنا بمحرم بل هو رقيق على فرسه، يألم لألمه، ويشقى لشقائه، ويرى بكاءه، ويسمع توجعه حين تعبث به رماح الأعداء: فازور من وقع القنا بلبانه ... وشكا إلى بعبرة وتحمحم لو كان يدري ما المحاورة اشتكى ... ولكان لو علم الكلام مكلمي وعنترة لا تنتهي به الرقة إلى الضعف، كما لا تنتهي به الشدة إلى العنف، وكما لا ينتهي به السكر إلى ما يفسد الأخلاق والمروءة، أو الصحو إلى التقصير والعيب والبخل، وهو مقدم إذا كانت الحرب عفيف إذا قسمت الغنائم، يحاول أن يصف من أخلاقه ما يشرف به الرجل العربي الكريم، مما يستغنى عن الإبانة عنه، فيقول هذه الكلمة الرائعة: "وكما علمت شمائلي وتكرمي". المعلقة تصوير واضح لنفسية الشاعر ومشاعره وحياته وعواطفه وبطولته وقوته وبأسه ونضاله للأعداء، ولا عجب فهي تنبع من نفسه وحياته وتصورهما تمام التصوير. ولو لم نعرف عنترة أو نسمع بأخباره وحياته، لعرفناه من معلقته بطلا مقداما، وشجاعا فارسا، وعربياً كريم الخلق، رقيق العاطفة، حار الشعور، يضع روحه في كفه، ويبذلها مضحيا في سبيل كرامته وشرفه وبطولته. 3 - وقد سار فيها على نهج غيره من الشعراء فذكر الديار كما ذكروها، ووصف الناقة كما وصفوها، وافتخر بالكرم والنجدة والبطولة. وفيها معان قلما انتهى إلى مثلها غير عنترة من الشعراء ولم يخطئ ابن سلام حين قال إن هذه القصيدة نادرة فهي نادرة حقاً، وكأنها طائفة من الأنغام الموسيقية الكثيرة المختلفة فيما بينها أشد الاختلاف، وفيها نغمة واحدة متصلة منذ بدء القصيدة إلى نهايتها تظهر واضحة حيناً، وتحسها النفس وإن لم تسمعها الأذن حيناً آخر. وهذه النغمة التي تكون وحدة هذه القصيدة كما كونت الوحدة في معلقة لبيد هي حديث الشاعر إلى صاحبته واستحضار صورتها في الفسة منذ بدء القصيدة. ولكن بين هذه النغمة في قصيدة عنترة وقصيدة لبيد فرقاً واضحاً جداً، فهي في قصيدة عنترة حلوة رقيقة تمازج النفس فتمتزج بها لأن عنترة فيما يظهر كان حلو النفس، رقيق القلب، قوي العاطفة، جاءه ذلك من أنه عز بعد ذلة، وتحرر بعد رق، فهو قد شقي في صباح وطفولته، واحتمل الأذى في شبابه والذل الذي يمتزج بالنفس فيصفي عواطفها ويلطف حدتها. على حين نجد هذه النغمة عند لبيد غليظة خشنة، لبيد يتحدث عن صاحبته في أول القصيدة ويذكرها أثناءها ولكنه ليس متهالكاً عليها ولا متحرجاً من الصد عنها، فهو يبادل القطيعة بالقطيعة والهجر بالهجر. أما عنترة فيقول:

ولقد نزلت تلافظني غيره ... مني بمنزلة المحب المكرم 4 - وفيها عدة تشبيهات رائقة، كتشبيه الظليم وقد تبعته النعام بالعبد الأسود وقد ثابت إليه الإبل: تأوي له قلص النعام كما أوت ... حزق بجانبه لأعجم طمطم ومثل هذا التشبيه الرائع الذي يعجب به النقاد من القدماء ويحبونه، في الأبيات التي وصف فيها ثغر صاحبته بالجمال وطيب النشر فذكر فأرة المسك وذكر الروضة الأنف التي ألح عليها الغيث حتى زكا نبتها وكثر فيها الذباب مبتهجاً نشوان مترنماً: وكأن فأرة تاجر بقسيمة ... سبقت عوارضها إليك من الفم أو روضة أنفا تضمن نبتها ... غيت قليل الدمن ليس بمعلم جادت عليه كل بكر حرة ... فتركن كل قرارة كالدرهم سحا وتسكابا فكل عشية ... يجري عليها الماء لم يتصرم وخلا الذباب فيها فليس ببارح ... غردا كفعل الشارب المترنم هزجا يحك ذراعه بذراعه ... قدح المكب على الزناد الأجذم 5 - وكثير جداً من أبيات هذه المعلقة قد ظفر بحظ كبير من الإيجاز والامتلاء والبراءة من اللغو والفضول، حتى جرى مجرى الأمثال، فأي الناس لا يتمثل قوله: وإذا شربت فإنني مستهلك ... مالي وعرضي وافر لم يكلم وإذا صحوت فما أقصر عن ندى ... وكما علمت شمائلي وتكرمي أو قوله: ينبئك من شهد الوقيعة أنني ... أغشى الوغى وأعف عند المغنم أو قوله: ولقد خشيت بأن أموت ولم تدر ... للحرب دائرة على ابني ضمضم الشاتمي عرضي ولم أشتمهما ... والناذرين إذا لقيتهما دمي مما احتذاه جميل فقال: وليت رجالاً فيك قد نذر وأدمى ... وهموا بقتلي يا بثين لقوني أو قوله: إن يفعلا فلقد تركت أباهما ... جزر السباع وكل نسر قشعم وجل هذه القصيدة يجري مجرى المثل وينشد على اختلاف العصور والبيئات والظروف. فلا يمل إنشاده ولا تحس النفس نوا عنه، أو نفورا منه، وإنما تحس كأنها تجري فيه أو كأن هذا الشعور مرآة صافية صادقة لكل نفس كريمة ولكل قلب ذكي، ولكل خلق نقي. ذلك لأن عنترة بحياته وشخصيته ومشاعره وعواطفه وآماله وآلامه كان كأنما يتحدث عن النفوس ويصف حياة الناس، ويأخذ من تجاربه وخبرته ومن فراسته وذكائه أساليبه وصوره ويستمد من إلمامه بالحياة ومعرفته ببيئته مادة بيانه وشعوره وشعره. فعنترة في معلقته شاعر يتحدث عن البطولة في البداية وعن المجتمع الذي كان يعيش فيه وعن الحياة التي كان يتأثر بها وعن عواطف الشاعر وعن دخائل نفسه حديث المصور الماهر والشاعر العبقري. وبعد، فكل ما في المعلقة جيد وكل أبياتها خليق أن نطيل الوقوف عنده ونفكر فيه والإعجاب به، كما يقول الدكتور طه حسين. (ج) وفنون المعلقة كثيرة. 1 - بدأها عنترة بالغزل في ابنة عمه عبلة ومخاطبة دارها ذات الذكريات الجميلة، قال: هل غادر الشعراء من متردم ... أم هل عرفت الدار بعد توهم يا دار عبلة بالجواء تكلمي ... وعمي صباحاً دار عبلة واسلمي وتحل عبلة بالجواء وأهلنا ... بالحزن فالصمان فالمتثلم حبيت من طلل تقادم عهده ... أقوى وأقفر بعد أم الهيثم 2 - واسنطرد إلى وصف الروضة: أو روضة أنقا تضمن نبتها ... غيث قلل الدمن ليس بمعلم جادت عليه كل بكر حرة ... فتركن كل قرارة كالدرهم وخلا الذباب بها فليس ببارح ... غردا كفعل الشارب المترنم هزجا يحك ذراعه بذراعه ... قدح لمكب على الزناد الأجذم 3 - ثم يصف ناقته في أبيات كأبيات طرفة تمتاز بالغرابة: هل تبلغني دارها شدنية ... لعنت بمحروم الشراب مصرم 4 - ثم يفتخر بنفسه وشجاعته: أثنى علي بما علمت فإنني ... سهل مخالطتي إذا لم أظلم فإذا ظلمت فإن ظلمي باسل ... مر مذاقته كطعم العلقم وإذا شربت فإنني مستهلك ... مالي، وعرضي وافر لم يكلم وإذا صحوت فما أقصر عن ندى ... وكما علمت شمائلي وتكرمي ويستمر في التنويه بشجاعته إلى أن يقول: ولقد ذكرتك والرماح نواهل ... مني وبيض الهند تقطر من دمي فوددت تقبيل السيوف لأنها ... لمعت كبارق ثغرك المتبسم

لما رأيت القوم أقبل جمعهم ... يتذامرون كررت غير مذمم يدعون عنتر والرماح كأنها ... أشطان بئر في لبان الأدهم مازلت أرميهم بثغرة نحرة ... ولبانه حتى تسربل بالدم فازور من وقع القنا بلبانه ... وشكا إلى بعيرة وتحمحم لو كان يدري ما المحاورة اشتكى ... ولكان لو علم الكلام مكلمي ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها ... قيل الفوارس: ويك عنتر أقدم 5 - ثم يختمها بتهديد ابني ضمضم، وكانا قد نذرا دمه وتربصا له لأنه قتل أباهما في الحرب. قال: ولقد خشيت بأن أموت ولم تدر ... للحرب دائرة على ابني ضمضم الشاتمي عرضي ولم أشتمهما ... والناذرين إذا لم ألقهما دمي إن يفعلا فلقد تركت أباهما ... جزر السباع وكل نسر قشعم - 2 - وقال عنترة يذكر يوم الفروق: ألا قاتل الله الطلول البواليا ... وقاتل ذكراك السنين الخواليا وقولك للشيء الذي لا تناله ... إذا ما هو احلولى ألا ليت ذاليا ونحن منعنا بالفروق نساءنا ... نطرف عنها مشعلات غواشيا حلفنا لهم والخيل تردى بنا معاً ... نزايلكم حتى تهزوا العواليا عوالي زرقا من رماح ردينة ... هرير الكلاب ينقين الأفاعيا تفاديتم أستاه نيب تجمعت ... على رمة من العظام تفاديا ألم تعلموا أن الأسنة أحرزت ... بقيتنا لو أن للدهر باقيا أبينا أن تضب لثاتكم ... على مرشقات كالظباء عواطيا وقلت لمن أحضر الموت نفسه ... ألا من لأمر حازم قد بدا ليا وقلت لهم ردوا المغيرة عن هوى ... سوابقها وأقبلوها النواصيا فما وجدونا بالفروق أشابة ... ولا كشفاً ولا دعينا مواليا وإنا نقود الخيل حتى رؤوسها ... رؤوس نساء لا يجدن فواليا تعالوا إلى ما تعلمون فإنني ... أرى الدهر لا ينجي من الموت ناجيا - 3 - وقال عنترة أيضاً في يوم عراعر: ألا هل أتاها أن يوم عراعر ... شفى سقما لو كانت النفس تشتفي فجئنا على عمياء ما جمعوا لنا ... بأرعن لا خل ولا متكشف تماروا بنا إذ يمدرون حياضهم ... على ظهر مقضي من الأمر محصف وما نذروا حتى غشينا بيوتهم ... بغية موت مسبل الودق مزعف فظلنا نكر المشرفية فيهم ... وخرصان لدن السمهري المثقف علالتنا في كل يوم كريهة ... بأسيافنا والقرح لم يتقرف أبينا فلا نعطى السواء عدونا ... قياماً بأعضاد السراء المعطف بكل هتوف عجسها رضوبة ... وسهم كسير الحميري المؤنف فإن يك عز في قضاعة ثابت ... فإن لنا برحرحان وأسقف كتائب شهباً فوق كل كتيبة ... لواء كظل الطائر المتصرف وغادرن مسعوداً كأن بنحره ... شقيقة برد من يمان مفوف - 4 - وقال عنترة أيضاً يهجو عمارة بن زياد: أحولي تنفض استك مذرويها ... لتقتلني، فهأنذا عمار ومتى ما تلقني فردين ترجف ... روانف إليتيك وتستطارا وسيفي صارم قبضت عليه ... أشاجع لا ترى فيها انتشارا وسيفي كالعقيقة وهو كمعي ... سلاحي لا أفل ولا فطارا وكالورق الخفاف وذات غرب ... ترى فيها عن الشرع ازورارا ومطرد الكعوب أحض صدق ... تخال سنانه بالليل نارا ستعلم أينا للموت أدنى ... إذا دانيت بي الأسل الحرارا ومنجوب له منهن صرع ... يميل إذا عدلت به الشوارا أقل عليك ضراً من قريح ... إذا أصحابه ذمروه سارا وخيل قد زحفت لها بخيل ... عليها الأسد تهتصر اهتصارا - 5 - وقال عنترة أيضاً: نأتك رقاش إلا عن لمام ... وأمسى حبلها خلق الرمام وما ذكرى رقاش إذا استقرت ... لدى الطرفاء عند ابني شمام ومسكن أهلها من بطن جزع ... تبيض به مصاييف الحمام ووقفت وصحبتي بأرينبات ... على أقتاد عوج كالسمام فقلت تبينوا ظعنا أراها ... تحل شواحطا جنح الظلام وقد كذبتك نفسك فاكذبنها ... لما منتك تغريراً قطام ومرقصة رددت الخيل عنها ... وقد همت بإلقاء الزمام

فقلت لها اقصري منه وسيرى ... وقد قرع الرجائز بالخدام أكر عليهم مهري كليماً ... قلائده سبائب كالقرام كأن دفوف مرجع مرفقيه ... توارثها منازيع السهام تقعس وهو مضطمر مضر ... بقارحه على فأس اللجام يقدمه فتى من خير عبس ... أبوه وأمه من آل حام - 6 - وقال عنترة: طال الثواء على رسوم المنزل ... بين اللكيك وبين ذات الحرمل فوقفت في عرصاتها متحيراً ... أسل الديار كفعل من لم يذهل لعبت بها الأنواء بعد أنيسها ... والرامسات وكل جون مسبل أفمن بكاء حمامة في أيكة ... ذرفت دموعك فوق ظهر المحمل كالدر أو فضض الجمان تقطعت ... منه عقائد سلكه لم توصل لما سمعت دعاء مرة إذ دعا ... ودعاء عبس في الوغى ومحلل ناديت عبساً فاستجابوا بالقنا ... وبكل أبيض صارم لم ينحل حتى استباحوا آل عوف عنوة ... بالمشرفي وبالوشيج الذبل إني امرؤ من خير عبس منصباً ... شطري، وأحمي سائري بالمنصل إن يلحقوا أكرر، وإن يستلحموا ... أشدد، وإن يلفوا بضنك أنزل حين النزول يكون غاية مثلنا ... ويفر كل مضلل مستوهل ولقد أبيت على الطوى وأظله ... حتى أنال به كريم المأكل وإذا الكتيبة أحجمت وتلاحظت ... ألفيت خيراً من معم مخول والخيل تعلم والفوارس أنني ... فرقت جمعهم بطعنة فيصل إذ لا أبادر في المضيق فوارسي ... ولا أركل بالرعيل الأول ولقد غدوت أمام راية غالب ... يوم الهياج وما غدوت بأعزل بكرت تخوفني الحتوف كأنني ... أصبحت عن غرض الحتوف بمعزل فأجبتها إن المنية منهل ... لابد أن أسقى بكاس المنهل فاقني حياءك لا أبالك واعلمي ... أني امرؤ سأموت إن لم أقتل إن المنية لو تمثل مثلت ... مثلي إذا نزلوا بضنك المنزل والخيل ساهمة الوجوه كأنما ... تسقى فوارسها نقيع الحنظل وإذا حملت على الكريهة لم أقل ... بعد الكريهة ليتني لم أفعل عجبت عبيلة من فتى متهذل ... عاري الأشاجع شاحب كالمنصل شعث المفارق منهج سرباله ... لم يدهن حولاً ولم يترجل لا يكتسي إلا الحديد إذا اكتسى ... وكذاك كل مغاور مستبسل قد طال مالبس الحديد فإنما ... صدأ الحديد بجلده لم يغسل فتضاحكت عجباً وقالت قولة ... لا خير فيك كأنها لم تحفل فعجبت منها كيف زلت عينها ... عن ماجد طلق اليدين شمردل لا تصرميني يا عبيل وراجعي ... في البصيرة نظرة المتأمل فلرب أملح منك دلا فاعلمي ... وأقر في الدنيا لعين المجتلي وصلت حبالي بالذي أنا أهله ... من ودها وأنا رخي المطول يا عبل كم من غمرة باشرتها ... بالنفس ماكادت لعمرك تتجلى فيها لوامع لو رأيت ذهاءها ... لسلوت بعد تخضب وتكحل إما تريني قد نحلت ومن يكن ... غرضاً لأطراف الأسنة ينحل فلرب أبلج مثل بعلك بادن ... ضخم على ظهر الجواد مهبل غادرته متعفراً أرصاله ... والقوم بين مجرح ومجدل فيهم أخو ثقة يضارب نازلاً ... بالمشرفي وفارس لم ينزل ورماحنا تكف النجيع صدورها ... وسيوفنا تخلى الرقاب فتختلي والهام تندر بالصعيد كأنها ... تلقى السيوف بها رؤوس الحنظل ولقد لقيت الموت يوم لقيته ... متسربلاً والسيف لم يتسربل فرأيتنا ما بيننا من حاجز ... إلا المجن ونصل أبيض مفصل ذكر أشق به الجماجم في الوغى ... وأقول لا تقطع يمين الصيقل ولرب مشعلة وزعت رعالها ... بمقلص نهد المراكل هيكل سلس المعذر لاحق أقرابه ... متقلب عبثاً بفأس المسحل نهد القطاة كأنها من صخرة ... ملساء يغشاها المسيل بمحفل وكأن هاديه إذا استقبلته ... جذع أذل وكان غير مذلل وكأن مخرج روحه في وجهه ... سربان كانا مولجين لجيئل وكأن متنيه إذا جردته ... ونزعت عنه الجل متنا ايل وله حوافر موثق تركيبها ... صم النسور كأنها من جندل

وله عسيب ذو سبيب سابغ ... مثل الرداء على الغني المفضل سلس العنان إلى القتال فعينه ... قبلاء شاخصة كعين الأحول وكأن مشيته إذا نهنهته ... بالنكل مشية شارب مستعجل فعليه أقتحم الهياج تقحماً ... فيها وأنقض انقضاض الأجدل - 7 - وقال عنترة: ظعن الذين فراقهم أتوقع ... وجرى بينهم الغراب الأبقع خرق الجناح كأن لحي رأسه ... جلمان، بالأحبار هش مولع فزجرته ألا يفرخ عشه ... أبداً، ويصبح واحداً يتفجع إن الذين نعبت لي بفراقهم ... قد أسهروا ليلى التمام فأوجعوا ومغيرة شعواء ذات أشلة ... فيها الفوارس حاسر ومقنع فزجرتها عن نسوة من عامر ... أفخاذهن كلهن الخروع وعرفت أن منيتي إن تأتني ... لا ينجني منها الفرار الأسرع فصبرت عارفة لذلك حرة ... ترسو إذا نفس الجبان تطلع - 8 - قال عنترة أيضاً: ألا يا دار عبلة بالطوى ... كرجع الوشم في رسغ الهدي كوحي صحائف من عهد كسرى ... فأهداها لأعجم طمطمي أمن رو الحوادث يوم تسمو ... بنو جرم لحرب بني عدي إذا اضطربوا سمعت الصوت فيهم ... خفياً غير صوت المشرفي وغير نوافذ يخرجن منهم ... بطعن مثل أشطان الركي وقد خذلتهم ثعل بن عمرو ... سلاميوهم والجرولي - 9 - وقال عنترة أيضاً: أمن سهية دمع العين مذروف ... لو أن ذا منك قبل اليوم معروف كأنها يوم صدت ما تكلمني ... ظبي بعسفان ساجي الطرف مطروف تجللتني إذ أهوى العصا قبلي ... كأنها صم يعتاد معكوف المال مالكم والعبد عبدكم ... فهل عذابك عني اليوم مصروف تنسى بلائي إذا ما غارة لفحت ... تخرج منها الطوالات السراعيف يخرجن منها وقد بلت رحائلها ... بالماء تركضها المرد الغطاريف قد أطعن الطعنة النجلاء عن عروض ... تصفر كف أخيها وهو منزوف لاشك للمرء أن الدهر ذو خلف ... فيه تفرق ذو إلف ومألوف - 10 - وقال عنترة أيضاً: لا تذكري مهري وما أطعمته ... فيكون جلدك مثل جلد الأجرب إن الغبوق له وأنت مسوءة ... فتأوهي ماشئت ثم تحوبي كذب العتيق وماء شن بارد ... إن كنت سائلتي غبوقا فاذهبي إن الرجال لهم إليك وسيلة ... إن يأخذوك، تكحلي، وتخضبي ويكون مركبك القعود وزحله ... وابن النعامة عند ذلك مركبي وأنا امرؤ إن يأخذوني عنوة ... أقرن إلى شر الركاب وأجنب إني أحاذر أن تقول ظعيني ... هذا غبار ساطع فتلبب - 11 - وقال عنترة أيضاً: وفوارس لي قد علمتهم ... صبر على التكرار والكلم يمشون والماذي فوقهم ... يتوقدون توقد الفحم كم من فتى فيهم أخي ثقة ... حر أغر كقوة الرئم ليسوا كأقوام علمتهم ... سود الوجوه كمعدن البرم عجلت بنو شيبان مدتهم ... والبقع أستاها بنو لأم كنا إذا نفر المطي بنا ... وبدا لنا أحواض ذي الرضم نعدى فنطعن في أنوفهم ... نختار بين القتل والغنم إنا كذلك يا سهى إذا ... غدر الحليف نمور بالخطم وبكل مرهقة لنا نفذ ... بين الضلوع كطرة القدم - 12 - وقال عنترة أيضاً: كأن السرايا بين قو وقارة ... عصائب طير ينتحين لمشرب وقد كنت أخشى أن أموت ولم تقم ... قرائب عمرو وسط نوح مسلب شفى النفس مني أو دنا من شفائها ... ترديهم من حالق متصوب تصيح الردينيات في حجباتهم ... صياح العوالي في الثقاف المثقب كتائب تزحى فوق كل كتيبة ... لواء كظل الطائر المتقلب - 13 - وقال عنترة أيضاً: هديكم خير أباً من أبيكم ... أعف وأوفى بالجوار وأحمد وأطعن في الهيجا إذا الخيل صدها ... غداة الصياح السمهري المقصد فهلا وفي الغوغاء عمرو بن جابر ... بذمته وابن اللقيطة عصيد سيأتيكم عني وإن كنت نائياً ... دخان العلندي دون بيتي مذود قصائد من قبل امرئ يحتديكم ... بني العشراء فارتدوا وتقلدوا - 14 - وقال أيضاً:

تركت جرية العمري فيه ... شديد العير معتدل سديد جعلت بني الهجيم له دواراً ... إذا تمضى جماعتهم تعود إذا تقع الرماح بجانبيه ... تولى قابعاً فيه صدود فإن يبرأ فلم أنفث عليه ... وإن يفقد فحق له الفقود وهل يدري جرية أن نبلى ... يكون جفيرها البطل النجيد كأن رماحهم أشطان بئر ... لها في كل مدلجة خدود - 15 - وقال عنترة أيضاً: خذوا ما أسأرت منها قداحي ... ورفد الضيف والأنس الجميع فلو لاقيتني وعلي درعي ... علمت علام تحتمل الدروع تركت جبيلة بن أبي عدي ... ببل ثيابه علق نجيع وآخر منهم أجررت رمحي ... وفي البجلي معبلة وقيع - 16 - وقال عنترة أيضاً: قد أرعدوني بأرماح معلبة ... سود لقطن من الجومان أخلاق لم يسلبوها ولم يعطوا بها ثمناً ... أيدي النعام فلا أسقاهم الساقي عمرو بن أسود فازباء قاربة ... ماء الكلاب عليها الظبي معناق - 17 - وقال أيضاً في قتل قرواش وقتل عبد الله بن الصمة أخي دريد: نجا فارس الشهباء والخيل جنح ... على فارس بين الأسنة مقصد ولولا يد نالته منا لأصبحت ... سباع تهادى شلوه غير مسند فلا تكفر النعمى وأثن بفضلها ... ولا تأمنن ما يحدث الله في غد فإن يك عبد الله لاقى فوارسا ... يردون خال العارض المتوقد فقد أمكنت منك الأسنة عانية ... فلم نجز إذ تسعى فتيلا بمعبد - 18 - وقال عنترة وتروى للربيع بن زياد العبسي: إن تك حربكم أمست عواناً ... فإني لم أكن ممن جناها ولكن ولد سودة أرثوها ... وشبوا نارها لمن اصطلاها فإني لست خاذلكم ولكن ... سأسعى الآن إذ بلغت إناها - 19 - وقال عنترة أيضاً: إذا لاقيت جمع بني أبان ... فإني لائم للجعد لاحي كأن مؤشر العضدين جحلا ... هدرجا بين أقلبة ملاح تضمن نعمتي فعدا عليها ... بكوراً أو تعجل في الرواح ألم تعلم لحاك الله أني ... أجم إذا لقيت ذوي الرماح كسوت الجعد جعد بني أبان ... سلاحي بعد عري وافتضاح - 20 - وقال أيضاً: سائل عميرة حيث حلت جمعها ... عند الحروب بأي حي تلحق أبحق قيس أم بعذرة بعدما ... رفع اللواء لها وبئس الملحق واسأل حذيفة حين أرث بيننا ... حرباً ذوائبها بموت تخفق فلتعلمن إذا التقت فرساننا ... بلوى النجيزة أن غنك أحمق - 21 - وقال في قتل ورد بن حابس نضلة الأسدي: غادرن نضلة في معرك ... يجر الأسنة كالمحتطب فمن يك عن شأنه سائلاً ... فإن أبا نوفل قد شجب تذاءب ورد على أثره ... وأدركه وقع مرد خشب تدارك لا يتقي نفسه ... بأبيض كالقبس الملتهب - 22 - وقال أيضاً: ومكروب كشفت الكرب عنه ... بضربة فيصل لما دعاني دعاني دعوة والخيل تردى ... فما أدرى أباسمي أم كناني فلم أمسك بسمعي إذ دعاني ... ولكن قد أبان له لساني فكان إجابتي إياه أني ... عطفت عليه خوار العنان بأسمر من رماح الخط لدن ... وأبيض صارم ذكر يمان وقرن قد تركت لدى مكر ... عليه سبائب كالأرجوان تركت الطير عاكفة عليه ... كما تردى إلى العرس البوانيٍ ويمنعهن أن يأكلن منه ... حياة يد ورجل تركضان فما أوهى مراس الحرب ركني ... ولكن ما تقادم من زماني وقد علمت بنو عبس بأني ... أهش إذا دعيت إلى الطعان وأن الموت طوع يدي إذا ما ... وصلت بنانها بالهندواني ونعم فوارس الهيجاء إذا ما ... علقوا الأعنة بالبنان هم قتلوا لقيطاً وابن حجر ... وأردوا حاجباً وابني أبان - 23 - وقال أيضاً: طربت وهاجتك الظباء السوانح ... غدت منها سنيح وبارح فمالت بي الأهواء حتى كأنما ... بزندين في جوفي من الوجد قادح تعزيت عن ذكرى سهية حقبة ... فبح عنك منها بالذي أنت بائح لعمري لقد أعذرت لو تعذريني ... وخشنت صدراً غيبة لك ناصح

دراسات لبعض الشعراء الجاهليين

أعادل كم من يوم حرب شهدته ... له منظر بادي النواجذ كالح فلم أر حياً صابروا مثل صبرنا ... ولا كافحوا مثل الذين نكافح إذا شئت لاقاني كمي مدجج ... على أعوجي بالطعان مسامح نزاحف زحفاً أو نلاقي كتيبة ... تطاعننا أو يذعر السرح صائح فلما التقيننا بالجفار تضعضعوا ... وردت على أعقابهن المسالح وسارت رجال نحو أخرى عليهم ال ... حديد كما تمشى الجمال الدوالح إذا ما مشوا في السابغات حسبتهم ... سيولاً وقد جاشت بهن الأباطح فأشرع رايات وتحت ظلالها ... من القوم أبناء الحروب المراجح ودرنا كما دارت على قطبها الرحى ... ودارت على هام الرجال الصفائح بهاجرة حتى تغيب نورها ... وأقبل ليل يقبض الطرف سائح تداعى بنو عبس بكل مهند ... حسام يزيل الهام والصف جانح وكل رديني كأن سنانه ... شهاب بدا في ظلمة الليل واضح فخلوا لنا عوذ النساء وخببوا ... عباديد منها مستقيم وجامح وكل كعاب خدلة الساق فخمة ... لها منيت في آل ضبة طامح تركنا ضراراً بين عان مكبل ... وبين قتيل غاب عنه النوائح وغمراً وحيانا تركنا بقفرة ... تعودهما فيها الضباع الكوالح يجرون هاما فلقتها سيوفنا ... تزيل منهن اللحى والمسائح - 24 - وقال أيضاً: وكتيبة لبستها بكتيبة ... شهباء باسلة يخاف رداها خرساء ظاهرة الأداء كأنها ... نار يثب وقودها بلظاها فيها الكماة بنو الكماة كأنهم ... والخيل تعشر في الوغى بقناها شهب بأيدي القابسين إذا بدت ... بأكفهم بهر الظلام سناها صبر أعدوا كل أجرد سابح ... ونجية ذبلت وخف حشاها يغدون بالمستلثمين عوابساً ... قوداً تشكى أينها ووجاها يحملن فتياناً مداعس بالقنا ... وقراً إذا ما الحرب خف لواها من كل أروع ماجد ذي صولة ... مرس إذا لحقت خصي بكلاها وصحابة شم الأنوف بعثتهم ... ليلاً وقد مال الكرى بطلاها وسريت في وعث الظلام أقودهم ... حتى رأيت الشمس زال ضحاها ولقيت في قبل الهجير كتيبة ... طعنت أول فارس أولاها وضربت قربى كبشها فتجدلا ... وحملت مهري وسطها فمضاها حتى رأيت الخيل بعد سودها ... حمر الوجوه خضن من جرحاها يعثرن في نقع النجيع جوافلا ... ويطأن من حمى الوغى صرعاها فرجعت محموداً برأس عظيمها ... وتركتها جزراً لمن ناءاها ما استمت أنثى نفسها في موطن ... حتى أوفى مهرها مولاها ولما رزأت أخا حفاظ سلعاً ... إلا له عندي بها متلاها أغشى فتاة الحي عند خليلها ... وإذا غزا في الحرب لا أغشاها وأغض طرفي ما بدت لي جارتي ... حتى يوارى جارتي مأواها إني امرؤ سمح الخليقة ماجد ... لا أتبع النفس اللجوج هواها ولئن سألت بذاك عبلة أخبرت ... لا أريد من النساء سواها وأجيبها إما دعت لعظيمة ... وأعينها وأكف عما ساها - 25 - وقال عنترة أيضاً في قتل قراوش العبسي: ومن يك سائلاً عني فإني ... وجروة لا ترود ولا تعار مقربة الشتاء ولا تراها ... وراء الحي يتبعها المهار لها بالصيف أصبرة وجل ... ونيب من رائمها غزار ألا أبلغ بني العشراء عني ... علانية فقد ذهب السرار قتلت سراتكم وخسلت منكم ... خسيلاً مثلما خسل الوبار ولم نقتلكم سراً ولكن ... علانية وقد سطع الغبار فلم يك حقكم أن تشتمونا ... بني العشراء إذ جد الفخار - 26 - وقال يرثي مالك بن زهير العبسي وتولى قتله بنو بدر: لله عينا من رأى مثل مالك ... عقيرة قوم أن حرى فرسان فليتهما لم يجريا نصف غلوة ... وليتهما لم يرسلا لرهان وليتهما ماتا جميعاً ببلدة ... وأخطأهما قيس فلا يريان لقد جلبا حيناً وحرباً عظيمة ... تبيد سراة القوم من غطفان وكان فتى الهيجا ويحمى ذمارها ... ويضرب عند الكرب كل بنان دراسات لبعض الشعراء الجاهليين عمر بن كلثوم 500 - 600 م

حياته

- 1 - حياته تمهيد هو عمرو بن كلثوم، أحد شعراء الجاهلية وفرسانهم وأشرافهم، ومن أصحاب المعلقات، ومكانته في الشعر الجاهلي تضارع مكانة كثير من الشعراء وإن كان ليس له ديوان شعر معروف. نسبه هو أبو الأسد عمرو بن كلثوم بن مالك بن عتاب بن ربيعة بن زهير التغلبي، من تغلب بن وائل، وتغلب هم من الأهم في الشرف والسيادة والمجد وضخامة العدد وجلال المحتد والأرومة. وأسرته سادات تغلب ورؤساؤها وفرسانها حتى قيل: لو أبطأ الإسلام لأكلت تغلب الناس.. كان أبوه كلثوم سيد قومه وأمه ليلى بنت المهلهل أخي كليب المشهور، واشتهرت أمه ليلى بالأنفة وعظم النفس، كما كانت لجلالة محتدها من فضليات السيدات العربيات قبل الإسلام. بيئته وموطنه ولد ونشأ عمرو بن كلثوم في أرض قومه التغلبيين، وكانوا يسكنون الجزيرة الفراتية وما حولها، وتخضع قبيلته لنفوذ ملوك الحيرة مع استقلالهم التام في شؤونهم الخاصة والعامة، والحيرة كما نعلم إمارة عربية أقامها الفرس على حدود الجزيرة العربية، وحموها بالسلاح والجنود. نشأته وحياته ولد عمر بين مجد وحسب وجاه وسلطان، فنشأ شجاعاً هماماً خطيباً جامعاً لخصال الخير والسؤدد والشرف، وبعد قليل ساد قومه وأخذ مكان أبيه وله من العمر خمس عشرة سنة، وقال الشعر وأجاد فيه وإن كان من المقلين. قاد عمر الجيوش وحارب أعداء قومه وكان مظفراً في كثير من أيامهم وحروبهم، وأكثر ما كانت فتن تغلب وحروبها مع أختها بكر بن وائل بسبب الحرب المشهورة "البسوس"، وفي آخر الأمر أصلح بينهما المنذر ملك الحيرة وأخذ من كل منهما رهينة من الغلمان مائة غلام من أشرافهم حتى لا يعودوا إلى القتال، ولما تولى الحيرة عمرو بن هند عام 562 م حذا حذو أبيه، فحدث أن عمرو بن هند وجه قوماً من بكر وتغلب إلى جبل طيء في أمر من أموره، فنزلوا على ماء لبني شيبان وهم من بكر، فأبعدوا التغلبيين عن الماء حتى ماتوا عطشاً، وقيل بل أصابتهم شموم في بعض مسيرهم فهلكوا وسلم البكريون، فطلب التغلبيون دينهم من بكر، واختصما وتحاكما إلى عمرو بن هند، وكان سيد تغلب هو عمرو بن كلثوم، وشاعر بكر هو الحارث بن حلزة، فتفاخرت القبيلتان بين يديه، وفي هذا الموقف قال الحارث بن حلزة معلقته يفتخر فيها ببكر وقال عمرو بن كلثوم بعض معلقته يفتخر فيها بتغلب، وأثرت قصيدة الحارث بن حلزة على عمرو بن هند، فقضى لبكر حقداً على تغلب وحسداً لعمرو، لإدلاله بشرفه وحسبه ومجده.

