أسواق العرب في الجاهلية والإسلام
سعيد الأفغاني
المقدمات
المقدمات: مقدمة الطبعة الثانية: بسم الله الرحمن الرحيم: أقدم الطبعة الثانية من كتابي "أسواق العرب في الجاهلية والإسلام" منقحة, مزيدا فيها فوائد عزيزة غزيرة، آملا أن يكون لي نصيب -ولو ضئيلا- في سدّ فجوة من الفجوات في تاريخنا الحبيب. والحق, إن الطبعة الأولى كأنها لم تكن؛ إذ لم يطبع للبيع إلا ثلاثمائة نسخة استنفدت دمشق حينئذ كلها تقريبا. ووددت لو استطعت الإشراف على هذه الطبعة، ولا أظن الدار التي ستنشر الكتاب إلا باذلة جهدها في أن تفضُل هذه الطبعة سابقتها صحة وجمالا. ولا يسعني -في هذه المناسبة- إلا شكر العلماء والأدباء من العرب والمستشرقين الذين استقبلوا الطبعة الأولى من الكتاب استقبالا ما كنت أطمع ببعضه، حامدا لهم عنايتهم ببحوثه وثناءهم على صاحبه، مقدرا حسن ظنهم واقتراحاتهم المشكورة أحسن تقدير، وأخص بالذكر صديقي العلامة المرحوم المستشرق سالم الكرنكوي "فريتز كرنكو" فقد لقيت من نبله في خدمة العلم ما أتمنى أن نتحلى به جميعا. هذا, وقد أبقيت المقدمة على حالها وإن رغب إليّ بعض المستشرقين في حذفها؛ لأنها تفتح العيون على حملة منظمة علينا, متعددة الميادين، ولهم هم أنفسهم دور ناجح في أحد ميادينها، أبقيتها لأنها تؤرخ نواحي اجتماعية
واقتصادية وسياسية في حياة الشام في غمرة من الغمرات، وتشير إلى ظاهرة روحية قلقة سادت البلد إِبَّان قيام "سوق دمشق ومعرضها عام 1936م"، ثم هي في الوقت نفسه تاريخ "لظروف" تأليف الكتاب. والله أسأل أن يجعلنا أبدا مفيدين مستفيدين، ويرزقنا الإخلاص والسداد. دمشق 1379هـ 1960م سعيد الأفغاني
بين يدي الكتاب
بين يدي الكتاب: سبق لمدينة دمشق، أن أقامت سنة 1927م معرضا للثمار والفواكه, افتتح يوم الاثنين ثاني عشر تشرين الثاني، دام خمسة أيام واشترك فيه "1500" عارض من مختلف بقاع الشام "سورية"، وكان أثره في نهضة الزراعة وانتعاشها مباركا محمودا: علَّم الزراع ما لم يكونوا يعلمون، وحمل إلى الناس ما تنتج أرض الوطن في مختلف البقاع من ثمار تتشابه في النوع وتتباين في الصفة، فأغنى الناس بعض الإغناء عن رحلة زراعية واسعة في البلاد السورية، ووفر عليهم زمنا ومشقة وأموالا، وخطا في سبيل تعليم الجمهور خطوة ميمونة العاقبة. ورأى فيه الزارعون من يعنى بهم ويريد لهم الخير واطراد الرقي، وتسابق فيه العارضون وفاز المعتنى بثماره منهم بجوائز المعرض، وزاره من الرجال والنساء والأطفال ما يزيد عددهم على الأحد عشر ألفا1. ثم أقامت معرضا ثانيا للصناعات الشرقية في المجمع العلمي العربي "المدرسة العادلية في باب البريد" افتتح يوم الثامن من آذار سنة 1928م، فخصصت الردهة الكبرى للآثار الشرقية الحديثة، ولم يسعف الزمن القصير أن تشترك فيه مدن الشام فاقتصر على دمشق، وكان ما عرض فيه "627" من القطع المنوعة من "السجاد والنحاس والأخشاب والأسلحة والمخطوطات والجلود والصور والأقمشة وكل ما هو
من الفنون الجميلة". و"كان الإقبال على معرض الصناعات فوق ما كان يرجى؛ وذلك لتعطش الجمهور لمثل هذه المظاهر الفنية والصناعية واهتمامه بالنهضة الاقتصادية. وقد زار المعرض نيف وأربعون ألفا خلال ثمانية الأيام "8-15 حزيران" التي ظلت أبوابه مفتحة فيها، منهم ثلاثة عشر ألف سيدة". و"كانت نتائج المعرض مرضية محسوسة، شعر بها من عرضوا مصنوعاتهم في القاعتين الخاصتين بالنفائس والأعلاق النفيسة"1. والمعرض الشامي الثالث كان للصناعات الوطنية، أقيم في صرح الجامعة السورية، في شهر آب سنة 1929, وعرض فيه مصنوعات المناسج على اختلافها والمصابغ والمطابع والمطاحن والمزايت والمصابن عدا النفائس الشامية من القطع الخشبية والنحاسية والمصوغات، هذا إلى ما اشتهرت به دمشق من عمل "السكاكر" والمربيات والزجاج ... إلخ. وكان الإقبال على هذا المعرض أكثر من سابقيه؛ لشموله أكثر صناعات الشام واشتراك مدن سورية الشمالية. وقد تجلت فيه مواهب العرب في سورية, واستعدادهم للإسهام في الصناعات العالمية. وقوي الأمل في أحفاد من أقاموا بأيديهم وفكرهم وجهودهم، المجد الصناعي لقرطبة وبغداد ودمشق ومصر، يوم لم تكن صناعة إلا صناعتنا ولا حضارة إلا ما تنعم به الإنسانية على يدنا وبمسعانا. وفي ربيع هذا العام "1936م" قامت الاستعدادات على قدم وساق لإنشاء معرض عام يمثل ذكاء العربي وتقدمه في جميع المناحي. وقد وافق هذا التأهب كلبا من الزمان, وحربا من العدو، وفقرا
عاما, ومصيبة شاملة، فكان الناس مشغولين بذوات أنفسهم عما سواها، فالسماء شحيحة ما تبضّ بقطرة، والأرض مجدبة ما تهتزّ عن خضرة، والموارد ناضبة لا تسعف، وأجزاء البلاد يُرْجى فيها السموم وتبث بينها العقارب، حتى خبطتها فتنة عمياء تنكّر فيها الساحلي للداخلي، وتجهّم العربي للعربي، رغم الدم الصارخ في عروقهما من الفرقة, الداعي لهما إلى الألفة والاتحاد. وغذّى هذا الشر أناس أقيموا ليهدوا الناس إلى الخير والأخوة والمحبة والسلام، فكانوا دعاة للشر وعمالا على الإفساد والتفريق والشفاء. وجعلوا من الدين الذي أنزله الله ليزيد الأواصر قوة والوشائج لحمة، ويفيض على القربى والرحم محبة ورحمة، وتعاونا وعطفا ... جعلوا من هذا الدين وسائل سافلة تستغل سذاجة العامي الغفل، وتموّه عليه السم بالدسم؛ ليسعى إلى حتفه بظلفه, ويقتل نفسه وأخاه معا. بهذا اشتغل الناس يومئذ وحق لهم الشغل والتفكير في هذه القطيعة المجرمة، إذ متى عاش رأس بلا جسم وهل استغنى قلب عن وريد وشريان، وأين شرع الله للجارين من جنس واحد أن يعملا على شقائهما معا، ويسعيا إلى التعس السعي الحثيث، ويزجا بأعقابهما وذراريهما من بعدهما في العذاب الأليم والانقراض المحتم؟ ثم يعملان في أبدانهما سلاحا دسه العدو في أيديهما, وهو يتربص بكليهما الشر ليسود دارهما وحده لا شريك له1. في غمرة هذه النزوات الطائشة، وفي شدة مقاومة المقيد الذي شعر أنه إنما يساق إلى الموت, وهو أشد ما يكون تعشقا للحياة وتمسكا
بحبالها، قام "معرض دمشق وسوقها" وأعلن في أقطار الشرق موعد افتتاحه! فاعجب إن كنت عاجبا لهذه الأمة الكريمة التي تنبض عروقها قوة غريبة وحيوية عنيفة، إنها لم تشغلها مصيبة عن واجب؛ فما أهاب بها الداعي حتى هبت هبة واحدة تنظم معرضها وتمده بكل ما في بقاع الوطن من تحفة فريدة في بابها. وزحفت صناعات الشام تتمثل في المعرض للعالمين، وازدهى هذا المعرض بعبقرية الوطن تتجلى في الفكر الخصب, واليد الصناعة. افتتح المعرض مساء الأحد الحادي والثلاثين من حزيران سنة 1936م، في مدرسة التجهيز الجديدة، حيث أجمل بقعة في دمشق وأنزهها وأحفلها بآثار العرب في القديم والحديث. فصروح الجامعة السورية الحديثة وبناء دار الآثار ونزل "خوام" عن يمين بردى ... إلى جانب القباب الأثرية والمآذن الشاهقة، تلك تقفك على نشاط العربي ابن العصر العشرين, وهذه تذكرك بعنفوان مجده في القديم. ومن غريب الاتفاق أن تقوم معارض دمشق الثلاثة، في المجمع العلمي العربي "كان", والجامعة السورية, ومدرسة التجهيز؛ أكبر المعاهد العلمية وأعودها بالخير على البلاد، لتثير في الناس أثرين مزدوجين، يرتبطان أشد الارتباط ولا ينفكان, مرتبطين أبدا أو يفنيان معا: عبقرية الفكر وعبقرية اليد. لا تقوم حضارة على علم وحده ولا على صناعة وحدها، ولا بد من الاثنين معا. وقد فهمنا هذه الظاهرة وأخذنا في العمل لتحقيقها، وقطعنا في هذا أشواطا نسأل الله أن يرعاها بعنايته حتى نبلغ بها الغاية.
وهناك اتفاق آخر فطن له كثيرون، وعجبوا له العجب كله, وهو افتتاح المعرض في ليلة ذكرى المولد النبوي، في الليلة التي يستعيد فيها المسلمون ذكرى ما قدموا للإنسانية من نظم وحضارة وعدل وسعادة، في الليلة التي ولد في مثلها قبل أربعة عشر قرنا، خير طفل حملته الأرض، وكان له يد ومنة على كل من نعم بسعادة وشمل برحمة وتمتع بعدل واغتبط بعرفان. افتتح معرض دمشق وسوقها في مساء الليلة التي يقول فيها المسلم والعربي غير المسلم: كان منا هادٍ أفاض الرحمة على الإنسان والحيوان والجماد ... فتفاءل الناس خيرا, وأيقنوا أنهم لا بد بادئون تاريخهم من جديد وقد ولد ليلة المولد هذا المعرض، وهو فاتحة مباركة في تاريخ بعثنا الحديث إن شاء الله. فإنا كما شرعنا نصل حلقات السلسلة التي انقطعت، بجهادنا للحرية والحق، والعدل والنور، افتتحنا ليلتنا هذه بوصل حلقة مجدنا الصناعي والتجاري. وإن الإنسانية لتنتظر على أحر من الجمر، وبفارغ الصبر, الشعب الذي نعمت في ظلاله ليتبوأ مكانه من جديد, ويقوم برسالته في هذا العالم الذي ملئ اليوم رذيلة وعسفا ومادية. وإن انتعاش الشعب العربي انتعاش للخير والإنسانية، ونصرته نصرة للعدل والعمران، وما كانت الإنسانية لتنسى الذين كانت على عهدهم حقائق ملموسة فأصبحت اليوم طلاء ودهانا، بل الإنسانية اليوم -إذا دققنا في حقيقة أعمال من يدّعون حمايتها- شقاء باسم السعادة، وظلم باسم الرحمة، ووحشية باسم الحضارة، ولصوصية باسم الحق، ودناءة وحطة وإماتة ضمير وخذلان خلق وبهيمية.. باسم التمدين..
كنت في هذا الجو من الغبطة والذكرى والتأثر، لما عرضت في ذهني حلقات تاريخنا وأين انقطعت كل حلقة ومتى عهدنا بوصلها, فكان أول ما جال في خاطري وأنا في معرض دمشق وسوقها: أسواق العرب في الجاهلية والإسلام، وكيف كانت تزخر بالناس من تجار وصناع، وأدباء وشعراء وخطباء، وساسة وأشراف ... عجبت لهذه الذكرى وقد أعاد هذا المعرض لنا أسواقنا -مع مراعاة الفارق بين الزمانين- وذكرت أن المجمع العلمي بدمشق -وكان إذ ذاك اسما على مسمى- سيقوم بمهرجان للمتنبي في آخر أسبوع من تموز، وقد اختار لهذا المهرجان مكان المعرض وزمانه، لتتم لنا صورة عن أسواق العرب ومحافلهم فيها. فكملت بهذا أداة هذه السوق العربية الكبرى بما سيلقى فيها من أدب وشعر وعلم، وبمن سيؤمها من العلماء والأدباء من المشرق والمغرب؛ عربا وأجانب ومستشرقين. وأصبح من كان يتمنى أن ينعم بمرأى عكاظ في الجاهلية, يستطيع أن يشهد عكاظ العرب في القرن العشرين، فينظر كيف انقلب الزمن وكم قطعت الحضارة بين العكاظين من أشواط. ولعل القارئ أحس مما قدمت مقدار الحاجة إلى بحث يعرض لأسواق العرب وما كانت عليه في الجاهلية والإسلام، وما قامت به من عمل في خير العرب ولغتهم؛ ليقف على شأنها في تاريخنا ويستطيع أن يفاضل بين رسالتها قديما ورسالة المعارض حديثا. وما زالت هذه الأسواق تقتعد الذروة من اهتمام الأمم مذ كان اليونان وأولمبياهم وأعيادهم. وقد رغب إلي من أرضى رأيه أن أسد هذه الثلمة في المكتبة العربية, فعكفت على أمهات المصادر -وهي في موضوعنا هذا جد شحيحة- أنقب فيها وأفليها لأخلص منها بكل ما يفيدني في بحثي, حتى تمت لي مادة
هذا الكتاب الذي تنحصر بحوثه بين عهد الجاهلية والقرن الثاني للهجرة. ولعل الله ييسر لي في المستقبل أن أصل هذا البحث عصرا فعصرا في أمصار العرب حتى عصرنا الحاضر. ومن مارس التنقيب في مصادرنا العربية، القديمة منها خاصة، واطلع على ما تزخر به من كنوز مبعثرة هنا وهناك، لا تجمعها جامعة ما، عرف مقدار العنت والنصب اللذين يتعرض لهما الباحث، ولا سيما في موضوع كهذا لم يعالج بعد. وأنا أعفي القارئ من وصف ما لقيت من عناء, فما أريد أن أمن عليه وحسبي أن أكون في وجداني قد أبلغت نفسي عذرها. وقد مهدت للكلام على الأسواق ببحوث رأيتها لازمة، وثيقة العلاقة بموضوعي كبيوع الجاهلية ورباها, وأسهبت في الكلام على قريش؛ لأنهم في الحقيقة هم عنوان الفريق التاجر من العرب, وحرصت كل الحرص أن أنقل القارئ إلى جو تلك الأسواق فيراها كما هي. سيكون في هذه البحوث أدب جم, وتاريخ كثير كما فيها صناعة وتجارة، وستعرض فيها عادات العرب في أسواقها ومجالسها الأدبية وبلاغتها النثرية والشعرية، حتى النحو سيكون له بعض النصيب لأن إحدى الأسواق كانت تقصد من أجل مادة يستعين بها النحو في تنظيم قواعده وتبويب فصوله. وبعض هذه الحوادث والأخبار والأشعار التي سأعرضها -وإن كان مظنة أنه مصنوع- قد اجتهد صانعه أن يقلد فيحسن التقليد ويحاكي الأصل فيحكم الحكاية، فإن شككنا في نسبة الخبر لم نشك أبدا فيما يدل عليه أو يستخلص منه. وذكرت من هذه الأحداث هنات جوزت لنفسي نقلها في هذا الكتاب مع تصريحها بما يحتشم منه؛ لأنها لا تتم الصورة
إلا بها, ولأني أحرص على أن يتمثل القارئ حالة الأسواق تمثلا صادقا صحيحا كاملا على قدر الإمكان. وقد عنيت بشرح ما يشكل من غريب أو معنى مغلق؛ لأكون قد بلغت جهدي واستفرغت وسعي في الاجتهاد لأن يكون هذا العمل أقرب من كمال وأبعد من نقص. وأنا أشكر لمن أطلعني على عيب أو نبهني لإصلاح، فما يزال الإنسان بحاجة إلى من ينبهه ويصلح عمله. والله المستعان ومنه الرضى والمثوبة. غرة ربيع الثاني سنة 1355هـ و2 حزيران سنة 1936م. سعيد الأفغاني
الباب الأول: شؤون العرب التجارية بين الجاهلية والإسلام
الباب الأول: شؤون العرب التجارية بين الجاهلية والإسلام تجارة العرب: لبلاد العرب موقع جغرافي متوسط، بين بلاد أعظم الدول وأقدم الحضارات. فإلى شمالها الشرقي بلاد فارس وإلى شمالها الغربي بلاد الروم ومصر، وإلى غربها الجنوبي وراء البحر بلاد الحبشة, وفي جنوبها البحر الهندي الذي يفصلها عن بلاد الهند. ولا نكون إلى الغلو إذا قلنا: إن معظم تجارات العالم منذ القديم حتى القرون الوسطى هي بين هذه البلاد التي عددنا. فالدولتان العظيمتان اللتان تنازعتا النفوذ والسيادة في العالم، وهما فارس والروم، كانتا على علاقات تجارية وسياسية مع بلاد العرب في الشمال والجنوب. وقل نحوا من ذلك في علاقة الحبشة والهند مع اليمن وعمان والبحرين، وإن كانت علاقة أضيق حدودا. وكان للمواصلات التجارية في جزيرة العرب طريقان, أحدهما شرقي يصل عمان بالعراق وينقل بضائع اليمن والهند وفارس برا ثم يجوز غرب العراق إلى البادية حتى ينتهي به المطاف في أسواق الشام،
يمر التجار فيه على أسواق اليمن والعراق وتدمر وسورية, ويبيعون في كل قطر ما لا يكون فيه, ويأخذون منه إلى غيره ما يروج فيه. والطريق الثاني وهو الأهم غربي يصل اليمن بالشام, مجتازا بلاد اليمن والحجاز, ناقلا أيضا بضائع اليمن والحبشة والهند إلى الشام وبضائع الشام إلى اليمن حيث تصدر إلى الحبشة, وإلى الهند في البحر. وقد أطمع هذا الموقع الجغرافي لبلاد العرب كثيرا من الفاتحين, فغزاها الإسكندر فارتد عنها في غير طائل، وطمع فيها قديما ملوك الفرس وبابل ونينوى ومصر. والغريب أنها احتفظت بمكانتها هذه حتى العصر الأخير, إذ بسط سلطتهم شرقي الجزيرة وغربيها فملكوا "عدن" ميناء اليمن الطبيعي1 حيث ترسو السفن من الحبشة ومن الهند, وملكوا العقبة2 "أيلة" محط رحال القوافل العربية في القديم وأول الثغور الرومانية التي يحلها تجار العرب، ففازت إنجلترا بمناطق نفوذ على هذين الخطين التجاريين ضمانا لطريق الهند وتجارتها. كان من المعقول أن يمارس الكثير من العرب التجارة رجالا
ونساء، وخاصة الذين تقع بلادهم قريبة من إحدى هاتين الطريقين، ومن لم يتاجر منهم أفاد من التجارة بالواسطة فعمل في هذه القوافل إما دليلا وإما سائقا وإما منتظما في جملة حماتها الذين يؤجرون أنفسهم وسلاحهم ودوابهم فيها. ولم يبعد إسطرابون حين قال: "العرب تجار وسماسرة" و"قوم تجارة وبيع وشراء؛ ولذلك لم يكونوا أمة حرب لا بالبر ولا بالبحر"1. وقد شغلت دول العرب القديمة كتدمر وسبأ والمعينيين، المراكز الممتازة في تجارة الشرق حتى ذكرتهم التوراة ووصفت ثروتهم وتجارتهم. وحمل أهل تدمر في القديم إلى مصر وجنوب أوروبا صادرات بلاد العرب والعراق والهند, وكانت النفائس التي يحملها التدمريون من بلاد الشرق أثمن ما يتغالى به الملوك القياصرة. توسط تدمر بين الدولتين الفارسية والرومانية، بين العراق والشام وجزيرة العرب, جعلها محط القوافل جميعا بين هذه الأقطار منذ أقدم العصور، فازدهرت تجارتها وعظم غناها واشتهرت أسواقها
حتى أصبحت "قبلة التجار من الهند والفرس "وجزيرة العرب" والعراق وسورية وفلسطين ومصر وأوروبا ... وكانت روما التي خضع لنيرها أغلب العالم القديم تهاب قبائل تدمر وتتودد إليها وتقدم لها الهدايا وتوفد إليها الوفود ... وعرفت تدمر كيف تستثمر في ظروف كثيرة منافسة الدولة الفارسية والدولة الرومانية لمصلحتها التجارية"1. ولما ازدهرت الدولة المعينية في اليمن تعاطى أهلها التجارة, وساعدهم عليها امتداد نفوذهم حتى شواطئ البحر المتوسط وموانئ خليج العجم. أما سبأ فليس مكان غناها وتجارتها بالمجهول, فقد ذكرت التوراة أن ملكة سبأ "قدمت إلى سليمان "120" وزنة ذهب وأطيابا كثيرة جدا وحجارة كريمة"2 وحسبك هذا دليلا على وفرة مالها وخيراتها. والسبئيون قديما أغنى العرب ثروة وأوسعهم تجارة، يحملون ما يأتيهم من بضائع الحبشة والهند إلى مصر والشام والعراق فبسطوا بذلك
نفوذهم التجاري واستأثروا بالتجارة بين تلك الأقطار المذكورة. جاء في تاريخ العرب الأدبي لـ "نيكلسون"1: "قال مولر: قامت السفن منذ زمن بعيد تمخر عباب المياه بين موانئ بلاد العرب الشرقية والهند، محملة بالبضائع وكانت منتجاتها الأخيرة وخاصة الطيب والبخور والحيوانات النادرة "كالقردة والطواويس" تنقل إلى ساحل عمان، ومنذ القرن العاشر قبل الميلاد كانت لهم دراية بالخليج الفارسي حيث كانوا ييممون شطر مصر يبيعون فراعنتها وأمراءها بضائعهم، وقد كانت صعوبة الملاحة في البحر الأحمر سببا في تفضيل الطريق البري للتجارة بين اليمن وسورية، وكانت القوافل تقوم من "شبوت" في حضرموت وتذهب إلى مأرب عاصمة سبأ، ثم تتجه شمالا إلى مكربة "مكة فيما بعد" وتظل في طريقها من بترا حتى غزة المطلة على البحر الأبيض المتوسط، وظل رخاء السبئيين قائما حتى أخذت التجارة الهندية تهجر البر وتسلك عبر البحر على طول شواطئ حضرموت وخلال مضيق باب المندب. وكانت نتيجة هذا التغير -الذي يظهر أنه حدث في القرن الأول
للميلاد- أن أخذت قوتهم تتضعضع شيئا فشيئا". وحل محل هؤلاء الحميريون الذين جعلوا عرب الحجاز تحت سيطرتهم, فاستخدموهم في نقل تجاراتهم إلى أن تخلص الحجازيون منهم, وصاروا هم نقلة التجارة في الجزيرة قبيل البعثة. قام اليمنيون في القديم إذًا بنقل المتاجر بين بلاد العرب والبلاد المجاورة, وظل ذلك دأبهم على اختلاف دولهم في الأزمان التي تقدمت القرن السادس الميلادي، فاستأثروا بتجارة الجزيرة مع غيرها من الممالك، يحملون التمر والزبيب والأدم والبخور والحجارة الكريمة والمنسوجات من مواطنها ثم يستبدلون بها بضائع أخرى، مع ما يصنعون هم أنفسهم من الأطياب والعطور التي يتخذونها في بلادهم ويبيعونها في أسواق العالم القديم: آسيا وإفريقيا وأوروبا. فكانوا حينا غير قصير مشرفين على تجارة العالم كله. وقد نشأت مع الزمن -وسط هذه الطريق التي كثيرا ما سلكوها قبل الميلاد- محطتان تجاريتان عظيمتان هما: مكة والمدينة1, وعظم
أمرهما وصار أهلهما يشاركون في الاتجار قبائل اليمن. فلما كان القرن السادس انتقلت التجارة من أيدي اليمنيين بالتدريج، إلى قريش القبيلة المكية التي ارتفع أمرها وقويت ونشطت, وبدأت تحل محل الأولين في الاستئثار بتجارة جزيرة العرب، ولا سيما عند اضطراب الأمن وتعذر المرور على الأحباش والأنباط، وكان وقوع الحروب والأزمات والمنافسات بين فارس والروم من أعظم العوامل في نشأة التجارة المكية وازدهارها, إلا ما كان من تجارة فارس, فإنها بقيت في أيدي عرب الحيرة وهم يمانيون. كانت أقطار العرب غير متساوية في الخصائص والمرافق, فبينا نجد نجدا أرضا قاحلة رملية لا زراعة لأهلها، نجد في اليمن مزارع خصيبة تفيض بالخير الواسع. ونجد بعض مدن الحجاز كمكة تشبه نجدا في جدبها وبعضا آخر فيه مزارع ونخيل كالمدينة والطائف وإن لم تكونا بدرجة اليمن. قال الألوسي: "وأما أهل اليمن وعمان والبحرين وهجر فكانت تجاراتهم كثيرة ومعايشهم وافرة؛ لما في بلادهم من الخصب والرخاء والذخائر المتنوعة والمعادن الجيدة وغير ذلك من أسباب الثروة والغنى. وأما أهل نجد فكانوا دون غيرهم في الثروة والتجارة؛ لما أن الغالب على أرضهم الرمال فكانت بلادهم دون
سائر بلاد العرب في رفاهية العيش ورواج التجارة". على أن لطيء ومنازلها أواسط نجد شهرة في الاتجار شمالي جزيرة العرب, هذا عدا أخلاطا من أمم شتى تتسرب تجارهم إلى الجزيرة، وأكثر هؤلاء هم الأنباط فقد بقوا حتى بعد ظهور الإسلام يجلبون الزيت من الشام إلى المدينة. ولا بد لنا من التنبيه على حدة, إلى العنصرين التجاريين اللذين عملا في بلاد العرب, وهما الأنباط واليهود، فقد كان الأولون يختلفون بين بلاد الشام والحجاز والعراق في الجاهلية، وكان أكثر ما يحملون من بضائع على ما علمت الزيت والدرمك "دقيق الحوارى"1 يحملونهما من الشام إلى الحجاز وإلى العراق ويرجعون من هذين القطرين بالأدم والتمر وغيرهما من الحاصلات، فكانوا يشاركون القوافل العربية في تجاراتها ويقيمون لأنفسهم أسواقا في البلاد العربية ذاتها، فابن سعد يذكر أن هاشما في بعض أسفاره إلى المدينة "نزل بسوق النبط, فصادف سوقا تقوم بها في السنة يحتشدون لها"2. ولما
كانت الفتوحات والغزوات, قام الأنباط التجار بمهمة نقل الأخبار بين الشام والحجاز1. وأما اليهود فقد "كانت التجارة بنوع خاص من أهم مرافق الحياة عند يهود الحجاز, حتى صار لبعضهم فيها شهرة عظيمة وصيت بعيد كأبي رافع الخيبري الذي أرسل بضاعته بوساطة القوافل إلى الشام, واستورد منها الأقمشة المختلفة. ويمكن أن يقال: إن تجارة البلح والشعير والقمح كانت خاصة بهم في شمال الحجاز"2. لكن شأن اليهود فاق شأن الأنباط؛ لاستيطانهم في جزيرة العرب فاستفحل أمرهم, وزاحموا السكان الأصليين على مرافقهم وكانت لهم خبرة في الزراعة والتجارة وتنمية المال, فاستغنوا وبنوا لأنفسهم القرى والمزارع والحصون, وأشهر مراكزهم العامة في المدينة وخيبر. ومما تجدر ملاحظته أنهم بعد أن شاركهم في مغانمهم التجارية
أهل يثرب وخاف اليهود هذه المزاحمة, وكانوا عاجزين عن التغلب على اليثربيين قوة وعنوة، لجئوا إلى الإيقاع بين الحيين الأوس والخزرج, فلما وقعت العداوة واتصلت الحروب جعل اليهود يضرمون نارها كلما خمدت، فشغلوا بعضا ببعض وانصرفوا هم إلى تجاراتهم وإنماء ثرواتهم. فلما هاجر المسلمون إلى المدينة وأسلم أهلها، بغى اليهود الغوائل لهم وصاروا يحرضون عليهم المشركين من قبائل العرب وينقضون عهودهم للنبي، ويطعنون المسلمين من خلفهم. إزاء ذلك رأى النبي ضرورة التخلص منهم, فأجلى بني قينقاع ثم بني النضير فحطوا بأذرعات من أرض الشام, ثم تخلص من بني قريظة1 أيضا، فخلت المدينة وما حولها من جماعاتهم وتحولت تجاراتها إلى أيدي أهلها من العرب. لا بدع في أن تكون التجارة من أول أسباب المعاش للحجازيين فعكفوا عليها, وتمادحوا بكسب المال, وأخذوا يضربون في الأرض يبتغون الرزق من هذه المهنة، فعرفوا قبل الإسلام بكثير، كثيرا من مدن الشام كبصرى وغزة وأيلة والمشارف، ومدن العراق
واليمن وحتى مصر, فقد رووا أن نفرا من بني مالك أجمعوا على الوفود إلى المقوقس وأهدوا له هدايا1, وذكروا أن ابن جدعان أتى مصر ببضاعة فباعها ورجع إلى عكاظ. ولم يحاول انتزاع تجارتهم هذه منهم أحد، إلا ما ذكروا من أمر الحبشة التي أرادت الاستيلاء على مكة نفسها، المركز التجاري العظيم في جزيرة العرب. وقدّر بعضهم ما يشتريه العالم الروماني من طيوب بلاد العرب والفرس والصين بقيمة مائة مليون من الدراهم ... وكانت صيدون "صيدا" من أشهر الأسواق العطرية2. ووصل المكيون قبيل الإسلام -عندما كان العداء بين الفرس والروم بالغا منتهاه- إلى درجة عظيمة في التجارة، وكان على تجارة مكة اعتماد الروم في كثير من شئونهم، حتى فيما يترفهون به -كالحرير- وحتى استظهر بعض مؤرخي الإفرنج أنه كان في مكة نفسها بيوت تجارية رومانية يستخدمها الرومانيون للشئون التجارية والتجسس على أحوال العرب، كذلك كان فيها أحابيش ينظرون في مصالح قومهم التجارية3.
واشتهر كل قطر بما يصنع أو يصدر من متاع، فالسيوف والبرود لليمن. قال الأصمعي: "أربعة قد ملأت الدنيا, ولا تكون إلا في اليمن: الورس والكندر والخطر1 والعقيق" وقالوا: "برود اليمن ورِيَط الشام وأردية مصر"2. ولعل ما ذكر الثعالبي من غنى الحجاز في الإسلام، صحيح إلى حد بعيد فيما كان عليه من قبل، قال3: "وكان يحمل من مكة والمدينة والحجاز كل عام إلى السلطان من العنبر4 ثمانون رطلا ومن المتاع أربعة آلاف ثوب ومن الزبيب ثلاثمائة راحلة" وكان من أعجب ما يأتي النجاشي من مكة الأدم5.
ويذكر آخرون أن مكة أصبحت أكبر سوق للرقيق1. هذا, وهناك أيضا بلدان اختصت بضرب من العروض, أو الصناعة فتقصد لما عرفت به كالطائف, فإنه يحمل إليها الأدم فيدبغ فيها, قال الهمداني: "الطائف مدينة قديمة جاهلية وهي بلد الدباغ، يدبغ بها الأهب الطائفية المعروكة3" ثم يصدر عنها إلى الحبشة وغيرها، وكهجر والبحرين حيث التمر الجيد المنقطع النظير، وكالشام ومشارفها حيث يحمل الزيت والزبيب والخمر وغيرها. ومما ضمن استمرار الحركة التجارية الداخلية والخارجية في جزيرة العرب، اختلاف أقطارها هذا الاختلاف في المحصول الصادر والوارد, وما أحسن قول الهمداني في ذلك: "ولولا أن الله -عز وجل- خص بلطفه كل بلد من البلدان, وأعطى كل إقليم من الأقاليم بشيء منعه غيرهم، لبطلت التجارات وذهبت الصناعات، ولما تغرب أحد ولا سافر رجل, ولتركوا التهادي وذهب الشراء والبيع والأخذ والعطاء. إلا أن الله أعطى كل صقع في كل حين نوعا من الخيرات ومنع الآخرين ليسافر هذا إلى بلد هذا,
ويستمتع قوم بأمتعة قوم ليعتدل القسم وينتظم التدبير. قال الله عز وجل: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} 1, وقال الله تعالى: {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} 2" ا. هـ. ومما يجب أن يقف عليه النظر والتأمل إشارات عارضة في صدد جدل القرآن الكريم لمشركي مكة، فإن المتأمل ليجد فيها دلالات بعيدة على عظم ما شغلت أمور التجارة من أفكارهم وخواطرهم، وذلك عند مثل قول الله: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 3 فالمفسرون يذكرون في سبب نزول الآية أن المشركين قالوا: "لم لا يوحي إليه ربه أثمان السلع فنشتريها حين ترخص ونبيعها حين تغلو, فتزداد أموالنا؟ ".
هذا, ولم يخفف الإسلام كثيرا من شغف العرب بالتجارة1, فقد استمروا فيه على ما كانوا عليه في الجاهلية، وإذا استثنينا فترة الفتوح التي شغلتهم كانت أحداثهم التجارية في الإسلام امتدادا لأحداثهم في الجاهلية, مع مراعاة الظروف التي تغيرت كل التغير, وشغل القرشيون بالجهاد فكان منهم عمال ومنهم قواد ومنهم قضاة ... إلخ. وخير ما يدلنا على بقاء ولوع القوم بالتجارة آية الجمعة. كان المسلمون يجهزون العير إلى الشام -كما في الجاهلية- فتذهب بأموالهم ومتاعهم فتباع هناك, ثم تحمل إلى الحجاز فتأتي المدينة، وكانوا يستقبلونها بالطبل والتصفيق فرحا بها، فذكر المفسرون أن دحية بن خليفة الكلبي رجع مرة بتجارة زيت وطعام من الشام والنبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب يوم الجمعة على منبر مسجد المدينة، فاستقبلها الناس كعادتهم
بالفرح والطبول والتصفيق، وخشي المصلون أن يُسبَقوا إلى العير فيفوتهم الربح, فتركوا الرسول يخطب وبادروا إليها في البقيع ولم يبق مع الرسول إلا اثنا عشر رجلا, فأنزل الله تعالى في ذلك: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} 1. وفي القرآن الكريم إشارة إلى فاصل تاريخي في حياة مكة التجارية, وذلك حين نزل قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} 2. فلما حرم دخول مكة على المشركين سنة تسع للهجرة خشي الناس الفقر بسبب انقطاع تجارة المشركين عنهم في المواسم، فوعدهم الله بغنى عن غير طريق التجارة، فكان العوض -على ما ذكر المفسرون- في المغانم والفتوح العاجلة.
كان لا بد من أن تدخل أحوال العرب التجارية في طور جديد, فاهتمّ الإسلام بأمر تجارتها وشرع لهم فيها ما يحتاجون إليه، وطفح الحديث الشريف بأحكام البيع والشراء والاحتكار والديون والربا ... إلخ. وعني الخلفاء بعد الرسول عناية خاصة بالتجارة بعد أن هدأت مشاغل الفتوح أيام أبي بكر وعمر وعثمان، ولنلاحظ أن فترة الفتوح نفسها لم تكن لتخلو من الاتجار حتى من عمال الخليفة أنفسهم، وهذا خير ما يفسر لنا حرص القوم على حرفتهم، واشتد عمر على عماله فلم يقبل منهم الاشتغال بالتجارة أبدا, وصار يؤاخذ كل من فشا لهم غنى في قومهم فيدقق عليهم, فإن اعتذروا بتجارة تجروها فربحوا منها صادرهم ولم يلق لعذرهم بالا، وكأنه يقول لهم: بعثتكم عمالا ولم أبعثكم تجارا. ومن حسن الاتفاق أن الخلفاء الثلاثة الأولين كانوا تجارا، فأبو بكر وعثمان كانا بزازين، وعمر تجر في الجاهلية واستغنى في غزة، وكان مبرطشا "يكتري للناس الإبل والحمير يأخذ عليها جُعْلا"1 أما علي فلم نعرف أنه تجر, وقد ظهر الإسلام وهو صبي, ومع هذا فقد
كان على علم من التجارة وأحوالها؛ لأنها مهنة قومه جميعا, ولما ولي الخلافة لم يكن يجهل خطر التجارة وقيمتها. ومن الطريف حقا أن ننقل بهذه المناسبة مرسوما أصدره إلى عامله الأشتر في التجار والصناع, فإنه يدل على إحاطته بأسرار التجار وأخلاقهم, ويعلمنا من جهة ثانية منزلة هذه الطبقة بين بقية الطبقات وما كان يعلق عليها من مهام، قال من كلام له للأشتر: "ثم استوصِ بالتجار وذوي الصناعات وأوصِ بهم خيرا، المقيم منهم والمضطرب بماله والمترفق ببدنه، فإنهم مواد المنافع وأسباب المرافق وجلابها من المباعد والمطارح، في برك وبحرك، وسهلك وجبلك، وحيث لا يلتئم الناس لمواضعها ولا يجترئون عليها. فإنهم سِلْم لا تخاف بائقته وصلح لا تخشى غائلته. وتفقد أمورهم بحضرتك وفي حواشي بلادك، واعلم مع ذلك أن في كثير منهم ضيقا فاحشا وشحا قبيحا واحتكارا للمنافع وتحكما في البياعات, وذلك باب مضرة للعامة وعيب على الولاة، فامنع من الاحتكار؛ فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منع منه. وليكن البيع بيعا سمحا بموازين عدل وأسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع, فمن قارف
حُكْرَة بعد نهيك إياه فنكِّلْ به, وعاقبه من غير إسراف"1. ولنا أن نستأنس بشيء آخر له خطره في الدلالة على ما شغلت التجارة من حياة العرب وأفكارهم واهتمامهم، وذلك هو اللغة والأشعار والأمثال, فإنها تكشف لنا إلى حد بعيد ما كان عليه القوم من عادات وأحوال. وأول ما نلاحظ في هذا الباب غنى اللغة بالألفاظ التي تتعلق بالأسفار وما إليها من حط وترحال ونزول على الماء ووصف لدواب السفر وضروب سيرها, ولسنا مبالغين إذا قلنا: إن أكثر القصائد في الجاهلية والإسلام يفتتحها صاحبها بذكر رحلته وما لاقى فيها هو وراحلته من التعب والشقاء والضيق والعطش والجوع، عدا ما هناك من ألفاظ كثيرة تتعلق بالبيع والشراء والصفقة الرابحة والخاسرة. ولما كانت الخلافة، لم يجد العرب لفظا يدلون به على بذل الطاعة للخليفة غير المبايعة2, فاشتقوا لهذه الحال المستجدة
كلمة من كلمات التجارة التي كانت الشغل الشاغل لهم. ونظرة واحدة إلى مادة "باع" مثلا في اللسان أو التاج توضح لنا المواضع التي استعيرت لها هذه الكلمة لتشبه أحوالا مختلفة بحال من حالات البيع والشراء, فقالوا مثلا: "بايعه بالخلافة، وأخذ منه البيعة، وباعه من السلطان إذا سعى به إليه ... إلخ". وكذلك إذا نظرنا إلى مادتي "سام" و"سوق" وأمثال قولهم: نفقت السوق إذا راجت، وانحمقت إذا كسدت. وبعته ناجزا بناجز ويدا بيد, عدا ألفاظ أخرى سيمر بعضها بك حين الكلام على بيوع الجاهلية. وهذا القالي قد عقد في أماليه فصلا في "ما يقال في وصف الرجل لا يملك شيئا"1 من مثل قولهم: ما له سَبَد ولا لَبَد، ومطلبا
آخر فيما يقال "لمن يصلح المال على يديه"1 كقولهم: هو ترعية مال، محجن مال ... إلخ. واقرأ إن شئت الفصل الذي كتبه في "دعاء العرب"2 فستجد جملا كثيرة في حرمان من يدعون عليه من ضروب المال. أما الأمثال التي تتعلق بأمورهم التجارية وأحوالهم فيها فكثيرة, وإليك طائفة منها تمثل لنا شيئا من تجاربهم وأحوالهم في أسفارهم: عند الصباح يحمد القوم السُّرى, لا تدرك الراحة إلا بالتعب, قتل أرضا عالمها وقتلت أرض جاهلها, إن ترد الماء بماء أكيس, لا يرحل رحلك من ليس معك, إن يدم أظلك فقد نقب3 خفي, إن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى4 ... إلخ. وأكثر من هذا ما أرسلوه في المال نفسه وفي السعي للرزق وفي الربح والخسارة والبيع والشراء, فإنهم يستعيرون ألفاظها لكثير من أحوالهم كما في هذه الأمثلة: الحمد مغنم والذم مغرم, خير مالك ما نفعك, لم يضع من مالك
ما وعظك, خير المال عين ساهرة لعين نائمة, من العجز نُتجت الفاقة, كلب طواف خير من أسد رابض, حظ جزيل بين شدقي ضيغم, افتح صدرك تعلم عُجرك1, لا ترسل الساق إلا ممسكا ساقا, كمستبضع التمر إلى هجر, ما عنده خير ولا مَيْر, سواء هو والعدم, البضاعة تيسر الحاجة ومن اشترى فقد اشتوى, إن الجواد عينه فراره, أعطاه اللقاء غير الوفاء, أحشفا وسوء كيلة, أخسر صفقة من شيخ مهو2, صفقة لم يشهدها حاطب ... إلخ3. أما الحث على السفر في طلب المال, فقد استفاض في أشعارهم جاهليين وإسلاميين, ولست بحاجة إلى أن أشير إلى ما قالوا في فوائد المال من حِكَم وما يصون المال من حسب ويجلب من هيبة فأمره معروف، وما أكثر ما قالوا في هذا الموضوع من مثل قول عروة بن الورد:
ذريني للغني أسعى فإني ... رأيت الناس شرهم الفقير وقوله: دعيني أطوّف في البلاد لعلني ... أفيد غنى فيه لذي الحق محمل وقول الآخرين: سأُعمل نص العيس حتى يكفني ... غنى المال يوما أو غنى الحدثان سأكسب مالا أو أموت ببلدة ... يقل بها قطر الدموع على قبري ومن يك مثلي ذا عيال ومقترا ... من المال يطرح نفسه كل مطرح فسر في بلاد الله والتمس الغنى ... تعش ذا يسار أو تموت فتعذرا ... إلخ ويذكر المشتغلون باللغات القديمة السامية, وغيرها قضية الكلمات الأجنبية الأصل في اللغة العربية، وقد أداهم بحثهم إلى أن اللغة الفارسية والحبشية والآرامية "كانت لغات العلائق التجارية أيضا, فإن تجار مكة مثلا كانوا يتجرون مع الآراميين في دمشق، ومع الفرس في الحيرة والمدائن، ومع سبأ وحمير في اليمن، وقوافل هذه الأقوام كانت تجتاز جزيرة العرب من جهة إلى أخرى"1 ويعدد
هؤلاء الباحثون هذه الكلمات, فإذ في أولها كلمات تجارية وهي أسماء البضائع التي يجلبها التجار من بلاد الفرس من مثل: "الصنج والصولجان والفيل والجاموس والمسك, وخصوصا أنواع النسائج كالديباج والإستبرق والإبريسم والطيلسان ... إلخ"1. ولا ريب في أن اختلاط القوافل والتجار العرب منذ الزمن الأقدم بعرب الشام وغيرهم سرّب إلى اللغة العربية كثيرا من الكلمات اليونانية التجارية والحضارية، حتى أتى عهد الجاهلية وكانت هذه الكلمات قد تعربت وصقلها الاستعمال الطويل، وقد عد أحد الباحثين عشرات منها لا يظن لأول نظرة عجمتها, مثل: إقليد "مفتاح" وإقليم وإكسير وبرج وبيطار وبوص "حرير أبيض" وترف وجزية ودرهم ودكان ودمقس ودينار وزبرجد وزنار وسرَق "شقة حرير" وسفود وسفين وسندس وسير "قدة جلد" وسيمياء وطاوس وفرصة وفص وفندق وقارب وقالب وقربوس وقرنفل وقصدير وقلس "حبل السفينة" وقمقم وقميص وقنب وقنينة وكركي وكوب وكورة وكيس ولص ومرجان ومصطبة ومنجنيق ومنديل ونافورة وناموس ونقرس ونوتي وياقوت ويانسون "آنسون"2.
بل ما لنا لا نعمد إلى القرآن الكريم نفسه, وفيه على ذلك أوضح الأدلة: يقرب لهم المعاني بما تفيض به حياتهم ويضرب لهم الأمثال على الضلالة والهدى والمؤمنين والكافرين من التجارة نفسها، فهو يقول في المؤمنين المطيعين الذين أقاموا الصلاة وآتو الزكاة: إنهم {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} 1 ويشبه الذين شغلتهم الضلالة عن الهدى بالخاسر في تجارته فيقول: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} 2, {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ} 3، {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} 4. ومدح آخرين سعوا في مرضاة الله فقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} 5، وقال: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا
بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} 1. ولأن التجارة والبيع أهم ما يشغل العرب, لم يذكر الله غيرهما من المشاغل حين أثنى على أناس لا يغفلون عن ذكره فقال: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} 2. وقال في تأنيب الذين اشتغلوا بالتجارة عن الصلاة: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} 3. ولما أراد تشويق قوم إلى الإيمان قال: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، تُؤْمِنُونَ بِاللَّه} 4. وكثيرا ما تتكرر كلمات التجارة والربح والخسران في القرآن. وأحسب أن هذا القدر كافٍ في بيان الحيز الذي شغلته التجارة من حياة العرب في جاهليتهم وإسلامهم, حتى إن صعصعة بن صوحان لم يذكر للعرب من الحرف غيرها. جاء في أمالي القالي: "قال معاوية لصعصعة بن صوحان: "صف لي الناس" فقال: "خلق الناس
أخيافا: فطائفة للعبادة، وطائفة للتجارة، وطائفة خطباء، وطائفة للبأس والنجدة، ورِجْرِجة بين ذلك يكدرون الماء ويغلون السعر ويضيقون الطريق""1. ولعلك تتساءل بعد هذا قائلا: إن التجارة تستلزم إلماما بقيود وحسابات, والعرب أمة أمية لا تقرأ ولا تحسب فكيف كان ذلك؟ والجواب: إن هذا الحكم على العرب حكم على مجموعهم, لا على جميعهم2؛
فمنهم من كان يقرأ ويكتب ويحسب، وقد تعلم القرشيون الكتابة منذ القديم في الحيرة والأنبار، وكذلك فعل أهل الطائف. وسترى في أحداث عكاظ أن عمرو بن الشريد دعا فيها بصحيفة وكاتب وسجل على نفسه صكا أشبه بسند التمليك "طابو" الذي نألفه اليوم. كان هناك إذن صحف وكتاب وصكوك عند العرب وعند اليهود، بل إنا لنجد في آيات سورة البقرة الأخيرة ما يجعلنا نذهب إلى معرفة العرب بتقييد المعاملات التجارية، وليس من المعقول أن يخاطبهم الله بشيء لا يألفونه من الإملاء والكتابة بالعدل وإشهاد الشهود في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} 1.
وفوق هذا كله كان لهؤلاء العرب ذوي الملكة التجارية الراقية اهتمام بما حولهم من الأقطار التي يتاجرون فيها, ومراقبة لما يجري هناك من أحداث، دفعهم إلى ذلك طبيعة التجارة وما تتطلب من درس وإلمام بالأسواق وأمنها وأحوال المسيطرين على شعوبها, وأنت تعرف ذلك من الحرب التي كانت بين الفرس والروم في مشارف الشام قبل الهجرة بست سنين, وكيف كان مشركو مكة فرحين بانتصار الفرس إذ كانوا مثلهم غير ذوي كتاب، وقد شمتوا بهزيمة الروم إذ كانوا كالمسلمين أتباع كتاب سماوي. وقد سجل القرآن الكريم هذه الظاهرة ظاهرة اهتمام المكيين بما يجري حولهم من شئون الفرس والروم في الآية الكريم, أول سورة الروم: {غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ، فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ، بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} . و"أدنى الأرض": بصرى وأذرعات, وهما سوقان من أسواق العرب. والتجار منذ القديم نقلة ثقافة من حيث لا يشعرون1, فيجب
أن يحسب حسابهم فيما يكون بين الشعوب من تمازج وتفاعل، وليس العرب ببدع بين الشعوب، فقد أفادوا من اتجارهم واختلاطهم بالرومان والفرس وخضعوا لما يخضع له غيرهم من آثار الاختلاط وكثرة العلائق حتى إنا لنرى أسماء رومانية1 وفارسية تخللت لغتهم. ولنا أن نعد انتشار النصرانية في الشام والمجوسية في العراق واليمن أثرا من آثار التجارة, فقد ذكروا أن "تنصر العباد بالحيرة؛ لكثرة ترددهم إلى بلاد الروم للتجارة"2. وستعلم بعد قليل أن العرب -وقريشا خاصة- أحسنوا العلائق مع دولتي فارس والروم, إذ كانت تجاراتهم إلى بلاد تحت سيطرة هاتين الدولتين أو نفوذهما، فالشام ومصر ولايتان رومانيتان، والحبشة على علائق خاصة بالرومان والعراق واليمن تحت سيطرة الفرس, والعرب تتاجر صيفا إلى مصر والشام والعراق وشتاء إلى اليمن والحبشة. هذا مجمل ما أردت أن أعرض له من بيان اهتمام العرب في التجارة
ولم أقصد فيه إلى شيء من التطويل؛ لأن الكتاب ليس في تاريخ تجارة العرب, وإنما هو في أسواقها والتجارة أحد مواضيع الأسواق، وحسبنا هذه الإلمامة الموجزة نمهد بها قبل الشروع في الموضوع لتتم لنا الصورة التي نريد أن يتمثلها القارئ مستوفاة في غير نقص ولا زيادة.
بيوع الجاهلية
بيوع الجاهلية: ألف العرب في جاهليتهم أنماطا خاصة من البيع يتخذونها في أسواقهم، وهي في جملتها مما يثير استغرابنا ودهشتنا؛ لأن أكثرها مما يُغبن فيه البائع أو المبتاع. وتصور لنا تلك البيوع ما كان عليه تفكير فريق منهم. ولا بد من التنبيه إلى أنها لم تكن تتخذ في جميع الأسواق, بل منها ما تمتاز به سوق من سوق وجماعة من جماعة، وإليك ما عثرت عليه من بيوعهم: 1- الرمي بالحصاة "أو إلقاء الحجارة": ذكروا لهذا البيع صورا كثيرة تجري في سوق دومة الجندل, منها: 1- أن يقول أحد المتبايعين للآخر: "ارم هذه الحصاة، فعلى أي ثوب وقعت فهو لك بدرهم"1. 2- أن يقول البائع: "إذا رميت هذا الثوب بالحصاة فهو مبيع منك بكذا, فيجعل الرمي بالحصاة نفسه بيعا"2، أو يعترض القطيع من الغنم فيأخذ حصاة ويقول "أي شاة أصابتها فهي لك بكذا".
3- أن يقول: "بعتك من السلع ما تقع عليه حصاتك، أو: "بعتك من الأرض إلى حيث تنتهي حصاتك"1. 4- أن يقبض المشتري على كف من حصا, ويقول: "لي بعدد ما خرج في القبضة من الشيء المبيع"2. 5- أن يبيعه سلعة ويقبض على كف من حصا, ويقول: "لي بكل حصاة درهم"2. 6- أن يقول للمشتري: "بعتك على أنك بالخيار إلى أن أرمي بهذه الحصاة, فإذا نبذتها وجب البيع"3. 7- "أن يجتمع النفر منهم على السلعة يساومون بها صاحبها, فأيهم رضي ألقى حجره. وربما اتفق في السلعة الرهط فلا يجدون بدا من أن يشتركوا وهم كارهون، وربما "اتفقوا"4 فألقوا الحجارة جميعا "إذا كانوا عددا على أمر بينهم"4 فيوكسون صاحب السلعة إذا تظاهروا عليه".
انفرد بهذه الصورة الأخيرة المرزوقي في كتابه "الأزمنة والأمكنة" "2/ 162" نقلا عن محمد بن حبيب فيما أظن، وسماها إلقاء الحجارة بدلا من رمي الحصاة, ونص على شيوعها في سوق دومة الجندل. أقرب هذه الصور إلى الرضى أن يكون رمي الحصاة إيذانا بوجوب البيع وانقطاع الخيار. أما بقية الصور فهي من بيع الغَرَر وهي إلى القمار أقرب وبه أشبه, وقد عد الإسلام هذه البيوع فاسدة كلها لما فيها من الجهالة والضرر بالبائع أو المشتري. 2- المنابذة: ولهم في هذا النوع من البيوع ثلاث صور: 1- أن تقول: "انبذ إلي الثوب أو أنبذه إليك, وقد وجب البيع بكذا وكذا"1 فيكون النبذ إيذانا بالبيع وقطعا للخيار. 2- أن يرمي الرجل إلى الرجل بثوبه وينبذ الآخر إليه ثوبه, ولم ينظر واحد منهما إلى ثوب صاحبه, فيكون ذلك بيعهما عن غير نظر ولا تراضٍ2.
3- نبذ الحصاة وقد تقدم. يقال في هذا البيع ما قيل في رمي الحصاة, وقد نهى الإسلام عنه وأبطله. 3- الملامسة: وهي على أوجه ثلاثة: 1- أن يأتي البائع بثوب مطويّ، أو في ظلمة فيلمسه المستام, فيقول له صاحب الثوب: "بعتكه بكذا بشرط أن يقوم المسك مقام نظرك, ولا خيار لك إذا رأيته"1 فلا يقلب المشتري الثوب لا ليلا, ولا نهارا. 2- أن يجعل المتبايعان اللمس نفسه بيعا بغير صيغة، كما تقدم في المنابذة ورمي الحصاة. 3- أن يجعلا اللمس شرطا في قطع خيار المجلس وغيره. وقد ألحق الإسلام هذه الصور بسابقتها وأبطلها ونهى عنها؛ فقد جاء في صحيح مسلم: "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن بيعتين: الملامسة والمنابذة"2.
وذكر الألوسي مع الملامسة الإيماء والهمهمة "وهي الكلام الخفي, وكل كلام معه بحح" وعلل اتخاذهم لهما بخوف الحلف والكذب, وهو طريف في الأقوال غريب. ثم اطلعنا في كتاب المحبر لمحمد بن حبيب على هذا النص في الكلام على سوق المشقر: "وكان بيعهم فيها الملامسة والهمهمة. أما الملامسة "فهي" الإيماء: يومئ بعضهم إلى بعض فيتبايعون ولا يتكلمون حتى يتراضوا إيماء، وأما الهمهمة فكيلا يحلف أحدهم على كذب إن زعم المشتري أنه قد بدا له1. 4- المعاومة أو بيع السنين: وهو أن يبيع ثمر الشجرة عامين أو ثلاثة أو أكثر. وقد أبطله الإسلام؛ لأنه من الغرر فهو بيع معدوم ومجهول, وغير مقدور على تسليمه وغير مملوك2. 5- المزابنة: هي بيع الرطب في رءوس النخل بالتمر كيلا. وكذا كل
ثمر بيع على شجر بثمر كيلا, وقد روى صاحب القاموس: "إنه كل جزاف لا يعلم كيله ولا عدده ولا وزنه, بيع بمسمى من مكيل وموزون ومعدود، أو بيع معلوم بمجهول من جنسه، أو بيع مجهول بمجهول من جنسه، أو هي بيع المغابنة في الجنس الذي لا يجوز فيه الغبن" ا. هـ. والمزابنة: المدافعة, وسمي هذا البيع مزابنة؛ لأن أحد المتبايعين إذا ندم زبن صاحبه عما عقد عليه. وسبيله في نهي الإسلام عنه سبيل ما تقدمه؛ لما فيه من الغرر1. 6- المحاقلة: هي في الزرع على نحو المزابنة في التمر؛ فيباع الزرع القائم بالحب كيلا. وقد نهى الرسول عن المحاقلة كما نهى عن المزابنة1. 7- المخابرة: وهي -وإن كانت بالزراعة ألصق؛ لأنها معاملة على الأرض ببعض ما يخرج منها من الزرع كالثلث ونحوه من الأجزاء المعلومة- تتعلق بموضوعنا؛ لأن أحد أعلام العربية فسّرها تفسيرا يجعلها بهذا الباب أشبه. جاء في شرح مسلم للنووي: قيل: إن المخابرة مشتقة من الخُبْرة وهي النصيب, وقال أبو عبيدة: هي النصيب من سمك أو لحم
يقال: تخبروا خبرة, إذا اشتروا شاة فذبحوها وتقاسموا لحمها. وقال ابن الأعرابي: هي مأخوذة من "خيبر"؛ لأن أول هذه المعاملة كان فيها ا. هـ. والذي يظهر أن ابن الأعرابي يشير إلى المزارعة لا إلى الاشتراك بالشاة الذي فسر المخابرة به أبو عبيدة؛ لأن لأهل خيبر أرضين وعلما بالزراعة. 8- حبل الحبلة: كان بيعا يتبايعه أهل الجاهلية: كان الرجل منهم يبتاع الجزور إلى أن تنتج الناقة, وأحيانا إلى أن تنتج التي في بطنها فإذا نتجت حملها. فالحبل الأول يراد به ما في بطن النوق من الحمل، والثاني حبل الذي في بطون النوق. فنهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن هذا البيع. "وإنما نهى عنه لمعنيين: "أحدهما": أنه غرور وبيع شيء لم يخلق بعد، وهو أن يبيع ما سوف يحمله الجنين الذي في بطن الناقة على تقدير أن تكون أنثى, فهو بيع نتاج النتاج. "والثاني": أن يبيعه إلى أجل ينتج فيه الحمل الذي في بطن الناقة, وهو أجل مجهول ولا يصح"1 والحَبَلة بالتحريك: جمع حابل.
9- التصرية: كان من عادة بعض العرب إذا أراد بيع شاة, أو ناقة امتنع من حلبها أياما فيحتفل اللبن في ضرعها فيعظم. فإذا كان ذلك منها عرضها للبيع, فيظن المشتري أن كثرة لبنها واحتفال ضرعها عادة مستمرة لها, فلا يلبث أن يتبين خطأه بعد شرائها. والتصرية: الجمع، يقال: صرّى الماء في الحوض, إذا جمعه. جاء في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تصرّوا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها، فإن رضيها أمسكها وإن سخطها ردّها وصاعا من تمر" 1. 10- السرار: لم أجد هذا الضرب من البيع في جميع المصادر التي بيدي، لم يذكره أحد غير محمد بن حبيب بقوله: "وكان بيعهم بها "أي: بعكاظ" السرار، فإذا وجب البيع وعند التاجر ألف رجل ممن يريد الشراء ولا يريده, فله الشركة في الربح"2. وقد رجعت في هذه الكلمة إلى المعاجم التي في يدي, وهي:
الصحاح، تاج العروس "شرح القاموس"، لسان العرب، المجمل لابن فارس "نسخة مخطوطة كاملة في المكتبة الظاهرية", الجمهرة لابن دريد، الفائق، أساس البلاغة، النهاية لابن الاثير، المصباح، فلم أجد أحدا تعرض لهذا الضرب من البيوع. ثم تحريت في شروح الحديث وكتب الفقه مظنة أن أجد فيها تعرضا له في صدد كلامهم عن البيوع الفاسدة أو المنهي عنها فلم أظفر. إلا ما وجدت في كتاب "المغرب في ترتيب المعرب" للمطرزي، وعنه نقل صاحب محيط المحيط1. قال المطرزي: "وفي المنتقى: بيع السرار أن تقول: "أخرج يدي ويدك، فإن أخرجت خاتمي قبلك فهو بيع بكذا، وإن أخرجت خاتمك قبلي فبكذا، فإن أخرجا معا أو لم يخرجا جميعا عادا في الإخراج! "2.
11- الناجز: وهو البيع العام المعروف لجميع الناس بادين وحاضرين، وذلك إذا كانت المبادلة يدا بيد وقالوا: بيع السوق ناجزا بناجز أي: حاضرا بحاضر. 12- الجس: نص عليه محمد بن حبيب في كتابه المحبر "ص266" فقال في الكلام على سوق صنعاء: "وكان بيعهم بها الجس, جس الأيدي" ولعله نوع من بيع الملامسة المتقدم. جرى العرب في جاهليتهم على ما علمت من أنواع البيع التي تعرض أحد المتبايعين للغبن والضرر بلا مسوغ، فلما أكرمهم الله بالإسلام رفع عنهم ضيم الجاهلية ونهاهم عن بيع الغرر بجيمع صوره وأشكاله؛ ليكون لكل من المتبايعين محض الاختيار, فلا يتم بيع إلا إذا كان واضحا معلوما للمتبايعين، وبالرضى الكامل. ولقد تتبع الإسلام معاملات الجاهليين فأبطل كل ما فيه غش وضرر كما في بيع حبل الحبلة وفي التصرية, وشرع لهم في التجارة والبيوع ما ضمن خير الناس جميعا بائعهم ومشتريهم, ورفع عنهم الحيف الذي كان يحيق بهم مما اعتادوه في جاهليتهم.
لم يقتصر الجاهليون في تجارتهم على ما قدمنا من بيوع فاسدة وعادات ضارة, فلهم إلى ذلك مساوئ لا تقل قبحا عما تقدمها؛ فمنها النجش, وهو أن تواطئ رجلا إذا أراد بيعا أن تمدحه، أو أن يريد الإنسان أن يبيع بياعة فتساومه بها بثمن كثير لينظر إليك ناظر فيقع فيها, وكذلك في الأشياء كلها1. ومن عاداتهم المكس, وهي دراهم كانت تؤخذ من بائعي السلع في أسواق الجاهلية, ويقال للعشّار أيضا صاحب المكس. والمكس لغة: النقص، والمماكسة في البيع: انتقاص الثمن وانحطاطه2. ولعل ذلك يكون بعد الاتفاق على ثمن معين, قال الشاعر: أفي كل أسواق العراق إتاوة ... وفي كل ما باع امرؤ مكس درهم وظاهر أن المقصود بالمكس أشبه بالضرائب التي تجبيها حكومات اليوم على البضائع. وقد امتد تحكم تجار العرب إلى القوت الضروري, فكانوا يحتكرونه على الفقراء فيتلقون الركبان ويشترون منهم الطعام, وربما باعوه في مكانه قبل أن يبلغ السوق وقبل أن ينقلوه. ومنهم من كان يشتري ويبيع لحساب أهل البادية, فيلحق بهؤلاء الضرر البالغ لجهلهم أمور التجارة, ولأنهم في كل حال مغلوبون على أمرهم، بعيدون عما
يباع ويشترى لهم، ولعلهم إن حضروا البيع رفعوا عن أنفسهم بعض الحيف. فلما كان الإسلام نهى عن جميع هذه المفاسد جملة, فقد جاء في صحيح البخاري1: قال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "لا تلقوا الركبان، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، ولا تناجشوا، ولا يبع حاضر لبادٍ 2 , ولا تصروا الغنم. ومن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها: إن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعا من تمر". وقد فسر ابن عباس قوله: "لا يبع حاضر لباد" بقوله: لا يكن له سمسارا. وفي صحيح مسلم عن ابن عمر: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من اشترى طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه, ويقبضه" قال ابن عمر: "وكنا نشتري الطعام من الركبان جزافا "أي: بلا كيل ولا وزن ولا تقدير" فنهانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نبيعه حتى ننقله من مكانه". ثم شرع لهم السهولة في المعاملة, والتبيين في البيع كما في حديث: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبيَّنا بُورك لهما في بيعهما, وإن كتما وكذبا مُحقت بركة بيعهما". وهناك مبيعات خاصة لأهل الجاهلية حرّمها الإسلام وحرّم
ثمنها، أهمها الخمر، فسيأتي أن الخمر من أهم ما كان يتجر به العرب, وقد اشتهرت مدن معينة في الجاهلية بخمرها الطيب اللذيذ، ولا مندوحة عن ذكر غزة وأذرعات وأندرين وهجر والحيرة, وغيرها من البلدان التي تحمل خمرها قوافل العرب التجارية, وقد قال الشاعر: إذا ذقت فاها قلت طعم مدامة ... معتقة مما يجيء به التجر1 وهى مورد تجاري عظيم لم يكن يستغني عنه العرب، فلما حرم الله على المسلمين الخمرة حرم أيضا ثمنها حسما للداء, فلا يجوز بيعها ولا شراؤها كما نهى عن ثمن بقية المحرمات, ففي صحيح البخاري: "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ثمن الكلب, ومهر البغي, وحلوان الكاهن". و"أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حرّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام"2, وعن عائشة قالت: "لما نزلت آخر البقرة قرأهن النبي في المسجد, ثم حرّم التجارة في الخمر". لكن التجارة الممقوتة جدا، التي يصم عارها بعض أهل الجاهلية هي البغاء؛ كانوا يؤجرون إماءهم للرجال ويأخذون هم ما يكتسب لهم جواريهم من هذا الكسب المرذول. واستمرت هذه العادة حتى
جاء الإسلام وكانت الهجرة. ذكر المفسرون أن لعبد الله بن أبي بن سلول جاريتين يقال لهما: مسيكة ومعاذة، وكان يُكرههما على الزنى لضريبة يأخذها منهما "وكذلك كانوا يفعلون في الجاهلية", فلما جاء الإسلام قالت معاذة لمسيكة: "إن هذا الأمر الذي نحن فيه لا يخلو من وجهين: فإن يك خيرا فقد استكثرنا منه، وإن يك شرا فقد آن لنا أن ندعه" لكن عبد الله هذا قال لهما: "ارجعا فازنيا" فقالتا: "والله لا نفعل، قد جاء الإسلام وحرم الزنى". فأتتا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وشكتا إليه أمرهما, فأنزل الله هذه الآية: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 1.
ربا الجاهلية
ربا الجاهلية: لست هنا بصدد بيان الربا وأنواعه ومضارّه على التجارة والعمران والأخلاق، وما يعقب من خراب البيوت وتقويض الأسر وفقدان الثروة والشقاء والدمار، فذلك معروف أمره، مستوفًى شرحه في مظانه من كتب الحديث والتفاسير، عدا ما يعاين الناس في حياتهم من شروره على المرابين أنفسهم قبل غيرهم، فحوادثه نشاهدها في كل يوم بالعشرات. وإنما أريد الإشارة إلى ما استفاض منه في الجاهلية, حتى أتى الإسلام فاجتثّه من جذوره. يرجح أن الذي أشاع الربا في جزيرة العرب هم اليهود الطارئون عليها، الذين اتخذوا من بعض قراها ومدنها مستعمرات عالجوا فيها الزراعة فأصابوا منها الغنى, ولم يكن لعرب الحجاز فيها كبير نصيب. فكان العربي إذا أعوزه المال اقترض ورهن عند دائنه درعه أو ثيابه أو سلاحه، وأحيانا تشتد به الحاجة ويشتط الدائن فيرهن ولده. إلا أن الربا لم يقتصر على اليهود، بل ما زال ينتشر في مكة والطائف وخيبر ووادي القرى ويثرب حتى ألفه الناس, وصاروا يأخذون به ويعطون.
اشتهرت الطائف برباها, ولعل هذه الشهرة كانت لمكان اليهود منها فقد جاء في فتوح البلدان للبلاذري "ص56" أنه: "كان بمخلاف الطائف قوم من اليهود طردوا من اليمن ويثرب, فأقاموا بها للتجارة, فوضعت عليهم الجزية ... ". ويذكر المفسرون "أن أربعة إخوة من ثقيف كانوا يداينون بني المغيرة بن عبد الله بن عمير بن عوف الثقفي، وكانوا يرابون، فلما ظهر النبي -صلى الله عليه وسلم- على الطائف أسلم هؤلاء الإخوة بنو عمرو الثقفي, وطلبوا رباهم من بني المغيرة. فقال بنو المغيرة: "والله ما نعطي الربا في الإسلام وقد وضعه الله عن المؤمنين! ". فاختصموا إلى عتاب بن أسيد وكان عامل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على مكة, فكتب إلى النبي بقضية الفريقين وكان ذلك مالا عظيما, فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ... } 1". هذا, وقد كانت ثقيف صالحت النبي -صلى الله عليه وسلم- على أن ما لهم من ربا على الناس وما كان للناس عليهم من ربا فهو موضوع، وثقيف هم أهل الطائف. ولم تقتصر علائق أهل مكة مع أهل الطائف على المراباة والتجارة, بل كان لأهل مكة أملاك بالطائف يصلحونها ويستغلونها, فقد "كان
للعباس أرض بالطائف وكان الزبيب يحمل منها فينبذ بالسقاية للحاج, وكانت لعامة قريش أموال بالطائف يأتونها من مكة فيصلحونها ... وصارت أرض الطائف مخلافا من مخاليف مكة"1. وكان بالمدينة -وفيها كثير من اليهود- ربا منتشر، وعرف من مرابيها من أصبح ذا غنى فاحش: جاء في خزانة الأدب: "كان أُحَيْحة بن الجلاح كثير المال شحيحا عليه، يبيع بيع الربا بالمدينة، حتى كاد يحيط بأموالهم، وكان له تسع وتسعون بئرا كلها ينضح عليها, وكان له ... إلخ"2. ومن مراجعة كتاب الصلح الذي كتبه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأهل نجران نعلم أن غير اليهود لهم نصيب يحملونه من أمر الربا هذا، فقد شرط عليهم ألا يأكلوا الربا ولا يتعاملوا به "ومن أكل منهم ربا من ذي قِبَل, فذمتي منه بريئة". ولعل نصارى نجران كانوا قد بلغوا من التعامل به مبلغا صعب عليهم فيه تنفيذ هذا الشرط؛ لما تأصل فيهم من اعتياده، حتى استفحل أمره فيهم أيام خلافة عمر بن الخطاب وشاعت لهم أموال أفادوها منه, وخاف عمر العاقبة فأجلاهم3.
تسرب الربا إلى أهل مكة وتعاملوا به, وعُرف رجال منهم من أهل الشرف والرئاسة بتعاطيه كالعباس بن عبد المطلب وخالد بن الوليد وعثمان بن عفان1 وغيرهم. ومتى انتشرت عادة قبيحة ستر فشوّها قبحها لم يترفع عنها أحد، وكانت الضرورة والحاجة شر معوان على تعاطيه, وبذلك انحصر الغنى في طائفة معينة وعم الفقر من عداهم. بلغ اليهود في هذا الميدان شوطا لم يلحقهم فيه لاحق قط؛ لما تركز فيهم من الثراء وما حذقوا من حسن التأتي في تثمير أموالهم، واستغلال الفقر والسذاجة في العرب، فاعتقدوا الأرضين وبنوا الحصون ثم دأبوا في جمع المال وتنميته وإدانته حتى كثرت الرهائن عندهم واشتطوا في طلبها وافتنوا في تنويعها افتنانا شائنا، فصاروا يرتهنون الأولاد ويطلبون النساء أيضا, ولا يرعون في سبيل المادة حلفا ولا آصرة. جاء في سيرة ابن هشام "2/ 341" أن أبا نائلة سلكان بن سلامة أتى أحد أشراف اليهود وأغنيائهم كعب بن الأشرف, وكان أخاه من الرضاعة فقال له: "إني قد أردت أن تبيعنا طعاما ونرهنك ونوثق لك وتحسن في ذلك". فقال كعب: "أترهنونني نساءكم؟! "
قال: "كيف نرهنك نساءنا وأنت أشب أهل يثرب وأعطرهم؟ ". قال كعب: "أترهنونني أبناءكم؟ " قال: "لقد أردت أن تفضحنا، إن معي أصحابا لي على مثل رأيي, وقد أردت أن آتيك بهم فتبيعهم وتحسن في ذلك, ونرهنك من الحلقة ما فيه الوفاء". يريد أبو نائلة بقوله: "على مثل رأيي": تضايقهم من مجيء الرسول والمسلمين ومزاحمتهم في بلدهم "المدينة" على العيش, فلينظر امرؤ كيف لم يشفع شيء عند كعب في سبيل المادة، لا مشايعة القوم له "ظاهرا" في هواه وعداوته لرسول الله، ولا أخوة الرضاعة، لا شيء إلا المال والربح، المال وحده هو معبود اليهود منذ خُلقوا إلى يوم يبعثون. هذا الغلو من اليهود في الربا, وتعاطيه منذ القديم هو السبب في تشنيع القرآن الكريم لفعلتهم, وتعنيفهم عليها حين يقول: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا، وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} 1.
أتى الإسلام وطعمة كثير من الجاهليين ومأكلهم من الربا, فامتنع قسم منهم من الاتجار؛ لأن الربح قد حصل لهم بأخف مئونة وأيسر مشقة؛ فلا أسفار ولا تعرض لأخطار ولا جهد ولا سعى. وكف أكثرهم بطبيعة الحال عن الإقراض بلا فائدة واعتاد المدين إعطاء الربا راضيا، غير واجد فيه غبنا ولا شناعة, وقال كثير منهم: "سواء علينا الزيادة في أول البيع بالربح أو عند المحل لأجل التأخير", هوّنوا بذلك على أنفسهم, ورأوا البيع والربا سواء في الزيادة حتى أكذبهم الله, وعنفهم أشد تعنيف بقوله: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} 1. ولما حرم الإسلام الربا جملة واحدة كان لا بد من تشريع حاسم للعلاقات التي سبقت إسلام المتعاملين به, والتي كانت لا يخلو من الارتباط بها من كان يتعاطى التجارة وغيرها من شئون الكسب ووقف الناس إزاء مشكلة جديدة: هل يمضون عقودهم على ما عقدوا قبل الإسلام إذا حل الأجل, أم يتقيدون بتعاليمه فيهملون ما كان منها فاسدا حسب هذه التعاليم؟ وإذا كان الأمر الثاني فلا بد حينئذ من
غبن -في زعمهم- يلحق الدائن. وقد عرضت قضية من هذا الشكل, فنزل الوحي بالحل القاطع: ذكر الطبري في تفسيره: أن العباس ورجلا من بني المغيرة "لعله خالد بن الوليد المصرح به في تفسير الخازن" كانا شريكين في الجاهلية، سلّفا في الربا إلى أناس من ثقيف وهم بنو عمرو بن عمير, فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا. وذكر الخازن أن عثمان بن عفان والعباس بن عبد المطلب كان أسلفا في التمر, فلما كان وقت الجُذاذ قال صاحب التمر لهما: "إن أنتما أخذتما حقكما لم يبق لي ما يكفي عيالي، فهل لكما أن تأخذا النصف وتؤخرا النصف, وأضعف لكما؟ " ففعلا، فلما حل الأجل طلبا منه الزيادة, فبلغ ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنهاهما. وسواء أكانت الحادثة الأولى أم الثانية سببا في نزول الآية، فإن من المعقول أن تتعدد الحوادث على هذا النسق لتفشي المعاملات فيما سبق على الربا، وحلول الآجال أجلا بعد أجل، وتحير الدائن والمدين معا بين إمضاء التعاقد السابق للتحريم، والإذعان والكف عما نهى الله عنه، أيا كان, فقد نزل قول الله فاصلا في هذه المسائل وأشباهها بهذا التشريع الحاسم, الذي لا هوادة فيه:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} 1. فسمع العباس وخالد وعثمان وغيرهم, وأطاعوا وأخذوا رءوس أموالهم. وكتب رسول الله يجيب عَتَّابا عامله على مكة بهذه الآية, وقال له في آخرها: "إن رضوا, وإلا فآذنهم بحرب"2. هذا ما كان من الربا في الجاهلية عامة: يبيع الرجل البيع إلى أجل مسمى, فإذا حل الأجل ولم يكن عند صاحبه قضاء، زاده وأخّر عنه. إلا أن هناك ربا خاصا كان من أثقل الأعباء على المعسرين, وهو ربا بالأضعاف الذي أشار القرآن الكريم إليه بقوله: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} 3 وذلك أن الرجل منهم في الجاهلية يكون له على الرجل مال إلى أجل، فإذا حل الأجل وكان الذي عليه الدين ضائقا لا يجد ما يؤدي به دينه, قال صاحب المال: "زدني في المال حتى أزيدك في الأجل" فيقول الآخر: "أخِّر عني دينك, وأزيدك على مالك كذا" فيفعلان ويكون الدين
مائة فيصير إلى قابل مائتين مثلا، وربما حل الأجل الثاني والذي عليه الدين في إعساره ذاك، لم يتخلص منه، فيؤجله الدائن أجلا ثالثا، ويزيد المال عليه, وربما فعلوا ذلك مرارا حتى تصير المائة بعد سنين مئات. وذكر ابن حجر في الزواجر ما يفيد أن ربا الجاهلية كان الإنساء فيه بالشهور، وعلى ذلك يسهل علينا إدراك هذا التضعيف فيه, قال: "وربا النسيئة الذي كان مشهورا في الجاهلية؛ لأن الواحد منهم كان يدفع ماله لغيره إلى أجل، على أن يأخذ منه كل شهر قدرا معينا ورأس المال باقٍ بحاله، فإذا حل الأجل طالب برأس ماله، فإن تعذر عليه الأداء زاده في الحق والأجل". ذلك تضعيفهم في العين "النقود", وأما تضعيفهم في السن ففي الإبل, وقد شرحوا ذلك بما يأتي: "إنما كان الربا في الجاهلية في التضعيف وفي السن: يكون للرجل فضل دين فيأتيه إذا حل الأجل فيقول: "تقضيني أو تزيدني؟ " فإذا كان عنده شيء يقضيه قضى, وإلا حوّله إلى السن التي فوق ذلك: إن كانت ابنة مخاض "وهي التي دخلت في السنة الثانية" يجعلها ابنة لبون "وهي التي دخلت في الثالثة" في السنة التالية، ثم حِقة "وهي التي أتت عليها الرابعة", ثم جذعة "وهي التي أتت عليها الخامسة" ثم رباعيا ثم هكذا ... إلى فوق".
بدأت العلائق التي نشأت عن تعامل الجاهلية تضمحل بقاياها مع الزمن. وقد تشدد الإسلام بما يرتبط منها بالربا تشددا حازما، وورد فيها من الوعيد والتهديد ما لا مجال لبسطه هنا. وكان خاتمتها ما جهر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع، في خطبته البليغة المأثورة التي كانت فاصلة بين آثار الجاهلية وعهد جديد، والتي بيَّن فيها أهم الأمور الجسام التي يريد من أمته التمسك بها, وكان في طليعتها -دون شك- الربا, فقال فيه: "ألا, وإن كل ربا الجاهلية موضوع كله، وأول ربا أبتدئ به ربا عمي العباس بن عبد المطلب "لكم رءوس أموالكم, لا تَظلمون ولا تُظلمون""1.
المحلون والمحرمون والحمس
المحلون والمحرمون والحمس: كان العرب يعظمون أمكنة خاصة وشهورا معينة، لا يسفكون فيها دما، ولا يتجاوز بعضهم على بعض حتى يزايلوا المكان الحرام، أو ينقضي الشهر الحرام. وكان من بعد النظر أن جعلوا أكبر أسواقهم يقام في الأشهر الحرم، فكانت سوق حُباشة وسوق صُحار في رجب، وحضرموت في ذي القعدة، وعكاظ ومجنة وذو المجاز في ذي القعدة وذي الحجة، ومعلوم أن الأشهر الحرم أربعة: رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم، تضع فيهن العرب سلاحها, فلو لقي المرء قاتل أبيه ما وسعه التعرض له بسوء، حتى إن تلقيبهم رجبا بالأصم، كان لأنه لا ينادى فيه: "يا صباحاه"1, ولا "يا لَفلان" فينقطع فيه صوت الأسلحة. وكان من أعظم العار أن يتعدى المرء حدود الشهر الحرام والبلد الحرام. ولهذا سمت العرب حروب قريش وهوازن في عكاظ بحروب الفجار؛ لفجورهم باقتتالهم في الشهر الحرام.
ولما ترصدت سرية عبد الله بن جحش عير قريش, وكانت تحمل زبيبا وأدما وتجارة من تجارتهم فيها عمرو بن الحضرمي، بنخلة بين مكة والطائف، وظفرت بالعير وقتلت ابن الحضرمي بعد أن هاب قوم الإقدام على القتل؛ لأنهم كانوا في آخر يوم من رجب، وأقبلوا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالعير وبأسيرين؛ امتنع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أخذ الخمس, وقال: "ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام" 1. وسُقط في أيدي القوم وظنوا أنهم قد هلكوا، وعنفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا. وأيقنت قريش أنها وقعت على ما تعيب به محمدا وأصحابه عند العرب عامة؛ لما انتهكوا من حرمة الشهر, فجعلت تشيع قولها: "قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام, وسفكوا فيه الدم, وأخذوا فيه الأموال، وأسروا فيه الرجال". وأكثروا من ذلك لما فيه من تهييج العرب وتغيير قلوبها على صاحب الدعوة وتصويرها له في صورة المستحل الذي لا يرعى حرمة للشهر المحرم كما لم يرع من قبل حرمة آلهتهم. وتناست قريش ما كانت صنعت مع النبي وأصحابه من إيذاء وتعنيف, حتى اضطروهم إلى الهجرة إلى الحبشة ثم
إلى المدينة. ثم تناست ما عاملت به المستضعفين من المسلمين من إقامة في الهاجرة تصهرهم الشمس، ومن إلقاء الصخور عليهم، وتهافتهم على هؤلاء ضربا وإيلاما حتى يفتنوهم عن دينهم, ثم تنويعهم أساليب العذاب لهم ولأهليهم. فلما أشفق المسلمون من صنيع سرية عبد الله بن جحش, واستطالة ألسنة قريش فيهم أنزل الله هذه الآية: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} 1. وقال عبد الله بن جحش يرد على قريش: تعدون قتلا في الحرام عظيمة ... وأعظم منه لو يرى الرشد راشد صدودكم عما يقول محمد ... وكفر به، والله راءٍ وشاهد وإخراجكم من مسجد الله أهله ... لئلا يرى لله في البيت ساجد فإنا وإن عيرتمونا بقتله ... وأرجف بالإسلام باغ وحاسد سقينا من ابن الحضرمي رماحنا ... بنخلة لما أوقد الحرب واقد دما وابن عبد الله عثمان بيننا ... ينازعه غل من القد عاند2
قال المرزوقي: "كانت هذه الأسواق منها ما يقوم في الأشهر الحرم ولا يقوم في غيرها، ومنها ما لا يقوم في الأشهر الحرم ويقوم في غيرها، لكنه لا يصل إليها أحد إلا بخفير ولا يرجع إلا بخفير". ولا يخفى أن الأمن من أوكد الأسباب في انتظام أمور التجارة، فلولاه ما أخرج بائع بضاعة، ولا تظاهر مشترٍ بملك نقود. ومن هنا كان لقريش تلك الزعامة التجارية؛ لأنها تسكن الحرم حيث الأمن والسلم، وحيث لا تحدث أحدا نفسه بالبغي والعدوان. فكانت تجارات العرب أروج ما تكون حيث يستتب الأمن وتعم الثقة. رعاية هذه الحرم على ما تقدم ليست مطردة على إطلاقها، بل هي كذلك في الأعم الأغلب، إذ إن هناك قبائل معدودة لا تعرف لهذه المحرمات حقا، فكانت تسفك الدم ولو في الشهر الحرام أو البلد الحرام. علمت قريش أمر هذه القبائل, فكانت تسلك في طريقها على القبائل التي تحفظ لها حرمتها, فإذا وردت على من لا يرعاها تخفّرت بخفير. ونحن مدينون للمرزوقي الذي له الفضل بإطلاعنا على ما لقريش من منزلة سامية في نفوس قبائل العرب, وخاصة الذين يكونون على
طريقها، كما علمنا من القبائل التي لا تجتاز بها قريش إلا متخفرة. كانت قريش في خروجها من مكة قاصدة دومة الجندل إذا "أخذت على الحزن لم تنخفر بأحد من العرب حتى ترجع؛ وذلك أن مضر عامتهم لا تتعرض لتجار قريش ولا يتهجمهم حليف لمضري، مع تعظيمها لقريش ومكانهم من البيت. وكانت مضر تقول: قد قضت عنا قريش مذمة ما أورثنا أبونا إسماعيل من الدين. وكانوا إذا خرجوا من الحزن أو على الحزن وردوا مياه كلب، وكانت كلب حلفاء بني تميم. فإذا سفلوا عن ذلك أخذوا في بني أسد, حتى يخرجوا على طيء فتعطيهم وتدلهم على ما أرادوا؛ لأن طيئا حلفاء بني أسد. فإذا أخذوا طريق العراق تخفروا ببني عمرو بن مرثد من بني قيس بن ثعلبة, فيجيز لهم ذلك ربيعة كلها". هذا هو نظر أغلب العرب إلى قريش: تعظيم لهم احترام؛ لمكانهم من البيت, ولأنهم سدنته والقائمون بأمور الحاجّ أيام الحج. أذعنت لهم بذلك العرب وعرفوا لهم حقوقهم؛ لأنهم قوام الدين الذي دان به العرب قبل الإسلام وهم لهم تبع. وقد استغل القرشيون هذه المكانة القدسية، فضربوا في جزيرة العرب شمالا وجنوبا متاجرين لا يعرض لهم, ولا لأموالهم أحد.
وكانوا بطبيعة الأمر مسيطرين على الأسواق الثلاث الكبرى التي تقوم قريبا من مكة, وهي: عكاظ ومجنة وذو المجاز, وفيها يجتمع أكبر حفل من بلاد العرب من جميع أطرافها لوقوع هذه الأسواق في أيام الحج, وقريبا من أمكنته. ويظهر أن قريشا لم تكتف بما لها من نفوذ في قبائل العرب, بل أرادت أن تصبغ نفسها صبغة تمتاز بها منهم في الدين نفسه، كأنهم طبقة خاصة تتمتع بحقوق ليس لغيرهم أن يتمتع بها، ورمت من وراء ذلك إلى أن تمكن هيبتها في نفوس الأعراب الغفل, أقصد بذلك ما يعرف في كتب السير بحديث "الحُمْس": مادة "حمس" في اللغة تفيد الشدة والصلابة في الدين والقتال. تلقبت قريش بالحمس هي وأحلافها من كنانة، وخزاعة، وجديلة، وكلاب, وكعب, وعامر, بنو ربيعة بن عامر بن صعصعة1, ومن تبعهم في الجاهلية، وخلاصة هذا الحديث في بدعتهم تلك أنهم قالوا فيما بينهم: "نحن بنو إبراهيم وأهل الحرمة وولاة البيت وقطّان مكة، فليس لأحد من العرب مثل حقنا ولا مثل منزلتنا، ولا تعرف له
العرب مثل ما تعرف لنا. فلا تعظموا شيئا من الحل كما تعظمون الحرم, فإنكم إن فعلتم ذلك استخف العرب بحرمتكم وقالوا: قد عظموا من الحل مثل ما عظموا من الحرم". فأجمعوا على هذا الرأي وتركوا الوقوف على عرفة والإفاضة منها كما يفعل سائر العرب. وهم مع إقرارهم أن الوقوف بعرفة من مشاعر الحج ودين إبراهيم، ومع أنهم يأمرون العرب عامة بالوقوف والإفاضة، ابتدعوا لأنفسهم البقاء في الحرم واعتذروا لذلك بقولهم: "نحن أهل الحرم, فليس ينبغي لنا أن نخرج من الحرم, ولا نعظم غيرها كما نعظمها نحن الحمس". فـ "لا نفيض إلا من الحرم، نحن قطين الله فلا نخرج من حرمه"1 وجعلوا لأنفسهم حق تمييز غيرهم بما ميزوا به أنفسهم. ثم ترقوا في الامتياز فحرموا على أنفسهم ائتقاط الأقط وسَلْء2 السمن ما داموا حرما، كما حرموا الاستظلال بغير بيوت الأدم محرمين، وكما حرموا على أنفسهم أن يدخلوا بيتا ما داموا محرمين. ثم حظروا على غيرهم الأكل من غير طعام الحرم, فمن جاء بطعام من غير الحرم، وكان حاجا أو معتمرا حرم عليه الأكل منه. ولم يقتصر تحكمهم بغيرهم على هذا،
بل تعداه إلى الثياب فحجروا على كل إنسان من غيرهم الطواف بالبيت أول ما يقدمون إلا بثياب الحمس، فإن لم يجدوا منها شيئا طافوا عراة ومن طاف في غير ثياب الحمس حرمت عليه بعد الطواف فألقاها ولم يُنتفع بها قط1. وكانت العرب إذا أحرمت لم تدخل البيوت من أبوابها, وإنما تنقب في ظهورها نقبا فتدخل منه وتخرج ويزعمون أن ذلك من البر، إلا الحمس فإنهم امتازوا من بين سائر العرب بدخول البيوت من أبوابها وهم محرمون، وجروا على ذلك حتى في الإسلام وكانوا يستنكرون من غير الحمس أن يدخل أحد بيته محرما من بابه، فيذكرون أنه "بينما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بستان, إذ خرج من بابه وخرج معه قطبة بن عامر الأنصاري, فقالوا: يا رسول الله, إن قطبة رجل فاجر وإنه خرج معك من الباب!! " فقال له: "ما حملك على ما فعلت"؟ قال: "رأيتك فعلته ففعلت كما فعلت" قال: "إني رجل أحمسي" قال له: "فإن ديني دينك"2. ورووا مثل هذا الحادث لصحابي اسمه رفاعة, فلما خرج مع النبي من الباب قالوا: "يا رسول الله نافق رفاعة! "2.
استغلوا سذاجة من حولهم من الأعراب؛ لينفردوا بالحرمة والتقديس فيأمنوا بعدها على تجارتهم, ويستفيدوا من هذا التمويه ثراء وبسطة عيش. فلما جاء الإسلام دكت الامتيازات كلها جملة واحدة, ونزل قول الله لقريش: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} 1 كما نزل قوله تعالى في نسخ إتيان البيوت من ظهورها: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} 2, فشعائر الدين بعد هذه الآية يذعن لها الناس جميعا بلا تمييز. واستوى في الحج القرشي وغيره بعد أن كانت قريش تنفرد دون جميع الحجاج إذا خرجوا من مكة يوم التروية وترووا من الماء, فتنزل الحمس أطراف الحرم من نمرة يوم عرفة، وتنزل الحلة عرفة. وقد أجمع أصحاب السير أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقف مع الناس بعرفة في سنته التي دعا فيها قبل الهجرة ولم يقف مع الحمس في طرف الحرم, فكان هذا مما جلب نظر الناس. وروى ابن هشام عن جبير3 بن
مطعم أنه قال: "أضللت بعيرا في يوم عرفة, فخرجت أقصه وأتبعه بعرفة, إذ أبصرت محمدا بعرفة! فقلت: هذا من الحمس، فما يقفه ههنا؟! فعجبت له"1. تزيُّد قريش في دينها أو في ابتداعها على الأصح، علّم بعض الاحتيال، وما زال الدين -كما عليه الوطنية في أيامنا- مبتلى بمكر المرتكبين والمحتالين ورواد المنافع. فكان إذا أحدث أحد العرب حدثا وخاف على نفسه وجد في حرمة الشهر وحرمة الحرم خير معاذ يعتصم به من أن يناله القصاص. والظاهر أن أمثال هذه الحوادث تكررت حتى حلت من حياة العرب الاجتماعية محل العادات المستحكمة, فقد ذكر الأزرقي أنه كان من سنتهم أن الرجل يحدث الحدث: يقتل الرجل أو يلطمه أو يضربه, فيربط لحاء من لحاء2 الحرم قلادة في رقبته ويقول: "أنا ضرورة" فيقال: "دعوا الضرورة بجهله, وإن رمى بجعره3 في رحله" فلا يعرض له أحد, فقال النبي
صلى الله عليه وسلم: "لا ضرورة في الإسلام، وإنه من أحدث حدثا أخذ بحدثه" 1 ا. هـ. إذا أضفت هذه التزيدات إلى ما في نفوس العرب من نفرة للخضوع حتى للدين، استطعت أن تستسيغ وجود قبائل تستهين بالحرمات وتتجاهل مكان قريش فتراها كغيرها من سائر العرب دماء وأموالا، بل تذهب أبعد من ذلك فلا ترعى حرمة شهر ولا أيام حج. ومن هنا تخوَّف الناس بعض التخوف من ورود الأسواق عزلا، ولو كانت مواسمها في الأشهر الحرم. فإن كنت علمت أن عكاظ ومجنة وذا المجاز, الأسواق الكبرى للعرب, تقام في الأشهر الحرم, فاعلم أن الأمن فيها هو أكثر حالها والأغلب من أيامها, وأن ما وقع فيها من أحداث استحلت فيها حرمتها، صادر ممن لا يرى لها حرمة وهم أقلية قلما يقيم المؤرخون لها حسابا. انقسم العرب إزاء حرمة هذه الأسواق أقساما ثلاثة: 1- فأما قسم, فقد استحلوا المظالم فيها في أشهر الحج، ففعلوا المناكر وأحلوا الحرام وفتكوا وسرقوا ولم يحفظوا للمكان ولا للشهر ولا لقريش حرمة ما، فسموا "المحلين" لما استحلوا من الحرم
وهم قبائل من أسد وطيء وبكر بن عبد مناة, وقوم من بني عامر بن صعصعة1, وأناس من خثعم وقضاعة. وغير هؤلاء أيضا: ذؤبان وصعاليك وخلعاء، ممن نفاهم قومهم وتبرءوا منهم. 1- وأما القسم الثاني, فأقوام حفظت للمكان قدسه وللشهر حرمته وللقُوَّام على البيت منزلتهم، فكفت عن الفتك والسرقة وسائر المظالم, وأنكرت على المحلين استخفافهم، ونصبت أنفسها لنصرة المظلوم وحقن الدماء ومنع الأذى فسموا بـ "الذادة المحرمين" وهم أغلب العرب. 3- والقسم الثالث "أهل هوى شرعه لهم صلصل بن أوس من بني عمرو بن تميم، فإنه أحل قتال المحلين"2 فيلبسون سلاحهم؛ ليدفعوا عن الناس أذى المحلين من الفريق الأول. وكان في هؤلاء أيضا قبائل من طيء وخثعم، وناس من بني أسد بن خزيمة. أما سائر العرب ممن لم نعد، فهم في صف المحرّمين: يضعون أسلحتهم في الأشهر الحرم و"كان الرجل إذا خرج من بيته حاجا أو داجا "والداج: التاجر في الأشهر الحرم" أهدى وأحرم ثم قلّد
وأشعر1, فيكون ذلك أمانا له في المحلين. وكان الداج إذا انفرد وخشي على نفسه ولم يجد هديا، قلد نفسه بقلادة من شعر أو وبر، وأشعر نفسه بصوفه فيأمن بها, وإذا صدر من مكة تقلد من لحاء شجر الحرم. وكان الداج وغيره إذا أمّ البيت وليس له علم بذلك ولا هو في سيماء المحرم أخذ المحلون ما معه. وكانت العرب جميعا تنزع أسنتها في الأشهر الحرم، غير المحلين والذين يقاتلونهم، فإنهم كانوا يقاتلونهم حتى في الأشهر الحرم"2. خير تلك الطوائف الطائفة الثالثة التي نعتها المرزوقي بأنها أهل هوى؛ إذ لا يكفي أن يكون الإنسان محرما يرعى ذمام الشهر والمكان، كافّا أذاه عن غيره وهو ينظر إلى المحلين يسفكون الدم الحرام وينهبون المال الحرام. ليس من البر أن يترك هؤلاء وانتهاكهم, بل البر كل البر أن يكون المرء محرما ثم مدافعا عن المحرمين شر هؤلاء المعتدين, وبذلك تستأصل شأفتهم ويحسم ضرهم. أما كف
اليد والاقتصار عليه بينما العين تنظر مكان المستبيحين ومدى أذاهم في الآمنين البريئين، فإنه إن لم يكن إثما لم يكن برا, وإن دان به أكثر العرب. ولعل خير ما يمثل هؤلاء كلمة الزبير بن عبد المطلب أحد الحمس, وكان شاعرا خطيبا سيدا جوادا: ولولا الحمس لم يلبس رجال ... ثياب أعزة حتى يموتوا ثيابهم شمال أو عباء ... بها دنس كما دنس الحميت1 ولكنا خلقنا إذ خلقنا ... لنا الحبرات والمسك الفتيت ويقطع نخوة المختال عنا ... رقاق الحد ضربته صموت بكف مجرب لا عيب فيه ... إذا لقي الكريهة يستميت1 بقي أمر، وهو أي الحرمتين العرب أكثر رعاية لها: آلشهر أم الحرم؟ فإن المرء ليحب أن يعرف الواقع ليستطيع أن يتمم فكرته عن مفاضلتهم بين الحرمتين. ومن يتتبع ما وراء الحوادث يعرف أن العرب أرعى لحرمة الحرم منها لحرمة الشهر، ولنا على ذلك أدلة: 1- منها أن حرمة الحرم لا تكلفهم إلا رعاية مكان محدود مدة إقامتهم فيه, فهي ميسورة لهم وقل أن حفظ التاريخ انتهاكا لحرمة
الحرم. وليس كذلك حرمة الشهر فإن أمد رعايتها طويل جدا وهو ثلث السنة, فيجب عليهم أن يكفوا عن الاعتداء مدة أربعة أشهر في أي بقعة كانوا, وهو قيد صعب على طبيعة العربي النفور من القيود. 2- كثير من القبائل انتهكت حرمة الشهر، ولم تجرؤ على انتهاك حرمة الحرم على حين أن ثأرها وشرفها -وأنت تعلم قيمتهما عندهم- كان يتقاضيانها غض النظر عن حرمة الحرم. كان من هؤلاء القبائل قريش نفسها, فسيمر بك في حرب الفجار التي كانت بين قريش وأحلافها من جهة وهوازن وقيس وأحلافهما من جهة أخرى, أن القوم اقتتلوا بعكاظ في الشهر الحرام فاستووا جميعا في انتهاك حرمته مع أن قريشا هي القيّمة على دين العرب بحكم مكانها من البيت. إلا أن قريشا لما انسلّت من عكاظ حين أتاها نبأ اعتداء أحد أحلافها على هوازني، خوفا من هوازن التي كانت متكاثرة في السوق، علمت هوازن بالأمر فاتبعت قريشا فاقتتلوا حتى جاء الليل ودخلت قريش الحرم, فأمسكت عنهم هوازن رعاية لحرمته. فهم جميعا يرون للحرم من الرعاية ما لا يرون للشهر. 3- للعرب أساطير تقص العقاب الشديد الذي نزل بمن لم يبالِ
حق الحرم، وليس لهم في قوتها أساطير تعاقب من انتهك حرمة الشهر. واقرأ إن شئت حديث إساف ونائلة1 اللذين مسخا صنمين؛ لأنهما لم يحفظا للبيت حرمة، واقرأ إن شئت الأحداث التي ترويها سيرة ابن هشام "1/ 18 فما بعد" في ذلك والأشعار، وكلها متضافرة في بيان تعظيم حرمة البيت والعقاب الشديد الذي حل بمن أراد انتهاكها. 4- أمر النسيء وهو تلاعب محض بالتقاليد التي تخص الشهر، ولم يؤثر لهم مثله ولا قريب منه فيما يخص الحرم. جاء في أمالي القالي: "إنهم كانوا إذا صدروا عن منى قام رجل من بني كنانة يقال له: نعيم بن ثعلبة فقال: "أنا الذي لا أعاب ولا يرد لي قضاء" فيقولون له: "أنسئنا شهرا" أي: أخر عنا حرمة المحرم فاجعلها في صفر. وذلك أنهم كانوا يكرهون أن تتوالى عليهم ثلاثة أشهر "ذو القعدة وذو الحجة والمحرم" لا تمكنهم الإغارة فيها؛ لأن معاشهم كان من الإغارة, فيحل لهم "نعيم بن ثعلبة" المحرم ويحرم عليهم "بدلا منه"
صفرا، فإذا كان في السنة المقبلة حرم عليهم المحرم وأحل لهم صفرا، فقال الله عز وجل: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ} الآية1. وقال الشاعر: ألسنا الناسئين على معد ... شهور الحل نجعلها حراما"2 هذا وقد وقر في نفوس العرب "أن مكة لا تقر فيها بغيا ولا ظلما، لا يبغي فيها أحد إلا أخرجته ولا يريدها ملك يستحل حرمتها إلا هلك مكانه"3. وذهب الزرقاني إلى أنها سميت "بكة"؛ لأنها تبك "تدق" أعناق الجبابرة. فللحرم في صدورهم رهبة, لا يدانيه فيها غيره. رأيت أن اسم الحرم الذي تضاف إليه قريش، كان خير حارس لتجارتها وعيرها. تسير بفضله آمنة مطمئنة، تتمتع بالرعاية والحرمة إلى اليمن وإلى العراق وإلى الشام. وقد ذكر النيسابوري في تفسيره "عند الكلام على الإيلاف"
أن أشراف مكة لما كانوا يرتحلون للتجارة في الشتاء والصيف, كانوا "يأتون لأنفسهم ولأهل بلدهم بما يحتاجون إليه من الأطعمة والثياب, وإن ملوك النواحي كانوا يعظمونهم ويقولون: هؤلاء جيران بيت الله وقطّان حرمه، فلا يجترئ عليهم أحد". وظاهر أن المقصود بملوك النواحي أمراء العرب في اليمن والعراق والشام؛ فإن هؤلاء هم الذين يعظمون البيت؛ لا قيصر وكسرى. هذا مكان قريش من العرب في الأعم الأغلب، ولا حكم للنادر. ولو لم يكن ذلك مستتبا لقريش ما كان هناك من معنى لسعي هاشم في طرق أبواب الأسواق الخارجية يفتحها لقبيله، بينما تجارته المحلية غير آمنة. فهو وإخوته ما شرعوا بمفاوضاتهم التجارية مع دول الرومان والفرس واليمن الحبشة إلا وقد فرغوا من الاطمئنان إلى الطرق الموصلة إلى هذه الممالك.
الباب الثاني: أحداث قريش التجارية
الباب الثاني: أحداث قريش التجارية قريش التجار: "1" في سبب تسمية هذه القبيلة قريشا أقوال مبثوثة في كتب السيرة والأدب تبلغ العشرين عدا. أما القَرْش في اللغة فهو الجمع, وإليك زبدة هذه الأقوال: 1- سموا قريش لتجمعهم إلى الحرم بعد تفرقهم في البلاد، وذلك حين غلب على مكة1 قصي بن كلاب الذي سمي مُجمِّعا لذلك، وقال فيه الشاعر: أبوكم قصي كان يدعى مجمعا ... به جمع الله القبائل من فهر 2- أو لأنهم كانوا أهل تجارة وتكسب وضرب في البلاد ابتغاء الرزق، يتقرشون البياعات فيشترونها ولم يكونوا أهل زرع
وضرع, من قولهم: فلان يتقرش المال أي: يجمعه. 3- أو لأنهم كانوا يفتشون الحاج فيسدون خلتها؛ فمن كان محتاجا أغنوه, ومن كان عاريا كسوه، ومن كان معدما واسوه، ومن كان طريدا آووه، ومن كان خائفا حموه، ومن كان ضالا هدوه ... إلخ. 4- أو لأن أباهم النضر بن كنانة اجتمع في ثوبه يوما, فقالوا: تقرش. 5- أو لأنه جاء إلى قومه, فقالوا: كأنه جمل قَرِيش أي: شديد. 6- أو لأن قصيا كان يقال له: القرشي. 7- أو سميت القبيلة بمصغر القرش, وهي دابة بحرية تخافها دواب البحر كلها1. 8- أو سميت بقريش بن يخلد بن غالب بن فهر وكان
صاحب عيرهم أو دليلها، فكانوا يقولون: قدمت عير قريش, خرجت عير قريش1. فهذه ثمانية وجوه في هذا الاسم, وكل وجه منها معه شفيع من معنى أو مناسبة، ينفذ به إلى القبول. إلا أن منها جميعا قولين يظفران على التمحيص، أما الأول فهو أنه أطلق على النضر بن كنانة، فكل من كان من ولده فهو قرشي، ومن لم يكن من ولده فليس بقرشي. وهناك مذهب آخر له شأنه من حيث رواته الثقات، يرمي إلى أن هذ اللقب أطلق على حفيده "فهر بن مالك بن النضر" نقله صاحب المصباح عن السهيلي, وشارح القاموس عن ابن الكلبي, وقال: "إنه مرجع في هذا الشأن". وذُكر أيضا في سيرة ابن هشام. ونحن إذا دققنا في صيغة الرواية عند ابن هشام وصاحب المصباح وجدناها مبنية للمجهول: "ويُقال ... " وبهذا نعلم أن الراويين ضعفّاها فكفيانا بذلك المئونة2. وقول الشاعر:
أبوكم قصي كان يدعى مجمعا ... به جمع الله القبائل من فهر1 المتقدم الذكر لا يمنع أن يكون ولد النضر جميعا من قريش, والنص على فهر لا يخرج إخوته وأولاد عمه من القرشية. ولا بد من التنبيه هنا على حجة قوية ولعلها قاطعة, جاءت في سيرة ابن هشام وهي كفيلة بالفوز بطمأنينة الباحث، فقد ذكر بيتا لجرير في مدح هشام بن عبد الملك يعني فيه برة بنت مر أخت تميم بن مر وهي أم النضر هذا، وذلك قوله: فما الأم التي ولدت قريشا ... بمقرفة النجار ولا عقيم وما قرم بأنجب من أبيكم ... وما خال بأكرم من تميم2 وجرير من تميم. وأما الثاني ففي بيان السبب في هذه التسمية وأي التفاسير هو الأرجح: يستبعد الذهن أن تكون دابة البحر هي التي أوحت هذا الاسم ولو روي هذا القول عن ابن عباس؛ لبعد العرب حول مكة عن البحر وجهلهم حيوانه, ففي هذا الشرح تكلف ظاهر كالذي في اشتقاقه من الجمل القَرِيش. والذي لا يجد المرء غيره مذهبا يرتضيه هو أن
تكون "قريش" من القرش بمعنى الجمع؛ لما كانوا يتعاطون من التجارة وجمع1 المال, إذ كانوا معروفين بذلك عند العرب عامة. ذكر ابن هشام أن التقرش: التجارة والاكتساب، وأن القروش "أيضا" التجارة والاكتساب وأتى على ذلك بشاهد من كلام العرب. لكن الجاحظ أزال اللبس في ذلك وأحسن الإيضاح حين قال في صدد كلامه عنهم: "وبالتجارة كانوا يعرفون؛ ولذلك قالت كاهنة اليمن: "لله در الديار، لقريش التجار" وليس فوقهم قرشي كقولهم هاشمي وزهري وتميمي؛ لأنه لم يكن لهم أب يسمى قريشا فينتسبون إليه, ولكنه اسم اشتق لهم من التجارة والتقريش"2. وقد تقدم الدليل آنفا على أن النضر هو قريش, ولا داعي لتسميته بذلك إلا لمعنى التجارة والكسب. وقريش في الأصل طبقتان: قريش البطاح وقريش الظواهر3
أما قريش البطاح فهم الذين نزلوا بطحاء مكة وبطنها وهم سادة القرشيين، فيهم بنو هاشم وبنو أمية, ومنازلهم الشِّعب بين أخشبي مكة1 وهم صُبابة قريش وصميمها وساداتها وأغنياؤها، اختطوا منازلهم في البطحاء ونزلوها. وأما قريش الظواهر فهم الذين لم تسعهم الأباطح فنزلوا أعلى مكة خارج الشعب، فانتشروا حولها في ظواهرها وهم دون أولئك شرفا وغنى وشأنا. قال في لسان العرب: "وقريش البطاح أكرم وأشرف من قريش الظواهر". واستشهد لذلك بقول الشاعر2: فلو شهدتني من قريش عصابة ... قريش البطاح لا قريش الظواهر ويقول الفرزدق في مباهاته جريرا: تنحّ عن البطحاء إن قديمها ... لنا، والجبال الراسيات الفوارع3
وقول الكميت: فحللت معتلج البطا ... ح وحل غيرك بالظواهر1 وهناك قرشيون استوطنوا الطائف, وغيرها حيث اتخذوا الأموال والمزارع فلم ينسبوا إلى ظواهر ولا إلى بطاح. روى صاحب تاج العروس أن "في قريش من ليس بأبطحية, ولا ظاهرية". أول بانٍ لمجد قريش وموطد لنفوذها هو قصي بن كلاب، إذ استنقذ أمر مكة وولاية البيت من جرهم وخزاعة بعد حرب شديدة, وجمع أشتات قومه فأنزلهم حول الحرم وملك أمرهم "فكان أول بني كعب بن لؤي أصاب ملكا أطاع له به قومه. فكانت إليه الحجابة والسقاية والرفادة والندوة واللواء فحاز شرف مكة كله وقطع
مكة رباعا بين قومه, فأنزل كل قوم من قريش منازلهم من مكة التي أصبحوا عليها ... فسمته قريش مجمعا لما جمع من أمرها, وتيمنت بأمره فما تنكح امرأة ولا يتزوج رجل من قريش ولا يتشاورون في أمر نزل بهم ولا يعقدون لواء لحرب قوم من غيرهم إلا في داره ... إلخ"1. فأنت ترى أن قصيا مكَّن دعائم قريش ونظم أمورهم ثم جعل من داره التي اتخذها لنفسه وجعل بابها إلى الكعبة مجلس شورى لقريش ودار حكومة معا وسماها دار الندوة. وكانت قريش بعده لا تقضي أمرا إلا فيها، فيها ينظمون عيرهم إلى الشام أو اليمن فلا تخرج عير إلا منها ولا يقدمون إلا نزلوا فيها، ويتفاوضون في أمر تجارتهم وحربهم وسلمهم. وفيها كان معظم المؤامرات التي ائتمروا بالنبي وأصحابه في بدء الدعوة، وكانت لهم محكمة يلجأ إليها المتخاصمون ويقضي فيها شيوخهم المقدمون. ولا ريب أن أمور التجارة القرشية بعد الذي صنع قصي لهم اطرد تقدمها وازدهارها, فاتسعت ونمت. وأراد قصي تثبيت هيبة قريش في نفوس العرب ففرض عليهم
خرجا يخرجونه في كل موسم من أموالهم, فإذا كان الحج قال قصي: "يا معشر قريش: إنكم جيران الله وأهل بيته وأهل الحرم، وإن الحجاج ضيف الله وأهله وزوار بيته، وهم أحق الضيف بالكرامة, فاجعلوا لهم طعاما وشرابا أيام الحج حتى يصدروا عنكم" فكانوا يخرجون لذلك كل عام من أموالهم خرجا فيدفعونه إليه, فيصنعه طعاما للناس أياما منى فيأكله من لم يكن له سعة ولا زاد1 من الحجاج وأهل مكة, وهذه هي الرفادة. امتدت أيام قصي حتى كبر فعهد إلى ولده عبد الدار باللواء والسقاية والرفادة؛ لأنه لم يشرف في حياته وكان بكره، فقد بطأ به عمله عن أن يلحق بأخيه عبد مناف الذي بلغ في الشرف والسيادة شأوا بعيدا، فخص قصي عبد الدار بذلك؛ جبرا له حتى يلحق بأخيه. ثم تنازع على الشرف بنو عبد الدار وبنو عبد مناف وتحزب لكل من الفريقين أقوام وأفضى النزاع إلى الاستعداد للحرب، وتعاهد عند الكعبة بنو عبد الدار وحلفاؤهم على النصرة فسموا الأحلاف، وتعاقد بنو عبد مناف وغمسوا أيديهم في جفنة مملوءة طيبا فسموا المطيبين، ثم كان سعي بين الفريقين انفرج عن صلح بينهما على أن
يكون لبني عبد مناف السقاية والرفادة, وأن يكون الحجابة واللواء والندوة لبني عبد الدار، فتحاجز الناس على ذلك حتى أتى الإسلام وهم عليه. ازدهر مجد قريش التجاري وبلغ أوجه في الحقيقة، بهاشم بن عبد مناف؛ لأن تجارة قريش قبله لم تكن تعدو مكة "وإنما كان يقدم عليهم الأعاجم بالسلع فيشترونها منهم ثم يتبايعونها بينهم ويبيعونها على من حولهم من العرب"1, حتى جاء هاشم ففتح في وجوههم ما فتح. كانت لهاشم دون إخوته الرفادة والسقاية فقام بأمرهما, إذ كان أخوه عبد شمس رجلا سفّارا مقلا ذا عيال, وهاشم موسر طماح بعيد النظر، وقد ضرب القرشيون على عهده في الأرض فأكثروا الأسفار التجارية. ومن الغريب أن أولاد عبد مناف كلهم حليفو أسفار طوحتهم الغربة فمات كل بناحية: أما هاشم فمات بغزة من أرض الشام فسميت به غزة هاشم، وأما أخوه المطلب فقد مات بردمان من أرض اليمن، وأما أخوه نوفل فمات بسلمان من أرض العراق، وعبد شمس مات بمكة. اضطلع هاشم بأعباء الأمور وأكثر من الأسفار, وهو أول من
عقد المعاهدات التجارية لقريش "كما سيأتي قريبا عند الكلام على الإيلاف" فثمّر الأموال, وارتفع له ذكر نابه بين قومه, واستفاضت له مكارم سار بها الركبان1. قال ابن سعد: "كان اسم هاشم عمرا فأصابت قريشا سنوات ذهبن بالأموال, فخرج هاشم إلى الشام فأمر بخبز كثير فخبز له فحمله في الغرائر2 على الإبل حتى وافى مكة, فهشم ذلك الخبز -يعني كسره- وثرده ونحر تلك الإبل, ثم أمر الطهاة فطبخوا. ثم كفأ القدور على الجفان فأشبع أهل مكة, فكان ذلك أول الحيا بعد السنة التي أصابتهم, فسمي بذلك هاشما. وقال ابن الزبعرى في ذلك: عمرو العلا هشم الثريد لقومه ... ورجال مكة مسنتون عجاف وقال وهب بن عبد قصي في ذلك: تحمّل هاشم ما ضاق عنه ... وأعيا أن يقوم به ابن بيض أتاهم بالغرائر متأقات ... من أرض الشام بالبر النقيض فأوسع أهل مكة من هشيم ... وشاب الخبز باللحم الغريض فظل القوم بين مكللات ... من الشيزاء حائرها يفيض3 ا. هـ.
والظاهر أن هاشما لقي مجدا وعزا ومكانة لم يحظ ببعضها أحد، فأثار بذلك حسد الأقران له لما انقطعوا دون بلوغ شأوه وأورثوا هذا الحسد أبناءهم من بعدهم، ولم يشفع لهاشم ما قدم لقومه من خير وما رفع لهم من ذكر وما وطد لهم من تجارات، فإن ابن سعد يروي لنا بعد ما تقدم من صنع هاشم، أول ما زرع الشر بين بني أمية وبني هاشم قال: "فحسد هاشما أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وكان ذا مال فتكلف أن يصنع صنيع هاشم فعجز عنه، فشمت به ناس من قريش فغضب ونال من هاشم ودعاه إلى المنافرة، فكره هاشم ذلك لسنه وقدره، فلم تدعه قريش وأحفظوه. فقال لأمية: فإني أنافرك على خمسين ناقة سود الحدق تنحرها ببطن مكة، والجلاء عن مكة عشر سنين، فرضي أمية بذلك وجعلا بينهما الكاهن الخزاعي, فنفّر هاشما عليه، فأخذ هاشم الإبل فنحرها وأطعمها من حضره وخرج أمية إلى الشام فأقام بها عشر سنين, فكانت هذه أول عداوة وقعت بين هاشم وأمية"1. جرى بنو قصي على سنة أبيهم في إطعام الحاج إلا أن هاشما
امتاز منهم جميعا فسار بهذه السنة إلى شوط بعيد لم يبلغه أحد قبله ولا بعده، ولا غرو فقد كان من الغنى بالمكان المشهور وأسعفه في التجارة حظ قلما أتيح لغيره. وعلى يده وأيدي إخوته فتحت لقريش أسواق في بلاد الروم وفارس والحبشة، فصنع للحاجّ ما لم يصنعه أحد. ونحن عارضون لك من ذلك ما وصفه ابن أبي الحديد ومنبهوك خاصة على شرف هاشم وكمال مروءته في حرصه على ألا يطعم الحاج إلا ما حل كسبه: كان يقوم أول نهار اليوم الأول من ذي الحجة فيسند ظهره إلى الكعبة من تلقاء بابها, فيخطب قريشا فيقول: "يا معشر قريش, أنتم سادة العرب، أحسنها وجوها وأعظمها أحلاما وأوسطها أنسابا وأقربها أرحاما. يا معشر قريش, أنتم جيران بيت الله, أكرمكم بولايته وخصكم بجواره دون بني إسماعيل، وحفظ منكم أحسن ما حفظ منكم جار من جاره, فأكرموا ضيفه وزوار بيته, فإنهم يأتونكم شعثا غبرا من كل بلد. فورب هذه البنية، لو كان لي مال يحمل ذلك لكفيتكموه, ألا وإني مخرج من طيب مالي وحلاله ما لم يقطع فيه رحم ولم يؤخذ بظلم ولم يدخل فيه حرام فواضعه، فمن شاء منكم أن يفعل مثل ذلك فعل. وأسألكم بحرمة هذا البيت ألا يخرج منكم رجل من ماله
لكرامة زوار بيت الله ومعونتهم إلا طيبا لم يؤخذ ظلما ولم يقطع فيه رحم ولم يغتصب" فكانت قريش تخرج من صفو أموالها ما تحتمله أحوالها, وتأتي به إلى هاشم فيضعه في دار الندوة لضيافة الحاج1. ا. هـ. والمرء -وإن حدثته نفسه فيما روى ابن أبي الحديد- موقن أن هاشما في الغاية من النبل والشرف وتحري الطيب من المكاسب. كان إذا جمع الأموال من قريش يأمر بحياض2 من أدم فتجعل في موضع زمزم ثم يستقى فيها الماء من آبار مكة فيشربه الحاج, وكان يطعمهم أول ما يطعم, قبل التروية بيوم بمكة وبمنى وجمع3 وعرفة. وكان يثرد لهم الخبز واللحم والسمن والسويق والتمر ويجعل لهم الماء فيسقون بمنى -والماء يومئذ قليل- في حياض من الأدم إلى أن يصدروا من منى, فتنقطع الضيافة ويتفرق الناس لبلادهم. لم تكن أمور قريش وخدمة الحجيج لتصرف هاشما عن تجاراته وأسفاره, بل كان بين هذا وذاك يقود قوافل قريش إلى الشام, وقد تزوج قبيل وفاته في إحدى هذه الرحلات. والفضل لابن سعد في وقوفنا على بعض تفاصيل للعير التي خرج بها هاشم، كما له الفضل في
معرفتنا ممارسة المرأة العربية للتجارة, ومشاركة الرجال في الجاهلية بالخروج إلى الأسواق والاتجار فيها, قال: "خرج هاشم في عير لقريش، فيها تجارات. وكان طريقهم على المدينة، فنزلوا بسوق النبط فصادفوا سوقا تقوم بها في السنة يحشدون لها, فباعوا واشتروا ونظروا إلى امرأة على موضع مشرف من السوق، فرأى امرأة تأمر بما يشترى ويباع لها، فرأى امرأة حازمة جلدة، مع جمال. فسأل هاشم عنها: أأيّم هي أم ذات زوج؟ فقيل له: "أيّم, كانت تحت أحيحة بن الجلاح فولدت له عمرا ومعبدا، ثم فارقها" وكانت لا تنكح الرجال لشرفها في قومها حتى يشترطوا لها أن أمرها بيدها، فإذا كرهت رجلا فارقته. وهي سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد بن خداش بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار. فخطبها هاشم فعرفت شرفه ونسبه، فزوجته نفسها ودخل بها وصنع طعاما ودعا من هناك من أصحاب العير الذين كانوا معه وكانوا أربعين رجلا من قريش, فيهم رجال من بني عبد مناف ومخزوم وسهم، ودعا من الخزرج رجالا وأقام بأصحابه أياما. وعلقت "منه" سلمى بعبد المطلب فولدته في رأسه شيبة فسمي شيبة. وخرج هاشم في أصحابه إلى الشام حتى بلغ غزة فاشتكى فأقاموا عليه حتى مات, فدفنوه بغزة
ورجعوا بتركته إلى ولده"1. ذكر ياقوت أن قبر هاشم بغزة حيث مات، وأنها لذلك يقال لها: غزة هاشم, وروى لمطرود الخزاعي في رثائه: مات الندى في الشام لما أن ثوى ... فيه بغزة هاشم لا يبعد قال ياقوت: "مات هاشم بغزة وعمره خمس وعشرون سنة وذلك الثبت, وقيل: عشرون". وفي النفس من هذا التقدير شيء؛ لأن ما حفلت به حياة هاشم وما تم لقومه على يديه يندر أن يكمل لابن خمس وعشرين. قام بأمر قريش بعد هاشم أخوه الأصغر المطلب بن عبد مناف, وكان ذا شرف في قومه وفضل, وكانت قريش إنما تسميه الفيض لسماحته2 وفضله, وقد ضم إليه ابن أخيه شيبة بن هاشم في أحد أسفاره فدخل به مكة مردفا إياه على بعيره, فظنت قريش أنه غلامه فقالوا: عبد المطلب, فقال المطلب: ويحكم, إنه شيبة ابن أخي هاشم، قدمت به من المدينة. ولما خرج المطلب في رحلة له إلى اليمن مات بردمان، وكان آخر من مات من بني عبد مناف: نوفل الذي تقدم أنه مات بسلمان من أرض العراق، فذكرهم مطرود بن كعب الخزاعي في رثائه فقال:
أربعة كلهم سيد ... أبناء سادات لسادات ميت بردمان وميت بسلـ ... ـمان وميت بين غزات1 ... إلخ ثم انتهت السقاية والرفادة من بعده إلى عبد المطلب بن هاشم, فأدار أمور قومه وأهم ما صنع لهم حفر بئر زمزم, وقد كان في قريش ذا هيبة ومكانة. وفي أيامه هددت مكة وتعرضت مكانتها التجارية للهبوط؛ إذ قصدها أبرهة "يريد بلا شك الاستيلاء على مكة ومفاتيح تجارتها"2, فاعتصمت قريش في شعف الجبال وفي الشعاب؛ تخوفا من معرة الجيش, وأخذ عبد المطلب بحلقة باب الكعبة مع نفر من قريش يستعدي رب البيت على الأحباش بما لا غرض لنا بذكره هنا، إلا أننا لا نرى مندوحة
عن التعرض للتقدمة التي قدّم بها أنيس "سائس فيل أبرهة", عبد المطلب إلى أبرهة, إذ قال له: "أيها الملك! هذا سيد قريش ببابك يستأذن عليك, وهو صاحب عير مكة، يطعم الناس بالسهل والوحوش في رءوس الجبال"1. وكان أبرهة أخذ لعبد المطلب مائتي بعير أصابها خارج مكة فأتاه يستردها. وإذا كان مائتا بعير مما يملك مثل عبد المطلب وأضفت إلى ذلك ما يذكر الرواة من أن عبد المطلب أمهر امرأته فاطمة بنت عمرو مائة ناقة ومائة رطل من الذهب2، وهو لم يشتهر بكثرة الأسفار كما اشتهر غيره من القرشيين، أمكنك أن تتصور الغنى الذي تمتع به هذا البطن من العرب. وعبد المطلب هذا هو الذي رأس وفد قريش الذي ذهب إلى سيف بن ذي يزن ليهنئه بالملك وبالظفر. وقد لقي الوفد ورئيسه خاصة من إجلال الملك وإكرامه ما تجد تفصيله في العقد الفريد "1/ 175"
فارجع إليه ثمة، وكان قبيل ذلك قد وفد إلى معديكرب حين ملك على اليمن1. وينسب إلى عبد المطلب هذه الأبيات يذكر فيها حرمة البيت, ويعرض لجيش أبرهة: نحن آل الله في ذمته ... لم نزل فيها على عهد قدم إن للبيت لربا مانعا ... من يرد فيه بإثم يُخترم لم تزل لله فينا حرمة ... يدفع الله بها عنا النقم2 ثم أفضى الأمر من بعده إلى أصغر أولاده العباس بن عبد المطلب ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومئذ ابن ثماني سنين, وبقي الأمر في يده حتى جاء الإسلام. ومن تمام الوصف أن نختصر هنا عن العقد الفريد توزيع "الوظائف الرسمية" على بطون قريش، في هذه الجمهورية التجارية في مكة، التي شبهها "لامنس" بجمهوريتي البندقية وقرطاجة؛ لسيطرة الماليين من أرباب التجارة وأصحاب رءوس الأموال3:
قال ابن عبد ربه1: "من انتهى إليه الشرف من قريش في الجاهلية فوصله بالإسلام عشرة رهط من عشرة أبطن، وهم هاشم وأمية ونوفل وعبد الدار وأسد وتيم ومخزوم وعدي وجُمح وسهم: 1- فكان من هاشم: العباس بن عبد المطلب؛ يسقي الحجيج في الجاهلية وبقي له ذلك في الإسلام. 2- ومن بني أمية: أبو سفيان بن حرب؛ كانت عنده العُقاب راية قريش، وإذا كانت عند رجل أخرجها إذا حميت الحرب، فإذا اجتمعت قريش على أحد أعطوه العقاب وإن لم يجتمعوا على أحد رأسوا صاحبها فقدموه. 3- ومن بني نوفل: الحارث بن عامر, وكانت إليه الرفادة. 4- ومن بني عبد الدار: عثمان بن طلحة, كان إليه اللواء والسدانة مع الحجابة والندوة. 5- ومن بني أسد: يزيد بن زمعة بن الأسود، وكانت إليه المشورة. وذلك أن قريشا لا تجتمع على أمر حتى يعرضوه عليه, فإن وافقه والاهم عليه، وإلا تخير وكانوا له أعوانا.