شعر عمرو بن كلثوم

ويقال إن عمرو بن هند الملك - وكان جباراً متكبراً مستبداً - كان يريد إذلال عمرو وإهانته ويضمر ذلك في نفسه، وأنه كان جالساً يوماً مع ندمائه، فقال لهم: "هل تعلمون أحداً من العرب تأنف أمه من خدمة أمي هند؟ فقالوا نعم، أم عمرو وبن كلثوم. قال: ولم؟ قالوا لأن أباها مهلهل بن ربيعة وعمها كليب بن وائل أعز العرب، وبعلها كلثوم بن مالك أفرس العرب وابنها عمرو وهو سيد قومه، وكانت هند عمة امرئ القيس بن حجر الشاعر المشهور وكانت أم ليلى بنت مهلهل هي بنت أخي فاطمة بنت ربيعة التي هي أم امرئ القيس وبينهما هذا النسب، فأرسل عمرو بن هند إلى عمرو بن كلثوم يستزيره ويسأله أن يزير أمه، فأقبل عمرو بن كلثوم من الجزيرة إلى الحيرة في جماعة من بني تغلب، وأقبلت ليلى بنت مهلهل في ظعن من بني تغلب، وأمر عمرو بن هند برواقه فضرب فيما بين الحيرة والفرات وأرسل إلى وجوه أهل مملكته فحضروا في وجوه بني تغلب، فدخل عمرو بن كلثوم على عمرو بن هند في رواقه. ودخلت ليلى وهند في قبة من جانب الرواق، وكان عمرو بن هند أمر أمه أن تنحي الخدم إذا دعا بالطرف وتستخدم ليلى، فدعا عمرو بمائدة ثم دعا بطرف، فقالت هند: ناوليني يا ليلى ذلك الطبق، فقالت ليلى: لتقم صاحبة الحاجة إلى حاجتها فأعادت عليها فصاحت ليلى: "واذلاه، يا لتغلب! " فسمعها عمرو بن كلثوم فثار الدم في وجهه ونظر إليه عمرو بن هند فعرف الشرفي وجهه فوثب عمرو بن كلثوم إلى سيف لعمرو بن هند معلق بالرواق ليس هناك سيف غيره فضرب به رأس ابن هند وقتله وكان ذلك نحو سنة 569م ونادى عمرو في بني تغلب فانتبهوا مافي الرواق وساقوا نجائبه وساروا نحو الجزيرة وجاشت نفس ابن كلثوم وحمى غضبه وأخذته الأنفة والنخوة فنظم بعض معلقته في هذه الحادثة، يصف فيها حدثه مع ابن هند ويفتخر بأيام قومه وغاراتهم المشهورة. وهكذا عاش عمرو عظيماً من عظماء الجاهلية وأشرافهم وفرسانهم، عزيز النفس مرهوب الجانب، شاعراً مطبوعاً على الشعر.. وعمر طويلاً حتى مات نحو سنة 600 م. ولعمرو ابن اسم عتاب بن عمرو بن كلثوم، كان كأبيه شجاعاً فارساً وهو الذي قتل بشر بن عمرو بن عدس، كما أن مرة بن كلثوم أخا عمرو بن كلثوم هو الذي قتل المنذر بن النعمان بن المنذر ملك الحيرة، ولذلك يقول الأخطل التغلبي مفتخراً: ابني كليب إن عمى اللذا ... قتلا الملوك وفككا الأغلالا ماضر تغلب وائل: أهجوتها ... أم بلت حيث تناطح البحران قومي همو قتلوا ابن هند عنوة ... عمرا، وهم قسطوا على النعمان - 2 - شعر عمرو بن كلثوم أهم الدراسات عنه كتب عن عمرو بن كلثوم من الأدباء والباحثين: أ - منهم من المحدثين: جورجي زيدان، وأصحاب الوسيط والمفصل، والزيات وصاحب شعراء النصرانية. ب - ومن القدماء: أبو زيد الأنصاري في الجمهرة، وابن سلام في طبقات الشعراء، وأبو الفرج في الأغاني، وابن قتيبة في الشعر والشعراء. ج - وشرح معلقته ورواها: الزوزني في كتابه "شرح المعلقات السبع"، والنعساني الحلبي في كتابه نهاية الأدب في شرح معلقات العرب، ورواها صاحب الجمهرة، وهي سبعة ومائة بيت. وقد طبعت المعلقة في مدينة بونا سنة 1819 مع ترجمتها اللاتينية بقلم كوزغارتن. معلقة الشاعر 1 - عمرو بن كلثوم جاهلي قديم، قتل عمر بن هند الملك، أمه ليلى بنت مهلهل بن ربيعة وعمها كليب أعز العرب، ووالده كلثوم بن عتاب فارس العرب، وكان عمرو سيداً في قومه من بني تغلب، وتوفي في أواخر القرن السادس الميلادي. وعمرو شاعر قوي الشاعرية مجيد، ومعلقته "ألا هي بصحنك فاصبحينا" مشهورة، وهي من جيد شعر العرب وإحدى السبع المعلقات، وكان قام بها خطيباً فيما كان بينه وبين عمرو بن هند. يمتاز عمر في شعره بالبديهة والارتجال، وبأسلوبه الرائق، وأغراضه العالية. وهو مقل لم ينظم في فنون الشعر جميعها، وكل ما روي عنه معلقته وبعض مقطوعات لا تخرج من موضوعها. أجاد في الفخر إجادة منقطعة النظير. 2 - والمعلقة مشهورة بالرقة والسلاسة والسهولة، وفيها تكرير في بعض معانيها وألفاظها، ومبالغة واضحة شديدة في الفخر مما لم يؤلف نظيرها في الشعر الجاهلي، مثل: إذا بلغ الرضيع لنا فطاما ... تخر له الجبابر ساجدينا ومثل:

آثار من شعر عمرو

لنا الدنيا ومن أضحى عليها ... ونبطش حين نبطش قادرينا 1 - بدأها عمر بن كلثوم بوصف الخمر، وهذه المعلقة فريدة في هذه الناحية، فلم تبدأ معلقة أو قصيدة بوصف الخمر في الجاهلية إلا هذه القصيدة، ولعل سر ذلك أن تغلب كانت النصرانية موجودة في بعض ربوعها، وأن الخمر كانت شائعة في هذه الربوع، قال: ألا هبي بصحنك فاصبحينا ... ولا تبقى خمور الأندرينا مشعشعة كأن الحصى فيها ... إذا ما الماء خالطها سخينا صددت الكأس عنا أم عمرو ... وكان الكأس مجراها اليمينا وما شر الثلاثة أم عمرو ... بصاحبك الذي لا تصبحينا وكأس قد شربت ببعلبك ... وأخرى في دمشق وقاصرينا إذا صمدت حمياها أريبا ... من الفتيان خلت به جنونا ب - ثم يأخذ في الغزل ووصف محبوبته وجمالها: قفي قبل التفرق يا ظعينا ... نخبرك اليقين وتخبرينا قفي نسألك هل أحدثت صرما ... لوشك البين أم خنت الأمينا أفي ليلى يعاتبني أبوها ... وإخوتها وهم لي ظالمونا ج - ثم ينتقل إلى الفخر بقومه ومجدهم وعزتهم، ويهدد الملك عمرو بن هند وينذره ويتوعده في أسلوب قوي جزل مع عذوبة وجمال، والظاهر أن ذلك كان أيام التحاكم أمام عمر بن هند والمفاخرة بين تغلب وبكر: أبا هند فلا تعجل علينا ... وأنظرنا نخبرك اليقينا بأنا نورد الرايات بيضا ... ونصدرهن حمراً قد روينا وأيام لنا غر طوال ... عصينا الملك فيها أن ندينا ورثنا المجد قد علمت معد ... نطاعن دونه حتى يبينا والجزء التالي من المعلقة يبدو أنه نظم بعد قتل عمرو بن هند، وهو: بأي مشيئة عمر بن هند ... تطيع بنا الوشاة وتزدرينا تهددنا وتوعدنا رويدا ... متى كنا لأمك مقتوينا وأن قناتنا يا عمر أعيت ... على الأعداء تملك أن تلينا ثم ينتقل إلى ذكر وقائع قومه مفتخراً بها على بكر، ومنها يوم خزاز، ثم يختمها بفخر قوي، منه: وأنا الحاكمون بما أردنا ... وأنا النازلون بحيث شينا وأنا النازلون بكل ثغر ... يخاف النازلون به المنونا إذا ما الملك سام الناس خسفا ... أبينا أن نقر الخسف فينا ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا ملأنا البر حتى ضاق عنا ... وموج البحر نملؤه سفينا إذا بلغ الفطام لنا رضيع ... تخر له الجبابر ساجدينا لنا الدنيا ومن أمسى عليها ... ونبطش حين نبطش قادرينا وبعد، فالمعلقة من روائع الفخر، ويقال إنها كانت تزيد على الألف بيت، وإنما وصل إلينا بعضها مما حفظه الناس منها. والغالب - كما ذكرنا - أن الشاعر نظمها على مرتين: في مفاخرته ليكون عند عمرو بن هند، وفي حادثة أمه، ولذلك رأينا فيها إشارة إلى كلتيهما وقد وقف عمر بن كلثوم بهذه المعلقة في سوق عكاظ فأنشدها في موسم الحج وكان بنو تغلب يعظمونها ويرويها صغارهم وكبارهم، لما حوته من الفخر والحماسة مع جزالتها وسهولة حفظها. وقد أثرت هذه القصيدة في نفوس قبيلة تغلب وفخروا بها، واتخذوها أنشودتهم، حتى قال فيها بعض البكريين: إلهي بني تغلب عن جل أمرهم ... قصيدة قالها عمرو بن كلثوم يفاخرون بها مذ كان أولهم ... يا للرجال لشعر غير مسؤوم والميزة الواضحة فيها السهولة والقوة، والاعتداد بالنفس والقبيلة، المبالغة في الفخر، وأنها شعر صدر عن سيد قومه يعترف فيه بسيادته وسيادة قبيلته ومجدها وأيامها وبطولة أبطالها وانتصاراتهم. وبدؤها بالخمر يرجع إلى انتشار النصرانية في تغلب وانتشار الخمر بينهم. وتكاد تكون هي القصيدة الوحيدة في بدئها بالخمر على غير عادة الشعراء الجاهليين. ويعجب النقاد بمعلقة عمرو إعجاباً شديداً، قال ابن قتيبة: وهي من جيد شعر العرب وإحدى السبع المعلقات. وقدمه بها النقاد وقال مطرف عن عيسى بن عمرو: لو وضعت أشعار العرب في كفة وقصيدة عمرو بن كلثوم في كفة لمالت بأكثرها. آثار من شعر عمرو 1 - روى صاحب ديوان الحماسة لعمرو بن كلثوم أبياتاً له من خير الأبيات يمتدح فيها بقومه، هي: معاذ الإله أن تنوح نساؤنا ... على هالك، أو أن نضج من القتل

آراء النقاد في شعره

قراع السيوف بالسيوف حلنا ... بأرض براح ذي أراك وذي أثل فما أبقت الأيام ملمال عندنا ... سوى جذم أذواد محذفة النسل ثلاثة أثلاث، فأثمان خيلتنا ... وأقواتنا وما نسوق إلى القتل 2 - وله يتوعد عمرو بن أبي حجر الغساني: ألا فاعلم أبيت اللعن أنا ... على عمد سنأتي ما نريد تعلم أن محملنا ثقيل ... وأن زياد كبتنا ديد وأنا ليس حي من معد ... يوزننا إذا لبس الحديد 3 - ومعلقته مشهورة ومطلعها: ألا هبي بصحنك فاصبحينا ... ولا تبقي خمور الأندرينا يبدؤها بوصف الخمر، وينتقل منها إلى الغزل إذ يقول: قفي قبل التفرق يا ظعينا ... نخبرك اليقين وتخبرينا ثم ينتقل إلى موضوع المعلقة، ويظهر أن هذا الموضوع مقسم إلى قسمين عملاً في زمنين مختلفين، أولهما عمل أيام التحاكم أمام عمر بن هند والمفاخر بين تغلب وبكر ويبتدئ من قوله: أبا هند فلا تعجل علينا ... وأنظرنا نخبرك اليقينا بأنا نورد الرايات بيضا ... ونصدرهن حمرا قد روينا ويفخر فيه بنفسه وقومه: ورثنا المجد قد علمت معد ... نطاعن دونه حتى يبينا والثاني عمل بعد قتله عمرو بن هند، وأوله: بأي مشيئة عمرو بن هند ... نطيع بنا الوشاة وتزدرينا؟ بأي مشيئة عمرو بن هند ... نكون لقيلكم فيها قطينا؟ تهددنا وتوعدنا!! رويدا ... متى كنا لأمك مقتوينا فإن قناتنا يا عمرو أعيت ... على الأعداء قبلك أن تلينا آراء النقاد في شعره 1 - قال الكميت: عمر بن كلثوم أشعر الناس، وذكره في المزهر مع أصحاب الواحدة وأولهم طرفة، ومنهم عنترة، والحارث بن حلزة، وشاعرنا عمرو بن كلثوم. 2 - وجعله ابن سلام في الطبقة السادسة من شعراء الجاهلية، وهم أربعة رهط لكل واحد منهم واحدة، وأولهم عمرو بن كلثوم، ثم الحارث بن حلزة وعنترة، وسويد بن أبي كاهل اليشكري. 3 - وقد قدمه بعض النقاد وقالوا: هو من قدماء الشعراء وأعزهم نفساً وأكبرهم امتناعاً وأجودهم واحدة، وقال عيسى بن عمر: لله در عمر أي حلس شعر ووعاء علم، لو أنه رغب فيما رغب فيه أصحابه، من الشعراء.. وإن واحدته لأجود سبعهم - يعني السبع المعلقات -. وذكر أبو عمرو بن العلاء أن عمرو بن كلثوم لم يقل غير واحدته - معلقته - ولولا أنه افتخر فيها وذكر مآثر قومه ما قالها. وجعله صاحب شعراء النصرانية من شعراء الطبقة الأولى. 4 - وقيل إنه كان ينشد عمرو بن هند وهو المحرق الثاني من ملوك الحيرة، فبينما هو ينشده في صفة جمل إذ حالت الصفة إلى صفة ناقة، فقال طرفة "استنوق الجمل"، والبيت الذي قاله عمرو: وإني لأمضي الهم عند احتضاره ... بناج عليه الصيعرية مكدم فقال عمرو: وما يدريك يا صبي؟ فتشاتما. فقال عمرو بن المنذر: سبه يا طرفة، فقال قصيدته: أشجاك الربع أم قدمه ... أم سواد دارس حممه حتى بلغ قومه: فإذا أنتم وجمعكمو ... حطب للنار نضطرمه فقال عمرو بن كلثوم يتوعد عمرو بن هند: ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا بأي مشيئة عمرو بن هند ... تطيع بنا الوشاة وتزدرينا؟ ويروى أن هذه القصة كانت بين طرفة والمتلمس، وأنه ما كان ليجترئ على عمرو بن كلثوم بمثل هذا لشدته في قومه. ويروى لعمرو ذي الطوق. صددت الكأس عنا أم عمرو ... وكان الكأس مجراها اليمينا وما شر الثلاثة أم عمرو ... بصاحبك الذي لا تصحبينا فاستلحقهما عمرو بن كلثوم في معلقته. والاستلحاق أخذ الشاعر بيتاً مما سبقه على الجهل المثل (216-2 العمدة) . ويرى الدكتور طه حسين في كتابه الأدب الجاهلي أن عمرو بن كلثوم قد أحيط بطائفة من الأساطير، وأن معلقته لا يمكن أن تكون هي أو أكثرها جاهلية، وأن والرواة شكوا في بعضها، وأن معلقة الحارث أمتن وأرصن من معلقة ابن كلثوم.. وذكر أخيراً أنه يرجح أن المعلقتان منتحلتان. خصائص شعر عمرو

نثر الشاعر

أ - وعمرو بن كلثوم شاعر غمر البديهة رائق الأسلوب، نبيه الغرض وإن كان مقلاً، لم يتقلب في فنون الشعر ولم يرخ العنان لسليقته، شغلته الرياسة وخوض الحروب وتكسب الشعراء بالشعر عن أن يفيض في الشعر ويطرق أكثر أبوابه، ولذلك لم يشتهر إلا بمعلقته التي قامت له مقام الشعر الوفير، لحسن لفظها وانسجام عبارتها ووضوح معناها ورشاقة أسلوبها وعلو فخرها ونباهة مقصدها، ورويت له مقطعات، لم يخرج فيها عن أغراض معلقته.. ولعل شهرته بالخطابة لا تقل عن شهرته بالشعر. ب - وأسباب شاعريته ترجع إلى: 1 - أسرة الشاعر وكثرة الشعراء منها ومن قبيلته. 2 - بيئته في الجزيرة الفراتية واتصالها بثقافات كثيرة منها ثقافة النصرانية التي انتشرت فيها، ومنها الثقافة الفارسية التي لابد أن تكون قد أحدثت آثارها في هذه النواحي الخاضعة لنفوذ الحيرة وملوكها. 3 - مجد الشاعر وحسبه فقد أنطقاه بهذا الشعر الرائع والفخر القوي البليغ. 4 - كثرة الخصومات والحروب بين تغلب وبكر، وقد شاهدها الشاعر وأججت ثورة الشاعرية في نفسه. 5 - الخصومات الأدبية بينه وبين خصمه شاعر بكر الحارث بن حلزة، إلى غير ذلك من بواعث شاعريته. ج - وأهم أغراض الشعر عند عمرو هو الفخر، ومن أولى من عمرو بن كلثوم بأن يفتخر بمجده ومجد قومه وحسبهم وشرفهم ومحتدهم الرفيع وفخره في معلقته صفحة من تاريخ قومه الحربي والسياسي. د - ومهما كان فأسلوب عمرو يمتاز بقوته وسلاسته وحلاوته، وتمتاز معانيه بالوضوح وكثرة المبالغة وبالصراحة وروح الصحراء البادية فيه. نثر الشاعر 1 - قال عمرو من خطبة له: أما بعد، فإنه لا يخبر عن فضل المرء أصدق من تركه تزكية نفسه، ولا يعبر عنه في تزكية أصحابه أصدق من اعتماده إياهم برغبته وائتمانه إياهم على حرمته. 2 - وأوصى عمرو بن كلثوم التغلبي بنيه، فقال من وصية له: "زوجوا بنات العم بني العم، فإن تعديم بهن إلى الغرباء، فلا تألوا بهن الأكفاء، وأبعدوا بيوت النساء من بيوت الرجال، فإنه أغض للبصر، وأعف للبشر، ومتى كانت المعاينة واللقاء، ففي ذلك داء من الأدواء، ولا خير فيمن لا يغار لغيره، كما يغار لنفسه. وقل من انتهك حرمة لغيره، إلا انتهكت حرمته، وإذا حدثتم فعوا، وإذا حدثتم فأوجزوا، وموت عاجل خير من ضنى آجل وما بكيت من زمان، إلا دهاني بعده زمان وربما شجاني، من لم يكن أمره عناني، وما عجبت من أحدوثة إلا رأيت بعدها أعجوبة، واعلموا أن أشجع القوم العطوف وخير الموت تحت ظلال السيوف الخ". (والوصية بتمامها في بلوغ الأرب ج3) . الحارث بن حلزة حياته من يشكر بن وائل، فارس مقدام وشاعر مجيد، وسيد من سادات بكر، كما كان عمرو بن كلثوم سيد تغلب وشاعرها، وهو أحد شعراء المعلقات، ومطلع معلقته: آذنتنا ببينها أسماء ... رب ثاو يمل منه الثواء وكان سبب إنشاده هذه القصيدة أن عمرو بن هند ملك الحيرة - وكان جباراً عظيم السلطان - جمع بين بكر وتغلب وأصلح بينهم، وأخذ من الحيين رهنا من كل حي مائة غلام. فكف بعضهم عن بعض، وكان أولئك الرهن يكونون معه في سيره يغزون معه، فأصابتهم سموم في بعض مسيرهم فهلك عامة التغلبيين وسلم البكريون، فقالت تغلب لبكر بن وائل: أعطونا دية غلماننا، فأبت بكر ذلك فاجتمعت تغلب إلى عمرو بن كلثوم واجتمعت بكر إلى النعمان بن هرم اليشكري، واجتمع الجمع عند الملك عمرو بن هند، وتلاحى عمرو بن كلثوم والنعمان بن هرم أمام الملك فغضب عمرو بن هند، وكان يؤثر بني تغلب على بكر، واشتد غضبه على بكر والنعمان صاحبهم فقام الحارث بن حلزة وارتجل قصيدته ارتجالاً وهو متوكئ على قوسه، وكان الملك يسمع قصيدة الحارث من وراء حجاب لأنه كان لا يحب رؤية أحد فيه سوء، وكان الحرث به وضح فلما أنشد القصيدة أدناه حتى خلص إليه.. ويقال إن الحارث عندئذ كان طاعنا في السن وكان فوق المائة، وترى أثر السن ونضوجها وحكمتها وحلمها ووقارها في القصيدة واضحاً جليا حيث رد على تغلب في أناة وهدوء وحملها تبعة الحرب واستدرج عمرو بن هند إلى أن يكون في جانب قومه فمدحه ومدح قومه، وبها قضى عمرو لبكر على تغلب، وأطلق رهنهم وكانوا عدة فتيان من أشراف بكر. وقد بدأها بالغزل ووصف الناقة، ثم وصل إلى غرضه من الخصومة بين بكر وتغلب:

شعره

وأتانا عن الأراقم أنبا ... ء، وخطب نعنى به ونساء ويرد على عمرو بن كلثوم بقوله: أيها الناطق المرقش عنا ... عند عمرو، وهل لذاك بقاء؟ ثم يأخذ في مدح عمرو بن هند: فملكنا بذلك الناس حتى ... ملك المنذر بن ماء السماء ملك أضلع البرية لا يو ... جد فيها لما لديه كفاء؟ وفي المعلقة بعد ذلك أبيات لها قيمة كبيرة في شرح أحداث تاريخية وسياسية، من صلح كان بين تغلب: واذكروا حلف ذي المجاز وما قد ... م فيه العهود والكنفلاء وأيام كانت بين تغلب أخرى غلبت فيها تغلب: أعلينا جناح كندة: أن يغنم غازيهم، ومنا الجزاء؟ وعداء قديم كان بين المنذر ملك الحيرة والتغلبيين لما امتنوا به من نصرته وعلى العكس من ذلك ولاء البكريين لملوك الحيرة. وينتقل من ذلك إلى مدح عمرو بن هند وآبائه: أيها الناطق المبلغ عنا ... عند عمرو، وهل لذاك انتهاء؟ ملك مقسط وأفضل من يم ... شي، ومن دون ما لديه الثناء؟ وطبعت المعلقة في أوربا لأول مرة عام 1827 م. وعلى الجملة، فقد كان عمرو بن كلثوم في قوله أعز نفساً وأعلى قدراً، وضع نفسه وقومه موضع الند لعمرو بن هند وقومه.. وكان الحارث أحكم وأعقل. وضع الحارث أمام نفسه غرضاً تحايل على الوصول إليه، في دهاء وإيماء وملق، حتى وصل إليه فحكم له ولقومه. شعره يمتاز الحارث بالبديهة والارتجال وقوة الشاعرية، وبتعدد فنون الشعر في معلقته وكثرة غريبها وإحكام نظمها على طولها، واشتمالها على كثير من أيام العرب ووقائعها، حتى قال أبو عمرو الشيباني: "لو قالها في حول لم يلم". ومن شعره في غير المعلقة: من حاكم بيني وبين ... الدهر مال على عمدا أودى بسادتنا وقد ... تركوا لنا حلقا وجردا خيلي وفارسها ورب ... أبيك كان أعز فقدا فلو أن ما يأوي إلى ... أصاب من ثهلان هدا فضعي قناعك إن ريب ... الدهر قد أفنى معدا فلكم رأيت معاشرا ... قد جمعوا مالا وولدا فعش بجد ولا يضر ... ك النوك ما لاقيت جدا والعيش خير في ظلا ... ل النوك ممن عاش كدا معلقة الحارث بن حلزة 1 - الحارث بن حلزة اليشكري من بكر، كان سيداً في قومه، وشاعراً مجيداً، ارتجل معلقته ارتجالاً في مجلس عمرو بن هند، يستدني بها عطفه، ويستجلب رضاءه ويذود بها عن قومه، وكان هوى عمرو بن هند مع تغلب، فتحول إلى العطف على البكريين بسبب هذه القصيدة الرائعة. وليس للحارث إلا آثار قليلة من الشعر مع معلقته هذه. 2 - وتمتاز هذه المعلقة بإحكام نسجها وتنوع أغراضها، وبأنها أثر من آثار البديهة والارتجال. أ = بدأها بالغزل في محبوبته أسماء: آذنتنا بينها أسماء ... رب ثاو يمل منه الثواء بعد عهد لنا ببرقة شما ... ء فأدنى ديارها الخلصاء لا أرى من عهدت فيها فأب ... كي اليوم دلها وما يحير البكاء ب - ثم انتقل إلى وصف ناقته، وكما يقول: أتلهى بها الهواجر إذ كل ... ابن هم بلية عمياء ج - ثم يعاتب إخوانه من بني تغلب لصلفهم على قومه: إن إخواننا الأراقم يغلو ... ن علينا في قيلهم إحفاء يخلطون البريء منا بذي الذن ... ب ولا ينفع الخلي الخلاء أجمعوا أمرهم عشاء، فلما ... أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء من مناد، ومن مجيب، ومن تص ... هال خيل خلال ذاك رغاء أيها الناطق المرقش عنا ... عند عمرو وهل لذاك بقاء؟ فبقينا على غراتك إنما ... قبل ما قد وشى بنا الأعداء فبقينا على الشناءة تنمي ... نا حصون وعزة قعساء ثم يمدح الملك عمرو بن هند حينا، ويستمر في عتاب إخوانه من تغلب حيناً آخر: ملك مقسط، وأفضل من يم ... شي ومن دون ما لديه الثناء أيما خطة أردتم فأدو ... ها الينا تمشي بها الأملاء ويسير على هذا النهج من المدح والعتاب. د - ثم يفتخر بقومه ومجدهم وأيامهم في صدق وجمال وقوة عاطفة: هل علمتم أيام ينتهب النا ... س غوارا لكل حي عواء

أمية بن أبي الصلت 550 - 624 م

إلى آخر هذه القصيدة الرائعة، التي يصح لنا أن نعدها ملحمة شعرية مصغرة، تنطق بمجد بكر ومفاخرها في الحرب والسلم في الجاهلية. مختارات من المعلقة: وأتانا من الحوادث والأن ... باء خطب نعنى به ونساء أن إخواننا الأراقم يغلو ... ن علينا في قيلهم إحفاء يخلطون البريء منا بذي الذن ... ب، ولا ينفع الخلي الخلاء زعموا أن كل من ضرب العي ... ر موال لنا، وأنا الولاء أجمعوا أمرهم عشاء فلما ... أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء من مناد، ومن مجيب، ومن تص ... هال خيل، خلال ذاك رغاء أيها الناطق المرقش عنا ... عند عمرو، وهل لذاك بقاء لا تخلنا على غراتك، إنا ... قبل ما قد وشى بنا الأعداء فبقينا على الشناءة تنمي ... نا حصون، وعزة قعساء قبل ما اليوم بيضت بعيون ... الناس فيها تعيط وإباء وكأن المنون تردى بنا أر ... عن جوناً ينجاب عنه العماء مكفهرا على الحوادث لا تر ... توه للدهر مؤيد صماء أيما خطة أردتم فأدو ... ها إلينا تمشي بها الأملاء إن نبشتم ما بين ملحة فالصا ... قب فيه الأموات والأحياء أو نقشتم، فالنقش يحشمه النا ... س، وفيه الصلاح والإبراء أو سكتم عنا، فكنا كمن أغ ... مض عيناً في جفنها أقذاء أمية بن أبي الصلت 550 - 624 م - 1 - حياة الشاعر نسبه وأسرته هو أمية بن عبد الله أبي الصلت بن أبي ربيعة بن عوف بن أمية الثقفي شاعر ثقيف، وأحد المتلمسين للدين في الجاهلية، ومن أشراف قبيلته ورؤسائها. أبوه أبو الصلت من سادات ثقيف، وأمه رقية بنت عبد شمس بن مناف. وكان والده شاعراً، وله قصائد يمدح فيها سيف بن ذي يزن 579 م ويشيد بالفرس الذين ساعدوه على تحرير اليمن من نير الحبشة واحتلالها، ومنها هذه القصيدة التي نظمت عام 573 م، والرسول ابن عامين. لا يطلب الوتر إلا كابن ذي يزن ... في البحر لجج للاعذام أحوالا ويروى: خير أي أقام. ومنها في الفرس: لله درهم من عصبة خرجوا ... ما إن ترى لهم في الناس أمثالا بيضا مرازبه غراً جحاجحه ... أسدا تربب في الغيضات أشبالا لا يرمضون إذا حرت مغافرهم ... ولا ترى منهم في الطعن ميالا من مثل كسرى وسابور الجنود له ... أو مثل وهرز يوم الحبش إذ صالا فاشرب هنيئا عليك التاج مرتفقا ... في رأس غمدان دارا منك محلالا تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا وتنسب القصيدة لأمية نفسه لا لأبيه في بعض المصادر. بيئته ومولده ولد أمية في أواسط القرن السادس الميلادي، ونشأ بالطائف، وهي مصيف أهل مكة ومتنزههم، وروضة خصبة وسط الصحراء القاحلة، وأطيب البلاد العربية هواء وأجملها مناخا وأكثرها بساتين وكروما وزرعا وفاكهة وعيونا وهي في الجنوب الشرقي لمكة وبينهما خمسة وسبعون ميلا. ويقول الشاعر: تشتو بمكة نعمة ... ومصيفها بالطائف وكانت الفترة التي عاش فيها أمية فترة عجيبة في تاريخ العرب، فالاحتلال الحبشي لليمن قد انتهى وصحبه امتداد نفوذ الفرس على هذه البلاد واختلاط العقليات العربية والفارسية وتجاورها وتبادل التفكير والثقافات الطارئة وقد وعى العرب لهذه الألوان الطريفة من القصص والأساطير والأخبار والعقائد والمحاورات التي هي جزء من ثقافة الفارسي الأصيلة أو المستمدة من ثقافات الهند وعلومها. أما بيئة الطائف الأدبية فإنها على أي حال لم تصل نهضة الشعر فيها إلى ما وصلت إليه في نجد، كان فيها شعراء وليس شعرهم بالكثير، والسبب في ذلك كما يرى ابن سلام هو قلة الحروب والخصومات بين أهل الطائف، وأنه إنما يكثر الشعر بالحروب التي تكون بين الأحياء، وهذا هو السبب أيضاً في قلة شعر قريش وأهل عمان، ولم ينبع في الطائف سوى أبي الصلت، وابنه أمية وهو أشعرهم، وغيلان بن سلمة وكنانة بن عبد يا ليل. نشأته وحياته نشأ أمية في هذه البيئة، وشب شاعراً يرث من أبيه مواهب الشعر وملكاته، وأخذ يمارس التجارة وظل يمارسها طول عمره، فتارة إلى الشام وتارة إلى اليمن.

ألوان من حياته

واتصل بالفرس في اليمن وسمع محاوراتهم وقصصهم، كما اتصل بالكهان والأحبار والقسس في الشام وسمع عظاتهم، وشاهد مظاهر القلق الروحي البادية في تفكير بعض العرب المتعبدين أمثال: زيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل، ويبدو أنه كان عالماً بغير العربية على ما يظهر فاطلع على كتب القدماء وخصوصاً التوراة والإنجيل. وهكذا نشأ أمية مفطوراً على التدين، موهوباً ملكات الشاعرية القوية الجياشة. وسافر إلى الشام في رحلات تجارية كما سافر إلى اليمن فلقي في رحلته بعض المتدينين هناك وسمع أخبارهم وعظاتهم، فرغب عن عبادة الأوثان وزهد في الدنيا، واستزاد النظر في الأديان وطلبها من أهل الكتاب، وروى الكثير من أخبار اليهود والنصارى وأقاصيص الشيوخ في الجاهلية من الذين يعبدون الله على دين إبراهيم وإسماعيل، وخاض في التوحيد وأمر الآخرة وتعبد ولبس المسوح وحرم الخمر والزنا والقمار على نفسه، ورأى في الكتب الدينية ما يبشر ببعثة نبي من العرب فطمع في أن يكون هو النبي المنتظر، وأخذ يدعو الناس إلى الحيفية دين إبراهيم وإسماعيل ويظهر التأله طمعاً في نزول الوحي عليه، ومع ميله إلى الحنيفية ملة إبراهيم السمحاء فقد كان لا يقلع عن التردد على الأديار، يجافس الرهبان ويختلف إلى الكنائس، يحاور القسس ويخبر الناس أن نبياً يخرج قد أطل زمانه. ولما بعث محمد رسول الله صلوات الله عليه وقام بالدعوة، أدرك أمية الحسد وكفر به، وقال: "إنما كنت أرجو أن أكونه"، فنزل قوله تعالى: "واتل عليهم نبأ الذي أتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين"، ثم أخذ يحرض على الرسول ويرثي قتل أعدائه في موقعة بدر، فنهى عن رواية شعره في ذلك، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا سمع شعره في التوحيد يقول "آمن لسانه وكفر قلبه"، ويقول "كاد ليسلم" كما روى الإمام مسلم في صحيحه: ولم يطق أمية - بعد أن شاهد ذيوع الدعوة وانتشار الإسلام - أن يقيم على مقربة منه، فذهب بابنيه إلى أقصى اليمن ولكنه عاد إلى الطائف ثانياً بعد هجرة رسول الله إلى المدينة. وبقي بها إلى أن توفي في السنة التاسعة من الهجرة عام 624م، ويروون أنه لما مرض مرضته التي مات فيها جعل يقول "قد دنا أجلي وهذه المرضة منيتي وأنا أعلم أن الحيفية حق ولكن الشك يداخلني"، وأنه لما دنت وفاته أغمي عليه قليلاً ثم أفاق وهو يقول: لبيكما لبيكما ... هأنذا لديكما لا مال يفيدني ... ولا عشيرة تنجيني. وأغمي عليه ثم أفاق وهو يقول ذلك البيت ويصله بقوله: "لا برئ فاعتذر ولا قوي فانتصر" وأغمي عليه ثالثة ثم أفاق وهو ينشد البيت المذكور ويصله ببيت آخر بعده هو: إن تغفر اللهم تعفر جما ... وأي عبد لك لا ألما وأقبل على القوم فقال: قد جاءني وقتي فكووا في أهبتي. واستمر يحدثهم حتى كان آخر قوله هذه الأبيات: كل عيش وإن تطاول دهرا ... منتهى أمره إلى أن يزولا ليتني كنت قبل ما قد بدا لي ... في رؤوس الجبال أرعى الوعولا فاجعل الموت نصب عينيك واحذر ... غولة الدهر، إن للدهر غولا وقد تكون هذه القصة من أساطير الرواة. وبذلك انتهت حياة أمية، ومات ولم يؤمن بدين الإسلام والتوحيد، بعد أن كان داعية الطهر والتوحيد، وتوفي عام 9 هـ وفي كتاب شعراء النصرانية أن وفاته كانت في السنة الثانية من الهجرة. ألوان من حياته 1 - كان لأمية ابن عاق فأنشد فيه قصيدته: غذوتك مولوداً وعلتك يافعاً ... تعل بما أحنى عليك وتنهل إذا ليلة نابتك بالشكو لم أبت ... لشكواك إلا ساهراً أتململ كأني أنا المطروق دونك بالذي ... طرقت به دوني فعيناي تهمل تخاف الردى نفسي عليك وإنها ... لتعلم أن الموت وقت مؤجل فلما بلغت السن والغاية التي ... إليها مدى ما كنت فيك أؤمل جعلت جزائي منك هجرا وغلظة ... كأنك أنت المنعم المتفضل وسميتني باسم المفند رأيه ... وفي رأيك التفنيد لو كنت تعقل فليتك إذ لم ترع حق أبوتي ... فعلت كما الجار المجاور يفعل وهي نمط جميل من الشعر العالي، وتصوير لما لقي أمية من ابن من أبنائه من جفاء وعقوق.

شعر أمية

2 - واتصل أمية أكثر ما اتصل بعبد الله بن جدعان التيمي وهو سيد من سادات قريش، وكان جواداً مضيافاً، وكان أمية كثير المدح له، وكان ابن جدعان يعطيه عطاء جزلا، كما كان يفعل هرم بن زهير. ومن شعره فيه: أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك إن شيمتك الحياء وعلمك بالحقوق وأنت فرع ... لك الحسب المهذب والسناء كريم لا يغيره صباح ... عن الخلق الجميل ولا مساء تبارى الريح مكرمة ومجدا ... إذا ما الكلب أحجره الشتاء إذا أثنى عليك المرء يوما ... كفاه من تعرضه الثناء فأرضك كل مكرمة بناها ... بنو تيم وأنت لها سماء فهل تخفى السماء على بصير ... وهل بالشمس طالعة خفاء؟ ويقول فيه أيضاً: عطاؤك زين لامرئ إن حبوته ... يبذل وما كل العطاء يزين وليس بشين لامرئ بذل وجهه ... إليك كما بعض السؤال يشين ويقول فيه أيضاً حين صنع ابن جدعان الفالوذ ووضع موائده بالأبطح إلى باب المسجد، ونادى الناس فحضروا وكان هذا أول أكلهم له وحضر أمية فقال: ومالي لا أحييه وعندي ... مواهب يطلعن من النجاد له داع بمكة مشمعل ... وآخر فوق دارته ينادي إلى ردح من الشيزى ملاء ... لباب البر يلبك بالشهاد إلى آخر هذه الأبيات الطرفة التي تنسب أيضاً إلى أبي الصلت. هذا وابن جدعان هو عبد الله بن جدعان التيمي. وقد كان من مشاهير الأجواد، وممن سارت بجوده الأمثال في الأقطار والبلاد. وكان يسمى بحاسي الذهب لأنه كان يشرب في إناء من الذهب. وقالوا في المثل أقرى من حاسي الذهب. وكان من قريش، وفيه قال أبو الصلت الثقفي أو ابنه أمية: له داع بمكة مشمعل وآخر فوق دارته ينادي إلى ردح من الشيزري ملاء لباب البر يلبك بالشهاد وكان في ابتداء أمره على ما يروى صعلوكا ترب اليدين، وكان مع ذلك شريرا فاتكأ لا يزال يجني الجنايات فيعقل عنه أبوه وقومه حتى أبغضه عشيرته ونفاه أبوه وحلف لا يؤويه أبداً، فخرج في شعار مكة حائراً ثائراً يتمنى الموت أن ينزل به فرأى شقا في جبل فظن أن فيه حية فتعرض للشق يريد أن يكون فيه ما بقتله فيستريح فلم ير شيئاً فدخل فيه، فإذا فيه ثعبان عظيم له عينان تقدحان كالسراجين، وإذا هو مصنوع من ذهب وعيناه ياقوتتان، فكسره وأخذ عينيه ودخل البيت، فإذا جثث طوال على سرر لم ير مثلهم طولا وعظما، وعند رؤوسهم لوح من فضة تاريخهم وإذا هم رجال من ملوك جرهم وآخرهم موتا الحرث بن مضاض، وإذا عليهم ثياب من وشى لا يمس منها شيء إلا انتثر كالهباء من طول الزمان مكتوب في اللوح عظات. وإذا في وسط البيت كوم عظيم من الياقوت واللؤلؤ والذهب والفضة والزبرجد فأخذ منه ما أخذتم علم على الشق بعلامة، وأغلق بابه بالحجارة وأرسل إلى أبيه بالمال الذي خرج منه يسترضيه ويستعطفه ووصل عشيرته كلهم فسادهم وجعل ينفق من ذلك الكنز، ويطعم الناس ويفعل المعروف وفي القاموس، وربما كان يحضر النبي صلى الله عليه وسلم طعامه. وكانت له جفنة يأكل منها القائم والراكب لعظمها، بل كانت جفنته يأكل منها الراكب على البعير، وسقط فيها صبي فغرق ومات. وعبد الله بن جدعان تيمي يكنى أبا زهير، وهو ابن عم عائشة رضي الله تعالى عنها. ولذلك قالت يا رسول الله إن ابن جدعان كان يطعم الطعام ويقري الضيف ويفعل المعروف، فهل ينفعه ذلك يوم القيامة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لا إنه لم يقل يوماً رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين. وكان ابن جدعان ممن حرم الخمر في الجاهلية بعد أن كان بها مغرى وذلك أنه سكر ليلة فصار يمد يديه ويقبض على ضوء القمر ليأخذه، فضحك منه جلساؤه فأخبر بذلك حين صحا فحلف أن لا يشربها أبدا. فلما كبر وهرم أراد بنو تميم أن يمنعوه من تبذير ماله ولاموه في العطاء فكان يدعو الرجل فإذا دنى منه لطمه لطمة خفيفة ثم يقول له: قم فأنشد لطمتك واطلب ديتك فإذا فعل ذلك أعطته بنو تميم من مال ابن جدعان. - 2 - شعر أمية أهم الدراسات عن أمية وشعره 1 - كتب عن أمية ابن سلام في طبقات الشعر وابن قتيبة الشعر والشعراء وذكره الأغاني والمرزباني والدميري وصاحب خزانة الأدب، وابن رشيق في العمدة.

مكانته في الشعر وآراء النقاد فيه

وترجم له صاحب شعراء النصرانية وجورجي زيدان، وصاحب كتاب الأدب العربي وتاريخه في العصر الجاهلي، وترجم له السباعي بيومي، والزيات، وأصحاب الوسيط. وعده صاحب الجمهرة من أصحاب المجمهرات - وهي سبع قصائد تلي المعلقات في المنزلة الأدبية - وروى مجمهرته: عرفت الدار قد أقوت سنينا ... لزينب إذ تحل بها قطينا وألف أحد أساتذة كلية اللغة العربية رسالة فيه وفي حياته وشعره وهي مخطوطة بمكتبة الكلية. وطبع ديوانه المستشرق الألماني "فريدرك شولتهيس" عام 1911 معتمداً على عدة مصادر، منها شرح محمد ابن حبيب العالم الرواية م 245 هـ. وطبع لأمية ديوان في بيروت عام 1943، إلى غير ذلك من شتى الدراسات عن أمية. ويلاحظ أن بعض الباحثين يعدون أمية جاهلياً لأنه قد توفي بعد ظهور الإسلام بقليل ولأن أكثر آثاره الشعرية نظم قبل الإسلام، ولبيد جاهلي مع أنه توفي عام 41 هـ لأنه لم ينظم في الإسلام شيئاً. وبعضهم يجعله من المخضرمين، لأنه توفي بعد الهجرة ورثى من قتل في بدر من المشركين. - 3 - مكانته في الشعر وآراء النقاد فيه 1 - قال أبو عبيدة: اتفقت العرب على أن أشعر أهل المدن أهل يثرب، ثم عبد القيس (سكان البحرين) ، ثم ثقيف والطائف وان أشعر ثقيف أمية. وذكره ابن سلام في شعراء الطائف حين تكلم على شعراء القرى، وقال: وأمية أشعر أهل الطائف. وكان الكميت يقول: أمية أشعر الناس، قال كما قلنا ولم نقل كما قال. وقال الأصمعي كما في الأغاني: ذهب أمية بعامة ذكر الآخرة، وذهب عنترة بعامة ذكر الحروب وذهب عمر بعامة ذكر الشباب، وكان أبو عبيدة والأصمعي يقولان، عدي في الشعراء بمنزلة سهيل في النجوم يعارضها ولا يجري معها وكذلك أمية. وجعله صاحب كتاب شعراء النصرانية من شعراء الطبقة الثانية وذكر ما نصه. وقيل انه من الطبقة الأولى، وهذا مبالغة شديدة منه. - 4 - أسباب شاعريته هناك أسباب كثيرة كونت شاعرية أمية وأثرت فيها.. منها: 1 - عصره وبيئته: فقد كان العصر الجاهلي وكانت البيئة العربية عامة والطائف خاصة من بيئات الشعر والأدب والبلاغة والبيان، وجو الطائف وجمالها وكثرة خيراتها ومزارعها واستقرار الحياة فيها، كل ذلك كان له أثره في شاعرية الشاعر ولا ريب. 2 - وراثته الشعر عن أسرته: فقد كان أمية من أسرة شاعرة، واشتهر أبوه بالشعر، وامتدت تلك المواهب الفنية فتوارثها أبناء أمية، وكان ابنه القاسم شاعراً وينسب إليه وإلى أبيه. قوم إذا نزل الغريب بدارهم ... ردوه رب صواهل وقيان وإذا دعوتهم لكل ملمة ... سدوا شعاع الشمس بالفرسان إلى آخر هذه الأبيات. 3 - ثقافته ورحلاته: فقد ألم أمية بثقافات واسعة واختلط بالحياة والناس والعناصر في رحلاته التجارية إلى اليمن والشام، مما كان له أثره في شعره وشاعريته. 4 - فطرته على حب التدين: فقد دفعه ذلك إلى مخالطة رجال الأديان والتحدث إليهم والتأثر بعظاتهم، مما جعل قلبه رقيق العاطفة والشعور، وهما أساس الأدب والشعر، ومما جعله يلون شعره بهذا الروح الديني القوي الغلاب. 5 - اختلاطه بالحياة الأدبية وبالشعراء في الطائف ومكة وسائر بلاد الجزيرة العربية شاباً ورجلاً وكهلاً، مما جعل الشعر أقرب إلى قلبه وروحه من أي شيء سواه. إلى غير ذلك من بواعث الشعر وأسبابه في نفس أمية. إن شعر أمية جدير بأوفر عناية وأدق درس لأنه وقد ذكر ما ذكر من أنباء الرسل وأمور الآخرة لا يعدو واحدة من اثنتين إما أن يكون قد قيل قبل نزول القرآن أو بعد بدء نزوله وفي أثنائه، فإن كانت الأولى فهو وثيقة فريدة في الدلالة على ما عرف بعض العرب لذلك العهد من تلك الشؤون، وإن كانت الثانية فقد أراد به صاحبه لا محالة معارضة القرآن فانقطع وتخلف ولم يستطع الكفار أن يشغبوا به. وهذه أبيات من شعره تدل على طريقته، والأرجح أن نسبتها إليه صحيحة فإنها من قصيدة استشهد سيبويه ببيت منها وعنى بروايتها شراح كتابه، وقل أن يجوز عليهم غير صحيح. قال أمية يذكر إرسال موسى وهارون إلى فرعون وفي الأبيات روح التأثر بالقرآن: وأنت الذي فضل من سيب ونعمة ... بعثت إلى موسى رسولا مناديا فقال أعني بابن أمي فانتي ... كثير به، يارب صل لي جناحيا

خصائص شعره

وقلت لهارون اذهبا فتظاهرا ... على المرء فرعون الذي كان طاغيا وقولا له هل أنت سويت هذه ... بلا وتد حتى اطمأنت كما هيا وقولا له هل أنت رفعت هذه ... بلا عمد أرفق إذن بك بانيا وقولا له هل أنت سويت وسطها ... منيرا إذا ما جنه الليل ساريا وقولا من أخرج الشمس بكرة ... فأصبح ما مست من الأرض ضاحيا وقولا له من أنبت الحب في الثرى ... فأصبح منه البقل يهتز رابيا فأصبح منه حبه في رؤوسه ... ففي ذاك آيات لمن كان واعيا - 5 - خصائص شعره أولاً، من حيث الأسلوب والألفاظ يعد أمية من أكبر شعراء القرى العربية على قلة الشعر فيهم، غير أن الذي أزرى بشعره في نظر بعض النقاد حتى أسقطوا الاحتجاج به كثرة استعماله للتدخيل من العبرية والسريانية في شعره، كما أنكروا عليه حق التعريب لشدة مخالطته للأعاجم وإن كان عربياً صريحاً، كما أنكروه على عدي لإدخاله الكثير من ألفاظ الفرس في شعره. قال ابن قتيبة: "واني بألفاظ كثيرة لا تعرفها العرب وكان يأخذها من الكتب، منها قوله: وخان أمانة الديك الغراب. ومنها قوله: قمر وساهور يسيل ويغمد". وزعم أهل الكتاب أن الساهور غلاف القمر يدخل فيه إذا انكسف. وعلماؤنا لا يرون شعره حجة.. وكان أمية يسمي الله في بعض أشعاره "السلطيط" وفي بعضها "التغرور"، وربما اقتبسهما من الحبشية أو صاغهما على صيغ تلك اللغة، فالأحباش يسمون الله في اللغة الأمحرية "أغزابهم" فلعلها كانت قبلا أقرب إلى "التغرور". ومهما كان فإن في أساليب أمية بل وفي معانيه أشياء لم تكن العرب تعرفها، ولاشك أنه قرأها في بعض الكتب فأدخلها في شعره، وكان أمية يسمي السماء صاقورة وحاقورة. وكان قلق اللفظ سخيف النسج نابي القافية. كل هذا إنما كان في شعر أمية الديني. أما شعره الغير الديني فأرى عليه طلاقة الأسلوب وسهولة اللفظ وعذوبة العبارة وحلاوتها ورقتها وطلاوة البيان. كما في مدائحه لابن جدعان وقصيدته في ابنه وسواهما. ثانياً، من حيث المعاني والأخيلة انصرفت قريحة أمية إلى المعاني الدينية فاشتهر بها أمره، واصطبغ بها شعره، فوصف الله عز وجل وذكر الحشر والحساب والجنة والنار والملائكة كما ذكر خلق الأرض والسموات. قال ابن سلام: "وكان أمية كثير العجائب في شعره، يذكر فيه خلق السموات والأرض، ويذكر الملائكة، ويذكر من ذلك ما لم يذكره أحد من الشعراء. ونظم حوادث التوراة كخراب سدوهم وقصة إسحاق وإبراهيم، وأدخل في الشعر معاني لم يألفها الشعراء، ولم يعرفها العرب، فكان مذهب أمية في شعره غير معهود في عصره، وكان سبباً في أن ينحله العلماء ما جاء على شاكلة تلك المعاني من الشعر ولم يعرفوا قائله، مما كان له أثره في عدم عناية الأدباء والرواة والنقاد بشعره، وإهمالهم له. ويقول الحجاج: "ذهب قوم يعرفون شعر أمية وكذلك اندراس الكلام". وذكر كثيراً من العجائب والقصص الخيالية والأساطير الخرافية وخلق العالم وفنائه وأحوال الآخرة وصفات الخالق والخشوع له. مما يتخلله شيء من الحكم والأمثال. ولا شك أن شعر أمية الذي لم يصطبغ بصبغته الدينية يخلو من هذه السمات ويسير الشاعر فيه على نهج الشعراء الجاهليين، من صدق المعنى وبساطته وسذاجته، مع تلون الثقافة فيه إلى حد ما، لثقافة أمية الواسعة. ومع البعد عن الخيال الكاذب والمبالغة المفرطة فيه. ويأخذ في شعره الكوني والديني من أساليب ومعاني وروح القرآن الكريم كما في قوله من قصيدة: عند ذي العرش يعرضون عليه ... يعلم الجهل والكلام الخفيا يوم نأتيه وهو رب رحيم ... إنه كان وعده مأتيا يوم نأتيه مثل ما قال فردا ... لم يذر فيه راشدا وغويا أسعيد سعادة أنا أرجو ... أم مهان بما كسبت شقيا رب كلا حتمته وارد النا ... ر كتابا حتمته مقضيا إذ لا يتأتى أن يحمل ذلك على المصادفة والاتفاق، ولا على أنه أخذه مما قرأ من الكتب. ولا شك أن ثقافة أمية الواسعة جعلته يستمد معانيه وأفكاره وأخيلته من كثير من الثقافات والمصادر. ثالثاً، من حيث أغراض الشعر وفنونه ويمكننا أن نقسم شعر أمية إلى قسمين: (أ) شعره في غير الدين

(ب) شعره الديني

وقد نحا أمية فيه منحى الشعراء في الأغراض والمعاني والأسلوب: 1 - فنظمه في المديح، كما في مدائحه السابقة لابن جدعان التي يظهر عليها روح الشاعرية ومواهبها العالية القوية الأخاذة المندفقة. 2 - ونظمه في الرثاء، ومن ذلك قصائد له كثيرة، منها قوله يرثي زمعة بن الأسود وأخاه عقيلا من بني أسد: عين بكى بالمسبلات أبا الحا ... رث لا تذخري على زمعة وعقيل بن أسود أسد البأ ... س ليوم الهياج والدقعة فعلى مثل هلكهم حوت الجو ... زاء لا خانة ولا خدعة وهم الأسرة الوسيطة من كع ... ب وفيهم كذروة القمعة أنبتوا من معار سعر الرأ ... س وهم ألحقوهم المنعة فبنو عمهم إذا حضر البأ ... س عليهم أكبادهم وجعة وهم المطعمون إذا أقحط القط ... ر، وحالت فلا ترى قزعة وقال يرثي قتلى بدر وفيهم عتبة وشيبة ابنا خاله: ألا بكيت على الكرا ... م بني الكرام أولى الممادح كبكا الحمام على فرو ... ع الأيك في الغصن الجوانح يبكين حرى مستكي ... نات يرحن مع الروائح مثالهن الباكيا ... ت المعولات من النوائح من يبكهم يبكي على ... حزن ويصدق كل مادح أولا ترون لما أرى ... ولقد أبان لكل لامح أن قد تغير بطن مك ... ة فهي موحشة الأباطح من كل بطريق لبط ... ريق نفى اللون واضح ومن السراطمة الخلا ... جمة الملاوثة المناجح القائلين الفاعل ... ين الآمرين بكل صالح المطعمين الشحم فو ... ق الخبز شحما كالأنافح لكرامهم فوق الكرا ... م مزية وزن الرواجح كتثاقل الأرطال بال ... قسطاس في الأيدي النوافح خذلتهم فئة وهم ... يحمون عورات الفضائح ولقد عناني صوتهم ... من بين مستسق وصائح لله در بني علي ... أيم منهم وناكح إن لم تغيروا غارة ... شعواء تجحر كل نابح بالمقربات المبعدا ... ت الطامحات مع الطوامح 2 - الفخر: كانت مادة الفخر أمام أمية كثيرة لمجد بيت أبيه من ثقيف وبيت أمه من عبد شمس، وكان قوله فيه فائقا بالغا وإن كان مقلا، ولعل إقلاله في هذا الباب ناشئ كما يقول السباعي بيومي من ميله إلى الناحية الدينية التي تزهد الإنسان في مفاخر هذه الحياة، ولذا يغلب أن تكون مجمهرته في الفخر قد قيلت قبل أن يتوغل في الورع والتدين، وهي حافلة بماله ولقومه من مكانة وعلاء. وقد جاءت متفقة مع معلقة ابن كلثوم وزناً ورويا ومتحدة معها في كثير من المعاني والأساليب لما فيه طبع أمية من ميل إلى السهل النازع إليه عمرو دون غيره من رجال المعلقات، ومنها: فإما تسألي عني لبيني ... وعن نسبي أخبرك اليقينا ثقي أني النبيه أبا وأما ... وأجداد سموا في الأقدمينا ورثنا المجد عن كبرى نزار ... فأورثنا مآثرنا البنينا وأرصدنا لريب الدهر جردا ... تكون متونها حصنا حصينا وسيأتي تحليل لها. 4 - ونظم الشعر في الوصف المعنوي لا الحسي، كما في قصيدته في عقوق ابنه، وهو بذلك يخالف جميع شعراء الجاهلية الذين عنوا بمظاهر الصحراء الحسية ووصفها، أما الوصف الحسي فليس له وجود في شعر أمية الذي نظمه في غير الكونيات وشؤون الدين ولكنه كثير جداً في شعره الديني وإن كان هذا الوصف الحسي لا يتناول الصحراء ومشاهدها وإنما يتناول الكون والسماء والأرض ووصف الحياة نفسها. (ب) شعره الديني وهو كثير ويغلب على شعر أمية وقد نظمه في أغراض كثيرة منها: 1 - القصص كما في وصفه لسفينة نوح وأسطورة تطويق الحمامة التي دلت أصحاب السفينة على الأرض اليابسة فأعطوها هذا الطوق وكما في قصيدته في ذكر إبراهيم ونذره ولده لله وما كان من حديث الذبح وكما في ذكره لقصة مريم وذكره لخراب سدوم وهي مدينة لوط وما وقع له مع قومه. وكما في قصيدته في غارة الأحباش على الكعبة وإشارته إلى قصة الفيل، وكما في كلامه عن قنزعة الهدهد وخرافة الديك والغراب وصداقتهما القديمة وقصة ثمود ورسالة موسى وهرون، إلى غير ذلك من قصصه وأساطيره.

نماذج من شعر أمية

2 - شعره في الكونيات وهو كثير كوصفه للكون وخلقه، وللجنة والنار والملائكة، وسوى ذلك من نواحي هذا الفن. 3 - شعره في توحيد الله وهو كثير جداً في شعره. ويظهر في شعر أمية الديني الضعف الفني، لصعوبة الكلام في أمور الدين ولأنه كان يعارض القرآن في بعض معانيه فعجز وضعف وخذي. - 6 - نماذج من شعر أمية 1 - قال في سفينة نوح وخرافة تطويق الحمامة إذ دلت من فيها على اليابسة: وأرسلت الحمامة بعد سبع ... نزل على المهالك لا تهاب فجاءت بعدما ركضت بقطف ... عليه الثأط والطين الكثاب فلما فتشوا الآيات صاغوا ... لها طوقا كما عقد السخاب إذا ماتت تورثه بنيها ... وإن تقتل فليس له استلاب جزى الله الأجل المرء نوحا ... جزاء البر ليس له كذاب بما حملت سفينته وأنجت ... غداة أتاهم الموت الغلاب وفيها من أرومته عيال ... لديه لا الظماء ولا السغاب 2 - وقال في نذر إبراهيم ولده وإرسال الله بالفداء حين هم بالذبح واستسلم الذبيح: ولإبراهيم الموفى بالنذر ... احتسابا وحامل الأجزال بكره لم يكن ليصبر عنه ... أو يراه في معشر أقتال ابني إني نذرتك لله ... شحيطا فاصبر فدى لك خالي فأجاب الغلام أن قال فيه ... كل شيء لله غير انتحال أبتي إنني جزيتك بالله ... تقيا به على كل حال فاقض ما قد نذرته لك واكفف ... عن دمي أن يمسه سربالي واشدد الصفد أن أحيد عن ال ... سكين حيد الأسير ذي الاغلال بينما يخلع السرابيل عنه ... فكه ربه بكبش جلال قال خذه وأرسل ابنك إني ... للذي فعلتم غير قالي ربما تجرع النفوس من الأم ... ر له فرجة كحل العقال 3 - وقال في خراب سدوم مدينة قوم لوط: ثم لوط أخو سدوم أتاها ... إذ أتاها برشدها وهداها راودوه عن ضيفه ثم قالوا ... قد نهيناك أن تقيم قراها عرض الشيخ عن ذاك بنات ... كظاء بأجرع مرعاها غضب القوم عند ذاك وقالوا: ... أيها الشيخ خطبة تأباها أجمع القوم أمرهم وعجوز ... خيب الله سعيها ورجاها أرسل الله عند ذاك عذابا ... جعل الأرض سفلها أعلاها ورماها بحاصب ثم طين ... ذي حروف مسمم إذ رماها ويروى مسوم أي معلم. 4 - وقال في قصة مريم: وفي دينكم من رب مريم آية ... منبئة بالعبد عيسى بن مريم تدل عليها بعدما نام أهلها ... رسول فلم يحصر ولم يترمرم فقال ألا لا تجزعي وتكذبي ... ملائكة من رب عاد وجرهم أنيبي وأعطي ما سئلت فإنني ... رسول من الرحمن يأتيك بابنم فقالت له أنى يكون ولم أكن ... بغيا ولا حبلى ولا ذاب قيم فسبح ثم اغترها فالتقت به ... غلاما سوى الخلق ليس بتوأم فقال لها إني من الله آية ... وعلمني والله خير معلم وأرسلت لم أرسل غويا ولم أكن ... شقيا ولم أبعث بفحش ومأثم 5 - وقال في حادثة الفيل وأن الدين الحق هو حنيفية إبراهيم بعد ذكر شيء من آيات الله: إن آيات ربنا باقيات ... ما يمارى فيهن إلا الكفور خلق الليل والنهار فكل ... مستبين حسابه مقدور ثم يجلو النهار رب كريم ... بمهاة شعاعها منشور حبس الفيل بالمغمس حتى ... ظل يحبو كأنه معقور لازما حلقة الجران كما قطر ... رمن صخر كبكب محدور حوله من ملوك كندة أبطا ... ل ملاويث في الحروب صقور خلفوه ثم انذعروا جميعا ... كلهم عظم ساقه مكسور كل دين يوم القيامة عن ... د الله إلا دين الحنيفة زور 6 - وقال في إرسال الله إلى فرعون موسى وهارون: وأنت الذي من فضل من ورحمة ... بعثت إلى موسى رسولا مناديا فقلت له فاذهب وهارون فادعوا ... إلى الله فرعون الذي كان طاغيا وقولا له هل أنت سويت هذه ... بلا وتد حتى اطمأنت كما هي وقولا له هل أنت رفعت هذه ... بلا عمد؟ أرفق إذن بك بانيا وقولا له هل أنت سويت وسطها ... منيراً إذا ماجنه الليل هاديا؟

بعض المنحول من شعره

وقولا له من يرسل الشمس غدوة ... فيصبح ما مست من الأرض ضاحيا وقولا له من ينبت الحب في الثرى ... فيصبح منه البقل يهتز رابيا؟ وقد مضت برواية أخرى. 7 - وقال في قنزعة الهدهد وأنها مكان حمله أمه في قفاه: غيم وظلماء وغيث سحابة ... أيام كفن واستراد الهدهد يبغي الفرار بأمه ليجنها ... فبنى عليها في قفاه بمهد مهدا وطبا فاستقل بحمله ... في الطير يحملها ولا يتأود فتراه يدلج ماشيا بجنازة ... منها وما اختلف الجديد المسند إلى غير ذلك من قصصه وأساطيره. 8 - وقال في التوحيد: الحمد لله ممسانا ومصبحنا ... بالخير صبحنا ربى ومسانا رب الحنيفة لم تنفد خزائنه ... مملوءة، طبق الآفاق سلطانا ألا نبي لنا منا فيخبرنا ... ما بعد غايتنا من رأس محيانا؟ بينا يرببنا آباؤنا هلكوا ... وبينا نقتني الأولاد أفنانا وقد علمنا لو أن العلم ينفعنا ... أن سوف يلحق أخرانا بأولانا 9 - وقال في خلق الكون وفناء الخلق وعاقبة الناس مجرمين ومتقين: إله العالمين وكل أرض ... ورب الراسيات مني الجبال بناها وابنتي سبعا شدادا ... بلا عمد يرين ولا حبال وسواها وزينها بنور ... من الشمس المضيئة والهلال ومن شهب تلألأ في دجاها ... مراميها أشد من النضال وشق الأرض فانبجست عيونا ... وأنهارا من العذب الزلال وبارك في نواحيها وزكي ... بها ما كان من حرث ومال فكل معمر لابد يوما ... وذي دنيا يصبر إلى زوال ويفنى بعد جدته ويبلى ... سوى الباقي المقدس ذي الجلال وسبق المجرمون وهم عراة ... إلى ذات المقامع والنكال فنادوا ويلنا ويلا طويلا ... وعجوا في سلاسلها الطوال فليسوا ميتين فيستريحوا ... وكلهم بحر النار صالي وحل المتقون بدار صدق ... وعيش ناعم تحت الظلال لهم ما يشتهون وما تمنوا ... من الأفراح فيها والكمال - 7 - بعض المنحول من شعره هذا وقد نخل لأمية شعر كثير، وينفي الأصمعي عنه القصيدة المنسوبة إليه التي منها: من لم يمت غبطة يمت هرما ... الموت كأس فالمرء ذائقها وينسبها لرجل من الخوارج، ونقد قوله "الموت كأس". وينسب هذه القصيدة لأمية: الزبير بن بكار عن شيوخه وعن الحسن البصري أيضاً. - 8 - كلمة أخيرة: وبعد، فهذا هو تحليلنا لشعر أمية، ومنه يبدو أنه عبقري في بابه، ونسيج وحده في أغراضه الدينية والكونية على الرغم مما فيها من ضعف في الأسلوب والتركيب لغرابة المعاني التي نظمها. أما أمية في شعره البعيد عن الدين فيكاد يكون قريباً من زهير، وشبيهاً بالحطيئة وسواه من الشعراء المجيدين. - 9 - مجمهرة أمية وتحليلها: 1 - وهي قصيدة غير طويلة نظمها أمية في الفخر بقومه وأحسابهم. وتشبه في شاعريتها وموضوعها وروحها ووزنها وقافيتها وخيالها وكثير من معانيها وأساليبها قصيدة عمرو بن كلثوم أو معلقته: ألا هبي بصحنك فاصبحينا ... ولا تبقى خمور الأندرينا 2 - ومطلع المجمهرة: عرفت الدار قد أقوت سنينا ... لزينب إذ تحل بها قطينا 3 - وبعد أبيات في الغزل وذكر الطلول يقول مفتخراً: فإما تسألي عن لبينى ... وعن نسبي أخبرك اليقينا ثقي أني النبيه أبا وأما ... وأجدادا سموا في الأقدمينا ورثنا المجد عن كبرى نزار ... فأور لنا مآثرنا البنينا وكنا حيثما علمت معد ... أقمنا حيث ساروا هاربينا وتخبرك القبائل من معد ... إذا عدوا سعاية أولينا بأنا النازلون بكل ثغر ... وأنا الضاربون إذا لقينا وإنا المانعون إذ أردنا ... وإنا المقبلون إذا دعينا وإنا الرافعون على معد ... أكفا في المكارم ما بقينا نشرد بالمخافة من أتانا ... ويعطينا المقاده من يلينا

آراء المستشرقين في أمية

4 - والقصيدة خلو من الروح الديني وقد يكون نظمها في بدء حياته الشعرية وقبل أن يقف نفسه وحياته وشعره على شؤون الدين وذلك يوضح لنا أسباب احتذائه لعمرو بن كلثوم، فالشاعر في أول حياته في الشعر كثيراً ما يقلد النابغين من الشعراء ويحتذيهم، وبين القصيدتين موازنة أدبية طويلة في كتابي موقف النقاد من الشعر الجاهلي. وأصحاب المجمهرات هم عبيد وعنترة وأمية وعدي وبشر بن أبي خازم وخداش بن زهير والنمر بن تولب. بعض ما أخذ عليه: 1 - أخذ عليه قوله: والشمس تطلع كل آخر ليلة ... حمراء مطلع لونها متورد تأبى فلا تبدو لنا في رسلها ... إلا معذبة وإلا تجلد فما شأن الشمس تجلد. 2 - وأخذ عليه قوله: له ما رأت عين البصير وفوقه ... سماء الإله فوق سبع سمائيا فقد خرج عن الاستعمال الفصيح لجمعه سماء على فعائل والقياس جمعها على فول ولأنه أقر الهمزة العارضة في الجمع، مع أن اللام معتلة، وهذا غير معروف، ألا ترى أنهم يقولون خطيئة وخطايا لا خطائي، ولأنه أجرى ياء "سمائي" مجرى الباء في ضوارب ففتحها في موضع الجر، والمعروف أن تقول هؤلاء جوار ومررت بجوار فتحذف الياء والنون، وهذه الأوجه ذكرها صاحب الخزانة. دين أمية: لم يكن أمية وثنياً، وجعله البعض نصرانياً ومنهم المسعودي، وروى صاحب الإصابة أنه مات مسلماً ونسبوا إليه شعراً في مدح الرسول، والذي يراه أنه كان متحنفاً، ويقول: كل دين يوم القيامة عند ... الله إلا دين الحنفية زور مصادر ثقافته الدينية: 1 - حنيفية وما كانت تمده به من آراء في الحياة والإله والكون. 2 - كتب أهل الكتب الدينية التي اطلع عليها أمية كما يبدو ذلك بوضوح شعره، ومنها التوراة والإنجيل. 3 - الأساطير والقصص والذي كان ذائعاً في العصر الجاهلي، وما تلقفه من أفواه الأحبار والكهان، وما سمه من أساطير فارسياً. 4 - آراؤه الخاصة في الدين والوجود. 5 - القرآن الكريم، وهو أهم مصادر ثقافته الدينية. آراء المستشرقين في أمية وقد أعمى التعصب الديني بعض المستشرقين (أ) فذهب المستشرق الفرنسي كليمان هيوار (1854 - 1927) إلى أن شعر أمية كان من مصادر القرآن، وأن الرسول ألف القرآن متأثراً فيما تأثر به بثقافات أمية الدينية في شعره، وهو رأي باعثه التعصب الممقوت. (ب) وذهب المستشرق الألماني (شولتهيس) إلى أن الأمية منهجاً مستقلاً، ومن ثم أخذ يوازن بين القرآن وشعر أمية وذهب في خطأ جسيم إلى أن أمية كان أدق في كثير من الأحيان في النقل عن الكتب القديمة وأنه كان أعلم وأبعد مدى في الثقافة من محمد وأن المصدر الذي نقل عنه كل منهما واحد، وينكر رأي هيوار في أي شعر أمية كان من مصادر القرآن، ويرى أن القرآن كتاب محمد. وجاء في دائرة المعارف الإسلامية: أن القصائد والمقطوعات التي وصلت إلينا منسوبة إلى أمية، يمكن قسمتها بحسب موضوعها قسمين كبيرين، أصغرهما يتكون من قصائد وأبيات قيلت في مدح أشخاص وبخاصة في مدح رجل من أغنياء مكة هو عبد الله بن جدعان، وهي لا تختلف في جوهرها عن نظائرها عند غيره من شعراء العرب القدماء، أما القسم الأكبر الذي يبدأ بالقصيدة الثالثة والعشرين، فبدل دلالة كاملة على النزعة التي يمكن تسميتها بالحنيفية، وأساسها القول بإله واحد هو رب العباد، ونرى فيها صوراً شبيهة بالوحي عن مقام الله وملائكته، وحكايات عن الخلق وآراء تتعلق بيوم القيامة والجنة والنار، وفيها دعوة إلى عمل الخير، وإشارات إلى عبر أخذ بعضها من أخبار العرب من عاد وثمود، وبعضها من قصص التوراة عن الطوفان وإبراهيم ولوط وفرعون. وابن أبي الصلت مولع إلى جانب هذا بقص الحكايات على ألسنة الحيوان. ونلاحظ في شعره أيضاً ذكراً للأعمال السحرية.. ومن قصته عن إبراهيم: ولإبراهيم الموفى بالنذر ... احتسابا وحامل الأجزال يكره لم يكن ليصبر عنه ... أو يراه في معشر أقتال ومن يقرأ هذه القصة وما شابهها في القرآن الكريم يعلم صحة ما نقول من أن أمية في هذا الباب متكلف متصنع، محاك لم يحكم المحاكاة، بل إنه نظام وليس بشاعر، وهذا لا يخليه من بعض أبيات كان له فيها بعض الإجادة في هذا الباب.

الشنفرى الأزدي

وقال ابن سلام فيه: وكان أمية كثير العجائب، يذكر في شعره خلق السموات والأرض ويذكر الملائكة، ويذكر من ذلك ما لم يذكره أحد من الشعراء. وقال أبو عبيدة: "اتفقت العرب على أن أشعر أهل المدن أهل يثرب، ثم عبد القيس، ثم ثقيف، وأن أشعر ثقيف أمية بن أبي الصلت". وقال الكميت: "أمية أشعر الناس، كما قلنا ولم نقل كما قال". وقال الأصمعي: "ذهب أمية بعامة ذكر الآخرة وذهب عنترة بعامة ذكر الحرب، وذهب عمر بن أبي ربيعة بعامة ذكر الشباب". ونقول: تلك آراء العلماء في شعر أمية، ولكن ما بين أيدينا من شعره لا ينزله هذه المنزلة، فلعل كثيراً من شعره الجيد قد ذهب مع الزمان. وقال أبو الفرج في أغانيه: "كان أمية بن أبي الصلت في نظر في الكتب وقرأها، ولبس المسوح تعبدا، وكان ممن ذكر إبراهيم وإسماعيل والحنفية وحرم الخمر، وشك في الأوثان، وكان محققا. والتمس الدين، وطمع في النبوة، لأنه قرأ في الكتب أن نبيا يبعث من العرب فكان يرجو أن يكون هو، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: هذا الذي كنت تستريث وتقول فيه فحسده عدو الله وقال إنما كنت أرجو أن أكونه فأنزل الله عز وجل "واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها". وهو الذي يقول: كل دين يوم القيامة عند الل ... هـ إلا دين الحنيفة زور فأنت ترى من هذا أنه كان متألهاً يعبد الله على دين إبراهيم، ويتوقع أن يكون هو صاحب الرسالة الذي بشرت به الكتب التي عكف عليها بالدرس. فلما لم يكن ما خط في سجل القدر موافقا لما وقر في نفسه، غلب جهله على حلمه، وسيطر حسده على فكره، فلم يؤمن بالنبي عليه السلام، ولم ينهل من حياض شريعته. قال ابن عتيبة في طبقات الشعراء: "وكان أمية يخبر أن نبيا يخرج قد أظل زمانه، وكان يؤمل أن يكون ذلك النبي، فلما بلغه خروج النبي صلى الله عليه وسلم كفر به جسدا". ولما بلغه خبر وقعة بدر والذين قتلوا بها من ذوي قرابته قال قصيدته التي يرثي فيها من قتل من قريش ويحرضهم على أخذ الثأر: ألا بكيت على الكرا ... م بني الكرام أولى الممادح كبكا الحمام على فرو ... ع الأيك في الغصن الجوانح ثم أخذ يفيض في وصف قتلى بدر حتى لم يدع مكرمة إلا ألصقها بهم إلى أن قال: خذلتهم فئة وهم ... يحمون عورات الفضائح الضاربين التقدمية ... بالمهندة الصفائح قال ابن هشام بعد رواية هذه القصيدة: "تركنا منها بيتين نال فيهما من أصحاب الرسول". وجاء في دائرة المعارف الإسلامية: "والأخبار مختلفة في موقفه بالنسبة للنبي وللإسلام، ولعل الأرجدح أنه لم يلق النبي وأبى أن يصدق بدعوته، يؤيد هذا ما يتجلى في قصيدته المذكورة من عطف على قريش.. وأياً ما كان من شأن هذه الروايات فقد اتفقت جميعاً على أنه مات كافراً ولم يؤمن بالنبي عليه السلام، روى صاحب الأغاني بسنده قال: "لما أنشد النبي صلى الله عليه وسلم قول أمية: الحمد لله ممسانا ومصبحنا ... بالخير صبحنا ربى ومسانا رب الحنيفة لم تنفد خزائنه ... مملوءة بطبق الآفاق سلطانا ألاني لنا منا فيخبرنا ... ما بعد غايتنا من رأس مجرانا إلى أن قال: يا رب لا تجعلني كافر أبدا ... واجعل سريرة قلبي الدهر إيمانا واخلط به بنيتي واخلط به بشري ... واللحم والدم ما عمرت إنسانا فقال صلى الله عليه وسلم "آمن شعره وكفر قلبه". ولولا ما نعرف من غلبة الكذب على كثير من الشعراء لقلنا إن هذه الأبيات منحولة على أمية كما نحل الكثير غيرها ولكنا قد تعودنا من الشعراء غير ذلك، فلا بعد في أن تكون من شعره. ولقائل أن يقول إن هذه القصيدة قيلت قبل مبعث النبي عليه السلام، وقد اتفق الرواة كما قدمنا على أنه كان موحدا حنيفياً، فلم نشك في نسبتها إليه؟. الشنفرى الأزدي من شعراء العرب وفتاكهم، ومن أشهر العدائين فيهم هو والسليك وعمرو بن براق وتأبط شراً.

لقيط بن يعمر

ويروى أنه حلف مرة ليقتلن من بني سلامان مائة رجل فقتل منهم تسعة وتسعين، فاحتالوا عليه فأمسكوه وكان الذي أمسكه أسير بن جابر أحد العدائين المشهورين، رصده حتى نزل في مضيق ليشرب الماء فوقف له فأمسكه ليلاثم قتله، فمر رجل منهم بجمجمته فضربها برجله، فدخلت شظية من الجمجمة في عينيه فمات منها، فتمت القتلى مئة. ومن أحسن شعره قصيدته "لامية العرب": أقيموا بني أمي صدور مطيعكم ... فإني إلى قوم سواكم لأميل وعليها شروح كثيرة، وقد طبعها العلامة سلوستر دي ساسي في كتابه "الأنيس المفيد" ترجمت للفرنسية بقلم العلامة فرستال، كما ترجمت إلى اللغة النمساوية مراراً. نماذج من شعر الشنفرى: - 1 - أقيموا بن أمي صدور مطيكم ... فإني إلى قوم سواكم لأميل فقد حمت الحاجات والليل مقمر ... وشد لطيات مطايا وأرحل وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى ... وفيها لمن خاف القلى متعزل ولي دونكم أهلون: سيد عملس ... وأرقط ذهلول وعرفاء حيأل هم الأهل لا مستودع السر ذائع ... لديهم ولا الجاني بما جر يخذل وكل أبي باسل غير أنني ... إذا عارضت أولى الطرائد أبسل وإن مدة الأيدي إلى الزاد لم أكن ... بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل وما ذاك إلا بسطة عن تفضل ... عليهم وكان الأفضل المتفضل وأني كفاني فقد من ليس جازيا ... بحسنى ولا في قربه متعلل ثلاثة أصحاب: فؤاد مشيع ... وأبيض إصليت وصفراء عيطل هتوف من الملمس المتون يزينها ... رصائع قد نيطت إليها ومحمل إذا زل عنها السهم حنت كأنها ... مرزأة عجلى ترن وتعول ويصف الشنفرى الذئاب الجائعة في لاميته فيقول: وأعدو على القوت الزهيد كما غدا ... أزل تهاداه النتائف أطحل غدا طاويا يعارض الريح هافيا ... نجوت بأذناب الشعاب وبعسل فلما لواه القوت من حبت أمه ... دعا فأجابته نظائر نحل مهللة شيب الوجوه كأنها ... قداح بكفي ياسر تنقلقل أو الخشرم المبعوب حثحث دبره ... محابيض أرادهن سام معسل مهرته فوه كأن شدوقها ... شقوق العصى كالحالات وبسل فضج وضجت بالبراج كأنها ... وإياه نوح فوق علياء ثكل وأغضى وأغضت وأقسى وأقست به ... مراميل عزاها وعزته مرمل شكا وشكت ثم ارعوى بعد وارعوت ... وللصبر إن لم ينفع الشكو أجمل لقيط بن يعمر هو شاعر جاهلي قديم مقل، ذكر ابن الشجري أنه كان كاتباً في ديوان كسرى، ولم يكن بيد الناس من شعره في زمن صاحب الأغاني إلا قصيدة كتب بها إلى قومه يحذرهم ما اعتزمه كسرى من غزوهم وقتالهم، وقطع أخرى لطاف متفرقة، فإذا صحب رواية ابن الشجري - وفي ما قاله أبو الفرج ما يقويها وإن لم يصرح وكان لقيط قد خدم الأكاسرة وكتب لهم - فهو أقدم من بلغنا خبره ممن أتقن الفارسية من العرب وأجدرهم بأن يتأثر بها شعره. وليس من المستطاع اليوم وقد ضاع شعر لقيط تعيين ما كان لعلمه بالفارسية واتصاله بخدمة الملوك من أثر فيه، ولكن القصيدة التي بقيت له وانتهت إلينا تتميز من شعر ذلك العهد بأنها نسق واحد لا خلة فيه ولا وثبة، وأنها لا تبدأ معنى حتى تتمه وتستوفيه، ولا تنتقل عنه إلى آخر حتى يكون هو الذي أدى إليه واقتضاه. ولعل خير ما يدل على مذهب الشاعر ويكشف عن طريقته إثبات أبيات منها تجمع إلى وضوح الدلالة كثيراً من الفائدة. قال لقيط يحذر قومه عاقبة أمرهم إذا قهرهم الفرس، ويذكرهم بما يحل بهم إذا دارت عليهم الدائرة وغلبهم الأجنبي على سلطانهم، ويوصيهم باجتماع الكلمة والتشمير للحرب وتقليد زمامهم من توفرت فيه خلالها وتمت له أداتها: هيهات لا مال من زرع ولا إبل ... يرجى لغابركم إن أنفسكم جدعا لا تلهكم إبل ليست لكم إبلا ... إن العدو بعظم منكم قرعا لا تثمروا المال للأعداء إنهم ... إن يظفروا يحتووكم والتلاد معا يا قوم إن لكم من إرث أولكم ... إن ضاع آخره أو ذل واتضعا ماذا يرد عليكم عن أولكم ... مجداً قد أشفقت أن يفنى وينقطعا فلا تغرنكم دنيا ولا طمع ... أن تنعشوا بزماع ذلك الطمعا

أبو دؤاد الأيادي

يا قوم لا تأمنوا إن كنتم غيرا ... على نسائكم كسرى وما جمعا يا قوم بيضتكم لا تفجعن بها ... إني أخاف عليها الأزلم الجذعا هو العناء الذي تبقى مذلته ... إن طار طائركم يوما وإن وقعا هو القتاد الذي يجتث أصلكم ... فمن رأى مثل ذا رأيا ومن سمعا قوموا قياما على أمشاط أرجلكم ... ثم افزعوا، قد ينال الأمن من فزعا وقلدوا أمركم لله دركم ... رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا لا مترفا إن رخاء العيش ساعده ... ولا إذا عض مكروه به خشعا لا يطعم النوم إلا ريث يبعثه ... هم تكاد حشاه تحطم الضلعا مسهد النوم تعنيه أموركم ... تروم منها إلى الأعداء مطلعا ما انفك يحلب در الدهر أشطره ... يكون متبعا طوراً ومتبعا وليس بشغله مال يثمره ... عنكم ولا ولد يبغي له الرفعا قد استمر على شرر مريرنه ... مستحكم السن لا قحما ولا ضرعا أبو دؤاد الأيادي شاعر قديم كان على خيل المنذر بن النعمان من ملوك الحيرة، أكثر من وصف الخيل في شعره، وأجاد وبرع حتى قال أبو عبيدة أنه أوصف الناس للفرس في الجاهلية والإسلام، وقال ابن الأعرابي: لم يصف أحد قط الخيل إلا احتاج إلى أبي دؤاد وقدمه: الخطيئة وأبو الأسود الدؤلي على جميع الشعراء ومع ذلك كانت الرواة - على ما قال الأصمعي - لا تروي شعره ولا شعر عدي بن زيد، لمخالفتهما مذهب الشعراء. عدي بن زيد 480 - 587 م بيت عدي هو عدي بن زيد بن حماد، ينتهي نسبه إلى مضر، وكان من بيت مشهور بالكتابة والأدب. هاجر أجداده من اليمامة إلى الحيرة، ونزلوا على أبناء خؤولتهم فيها، ثم استقروا بها واتصلوا بملوك الحيرة ونالوا جوائزهم. وتعلم جده حماد الكتابة ونبغ فيها وكان أول من تعلمها من أسرته، وصار كاتب النعمان الأكبر. ونشأ والده زيد في رعاية أمه الطائية وأبيه حماد ولما توفي حماد كفله صديق له من كبار تجار الفرس وقوادهم.. فتعلم زيد العربية، وأجاد الكتابة وحذق الفارسية وتولى وظيفة في دولة كسرى حيث كان يحمله على البريد في حوائجه وصار من المقربين في دولته كما كان أثيراً لدى المنذر بن ماء السماء الذي ولي عرش الحيرة بعد موت النعمان (505-554 م) . مولده ونشأته وولد عدي ونشأ في هذا المجد والجاه وفي ظلال والده ونفوذه، وتعلم العربية والكتابة بها في الكتاب بالحيرة كما تعلم الفارسية والكتابة بها في ديوان كسرى حتى خرج من أفهم الناس وأفصحهم بالعربية ونظم الشعر وتعلم الفروسية ووصف لكسرى بأنه أفصح الناس وأكتبهم بالعربية والفارسية مع الجمال الفائق والذكاء العجيب والبديهة الحاضرة، فأثبته كسرى في ديوانه وكان أول من كتب بالعربية فيه. بيئته في هذه البيئة العامة، وفي الحيرة عاصمة إمارة المناذرة ولد ونشأ عدي. وكانت الحيرة إمارة عربية على حدود الجزيرة العربية ومملكة كسرى، وكان أمراؤها خاضعين للنفوذ الفارسي. وكانت الحيرة كذلك ملتقى للثقافة الفارسية والعربية ومنتدى واسعاً للأدب والشعر، يظللها ألوان من الحضارة والتقاليد الفارسية وكانت النصرانية سائدة فيها كما كان أئمة الشعراء يفدون إليها لينعموا بجوائز المناذرة وصلاتهم السنية وكان ممن قصد إليها النابغة والأعشى وعلقمة وحسان وسواهم. كما كان تنقل عدي بين البلاد الفارسية سبباً في تنوع ثقافته، وسعة معارفه، وتعدد مشاهده، وكثرة تجاربه، وتباين البيئات التي عاش فيها. حياته انتقل عدي من الحيرة إلى المدائن حيث كان يعمل كما ذكرنا في ديوان كسرى، يؤذن له عليه في الخاصة، وهو معجب به، قريب منه، كما أصبح له نفوذه عند أمراء الحيرة، فعلا له بذاك صيت عظيم، وذكر كريم. وكانت إقامته الغالبة في المدائن عاصمة كسرى فإذا أراد المقام بالحيرة في منزله مع أهله استأذن كسرى فأقام فيهم الشهر والشهرين وكثيراً ما كان ينزل البادية قريباً من الحيرة.