6- ومن بني تيم: أبو بكر الصديق؛ وكانت إليه في الجاهلية الأشناق وهي الديات والمغرم. فكان إذا احتمل شيئا من الدماء فسأل فيه قريشا صدقوه وأمضوا حمالة من نهض معه, وإن احتملها غيره خذلوه. 7- ومن بني مخزوم: خالد بن الوليد؛ وكانت إليه القبة والأعنة، فأما القبة فإنهم كانوا يضربونها ثم يجمعون إليها ما يجهزون به الجيش، وأما الأعنة فإنه كان على خيل قريش في الحرب. 8- ومن بني عدي: عمر بن الخطاب؛ وكانت إليه السفارة في الجاهلية. وذلك أنهم كانوا إذا وقعت بينهم وبين غيرهم حرب بعثوه سفيرا، وإن نافرهم حي لمفاخرة جعلوه منافرا ورضوا به. 9- ومن بني جمح: صفوان بن أمية؛ وكانت إليه الأيسار وهي الأزلام يستقسم لهم بها, إذا أرادوا أمرا من أمورهم العامة. 10- ومن بني سهم: الحارث بن قيس؛ وكانت إليه الحكومة والأموال المحجّرة التي سموها لآلهتهم. فهذه مكارم قريش التي كانت في الجاهلية, وهي: السقاية والعمارة1 والعقاب والرفادة والسدانة والحجابة والندوة واللواء والمشورة
والأشناق والقبة والأعنة والسفارة والأيسار والحكومة والأموال المحجرة، إلى هؤلاء العشرة من هذه البطون العشرة على حال ما كانت في أوليتهم، يتوارثون ذلك كابرا عن كابر. وجاء الإسلام فوصل لهم ذلك. فكانت سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام وحلوان النفر في بني هاشم, والعمارة هي ألا يتكلم أحد في المسجد الحرام بهُجر ولا رفث ولا يرفع صوته، فكان العباس ينهاهم عن ذلك. وأما حلوان النفر فإن العرب لم تكن تملك عليها في الجاهلية أحدا, فإن كان حرب أقرعوا بين أهل الرياسة فمن خرجت عليه القرعة أحضروه صغيرا كان أو كبيرا، فلما كان يوم الفجار أقرعوا بين بني هاشم فخرج سهم العباس وهو صغير, فأجلسوه على المجن". "2" هذا أمر سراة قريش ورؤسائهم, فأما عامتهم فقد أخذوا يشغلون مركزا ممتازا بين قبائل العرب ساعدهم على بلوغه مقامهم في مكة حيث البيت والحرم، إذ كانوا يقومون بسدانة البيت وما يحتاج إليه من خدمة وعناية. فكانت العرب تعرف لقريش شرفها ومكانتها وغناها كما تعرف لها زعامتها الدينية وسيطرتها على مكة وإدارتها.
"ولم تزل العرب تعرف لقريش فضلها عليهم وتسميها: أهل الله"1. وأبلغ تعبير عما بلغته قريش في نفوس العرب من منزلة في الجملة, قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما بعد: "الناس تبع لقريش في الخير والشر" 2. والقرشيون من بين عامة سكان الحجاز أغنياء مهرة في أمور التجارة لا يكاد يعرف لكثير منهم عمل غير الاتجار "ومن لم يكن من قريش تاجرا, فليس بشيء"، فكانوا ينظمون عيرهم في الشتاء إلى اليمن حيث يتبايعون سلع الهند والحبشة المستفيضة هناك فيحملونها إلى الحجاز، وعيرا في الصيف إذ يرحلون بما حملوا من الحبشة والهند وما عندهم أيضا من محصول بلادهم كالتمر والأدم إلى الشام, فيفرغون في أسواقها: غزة وبصرى وغيرهما، ما في أحمالهم ويأخذون بدلا منها ما في الشام مما لا يكون بالهند ولا بالحبشة. وكانوا يسيرون قوافل عظيمة معها حامياتها وأدواتها ومعهم الأدلاء يسيرون بين أيديهم. أما الحاميات فأكثر ما تكون من بني غفار ومن إليهم، ممن يتقاضون على مرافقة العير وحمايتها جُعْلا من قريش، هذا عدا عبدان قريش ومواليها وأحلافها. اختلاط القرشيين بالروم والفرس والحبشان بسبب التجارة
جعلهم يتميزون من سائر العرب بميزات أفادوها من هذا الاختلاط؛ فتعلم فريق منهم الكتابة من الحيرة ونشروها لما رجعوا إلى بلادهم, فكان في مكة والطائف عدد يسير يحسنون الكتابة1. ويذكرون أنه كان لبشر أخي أكيدر بن عبد الملك صاحب دومة الجندل صحبة بحرب بن أمية التاجر القرشي الكبير؛ لتجارته عندهم في بلاد العراق, فتعلم حرب منه الكتابة ثم سافر معه بشر إلى مكة فتزوج الصهباء بنت حرب، فتعلم منه جماعة من أهل مكة, فبهذا كثر من يكتب بمكة من قريش قبل الإسلام. ولذلك قال رجل كندي من أهل دومة الجندل يمنّ على قريش بذلك: لا تجحدوا نعماء "بشر" عليكم ... فقد كان ميمون النقيبة أزهرا أتاكم بخط الجزم حتى حفظتم ... من المال ما قد كان شتى مبعثرا وأتقنتم ما كان بالمال مهملا ... وطامنتم ما كان منه منفرا فأجريتم الأقلام عودا وبدأة ... وضاهيتم كتاب كسرى وقيصرا وأغنيتم عن مسند الحي حمير ... وما زبرت في الصحف أقيال حميرا2
ومهما يكن, فقد كان أكثر كتاب الوحي لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- منهم, ومن هنا كان القرشيون أقرب العرب من علم وثقافة وتهذيب؛ لمخالطتهم هؤلاء الأجانب المتحضرين وقبسهم شيئا من تعاملهم في بيوعهم, وأنظمتهم في تجارتهم حسبما كانوا يرون في الأسواق التي كانوا يحطون رحالهم فيها. وهذه الأسواق وإن لم تكن في الدرجة الأولى بين أسواق الرومان، ولا كان أهلها سابقين في مضمار الحضارة كثيرا, لم تخل من آثار بعيدة في التحضر استفاد منها تجار مكة شيئا بعتد به في السياسة والاقتصاد. بل, لقد تأثروا برحلاتهم هذه ببعض المعتقدات أيضا؛ فقد ذكروا أن عبادة الأصنام طارئة على أهل مكة من الشام، وأن عمرو بن لحي -فيما زعموا- أول من نشر عبادة الأصنام حول الكعبة حين حمل معه صنما من أصنام وجدها في جنوب الشام, فنصبه في الكعبة1. وفشت في جماعة من قريش زندقة, حتى قال صاعد: "كانت الزندقة في قريش, أخذوها عن أهل الحيرة"2. فأنت ترى أن هذه الرحلات أثّرت حتى في معتقدات العرب
ومن القريب المألوف أن يحمل الرحّالون من البلاد التي ينزلونها شيئا من طرائقها في العادات والدين والأخلاق والعروض والأزياء يتحدثون عنه إذا ردتهم أسفارهم إلى بلادهم, فيعجبون منه ذويهم وجيرتهم ممن لم يكن له بتلك البلاد عهد، وما أكثر ما يحاول الإنسان تقليد من يملأ عينه. أفادت قريش من هذه الرحلات وهذا الاختلاط بالأمم التي سبقتهم، كثيرا من اللباقة والكياسة إلى ما عرفت به من الفصاحة المشهود لهم بها, حتى إن العرب كانت تعرض شعرها على قريش. وعرض علقمة الفحل عليهم شعره فوصفوه بسِمْط الدهر1، وثقفت ألوانا من الدهاء والاحتيال، لا يحسنها إلا من رسخت قدمه في التجارة وأسبابها وضروب تعاطيها، حتى إذا دار الزمان وقضي للعرب أن تكون لهم دولة ذات سياسة داخلية وخارجية، كان أقطاب هذه الدولة وأركانها أولئك التجار الذين يعرفون كيف يتأتون للأمور, ويتلطفون لمواجهة الصعاب وتذليل العقبات وحل المشكلات من أمثال أبي بكر وعمر وعثمان وأبي سفيان ومعاوية وعمرو بن العاص وزياد والمغيرة، وتلك الطبقة الممتازة من أكابر التجار2 في الجاهلية
وكبار أهل الحل والعقد في الإسلام. ومتى رميت برجل ذي ذكاء ومواهب، في قطر تجاري كالشام أو العراق "قبل الإسلام" فاختلط بالتجار، وقاسى محيطا غير محيطه، تفتّحت تلك المواهب، وانجلت عن نبوغ كبير ما كان لينكشف لو جمد صاحبه في محيطه الضيق، بين شعاف مكة وبطاحها. إن شئت فانظر إلى هذا الاحتيال المضاعف الذي أتاه المغيرة بن شعبة وضحك به على كل خمّار في الحيرة "إن كان ليعجز عن أقل منه أقطاب فضائح "ستافسكي" رغم ما يجهزهم به العصر العشرون من وسائل وعدد". ولعل في هذه القصة التي سأوردها لك بيانا شافيا لهذا الدهاء التجاري الذي تمرّست به قريش, وامتازت به من العرب قاطبة: قال المغيرة بن شعبة: "أول ما عرفني به العرب من الدهاء والحزم، أني كنت في ركب من قومي، في طريق لنا إلى الحيرة فقالوا لي: "قد اشتهينا الشراب, وما معنا إلا درهم زائف" فقلت: "هاتوه وهلموا زقين". فقالوا: "وما يكفيك لدرهم زائف زق واحد! " قلت: "أعطوني ما طلبت وخلاكم ذم" ففعلوا وهم يهزءون من قولي.
فصببت في أحد الزقين شيئا من ماء ثم جئت إلى خمّار فقلت له: "كِل لي ملء هذا الزق" فملأه. فأخرجت الدرهم الزائف فأعطيته إياه. فقال: "إن ثمن هذا الزق عشرون درهما جيادا، وهذا درهم زائف! " فقلت: "أنا رجل بدوي وظننت أن هذا يصلح كما ترى، فإن صلح وإلا فخذ شرابك". فاكتال مني ما كاله وبقي في زقي من الشراب بقدر ما كان فيه من الماء، فأفرغته في الزق الآخر وحملتهما على ظهري وخرجت، فصببت في الزق الأول ماء ودخلت إلى خمار آخر فقلت: "إني أريد ملء هذا الزق خمرا فانظر إلى ما معي منه، فإن كان عندك مثله فأعطني" فنظر إليه "وإنما أردت ألا يستريب بي إذا رددت الخمر عليه" فلما رآه قال: "عندي أجود منه" قلت: "هات" فأخرج إلي شرابا فاكتلته في الزق الذي فيه الماء ثم دفعت إليه الدرهم الزائف، فقال لي مثل قول صاحبه فقلت: "خذ خمرك" فأخذ ما كال لي وهو يرى أني خلطته بالشراب الذي أريته إياه. وخرجت فجعلته مع الخمر الأول. ثم لم أزل أفعل ذلك بكل خمار في الحيرة حتى ملأت زقي الأول وبعض الآخر. ثم رجعت إلى أصحابي فوضعت الزقين بين أيديهم ورددت درهمهم.
فقالوا: "ويحك! أي شيء صنعت؟ " فحدثتهم فجعلوا يعجبون وشاع لي الذكر في العرب بالدهاء حتى اليوم"1. هذا احتيال لا يخترعه إلا عقل تاجر ماهر، ملم بحرفته وأسرارها وبالغش وضروبه، أحسنته قريش وشركاؤها كما أحسنت ضربا آخر من اللباقة وحسن التأتي مع الدول المجاورة التي تاجروا في بلادها، فكانوا بهذه الكياسة، ينجون من عقاب المخالفات التي يرتكبونها وعواقب المغامرات التي يقتحمونها. ولما أرادت قريش أن تفتح لها أسواق فارس ولم تكن ترتادها كما ترتاد أسواق الشام، كان لا بد في سبيل الوصول إلى ذلك من مغامرات ومخاطرة وتعرض للأذى وكانت الحاجة تخلق لها مغامرين أذكياء منها أو من شركائها يصلون برفقهم ودهائهم إلى ما يريدون مع السلامة والغنيمة. ونحن ذاكرون لك هنا شاهدا، مهما يكن حظ التزيد فيه فإن ما يخلص منه بعد الامتحان صالح لأن يعطيك صورة صحيحة عن فطنة القوم في أمور التجارة والاحتيال لها والجرأة فيها: ذكر الرواة أن أبا سفيان خرج في جماعة من قريش يريدون العراق بتجارة، فلما ساروا ثلاثا جمعهم أبو سفيان فقال لهم: "إنا من
مسيرنا هذا لعلى خطر، ما قدومنا على ملك جبار لم يأذن لنا في القدوم عليه، وليست بلاده لنا بمتجر؟ ولكن أيكم يذهب بالعير, فإن أصيب فنحن براء من دمه, وإن غنم فله نصف الربح؟ " فقال غيلان بن سلمة: "دعوني إذًا فأنا لها". فدخل الوادي فجعل يطوفه ويضرب فروع الشجر ويقول: ولو رآني أبو غيلان إذ حسرت ... عني الأمور إلى أمر له طبق لقال رعب ورهب يجمعان معا ... حب الحياة وهول النفس والشفق إما بقيت على مجد ومكرمة ... أو أسوة لك فيمن يهلك الورق ثم خرج في العير، وكان أبيض طويلا جعدا ضخما, فلما قدم بلاد كسرى تخلّق ولبس ثوبين أصفرين وشهر أمره وجلس بباب كسرى حتى أذن له، فدخل عليه فخرج إليه الترجمان, وقال له: "يقول لك الملك: ما أدخلك بلادي بغير إذني؟ " فقال: "قل له: لست من أهل عداوة لك، ولا أتيتك جاسوسا لضد من أضدادك، إنما جئت بتجارة تستمتع بها، فإن أردتها فهي لك, وإن لم تردها وأذنت لي بذلك رددتها". فتكلم كسرى فلما سمع صوته غيلان سجد، فقال الترجمان: "يقول لك الملك: لم سجدت؟ " فقال: "سمعت صوتا عاليا حيث لا ينبغي لأحد أن يعلو صوته إجلالا للملك، فعلمت أنه لم يقدم على رفع
الصوت هناك غير الملك, فسجدت إعظاما له". فاستحسن كسرى ما فعل وأمر له بمرفقة توضع تحته، فلما أتي بها رأى عليها صورة الملك فوضعها على رأسه، فاستجهله كسرى واستحمقه وقال للترجمان: "قل له: إنما بعثنا بهذه لتجلس عليها" قال: "قد علمت، ولكني لما أتيت بها رأيت عليها صورة الملك، فلم يكن حق صورته على مثلي أن يجلس عليها، ولكن كان حقها التعظيم، فوضعتها على رأسي لأنه أشرف أعضائي وأكرمها علي". فاستحسن فعله جدا ثم قال له: "ألك ولد؟ " قال: "نعم" قال: "فأيهم أحب إليك؟ " قال: "الصغير حتى يكبر, والمريض حتى يبرأ, والغائب حتى يئوب" فقال كسرى: "زهْ، ما أدخلك علي ودلك على هذا القول والفعل إلا حظك، فهذا فعل الحكماء وكلامهم، وأنت من قوم جفاة لا حكمة فيهم، فما غذاؤك؟ " قال: "خبز البر" قال: "هذا العقل من البر, لا من اللبن والتمر". ثم اشترى منه التجارة بأضعاف ثمنها وكساه "وبعث معه من الفرس من بنى له أطما بالطائف, فكان أول أطم بني بها"1 فهذا نمط مما بلغ إليه القوم.
حتى الأجيال التي انقطعت عن التجارة من القرشيين كانت ألفاظ التجارة وحساباتها أسرع إلى أفكارهم وعلى ألسنتهم حين التعبير، فهذا إسماعيل بن علي بن العباس يقول لطلحة بن عمر بن عبد الله: "أنت أتجر الناس! " فيقول طلحة: "والله ما عالجت تجارة قط! " فيجيبه: "بلى حين تزوجت فاطمة بنت القاسم بأربعين ألفا فولدت لك إبراهيم ورملة، فزوجت رملة بمائة ألف دينار فربحت ستين ألفا وإبراهيم" في خبر طريف1. مكانة قريش من العرب, وقيامها على الدين كلفاها مغارم كانت تؤديها عن طيب نفس، ويتعاون أفراد هذا الحي على الإنفاق في كل ما يعود على مكة والبيت وأهله بالفخر والتكرمة. ولنا على ذلك دليلان مشهوران هما خير ما يمثل لنا تضامن هذا الحي في المكارم، وما يتكلف من بذل وخدمة في سبيل تقوية منزلته من نفوس العرب, وفي سبيل تعظيم حرمة البيت وأهله وحفظ قدسيته في قلوب القبائل كافة:
أما الأول فالرفادة التي كانت من مناقب قريش خاصة، مما تفاخر به أحياء العرب قاطبة, وهي -كما ذكرنا في موضع آخر- "شيء تترافد به قريش في الجاهلية, تخرج فيما بينها مالا تشتري به للحاج طعاما وزبيبا" ولعل في هذا الأمر شيئا وراء إكرام حجاج البيت الحرام، وما إلى ذلك من أمور تتصل بشعائر وعقائد تمتّ إلى الدين، وهذا الشيء هو إغراء العرب بحج تلك الأسواق التجارية والإقبال عليها حتى تغصّ بالبائعين والشارين، فتأمن قريش على أرباحها وتكفل من ذلك رواج تجاراتها التي هي قوام أمورها في الحياة. فالغرض الحقيقي -فيما يبدو لي- تجاري أكثر منه دينيا. ولا يفسر ذلك أحسن تفسير إلا الحوادث التي رافقت البعثة، وما لاقى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أول أمره من الألاقي والأذى. وما كانت قريش -وهي ما هي حصافة عقول- لتعمى عن نور الإسلام لولا أنها خافت على زعامتها التجارية والدينية أن يدكها الإسلام ويذهب ريحها، وإنما تسلطت قريش على نفوس العرب السذج بتلك الخرافات التي جعلت من أصنام الكعبة آلهة مقدسة لُفِّق حولها أباطيل وقصص اتخذت مع الزمن شكل العقائد، وجعلت من قريش قُوّاما على هذا الدين الذي دانته العرب في الجاهلية.
وأما الأمر الثاني فما كانت تتشارك فيه من كسوة الكعبة, جاء في "أخبار مكة للأزرقي ص174": "إن الكعبة كانت تكسى في الجاهلية كسا شتى، كانت البدنة تجلل الحبرة والبرود والأكسية، وغير ذلك من عصب اليمن، وكان هذا يهدى للكعبة سوى جلال البدن، هدايا من كسا شتى: خز وحبرة وأنماط تعلق فتكسى فيه الكعبة ويجعل ما بقي في خزانة الكعبة. فإذا بلي منها شيء أخلف عليها مكانه ثوب آخر، ولا ينزع مما عليها شيء من ذلك، وكان يهدى إليها خلوق ومجمر، وكانت تطيب بذلك في بطنها ومن خارجها". ويظهر أن الحرص على شرف هذه الكسوة كان بالغا، وكان مما تباهي به قريش سائر العرب حتى كان في الأفراد من اشرأبّ للاستئثار بهذه المكرمة وحده بلا شريك، ففي ص175 من الكتاب المذكور: كانت قريش في الجاهلية ترافد في كسوة الكعبة, فيضربون ذلك على القبائل بقدر احتمالها من عهد قصي بن كلاب, حتى نشأ أبو ربيعة بن المغيرة بن عمرو بن عبد الله بن مخزوم، وكان يختلف إلى اليمن يتجر بها، فأثرى في المال فقال لقريش: "أنا أكسو وحدي الكعبة سنة، وجميع قريش سنة" فكان يفعل ذلك حتى مات؛ يأتي بالحبرة الجيدة من الجَنّد "إحدى قرى
اليمن ومن أسواق العرب" فيكسوها الكعبة, فسمته قريش "العدل"؛ لأنه عدل فعله بفعل قريش كلها، فسموه إلى اليوم العدل ويقال لولده: بنو العدل". والحق أن الأمر لم يقتصر على هذه "المكارم الرسمية" من الرفادة وكسوة الكعبة وما إليهما، بل كان ذلك من أخلاق قريش الملازمة لهم في حلهم وترحالهم, فـ "لم يكن أحد يتزود مع قريش في سفر، وكانوا يطعمون كل من يصحبهم" وعرف ثلاثة نفر منهم لمبالغتهم في هذه الخصلة بـ "أزواد الركب" وهم: مسافر بن أبي عمرو بن أمية, وزمعة بن الأسود، وأبو أمية بن المغيرة1. لم تنج قريش من ألسنة العرب، ولم تخل ممن نفس عليها مكانها أو حقد عليها استئثارها بالغنى من أفناء العرب الذين يقدمون مكة فيعانون من تجارتها عنتا وإرهاقا، عدا ما يسامون من الهزء أحيانا ومن أداء الربا المضاعف لهؤلاء. وكان اشتغال التجار بتجارتهم وانكبابهم على شئونها قد صرفهم بعض الصرف عن معالجة شئون الحرب كما يعالجها أمثالهم من غير التجار. ولاحظ ابن سلام أن الذي
قلل شعر قريش عدم اشتغالها بالحروب "فلم يكن بينهم ثائرة ولم يحاربوا، وذلك الذي قلل شعر عمان وأهل الطائف"1, وعمان والطائف أيضا بلدان تجاريان. ولما أرادت أن تباهي الأنصار ولم يكن لها أيام ولا أشعار جعلت "تزيد في أشعارها"2. عرف بعض العرب ذلك من أمرها, والبدو يحقرون التجارة بطبعهم ككل الأمم التي تعيش من الغزو والسلب, فصاروا يعيرونهم بها، وطارت لهم أشعار في ذلك؛ منها ما يحقر التجارة نفسها، ومنها ما يقصد إلى قريش مباشرة، وانظر إن شئت قول القائل يريد مكة: ولا مرتع للعين أو متقنص ... ولكن تجرا والتجارة تحقر وقول ابن الزبعرى: ألهى قصيا عن المجد الأساطير ... ............... ............... ... وقولها: رحلت عير أتت عير ومن هنا كانت استهانة بعض العرب بقريش وعدم الهيبة منها؛ لانكبابها على التجارة وشغلها عن الحروب من دون سائر العرب، عرف ذلك من أمرهم القاصي والداني. جاء في تاريخ الطبري عند كلامه على فتوح سعد بن أبي وقاص قائد الجيوش الإسلامية في العراق, ما يأتي:
سأل النعمان بن قبيصة الطائي، وكان على مرابطة كسرى, عن سعد بن أبي وقاص فقيل له: "رجل من قريش" فقال: "أما إذ كان قرشيا فليس بشيء، والله لأجاهدنه القتال، إنما قريش عبيد من غلب، والله ما يمنعون خفيرا ولا يخرجون من بلادهم إلا بخفير"1، إلا أنه لما عانى من شدة بأسهم ما عاناه علم أن في جلود أولئك التجار مغاوير حرب ومذاويد حق2. كان لهؤلاء القرشيين معارف في بلدان الشام واليمن وفارس, وكانت قريش تنظم وفودا تفد على ملوك النواحي, ونحن نعلم أن عمرو بن العاص كان يعرف مصر وغزة والشام تمام المعرفة ويعزى نجاحه في فتح مصر إلى عوامل منها إجادة معرفته بها. ولما كان أمام غزة دخل على حاكمها بصفة موفد وعرفه الحاكم وأمر حاجبه سرا بقتله لولا أن نبهه عربي نصراني كان يعرف عمرا في الجاهلية حين كان يتاجر والقصة مشهورة. وعرف من القرشيين تجار كبار ذوو أسفار بعيدة
كثيرة، فأبو سفيان كان "تاجرا يجهز التجار بماله وأموال قريش إلى أرض العجم"1, ولعل أول عير طرقت بلاد فارس العير التي كان هو صاحبها، والتي دخل بها غيلان مخاطرا كما تقدم. ثم كانت له عودات إلى فارس، ودخل وافدا مرة على كسرى وأهدى إليه "خيلا وأدما, فقبل الخيل ورد الأدم" قال أبو سفيان: "أدخلت على كسرى فكأن وجهه وجهان من عظمه. فألقى إلي مخدة كانت عنده فقلت: وا جوعاه! هذه حظي من كسرى بن هرمز! " فخرجت من عنده, فما أمر على أحد من حشمه إلا أعظمها حتى دفعتها إلى خازن له, فأخذها وأعطاني ثمانمائة إناء من فضة وذهب"2. وكان يخرج إلى اليمن أيضا, ويتصل بطبقات أهلها وأحبار يهودها كما يتصل غيره, فيعلمون من الأخبار والسياسة ما لا يعلمه غيرهم، واقرأ في الأغاني كيف يشرح لك الحرب بين هرقل وفارس وكيف انتصر هرقل، وكيف خرج من حمص ليصلي ببيت المقدس شكرا لله. وهو حديث طويل مستوفى في كتب السيرة هو والحوار الذي دار بين هرقل وأبي سفيان في شأن بعثة النبي صلى الله عليه وسلم. ولا بأس في أن أنقل هنا أول هذا الحديث؛ لعلاقته بموضوعنا, قال أبو سفيان: "كنا قوما تجارا وكانت الحرب بيننا وبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد حصرتنا حتى نهكت أموالنا. فلما كانت الهدنة "هدنة الحديبية"
بيننا وبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرجت في نفر من قريش إلى الشام، وكان وجه متجرنا منه غزة, فقدمناها حين ظهر هرقل على من كان بأرضه من الفرس ... إلخ"1. واقرأ أيضا ما كان بينه وبين العباس وحبر من أحبار اليهود في متجرهم باليمن "الأغاني 6/ 349" فستعرف من كل ذلك أن هؤلاء التجار كانوا على اتصال بما كان يجري في زمنهم من أحداث سياسة، شديدو الاهتمام بذلك لما يعود على علائقهم بالبلدان وعلى تجاراتهم. وكانوا ينقلون إلى بلادهم بعض ما يجدون في متاجرهم الخارجية من طرف وغرائب، ولعلهم استفادوا من بعض الأنظمة الاجتماعية التي وجدوا عليها الروم أو فارس. بل ما يدرينا أن دار الندوة نفسها اقتباس مغير مصغر عن مجامع الروم الدينية والمدنية, فقد كانت مجلسا منظما "لتشاور قريش وعقد الألوية في حروبهم, ولا ينكح رجل من قريش إلا فيها, ولا يعقد لواء الحرب لهم ولا لغيرهم إلا فيها، ولا يعذر غلام إلا فيها2, ولا تدرع جارية من
قريش إلا فيها, يشق عليها درعها ثم تدرع وينطلق بها إلى أهلها, ولا تخرج عير من قريش إلا منها، ولا يقدمون إلا نزلوا فيها". وهذا عبد الله بن جدعان أتى العرب بطعام لا عهد لهم به: وفد على كسرى فأطعمه الفالوذج, فسأل عن صنعه وحمل معه غلاما يحسن له عمله، فصار يطعم أهل مكة منه. وهو من سراة مكة وأجوادهم وأحد أغنيائهم الكبار و"وضع الموائد بالأبطح إلى باب المسجد, ثم نادى مناديه: ألا من أراد الفالوذج فليحضر، فحضر الناس"1. وقال فيه أمية بن أبي الصلت يصف طعامه هذا: له داع بمكة مشمعلّ ... وآخر فوق دارته ينادي إلى رُدُح من الشيزى ملاء ... لباب البر بلبك بالشهاد2
وممن كان يواصل أسفاره في التجارة أبو طالب والعباس عما النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد أخرج أبو طالب ابن أخيه محمدا مرتين إلى الشام في تجارة: مرة وهو فتى لا تتجاوز سنه الخامسة عشرة, ومرة وهو شاب في سن الخامسة والعشرين. وقد تجر أبو بكر إلى الشام, وتجر عمر إلى غزة وفيها استغنى في الجاهلية على ما قال ابن حوقل1، واستمر عمر مشتغلا بالتجارة في الإسلام وأسف على اشتغاله هذا؛ إذ حرم من علم كثير، وجهل في خلافته مسألة في الاستئذان, فلما رويت له عبر عن أسفه بقوله: "أخفي علي "هذا" من أمر رسول الله!! ألهاني الصفق بالأسواق!! " يعني: الخروج إلى التجارة2. وقل أن تجد قرشيا ذا شأن في الجاهلية والإسلام إلا كان
تاجرا1, واستفاض لهم غنى عريض وثروة واسعة حتى كثر منهم الأجواد وغزرت عطاياهم وقصدهم العفاة وأصحاب الحاجات, وكان من ذلك ما نقرؤه من أخبار جودهم الكثيرة في العقد الفريد والأغاني وغيرهما من الأمهات. ولم تكن النساء القرشيات لتقصر عن الرجال في هذا المدى, بل كان منهن من اتسعت ثروتها من التجارة حتى فاقت كثيرا من الرجال. ولعل السيدة خديجة بنت خويلد أم المؤمنين خير مثال نقدمه على ذلك: فقد كانت من أكبر تجار قريش وأكثرهم مالا وأوفرهم غنى، وكانت في حسب ومقام رفيع في قومها، مع مزايا في أخلاقها طيبة. كانت تستأجر الرجال في مالها وتضاربهم إياه بشيء تجعله لهم. ترسل بأموالها إلى الشام, وإلى عكاظ وحباشة وغيرهما من أسواق العرب, وكثيرا ما كانت ترجع هذه الأموال بربح وافر. وذكروا أن عير
خديجة كعامة عير قريش1. ولما بلغها عن محمد بن عبد الله ما بلغها من صدق حديثه وعظم أمانته وكرم أخلاقه عرضت عليه أن يخرج إلى الشام، ولعل الحقيقة ما ذكره الزرقاني شارح المواهب من أن الرسول نفسه استشرف للسفر بمال خديجة, فقد ذكر: "أن أبا طالب قال له: "يابن أخي, أنا رجل لا مال لي وقد اشتد الزمان علينا وألحت علينا سنون منكرة, وليس لنا مادة ولا تجارة، وهذه عير قومك قد حضر خروجها إلى الشام، وخديجة تبعث رجالا من قومك يتجرون في مالها ويصيبون منافع، فلو جئتها لفضّلتك على غيرك؛ لما يبلغها عنك من طهارتك" فقال محمد: "لعلها ترسل إلي في ذلك" فقال أبو طالب: "إني أخاف أن تولي غيرك" ". وبلغ خديجة ما كان من محاورتهما, فقالت لمن بلغها: "ما علمت أنه يريد هذا". ثم أرسلت إليه وقالت له: "دعاني إلى البعثة إليك ما يبلغني من صدق حديثك وعظم أمانتك وكرم أخلاقك، وأنا أعطيك ضعف ما أعطي رجلا من قومك" فذكر ذلك لعمه فقال: "إن هذا لرزق ساقه الله إليك" وكان عمره -صلى الله عليه وسلم- في هذه الرحلة خمسا وعشرين سنة. "وخرج رسول الله إلى سوق بصرى فباع سلعته
التي أخرج واشترى غيرها, وقدم بها فربحت ضعف ما كانت تربح. .."1. كانت قريش تنظم كل سنة عيرا بتجارة إلى الشام، وكانت هذه القوافل تزيد شأنا عاما فعاما. ولما بلغ أذى قريش من المسلمين ما بلغ، حتى اضطر هؤلاء إلى الهجرة إلى الحبشة2، ثم الهجرة الكبرى إلى المدينة3، واعتز المسلمون وقووا ... كان أول أمر ينتصفون به لأنفسهم، ويحملون أعداءهم من قريش بسببه على الكف من كيدهم وأذاهم لمن في بلدهم من ضَعَفَة المسلمين، هو التعرض لتجارتهم, وإن جارينا مصطلح عصرنا قلنا: أن يضربوا على قريش حصارا اقتصاديا، لعلمهم أن ذلك أبعث على الرعب وأبلغ في النكاية بهم وأفتك ما تكون الحرب في العدو
حين توهى "اقتصادياته", فأرسل الرسول -صلى الله عليه وسلم- سرية عليها عبد الله بن جحش أميرا؛ لتتعرض لعير قريش، وكانت راجعة من الشام فترصدوها بموضع بين مكة والطائف يعرف بنخلة، وكان في العير العلاء بن الحضرمي، فلما مرت بهم حملوا على من فيها واحتجزوا الأموال وكانت زبيبا وأدما وتجارة من تجارة قريش. فقتل من حامية القافلة من قتل، وأسر من أسر, وقوى الله المسلمين بما غنموا من عدوهم الذي أخرجهم من ديارهم وأبنائهم، وبلغ الخبر قريشا فكانت الأذية منهم بالغة. وكان السبب في استدراج المسلمين قريشا إلى المعركة الحاسمة بين الإسلام والشرك في بدر الكبرى تجاريا أيضا: فإن قريشا أقبلت لها عير من الشام عليها أبو سفيان في ثلاثين راكبا، وكان فيها معظم أموالهم، قدرها المؤرخون بخمسين ألف دينار، وقالوا: "لم يبق قرشي ولا قرشية له مثقال إلا بعث به في العير". وبلغ النبي -صلى الله عليه وسلم- خبرها فتجهز ليتعرض لها، ولكن أبا سفيان أخذ على الساحل فنجا بها بعد أن أرسل إليهم نذيرا ضمضم بن عمرو الغفاري يستنفرهم إلى العير. فجدع هذا أنف بعيره وحول رحله وشق قميصه من قبل ومن دبر وصرخ في أهل مكة: إن محمدا مع أصحابه قد عرض لعير قريش،
يا معشر قريش! اللطيمة اللطيمة، أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه، ما أرى أن تدركوها، الغوث الغوث ... فنهضوا وقالوا: "أيظن محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمي، كلا والله، ليعلمن غير ذلك". وخرجوا ألفا بين فارس وراجل، كل من قدر على النهوض نهض ومن لم يستطع أرسل بماله وسلاحه من يقوم مقامه. وكان كل ذي خطر إما في العير مع أبي سفيان، وإما في النفير إلى بدر، وصاروا بعد ذلك إذا استصغروا أحدا قالوا: "لا في العير ولا في النفير" فأرسلوها مثلا في الناس. ثم نجت العير، والتقى الجمعان في بدر الكبرى وكان من أمرهم ما يعلم الجميع. وقرر كبراء قريش أن ترصد أرباح العير للتجهيز لغزو محمد؛ ثأرا لقتلى بدر. وطفق الرسول -عليه الصلاة والسلام- يبث سراياه، وأشفقت قريش من ذلك؛ إذ تتعطل تجاراتهم إذا لم تكن الطريق آمنة، وطريقهم المسلوكة المعبدة هي الطريق المساحلة إلى الشام وإلى اليمن، وقد أصبحت غير مأمونة بعد أن صارت كتائب المسلمين تترصد قوافل التجارة المكية، وأشفق أيضا القبائل المقيمة على هذا الطريق حول المدينة إلى مكة؛ إذ بانقطاع هذا الطريق التجاري موت لهم. وأيا كان, فقد فكرت قريش
في تغيير الطريق وسلوك طريق نجد فالعراق؛ لبعده عن منطقة الحصار الذي ضربه المسلمون على تجارة مكة. وقد قال صفوان بن أمية يوما في أحد منتديات قريش: "إن محمدا وأصحابه قد عوّروا علينا متجرنا, فما ندري كيف نصنع بأصحابه وهم لا يبرحون الساحل، وأهل الساحل قد وادعوه ودخل عامتهم معه, فما ندري أين نسكن؟! وإن أقمنا في دارنا هذه أكلنا رءوس أموالنا فلم يكن لها من بقاء, وإنما حياتنا بمكة على التجارة إلى الشام في الصيف وإلى الحبشة في الشتاء". فأشير على قريش أن تسلك طريق العراق، فخرجت عيرهم مثقلة بالعروض والفضة، وبلغ أمرها النبي فأرسل زيد بن حارثة في سرية اعترضت العير عند "القردة" أحد مياه نجد, فغنم العير وأسر الدليل. كان هذا الحصار الاقتصادي الذي أحكمه الرسول أهم الممهدات لفتح مكة فيما بعد؛ إذ أضعف من قوة قريش الاقتصادية. وإنما قريش بتجارتها وأموالها، فإذا فقدت مكانتها التجارية فقد هوى شأنها بين العرب؛ ولذلك عادت تفكر في رفع هذا الحصار عنها في محاولات لم تنته بالنجاح. ولعل أشد ما أحمى قريشا في موقفها من الرسول وصحبه في مفاوضات الحديبية خوفها أن تفقد مكة ما عرفت به من حرمة وأمن إذا اقتحمها عليهم محمد -صلى الله عليه وسلم- عنوة، فلا تعود العرب تقصدها للتجارة
فتتعطل أسواقها وتخسر قريش أرباحها وثراءها. فلذلك حالوا بكل ما يستطيعون دون وقوع قتال ودون دخول المسلمين لها عامهم ذاك؛ إبقاء على مصالحهم التجارية والأدبية بين العرب. وليس يصور لنا ذلك الغنى المستفيض إلا الأخبار التي أثرت عن كبار القرشيين في الجاهلية والإسلام، ولا بأس في ذكر عبد الله بن جدعان مثلا في ذلك: فقد تقدم أنه كان يبسط الموائد في مكة يطعم الناس الفالوذج, وله جفنة عظيمة يأكل منها الفارس على فرسه، وفي الحديث: $"كنت أستظل بظل جفنة عبد الله بن جدعان صكة عمي"1. ورويت له أخبار أشبه بما يروى عن الملوك؛ فقد كان يتخذ القيان يغنينه ثم يهبهن لمادحه، وكان يقضي عن الناس ديونهم، وله شاعر هو أمية بن أبي الصلت، وكان يلقب بحاسي الذهب، وما أجد حاجة إلى التنبيه على بطلان خرافة الكنز التي ذكروها تعليلا لوجود كل هذا الغنى عنده، فليس من كسب له ولا لقومه سوى التجارة، وما عرفنا أن رمال الجزيرة مما تبطن الكنوز. وأصحاب السير يقدمون لنا حسابا نستطيع أن نعتمد عليه هنا
في معرفة أرباحهم التجارية1 لنقدر نحن بعد ذلك الأمد الذي بلغوه في الثروة, قالوا: إن قريشا لما رجعوا من هزيمة بدر إلى مكة، وقد أصيب أصحاب القليب ورجع أبو سفيان بعيره "سالمة" مشى جماعة من أشراف قريش ممن أصيب آباؤهم وإخوانهم وأبناؤهم يوم بدر فقالوا: "يا معشر قريش, إن محمدا وتركم وقتل خياركم, فأعينونا بهذا المال على حربه" يعنون: عير أبي سفيان ومن كانت له في تلك العير تجارة، والعير -كما تقدم من عادتهم- تنزل أول ما تنزل في دار الندوة حتى يتفق أصحابها على إخراجها للبيع، فائتمر القرشيون وشركاؤهم أن ينفقوا ربح هذه العير على تجهيز جيش يحاربون به محمدا صلى الله عليه وسلم، وكانت ألف بعير موقرة بما قيمته خمسون ألف دينار، وكانوا يربحون بكل دينار دينارا -على ما نقل الزرقاني- فيكون ما أُنفق على هذا الجيش خمسين ألف دينار أو -على رواية المقل- خمسة وعشرين ألف دينار. وهو على كل حال مبلغ ضخم جدا، وكان عدد من استأجرهم أبو سفيان
من الأحابيش فقط ألفين. وفي هذا الحادث نزل قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} 1. وخليق بمن كانت أرباحهم بهذا المقدار أن يثروا في المدة الوجيزة الثراء الكبير. ونحن نعرف أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخذ من العباس الفداء يوم بدر فكان مقداره عشرين أوقية من ذهب، وأن عثمان بن عفان وحده جهّز جيش العسرة "في غزوة تبوك" ألف بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، ولما أقحط الناس أيام أبي بكر وأتت عير لعثمان خاصة جعلها جميعا في سبيل الله. ولما كانت الفتوحات زاد غناه بما لا يقدر, حتى إن ابن سعد صاحب الطبقات ليروي "3/ 53" أنه "كان له عند خازنه يوم قتل "30.500.000" درهم و"150" ألف دينار, فانتهبت وذهبت, وترك ألف بعير بالربذة، وترك صدقات كان تصدق بها ببراديس وخيبر ووادي القرى قيمة مائتي ألف دينار". وليس ما يروى في تقدير ثروة عبد الرحمن بن عوف بالقليل, فقد ذكر ابن سعد2 عنه أنه: قدم المدينة فآخى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري، فقال له سعد: أخي, أنا أكثر
أهل المدينة مالا فانظر شطر مالي فخذه, وتحتي امرأتان فانظر أيتهما أعجب إليك حتى أطلقها لك. فقال عبد الرحمن: "بارك الله لك في أهلك ومالك، دلوني على السوق ... " فاشترى وباع فربح, فجاء بشيء من أقط وسمن، ثم لبث ما شاء الله أن يلبث فجاء وعليه ردع "لطخ وأثر طيب" من زعفران, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مهيم" فقال: "يا رسول الله تزوجت امرأة" قال: "فما أصدقتها"؟ قال: "وزن نواة من ذهب" قال: "أولم ولو بشاة" فقال عبد الرحمن: "فلقد رأيتني, ولو رفعت حجرا لرجوت أن أصيب تحته ذهبا". وحسبك هذا دليلا على مهارتهم في الاتجار وخبرتهم بطرق الكسب. أما تركته فكانت "ألف بعير وثلاثة آلاف شاة ومائة فرس ترعى بالبقيع ... وكان فيما ترك ذهب قطع بالفئوس حتى مجلت أيدي الرجال منه. وترك أربع نسوة، فأُخرجت امرأة من ثُمُنها بثمانين ألفا1, وقد باع مرة أرضا له بأربعين ألف دينار، فتصدق بها كلها، وتصدق مرة بسبعمائة جمل بأحمالها قدمت من الشام، وأعان في سبيل الله بخمسمائة فرس عربية"2 "وأوصى في السبيل بخمسين ألف دينار"3.
"وكان الزبير بن العوام كثير المتاجر والأموال, قيل: كان له ألف مملوك يؤدون الخراج, فربما تصدق بذلك في مجلسه، وقد خلّف أملاكا بيعت بنحو أربعين ألف ألف درهم"1. "وأرسل سعد بن أبي وقاص إلى مروان، بزكاة عين ماله خمسة آلاف درهم، وترك يوم مات "250000" درهم"2. ومهما تسقط من هذه الأرقام مما تقدر أنهم كسبوه من غنائم الحرب فسيبقى لك بعد ذلك مقادير وأموال طائلة. فهذا دون شك غنى واسع، ودنيا عريضة، وتوفيق عجيب أُتيح لهؤلاء التجار، وإن كلمة عبد الرحمن بن عوف: "لو رفعت حجرا لرجوت أن أصيب تحته ذهبا" لتشرح لك مدى التوفيق التجاري الذي أحرزوه بما أتقنوا من هذه المهنة، وما تفننوا في أساليبها وطرقها. وأظن هذا القدر كافيا في الدلالة على مبلغ اهتمام قريش بالتجارة حتى صاروا يعيّرون بذلك3، حين جعلوها ديدنهم ومعاشهم
وهجيراهم في مجالسهم وأسمارهم، الكبير منهم والصغير والرجل والمرأة سواء، كلٌّ يسهم في العير بما يستطيع، وله من الربح على قدر ماله. كانوا يذهبون راحلين إلى اليمن أو إلى الشام أو إلى العراق, حتى جعلوا لأنفسهم محطات ومنازل خاصة بأصحابها على طول الطريق1، كل أسرة ترسل من أفرادها من استطاع، ولا يكادون يُعرفون في العرب بعمل غير التجارة وما إليها من معاملات2.
ونختم هذا الفصل برأي لأحد سادات قريش في الجاهلية
والإسلام حكيم بن حزام, وكان واسع الغنى فاحش الثراء، تصدق
بعيره الخاصة غير مرة, وأعتق المئات من العبيد في عرفة، وتصدق بدور وأموال عظام، هذا الثري القرشي أحب أن يتصل لقريش هذا المجد التجاري، فلما شاور عمر الصحابة في فرض العطاء لقريش وافقوه إلا حكيم بن حزام فقال له: "يا أمير المؤمنين, إن قريشا أهل تجارة, ومتى فرضت لهم عطاء تركوا تجارتهم، فيأتي بعدك من يحبس عنهم العطاء فتكون قد خرجت من أيديهم"1.
إيلاف قريش
ب- إيلاف قريش: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ, إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ, فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ, الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} . إيلاف قريش "وإذا شئنا التعبير بلغة عصرنا قلنا: المعاهدات التجارية"1 مستفيض الشهرة في كتب السير والتاريخ والأدب.
وقد أخبر به القرآن الكريم, وهو أبرز حادث في تاريخ العرب التجاري قبيل الإسلام. وفي تحديد معنى الإيلاف مذاهب، منها: 1- أنه الدأب, فسره بذلك ابن سعد صاحب الطبقات. ومنها: 2- أنه ربح مخصوص جعله هاشم لرؤساء القبائل, فيحمل لهم متاعا مع متاعه ويسوق إليهم إبلا مع إبله، ليكفيهم مئونة الأسفار ويكفي قريشا الأعداء1. ومنها: 3- أنه العهد وشبه الإجازة والخفارة2, قاله صاحب القاموس.
ومن التفصيل الذي سنسوقه لك تعرف أن المعاني الثلاثة تجتمع في الإيلاف معا. ذكر الثعالبي أن قريشا "كانت لا تتاجر إلا مع من ورد عليها مكة في المواسم وبذي المجاز وسوق عكاظ في الأشهر الحرم، لا تبرح دارها ولا تجاوز حرمها؛ للتحمس في دينهم والحب لحرمهم والإلف لبيتهم، ولقيامهم لجميع من دخل مكة بما يصلحهم. وكانوا بوادٍ غير ذي زرع, كما حكى الله عن إبراهيم حين قال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} 1. فكان أول من خرج إلى الشام ووفد إلى الملوك، وأبعد في السفر، ومر بالأعداء وأخذ منهم الإيلاف الذي ذكره الله، هاشم بن عبد مناف, وكانت له رحلتان: في الشتاء نحو العباهلة من ملوك اليمن ونحو اليكسوم من أرض الحبشة، ورحلة في الصيف نحو الشام وبلاد الروم. وأبى رواة الأخبار إلا أن يجعلوا لهاتين الرحلتين بدءا يكون لهما كالسبب والعلة, فرووا عن ابن عباس:
"أن السبب في هاتين الرحلتين هو أن قريشا إذا أصاب واحدا منهم مخمصة، خرج وعياله إلى موضع، وضربوا على أنفسهم خباء حتى يموتوا، إلى أن جاء هاشم بن عبد مناف وكان سيد قومه وكان له ابن يقال له: أسد، وكان له تِرْب من بني مخزوم يحبه ويلعب معه، فشكا إليه الضر والمجاعة. فدخل أسد على أمه يبكي، فأرسلت إلى أولئك بدقيق وشحم فعاشوا فيه أياما. ثم أتى ترب أسدا مرة أخرى وشكا إليه الجوع. فقام هاشم خطيبا في قريش فقال: "إنكم أجدبتم جدبا تقلون فيه وتذلون, وأنتم أهل حرم الله وأشراف ولد آدم، والناس لكم تبع" قالوا: "نحن تبع لك, فليس عليك منا خلاف". فجمع هاشم كل بني أب على الرحلتين في الشتاء إلى اليمن, وفي الصيف إلى الشام للتجارات، فما ربح الغني قسمه بينه وبين الفقير حتى كان فقيرهم كغنيهم. فجاء الإسلام وهم على ذلك، فلم يكن في العرب بنو أب أكثر مالا ولا أعز من قريش. وهذا معنى قول شاعرهم فيهم: والخالطون فقيرهم بغنيهم ... حتى يكون فقيرهم كالكافي"1.
وكان هاشم يأخذ الإيلاف من رؤساء القبائل ورؤساء العشائر لخصلتين: "إحداهما: أن ذؤبان العرب وصعاليك الأعراب وأصحاب الغارات وطلاب الطوائل كانوا لا يؤمنون على أهل الحرم ولا غيرهم، والخصلة الأخرى: أن أناسا من العرب كانوا لا يرون للحرم حرمة ولا للشهر الحرام قدرا كبني طيء وخثعم وقضاعة, وسائر العرب يحجون البيت ويدينون بالحرمة له ... فكان الإيلاف صلاحا للفريقين, إذ كان المقيم رابحا والمسافر محفوظا, فأخصبت قريش وأتاها خير الشام واليمن والحبشة, وحسنت حالها وطاب عيشها". وقول الله: {أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} يعني: الضيق الذي كان فيه أهل مكة قبل أن يأخذ هاشم لهم الإيلاف، والخوف الذي كانوا عليه ممن يمرون به من القبائل والأعداء وهم مغتربون ومعهم الأموال, وهو قوله عز ذكره: {تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ} 1 يعني: في تلك الأسفار ولم يرد ذلك وهم مقيمون في حرمهم وأمنهم؛ لأن الله يقول: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} 2 مع قوله: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} 3 وقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} 4.
ويعلق عدد من المفسرين مطلع السورة "لإيلاف" بسورة الفيل التي قبلها ويكون تسلسل الكلام عندهم: "فجعلهم كعصف مأكول لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف" والمعنى: أنه أهلك أصحاب الفيل "الذين قصدوهم ليتسامع الناس بذلك فيتهيبوهم زيادة تهيب ويحترموهم فضل احترام حتى ينتظم لهم الأمن في رحلتيهم, فلا يجترئ عليهم أحد ولا يتعرض لهم، والناس غيرهم يتخطفون ويغار عليهم"1. هذا, وقد عم مطرود الخزاعي بني عبد مناف بذكر الإيلاف؛ لأن جميعهم قد فعل ذلك فقال: يا أيها الرجل المحول رحله ... هلا حللت بآل عبد مناف المنعمين إذا النجوم تغيرت ... والظاعنين لرحلة الإيلاف2 سفرين سنهما له ولقومه ... سفر الشتاء وسفرة الأصياف
ومر بك تعداد الكميت مآثر أجداد هشام بن عبد الملك, فذكر منها الإيلاف ص97. وفي اختصاص قريش بالإيلاف دون غيرهم من العرب, قال الشاعر وهو يردّ على بني أسد ما يدّعونه من قرابة قريش: زعمتم أن إخوتكم قريش ... لهم إلف وليس لكم إلاف أولئك أومنوا خوفا وجوعا ... وقد جاعت بنو أسد وخافوا ا. هـ وهناك قول بتفسير الإيلاف غير صحيح جاء في شرح ابن أبي الحديد, وهو قوله: "إن هاشما جعل على رؤساء القبائل ضرائب يؤدونها إليه ليحمي بها مكة" والأمر على العكس, فالمستفيد من الإيلاف مادة هم رؤساء القبائل، ومكة لم يؤثر أن اعتدى على حرمتها أحد من العرب فبلغ منها. وقد آن أن نذكر الإيلافات أو المعاهدات التجارية التي عقدها هاشم وإخوته: المطلب وعبد شمس ونوفل مع العرب والروم والحبشة وفارس، فأخرجوا بذلك تجارة قريش من طابعها المحلي وأفقها المحصور إلى الآفاق الأجنبية، فصارت لقريش العلائق الخارجية مع الدول المعروفة حينئذ, وأثرت هذه العلاقات في حالاتها الاجتماعية تأثيرا بعيدا نحن متعرضون له بعد قليل.
ومتى عرفنا ما أسدى أولاد عبد مناف لقريش وللعرب من أيادٍ تبيّنّا مدى الصدق في قولة ابن عباس: "والله, لقد علمت قريش أن أول من أخذ الإيلاف وأجاز لهم العير لهاشم، والله ما شدت قريش رحلا ولا حبلا بسفر ولا أناخت بعيرا لحضر إلا بهاشم". ونحن فيما سنعرض عليك من حديث، عيال على القالي الذي انفرد دون غيره من أصحاب الأمهات بتفصيل تلك الأحلاف، ولا بد من تنبيهك إلى أن العرب كثيرا ما تسمي عامل الشام قيصر وهو المراد في حديث القالي، ولعل عامل أنقرة هو المراد أيضا من قيصر أنقرة فيما روى ابن سعد في طبقاته, إذ قال: "كان اسم هاشم عمرا وكان صاحب إيلاف قريش. وإيلاف قريش: دأب قريش، وكان أول من سنّ الرحلتين لقريش، ترحل إحداهما في الشتاء إلى اليمن وإلى الحبشة إلى النجاشي فيكرمه ويحبونه، ورحلته في الصيف إلى الشام إلى غزة, وربما بلغ "أنقرة" فيدخل على قيصر فيكرمه ويحبوه"1. ولا ينبغي أن تستغرب ما تقرأ في رواية القالي من اهتمام قيصر
بهاشم, فإن الروم كانوا يهتمون بمن ينزل أرضهم من العرب الغرباء وليس من المعقول أن يكون أمرهم هملا, فالغالب أن هناك موظفين وعيونا من العرب أو ممن يعرفون العربية يوافون العامل بأخبار الطراء والتجار الأجانب, قال أبو علي القالي1: "كانت قريش تجارا، وكانت تجارتهم لا تعدو مكة، إنما تقدم عليهم الأعاجم بالسلع فيشترونها منهم ثم يتبايعونها بينهم ويبيعونها على من حولهم من العرب، فكانوا كذلك حتى: 1- ركب هاشم بن عبد مناف إلى الشام فنزل بقيصر, فكان يذبح كل يوم شاة ويصنع جفنة ثريد ويجمع من حوله فيأكلون, وكان هاشم من أجمل الناس وأتمهم، فذكر ذلك لقيصر فقيل له: "ههنا رجل من قريش يهشم الخبز ثم يصب عليه المرق ويفرغ عليه اللحم" وإنما كانت العجم تصب المرق في الصحاف ثم تأتدم بالخبز. فدعا به قيصر، فلما رآه وكلمه أعجب به، فكان يبعث إليه في كل يوم فيدخل عليه ويحادثه. فلما رأى نفسه تمكن عنده قال له: "أيها الملك, إن قومي تجار العرب، فإن رأيت أن تكتب لي كتابا تؤمن تجارتهم فيقدموا عليك بما يستطرف من أدم الحجاز وثيابه فتباع عندكم فهو
أرخص عليكم" فكتب له كتاب أمان لمن يقدم منهم. فأقبل هاشم بذلك الكتاب، فجعل كلما مر بحي من أحياء العرب أخذ من أشرافهم إيلافا -والإيلاف: أن يأمنوا عندهم في أرضهم بغير حلف، وإنما هو أمان الطريق- على أن قريشا تحمل إليهم بضائع فيكفونهم حملانها, ويؤدون إليهم رءوس أموالهم وربحهم، فأصلح هاشم ذلك الإيلاف بينهم وبين أهل الشام حتى قدم مكة فأتاهم بأعظم شيء أتوا به بركة، فخرجوا بتجارة عظيمة وخرج هاشم معهم يجوزهم ويوفيهم إيلافهم الذي أخذ لهم من العرب حتى أوردهم الشام وأحلهم قراها, ومات في ذلك السفر بغزة. ب- وخرج المطلب بن عبد مناف إلى اليمن فأخذ من ملوكهم عهدا لمن تجر إليهم من قريش، وأخذ الإيلاف كفعل هاشم. وكان المطلب أكبر ولد عبد مناف وكان يسمى الفيض, وهلك بردمان من اليمن. ج- وخرج عبد شمس بن عبد مناف إلى الحبشة، فأخذ إيلافا كفعل هاشم والمطلب, وهلك عبد شمس بمكة فقبره بالحجون. د- وخرج نوفل بن عبد مناف وكان أصغر ولد أبيه, فأخذ عهدا من كسرى لتجار قريش وإيلافا ممن مر به من العرب. ثم قدم
مكة ورجع إلى العراق فمات بسلمان. واتسعت قريش في التجارة في الجاهلية وكثرت أموالها. فبنو عبد مناف أعظم قريش على قريش منة في الجاهلية والإسلام" ا. هـ. يمتاز هذا الخبر مما تقدمه بالدقة, فقد عرفنا أن صاحب القاموس ومحمد بن حبيب فسرا الإيلاف بالعهد. وما يتبادر إلى الذهن من ذلك حقوق متقابلة وحلف دائم, فقصر الإيلاف هنا على أمان الطريق فقط. وخرجنا من رواية القالي بأربع معاهدات تجارية، إلا أن الفكر ليستشرف لمعرفة نصوص هذه المعاهدات ويتوقع تفصيلا أكثر. أما الكتاب الذي أشار القالي إلى أن قيصر كتبه لهاشم فإنا لم نجد له ذكرا بعد موت هاشم، فيما بين أيدينا من المصادر. وهو -إن صح وقوعه- من الخطر بمكان، بل هو مما يجب أن يعضّ عليه بنو هاشم بالنواجذ, ففيه لهم فخر كبير وهم الحريصون على قيد كل صغيرة وكبيرة مما يدخل في باب المفاخرة, فمن العجيب سكوت الأخباريين عن ذكره في المناسبات التي كثيرا ما تعرض. وهؤلاء "هاشم والمطلب وعبد شمس ونوفل" هم أصحاب الإيلاف "الذين رفع الله بهم قريشا ونعش فقراءها ... وكل كان رئيس من يخرج معه ممن يتجر في وجهه ... فهؤلاء سادة قريش
وناعشوهم"1. لقد انتقلت أحوال قريش التجارية بهاشم وإخوته من طور إلى طور، فبعد أن كانت قاصرة على مكة يقدم عليهم فيها التجار الأعاجم فيشترون منهم سلعهم، خلصوا من تحكم الأجانب ومارسوا هم أنفسهم التجارة الخارجية بعد أن أمنوا الطريق, وعقدوا المحالفات فعظمت ثرواتهم وفاض غناهم, وأصبح معظم اتجار الجزيرة مع الأمم المجاورة حكرة لهم، وقد اعترفت قريش لأولاد عبد مناف بفضلهم وجميل صنيعهم لقومهم فسموهم "المجبرين"2, إذ بهؤلاء النفر الأربعة جبرت قريش وتبحبحت في الخير والغنى والمقام. ويزيد ابن سعد في طبقاته، فيذكر لنا شيئا مما في عهد قيصر، ويذكر أيضا كتابا آخر أرسله قيصر إلى النجاشي يوصيه بهم ولم يشر إلى شيء من مضمون هذا الكتاب, قال3: "كان هاشم رجلا شريفا, وهو الذي أخذ الحلف لقريش من قيصر لأن تختلف آمنة. وأما من على الطريق "يعني قوافل العرب" فألفهم على أن تحمل قريش بضائعهم ولا كراء على أهل الطريق. فكتب له قيصر كتابا وكتب إلى النجاشي أن يدخل قريشا أرضه".
وفي شرح نهج البلاغة "3/ 458" أن هاشما سأل قيصر أن يأذن لقريش في القدوم عليه بالمتاجر وأن يكتب لهم كتب الأمان فيما بينهم وبينه, ففعل. والغموض الذي في الرواية المتقدمة يكتنف هذه أيضا, فليس فيها صيغة هذا الأمان ولا شروطه. ومهما يكن من شيء, فإلى هؤلاء الإخوة الأربعة يرجع الفضل كله في تثمير تجارة قريش1, وبنائها على أسس قوية حتى اتسعت فصارت شبه دولية بعد أن كانت موضعية لا تعدو الأسواق القريبة من مكة. فهم في الحقيقة أبطال قريش ورجالاتها في الاقتصاد, وهم دعائمها التجارية التي قامت تلك الثروة العريضة بمساعيهم وكفاياتهم، وليس بقليل أن تفتح أربع ممالك أسواقها لقوافل قريش وتجاراتها. وما أنا إلى الغلو إذا زعمت أن فضل هذه الأحلاف امتد حتى زمن الإسلام، وأن المسلمين الأولين ما اختِيرت لهم الحبشة مهاجرا إلا لاعتيادهم الرحلة إليها متاجرين، وإلا لمعرفتهم بها وبأهلها لكثرة ارتيادهم
إياها وحمدهم مقامهم فيها, وحسن ما يلقون من معاملة طيبة. في الخبر بعد، إشارة إلى كرم هاشم وكثرة إنفاقه على إخوانه، وأن أفعاله نمّت على أصله وسيادته وشرفه، كما فيه تصريح بأسلوب الروم وأسلوب العرب في أكل اللحم والمرق, وكيف عجب الروم من الثريد لأنه طراز لم يألفوه. ذكروا أن اللام في قوله تعالى أول السورة: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} للتعجب, فالمعنى: اعجبوا لإيلاف قريش، وآخرون علقوها ومجرورها بالفعل فقالوا: إن المعنى: فليعبدوا رب هذا البيت لإيلافهم1. فجعلوا الفاء في الفعل زائدة لتحسين اللفظ, وتقوية المعنى كما في قوله تعالى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} وجعلوا "إيلاف" الثانية توكيدا للأولى. وقد امتنّ الله عليهم بإيمان خوفهم من الغارات والحروب والقتال, وغير ذلك من الأمور التي يخافها كل عربي غيرهم, حتى إن الرجل منهم ليصاب في حي من أحياء العرب, فإذا قال: أنا حرمي "أي: من أهل الحرم" أطلقوه, وكفوا عن ماله إكراما له. وقد أمّن الله أهل مكة من خوف آخر هو جيش أبرهة أصحاب
الفيل حين ردهم الله عن مكة, والبيت بعد أن اعتصم أهلها بالشعاف والهضاب. ومنّ عليهم حين أنقذهم من جوع السنين التي أصابهم قحطها من قبل. فذكر ابن عباس وعكرمة1 أن الله أمرهم في هذه السورة بالإقامة بمكة لعبادة رب هذا البيت؛ إذ كفاهم مئونة رحلتيهم بعد أن كانوا لا يكادون يرتاحون في صيف ولا شتاء. لخص صاحب القاموس ما تقدم حين عرض لتفسير الإيلاف, فقال: "والإيلاف في التنزيل "العهد" وشبه الإجازة بالخفارة وأول من أخذه هاشم من ملك الشام، وتأويله أنهم كانوا سكان الحرم، آمنين في امتيارهم وتنقلاتهم شتاء وصيفا والناس يُتَخَطَّفون من حولهم, فإذا عرض لهم عارض قالوا: "نحن أهل حرم الله" فلا يتعرض لهم أحد ... وكان هاشم يؤالف إلى الشام، وعبد شمس إلى الحبشة، والمطلب إلى اليمن، ونوفل إلى فارس، وكان تجار قريش يختلفون إلى هذه الأمصار بحبال "عهود" هؤلاء الإخوة، فلا يتعرض لهم. وكان كل أخ منهم أخذ حبلا من ملك ناحية سفره؛ أمانا له".
حرب الفجار
ج- حرب الفجار: أفردت هذا البحث وإن كان حقه أن يذكر في أحداث سوق عكاظ؛ لخطره وبعد أثره, ولأن هذا الفجار كان في حقيقته نزاعا على النفوذ التجاري والأدبي، بين قريش وأحلافها وبين هوازن القبيلة المعروفة بعددها وبطشها. وقعت هذه الحرب وكان بودّ قريش ألا تقع؛ لميلها إلى السلم الضروري لتجارتها وكانت تجنح إلى السلم في كثير من أمورها, وخاصة مع قبيلة هوازن التي لها القوة والمنعة حول عكاظ. فإن قريشا ترهب جانبها وتجتنب ما يعكر الصفو بينها وبين هوازن؛ حرصا على سلامة الموسم وعلى تجاراتها فيه. يدلنا على ذلك أن عبد الله بن جدعان كان طرد مائة ناقة لكلاب بن ربيعة, فأرسل كلاب إلى قريش: "إن سفيهكم أغار عليّ وطرد لي مائة ناقة، فليس لكم أن تشهدوا عكاظ ولي عليكم ترة". وكانت عكاظ في وسط أرض قيس بن عيلان. قال ابن جدعان: "وإن قريشا ائتمرت بقتلي؛ لئلا أجني عليهم الجرائر فيطلبون بسببي
وهم تجار, لا يستغون عن بلد"1. وهذا صريح في إشفاق قريش من كل ما يعكر أمن تجارتها وقد أذعنت للتهديد حتى كادت تسلم أحد أفرادها، وهو شيء لا تسمح به العرب أبدا حتى تفنى عن آخرها. وبهذا عرفوا، وما كانت قريش لتخرج على ذلك لولا الضرورة الملحة, ولولا أنها تهدد موردها الوحيد وهو التجارة. أيام الفجار أربعة. وإنما نريد هنا الكلام على الفجار الآخر أي: الرابع؛ لأنه هو الذي أدى إلى الحروب، وهو الذي كان سببه التزاحم على الكسب والتجارة, أما بقية الأيام فستمر بها عند الكلام على عكاظ. وقد سميت بالفجار؛ لأنها وقعت في الأشهر الحرم وهي الشهور التي تعظمها العرب وتحرم فيها القتل والقتال فيما بينها. فلما خرج المتحاربون فيها على شريعة العرب كانوا فاجرين2 بذلك, وأيامها خمسة تفرقت على أربع سنين. وها نحن أولاء نأتي عليها بالتفصيل الممكن, معتمدين فيه على الأغاني وبلوغ الأرب, وعلى العقد الفريد خاصة.
سنتها: من الصعب تعيين سنة هذه الحروب؛ لما ورد فيها من تضارب الروايات، فقد أجمعت المصادر على أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حضرها بنفسه، ثم افترقت فرقتين: فابن هشام ومن تابعه يجعلون سن الرسول لما حضرها أربع عشرة سنة، ومنهم صاحب العقد الفريد الذي يروي في ذلك حديثا هذا نصه: "كنت أنبل على أعمامي يوم الفجار, وأنا ابن أربع عشرة سنة". وابن إسحاق ومن تابعه -ومنهم: صاحب القاموس والأصفهاني وابن سعد- جعل سنه حينئذ عشرين سنة. وهناك غموض آخر اشترك فيه الفريقان معا, وهو أن أيام الفجار الآخر تفرقت على أربع سنين، ففي أيتهن كان عمره أربع عشرة أو عشرين؟ وأنا لم أهتد بعد إلى الحق الذي لا حق غيره في هذه الروايات. ونبله -صلى الله عليه وسلم- على أعمامه فسر بوجهين: أما صاحب العقد الفريد فقال: أنبل بمعنى: أناولهم النبل وهو خلاف ما ذهب إليه ابن هشام في سيرته من أن معناه أنه كان يرد عنهم نبل عدوهم. إلا أن تعدية الفعل بـ "على" ترجح التفسير الأول, فقد جاء في القاموس: نبل عليه: لقط له النبل, وروى الحديث "في مادة فجر" -وكذلك رواه ابن سعد- على هذه الصيغة: "كنت أنبل على عمومتي يوم الفجار، ورميت فيه بأسهم، وما أحب
أني لم أكن فعلت". فإن يكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد حضر الأيام جميعها وكانت سنه أول ما هاجت خمس عشرة سنة -على إحدى روايتي ابن هشام- أمكن التوفيق بين الروايات على وجه التقريب, فتكون الحرب قد وضعت أوزارها وقد أشرفت سنه على العشرين. فكان يلتقط السهام في أولها ويرمي بنفسه في آخرها. فعلى الرواية الأولى تكون الحرب قد وقعت قبل البعثة بخمسة وعشرين عاما وتوافق سنة "585" للميلاد المسيحي. سبب الحرب: من عادة النعمان بن المنذر ملك الحيرة أنه يرسل كل عام إلى سوق عكاظ لطيمة "وهي: الجمال تحمل المسك والطيب" بجوار رجل شريف من أشراف العرب، يحميها له حتى تصل إلى السوق, فتباع فيها ويشترى له بثمنها أدم من أدم الطائف. ولا يقوم عادة بعبء حمايتها إلا رجل منيع، لقومه عدد وعزة. وكان الذي يجيرها في الغالب سيد مضر1. فلما جهز النعمان اللطيمة لهذا العام "585م" قال: "من يجيرها؟ "
وكان بحضرته أناس من أشراف القبائل، فانبرى له البراض بن قيس الضمري وكان فتاكا يضرب بفتكه المثل فقال: "أنا أجيرها على بني كنانة" فقال النعمان: "ما أريد إلا رجلا يجيرها على أهل نجد وتهامة" فقام عروة الرحّال أحد أشراف هوازن وكبرائهم فقال: "أكلب خليع يجيرها لك؟ أبيت اللعن، أنا أجيرها لك على أهل الشيح والقيصوم" يريد عامة العرب, فحقدها عليه البراض وقال: "أعلى بني كنانة تجيرها يا عروة؟ " قال: "نعم وعلى الناس كلهم" فحمي البراض إذ عدها استهانة به واستخفافا بقومه، وأضمرها في نفسه غدرة شنعاء. دفع النعمان اللطيمة إلى عروة فخرج بها, فتبعه البراض وعروة يرى مكانه ولا يخشى منه شيئا لأنه منيع بين قومه من غطفان، حتى إذا بلغوا "فدك" نزل عروة في أرض يقال لها: "أوارة" فشرب الخمر وغنته قينة ثم قام فنام. اغتنم الفرصة البراض، وانسلّ إليه في خبائه، فلما رآه عروة ناشده واعتذر إليه وقال: "كانت مني زلة" فلم يفد الاعتذار شيئا ولم يخفف مما يضطرم في صدر البراض من الحقد، فانقض على عروة فقتله وخرج يرتجز ويقول:
قد كانت الفعلة مني ضلة هلا على غيري جعلت الزلة فسوف أعلو بالحسام القلة ثم أنشد: وداهية يهال الناس منها ... شددت لها بني بكر ضلوعي قدمت بها بيوت بني كلاب ... وأرضعت الموالي بالضروع جمعت له يدي بنصل سيف ... فخرّ يميد كالجذع الصريع1 واستاق اللطيمة إلى خيبر، وبعث رسولا مستعجلا إلى حرب بن أمية يخبره أنه قتل عروة فليحذر قيسا2، فتبعه رجلان من غطفان يريدان قتله، فكان هو أول من لقيهما فعرف ما قصدا إليه فنوى التعجيل بهما فقال لهما: "من الرجلان؟ " قالا: "من غطفان وغني" قال البراض: "ما شأن غطفان وغني بهذه البلدة؟ " قالا: "ومن أنت؟ " قال: "من أهل خيبر" قالا: "ألك علم بالبراض؟ " قال: "دخل علينا طريدا خليعا فلم يئوه أحد بخيبر, ولا أدخله بيتا" قالا: "فأين
يكون؟ " قال: "فهل لكما به طاقة إن دللتكما عليه؟ " قالا: "نعم" قال: "فانزلا" فنزلا فعقلا راحلتيهما. قال البراض: "فأيكما أجرأ عليه وأمضى مقدما وأحدّ سيفا؟ " قال الغطفاني: "أنا" قال: "فانطلق أدلك عليه ويحفظ صاحبك راحلتيكما" ففعل. وانطلق البراض يمشي بين يدي الغطفاني حتى انتهى إلى خربة في جانب خيبر، خارجة عن البيوت فقال البراض: "هو في هذه الخربة وإليها يأوي, فأنظرني حتى أنظر: أثم هو أم لا؟ " فوقف له الرجل ودخل البراض ثم خرج إليه وقال: "هو نائم في البيت الأقصى خلف هذا الجدار عن يمينك إذا دخلت, فهل عندك سيف فيه صرامة؟ " قال: "نعم" قال: "أرني سيفك أنظر إليه أصارم هو؟ " فأعطاه إياه، فهزه البراض ثم ضربه به فقتله, ووضع السيف خلف الباب. وأقبل على الغنوي فقال: "ما وراءك؟ " قال البراض: "لم أر أجبن من صاحبك، تركته قائما في الباب الذي فيه الرجل -والرجل نائم- لا يتقدم إليه ولا يتأخر عنه" قال الغنوي: "يا لهفاه! لو كان أحد ينظر راحلتينا" قال البراض: "هما علي إن ذهبتا" فانطلق الغنوي والبراض خلفه حتى إذا جاوز الغنوي باب الخربة, أخذ البراض السيف من خلف الباب ثم ضربه به حتى قتله. وأخذ سلاحيهما
وراحلتيهما ثم انطلق. يوم نخلة: بلغ قريشا خبر البراض وقتله عروة, وفزعوا أن تعلم بذلك هوازن فتدهمهم وكانوا في عكاظ في الشهر الحرام, فخلصوا نجيا "واتفق رأيهم أن يخاطبوا عامر بن مالك سيد قيس بذلك, فأتوه وأخبروه فأجاز مالك بين الناس, وأعلم قومه ما قيل له, وأوشكوا أن يصطلحوا". لكن فريقا منهم خافوا أن يكون قومهم بمكة في ضيق, فانسلوا من عكاظ وهوازن لا تشعر بهم, وتوجهوا نحو مكة رجاء أن ينصروا إخوانهم إن كان حزبهم أمر. وكان من عادة العرب إذا وفدت على عكاظ أن تدفع أسلحتها إلى عبد الله بن جدعان، وكان هذا سيدا حكيما مثريا من المال، فتبقى عنده أسلحة الناس حتى يفرغوا من أسواقهم وحجهم فيردها عليهم إذا ظعنوا. فلما كان من أمر البراض ما كان, قال حرب بن أمية لابن جدعان: "احتبس قِبَلك سلاح هوازن" فقال عبد الله: "أبالغدر تأمرني يا حرب؟ فوالله لو أعلم أنه لا يبقى فيها سيف إلا ضربت به ولا رمح إلا طعنت به ما أمسكت منها شيئا. ولكن لكم مائة درع ومائة رمح ومائة سيف تستعينون بها" ثم صاح ابن جدعان
في الناس: "من كان له قِبَلي سلاح, فليأت وليأخذه" فأخذ الناس أسلحتهم. وبعث ابن جدعان وحرب بن أمية وهشام والوليد ابنا المغيرة إلى أبي براء سيد قيس: "إنه قد كان بعد خروجنا حرب, وقد خفنا تفاقم الأمر فلا تنكروا خروجنا" وساروا راجعين إلى مكة1. فلما كان آخر النهار بلغ أبا البراء قتل البراض عروة, فقال: "خدعني حرب وابن جدعان" وركب فيمن حضر عكاظ من هوازن في إثر القوم, فأدركوهم في نخلة قبيل الحرم, فناوشوهم شيئا من القتال يسيرا حتى جاء الليل ودخلت قريش الحرم فأمسكت هوازن عنهم ونادوهم: "يا معشر قريش! إنا نعاهد الله ألا نبطل دم عروة الرحال أبدا أو نقتل به عظيما منكم، وميعادنا وإياكم هذه الليالي من العام المقبل". ونادى رجل من بني عامر: لقد وعدنا قريشا وهي كارهة ... بأن تجيء إلى ضرب رعابيل2 فقال حرب بن أمية لأبي سفيان ابنه: قل لهم: "إن موعدكم قابل في هذا اليوم". وتعرف هذه الوقعة بيوم نخلة, وقد تعطلت السوق فلم تقم تلك
السنة, فقال خداش بن زهير يذكر قريشا بها ويعيرهم، وكانت العرب تسمي قريشا "سخينة" لأكلها السخينة, وهي طعام رقيق يتخذ من دقيق: يا شدة ما شددنا غير كاذبة ... على "سخينة" لولا الليل والحرم إذ يتقينا هشام بالوليد ولو ... أنا ثقفنا هشاما شالت الخدم لما رأوا خيلنا تزجي أوائلها ... آساد غيل حمى أشبالها الأجم ولوا شلالا وعظم الخيل لاحقة ... كما تخب إلى أعطانها النعم1 بين الأراك وبين المرج تبطحهم ... زرق الأسنة في أطرافها السهم فإن سمعتم بجيش سالك شرفا ... وبطن مر فأخفوا الجرس واكتتموا وهذا غاية في التعبير, وفي وصف شدة الحرب حتى صار الأخ يفتدي نفسه بأخيه. يوم شمظة: شمظة2 موضع في عكاظ نزلته كنانة بعد عام من يوم نخلة حسبما
اتعدوا هم وهوازن. فاحتشدت كنانة، قريشها وعبد منافها والأحابيش1 ومن لحق بهم، وسلّح يومئذ عبد الله بن جدعان مائة كمي بأداة كاملة سوى من سلّح من قومه. وعلى إحدى مجنبتي كنانة عبد الله بن جدعان، وعلى الثانية كريز بن ربيعة، وأمر الجميع إلى حرب بن أمية الذي كان في القلب. أما هوازن وأحلافها فأمرها إلى مسعود بن معتب الثقفي, واعتزل فريق من الحيين فلم يشهدوا الحرب. ثم تناهض الناس وزحف بعضهم إلى بعض، فكانت الدائرة أول النهار لكنانة على هوازن، حتى إذا كان آخر النهار تداعت هوازن وصابرت، فانقشعت كنانة واستحرّ القتل فيهم، فقتل منهم تحت رايتهم مائة رجل، ولم يقتل من قريش يومئذ أحد يذكر، وذلك قول خداش بن زهير: فأبلغ إن عرضت بنا هشاما ... وعبد الله أبلغ والوليدا أولئك إن يكن في الناس خير ... فإن لديهم حسبا وجودا
هم خير المعاشر من قريش ... وأوراهم إذا قدحت زنودا بأنا يوم "شمظة" قد أقمنا ... عمود الدين إن له عمودا فجاءوا عارضا بردا وجئنا ... كما أضرمت في الغاب الوقودا فعانقنا الكماة وعانقونا ... عراك النمر واجهت الأسودا ونادوا: يا لعمرو لا تفروا ... فقلنا: لا فرار ولا صدودا فولوا نضرب الهامات منهم ... بما انتهكوا المحارم والحدودا1 فلم أر مثلهم هزموا وقلوا ... ولا كذيادنا عنقا مذودا يوم العبلاء: عاد الأحياء المذكورون من هؤلاء وأولئك فالتقوا من قابل في اليوم الثالث من أيام عكاظ بالعبلاء إلى جنب عكاظ, فاقتتلوا على التعبئة التي تقدمت. فكان هذا اليوم أيضا لهوازن على قريش وكنانة, فأصيبت قريش وقتل أحد صناديدها العوام بن خويلد، والد الزبير بن العوام حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، قتله مرة بن معتب الثقفي، فقال في ذلك
رجل من ثقيف يفتخر بقتله؛ لما له من الخطر: منا الذي ترك العوام مجندلا ... تنتابه الطير لحما بين أحجار وفي هذا يقول شاعر هذه الحروب من هوازن, خداش بن زهير: ألم يبلغكم أنا جدعنا ... لدى العبلاء خندف بالقياد فقدتكم ولحظكم إلينا ... ببطن عكاظ كالإبل الغِداد1 ضربناهم ببطن عكاظ حتى ... تولوا طالعين من النجاد ويقول: ألم يبلغك ما لقيت قريش ... وحي بني كنانة إذ أبيروا دهمناهم بأرعن مكفهر ... فظل لنا بعقوتهم زئير2 يوم شرب 3: ثم التقوا على رأس الحول في اليوم الثالث من عكاظ أيضا بشرب، وشرب من عكاظ. ولم يكن بين الفريقين يوم أعظم منه، صدقوا
فيه الحملة، وصبروا حفاظا وحمية، وقد أبلت فيه قريش بلاء حسنا. وكان الذي أحماهم أن لهوازن عليهم يومين ذهبت بفخرهما, فحافظت قريش وكنانة وصابرت بنو مخزوم وبنو بكر، وقيّد ثلاثة شجعان من قريش وأشرافها أنفسهم وقالوا: "لا يبرح منا رجل مكانه حتى يموت أو نظفر" وهم: أبو سفيان وحرب ابنا أمية، وأبو سفيان بن حرب والد معاوية فسموا "العنابسة" من يومئذ. وكان على الفريقين رؤساؤهم السابقون، واستمر القتال بهذه الشدة حتى انهزمت هوازن وقيس كلها رغم عددها وعدتها، إلا بني نصر فإنهم صبروا مع ثقيف؛ وذلك لأن عكاظ بلدهم، لهم فيه نخل وأموال إلا أنهم لم يغنوا شيئا ثم انهزموا أيضا, وقتلت هوازن يومئذ قتلا ذريعا. وذهبت بفخر هذا اليوم كله كنانة وقريش، فارتفعت أصوات شعرائهم تخلد هذا النصر المؤزر، وما لها لا تفعل، وقد لقيت خزيا كبيرا من شعراء هوازن؟! وما شأن شاعر تفقده أمته يوم الحاجة؟! وأي غناء لشاعر لا قوم له؟! فقال أمية بن أسكر الكناني: ألا سائل هوازن يوم لاقوا ... فوارس من كنانة معلمينا لدى شرب وقد جاشوا وجشنا ... فأوعب في النفير بنو أبينا1
وقال: قومي اللذو بعكاظ طيّروا شررا ... من روس قومك ضربا بالمصاقيل1 وقال جذل الطعان: جاءت هوازن أرسالا وإخوتها ... بنو سليم فهابوا الموت وانصرفوا فاستُقبلوا بضراب فض جمعهم ... مثل الحريق فما عاجوا ولا عصفوا وقال عبد الله بن الزبعرى شاعر قريش "والمشركين فيما بعد": ألا لله قوم و ... لدت أخت بني سهم هشام وأبو عبد ... مناف مدره الخصم وذو الرمحين أشباك ... من القوة والحزم فهذان يذودان ... وذا من كثب يرمي2
يوم الحريرة: وهو آخر أيامهم. ثم التقوا على رأس الحول بالحريرة, وهي حرة إلى جنب عكاظ مما يلي مهب جنوبها، وعلى كل قوم رؤساؤهم
السابقون. فاقتتلوا قتالا شديدا كان شؤما على قريش وأحلافها، قتل فيه من كنانة ثمانية نفر، وقتل أبو سفيان بن أمية أخو حرب جد معاوية. وكان يوما لهوازن فخره ونصره. فلعلع صوت شاعر هوازن بهذه الصاعقة المجلجلة: إني من النفر المحمرّ أعينهم ... أهل السوام وأهل الصخر واللوب1 الطاعنين نحور الخيل مقبلة ... من كل سمراء لم تغلب، ومغلوب وقد بلوتم فأبلاكم بلاؤهم ... يوم الحريرة ضربا غير مكذوب لاقتهم منهم آساد ملحمة ... ليسوا بدارعة عوج العراقيب فالآن إن تقبلوا نأخذ نحوركم ... وإن تباهوا فإني غير مغلوب وقال الحارث بن كلدة الثقفي: تركت الفارس البذاخ منهم ... تمجّ عروقه علقا عبيطا دعت بنانه بالرمح حتى ... سمعت لمتنه فيه أطيطا لقد أرديت قومك يا صخر ... وقد جشمتهم أمرا شطيطا وكم أسلمت منكم من كمي ... جريحا قد سمعت له غطيطا2
ثم كان الرجل منهم بعد ذلك يلقى الرجل، والرجلان يلقيان الرجلين فيقتل بعضهم بعضا. فلقي ابن محمية بن عبد الله الديلي زهير بن ربيعة أبا خراش, فقال زهير: "إني حرام جئت معتمرا" فقال له: "ما تُلقَى طوال الدهر إلا قلت: أنا معتمر" ثم قتله. انقضت هذه الأيام الخمسة في أربع سنين, ثم تداعى الفريقان إلى السلم على أن يذروا الفضل في الدماء والأموال, ويتعاهدوا على الصلح. عقدوا على ذلك المواثيق وبقيت هذه الأحداث للذكرى والفخر، يتمجد كل شاعر قوم بما فعل قومه، ويتغنى بما كان لهم من محامد. وانظر إن شئت أن ترى آثار ذكرها في مثل قول عبد الله بن الزبعرى السهمي: وإن قصيا أهل عز ونجدة ... وأهل فعال لا يرام قديمها هم منعوا يومي عكاظ نساءنا ... كما منع الشول الهجان قرومها1 أو قول بعضهم: نحن كنا الملوك من آل نجد ... وحماة الذمار عند الذمار
ومنعنا "الحجون" من كل حي ... ومنعنا الفجار يوم الفجار وقول خداش بن زهير: فلا توعديني بالفجار فإنه ... أحل ببطحاء "الحجون" المخازيا1 أو قول عاتكة بنت عبد المطلب, تخلد نصر قومها في هذه المقطوعة الرائعة: سائل بنا في قومنا ... وليكف من شر سماعه قيسا وما جمعوا لنا ... في مجمع باقٍ شناعه فيه السنور والقنا ... والكبش ملتمع قناعه بعكاظ يعشي الناظريـ ... ـن -إذا هم لمحوا- شعاعه فيه قتلنا مالكا ... قسرا وأسلمه رعاعه ومجدلا غادرنه ... بالقاع تنهسه ضباعه هكذا كانت تجارة العراق في عكاظ وما يفيده من يجيرها من أرباح مادية ومعنوية هو وقبيلته، سببا مغريا في هذه الحروب. وأي بدع في هذا؟! فإنا ما نزال إلى اليوم نرى أكثر الحروب في حقيقتها تطاحنا على النفوذ الاقتصادي, وتكاد أحداث القرن العشرين كلها تكون حول التنافس التجاري إن لم يكن بصورة جلية, فمن وراء الستار.
حلف الفضول
د- حلف الفضول: ما نظر القرشيون إلى حلف ولا عهد نظرهم إلى حلف الفضول؛ فهو يظفر منهم برعاية مقدسة وتبجيل وشرف قلما كان بعضه لحلف آخر. هو حلف تجاري بمقدماته ونتائجه، حفظ سمعة قريش وصان ازدهار أسواق مكة، وأسدل عليها ستارا من الإنصاف والأمن وحماية الضعيف بعد أن كاد الأمن فيها يتعرض للخطر، وكادت حوادث الاعتداء على حقوق الضعفاء تزداد حتى أوشكت أن تزعزع ثقة الأعراب, وتجار النواحي بأسواق مكة. ولم تنحصر ثمرته فيما سبق الإسلام, بل استمرت فيه وازدادت تأييدا وقوة ومنعة، أثنى عليه صاحب الرسالة -صلى الله عليه وسلم- واعتزّ به. ولما هتف الهاتف به بعد نحو ثمانين سنة من عقده1 استجاب الناس له كأن عهدهم به أمس، فكان جديدا لم تخلق جدته تلك السنون الثمانون التي تمخضت عن أعظم الحوادث الكبار: ظهور الشريعة
الإسلامية، وفتوح العرب وانقراض فارس وانكماش الروم. أهاب الداعي بأصحابه "وقد مات أكثرهم" فهب أبناؤهم متحفزين لنصرته حتى خافت القوة الحاكمة وأذعن والي المدينة، ورُد الحق إلى صاحبه. ولقد بلغ من شرفه واقتعاده تلك المكانة في نفوس الناس أن استشرف خليفة عظيم كعبد الملك بن مروان ليعده الناس ممن دخل فيه، فلما لم يظفر بذلك ندّت منة حسرة غير خفية. كان يهبط مكة من همل الأعراب وسذاجهم، وضعفاء المتكسبين وأرباب السلع أخلاط كثيرة، وهم لا ناصر لهم يحميهم ولا منعة فيهم، يؤمون أسواق مكة موقنين بأن أمن الحرم يسعهم جميعا. فلم يكونوا يتوقعون أن أحدا تحدثه نفسه بتكدير صفائه, لكن الواقع انكشف عن أنه لم تكن مكة لتخلو من أناس بطرين، يستهينون بالضعيف ولا يعفّون عن هضمه وسلبه. وكان يحدث حينئذ ما يحدث دائما في كل زمان، من استغلال السذاجة في هؤلاء الغرباء: تارة بغبنهم في الثمن وتارة بمطلهم بالديون, وآونة بغشهم وأخرى بالاستهتار بهم. وكانت تنشر هذه الحوادث حتى تصل إلى أسماع أشراف مكة فينكروها في أنفسهم. إلا أنها -في الظاهر- تعددت حتى لم يعد يصح السكوت عليها، وحتى خشي على البلد أن يفشو له ذكر سيئ
فسعى الأشرف بعضهم إلى بعض, وعقدوا الحلف وأكّدوه ونصبوا أنفسهم لحمايته. أما السبب المباشر لعقد هذا الحلف, فما ذكروا1 من أن رجلا من زبيد من أهل اليمن باع سلعة من العاص بن وائل السهمي "وهو قرشي" فظلمه بالثمن, فأوفى على جبل أبي قبيس رافعا عقيرته وقريش في أنديتها، فذكر ظلامته في شعر له وهو: يا آل فهر لمظلوم بضاعته ... ببطن مكة نائي الدار والنفر ومحرم أشعث لم يقض عمرته ... يا للرجال وبين الحِجْر والحَجَر إن الحرام لمن تمت مكارمه ... ولا حرام لثوب الفاجر الغدر2 فتداعت لذلك قريش واجتمعت إليه بنو هاشم وزهرة وبنو أسد بن عبد العزى, فدخلوا دار عبد الله بن جدعان لشرفه وسنه, وتعاقدوا بالله: ليكونُن مع المظلوم حتى يؤدى إليه حقه. فلا يجدون بمكة مظلوما من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه, وكانوا على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته ا. هـ.
وزاد الجاحظ: "وفي التآسي في المعاش, والتساهم بالمال"1 وكان من أسرعهم تلبية له الزبير بن العوام2. شهد هذا الحلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو فتى, فلما أكرمه الله بالرسالة حمد أثره, وكان به جذلان مغتبطا حتى رووا عنه قوله: "لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أُدعى به في الإسلام لأجبت"، "لا يزيده الإسلام إلا شدة". وكان هذا الحلف منصرف قريش من حروب الفجار لعشرين سنة من عام الفيل, فتكون سن رسول الله حينئذ عشرين سنة3. وذكروا في سبب تسميته حلف الفضول، أنه أشبه حلفا وقع لثلاثة من جرهم, كل واحد منهم يقال له: الفضل. وأقرب من هذا
المذهب إلى الواقع ما ذكره صاحب القاموس من أن سبب تسميته بذلك؛ لأنهم تحالفوا ألا يتركوا عند أحد فضلا يظلمه أحدا إلا أخذوه له منه. وهذا هو الصحيح لوضوحه وقربه, ولأن ثمرة الحلف كله هي رد الفضول لأهلها. ومن يتدبر الأسباب التي تكلفها الرواة فجعلوها كمقدمات لعقده, ويمحصها يجد أن الداعي الأول له حرص قريش على سمعة بلدهم التجارية أن تثلم بين العرب, فتتزعزع ثقتهم بقريش وبلدهم. وليس يظفر من كل تلك الأسباب المذكورة بالقبول إلا ما تقدم, فإن الحوادث وحالة مكة وأمور قريش يومذاك تؤيده كل التأييد. ومن البعيد أن يعقد مثل هذا الحلف من أجل ظلامة الزبيدي هذا، من غير أن تتكرر الحوادث المشابهة لها حتى تفاقم الأمر, وألف رجال كثيرون إتيان المظالم. عظمت قريش أمر حلف الفضول واهتمت به كل الاهتمام, ولم ينقطع أمره بالإسلام بل ظل مستمرا أقوى ما كان قط, وحسبك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ولو أُدعى به في الإسلام لأجبت". ثم كان يدعو بهذا الحلف كل مظلوم: دافع أبي بن خلف الجمحي بارقيا عن ثمن سلعته, فتظلم هذا قائلا:
أيأخذني في بطن مكة ظالما ... أبي ولا قومي لدي ولا صحبي وناديت قومي صارخا لتجيبني ... وكم دون قومي من فياف ومن سهب ويأبى لكم حلف الفضول ظلامتي ... بني جمح والحق يؤخذ بالغصب1 فأخذ له بنو هاشم ثمن سلعته. ورأى نُبيه بن الحجاج "قتول" بنت التاجر الخثعمي وكانت حسناء باهرة، فكابر التاجر على ابنته حين رأى جمالها فتظلم إلى ذوي الحلف, فانتزعوا ابنته من نبيه الذي قال في ذلك: إنني والذي يحج له ... شمط إياد وهللوا تهليلا وخشيت الفضول حين أتوني ... قد أراني ولا أخاف الفضولا لبراء مني قتيلة يا للنا ... س هل يبتغون إلا القتولا2 وذكر الجاحظ أن بني هاشم وحلفاءهم انتزعوا الظلامات من رجال كثيرين, وأنه "لم يكن يظلم بمكة إلا رجال أقوياء, ولهم العدد
والعارضة"1. ويحلو لي هنا أن أبين للقارئ امتداد هذا الحلف التجاري في حياة المسلمين وتمسكهم به، فابن هشام يروي: أن الوليد بن عتبة بن أبي سفيان كان واليا على المدينة، ولّاه عليها عمه معاوية, وكان بين الوليد والحسين بن علي منازعة في مال كان بينهما بذي المروة, وكان الوليد تحامل على الحسين في حقه لسلطانه يومئذ، فقال الحسين: "أحلف بالله: لتنصفنّي من حقي أو لآخذن سيفي، ثم لأقومن في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم لأدعون بحلف الفضول ... " وكان عبد الله بن الزبير حاضرا مجلسهما هذا, فغضب للحسين وقال يتهدد الوليد: "وأنا أحلف بالله: لئن دعا به لآخذن سيفي, ثم لأقومن معه حتى ينصف من حقه أو نموت جميعا". وبلغ هذا الخبر المسور بن مخرمة بن نوفل, فقال مثل ما قال ابن الزبير، وبلغت عبد الرحمن بن عثمان بن عبد الله التيمي فقال مثل ذلك. فلما بلغ كل هذا الوليد بن عتبة خاف مغبتها, وأنصف الحسين من حقه2. فأنت ترى كيف كان القوم سراعا إلى تنفيذ هذا الحلف, وكيف
تهيئوا لنصرته وللاستجابة لمن دعا به وهو أثر غير قليل. وأي معاهدة تمضي فتبقى لها مثل هذه القوة بعد أكثر من سبعين سنة من عقدها! بل لقد تحمس لها الصحابة أشد التحمس وكان اندفاعهم لصيانتها أقوى مما تقدم. لقد تحفزوا للقيام بوجه خليفة ذي سلطان قاهر وكادت تكون فتنة لولا أن أذعن معاوية كما أذعن واليه ابن عتبة. ومن الخير أن أنقل لك صورة هذا الاندفاع؛ لتتعرف مدى بلوغها من قلوب القوم: جاء في شرح نهج البلاغة "3/ 464" ما يأتي: "كان بين الحسين ومعاوية كلام في أرض للحسين، فقال له الحسين: اختر مني واحدة من ثلاث خصال: إما أن تشتري مني حقي، وإما أن ترده عليّ، أو تجعل بيني وبينك ابن عمر وابن الزبير حكما، وإلا فالرابعة وهي الصَّيْلَم1. قال معاوية: وما هي؟ قال: "أهتف بحلف الفضول ... " ثم قام فخرج وهو مغضب، فمر بعبد الله بن الزبير فأخبره, فقال عبد الله: والله لئن هتفت به وأنا مضطجع لأقعدن، أو قاعد لأقومن، أو قائم لأمشين، أو ماشٍ لأسعين، ثم لتنفذنّ روحي مع روحك أو لينصفنّك ... ". فبلغت معاوية فقال: "لا حاجة لنا بالصيلم". ثم أرسل إليه:
"أن ابعث فانتقد مالك, فقد ابتعنا منك". ومما لا شك فيه أن موقف غير ابن الزبير لو استفحل الأمر سيكون مثل موقفه، ومعاوية أدهى من أن يؤلب عليه من لم ينفض يده بعد من تألفهم، ومن لا تزال السيوف التي حاربوه بها على عواتقهم، لمّا ينقض على إغمادها كبير زمن وما هي بحاجة لتشهر إلى كبير أمر ... وقد عرّض ابن الزبير بحلف الفضول مرة أخرى يهدد معاوية، فقد تحدثا عن الحسين بن علي, فقال ابن الزبير: "أما والله إني وإياه ليد عليك بحلف الفضول" فقال معاوية: "من أنت؟! لا أعرض لك وحلف الفضول ... والله ما كنت فيها إلا كالرهينة تثخن معنا, وتردى هزيلا"1. وانظر هذه الحسرة الخفية من يعسوب الأمويين عبد الملك بن مروان، على أن أمية لم تدخل الحلف، وتأمل كيف أراد بصورة غير مباشرة أحد سراة بني نوفل، على أن يتملقه فيشهد له بدخول أمية ونوفل فيها، وكيف لم يستطع هذا إلا أن يجهر له بالحق لقرب العهد بأصحاب الفضول، ولأن الذين يعرفونها ويعرفون عاقديها لم يموتوا بعد. قال ابن هشام:
"كان محمد بن جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف من أعلم قريش، فدخل على عبد الملك بن مروان حين قتل ابن الزبير، واجتمع الناس على عبد الملك، فلما دخل عليه قال له: "يا أبا سعيد, ألم نكن نحن وأنتم "يعني: بني عبد شمس بن عبد مناف, وبني نوفل بن عبد مناف" في حلف الفضول؟ " قال محمد: "أنت أعلم! ... " قال عبد الملك: "لتخبرني يا أبا سعيد بالحق من ذلك" فقال: "لا والله، لقد خرجنا نحن وأنتم منه" قال: "صدقت". كانت قريش إذًا ذات مشاكل تجارية, فقام لها هذا الحلف مقام المحاكم التجارية والقوة التنفيذية معا، فكان سلطانها مهيبا في النفوس، وكانت خير وازع لمن تحدثه نفسه بظلم وإن تمتع بالسلطان, وكانت أحسن ضامن لحقوق الضعفاء ممن عدموا المنعة والنصير.
الباب الثالث: أسواق العرب
الباب الثالث: أسواق العرب مدخل ... الباب الثالث أسواق العرب: أنشأ العرب -ومركزهم التجاري ما قدمنا- أسواقا لهم يتبايعون فيها. ولعل هذه الكلمة -كما ذكر ابن سيده- اشتقت من سَوْق الناس بضائعهم إليها، ولا يستدعي وجودها في اللغات السامية أن تكون كلمة السوق العربية مأخوذة منها، فلعل الواقع هو العكس. وليس من لزوم في هذا الاستقصاء المتكلف, ما دامت هذه الأخوات من أم واحدة. فمن هذه الأسواق ما كان يقتصر على ما يجاوره من القرى وما ينزل بساحه من القبائل كسوق هجر وحَجْر اليمامة والشحر وغيرها، ومنها ما كان عاما تفد إليه الناس من أطراف الجزيرة كلها كعكاظ. ولكل مدينة -بطبيعة الحال- أسواق, وإنما المقصود هنا الأسواق الموسمية منها، التي لها أيام معينة تقوم فيها ويؤمها الناس. فإذا كان لإحدى هذه الأسواق موقع جغرافي ذو بال، كأن تكون على ساحل البحر
مثل سوق عدن وصنعاء وعمان ... كان شأنها ممتازا من بقية الأسواق التي في قلب الجزيرة كحجر أو كحضرموت؛ لشيوع الاتجار فيها مع الجيران من هند وحبشة وفرس في الأولى، واقتصار الثانية على القبائل المتاخمة لها. فتتميز الأسواق التي على فُرَض البحر بوجود النزال الأجانب وتأثر أصحابها باختلاطهم بهؤلاء, وما يستتبع ذلك من تغيير في العادات والرقيّ والصبغة، فليس من المعقول أن تكون أحوال سوق صنعاء مثلا مشابهة كل المشابهة الأحوال التي لسوق هجر، أو التي لسوق الجند1 القديمة باليمن، أو سوق الجُرَيب وهي خاصة باليمن أيضا، يتسوقها في موعدها عشرة آلاف2, أو سوق وادي القرى, أو سوق "قُرْح"3 الذي هلك فيه قوم عاد فيما يزعمون.
كان يلي أمر الناس, والنظر في شئونهم التجارية في بعض هذه الأسواق أمراء يعشرون الناس كأكيدر في دومة الجندل والمنذر بن ساوى في سوق حَجْر، وهناك رؤساء يهبطون الأسواق لجمع الإتاوة وأشراف يتوافون بتلك السوق التي هي في الغالب تحت سيطرة أمير من الأمراء؛ ليستوفوا نصيبهم من الربح الذي جعله لهم ذلك الأمير ... بل إن بعض الأسواق كانت تقع إلى سلطان دولة أجنبية كسوق المشقَّر الذي تحكم كسرى بأهله وتجارته، وسيأتي تفصيل ذلك عند الكلام على الأسواق سوقا فسوقا. أما عروض التجارة التي كانت تُحمل إلى الأسواق, فأكثرها لا يتعدى التمر والزبيب والزيت والسمن والأدم والورس والغالية والبرود, وبعض ضروب الحيوان كالمواشي والأنعام والخيل حتى القرود أحيانا. وكانت هجر أشهر البلدان بتمرها، وعمان يحمل إليها الورس ويعالج فيها. وكانت لطائم النعمان تسير إلى عكاظ، ولطائم كسرى إلى المشقر، تأتي كل سنة فتباع ويشترى بأثمانها الأدم والتمر. وكان يقوم بحمايتها عرب الحيرة ما دامت في مناطق نفوذهم، فإذا فصلت نحو عكاظ كان لا بد لها من حامٍ منيع الجانب, عزيز القبيلة ليجيزها على عامة
القبائل, وقد استفاد العرب من هذه الحماية فوائد مادية جلّى. تلك الأسواق في الجزيرة, وما إليها كانت تلبية لضرورات محلية اقتضتها معيشة العرب وطبيعة توزعهم في أرضيهم، وليست شيئا مجلوبا حاكوا به غيرهم كما يتكلف بعض المتعرضين لهذا البحث1. حملت هذه الحركة التجارية كثيرا من ألوان الترف إلى العرب وكان لا عهد لهم بمثلها، فتغالى أشرافهم بالثياب والبرود والسلاح والطيب, بل إن الرواة ليذكرون أن خمرا حملت من بصرى وغزة من بلاد الشام إلى سوق مجنة قرب مكة. ويظهر أن العرب اعتادت استجادة الخمر والافتنان بشربها واستطابتها من معادنها المشهورة كالبلدتين المذكورتين وأذرعات وأندرين وغيرها، شاع ذلك في الرجال والنساء. وسيمر بك عند الكلام على عكاظ أن امرأة أرسلها زوجها إلى عكاظ بسمن ومعها راحلتان, فشربت الخمر بثمن السمن فاستطابتها ثم باعت راحلتيها, فشربت بثمنهما, ثم رهنت ابن الرجل وشربت أيضا2.
ونحن نعلم أن كثيرا من الشعراء والفتيان كانوا يتمدحون بالإنفاق على الخمر والتردد على أصحاب الحوانيت والجلوس إليهم، واذكر إن شئت أبيات عنترة: ولقد شربت من المدامة بعدما ... ركد الهواجر بالمشوف المعلم
بزجاجة صفراء ذات أسرة ... قرنت بأزهر في الشمال مفدَّم فإذا شربت فإنني مستهلك ... مالي وعرضي وافر لم يكلم ... 1 أو قول الأعشى: "وقد غدوت إلى الحانوت يتبعني ... إلخ". والظاهر أن حب الخمرة تغلغل في نفوس عامة العرب وغمرت بحوانيتها أسواقهم, وعكفوا عليها حتى ما يستطيعون لها تركا. وإن الأعشى الشاعر هذا، أراد أن يقصد النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة فيسلم، وأشفق مشركو مكة من هذا السلاح أن ينضم للإسلام فصدوه عن وجهه ذاك، وكان أقوى عامل في رده ما أخبروه من أن الإسلام يحرم الخمرة، ولم يكن بالشاعر قدرة على تركها فصرفه ذلك عن قصده وقفل راجعا، فأدركته المنية ولم يكتب له الإيمان2. وخير ما نستدل به على استفاضتها في أسواقهم, وإدمانهم لها أن الأخباريين يعدون في الجاهلية
كلها أشخاصا لا يبلغون العشرين حرّموا على أنفسهم الخمر1, فتميزوا
بهذا الوصف من سائر العرب، ولم يكن لتميزهم هذا من قيمة لولا فشوّها في قبائل العرب فشوّا قويا جعلها في حكم الضرورة التي لا مندوحة عنها. يغشى هذه الأسواق عامة العرب؛ لما تقدم من أن شغل أكثرهم التجارة, ومن لم يتاجر قصدها للكسب والشراء حتى صار غشيان السوق والمشي فيها، هما والاتجار ألفاظ مترادفة، ففي البخاري: "استأذن أبو موسى على عمر فلم يؤذن له فرجع، ففرغ عمر فقال: "ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس؟ ائذنوا له" قيل: "قد
رجع". فدعاه فقال "أبو موسى": "كنا نؤمر بذلك". فقال عمر: "تأتيني على ذلك بالبينة". فانطلق "أبو موسى" إلى مجلس الأنصار فسألهم فشهد أبو سعيد الخدري، فقال عمر: "أخفي هذا علي من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ألهاني الصفق في الأسواق؟! " يعني: الخروج إلى التجارة1. وكان في جملة ما احتج به المشركون على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قولهم: " ... فإذا لم تفعل هذا لنا فخذ لنفسك, سل ربك ... فليجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة يغنيك عما نراك تبتغي، فإنك تقوم بالأسواق كما نقوم، وتلتمس المعاش كما نلتمس ... إلخ"2. وحكى الله عنهم قولهم هذا فقال: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ} 3 وقال في المرسلين: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ ... } 4, فكنى بالمشي في الأسواق عن التجارة، ووُصف صلى الله عليه وسلم بأنه ليس بفظّ ولا غليظ ولا سخّاب في الأسواق5. ولأن العرب لا تحتشد لشيء
احتشادها في هذه الأسواق، كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقصدها أول دعوته, ويعرض نفسه على القبائل في هذه المواسم. كان أعظم ما يحدو العرب في الجاهلية على قصد تلك الأسواق ما قدمت لك من قيام كثير منها في الأشهر الحرم, ولشيوع الأمن حرمة للشهر، ولأن مواسم بعض الأسواق كعكاظ ومجنة وذي المجاز تقع في أيام حجهم وهي أعمر أسواق العرب بمختلف القبائل يأتونها من كل أوب ومعهم خيرات بلادهم, وتلك ميزة لا تتمتع بها بلدة غير مكة ولا قوم غير قريش، وقد امتن الله عليهم بذلك فقال: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} 1. وقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} 2. وافقت هذه المواسم زمن الحج3, واختلط أمرها بشعائره "فمنى
وعرفة وعكاظ ومجنة وذو المجاز مواعيدها مواسم الحج" فإذا انفضّوا من ذي المجاز تروّوا من الماء ونادى بعضهم بعضا: "ترووا من الماء"؛ لأنه لا ماء بعرفة يومئذ ولا بالمزدلفة، ولهذا سمي اليوم الثامن من ذي
الحجة بيوم التروية. وكانوا في الجاهلية لا يتبايعون في منى ولا في عرفة، يخصون هذين المكانين بالحج الخالص، لا يخلطونه ببيع ولا شراء؛ فلما جاء الإسلام فكأنهم تأثّموا أن يتجروا في المواسم, فأنزل الله تعالى قوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} 1. وزاد ابن عباس في قراءته: "في مواسم الحج" والفضل هو الرزق والكسب والاتجار، وكذلك كان يتلوها أبي تلاوة2. والغريب أن هذه الأسواق، كما يقصدها طالب الربح والشراء،
يقصدها طالب الأمن والفداء، فكم أوى إليها من خائف يطلب من يجيره فيجده ويلجأ إليه ويأمن, وكم من رجل حمل معه فداء أسيره ففكه من آسره, وكم من سادات تحملوا ديات ودماء فكانوا سبب الصلح بين قبيلين كبيرين، بل إنا لنسمع فيها منادين ينادون ذوي الحاجات لتقضى حاجاتهم، كما نرى فيها أمراء ورسل ملوك يقصدونها لأخذ ما لهم على بعض القبائل من إتاوات وغرامات كل سنة, فموعدهم بها أيام المواسم. وإذ إن أكثر هذه الأسواق حولية تقوم أياما معلومات في كل عام، كان من المعقول أن تكون ميدانا لغير البيع والشراء، كان فيها تناشد أشعار، وكان فيها تفاخر وتكاثر، وتنافر ومقارعة ومعاظمة ... فيفوز في هذا أقوام ويخسر آخرون، وتحتفل العرب لها الاحتفال اللائق بها. وكان لهم حكام معلومون يفضّون المشاكل بين القبائل1، ولهم محكِّمون يحتكم إليهم الناس في مفاخراتهم وأشعارهم، كما لهم في هذه الأسواق خطباء.
يغشى الناس الأسواق إذًا لمآرب شتى، وغايات متباينة؛ فمن طالب قاتل أبيه يريد ليعرفه حتى يتربص به السوء فيما بعد، ومن ملتمس حماية شريف من عدو ألد، ومن باغٍ زوجا، أو مستطيل بعز ومنعة، أو جالس ليأتيه أتباعه بإتاوة، ومن عارض سلَب قتيل ليبيعه فيظفر به أهل القتيل، ومن فرسان يتقنعون، بعضهم حذرا من غدر أهل التارات، وآخرون يردون مقنعين خوفا من العين وحذرا على أنفسهم من النساء لجمالهم1، ومن بغايا ضرب عليهن القباب، وشبان يتعرضون للمتبرقعات من النساء ... إلى آخر ما هناك مما سيمر بك مفصلا, وخاصة عند الكلام على عكاظ. ولا يقل شأنًا عن النشاط التجاري في أسواقنا تلك، أثر هذا الاختلاط في اللغة والدين والعادات، فإن قيام قريش عليها الأعوام الطويلة قبل البعثة، مكّنها من أن تتبوّأ في اللغة المكان الأعلى؛ لأن لغات القبائل عامة يمنيها وعمانيها وشاميها وعراقيها ونجديها وتهاميها, تطرق مسامعها على الدوام فتختار منها ما يحسن، وتنفي ما يقبح. وقامت على هذا الاصطفاء زمنا كافيا حتى خلصت لها هذه اللغة الممتازة،
وتهيأت لينزل بها القرآن الكريم على أفصح وجه, وأبلغه وأتمه كمالا وسلاسة وجمالا. وكان الشعراء الذين ينظمون لينشدوا بعكاظ، يتوخون اللغة المجمع على فصاحتها، والتي صار لها من النفوذ والشيوع ما للغات العامة اليوم، فكأن لهجة قريش هي اللهجة الرسمية بين لهجات الجزيرة كلها, حتى اليمن والحيرة وغسان1. أما العادات فما أمرها بالذي يحتاج إلى شرح وتبيين، فإن كل اختلاط بين فريقين لا بد أن ينتهي بأثر في كل منهما؛ فاليمني يقبس شيئا من أخلاق الحجازي، والنجدي يحمل ألوانا من عادات العماني أو الحيري ... وهلم جرا. وكذلك قل في الدين، بل إن أثر هذا الاختلاط في الدين أبلغ؛ لقيام الجميع بمناسك واحدة يؤمهم فيها قريش أهل الحرم2.