شخصيته وأخلاقه

وأرسله كسرى رسولاً له إلى إمبراطور الدولة الرومانية الشرقية بالقسطنطينية وأكرمه القيصر وطاف به في أرجاء مملكته الواسعة، وكان من البلاد التي زارها في هذه الرحلة دمشق ويؤثر له فيها قصيدة قالها وكانت فيما يروى أول شعر نظمه. ومن هذه القصيدة: رب دار بأسفل الجزع من دو ... مة أشهى إلى من جيرون وندامى لا يفرحون بما نا ... لوا ولا يرهبون صرف المنون وقدم عدي المدائن على كسرى بهدية قيصر، وبلغة خبر موت والده أثناء رحلته فاستأذن كسرى في زيارة أهله بالحيرة فتلقاه ملكها في وجوه الناس يعزونه. وتزوج عدي هنداً بنت النعمان بن المنذر، وكانت من أجمل نساء أهلها وزمانها، وكان لعدي فضل في تولي النعمان عرش الحيرة بعد المنذر، فعظمت منزلة عدي في دولة المناذرة، وخاصة أن النعمان ربي على يد أستاذه عدي، ثم وشى الوشاة به إلى النعمان فحبسه حتى مات في حبسه. شخصيته وأخلاقه كان عدي من أجمل الناس، وأشدهم ظرفاً، وأكثرهم أدباً، وكان واسع الحيلة كثير الدهاء والذكاء كبير المعرفة والتجربة والخبرة بالحياة والناس، وكان لطيف المعاشرة، قوي الألفة والوفاء لأصدقائه. وكان حسن الكلام رائع البيان، ساحر الحديث، بادي الفصاحة واللسن. أما ديانته فيقول مؤلف كتاب "شعراء النصرانية": إنه كان نصرانياً، وكذلك كان أبوه وأمه وأهله. ويروى أن النعمان ملك الحيرة كان يعبد الأوثان، وأنه خرج يتنزه بظهر الحيرة ومعه عدي بن زيد فمرا على مقابرها فقال له عدي: أبيت اللعن، أتدري ما تقول هذه المقابر؟ قال: لا. قال: إنها تقول: أيها الركب المخبون ... على الأرض المجدون فكما أنتم كنا ... وكما نحن تكونون فدخلت قلب النعمان الرقة وحب التدين، فرجع وتنصر. ولست أجد مظهراً لنصرانية عدي في شعره، فليس فيه ما يوجد في شعر أمية بن أبي الصلت مثلاً من أساطير دينية وقصص الأنبياء، وما إلى ذلك، وأما الحكمة في شعره فلا تدل على نصرانيته، بل قد تدل على أنه كان متحنفاً. ويروى أنه كان له كتاب في تاريخ الروم، أخذ عنه المسعودي، وهذا بعيد. شاعريته - 1 - كان لوراثات عدي العربية الأصيلة المطبوعة على البلاغة والبيان والشعر أثر في تنشئته الشعرية، كما كان لفطرته واستعداده الشخصي وثقافته وميله إلى التدين آثار في تنمية ملكاته وإرهاف مشاعره وذوقه وعاطفته ووجدانه، مما يساعد على تكوين ملكات الشعر ومواهبه. وكانت بيئته الحيرة المتحضرة ومشاهدها، وكثرة رحلاته في البلاد، واتصاله بالملوك وخبرته الواسعة، وذكاؤه العجيب، باعثاً على تقوية خياله وكثرة معانيه، وسهولة أساليبه في الشعر. ولقد سمع عدي وهو صغير الشعراء في الحيرة، ينشدون ملوكها الشعر الجيد، والمدائح العالية والقصائد المحبرة كالنابغة، وحسان، وعلقمة، والأعشى، والمتلمس، وطرفة، وسواهم. فغذى ذلك الجو الأدبي شاعريته وأيقظ فطرته الأدبية، ونشأه على الشعر ونظمه. وكانت المنافسات الأدبية، ورغبته الحافزة في الفوق على أقرانه وفي استدامة نفوذه وجاهه الذين كانا له، مما يدفعه إلى قوله الشعر والإجادة فيه، إلى غير ذلك من بواعث شاعريته وأسبابها. - 2 - ويمتاز شعر عدي بكثرة المعاني وتنوعها ودقتها مع الوضوح والصدق، ولعل هذه الكثرة راجعة إلى أثر حياته وبيئته وثقافته في شعره.. والحكمة والتجربة الصادقة تشيعان في معانيه. وخياله خيال غذي بالحضارة، فقلت صور البادية وأثرها فيه وفي شعره وتكثر فيه الصور العقلية وتقل الصور المادية في شعره، ومن ثم اتكأ خياله على العقل والفطنة لا على المحسات والمشاهدات المادية، وهو مقتصد في تشبيهاته ومجازاته. ويمتاز أسلوبه بشيوع الرقة والسهولة، وعدم ظهور الجزالة ووضوحها فيه، ويرجع ذلك إلى بيئته الحضرية التي عاش فيها وهي بيئة الحيرة، وإلى كثرة إقامته بالمدائن، ورحلاته إلى بلاد الشام وسواها، مما أشاع في شعره السهولة، ولذلك كثر الغناء به، وقد كانت هذه السهولة مدعاة إلى اللين، مما عابه النقاد عليه، حتى قال ابن سلام فيه:

التاريخ الأدبي لعدي

"وعدي كان يسكن الحيرة ويراكز الريف، فلان لسانه، وسهل منطقه فحمل عليه شيء كثير، وتخليصه شديد، واضطرب فيه خلف، وخلط فيه المفضل فأكثر". وقال ابن قتيبة: "كان عدي يسكن بالحيرة ويدخل الأرياف، فثقل لسانه، واحتمل عنه شيء كثير جداً، وعلماؤنا لا يرون شعره حجة". وقد عدد صاحب الأغاني بعض الألحان التي صنعت في شعره. ونحن لا نوافق النقاد على مؤاخذة عدي بهذه الرقة، وبتلك السهولة، مادام الشعر غير متكلف ولا مصنوع. ولقد انقضى عصر البداوة في الأسلوب، وأصبحنا الآن نعيش في حياة جديدة لا تخالف حياة أجدادنا الأولين، وهذه الحياة وتلك الحضارة لا ترى في السهولة ما يستحق النقد والعيب. التاريخ الأدبي لعدي سجل أبو الفرج صاحب الأغاني حياة عدي وشعره في الجزء الثاني من كتابه، كما جمع الكثير من أخباره وشعره مؤلف كتاب "شعراء النصرانية" في القسم الرابع من الكتاب. وذكره ابن سلام في طبقات الشعراء، وابن قتيبة في الشعر والشعراء، والمرزباني في الموشح. وأخرج بعض المعاصرين بحثاً عنوانه "زعامة الشعر الجاهلي بين امرئ القيس وعدي بن زيد". وقد جمع أبو سعيد السكري وجماعة أخرى شعر عدي في القرن الثالث الهجري - كما ذكر ابن النديم - في الفهرست - وذلك رواية عن هشام الكلبي وابن الأعرابي والضبي وسواهم. ألوان من حياة عدي بن زيد وشعره كان نصرانياً وكذلك أبوه وأمه وأهله، وكان أبوه ممن حذق الفارسية وأجادها وتوصل إلى كسرى، فجعله على البريد ولم يكونوا يفعلون ذلك إلا بأولاد المرازية، ولما ولد له عدي وتحرك وأيفع طرحه في الكتاب حتى حذق العربية. ثم أسلمه أبوه إلى صديق له من مرازبة الفرس فجعله مع ابنه في كتاب الفارسية فاختلف إليه زمنا، حتى خرج من أفهم الناس بها وأفصحهم بالعربية وقال الشعر وتعلم الرمي بالنشاب ولعب لعب العجم على الخيل بالصوالجة وغيرها، ووفد المرزبان على كسرى فذكره له وقال إن عندي غلاماً من العرب وهو أفصح الناس وأكتبهم بالعربية والفارسية والملك محتاج إلى مثله فرغب فيه وجعله في كتاب الديوان وأوفده إلى قيصر فأكرمه وحمله إلى عماله على البريد ليريه بسطة سلطانه وعظيم شأنه وأقام عدي بالمدائن يؤذن له على كسرى في الخاصة وهو معجب به قريب منه فإذا أراد المقام بالحيرة في منزله ومع أهله استأذنه فأقام فيهم الشهر والشهرين وأكثر وأقل. وقد أثر كل هذا في شعر عدي فلان لسانه وسهل منطقه كما قال ابن سلام، وذهب مذهبا خالف فيه الشعراء كما قال الأصمعي، وكان لمكان الدين منه يتلطف في دعوة النعمان إلى النصرانية حتى نقله من الوثنية إليها، ويتوسل لذلك بالشعر فيضع من الأبيات ما يجعله حديثاً عن المقابر أو غيرها، فإذا خرج للنزهة أو الصيد ومرا بها قال أتدري ما تقول هذه المقابر قال لا قال فإنها تقول: من رآنا فليحدث نفسه ... أنه موف على قرن زوال وصروف الدهر لا يبقى لها ... ولما تأتى به صم الجبال رب ركب قد أناخوا عندنا ... يشربون الخمر بالماء الزلال والأباريق عليها فدم ... وجياد الخيل تردى في الجلال عمروا دهرا بعيش حسن ... آمني دهرهم غير عجال ثم أضحوا عصف الدهر بهم ... وكذاك الدهر يودي بالرجال وكذاك الدهر يودي بالفتى ... في طلاب العيش حالا بعد حال وقد ظلت هذه المعاني وأشباهها مما يتصل بالدين تعتلج في صدره وتهجس في نفسه وتصطبغ بها خواطره حتى نفئها في غرر شعره وعيون قصائده التي كتب بها من حنسه إلى النعمان: لم أر مثل الفتيان في غ ... ين الأيام ينسون ما عواقبها ينسون إخوانهم ومصرعهم ... وكيف تعتاقهم مخالبها ماذا ترجى النفوس من طلب ال ... خير وحب الحياة كاربها تظن أن ليس يصيبها عنت الد ... هر، وريب المنون صائبها ويقول عدي: ليس شيء على المنون بباق ... غير وجه المسيح الخلاق فبرئ صدري من الظلم للرب ... وحنث بمعقد الميثاق وشاهد ذلك حاضر في مصارع من غبر من الأمم وسلف من الملوك: أيها الشامت المعير بالد ... هر: أأنت المبرأ الموفور أم لديك العهد الوثيق من الأ ... يام، بل أنت جاهل مغرور

شعراء النسيب في العصر الجاهلي

من رأيت المنون خلدن أم من ... ذا عليه من أن يضام خفير أين كسرى كسرى الملوك أنوشر ... وان أم أين قبله سابور وبنو الأصفر الكرام ملوك ... الروم لم يبق منهم مذكور وأخو الحضر إذ بناء وإذ دج ... لة تجبى إليه والخابور شاده مرمرا وجلله كلسا ... فللطير في ذراه وكور لم يهبه ريب المنون فباد ال ... ملك عنه فبابه مهجور وتذكر رب الخورنق إذا أق ... بل يوما وللهدى تفكير سره ماله وكثرة ما يم ... لك والبحر معرضا والسدير فارعوى قلبه فقال: وما غب ... طة حي إلى الممات يصير شعراء النسيب في العصر الجاهلي وهم كثيرون ومنهم: المرقش الأكبر 552 م، وعبد الله بن العجلان 566 م، ومالك، وعنترة، ومسعود بن خراشة التميمي وقد أدرك الإسلام، ومنظور بن زبان الفزاري. ولهم شعر رائع وقصائد كثيرة قصروها على الغزل وحده كما في قصيدة المرقش الأكبر: سرى ليلا خيال سليمى. وقد يبدو أن نسيب فن إسلامي بدأه عمر بن أبي ربيعة وجميل وكثير وطبقتهم، والحقيقة أن هؤلاء كانوا يحتذون مثالاً لمن تقدمهم، وما أظن أحداً بلغ من صفة النساء ما بلغ النابغة حين سأله النعمان أن يصف امرأته المتجردة، أو ما بلغ المنخل اليشكري والمرار العدوي وسويد بن أبي كاهل وشعر المرقشين الأكبر والأصغر وعبد الله بن العجلان النهدي وقيس بن الحدادية، ممن صدقوا الحب ونسبوا في لفظ عفيف ومعنى نزيه مشهور معروف.. قال المرقش الأكبر: سرى ليلا خيال من سليمى ... فأرقني أصحاب هجود فبت أدير أمري كل حال ... وأرقب أهلها وهم بعيد على أن قد سما طرفي لنار ... يشب لها بذي الآرطي وقود حواليها مهاجم التراقي ... وآرام وغزلان رقود نواعم لا تعالج بؤس العيش ... أوانس لا تروح ولا ترود يرحن معاً بطاء المشي بدا ... عليهن المحاسد والبرود سكن ببلدة وسكنت أخرى ... وقطعت المواثق والعهود فما بالي أفي ويخان عهدي ... وما بالي أصاد ولا أصيد ورب أسيلة الخدين بكر ... منعمة لها فرع وجيد وذو أشر شتيت النبت عذب ... نقي اللون براق برود لهوت بها زماناً من شبابي ... وزارتها النجائب والقصيد أناس كلما أخلقت وصلا ... عناني منهم وصل جديد وقال: نواعم أبكار سرائر بدن ... حسان الوجوه لينات السوالف يهدلن في الآذان كل مذهب ... له زبد يعيان به كل واصف قصرن شقيا لا يبالين غيه ... يعوجن من أعناقها بالمواقف نشرن حديثاً آنساً فوضعته ... خفيضا فلا يلغى به كل طائف ولعبد الله بن العجلان: ألا أبلغا هند أسلامي فإن نأت ... فقلبي مذ شطت بها الدار مدنف ولم أر هنداً بعد موقف ساعة ... بأنعم في أهل الديار تطوف أنت بين أتراب تمايس إذ مشت ... دبيب القطا أو هن منهن أقطف أشارت إلينا في خفاء وراعها ... سراة الضحى مني على الحي موقف وقالت تباعد يا ابن عمي فإنني ... منيت بذي صول يغار ويعتف وقال: خليلي زورا قبل شحط النوى هندا ... ولا تأمنا من دار ذي لطف بعدا ولا تعجلا لم يدر صاحب حاجة ... أغيا يلاقى في التعجل أم رشدا ومرا عليها بارك الله فيكما ... وإن لم تكن هند لوجهيكما قصدا وقولا لها ليس الضلال أجارنا ... ولكننا جرنا لنلقاكم عمدا وقال قيش بن الحدادية من قصيدة طويلة: أجدك أن نعم نأت أنت جازع ... قد اقتربت لو أن ذلك نافع قد اقتربت لو أن في قرب دارها ... نوالا ولكن كل من ضن مانع وقد جاورتنا في شهور كثيرة ... فما نولت والله راء وسامع وظني بها حفظ لغيبي ورعية ... لما استرعيت والظن بالغيب واسع فقالت لقاء بعد حول وحجة ... وشحط النوى إلا لذي العهد قاطع وقد يلتقي بعد الشتاء أولو النوى ... ويسترجع الحي السحاب اللوامع ومنها: كأن فؤادي بين شقين من عصا ... حذار وقوع البين والبين واقع يحث بهم حاد سريع نجاؤه ... ومعرى عن الساقين واللوب واسع

لبيد بن ربيعة

فقلت لها يا نعم حلى محلنا ... فإن الهوى يا نعم والعيش جامع فقالت وعيناها تفيضان عبرة ... بأهلي بين لي متى أنت راجع فقلت لها تالله يدري مسافر ... إذا أضمرته الأرض ما الله صانع فشدت على فيها اللثام وأعرضت ... وأمعن بالكحل السحيق المدامع وإني لعهد الود راع وإنني ... بوصلك مالم يطوني الموت طامع فنصيب هذا العصر من النسيب كما رأيت أوفر وأجود مما توهم الأدباء، وهو أصل ينتمي إليه بارع النسيب الإسلامي من قريب. لبيد بن ربيعة حياته وشعره لبيد بن ربيعة من بني عامر بن صعصعة، وهي قبيلة مضرية، وأمه من بني عبس. كان في الجاهلية شريفاً جواداً شجاعاً شاعراً وقد أدرك الإسلام وأسلم، وعمر طويلاً حتى مات في خلافة معاوية عام 41هـ. وأكثر شعره قاله قبل الإسلام، فلما أسلم لم يقل إلا قليلا. وهو شاعر بدوي يصف في شعره حياة بدوية صحراوية ولاسيما في معلقته التي مطلعها: عفت الديار محلها فمقامها ... بمن تأبد غولها فرجامها ويظهر أنه قالها في شبابه وهي تمثل الشعر البدوي في متانته وقوته. وفي شعره بعد ذلك - وهو الذي عمله في الكهولة والشيخوخة على مايظهر - أثر الحكمة وقوة الشعور الديني كزهير، مثل قوله: وما المرء إلا كالشهاب وضوئه ... يحور رمادا بعدما هو ساطع وما المال والأهلون إلا ودائع ... ولابد يوماً أن ترد الودائع وما الناس إلا عاملان: فعامل ... يتبر ما يبنى، وآخر رافع وقصيدته التي مطلعها: ألا كل شيء ما خلا الله باطل ... وكل نفيم لا محالة زائل وكل أناس سوف تدخل بينهم ... دويهية تصفر منها الأنامل وقصيدته: إن تقوى ربنا خير نفل ... وبإذن الله ريثي والعجل أحمد الله ولا ند له ... بيديه الخير ماشاء فعل من هداه سبل الخير اهتدى ... ناعم البال ومن شاء أضل وكان لبيد أحدث أصحاب المعلقات عصرا وآخرهم موتا. وشعر لبيد مثال للفخامة والقوة والمتانة والبداوة فتراه فخم العبارة قوي اللفظ قليل الحشو مزدانا بالحكمة العالية والموعظة الحسنة. ولبيد من أحسن الجاهليين تصرفا في الرثاء وفخره قوي ينم عن شرفه وعزته ومجده وحسبه العريق. وقال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد "ألا كل شيء ما خلا الله باطل". وقد نظم لبيد الشعر في جاهليته وجرى به على سنن الأشراف والفرسان كعنترة وعمرو بن كلثوم فلم يتكسب بشعره ولذلك ترى فيه ولاسيما معلقته قوة الفخر والتحدث بالفتوة والنجدة والكرم وإيواء الجار وعزة القبيلة، ولم ينظم شعراً بعد أن أسلم. هذا ويقدم لبيد بعض النقاد محتجين بأنه أفضلهم في الجاهلية والإسلام وأقلهم لغواً في شعره، وقالت عائشة رضي الله عنها: رحم الله لبيدا ما أشعره في قوله: ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجرب لا ينفعون ولا يرجى خيرهم ... ويعاب قائلهم وإن لم يشغب وكان لبيد جواداً شريفاً في الجاهلية والإسلام وقصص جودة كثيرة. ديوان لبيد شرحه السكري والشيباني والأصمعي وابن السكيت والطوسي. ولم يصل إلينا من ذلك كله إلا نصف شرح الطوسي في مخطوطة طبعها في فيينا يوسف ضياء الدين الخالدي المقدسي سنة 1880 وفيها عشرون قصيدة هي الجزء الثاني من الديوان وقد صدرت بمقدمة عن الديوان والشاعر. وكذلك عنى بالديوان المستشرق هوبر الذي طبعه في ليدن سنة 1981 ووضع مقدمة له في حياة لبيد، وأخرجه بإشراف بروكلمان. ولمعلقة لبيد شروح، وقد نشرها دي ساسي وقد ترجمها إلى الفرنسية أيضاً. مصادر حياة لبيد ترجم له صاحب الأغاني في الجزء الرابع عشر، وابن قتيبة في الشعر والشعراء وذكره ابن سلام في طلبقات الشعراء والمرزباني في الموشح. وترجم له صاحب كتاب "تاريخ الأدب العربي في العصر الجاهلي"، والزيات في كتابه تاريخ الأدب العربي، وأصحاب الوسيط والمفصل وسواهم. وترجم له أيضاً في سلسلة الروائع. معلقة لبيد

أعشى قيس 535 - 629م

لبيد بن ربيعة العامري من سادة العامريين القيسيين وأشرافهم وكان يقال لأبيه ربيعة المعتربن وعمه ملاعب الأسنة عامر بن مالك أخذ أربعين مرباعا في الجاهلية. كان لبيد من شعراء الجاهلية وفرسانهم وقال الشعر في الجاهلية في كل غرض، وأجرك الإسلام وأسلم وهجر الشعر وأقام بالكوفة إلى أن مات عام 41هـ مائة وسبع وخمسين سنة. وسئل لبيد من أشعر الناس؟ فقال: الملك الضليل، ثم الشاب القتيل، ثم الشيخ أبو عقيل يعني نفسه. وهو من أصحاب المعلقات، وكان نظم لبيد الجاهلية فجم العبارة منضد اللفظ قليل الحشو مزداناً، فالحكمة العالية ثعات، وهو أحسن الجاهليين تصرفاً في الرثاء، وأكثرهم قدرة على تصوير عواطف المفجوع الحزين بلفظ رائق وألوب مؤثر، وقدمه بعض النقاد "لأنه أفضل الشعراء في الجاهلية والإسلام، وأقلهم لغواً في شعره". ومعلقته لبيد تمتاز بقوة اللفظ ومتانة الأسلوب، وبما فيها من تصوير للبادية والحياة والأخلاق فيها. أ - بدأها لبيد بذكر الديار وخلوها من أصحابها وتعرضها للرياح والأمطار تعبث بها ويمحو معالمها. قال: عفت الديار محلها فمقامها ... بمعنى تأبد غولها فرجامها وجلا السيول عن الطول كأنها ... زبر تجد متونها أقلامها فوقفت أسألها، وكيف سؤالنا ... صما خوالد ما يبين كلامها ثم يصف رحيل أحبابه عنها، حتى يقول: بل ما نذكر من "نوار" وقد نأت ... وتقطعت أسبابها ورمامها مرية، حلت بفيد، وجاورت ... أهل الحجاز، فابن منك مرامها وأخيراً، يرى لا أن يتسلى ويتعزى حتى يصل إلى رجائه وأمله، ولكن أن يقطع أمله منها ويترك رجاءه فيها ويقطع صلته بها مادامت نوار قد تغير وصلها: فاقطع لبانة من تعرص وصله ... ولشر واصل خلة صرامها ب - ثم يأخذ في وصف ناقته في لفظ غريب وتعبير بدوي متين، ويطيل في هذا الوصف ويشبهها بالأتان الوحشية وبالظبية الرؤوم المفجوعة إلى أن يقول: فبتلك إذ رقص اللوامع بالضحى ... واجتاب أرجية السراب كامها أقضي اللبانة لا أفرط ريبة ... أو أن يلوم بحاجة لوامها أولم تكن تدري نوار بأنني ... وصال عقد حبائل جذامها تراك أمكنة إذا لم أرضها ... أو يرتبط بعض النفوس حمامها ج - ثم يتحدث عن نفسه وعزتها، ولذات الراح التي شارك فيها، وشجاعته وبطولته في مواقف النزال والنضال، وكرامه وسخائه، ونواله للجار الفقير والضيف النازل والجار الغريب وللبائسين والمساكين: وجزور أيسار دعوت لحتفها ... بمغالق متشابه أعلامها فالضيف والجار الغريب كأنما ... هبطا تبالة مخصبا أهضامها تأوي إلى الأطناب كل رزية ... مثل البلية قالص أهدامها د - ثم يفتخر بقومه ومآثرهم ورفهم ومجدهم فيقول: من معشر سنت لهم آباؤهم ... ولكل قوم سنة وإمامها فبنوا لنا بيتاً رفيعاً سمكه ... فسما إليه كهلها وغلامها فاقنع بما قسم المليك فإنما ... قسم الخلائق بيننا علامها وإذا الأمانة قسمت في معشر ... أوفى بأعظم حظنا قسامها فهم السعاة إذا العشيرة أفظعت ... وهم فوارسها وهم حكامها وهم ربيع للمجاور فيهم ... والمرملات إذا تطاول عامها أعشى قيس 535 - 629م حياته 1 - صناجة العرب أعشى قيس المعروف بالأعشى الأكبر، وهو أبو بصير ميمون بن جندل بن شراحبيل بن عوف بن سعد من قيس بن ثعلبة من بكر بن وائل من ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان. وقيس بن ثعلبة من أشهر القبائل شاعرية وأكثرهم شعراء، والأعشى هو أحد الأعلام من شعراء الجاهلية وفحولهم، وكانت العرب تتغنى بشعره وتسميه صناجة العرب. ولقب بالأعشى لضعف في بصره. 2 - والده قيس بن جندل يسمى قتيل الجوع، قال جهنام البكري: أبوك قتيل الجوع قيس بن جندل ... وخالك عبد من خماعة راضع روي أنه دخل غاراً يستظل به من لفح الحر فوقعت صخرة فسدت الغار فمات جوعاً. وأمه أخت المسيب بن علس الشاعر 580م من بني خماعة من بني ضبيعة وتزوج امرأة من بني عنزة من هزان ثم طلقها.

3 - ولد الأعشى بقرية من قرى اليمامة يقال لها منفوحة ونشأ راوية لخاله المسيب وتتلمذ عليه في الشعر وبدأ حياته شاباً فقيراً ماجناً يلعب القمار ويشرب الخمر، ثم سكن الحيرة وتردد على النصارى فيها يأتيهم ويشرب الخمر معهم، ثم جاب الجزيرة العربية من أقصاها إلى أقصاها يمدح ملوكها وأمراءها: قد جبت مابين بانقيا إلى عدن ... وطال في العجم تردادي وتسياري ويقول: وطوفت للمال آفاقه ... عمان فحمص فأورشليم أتيت النجاشي في داره ... وأرض النبيط وأرض العجم وكان تطوافه سبباً في كثرة معارفه وسعة ثقافته. اتصل بنصارى نجران وبأهل الحيرة وبشريح بن السموءل اليهودي صاحب تيماء بحصنه "الأبلق" وعده بعض الباحثين من النصارى، والظاهر أنه لم يؤمن بدين وأن مسحة العقيدة النصرانية التي قد تبدو على شعره إنما كان منشؤها كثرة تردده على الحيرة ومعاشرته لأهلها. وكان يوافي سوق عكاظ وينشد فيه شعره فيحفظ عنه ويغني به ولذلك كانت العرب تضيفه وتهاديه ليمدحها ويطير ذكرها. قيل إن عبد العزى المحلق الكلابي كان أبوه من أشراف العرب فمات، وقد أتلف ماله وبقي المحلق وثلاث أخوات له لم يترك لهم إلا ناقة واحدة وحلتي برود جيدة فأقبل الأعشى في بعض أسفاره يريد منزله باليمامة، فنزل الماء الذي به المحلق فقراه أهل الماء فأحسنوا قراه فأقبلت عمة المحلق فقالت يا ابن أخي هذا الأعشى نزل بمائنا وقد قراه أهل الماء والعرب تزعم أنه لم يمدح قوماً إلا رفعهم ولم يهج قوماً إلا وضعهم، فاحتل في زق خمر من عند بعض التجار فأرسل إليه بهذه الناقة والزق وبردى أبيك، فوالله لئن اعتلج الكبد والسنام والخمر في جوفه ونظر إلى عطفيه في البرد ليقولن فيك شعراً يرفعك به. قال: ما أملك غير هذه الناقة وأنا أتوقع رسلها، فأخذت عمته تحضه، ثم دخل عليها وقال قد ارتحل الرجل. قالت الآن والله أحسن ما كان القرى تتبعه ذلك مع غلام أبيك فحيثما أدركه أخبره عنك أنك كنت غائباً عند نزوله الماء وأنك لما وردت فعلمت أنه كان به كرهت أن يفوتك قراه، فإن هذا أحسن لموقعه عنده. فمازالت به حتى فعل ذلك فخرج مولاه يتبع الأعشى، فكلما مر بماء قيل له: قد ارتحل أمس عنه، حتى صار إلى منزله بمنفوحة، فوجد عنده جماعة من الفتيان قد غداهم بغير لحم وسقاهم، فقرع الباب فقال لهم: انظروا من هذا. فدخلوا عليه وقالوا: رسول المحلق الكلابي أتاك بكيت وكيت، ومازالوا به حتى أذن له، فدخل وأدى الرسالة فقال له: أقرئه السلام وقل: وصلتك رحم سيأتيك ثناؤها. وقام الفتيان فنحروا الجزور وأخذوا يشوون ويأكلون ويشربون من الخمر، فلما شبع الأعشى قال: أرقت وما هذا السهاد المؤرق ... وما بي من سقم وما بي تعشق فسارت القصيدة وشاعت في العرب، فما أتى على المحلق سنة حتى زوج إخوته الثلاث كل واحدة على مائة ناقة، فأيسر وشرف. ويروى أن امرأة كسدت عليها بناتها فأتت الأعشى وسألته أن يشبب بواحدة فواحدة منهن وبعثت له هدايا فما زال يشيب بواحدة منهن واحدة حتى زوجن جميعا. 4 - وفد الأعشى على كسرى، وقصد النعمان بن المنذر وأنشده: إليك ... أبيت اللعن كان كلالها تروح مع الليل الطويل وتغتدي ثم أنشده قصيدته: أأزمعت من آل ليلى ابتكارا ... وشطت على ذي هوان تزارا ويقال: إن الأعشى أول من سأل بشعره وانتجع به أقاصي البلاد ورحل به إلى الملوك والأمراء وكان يغنى بشعره، فكانت العرب تسميه صناجة العرب، وكان بين علقمة بن علاثة وعامر بن الطفيل مفاخرة، وكان الأعشى يمدح عامر بن الطفيل ويهجو علقمة، ومما قال فيه: علقم ما أنت إلى عامر ... الناقض الأوتار والواتر فلما بلغ ذلك علقمة نذر دمه وجعل له على كل طريق رصدا، فخرج الأعشى يوماً يريد وجهاً فأخطأ به الدليل فألقاه في ديار عامر، فأخذه رهط علقمة فأتوه به فقال: علقم قد صيرتني الأمور ... إليك وما أنت لي منقص فهب لي نفسي فدتك النفوس ... ولازلت تنمو ولا تنقص

فهم علقمة بقتله، ثم دخل إلى أمه، فقال لها: قد أمكنني الله من هذا الأعمى الخبيث. قالت: فما تراك فاعلاً به؟ قال سأقتله شر قتله. فقالت: يا بني قد كنت أرجوك لقومك عامة وإني اليوم لأرجوك لنفسك خاصة وإنما الرأي أن تكسوه وتحمله وتسيره إلى بلاده، فإنه لا يمحو عنك ماقاله إلا هو. ففعل ما أمرته به وأحسن صلته، فقال الأعشى: علقم يا خير بني عامر ... للضيف والصاحب والزائر والضاحك السن على همه ... والغافر العثرة للعائر ومدح شريح بن السموءل والأسود بن الهنذر أخا النعمان لأمه وكان من تيم الرباب وهي قبائل من الياس بن مضر وكان أخوه ولاه عليهم وقد كان عنده أسرى من بني سعد بن ضبيعة، فأتاه الأعشى ومدحه بقصيدته: ما بكاء الكبير بالأطلال ... وسؤالي وما ترد سؤالي وسأله أن يطلقهم ففعل. وهذه القصيدة عند بعض العلماء معدودة من المعلقات وبعضهم يذكر أن معلقته هي قصيدته: ودع هريرة إن الركب مرتحل ... وهل تطيق وداعاً أيها الرجل وبعضهم يجعل معلقته هي مدحته للرسول: ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا ... وبت كما بات السليم مسهدا وهي قصيدة رائعة. ومدح قيس بن معد يكرب الكندي، وسواه. وقال الأعشى يمدح السموءل، ويستجير بابنه شريح بن السموءل من رجل كلبي كان الأعشى هجاه ثم أغار على قوم كان الأعشى نازلاً فيهم، فأسره وهو لا يعرفه، ثم سار حتى نزل بشريح بن السموءل فأحسن ضيافته، ومر بالأسرى فناداه الأعشى: سريح، لا تسلمني بعد ما علقت ... حبالك اليوم بعد القد أظفاري قد سرت ما بين بلقاء إلى عدن ... وطال في العجم تكراري وتسياري فكان أكرمهم عهداً وأوثقهم ... عقداً أبوك بعرف غير إنكار كالغيث مااستمطروه جاد وابله ... وفي الشدائد كالمستأسد الضاري كن كالسموءل إذ طاف الهمام به ... في جحفل كسواد الليل جرار إذ سامه خطتي خسف فقال له ... قل ما تشاء فإني سامع حار فقال: غدر وثكل أنت بينهما ... فاختر. وما فيهما حظ لمختار فشك غير طويل ثم قال له: ... اقتل أسيرك، إني مانع جاري هذا له خلف إن كنت قاتله ... وإن قتلت كريما غير خوار وسوف يعقبنيه إن ظفرت به ... رب كريم وقوم أهل اطهار فاختار أدراعه كي لا يسب به ... ولم يكن وعده فيها بخنار فجاء شريح الكلبي فقال: "هذا الأسير المنصور" فقال "هو لك" فأطلقه وقال له الأعشى "إن تمام إحسانك إلى أن تعطيني ناقة ناجية وتخليني الساعة" فأعطاه ناقة ناجية، فركبها ومضى من ساعته. وبلغ الكلبي أن الذي وهب لشريح هو الأعشى، فأرسل إلى شريح: "ابعث إلي الأسير الذي وهبت لك حتى أحبوه وأعطيه" فقال: "قد مضى" فأرسل الكلبي في أثره فلم يلحقه. ولما وفد الأعشلا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، مدحه بقصيدته التي أولها: ألم تغمض عيناك ليلة أرمدا ... وعاك ما عاد السليم المسهد وما ذاك من عشق النساء وإنما ... تناسيت قبل اليوم خلة مهددا وفيها يقول لناقته: فأليت لا أرثي لها من كلالة ... ولا من حفا حتى تزور محمدا نبي يرى مالا ترون وذكره ... أغار لعمري في البلاد وأنجدا متى ما تناخى عند باب ابن هاشم ... تراحى وتلقى من فواضله يدا فبلغ خبره قريشاً قط، فرصدوه على طريقه وقالوا: هذا صناجة العرب ما مدح أحداً قط إلا رفع قدره. فلما ورد عليهم قالوا له: أين أردت يا أبا بصير؟ قال: أردت صاحبكم هذا لأسلم. قالوا: إنه ينهاك عن خلال ويحرمها عليك. قال: وما هي؟ فقال أبو سفيان بن حرب: الزنا. قال: لقد تركني الزنا وتركته، ثم ماذا؟ قالوا: القمار. قال لعلي إن لقيته أن أصيب منه عوضاً من القمار، ثم ماذا؟ قالوا: الربا. قال: ما دنت ولا أدنت، ثم ماذا؟ قالوا: الخمر. قال أوه! أرجع إلى صبابة قد بقيت في المهراس فأشربها.

شعر الأعشى

قال له أبو سفيان: هل لك في خير مما هممت به؟ قال: وما هو؟ قال: نحن وهو الآن في هدنة، فتأخذ مائة من الإبل، وترجع إلى بلدك سنتك هذه، وتنظر ما يصير إليه أمرنا، فإن ظهرنا عليه كنت قد أخذت خلفا، وإن ظهر علينا أتيته. فقال: ما أكره ذلك. قال أبو سفيان: يا معشر قريش، هذا الأعشى! والله لئن أتى محمداً وأتبعه ليضر من عليكم نيران العرب بشعره. فاجمعوا له مائة من الإبل. ففعلوا، فأخذها وانطلق إلى بلده، فلما كان بقاع منفوحة رمى به بعيره فقتله. شعر الأعشى 1 - للأعشى ديوان شعر كبير طبع مراراً، وقد قدمه كثير من النقاد محتجين بكثرة طواله الجياد وتصرفه في المديح والهجاء وسائر فنون الشعر، وقيل إنه أمدحهم للملوك وأوصفهم للخمر وأغزرهم شعراً وأحسنهم قريضا. وقال عبد الملك بن مروان لمؤدب أولاده: أدبهم برواية شعر الأعشى فإن لكلامه عذوبة، قاتله الله ما كان أعذب بحره وأصلب صخره فمن زعم أن أحداً من الشعراء أشعر من الأعشى فليس يعرف الشعر. ومهما كان فهو أحد الأربعة الذين وقع الاتفاق على تقديمهم على من عداهم وهم: امرؤ القيس والنابغة وزهير والأعشى، فهو من الطبقة الأولى عند كثير من النقاد ويروى أشعر الناس امرؤ القيس إذا ركب والنابغة إذا رهب وزهير إذا رغب والأعشى إذا طرب. 2 - ويمتاز شعره بمعارفه الواسعة، وقد أدخل فيه ألفاظاً فارسية لإقامته في الحيرة، ووصف سيل العرم والقصر الأبلق. وأكثر الأعشى من وصف الخمر وما إليها من نديم وساقي وقينة وعود وأطال في ذلك حتى عد إمام الأخطل وأبي نواس. 3 - وعلى أي حال، فعلى شعره رونق الحسن وطلاوة الأسلوب والبراعة في وصف الخمر والإجادة مع الطول. ولقوة طبعه وجلبة شعره سمي صناجة العرب حتى ليخيل إليك إذا أنشدت شعره أن آخر ينشده معك. ولجلالة شعر الأعشى وأثره بين العرب كان يرفع الوضيع الخامل وتضع الخامل الشريف. ومن شعره قصيدته التي مدح بها الرسول صلى الله عليه وسلم، ويعدها بعضهم من المعلقات، ومطلعها: ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا ... وبت كما بات السليم مسهدا وما ذاك من عشق النساء وإنما ... تناسيت قبل اليوم حلة مهددا ولكن أرى الدهر الذي هو خائن ... إذا أصلحت كفاي عاد فأفسدا شباب وشيب وافتقار وثروة ... فلله هذا الدهر كيف ترددا فآليت لا أرثي لها من كلالة ... ولا من حفي حتى تلاقي محمدا متى ما تناخى عند باب ابن هاشم ... تراحى وتلقى من فواضله ندى نبي يرى مالا يرون وذكره ... أغار لعمري في البلاد وأنجدا له صدقات ما تغب ونائل ... وليس عطاء اليوم يمنعه غدا ومن شعر الأعشى قصيدته اللامية المعروفة التي يقول منها: صدت هريرة عنا ما تكلمنا ... جهلاً بأم خليد حبل من تصل؟ أئن رأت رجلاً أعشى أضربه ... ريب المنون ودهر مفند خبل قالت هريرة لما جئت زائرها: ... ويلي عليك وويلي منك يا رجل إما ترينا حفاة، لا نعال لنا ... إنا كذلك ما نحفى وننتعل وقد أقود الصبا يوما، فيتبعني ... وقد يصاحبني ذو الشرة الغزل وقد غدوت إلى الحانوت يتبعني ... شاو مشل شلوب شلشل شول في فتية كسيوف الهند قد علموا ... أن هالك كل من يحفى وينتعل نازعتهم قضب الريحان متكئا ... وقهوة مزة رواوقها خضل لا يستفيقون منها، وهي راهنة ... إلا بهات وإن علوا وإن نهلوا يسعى بها ذو زجاجات له نطف ... قلص أسفل السربال معتمل ومستجيب تخال الصنج يسمعه ... إذا ترجع فيه القينة الفضل والساحبات ذيول الربط آونة ... والرافلات على أعجازها العجل من كل ذلك يوم قد لهوت به ... وفي التجارب طول اللهو والغزل أبلغ يزيد بني شيبان مألكة ... أبا ثبيت أما تنفك تأتكل ألست منتهياً عن نحت أثلتنا ... ولست ضائرها ما أطت لأبل كناطع صخرة يوماً ليوهنها ... فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل تغرى بنا رهط مسعود وإخوته ... يوم اللقاء، فتردى، ثم تعنزل لا أعرفنك إن جدت عداوتنا ... والتمس النصر منكم عوض تحتمل

السموأل بن عاديا

نلحم أبناء ذي الجدين إن غضبوا ... أرماحنا، ثم تلقاهم، وتعتزل لا تقعدون، وقد أكلتها حطبا ... تعوذ من شرها يوماً وتبتهل سائل بني أسد عنا، فقد علموا ... أن سوف يأتيك من أنبائنا شكل واسأل قشيرا وعبد الله كلهم ... واسأل ربيعة عنا كيف نفتعل إنا نقاتلهم حتى نقتلهم ... عند اللقاء، وإن جاروا وإن جهلوا قد كان في آل كهف إن هم احتربوا ... والجاشرية من يسعى وينتضل إني لعمر الذي خطت مناسمها ... تخدى، وسيق إليه الباقر الغيل لئن قتلتم عميدا لم يكن صددا ... لنقتلن مثله منكم، فنمتثل لئن منيت بنا عن غب معركة ... لا تلفنا عن دماء القوم ننفتل لا تنتهون، ولن ينهى ذوي شطط ... كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل السموأل بن عاديا كان السموءل يهودياً مشهوراً بالوفاء وهو صاحب الحصن المعروف بالأبلق، كانت العرب تنزل فيه فيضيفها، وبالسموءل يضرب المثل في الوفاء. يقال أوفى من السموءل، لأنه فضل قتل ابنه على التفريط في أمانة أودعها عنده امرؤ القيس لما سار إلى الشام يريد قيصر، وكانت الأمانة أدرعا وفي ذلك يقول السموءل: وفيت بأدرع الكندي إني ... إذا ما خان أقوام وفيت وأوصى عاديا يوما بأن لا ... تهدم يا سموءل ما بنيت بني لي عاديا حصنا حصينا ... وماء كلما شئت استقيت ومن أشعاره المعروفة قصيدة يمدح بها قومه، أوردها أبو تمام في كتاب الحماسة، مطلعها: إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه ... فكل رداء يرتديه جميل وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها ... فليس إلى حسن الثناء سبيل وكان للسموءل أخ شاعر أيضاً وابن يدعى شريحا مدحه الأعشى في شعره.. وعلى ما يقول المحققون: إن السموءل عاش في أواخر الجيل السادس ومات في أوائل الجيل السابع وكان معاصراً للأعشى، ويقال إنه توفي سنة 560م. حاتم الطائي - 1 - اشتهر بالجود والكرم حتى جرى ذكره مجرى الأمثال فيقال "أجود من حاتم الطي" وقد وصل إلينا من شعره قليل جاء في ديوان الحماسة وكتاب الأغاني وغيرهما من كتب الأدب، وله ديوان معروف باسمه وتوفي حاتم سنة 605م، وقبره بعوارض، وهو جبل لبني طي، ويحكى عن جوده الحكايات الكثيرة، ومن غريبها أن نفراً من بني أسد مروا بقبر حاتم فقالوا: نزلنا بحاتم فلم يقرنا، وجعلوا ينادون: يا حاتم ألا تقرى أضيافك؟ ثم ناموا جميعاً وكان رئيس القوم رجلاً يقال له أبو الخيبري فنام أيضاً، حتى إذا كان السحر وثب وجعل يصيح: وا رحلتاه. فقال له أصحابه: مالك! قال: خرج والله حاتم بالسيف وأنا أنظر إليه حتى عقر ناقتي. قالوا: كذبت. فنظروا إلى راحلته فإذا هي منخزلة لا تنبعث. قالوا والله قراك. فظلوا يأكلون من لحمها ثم أردفوه فانطلقوا فساروا، وإذا راكب يلحقهم فنظروا فإذا هو عدي بن حاتم راكباً قارناً جملاً أسود فلحقهم وقال أيكم أبو الخبيرى فدلوه عليه فقال جاءني أبي في النوم فذكر لي شتمك له وأنه قرى راحلتك لأصحابك وقد قال في ذلك أبياتاً ورددها حتى حفظتها وهي: أبا الخيبرى وأنت امرؤ ... حسود العشيرة شتامها فماذا أردت إلى رمة ... بداوية صخب هامها تبغي أذاها وإعسارها ... وحولك غوث وانعامها وإنا لنطعم أضيافنا من ال ... كرم بالسيف نعتامها وقد أمرني أن أحملك على جمل فدونكه فأخذوه وركبه وذهبوا. ولم يبلغ أحد في الجود ما بلغ حاتم، وهو من بني الحشرج من طي وأحد شعراء الجاهلية.. ويكنى أبا عدي وأبا سفانة.. وأدرك ابنه الإسلام وأسلم. قال عدي قلت يا رسول الله: إن أبي كان يصل الرحم ويفعل كذا وكذا، قال: إن أباك أراد أمراً فأدركه يعني الذكر. وكانت سفانة بنته أتى بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت، يا محمد هلك الولد، وغاب الرافد فإن رأيت أن تتخلى عني ولا تشمت بي أحياء العرب فإن أبي سيد قومه، وكان يفك العاني ويحمي الذمار ويفرج عن المكروب، ويطعم الطعام، ويفشى السلام، ولم يطلب إليه طالب قط حاجة فرده، أنا ابنة حاتم طي.. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا جارية هذه صفة المؤمن لو كان أبوك إسلامياً لترحمنا عليه، خلوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق.