فأعظم آثار الأسواق قبل البعثة هو هذا التوحيد الذي جرى بين القبائل العربية من عامة الأقطار. وأريد أن أنبه بصورة خاصة إلى التوحيد اللغوي، الذي كان للشعراء والحكام فيه على مدى سنين متطاولة أبلغ الأثر، في انتقاء الألفاظ والأساليب وشيوعها بوساطة الرواة في القبائل. وإذا شئت أن أختصر ذلك كله بكلمة واحدة قلت: إن نهضة الشعر مدينة للأسواق، بل مدينة لعكاظ خاصة. عرف لها هذا الأمر منذ الجاهلية وحتى اليوم. فلما كان الإسلام ضعُف الشعر، وانصرف العرب إلى الفتوح، واشتغلوا بالقرآن والسنة وفهم أحكام الشريعة، فضؤل أمر عكاظ وخمل ذكرها، وانقضى عصر الفتوح وليس لعكاظ عُشر شأنها
الأول ... حتى إذا أُنشئ المربد استمر أمر عكاظ على التناقص، وأخذ مربد البصرة يحل مكانها ويتمم رسالتها في الأدب والشعر، بل زاد عليها بما استجدّ الإسلام وحالة العرب الاجتماعية المتحضرة، من صنوف في الأدب وألوان في المعاش والاجتماع. وأصبح المربد مرتادا لعلوم الأدب والنحو واللغة والأخبار والنوادر و ... يأخذون عن أعرابه الذين لم تخالطهم لوثة العجمة، ما يجعلون منه مادة علمهم وينبوع ثقافتهم. ولما رسخت قدم المسلمين في المدينة، وتمت لهم المدن الكبرى والعواصم العظيمة المتناهية في الحضارة، أفل نجم هذه الأسواق إذ لم يعد لها من داعٍ, وكانت لم تزل قائمة في الإسلام وعاشت ما يزيد على مائتي سنة. فعكاظ التي أنشئت قبل الهجرة بأكثر من سبعين عاما, أهملت سنة 129 للهجرة، وآخر ما انقرض من الأسواق سوق حباشة؛ تركت عام 197 للهجرة. وقد آن لنا بعد هذه المقدمة أن نعرض لك معلومات عن أشهر الأسواق في الجاهلية والإسلام، متوسعين ما أمكننا التوسع في الكلام على عكاظ في الجاهلية وعلى المربد في الإسلام؛ إذ هما أعظم سوقين قامتا للعرب. في الأولى ترى أحوال الجاهلية من عامة نواحيها؛
في بيعها وشرائها ودينها واجتماعها وسياستها وحربها وسلمها، وفخرها وأدبها ولغتها وشعرها وعاداتها. وقد حرصت على أن أحافظ على عبارة كبار المؤلفين الذين استقيت هذه المعلومات من كتبهم كالأصفهاني والطبري وابن عبد ربه وابن سعد وابن هشام ... إلا ما رأيت أن الحاجة تضطرني فيه إلى شيء من التعديل يسير, وفي الثانية ترى كذلك أحوال العرب في الإسلام بالتفصيل المتقدم. واعلم أن حوادث المربد التي سأعرضها عليك يختلف زمن وقوعها بين سنة ست وثلاثين للهجرة وأواخر القرن الثاني الهجري. لسنا نجد اتفاقا بين قدامى المؤلفين في عدد هذه الأسواق ولا في تحديد أزمنتها؛ فبينا نرى القلقشندي "في صبح الأعشى" يعدها ثمانيا "1/ 410" نرى اليعقوبي في تاريخه "1/ 313، 314" والبغدادي في خزانته "4/ 360 السلفية" يعدانها عشرا، ثم يختلفان عليها فيذكر كل منهما بعضا ويترك بعضا. وجعلها التوحيدي في "الإمتاع والمؤانسة 1/ 85" إحدى عشرة، بينا نراها عند المرزوقي تبلغ سبع عشرة سوقا "الأزمنة والأمكنة", ثم يأتي الألوسي فيذكر منها في بلوغ الأرب أربع عشرة. وأقدم المؤلفين وهو محمد بن حبيب, المتوفى سنة 268هـ صاحب
كتاب "المحبَّر" عدّ منها اثنتي عشرة1. أما الهمداني فنحن معه في حيرة؛ لأنه يقول في كتابه صفة جزيرة العرب "ص179": أسواق العرب القديمة وقد ذكرناها: عدن, مكة، الجند، نجران، ذو المجاز، عكاظ، بدر، مجنة، منى، حجر اليمامة، هجر البحرين، الروض، روضة دعمي، روضة الأجداد ... إلخ, ثم يسرد أعلاما تبلغ الخمسين. فطالعت الكتاب المطبوع كله, فلم أجد للأسواق التي قال: إنه ذكرها, ذكرا أبدا. ولما رجعت إلى ياقوت في كثير من هذه الأعلام لم أجد لها ذكرا البتة. فأيقنت في نفسي أن في هذه الطبعة تشويشا, فإن عده الأسواق ينتهي في السطر الثاني عند قوله "هجر البحرين" ثم يستأنف كلاما
جديدا عن الرياض بادئا بروضة دعمي, ثم ينتقل خلاله إلى المياه، وجميع هذه في الكتاب المطبوع ذكرت تحت عنوان "أسواق العرب", وكان على الناشر "المستشرق الأوروبي" أن يتنبه إلى تغير البحث فيفرد كل بحث تحت عنوان خاص, ولا يحشرها جميعا في جريدة الأسواق. وسنذكر لك في هذا الكتاب الأسواق المهمة التي ترحل إليها العرب, حاذفين منها ما لا خطر له, وقد بلغنا بها العشرين سوقا. نستطيع أن نقسم هذه الأسواق أقساما ثلاثة: 1- أسواق خاضعة لنفوذ أجنبي تدار بنظم خاصة, وتتضاءل فيها الصبغة العربية كما نرى في الحيرة وهجر البحرين وعمان وغيرها من المواطن التي ترين عليها السيطرة الفارسية، وكما نرى في بصرى وأذرعات وغزة وأيلة وغيرها مما يدار بالإدارة الرومانية. والذي ينظر في هذه الأسواق عمال عرب يعينهم ولاة الفرس وولاة الرومان, وهؤلاء العمال الذين يتولون السوق هم الذين إليهم أعشار أهلها. 2- أسواق أنشأها العرب أنفسهم بحكم الحاجة, فصارت مع الزمن تمثلهم أصدق تمثيل في عاداتهم في البيع والشراء والخصام والدين والزواج والحقوق ... ولا يشرف عليها إلا سراة أهلها. وهي مرآة العرب في الجاهلية, وبها نستطيع أن نعرف ما كان عليه العرب تقريبا في
معاملتهم وعلائقهم بعضهم ببعض, وهي في أماكن لا أثر للنفوذ الأجنبي عليها، ونمثل لهذا القسم بعكاظ. ولا عاشر في هذا القسم فهو منطقة حرة، والعرب يتبايعون فيه ببيوع خاصة بهم. 3- أسواق ذات صبغة مختلطة؛ نظرا لموقعها الجغرافي, وهي التي تكون على البحر كعدن وصحار ودبى ... وفي هذه يجتمع تجار الحبشة والهند والصين وفارس, ويضؤل فيها الطابع القومي بمقدار ما يقوى شأنها التجاري. ومن الواجب أن ننبه هنا إلى أن أسواقا كثيرة كانت ولم يذكرها المؤلفون؛ لأنهم اقتصروا على الأسواق الموسمية التي تكون من العام إلى قابل, والتي تقصد من بعيد؛ إذ من البديهي أن كل بلدة لها سوق ولها متاع أو محصول تختص به. ومن القريب جدا أن يكون لكل قبيلة أو قبائل متجاورة سوق محلية1 تقوم في وقت معين، فكثيرا ما نجد حول كل ماء سوقا صغيرة يقيمها الضاربون حوله كما نجد مثل
ذلك في المحطات الصغرى التي تكون بين البلد والبلد, وكما نجد أيضا في كل مكان يسميه العرب روضة. وإنما عُني العلماء بالأسواق الكبرى العامة ولم يأبهوا لتلك الأسواق الضئيلة, بل إنهم أهملوا أسواقا كبرى تكون في المدن؛ لأنها لا يرحل إليها إلا القليل منهم من صاحب حاجة, أو غرض خاص. فنجدهم أغفلوا مثلا ذكر "دارين" وهي فرضة بالبحرين, بها سوق يحمل المسك من الهند إليها. واشتهرت هذه شهرة فائقة بتجارة العطر حتى صار معنى الداري "نسبة إلى دارين" هو العطار نفسه، وحتى جاء في الحديث: $"مثل الجليس الصالح مثل الداري، إن لم يحذك "يعطك" من عطره علقك من ريحه" قالوا: "الداري: العطار". وقال الشاعر: فلما اجتمعنا في العلالي بيننا ... ذكي أتى من أهل دارين تاجره وهناك أمتعة اشتهرت بتجويدها قرى مخصوصة كردينة, وهي قرية على شط البحر في المشرق تنسب إليها الرماح, فيقال: الردينيات للرماح المصنوعة هناك, كما يقال للرماح المصنوعة في الخط بالبحرين: "الخطية". فلا شك أن مثل هذه الأماكن المشهورة يقصدها تجار هذا الصنف أو الراغبون فيه، وتقوم له شبه أسواق دائمة إلا أنها غير عامة
وهي قاصرة على ضرب واحد فقط؛ فلهذا لم يعبأ بها المؤلفون. ثم نجدهم أغفلوا مواضع مهمة تقوم فيها أسواق ربما لا تقل شأنا عن التي أفردوها بالذكر، كالطائف وكأسواق العراق وكالسوق التي يقيمها النبط في المدينة أحيانا. فإنا نعلم أن الطائف مدينة قديمة جاهلية وهي "بلد الدباغ يدبغ بها الأهب الطائفية المعروكة" ولأهلها زراعة وتجارة وغنى، وربما قاربوا قريشا في شأنها التجاري. أما العراق فالظاهر أن للعرب فيها أسواقا1 يرحلون إليها كما يرحلون إلى التي في الشام, وخصوصا الحيرة, فإن شهرتها في تاريخ العرب وأدبهم تنم عن مكانتها التجارية. ولقريش رحلات إلى سوق الحيرة وفيها تعلموا الكتابة ومنها انتشرت في العرب. وصاحبها النعمان يجهز سنويا لطائمه إلى عكاظ وإلى اليمن. حتى إنا لنجد في بعض النصوص ما يدل على أن ضرائب منظمة تستوفى في أسواق العراق مما يباع, قال الشاعر:
أفي كل أسواق العراق إتاوة ... وفي كل ما باع امرؤ مكس درهم قال صاحب المخصص1: "المكس: انتقاص الثمن في البياعة, ومنه أخذت المماكسة لأنه يستنقصه". وقيل: "المكس: دراهم كانت تؤخذ من بائع السلع في أسواق الجاهلية, ويقال للعشار: صاحب المكس". ا. هـ. أهملوا كل هذا, كما أهملوا أسواقا ثانوية تقام في نجران وبدر ومنى وأمثالها كثير؛ لما قدمنا من فقدان الصبغة العامة فيها. وهذه جرائد بأسماء الأسواق وترتيبها عند كل من المؤلفين الثمانية الذين أشرت إليهم آنفا2, وكلها تبدأ بسوق دومة الجندل في ربيع الأول، مع ذكر مواقيتها إن كان لها مواقيت وذكر عاشرها الذي يجبي الضرائب فيها إن كان لها عاشر.
3- صفة جزيرة العرب للهمداني, المتوفى سنة 334هـ: السوق الزمن العاشر 1- عدن 2- مكة 3- الجَنَد 4- نجران 5- ذو المجاز 6- عكاظ 7- بدر 8- مجنة 9- منى 10- حجر اليمامة 11- هجر البحرين
فهذه ست وعشرون سوقا، فإذا حذفنا منها خمسا انفرد بها الهمداني وهي: بدر والجَنَد ومكة ومنى ونجران، واثنتين انفرد بإحداهما المرزوقي وهي الأسقى والثانية شاركه فيها التوحيدي وهي سوق أدم، وأضفنا لها سوقا مهمة أغفلها كلهم وهي سوق الحيرة, وأضفنا كذلك السوق التي أنشئت في الإسلام وهي المربد، بقي لنا إحدى وعشرون سوقا سنتعرض لها جميعا بما تقتضيه مكانتها. أما الأسواق الضئيلة الشأن فهي صورة مختصرة عما سنتحدث عنه، وأما الخطيرة كمكة والمدينة فهي دائمية وليست بموسمية، وفي ذكر الأسواق المتاخمة لها غنى عن التعرض لها. هذا, ولعل السبب في اختلافهم في تاريخ قيام الأسواق أن العرب لم يكونوا يلتزمون كل سنة يوما معينا لإقامة السوق ويوما لتقويضها، بل يتقدم هذا اليوم في بعض السنين ويتأخر في بعض, وقد يهرع أقوام إلى السوق قبيل ميعادها وقد يتخلف آخرون بعد انقضائها إذا لم تنته أعمالهم, وقد تختلف العادة سنة عن سنة، فمن هنا كان هذا التفاوت اليسير. ثم قد نصّ محمد بن حبيب صاحب المحبر, وهو أقدم المؤلفين وأدقهم وأنا إلى أرقامه أكثر اطمئنانا، نصّ على أن سوقين تقومان في زمن واحد, وهما سوق الرابية بحضرموت وسوق عكاظ، فيأخذ بعض العرب إلى الأولى وبعض آخر إلى الثانية1.
في الجاهلية
في الجاهلية: سوق دُومة الجندل: دُومة الجندل, ويقال "دُوماء الجندل" كلاهما بالضم1: بلد يقع في نقطة متوسطة بين الشام والخليج الفارسي والمدينة، على منتصف الخط الواصل بين العقبة والبصرة تقريبا. بينها وبين دمشق خمس ليالٍ وبينها وبين المدينة خمس عشرة ليلة؛ لعدم استقامة الطريق بينهما. وهي في غائط من الأرض طوله خمسة فراسخ وفيها حصن "مارد" المشهور، وإلى غربها عين تثج فتسقي ما به من النخل والزرع، وكانت خربة. وروى ابن سعد نقلا عن بعض أهل الحيرة في سبب بنائها: "أن أكيدر صاحبها وإخوته كانوا ينزلون دومة الحيرة، وكانوا يزورون أخوالهم من كلب فيتغربون عندهم، فإنهم لمعهم وقد خرجوا للصيد إذ رفعت لهم مدينة متهدمة لم يبق إلا بعض حيطانها وكانت مبنية بالجندل، فأعادوا بناءها وغرسوا فيها الزيتون وغيره وسموها
دومة الجندل؛ تفرقة بينها وبين دومة الحيرة"1. وقال ياقوت: "كان فيها قديما حصن مارد، وسميت دومة الجندل لأن حصنها مبني بالجندل, وقريب منها جبلا طيء, وكانت بهذا الحصن بنو كنانة من كلب". وكان أكيدر يبعث بمن يتعرّض قوافل التجارة الذاهبة بين المدينة والشام, ويظلم من يمر بهم من الضافطة "الذين يجلبون الميرة والطعام" ثم قوي شرهم حتى شاع أن في عزمهم الدنوّ من المدينة, وكان ذلك في السنة الخامسة للهجرة، فندب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الناس، واستخلف على المدينة، وخرج في ألف من المسلمين يسير الليل ويكمن النهار, ومعه دليل من بني عذرة حتى بلغوا دومة الجندل، فتفرقوا وألقي الرعب في قلوبهم، وأخذ من نعمهم وشائهم ورجع ولم يلق كيدا. والظاهر أن شرهم لم ينقطع عن تجار المدينة, حتى اضطر الرسول إلى أن يرسل إليهم سرية عليها عبد الرحمن بن عوف، وأوصاه حين دفع إليه اللواء بقوله: "خذه 2 يابن عوف فاغزوا جميعا في سبيل الله فقاتلوا من كفر بالله، لا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا، فهذا عهد الله وسيرة نبيه فيكم". وقال له: "إن استجابوا لك فتزوج بنت ملكهم".
سار عبد الرحمن حتى بلغ دومة الجندل فدعا أهلها إلى الإسلام, فأسلم رئيسهم الأصبغ بن عمرو الكلبي وأسلم معه ناس كثير من قومه, وتزوج عبد الرحمن ابنته "تماضر" وبقي على الجزية هو ومن معه. إلا أن أكيدر صاحب دومة وعاملها لهرقل بقي على تعرضه للسابلة من تجار المدينة، ولعل لمكانة سوق دومة الجندل وكثرة التجار بها وعدم تعريج أحد من المدينة عليها دخلا في هذا التعرض الذي لا يبعد أن يكون للمنافسة التجارية أثر فيه غير قليل. وأراد الرسول إقرار الأمن في تلك الربوع, فدعا خالد بن الوليد وبعثه على رأس سرية إلى أكيدر هذا، فلما بلغ الركب ضاحية دومة الجندل وجدوا صاحبها في نفر من قومه يتصيدون, فأسروا أكيدر وقتلوا أخاه ورجعوا إلى المدينة بأسيرهم، فحقن له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دمه وصالحه على الجزية ثم خلى سبيله ورجع إلى بلده, وقد كتب له رسول الله ولأهل دومة هذا الكتاب: "بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من محمد رسول الله لأكيدر ولأهل دومة الجندل: إن لنا الضاحية من الضحل والبور والمعامي وأغفال الأرض والحلقة والسلاح والحافر والحصن، ولكم الضامنة من النخل والمعين من المعمور، ولا تعدل سارحتكم ولا
تعد فاردتكم ولا يحظر عليكم النبات، تقيمون الصلاة لوقتها وتؤتون الزكاة بحقها، عليكم بذلك عهد الله والميثاق، ولكم به الصدق والوفاء, شهد الله ومن حضر من المسلمين"1. وهذا الصلح تجاري بنتيجته لما ضمن من منافع للمسلمين، كما هو تجاري بسببه أيضا إذ لولا تعرض أهل دومة لمن يجتاز بقربهم من التجار ما اضطر الرسول إلى إرسال سراياه لتأمين الطريق وتأديب أهل العبث والفساد. وبقي القوم على صلحهم, حتى كانت سنة اثنتي عشرة للهجرة ففتحها
خالد عنوة في خلافة الصديق, وظفر العرب بأكيدر خارج دومة فأمر خالد بقتله1. وكان صاحب صلحهم أكيدر ذا شهرة في قبائل العرب توازي شهرة حصنه دومة الجندل وشهرة حصن المشقر. والعرب تنظر إلى أصحاب الحصون نظرة إعظام وإعجاب بقوتهم، ولما ذكر لبيد فعل بنات الدهر لم يعظ قومه إلا بأصحاب الحصون, فكان أكيدر دومة هذا أحد من ضربهم مثلا فقال: وأعصفن بالدومي من رأس حصنه ... وأنزلن بالأسباب رب المشقر يعني: بالدومي أكيدر، وذكر دومة الجندل يشغل صفحات غير قليلة من تاريخ المسلمين؛ لأنه فيها التقى الحكمان عمرو بن العاص وأبو موسى الأشعري, وكان منهما ما هو معروف. تنزل قبائل العرب في الجاهلية هذه السوق في أول يوم من ربيع الأول للبيع والشراء, وكان بيعهم فيها بيع الحصاة "وقد تقدم في الكلام على بيوع الجاهلية". ويجاور هذه السوق من قبائل العرب قبيلتا كلب وجديلة طيء. وكانت كلب أكثر العرب قنا, فكانوا يفتحون في هذه السوق حوانيت
من شعر يجعلون فيها عبيدهم وإماءهم. وكانوا -على عادة بعض العرب- يُكرهون فيها فتياتهم على البغاء ويأخذون لأنفسهم كسب أولئك البغايا من إمائهم. فلما كان الإسلام وحرم الله هذه العادة القبيحة بقوله تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} 1 تنزه العرب عن هذه التجارة التي كانوا عليها في الجاهلية, وتجاوز الله عما كان منهم قبل الإسلام. يشرف على هذا الموسم أمراء من العرب, وكان رؤساء السوق غالبا إما من كلب وإما من غسان، أي الحيين غلب خضع له الآخر، وكان مكس هذه السوق لمن يشرف عليها. قال الألوسي: "كان أكيدر صاحب دومة الجندل يرعى الناس, ويقوم بأمرهم أول يوم فتقوم سوقهم إلى نصف الشهر. وربما غلب على السوق بنو كلب فيعشرهم, ويتولى أمرهم يومئذ بعض رؤساء بني كلب فتقوم سوقهم إلى آخر الشهر". فكان إذن بين أكيدر وقبيلة كلب تنافس شديد على الاستيلاء على هذه السوق ومكسها، فأكيدر يتولى أمرها حينا ويعشر من بها،
والكلبي حينا يستأثر بالحكم فيها والاضطلاع بشئونها. أما الغريب حقا فهو ما ذكره المرزوقي من حل لهذا الخلاف والتطاحن بين الملكين, وهو إن صح -وليس ببعيد- يطلعنا على صورة طريفة من عقلية القوم وعاداتهم, قال: "وكان ملكها "يعني: سوق دومة الجندل" بين أكيدر العبادي من السكون، وبين قنافة الكلبي. وكان غلبة الملكين بأن يتحاجيا!! فأيهما غلب صاحبه بما يلقي عليه تركه والسوق يفعل بها ما يشاء, ولم يبع فيها أحد من الشام ولا أهل العراق إلا بإذنه، ولم يشتر فيها ولم يبع حتى يبيع الملك كل شيء يريد بيعه, مع ما كان إليه من مسكها"1. فأنت ترى أن الأمر ذو خطر, وفوائد كثيرة يستحق هذا التطاحن عليه. يدور نشاط هذه السوق حتى منتصف ربيع الأول, وتغصّ بمن يؤمها من أطراف الشام ومن العراق وسائر الجزيرة. وهي من الأسواق الكبرى للعرب, حتى إنهم ليلقون في سيرهم إليها نصبا كبيرا لوعورة الطريق والتعرض للأخطار وفقدان الأمن، ولا يحملهم على ذلك كله
إلا ما تغريهم به هذه السوق من ربح وفائدة. قال المرزوقي: "كانت قريش تخرج إليها قاصدا من مكة، فإن أحذت على الحزن لم تتخفر بأحد من العرب حتى ترجع ... وكانوا إذا خرجوا من الحزن أو على الحزن وردوا مياه كلب، وكانت كلب حلفاء بني تميم، فإذا سفلوا عن ذلك أخذوا في بني أسد حتى يخرجوا على طيء فتعطيهم وتدلهم على ما أرادوا؛ لأن طيئا حلفاء بني أسد. فإذا أخذوا طريق العراق تخفروا ببني عمرو بن مرثد من بني قيس بن ثعلبة, فتجيز لهم ذلك ربيعة كلها"1. ثم تفتر حركتها وتأخذ بالاضمحلال حتى آخر الشهر، إذ يفترق أهلها وموعدهم إليها من قابل، شهر ربيع الأول.
سوق المشقر
سوق المشقر: المشقر حصن بالبحرين لعبد القيس, وهو قريب من هجر. وأهله أزد يمانون كما سيأتي في الكلام على سوق عمان، جاء في مراصد الاطلاع: "المشقر حصن بين نجران والبحرين، يقال: إنه من بناء طسم, وهو على تل عالٍ، يقابل حصن بني سدوس. ويقال: إنه بناء سليمان, وقيل: هو حصن بالبحرين لعبد القيس يلي حصنا آخر لهم يقال له: الصفا قبل مدينة هجر، والمسجد الجامع بالمشقر، وبينهما نهر يجري إلى جانب مدينة محمد بن الغمر يقال له: العين". فالظاهر من هذا الكلام أن هذا الحصن وثيق البنيان، ذو خطر، حتى رفعوا نسبة بنائه إلى سليمان، وحتى ضرب به المثل في المنعة والإحكام. قال المخبل: فلئن بنيت لي المشقر في ... صعب تقصّر دونه العصم1 لتنقبن عني المنية إ ... ن الله ليس كعلمه علم وشهرة الحصن مستفيضة على ألسنة العرب, ذكره كثيرون منهم
فممن ذكره الأعشى القائل: فإن تمنعوا منا المشقر والصفا ... فإنا وجدنا الخط جما نخيلها وذكره أبو ذؤيب الهذلي في مرثيته لبنيه, فقال: حتى كأني للحوادث مروة ... بصفا المشقر كل يوم تقرع تقوم في المشقر سوق للعرب تبتدئ من أول جمادى الآخرة وتستمر إلى سلخه فتنفض ويغادرها الناس إلى جمادى من قابل، وينزلها أخلاط من جميع أحياء العرب "وكانت أرضها معجبة, لا يراها أحد فيصبر عنها". فلها صفات هجر وخصبها إذ هي جزء منها، وقد علل المرزوقي اختلاف قبائل الناس في هذه النواحي بقوله: "وكانت لا تقدمها لطيمة إلا تخلّف منهم بها ناس، فمن هناك صار بهجر من كل حي من العرب ومن غيرهم"1. وكان بيعهم في هذه السوق بالملامسة والإيماء والهمهمة خوف الحلف والكذب!! وقد مر بك تفسير هذه البيوع في محله. كثر ذكر المشقر في كتب الأدب، فكان امرؤ القيس الشاعر ينزله، وفيه كانت وقعة من الوقائع المشهورة في أيام العرب؛ إذ حاصر
كسرى بني تميم فيه، وأغلق عليهم بابه، ثم قتل المقاتلة، وسبى الذراري بعد أن امتنعوا فيه مدة, وذكر صاحب الأغاني ما يستدل منه على أن كسرى كان له النفوذ على هذه السوق "شأنه في سوق هجر وعمان" يقيمها متى شاء ويعطلها متى شاء, قال: "أمر كسرى بالطعام فادخر في المشقر, وقد أصابت بني سعد سنة شديدة، والطعام عنهم محبوس، وكان المشير على كسرى بذلك هوذة، وكان له عليهم تارات فقال لكسرى: "أيها الملك! احبس الميرة عنهم، فإذا فعلت ذلك بهم سنة أرسلت معي جندا من أساورتك فأقيم لهم السوق فإنهم يأتونها، فتصيبهم عند ذلك خيلك". ففعل كسرى وحبس عنهم الأسواق في سنة مجدبة, ثم سرح إلى هوذة فأتاه ... إلخ1. يقصد هذه السوق العرب وأهل فارس على السواء, ويجاورها
من قبائل العرب تميم وعبد القيس. وليس لها ما لغيرها من الأمن
والحرمة، وجميع من يقصدها لا يستغني عن خفارة يسير في حمايتها. "وكان من يؤمها من التجار يتخفرون بقريش؛ لأنها لا تؤتى إلا من بلاد مضر"1. وملوك هذه السوق الذين يعشرون الناس فيها أناس من بني عبد الله بن زيد رهط المنذر بن ساوى من بني تميم يسيرون هنا سيرة الملوك في دومة الجندل، وهم خاضعون لملك فارس "يستعملهم عليها كما يستعمل بني نصر على الحيرة, وبني المستكبر على عمان"2 ومن يوافي هذه السوق من فارس خلق كثير. ولا تُعرض تجارة, ولا يقوم بيع حتى تنفق تجارة الملك بتمامها كما هو الشأن في سوق دومة الجندل، ولا ريب أن ملوك هذه السوق ترضخ إلى حكومة فارس مما يحصلون عليه بالنصيب الأوفى.
سوق هجر
سوق هجر: يتناول اسم هجر أرض البحرين عامة، وهي واليمن وعمان من أخصب بلاد العرب وأكثرها رخاء، وذكر ياقوت في معجمه أنها قاعدة البحرين. موقع هذه البلدة في جنوب الخليج الفارسي، وتكون على اتصال دائم ببلاد الهند وفارس، يجلب إليها مختلف الأصناف، ولأهلها أسباب أخر للمعاش غير التجارة، كالغوص على اللؤلؤ، وهم لا يزالون على ذلك إلى اليوم كسائر سكان البحرين، والنسبة إليها هجري على القياس وهاجري على غير قياس. قال دريد بن الصمة: وربت غارة أوضعت فيها ... كسحّ الهاجريّ جريم تمر1 وهجر مشهورة بكثرة وبائها, حتى قال عمر بن الخطاب: "عجبت لتاجر هجر, وراكب البحر" يريد أنهما سواء في التعرض للخطر
وصارت ديار القرامطة فيما بعد, وقد احتفّ بها قبائل كثيرة من مضر. وهي أكثر بلاد العرب تمورا وأطيبها، وأروج تجاراتها التمر، به عرفت وبها اشتهر حتى ضرب به المثل فقالوا: "كمبضع تمر إلى هجر" كما قالوا: "كجالب الدر إلى البحر" قال أبو عبيد: "هذا من الأمثال المبتذلة، ومن قديها؛ وذلك أن هجر معدن التمر والمستبضع إليه مخطئ". ونخلها كثير ملتف غاية في الجودة والطيب. قال الشاعر يذكر إبلا خرجت للميرة إلى هجر, فرجعت بغير كف ولا طعام: حبسن بين رملة وقف ... وبين نخل هجر الملتف ثمت أصدرن بغير كف1 وقد استفاض على ألسنة الناس ذكر تمرها والثناء على جودته وطيبه، وملئت كتب الأدب بالإشارة إليه, فهذا رسول جميل إلى بثينة يبلغها ما أرسل به, فتتحفه بتمر من تمر هجر2. وذاك أعرابي حضر وليمة لعبد الملك بن مروان, عجز الفصحاء عن وصف ما حوت من الأطايب والألوان, فقيل له: "هل رأيت
يا أعرابي طعاما أطيب وأكثر من هذا؟ " فقال: "أما أكثر فلا, وأما أطيب فنعم ... " وذكر طعاما فيه تمر هجر1.
وليس هذا التمر معروفا عند الأدباء وحدهم، بل إن ذكره لابس مسألة نحوية مشهورة، فما على الأرض نحوي إلا يعرف لهجر تمرها، فقد أتى خلف الأحمر ويحيى اليزيدي أبا المهدي أعرابيا فصيحا حجة، وكان به عارض فوجداه يصلي, فلما التفت قال: "ما خطبكما؟ " قالا: "كيف تقول: ليس الشرابُ إلا العسلُ؟ " فقال: "فما يصنع سودان هجر، ما لهم شراب غير هذا التمر"1.
ولهجر شأن آخر في آداب اللغة العربية غير هذا المثل المضروب وتلك القاعدة النحوية، إذ في دِهاسها1 هلك المهلهل، أول من هلهل الشعر وأرق نسجه، مات عطشا في حمارّة القيظ "الأغاني 6/ 128". ومن الغريب أن سبب موته هو خمر هجر هذه: وذلك أن عمرو بن مالك ومهلهلا التقيا في خيلين من غير مزاحفة في بعض الغارات بين بكر وتغلب، فانهزمت خيل مهلهل وأدركه عمرو بن مالك فأسره, فانطلق به إلى قومه وهم في نواحي هجر، فأحسن إساره، ومر عليه تاجر يبيع الخمر، قدم بها من هجر وكان صديقا لمهلهل يشتري منه الخمر، فأهدى إليه وهو أسير زق خمر، فاجتمع إليه بنو مالك فنحروا عنده بكرا وشربوا عند مهلهل في بيته -وقد أقرد له عمرو بيتا يكون فيه- فلما أخذ منهم الشراب تغنى مهلهل فيما كان يقوله من الشعر وينوح به على كليب، فسمع ذلك عمرو بن مالك وهاج تغنّيه كامن الغيظ في
نفسه فقال: "إنه لريَّان، والله لا يشرب ماء حتى يرد ربيب" "وربيب هذا جمل كان لعمرو بن مالك، وكان يتناول الدِّهاس من أجواف هجر فيرعى فيها غبا بعد عشر في حمارّة القيظ" فأشفق إخوان عمرو من هذا القسم وخافوا أن يزيد الشر بين الحيين إن هلك مهلهل، فأسرعت ركبانهم وخرجت في طلب البعير ربيب، وهم حراص على ألا يقتل مهلهل، فلم يقدروا على البعير حتى مات مهلهل عطشا, ونحر عمرو يومئذ ناقة مسنة فأسرج جلدها على مهلهل وأخرج رأسه. وهكذا ذهب مهلهل من جراء نشوة من خمر هجر1، وكم أفقدت الخمر الناس رءوسهم وسادتهم، وكم كانت نذير الشر والشؤم منذ الزمن الأقدم، فلنذكرنّ هجر وخمرها، وهذه الميتة الروائية كلما ذكرنا المهلهل وما رقق من شعر. تهبط العرب هذه السوق ولعلها كانت أكثر مكانة من دومة الجندل؛ لأنها فرضة يجدون فيها من أصناف التجارات التي يأتيهم بها تجار الهند وفارس ما لا يجدون في تلك، ولأن بها من التمر ما طبقت شهرته الآفاق، وضرب في الجودة مثلا في البلاد، وليس ذلك بقليل.
وكان بها عدا ذلك ضروب من البضائع، فعلى مقربة منها "الخط" المشهورة برماحها. وفي "رياض الصالحين ص449" أن سويد بن قيس قال: "جلبت أنا ومخزمة العبدي بزا من هجر, فجاء النبي -صلى الله عليه وسلم- فساومنا سراويل" فأنت ترى أنه يجلب منها بز يباع في المدينة. وكان كسرى يرسل إلى سوق هجر من تجاراته: يرسل إليها لطائم فيها الطيب فيباع فيها, ثم ترجع موقرة عروضا وتمرا. وحدث مرة أن أغارت بنو تميم على لطيمة لكسرى فيها مسك وعنبر وجوهر كثير, فأرسل جيشا أوقع بهم فأخذ الأموال وسبى الذراري بمدينة هجر, وسميت تلك الوقعة "يوم الصفقة"1. ولعل نفوذ كسرى في هذه السوق كان غير ضئيل. تقصد العرب هذه السوق بعد انفضاضهم من سوق دومة الجندل، فإذا أهلّ ربيع الآخر انتقلوا إليها فقامت سوقها. وينظر في أمرها المنذر بن ساوى أحد بني عبد الله بن دارم، يتولى أمرها ويعشر الناس فيها، وهو ملك البحرين عامة.
سوق عمان
سوق عمان: كورة عربية في جنوب الخليج الفارسي تمتد على سواحل بحر اليمن، وتشتمل على بلدان كثيرة ذات نخل وزروع، وهي شديدة الحرارة حتى إن حرها يضرب به المثل. وبها فواكه جرومية1 "كالموز والرمان والتين ونحو ذلك" ولعل نخيلها متميز من غيره، فقد ذكروا أن بالبصرة نخلة يقال لها: "العُمانية" لا يزال عليها السنةَ كلها طلع جديد وكبائس مثمرة وأخرى مرطبة. قيل: إنها سميت بعمان بن نفثان بن سبأ أخي عدن2, وقيل: من "عمن يعمَن" إذا أقام، وقد اشتقوا منها فعلا فقالوا: أعمن وعمّن إذا أتى عمان، قال العبدي: فإن تُتْهموا أنجد خلافا عليكم ... وإن تُعْمنوا مستحقبي الحر أعرق عدها الهمداني في "صفة جزيرة العرب ص48" من مخاليف اليمن
نزلها الأزد على قبائل يحمد وحدان ومالك والحارث وعتيك وجُديد "ص211", واستشهد على قوله بشواهد من الشعر, منها: وأزد لها البحران والسيف1 كله ... وأرض عمان بعد أرض المشقر2 ومنها: وغسان الذين هم استتبّوا ... قبائلهم بأطراف البلاد3 وحيا منهم نزلوا عمانا ... أراهم لم يهموا بارتداد وغسان من الأزد كما هو معلوم. واستشهد أيضا بهذا الشاهد وهو يريد الأزد طبعا: فأقرت قرارها بعمان ... فعمان محل تلك الحماة4 وتضرب بها العرب المثل في بعدها؛ لأنها في أقصى الجزيرة إلى الشرق والجنوب, تفصلها عن اليمن صحراء الأحقاف, وهي بعيدة عن الحجاز والعراق والشام. ذكر ياقوت أن الحسن بن عادية قال: لقيت عبد الله بن عمر فقال: "من أي بلد أنت؟ " قلت: "من عمان" قال: "أفلا أحدثك حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ " قلت: "بلى" قال: "سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إني لأعلم أرضا من أرض العرب يقال لها:
عمان على شاطئ البحر؛ الحجة منها أفضل من حجتين من غيرها" ومن المفسرين من ذهب إلى أن المقصود بقوله تعالى: {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} عمان. ولو عرف الشاعر أبعد منها لذكره محلها في قوله يهجو قوما: لو يسمعون بأكلة أو شربة ... بعمان أصبح جمعهم بعمان والظاهر أنها على بعدها لم تكن تخلو من أخلاط القبائل ومختلف الأمم، شأن كل فرضة تجارية، فلم تقتصر على الأزد الذين روينا لك فيهم ما ذكره الهمداني؛ لأنها أقرب بلاد العرب من الهند وليس بينها وبين فارس إلا المضيق فكان فيها النزلاء الغرباء من هؤلاء، عدا من يقصدها من العرب للتجارة فيقيم فيها، وقد ظلت تحت نفوذ الفرس الفعلي، وكان ملوك فارس هم الذين يولون عليها الأمراء, فاستعملوا بني المستكبر -على رواية المرزوقي- وقد تقدم أن لهم نفوذا على هجر، وعلى المشقر كما سبق، فتكون فارس قد بسطت سلطانها على سواحل الخليج الفارسي كله وعلى سواحل بحر اليمن حين أرسلوا الأحرار فطردوا الحبشة منها، وبذلك يكون لهم نصف سواحل جزيرة العرب، وما زالت الفرض والشواطئ عرضة للأطماع ينزلها
كل قوي، فكيف إذا كانت خصبة فيها الغنى كعمان، وقد جاء في الحديث: "من تعذر عليه الرزق فعليه بعمان". فتجاراتهم كثيرة ومعايشهم وافرة، وفيها ذخائر متنوعة ومعادن جيدة وخصب ورخاء, فجمعوا بذلك أسباب الثروة والغنى فلم يكن من الغريب طمع فارس فيهم. وقد استتبع مركز عمان هذا كثرة الأعاجم فيها واختلاط أهلها بهم، حتى أدخل ذلك الضيم على لغتهم فلم يعرفوا في العرب بالفصاحة. ولما رأى أبو عمرو بن العلاء أعرابيا من عمان فصيحا لم يكتم استغرابه من حسن وصفه لبلده وفصاحة منطقه، حتى عرف أن الأعرابي بعيد عن مراكز الاختلاط تلك، ذكر القالي "3/ 16" عنه أنه قال: لقيت أعرابيا بمكة، فقلت له: "ممن أنت؟ " قال: "أسدي" قلت: "ومن أيهم؟ " قال: "نهدي" قلت: "من أي البلاد؟ " قال: "من عمان" قلت: "فأنى لك هذه الفصاحة؟ " قال: "إنا سكنا قطرا لا نسمع فيه ناجخة التيار" قلت: "صف لي أرضك" قال: "سيف أفيح، وفضاء صحصح، وجبل صروح، ورمل أصبح" قلت: "فما مالك؟ " قال: "النخل" قلت: "فأين أنت عن الإبل؟ "
قال: "إن النخل حملها غذاء، وسعفها ضياء، وجذعها بناء، وكربها صلاء، وليفها رشاء، وخوصها وعاء, وقَرْوها إناء"1. وذكر صاحب مراصد الاطلاع أن أهلها خوارج إباضية. تقصد العرب هذه السوق إذا انتهت من سوق هجر، فترحل إلى عمان وتقيم سوقها حتى آخر جمادى الأولى. وهي لتوسطها بين فارس والهند والحبشة، تجتمع فيها بضائع هذه الممالك الثلاث وكانت جمالها تحمل "الوَرْس" من اليمن إلى عمان حيث تعالج الأشياء التي يراد صبغها بالصفرة. وذكر الألوسي أن بأرضها معادن جيدة وذخائر متنوعة. وقد كان يستخرج بها عنبر مشهور، احتفظت عمان بشهرتها به حتى أيام الرشيد, فقد ذكر في الأغاني أنه "جاء العباس بن محمد إلى الرشيد يوما ببرنيّة غالية, فوضعها بين يديه ثم قال: "هذه يا أمير المؤمنين غالية صنعتها لك بيدي، اختير عنبرها من بحر عمان، ومسكها من
مفاوز التبت، وبانها1 من ثغر تهامة، فالفضائل كلها مجموعة فيها ... إلخ"2. في هذه السوق يجري التبادل بين بضائع فارس والهند والحبشة واليمن والحجاز والشام، يصب فيها كل تاجر قطر ما حمل من قطره ويرجع إلى بلده بما يأخذه من عروض ليست فيه؛ ولهذا كان فيها جاليات من كل أمة وكل قبيلة.
سوق حباشة
سوق حباشة: تقوم هذه السوق بتهامة في ديار بارق نحو "قنونا" على ست ليالٍ من مكة إلى جهة اليمن. فهي المتجر المتوسط المشترك بين الحجاز واليمن. وأصل الحبش: الجمع، والحُباشة: الجماعة من الناس ليسوا من جنس واحد، ولعلها سميت بذلك لكثرة ما يجتمع بها من مختلف القبائل والأجناس للتجارة، وليست من مواسم الحج. وكما سميت سوق تهامة القديمة بهذا الاسم, سميت به سوق أخرى لبني قينقاع تقام في رجب أيضا، كما هي اسم للأزد أيضا. والمشهورة منهما هي الأولى التي بتهامة, وقد تاجر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. جاء في الحديث: "لما استوى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبلغ أشده وليس له كثير مال، استأجرته خديجة إلى سوق حباشة وهي سوق بتهامة واستأجرت معه رجلا آخر من قريش, وكان من قول الرسول وهو يحدث عن هذه التاجرة الكبيرة: "ما رأيت من صاحبة أجير خيرا من خديجة، ما كنا نرجع أنا وصاحبي إلا وجدنا عندها تحفة من طعام تخبئه لنا" " ا. هـ.
كان لهذه السوق ما لغيرها من المزايا: يكون فيها فداء الأسرى ونشدان الثأر ... عدا أمور التجارة. ولما قتل الشنفرى الشاعر حرامَ بن جابر قاتل أبيه، أتى رجل أسد بن جابر أخا المقتول فقال: "تركت الشنفرى بسوق حباشة" فرصد له قوم القتيل حتى أسروه وقتلوه. وليس لحباشة شأن الأسواق العربية الكبرى، فإنها تأتي في الدرجة الثانية في الخطر، وتكاد تكون لما حولها في الغالب، على خلاف الأمر في بقية الأسواق التي هي من مواسم الحج. بقيت هذه السوق قائمة كل عام حتى سنة سبع وتسعين ومائة، إذ تركت في زمن داود بن عيسى بن موسى العباسي. والسبب في خرابها أن من عادة ولاة مكة أن يستعملوا عليها رجلا يخرج معهم بجند فيقيمون بها ثلاثة أيام متوالية من أول رجب, واستمر الأمر على هذا حتى قتلت الأزد واليا كان عليها من قبيلة غني، بعثه داود بن عيسى بن موسى، فأشار فقهاء مكة على داود بتخريبها فخربها, وتركت منذ ذلك الوقت"1.
......................
سوق صحار
سوق صحار: بلد من أعمر بلاد العرب وأغناها وأطفحها بالمتاجر، جاء في "مسالك الممالك" للإصطخري عند الكلام على عمان: "وقصبتها صحار، وهي على البحر وبها متاجر البحر وقصد المراكب. وهي أعمر مدينة بعمان وأكثرها مالا ولا تكاد تعرف على شاطئ بحر فارس بجميع بلاد الإسلام مدينة أكثر عمارة ومالا من صحار، وبها مدن كثيرة، وبلغني أن حدود أعمالها "300" فرسخ وكان الغالب عليها الشراة". وياقوت وصفها لنا -كما شاهدها- وصفا أسهب, وأدل على مكانتها التجارية الكبرى فقال: "صحار قصبة عمان مما يلي الجبل "وتؤام: قصبتها مما يلي الساحل", مدينة طيبة الهواء والخيرات والفواكه، مبنية بالآجر والساج، كبيرة ليس في تلك النواحي مثلها. وليس على بحر الصين "يريد فرض الجزيرة التي على بحر الهند" بلد أجل منه، عامر آهل، حسن طيب نزه، ذو يسار وتجار وفواكه، أجل من زبيد وصنعاء، وأسواق
عجيبة وبلدة ظريفة ممتدة على البحر، دورهم من الآجر والساج، شاهقة نفيسة، ولهم آبار عذبة وقناة حلوة, وهم في سعة من كل شيء. وهو دهليز الصين وخزانة الشرق والعراق ومعونة اليمن. والمصلى وسط النخيل ومسجد صحار على نصف فرسخ. فتحها المسلمون أيام أبي بكر سنة "12" صلحا". ونستطيع أن نفهم من هذا الوصف -وإن كان لعهد ياقوت- مدى الشأن التجاري الذي كانت تتمتع به صحار1 في الجاهلية أيضا. فقد كان بها تجارات واسعة تجلب إلى مختلف أقطار الجزيرة العربية, وجاء في الحديث أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كُفن بثوبين صحاريين. تقيم العرب السوق العامة في صحار من عاشر رجب إلى الخامس عشر منه بعد انفضاض سوق حباشة. والظاهر أنها تمتد إلى ما بعد الخامس عشر من رجب، فإن من لم يشهد الأسواق التي كانت قبلها لشغله عنها أو لأنه لا أرب له فيما يباع بما قبلها من الأسواق، يوافيها فيجد فيها من البئر المنشور وغيره من البياعات. وذكر المرزوقي2:
"أنهم يقيمونها لعشرين يوما من رجب". ولا يناقض هذا ما قدمناه؛ لأن افتتاح السوق وانفضاضها لم يكن بساعة محتمة لا تقدم عنها ولا تؤخر، بل إن من العرب من لا يكون حضر ما قبلها فيأتيها من أول رجب1, ومنهم من يكون في حباشة أو غيرها فيوافيها متأخرا. وتبقى البيوع قائمة حتى ينتهي أصحابها منها. وليست صحار من الأسواق العامة ولا من المواسم مثل عكاظ حتى يحرصوا عليها ذلك الحرص، وإنما هي سوق تجارية محضة لما حولها ولمن يقصدها، على أنها كثيرا ما يأتيها التاجر البعيد. وقيام هذه السوق في رجب يغني قاصدها عن الحماية, فيقدمها الناس غالبا بلا خفارة ولا حذر إلا من المحلين "لأن رجبا شهر حرام, فهي من هذه الجهة تمتاز من الأسواق التي تقوم في غير الشهر الحرام مثل سوق المشقر وغيرها. يعشر الناس في هذه السوق الجلندى بن المستكبر2، وذكر الأزرقي أن بيعهم فيها بإلقاء الحجارة على ما تقدم في فصل البيوع, كما هو الأمر في سوق دومة الجندل.
سوق دبى
سوق دبى: دبى1، سوق ذكرها المرزوقي في جملة أسواق العرب. والظاهر أنها كانت قديما ذات شأن إذ كانت قصبة عمان, ثم اضمحل مركزها وزاحمتها صحار وصارت هي قصبة هذا القطر, فمن ثم لم يكن لها من الشأن مثل ما لغيرها. وصفها صاحب مراصد الاطلاع بأنها سوق من أسواق العرب بعمان وأنها مدينة عظيمة مشهورة. قال ياقوت: "دبى سوق من أسواق العرب بعمان, وهي مدينة قديمة مشهورة لها ذكر في أيام العرب وأخبارها وأشعارها, وكانت قديما قصبة عمان. ولعل هذه السوق المذكورة كانت عندها. فتحها المسلمون أيام أبي بكر عنوة سنة 11 للهجرة". جعل المرزوقي تاريخ قيام هذه السوق بين سوقي صحار والشحر. ونستطيع أن نفهم شيئا من خطرها التجاري إذا علمنا أنها من فرض العرب المشهورة، وأنه يكون فيها من لا يكون في غيرها من تجار
السند والهند والصين وأهل المشرق والمغرب1، وتمتاز من غيرها بالبضائع الأجنبية التي يحملها التجار من بلادهم في البحر, وتنفذ منها تجارات العرب إلى الخارج. تقوم سوقها آخر يوم من رجب ويشترى بها بضائع جزيرة العرب وبضائع الأقاليم. ومن البديهي أن البيع فيها لا يكون بإلقاء الحجارة ولا بالإيماء ولا بغيرهما من البيوع الخاصة؛ لمكان الأجانب منها، بل هو بالمساومة2 لأن السوق سوق مختلطة غير خالصة الصبغة. ولا يباع فيها شيء حتى يبيع ملكها الجلندى بن المستكبر كل ما عنده, وهو الذي يعشر الناس فيها كما يفعل غيره من الملوك في غيرها من الأسواق.
سوق الشحر
سوق الشحر: يطلق اسم الشحر على الساحل الجنوبي لجزيرة العرب بين عدن وعمان، والشحر مأخوذ من مشحر الأرض, وهو مسبخ الأرض ومنابت الحموض, وتشتمل على بلاد وأودية وقرى، والمراد بها هنا شحر مهرة وهي قصبتها، وليس فيها زرع ونخيل وإنما أموالهم الإبل "وبها نُجُب من الإبل تفضل في السير سائر النجب"1. ونظرا لوقوعها في أقصى جنوب الجزيرة على بحر الهند ضربوا بها المثل في البعد, فيقولون: "لست بمعجز لنا ولو بلغت الشحر"2 واختلاط أهلها بالنازلة من الحبشة والهند وفارس وغيرهم من التجار، مع ما في لسانهم من الفروق بينه وبين لغة الحجاز جعل أهلها غير فصحاء حتى قال الإصطخري: "ألسنتهم مستعجمة جدا, لا يكاد يوقف عليها". وأرضهم في الجملة مقفرة، وعيش أهلها من الأنعام والتجارة والصيد. اشتهرت منذ القديم بعنبرها الذي لا نظير له، فكل عنبر جيد
إليها ينسب. قال الثعالبي في "ثمار القلوب": "عنبر الشحر يضرب به المثل, قال الشاعر: ..................................... ... ولو كنت عطرا كنت من عنبر الشحر" واللبان الذي يحمل إلى الآفاق منها يجلب. تقوم هذه السوق في النصف من شعبان بعد انفضاض سوق "دبى" ويقصدها من كان ثمة من تجار البر والبحر، والبضاعة الرائجة فيها البز والأدم والكندر والمر والصبر والدخن1. ولا يسير إليها قاصدها إلا بخفارة لبعدها وانقطاعها, فلا غنى لتجار العرب عن خفارة يتخفرون بها، وكان يقوم أحيانا بهذه الحفارة أهل مهرة أنفسهم. "ولم يكن بها عشور؛ لأنها ليست بأرض مملكة وكانت التجار تتخفر ببني محارب من مهرة"2 وفي هذه السوق بيوع كالتي تقدمت في سوق دومة الجندل من رمي الحصاة وإلقاء الحجارة2. وموضع هذه السوق -على ما ذكر محمد بن حبيب- تحت ظل الجبل الذي عليه قبر هود عليه السلام2.
سوق عدن أبين
سوق عدن أبْين: قيل: إن هذه التسمية نسبة إلى أَبْيَن، وعدَن بالمكان: أقام، فمن هنا قول من قال: إنها اشتقت من العدن لأن أبين رجل من حمير أقام فيها. إلا أن صاحب تاج العروس قال: "نقل شيخنا عن حواشي الكشاف للفاضل اليمني وهو أعرف ببلاده: أبين اسم قصبة بينها وبين عدن ثمانية فراسخ، أضيفت إليها لأدنى ملابسة". وعدن مدينة ذات موقع جغرافي ممتاز، على بحر الهند إلى جنوبي مضيق باب المندب نحو الشرق. فيها مرسى للسفن الواردة إلى آسيا من البحر الأحمر، وبها كانت تمر مراكب الهند ومصر والحجاز والحبشة منذ القديم للحطّ والإقلاع، وهي في ذيل جبل ينتهي بسور إلى البحر "رديئة الهواء لا ماء بها ولا مرعى، وشرب أهلها من عين بينها وبين عدن مسيرة نحو يوم"1 والماء ينقل إليها على ظهور الدواب. وأهم تجارات هذه السوق الطيب بأنواعه، ويجلب إليها الأدم
والبرود من "معافر" وتكثر فيها اللطائم، وبها مغاوص اللؤلؤ. بقيت على شأنها هذا حتى الإسلام فازدهت في عهده تجارتها حتى "أصبحت فرضة اليمن ومقر كل فضل مستحسن" وإن الطيب الذي يستعمله سائر الناس كان يتخذ بها, وصار لأهلها بصنعه مهارة فائقة. قال المرزوقي: "وكان طيب الخلق جميعا بها يعبأ، ولم يكن يحسن صنعه أحد من غير العرب، حتى إن تجار البحر لترجع بالطيب المعمول "بعدن" تفخر به في السند والهند، وترتحل به تجار البر إلى فارس والروم. وإن الناس على ذلك "إلى اليوم" ما يحسن اليوم حمله إلا أهل الإسلام بعدن"1. كان العرب إذا ارتحلوا من الشحر بعد انفضاض سوقها نزلوا عدن, فأقاموا بها السوق مدة العشر الأول من رمضان، أما تجار البحر فإنهم يستغنون عن شهودها بما شهدوا من الأسواق قبلها، إلا من بقي من بيعه شيء لم ينفد بعد، أو فاته حضور ما قبلها، فإنه يشهدها مع الناس فيستدرك بها ما فاته من اتّجار, ثم ينفض الناس منها إلى رمضان من قابل. وقاصد هذه السوق في غنى عن خفارة الناس؛ لقيام حكومة
منظمة فيها فإنها من مخاليف اليمن؛ لذلك لا يتخفر أحد فيها وتؤدى عشور هذه السوق إلى ملكها من حمير أو من خلف حمير على ملكها. ولما صارت في حوزة الأبناء من فارس حين غلبوا على اليمن كما امتد نفوذ مملكتهم على سواحل العرب الشرقية والجنوبية كلها، جعل الناس يؤدون العشور فيها إلى هؤلاء. وذكر محمد بن حبيب أن "الأبناء تعشرهم بها, ولا تشتري في أسواقهم ولا تبيع"1. ولعل حال الأخذ والعطاء في هذه السوق أنشط وأوسع، والتجارة فيها حرة أكثر؛ لأن من قام على أمور عدن من حمير أو من الفرس لم يكونوا يتاجرون لأنفسهم فيها كما يفعل أكيدر في دومة أو الجلندى في صحار, فينحجز الناس عن عرض بضائعهم حتى يبيع الملك كل ما عنده من متاع، فكانت التجارة تحظى في هذه السوق بشيء من الانطلاق؛ لكف ملوكها عن مزاحمة الرعية على هذا المورد من الكسب.
سوق صنعاء
سوق صنعاء: صنعاء أطيب بلاد اليمن، بل جنة جزيرة العرب كلها، هي مضرب الأمثال في طيب الهواء واعتداله وحسن العيش. قال ياقوت: "صنعاء قصبة اليمن وأحسن بلادها, تشبّه بدمشق لكثرة فواكهها وتدفق مياهها، وليس بجميع اليمن أكبر ولا أكثر مرافق وأهلا من صنعاء. وهي من الاعتدال في الهواء بحيث لا يتحول الإنسان من مكان طول عمره صيفا ولا شتاء، وتتقارب بها ساعات الشتاء والصيف، وغاية ساعات النهار بها اثنتا عشرة ساعة وإحدى وخمسون دقيقة1.طيبة الهواء, كثيرة الماء. قدم يزيد بن الصعق صنعاء ورأى أهلها وما فيها من العجائب، فلما انصرف قيل له: كيف رأيت صنعاء؟ فقال: ومن ير صنعاء الجنود أهلها ... وجنود حمير قاطنين، وحميرا يعلم بأن العيش قسم بينهم ... جلبوا الصفاء فأنهلوا، ما كدرا ويرى مقامات عليها بهجة ... يأرجن هنديا ومسكا أذفرا". وليس من الغريب أن نسمع يمنيا كالهمداني يشيد بذكرها فيقول:
"هي إحدى جنان الأرض عند كافة الناس"1, فقد حيرت بحسنها وكثرة أشجارها ومياهها ومروجها وأنهارها وطيب أوديتها غيره, فدهش أول ما رآها وملكه الإعجاب2. "قال أحمد بن موسى وهو من الشعراء المتأخرين حين رفع إلى صنعاء, وصار إلى نقيل السود "على مقربة منها": إذا طلعنا "نقيل السود" لاح لنا ... من أفق صنعاء مصطاف ومرتبع يا حبذا أنت يا صنعاء من بلد ... وحبذا وادياك الظهر والضلع"3. بقيت صنعاء4 دار سلطنة وإمارة حتى يومنا هذا. وقد كان بها مقر ملوك اليمن قديما, وفيها قصر غمدان وهو بناء شاهق على تل عظيم اتخذه أقيال اليمن, وليس في اليمن جميعه بناء أرفع منه.
"ويكون سوق صنعاء في واديها، قيل: هو وادي عليب، وقيل: هو أصل جبل نُقُم مما يلي قبليّه، وقيل: غدير الحقل"1. كان العرب إذا ارتحلوا من الشحر وعدن أقاموا سوق صنعاء, فاستمرت من نصف شهر رمضان حتى آخره. يأتونها "بالقطن
والزعفران والأصباغ وأشباهها مما ينفق بها, ويشترون فيها ما يريدون من البزّ والحرير"1 وكان أروج تجاراتها الغالية والأدم والبرود, وكان هذان الصنفان الأخيران يجلبان إليها أيضا من معافر إحدى قرى اليمن فتباع فيها وتصدر إلى الأقطار, وكذلك يجلب منها من الخرز شيء كثير. كان بيعهم فيها الجس جس اليد2، وكان يعشر الناس فيها الأبناء3 بعد أن كان يعشرهم أمراؤهم من حمير.
سوق حضر موت
سوق حضرموت: حضرموت إقليم واسع يشتمل على بلاد وقرى ومياه وجبال وأودية باليمن، يكون إلى جنوبه الشحر، وإلى شرقه عمان, وإلى غربه صنعاء. قريب من البحر وفيه رمال واسعة كثيرة تعرف بالأحقاف، وهذا الصقع كثير الجبال والأودية وهو في جملته قاحل، والبلد نفسها صغيرة ضئيلة الشأن، راسل أهلها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فدخلوا في طاعته صلحا، وقدم عليه الأشعث بن قيس في بضعة عشر راكبا مسلما في وفد, فأكرمه الرسول1. وأغلب قوت أهلها التمر؛ لأن بها نخلا كثيرا، وقد كشفت الحفريات الآن في هذا القطر عن مدن خربة عليها كتابات بالخط المسند، مما يدل أن لسكانه في القديم شأنا يذكر.
يتخذ بها نعال جيدة ذات شهرة, وتنسب إليها فيقال: نعل حضرمية, وهي الملسنة من النعال. تقوم السوق في رابية بحضرموت فتعرف أيضا بسوق الرابية، من منتصف ذي القعدة حتى آخره، وربما قامت هي وعكاظ في يوم واحد، فكان بعض الناس يأخذ إلى عكاظ وبعضهم يتوجه إلى رابية حضرموت، وهذه السوق خاصة بمن حولها، ولكن كثيرا ما يأتيها الناس من بعيد، ولقريش قوافل إلى هذه السوق ترسلها في تجاراتها، وكثير من العرب يجوزها إلى غيرها ولا يحضرها، ونظرا لانقطاعها عما حولها لم يستغن قاصدها عن دليل وخفير. قال المرزوقي: "أما الرابية فلم يكن يصل إليها أحد إلا بخفارة؛ لأنها لم تكن أرض مملكة، وكان من عزّ فيها بزّ صاحبه، فكانت قريش تتخفر ببني آكل المرار من كندة، وسائر الناس "يتخفرون" بآل مسروق بن وائل الحضرمي، فكانت مكرمة لأهل البيتين، وفضل أحدهما على الآخر كفضل قريش على سائر الناس"1. فيستفيد هذان الحيان من الخفارة والدلالة معا ربحا ماديا, إذ كان كسبهم من أولئك التجار الذين يمشون بين أيديهم بسلاحهم يحرسون بضائعهم, ويحمون حياتهم, ويدلونهم على الطريق.
سوق عكاظ
سوق عكاظ: عكاظ1 هي المعرض العربي العام أيام الجاهلية، معرض بكل ما لهذه الكلمة من مفهوم لدينا نحن أبناء هذا العصر. فهي مجمع أدبي لغوي رسمي، له محكّمون تضرب عليهم القباب، فيعرض شعراء كل قبيلة عليهم شعرهم وأدبهم، فما استجادوه فهو الجيد، وما بهرجوه فهو الزائف. وحول هذه القباب الرواة والشعراء من عامة الأقطار العربية، فما ينطق الحكم بحكمه حتى يتناقل أولئك الرواة القصيدة الفائزة فتسير في أغوار الجزيرة وأنجادها، وتلهج بها الألسن في البوادي والحواضر. يحمل إلى هذه السوق التهامي والحجازي والنجدي والعراقي واليمامي واليمني والعماني، كل ألفاظ حيه ولغة قطره، فما تزال عكاظ بهذه اللهجات نخلا واصطفاء حتى يتبقى الأنسب الأرشق, ويطرح المجفوّ الثقيل. وهي السوق التجارية الكبرى لعامة أهل الجزيرة، يحمل إليها
من كل بلد تجارته وصناعته كما يحمل إليها أدبه، فإليها يجلب الخمر من هجر والعراق وغزة وبصرى، والسمن من البوادي، ويرد إليها من اليمن البرود الموشّاة والأدم، وفيها الغالية وأنواع الطيب وأدوات السلاح. ويباع فيها الحرير والوكاء والحذاء والمسيّر والعدني، يحملها إليها التجار من معادنها، وفيها من زيوت الشام وزبيبها وسلاحها ما اعتادت قريش أن تحمله في قفولها إلى مكة. ويعرض فيها كثير من الرقيق الذي ينشأ عن الغزو, وسبي الذراري فيباع فيها بيع المتاع التجاري1. ويبيع فيها كل غازٍ سَلَبه, وكثيرا ما يكون هذا البيع سببا في قتل صاحبه إذا أبصر السلاح أحد من ذوي المقتول فعرفه، فإنه يضمرها في نفسه وينتظر أن يظفر بالرجل ليثأر منه.
وقد كانت تجارة فارس يصل منها أشياء إلى عكاظ: فإن النعمان بن المنذر ملك الحيرة كان يبعث إلى سوق عكاظ كل عام لطيمة "وهي في الأصل: العير المحملة مسكا" في جوار رجل شريف من أشراف العرب يجيرها له ويحميها من كل معتدٍ حتى تصل سالمة إلى عكاظ فتباع هناك, ويشرى بثمنها ما يحتاج إليه من أدم "جلود" الطائف وسائر المتاع في عكاظ, من حرير وعصب مسيّر، وبيعت فيها حلة ذي يزن فاشتراها حكيم بن حزام ليهديها رسول الله1، بل إن عكاظ نفسها مشهورة بما يعرض فيها من جلود حتى قالوا: "أديم عكاظي" نسبة إليها. حتى البضائع المجهولة الأصل المعروضة في عكاظ تجد من شرائع القوم وأعرافهم التي التزموها ما يجعلها كاسدة لا يرغب فيها أحد، فهذا بعض لصوص العرب قرّب إبلا للبيع في سوق عكاظ وكان أغار عليها من كل وجه، فلما عرضها قيل له: "ما نارك؟ " "أي: ما سمة إبلك؟ وكانوا يعرفون علامة كل قوم التي يسمون إبلهم, ويعرفون كرمها من لؤمها"، فلما كثر ذلك عليه أنشأ يقول:
يسألني الباعة أين نارها ... إذ زعزعتها فسمت أبصارها كل نجار إبل نجارها ... وكل نار العالمين نارها1 وهي معرض لكثير من عادات العرب وأحوالهم الاجتماعية: فههنا "قس بن ساعدة" يخطب الناس، يذكر الخالق ويعظهم بمن كان قبلهم ويأمرهم بفعل الخير2. وهناك خالد بن أرطاة الكلبي تتبعه قبيلته وقد جاء لينافر جرير بن عبد الله البجلي ومع هذا حيه أيضا, وقد ساق كل منهما مالا عظيما ينافر عليه، وعرضا الحكومة على رجالات قريش فأبوا أن يحكموا خوف الفتنة بين الحيين, فالرجلان في عكاظ ينتظران الأقرع بن حابس ليقوم بهذه الحكومة وقد ساقا الرُّهُن فوضعوها عند عتبة بن ربيعة3 دون جميع من شهد على ذلك المشهد. وههنا عمر بن الخطاب في الجاهلية يصارع4، وثمة كاهن
وعراف وعائف وقائف، وقرد، وغنم، وصحيفة وكاتب. وهناك أناس من غواة الشهرة: هذا يمد رجله وينشد شعرا ويقول: "من كان أعز العرب فليقطع رجلي" وآخر يأتي عكاظ ببناته ترويجا لزواجهن، وأناس قدموها ليختاروا من يتزوجون إليه ... قال المرزوقي: "كان في عكاظ أشياء ليست في أسواق العرب: كان الملك من ملوك اليمن يبعث بالسيف الجيد، والحلة الحسنة، والمركوب الفاره، فيقف بها وينادي عليه: "ليأخذه أعز العرب" يريد بذلك معرفة الشريف والسيد, فيأمره بالوفادة عليه ويحسن صلته وجائزته". وكان كسرى يبعث في ذلك الزمان بالسيف القاطع والفرس الرائع والحلة الفاخرة فتعرض في تلك السوق, وينادي مناديه: "إن هذا بعثه الملك إلى سيد العرب" فلا يأخذه إلا من أذعنت له العرب جميعا بالسؤدد, فكان آخر من أخذه بعكاظ حرب بن أمية، وكان كسرى يريد بذلك معرفة ساداتهم؛ ليعتمد عليهم في أمور العرب, فيكونوا عونا له على إعزاز ملكه وحمايته من العرب ... 1.
وهي أيضا ندوة سياسية عامة، تقضى فيها أمور كثيرة بين القبائل؛ فمن كانت له إتاوة على قبيلة نزل عكاظ فجاءوه بها, ومن أراد تخليد نصر لحيه فعل فعل عمرو بن كلثوم فرحل إلى عكاظ وخلده فيها شعرا، ومن أراد إجارة أحد هتف بذلك في عكاظ حتى يسمع عامة الناس، ومن أراد إعلان حرب على قوم أعلنه في عكاظ، حتى "جمعية الأمم" أو "هيئة الأمم المتحدة" وما قامتا به من مجهود "رسمي" في سبيل السلم الخاص، كان لها صورة مصغرة تشبههما بحسب الظاهر "لا في الحقيقة؛ لأن عكاظ لم تكن ترائي فتستغل الدعاية الشريفة لتسيغ للقوي أكل الضعيف"، فقد روى الأصفهاني أنه: "اجتمع ناس من العرب بعكاظ منهم قرة بن هبيرة القشيري والمخبل وهو في جوار قرة، في سنين تتابعت على الناس فتواعدوا وتوافقوا ألا يتغاوروا حتى يخصب الناس"1 ولا يخفى علينا أنه كانت تكون في عكاظ "وقائع مرة بعد مرة"2. وكانت هذه السوق تقوم من العرب يومئذ مقام الجريدة الرسمية في أيامنا هذه, وقد تقدم آنفا شيء من ذلك في أمر الجوار وأخبار
الحروب. فمن أتى عملا شائنا تأباه مروءة العربي شهروا أمره بعكاظ, ونصبوا له راية غدر1 فعرفوه فلعنوه واجتنبوه، ومن أراد أن يستلحق امرأ بنسبه استلحقه وأعلن ذلك للناس في عكاظ، ومن أراد التبرؤ من قريب لسبب ما، تبرأ منه علنا، فإذا أتى بعد ذلك جريمة أو خيانة كان المتبرئ -في عرف العرب يومئذ- في حل مما أتى قريبه: ذكروا "أن قيس بن الحدادية من شعراء الجاهلية، كان شجاعا فاتكا صعلوكا خليعا، وقد جر على قومه خزاعة عنتا وإرهاقا كبيرا، فخلعته خزاعة بسوق عكاظ وأشهدت على نفسها بخلعها إياه, فلا تحتمل جريرة له ولا تطالب بجريرة يجرها أحد عليه"2. وإذا أطلق لقب على أحد في عكاظ عرف صاحبه به، وجرى له مجرى اسمه واسم أبيه: قاتل أبو ربيعة بن المغيرة من قريش يوم
شرب "وهو من أيام عكاظ" برمحين فسمي ذا الرمحين وبه يعرف، وثبت في هذه الحروب من قريش أولاد أمية بن عبد شمس الستة وهم: حرب وأبو حرب وسفيان وأبو سفيان وعمرو وأبو عمرو فسموا "العنابس" والعنبس: الأسد1, وأمثال ذلك. وغني عن البيان أيضا ما يدخره الصغار الذين يصطحبهم أهلوهم إلى عكاظ من ذكريات عن تلك السوق لا تنسى، هذه خولة بنت ثعلبة2 تستوقف عمر بن الخطاب في خلافته, فيقف لها فتقول: "إيها يا عمر، عهدتك وأنت تسمى عميرا في سوق عكاظ تزع الصبيان بعصاك، فلم تذهب الأيام حتى سميت عمر، ولم تذهب الأيام حتى سميت أمير المؤمنين! "3. وخير ما يعطينا صورة واضحة عن عكاظ أن نعرض لأهم الأحداث التي جرت فيها، فنتمثل بوساطتها أحوال العرب في هذه السوق الكبرى، في بيعهم وشرائهم وتخاصمهم وتفاخرهم وحربهم
وسلمهم، فإن في ذلك تفصيل ما أجملت1. وأشد ما يثير الاستغراب، هذا الشبه الكبير بين عكاظ ومعارض هذا العصر، بل إن عكاظ لأوسع مدى فيما يعرض؛ فإنه لا يقتصر على مواد التجارة والصناعة بل يتعداهما إلى الأدب والشعر والحرب والسلم والعادات ... فإذا أنا أفضت في وصف عكاظ وما فيها، فإن ذلك إفاضة في وصف سائر أسواق العرب أيضا، فليس فيهن سوق تساميها. وما جرى في عكاظ جرى قريب منه في بقية الأسواق مع مراعاة صغر هذه واقتصارها أحيانا على أهل ناحية واحدة، فليكن تاريخ عكاظ إذًا تاريخا لكل أسواق العرب، وتاريخا لكثير من عاداتهم الاجتماعية أيضا.
عكاظ نخل في وادٍ بين مكة والطائف على مرحلتين من مكة ومرحلة من الطائف، وموقعها جنوب مكة إلى الشرق. هذا زبدة ما يستخلص من تعاريفهم المتضاربة في عكاظ1 تقوم السوق في مكان منه يعرف بالأثيداء فيه مياه ونخل، وهو مستوٍ لا علم فيه ولا جبل إلا ما كان من الأنصاب التي كانت لأهل الجاهلية، وبها من دماء
البدن كالأرحاء العظام1. كانوا يطوفون حول صخور فيها، وربما
كان ذلك شعيرة من شعائرهم, فقد ذكروا أنهم كانوا يحجون إليها. وبالأثيداء كانت أيام الفجار. والظاهر أن ما يطلق عليه "عكاظ" من الأرض متسع فسيح فيه حرار, وفيه أرضون مسقية ذات نخيل. وقد مر في حروب الفجار أن "شربا" من عكاظ، وأن "العبلاء" إلى جنب عكاظ، وأن "شمطة" موضع في عكاظ, وأن "الحريرة" حرة إلى جانب عكاظ مما يلي مهب جنوبها، وعرفت أن بني نصر صبروا مع ثقيف؛ لأن عكاظ بلدهم وذلك الذي أحماهم. ولا شك أن أرضا اتسعت بعض أجزائها لمعارك عدة أرض فسيحة واسعة، وبذلك نفهم كيف كانت السوق تتنقل في عكاظ, فلا تلازم بقعة واحدة لا تحيد عنها يمينا ولا شمالا على مدى السنين المتطاولة. وهي وما جاورها ديار قيس عيلان وهوازن منهم خاصة. وقد عرفت من حرب الفجار ص170 أن قريشا بادرت من
عكاظ مسرعة إلى الحرم؛ خوفا من هذه القبائل بعد قتل البراض، إذ كانت عكاظ في ديارهم، وهم بها أكثر ما يكونون منعة وعددا. أما اشتقاق عكاظ ولِمَ سميت بهذا الاسم، فقد ذهب اللغويون فيه مذاهب، وقلبوا الكلمة على معانيها المختلفة: فالقهر والحبس وردّ الفخر والتجادل والتحاج ... كل هذا معانٍ للعكظ وكلها صالحة لأن يعلل بها التسمية, فيقول قوم: سميت عكاظ؛ لأن العرب كانت تجتمع فيها فيعكظ بعضهم بعضا في المفاخرة أي: يقهره ويعركه، وقال آخرون: إنها من تعكّظ القوم, إذا تحبسوا لينظروا في أمورهم، وذهب غيرهم إلى أنها من التعاكظ بمعنى التفاخر. تقوم هذه السوق في ذي القعدة، وللعلماء بعد خلاف في تعيين أيامها من هذا الشهر؛ فالمرزوقي يجعلها تبدأ من نصفه حتى آخره، وآخرون يجعلون وقتها في شوال1, إلا أن الأكثرين على أنها تبدأ من أول ذي القعدة وتستمر حتى العشرين منه؛ إذ تبدأ سوق مجنة فيرتحل إليها الناس وهي أقرب من مكة، فإذا أهل ذو الحجة انقشع الناس من مجنة إلى ذي المجاز قرب عرفة, وبقوا فيها حتى يوم التروية فيبدأ الحج.
ويمكن جمع الأقوال المتقدمة بأن عكاظ قد تحفل بالناس في شوال ويتم تقاطرهم إليها في ذي القعدة؛ الزمن الرسمي للسوق. وحين تذهب جماعاتهم إلى مجنة في العشرين من ذي القعدة يتخلف كثير ممن لم يكن أنهى بيعه وشراءه فلا يتم خلو السوق تماما إلا في غرة ذي الحجة عند اقتراب الحج1. والسوق لقيس بن عيلان وثقيف وهي بمعكد هوازن، وأرضها لنصر، حتى لقد منعت هوازن قريشا مرة من حضور عكاظ، فقد روى الهمداني أنه لما طرد عبد الله بن جدعان القرشي مائة ناقة لكلاب بن ربيعة من هوازن، أرسل هذا إلى قريش: "إن سفيهكم أغار علي فطردنا2 مائة ناقة، فليس لكم أن تشهدوا عكاظ، ولي عليكم ترة، وكان عكاظ في وسط أرض قيس عيلان"3 ونوت قريش قتل ابن جدعان؛ لعدم استغنائها عن حضور السوق.
ينزل السوق "قريش وهوازن وغطفان وخزاعة والأحابيش وعضل والمصطلق وطوائف من أفناء العرب"1 يؤمونها من العراق والبحرين واليمامة وعمان والشحر واليمن وسائر أطراف الجزيرة. فهي عامة حتى إنه ليس فيها مكّاس ولا عشّار؛ لأنه لم تكن في ملك أحد من الأمراء. وقربها من مكة ومشاعر الحج ألبسها حرمة تتقصف دونها مطامع الكبراء، ولعل من أهم ميزاتها صفتها العامة هذه، أما الفصل بين الناس فيها فزعم المرزوقي "أن أمر الموسم وقضاء عكاظ كان في بني تميم يكون ذلك في أفخاذهم: الموسم على حدة، وعكاظ على حدة، وكان من اجتمع له ذلك منهم عامر بن الظرب العدواني وسعد بن زيد مناة من تميم، وقد فخر المخبل بذلك في شعره فقال: ليالي سعد في عكاظ يسوقها ... له كل شرق من عكاظ ومغرب ثم وليه "فلان وفلان ... " حتى جاء الإسلام فكان يقضي بعكاظ محمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم، وكان أبوه قاضيها في الجاهلية، فمات فصار ذلك ميراثا لهم، وكان آخر من قضى منهم ووصل إلى الإسلام الأقرع بن حابس". وكان الناس ينزلونها منحازين على مداعيهم وراياتهم في المنازل،
تضبط أمور كل قبيلة أشرافها وقادتها. ويختلط بعض الناس في بعض إذا هبطوا بطن السوق للبيع والشراء. تقيم العرب هؤلاء الأيام في عكاظ يتهيئون للحج ويتبايعون ويتناشدون ويتفاخرون ويتقارعون ويتنافرون ويتعاظمون1. ولم يكن مجمع للعرب أحفل من عكاظ، فكانوا يضربون بكثرة أهلها المثل، وبقيت لها هذه الشهرة بعد الإسلام، فقد جاء في الأمالي: أن عبد الرحمن بن ملجم قاتل علي بن أبي طالب لما سئل عن قتله عليا قال: "ضربته ضربة, لو كانت بأهل عكاظ لقتلتهم"2. وكما كان يقوم بأمر الحكومة عامة فيها بنو تميم3, كانت الحكومة في الشعر للنابغة الذبياني. لا عاشر لهذه السوق، وأما بيعهم فيها فهو السرار وجس اليد4.
وإليك الآن مُثُلا مما كان يجري في عكاظ سياسة ومنافرة وفداء أسرى، وأدبا وحربا ومتاجرة: 1- منافرة: اجتمع يزيد بن عبد المدان وعامر بن الطفيل بموسم عكاظ، وقدم أمية بن الأسكر الكناني وتبعته ابنة له من أجمل أهل زمانها, فخطبها يزيد وعامر. فقالت أم كلاب امرأة أمية: "من هذان الرجلان؟ " فقال: "هذا يزيد بن عبد المدان، وهذا عامر بن الطفيل" فقالت: "أعرف بني الديان، ولا أعرف عامرا" فقال: "هل سمعت بملاعب الأسنة؟ " فقالت: "نعم" قال: "فهذا ابن أخيه" وأقبل يزيد يفاخر خصمه فقال: "يا أمية, إن ابن الديان صاحب الكتيبة ورئيس مذحج ومكلم العُقاب، ومن كان يصوّب أصابعه فتنتطف دما ويدلك راحتيه فتخرجان ذهبا". فقال أمية: "بخ بخ! مرعى ولا كالسعدان"1,
"فأرسلها مثلا". فقال يزيد: يا عامر! هل تعلم شاعرا من قومي سار بمدحة إلى رجل من قومك؟ قال: اللهم لا. قال: فهل تعلم أن شعراء قومك يرحلون بمدائحهم إلى قومي؟ قال: اللهم نعم. قال: فهل لكم نجم يمان أو برد يمان أو سيف يمان أو ركن يمان؟ قال: لا. قال: فهل ملكناكم ولم تملكونا؟ قال: نعم. فنهض يزيد, وأنشأ يقول مخاطبا أبا البنت: أميَّ يابن الأسكر بن مدلج ... لا تجعلنْ هوازنا كمذحج إنك إن تلهج بأمر تلجج ... ما النبع في مغرسه كالعوسج ولا الصريح المحض كالممزج فزوج أمية يزيد بن عبد المدان ابنته, ثم لج التهاجي بين الرجلين.
2- في سبيل بغيّ: وافى معاوية بن عمرو بن الشريد عكاظ في موسم من مواسم العرب، فبينا هو يمشي بسوق عكاظ إذ لقي أسماء المرية وكانت جميلة، وزعم أنها كانت بغيا فدعاها إلى نفسه فامتنعت عليه, وقالت: "أما علمت أني عند سيد العرب هاشم بن حرملة؟ ". فأحفظته فقال: "أما والله لأقارعنه عنك" قالت: "شأنك وشأنه". فرجعت إلى هاشم فأخبرته بما قال معاوية وما قالت له, فقال هاشم: "لعمري, لا نريم أبياتنا حتى ننظر ما يكون من جهده". ثم مضى عام وأصاب قوم هاشم غرة من معاوية فقتل في خبر طويل، وكان بين الحيين يوم حوزة الأول ويوم حوزة الثاني ويوم ذات الأثل ويوم ملحان وهي من أيام العرب المشهورة الطافحة أدبا وشعرا ورجزا. ولها الفضل في إتحاف اللغة العربية بأكثر قصائد الخنساء؛ لأنها أخت معاوية هذا وأخيه صخر، فلهذه الأيام قالت الخنساء أبلغ الرثاء في الشعر العربي.
3- خطة غدر: لقي زرعة بن عمرو بن خويلد النابغة بعكاظ، فأشار عليه أن يشير على قومه بقتال بني أسد وترك حلفهم، فأبى النابغة الغدر، فبلغه أن زرعة يتوعّده فقال من قصيدة: نبثت زرعة والسفاهة كاسمها ... يهدي إلي غرائب الأشعار فحلفت يا زرع بن عمرو إنني ... رجل يشق على العدو ضراري أرأيت يوم عكاظ حين لقيتني ... تحت العجاج فما شققت غباري أنا اقتسمنا خطتينا بيننا ... فحملت برة واحتملت فجار1 فلتأتينك قصائد وليدفعن ... جيشا إليك قوادم الأكوار2 رهط ابن كوز محقبي أدراعهم ... فيهم ورهط ربيعة بن حذار و.. وبنو جذيمة حي صدق سادة ... غلبوا على خبت إلى تعشار متكنفي جنبي عكاظ كليهما ... يدعو بها ولدانهم عرعار3 ... إلخ. وهكذا لم يخنع للتهديد قاضي الشعراء في عكاظ، بل التزم
الوفاء وشهّر هذا الذي يريد أن يحمله على الغدر تشهيرا يدرك عاره كل من في عكاظ. 4- معاظمة في المصائب: أيام حوزة والأثل وملحان، ذهبت بوالد الخنساء عمرو بن الشريد وبأخويها صخر ومعاوية، فطفقت الخنساء تبكي قتلاها ولا تزداد على الأيام إلا إعظاما لمصيبتها, فقرّحت أجفان الناس بما بكت على هؤلاء وخاصة أخاها صخرا. انحدرت هذه الشاعرة العظيمة إلى عكاظ تسجل فيها رسميا أنها أعظم العرب مصيبة، فليس أحد أصيب بما أصيبت، فكانت تنزل كل عام على هودج سوّمته لتلفت إليها الأنظار، وجرت على هذه العادة أعواما. ثم كانت وقعة بدر التي انتصف فيها الإسلام من مناوئيه, وقتل فيها من أعدائه صناديد قريش: عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة. "فأقبلت هند بنت عتبة ترثيهم, وبلغها تسويم الخنساء هودجها في الموسم ومعاظمتها العرب بمصيبتها بأبيها عمرو بن الشريد وأخويها صخر ومعاوية, وأنها جعلت تشهد الموسم وتبكيهم وقد
سومت هودجها براية, وأنها تقول: "أنا أعظم العرب مصيبة" وأن العرب قد عرفت لها بعض ذلك، فلما أصيبت هند بما أصيبت به وبلغها ذلك قالت: "أنا أعظم من الخنساء مصيبة". وأمرت بهودج فسوم براية وشهدت الموسم بعكاظ, وجعلت تندب قتلاها بقولها: من حس لي الأخوين كالـ ... ـغصنين أو من رآهما قرمان1 لا يتظالما ... ن ولا يرام حماهما ويلي على أبوي والـ ... ـقبر الذي واراهما لا مثل كهلي في الكهو ... ل ولا فتى كفتاهما ... إلخ. وقالت: "اقرنوا جملي بجمل الخنساء" ففعلوا. فلما أن دنت منها قالت لها الخنساء: "من أنت يا أخية؟ " قالت: "أنا هند بنت عتبة أعظم العرب مصيبة، وقد بلغني أنك تعاظمين العرب بمصيبتك, فبم تعاظمينهم؟ ". فقالت الخنساء: "بعمرو بن الشريد وصخر ومعاوية ابني عمرو، وبم تعاظمينهم أنت؟ ". قالت: "بأبي عتبة بن ربيعة وعمي شيبة بن ربيعة وأخي الوليد بن عتبة".
قالت الخنساء: "أوسواء هم عندك؟! " ثم أنشدت تقول: أبكي أبي عمرا بعين غزيرة ... قليل إذا نام الخلي هجودها وصنويّ، لا أنسى معاوية الذي ... له من سراة الحرتين وفودها وصخرا، ومن ذا مثل صخر إذا غدا ... بساهمة الآطال قبا يقودها1 فذلك يا هند الرزية فاعلمي ... ونيران حرب حين شب وقودها فقالت هند تجيبها: أبكي عميد الأبطحين كليهما ... وحاميهما من كل باغ يريدها أبي عتبة الخيرات ويحك فاعلمي ... وشيبة والحامي الذمار وليدها أولئك آل المجد من آل غالب ... وفي العز منها حين ينمى عديدها وأمر هند والخنساء هذا في عكاظ، من أغرب ما يؤثر في باب التنافس واعتناء الناس بمصائبهم واهتمامهم بالتنويه بها وتخليدها في آدابهم ومحافلهم العامة. ولعل هذا المنظر، منظر تينك السيدتين بلباسهما الأسود وجمليهما المسومين، أطرف منظر شهدته عكاظ.
5- الفجار الأول: جلس بدر بن معشر الغفاري في مجلس له بعكاظ -وكان بدر رجلا حدثا منيعا مستطيلا بمنعته على من ورد عكاظ- فجعل يقول, ورجل على رأسه قائم: نحن بنو مدركة بن خندف ... من يطعنوا في عينه لا يطرف ومن يكونوا قومه يغطرف ... كأنهم لجة بحر مسدف1 وهو باسط رجله يقول: "أنا أعز العرب، فمن زعم أنه أعز مني فليضرب هذه بالسيف فهو أعز مني" فوثب رجل من بني نصر بن معاوية فضربه على ركبته فأندرها, ثم قال له: "خذها إليك أيها المخندف" وأنشد وهو شاهر سيفه: نحن بنو دهمان ذي التغطرف ... بحر لبحر زاخر لم ينزف نبني على الأحياء بالمعرف فتحاور الحيان عند ذلك, وثارا حتى كادت تكون فتنة ودماء. ثم تراجعوا ورأوا أن الخطب يسير. وهذا الذي هاج أول أيام الفجار بين كنانة وهوازن.
6- إتاوة: كان لزهير بن جذيمة العبسي إتاوة على هوازن، وكان إذا كانت أيام عكاظ أتاها زهير ويأتيها الناس من كل وجه، فتأتيه هوازن بالإتاوة التي كانت له في أعناقهم, فيأتونه بالسمن والأقط والغنم ... ثم إذا تفرق الناس عن عكاظ نزل زهير بالنفرات. أتت زهيرا يوما عجوز من هوازن بسمن في نحي، واعتذرت إليه وشكت السنين التي تتابعن على الناس، فذاقه زهير فلم يرض طعمه، فدعسها "طعنها" بقوس في يده عطل في صدرها, فاستلقت على قفاها فانكشفت وبدت عورتها، فغضبت من ذلك هوازن واضطغنتها عليه، مع ما كان في صدرها من الغيظ والحسد. فتذامرت عامر بن صعصعة يومئذ، وتألى خالد بن جعفر "من سراة هوازن" وقال: "والله لأجعلن ذراعي في عنقه حتى يُقتل أو أُقتل" وجعلوه من شأنهم في حروب وأيام حتى ظفروا به فقتلوه.
7- ظفر بثأر: "أقبل شأس بن زهير العبسي من عند النعمان بن المنذر، وكان قد حباه بحباء جزيل، وكان فيما حباه قطيفة حمراء ذات هدب، وطيلسان, وطيب، فورد منعجا "وهو ماء لغني" فأناخ راحلته إلى جانب الردهة، وعليها خباء لرياح بن الأسل الغنوي، وجعل يغتسل, فناداه الغنوي: "استتر" فلم يحفل بما قال، فقال: استتر ويحك، البيوت بين يديك، فلم يحفل، وامرأة رياح تنظر إليه وهو مثل الثور الأبيض، فانتزعه رياح بسهم فقتله ونحر ناقته, فأكلها وضم متاعه وغيّب أثره. فُقد شأس بن زهير، ومكث قومه كذلك ما شاء الله حتى رأوا امرأة رياح هذه باعت بعكاظ قطيفة حمراء أو بعض ما كان من حباء الملك، فعرفوها وعلموا أن رياحا صاحب ثأرهم. فغزت بنو عبس غنيا قبل أن يطلبوا قودا أو دية, وهرب رياح منهم، وكان لعكاظ الفضل في معرفة القاتل؛ إذ عملت في ذلك عمل رجال التحري اليوم. بقي قوم شأس ووالده زهير خاصة يكثرون القتل في غني
ولا يشتفون، وضرب الزمان ضرباته فالتقى خالد بن جعفر بن كلاب، هو ووالد شأس القتيل العبسي في عكاظ في الشهر الحرام، فقال خالد لزهير: "لقد طال شرنا منك يا زهير, أما آن لك أن تشتفي وتكف؟ " قال زهير: "أما والله ما دامت لي قوة أدرك بها ثأرا فلا انصرام له". وأغلظ له زهير وحقره. وكان ذلك الكلام بينهما أمام رجال من قريش كانوا في عكاظ، فلما حقره زهير وسبه قال خالد: "اللهم أمكن يدي هذه الشقراء القصيرة من عنق زهير بن جذيمة, ثم أعنى عليه". فقال زهير: "اللهم أمكن يدي هذه البيضاء الطويلة من عنق خالد ثم خل بيننا". فقالت قريش: "هلكت والله يا زهير". فقال: "إنكم -والله- الذين لا علم لكم". وكانت هوازن تؤتي زهير بن جذيمة الإتاوة كل سنة بعكاظ, وهو يسومها الخسف, وفي أنفسها منه غيظ وحقد. ومضى الرجلان وتفرق الجمع عن عكاظ, وبقي خالد وقومه يتربصون بزهير حتى وجدوا منه غرة فقتلوه.
وفي ذلك يقول خالد بن جعفر بن كلاب: بل كيف تكفرني هوازن بعدما ... أعتقتهم فتوالدوا أحرارا وقتلت ربهم زهيرا بعدما ... جدع الأنوف وأكثر الأوتارا وجعلت مهر نسائهم ودياتهم ... عقل الملوك هجائنا وبكارا 8- سيف يثأر لصاحبه: قُتل الحارث بن ظالم -وكان أحد الجبارين الفتاكين الذين أضرموا الجزيرة فتنا ودماء- قتله ابن الخس التغلبي؛ ثأرا بأبيه الذي كان كاهن يزيد بن عمرو الغساني, أمره بقتله الملك في خبر طويل ... فأخذ ابن الخس سيف الحارث بن ظالم، فأتى به عكاظ في الأشهر الحرم، فجعل يعرضه على البيع ويقول: "هذا سيف الحارث بن ظالم" فاشتراه قيس بن زهير بن جذيمة، فأراه إياه فعلاه به حتى قتله ثم أنشد قيس يرثي الحارث: وما قصرت من حاضن دون سترها ... أبر وأوفى منك حار بن ظالم أعز وأحمى عند جار وذمة ... وأضرب في كاب من النقع قاتم1
9- شريف غير مقنّع: كانت الفرسان إذا كانت أيام عكاظ في الشهر الحرام وأمن بعضهم بعضا تقنعوا كيلا يعرفوا، وكذلك كان حال الشرفاء، فإنه لا يوافي عكاظ شريف إلا على وجهه برقع؛ مخافة أن يؤسر يوما فيكبر فداؤه، وكان طريف بن تميم العنبري من مشهوري شجعان العرب وفرسانهم، لا يتقنع كما كانوا يتقنعون. فوافى عكاظ يوما وقد قتل رجلا من بني شيبان, وتطوع منهم رجل للأخذ بثأره من طريف, فقال لقومه: "أروني طريفا". فأروه إياه، فجعل كلما مر به تأمله ونظر إليه فأمعن النظر، ففطن طريف فقال: "ما لك تنظر إلي؟ " فقال: "أتوسمك لأعرفك، فلله علي إن لقيتك يوما أن أقتلك". فقال طريف في ذلك: أوكلما وردتْ عكاظ قبيلة ... بعثوا إلي عريفهم يتوسم فتوسموني إنني أنا ذلكم ... شاكي سلاحي في الحوادث معلم تحتى الأغر، وفوق جلدي نثرة ... زغف ترد السيف وهو مثلم1
حولي أسيد والهجيم ومازن ... وإذا حللت فحول بيتي خضم1 ولكل بكري لدي عداوة ... وأبو ربيعة شانئ ومحلّم فمضى لذلك ما شاء الله, ثم ظفر الرجل بطريف في يوم من أيام العرب, فقتله ثأرا لقتيله. 10- تأديب سفيه: كان عبد الله بن جعدة سيدا مطاعا، وكانت له إتاوة بعكاظ يؤتى بها؛ يأتيه بها هذا الحي من الأزد وغيرهم، فجاء سُمَير بن سلمة القشيري وعبد الله جالس على ثياب قد جمعت له من إتاوته, فأنزله عنها وجلس مكانه، فجاء رياح بن عمرو بن ربيعة بن عقيل -وهو الخليع، سمي بذلك لتخلعه عن طاعة الملوك لا يعطيهم الطاعة- فقال للقشيري: "ما لك ولشيخنا تنزله عن إتاوته ونحن ههنا حوله؟! ". فقال القشيري: "كذبت، ما هي له" ثم مد القشيري رجله فقال: "هذه رجلي فاضربها إن كنت عزيزا" قال: "لا, لعمري لا أضرب رجلك" فقال له القشيري: "فامدد لي رجلك حتى
تعلم أأضربها أم لا؟ " فقال: "ولا أمد لك رجلي، ولكن أفعل ما لا تنكره العشيرة، وما هو أعز بي وأذل لك" ثم أهوى إلى رجل القشيري فسحبه على قفاه ونحّاه, وأقعد عبد الله بن جعدة مكانه. 11- إغاثة: أغار قيس بن عاصم المنقري على بني مرة بن عوف بن ذبيان، فأسر أحد رجلين من هوازن جاورا في بني مرة. ففدى كل قوم أسيرهم من قيس بن عاصم، وتركوا الهوازني فاستغاث أخوه بوجوه بني مرة فلم يغيثوه. ركب الهوازني إلى موسم عكاظ, فأتى منازل مذحج ليلا, فنادى يذكر أسيره ومن استغاث بهم فردوه: دعوت سنانا وابن عوف وحارثا ... وعاليت دعوى بالحصين وهاشم أعيذهم في كل يوم وليلة ... بترك أسير عند قيس بن عاصم حليفهم الأدنى وجار بيوتهم ... ومن كان عما سرهم غير نائم فصمّوا وأحداث الزمان كثيرة ... وكم في بني العلات من متصامم فيا ليت شعري من لإطلاق غمة ... ومن ذا الذي يحظى به في المواسم فسمع صوتا من الوادي, ينادي بهذه الأبيات: ألا أيهذا الذي لم يُجَبْ ... عليك بحي يجلّي الكرب
عليك بذا الحي من مذحج ... فإنهم للرضى والغضب فنادِ يزيد بن عبد المدان ... وقيسا وعمرو بن معديكرب يفكوا أخاك بأموالهم ... وأقلل بمثلهم في العرب أولاك الرءوس فلا تعدهم ... ومن يجعل الرأس مثل الذنب؟ فاتبع الصوت فلم ير أحدا. فغدا على المكشوح قيس بن عبد يغوث المرادي فقص عليه قصته, وأمر الأبيات التي سمعها ثم قال له: "بدأت بك لتفك أخي" فقال المكشوح: "والله إن قيس بن عاصم لرجل ما قارضته معروفا قط ولا هو لي بجار، ولكن اشتر أخاك منه وعلي الثمن، ولا يمنعك غلاؤه" ثم أتى عمرو بن معديكرب فقال له مثل ذلك وسأله: "هل بدأت بأحد قبلي؟ " قال: "نعم، بقيس المكشوح" قال: "عليك بمن بدأت به" فتركه وأتى يزيد بن عبد المدان فقال: "يا أبا النضر, إن من قصتي كذا وكذا ... " فقال له: "مرحبا بك وأهلا، أبعث إلى قيس بن عاصم, فإن هو وهب لي أخاك شكرته، وإلا أغرت عليه حتى يتقيني بأخيك، فإن نلتها وإلا دفعت إليك كل أسير من بني تميم بنجران فاشتريت به أخاك" فقال أخو الأسير: "هذا الرضى" فأرسل يزيد إلى قيس بن عاصم بهذه الأبيات:
يا قيس أرسل أسيرا من بني جشم ... إني بكل الذي تأتي به جازي لا تأمن الدهر أن تشجى بغُصّته ... فاختر لنفسك إحمادي وإعزازي فافكك أخا منقر عنه وقل حسنا ... فيما سئلت وعقّبه بإنجاز فبلّغه الرسول ذلك, وقال: إن يزيد بن عبد المدان يقرأ عليك السلام, ويقول لك: "إن المعروف قروض ومع اليوم غد، فأطلق لي هذا الجشمي فقد استعان بأشراف بني جشم، فلم يصب حاجته فاستجار بي. ولو أرسلت إلي في جميع أساري مضر بنجران لقضيت حقك". فقال قيس بن عاصم لمن حضره من تميم: "هذا رسول يزيد بن عبد المدان سيد مذحج وابن سيدها ومن لا يزال له فيكم يد، وهذه فرصة لكم فما ترون؟ " قالوا: "نرى أن نُغليه عليه ونحكم فيه شططا, فإنه لن يخذله أبدا ولو أتى ثمنه على ماله كله" فقال قيس: "بئسما رأيتم، ألا تخافون سجال الحروب، ودول الأيام، ومجازاة القروض؟! " فأبوا عليه فقال: "بيعونيه" فاشتطوا بالثمن فتركه بأيديهم واعتذر إلى يزيد قائلا: "إن الأسير بيد رجل من سعد وقد اشتطوا في ثمنه". فأرسل يزيد إلى السعدي وقال له: "احتكم"
فقال: "مائة ناقة ورعاؤها معها" فقال يزيد: "إنك لقصير الهمة، قريب الغنى، جاهل بأخطار بني الحارث، أما والله لقد غبنتك يا أخا بني سعد، ولقد كنت أخاف أن يأتي ثمنه على جلّ أموالنا, ولكنكم يا بني تميم قوم قصار الهمم" وأعطاه ما احتكم, وفك الأسير الذي بقي هو وأخوه مجاورين لمن فكه حتى ماتا بنجران. 12- حروب الفجار: اختلاط أحياء العرب بعضها ببعض، وجمع عكاظ للأعداء المتنافرين في صعيد واحد، وتحريمها قتال بعضهم بعضا في أيامها التي هي في الأشهر الحرم، لم يمنع الشغب بين الناس ولا الخصومة والنضال بالكلام أو الشعر. وكثيرا ما كان يهان أحد أفراد قبيلة بكلمة يثلبه بها خصمه من القبيلة المعادية فينادي: يالَ فلان، وينادي الآخر: يالَ فلان، ويهيج الشر بين القبيلتين. وكم جرّ من حروب على الحي سفهاؤه، وما أكثر ما ألقى أراذل قوم كلمات غير مبالين، فجرت من أجلها الدماء حتى أشرف الحيان على الفناء والهلكة. وهذا ما وقع في أكثر أيام الفجار وهي حروب كانت في عكاظ بين قريش وكنانة من
جهة، وهوازن من الجهة الثانية. وقد تعددت الوقائع فيها مرة بعد مرة؛ ولذلك يقول دريد بن الصمة: تغيبت عن يومي عكاظ كليهما ... وإن يك يوم ثالث أتغيب وإن يك يوم رابع لا أكن به ... وإن يك يوم خامس أتجنب1 تعرف كتب الأدب والتاريخ من أحداث الفجار أربعة، فأما الرابع الذي هو أهمها وأكبرها فقد تقدم الكلام عليه في فصل مخصوص أول الكتاب ص162. ونتكلم هنا عن أيام الفجار الثلاثة الأولى, وهي جميعا لم تنته بحروب وإن كادت تشرف عليها؛ لأن أسبابها تافهة ولأن عقلاء الفريقين حالوا دون الشر، وبذلك نلم بأحوال سوق عكاظ إلماما شافيا. الفجار الأول: تقدم آنفا, وهو حادث بدر بن معشر الغفاري "ص300". الفجار الثاني: كان بين قريش وهوازن2, وكان الذي هاجه
أن فتية من قريش جلسوا في سوق عكاظ إلى امرأة وضيئة من بني عامر بن صعصعة، وقيل: بل أطاف بها شباب من بني كنانة لا من قريش، وعليها برقع وهي في درع فضل، فأعجبهم ما رأوا من هيئتها فسألوها أن تسفر عن وجهها فأبت عليهم. فأتى أحدهم من خلفها فشد ذيلها بشوكة إلى ظهرها وهى لا تدري. فلما قامت تقلص الدرع من خلفها, فضحكوا وقالوا: "منعتنا النظر إلى وجهها فقد رأينا خلفها", فنادت المرأة: "يا آل عامر! " فتحاور الناس وكان بينهم قتال ودماء يسيرة فحملها حرب بن أمية وأصلح بينهم. الفجار الثالث: "وهو بين كنانة وهوازن، وكنانة هم حلفاء قريش. وكان الذي هاجه أن رجلا من بني كنانة كان عليه دين لرجل من بني نصر بن معاوية. وكان الكناني فقيرا، فرآه دائنه النصري بسوق عكاظ، ومع النصري قرد وافى به السوق. فوقف في السوق ونادى: "من يبيعني مثل هذا القرد بمالي على فلان الكناني؟ " وجعل يعيد النداء حتى أكثر، تعييرا للكناني ولقومه. فمر به رجل من بني كنانة فسمعه, فحمي وضرب القرد بسيفه فقتله. فهتف النصري: يا آل هوازن! وهتف الكناني: يا آل كنانة! فتهايج الناس حتى كاد
يكون بينهم قتال. ثم رأو أن الخطب أيسر مما تكلفوا له, فتراجعوا ولم يفقم الشر بينهم". 13- واعظ: احتشد الناس في ناحية من عكاظ يتوسطهم شيخ وقور، على وجهه سمات اليقين والخير، وهو على جمل أورق، قد أرهف الناس إليه آذانهم مصغين، وأعينهم إلى وجهه، وقد شدهتهم الحيرة من ألفاظ تجري على لسانه من خبر السماء وما بعد الممات، وعظات لا عهد لهم بمثلها في أحيائهم النائية وأوطانهم الشاحبة, وإذا هو يخطبهم ويقول: "أيها الناس، اسمعوا وعوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آتٍ آت، ليل داج ونهار ساج، وسماء ذات أبراج، ونجوم تزهر، وبحار تزخر، وجبال مرساة، وأرض مدحاة، وأنهار مجراة. إن في السماء لخبرا وإن في الأرض لعبرا، ما بال الناس يذهبون ولا يرجعون؟! أرضوا فأقاموا أم تركوا فناموا؟! يقسم قس بالله قسما لا إثم فيه: إن لله دينا هو أرضى لكم وأفضل من دينكم الذي أنتم عليه. إنكم لتأتون من الأمر منكرا:
في الذاهبين الأوليـ ... ـن من القرون لنا بصائر لما رأيت مواردا ... للموت ليس لها مصادر ورأيت قومي نحوها ... تمضي الأكابر والأصاغر أيقنت أني لا محا ... لة حيث صار القوم صائر". سمع الناس هذا ثم أخذت أبصارهم أولئك الذين يطوفون حول الصخور في السوق، فانصرفوا حيرى، في أنفسهم شيء. وكان بين المنصرفين غلام حدث، هو صاحب الشريعة الإسلامية صلى الله عليه وسلم. بقي يذكر هذا المشهد حتى بعد أربعين سنة وقد طبقت الجزيرة دعوة الإسلام فأغارت وأنجدت، وقدمت على صاحبها وفود الأقطار بالطاعة والإجابة، وكان منهم وفد من إياد قوم قس، وفدوا على رسول الله فسمع منهم وقال لهم: "ما فعل قس بن ساعدة"؟ قالوا: "مات يا رسول الله" قال: "كأني أنظر إليه بسوق عكاظ على جمل له أورق, وهو يتكلم بكلام عليه حلاوة، ما أجدني أحفظه". فقال رجل من القوم: "أنا أحفظه يا رسول الله". فتلاه عليه, فلما انتهى قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"يرحم الله قسا، إني لأرجو أن يبعث يوم القيامة أمة وحده" 1. 14- تنافس شعراء: كان نابغة بني ذبيان تضرب له قبة من أدم بسوق عكاظ؛ يجتمع إليه فيها الشعراء. فدخل إليه حسان بن ثابت وعنده الأعشى قد أنشده شعره وحكم له، ثم أنشدته الخنساء قولها: قذى بعينك أم بالعين عوار ... ..................... حتى انتهت إلى قولها: وإن صخرا لتأتمّ الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار وإن صخرا لكافينا وسيدنا ... وإن صخرا إذا نشتو لنحّار فقال النابغة: لولا أن أبا بصير "كنية الأعشى" أنشدني قبلك لقلت: إنك أشعر الناس، أنت والله أشعر من كل ذات مثانة, قالت: "والله, ومن كل ذي خصيتين". فقال حسان: "أنا والله أشعر منك ومنها" قال: "حيث تقول ماذا؟ " قال: حيث أقول:
لنا الجفنات الغرّ يلمعن بالضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما ولدنا بني العنقاء وابني محرق ... فأكرم بنا خالا وأكرم بنا ابنما فقال النابغة: "إنك لشاعر لولا أن قللت عدد جفانك, وفخرت بمن ولدت ولم تفخر بمن ولدك! "1. 15- ترويج بنات: كان الأعشى يوافي سوق عكاظ في كل سنة, وكان المحلّق الكلابي مئناثا مملقا، فقالت له امرأته: "يا أبا كلاب, ما يمنعك من التعرض لهذا الشاعر؟ فما رأيت أحدا اقتطعه إلى نفسه إلا وأكسبه خيرا" قال: "ويحك, ما عندي إلا ناقتي وعليها الحمل". قالت: "الله يخلفها عليك" قال: "فهل له بد من الشراب والمسوح؟ ".
قالت: إن عندي ذخيرة لي ولعلي أن أجمعها". مر الشاعر فتلقاه المحلق قبل أن يسبق إليه أحد، وابنه يقوده، فأخذ الخطام فقال الأعشى: "من هذا الذي غلبنا على خطامنا؟ " قال: "المحلق" قال: "شريف كريم". ثم سلمه إليه فأناخه فنحر له ناقته, وكشط له عن سنامها وكبدها ثم سقاه، وأحاطت بنات به يغمزنه ويمسحنه، فقال: "ما هذه الجواري حولي؟ " قال المحلق: "بنات أخيك, وهن ثمانٍ شريدتهن1 قليلة". ثم خرج الأعشى من عنده ولم يقل فيه شيئا. فلما وافى المحلق عكاظ، إذا هو بسرحة قد اجتمع الناس عليها, وإذا الأعشى ينشدهم قصيدته التي مطلعها: أرقت وما هذا السهاد المؤرّق ... وما بي من سقم وما بي تعشق ولكن أراني لا أزال بحادث ... أغادي بما لم يمس عندي ويطرق ومنها: لعمري لقد لاحت عيون كثيرة ... إلى ضوء نار باليفاع تحرق تشب لمقرورين يصطليانها ... وبات على النار الندي و"المحلق"
رضيعي لبان ثدي أم تقاسمها ... بأسحم داج عوض لا نتفرق1 ترى الجود يجري ظاهرا فوق وجهه ... كما زان متن الهندواني رونق يداه يدا صدق: فكف مبيدة ... وكف إذا ما ضُن بالمال تنفق ومنها: أبا مسمع سار الذي قد فعلتمُ ... فأنجد أقوام به ثم أعرقوا2 ... إلخ. فما أتم الأعشى قصيدته إلا والناس ينسلون إلى المحلق يهنئونه. ثم أتى المحلق الأعشى فسلم عليه, فقال الأعشى: "مرحبا بسيد قومه" ثم نادى: "يا معشر العرب, هل منكم مذكار يزوج ابنه إلى الشريف الكريم؟ ". فتسابق الأشراف إليه جريا، يخطبون بناته لمكان شعر الأعشى. فما قام من مقعده وفيهن مخطوبة إلا وقد زوجها, ولم تمس واحدة منهن إلا في عصمة رجل خير من أبيها وأفضل.
فما قولك بفطنة امرأة المحلق، وحسن دعاية الأعشى، وهذا النوع من البضاعة التي روجتها عكاظ. 16- منحة محررة: حضر عكاظ من سراة الناس في أحد المواسم عمرو بن الشريد السلمي, وابناه معاوية وصخر أخوا الخنساء الشاعرة, وحضرها معمر بن الحارث جد جميل الشاعر الغزِل. فلما نظر معمر إلى عمرو صافنه "قام حذاءه" وأمر ولده أن يخدموه ففعلوا. فلما تقوضت السوق دعا عمرو بن الشريد ابنيه معاوية وصخرا, فقال لهما: "إن معمرا قد طوقني ما لم يطوقني أحد من العرب، وقد أحببت أن أكافيه" فقالا: "افعل ما بدا لك" فدعا بكاتب وصحيفة, فكتب: "هذا ما منح عمرو بن الشريد السلمي، معمر بن الحارث العذري": منحه ماله بالوحيدة من أخلاف يثرب، أطلال ذاك ومغانيه ورسومه وأعراصه ودواويه وزحاليفه وقريانه وبراذعه وقسوره
وعجرمه وبشامه وينعه وتاليه وحماطه وشبحه وأراكه وأحزته وحذاريه وآكامه وبرقه وعلجانه، وكل ما صاء وصمت فيه، وبكت السماء عليه وضحكت الأرض عنه فهو لمعمر دون عمرو. وممنوح به من نيات الصدر، لا يشوبه كدر الامتنان ولا أمارات الامتهان، مستنزل من هضاب الجندل وجرثومة ود بعيد المحل, لا تخلق الأيام جدته ولا يركد لمتنسم بارحه ما دام الزمان، وتوقد الحران وسمر ابنا سمير وأقام حراء وثبير1.
وكتب لخمسة وثلاثين عاما خلت من عام الفيل. ثم بعث بالكتاب مع طرف من طرائف اليمن وعدد إلى معمر. قال الأصمعي: فهي باقية إلى الآن يفيض على ولده دخلها, وذلك في أيام الرشيد رحمه الله1. وهذا سند تمليك محرر، صدر عن عكاظ ليعرفنا كم تهز الأريحية من نفوس الكرام.
17- صفقة خاسرة "أخسر صفقة من شيخ مهو": كانت إياد تُسبّ بالفسو وتُعيَّر به، فقام رجل من إياد بسوق عكاظ ومعه بردا حبرة فقال: "من يشتري مني عار الفسو بهذين البردين؟ ". فقام عبد الله بن بيدرة أخو مهو "ومهو حي من عبد القيس" فقال: "هاتهما، واشهدوا أني اشتريت عار الفسو من إياد لعبد القيس بهذين البردين". فلما أتى رحله, وسئل عن البردين قال: "اشتريت لكم بهما عار الدهر" فوثبت عبد القيس وقالت: إن الفساة قبلنا إياد ... ونحن لا نفسو ولا نكاد وتفرق الناس عن عكاظ بابتياع عبد القيس عار الفسو حتى قال الشاعر: يا من رأى كصفقة ابن بيدرة ... من صفقة خاسرة مخسرة
المشتري الفسو ببردي حبرة ... شلت يمين صافق ما أخسره وسارت هذه الصفقة الخاسرة مثلا بين الناس. قال ابن دارة: وإني إن صرمت حبال قيس ... وحالفت المزون على تميم لأخسر صفقة من شيخ مهو ... وأجور في الحكومة من سدوم1 وتلك غريبة في بابها بين جميع مآتي القوم في عكاظ. 18- فتنة جمال: زعموا: "أن جارية بن سليط كان أحسن الناس وجها وأمدهم جسما، وأنه أتى عكاظ فأبصرته امرأة من خثعم فأعجبها، وتلطفت له حتى وقع عليها، فلما فرغ قالت: "إنك قد أتيتني على طهر، وإني لا أدري لعلي سأعلق لك ولدا، فموعدك فصال ولدي إن حملت لك" فسمى لها اسمه. ثم وافى عكاظ لرأس ثلاثة أحوال, وأقبلت المرأة مع أمها وخالتها يلتمسنه بعكاظ حتى رأته المرأة فعرفته, وقالت لأمها: "هذا جارية" قالت أمها: "بمثل جارية فلتزن الزانية، سرا أو علانية".
ووجد الرجل أن المرأة قد ولدت غلاما وفطمته. ثم دفعن إليه الغلام فسماه عوفا, فشرف وساد قومه, وهو عوف الأصم1. 19- راية غدر: والذي يثلج الصدر ويشفي النفس من مآثر عكاظ، مشهد نستطيع أن نفيد فيه درسا بليغا, ومثالا فعالا, وأسلوبا ناجحا في محاربة الخائنين، ووددت -والله- لو أخذنا به في أيامنا العصيبة هذه، واحتذينا مثاله، إذًا لبقي كل ساعٍ في فساد يذوق الموت ألوانا حتى يلاقي ربه بالموت المريح. قال المرزوقي: "كانوا إذا غدر الرجل أو جنى جناية عظيمة، انطلق أحدهم حتى يرفع له راية غدر بعكاظ، فيقوم رجل فيخطب بذلك الغدر فيقول: "ألا إن فلان بن فلان غدر, فاعرفوا وجهه ولا تصاهروه ولا تجالسوه ولا تسمعوا منه". فإن أعتب وإلا جعل له مثل مثاله في رمح, فنصب بعكاظ فلعن ورجم!! وهو قول الشماخ: ذعرت به القطا ونصبت عنه ... مقام الذئب كالرجل اللعين"
وهي خطوة حاسمة موفقة في السياسة السلبية لمحاربة الرذائل، ما أظن أن أحدا اهتدى إليها قبل العرب ولا بعدهم. لم يغفل العرب في عكاظ أن يرفعوا مقابل ذلك راية وفاء لمن أتى مكرمة كلفته المغارم ثم مضى فيها ولم ينكص، فقد ذكروا: أن عامر بن جوين رفعت له كندة راية غدر في صنيعه بامرئ القيس بن حجر في وجهه إلى قيصر، ورفعت له فزارة راية وفاء في صنيعه بمنظور بن سيار حيث أقحمته فصار بماله وإبله وأهله إلى الجبلين, فأجاره عامر ووفى له, وصار الناس بين حامد له وذام1. 20- داعية الإسلام: وقف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد مبعثه بثلاث سنين في عكاظ، يدعو الناس إلى الخير والهدى والسعادة. وقد لزمه منذ قيامه بالدعوة حزن عميق على قومه الذين كفروا بنعمة الله، وآلمه ألا يراهم مسارعين إلى ما به صلاحهم، فعزم ليقصدن المواسم وليأتين فيها القبائل، كل قبيلة بمنزلها، وكل جماعة في حيهم، يعرض عليهم هذا
الدين الجديد. ولقد حرص الحرص كله على أن يهتدوا، وكان أسفه يشتد كلما ألحّ قومه بالصدّ، قام في عكاظ يقول: "يا أيها الناس, قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا وتنجحوا" ويتبعه رجل له غديرتان كأن وجهه الذهب, وهو يقول: "يا أيها الناس, إن هذا ابن أخي, وهو كذاب فاحذروه". فعرف الناس أن هذا "الصادّ عن سبيل الله" هو عمه أبو لهب بن عبد المطلب، يكذبه كلما قال كلمة الحق. عاود الدعوة مرارا فلم يُجَب ولم ييأس, ورجا أن يجد فيهم الحامي والمجير على الأقل إذ لم يجد المجيب، فكان يقول للحي في موسم عكاظ: "لا أكره منكم أحدا على شيء. من رضي الذي أدعوه إليه قبله، ومن كرهه لم أكرهه. إنما أريد أن تحوزوني مما يراد بي من القتل، فتحوزوني حتى أبلغ رسالات ربي ويقضي الله لي ولمن صحبني بما شاء" 1. كان الناس يعجبون من أمره وأمر عمه، وهم بين راضٍ وغاضب
ومتعجب يرى بعينه ثم يمضي كأن الأمر لا يهمه، ومنهم من لا ينكر ما يسمع ومنهم من يرد أقبح الرد، ومنهم من يقول: قومه أعلم به. كان هذا دأبه أبدا يوافي به القبائل سنة بعد سنة، حتى إن منهم من قال له: "أيها الرجل، ما آن لك أن تيأس؟ " من طول ما يعرض نفسه عليهم. انتهى رسول الله في تطوافه على القبائل في عكاظ إلى بني محارب بن خفصة. فوجد فيهم شيخا ابن عشرين ومائة سنة، فكلمه ودعاه إلى الإسلام وأن يمنعه حتى يبلّغ رسالة ربه, فقال الشيخ: أيها الرجل قومك أعلم بنبئك، والله لا يئوب بك رجل إلى أهله إلا آب بشر ما يئوب به أهل الموسم، فأغْنِ عنا نفسك" وإن أبا لهب لقائم يسمع كلام المحاربي. ثم وقف أبو لهب على المحاربي فقال: "لو كان أهل الموسم كلهم مثلك لترك هذا الدين الذي هو عليه، إنه صابئ كذاب" قال المحاربي: "أنت والله أعرف به، هو ابن أخيك ولحمتك". ثم قال المحاربي: "لعل به يا أبا عتبة لمما, فإن معنا رجلا من الحي يهتدي لعلاجه" فلم يرجع أبو لهب بشيء1.
روى عبد الرحمن العامري عن أشياخ من قومه قالوا: "أتانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن بسوق عكاظ فقال: "ممن القوم"؟ قلنا: "من بني عامر بن صعصعة" قال: "من أي بني عامر"؟ قلنا: "بنو كعب بن ربيعة" قال: "كيف المنعة فيكم"؟ قلنا: "لا يرام ما قبلنا ولا يصطلى بنارنا" فقال: "إني رسول الله, فإن أتيتكم تمنعوني حتى أبلغ رسالة ربي ولم أُكره أحدا منكم على شيء"؟ قالوا: "ومن أي قريش أنت؟ " قال: "من بني عبد المطلب" قالوا: "فأين أنت من بني عبد مناف؟ " قال: "هم أول من كذبني وطردني" قالوا: "ولكننا لا نطردك ولا نؤمن بك, ونمنعك حتى تبلغ رسالة ربك". فنزل إليهم والقوم يتسوقون, إذ أتاهم بجرة بن قيس القشيري فقال: "من هذا الذي أراه عندكم أنكره؟ " قالوا: "هذا محمد بن عبد الله القرشي" قال: "وما لكم وله؟ " قالوا: "زعم لنا أنه رسول الله، يطلب إلينا أن نمنعه حتى يبلغ رسالة ربه" قال: "فماذا رددتم عليه؟ " قالوا: "قلنا: في الرحب والسعة، نخرجك إلى بلادنا ونمنعك مما نمنع به أنفسنا" قال بجرة: "ما أعلم أحدا من أهل هذه السوق يرجع
بشيء أشر من شيء ترجعون به، بدأتم لتنابذكم الناس وترميكم العرب عن قوس واحدة، قومه أعلم به، لو آنسوا منه خيرا لكانوا أسعد الناس به، تعمدون إلى رهيق قوم قد طرده قومه وكذبوه فتؤوونه وتنصرونه؟ فبئس الرأي رأيتم". ثم أقبل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "قم، ألحق بقومك, فوالله لولا أنك عند قومي لضربت عنقك". فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى ناقته فركبها، فغمز الخبيث بجرة شاكلتها فقمصت برسول الله فألقته. وعند بني عامر يومئذ ضباعة بنت عامر بن قرط، كانت من النسوة اللاتي أسلمن مع رسول الله بمكة، جاءت زائرة إلى بني عمها فقالت: "يال عامر ولا عامر لي! أيصنع هذا برسول الله بين أظهركم لا يمنعه أحد منكم؟! ". فقام ثلاثة نفر من بني عمها إلى بجرة، وثلاثة أعانوه، فأخذ كل رجل منهم رجلا فجلد به الأرض ثم جلس على صدره ثم علقوا وجوههم لطما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم بارك على هؤلاء, والعن هؤلاء". فلما صدر الناس رجعت بنو عامر إلى شيخ لهم قد كان أدركته السن, حتى لا يقدر أن يوافي معهم الموسم، فكانوا إذا رجعوا إليه
حدثوه بما يكون في ذلك الموسم، فلما قدموا عليه سألهم عمن كان في الموسم فقالوا: جاءنا فتى من قريش ثم حدث أنه أحد بني عبد المطلب, يزعم أنه نبي, يدعونا إلى أن نمنعه ونقوم معه ونخرج به معنا إلى بلادنا". فوضع الشيخ يده على رأسه ثم قال: "يا بني عامر! هل لها من تلاف؟ هل لذناباها من تطلّب؟ فوالذي نفس فلان بيده، ما تقوّلها إسماعيلي قط، ألا إنها الحق، فأين كان رأيكم؟!! ""1. 21- خمر: بعث رجل من بني جشم امرأته -واسمها عبلة بنت عبيد بن خالد ... بن حنظلة- إلى عكاظ بأنحاء سمن تبيعها له فيها، فباعت السمن وراحلتين وشربت بثمنها الخمر، فلما نفد الثمن رهنت ابن أخيه وهربت، فطلقها, فقالت في شربها الخمر: شربت براحلتي محجن ... فيا ويلتي، محجن قاتلي وبابن أخيه على لذة ... ولم أحتفل عذلة العاذل
وتزوجها عبد شمس بن عبد مناف فولدت له أمية الأصغر وعبد أمية ونوفلا، وهم العبلات. 22- تلقيب: ساوم ربيعة بن عمرو بقدح في عكاظ فاستصغره, فقال لصاحبه: "لو وضعت فيه حوثرتي "حشفتي" لملأته" فسمي حوثرة بذلك. 23- تصاريف القدر: وهذا غلام وقع في الأسر وبِيع في عكاظ, وكان له في هذا البيع وذلك الأسر كل الخير، إذ افتتح لنفسه صفحة في التاريخ مجيدة فأصبح من أعلامه، ولنترك الطبري يقص كيف بدأ أمره في عكاظ في مواسم الحج: زارت أم زيد بن حارثة قومها من بني معن بن طيء وزيد معها، فأغارت خيل لبني القين بن جسر في الجاهلية، فمروا على أبيات بني معن رهط أم زيد، فاحتملوا زيدا وهو يومئذ غلام يفعة قد أوصف، فوافوا به سوق عكاظ فعرضوه للبيع، فاشتراه منهم حكيم بن حزام لعمته خديجة بنت خويلد بأربعمائة درهم، فلما تزوجها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
وهبته له، فقبضه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إليه, وقد كان أبوه حارثة بن شراحيل حين فقده قال: بكيت على زيد ولم أدر ما فعل ... أحي فيرجى أم أتى دونه الأجل فوالله ما أدري وإن كنت سائلا ... أغالك سهل الأرض أم غالك الجبل فيا ليت شعري هل لك الدهر رجعة ... فحسبي من الدنيا رجوعك لي بجل تذكرنيه الشمس عند طلوعها ... وتعرض ذكراه إذا قارب الطفل وإن هبت الأرواح هيجن ذكره ... فيا طول ما حزني عليه وما وجل سأعمل نص العيس في الأرض جاهدا ... ولا أسأم التطواف أو تسأم الإبل حياتي أو تأتي علي منيتي ... وكل امرئ فانٍ وإن غره الأمل وأوصي به عمرا وقيسا كليهما ... وأوصي يزيدا ثم من بعدهم جبل قال: "يريد جبلة بن حارثة أخا زيد، وكان أكبر من زيد، ويعني بيزيد أخا زيد لأمه, وهو يزيد بن كعب بن شراحيل". وحج ناس من كلب فرأوا زيدا فعرفهم وعرفوه, فقال: أبلغوا أهلي هذه الأبيات, فإني أعلم أنهم قد جزعوا علي, وقال: ألكني إلى قومي وإن كنت نائيا ... بأني قطين البيت عند المشاعر فكفوا من الوجد الذي قد شجاكم ... ولا تعملوا في الأرض نص الأباعر
فإني بحمد الله في خير أسرة ... كرام معد كابرا بعد كابر فانطلق الكلبيون فأعلموا أباه، فقال: ابني ورب الكعبة، ووصفوا له موضعه وعند من هو، فخرج حارثة وكعب ابنا شراحيل بفدائه وقدما مكة, فسألا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فقيل: هو في المسجد، فدخلا عليه فقالا: يابن عبد الله يابن عبد المطلب يابن هاشم يابن سيد قومه! أنتم أهل حرم الله وجيرانه وعند بيته تفكون العاني وتطعمون الأسير، جئناك في ابننا عندك فامنن علينا وأحسن إلينا في فدائه, فإنا سنرفع لك في الفداء" قال: "من هو"؟ قالوا: "زيد بن حارثة" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فهلا غير ذلك"؟ قالوا: وما هو؟ قال: "أدعوه فأخيره, فإن اختاركم فهو لكما بغير فداء, وإن اختارني فوالله ما أنا بالذي أختار على من اختارني أحدا" فقالا: قد زدتنا على النصف وأحسنت ... فاختار زيد محمدا وقال: "إني قد رأيت من هذا الرجل شيئا ما أنا بالذي أختار عليه أحدا أبدا". فلما رأى ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخرجه إلى الحجر فقال: "يا من حضر, اشهدوا أن زيدا ابني أرثه ويرثني" فلما رأى ذلك أبوه وعمه طابت أنفسهما وانصرفا1.
24- نداء: وهذا منادي عامر بن الطفيل وهو واحد من منادين كثيرين، قائمين وطوافين، نستمع إليه فإذا هو يقول: "هل من راجل فنحمله، أو جائع فنطعمه، أو خائف فنؤمنه ... "1. 25- منهب المعزى: في ناحية من عكاظ، وقف شيخ هِمّ حطمته السنون فلا يكاد يستقل واقفا، ومن ورائه معزى كثيرة تكاد تملأ السهل، وأسارير الشيخ ناطقة بالغضب وحرج الصدر، وإن الناس يتساءلون, وقد عرفه بعض وجهله بعض: ما باله؟ فيجيب المجيب: "ذلك سعد بن زيد مناة بن تميم الملقب بـ "الفزر" أكثر قومه مالا وولدا"، ويجتمع عليه الناس وقد علموا أن له لشأنا، فإذا به يقول: "أيها الناس، ألا إن هذه معزاي، فلا يحل لرجل أن يدع أن يأخذ منها شاة، ولا يحل لرجل أن يجمع منها شاتين".