قال ابن الأعرابي كان حاتم من شعراء الجاهلية، وكان جواداً يشبه جوده شعره، ويصدق قوله فعله، وكان حيثما نزل عرف منزله، وكان مظفراً إذا قاتل غلب، وإذا غنم أنهب، وإذا ضرب بالقداح فاز، وإذا سابق سبق، وإذا أسر أطلق. وكان إذا أهل رجب نحر في كل يوم عشرة من الإبل وأطعم الناس واجتمعوا عليه، وكان أول ما ظهر من جوده أن أباه خلفه في إبله وهو غلام، فمر به جماعة من الشعراء، فيهم عبيد بن الأبرص، وبشر بن أبي خازم، والنابغة الذبياني، يريدون النعمان بن المنذر، فقالوا هل من قرى؟ ولم يعرفهم. فقال أتسألوني القرى وقد رأيتم الإبل والغنم، انزلوا فنزلوا فنحر لكل واحد منهم، وسألهم عن أسمائهم، فأخبروه ففرق فيهم الإبل والغنم، وجاء أبوه فقال: ما فعلت؟ قال طوقتك مجد الدهر طةق الحمامة وعرفه القضية، فقال أبوه إذا لا أساكنك بعدها أبدا ولا آويك. فقال حاتم: إذا لا أبالي. ومن حديثه، أنه خرج في الشهر الحرام يطلب حاجة، فلما كان بأرض عنزة ناداه أسير لهم: يا أبا سفانة أكلني الاسار والقمل. فقال: ويحك ما أنا في بلاد قومي وما معي شيء، وقد أسأت بي إذ نوهت باسمي ومالك مترك، ثم ساوم به العنزيين واشتراه منهم فخلاه وأقام مكانه في قيده حتى أتى بفدائه فأداه إليهم. وحدثت ماوية امرأة حاتم أن الناس أصابتهم سنة فأذهبت الخف والظلف فبتنا ذات ليلة بأشد الجوع فأخذ حاتم عديا وأخذت سفانة فعللناهما حتى ناما، ثم أخذ يعللني بالحديث لأنام، فرققت لما بعد من الجهد فأمسكت عن كلامه لينام ويظن أني نائمه، فقال لي أنمت مراراً فلم أحبه، فسكت ونظر من وراء الخباء فإذا شيء قد أقبل فرفع رأسه، فإذا امرأة تقول: يا أبا سفانة قد أتيتك من عند صبية جياع. فقال أحضريني صبيانك فوالله فأشبعنهم. قالت: فقمت سريعاً فقلت بماذا يا حاتم فوالله ما نام صبيانك من الجوع إلا بالتعليل، فقام إلى فرسه فذبحه ثم أجج ناراً وقال اشتوى وكلي وأطعمي ولدك. وقال لي أيقظي صبيتك فأيقظتهم، ثم قال والله إن هذا للؤم أن تأكلوا وأهل الصرم حالهم كحالكم فجعل يأتي الصرم بيتاً بيتاً ويقول: عليكم النار فاجتمعوا وأكلوا وتقنع بكسائه وقعد ناحية حتى لم يوجد من الفرس على الأرض قليل ولا كثير ولم يذق منه شيئا. - 2 - ولحاتم الطائي شعر كثير وهو من البلاغة بمكان، والمذكور في ديوانه بعض منه ومن شعره يخاطب امرأته ماوية بنت عبد الله: أيا ابنة عبد الله وابنة مالك ... ويا ابنة ذي البردين والفرس الورد إذا ما صنعت الزاد فالتمس له ... اكيلا فإني لست آكله وحدي أخا طارقا أو جار بيت فإنني ... أخاف مذ مات الأحاديث من بعدي وإني لعبد الضيف مادام ثاويا ... وما في إلا تلك من شيمة العبد عني بذي البردين عامر بن أحيمر بن بهدلة. وكان من حديث البردين حين لقب به أن الوفود اجتمعت عند المنذر بن ماء السماء وهو المنذر بن امرئ القيس، وماء السماء قيل أمه، نسب إليها لشرفها، وقيل لقبت بماء السماء لصفاء نسبها ويقال لنقاء لونها، ويراد أنها كماء السماء لم يحتمل كدورة. وأخرج المنذر بردين يوما يبلو الوفود، وقال ليقم أعز العرب قبيلة فليأخذهما، فقام عامر بن أحيمر فأخذهما وائتزر بأحدهما وارتدى بالآخر. فقال له المنذر: أأنت أعز العرب قبيلة؟ قال العز والعدد في معد، ثم في نزار ثم في مضر، ثم في خندف ثم في تميم، ثم في سعد ثم في كعب، ثم في عوف، ثم في بهدلة، فمن أنكر هذا فلينافرني. فسكت الناس، فقال المنذر هذه عشيرتك كما تزعم فكيف أنت في أهل بيتك وفي نفسك؟ فقال أنا أبو عشرة وأخو عشرة وخال عشرة، وعم عشرة، وأما أنا في نفسي فشاهد العز شاهدي ثم وضع قدمه على الأرض فقال: من أزالها عن مكانها فله مائة من الإبل؟ فلم يقم إليه أحد من الحاضرين، ففاز بالبردين. ومن شعر حاتم أيضاً قوله: وعاذلة قامت علي تلومني ... كأني إذا أعطيت مالي أضيمها أعاذل أن الجود ليس بمهلكي ... ولا مخلد النفس الشحيحة لومها وتذكر أخلاق الفتى وعظامه ... مغيبة في اللحد بال رميمها ومن يبتدع ما ليس من خيم نفسه ... يدعه ويغلبه على النفس خيمها ومن ذلك قوله أيضاً: أكف يدي عن أن ينال التماسها ... أكف أصحابي حين حاجتنا معا

أبيت هضيم الكشح مضطمر الحشا ... من الجوع أخشى الذم أن أتضلعا وإني لأستحيي رفيقي أن يرى ... مكان يدي من جانب الزاد أقرعا وانك مهما تعط بطنك سؤله ... وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا وقال أيضاً: أما والذي لا يعلم السر غيره ... ويحيي العظام البيض وهيم رميم لقد كنت أختار القرى طاوي الحشا ... محافظة من أن يقال لئيم وإني لأستحيي يميني وبينها ... وبين فمي داجي الظلام بهيم وقال أيضاً: ولما رأيت الناس هرت كلابهم ... ضربت بسيفي ساق أفعى فخرت وقلت لأصباء صغار ونسوة ... بشهباء من ليل الثمانين قرت عليكم من الشطين كل ورية ... إذا النار مست جانبيها أرمعلت وقال أيضاً: لا تشتري قدري إذا ما طبختها ... على إذا ما تطبخين حرام ولكن بهذاك اليفاع فأوقدي ... بجزل إذا أوقدت لا بضرام وقال أيضاً: وقائلة أهلكت بالجود مالنا ... ونفسك حتى ضربت نفسك جودها فقلت دعيني إنما تلك عادتي ... لكل كريم عادة يستعيدها وهو القاتل لغلامه يسار، وكان إذا اشتد البرد وكلب الشتاء أمر غلامه فأوقد ناراً في بقاع من الأرض، لينظر إليها من أضل الطريق ليلا فيصمد نحوه: أوقد فإن الليل ليل قر ... والريح يا واقد ريح صر عل يرى نارك من يمر ... إن جلبت ضيفا فأنت حر وقال أيضاً: أماوي قد طال التجنب والهجر ... وقد عذرتنا في طلابكم العذر أماوي إن المال غاد ورائح ... ويبقى من المال الأحاديث والذكر أماوي إما مانع فمبين ... وإما عطاء لا ينهنهه الزجر أماوي إني لا أقول لسائل ... إذا جاء يوماً حل في مالي النذر أماوي لا يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر أماوي إن يصبح صداي بقفرة ... من الأرض لا ماء لدي ولا خمر ترى إن ما أنفقت لم يك ضرتي ... وأن يدي مما بخلت به صفر إذا أنا دلاني الذين بلونني ... بمظلمة لج جوانبها غبر وراحوا سراعا ينفضون أكفهم ... يقولون قد أدمى أظافرنا الحفر أماوي إن المال مال بذلته ... فأوله شكر وآخره ذكر وقد يعلم الأقوام لو أن حاتما ... أراد ثراء المال كان له وفر ولا أظلم ابن العم إن كان إخوتي ... شهودا وقد أودى باخوته الدهر غنينا زمانا بالتقصد والغنى ... وكل سقانا وهو كاسينا الدهر فما زادنا مأوى على ذي قرابة ... غنانا ولا أزرى بأحلامنا الفقر وله قصيدة طويلة تتعلق بالكرم ومكارم الأخلاق، وهي مسطورة في الخماسة البصرية وغيرها.. وهي هذه: وعاذلتين هبتا بعد هجعة ... تلومان متلافا مفيدا ملوما تلومان لما غور النجم ضلة ... فتى لا يرى الإنفاق في الحمد مغرما فقلت وقد طال العتاب عليهما ... وأوعدني تماني أن تبينا وتصرما ألا لا تلوماني على ما تقدما ... كفى بصروف الدهر للمرء محكما فإنكما لا ما مضى تدركانه ... ولست على ما فاتني متندما فنفسك أكرمها فإنك إن تهن ... عليك فلن تلقى مدى الدهر مكرما أهن للذي تهوى البلاد فإنه ... إذا مت كان المال نهبا مقسما ولا تشقين فيه فيسد وارث ... به حين تغشى أغبر الجوف مظلما يقسمه غنما ويشرى كرامة ... وقد صرت في خط من الأرض أعظما قليلا به ما يحمدنك وارث ... إذا نال مما كنت تجمع مغنما تحلم عن الأدنين واستبق ودهم ... ولن تستطيع الحلم حتى تحلما وعوراء قد أعرضت عنها فلم تضر ... وذمي أود قومته فتقوما وأغفر عوراء الكريم ادخاره ... وأعرض عن شتم اللئيم تكرما ولا أخذل المولى وإن كان خاذلا ... ولا أشتم ابن العم إن كان مفحما ولا زادني عنه منأى تباعدا ... وإن كان ذا نقص من المال مصرما وليل بهيم قد تسربلت هوله ... إذا الليل بالنكس الدنيء تجهما ولن يكسب الصعلوك حمداً ولا غنى ... إذا هو لم يركب من الأمر معظما لحا الله صعلوكا مناه وهمه ... من العيش أن يلقى لبوساً ومغنما

ينام الضحى حتى إذا نومه استوى ... تنبه مثلوج الفؤاد مورما مقيم مع المثرين ليس ببارح ... إذا نال وجدي من الطعام ومجثما ولله صعلوك يساور همه ... وتمضي على الأحداث والدهر مقدما فتى طلبات لا يرى الخمص ترحة ... ولا شبعة إن نالها عد مغنما إذا ما رأى يوماً مكارم أعرضت ... تيمم كبراهن ثمت صمما ويغشى إذا ما كان يوم كريهة ... صدور العوالي فهو مختضب دما يرى رمحه ونبله ومجنه ... وذا شطب عضب الضريبة مخذما وأحناء سرج قاتر ولجامه ... عتاد فتى هيجا وطرفا مسموما فذلك إن يهلك فحسنى ثناؤه ... وإن عاش لم يقعد ضعيفاً مذمما وعلى الجملة فشعر حاتم صوره لنفسه وأخلاقه وجوده، ولذلك قال ابن الأعرابي: جوده يشبه شعره. وهو غزير البحر، فياض بالأمثال والحكم والمعاني المتصلة بالجود واللوم عليه وما يتصل به من جمال الذكر وحسن الأحدوثة. وقد ترى بعض التفاوت في شعره، وذلك إنما يرجع إلى كثرة المدسوس عليه، وجمع شعره في ديوان طبع بلندن وبيروت. وتوفي حاتم نحو سنة 45 ق. هـ. - 3 - ويقول فيه الشريشي في شرح المقامات: أبو عدي فارس شاعر جاهلي أحد الأجواد الذين يضرب بهم المثل بل هو أشهر منهم، وهم كعب بن أمامة وهرم بن سنان وحاتم، وكان إذا قاتل غلب وإذا غنم أنهب وإذا سئل وهب وإذا قامر سبق وإذا أسر أطلق وإذا أثر أنفق ويقال إنه لا يعرف ميت قرى أضيافه إلا هو وذلك أن ركباً من العرب نزلوا بموضع قبره وقد نفذ زادهم وفيهم رجل يكنى أبا خيبرى فجعل يقول: أبا سفانة أما تقرى أضيافك أبا سفانة إن أضيافك جياع، ويعيدها، فلما نام ثار من نومه وهو يقول: وا راحلتاه عقرت والله ناقتي، فقال له أصحاب: وكيف؟ قال رأيت أبا سفانة قد انشق عنه قبره فاستوى قائماً ينشدني: أبا خيبرى لأنت امرؤ ... ظلوم العشيرة لوامها وماذا تريد إلى رمة ... بداوية صخب هامها أتبغي أذاهم وأسعارها ... ودونك طي وأنعامها ثم عمد إلى سيفي فانتضاه من غمده وعقر ناقتي وقال: دونكم فما أيقظني إلا رغاؤها، وإذا الناقة ترغو ما تنبعث، فقالوا قد والله قراك حاتم. فنحروها وأكلوا وتزودوا واقتسموا متاع أبي خيبرى واستمروا لوجهتهم فلما صاروا في الظهيرة وضح لهم راكب يجنب بعيرا يؤم سمتهم حتى التقوا فقال لهم أفيكم أبو خيبرى؟ قالوا نعم، فقال فإن عدي بن حاتم رأى أباه البارحة وهو يقول إن أبا خيبرى وأصحابه استقروني فقريتهم ناقته فعوضه منها وزده بكرا يحمل عليه متاعه وهذه الناقة وهذا البكر فارتحل أبو خيبرى الناقة وتخفف هو وأصحابه من أزوادهم على البكر ومضوا بأتم قرى.. وأدرك عدي ابنه النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه، وكان يحدث أصحابه بهذا الحديث بعد إسلامه.. وقال الشاعر في عدي: أبوك أبو سفانة الخير لم يزل ... لدن شاب حتى مات في الخير راغبا قرى قبره الأضياف إذ نزلوا به ... ولم يقر قبر قبله الدهر راكبا وكانت سفانة بنته من أجود نساء العرب وكان أبوها يعطيها الصرمة من إبله فتهبها وتعطيها للناس، فقال لها أبوها: يا بنية إن الغويين إذا اجتمعا في المال أتلفاه فإما أن أعطي وتمسكي وإما أن أمسك وتعطي فإنه لا يبقى على هذا شيء. فقالت والله لا أمسك أبدا. قال وأنا لا أمسك أبدا، قالت فلا نتجاور، فقاسمها ماله وتباينا.. وحكي أن أمه كانت من أسخى الناس وأقراهم للضيف وكانت لا تحبس شيئاً تملكه، وهي عتبة بنت عفيف بن عمرو بن عبد القيس، فلما رأى إخوتها إتلافها حجروا عليها ومنعوها مالها حتى إذا ظنوا أنها قد وجدت ألم ذلك أعطوها سرمة من إبلها، فجاءتها امرأة من هوازن تسألها، فقالت دونك الصرمة فخذيها فوالله لقد عضني من الجوع مالا أمنع بعده سائلا أبدا.. ثم أنشأت تقول: لعمري لقد ما عضني الجوع عضة ... فآليت أن لا أمنع الدهر جائعا فقولا لهذا اللائم اليوم أعفني ... فإن أنت لم تفعل فعض الأصابعا فماذا عسيتم أن تقولوا لأختكم ... سوى عذلكم أو عذل من كان معانا وهل ما ترون اليوم إلا طبيعة ... وكيف بتركي ياابن أم الطبائعا؟

فقد اكتنفه الجود من أمه وأبيه.. وقالت امرأته النوار: أصابتنا سنة اقشعرت لها الأرض واغبر أفق السماء وضنت المراضع عن أولادها فما تبض بقطرة فأيقنا بالهلاك، فوالله إني لفي ليلة صبيرة بعيدة الطرفين إذ تضاعى صبيتنا جوعا، عبد الله وعدي وسفانة، فقام إلى الصبيين وقمت إلى الصبية فوالله ما سكتوا إلا بعد هدأة من الليل وأقبل يعللني بالحديث فعرفت ما يريد فتناومت، فلما تغورت النجوم إذا شيء قد رفع كسر البيت فقال من هذا فقالت جاريتك فلانة أتيتك من عند صبية يتعاوون من الجوع عواء الذئب فما وجدت معلولا إلا عليك أبا عدي، فقال اعجليهم فقد أشبعك الله وإياهم فأقبلت تحمل اثنين ويمشي إلى جانبها أربعة كأنها نعامة حولها رثالها، فقام إلى فرسه فوجا لبتها بمدية فخرت ثم كشط الجلد ودفع المدية إلى المرأة وقال: شأنك. فاجتمعنا على اللحم نشوي ونأكل، ثم جعل يأتيهم بيتاً بيتاً ويقول هبوا أيها القوم عليكم بالنار فاجتمعوا، والتف في ثوبه ناحية ينظر إلينا والله إن ذاق منها مزعة، وإنه لأحوج إليها منا فأصبحنا وما على الأرض منها إلا عظم وحافر فأنشأ يقول: مهلا نوار أقلي اللوم والعذلا ... ولا تقول لشيء فات ما فعلا ولا تقولي لشيء كنت مهلكه ... مهلا وإن كنت معطي العنس والجملا يرى البخيل سبيل الماء واحدة ... إن الجواد يرى في ماله سبلا ولم يكن يمسك شيئاً ما عدا فرسه وسلاحه فإنه كان لا يجود بهما.. وذكر الحريري أن عقيلا تمثل بقول حاتم: شنشنة أعرفها من أخزم. - 4 - ويروى أن الحكم بن أبي العاص خرج ومعه عطر يريد الحيرة، وكان بالحيرة سوق يجتمع إليها الناس كل سنة، فمر في طريقه بحاتم بن عبد الله الطائي، فسأله الجوار في أرض طيء حتى يصير إلى الحيرة، فأجاره، ثم أمر حاتم بجزور فنحرت وطبخت، ثم دعاهم إلى الطعام فأكلوا ولما فرغوا من الطعام طيبهم الحكم من طيبه. وكان النعمان بن المنذر قد جعل لبني لام ربع الطريق طعمة لهم، لأن بنت سعد بن حارثة بن لأم كانت عنده ومر سعد بن حارثة بحاتم ومعه قومه من بني لام، فوضع حاتم سفرته وقال: اطعموا حياكم الله! فقالوا: من هؤلاء الذين معك يا حاتم؟ قال هؤلاء جيراني. قال له سعد: فأنت تجير علينا في بلادنا! قال له: أنا ابن عمكم وأحق من لم تخفروا ذمته. فقالوا: لست هناك! وأرادوا أن يفضحوه، ووثبوا إليه وتناول سعد حاتماً، فأهوى له حاتم بالسيف، وأطار أرنبة أنفه، ووقع الشر حتى تحاجزوا ثم قالت بنو لام لحاتم: بيننا وبينك سوق الحيرة فنماجدك، ثم وضعوا تسعة أفراس رهناً ووضع حاتم فرسه رهناً عند رجل من كلب وخرجوا حتى انتهوا إلى الحيرة. وسمع بذلك إياس بن قبيصة الطائي فخاف أن يعينهم النعمان بن المنذر ويقويهم بماله وسلطانه للصهر الذي بينهم وبينه فجمع رهطه من بني حية، وقال: يا بني حية إن هؤلاء القوم قد أرادوا أن يفضحوا ابن عمكم في مماجدته، فقال رجل منهم: عندي ناقة سوداء ومائة ناقة حمراء أدماء، وقام آخر فقال: عندي عشرة حصن على كل حصان منها فارس مدجج لا يرى منه إلا عيناه، وقال حسان بن جبلة الخير: قد علمتم أن أبي قد مات وترك خيراً كثيراً، فعلى كل خمر ولحم أو طعام ما أقاموا في سوق الحيرة، ثم قام إياس فقال: على مثل جميع ما أعطيتم كلكم - وحاتم لا يعلم بشيء مما فعلوا. وذهب حاتم إلى ابن عمه وهم بن عمرو، وكان مصارماً له لا يكلمه فقالت له امرأته: أي وهم، هذا والله أبو سفانة حاتم قد طلع. فقال: ما لنا ولحاتم! أثبتي النظر. فقالت: ها هو. قال: ويحك! هو لا يكلمني، فما جاء به إلي؟ ثم نزل حتى سلم عليه فرد سلامه وحياه ثم قال له: ما جاء بك يا حاتم؟ قال: خاطرت على حسبك وحسبي. قال في الرحب والسعة، هذا مالي وعدته تسعمائة بعير فخذها مائة مائة حتى تذهب الإبل أو تصيب ما تريد. ثم إن إياس بن قبيصة قال لقومه: احملوني إلى الملك، وكان به نقرس، فحمل حتى أدخل عليه فقال: أنعم صباحاً أبيت اللعن! فقال النعمان: وحياك إليهك. فقال إياس: أنمد أختانك بالمال والخيل وجعلت بني ثعل في قعر الكنانة! أظن أختانك أن يصنعوا بحاتم كما صنعوا بعامر بن جوين لم يشعروا أن بني حية بالبلد؟ فإن شئت والله ناجزناك حتى يسفح الوادي دماً فليحضروا مجادهم غداً بمجمع العرب.

فعرف النعمان الغضب في وجهه وكلامه فقال له: يا أحلمنا لا تغضب فإني سأكفيك. وأرسل النعمان إلى سعد بن حارثة وإلى أصحابه فقال: انظروا ابن عمكم حاتماً فأرضوه، فوالله ما أنا بالذي أعطيكم مالي تبذرونه وما أطيق بني حية. فخرج بنو لام إلى حاتم وقالوا له: أعرض عن هذا المجاد ندع أرش أنف ابن عمنا. قال: لا والله لا أفعل حتى تتركوا أفراسكم ويغلب مجادكم، فتركوا أرش أنف صاحبهم وأفراسهم وقالوا: قبحها الله وأبعدها! فعمد إليها حاتم فعقرها وأطعمها الناس. - 5 - ولما وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى طيء فريقاً من جنده، يقدمهم على عليه السلام، فزع عدي بن حاتم الطائي - وكان من أشد الناس عداء لرسول الله - إلى الشام فصبح على القوم، واستاق خيلهم ونعمهم ورجالهم ونساءهم إلى رسول الله. فلما عرض عليه الأسرى نهضت من بين القوم سفانة بنت حاتم، فقالت: يا محمد، هلك الوالد، وغاب المرافد. فإن رأيت أن تخلي عني، ولا تشمت بي أحياء العرب! فإن أبي كان سيد قومه، يفك العاني، ويقتل الجاني، ويحفظ الجار، ويحمي الذمار، ويفرج عن المكروب، ويطعم الطعام ويفشي السلام، ويحمل الكل، ويعين على نوائب الدهر، وما أتاه أحد في حاجة فرده خائباً، أنا بنت حاتم الطائي!. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا جارية، هذه صفات المؤمنين حقاً، لو كان أبوك مسلماً لترحمنا عليه. خلوا عنها، فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق. ثم قال: "ارحموا عزيزاً ذل، وغنياً افتقر، وعالماً ضاع بين جهال". وامتن عليها بقومها فأطلقهم تكريماً لها. فاستأذنته في الدعاء له، فأذن لها. وقال لأصحابه: اسمعوا وعوا. فقالت: أصاب الله ببرك مواقعه، ولا جعل لك إلا لئيم حاجة، ولا سلب نعمة عن كريم قوم إلا جعلك سبباً في ردها عليه. فلما أطلقها رجعت إلى أخيها عدي وهو بدومة الجندل، فقالت له: يا أخي إيت هذا الرجل قبل أن تعلقك حبائله. فإني قد رأيت هديا ورأيا سيغلب أهل الغلبة. ورأيت خصالا تعجبني، رأيته يحب الفقير، ويفك الأسير، ويرحم الصغير، ويعرف قدر الكبير، وما رأيت أجود ولا أكرم منه، فإن يكن نبياً فللسابق فضله، وإن يكن ملكاً فلن تزال في عز ملكه، فقدم عدي إلى رسول الله فأسلم، وأسلمت سفانة!. - 6 - ويروى أن عبد قيس بن خفاف البرجمي أتى حاتم طيء في دماء حملها عن قومه، فأسلموه فيها، وعجز عنها، فقال: والله لآتين من يحملها عني. وكان شريفاً شاعراً شجاعاً. فلما قدم عليه قال: إنه وقعت بيني وبين قومي دماء فتواكلوها، وإني حملتها في مالي وأهلي، فقدمت مالي وأخرت أهلي، وكنت أملي، فإن تحملتها فرب حق قد قضيته، وهم قد كفيته، وإن حال دون ذلك حائم لم أذمم يومك، ولم أيأس من غدك، ثم أنشأ يقول: حملت دماء للبراجم جمة ... فجئتك لما أسلمني البراجم وقالوا سفاهاً: لم حملت دماءنا ... فعلت لهم: يكفي الحمالة حاتم متى آته فيها يقل لي مرحباً ... وأهلا وسهلا أخطأتك الأشائم فيحملها عني، وإن شئت زادني ... زيادة من جلت عليه المكارم يعيش الندى ما عاش حاتم طيء ... فإن مات قامت للسخاء مآتم ينادين: مات الجود معك فلا ترى ... مجيبا له ما حام في الجو حائم وقال رجال: أنهب العام ماله ... فقلت لهم: إني بذلك عالم ولكنه يعطى من أموال طيء ... إذا جلف المال الحقوق اللوازم فيعطى التي فيها الغنى وكأنه ... لتصغيره تلك المطية جارم بذلك أوصاه عدي وحشرج ... وسعد وعبد الله تلك القماقم فقال له حاتم: إني كنت لأحبن مثلك من قومك، هذا مرباعي من مغارة على بني تميم خذه وافرا، فإن وفى بالحمالة، وإلا كملتها لك، وهو مائنا بعير سوى نيبها وفصالها، مع أني لا أحب أن تؤبس قومك بأموالهم. فضحك أبو جبيل، وقال: أي بعير دفعته إلي، وليس ذنبه في يد صاحبه فأنت منه بريء، فدفعها إليه وزاده مائة بعير فأخذها وانصرف راجعاً إلى قومه، فقال حاتم في ذلك: أتاني البرجمي أبو جبيل ... لهم في حمالته طويل فقلت له: خذ المرباع منها ... فإني لست أرضى بالقليل على حال ولا عودت نفسي ... على علاتها علل البخيل فخذها إنها مائنا بمير ... سوى الناب الرذية والفصيل

فلا من عليك بها، فإني ... رأيت المن يزرى بالجميل فآب البرجمي وما عليه ... من أعباء الحمالة من فنيل يجر الذيل ينفض مذرويه ... خفيف الظهر من حمل ثقيل! - 7 - وقالت ماوية امرأة حاتم: أصابتنا سنة اقشعرت لها الأرض، واغبر أفق السماء وراحت الإبل حدبا حدابير، وضنت المراضع على أولادها، فما تبض بقطرة، وحلقت ألسنة المال، وأبقنا بالهلاك. فوالله أنا لفي ليلة صنبر، بعيدة مابين الطرفين، إذ تضاغى صبيتنا جوعاً: عبد الله وعدي وسفانة، فقام حاتم إلى الصبيين، وقمت أنا إلى الصبية، وأقبل يعللني بالحديث، فعرفت ما يريد، فتناومت. فلما تهورت النجوم، إذا شيء قد رفع كسر البيت ثم عاد. فقال حاتم: من هذا؟ قالت: جارتك فلانة، أتيتك من عند صبية يتعاوون عواء الذئاب، فما وجدت معلولا إلا عليك يا أبا عدي. فقال: أعجليهم فقد أشبعك الله!. فأقبلت المرأة تحمل اثنين ويمشي بجانبها أربعة، كأنها نعامة حولها رثالها، فقام حاتم إلى فرسه فوجأ لبته بمدية فخر. ثم كشطه ودفع المدية إلى المرأة، فقال لها: شأنك! فاجتمعنا على اللحم نشوي ونأكل. ثم جعل يمشي الحي يأتيهم بيتاً بيتاً فيقول: هبوا أيها القوم، عليكم بالنار، فاجتمعوا والتفع وجلس في ناحية ينظر إلينا. فوالله إن ذاق منه مزعة وانه لأحوج إليه منا، فأصبحنا وما على ظهر الأرض من الفرس إلا عظم وحافر، فأنشأ حاتم يقول: مهلا نوار أقلي اللوم والعذلا ... ولا تقولي لشيء فات ما فعلا ولا تقولي لمال كنت مهلكه ... مهلا وإن كنت أعطي السهل والجبلا يرى البخيل المال واحدة ... إن الجواد يرى في ماله سبلا - 8 - ولما تزوج حاتم ماوية، وكانت من أحسن النساء، لبثت عنده زمناً ثم إن ابن عم له يقال له مالك قال لماوية: ما تصنعين بحاتم؟ فوالله لئن وجد شيئاً ليتلفنه، ولئن لم يجد ليتكلفن، ولئن مات ليتركن ولده عيالا على قومه، طلقي حاتماً وأنا أتزوج بك، فأنا خير لك منه وأكثر مالاً، وأنا أمسك عليك وعلى ولدك. فقالت ماوية: صدقت إنه لكذلك فلم يزل بها حتى طلقت حاتماً. وكانت النساء أو بعضهن يطلقن الرجال في الجاهلية. وكان طلاقهن أنهن يحولن أبواب بيوتهن إن كان الباب إلى المشرق جعلنه إلى المغرب، وإن كان الباب قبل اليمن جعلنه قبل الشام، فإذا رأى ذلك الرجل علم أنها قد طلقته فلم يأتها. فأتى حاتم فوجدها قد حولت باب الخباء فقال لابنه: يا عدي ما ترى أمك؟ ما عدا عليها! قال: لا أدري غير أنها غيرت باب الخباء، وكأنه لم يلحن لما قال. فدعاه فهبط به بطن واد. وجاء قوم فنزلوا على باب الخباء، كما كانوا ينزلون فتوافى خمسون رجلاً فضاقت بهم ماوية ذرعاً، فقالت لجاريتها: اذهبي إلى مالك فقولي له إن أضيافاً لحاتم قد نزلوا بنا وهم خمسون رجلاً فأرسل إلينا بنات نقرهم ولبن نعبقهم. وقالت لجاريتها: انظري إلى جبينه وفمه فإن شافهك بالمعروف فاقبلي منه وإن ضرب بلحييه على زوره فارجعي ودعيه. فلما أتت مالكاً وجدته متوسداً وطبا من لبن، فأيقظته وأبلغته الرسالة وقالت، إنما هي الليلة حتى يعلم الناس مكانه، فأدخل يده في رأسه وضرب بلحييه على زوره، فقال لها: أقرئي عليها السلام، وقولي لها هذا الذي أمرتك أن تطلقي حاتماً من أجله. فما عندي من كبيرة، قد تركت العمل، وما كنت لأنحر صفية غزيرة بشحم كلاها، وما عندي لبن يكفي أضياف حاتم. فرجعت الجارية فأخبرتها بما رأت منه، وأعلمتها بمقالته، فقالت لها: ويلك ائتي حاتماً فقولي له: إن أضيافك قد نزلوا الليلة بنا، ولم يعلموا بمكانك، فأرسل إلينا بنات ننحرها ونقرهم، وبلبن نسقهم، فإنما هي الليلة حتى يعرفوا مكانك. فأتت الجارية حاتماً فصرخت به، فقال حاتم لبيك، قريباً دعوت، فقالت: إن ماوية تقرأ عليك السلام، وتقول لك: إن أضيافك قد نزلوا بنا الليلة، فأرسل إليهم بناب ننحرها لهم ولبن نسقهم. فقال: نعم وأبي! ثم قام إلى الإبل فأطلق اثنتين من عقاليهما، ثم صاح بهما حتى أتى الخباء، فضرب عراقيبهما، فطفقت ماوية تصيح وتقول: هذا الذي طلقتك فيه، تترك ولدك وليس لهم شيء. - 9 -

شعراء النسيب في العصر الجاهلي

وكانت امرأة من العرب من بنات ملوك اليمن ذات جمال وكمال، وحسب ومال، فآلت ألا تزوج نفسها إلا من كريم، ولئن خطبها لئيم لتجد عن أنفه، فتحاماها الناس حتى انتدب إليها زيد الخيل، وحاتم بن عبد الله، وأوس بن حارثة الطائيون، فاتحلوا إليها. فلما دخلوا عليها قالت مرحبا بكم، ما كنتم زوارا، فما الذي جاء بكم؟ قالوا: جئنا زوارا خطابا، قالت أكفاء كرام، ثم أنزلتهم وفرقت بينهم وأسبغت لهم القرى، وزادت فيه. فلما كان اليوم الثاني بعثت بعض جواريها متنكرة في زي سائلة تتعرض لهم، فرفع إليها زيد وأوس شطر ما حمل إلى كل واحد منهما، فلما صارت إ لى رحل حاتم دفع إليها جميع ما كان من نفقته، وحمل إليها جميع ما حمل إليه. فلما كان اليوم الثالث دخلوا عليها، فقالت ليصف كل واحد منكم نفسه في شعره، فابتدر زيد وأنشأ يقول: هلا سألت بني ذبيان ما حسبي ... عند الطعان إذا ما احمرت الحدق وجاءت الخيل محمرا بوادرها ... بالماء يسفح من لباتها العلق والجار يعلم أني لست خاذلة ... إن ناب دهر لعظم الجار معترق هذا الثناء، فإن ترضى فراضية ... أو تسخطي فإلى من تعطف العنق؟ وقال أوس بن حارثة: إنك لتعلمين أنا أكرم أحسابا، وأشهر أفعالا من أن نصف أنفسنا لك، أنا الذي يقول فيه الشاعر: إلى أوس بن حارثة بن لأم ... ليقضي حاجتي ولقد قضاها فما وطئ الحصا مثل ابن سعدى ... ولا لبس النعال ولا احتذاها وأنا الذي عقت عقيقته، وأعتقت عن كل شعرة فيها عنه نسمة، ثم أنشأ يقول: فإن تنكحي ماوية الخير حاتما ... فما مثله فينا ولا في الأعاجم فتى لا يزال الدهر أكبر همه ... فكاك أسير أو معونة غارم وإن تنكحي زيدا ففارس قومه ... إذا الحرب يوماً أقعدت كل قائم وإن تنكحيني تنكحي غير فاجر ... ولا جارف جرف العشيرة هادم ولا متق يوماً إذا الحرب شمرت ... بأنفسها نفسي كفعل الأشائم وإن طارق الأضياف لاذ برحله ... وجدت ابن سعدى للقرى غير عائم فأي فتى أهدى لك الله فاقبلي ... فإنا كرام من رؤوس أكارم وأنشأ حاتم يقول: أماوي قد طال التجنب والهجر ... وقد عذرتني في طلابكم عذر أماوي إن المال غاد ورائح ... ويبقى من المال الأحاديث والذكر أماوي إني لا أقول لسائل ... إذا جاء يوماً: حل في مالنا النزر أماوي إما مانع فمبين ... وإما عطاء لا ينهنهه الزجر أماوي ما يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر أماوي إن يصبح صداي بقفرة ... من الأرض لا ماء لدي ولا خمر ترى إن ما أنفقت لم يك ضائري ... وأن يدي مما بخلت به صفر أماوي إني رب واحد أمه ... أخذت فلا قتل عليه ولا أسر وقد علم الأقوام لو أن حاتماً ... أراد ثراء المال كان له وفر أماوي إن المال مال بذلته ... فأوله شكر وآخره ذكر وإني لا آلو بمالي صنيعة ... فأوله زاد وآخره ذخر يفك به العاني ويؤكل طيبا ... وما إن يعريه القداح ولا القمر ولا أظلم ابن العم إن كان إخوتي ... شهوداً وقد أودى بإخوته الدهر غنينا زمانا بالتصعلك والغنى ... وكلا سقاناه بكأسيهما الدهر فما زادنا بأواً على ذي قرابة ... غنانا، ولا أزرى بأحسابنا الفقر وما ضر جاراً ياابنة القوم فاعلمي ... يجاورني ألا يكون له ستر بعيني عن جارات قومي غفلة ... وفي السمع مني عن أحاديثها وقر فقالت أما أنت يا زيد فقد وترت العرب، وبقاؤك مع الحرة قليل، وأما أنت يا أوس فرجل ذو ضرائر، والدخول عليهن شديد، وأما أنت يا حاتم فمرضي الأخلاق، محمود الشيم، كريم النفس، وقد زوّجتك نفسي. شعراء النسيب في العصر الجاهلي وهم كثيرون ومنهم: المرقش الأكبر 552 م، وعبد الله بن العجلان 566 م، ومالك، وعنترة، ومسعود بن خراشة التميمي وقد أدرك الإسلام، ومنظور بن زبان الفزاري. ولهم شعر رائع وقصائد كثيرة قصروها على الغزل وحده كما في قصيدة المرقش الأكبر: سرى ليلا خيال سليمى.

لبيد بن ربيعة

وقد يبدو أن نسيب فن إسلامي بدأه عمر بن أبي ربيعة وجميل وكثير وطبقتهم، والحقيقة أن هؤلاء كانوا يحتذون مثالاً لمن تقدمهم، وما أظن أحداً بلغ من صفة النساء ما بلغ النابغة حين سأله النعمان أن يصف امرأته المتجردة، أو ما بلغ المنخل اليشكري والمرار العدوي وسويد بن أبي كاهل وشعر المرقشين الأكبر والأصغر وعبد الله بن العجلان النهدي وقيس بن الحدادية، ممن صدقوا الحب ونسبوا في لفظ عفيف ومعنى نزيه مشهور معروف.. قال المرقش الأكبر: سرى ليلا خيال من سليمى ... فأرقني أصحاب هجود فبت أدير أمري كل حال ... وأرقب أهلها وهم بعيد على أن قد سما طرفي لنار ... يشب لها بذي الآرطي وقود حواليها مهاجم التراقي ... وآرام وغزلان رقود نواعم لا تعالج بؤس العيش ... أوانس لا تروح ولا ترود يرحن معاً بطاء المشي بدا ... عليهن المحاسد والبرود سكن ببلدة وسكنت أخرى ... وقطعت المواثق والعهود فما بالي أفي ويخان عهدي ... وما بالي أصاد ولا أصيد ورب أسيلة الخدين بكر ... منعمة لها فرع وجيد وذو أشر شتيت النبت عذب ... نقي اللون براق برود لهوت بها زماناً من شبابي ... وزارتها النجائب والقصيد أناس كلما أخلقت وصلا ... عناني منهم وصل جديد وقال: نواعم أبكار سرائر بدن ... حسان الوجوه لينات السوالف يهدلن في الآذان كل مذهب ... له زبد يعيان به كل واصف قصرن شقيا لا يبالين غيه ... يعوجن من أعناقها بالمواقف نشرن حديثاً آنساً فوضعته ... خفيضا فلا يلغى به كل طائف ولعبد الله بن العجلان: ألا أبلغا هند أسلامي فإن نأت ... فقلبي مذ شطت بها الدار مدنف ولم أر هنداً بعد موقف ساعة ... بأنعم في أهل الديار تطوف أنت بين أتراب تمايس إذ مشت ... دبيب القطا أو هن منهن أقطف أشارت إلينا في خفاء وراعها ... سراة الضحى مني على الحي موقف وقالت تباعد يا ابن عمي فإنني ... منيت بذي صول يغار ويعتف وقال: خليلي زورا قبل شحط النوى هندا ... ولا تأمنا من دار ذي لطف بعدا ولا تعجلا لم يدر صاحب حاجة ... أغيا يلاقى في التعجل أم رشدا ومرا عليها بارك الله فيكما ... وإن لم تكن هند لوجهيكما قصدا وقولا لها ليس الضلال أجارنا ... ولكننا جرنا لنلقاكم عمدا وقال قيش بن الحدادية من قصيدة طويلة: أجدك أن نعم نأت أنت جازع ... قد اقتربت لو أن ذلك نافع قد اقتربت لو أن في قرب دارها ... نوالا ولكن كل من ضن مانع وقد جاورتنا في شهور كثيرة ... فما نولت والله راء وسامع وظني بها حفظ لغيبي ورعية ... لما استرعيت والظن بالغيب واسع فقالت لقاء بعد حول وحجة ... وشحط النوى إلا لذي العهد قاطع وقد يلتقي بعد الشتاء أولو النوى ... ويسترجع الحي السحاب اللوامع ومنها: كأن فؤادي بين شقين من عصا ... حذار وقوع البين والبين واقع يحث بهم حاد سريع نجاؤه ... ومعرى عن الساقين واللوب واسع فقلت لها يا نعم حلى محلنا ... فإن الهوى يا نعم والعيش جامع فقالت وعيناها تفيضان عبرة ... بأهلي بين لي متى أنت راجع فقلت لها تالله يدري مسافر ... إذا أضمرته الأرض ما الله صانع فشدت على فيها اللثام وأعرضت ... وأمعن بالكحل السحيق المدامع وإني لعهد الود راع وإنني ... بوصلك ما لم يطوني الموت طامع فنصيب هذا العصر من النسيب كما رأيت أوفر وأجود مما توهم الأدباء، وهو أصل ينتمي إليه بارع النسيب الإسلامي من قريب. لبيد بن ربيعة حياته وشعره لبيد بن ربيعة من بني عامر بن صعصعة، وهي قبيلة مضرية، وأمه من بني عبس. كان في الجاهلية شريفاً جواداً شجاعاً شاعراً وقد أدرك الإسلام وأسلم، وعمر طويلاً حتى مات في خلافة معاوية عام 41هـ. وأكثر شعره قاله قبل الإسلام، فلما أسلم لم يقل إلا قليلا. وهو شاعر بدوي يصف في شعره حياة بدوية صحراوية ولاسيما في معلقته التي مطلعها:

ديوان لبيد

عفت الديار محلها فمقامها ... بمن تأبد غولها فرجامها ويظهر أنه قالها في شبابه وهي تمثل الشعر البدوي في متانته وقوته. وفي شعره بعد ذلك - وهو الذي عمله في الكهولة والشيخوخة على ما يظهر - أثر الحكمة وقوة الشعور الديني كزهير، مثل قوله: وما المرء إلا كالشهاب وضوئه ... يحور رمادا بعدما هو ساطع وما المال والأهلون إلا ودائع ... ولابد يوماً أن ترد الودائع وما الناس إلا عاملان: فعامل ... يتبر ما يبنى، وآخر رافع وقصيدته التي مطلعها: ألا كل شيء ما خلا الله باطل ... وكل نفيم لا محالة زائل وكل أناس سوف تدخل بينهم ... دويهية تصفر منها الأنامل وقصيدته: إن تقوى ربنا خير نفل ... وبإذن الله ريثي والعجل أحمد الله ولا ند له ... بيديه الخير ما شاء فعل من هداه سبل الخير اهتدى ... ناعم البال ومن شاء أضل وكان لبيد أحدث أصحاب المعلقات عصرا وآخرهم موتا. وشعر لبيد مثال للفخامة والقوة والمتانة والبداوة فتراه فخم العبارة قوي اللفظ قليل الحشو مزدانا بالحكمة العالية والموعظة الحسنة. ولبيد من أحسن الجاهليين تصرفا في الرثاء وفخره قوي ينم عن شرفه وعزته ومجده وحسبه العريق. وقال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد "ألا كل شيء ما خلا الله باطل". وقد نظم لبيد الشعر في جاهليته وجرى به على سنن الأشراف والفرسان كعنترة وعمرو بن كلثوم فلم يتكسب بشعره ولذلك ترى فيه ولاسيما معلقته قوة الفخر والتحدث بالفتوة والنجدة والكرم وإيواء الجار وعزة القبيلة، ولم ينظم شعراً بعد أن أسلم. هذا ويقدم لبيد بعض النقاد محتجين بأنه أفضلهم في الجاهلية والإسلام وأقلهم لغواً في شعره، وقالت عائشة رضي الله عنها: رحم الله لبيدا ما أشعره في قوله: ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجرب لا ينفعون ولا يرجى خيرهم ... ويعاب قائلهم وإن لم يشغب وكان لبيد جواداً شريفاً في الجاهلية والإسلام وقصص جودة كثيرة. ديوان لبيد شرحه السكري والشيباني والأصمعي وابن السكيت والطوسي. ولم يصل إلينا من ذلك كله إلا نصف شرح الطوسي في مخطوطة طبعها في فيينا يوسف ضياء الدين الخالدي المقدسي سنة 1880 وفيها عشرون قصيدة هي الجزء الثاني من الديوان وقد صدرت بمقدمة عن الديوان والشاعر. وكذلك عنى بالديوان المستشرق هوبر الذي طبعه في ليدن سنة 1981 ووضع مقدمة له في حياة لبيد، وأخرجه بإشراف بروكلمان. ولمعلقة لبيد شروح، وقد نشرها دي ساسي وقد ترجمها إلى الفرنسية أيضاً. مصادر حياة لبيد ترجم له صاحب الأغاني في الجزء الرابع عشر، وابن قتيبة في الشعر والشعراء وذكره ابن سلام في طلبقات الشعراء والمرزباني في الموشح. وترجم له صاحب كتاب "تاريخ الأدب العربي في العصر الجاهلي"، والزيات في كتابه تاريخ الأدب العربي، وأصحاب الوسيط والمفصل وسواهم. وترجم له أيضاً في سلسلة الروائع. معلقة لبيد لبيد بن ربيعة العامري من سادة العامريين القيسيين وأشرافهم وكان يقال لأبيه ربيعة المعتربن وعمه ملاعب الأسنة عامر بن مالك أخذ أربعين مرباعا في الجاهلية. كان لبيد من شعراء الجاهلية وفرسانهم وقال الشعر في الجاهلية في كل غرض، وأجرك الإسلام وأسلم وهجر الشعر وأقام بالكوفة إلى أن مات عام 41هـ مائة وسبع وخمسين سنة. وسئل لبيد من أشعر الناس؟ فقال: الملك الضليل، ثم الشاب القتيل، ثم الشيخ أبو عقيل يعني نفسه. وهو من أصحاب المعلقات، وكان نظم لبيد الجاهلية فجم العبارة منضد اللفظ قليل الحشو مزداناً، فالحكمة العالية ثعات، وهو أحسن الجاهليين تصرفاً في الرثاء، وأكثرهم قدرة على تصوير عواطف المفجوع الحزين بلفظ رائق وألوب مؤثر، وقدمه بعض النقاد "لأنه أفضل الشعراء في الجاهلية والإسلام، وأقلهم لغواً في شعره". ومعلقته لبيد تمتاز بقوة اللفظ ومتانة الأسلوب، وبما فيها من تصوير للبادية والحياة والأخلاق فيها. أ - بدأها لبيد بذكر الديار وخلوها من أصحابها وتعرضها للرياح والأمطار تعبث بها ويمحو معالمها. قال: عفت الديار محلها فمقامها ... بمعنى تأبد غولها فرجامها

أعشى قيس 535 - 629م

وجلا السيول عن الطول كأنها ... زبر تجد متونها أقلامها فوقفت أسألها، وكيف سؤالنا ... صما خوالد ما يبين كلامها ثم يصف رحيل أحبابه عنها، حتى يقول: بل ما نذكر من "نوار" وقد نأت ... وتقطعت أسبابها ورمامها مرية، حلت بفيد، وجاورت ... أهل الحجاز، فابن منك مرامها وأخيراً، يرى لا أن يتسلى ويتعزى حتى يصل إلى رجائه وأمله، ولكن أن يقطع أمله منها ويترك رجاءه فيها ويقطع صلته بها مادامت نوار قد تغير وصلها: فاقطع لبانة من تعرص وصله ... ولشر واصل خلة صرامها ب - ثم يأخذ في وصف ناقته في لفظ غريب وتعبير بدوي متين، ويطيل في هذا الوصف ويشبهها بالأتان الوحشية وبالظبية الرؤوم المفجوعة إلى أن يقول: فبتلك إذ رقص اللوامع بالضحى ... واجتاب أرجية السراب كامها أقضي اللبانة لا أفرط ريبة ... أو أن يلوم بحاجة لوامها أولم تكن تدري نوار بأنني ... وصال عقد حبائل جذامها تراك أمكنة إذا لم أرضها ... أو يرتبط بعض النفوس حمامها ج - ثم يتحدث عن نفسه وعزتها، ولذات الراح التي شارك فيها، وشجاعته وبطولته في مواقف النزال والنضال، وكرامه وسخائه، ونواله للجار الفقير والضيف النازل والجار الغريب وللبائسين والمساكين: وجزور أيسار دعوت لحتفها ... بمغالق متشابه أعلامها فالضيف والجار الغريب كأنما ... هبطا تبالة مخصبا أهضامها تأوي إلى الأطناب كل رزية ... مثل البلية قالص أهدامها د - ثم يفتخر بقومه ومآثرهم ورفهم ومجدهم فيقول: من معشر سنت لهم آباؤهم ... ولكل قوم سنة وإمامها فبنوا لنا بيتاً رفيعاً سمكه ... فسما إليه كهلها وغلامها فاقنع بما قسم المليك فإنما ... قسم الخلائق بيننا علامها وإذا الأمانة قسمت في معشر ... أوفى بأعظم حظنا قسامها فهم السعاة إذا العشيرة أفظعت ... وهم فوارسها وهم حكامها وهم ربيع للمجاور فيهم ... والمرملات إذا تطاول عامها أعشى قيس 535 - 629م حياته 1 - صناجة العرب أعشى قيس المعروف بالأعشى الأكبر، وهو أبو بصير ميمون بن جندل بن شراحبيل بن عوف بن سعد من قيس بن ثعلبة من بكر بن وائل من ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان. وقيس بن ثعلبة من أشهر القبائل شاعرية وأكثرهم شعراء، والأعشى هو أحد الأعلام من شعراء الجاهلية وفحولهم، وكانت العرب تتغنى بشعره وتسميه صناجة العرب. ولقب بالأعشى لضعف في بصره. 2 - والده قيس بن جندل يسمى قتيل الجوع، قال جهنام البكري: أبوك قتيل الجوع قيس بن جندل ... وخالك عبد من خماعة راضع روي أنه دخل غاراً يستظل به من لفح الحر فوقعت صخرة فسدت الغار فمات جوعاً. وأمه أخت المسيب بن علس الشاعر 580م من بني خماعة من بني ضبيعة وتزوج امرأة من بني عنزة من هزان ثم طلقها. 3 - ولد الأعشى بقرية من قرى اليمامة يقال لها منفوحة ونشأ راوية لخاله المسيب وتتلمذ عليه في الشعر وبدأ حياته شاباً فقيراً ماجناً يلعب القمار ويشرب الخمر، ثم سكن الحيرة وتردد على النصارى فيها يأتيهم ويشرب الخمر معهم، ثم جاب الجزيرة العربية من أقصاها إلى أقصاها يمدح ملوكها وأمراءها: قد جبت مابين بانقيا إلى عدن ... وطال في العجم تردادي وتسياري ويقول: وطوفت للمال آفاقه ... عمان فحمص فأورشليم أتيت النجاشي في داره ... وأرض النبيط وأرض العجم وكان تطوافه سبباً في كثرة معارفه وسعة ثقافته. اتصل بنصارى نجران وبأهل الحيرة وبشريح بن السموءل اليهودي صاحب تيماء بحصنه "الأبلق" وعده بعض الباحثين من النصارى، والظاهر أنه لم يؤمن بدين وأن مسحة العقيدة النصرانية التي قد تبدو على شعره إنما كان منشؤها كثرة تردده على الحيرة ومعاشرته لأهلها. وكان يوافي سوق عكاظ وينشد فيه شعره فيحفظ عنه ويغني به ولذلك كانت العرب تضيفه وتهاديه ليمدحها ويطير ذكرها.

قيل إن عبد العزى المحلق الكلابي كان أبوه من أشراف العرب فمات، وقد أتلف ماله وبقي المحلق وثلاث أخوات له لم يترك لهم إلا ناقة واحدة وحلتي برود جيدة فأقبل الأعشى في بعض أسفاره يريد منزله باليمامة، فنزل الماء الذي به المحلق فقراه أهل الماء فأحسنوا قراه فأقبلت عمة المحلق فقالت يا ابن أخي هذا الأعشى نزل بمائنا وقد قراه أهل الماء والعرب تزعم أنه لم يمدح قوماً إلا رفعهم ولم يهج قوماً إلا وضعهم، فاحتل في زق خمر من عند بعض التجار فأرسل إليه بهذه الناقة والزق وبردى أبيك، فوالله لئن اعتلج الكبد والسنام والخمر في جوفه ونظر إلى عطفيه في البرد ليقولن فيك شعراً يرفعك به. قال: ما أملك غير هذه الناقة وأنا أتوقع رسلها، فأخذت عمته تحضه، ثم دخل عليها وقال قد ارتحل الرجل. قالت الآن والله أحسن ما كان القرى تتبعه ذلك مع غلام أبيك فحيثما أدركه أخبره عنك أنك كنت غائباً عند نزوله الماء وأنك لما وردت فعلمت أنه كان به كرهت أن يفوتك قراه، فإن هذا أحسن لموقعه عنده. فمازالت به حتى فعل ذلك فخرج مولاه يتبع الأعشى، فكلما مر بماء قيل له: قد ارتحل أمس عنه، حتى صار إلى منزله بمنفوحة، فوجد عنده جماعة من الفتيان قد غداهم بغير لحم وسقاهم، فقرع الباب فقال لهم: انظروا من هذا. فدخلوا عليه وقالوا: رسول المحلق الكلابي أتاك بكيت وكيت، ومازالوا به حتى أذن له، فدخل وأدى الرسالة فقال له: أقرئه السلام وقل: وصلتك رحم سيأتيك ثناؤها. وقام الفتيان فنحروا الجزور وأخذوا يشوون ويأكلون ويشربون من الخمر، فلما شبع الأعشى قال: أرقت وما هذا السهاد المؤرق ... وما بي من سقم وما بي تعشق فسارت القصيدة وشاعت في العرب، فما أتى على المحلق سنة حتى زوج إخوته الثلاث كل واحدة على مائة ناقة، فأيسر وشرف. ويروى أن امرأة كسدت عليها بناتها فأتت الأعشى وسألته أن يشبب بواحدة فواحدة منهن وبعثت له هدايا فما زال يشيب بواحدة منهن واحدة حتى زوجن جميعا. 4 - وفد الأعشى على كسرى، وقصد النعمان بن المنذر وأنشده: إليك ... أبيت اللعن كان كلالها تروح مع الليل الطويل وتغتدي ثم أنشده قصيدته: أأزمعت من آل ليلى ابتكارا ... وشطت على ذي هوان تزارا ويقال: إن الأعشى أول من سأل بشعره وانتجع به أقاصي البلاد ورحل به إلى الملوك والأمراء وكان يغنى بشعره، فكانت العرب تسميه صناجة العرب، وكان بين علقمة بن علاثة وعامر بن الطفيل مفاخرة، وكان الأعشى يمدح عامر بن الطفيل ويهجو علقمة، ومما قال فيه: علقم ما أنت إلى عامر ... الناقض الأوتار والواتر فلما بلغ ذلك علقمة نذر دمه وجعل له على كل طريق رصدا، فخرج الأعشى يوماً يريد وجهاً فأخطأ به الدليل فألقاه في ديار عامر، فأخذه رهط علقمة فأتوه به فقال: علقم قد صيرتني الأمور ... إليك وما أنت لي منقص فهب لي نفسي فدتك النفوس ... ولازلت تنمو ولا تنقص فهم علقمة بقتله، ثم دخل إلى أمه، فقال لها: قد أمكنني الله من هذا الأعمى الخبيث. قالت: فما تراك فاعلاً به؟ قال سأقتله شر قتله. فقالت: يا بني قد كنت أرجوك لقومك عامة وإني اليوم لأرجوك لنفسك خاصة وإنما الرأي أن تكسوه وتحمله وتسيره إلى بلاده، فإنه لا يمحو عنك ما قاله إلا هو. ففعل ما أمرته به وأحسن صلته، فقال الأعشى: علقم يا خير بني عامر ... للضيف والصاحب والزائر والضاحك السن على همه ... والغافر العثرة للعائر ومدح شريح بن السموءل والأسود بن الهنذر أخا النعمان لأمه وكان من تيم الرباب وهي قبائل من الياس بن مضر وكان أخوه ولاه عليهم وقد كان عنده أسرى من بني سعد بن ضبيعة، فأتاه الأعشى ومدحه بقصيدته: ما بكاء الكبير بالأطلال ... وسؤالي وما ترد سؤالي وسأله أن يطلقهم ففعل. وهذه القصيدة عند بعض العلماء معدودة من المعلقات وبعضهم يذكر أن معلقته هي قصيدته: ودع هريرة إن الركب مرتحل ... وهل تطيق وداعاً أيها الرجل وبعضهم يجعل معلقته هي مدحته للرسول: ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا ... وبت كما بات السليم مسهدا وهي قصيدة رائعة. ومدح قيس بن معد يكرب الكندي، وسواه.

شعر الأعشى

وقال الأعشى يمدح السموءل، ويستجير بابنه شريح بن السموءل من رجل كلبي كان الأعشى هجاه ثم أغار على قوم كان الأعشى نازلاً فيهم، فأسره وهو لا يعرفه، ثم سار حتى نزل بشريح بن السموءل فأحسن ضيافته، ومر بالأسرى فناداه الأعشى: سريح، لا تسلمني بعد ما علقت ... حبالك اليوم بعد القد أظفاري قد سرت ما بين بلقاء إلى عدن ... وطال في العجم تكراري وتسياري فكان أكرمهم عهداً وأوثقهم ... عقداً أبوك بعرف غير إنكار كالغيث مااستمطروه جاد وابله ... وفي الشدائد كالمستأسد الضاري كن كالسموءل إذ طاف الهمام به ... في جحفل كسواد الليل جرار إذ سامه خطتي خسف فقال له ... قل ما تشاء فإني سامع حار فقال: غدر وثكل أنت بينهما ... فاختر. وما فيهما حظ لمختار فشك غير طويل ثم قال له: ... اقتل أسيرك، إني مانع جاري هذا له خلف إن كنت قاتله ... وإن قتلت كريما غير خوار وسوف يعقبنيه إن ظفرت به ... رب كريم وقوم أهل اطهار فاختار أدراعه كي لا يسب به ... ولم يكن وعده فيها بخنار فجاء شريح الكلبي فقال: "هذا الأسير المنصور" فقال "هو لك" فأطلقه وقال له الأعشى "إن تمام إحسانك إلى أن تعطيني ناقة ناجية وتخليني الساعة" فأعطاه ناقة ناجية، فركبها ومضى من ساعته. وبلغ الكلبي أن الذي وهب لشريح هو الأعشى، فأرسل إلى شريح: "ابعث إلي الأسير الذي وهبت لك حتى أحبوه وأعطيه" فقال: "قد مضى" فأرسل الكلبي في أثره فلم يلحقه. ولما وفد الأعشلا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، مدحه بقصيدته التي أولها: ألم تغمض عيناك ليلة أرمدا ... وعاك ما عاد السليم المسهد وما ذاك من عشق النساء وإنما ... تناسيت قبل اليوم خلة مهددا وفيها يقول لناقته: فأليت لا أرثي لها من كلالة ... ولا من حفا حتى تزور محمدا نبي يرى مالا ترون وذكره ... أغار لعمري في البلاد وأنجدا متى ما تناخى عند باب ابن هاشم ... تراحى وتلقى من فواضله يدا فبلغ خبره قريشاً قط، فرصدوه على طريقه وقالوا: هذا صناجة العرب ما مدح أحداً قط إلا رفع قدره. فلما ورد عليهم قالوا له: أين أردت يا أبا بصير؟ قال: أردت صاحبكم هذا لأسلم. قالوا: إنه ينهاك عن خلال ويحرمها عليك. قال: وما هي؟ فقال أبو سفيان بن حرب: الزنا. قال: لقد تركني الزنا وتركته، ثم ماذا؟ قالوا: القمار. قال لعلي إن لقيته أن أصيب منه عوضاً من القمار، ثم ماذا؟ قالوا: الربا. قال: ما دنت ولا أدنت، ثم ماذا؟ قالوا: الخمر. قال أوه! أرجع إلى صبابة قد بقيت في المهراس فأشربها. قال له أبو سفيان: هل لك في خير مما هممت به؟ قال: وما هو؟ قال: نحن وهو الآن في هدنة، فتأخذ مائة من الإبل، وترجع إلى بلدك سنتك هذه، وتنظر ما يصير إليه أمرنا، فإن ظهرنا عليه كنت قد أخذت خلفا، وإن ظهر علينا أتيته. فقال: ما أكره ذلك. قال أبو سفيان: يا معشر قريش، هذا الأعشى! والله لئن أتى محمداً وأتبعه ليضر من عليكم نيران العرب بشعره. فاجمعوا له مائة من الإبل. ففعلوا، فأخذها وانطلق إلى بلده، فلما كان بقاع منفوحة رمى به بعيره فقتله. شعر الأعشى 1 - للأعشى ديوان شعر كبير طبع مراراً، وقد قدمه كثير من النقاد محتجين بكثرة طواله الجياد وتصرفه في المديح والهجاء وسائر فنون الشعر، وقيل إنه أمدحهم للملوك وأوصفهم للخمر وأغزرهم شعراً وأحسنهم قريضا. وقال عبد الملك بن مروان لمؤدب أولاده: أدبهم برواية شعر الأعشى فإن لكلامه عذوبة، قاتله الله ما كان أعذب بحره وأصلب صخره فمن زعم أن أحداً من الشعراء أشعر من الأعشى فليس يعرف الشعر. ومهما كان فهو أحد الأربعة الذين وقع الاتفاق على تقديمهم على من عداهم وهم: امرؤ القيس والنابغة وزهير والأعشى، فهو من الطبقة الأولى عند كثير من النقاد ويروى أشعر الناس امرؤ القيس إذا ركب والنابغة إذا رهب وزهير إذا رغب والأعشى إذا طرب. 2 - ويمتاز شعره بمعارفه الواسعة، وقد أدخل فيه ألفاظاً فارسية لإقامته في الحيرة، ووصف سيل العرم والقصر الأبلق. وأكثر الأعشى من وصف الخمر وما إليها من نديم وساقي وقينة وعود وأطال في ذلك حتى عد إمام الأخطل وأبي نواس.

السموأل بن عاديا

3 - وعلى أي حال، فعلى شعره رونق الحسن وطلاوة الأسلوب والبراعة في وصف الخمر والإجادة مع الطول. ولقوة طبعه وجلبة شعره سمي صناجة العرب حتى ليخيل إليك إذا أنشدت شعره أن آخر ينشده معك. ولجلالة شعر الأعشى وأثره بين العرب كان يرفع الوضيع الخامل وتضع الخامل الشريف. ومن شعره قصيدته التي مدح بها الرسول صلى الله عليه وسلم، ويعدها بعضهم من المعلقات، ومطلعها: ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا ... وبت كما بات السليم مسهدا وما ذاك من عشق النساء وإنما ... تناسيت قبل اليوم حلة مهددا ولكن أرى الدهر الذي هو خائن ... إذا أصلحت كفاي عاد فأفسدا شباب وشيب وافتقار وثروة ... فلله هذا الدهر كيف ترددا فآليت لا أرثي لها من كلالة ... ولا من حفي حتى تلاقي محمدا متى ما تناخى عند باب ابن هاشم ... تراحى وتلقى من فواضله ندى نبي يرى مالا يرون وذكره ... أغار لعمري في البلاد وأنجدا له صدقات ما تغب ونائل ... وليس عطاء اليوم يمنعه غدا ومن شعر الأعشى قصيدته اللامية المعروفة التي يقول منها: صدت هريرة عنا ما تكلمنا ... جهلاً بأم خليد حبل من تصل؟ أئن رأت رجلاً أعشى أضربه ... ريب المنون ودهر مفند خبل قالت هريرة لما جئت زائرها: ... ويلي عليك وويلي منك يا رجل إما ترينا حفاة، لا نعال لنا ... إنا كذلك ما نحفى وننتعل وقد أقود الصبا يوما، فيتبعني ... وقد يصاحبني ذو الشرة الغزل وقد غدوت إلى الحانوت يتبعني ... شاو مشل شلوب شلشل شول في فتية كسيوف الهند قد علموا ... أن هالك كل من يحفى وينتعل نازعتهم قضب الريحان متكئا ... وقهوة مزة رواوقها خضل لا يستفيقون منها، وهي راهنة ... إلا بهات وإن علوا وإن نهلوا يسعى بها ذو زجاجات له نطف ... قلص أسفل السربال معتمل ومستجيب تخال الصنج يسمعه ... إذا ترجع فيه القينة الفضل والساحبات ذيول الربط آونة ... والرافلات على أعجازها العجل من كل ذلك يوم قد لهوت به ... وفي التجارب طول اللهو والغزل أبلغ يزيد بني شيبان مألكة ... أبا ثبيت أما تنفك تأتكل ألست منتهياً عن نحت أثلتنا ... ولست ضائرها ما أطت لأبل كناطع صخرة يوماً ليوهنها ... فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل تغرى بنا رهط مسعود وإخوته ... يوم اللقاء، فتردى، ثم تعنزل لا أعرفنك إن جدت عداوتنا ... والتمس النصر منكم عوض تحتمل نلحم أبناء ذي الجدين إن غضبوا ... أرماحنا، ثم تلقاهم، وتعتزل لا تقعدون، وقد أكلتها حطبا ... تعوذ من شرها يوماً وتبتهل سائل بني أسد عنا، فقد علموا ... أن سوف يأتيك من أنبائنا شكل واسأل قشيرا وعبد الله كلهم ... واسأل ربيعة عنا كيف نفتعل إنا نقاتلهم حتى نقتلهم ... عند اللقاء، وإن جاروا وإن جهلوا قد كان في آل كهف إن هم احتربوا ... والجاشرية من يسعى وينتضل إني لعمر الذي خطت مناسمها ... تخدى، وسيق إليه الباقر الغيل لئن قتلتم عميدا لم يكن صددا ... لنقتلن مثله منكم، فنمتثل لئن منيت بنا عن غب معركة ... لا تلفنا عن دماء القوم ننفتل لا تنتهون، ولن ينهى ذوي شطط ... كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل السموأل بن عاديا كان السموءل يهودياً مشهوراً بالوفاء وهو صاحب الحصن المعروف بالأبلق، كانت العرب تنزل فيه فيضيفها، وبالسموءل يضرب المثل في الوفاء. يقال أوفى من السموءل، لأنه فضل قتل ابنه على التفريط في أمانة أودعها عنده امرؤ القيس لما سار إلى الشام يريد قيصر، وكانت الأمانة أدرعا وفي ذلك يقول السموءل: وفيت بأدرع الكندي إني ... إذا ما خان أقوام وفيت وأوصى عاديا يوما بأن لا ... تهدم يا سموءل ما بنيت بني لي عاديا حصنا حصينا ... وماء كلما شئت استقيت ومن أشعاره المعروفة قصيدة يمدح بها قومه، أوردها أبو تمام في كتاب الحماسة، مطلعها: إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه ... فكل رداء يرتديه جميل

حاتم الطائي

وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها ... فليس إلى حسن الثناء سبيل وكان للسموءل أخ شاعر أيضاً وابن يدعى شريحا مدحه الأعشى في شعره.. وعلى ما يقول المحققون: إن السموءل عاش في أواخر الجيل السادس ومات في أوائل الجيل السابع وكان معاصراً للأعشى، ويقال إنه توفي سنة 560م. حاتم الطائي - 1 - اشتهر بالجود والكرم حتى جرى ذكره مجرى الأمثال فيقال "أجود من حاتم الطي" وقد وصل إلينا من شعره قليل جاء في ديوان الحماسة وكتاب الأغاني وغيرهما من كتب الأدب، وله ديوان معروف باسمه وتوفي حاتم سنة 605م، وقبره بعوارض، وهو جبل لبني طي، ويحكى عن جوده الحكايات الكثيرة، ومن غريبها أن نفراً من بني أسد مروا بقبر حاتم فقالوا: نزلنا بحاتم فلم يقرنا، وجعلوا ينادون: يا حاتم ألا تقرى أضيافك؟ ثم ناموا جميعاً وكان رئيس القوم رجلاً يقال له أبو الخيبري فنام أيضاً، حتى إذا كان السحر وثب وجعل يصيح: وا رحلتاه. فقال له أصحابه: مالك! قال: خرج والله حاتم بالسيف وأنا أنظر إليه حتى عقر ناقتي. قالوا: كذبت. فنظروا إلى راحلته فإذا هي منخزلة لا تنبعث. قالوا والله قراك. فظلوا يأكلون من لحمها ثم أردفوه فانطلقوا فساروا، وإذا راكب يلحقهم فنظروا فإذا هو عدي بن حاتم راكباً قارناً جملاً أسود فلحقهم وقال أيكم أبو الخبيري فدلوه عليه فقال جاءني أبي في النوم فذكر لي شتمك له وأنه قرى راحلتك لأصحابك وقد قال في ذلك أبياتاً ورددها حتى حفظتها وهي: أبا الخيبرى وأنت امرؤ ... حسود العشيرة شتامها فماذا أردت إلى رمة ... بداوية صخب هامها تبغي أذاها وإعسارها ... وحولك غوث وانعامها وإنا لنطعم أضيافنا من ال ... كرم بالسيف نعتامها وقد أمرني أن أحملك على جمل فدونكه فأخذوه وركبه وذهبوا. ولم يبلغ أحد في الجود ما بلغ حاتم، وهو من بني الحشرج من طي وأحد شعراء الجاهلية.. ويكنى أبا عدي وأبا سفانة.. وأدرك ابنه الإسلام وأسلم. قال عدي قلت يا رسول الله: إن أبي كان يصل الرحم ويفعل كذا وكذا، قال: إن أباك أراد أمراً فأدركه يعني الذكر. وكانت سفانة بنته أتى بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت، يا محمد هلك الولد، وغاب الرافد فإن رأيت أن تتخلى عني ولا تشمت بي أحياء العرب فإن أبي سيد قومه، وكان يفك العاني ويحمي الذمار ويفرج عن المكروب، ويطعم الطعام، ويفشى السلام، ولم يطلب إليه طالب قط حاجة فرده، أنا ابنة حاتم طي.. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا جارية هذه صفة المؤمن لو كان أبوك إسلامياً لترحمنا عليه، خلوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق. قال ابن الأعرابي كان حاتم من شعراء الجاهلية، وكان جواداً يشبه جوده شعره، ويصدق قوله فعله، وكان حيثما نزل عرف منزله، وكان مظفراً إذا قاتل غلب، وإذا غنم أنهب، وإذا ضرب بالقداح فاز، وإذا سابق سبق، وإذا أسر أطلق. وكان إذا أهل رجب نحر في كل يوم عشرة من الإبل وأطعم الناس واجتمعوا عليه، وكان أول ما ظهر من جوده أن أباه خلفه في إبله وهو غلام، فمر به جماعة من الشعراء، فيهم عبيد بن الأبرص، وبشر بن أبي خازم، والنابغة الذبياني، يريدون النعمان بن المنذر، فقالوا هل من قرى؟ ولم يعرفهم. فقال أتسألوني القرى وقد رأيتم الإبل والغنم، انزلوا فنزلوا فنحر لكل واحد منهم، وسألهم عن أسمائهم، فأخبروه ففرق فيهم الإبل والغنم، وجاء أبوه فقال: ما فعلت؟ قال طوقتك مجد الدهر طةق الحمامة وعرفه القضية، فقال أبوه إذا لا أساكنك بعدها أبدا ولا آويك. فقال حاتم: إذا لا أبالي. ومن حديثه، أنه خرج في الشهر الحرام يطلب حاجة، فلما كان بأرض عنزة ناداه أسير لهم: يا أبا سفانة أكلني الاسار والقمل. فقال: ويحك ما أنا في بلاد قومي وما معي شيء، وقد أسأت بي إذ نوهت باسمي ومالك مترك، ثم ساوم به العنزيين واشتراه منهم فخلاه وأقام مكانه في قيده حتى أتى بفدائه فأداه إليهم.

وحدثت ماوية امرأة حاتم أن الناس أصابتهم سنة فأذهبت الخف والظلف فبتنا ذات ليلة بأشد الجوع فأخذ حاتم عديا وأخذت سفانة فعللناهما حتى ناما، ثم أخذ يعللني بالحديث لأنام، فرققت لما بعد من الجهد فأمسكت عن كلامه لينام ويظن أني نائمة، فقال لي أنمت مراراً فلم أحبه، فسكت ونظر من وراء الخباء فإذا شيء قد أقبل فرفع رأسه، فإذا امرأة تقول: يا أبا سفانة قد أتيتك من عند صبية جياع. فقال أحضريني صبيانك فوالله فأشبعنهم. قالت: فقمت سريعاً فقلت بماذا يا حاتم فوالله ما نام صبيانك من الجوع إلا بالتعليل، فقام إلى فرسه فذبحه ثم أجج ناراً وقال اشتوى وكلي وأطعمي ولدك. وقال لي أيقظي صبيتك فأيقظتهم، ثم قال والله إن هذا للؤم أن تأكلوا وأهل الصرم حالهم كحالكم فجعل يأتي الصرم بيتاً بيتاً ويقول: عليكم النار فاجتمعوا وأكلوا وتقنع بكسائه وقعد ناحية حتى لم يوجد من الفرس على الأرض قليل ولا كثير ولم يذق منه شيئا. - 2 - ولحاتم الطائي شعر كثير وهو من البلاغة بمكان، والمذكور في ديوانه بعض منه ومن شعره يخاطب امرأته ماوية بنت عبد الله: أيا ابنة عبد الله وابنة مالك ... ويا ابنة ذي البردين والفرس الورد إذا ما صنعت الزاد فالتمس له ... أكيلا فإني لست آكله وحدي أخا طارقا أو جار بيت فإنني ... أخاف مذ مات الأحاديث من بعدي وإني لعبد الضيف مادام ثاويا ... وما في إلا تلك من شيمة العبد عني بذي البردين عامر بن أحيمر بن بهدلة. وكان من حديث البردين حين لقب به أن الوفود اجتمعت عند المنذر بن ماء السماء وهو المنذر بن امرئ القيس، وماء السماء قيل أمه، نسب إليها لشرفها، وقيل لقبت بماء السماء لصفاء نسبها ويقال لنقاء لونها، ويراد أنها كماء السماء لم يحتمل كدورة. وأخرج المنذر بردين يوما يبلو الوفود، وقال ليقم أعز العرب قبيلة فليأخذهما، فقام عامر بن أحيمر فأخذهما وائتزر بأحدهما وارتدى بالآخر. فقال له المنذر: أأنت أعز العرب قبيلة؟ قال العز والعدد في معد، ثم في نزار ثم في مضر، ثم في خندف ثم في تميم، ثم في سعد ثم في كعب، ثم في عوف، ثم في بهدلة، فمن أنكر هذا فلينافرني. فسكت الناس، فقال المنذر هذه عشيرتك كما تزعم فكيف أنت في أهل بيتك وفي نفسك؟ فقال أنا أبو عشرة وأخو عشرة وخال عشرة، وعم عشرة، وأما أنا في نفسي فشاهد العز شاهدي ثم وضع قدمه على الأرض فقال: من أزالها عن مكانها فله مائة من الإبل؟ فلم يقم إليه أحد من الحاضرين، ففاز بالبردين. ومن شعر حاتم أيضاً قوله: وعاذلة قامت علي تلومني ... كأني إذا أعطيت مالي أضيمها أعاذل أن الجود ليس بمهلكي ... ولا مخلد النفس الشحيحة لومها وتذكر أخلاق الفتى وعظامه ... مغيبة في اللحد بال رميمها ومن يبتدع ما ليس من خيم نفسه ... يدعه ويغلبه على النفس خيمها ومن ذلك قوله أيضاً: أكف يدي عن أن ينال التماسها ... أكف أصحابي حين حاجتنا معا أبيت هضيم الكشح مضطمر الحشا ... من الجوع أخشى الذم أن أتضلعا وإني لأستحيي رفيقي أن يرى ... مكان يدي من جانب الزاد أقرعا وانك مهما تعط بطنك سؤله ... وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا وقال أيضاً: أما والذي لا يعلم السر غيره ... ويحيي العظام البيض وهيم رميم لقد كنت أختار القرى طاوي الحشا ... محافظة من أن يقال لئيم وإني لأستحيي يميني وبينها ... وبين فمي داجي الظلام بهيم وقال أيضاً: ولما رأيت الناس هرت كلابهم ... ضربت بسيفي ساق أفعى فخرت وقلت لأصباء صغار ونسوة ... بشهباء من ليل الثمانين قرت عليكم من الشطين كل ورية ... إذا النار مست جانبيها أرمعلت وقال أيضاً: لا تشتري قدري إذا ما طبختها ... على إذا ما تطبخين حرام ولكن بهذاك اليفاع فأوقدي ... بجزل إذا أوقدت لا بضرام وقال أيضاً: وقائلة أهلكت بالجود مالنا ... ونفسك حتى ضربت نفسك جودها فقلت دعيني إنما تلك عادتي ... لكل كريم عادة يستعيدها

وهو القاتل لغلامه يسار، وكان إذا اشتد البرد وكلب الشتاء أمر غلامه فأوقد ناراً في بقاع من الأرض، لينظر إليها من أضل الطريق ليلا فيصمد نحوه: أوقد فإن الليل ليل قر ... والريح يا واقد ريح صر عل يرى نارك من يمر ... إن جلبت ضيفا فأنت حر وقال أيضاً: أماوي قد طال التجنب والهجر ... وقد عذرتنا في طلابكم العذر أماوي إن المال غاد ورائح ... ويبقى من المال الأحاديث والذكر أماوي إما مانع فمبين ... وإما عطاء لا ينهنهه الزجر أماوي إني لا أقول لسائل ... إذا جاء يوماً حل في مالي النذر أماوي لا يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر أماوي إن يصبح صداي بقفرة ... من الأرض لا ماء لدي ولا خمر ترى إن ما أنفقت لم يك ضرتي ... وأن يدي مما بخلت به صفر إذا أنا دلاني الذين بلونني ... بمظلمة لج جوانبها غبر وراحوا سراعا ينفضون أكفهم ... يقولون قد أدمى أظافرنا الحفر أماوي إن المال مال بذلته ... فأوله شكر وآخره ذكر وقد يعلم الأقوام لو أن حاتما ... أراد ثراء المال كان له وفر ولا أظلم ابن العم إن كان إخوتي ... شهودا وقد أودى باخوته الدهر غنينا زمانا بالتقصد والغنى ... وكل سقانا وهو كاسينا الدهر فما زادنا مأوى على ذي قرابة ... غنانا ولا أزرى بأحلامنا الفقر وله قصيدة طويلة تتعلق بالكرم ومكارم الأخلاق، وهي مسطورة في الخماسة البصرية وغيرها.. وهي هذه: وعاذلتين هبتا بعد هجعة ... تلومان متلافا مفيدا ملوما تلومان لما غور النجم ضلة ... فتى لا يرى الإنفاق في الحمد مغرما فقلت وقد طال العتاب عليهما ... وأوعدني تماني أن تبينا وتصرما ألا لا تلوماني على ما تقدما ... كفى بصروف الدهر للمرء محكما فإنكما لا ما مضى تدركانه ... ولست على ما فاتني متندما فنفسك أكرمها فإنك إن تهن ... عليك فلن تلقى مدى الدهر مكرما أهن للذي تهوى البلاد فإنه ... إذا مت كان المال نهبا مقسما ولا تشقين فيه فيسد وارث ... به حين تغشى أغبر الجوف مظلما يقسمه غنما ويشرى كرامة ... وقد صرت في خط من الأرض أعظما قليلا به ما يحمدنك وارث ... إذا نال مما كنت تجمع مغنما تحلم عن الأدنين واستبق ودهم ... ولن تستطيع الحلم حتى تحلما وعوراء قد أعرضت عنها فلم تضر ... وذمي أود قومته فتقوما وأغفر عوراء الكريم ادخاره ... وأعرض عن شتم اللئيم تكرما ولا أخذل المولى وإن كان خاذلا ... ولا أشتم ابن العم إن كان مفحما ولا زادني عنه منأى تباعدا ... وإن كان ذا نقص من المال مصرما وليل بهيم قد تسربلت هوله ... إذا الليل بالنكس الدنيء تجهما ولن يكسب الصعلوك حمداً ولا غنى ... إذا هو لم يركب من الأمر معظما لحا الله صعلوكا مناه وهمه ... من العيش أن يلقى لبوساً ومغنما ينام الضحى حتى إذا نومه استوى ... تنبه مثلوج الفؤاد مورما مقيم مع المثرين ليس ببارح ... إذا نال وجدي من الطعام ومجثما ولله صعلوك يساور همه ... وتمضي على الأحداث والدهر مقدما فتى طلبات لا يرى الخمص ترحة ... ولا شبعة إن نالها عد مغنما إذا ما رأى يوماً مكارم أعرضت ... تيمم كبراهن ثمت صمما ويغشى إذا ما كان يوم كريهة ... صدور العوالي فهو مختضب دما يرى رمحه ونبله ومجنه ... وذا شطب عضب الضريبة مخذما وأحناء سرج قاتر ولجامه ... عتاد فتى هيجا وطرفا مسموما فذلك إن يهلك فحسنى ثناؤه ... وإن عاش لم يقعد ضعيفاً مذمما وعلى الجملة فشعر حاتم صوره لنفسه وأخلاقه وجوده، ولذلك قال ابن الأعرابي: جوده يشبه شعره. وهو غزير البحر، فياض بالأمثال والحكم والمعاني المتصلة بالجود واللوم عليه وما يتصل به من جمال الذكر وحسن الأحدوثة. وقد ترى بعض التفاوت في شعره، وذلك إنما يرجع إلى كثرة المدسوس عليه، وجمع شعره في ديوان طبع بلندن وبيروت. وتوفي حاتم نحو سنة 45 ق. هـ. - 3 -