فاندفع الناس على الغنم ينتهبونها ويذهب كل لطيته، فما هو أن يسأل سائل عما حمل سعدا على إنهاب معزاه حتى يعلم أنه طلب يوما إلى ابنه هبيرة أن يسرح في معزاه فيرعاها, فأجاب هبيرة: "والله لا أرعاها سن الحسل"1, فنادى سعد ولده الآخر صعصعة قائلا: "يا صعصعة, اسرح في غنمك". قال: "لا والله لا أسرح فيها، ألوة1 الفتى هبيرة". فغضب سعد وسكت على ما في نفسه, حتى إذا أصبح ساق المعزى كلها إلى عكاظ، فكان منه ما رأى الناس. سار هذا الحدث في عكاظ بين العرب واشتهر حتى صار مثلا يضرب، إذا أراد أحدهم قطع أمل صاحبه من أمر قال: لا أفعله "حتى يجتمع معزى الفزر" وأصبحت هذه القولة من أمثال العرب. قال شبيب بن البرصاء: ومرة ليسوا نافعيك ولن ترى ... لهم مجمعا حتى ترى غنم الفزر1
26- منهب الرزق: أما هذا ففتى المشرق نهيك بن مالك "قدم مكة بطعام ومتاع للتجارة، فرآهم مجهودين، فأنهب العير بما عليها" وها هم أولاء الناس يتهافتون على أرزاقه في عكاظ, يأخذ كل ما يقشع به عن نفسه وأهله الجوع والفقر. فلما انكشف الناس ولم يبقوا في أرض عكاظ من مال نهيك شيئا، وكان الخبر قد طار في أقطار عكاظ، أقبل خاله عليه يعاتبه على إنهاب ماله، فقال نهيك: يا خالُ ذرني ومالي ما فعلت به ... وما يصيبك منه، إنني مودي إن نهيكا أبى إلا خلائقه ... حتى تبيد جبال الحرة السود فلن أطيعك إلا أن تخلدني ... فانظر بكيدك هل تسطيع تخليدي الحمد لا يشترى إلا له ثمن ... ولن أعيش بمال غير محمود1 27- فرسان العرب: "اجتمع العكاظيون على أن فرسان العرب ثلاثة: ففارس تميم عتيبة بن الحارث بن شهاب أحد بني ثعلبة بن يربوع بن حنظلة, صياد الفوارس وسم الفرسان.
وفارس قيس عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر بن كلاب, وفارس ربيعة بسطام بن قيس ... بن بكر بن وائل". "ثم اختلفوا فيهم, حتى نعوا عليهم سقطاتهم"1. 28- ما رأيت شيخا أكذب: مر المستوغر بن ربيعة, شاعر معمر، بعكاظ يوما وعلى ظهره ابن ابنه شيخا هرما، فأعيا من حمله فوضعه بالأرض وقال: "عنيتني صغيرا وكبيرا" فسمعه رجل فساءه ذلك, فالتفت إليه ناصحا: يا عبد الله, أتقول هذا لأبيك؟! أحسن إليه فطالما أحسن إليك. قال: أوتدري من هو؟! قال: نعم، هو أبوك أو جدك. قال: هو والله ابن ابني. قال الرجل: ما رأيت شيخا أكذب، لو كنت المستوغر بن ربيعة ما زدت. قال: فأنا المستوغر بن ربيعة! 2.
الآن وقد استعرضت هذه المشاهد، وذكّرتك هذه الفقرات جوا خاصا تتصوره لعكاظ كلما مرت بك في نقلة من نقل الأدب أو التاريخ، الآن تستطيع أن تفهم: لم يعد مؤرخو الأدب عكاظ في أول ما وحّد لهجات القبائل العربية قبل نزول القرآن الكريم بأكثر من قرن، وهيأ لقريش خاصة تلك الزعامة والتحكم في اللغة والانتقاء, فسلمت من عيوب اللهجات؟ وعرفت أيضا أن عكاظ دنيا تعج بالقاصدين من كل فج عميق، وأن فيها الخطباء المصاقع يخطبون، والشعراء الفحول ينشدون، والأعزة والأشراف يتفاخرون
ويتنافرون ويتسابقون1، والموتورين يؤمونها للبحث عن واتريهم، ومن له أسير سعى إلى عكاظ في فكاكه، ومن أراد أن يأتي عملا تعرفه له العرب عامة أتاه في عكاظ، ومن أتى مكرمة في قطر فأحب أن تخلد جاء إلى عكاظ, فشهر فيها أمره. قال أبو ذؤيب: إذ بني القباب على عكاظ ... وقام البيع واجتمع الألوف وقال آخر يضرب بها المثل: فإنك ضحاك إلى كل صاحب ... وأنطق من قس غداة عكاظها وهجا أمية بن خلف الخزاعي حسان وأراد إيلامه, فعنونها إلى عكاظ فقال: ألا من مبلغ حسان عني ... مغلغلة تدب إلى عكاظ
أليس أبوك فينا كان قينا ... لدى القينات فسلا في الحفاظ يمانيا يظل يشد كيرا ... وينفخ دائما لهب الشواظ1 ... إلخ. فيجيبه حسان: أتاني عن أمية زور قول ... وما هو بالمغيب بذي حفاظ سأنشر ما حييت لهم كلاما ... ينشّر بالمجامع من عكاظ2 فأنت إذ تجول في عكاظ, يتقسّم سمعك خطب وقصائد ومفاخرات ومنافرات وخصومات وأنماط من البيع لا تتشابه، وأزياء في اللبس والتكلم والمراكب ... تجمعت من كل صوب. ولما قال عمرو بن كلثوم قصيدته: ألا هي بصحنك فاصبحينا ... في العراق، أحب أن تسير في الناس ويكتب لها الخلود، فسعى إلى عكاظ في الموسم، فقام بهذه القصيدة خطيبا ثم قام بها أيضا في موسم مكة. وكذلك قل في بقية القصائد الطوال التي يسمونها "المعلقات",
فما كان الإجماع ليعقد على أنها أجود الشعر لولا أن المحكّمين في عكاظ شهدوا لها بذلك, وأقر السامعون بتفوقها. تلك مشاهد عامة مما كان يجري في عكاظ، وكأن العرب الذين عرضوا في هذه السوق متاجرهم وأموالهم وأنعامهم، وعرضوا فيها أدبهم وشعرهم، أبوا إلا أن يعرضوا بقية مقوماتهم, فرأينا مشاهد عن سياستهم وصلحهم وحربهم. ولو كان لعربي أن يصبر على ضيم قريب أو بعيد لصبر هؤلاء الجيران في هذه السوق العامة، ولكن طرح الخسف ورد الضيم في نفس العربي هو قبل التجارة والأدب، ورفع الذل عنده أهون وسائله إهراق الدماء وقطع وريد الحياة؛ لأنه لا يفقه عيشا بقيد ولا يتصور حياة بذل. والظاهر أن احتفال الناس بعكاظ لم يكن واحدا دائما، فقد كان في بعض السنين يربي على الغاية في الازدحام والحركة، حتى تضيق السوق بمن فيها, وحتى يربح التاجر والجالب إليه ربحا عظيما لا يتأتى إلا في الفرط النادر. قال المرزوقي: "فلما دخلت سنة خمس وثلاثين من عام الفيل, حضر السوق من نزار واليمن ما لم يروا أنه حضر مثله في سائر السنين، فباع الناس ما كان معهم من إبل وبقر ونقد, وابتاعوا أمتعة مصر والعراق والشام ... ".
هي إذًا معرض عام للجزيرة العربية: فيها عرض لتجارات جميع الأقطار وعرض للبيوع وعرض للعادات والأديان واللغات والآداب، وللسياسة ... وفيها لجان رسمية على نحو ما نألف في معارضنا اليوم، تحكم للمتفوق بتفوقه حكما نافذا من أقصى الجزيرة إلى أقصاها. وتزيد على معارضنا بميزة جليلة، وهي صهرها لعادات القبائل ولغاتها ومواضعاتها لتنتقي منها أحسنها وأخلقها بالبقاء. لسنا نعلم لهذه السوق بداية محدودة إلا أنا نرجح وجودها قبل القرن السادس الميلادي1، ولما جاء الإسلام وتوطدت أركانه في
الجزيرة والعراق والشام بدأ شأنها يضؤل، ولم تزل قائمة إلى أن خرجت الخوارج الحرورية مع المختار بن عوف بمكة سنة "129" للهجرة, فنهبوها فتركت إلى الآن. وعلى هذا, تكون هذه السوق قد عمرت أكثر من قرنين ونصف القرن.
سوق مجنة
سوق مجنة: مجنة موضع "وقيل: بلد" قرب مكة على أميال منها، تقع بمر الظهران، قرب جبل يقال له: الأسفل, وهو بأسفل مكة على قدر بريد منها، ميمها بالفتح وتكسر1. والظاهر أنها من المواطن التي لا ينساها أهل مكة لبعض جمال فيها, ولأنها ذات مياه، فقد جاء في في كتب السيرة: أن بلالا لما هاجر إلى المدينة وأصيب بالحمى، تشوق إلى مكة ومواطنها وتغنى بقوله: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بفخ وحولي إذخر وجليل وهل أردن يوما مياه مجنة ... وهل يبدون لي شامة وطفيل2
هذه السوق لكنانة وأرضها من أرض كنانة، تقوم في العشر الأخير من ذي القعدة1 ويقصدها العرب بقضّهم وقضيضهم بعد أن تنفضّ سوق عكاظ، يتممون فيها ما قصدوا له من تجارة وفداء وتفاخر و ... على شبه التفصيل المتقدم في عكاظ, ويجلب إليها ما يجلب إلى تلك من متاع وعروض. ولم تكن الخمر لتقل فيها شأنا عن بقية الأسواق, فقد كانت تحمل إليها من معادنها من الشام، ومن بصرى وغزة حتى صار يشيد بذكرها الشعراء. قال أبو ذؤيب الهذلي: سلافة راح ضمنتها إداوة ... مقيَّرة ردف لمؤخرة الرحل تزوّدها من أهل بصرى وغزة ... على جسرة مرفوعة الذيل والكفل فوافى بها عسفان ثم أتى بها ... "مجنة" تصفو في القلال ولا تغلي2 ومجنة وعكاظ وذو المجاز تستوي في نظر المحرمين من العرب
وتتمتع منهم جميعا باحترام واحد, حتى إن بعضهم لا يردها إلا محرما. قال الأزرقي: "كانت قريش وغيرها من العرب تقول: "لا تحضروا سوق عكاظ ومجنة وذي المجاز إلا محرمين بالحج". وكانوا يعظمون أن يأتوا شيئا من المحارم, أو يعدو بعضهم على بعض في الأشهر الحرم وفي الحرم"1. ومجنة -وإن قرنت في أغلب الأحيان مع عكاظ وذي المجاز- دون هاتين السوقين شأنا, حتى إن المرزوقي لم يذكرها مستقلة كما ذكر غيرها, بل اكتفى بقوله: "وزاد بعضهم في الأسواق المجنة, وهو قريب من ذي المجاز".
سوق ذي المجاز
سوق ذي المجاز: لهم في تحديدها قولان: أحدهما أنها على فرسخ من عرفة بناحية كبكب، وكبكب جبل بعرفات خلف ظهر الإمام إذا وقف. ذكره ياقوت وغيره, وهو أحد قولين نقلهما الزبيدي. والثاني: أنها موضع بمنى، ومنى بين مكة وعرفات في نصف الطريق تقريبا، والذين نقلوا الأول أكثر عددا وإن كان القول الثاني أدنى إلى القبول. وسمي ذا المجاز؛ لأن إجازة الحاج كانت منه، ولعل السوق أحيانا تمتد أو يتنقل الناس فيها: يقتربون ويبتعدون حتى تشغل هذه المسافة1. وذو المجاز من ديار هذيل، هم أهلها وجيرانها الأدنون. يكثر ورود ذي المجاز في شعر العرب, ولا سيما شعراء هذيل؛ لأنها من أسواقهم الكبرى، ومن المواسم أيضا. قال أبو ذؤيب الهذلي: وراح بها من ذي المجاز عشية ... يبادر أولى السابقات إلى الحبل وقال الليثي:
للغانيات بذي المجاز رسوم ... في بطن مكة عهدهن قديم أما التي ذكرها الحارث بن حلزة في معلقته: واذكروا حلف ذي المجاز وما ... قدم فيه العهود والكفلاء فالغالب أنها التي في شمال الجزيرة؛ لأن مقام قبيلته يشكر والأحداث بينها وبين غيرها كانت هناك. إذا انقشع الناس عن مجنة حين يهل ذو الحجة, ساروا بأجمعهم إلى هذه السوق, وأقاموا بها حتى اليوم الثامن من ذي الحجة، وهو يوم التروية، سمي بذلك لأنهم كانوا يرتوون فيه من الماء ويملئون أوعيتهم لما بعده, إذ لا ماء بعرفة. وإلى هذه السوق تتقاطر وفود الحجاج من سائر العرب ممن شهد الأسواق قبلها، أو لم يشهدها وأتى للحج خاصة، إذ إن ذا المجاز من مواسم الحج عندهم. تحفل1 ذو المجاز لوقوعها أيام الحج بجموع العرب وتجارهم
وأشرافهم، وهي تلي عكاظ في الشأن، ويجري فيها ما يجري في هذه من تبايع وتناشد وتفاخر وفداء أسرى وطلب ثأر ... إلخ، يقصدها صاحب الثأر ليتعرّف فيها واتره، فيتربص به انقضاء الشهر الحرام إن كان من المحرمين, وإلا عاجله فأخذ بثأره, وإليك بعض أحداثها: "1" روى الأصفهاني: "أن قيس بن الخطيم لم يزل يلتمس غرة من قاتل أبيه وجده في المواسم, حتى ظفر بقاتل أبيه بيثرب فقتله، وظفر بقاتل جده بذي المجاز، فلما أصابه وجده في ركب عظيم من قومه، ولم يكن معه إلا رهط من الأوس، فخرج حتى أتى حذيفة بن بدر الفزاري فاستنجده فلم ينجده، فأتى خداش بن زهير فنهض معه ببني عامر حتى أتوا قاتل عدي "جد القيس" فإذا هو واقف على راحلته في السوق، فطعنه قيس بحربة فقتله ثم استمر. فأراده رهط الرجل فحالت بنو عامر دونه ... إلخ".
"2" حالف أبو الأزيهر الدوسي -وكان عظيم الشأن في الأزد- أبا سفيان بن حرب عظيم بني أمية، وكان بين أبي الأزيهر هذا وبني الوليد بن المغيرة محاكمة في مصاهرة، فإن أبا الأزيهر لقاعد في مقعد أبي سفيان بسوق ذي المجاز, إذ جاء هشام بن الوليد فضرب عنقه في مقعده ذاك بذي المجاز, وانتظر الناس أن يأخذ أبو سفيان بثأر حليفه من هشام فلم يفعل ولم يدرك به عقلا ولا قودا من بني المغيرة، وتحدث بذلك أهل السوق من قبائل العرب وراجت في الناس حتى عيروا بها أبا سفيان, وحتى قال حسان بن ثابت فيها: غدا أهل حضني ذي المجاز بسحرة ... وجار ابن حرب لا يروح ولا يغدو كساك هشام بن الوليد ثيابه ... فأبلِ وأخلق مثلها جددا بعد1 "3" كثيرا ما يغير قوم على قوم فيسبون من ذراريهم فيستعبدونهم؛ فينشأ هؤلاء الذراري أرقاء في غير قومهم، فيباعون في الأسواق أيام المواسم، فكانت الجواري والأطفال من جملة العروض التي
يقتنيها العربي في الجاهلية ويبيعها ويشتريها كما يفعل بالتمر والثياب والسلاح, حتى جاء الإسلام فأبطل سبي العربي. جاء في الأغاني "11/ 75": "أن أبا وجزة لحق أباه عبيدا -وهو صبي- سباء في الجاهلية، فبيع بسوق ذي المجاز, فابتاعه رجل من سعد واستعبده، فضرب عبيد هذا يوما ضرع ناقة لمولاة فأدماه, فلطم المولى وجه العبد، فخرج عبيد إلى عمر مستعديا فلما قدم عليه قال: "يا أمير المؤمنين! أنا رجل من بني سليم ثم من بني ظفر أصابني سباء في الجاهلية كما يصيب العرب بعضها من بعض، وأنا معروف النسب، وقد كان رجل من بني سعد ابتاعني فأساء إلي وضرب وجهي، وقد بلغني أن لا سباء في الإسلام" فما فرغ من كلامه, حتى كان مولاه قد أتى عمر على أثره فقال: "يا أمير المؤمنين! هذا غلام قد ابتعته بذي المجاز، وقد كان يقوم في مالي فأساء, فضربته ضربة والله ما أعلمني ضربته غيرها قط، وإن الرجل ليضرب ابنه أشد منها فكيف بعبده، وأنا أشهدك أنه حر لوجه الله" فقال عمر لعبيد: "إنه لا سباء على عربي، وإن هذا الرجل قد امتن عليك، وقطع عنك مئونة البينة، فإن أحببت فأقم
معه فله عليك منة، وإن أحببت فالحق بقومك". فأقام عبيد مع السعدي وانتسب في بني سعد بن بكر بن هوازن" ا. هـ. وعمر نفسه اشترى خادمه "أسلم" من سوق ذي المجاز، وكان أسلم هذا حبشيا أسود مشرطا1. هذه الأسواق الثلاث: عكاظ ومجنة وذو المجاز التي كانت تقوم في أيام الحج ويؤمها العرب قاطبة من كل حدب وصوب، شهدت إلى جانب مناظر البيع والشراء، والمفاخرة والإنشاد، مشهدا من أفظع مشاهد الجفاء والتنكر والأذى لصاحب الشريعة الإسلامية -صلى الله عليه وسلم- وابتلعت تلك الأسواق بضجيجها وما كانت تعج به من حوادث، صوت الدعوة الإسلامية فيما ابتلعت من دعوات، وغاب صوت صاحبها في ذلك الرُّغاء والصخب والزحام. فلقد مكث الرسول بمكة مستخفيا ثلاث سنين ثم أعلن في الرابعة, ودعا الناس إلى الإسلام عشر سنين يوافي فيهن المواسم كل عام؛ يتبع الحاج في منازلهم بعكاظ ومجنة وذي المجاز،
يدعوهم أن يمنعوه حتى يبلغ رسالات ربه، فلا يجد أحدا ينصره أو يجيبه، حتى إنه ليسأل عن القبائل ومنازلها قبيلة قبيلة فيردّون عليه أقبح الرد, ويؤذونه ويقولون له: "قومك أعلم بك"1. كان قاصد هذه الأسواق أيام الحج، موزع السمع بين داعٍ إلى ثأر وناشد ضالة، ومنشد قصيدة، وخطيب، وعارض بضاعة، وحامل مال لفك أسير، وقاصد شريف لإجازة أو حمالة، وداعٍ إلى عصبية، وآمر بمنكر ... فيجد شيئا معروفا قد ألفه منذ عقل وأبصر الدنيا. لكنه بعد عام الفيل بثلاث وأربعين سنة يجد أمرا لم يألفه قط، ولا سمع بمثله: رجلا كهلا وضيئا عليه سمات الوقار والخير، يسأل عن منازل القبائل قبيلة قبيلة؛ هذه بنو عامر بن صعصعة، وهذه محارب، وتلك فزارة، والرابعة غسان، وهناك مرة وحنيفة، وسليم وعبس، وهنا بنو نصر, وكندة، وكعب، وعذرة، وهؤلاء الحارث بن كعب وأولئك الحضارمة ... إلخ. يؤم منازل كل قبيلة، ويقصد إلى شريفها يدعوه بالرفق إلى الله،
وفعل الخير، فيتجهم له هذا، ويعبس ذاك، ويجبهه ذلك ويحقره آخر ... فيلقى من الصد ألوانا يضيق ببعضها صدر الحليم، فلا يؤيسه ما لقي، ولا يكفه ما أوذي، فيمضي متئدا حزينا إلى قبيلة أخرى وشريف آخر, يعرض نفسه عليهم ويقول: "هل من رجل يحملني إلى قومه؟ فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي" فلا يجد مجيبا، حتى تدارك الله نبيه بوفد الأنصار. هذا ما حفظته لنا كتب السير والأدب من مشاهد مؤثرة، فرأينا أن تلك الأسواق لم تخل من دعوة إلى خير؛ فقد تردد في أجوائها الصوت الضعيف الخافت، يطلب حماية وإجابة. ولئن صدف عنه الناس وازورّوا في أسواق الجاهلية فلقد ملأ هذا الصوت فيما بعد ما بين المشرق والمغرب، وطبق الخافقين بآثاره التي بثها في العالمين رحمة وعدلا وعلما وإنسانية وسعادة ومُثُلا عليا. وما زال يستجيب لهذا الصوت كل يوم، أفواج من أمم الحضارة والعرفان، في آسيا وأوروبا وأمريكا, وصد عنه قديما أجلاف البادين، وهرع إليه اليوم زمر المتحضرين من كل عالم ومخترع ومصلح وأديب وسياسي ومفكر يستضيء بعلمه وفكره الملايين من الخلائق.
فلنأخذ من هذه الأسواق العبرة، ولنحتفظ بهذا الدرس، فإن الحق مهما بدا ضعيفا وبدا خصيمه الباطل قويا صائلا، لا بد أنه ظافر في النهاية عليه. ولنعلم أن اليأس لا ينبغي أن يجد سبيلا إلى قلب المؤمن، وأنه: {لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} .
سوق نطاة خيبر
سوق نطاة خيبر: خيبر قرية شمالي المدينة، بينها وبين تبوك, وهي عدة حصون لليهود وفيها مياه ومزارع. ونطاة اسم حصن بها واسم عين أيضا, وقيل: هي خيبر نفسها. وحول القرية نخيل كثير يسقى بعين فيها, والبلدة وبئة معروفة في العرب بحمَّاها. أهلها يهود استوطنوا الحجاز منذ القديم, واشتغلوا بالزراعة والتجارة1. ونظرا لوقوع هذه القرية على الطريق التجارية الكبرى بين اليمن والشام, أسهم أهلها بتجارة الجزيرة، وكانت إحدى محطات القوافل التجارية في سفرها إلى الشام. ونجح أهلها في متاجرهم حتى أفادوا منها غنى واسعا واستفاضت لهم ثروات طائلة, ونشأت فيهم رءوس الأموال الضخمة, ولا نبعد إذا قلنا: إن خيبر مصرف الجزيرة المالي. ولما فتحها الرسول -صلى الله عليه وسلم- صالح أهلها على الشطر من الثمر والحب. ويذكر أصحاب السيرة غنائم خيبر وما وجدوا فيها من
كنوز، فيذكرون أموالا جمة ودنيا عريضة. بنى اليهود فيها حصونا عديدة جعلوا فيها أموالهم وميرتهم من طعام وحب وثمر. وهم في الجملة أهل بأس وشكيمة, قاوموا كثيرا قبل أن يفتح المسلمون حصونهم، ثم غلبوا على أمرهم فافتتح المسلمون حصن ناعم ثم القموص ثم حصن الصعب بن معاذ وهو أعظم حصونها غناء وأكثرها طعاما وودكا، ثم الوطيح، ثم السلالم, ثم الشق. وكان في الغنائم ذهب كثير وفضة كثيرة، فجعل الصحابة يتبادلونهما حتى نهى الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يبتاع الذهب بالذهب والفضة بالفضة. بين تلك الحصون حصن الشق وحصن نطاة وحصن الكتيبة, وكان لكل حصن خازن يخبئ أموال أهله, وكان كنانة بن الربيع عنده كنز بني النضير فلما أسر سئل عنه فأنكر, فاهتدى الفاتحون إليه فوجدوا أموالا طائلة. اتسعت تجارات اليهود في خيبر وغيرها حتى استطاع الرجل الواحد منهم كأبي رافع الخيبري أن يسيّر قوافل تجارية لحسابه إلى الشام. وهم نشروا في الجزيرة التعامل بالربا كما تقدم في أول الكتاب, وأثروا إثراء ضخما. وكلما مرت عير لقريش أو لطيمة من لطائم النعمان قامت لها سوق في خيبر. وقد جعل المرزوقي زمنها بعد زمن سوق ذي المجاز, أي: بعد أشهر الحج وقبل أن تبتدئ سوق حجر.
سوق حجر
سوق حجر: تقع بلاد اليمامة إلى غربي البحرين وجنوبي العراق, والطريق إليها من العراق وغيره طويلة شاقة. وقصبتها وأم قراها "حَجْر" وذكر اللسان أنها "الحَجْر" بالتعريف, وحكى فيها الكسر أيضا. ينزل أمراء اليمامة وولاتها في حجر، حيث السوق وحيث تجلب إليها الأشياء، إذ هي مصر اليمامة عامة وفي وسطها، وهي في قاع فيه نخيل وماء وكان به قصور في القديم حين كانت البلدة ذات شأن. وأصلها لبني حنيفة إلا أنها شركة كالبصرة والكوفة, لكل قوم فيها خطة. لكن العدد فيها لبني عبيد من بني حنيفة وكان قد تحصن فيها مسيلمة الكذاب لما تبعته سجاح المتنبئة قبل أن يتزوجها ويقتسما الأرض بينهما. وهي ذات شهرة في العرب، اشتهرت منها زرقاء اليمامة التي ضرب المثل بحدة بصرها, واشتهر أيضا منها عرّافها الذي كان يقصد من بعيد، والذي روي فيه بيت عروة بن حزام: جعلت لعراف اليمامة حكمه ... وعراف نجد إن هما شفياني حجر من الأسواق المتوسطة، يقصدها العرب لما يقصدون إليه بقية الأسواق من بيع وشراء وتناشد. ثم صار لها في الإسلام
ذكر مكرر في أحاديث الأدب والأخبار؛ لأنها دار جرير بن الخطفي الشاعر، وكثيرا ما كان ينزلها أيضا ذو الرمة، وكانت في مأمن من السلطان لبعدها. وبقيت سوقها حتى آخر العصر الأموي، وذكروا أن عمران بن حطان هرب من الحجاج إلى اليمامة فنزل بحجر. كان يجري في هذه السوق قريب مما يجري في عكاظ من المفاخرة. 1- منافرة: قال علي بن شفيع: إني لواقف بسوق حجر، إذ أنا برجل عليه مقطعات خز وهو على نجيب مهري، رجل من هيئته وحالته ... لم أر قط أحسن منه وهو يقول: "من يفاخرني؟ من ينافرني ببني عامر بن صعصعة، فرسانا وشعراء وعددا وفعالا؟ " قلت: "أنا" قال: "بمن؟ " قلت: "ببني ثعلبة بن ... بن بكر بن وائل" فقال: "أما بلغك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن المنافرة؟ " ثم ولى هاربا. فقلت: من هذا؟ فقيل: "عبد العزيز الكلابي".
2- جرير يبكي الفرزدق: ولعل أفحل من بها "وبغيرها" من الشعراء في الإسلام جرير, كان إذا انتهى من أحداثه الشعرية في العراق أو الشام وملأ الأجواء بهجائه وفخره، أوى إلى بلده وقومه الذين ينافح عنهم، فأكرموا مثواه وطاروا بأشعاره، وإن مجلس جرير ليعد أحد المشاهد في سوق حجر: "كان يوما جالسا بفناء داره في حجر, فإذا راكب أقبل فقال له جرير: "من أين وضح الراكب؟ " قال: "من البصرة" فسأله عن الخبر, فأخبره بموت الفرزدق، فقال: هلك الفرزدق بعدما جدعته1 ... ليت الفرزدق كان عاش قليلا فقال له المهاجر: "بئس ما قلت، أتهجو ابن عمك بعدما مات؟! لو رثيته كان أحسن بك! ". ففكر قليلا ثم قال: "والله إني لأعلم أن بقائي بعده لقليل، وإن كان نجمي ليوافق نجمه، أفلا أرثيه ... " فقيل له: "لو كنت بكيته ما نسيتك العرب". ثم قال جرير من أبيات يرثيه:
فلا ولدت بعد الفرزدق حامل ... ولا ذات بعل من نفاس تبلت1 هو الوافد المأمون والواثق الرضى ... إذا النعل يوما بالعشيرة زلت" 3- شاعر يطاف به مجلودا: هجا البعيث بطنا من باهلة يقال لهم: بنو أصخب، فاستعدوا عليه إبراهيم بن عدي عامل الوليد بن عبد الملك، فضربه بالسياط وأمر فطِيف به في سوق حجر. ويراه جرير فيقول: لئن هجوت "بني صخب" لقد تركوا ... للأصبحية في جنبيك آثارا قوم هم القوم لو عاد الزبير بهم ... لم يسلموه وزادوا الحبل إمرارا2 وهكذا كانت سوق حجر خاتمة المطاف لهذه النقائض الممتعة والحرب السجال الطويلة بين فحلين من أفحل شعراء العرب، استأثر سوق المربد بالبصرة بأكثرها وختمت هنا في حجر. ففي هذه السوق إذًا, أثارات مما كان يكون في عكاظ من بيع وشراء ومفاخرة ومجالس أدب. كانت تقوم هذه السوق بين عاشوراء وآخر المحرم.
سوق دير أيوب
سوق دير أيوب: دير أيوب قرية بحوران من نواحي دمشق, يزعمون أنها مسكن أيوب النبي عليه السلام وأن الله ابتلاه فيها, ويزعمون أيضا أن العين فيها هي التي ركضها برجله. هذا ما ذكره ياقوت. أما القرية فهي إلى شمال بصرى وغرب أذرعات "درعا" وتعرف اليوم باسم "شيخ سعد"1, ولا يزال إلى اليوم فيها مقام للنبي أيوب, وفيها العين التي أشار إليها ياقوت وهي من القرى الصغيرة في حوران، قليلة النفوس والشأن. ويظهر أن لها في القديم خطرا كبيرا يقارب ما لبصرى؛ فقد هبطتها منذ سنين بعثة أثرية "تشيكوسلوفاكية" ونقّبت في تربتها فعثرت على آثار رومانية قديمة، حملت منها إلى بلادها قسما مهما, وكان في جملة ما عثرت عليه آثار حثية ومصرية, وأبقت منها نصبا في دار العظم بدمشق.
فالبلدة إذن ذات مكانة قديمة لعهد الجاهلية وصدر الإسلام. ويذكر الطبري1 أنه لما "انصرف مروان "الجعدي" منهزما، جمع قومه وجنده، ومضى إليه أبو الورد فهزمه ثانية وتفرق من معه وأسر ثلاثة رجال من ولده وهم: نعيم، وبكر، وعمران, فبعث بهم إلى مروان ... وهو بدير أيوب فأمر بمداواة جراحاتهم". ثم ذكر ما يفيد أن مروان جعلها قاعدة حربية لتجهيز جنده وبعثهم إلى الأطراف المنتقضة فيقول: "فأقبل نحو من عشرة آلاف ممن كان مروان قطع عليه البعث بدير أيوب لغزو العراق مع قوادهم, حتى حلوا بالرصافة"2. وبقيت دير أيوب من القرى المهمة في حوران, حتى ضؤل شأنها كما ضؤل شأن بصرى وأذرعات وسائر حوران. وهذه السوق أول أسواق الشام قياما. فكان العرب وقريش إذا انتهوا من أسواقهم الموسمية: عكاظ ومجنة وذي المجاز، وأنهوا حجهم ورجعت وفود البلدان، نظّموا عيرهم وتهيئوا للسفر إلى الشام فأقاموا تجاراتهم فيها, وبدءوا بسوق دير أيوب هذه. ومتى انتهوا منها, وانتقضت اعتدوا سبعين يوما3 ثم أقاموا سوق بصرى.
سوق بصرى
سوق بصرى: بصرى من مشارف الشام وهي عاصمة حوران, ومن كبار مدن الشام منذ الزمن الأطول قبل الإسلام، حتى إن اسمها ليتردد في كثير من أشعار العرب. وكان أهل الشام عامة على علاقات متواصلة مع سكان الحجاز؛ لكثرة أسفار هؤلاء إلى الشام, وكان النبط كثيرا ما يحملون تجاراتهم بين الحجاز والشام وينقلون الأخبار بين البلدين. بل إنا لنجد لبصرى من الشهرة في الجاهلية ما لا نجد لدمشق نفسها؛ لأنها كانت محط رحال تجار العرب من بلاد الشام يقدمون إليها بحاصلات الحبشة والهند واليمن, فكانت هذه العلائق سببا في جريان الألسنة بذكرها دون دمشق التي لا نكاد نعثر على ذكر لها في الأشعار القديمة. كانت بصرى أيام الرومان على جانب من العظمة والمكانة, وقد أنجبت أحد أباطرة الرومان "فيليبس" الذي نصب إمبراطورا سنة "244" من الميلاد, فقد كان عربيا من بصرى حوران. جاء في خطط
الشام1 في صدد الكلام على حوران وعمرانها: "ولا تزال خرائب بصرى عاصمة حوران وأحصن مدن "باشان" ومعقل الرومان، شاهدة بما كان في بلاد تلك المدينة من الفخامة والعظمة. وكان طولها داخل السور -كما قال بورتر- ميلا وربع ميل وعرضها ميلا. ويحيط بالسور ربَض كثير المباني، ومحيطها خمسة أميال، لها سور عالي الجدران وثيق البنيان، وقلعة لا أحصن منها في عامة بلاد الشام. ويقطع المدينة شارع كبير على طولها يمر في وسطها له بابان جميلان على طرفه، وشوارع رحبة، وفيها ما يفوق الوصف من غرائب الصناعة, وبدائع البناء، وأساليب النقش في الهياكل والكنائس والقبور والمذابح، ورُكام الأنقاض, وبيوت الأقدمين. وقوس نصر أقيم للقائد فيليبس الذي صار إمبراطورا وهو من أهالي بصرى. والمشهد نصف دائرة قطره "271" قدما وهو مكشوف من الأعلى مثل كل المشاهد الرومانية. وفيها مشهدان وستة هياكل وعشر كنائس, عدا القصور والحمامات والسبل والقنوات وأقواس النصر وغير ذلك من المباني الكثيرة. وبعضها ما يصلح أن تزدان به أعظم عواصم أوروبا الآن" ا. هـ.
ونظرا لمركزها التجاري المهم وكونها سوقا عامة للقوافل الآتية من جزيرة العرب وتوسطها بين أماكن قبائل النبط والبدو وغيرهم, حصنها الرومانيون وعنوا بها عناية فائقة, وجعلوا فيها الحاميات القوية لمراقبة قبائل الصحراء وحركاتهم، فهي قلعة الرومان في وجه البادية والصحراء، ومعقلهم يصدون منها ما قد تتعرض له الشام من هجمات القبائل. انتظم سير القوافل التجارية العربية إلى بصرى قبل الإسلام بزمن طويل. وكان رحل إلى الشام فسكنها وما حولها, عرب من اليمن بعد حادث سيل العرم, وكانت تزعم لها الشهرة قبل هذا الحادث أيضا. فقد جاء في الأغاني: لما أرسل الله سيل العرم على أهل مأرب قام رائدهم فقال: من كان يريد الخمر والخمير، والأمر والتأمير، والديباج والحرير، فليلحق ببصرى والحفير، وهي من أرض الشام فكان الذين سكنوه غسان. ا. هـ. ولما عظم أمر قريش صارت عيرهم ترد بصرى في مقدمة ما ترد من مدن الشام وتعددت أسفارهم إليها، وليس في قريش تاجر إلا رحل إليها مرارا وعرفها حق المعرفة، كما عرف أغلب مدن الشام، فاستفادوا من خبرتهم بهذه
الديار فوائد جلّى لما بدأت الفتوحات بعد الإسلام. وفيما يذكر رواة الأخبار دليل على احتفال العرب ببصرى وسوقها؛ فيروي الحافظ ابن عساكر مثلا عن الصحابي الجليل طلحة بن عبيد الله أحد العشرة أنه قال: "كنت في سوق بصرى، فإذا راهب في صومعته يقول: "سلوا أهل هذا الموسم: أفيهم أحد من أهل الحرم؟ " فقال طلحة: "نعم أنا" فقال: "هل ظهر أحمد بعد؟ " ... إلخ"1 فالموسم جامع للناس من أقطار شتى وأهل الحرم ممن يرد. وكتب السيرة تذكر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سافر إليها مرتين: مرة طفلا ومرة تاجرا ابن خمس وعشرين سنة2, وتزعم اجتماعه بأحد الرهبان في دير3 هناك، وأن الراهب دعا إلى وليمته جميع من في العير ... مما يدل على
وجود العلائق بين الفريقين وتفاهمهم معا باللغة العربية, بحيث يجوز لنا أن نعد كورة بصرى قطرا عربيا في الجاهلية. وقد راسل رسول الله ملك بصرى عاصمة حوران, فأرسل إليه كتابا مع الحارث بن عمير كما بعث إلى غيره من الملوك. ولما كانت خلافة أبي بكر لم يفت المسلمين شأن بصرى وعظمتها، فكانت أول ما فتحت صلحا بعد حصار قليل؛ لما سار خالد بن الوليد من العراق لمدد أهل الشام وقدم على المسلمين وهم نزول ببصرى، وضايقوا أهلها فصالحوهم، على أن يؤدوا عن كل حاكم دينارا وجريب حنطة, ثم افتتح المسلمون حوران جميعها وقد تم ذلك سنة 13 للهجرة. قال القعقاع بن عمرو يذكر أمر بصرى هذا, وقد كان في الجيش المحاصر: بدأنا بجمع الصفرين فلم ندع ... لغسان أنفا فوق تلك المناخر
صبيحة صاح الحارثان ومن به ... سوى نفر نجتذّهم بالبواتر وجئنا إلى بصرى وبصرى مقيمة ... فألقت إلينا بالحشا والمعاذر فضضنا بها أبوابها ثم قابلت ... بنا العيس في اليرموك جمع العشائر ونحن -وإن لم يكن في يدنا نص عربي قديم يشير إلى غناها, وكثرة أرزاقها- نجد في شروط الصلح ما يدل على وفرة خيراتها، حتى لقد ادعى صاحب بصرى مرة أنه صالح المسلمين على طعام وخل وزيت فكذبه أبو عبيدة1. كما أن في كثرة ورودها على ألسنة الشعراء ما يدل على شأنها، فإنا إذا أردنا التقصي تعذّر علينا إحصاء ما في الشعر القديم من مثل: أيا رفقة من آل بصرى تحملوا ... رسالتنا لقيت من رفقة رشدا وقول الصمة بن عبد الله القشيري: نظرت وطرف العين يتبع الهوى ... بشرقي بصرى نظرة المتطاول وقول المتلمس "وهذا كان له ولد يقال له: عبيد المنان, هلك ببصرى ولا عقب له": لم تدر بصرى بما آليت من قسم ... ولا دمشق إذا ديس الكراديس
وقول الآخر: ولو أعطيت من بلاد بصرى ... وقنسرين من عرب وعجم وورد في كتب السيرة ذكر لقصور بصرى هذه. لم ينقطع قيام سوق بصرى بعد الإسلام بل زاد أمد قيامها, وكان العرب في جاهليتهم إذا انتهوا من سوق دير أيوب أقاموا سوق بصرى, حيث كان يشرف عمال الرومان. وتطول مدة هذه السوق طولا يتناسب هو وما قطعوا في سفرهم إليها من زمن. وقد بقيت تلك السوق حتى زمن المرزوقي "القرن الخامس الهجري", إذ ذكر أنه أدركها تقوم خمسا وعشرين ليلة، ونقل أنها كانت تقوم بولاية بني أمية من ثلاثين ليلة إلى أربعين, وهي مدة طويلة ليس للعرب مثلها في عامة أسواقهم. اشتهر لبصرى نوعان من البضاعة اختصت بهما؛ أما الأول فالخمر لأنها كانت من مدن الشام التي يحمل منها الخمر1 ويتبجح العرب بذكرها. قال أبو ذؤيب الهذلي يذكر خمرتها: سلافة راح ضمنتها إداوة ... مقيرة ردف لمؤخرة الرحل
تزودها من أهل بصرى وغزة ... على جسرة مرفوعة الذيل والكفل1 وأما الثاني فالسيوف, وقد اشتهرت بصنعها بصرى كما اشتهر كثير غيرها من قرى الشام التي تدنو من الريف, حتى قيل للسيف: "مشرفي" نسبة إلى مشارف الشام وبصرى أحدها فتنتسب إليها السيوف البصرية. قال الشاعر: يعلون بالقلع والبصريّ هامهم2 وقال الحصين بن حمام المري, يصف خيل الغارة: عليهن فتيان كساها محرق ... وكان إذا يكسو أجاد وأنعما صفائح بصرى أخلصتها قيونها ... ومطردا من نسج داود معلما3 وأمر هذه السوق من إشراف ومكس إلى عمال الروم عليها, وكثيرا ما يكونون عربا من غسان.
سوق أذرعات
سوق أذرعات: أذرعات بلد بالشام قرب البلقاء "وهي اليوم تعرف بدرعا" أمرها قريب من أمر بصرى وتليها في الشأن، وعلائق العرب التجارية بها في الجاهلية كعلائقهم ببصرى، واستفاضتها على ألسن شعرائهم تشبه ما لبصرى، من مثل قول امرئ القيس: تنوّرتها من أذرعات وأهلها ... بيثرب أدنى دارها نظر عالي1 وقول الآخر: وهيجتني من أذرعات وما أرى ... بنجد على ذي حاجة طربا بعدا؟ واشتهرت بخمرها في الشعر, فقال أبو ذؤيب الهذلي: فما إن رحيق سبتها التجا ... ر من أذرعات فوادي جدر وقال: فما فضلة من أذرعات هوت بها ... مذكرة عنس كهادية الضحل1
سلافة راح ... إلخ. وتنسب إليها فيقال: خمر أذرعية. كان يحكمها في الجاهلية عمال للروم, فلما جاء الإسلام صُولح أهلها ونالوا عهدا لأنفسهم وبلدهم, فلما كانت جيئة عمر إلى الشام استقبلوه. قال عبد الله بن قيس: كنت ممن لقي عمر مع أبي عبيدة مقدمه الشام، فبينما عمر يسير إذ لقيه المقلسون1 من أهل أذرعات بالسيوف والريحان فقال عمر: "مه، امنعوهم" فقال أبو عبيدة: "يا أمير المؤمنين, هذه سنتهم، وإنك إن منعتهم منها يروا أن في نفسك نقضا لعهدهم" فقال عمر: "دعوهم". تقوم هذه السوق بعد سوق بصرى بسبعين ليلة2. ويطول أمدها, والغالب أنهم يقيمونها مدى الصيف. وبقيت هذه السوق قائمة بعد الإسلام بكثير، فقد أدركها المرزوقي ووصف طول قيامها بقوله: "وسوق أذرعات اليوم أطولها قياما, وربما لقيت الناس صادرين منها وأنا وارد".
سوق الحيرة
سوق الحيرة: لم يذكر هذه السوق أحد ممن تعرض لذكر أسواق العرب مع عظم شأنها, وقصد تجار العرب إليها. وليس من المعقول أن تقصد قريش وأهل الطائف، فارس للتجارة فيها ولا يكون لهم أسواق موسمية في العراق وهي طريقهم وأهلها عرب. إلا أن في الأغاني ما يدلنا على أن بها سوقا عظيمة موسمية، قال أبو الفرج: "خرج الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس ومعه عطر يريد الحيرة، وكان بالحيرة سوق يجتمع إليه الناس كل سنة"1. وبلدة كالحيرة بعيدة الصيت في جزيرة العرب، يتحدثون بخصبها وعظمتها ومنازهها ... وأحداث ملوكها بني نصر، وعلائقهم مع من جاورهم من العرب، ويتحدثون عن الشعراء العظام الذين قصدوا ملوكها للنوال والهبات كالنابغة الذبياني والأعشى وحسان بن ثابت وغيرهم ... بلد كهذا لا بد أن يكون مرتبطا بما جاوره من الأقاليم
ارتباطا تجاريا وثيقا، وهي أولى من بصرى وأذرعات بأن يكون فيها للعرب أسواق عامة. ويطلعنا التعمق في التنقيب على أسواق ثانية تقام في أماكن من العراق ولا تقتصر على العرب وبضائعهم، بل يخالطهم فيها أجانب من فرس وغيرهم, ويحمل إليها متاع الهند وفارس كما يحمل إليها أمتعة الشام واليمن والبحرين. فقد جاء في الطبري عند كلامه على فتوح العراق: سوق الخَنَافس سوق يتوافى إليها الناس ويجتمع بها ربيعة وقضاعة يخفرونهم ... قال رجل من أهل الحيرة للمثنى: "ألا ندلك على قرية يأتيها تجار مدائن كسرى والسواد وتجتمع بها في كل سنة مرة، ومعهم فيها الأموال كبيت المال؟ وهذه أيام سوقهم ... " فصبحهم في أسواقهم فوضع فيهم السيف ... وأخذوا ما شاءوا. وقال المثنى: "لا تأخذوا إلا الذهب والفضة، ولا تأخذوا من المتاع إلا ما يقدر الرجل منكم على حمله على دابته. وهرب أهل الأسواق وملأ المسلمون أيديهم من الصفراء والبيضاء والحر من كل شيء ... "1.
الحيرة مدينة واسعة الشهرة منذ القديم. ذكروا أن بانيها بختنصر، وأنه بناها لتجار العرب الذين وجدوا بحضرته ثم صارت من بعده عاصمة ملوك العراق, حتى إن الطبري ليذكر أن لها قبل الإسلام أكثر من خمسة قرون1. وموضعها إلى شمال الكوفة على ثلاثة أميال منها. طيبة الهواء كثيرة البساتين. ردد ذكرها الشعراء منذ الجاهلية وفتنوا بها وبخمرها وحاناتها وأديارها, فكانت بحق مقصف العرب عامة. ونسبوا إليها فقالوا: "حاري" على غير القياس، وقالوا: "حيري" على القياس؛ فمن الأول قول عمرو بن معديكرب: كأن الإثمد الحاريّ منها ... يسف بحيث تبتدر الدموع2 ومن الثاني قول بعضهم: فلما دخلناه أضفنا ظهورنا ... إلى كل حاريّ قشيب مشطب3 ولها تاريخ طويل يدل على قدمها وشهرتها قبل الإسلام, وأنها كانت ميدانا لحوادث جسام ليس هذا مقام سردها, فليرجع إليها في مظانّها.
وذكر ياقوت في سبب بنائها أن: "بختنصر قد جمع من كان في بلاده من العرب بها فسمتها النبط أنبار العرب ... فصار في الحيرة من جميع القبائل من مذحج وحمير وطيء وكلب وتميم وتنوخ ... فأهل الحيرة ثلاثة أصناف: فثلث: تنوخ وهم كانوا أصحاب المظال وبيوت الشعر, ينزلون غربي الفرات بين الحيرة والأنبار فما فوقها. والثلث الثاني: العِباد وهم الذين سكنوا الحيرة وابتنوا فيها، وهم قبائل شتى تعبّدوا لملوكها وأقاموا هناك. وثلث: الأحلاف وهم الذين لحقوا بأهل الحيرة ونزلوا فيها". وأشار إلى بعض هؤلاء الشاعر: وغزا تبع في حمير حتى ... نزل الحيرة من أهل عدن واشتهر في ظاهر الحيرة بناءان عظيمان هما: قصر الخورنق وقصر السدير. وبقيت مسكن ملوك العرب من بني نصر ولخم حتى كان آخرهم المناذرة الذين انقضى ملكهم بالإسلام. ارتباط هذه البلدة بفارس وخضوع أمرائها لهم وكثرة العلائق بين البلدين، وسّع أفقها التجاري, وأكثر فيها الغنى والترف, وأحدث فيها نوعا من الثقافة ليس في غيرها. فقد مر بك أن قريشا تعلمت الكتابة من أهل الحيرة, وأن الذي قرأ صحيفة المتلمس غلام حيري، وأن النضر بن الحارث شيطان قريش تعلم من الحيرة أخبار ملوك
فارس وأحاديث دياناتهم وأساطيرهم, فكان إذا جلس رسول الله يدعو قريشا إلى الإسلام ويحذرهم، خلفه في مجلسه فقص عليهم من أحاديثه التي نقلها من الحيرة، وعلمت أن لقريش رحلات وقوافل تجارية إلى الحيرة، وأن للنعمان ملك الحيرة لطائم يجهزها إلى عكاظ كل سنة. وهذا الاختلاط الشديد بين أهلها والفرس والأنباط جعل أنساب الحيريين في منزلة دون منزلة بقية أنساب العرب، حتى إن من العرب من يعير بالنسب إلى الحيرة. وانظر -إن شئت- ما كان بين قيس بن عاصم وعمرو بن الأهتم بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد جاء في الأغاني أن قيس بن عاصم قال في عمرو: "والله يا رسول الله ما هم منا، وإنهم لمن أهل الحيرة!! " وقال فيه: لولا دفاعي كنتمُ أعبدا ... مسكنها الحيرة فالسيلحون فقال عمرو بن الأهتم متأثرا بهذا التعبير الذي لم يجد له ما يفي به, إلا أن ينسب خصمه إلى الروم: "بل هو يا رسول الله من الروم, وليس منا". ثم قال: إن تبغضونا فإن الروم أصلكم ... والروم لا تملك البغضاء للعرب1 هذا, وإن نحن استرشدنا بنتف من الأخبار تأتي عرضا في
مطاوي الكلام، عرفنا أن للحيرة شأنا تجاريا ممتازا، وأن عادة العرب جرت منذ القديم بالمتاجرة إلى الحيرة، وأنها كانت تؤمها القوافل الكبرى التي تقصد البر حاملة متاجر الهند من عمان إلى الشام، فكانت الحيرة محطة كبرى لتلك القوافل المحمّلة, وكان أكثر الطُّرَّاء عليها تجارا يختلفون إليها1. ولما قتل الشيظم بن الحارث الغساني رجلا من قومه, وهرب إلى الحيرة تظاهر بأنه "رجل من خيبر أقبل إلى هذه البلدة بتجارة"2. وخرج خمسة نفر من طيء من ذوي الحجا والرأي يريدون سواد بن قارب الدوسي ليمتحنوا علمه ... "فأهدوا إليه طرفا من طرف الحيرة, فضرب عليهم قبة ونحر لهم ... "3. ويذكر أبو الفرج الأصفهاني أن الأعشى باع في سوق الحيرة "كرشا مدبوغة مملوءة عنبرا بثلاثمائة ناقة حمراء"4. مما تقدم, ومما سنذكره بعد قليل، يتبين أن للحيرة مع شأنها التجاري شأنا صناعيا راقيا حتى صارت طرفها مما يتهادى به، وليس
هذا بغريب؛ فإن اختلاطها الواسع بفارس جعل أهلها يحذقون صناعات كثيرة مما أفادوه من الإيرانيين "والمعروف أن سجاجيد ذات زخارف حيوانية كانت تصنع في الحيرة قبيل الإسلام"1. يعرض في هذه السوق الأدم والعطر والبرود والجواهر والخيل والأموال, وسائر ما يعرض في بقية أسواق العرب مما يحمل من الشام أو اليمن أو عمان أو الحجاز أو البحرين أو الهند وفارس, عدا ما يحمل الأعراب إليها من إبل وشياه وقرود أحيانا2. وفيها أيضا إلى هذا، أدب وشعر وخطابة ومنافرات ومماجدة كما يكون في غيرها من الأسواق، وسنعرض لبعض ما يجري فيها بعد قليل. فلما كان الإسلام تضاءل شأنها التجاري، وانصرف الناس إلى الفتوحات فلم يمض القرن الأول للهجرة حتى صارت الحيرة ذات لون أخّاذ يفتن الشبان وأهل اللهو والمجون. فطار لها صيت بعيد ساحر في منازهها وخمرها وحاناتها3 وأديارها، وصرنا بعد هذا
الزمن لا نجد ذكرا للحيرة إلا حيث مجلس شراب، وجماعة قصف وبذخ، وخليفة يخرج للترويح عن النفس، وفتيان سئموا حياة الجد فخرجوا إلى الحيرة فنزلوا أحد أديرتها أو إحدى حاناتها, فذبحوا وطعموا وشربوا وغنوا وأنشدوا. وأثري أصحاب الحانات من وراء ذلك إثراء عظيما, فصاروا يتنافسون بتجويد الخمر، وجذب الزائرين حتى كثر الذين ذهبت ثرواتهم وفدحهم الدين من جراء خمرة الحيرة. "ولما حرّم بعض أمراء الكوفة بيع الخمر على خماري الحيرة وركب فكسر نبيذهم, جاء بكر بن خارجة يشرب عندهم على عادته، فرأى الخمر مصبوبة في الرحاب والطرق، فبكى طويلا وقال شعرا1. ويظهر أن الأمراء لم يشددوا على الخمارين حتى رأوا من إقبال الفتيان عليهم الشر المستطير، وحتى كان رجال كأبي حية النميري يشربونها في الحيرة بنسيئة، وصارت السكرة في الحيرة إحدى المنى الغالية: هل إلى سكرة بناحية الحيـ ... ـرة يوما قبل الممات سبيل؟! أما بساتين الحيرة فحدث ولا حرج عما فيها من منازه نضرة وفتنة تحير اللب وتأسر العقل، وحسبك أن تعلم أن إبراهيم الموصلي
خرج في ركب الرشيد إلى الحيرة، فلما نام الرشيد اغتنم غفلته فركب يدور في ظهر الحيرة, فنظر إلى بستان فقصده, فإذا على بابه شاب حسن الوجه ... وإذا جنة من الجنان في أحسن تربة وأغزرها ماء.. فقال فيه: جنان شمارى ليس مثلك منظر ... لذي رمد أعيا عليه طبيب ترابك كافور ونورك زهرة ... لها أرج بعد الهدو يطيب ثم صنع فيه لحنا وغناه الرشيد، فأعطاه ثمن البستان أربعة عشر ألف دينار. لم نهتد إلى الزمن الذي تقوم فيه هذه السوق. أما ريع الطريق فقد جعله النعمان طعمة لبني لام من طيء؛ لأنهم أصهاره1. ونظرا لوقوع هذه السوق في سلطة المناذرة كانت عشورها إليهم لأنهم هم المسيطرون عليها. والأمر فيها على كل حال أكمل وأتم من بقية الأسواق من حيث النظام والأمن؛ لأنها في أرض مملكة. وإليك الآن مشاهد مما كان يجري في تلك السوق على سبيل المثال، ولا تعجب إذا كان أكثرها في الخمرة؛ لأن الخمرة والنضرة والعزف والشعر والغناء هن الطابع الخاص للحيرة:
1- منافرة حامية: خرج الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، ومعه عطر يريد الحيرة، وكان بالحيرة سوق يجتمع إليها العرب كل سنة. فمر بحاتم بن عبد الله الطائي، فسأله الجوار في أرض طيء حتى يصير إلى الحيرة، فأجاره. ثم أمر حاتم بجزور فنحرت, وطبخت أعضاء فأكلوا. ومر حاتم بسعد بن حارثة بن لام "وكان النعمان جعل ريع الطريق لبني لام؛ لأنهم أصهاره" وليس من بني أبيه غير ابن عمه ملحان، فوضع حاتم سُفْرَته وقال: "اطعموا حياكم الله" فقالوا: "من هؤلاء معك يا حاتم؟ " قال: "هؤلاء جيراني" قال له سعد: "أفأنت تجير علينا في بلادنا؟ " قال له: "أنا ابن عمكم وأحق من لا تخفرون ذمته" فقالوا: "لست هذاك" وأرادوا أن يفضحوه كما فُضح عامر بن جوين قبله، فوثبوا إليه، فتناول أحدهم حاتما فأهوى له حاتم بالسيف فأطار أرنبة أنفه، ووقع الشر حتى تحاجزوا، فقال حاتم: رددت -وبيت الله- لو أن أنفه ... هواء كما مت المخاط عن العظم ولكنما لاقاه سيف ابن عمه ... فآب ومر السيف منه على الخطم1 فقالوا لحاتم: "بيننا وبينك سوق الحيرة, فنماجدك ونضع الرهن". ثم نفذوا ما قالوا, فوضعوا تسعة أفراس رهنا على يد رجل من كلب, ووضع حاتم فرسه ثم خرجوا حتى انتهوا إلى الحيرة. وسمع بذلك إياس بن قبيصة الطائي، فخاف أن يعينهم النعمان ويقويهم بماله وسلطانه للصهر الذي بينهم وبينه، فجمع إياس رهطه من بني حية وقال:
"يا بني حية, إن هؤلاء القوم أرادوا أن يفضحوا ابن عمكم في مجاده" فقال رجل منهم: "عندي مائة ناقة سوداء، ومائة ناقة حمراء أدْماء" وقام آخر فقال: "عندي عشرة حصن، على كل حصان منها فارس مدجج, لا يرى منه إلا عيناه". وقال حسان بن جبلة الخير: "قد علمتم أن أبي قد مات وترك مالا كثيرا، فعلي كل تمر أو لحم أو طعام ما أقاموا في سوق الحيرة! ". ثم قام إياس فقال: "علي جميع ما أعطيتم كلكم". وكان حاتم لا يعلم بشيء مما فعلوا, فذهب إلى مالك بن جبار ابن عم له بالحيرة كان كثير المال، فقال: "يابن عم, أعنِّي على مخايلتي "مفاخرتي"" فقال مالك: "ما كنت لأخرب نفسي ولا عيالي وأعطيك" فانصرف عنه. ثم أتى حاتم ابن عم له يقال له: وهم بن عمرو، وكان حاتم يومئذ مصارما له لا يكلمه، فقالت له امرأته:"أَيْ وهم! هذار الله أبو سَفَّانة حاتم، قد طلع" فقال: "ما لنا ولحاتم، أثني النظر" فقالت: "حاتم! " قال: "ويحك, هو لا يكلمني، فما جاء به إلي؟! " فنزل حتى سلّم عليه فرد سلامه وحياه ثم قال: "خاطرت على حسبك وحسبي" قال: "في الرحب والسعة، هذا مالي "وعِدّته يومئذ تسعمائة بعير" تأخذها مائة مائة حتى تذهب الإبل, أو تصيب ما تريد". فقالت له امرأته: "أنت تخرجنا عن مالنا وتفضح صاحبنا "تعني زوجها"؟ " قال: "اذهبي عني, فوالله ما كان الذي غمّك ليردني عما قبلي". ثم إن إياس بن قبيصة قال: "احملوني إلى الملك" وكان به نقرس، فحمل حتى أدخل عليه فقال: "أنعم صباحا أبيت اللعن" فقال النعمان: "وحياك إلهك" فقال إياس: "أتمد أختانك بالمال والخيل, وجعلت بني ثعل في قعر الكنانة؟ 1 أظن
أختانك أن يصنعوا بحاتم كما صنعوا بعامر بن جوين، ولم يشعروا أن بني حية بالبلد؟! فإن شئت والله ناجزناك حتى يسفح الوادي دما، فليحضروا لمجادهم غدا مجمع العرب". فعرف النعمان الغضب في وجهه, وقال له: "يا أحلمنا لا تغضب, فإني سأكفيك". وأرسل النعمان إلى سعد بن حارثة وإلى أصحابه: "انظروا ابن عمكم حاتما فأرضوه، فوالله ما أنا بالذي أعطيكم مالي تبذرونه، وما أطيق بني حية". فخرج بنو لام إلى حاتم فقالوا له: "أعرض عن هذا المجاد" وتركوا أرش أنف صاحبهم وأفراسهم وقالوا: "قبحها الله وأبعدها، فإنما هي مقاذيف". فغدا إليها حاتم فعقرها, وأطعمها الناس1. 2- حرمة شاعر في ولده: قدم لبطة بن الفرزدق الحيرة, فمر بقوم من بني تغلب فاستقراهم فقروه, ثم قالوا له: "من أنت؟ " قال: "ابن شاعركم ومادحكم، أنا ابن الذي يقول: أضحى لتغلب من تميم شاعر ... يرمي الأعادي بالقريض الأثفل2
إن غاب كعب بني جعيل عنهم ... وتنمّر الشعراء بعد الأخطل يتباشرون بموته ووراءهم ... من لهم قطع العذاب المرسل" فقالوا له: "أنت ابن الفرزدق إذن؟ " قال: "أنا هو" فتنادوا: "يا آل تغلب، اقضوا حق شاعركم والذائد عنكم في ابنه". فجعلوا له مائة ناقة وساقوها إليه, فانصرف بها1. 3- حلق لمة: شرب طخيم الأسدي بالحيرة، فأخذه العباس بن معبد المري وكان على شُرَط يوسف بن عمر، فحلق رأسه، فقال: وبالحيرة البيضاء شيخ مسلط ... إذا حلف الأيمان بالله برت لقد حلقوا منا غدافا كأنها ... عناقيد كرم أينعت فاسبطرّت2 يظل العذارى حين تحلق لمتي ... على عجل يلقطنها حين جزت3 4- خمارة وشرطي: كان الأقيشر الشاعر يكتري بغلة أبي المضاء المكاري فيركبها إلى الخمارين بالحيرة, وكان لا يسأل أحدا أكثر من خمسة دراهم؛ يجعل درهمين في كري بغل إلى الحيرة ودرهمين للشراب ودرهما للطعام ... فيقال: إنه دفع ثمن البغل في الكراء4.