ويقول فيه الشريشي في شرح المقامات: أبو عدي فارس شاعر جاهلي أحد الأجواد الذين يضرب بهم المثل بل هو أشهر منهم، وهم كعب بن أمامة وهرم بن سنان وحاتم، وكان إذا قاتل غلب وإذا غنم أنهب وإذا سئل وهب وإذا قامر سبق وإذا أسر أطلق وإذا أثر أنفق ويقال إنه لا يعرف ميت قرى أضيافه إلا هو وذلك أن ركباً من العرب نزلوا بموضع قبره وقد نفذ زادهم وفيهم رجل يكنى أبا خيبري فجعل يقول: أبا سفانة أما تقرى أضيافك أبا سفانة إن أضيافك جياع، ويعيدها، فلما نام ثار من نومه وهو يقول: وا راحلتاه عقرت والله ناقتي، فقال له أصحاب: وكيف؟ قال رأيت أبا سفانة قد انشق عنه قبره فاستوى قائماً ينشدني: أبا خيبري لأنت امرؤ ... ظلوم العشيرة لوامها وماذا تريد إلى رمة ... بداوية صخب هامها أتبغي أذاهم وأسعارها ... ودونك طي وأنعامها ثم عمد إلى سيفي فانتضاه من غمده وعقر ناقتي وقال: دونكم فما أيقظني إلا رغاؤها، وإذا الناقة ترغو ما تنبعث، فقالوا قد والله قراك حاتم. فنحروها وأكلوا وتزودوا واقتسموا متاع أبي خيبري واستمروا لوجهتهم فلما صاروا في الظهيرة وضح لهم راكب يجنب بعيرا يؤم سمتهم حتى التقوا فقال لهم أفيكم أبو خيبري؟ قالوا نعم، فقال فإن عدي بن حاتم رأى أباه البارحة وهو يقول إن أبا خيبري وأصحابه استقروني فقريتهم ناقته فعوضه منها وزده بكرا يحمل عليه متاعه وهذه الناقة وهذا البكر فارتحل أبو خيبري الناقة وتخفف هو وأصحابه من أزوادهم على البكر ومضوا بأتم قرى.. وأدرك عدي ابنه النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه، وكان يحدث أصحابه بهذا الحديث بعد إسلامه.. وقال الشاعر في عدي: أبوك أبو سفانة الخير لم يزل ... لدن شاب حتى مات في الخير راغبا قرى قبره الأضياف إذ نزلوا به ... ولم يقر قبر قبله الدهر راكبا وكانت سفانة بنته من أجود نساء العرب وكان أبوها يعطيها الصرمة من إبله فتهبها وتعطيها للناس، فقال لها أبوها: يا بنية إن الغويين إذا اجتمعا في المال أتلفاه فإما أن أعطي وتمسكي وإما أن أمسك وتعطي فإنه لا يبقى على هذا شيء. فقالت والله لا أمسك أبدا. قال وأنا لا أمسك أبدا، قالت فلا نتجاور، فقاسمها ماله وتباينا.. وحكي أن أمه كانت من أسخى الناس وأقراهم للضيف وكانت لا تحبس شيئاً تملكه، وهي عتبة بنت عفيف بن عمرو بن عبد القيس، فلما رأى إخوتها إتلافها حجروا عليها ومنعوها مالها حتى إذا ظنوا أنها قد وجدت ألم ذلك أعطوها سرمة من إبلها، فجاءتها امرأة من هوازن تسألها، فقالت دونك الصرمة فخذيها فوالله لقد عضني من الجوع مالا أمنع بعده سائلا أبدا.. ثم أنشأت تقول: لعمري لقد ما عضني الجوع عضة ... فآليت أن لا أمنع الدهر جائعا فقولا لهذا اللائم اليوم أعفني ... فإن أنت لم تفعل فعض الأصابعا فماذا عسيتم أن تقولوا لأختكم ... سوى عذلكم أو عذل من كان معانا وهل ما ترون اليوم إلا طبيعة ... وكيف بتركي ياابن أم الطبائعا؟ فقد اكتنفه الجود من أمه وأبيه.. وقالت امرأته النوار: أصابتنا سنة اقشعرت لها الأرض واغبر أفق السماء وضنت المراضع عن أولادها فما تبض بقطرة فأيقنا بالهلاك، فوالله إني لفي ليلة صبيرة بعيدة الطرفين إذ تضاعى صبيتنا جوعا، عبد الله وعدي وسفانة، فقام إلى الصبيين وقمت إلى الصبية فوالله ما سكتوا إلا بعد هدأة من الليل وأقبل يعللني بالحديث فعرفت ما يريد فتناومت، فلما تغورت النجوم إذا شيء قد رفع كسر البيت فقال من هذا فقالت جاريتك فلانة أتيتك من عند صبية يتعاوون من الجوع عواء الذئب فما وجدت معلولا إلا عليك أبا عدي، فقال أعجليهم فقد أشبعك الله وإياهم فأقبلت تحمل اثنين ويمشي إلى جانبها أربعة كأنها نعامة حولها رثالها، فقام إلى فرسه فوجا لبتها بمدية فخرت ثم كشط الجلد ودفع المدية إلى المرأة وقال: شأنك. فاجتمعنا على اللحم نشوي ونأكل، ثم جعل يأتيهم بيتاً بيتاً ويقول هبوا أيها القوم عليكم بالنار فاجتمعوا، والتف في ثوبه ناحية ينظر إلينا والله إن ذاق منها مزعة، وإنه لأحوج إليها منا فأصبحنا وما على الأرض منها إلا عظم وحافر فأنشأ يقول: مهلا نوار أقلي اللوم والعذلا ... ولا تقول لشيء فات ما فعلا

ولا تقولي لشيء كنت مهلكه ... مهلا وإن كنت معطي العنس والجملا يرى البخيل سبيل الماء واحدة ... إن الجواد يرى في ماله سبلا ولم يكن يمسك شيئاً ما عدا فرسه وسلاحه فإنه كان لا يجود بهما.. وذكر الحريري أن عقيلا تمثل بقول حاتم: شنشنة أعرفها من أخزم. - 4 - ويروى أن الحكم بن أبي العاص خرج ومعه عطر يريد الحيرة، وكان بالحيرة سوق يجتمع إليها الناس كل سنة، فمر في طريقه بحاتم بن عبد الله الطائي، فسأله الجوار في أرض طيء حتى يصير إلى الحيرة، فأجاره، ثم أمر حاتم بجزور فنحرت وطبخت، ثم دعاهم إلى الطعام فأكلوا ولما فرغوا من الطعام طيبهم الحكم من طيبه. وكان النعمان بن المنذر قد جعل لبني لام ربع الطريق طعمة لهم، لأن بنت سعد بن حارثة بن لأم كانت عنده ومر سعد بن حارثة بحاتم ومعه قومه من بني لام، فوضع حاتم سفرته وقال: اطعموا حياكم الله! فقالوا: من هؤلاء الذين معك يا حاتم؟ قال هؤلاء جيراني. قال له سعد: فأنت تجير علينا في بلادنا! قال له: أنا ابن عمكم وأحق من لم تخفروا ذمته. فقالوا: لست هناك! وأرادوا أن يفضحوه، ووثبوا إليه وتناول سعد حاتماً، فأهوى له حاتم بالسيف، وأطار أرنبة أنفه، ووقع الشر حتى تحاجزوا ثم قالت بنو لام لحاتم: بيننا وبينك سوق الحيرة فنماجدك، ثم وضعوا تسعة أفراس رهناً ووضع حاتم فرسه رهناً عند رجل من كلب وخرجوا حتى انتهوا إلى الحيرة. وسمع بذلك إياس بن قبيصة الطائي فخاف أن يعينهم النعمان بن المنذر ويقويهم بماله وسلطانه للصهر الذي بينهم وبينه فجمع رهطه من بني حية، وقال: يا بني حية إن هؤلاء القوم قد أرادوا أن يفضحوا ابن عمكم في مماجدته، فقال رجل منهم: عندي ناقة سوداء ومائة ناقة حمراء أدماء، وقام آخر فقال: عندي عشرة حصن على كل حصان منها فارس مدجج لا يرى منه إلا عيناه، وقال حسان بن جبلة الخير: قد علمتم أن أبي قد مات وترك خيراً كثيراً، فعلى كل خمر ولحم أو طعام ما أقاموا في سوق الحيرة، ثم قام إياس فقال: على مثل جميع ما أعطيتم كلكم - وحاتم لا يعلم بشيء مما فعلوا. وذهب حاتم إلى ابن عمه وهم بن عمرو، وكان مصارماً له لا يكلمه فقالت له امرأته: أي وهم، هذا والله أبو سفانة حاتم قد طلع. فقال: ما لنا ولحاتم! أثبتي النظر. فقالت: ها هو. قال: ويحك! هو لا يكلمني، فما جاء به إلي؟ ثم نزل حتى سلم عليه فرد سلامه وحياه ثم قال له: ما جاء بك يا حاتم؟ قال: خاطرت على حسبك وحسبي. قال في الرحب والسعة، هذا مالي وعدته تسعمائة بعير فخذها مائة مائة حتى تذهب الإبل أو تصيب ما تريد. ثم إن إياس بن قبيصة قال لقومه: احملوني إلى الملك، وكان به نقرس، فحمل حتى أدخل عليه فقال: أنعم صباحاً أبيت اللعن! فقال النعمان: وحياك إليهك. فقال إياس: أنمد أختانك بالمال والخيل وجعلت بني ثعل في قعر الكنانة! أظن أختانك أن يصنعوا بحاتم كما صنعوا بعامر بن جوين لم يشعروا أن بني حية بالبلد؟ فإن شئت والله ناجزناك حتى يسفح الوادي دماً فليحضروا مجادهم غداً بمجمع العرب. فعرف النعمان الغضب في وجهه وكلامه فقال له: يا أحلمنا لا تغضب فإني سأكفيك. وأرسل النعمان إلى سعد بن حارثة وإلى أصحابه فقال: انظروا ابن عمكم حاتماً فأرضوه، فوالله ما أنا بالذي أعطيكم مالي تبذرونه وما أطيق بني حية. فخرج بنو لام إلى حاتم وقالوا له: أعرض عن هذا المجاد ندع أرش أنف ابن عمنا. قال: لا والله لا أفعل حتى تتركوا أفراسكم ويغلب مجادكم، فتركوا أرش أنف صاحبهم وأفراسهم وقالوا: قبحها الله وأبعدها! فعمد إليها حاتم فعقرها وأطعمها الناس. - 5 - ولما وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى طيء فريقاً من جنده، يقدمهم على عليه السلام، فزع عدي بن حاتم الطائي - وكان من أشد الناس عداء لرسول الله - إلى الشام فصبح على القوم، واستاق خيلهم ونعمهم ورجالهم ونساءهم إلى رسول الله.

فلما عرض عليه الأسرى نهضت من بين القوم سفانة بنت حاتم، فقالت: يا محمد، هلك الوالد، وغاب المرافد. فإن رأيت أن تخلي عني، ولا تشمت بي أحياء العرب! فإن أبي كان سيد قومه، يفك العاني، ويقتل الجاني، ويحفظ الجار، ويحمي الذمار، ويفرج عن المكروب، ويطعم الطعام ويفشي السلام، ويحمل الكل، ويعين على نوائب الدهر، وما أتاه أحد في حاجة فرده خائباً، أنا بنت حاتم الطائي!. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا جارية، هذه صفات المؤمنين حقاً، لو كان أبوك مسلماً لترحمنا عليه. خلوا عنها، فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق. ثم قال: "ارحموا عزيزاً ذل، وغنياً افتقر، وعالماً ضاع بين جهال". وامتن عليها بقومها فأطلقهم تكريماً لها. فاستأذنته في الدعاء له، فأذن لها. وقال لأصحابه: اسمعوا وعوا. فقالت: أصاب الله ببرك مواقعه، ولا جعل لك إلا لئيم حاجة، ولا سلب نعمة عن كريم قوم إلا جعلك سبباً في ردها عليه. فلما أطلقها رجعت إلى أخيها عدي وهو بدومة الجندل، فقالت له: يا أخي إيت هذا الرجل قبل أن تعلقك حبائله. فإني قد رأيت هديا ورأيا سيغلب أهل الغلبة. ورأيت خصالا تعجبني، رأيته يحب الفقير، ويفك الأسير، ويرحم الصغير، ويعرف قدر الكبير، وما رأيت أجود ولا أكرم منه، فإن يكن نبياً فللسابق فضله، وإن يكن ملكاً فلن تزال في عز ملكه، فقدم عدي إلى رسول الله فأسلم، وأسلمت سفانة!. - 6 - ويروى أن عبد قيس بن خفاف البرجمي أتى حاتم طيء في دماء حملها عن قومه، فأسلموه فيها، وعجز عنها، فقال: والله لآتين من يحملها عني. وكان شريفاً شاعراً شجاعاً. فلما قدم عليه قال: إنه وقعت بيني وبين قومي دماء فتواكلوها، وإني حملتها في مالي وأهلي، فقدمت مالي وأخرت أهلي، وكنت أملي، فإن تحملتها فرب حق قد قضيته، وهم قد كفيته، وإن حال دون ذلك حائم لم أذمم يومك، ولم أيأس من غدك، ثم أنشأ يقول: حملت دماء للبراجم جمة ... فجئتك لما أسلمني البراجم وقالوا سفاهاً: لم حملت دماءنا ... فعلت لهم: يكفي الحمالة حاتم متى آته فيها يقل لي مرحباً ... وأهلا وسهلا أخطأتك الأشائم فيحملها عني، وإن شئت زادني ... زيادة من جلت عليه المكارم يعيش الندى ما عاش حاتم طيء ... فإن مات قامت للسخاء مآتم ينادين: مات الجود معك فلا ترى ... مجيبا له ما حام في الجو حائم وقال رجال: أنهب العام ماله ... فقلت لهم: إني بذلك عالم ولكنه يعطى من أموال طيء ... إذا جلف المال الحقوق اللوازم فيعطى التي فيها الغنى وكأنه ... لتصغيره تلك المطية جارم بذلك أوصاه عدي وحشرج ... وسعد وعبد الله تلك القماقم فقال له حاتم: إني كنت لأحب ن مثلك من قومك، هذا مرباعي من مغارة على بني تميم خذه وافرا، فإن وفى بالحمالة، وإلا كملتها لك، وهو مائنا بعير سوى نيبها وفصالها، مع أني لا أحب أن تؤبس قومك بأموالهم. فضحك أبو جبيل، وقال: أي بعير دفعته إلي، وليس ذنبه في يد صاحبه فأنت منه بريء، فدفعها إليه وزاده مائة بعير فأخذها وانصرف راجعاً إلى قومه، فقال حاتم في ذلك: أتاني البرجمي أبو جبيل ... لهم في حمالته طويل فقلت له: خذ المرباع منها ... فإني لست أرضى بالقليل على حال ولا عودت نفسي ... على علاتها علل البخيل فخذها إنها مائنا بمير ... سوى الناب الرذية والفصيل فلا من عليك بها، فإني ... رأيت المن يزرى بالجميل فآب البرجمي وما عليه ... من أعباء الحمالة من فنيل يجر الذيل ينفض مذرويه ... خفيف الظهر من حمل ثقيل! - 7 - وقالت ماوية امرأة حاتم: أصابتنا سنة اقشعرت لها الأرض، واغبر أفق السماء وراحت الإبل حدبا حدابير، وضنت المراضع على أولادها، فما تبض بقطرة، وحلقت ألسنة المال، وأبقنا بالهلاك. فوالله أنا لفي ليلة صنبر، بعيدة مابين الطرفين، إذ تضاغى صبيتنا جوعاً: عبد الله وعدي وسفانة، فقام حاتم إلى الصبيين، وقمت أنا إلى الصبية، وأقبل يعللني بالحديث، فعرفت ما يريد، فتناومت.

فلما تهورت النجوم، إذا شيء قد رفع كسر البيت ثم عاد. فقال حاتم: من هذا؟ قالت: جارتك فلانة، أتيتك من عند صبية يتعاوون عواء الذئاب، فما وجدت معلولا إلا عليك يا أبا عدي. فقال: أعجليهم فقد أشبعك الله!. فأقبلت المرأة تحمل اثنين ويمشي بجانبها أربعة، كأنها نعامة حولها رثالها، فقام حاتم إلى فرسه فوجأ لبته بمدية فخر. ثم كشطه ودفع المدية إلى المرأة، فقال لها: شأنك! فاجتمعنا على اللحم نشوي ونأكل. ثم جعل يمشي الحي يأتيهم بيتاً بيتاً فيقول: هبوا أيها القوم، عليكم بالنار، فاجتمعوا والتفع وجلس في ناحية ينظر إلينا. فوالله إن ذاق منه مزعة وانه لأحوج إليه منا، فأصبحنا وما على ظهر الأرض من الفرس إلا عظم وحافر، فأنشأ حاتم يقول: مهلا نوار أقلي اللوم والعذلا ... ولا تقولي لشيء فات ما فعلا ولا تقولي لمال كنت مهلكه ... مهلا وإن كنت أعطي السهل والجبلا يرى البخيل المال واحدة ... إن الجواد يرى في ماله سبلا - 8 - ولما تزوج حاتم ماوية، وكانت من أحسن النساء، لبثت عنده زمناً ثم إن ابن عم له يقال له مالك قال لماوية: ما تصنعين بحاتم؟ فوالله لئن وجد شيئاً ليتلفنه، ولئن لم يجد ليتكلفن، ولئن مات ليتركن ولده عيالا على قومه، طلقي حاتماً وأنا أتزوج بك، فأنا خير لك منه وأكثر مالاً، وأنا أمسك عليك وعلى ولدك. فقالت ماوية: صدقت إنه لكذلك فلم يزل بها حتى طلقت حاتماً. وكانت النساء أو بعضهن يطلقن الرجال في الجاهلية. وكان طلاقهن أنهن يحولن أبواب بيوتهن إن كان الباب إلى المشرق جعلنه إلى المغرب، وإن كان الباب قبل اليمن جعلنه قبل الشام، فإذا رأى ذلك الرجل علم أنها قد طلقته فلم يأتها. فأتى حاتم فوجدها قد حولت باب الخباء فقال لابنه: يا عدي ما ترى أمك؟ ما عدا عليها! قال: لا أدري غير أنها غيرت باب الخباء، وكأنه لم يلحن لما قال. فدعاه فهبط به بطن واد. وجاء قوم فنزلوا على باب الخباء، كما كانوا ينزلون فتوافى خمسون رجلاً فضاقت بهم ماوية ذرعاً، فقالت لجاريتها: اذهبي إلى مالك فقولي له إن أضيافاً لحاتم قد نزلوا بنا وهم خمسون رجلاً فأرسل إلينا بنات نقرهم ولبن نعبقهم. وقالت لجاريتها: انظري إلى جبينه وفمه فإن شافهك بالمعروف فاقبلي منه وإن ضرب بلحييه على زوره فارجعي ودعيه. فلما أتت مالكاً وجدته متوسداً وطبا من لبن، فأيقظته وأبلغته الرسالة وقالت، إنما هي الليلة حتى يعلم الناس مكانه، فأدخل يده في رأسه وضرب بلحييه على زوره، فقال لها: أقرئي عليها السلام، وقولي لها هذا الذي أمرتك أن تطلقي حاتماً من أجله. فما عندي من كبيرة، قد تركت العمل، وما كنت لأنحر صفية غزيرة بشحم كلاها، وما عندي لبن يكفي أضياف حاتم. فرجعت الجارية فأخبرتها بما رأت منه، وأعلمتها بمقالته، فقالت لها: ويلك ائتي حاتماً فقولي له: إن أضيافك قد نزلوا الليلة بنا، ولم يعلموا بمكانك، فأرسل إلينا بنات ننحرها ونقرهم، وبلبن نسقهم، فإنما هي الليلة حتى يعرفوا مكانك. فأتت الجارية حاتماً فصرخت به، فقال حاتم لبيك، قريباً دعوت، فقالت: إن ماوية تقرأ عليك السلام، وتقول لك: إن أضيافك قد نزلوا بنا الليلة، فأرسل إليهم بناب ننحرها لهم ولبن نسقهم. فقال: نعم وأبي! ثم قام إلى الإبل فأطلق اثنتين من عقاليهما، ثم صاح بهما حتى أتى الخباء، فضرب عراقيبهما، فطفقت ماوية تصيح وتقول: هذا الذي طلقتك فيه، تترك ولدك وليس لهم شيء. - 9 - وكانت امرأة من العرب من بنات ملوك اليمن ذات جمال وكمال، وحسب ومال، فآلت ألا تزوج نفسها إلا من كريم، ولئن خطبها لئيم لتجد عن أنفه، فتحاماها الناس حتى انتدب إليها زيد الخيل، وحاتم بن عبد الله، وأوس بن حارثة الطائيون، فاتحلوا إليها. فلما دخلوا عليها قالت مرحبا بكم، ما كنتم زوارا، فما الذي جاء بكم؟ قالوا: جئنا زوارا خطابا، قالت أكفاء كرام، ثم أنزلتهم وفرقت بينهم وأسبغت لهم القرى، وزادت فيه. فلما كان اليوم الثاني بعثت بعض جواريها متنكرة في زي سائلة تتعرض لهم، فرفع إليها زيد وأوس شطر ما حمل إلى كل واحد منهما، فلما صارت إلى رحل حاتم دفع إليها جميع ما كان من نفقته، وحمل إليها جميع ما حمل إليه.

أعشى قيس 535 - 629م

فلما كان اليوم الثالث دخلوا عليها، فقالت ليصف كل واحد منكم نفسه في شعره، فابتدر زيد وأنشأ يقول: هلا سألت بني ذبيان ما حسبي ... عند الطعان إذا ما احمرت الحدق وجاءت الخيل محمرا بوادرها ... بالماء يسفح من لباتها العلق والجار يعلم أني لست خاذلة ... إن ناب دهر لعظم الجار معترق هذا الثناء، فإن ترضى فراضية ... أو تسخطي فإلى من تعطف العنق؟ وقال أوس بن حارثة: إنك لتعلمين أنا أكرم أحسابا، وأشهر أفعالا من أن نصف أنفسنا لك، أنا الذي يقول فيه الشاعر: إلى أوس بن حارثة بن لأم ... ليقضي حاجتي ولقد قضاها فما وطئ الحصا مثل ابن سعدى ... ولا لبس النعال ولا احتذاها وأنا الذي عقت عقيقته، وأعتقت عن كل شعرة فيها عنه نسمة، ثم أنشأ يقول: فإن تنكحي ماوية الخير حاتما ... فما مثله فينا ولا في الأعاجم فتى لا يزال الدهر أكبر همه ... فكاك أسير أو معونة غارم وإن تنكحي زيدا ففارس قومه ... إذا الحرب يوماً أقعدت كل قائم وإن تنكحيني تنكحي غير فاجر ... ولا جارف جرف العشيرة هادم ولا متق يوماً إذا الحرب شمرت ... بأنفسها نفسي كفعل الأشائم وإن طارق الأضياف لاذ برحله ... وجدت ابن سعدى للقرى غير عائم فأي فتى أهدى لك الله فاقبلي ... فإنا كرام من رؤوس أكارم وأنشأ حاتم يقول: أماوي قد طال التجنب والهجر ... وقد عذرتني في طلابكم عذر أماوي إن المال غاد ورائح ... ويبقى من المال الأحاديث والذكر أماوي إني لا أقول لسائل ... إذا جاء يوماً: حل في مالنا النزر أماوي إما مانع فمبين ... وإما عطاء لا ينهنهه الزجر أماوي ما يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر أماوي إن يصبح صداي بقفرة ... من الأرض لا ماء لدي ولا خمر ترى إن ما أنفقت لم يك ضائري ... وأن يدي مما بخلت به صفر أماوي إني رب واحد أمه ... أخذت فلا قتل عليه ولا أسر وقد علم الأقوام لو أن حاتماً ... أراد ثراء المال كان له وفر أماوي إن المال مال بذلته ... فأوله شكر وآخره ذكر وإني لا آلو بمالي صنيعة ... فأوله زاد وآخره ذخر يفك به العاني ويؤكل طيبا ... وما إن يعريه القداح ولا القمر ولا أظلم ابن العم إن كان إخوتي ... شهوداً وقد أودى بإخوته الدهر غنينا زمانا بالتصعلك والغنى ... وكلا سقاناه بكأسيهما الدهر فما زادنا بأواً على ذي قرابة ... غنانا، ولا أزرى بأحسابنا الفقر وما ضر جاراً يا ابنة القوم فاعلمي ... يجاورني ألا يكون له ستر بعيني عن جارات قومي غفلة ... وفي السمع مني عن أحاديثها وقر فقالت أما أنت يا زيد فقد وترت العرب، وبقاؤك مع الحرة قليل، وأما أنت يا أوس فرجل ذو ضرائر، والدخول عليهن شديد، وأما أنت يا حاتم فمرضي الأخلاق، محمود الشيم، كريم النفس، وقد زوّجتك نفسي. أعشى قيس 535 - 629م حياته 1 - صناجة العرب أعشى قيس المعروف بالأعشى الأكبر، وهو أبو بصير ميمون بن جندل بن شراحبيل بن عوف بن سعد من قيس بن ثعلبة من بكر بن وائل من ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان. وقيس بن ثعلبة من أشهر القبائل شاعرية وأكثرهم شعراء، والأعشى هو أحد الأعلام من شعراء الجاهلية وفحولهم، وكانت العرب تتغنى بشعره وتسميه صناجة العرب. ولقب بالأعشى لضعف في بصره. 2 - والده قيس بن جندل يسمى قتيل الجوع، قال جهنام البكري: أبوك قتيل الجوع قيس بن جندل ... وخالك عبد من خماعة راضع روي أنه دخل غاراً يستظل به من لفح الحر فوقعت صخرة فسدت الغار فمات جوعاً. وأمه أخت المسيب بن علس الشاعر 580م من بني خماعة من بني ضبيعة وتزوج امرأة من بني عنزة من هزان ثم طلقها.

3 - ولد الأعشى بقرية من قرى اليمامة يقال لها منفوحة ونشأ راوية لخاله المسيب وتتلمذ عليه في الشعر وبدأ حياته شاباً فقيراً ماجناً يلعب القمار ويشرب الخمر، ثم سكن الحيرة وتردد على النصارى فيها يأتيهم ويشرب الخمر معهم، ثم جاب الجزيرة العربية من أقصاها إلى أقصاها يمدح ملوكها وأمراءها: قد جبت مابين بانقيا إلى عدن ... وطال في العجم تردادي وتسياري ويقول: وطوفت للمال آفاقه ... عمان فحمص فأورشليم أتيت النجاشي في داره ... وأرض النبيط وأرض العجم وكان تطوافه سبباً في كثرة معارفه وسعة ثقافته. اتصل بنصارى نجران وبأهل الحيرة وبشريح بن السموءل اليهودي صاحب تيماء بحصنه "الأبلق" وعده بعض الباحثين من النصارى، والظاهر أنه لم يؤمن بدين وأن مسحة العقيدة النصرانية التي قد تبدو على شعره إنما كان منشؤها كثرة تردده على الحيرة ومعاشرته لأهلها. وكان يوافي سوق عكاظ وينشد فيه شعره فيحفظ عنه ويغني به ولذلك كانت العرب تضيفه وتهاديه ليمدحها ويطير ذكرها. قيل إن عبد العزى المحلق الكلابي كان أبوه من أشراف العرب فمات، وقد أتلف ماله وبقي المحلق وثلاث أخوات له لم يترك لهم إلا ناقة واحدة وحلتي برود جيدة فأقبل الأعشى في بعض أسفاره يريد منزله باليمامة، فنزل الماء الذي به المحلق فقراه أهل الماء فأحسنوا قراه فأقبلت عمة المحلق فقالت يا ابن أخي هذا الأعشى نزل بمائنا وقد قراه أهل الماء والعرب تزعم أنه لم يمدح قوماً إلا رفعهم ولم يهج قوماً إلا وضعهم، فاحتل في زق خمر من عند بعض التجار فأرسل إليه بهذه الناقة والزق وبردى أبيك، فوالله لئن اعتلج الكبد والسنام والخمر في جوفه ونظر إلى عطفيه في البرد ليقولن فيك شعراً يرفعك به. قال: ما أملك غير هذه الناقة وأنا أتوقع رسلها، فأخذت عمته تحضه، ثم دخل عليها وقال قد ارتحل الرجل. قالت الآن والله أحسن ما كان القرى تتبعه ذلك مع غلام أبيك فحيثما أدركه أخبره عنك أنك كنت غائباً عند نزوله الماء وأنك لما وردت فعلمت أنه كان به كرهت أن يفوتك قراه، فإن هذا أحسن لموقعه عنده. فمازالت به حتى فعل ذلك فخرج مولاه يتبع الأعشى، فكلما مر بماء قيل له: قد ارتحل أمس عنه، حتى صار إلى منزله بمنفوحة، فوجد عنده جماعة من الفتيان قد غداهم بغير لحم وسقاهم، فقرع الباب فقال لهم: انظروا من هذا. فدخلوا عليه وقالوا: رسول المحلق الكلابي أتاك بكيت وكيت، ومازالوا به حتى أذن له، فدخل وأدى الرسالة فقال له: أقرئه السلام وقل: وصلتك رحم سيأتيك ثناؤها. وقام الفتيان فنحروا الجزور وأخذوا يشوون ويأكلون ويشربون من الخمر، فلما شبع الأعشى قال: أرقت وما هذا السهاد المؤرق ... وما بي من سقم وما بي تعشق فسارت القصيدة وشاعت في العرب، فما أتى على المحلق سنة حتى زوج إخوته الثلاث كل واحدة على مائة ناقة، فأيسر وشرف. ويروى أن امرأة كسدت عليها بناتها فأتت الأعشى وسألته أن يشبب بواحدة فواحدة منهن وبعثت له هدايا فما زال يشيب بواحدة منهن واحدة حتى زوجن جميعا. 4 - وفد الأعشى على كسرى، وقصد النعمان بن المنذر وأنشده: إليك ... أبيت اللعن كان كلالها تروح مع الليل الطويل وتغتدي ثم أنشده قصيدته: أأزمعت من آل ليلى ابتكارا ... وشطت على ذي هوان تزارا ويقال: إن الأعشى أول من سأل بشعره وانتجع به أقاصي البلاد ورحل به إلى الملوك والأمراء وكان يغنى بشعره، فكانت العرب تسميه صناجة العرب، وكان بين علقمة بن علاثة وعامر بن الطفيل مفاخرة، وكان الأعشى يمدح عامر بن الطفيل ويهجو علقمة، ومما قال فيه: علقم ما أنت إلى عامر ... الناقض الأوتار والواتر فلما بلغ ذلك علقمة نذر دمه وجعل له على كل طريق رصدا، فخرج الأعشى يوماً يريد وجهاً فأخطأ به الدليل فألقاه في ديار عامر، فأخذه رهط علقمة فأتوه به فقال: علقم قد صيرتني الأمور ... إليك وما أنت لي منقص فهب لي نفسي فدتك النفوس ... ولازلت تنمو ولا تنقص

فهم علقمة بقتله، ثم دخل إلى أمه، فقال لها: قد أمكنني الله من هذا الأعمى الخبيث. قالت: فما تراك فاعلاً به؟ قال سأقتله شر قتله. فقالت: يا بني قد كنت أرجوك لقومك عامة وإني اليوم لأرجوك لنفسك خاصة وإنما الرأي أن تكسوه وتحمله وتسيره إلى بلاده، فإنه لا يمحو عنك ما قاله إلا هو. ففعل ما أمرته به وأحسن صلته، فقال الأعشى: علقم يا خير بني عامر ... للضيف والصاحب والزائر والضاحك السن على همه ... والغافر العثرة للعائر ومدح شريح بن السموءل والأسود بن الهنذر أخا النعمان لأمه وكان من تيم الرباب وهي قبائل من الياس بن مضر وكان أخوه ولاه عليهم وقد كان عنده أسرى من بني سعد بن ضبيعة، فأتاه الأعشى ومدحه بقصيدته: ما بكاء الكبير بالأطلال ... وسؤالي وما ترد سؤالي وسأله أن يطلقهم ففعل. وهذه القصيدة عند بعض العلماء معدودة من المعلقات وبعضهم يذكر أن معلقته هي قصيدته: ودع هريرة إن الركب مرتحل ... وهل تطيق وداعاً أيها الرجل وبعضهم يجعل معلقته هي مدحته للرسول: ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا ... وبت كما بات السليم مسهدا وهي قصيدة رائعة. ومدح قيس بن معد يكرب الكندي، وسواه. وقال الأعشى يمدح السموءل، ويستجير بابنه شريح بن السموءل من رجل كلبي كان الأعشى هجاه ثم أغار على قوم كان الأعشى نازلاً فيهم، فأسره وهو لا يعرفه، ثم سار حتى نزل بشريح بن السموءل فأحسن ضيافته، ومر بالأسرى فناداه الأعشى: سريح، لا تسلمني بعد ما علقت ... حبالك اليوم بعد القد أظفاري قد سرت ما بين بلقاء إلى عدن ... وطال في العجم تكراري وتسياري فكان أكرمهم عهداً وأوثقهم ... عقداً أبوك بعرف غير إنكار كالغيث مااستمطروه جاد وابله ... وفي الشدائد كالمستأسد الضاري كن كالسموءل إذ طاف الهمام به ... في جحفل كسواد الليل جرار إذ سامه خطتي خسف فقال له ... قل ما تشاء فإني سامع حار فقال: غدر وثكل أنت بينهما ... فاختر. وما فيهما حظ لمختار فشك غير طويل ثم قال له: ... اقتل أسيرك، إني مانع جاري هذا له خلف إن كنت قاتله ... وإن قتلت كريما غير خوار وسوف يعقبنيه إن ظفرت به ... رب كريم وقوم أهل اطهار فاختار أدراعه كي لا يسب به ... ولم يكن وعده فيها بخنار فجاء شريح الكلبي فقال: "هذا الأسير المنصور" فقال "هو لك" فأطلقه وقال له الأعشى "إن تمام إحسانك إلى أن تعطيني ناقة ناجية وتخليني الساعة" فأعطاه ناقة ناجية، فركبها ومضى من ساعته. وبلغ الكلبي أن الذي وهب لشريح هو الأعشى، فأرسل إلى شريح: "ابعث إلي الأسير الذي وهبت لك حتى أحبوه وأعطيه" فقال: "قد مضى" فأرسل الكلبي في أثره فلم يلحقه. ولما وفد الأعشلا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، مدحه بقصيدته التي أولها: ألم تغمض عيناك ليلة أرمدا ... وعاك ما عاد السليم المسهد وما ذاك من عشق النساء وإنما ... تناسيت قبل اليوم خلة مهددا وفيها يقول لناقته: فأليت لا أرثي لها من كلالة ... ولا من حفا حتى تزور محمدا نبي يرى مالا ترون وذكره ... أغار لعمري في البلاد وأنجدا متى ما تناخى عند باب ابن هاشم ... تراحى وتلقى من فواضله يدا فبلغ خبره قريشاً قط، فرصدوه على طريقه وقالوا: هذا صناجة العرب ما مدح أحداً قط إلا رفع قدره. فلما ورد عليهم قالوا له: أين أردت يا أبا بصير؟ قال: أردت صاحبكم هذا لأسلم. قالوا: إنه ينهاك عن خلال ويحرمها عليك. قال: وما هي؟ فقال أبو سفيان بن حرب: الزنا. قال: لقد تركني الزنا وتركته، ثم ماذا؟ قالوا: القمار. قال لعلي إن لقيته أن أصيب منه عوضاً من القمار، ثم ماذا؟ قالوا: الربا. قال: ما دنت ولا أدنت، ثم ماذا؟ قالوا: الخمر. قال أوه! أرجع إلى صبابة قد بقيت في المهراس فأشربها.

شعر الأعشى

قال له أبو سفيان: هل لك في خير مما هممت به؟ قال: وما هو؟ قال: نحن وهو الآن في هدنة، فتأخذ مائة من الإبل، وترجع إلى بلدك سنتك هذه، وتنظر ما يصير إليه أمرنا، فإن ظهرنا عليه كنت قد أخذت خلفا، وإن ظهر علينا أتيته. فقال: ما أكره ذلك. قال أبو سفيان: يا معشر قريش، هذا الأعشى! والله لئن أتى محمداً وأتبعه ليضر من عليكم نيران العرب بشعره. فاجمعوا له مائة من الإبل. ففعلوا، فأخذها وانطلق إلى بلده، فلما كان بقاع منفوحة رمى به بعيره فقتله. شعر الأعشى 1 - للأعشى ديوان شعر كبير طبع مراراً، وقد قدمه كثير من النقاد محتجين بكثرة طواله الجياد وتصرفه في المديح والهجاء وسائر فنون الشعر، وقيل إنه أمدحهم للملوك وأوصفهم للخمر وأغزرهم شعراً وأحسنهم قريضا. وقال عبد الملك بن مروان لمؤدب أولاده: أدبهم برواية شعر الأعشى فإن لكلامه عذوبة، قاتله الله ما كان أعذب بحره وأصلب صخره فمن زعم أن أحداً من الشعراء أشعر من الأعشى فليس يعرف الشعر. ومهما كان فهو أحد الأربعة الذين وقع الاتفاق على تقديمهم على من عداهم وهم: امرؤ القيس والنابغة وزهير والأعشى، فهو من الطبقة الأولى عند كثير من النقاد ويروى أشعر الناس امرؤ القيس إذا ركب والنابغة إذا رهب وزهير إذا رغب والأعشى إذا طرب. 2 - ويمتاز شعره بمعارفه الواسعة، وقد أدخل فيه ألفاظاً فارسية لإقامته في الحيرة، ووصف سيل العرم والقصر الأبلق. وأكثر الأعشى من وصف الخمر وما إليها من نديم وساقي وقينة وعود وأطال في ذلك حتى عد إمام الأخطل وأبي نواس. 3 - وعلى أي حال، فعلى شعره رونق الحسن وطلاوة الأسلوب والبراعة في وصف الخمر والإجادة مع الطول. ولقوة طبعه وجلبة شعره سمي صناجة العرب حتى ليخيل إليك إذا أنشدت شعره أن آخر ينشده معك. ولجلالة شعر الأعشى وأثره بين العرب كان يرفع الوضيع الخامل وتضع الخامل الشريف. ومن شعره قصيدته التي مدح بها الرسول صلى الله عليه وسلم، ويعدها بعضهم من المعلقات، ومطلعها: ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا ... وبت كما بات السليم مسهدا وما ذاك من عشق النساء وإنما ... تناسيت قبل اليوم حلة مهددا ولكن أرى الدهر الذي هو خائن ... إذا أصلحت كفاي عاد فأفسدا شباب وشيب وافتقار وثروة ... فلله هذا الدهر كيف ترددا فآليت لا أرثي لها من كلالة ... ولا من حفي حتى تلاقي محمدا متى ما تناخى عند باب ابن هاشم ... تراحى وتلقى من فواضله ندى نبي يرى مالا يرون وذكره ... أغار لعمري في البلاد وأنجدا له صدقات ما تغب ونائل ... وليس عطاء اليوم يمنعه غدا ومن شعر الأعشى قصيدته اللامية المعروفة التي يقول منها: صدت هريرة عنا ما تكلمنا ... جهلاً بأم خليد حبل من تصل؟ أئن رأت رجلاً أعشى أضربه ... ريب المنون ودهر مفند خبل قالت هريرة لما جئت زائرها: ... ويلي عليك وويلي منك يا رجل إما ترينا حفاة، لا نعال لنا ... إنا كذلك ما نحفى وننتعل وقد أقود الصبا يوما، فيتبعني ... وقد يصاحبني ذو الشرة الغزل وقد غدوت إلى الحانوت يتبعني ... شاو مشل شلوب شلشل شول في فتية كسيوف الهند قد علموا ... أن هالك كل من يحفى وينتعل نازعتهم قضب الريحان متكئا ... وقهوة مزة رواوقها خضل لا يستفيقون منها، وهي راهنة ... إلا بهات وإن علوا وإن نهلوا يسعى بها ذو زجاجات له نطف ... قلص أسفل السربال معتمل ومستجيب تخال الصنج يسمعه ... إذا ترجع فيه القينة الفضل والساحبات ذيول الربط آونة ... والرافلات على أعجازها العجل من كل ذلك يوم قد لهوت به ... وفي التجارب طول اللهو والغزل أبلغ يزيد بني شيبان مألكة ... أبا ثبيت أما تنفك تأتكل ألست منتهياً عن نحت أثلتنا ... ولست ضائرها ما أطت لأبل كناطع صخرة يوماً ليوهنها ... فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل تغرى بنا رهط مسعود وإخوته ... يوم اللقاء، فتردى، ثم تعنزل لا أعرفنك إن جدت عداوتنا ... والتمس النصر منكم عوض تحتمل

السموأل بن عاديا

نلحم أبناء ذي الجدين إن غضبوا ... أرماحنا، ثم تلقاهم، وتعتزل لا تقعدون، وقد أكلتها حطبا ... تعوذ من شرها يوماً وتبتهل سائل بني أسد عنا، فقد علموا ... أن سوف يأتيك من أنبائنا شكل واسأل قشيرا وعبد الله كلهم ... واسأل ربيعة عنا كيف نفتعل إنا نقاتلهم حتى نقتلهم ... عند اللقاء، وإن جاروا وإن جهلوا قد كان في آل كهف إن هم احتربوا ... والجاشرية من يسعى وينتضل إني لعمر الذي خطت مناسمها ... تخدى، وسيق إليه الباقر الغيل لئن قتلتم عميدا لم يكن صددا ... لنقتلن مثله منكم، فنمتثل لئن منيت بنا عن غب معركة ... لا تلفنا عن دماء القوم ننفتل لا تنتهون، ولن ينهى ذوي شطط ... كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل السموأل بن عاديا كان السموءل يهودياً مشهوراً بالوفاء وهو صاحب الحصن المعروف بالأبلق، كانت العرب تنزل فيه فيضيفها، وبالسموءل يضرب المثل في الوفاء. يقال أوفى من السموءل، لأنه فضل قتل ابنه على التفريط في أمانة أودعها عنده امرؤ القيس لما سار إلى الشام يريد قيصر، وكانت الأمانة أدرعا وفي ذلك يقول السموءل: وفيت بأدرع الكندي إني ... إذا ما خان أقوام وفيت وأوصى عاديا يوما بأن لا ... تهدم يا سموءل ما بنيت بني لي عاديا حصنا حصينا ... وماء كلما شئت استقيت ومن أشعاره المعروفة قصيدة يمدح بها قومه، أوردها أبو تمام في كتاب الحماسة، مطلعها: إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه ... فكل رداء يرتديه جميل وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها ... فليس إلى حسن الثناء سبيل وكان للسموءل أخ شاعر أيضاً وابن يدعى شريحا مدحه الأعشى في شعره.. وعلى ما يقول المحققون: إن السموءل عاش في أواخر الجيل السادس ومات في أوائل الجيل السابع وكان معاصراً للأعشى، ويقال إنه توفي سنة 560م. حاتم الطائي - 1 - اشتهر بالجود والكرم حتى جرى ذكره مجرى الأمثال فيقال "أجود من حاتم الطي" وقد وصل إلينا من شعره قليل جاء في ديوان الحماسة وكتاب الأغاني وغيرهما من كتب الأدب، وله ديوان معروف باسمه وتوفي حاتم سنة 605م، وقبره بعوارض، وهو جبل لبني طي، ويحكى عن جوده الحكايات الكثيرة، ومن غريبها أن نفراً من بني أسد مروا بقبر حاتم فقالوا: نزلنا بحاتم فلم يقرنا، وجعلوا ينادون: يا حاتم ألا تقرى أضيافك؟ ثم ناموا جميعاً وكان رئيس القوم رجلاً يقال له أبو الخيبري فنام أيضاً، حتى إذا كان السحر وثب وجعل يصيح: وا رحلتاه. فقال له أصحابه: مالك! قال: خرج والله حاتم بالسيف وأنا أنظر إليه حتى عقر ناقتي. قالوا: كذبت. فنظروا إلى راحلته فإذا هي منخزلة لا تنبعث. قالوا والله قراك. فظلوا يأكلون من لحمها ثم أردفوه فانطلقوا فساروا، وإذا راكب يلحقهم فنظروا فإذا هو عدي بن حاتم راكباً قارناً جملاً أسود فلحقهم وقال أيكم أبو الخبيري فدلوه عليه فقال جاءني أبي في النوم فذكر لي شتمك له وأنه قرى راحلتك لأصحابك وقد قال في ذلك أبياتاً ورددها حتى حفظتها وهي: أبا الخيبرى وأنت امرؤ ... حسود العشيرة شتامها فماذا أردت إلى رمة ... بداوية صخب هامها تبغي أذاها وإعسارها ... وحولك غوث وانعامها وإنا لنطعم أضيافنا من ال ... كرم بالسيف نعتامها وقد أمرني أن أحملك على جمل فدونكه فأخذوه وركبه وذهبوا. ولم يبلغ أحد في الجود ما بلغ حاتم، وهو من بني الحشرج من طي وأحد شعراء الجاهلية.. ويكنى أبا عدي وأبا سفانة.. وأدرك ابنه الإسلام وأسلم. قال عدي قلت يا رسول الله: إن أبي كان يصل الرحم ويفعل كذا وكذا، قال: إن أباك أراد أمراً فأدركه يعني الذكر. وكانت سفانة بنته أتى بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت، يا محمد هلك الولد، وغاب الرافد فإن رأيت أن تتخلى عني ولا تشمت بي أحياء العرب فإن أبي سيد قومه، وكان يفك العاني ويحمي الذمار ويفرج عن المكروب، ويطعم الطعام، ويفشى السلام، ولم يطلب إليه طالب قط حاجة فرده، أنا ابنة حاتم طي.. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا جارية هذه صفة المؤمن لو كان أبوك إسلامياً لترحمنا عليه، خلوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق.

قال ابن الأعرابي كان حاتم من شعراء الجاهلية، وكان جواداً يشبه جوده شعره، ويصدق قوله فعله، وكان حيثما نزل عرف منزله، وكان مظفراً إذا قاتل غلب، وإذا غنم أنهب، وإذا ضرب بالقداح فاز، وإذا سابق سبق، وإذا أسر أطلق. وكان إذا أهل رجب نحر في كل يوم عشرة من الإبل وأطعم الناس واجتمعوا عليه، وكان أول ما ظهر من جوده أن أباه خلفه في إبله وهو غلام، فمر به جماعة من الشعراء، فيهم عبيد بن الأبرص، وبشر بن أبي خازم، والنابغة الذبياني، يريدون النعمان بن المنذر، فقالوا هل من قرى؟ ولم يعرفهم. فقال أتسألوني القرى وقد رأيتم الإبل والغنم، انزلوا فنزلوا فنحر لكل واحد منهم، وسألهم عن أسمائهم، فأخبروه ففرق فيهم الإبل والغنم، وجاء أبوه فقال: ما فعلت؟ قال طوقتك مجد الدهر طةق الحمامة وعرفه القضية، فقال أبوه إذا لا أساكنك بعدها أبدا ولا آويك. فقال حاتم: إذا لا أبالي. ومن حديثه، أنه خرج في الشهر الحرام يطلب حاجة، فلما كان بأرض عنزة ناداه أسير لهم: يا أبا سفانة أكلني الاسار والقمل. فقال: ويحك ما أنا في بلاد قومي وما معي شيء، وقد أسأت بي إذ نوهت باسمي ومالك مترك، ثم ساوم به العنزيين واشتراه منهم فخلاه وأقام مكانه في قيده حتى أتى بفدائه فأداه إليهم. وحدثت ماوية امرأة حاتم أن الناس أصابتهم سنة فأذهبت الخف والظلف فبتنا ذات ليلة بأشد الجوع فأخذ حاتم عديا وأخذت سفانة فعللناهما حتى ناما، ثم أخذ يعللني بالحديث لأنام، فرققت لما بعد من الجهد فأمسكت عن كلامه لينام ويظن أني نائمة، فقال لي أنمت مراراً فلم أحبه، فسكت ونظر من وراء الخباء فإذا شيء قد أقبل فرفع رأسه، فإذا امرأة تقول: يا أبا سفانة قد أتيتك من عند صبية جياع. فقال أحضريني صبيانك فوالله فأشبعنهم. قالت: فقمت سريعاً فقلت بماذا يا حاتم فوالله ما نام صبيانك من الجوع إلا بالتعليل، فقام إلى فرسه فذبحه ثم أجج ناراً وقال اشتوى وكلي وأطعمي ولدك. وقال لي أيقظي صبيتك فأيقظتهم، ثم قال والله إن هذا للؤم أن تأكلوا وأهل الصرم حالهم كحالكم فجعل يأتي الصرم بيتاً بيتاً ويقول: عليكم النار فاجتمعوا وأكلوا وتقنع بكسائه وقعد ناحية حتى لم يوجد من الفرس على الأرض قليل ولا كثير ولم يذق منه شيئا. - 2 - ولحاتم الطائي شعر كثير وهو من البلاغة بمكان، والمذكور في ديوانه بعض منه ومن شعره يخاطب امرأته ماوية بنت عبد الله: أيا ابنة عبد الله وابنة مالك ... ويا ابنة ذي البردين والفرس الورد إذا ما صنعت الزاد فالتمس له ... أكيلا فإني لست آكله وحدي أخا طارقا أو جار بيت فإنني ... أخاف مذ مات الأحاديث من بعدي وإني لعبد الضيف مادام ثاويا ... وما في إلا تلك من شيمة العبد عني بذي البردين عامر بن أحيمر بن بهدلة. وكان من حديث البردين حين لقب به أن الوفود اجتمعت عند المنذر بن ماء السماء وهو المنذر بن امرئ القيس، وماء السماء قيل أمه، نسب إليها لشرفها، وقيل لقبت بماء السماء لصفاء نسبها ويقال لنقاء لونها، ويراد أنها كماء السماء لم يحتمل كدورة. وأخرج المنذر بردين يوما يبلو الوفود، وقال ليقم أعز العرب قبيلة فليأخذهما، فقام عامر بن أحيمر فأخذهما وائتزر بأحدهما وارتدى بالآخر. فقال له المنذر: أأنت أعز العرب قبيلة؟ قال العز والعدد في معد، ثم في نزار ثم في مضر، ثم في خندف ثم في تميم، ثم في سعد ثم في كعب، ثم في عوف، ثم في بهدلة، فمن أنكر هذا فلينافرني. فسكت الناس، فقال المنذر هذه عشيرتك كما تزعم فكيف أنت في أهل بيتك وفي نفسك؟ فقال أنا أبو عشرة وأخو عشرة وخال عشرة، وعم عشرة، وأما أنا في نفسي فشاهد العز شاهدي ثم وضع قدمه على الأرض فقال: من أزالها عن مكانها فله مائة من الإبل؟ فلم يقم إليه أحد من الحاضرين، ففاز بالبردين. ومن شعر حاتم أيضاً قوله: وعاذلة قامت علي تلومني ... كأني إذا أعطيت مالي أضيمها أعاذل أن الجود ليس بمهلكي ... ولا مخلد النفس الشحيحة لومها وتذكر أخلاق الفتى وعظامه ... مغيبة في اللحد بال رميمها ومن يبتدع ما ليس من خيم نفسه ... يدعه ويغلبه على النفس خيمها ومن ذلك قوله أيضاً: أكف يدي عن أن ينال التماسها ... أكف أصحابي حين حاجتنا معا

أبيت هضيم الكشح مضطمر الحشا ... من الجوع أخشى الذم أن أتضلعا وإني لأستحيي رفيقي أن يرى ... مكان يدي من جانب الزاد أقرعا وانك مهما تعط بطنك سؤله ... وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا وقال أيضاً: أما والذي لا يعلم السر غيره ... ويحيي العظام البيض وهيم رميم لقد كنت أختار القرى طاوي الحشا ... محافظة من أن يقال لئيم وإني لأستحيي يميني وبينها ... وبين فمي داجي الظلام بهيم وقال أيضاً: ولما رأيت الناس هرت كلابهم ... ضربت بسيفي ساق أفعى فخرت وقلت لأصباء صغار ونسوة ... بشهباء من ليل الثمانين قرت عليكم من الشطين كل ورية ... إذا النار مست جانبيها أرمعلت وقال أيضاً: لا تشتري قدري إذا ما طبختها ... على إذا ما تطبخين حرام ولكن بهذاك اليفاع فأوقدي ... بجزل إذا أوقدت لا بضرام وقال أيضاً: وقائلة أهلكت بالجود مالنا ... ونفسك حتى ضربت نفسك جودها فقلت دعيني إنما تلك عادتي ... لكل كريم عادة يستعيدها وهو القاتل لغلامه يسار، وكان إذا اشتد البرد وكلب الشتاء أمر غلامه فأوقد ناراً في بقاع من الأرض، لينظر إليها من أضل الطريق ليلا فيصمد نحوه: أوقد فإن الليل ليل قر ... والريح يا واقد ريح صر عل يرى نارك من يمر ... إن جلبت ضيفا فأنت حر وقال أيضاً: أماوي قد طال التجنب والهجر ... وقد عذرتنا في طلابكم العذر أماوي إن المال غاد ورائح ... ويبقى من المال الأحاديث والذكر أماوي إما مانع فمبين ... وإما عطاء لا ينهنهه الزجر أماوي إني لا أقول لسائل ... إذا جاء يوماً حل في مالي النذر أماوي لا يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر أماوي إن يصبح صداي بقفرة ... من الأرض لا ماء لدي ولا خمر ترى إن ما أنفقت لم يك ضرتي ... وأن يدي مما بخلت به صفر إذا أنا دلاني الذين بلونني ... بمظلمة لج جوانبها غبر وراحوا سراعا ينفضون أكفهم ... يقولون قد أدمى أظافرنا الحفر أماوي إن المال مال بذلته ... فأوله شكر وآخره ذكر وقد يعلم الأقوام لو أن حاتما ... أراد ثراء المال كان له وفر ولا أظلم ابن العم إن كان إخوتي ... شهودا وقد أودى باخوته الدهر غنينا زمانا بالتقصد والغنى ... وكل سقانا وهو كاسينا الدهر فما زادنا مأوى على ذي قرابة ... غنانا ولا أزرى بأحلامنا الفقر وله قصيدة طويلة تتعلق بالكرم ومكارم الأخلاق، وهي مسطورة في الخماسة البصرية وغيرها.. وهي هذه: وعاذلتين هبتا بعد هجعة ... تلومان متلافا مفيدا ملوما تلومان لما غور النجم ضلة ... فتى لا يرى الإنفاق في الحمد مغرما فقلت وقد طال العتاب عليهما ... وأوعدني تماني أن تبينا وتصرما ألا لا تلوماني على ما تقدما ... كفى بصروف الدهر للمرء محكما فإنكما لا ما مضى تدركانه ... ولست على ما فاتني متندما فنفسك أكرمها فإنك إن تهن ... عليك فلن تلقى مدى الدهر مكرما أهن للذي تهوى البلاد فإنه ... إذا مت كان المال نهبا مقسما ولا تشقين فيه فيسد وارث ... به حين تغشى أغبر الجوف مظلما يقسمه غنما ويشرى كرامة ... وقد صرت في خط من الأرض أعظما قليلا به ما يحمدنك وارث ... إذا نال مما كنت تجمع مغنما تحلم عن الأدنين واستبق ودهم ... ولن تستطيع الحلم حتى تحلما وعوراء قد أعرضت عنها فلم تضر ... وذمي أود قومته فتقوما وأغفر عوراء الكريم ادخاره ... وأعرض عن شتم اللئيم تكرما ولا أخذل المولى وإن كان خاذلا ... ولا أشتم ابن العم إن كان مفحما ولا زادني عنه منأى تباعدا ... وإن كان ذا نقص من المال مصرما وليل بهيم قد تسربلت هوله ... إذا الليل بالنكس الدنيء تجهما ولن يكسب الصعلوك حمداً ولا غنى ... إذا هو لم يركب من الأمر معظما لحا الله صعلوكا مناه وهمه ... من العيش أن يلقى لبوساً ومغنما

ينام الضحى حتى إذا نومه استوى ... تنبه مثلوج الفؤاد مورما مقيم مع المثرين ليس ببارح ... إذا نال وجدي من الطعام ومجثما ولله صعلوك يساور همه ... وتمضي على الأحداث والدهر مقدما فتى طلبات لا يرى الخمص ترحة ... ولا شبعة إن نالها عد مغنما إذا ما رأى يوماً مكارم أعرضت ... تيمم كبراهن ثمت صمما ويغشى إذا ما كان يوم كريهة ... صدور العوالي فهو مختضب دما يرى رمحه ونبله ومجنه ... وذا شطب عضب الضريبة مخذما وأحناء سرج قاتر ولجامه ... عتاد فتى هيجا وطرفا مسموما فذلك إن يهلك فحسنى ثناؤه ... وإن عاش لم يقعد ضعيفاً مذمما وعلى الجملة فشعر حاتم صوره لنفسه وأخلاقه وجوده، ولذلك قال ابن الأعرابي: جوده يشبه شعره. وهو غزير البحر، فياض بالأمثال والحكم والمعاني المتصلة بالجود واللوم عليه وما يتصل به من جمال الذكر وحسن الأحدوثة. وقد ترى بعض التفاوت في شعره، وذلك إنما يرجع إلى كثرة المدسوس عليه، وجمع شعره في ديوان طبع بلندن وبيروت. وتوفي حاتم نحو سنة 45 ق. هـ. - 3 - ويقول فيه الشريشي في شرح المقامات: أبو عدي فارس شاعر جاهلي أحد الأجواد الذين يضرب بهم المثل بل هو أشهر منهم، وهم كعب بن أمامة وهرم بن سنان وحاتم، وكان إذا قاتل غلب وإذا غنم أنهب وإذا سئل وهب وإذا قامر سبق وإذا أسر أطلق وإذا أثر أنفق ويقال إنه لا يعرف ميت قرى أضيافه إلا هو وذلك أن ركباً من العرب نزلوا بموضع قبره وقد نفذ زادهم وفيهم رجل يكنى أبا خيبري فجعل يقول: أبا سفانة أما تقرى أضيافك أبا سفانة إن أضيافك جياع، ويعيدها، فلما نام ثار من نومه وهو يقول: وا راحلتاه عقرت والله ناقتي، فقال له أصحاب: وكيف؟ قال رأيت أبا سفانة قد انشق عنه قبره فاستوى قائماً ينشدني: أبا خيبري لأنت امرؤ ... ظلوم العشيرة لوامها وماذا تريد إلى رمة ... بداوية صخب هامها أتبغي أذاهم وأسعارها ... ودونك طي وأنعامها ثم عمد إلى سيفي فانتضاه من غمده وعقر ناقتي وقال: دونكم فما أيقظني إلا رغاؤها، وإذا الناقة ترغو ما تنبعث، فقالوا قد والله قراك حاتم. فنحروها وأكلوا وتزودوا واقتسموا متاع أبي خيبري واستمروا لوجهتهم فلما صاروا في الظهيرة وضح لهم راكب يجنب بعيرا يؤم سمتهم حتى التقوا فقال لهم أفيكم أبو خيبري؟ قالوا نعم، فقال فإن عدي بن حاتم رأى أباه البارحة وهو يقول إن أبا خيبري وأصحابه استقروني فقريتهم ناقته فعوضه منها وزده بكرا يحمل عليه متاعه وهذه الناقة وهذا البكر فارتحل أبو خيبري الناقة وتخفف هو وأصحابه من أزوادهم على البكر ومضوا بأتم قرى.. وأدرك عدي ابنه النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه، وكان يحدث أصحابه بهذا الحديث بعد إسلامه.. وقال الشاعر في عدي: أبوك أبو سفانة الخير لم يزل ... لدن شاب حتى مات في الخير راغبا قرى قبره الأضياف إذ نزلوا به ... ولم يقر قبر قبله الدهر راكبا وكانت سفانة بنته من أجود نساء العرب وكان أبوها يعطيها الصرمة من إبله فتهبها وتعطيها للناس، فقال لها أبوها: يا بنية إن الغويين إذا اجتمعا في المال أتلفاه فإما أن أعطي وتمسكي وإما أن أمسك وتعطي فإنه لا يبقى على هذا شيء. فقالت والله لا أمسك أبدا. قال وأنا لا أمسك أبدا، قالت فلا نتجاور، فقاسمها ماله وتباينا.. وحكي أن أمه كانت من أسخى الناس وأقراهم للضيف وكانت لا تحبس شيئاً تملكه، وهي عتبة بنت عفيف بن عمرو بن عبد القيس، فلما رأى إخوتها إتلافها حجروا عليها ومنعوها مالها حتى إذا ظنوا أنها قد وجدت ألم ذلك أعطوها سرمة من إبلها، فجاءتها امرأة من هوازن تسألها، فقالت دونك الصرمة فخذيها فوالله لقد عضني من الجوع مالا أمنع بعده سائلا أبدا.. ثم أنشأت تقول: لعمري لقد ما عضني الجوع عضة ... فآليت أن لا أمنع الدهر جائعا فقولا لهذا اللائم اليوم أعفني ... فإن أنت لم تفعل فعض الأصابعا فماذا عسيتم أن تقولوا لأختكم ... سوى عذلكم أو عذل من كان معانا وهل ما ترون اليوم إلا طبيعة ... وكيف بتركي ياابن أم الطبائعا؟

فقد اكتنفه الجود من أمه وأبيه.. وقالت امرأته النوار: أصابتنا سنة اقشعرت لها الأرض واغبر أفق السماء وضنت المراضع عن أولادها فما تبض بقطرة فأيقنا بالهلاك، فوالله إني لفي ليلة صبيرة بعيدة الطرفين إذ تضاعى صبيتنا جوعا، عبد الله وعدي وسفانة، فقام إلى الصبيين وقمت إلى الصبية فوالله ما سكتوا إلا بعد هدأة من الليل وأقبل يعللني بالحديث فعرفت ما يريد فتناومت، فلما تغورت النجوم إذا شيء قد رفع كسر البيت فقال من هذا فقالت جاريتك فلانة أتيتك من عند صبية يتعاوون من الجوع عواء الذئب فما وجدت معلولا إلا عليك أبا عدي، فقال أعجليهم فقد أشبعك الله وإياهم فأقبلت تحمل اثنين ويمشي إلى جانبها أربعة كأنها نعامة حولها رثالها، فقام إلى فرسه فوجا لبتها بمدية فخرت ثم كشط الجلد ودفع المدية إلى المرأة وقال: شأنك. فاجتمعنا على اللحم نشوي ونأكل، ثم جعل يأتيهم بيتاً بيتاً ويقول هبوا أيها القوم عليكم بالنار فاجتمعوا، والتف في ثوبه ناحية ينظر إلينا والله إن ذاق منها مزعة، وإنه لأحوج إليها منا فأصبحنا وما على الأرض منها إلا عظم وحافر فأنشأ يقول: مهلا نوار أقلي اللوم والعذلا ... ولا تقول لشيء فات ما فعلا ولا تقولي لشيء كنت مهلكه ... مهلا وإن كنت معطي العنس والجملا يرى البخيل سبيل الماء واحدة ... إن الجواد يرى في ماله سبلا ولم يكن يمسك شيئاً ما عدا فرسه وسلاحه فإنه كان لا يجود بهما.. وذكر الحريري أن عقيلا تمثل بقول حاتم: شنشنة أعرفها من أخزم. - 4 - ويروى أن الحكم بن أبي العاص خرج ومعه عطر يريد الحيرة، وكان بالحيرة سوق يجتمع إليها الناس كل سنة، فمر في طريقه بحاتم بن عبد الله الطائي، فسأله الجوار في أرض طيء حتى يصير إلى الحيرة، فأجاره، ثم أمر حاتم بجزور فنحرت وطبخت، ثم دعاهم إلى الطعام فأكلوا ولما فرغوا من الطعام طيبهم الحكم من طيبه. وكان النعمان بن المنذر قد جعل لبني لام ربع الطريق طعمة لهم، لأن بنت سعد بن حارثة بن لأم كانت عنده ومر سعد بن حارثة بحاتم ومعه قومه من بني لام، فوضع حاتم سفرته وقال: اطعموا حياكم الله! فقالوا: من هؤلاء الذين معك يا حاتم؟ قال هؤلاء جيراني. قال له سعد: فأنت تجير علينا في بلادنا! قال له: أنا ابن عمكم وأحق من لم تخفروا ذمته. فقالوا: لست هناك! وأرادوا أن يفضحوه، ووثبوا إليه وتناول سعد حاتماً، فأهوى له حاتم بالسيف، وأطار أرنبة أنفه، ووقع الشر حتى تحاجزوا ثم قالت بنو لام لحاتم: بيننا وبينك سوق الحيرة فنماجدك، ثم وضعوا تسعة أفراس رهناً ووضع حاتم فرسه رهناً عند رجل من كلب وخرجوا حتى انتهوا إلى الحيرة. وسمع بذلك إياس بن قبيصة الطائي فخاف أن يعينهم النعمان بن المنذر ويقويهم بماله وسلطانه للصهر الذي بينهم وبينه فجمع رهطه من بني حية، وقال: يا بني حية إن هؤلاء القوم قد أرادوا أن يفضحوا ابن عمكم في مماجدته، فقال رجل منهم: عندي ناقة سوداء ومائة ناقة حمراء أدماء، وقام آخر فقال: عندي عشرة حصن على كل حصان منها فارس مدجج لا يرى منه إلا عيناه، وقال حسان بن جبلة الخير: قد علمتم أن أبي قد مات وترك خيراً كثيراً، فعلى كل خمر ولحم أو طعام ما أقاموا في سوق الحيرة، ثم قام إياس فقال: على مثل جميع ما أعطيتم كلكم - وحاتم لا يعلم بشيء مما فعلوا. وذهب حاتم إلى ابن عمه وهم بن عمرو، وكان مصارماً له لا يكلمه فقالت له امرأته: أي وهم، هذا والله أبو سفانة حاتم قد طلع. فقال: ما لنا ولحاتم! أثبتي النظر. فقالت: ها هو. قال: ويحك! هو لا يكلمني، فما جاء به إلي؟ ثم نزل حتى سلم عليه فرد سلامه وحياه ثم قال له: ما جاء بك يا حاتم؟ قال: خاطرت على حسبك وحسبي. قال في الرحب والسعة، هذا مالي وعدته تسعمائة بعير فخذها مائة مائة حتى تذهب الإبل أو تصيب ما تريد. ثم إن إياس بن قبيصة قال لقومه: احملوني إلى الملك، وكان به نقرس، فحمل حتى أدخل عليه فقال: أنعم صباحاً أبيت اللعن! فقال النعمان: وحياك إليهك. فقال إياس: أنمد أختانك بالمال والخيل وجعلت بني ثعل في قعر الكنانة! أظن أختانك أن يصنعوا بحاتم كما صنعوا بعامر بن جوين لم يشعروا أن بني حية بالبلد؟ فإن شئت والله ناجزناك حتى يسفح الوادي دماً فليحضروا مجادهم غداً بمجمع العرب.

فعرف النعمان الغضب في وجهه وكلامه فقال له: يا أحلمنا لا تغضب فإني سأكفيك. وأرسل النعمان إلى سعد بن حارثة وإلى أصحابه فقال: انظروا ابن عمكم حاتماً فأرضوه، فوالله ما أنا بالذي أعطيكم مالي تبذرونه وما أطيق بني حية. فخرج بنو لام إلى حاتم وقالوا له: أعرض عن هذا المجاد ندع أرش أنف ابن عمنا. قال: لا والله لا أفعل حتى تتركوا أفراسكم ويغلب مجادكم، فتركوا أرش أنف صاحبهم وأفراسهم وقالوا: قبحها الله وأبعدها! فعمد إليها حاتم فعقرها وأطعمها الناس. - 5 - ولما وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى طيء فريقاً من جنده، يقدمهم على عليه السلام، فزع عدي بن حاتم الطائي - وكان من أشد الناس عداء لرسول الله - إلى الشام فصبح على القوم، واستاق خيلهم ونعمهم ورجالهم ونساءهم إلى رسول الله. فلما عرض عليه الأسرى نهضت من بين القوم سفانة بنت حاتم، فقالت: يا محمد، هلك الوالد، وغاب المرافد. فإن رأيت أن تخلي عني، ولا تشمت بي أحياء العرب! فإن أبي كان سيد قومه، يفك العاني، ويقتل الجاني، ويحفظ الجار، ويحمي الذمار، ويفرج عن المكروب، ويطعم الطعام ويفشي السلام، ويحمل الكل، ويعين على نوائب الدهر، وما أتاه أحد في حاجة فرده خائباً، أنا بنت حاتم الطائي!. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا جارية، هذه صفات المؤمنين حقاً، لو كان أبوك مسلماً لترحمنا عليه. خلوا عنها، فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق. ثم قال: "ارحموا عزيزاً ذل، وغنياً افتقر، وعالماً ضاع بين جهال". وامتن عليها بقومها فأطلقهم تكريماً لها. فاستأذنته في الدعاء له، فأذن لها. وقال لأصحابه: اسمعوا وعوا. فقالت: أصاب الله ببرك مواقعه، ولا جعل لك إلا لئيم حاجة، ولا سلب نعمة عن كريم قوم إلا جعلك سبباً في ردها عليه. فلما أطلقها رجعت إلى أخيها عدي وهو بدومة الجندل، فقالت له: يا أخي إيت هذا الرجل قبل أن تعلقك حبائله. فإني قد رأيت هديا ورأيا سيغلب أهل الغلبة. ورأيت خصالا تعجبني، رأيته يحب الفقير، ويفك الأسير، ويرحم الصغير، ويعرف قدر الكبير، وما رأيت أجود ولا أكرم منه، فإن يكن نبياً فللسابق فضله، وإن يكن ملكاً فلن تزال في عز ملكه، فقدم عدي إلى رسول الله فأسلم، وأسلمت سفانة!. - 6 - ويروى أن عبد قيس بن خفاف البرجمي أتى حاتم طيء في دماء حملها عن قومه، فأسلموه فيها، وعجز عنها، فقال: والله لآتين من يحملها عني. وكان شريفاً شاعراً شجاعاً. فلما قدم عليه قال: إنه وقعت بيني وبين قومي دماء فتواكلوها، وإني حملتها في مالي وأهلي، فقدمت مالي وأخرت أهلي، وكنت أملي، فإن تحملتها فرب حق قد قضيته، وهم قد كفيته، وإن حال دون ذلك حائم لم أذمم يومك، ولم أيأس من غدك، ثم أنشأ يقول: حملت دماء للبراجم جمة ... فجئتك لما أسلمني البراجم وقالوا سفاهاً: لم حملت دماءنا ... فعلت لهم: يكفي الحمالة حاتم متى آته فيها يقل لي مرحباً ... وأهلا وسهلا أخطأتك الأشائم فيحملها عني، وإن شئت زادني ... زيادة من جلت عليه المكارم يعيش الندى ما عاش حاتم طيء ... فإن مات قامت للسخاء مآتم ينادين: مات الجود معك فلا ترى ... مجيبا له ما حام في الجو حائم وقال رجال: أنهب العام ماله ... فقلت لهم: إني بذلك عالم ولكنه يعطى من أموال طيء ... إذا جلف المال الحقوق اللوازم فيعطى التي فيها الغنى وكأنه ... لتصغيره تلك المطية جارم بذلك أوصاه عدي وحشرج ... وسعد وعبد الله تلك القماقم فقال له حاتم: إني كنت لأحب ن مثلك من قومك، هذا مرباعي من مغارة على بني تميم خذه وافرا، فإن وفى بالحمالة، وإلا كملتها لك، وهو مائنا بعير سوى نيبها وفصالها، مع أني لا أحب أن تؤبس قومك بأموالهم. فضحك أبو جبيل، وقال: أي بعير دفعته إلي، وليس ذنبه في يد صاحبه فأنت منه بريء، فدفعها إليه وزاده مائة بعير فأخذها وانصرف راجعاً إلى قومه، فقال حاتم في ذلك: أتاني البرجمي أبو جبيل ... لهم في حمالته طويل فقلت له: خذ المرباع منها ... فإني لست أرضى بالقليل على حال ولا عودت نفسي ... على علاتها علل البخيل فخذها إنها مائنا بمير ... سوى الناب الرذية والفصيل

فلا من عليك بها، فإني ... رأيت المن يزرى بالجميل فآب البرجمي وما عليه ... من أعباء الحمالة من فنيل يجر الذيل ينفض مذرويه ... خفيف الظهر من حمل ثقيل! - 7 - وقالت ماوية امرأة حاتم: أصابتنا سنة اقشعرت لها الأرض، واغبر أفق السماء وراحت الإبل حدبا حدابير، وضنت المراضع على أولادها، فما تبض بقطرة، وحلقت ألسنة المال، وأبقنا بالهلاك. فوالله أنا لفي ليلة صنبر، بعيدة مابين الطرفين، إذ تضاغى صبيتنا جوعاً: عبد الله وعدي وسفانة، فقام حاتم إلى الصبيين، وقمت أنا إلى الصبية، وأقبل يعللني بالحديث، فعرفت ما يريد، فتناومت. فلما تهورت النجوم، إذا شيء قد رفع كسر البيت ثم عاد. فقال حاتم: من هذا؟ قالت: جارتك فلانة، أتيتك من عند صبية يتعاوون عواء الذئاب، فما وجدت معلولا إلا عليك يا أبا عدي. فقال: أعجليهم فقد أشبعك الله!. فأقبلت المرأة تحمل اثنين ويمشي بجانبها أربعة، كأنها نعامة حولها رثالها، فقام حاتم إلى فرسه فوجأ لبته بمدية فخر. ثم كشطه ودفع المدية إلى المرأة، فقال لها: شأنك! فاجتمعنا على اللحم نشوي ونأكل. ثم جعل يمشي الحي يأتيهم بيتاً بيتاً فيقول: هبوا أيها القوم، عليكم بالنار، فاجتمعوا والتفع وجلس في ناحية ينظر إلينا. فوالله إن ذاق منه مزعة وانه لأحوج إليه منا، فأصبحنا وما على ظهر الأرض من الفرس إلا عظم وحافر، فأنشأ حاتم يقول: مهلا نوار أقلي اللوم والعذلا ... ولا تقولي لشيء فات ما فعلا ولا تقولي لمال كنت مهلكه ... مهلا وإن كنت أعطي السهل والجبلا يرى البخيل المال واحدة ... إن الجواد يرى في ماله سبلا - 8 - ولما تزوج حاتم ماوية، وكانت من أحسن النساء، لبثت عنده زمناً ثم إن ابن عم له يقال له مالك قال لماوية: ما تصنعين بحاتم؟ فوالله لئن وجد شيئاً ليتلفنه، ولئن لم يجد ليتكلفن، ولئن مات ليتركن ولده عيالا على قومه، طلقي حاتماً وأنا أتزوج بك، فأنا خير لك منه وأكثر مالاً، وأنا أمسك عليك وعلى ولدك. فقالت ماوية: صدقت إنه لكذلك فلم يزل بها حتى طلقت حاتماً. وكانت النساء أو بعضهن يطلقن الرجال في الجاهلية. وكان طلاقهن أنهن يحولن أبواب بيوتهن إن كان الباب إلى المشرق جعلنه إلى المغرب، وإن كان الباب قبل اليمن جعلنه قبل الشام، فإذا رأى ذلك الرجل علم أنها قد طلقته فلم يأتها. فأتى حاتم فوجدها قد حولت باب الخباء فقال لابنه: يا عدي ما ترى أمك؟ ما عدا عليها! قال: لا أدري غير أنها غيرت باب الخباء، وكأنه لم يلحن لما قال. فدعاه فهبط به بطن واد. وجاء قوم فنزلوا على باب الخباء، كما كانوا ينزلون فتوافى خمسون رجلاً فضاقت بهم ماوية ذرعاً، فقالت لجاريتها: اذهبي إلى مالك فقولي له إن أضيافاً لحاتم قد نزلوا بنا وهم خمسون رجلاً فأرسل إلينا بنات نقرهم ولبن نعبقهم. وقالت لجاريتها: انظري إلى جبينه وفمه فإن شافهك بالمعروف فاقبلي منه وإن ضرب بلحييه على زوره فارجعي ودعيه. فلما أتت مالكاً وجدته متوسداً وطبا من لبن، فأيقظته وأبلغته الرسالة وقالت، إنما هي الليلة حتى يعلم الناس مكانه، فأدخل يده في رأسه وضرب بلحييه على زوره، فقال لها: أقرئي عليها السلام، وقولي لها هذا الذي أمرتك أن تطلقي حاتماً من أجله. فما عندي من كبيرة، قد تركت العمل، وما كنت لأنحر صفية غزيرة بشحم كلاها، وما عندي لبن يكفي أضياف حاتم. فرجعت الجارية فأخبرتها بما رأت منه، وأعلمتها بمقالته، فقالت لها: ويلك ائتي حاتماً فقولي له: إن أضيافك قد نزلوا الليلة بنا، ولم يعلموا بمكانك، فأرسل إلينا بنات ننحرها ونقرهم، وبلبن نسقهم، فإنما هي الليلة حتى يعرفوا مكانك. فأتت الجارية حاتماً فصرخت به، فقال حاتم لبيك، قريباً دعوت، فقالت: إن ماوية تقرأ عليك السلام، وتقول لك: إن أضيافك قد نزلوا بنا الليلة، فأرسل إليهم بناب ننحرها لهم ولبن نسقهم. فقال: نعم وأبي! ثم قام إلى الإبل فأطلق اثنتين من عقاليهما، ثم صاح بهما حتى أتى الخباء، فضرب عراقيبهما، فطفقت ماوية تصيح وتقول: هذا الذي طلقتك فيه، تترك ولدك وليس لهم شيء. - 9 -

وكانت امرأة من العرب من بنات ملوك اليمن ذات جمال وكمال، وحسب ومال، فآلت ألا تزوج نفسها إلا من كريم، ولئن خطبها لئيم لتجد عن أنفه، فتحاماها الناس حتى انتدب إليها زيد الخيل، وحاتم بن عبد الله، وأوس بن حارثة الطائيون، فاتحلوا إليها. فلما دخلوا عليها قالت مرحبا بكم، ما كنتم زوارا، فما الذي جاء بكم؟ قالوا: جئنا زوارا خطابا، قالت أكفاء كرام، ثم أنزلتهم وفرقت بينهم وأسبغت لهم القرى، وزادت فيه. فلما كان اليوم الثاني بعثت بعض جواريها متنكرة في زي سائلة تتعرض لهم، فرفع إليها زيد وأوس شطر ما حمل إلى كل واحد منهما، فلما صارت إلى رحل حاتم دفع إليها جميع ما كان من نفقته، وحمل إليها جميع ما حمل إليه. فلما كان اليوم الثالث دخلوا عليها، فقالت ليصف كل واحد منكم نفسه في شعره، فابتدر زيد وأنشأ يقول: هلا سألت بني ذبيان ما حسبي ... عند الطعان إذا ما احمرت الحدق وجاءت الخيل محمرا بوادرها ... بالماء يسفح من لباتها العلق والجار يعلم أني لست خاذلة ... إن ناب دهر لعظم الجار معترق هذا الثناء، فإن ترضى فراضية ... أو تسخطي فإلى من تعطف العنق؟ وقال أوس بن حارثة: إنك لتعلمين أنا أكرم أحسابا، وأشهر أفعالا من أن نصف أنفسنا لك، أنا الذي يقول فيه الشاعر: إلى أوس بن حارثة بن لأم ... ليقضي حاجتي ولقد قضاها فما وطئ الحصا مثل ابن سعدى ... ولا لبس النعال ولا احتذاها وأنا الذي عقت عقيقته، وأعتقت عن كل شعرة فيها عنه نسمة، ثم أنشأ يقول: فإن تنكحي ماوية الخير حاتما ... فما مثله فينا ولا في الأعاجم فتى لا يزال الدهر أكبر همه ... فكاك أسير أو معونة غارم وإن تنكحي زيدا ففارس قومه ... إذا الحرب يوماً أقعدت كل قائم وإن تنكحيني تنكحي غير فاجر ... ولا جارف جرف العشيرة هادم ولا متق يوماً إذا الحرب شمرت ... بأنفسها نفسي كفعل الأشائم وإن طارق الأضياف لاذ برحله ... وجدت ابن سعدى للقرى غير عائم فأي فتى أهدى لك الله فاقبلي ... فإنا كرام من رؤوس أكارم وأنشأ حاتم يقول: أماوي قد طال التجنب والهجر ... وقد عذرتني في طلابكم عذر أماوي إن المال غاد ورائح ... ويبقى من المال الأحاديث والذكر أماوي إني لا أقول لسائل ... إذا جاء يوماً: حل في مالنا النزر أماوي إما مانع فمبين ... وإما عطاء لا ينهنهه الزجر أماوي ما يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر أماوي إن يصبح صداي بقفرة ... من الأرض لا ماء لدي ولا خمر ترى إن ما أنفقت لم يك ضائري ... وأن يدي مما بخلت به صفر أماوي إني رب واحد أمه ... أخذت فلا قتل عليه ولا أسر وقد علم الأقوام لو أن حاتماً ... أراد ثراء المال كان له وفر أماوي إن المال مال بذلته ... فأوله شكر وآخره ذكر وإني لا آلو بمالي صنيعة ... فأوله زاد وآخره ذخر يفك به العاني ويؤكل طيبا ... وما إن يعريه القداح ولا القمر ولا أظلم ابن العم إن كان إخوتي ... شهوداً وقد أودى بإخوته الدهر غنينا زمانا بالتصعلك والغنى ... وكلا سقاناه بكأسيهما الدهر فما زادنا بأواً على ذي قرابة ... غنانا، ولا أزرى بأحسابنا الفقر وما ضر جاراً يا ابنة القوم فاعلمي ... يجاورني ألا يكون له ستر بعيني عن جارات قومي غفلة ... وفي السمع مني عن أحاديثها وقر فقالت أما أنت يا زيد فقد وترت العرب، وبقاؤك مع الحرة قليل، وأما أنت يا أوس فرجل ذو ضرائر، والدخول عليهن شديد، وأما أنت يا حاتم فمرضي الأخلاق، محمود الشيم، كريم النفس، وقد زوّجتك نفسي.

§1/1