شرب يوما في بيت خمار بالحيرة, فجاء شرطي من شرط الأمير ليدخل عليه، فغلّق الباب دونه، فناداه الشرطي: "اسقني نبيذا وأنت آمن" فقال: "والله ما آمنك، ولكن هذا ثقب في الباب فاجلس عنده، وأنا أسقيك منه". ثم وضع أنبوبا من قَصَب في الثقب وصب فيه نبيذا من داخل، والشرطي يشرب من خارج الباب حتى سكر، فقال الأقيشر: سألني الشرطي أن نسقيه ... فسقيناه بأنبوب القصب إنما نشرب من أموالنا ... فسلوا الشرطي ما هذا الغضب1 5- مسخ: قد جرت الطير أيامنينا قالت, وكنت رجلا فطينا: هذا ورب البيت إسرائينا2 قال أبو بكر في كتاب المتناهي في اللغة: "هذا أعرابي أدخل قردا إلى سوق الحيرة ليبيعه، فنظرت إليه امرأة فقالت: "مسخ" فقال هذه الأبيات".
6- وطنية صادقة: أختم الكلام عن الحيرة بهذا الدرس البليغ الذي ألقاه علينا أحد فتيان الحيرة منذ ثلاثة عشر قرنا في حب الوطن ونصرته. وهو درس عملي يخلق بقادة الفكر وزعماء العرب أن يستفيدوا منه فيكونوا قدوة في الوطنية العملية الحقيقية. بلغ العرب في الاعتماد على أنفسهم والاقتصار على صناعاتهم في جميع شئونهم أمرا عجيبا، حتى إن بلدة كالحيرة ليست من البلدان الكبرى حينئذ في الأقطار الإسلامية، استطاع أهلها أن يعتمدوا على محصول بلدتهم ويكتفوا به في كل حاجاتهم حتى الكمالية منها. نرى ذلك في هذا الخبر الطريف الذي سنرويه لك عن الأغاني, ونود لو جرؤنا على تقليد أسلافنا في مكرمتهم تلك، إذًا لكنا حذفنا درسا في الإخلاص الصادق للوطن، ولما استعبدتنا أموال الغرب وشركاته، ولما كنا جميعا رجالا ونساء وأطفالا، جنودا لهم -على رغم أنوفنا- نوطد أقدامهم في بلادنا بما نتهافت على استهلاكه من بضائعهم، وبما يطير من جيوبنا إلى خزائنهم ومصانع أسلحتهم من أموال باهظة، لا داعي إلى تبذيرها إلا التقليد الأعمى وقشور التمدن السخيف والترف الكاذب, وإليك هذه الطرفة الثمينة. كان بعض ولاة الكوفة يذم الحيرة أيام بني أمية، فقال له رجل من أهلها وكان عاقلا ظريفا: "أتعيب بلدة بها يضرب المثل في الجاهلية والإسلام؟! ". قال: "وبماذا تمدح؟ " قال: "بصحة هوائها وطيب مائها ونزهة ظاهرها, تصلح للخف والظلف. سهل وجبل، وبادية وبستان، وبر
وبحر. محل الملوك ومزارهم ومسكنهم ومثواهم، وقد قدمتها -أصلحك الله- مخفا فرجعت مثقلا وزرتها مقلا فأصارتك مكثرا" قال: "فكيف نعرف ما وصفتها به من الفضل؟ " قال: "بأن تصير إلي ثم ادع ما شئت من لذائذ العيش, فوالله لا أجوز بك الحيرة فيه! ". قال: "فاصنع لنا صنيعا واخرج من قولك" قال: "أفعل". فصنع لهم طعاما وأطعمهم من خبزها وسمكها، وما صِيد من وحشها؛ من ظباء ونعام وأرانب وحبارى، وسقاهم ماءها في قلالها، وخمرها في آنيتها، وأجلسهم على رقمها "وكان يتخذ بها من الفرش أشياء ظريفة". ولم يستخدم لهم حرا ولا عبدا إلا من مولديها ومولداتها من خدم ووصائف كأنهم اللؤلؤ، لغتهم لغة أهلها. ثم غناهم حنين "الحيري" وأصحابه في شعر عدي بن زيد شاعرهم وأعشى همدان، لم يتجاوزهما، وحياهم برياحينها، ونقلهم على خمرها، وقد شربوا بفواكهها. ثم قال له: "هل رأيتني استعنت على شيء مما رأيت وأكلت وشربت وافترشت وشممت وسمعت بغير ما في الحيرة؟ ". قال: "لا والله، ولقد أحسنت صفة بلدك ونصرته فأحسنت نصرته والخروج مما تضمنته، فبارك الله لكم في بلدكم"1.
في الإسلام
في الإسلام مدخل ... في الإسلام: لم يعد -وقد تحضر العرب- من حاجة إلى مواسم وأسواق على ما كان عليه الحال في الجاهلية؛ لأن العرب سكنت المدن الكبار من بلاد الشام والعراق ومصر وفارس والروم، ومصرت هي لأنفسها أمصارا عظم شأنها مع الزمن كالكوفة والبصرة وبغداد والقيروان.... فصارت تستغني كل مدينة بأسواقها الدائمة عن أسواق المواسم، وكفى الله العرب مئونة الترحال بين أسواق الجزيرة، بما فتح عليهم وسهّل من تجارات تأتيهم إلى مدنهم، بحيث يجدون في كل بلد عروض كثير من البلدان. وعدل الذين يعانون التجارة منهم عن أسفار البوادي إلى أسفار البحار. وأصبح من المنتظر تضاؤل الأسواق الجاهلية بتضاؤل آثار البداوة من حياة العرب، وانتقلوا إلى حضارة وارفة الظلال ريانة الجنبات يأتيهم فيها رزقهم رغدا من كل مكان، فامّحت أسواق الجاهلية قبل انقضاء القرن الثاني للهجرة ورسخت أقدام التجارة في المدن والثغور.
ولكن سوقا واحدة نشأت في الإسلام احتفظت بكثير من خصائص أسواق الجاهلية، وزادت عليها بميزات واسعة أسبغتها الحضارة الجديدة واقتضتها حاجات الرقي الحديث. تلك هي سوق المربد في البصرة، السوق التي استطاعت أن تكون مرآة تعكس حياة العرب في الجاهلية كما تصور حضارتهم في الإسلام. وسنرى كيف استطاعت هذه السوق أن تصهر الحياتين معا في بوتقة واحدة، لتصوغ منهما هذه الحلية العجيبة التي نعرضها عليك الآن:
البصره - المربد
البصرة - المربد: يتقاضانا الكلام على المربد أن نصف البصرة، المدينة التي كان المربد سوقها العامة؛ نظرا لمكانتها التجارية، إذ إنها ثغر العراق في الإسلام. وليس من المستطاع أن نفهم المربد على حقه إذا لم نعرف أحوال بلده البصرة، وسيغنينا هذا التمهيد عن شروح وحواشٍ كثيرة عند كلامنا على المربد نفسه. مصرت البصرة سنة "17" أيام عمر بن الخطاب "في أقصى أرض العرب وأدنى أرض العجم كما أمر الخليفة عمر رحمه الله" وكانت في الجاهلية من ثغور العراق، فيها خليط من أمم شتى؛ فرس ويونان أحلهم فيها الإسكندر، وهنود انتشروا في بطائحها، وقد نزلها العرب منذ القديم، كما فيها أنباط غير قليلين. وكانت هي والأبلة مركزين للتجارة الداخلية والخارجية، وكان يرتادها تجار العرب، وتردد عليها أبو بكر الصديق في الجاهلية مرات. ولم تكن على عهد الراشدين بالمدينة الكبيرة؛ لحداثة نشأتها العربية، وكانت مستوخمة رديئة الهواء والماء، ليست بالخصبة ولا الغنية،
حتى اضطر عمر إلى أن ينظر إلى أهلها نظر رحمة، حينما شكوا إليه أمرهم، فقد جاء في فتوح البلدان1: "قدم الأحنف بن قيس على عمر في أهل البصرة, فجعل يسألهم رجلا رجلا والأحنف في ناحية البيت" في بت2 لا يتكلم, فقال له عمر: "أما لك حاجة؟ " قال: "بلى يا أمير المؤمنين. إن مفاتح الخير بيد الله، إن إخواننا من أهل الأمصار نزلوا منازل الأمم الخالية بين المياه العذبة والجنان الملتفّة، وإنا نزلنا سبخة بشاشة لا يجف نداها ولا ينبت مرعاها، ناحيتها من قبل المشرق البحر الأجاج، ومن قبل المغرب الفلاة، فليس لنا زرع ولا ضرع، يأتينا منافعنا وميرتنا في مثل مريء النعامة، يخرج الرجل الضعيف فيستعذب الماء من فرسخين, وتخرج المرأة لذلك فتربق3 ولدها كما تربق العنز يخاف بادرة العدو وأكل السبع، فإلا ترفع خسيستنا وتجبر فاقتنا نكن كقوم هلكوا".
فألحق عمر ذراري أهل البصرة في العطاء, وكتب إلى أبي موسى يأمره أن يحتفر لهم نهرا. هذه بداية أمر البصرة وقد ظلت على حالها، لم تترقّ منها إلى خير منها، حتى صدرا من أيام الأمويين. ومضت خلافة معاوية ولم ينفرج ضيق أهلها تمام الانفراج, فقد قدم الأحنف أيضا على معاوية وافدا لأهل البصرة يستعطفه لهم، وكان فيما وصف به أهلها قوله: "أهل البصرة عدد يسير وعظم كسير مع تتابع من المحول واتصال من الذحول، فالمكثر فيها قد أطرق، والمقل قد أملق، وبلغ منه المخنق"1. وبانقضاء عهد الفتن فيها واستقرار الأمر بمثل زياد وابنه والحجاج، انصرف أهلها لشئونهم فعكفوا على الزراعة والتجارة, وانتعشوا واستفاض لهم زرع ونخيل وتجارات، فمن ثم عدت البصرة من أكبر ثغور الإسلام قاطبة. أما الهواء فيها فرديء, وكذلك الماء فهو غير عذب، حتى إنهم
ليجلبونه من المسافات البعيدة. وقد حفرت فيها أقنية وجداول كثيرة تتشعب عن النهر الأعظم، ووصف الأقدمون كثرتها وصفا نكاد لا نصدقه. جاء في مسالك الممالك للإصطخري: "البصرة مدينة عظيمة لم تكن في أيام العجم، وإنما اختطّها المسلمون أيام عمر، ومصّرها عتبة بن غزوان وهي خطط وقبائل كلها. ويحيط بغربيّها البادية، وليس فيها إلا أنهار. وذكر بعض أهل الأخبار أن أنهار البصرة عدت أيام بلال بن أبي بردة فزادت على "120000" نهر "كذا!! " تجري فيها الزوارق. وقد كنت أنكر ما ذكر من عدد هذه الأنهار في أيام بلال, حتى رأيت كثيرا من تلك البقاع، فربما رأيت في مقدار رمية سهم عددا من الأنهار صغارا تجري في كلها زواريق صغار، ولكل نهر اسم ينسب إلى صاحبه الذي احتفره أو إلى الناحية التي يصب فيها وأشباه ذلك من الأسامي، فجوزت أن يكون ذلك في طول هذه المسافة وعرضها. وأكثر أبنيتها بالآجر "هذا على عهد الإصطخري في القرن الرابع الهجري" وهي من بين سائر العراق مدينة عُشْرية، ولها نخيل متصلة من عبدس إلى عبادان نيفا وخمسين فرسخا متصلا, لا يكون الإنسان منه في مكان إلا
بحيث نهر ونخيل أو يكون بحيث يراهما, وهي في مستوى لا جبال فيه ولا بحيث يقع البصر على جبال ... وبها نهر يعرف بنهر الأبلة, طوله أربعة فراسخ ما بين البصرة والأبلة1، وعلى حافتي هذا النهر قصور وبساتين متصلة كأنها بستان واحد قد مدت على خيط واحد. ويتشعب هذا النهر إلى أنهار كثيرة، فمنها ما يقارب هذا النهر في الكبر ... وهذه الأنهار كلها مخترقة بعضها إلى بعض وكذلك عامة أنهار البصرة حتى إذا جاءهم مد البحر تراجع الماء في كل نهر حتى يدخل نخيلهم وحيطانهم وجميع أنهارهم من غير تكلف، فإذا جزر الماء انحط حتى تخلو منه البساتين والنخيل ويبقى في الأنهار، إلا أن الغالب على مائهم الملوحة وإنما يستقون إذا جزر الماء إلى حد نهر معقل ثم يعذب فلا يضره ماء البحر". ونحن معنيون بأن نعرف عن البصرة ميناء العراق الأكبر تفاصيل مسهبة؛ لأنها سوق العراق العامة يومئذ، فلا غنى لنا عمن شاهدها ونعتها لنقف على مكانتها وسعة غناها. ولولا هذه الصفات
التي وصلتنا عن الأقدمين في مختلف حالاتها، لما استطعنا أن نعلم التدرج الذي ترقّت فيه البصرة من الإملاق إلى الثروة. ثم صار لهذه الأرض السبخة القفرة على عهد عمر، الشأن العظيم والمكانة البعيدة في نفوس الكبار, حتى قال زياد: "لو أضللت البصرة لجعلت الكوفة لمن دلني عليها! "1. والذين نعتوها متفقون على رداءة هوائها مع سعة عيشها، فقد روى ابن عبد ربه عن أبي العباس أنه قال: "إنما مثل الكوفة مثل اللهاة من البدن، يأتيها الماء ببرده وعذوبته، ومثل البصرة مثل المثانة, يأتيها الماء بعد تغيّر وفساد". وقال الحجاج: "الكوفة
بكر حسناء, والبصرة عجوز بخراء أوتيت من كل حلي وزينة"1. وسماها الناس لتقلب هوائها بالرعناء. قال الفرزدق: لولا أبو مالك المرجو نائله ... ما كانت البصرة الرعناء لي وطنا والرعونة: الحمق والاسترخاء. إلا أن وخامتها لم تمنع أن يتكاثف فيها السكان ويطّرد لها النمو، حتى أصبحت كما وصفها جعفر بن سليمان بقوله: "العراق عين الدنيا, والبصرة عين العراق". انقضى القرن الهجري الأول والبصرة قد قطعت شوطا بعيدا في الازدهار، ولم تستقر الأمور لبني العباس في عهد المهدي ومن بعده, حتى صارت البصرة باب2 بغداد الكبير ومدخل دجلتها المتدفق بضروب المتاع وأنواع السلع المجلوبة من أطراف الدنيا، نظير مرسيليا اليوم بالنسبة إلى فرنسا، أو جنوة لإيطاليا، أو ليفربول لبلاد الإنجليز. بل امتازت البصرة على تلك المراسي بنصيب أوفر وحظ أكبر؛ إذ كانت مقصد القوافل الواردة من كل حدب وصوب، ومحط رحال الشرق والغرب، من مجاهل
الصين إلى مفاوز الصحراء الكبرى؛ ولذلك استفحل بها العمران وكثرت فيها المصانع والصناعات، وصارت واسطة العرب والعجم, وحُق لها أن تتلقب "بقبة الإسلام" كما سماها عمر بن الخطاب. ناهيك ببلد جمع لحسن الموقع أضداد الأشياء وأشتات الأرزاق ومختلف المكاسب والمطالب ... اشتهر أهل البصرة من قديم بالتطوّح في الآفاق والترامي على الأسفار البعيدة والضرب في مناكب الأرض طلبا للرزق والتماسا للثراء "اشتهارا" جعل الجاحظ يصرح: "بأنه ليس في الأرض بلدة واسطة ولا بادية شاسعة ولا طرف من أطراف الدنيا إلا وأنت واجد به البصري والمدني"1. وقد اتفقت كلمة السائحين وأصحاب الرحلات على بعد همة البصريين في الترحال وغَوْرهم في الاغتراب حتى قال أبو بكر الهمذاني -وناهيك به من خبير-: "وأبعد الناس نجعة في الكسب بصري وحميري، ومن دخل فرغانة القصوى "شرقا" والسوس الأقصى "غربا" فلا بد أن يرى فيهما بصريا أو حميريا"2. ا. هـ ملخصا.
وكثرت الأصناف المجلوبة إلى البصرة من عامة الأقطار حتى لقبت بحق بـ "خزانة العرب"1 واستطاع أحد أبنائها وهو الجاحظ، أن يؤلف في بضائع البصرة كتابا مستقلا, يذكر فيه الأحجار الثمينة كالذهب والفضة واللؤلؤ والياقوت والزبرجد.. إلخ والطيب والعطر والروائح الطيبة والوشي والفرش, وما يجلب من البلدان من طرائف السلع والأمتعة والجواري, وما يختار من البزاة والشواهين والبواشق والصقور ... يبتدئ بصفة النوع وما يستجاد منه ومن أين يجلب وأين أحسنه. والجاحظ كما نعلم لم يرحل إلى الهند ولا إلى فارس, ولكن عنده في بلده تجارات تلك الأمم كلها. ولا نكون إلى الغلوّ إذا قلنا: إن البصرة في عصر العباسيين الذهبي كانت سوق العالم قاطبة. ولم يقصّر البصريون في الزراعة, بل عكفوا عليها وجوّدوها حتى اختُصوا بمعرفة النخيل وضروبه وأصول غراسه اختصاصا فاقوا به كل أحد. قال الهمذاني في كتابه البلدان: "ولأهل البصرة من النخيل وأنواع التمور ما عدم مثله في جميع كور النخيل، وذكر الجاحظ أنهم أحصوا أصناف نخيل البصرة دون نخل المدينة ودون مصر واليمامة والبحرين وعمان وفارس وكرمان
ودون الكوفة وسوادها وخيبر وذواتها والأهواز وما بها، أيام المعتصم، وإذا ثلاثمائة وستون ضربا من مُغَلّ معروف وخارجي موصوف وبديع غريب مع طيب عجيب". وهذا افتنان غير قليل في إجادة الزراعة يدل على حذق بها ورقي بالغ. وذلك عدا ما شهرت به من الأسماك وأنواع اللحوم والألبان والأقطان وسائر التجارات. ولها إلى ذلك شهرة أخرى تعنينا هنا في بحثنا كثيرا، وهي ما استفاض فيها من علوم ولغة وأدب وشعر حتى صارت تقصد لذلك دون سائر البلاد، وكثر فيها العلماء والشعراء والأدباء والكتاب والفقهاء والقراء ... كثرة تستعصي على الإحصاء، وسنلمّ بذلك في كلامنا على سوقها الكبرى: المربد. ولم تخل إبان ازدهارها من أن تكون متعة للناظرين ومنازه للمتفرجين، واشتهر فيها وادي القصر الذي قال فيه الجاحظ: "ومن أتى وادي القصر بالبصرة رأى أرضا كالكافور، ورأى ضبابا تُحْتَرش، وغزلانا وسمكا وصيادا، وسمع غناء ملاح في سفينته، وحُداء جمّال خلف بعيره". وكأن هذه الجملة الموجزة, نثر ما كان الخليل بن أحمد قاله قبله: زر وادي القصر نعم القصر والوادي ... في منزل حاضر إن شئت أو بادي
ترى به السفن والظلمان حاضرة ... والضب والنون والملاح والحادي وليس في أيدينا نعت للبصرة أبلغ ولا أكثر إحاطة, ولا أصدق ولا أدق مما قاله خالد بن صفوان لعبد الملك بن مروان، فقد جمع لنا فيه من صفات البصرة وخصائصها ما لم نجده عند غيره، ولا ريب فهو ابن البصرة وأحد بلغاء الناس, وكل من أراد معرفة البصرة في القرن الأول الهجري فهو عيال على صفة خالد هذه، قال: "يغدو قانصنا فيجيء هذا بالشبوط والشيم ويجيء هذا بالظبي والظليم، ونحن أكثر الناس عاجا وساجا، وخزا وديباجا، وبرذونا هملاجا، وخريدة مغناجا. بيوتنا الذهب، ونهرنا العجب، أوله الرطب، وأوسطه العنب، وآخره القصب: فأما الرطب عندنا فمن النخل في مباركه، كالزيتون عندكم في منابته، هذا على أفنانه، كذاك على أغصانه، هذا في زمانه، كذاك في إبّانه، من الراسخات في الوحل، المطعمات في المحل، الملقحات بالفحل، يخرجن أسفاطا عظاما، وأوساطا ضخاما كأنما ملئت رباطا. ثم ينفلقن عن قضبان الفضة منظومة باللؤلؤ الأبيض، ثم تتبدل قضبان الذهب منظومة بالزبرجد الأخضر، ثم تصير ياقوتا أحمر وأصفر، ثم تصير عسلا في شنة من سحاء
ليست بقربة ولا إناء، حولها المذابّ، ودونها الحراب، لا يقربها الذباب، مرفوعة عن التراب. ثم تصير ذهبا في كِيَسة الرجال، يستعان به على العيال1. وأما نهرنا العجب فإن الماء يقبل عنقا، فيفيض مندفقا، فيغسل غثها، ويبدي مبثها، يأتينا في أوان عطشنا، ويذهب في زمان رِيّنا, فنأخذ منه حاجتنا، ونحن نيام على فرشنا، فيقبل الماء وله عُباب وازدياد، ولا يحجبنا عنه حجاب، ولا نغلق دونه الأبواب، ولا يتنافس فيه من قلة، ولا يحبس عنا من علة2. وأما بيوتنا الذهب، فإن لنا عليهم خرجا في السنين والشهور، نأخذه في أوقاته، ويسلمه الله تعالى من آفاته، وننفقه في مرضاته". هذا ولم تحظ -فيما نعلم- بلدة من بلاد الإسلام بمثل ما حظيت به البصرة، فقد تشارك في صفتها ثلاثة من فرسان البلاغة والعبقرية: خالد بن صفوان، والخليل بن أحمد، والجاحظ.
سوق المربد
سوق المربد: ننتقل من أسواق العرب في الجاهلية إلى أسواقها في الإسلام. ونلاحظ أننا لا نرى في هذه الأسواق الشأن الكبير الذي كان لأسواق الجاهلية؛ لأن العرب -كما تقدم- تحضّرت وسكنت الأمصار وكثرت فيها الأسواق الدائمة تحوي كل نوع من أنواع البضائع المعروفة لهم. فلم تستجد في الإسلام سوق لم تكن في الجاهلية، إلا ما كان من أمر المربد1 الذي ورث عكاظ، وقضى على ما كانت تتمتع به من ميزات، منذ عصر الراشدين، وأخذ أمر المربد "عكاظ الإسلام" بالازدياد حين بدأ شأن عكاظ "الجاهلية" بالخمول فالانتقاص فالموت. نزلت العرب البصرة سنة أربع عشرة, ومصّرتها سنة سبع عشرة على تخطيط وضعه عمر وأرسل من يقف على تنفيذه. وكان المربد على الجهة الغربية من البصرة إلى البادية, ليكون أول ما ينزلون إذا قصدوا البصرة، وآخر ما يتركون إذا رحلوا عنها؛ ليقضوا فيه متاعا لهم ومرافق يتبلّغون بها في ظعنهم وإقامتهم.
معنى المِرْبَد: محبِس الإبل ومربطها. والمربد أيضا: بيدر التمر؛ لأنه يربد فيه فيشمس. والرُّبدة: لون إلى الغبرة. ومربد البصرة هذا متسع للإبل تربد فيه للبيع. وكان في الأصل سوقا للإبل، حتى إذا كان عهد الأمويين صار سوقا عامة تتخذ فيه المجالس ويخرج إليها الناس كل يوم، كل إلى فريقه وحلقته وشاعره، وتتعدد فيه الحلقات يتوسطها الشعراء والرجاز ويؤمها الأشراف, وسائر الناس يتناشدون ويتفاخرون ويتهاجون ويتشاورون, وقد وجدوا فيه مستجما لأبدانهم وأرواحهم التي نهكتها الفتوحات، وحنت إلى سابق عهدها في عكاظ فجددت منه ما سمح به الدين الجديد. بل غضت النظر فتسامحت أحيانا وأحيت ما أمات الإسلام من حمية جاهلية وإحن وثارات وأثارت عداوات. كان يبعثها الناس من تلقاء أنفسهم، أو بتشجيع خفي من بعض خلفاء الأمويين؛ ليشغلوا الناس بعضهم ببعض عن الخلافة وما يأتي الخلفاء من هنوات. فالمربد معرض لكل قبيلة تعرض فيه شعرها ومفاخرها كما تعرض عروضها. وهو مجتمع العرب ومتحدثهم ومتنزه البصريين، يؤمه منهم من عاف رخاوة المدن. وما زال يعلو شأنه وتستجيب له أسباب الكمال, حتى اشتد ولوع الناس به وارتيادهم له. ويظهر أن الأمر
زاد على ما نعرف للمنازه اليوم من خطر، فقد بنيت فيه الدور الجميلة, وتفاقم أمره حتى صار من الضروري لكل أحد في عصر العباسيين أن يغشى المربد، إن لم يكن لحاجة فلترويح النفس وتمتيع البصر وترويض البدن، وحتى قال جعفر بن سليمان الهاشمي جملته المشهورة: "العراق عين الدنيا، والبصرة عين العراق, والمربد عين البصرة، وداري عين المربد"1. وما زال في مجده هذا حتى خرب وخربت البصرة وتقلص العمران بينهما إلى أن صار بين المربد والبصرة ثلاثة أميال خراب على عهد ياقوت2 الذي ذكره في معجمه, فقال: "مربد البصرة من أشهر محالها. وكان يكون سوق الإبل فيه قديما ثم صار محلة عظيمة سكنها الناس، وبه كانت مفاخرات الشعراء والخطباء. وهو الآن بائن عن البصرة نحو ثلاثة أميال وكان ما بين ذلك كله عامرا وهو الآن خراب, فصار المربد كالبلدة المنفردة في وسط البرية". نقلت قول ياقوت هذا في البصرة ومربدها؛ لأقول: إن الذي طرأ عليها من الخراب والتأخر طرأ على العراق كله؛ فمن يقرأ وصف العراق وبلدانه وجنانه ونعيمه وسكانه وعمرانه وخيراته ... في كتب
الأدب، وخاصة في المائة الثانية والثالثة والرابعة للهجرة، ثم يرحل إليه أول هذا القرن، لا يجد وصفا للعراق أصدق من قول ياقوت في تلك الأميال الثلاثة التي كانت عمرانا متصلا بين البصرة ومربدها, وأصبحت على عهده خرابا يبابا أفرد المربد من أمه وكان سوقا من أسواقها، وجعله قرية بائنة لا خطر لها. ولئن كان لعكاظ ذلك الأثر في اللغة العربية: ألفاظها وأساليبها، فإن المربد كان له أيضا في اللغة أثر بعيد يختلف بعض الاختلاف عن أثر عكاظ؛ لما بين الزمانين والمكانين من التباين، فعكاظ في قلب الجزيرة العربية يحج إليها أشراف العرب وفصحاؤها، لا عجمة فيها ولا أثر لأعجميين البتة. والأمر في المربد على العكس: هو في طرف الجزيرة على الخليج الفارسي, وبينه وبين الفرس قرب قريب. وزاد الإسلام والفتوح اختلاط العرب بالعجم فتطرق إلى اللغة الفساد والعجمة واللحن وغشي هذا الضعف مجالس الخاصة من العرب, وأزرى بلهجات الفصحاء حتى صرت تسمع الأمير على المنبر في المواسم يلحن على ملأ من الأعراب والبلغاء والأشراف، فعِيب على الحجاج لحن وأُثر عن عبيد الله بن زياد مثله، وكذلك نقلت لحنات
عن أشراف العرب1. فكان المربد يعجّ بأعلام اللغة والأدب والشعر والنحو، معهم محابرهم ودفاترهم يكتبون عن فصحاء الأعراب فيه، وهذه الظاهرة لم تكن في عكاظ قط، فهذا أبو عمرو بن العلاء يسأل الأصمعي: "من أين أقبلت؟ " فيجيبه: "جئت من المربد" فيقول: "هات ما معك"، فيقرأ عليه الأصمعي ما كتب في ألواحه، فإذا ستة أحرف "كلمات" لم يعرفها أبو عمرو، فيخرج يعدو في الدرجة ويقول للأصمعي: "شمّرت في الغريب" أي: غلبتني2. ويشبه المربد عكاظ في أمر الشعر وحلقاته، بل يزيد عليه, فلكل شاعر حلقة، ولكل متهاجيين مجلس، ولكل قبيلة نادٍ وشاعر يذود عنها, ويرد عدوان قريعه من القبيلة الثانية. فللعجاج ولرؤبة حلقة، ولأبي النجم العجلي حلقة، ولجرير والفرزدق وراعي الإبل وذي الرمة، لكل منهم حلقة. وكثر هذا المحصول من الرجز والشعر والنكات الأدبية كثرة ملأت أمهات كتب الأدب بأخبارها، ولا شك في أن المربد في هذا فاق عكاظ مراحل واسعة, وفاته بعدد الشعراء والرجّاز وكثرة الروّاد وطلاب الأدب. وفي المربد أطفئت ثالثة
جمرات العرب، أطفأها جرير بقصيدته الدمّاغة. كان لكل من الشعراء رواة ينقلون له ما قاله خصمه وينشرون في الناس جواب شاعرهم عليه، وكان اهتمام الناس بالشعر والأدب من أقوى الأسباب العاملة في غزارته, وكثرة المقبلين على تعلمه وروايته. ويتفرد المربد بأمر علمي محض لم يكن له في عكاظ من أثر، وهو أنه أرفد اللغة بمادة كثيرة، عليها أسس النحاة قواعدهم وأصلحوها، وذلك بما كانوا يقصدون له فصحاء الأعراب يسألونهم فيما فيه يختلفون، ويأخذون عنهم مستفيدين ومتعلمين. وحسبك أن تقرأ أيا شئت من كتب الأدب الأصول كالأغاني والأمالي والبيان والتبيين والكامل و ... لتجد أن أكثر مادتها فيما يتعلق بالعصر الأول والثاني للهجرة، كان المربد ميدانه وينبوعه. وخذ إن أردت كتب التاريخ الكبرى كالطبري مثلا ثم أبلغ في فهرس أماكنه إلى المربد، يأخذك العجب من كثرة المواطن التي ورد ذكر المربد فيها مع أن الكتاب كتاب سياسة وأخبار ملوك لا كتاب عامة وأدب. فمن المربد, وعلى هامشه غُذِّي الأدب بقصص وأساطير كما غذي التاريخ بالأخبار الواقعة، ووضع من وضع من الرواة والأخباريين أحاديث حاكوا بها ما وقع. وفي حلقاته اصطرعت الأهواء المتباينة
والنزعات المتضاربة، استغلها الشعوبيون والمنافحون عن الحقائق على السواء، وشهدت هجوما من أولئك ودفاعا من هؤلاء. والغريب أن هذا المربد لم يكتف بأن يستأثر بكل ميزة كانت لعكاظ، بل جمعها وضم إليها ميزات جديدة أفادها من خصائص عصره وطبيعة اجتماعه، فإن كانت في عكاظ حروب موضعية بين قبيلتين, فإن المربد كان ميدانا لأكبر فتنة وأشد حرب داخلية وقف فيها المسلم أمام المسلم يكافحه بسيفه ويشرع إليه رمحه. كان المربد ميدانا لإحدى مواقع الجمل، أول حرب فرقت كلمة هذه الأمة المخيفة وجعلت بأسها بينها، وكانت حلقة أولى في هذه السلسلة الطويلة التي نخرت الجسم الإسلامي ومكنت عدوه منه, وكانت أفتك به من كل حرب صليبية وغارة تترية ووحشية أوروبية. فلأعرض على القارئ مشهدا صغيرا مما جرى في المربد من هذه الحرب, ليحمل باقي المشاهد عليه: خرجت السيدة عائشة مطالبة بدم عثمان، ناقمة على خلافة علي، ومعها مشيخة من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مهاجرين وأنصارا، منهم الزبير وابنه، وطلحة وابنه، ونفر من بني أمية فيهم مروان بن الحكم، وآخرون غير هؤلاء، فقصدت البصرة لأن لها فيها نفرا على رأيها.
وكان على البصرة عثمان بن حنيف واليا لعلي، وقد مهدت لأمرها بكتب أرسلتها إلى رؤساء البصرة وساداتها, فأجابها قليل ورد عليها قوم وحايد قوم. بعد هذا التمهيد القصير أنقل وصف هذا المشهد, معتمدا على ما جاء في تاريخ الطبري: "أقبلت عائشة فيمن معها حتى إذا انتهوا إلى المربد ودخلوا من أعلاه، أمسكوا ووقفوا وتلقاهم الناس حتى لو رموا بحجر ما وقع إلا على رأس إنسان. وخرج عثمان أمير البصرة لعلي فيمن معه، ولحق بعائشة من أهل البصرة من شاء حتى غصّ المربد بالناس واحتلّ طلحة والزبير وجموعهما ميمنة المربد واحتل عثمان بمن معه ميسرته، فوقف طلحة يتكلم فأنصتوا له: فحمد الله وأثنى عليه وذكر عثمان -رضي الله عنه- وفضله والبلد وما استحل منه بقتل عثمان الخليفة، وعظم ما أُتي إليه. ودعا إلى الطلب بدمه وقال: إن في ذلك إعزازا لدين الله عز وجل وسلطانه، وأما الطلب بدم الخليفة المظلوم فإنه من حدود الله، وإنكم إن فعلتم أصبتم وعاد أمركم إليكم, وإن تركتم لم يقم لكم سلطان ولم يكن لكم نظام. وتكلم الزبير بمثل ذلك، فقال من بميمنة المربد وكانوا يحطبون في حبل الخارجين على عليٍّ: "صدقا وبرا وقالا الحق وأمرا
بالحق". وقال من في ميسرته: "فجرا وغدرا وقالا الباطل وأمرا به، قد بايعا ثم جاءا يقولان ما يقولان" وتحاثى الفريقان وتحاصبوا وأرهجوا1. فتكلمت عائشة وكانت جهورية يعلو صوتها كثرة كأنه صوت امرأة جليلة, فحمدت الله وأثنت عليه وقالت: "كان الناس يتجنون على عثمان -رضي الله عنه- ويُزرون على عماله ويأتوننا بالمدينة فيستشيروننا فيما يخبروننا عنهم ويرون حسنا من كلامنا في صلاح بينهم، فننظر في ذلك فنجده بريئا تقيا وفيا ونجدهم فَجَرَة غَدَرَة كَذَبَة، يحاولون غير ما يظهرون. فلما قووا على المكاثرة كاثروا، فاقتحموا عليه داره واستحلوا الدم الحرام والمال الحرام والبلد الحرام بلا ترة ولا عذر. ألا إن مما ينبغي -ولا ينبغي لكم غيره- أخذ قتلة عثمان -رضي الله عنه- وإقامة كتاب الله -عز وجل- وتلت: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ} 2".
فماج الناس, وافترق أصحاب عثمان بن حنيف بعد سماعهم ما تقدم فرقتين, فقالت فرقة: "صدقت والله وبرت, وجاءت والله بالمعروف" وقال الآخرون: "كذبتم, والله ما نعرف ما تقولون" فتحاثوا وتحاصبوا وأرهجوا ... أوقعت هذه الخطب الانقسام في جماعة عثمان نفسه، ولما رأت عائشة ذلك انحدرت وانحدر أهل الميمنة مفارقين لعثمان حتى وقفوا من المربد في موضع الدباغين. وبقي أصحاب عثمان على حالهم يتدافعون حتى تحاجزوا ومال بعضهم إلى عائشة وبقي بعضهم مع عثمان. وأتى عثمان فيمن معه حتى إذا كانوا على فم السكة سكة المسجد عن يمين الدباغين استقبلوا الناس, فأخذ عليهم بفمها. كاد الأمر يقف عند هذا، فإن أصحاب عائشة ما أرادوا حينئذ قتالا، ولكن جماعة في أصحاب عثمان -ولعل أكثرهم ممن اشترك في دم الخليفة الشهيد- تعجلوا الحوادث وأرادوا بدء القتال، وكان حكيم بن جبلة على الخيل وهو أول من أقبل ينشب القتال، وأشرع أصحاب عائشة -رضي الله عنها- رماحهم، وأمسكوا ليمسك أصحاب عثمان، فلم ينته حكيم ولم يُثْنَ، وقاتلهم، وأصحاب عائشة كافّون، إلا ما دفعوا عن أنفسهم، وحكيم
يُذَمِّر1 خيله ويركبهم بها, ويقول: "إنها قريش، ليُرْدِيَنّها جبنها والطيش" واقتتلوا على فم السكة. وأشرف أهل الدور -والموقعة بجوارهم, والمربد يومئذ سوق داخلة في البلد حولها البيوت- ممن كان له في واحد من الفريقين هوى، فرموا الآخرين بالحجارة. وأمرت عائشة أصحابها فتيامنوا حتى انتهوا إلى مقبرة بني مازن, فوقفوا بها طويلا وثار إليهم الناس حتى حجز الليل بينهم"2. هذا حادث من حوادث كثيرة وقعت في المربد, واستمرت حتى انتهت حرب الجمل باندحار أصحاب عائشة. ذكرته ليقف القارئ على صورة من هذه المأساة الفادحة التي كانت وما بعدها سببا في فُرقة المسلمين وحدوث طوائف ونحل يلعن بعضها بعضا ويحمل بعضها على بعض، تتناكر وتتقاذف وترى كل منها أن غير المسلم أقرب إليها من أهل الطائفة الثانية. وكثيرا ما استعان بعضها على بعض بالأجنبي عدوهما معا، بل كثيرا ما عمل الدخيل على توسيع الشقة بينهما وقوّى بعضا على بعض وأمد الفريقين من وراء وراء، بالسلاح والمال ليفنيا جميعا.
وتمضي عشرات السنين ويصلى العراق بسطوة الحجاج وإرهابه، وتشتد الوطأة فلا يكون المتنفس إلا في المربد، حيث يخطب الناسَ الزعيمُ الثائر عبد الرحمن بن الأشعث قائلا: "أيها الناس! إنه لم يبق من عدوكم إلا كما يبقى من ذَنَب الوَزَغة, تضرب به يمينا وشمالا فلا تلبث أن تموت" فتقوى بهذا الكلام نفوس الثائرين إلا رجلا من بني قشير لا يعجبه كلام ابن الأشعث فيقول: "قبّح الله هذا، يأمر أصحابه بقلة الاحتراس من عدوهم ويعدهم الغرور"1 فيكون أشد على الحجاج من ابن الأشعث, إذ أراد التي هي أحزم. كان في المربد إذن أدب وتجارة وحرب2 وسياسة كما كان في عكاظ. وأستطيع أن أقسم الكلام على المربد أقساما ثلاثة كان
شأنه في كل منها مختلفا. أما الأول فعلى عهد الراشدين, إذ كان يقتصر أمره على التجارة غالبا وإن لم يعدم يوما أن كان ساحة حرب ومسرح مآسٍ. وقد عرفنا مما ذكر الطبري أن به موضعا للدباغين. فالمربد إذن سوق البصرة أيام الراشدين وأغلب ما يتاجر فيه التمر وما إليه والإبل والسلاح والغنائم مما كان يقسم على المحاربين، فيبيعه هؤلاء في المربد. ثم يأتي العهد الثاني أيام الأمويين وقد اتسعت السوق وكثر قاصدوها من الأطراف, وازدهت بالشعراء والأدباء والعلماء ووفود القبائل، مما لم يكن في العهد الأول؛ لانشغال الناس آنئذ بالجهاد والفتوح، وعدم فراغ لهذه الألوان من الأدب التي لا تغزر وتتهيأ إلا بعد استتباب حال الدولة، ولم نعهد حركة أدبية نشأت إبان الفتوح حين تتأسس الدول. وازدان هذا العهد بأفحل رجاز وشعراء أخرجهم العهد الأموي, وأخص بالذكر جريرا والفرزدق والأخطل والبعيث وراعي الإبل وذا الرمة، ومن الرجاز رؤبة وأباه العجاج وأبا النجم العجلي وهذا الفريق. أما في العهد الثالث, أي: بين آخر العصر الأموي والقرن الثاني
للهجرة، فقد نضجت حركة المربد الأدبية والعلمية نضجا يتسق هو وما وصلت إليه الدولة من حسن الحال وسعة الأفق ومرافق الحضارة وبسطة العلم وسعة السلطان. وكان من أبطال المربد أكابر النحاة ورواة الشعر والأدب والشعراء. والذي كان جديدا في هذا العهد ولم يكن قبل، الناحية العلمية, وأعني بها ما كان يصنعه أبو عمرو بن العلاء والأصمعي وقبيلهما من غشيان لفصحاء1
الأعراب وصبر على لوثتهم وجفائهم، وتلقف لما ينطقون به وإثبات له في الصحف، يروونه ليبنى عليه الأساس في وضع القواعد العربية. قال صاحب ضحا الإسلام "2/ 80" وفي قوله إجمال ما قدمت: كان المربد في عصر الخلفاء الراشدين والأمويين مركزا سياسيا وأدبيا، نزلت فيه عائشة أم المؤمنين بعد مقتل عثمان تطالب بدمه وتؤلِّب الناس على علي، وكان المربد مركزا للمهاجاة بين جرير والأخطل والفرزدق، وأنتج ذلك نوعا من أقوى الشعر الهجائي كالذي نقرؤه في النقائض، وكان لكل من هؤلاء الشعراء حلقة ينشد فيها شعره، وحوله الناس يسمعون. جاء في الأغاني "وكان لراعي الإبل والفرزدق وجلسائهما حلقة بأعلى المربد في البصرة". واستمر المربد في العصر العباسي، ولكنه كان يؤدي غرضا
آخر غير الذي كان يؤديه في العهد الأموي؛ ذلك أن العصبية القبلية ضعفت في العصر العباسي بمهاجمة الفرس للعرب، وأحس العرب بما هم فيه جميعا من خطر من حيث هم أمة لا فرق بين عدنانيهم وقحطانيهم، ولكنهم لم يستطيعوا المقاومة، فقوي نفوذ الفرس وغلبوا العرب على أمرهم، وبدأ الناس في المدن كالبصرة يحيون حياة اجتماعية هي أقرب إلى حياة الفرس منها إلى حياة العرب، وانصرف الخلفاء والأمراء عن مثل النزاع الذي كان يتنازعه جرير والفرزدق والأخطل، وظهرت العلوم تزاحم الأدب والشعر، وفشا اللحن بين الموالي الذين دخلوا في الإسلام، وأفسدوا حتى على العرب الخالصة لغتهم، فتحول المربد يؤدي غرضا يتفق "هو" وهذه الحياة الجديدة. أصبح المربد غرضا يقصده الشعراء لا ليتهاجوا، ولكن ليأخذوا عن أعراب المربد الملكة الشعرية يحتذونهم ويسيرون على منوالهم، فيخرج إلى المربد بشار وأبو نواس وأمثالهما، ويخرج إلى المربد اللغويون يأخذون عن أهله ويدوّنون ما يسمعون. روى القالي في الأمالي عن الأصمعي قال: "جئت إلى أبي عمرو بن العلاء فقال لي: "من أين أقبلت يا أصمعي؟ " قلت: "جئت من المربد"، قال: "هات ما معك" فقرأت عليه
ما كتبت في ألواحي، فمر به ستة أحرف لم يعرفها، فخرج يعدو في الدرجة وقال: "شمّرت في الغريب" أي: غلبتني. والنحويون يخرجون إلى المربد يسمعون من أهله ما يصحح قواعدهم ويؤيد مذاهبهم؛ فقد اشتد الخلف بين مدرسة البصرة ومدرسة الكوفة في النحو وتعصب كل لمذهبه، وكان أهم مدد لمدرسة البصرة هو المربد1. وفي تراجم النحاة نجد كثيرا منهم كان يذهب إلى المربد يأخذ عن أهله. ويخرج الأدباء إلى المربد يأخذون الأدب، من جمل بليغة وشعر رصين وأمثال وحكم، مما خلفه عرب البادية وتوارثوه عن آبائهم، كما فعل الجاحظ: إن الجاحظ أخذ النحو عن الأخفش، وأخذ الكلام عن النظّام، وتلقّف الفصاحة من الأعراب شفاها بالمربد" ا. هـ. وكما كانت عكاظ يؤمها كل من أراد أن يفتخر أو يعلن أمرا تفرد به أو يشيع في الناس مأثرة أو خبرا، كان المربد كذلك
منشرة للمحامد والمساوئ، مسرة الصديق وغيظ العدو، فكل من أراد أن يكبت خصما أو يحقر قبيلة أو يشهر محمدة طلب لها المربد يجعلها فيه؛ لتكون أشيع وأسير وأبلغ في الإرضاء والإغاظة. وقد كان المربد مسرحا لدعوات سياسية ودينية واستغاثات وشكوى ورثاء وفخر كما كانت عكاظ. وأحفل ما كان المربد، في النصف الثاني لعهد الأمويين والثلث الأول لعهد العباسيين. فلأشرع في عرض مناظر تكمل الصورة التي وصفت ليكون القارئ ملما بجميع ما يعرض ويجري في المربد على اختلاف المناحي والغايات، وقد تقدمت صورة على عهد الراشدين وهي حرب الجمل. ولا ريب في أن المربد لم يستفحل أمره وتتعدد مقاصده إلا فيما بعد، في الزمن الذي ذكرت لك من أيام بني أمية وبني العباس: 1- عوذ بقبر: عبد مكاتَب لبني مِنْقَر، ضاقت حاله ولم يقدر على حيلة يجمع بها المال لسيده حتى يعتقه، فلما عيّ بالأمر أتى قبر غالب أبي الفرزدق، فضرب قبة عليه علامة الاستعاذة والاستغاثة، فقدم الناس فأخبروا الفرزدق أنهم رأوا بناء على قبر غالب أبيه. قصد المكاتب المربد وتقصى الحلقات حلقة حلقة، حتى وقف على حلقة الفرزدق حيث يجلس, فقال:
بقبر ابن ليلى غالب عذت بعدما ... خشيت الردى أو أن أرد على قسْر فخاطبني قبر ابن ليلى وقال لي: ... فكاكك أن تلقى الفرزدق بالمصر فقال له الفرزدق: "صدق أبي, أَنِخْ أَنِخْ". ثم طاف على الناس حتى جمع له كتابته وفضلا فضل للمكاتَب، فانصرف وقد أنجح مسعاه. 2- مجنون في حب: كان بالبصرة مجنون قاعد على ظهر الطريق بالمربد، فكلما مر به ركب قال: ألا أيها الركب اليمانون عَرِّجوا ... علينا فقد أمسى هوانا يمانيا نسائلكم: هل سال نعمان بعدكم ... وحبّ إلينا بطن نعمان واديا فسألت عنه، فقيل: هذا رجل من البصرة، كانت له ابنة عم يحبها, فتزوجها رجل من أهل الطائف فنقلها، فاستوْله عليها1. 3- إنهاب مال: كان زياد قد نهى أن يُنهب أحد مال نفسه، وكان الفرزدق أنهب ماله بالمربد. وذلك أن أباه بعث معه إبلا ليبيعها فباعها وأخذ ثمنها, فعقد عليه مطرف خز كان عليه، فقال قائل: "لشد ما عقدت على دراهمك هذه، أما والله لو كان غالب ما فعل هذا الفعل! ". فحلها الفرزدق ثم أنهبها, وقال: "من أخذ شيئا فهو له". وبلغ ذلك زيادا فبالغ في طلبه فهرب، فلم يزل زياد في طلبه، قد بلغ منه كل مبلغ ليعاقبه على ما صنع، وقد نهى زياد في ذلك ألا يفعله أحد.
وكان زياد إذا قال شيئا وفى به. فلم يزل في هربه ذلك يطوف في القبائل والبلاد حتى مات زياد1. 4- غلام يخجل الفرزدق: كان الفرزدق ينشد شعره بالمربد والناس مجتمعون حوله, إذ مر به الكميت وهو غلام فوقف، فقال له الفرزدق: "ليسرك أني أبوك؟ " فقال الغلام: "أما أبي فلا أريد به بديلا، ولكن يسرني لو كنت أمي ليذوق أبي عُسَيْلتك" فقال الفرزدق: "اكتمها على عمك يابن أخي, فما مر بي مثلها! "2. 5- تهديم دور الهجائين: كان للبصرة والٍ متنسك يروى عنه الفقه، اسمه الحارث بن عبد الله المخزومي ولقبه القُباع3. بلغه ما يكون في المربد من الشر بين جرير والفرزدق وبين حييهما بسببهما. ولما رأى أنهما غير منتهيين عن ذلك، أراد أن يخطو الخطوة الحاسمة بحزم، فأمر بالدار التي ينزلها جرير في المربد والدار التي ينزلها الفرزدق في المقبرة فهدمتا. وكان القباع قد أراد هدم دار الفرزدق قبل هذه المرة أيضا في شيء بلغه، ثم إنه كُلِّم فيه وهرب الفرزدق.
ويظهر أن هذا الجزاء كان شديدا قد بلغ من نفسي الشاعرين مبلغا، حتى إن الفرزدق بعدها خنع وتملق فقال: أحارثُ داري مرتين هدمتَها ... وكنتَ ابن أخت لا تُخاف غوائلُهْ وأنت امرؤ بطحاء مكة لم يزل ... بها منكم معطي الجزيل وفاعله فقلنا له: لا تشمتن عدونا ... ولا تنس من أصحابنا من نواصله فقبلك ما أعييتُ كاسر عينه ... زيادا فلم تقدر علي حبائله فأقسمت لا آتيه سبعين حجة ... ولو نشرت عين القباع وكاهله وقال جرير في ذلك: أحارثُ خذ من شئت منا ومنهمُ ... ودعنا نقسْ مجدا تعد فواضله فما في كتاب الله تهديم دورنا ... بتهديم ماخور خبيث مداخله 5- هجاء إبليس: كان الفرزدق قد أكثر من هجاء "باهلة" حتى عيّت هذه القبيلة بأمرها, وكان مما قال فيهم: أباهلُ لو أن الأنام تنافروا ... على: أيهم شر قديما وألأم لفاز لكم سهما لئيم عليهم ... ولو كانت العجلان فيهم وجرهم وقال أيضا: ألا كيف البقاء لباهلي ... هوى بين الفرزدق والجحيم ألست إذا نسبت لباهلي ... بألأم من تركّض في المشيم1 وهل يسطيع أبكم باهلي ... زحام الهاديات من القروم2 فلا يأت المساجد باهلي ... وكيف صلاة مرجوس رجيم ... إلخ.
إلا أن الله أراد أن يرحمهم، فساق الفرزدق يوما إلى المربد، فلقي رجلا يقال له: حِمام من موالي باهلة، ومعه نِحْيٌ من سمن يبيعه. فسامه الفرزدق إياه, فقال له: "أدفعه إليك, وتهب لي أعراض قومي! " فقبل وقال: يهب له أعراض قومه ويهجو إبليس: ألا بشرا من كان لا يملك استه ... ومن قومه بالليل غير نيام يخافون مني أن يصك أنوفهم ... وأقفاءهم إحدى بنات صمام1 لعمري لنعم النحي كان لقومه ... عشية عبّ البيع نحي حمام2 أطعتك يا إبليس سبعين حجة ... فلما انتهى شيبي وتم تمامي فررت إلى ربي وأيقنت أنني ... ملاق لأيام المنون حمامي ألا طالما قد بت يوضع ناقتي ... أبو الجن إبليس بغير خطام يظل يمنّيني على الرحل واركا3 ... يكون ورائي مرة وأمامي ... وما أنت يا إبليس بالمرء أبتغي ... رضاه ولا يقتادني بزمام سأجزيك من سوءات ما كنت سقتني ... إليه جروحا فيك ذات كلام4 وإن ابن إبليس وإبليس ألبنا ... لهم بعذاب الناس كل غلام5 هما تفلا في فيّ من فمويهما ... على النابح العاوي أشد رجام6
6- جرير يهجو قبيلته: بنو العم قبيلة ليست من صميم العرب "نزلوا ببني تميم في أيام عمر بن الخطاب, فأسلموا وغزوا مع المسلمين وحسن بلاؤهم، فقال الناس: "أنتم وإن لم تكونوا من العرب إخواننا وأهلنا, وأنتم الأنصار والإخوان وبنو العم" فلقبوا بذلك وصاروا في جملة العرب. إلا أن الاسم الذي سموا به يحمل في تضاعيفه سمة قوم لصقاء، فكان فيه بعض الغضّ منهم وكانوا يضربون مثلا في رقة النسب وضعف الوشيجة, حتى قال كعب بن معدان يهجو بني ناجية ويُعرّض بنسبهم في قريش: وجدنا آل سامة في قريش ... كمثل "العم" بين بني تميم حضرت هذه القبيلة المربد وقد تواقف للهجاء جرير والفرزدق، يرد هذا على ذلك ووراء كل قبيلته وحزبه، فهاج الشر واقتتلت القبيلتان: بنو يربوع قوم جرير، وبنو مجاشع قوم الفرزدق، فأمدت بنو العم بني مجاشع وجاءوهم وفي أيديهم الخشب فطردوا بني يربوع" فقال جرير: "من هؤلاء؟ " قالوا: "بنو العم" فقال جرير يهجوهم ويعرض بالفرزدق وأنصاره الوضيعين هؤلاء: ما للفرزدق من عز يلوذ به ... إلا بني العم في أيديهم الخشب سيروا بني العم فالأهواز داركم ... ونهر تيرى ولم تعرفكم العرب1 7- والفرزدق لعبة: جرير والفرزدق ملآ المربد بأشعارهما ونقائضهما, وظلا حديث أهلها ما عاشا. لا يألو أحدهما جهدا في خلق ما يعير صاحبه به، فهما أبدا
دائبان في أن يجدا من كل شيء موضوعا للهجاء، ألف منهما ذلك أهل المربد عامة. وكانت لكل حلقة يملأ فيها ماضِغَيْهِ فخرا بقبيله وهجاء لقبيل خصمه، وكانت عبقريتهما البعيدة الغور تفتق لهما من الشعر ألوانا تشغل بها السامعين من البدو والحضر. هذا جرير، وقف بالمربد وقد لبس درعا وسلاحا تاما وركب فرسا, أعاره إياه أبو جهضم عباد بن حصين الحبطي. فبلغ ذلك الفرزدق فلبس ثياب وشي وسوارا وقام في مقبرة بني حصن ينشد بجرير، والناس يسعون فيما بينهما بأشعارهما. فقال الفرزدق وقد وجد في لباس جرير السلاح والدرع، مادة لهجائه: وإن كليبا إذ أتتني بعبدها ... كمن غره حتى رأى الموت باطلهْ رجوا أن يردوا عن جرير بدرعه ... نوافذ ما أرمي وما أنا قائله عجبت لراعي الضأن في حطمية ... وفي الدرع عبد قد أصيبت مقاتله وهل تلبس الحبلى السلاح وبطنها ... إذا انتطقت عبء عليها تعادله أفاخ وألقى الدرع عنه ولم أكن ... لألقي درعي من كمي أقاتله تركنا جريرا وهو في السوق حابس ... عطية: هل يلقى به من يبادله؟ فقالوا له: رد الحمار فإنه ... أبوك لئيم رأسه وجحافله وأنت حريص أن يكون مجاشع ... أباك ولكن ابنه عنك شاغله1 وما ألبسوه الدرع حتى تزيلت ... من الخزي دون الجلد منه مفاصله ولما بلغ جريرا أن الفرزدق في ثياب وشي اهتبلها فرصة, فقال: لبست سلاحي والفرزدق لعبة ... عليه وشاحا كرج وجلاجله2!
فعرف كيف يصوّب السهم ويُحكِم الضربة ويفوز بإضحاك الناس من خصمه الفرزدق: اللعبة. 8- ضحية بين فحلين: حاجى جرير ثمانين شاعرا، وكان عمر بن لجأ أحدهم، وكان جرير قد هجاه بقوله: يا تيم تيم عدي لا أبا لكم ... لا يقذفنكم في سوءة عمر أحين صرت سماما يا بني لجأ ... وخاطرت بي عن أحسابها مضر1 ... فبينا جرير واقف بالمربد وقد ركبه الناس, وعمر بن لجأ مواقفه يتهيأ للرد عليه ببيتيه، هدأت الضجة فقال عمر هذين البيتين, وكان قد رفده بها الفرزدق: لقد كذبت وشر القول أكذبه ... ما خاطرت بك عن أحسابها مضر ألبست فروة خوّار على لؤم ... لا يسبق الحلبات اللؤم والخور سمعهما جرير ففكر ثم فطن للأمر, فقال: "قبحا لك يابن لجأ، أهذا شعرك؟ كذبت والله ولؤمت، هذا شعر حنظلي، هذا شعر العزيز "يعني: الفرزدق"" فأبلس عمر وما رد جوابا. وكان في الحلقة غنيم بن أبي الرقراق, فطار حتى أتى الفرزدق فضحك له وأخبره الخبر، فاستلقى الفرزدق يضحك حتى فحص الأرض برجليه، وقال في ساعته يريد عمر بن لجأ، هذا الذي دخل بين فحلين فسقط مطرّحا بين أقدامهما:
وما أنت إن قرما تميم تساميا ... أخا التيم إلا كالوشيظة في الغرم1 فلو كنت مولى الظلم أو في ثيابه ... ظلمت ولكن لا يدي لك في الظلم ويرجع الخبر بذلك إلى جرير, فتنبسط أساريره ويعلوه البشر, إذ سمع هذين البيتين، ورأى لأول مرة كلمة إنصاف من ذلك الذي ملأ عليه الأرض هجاء وشرا, فيقول: "ما أنصفني في شعر قط قبل هذا" يعني قوله: "إن قرما تميم تساميا". 9- الحكم في تنافر شاعرين: "لما دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكة, قتلت بنو سليم وهم من قيس مقتلة من بني فهر وبني كنانة. فلما وجه معاوية في خلافته بسر بن أرطاة الفهري لقتل شيعة علي، نهضت وجوه قيس إلى معاوية وقالوا: "نسألك بالله والرحم ألا تجعل لبسر على قيس سلطانا, فيقتل قيسا بمن قتلت بنو سليم من بني فهر وبني كنانة يوم فتح مكة" فقال معاوية: "يا بسر, ليس لك سلطان على قيس". سار بسر حتى أتى الطائف, فقالت له ثقيف: "ما لك علينا سلطان، نحن من قيس". فسار حتى أتى همدان وهم في جبل لهم يقال له: شبام، فتحصنت فيه همدان ثم نادوا: "يا بسر نحن همدان, وهذا شبام" فلم يلتفت إليهم، حتى إذا اغتروا ونزلوا إلى قراهم أغار عليهم فقتل, وسبى نساءهم فكن أول مسلمات سبين في الإسلام. ومر بحي من بني سعد نزول بين ظهري بني جعدة
بالفلج "موضع لبني جعدة بنجد" فأغار بسر على الحي السعديين, فقتل منهم وأسر, فقال أوس بن مغراء في ذلك: مشرين ترعون النجيل وقد غدت ... بأوصال قتلاكم كلاب مزاحم1 فقال النابغة الجعدي يجيبه: متى أكلت لحومكم كلابي ... أكلت يديك من جرب تهام وهاج الشر بين الشاعرين؛ لما كان بين القبيلتين من ذحول وعداوة, ولم يكن أوس مثل النابغة ولا قريبا منه في الشعر. فقال النابغة: "إني وإياه لنبتدر بيتا, أينا سبق إليه غلب صاحبه". فلما بلغه قول أوس: لعمرك ما تبلى سرابيل عامر ... من اللؤم ما دامت عليها جلودها قال النابغة: "هذا البيت الذي كنا نبتدر إليه" فغُلِّب أوس عليه". كان مفهوما أن يناضل كل شاعر عن حيه ويدفع عنه ما يلصقه خصمه به، فتأرّث الهجاء بين النابغة وأوس، واستطال أوس بنسبه إلى معد، ثم كانت الحكومة بين الشاعرين في المربد, سوق العرب في الإسلام. وهذه رواية الأغاني في القضاء بينهما: اجتمع النابغة الجعدي وأوس بن مغراء في المربد، فتنافرا وتهاجيا، وحضرهما العجّاج والأخطل وكعب بن جعيل، فقال أوس: لما رأت جعدة منا وردا ... وَلَّوْا نعاما في البلاد ربدا2 إن لنا عليكم معدا ... كاهلها وركنها الأسدا فقال العجاج: كل امرئ يعدو بما استعدا
وقال الأخطل يعين أوس بن مغراء, ويحكم له: وإني لقاضٍ بين جعدة عامر ... وسعد قضاء بين الحق فيصلا أبو جعدة الذئب الخبيث طعامه ... وعوف بن كعب أكرم الناس أولا وقال كعب بن جعيل: إني لقاضٍ قضاء سوف يتبعه ... من أم قصدا ولم يعدل إلى أود1 فصلا من القول تأتم القضاة به ... ولا أجور ولا أبغي على أحد "نالت" بنو عامر سعدا وشاعرها ... كما "تنال" بنو عبس بني أسد2 وهكذا باء النابغة على فحولته بشر ما يبوء امرؤ إلى أهله، وفاز أوس بحكومة هؤلاء القضاة غير العادلين. 10- نقد سخف: تكوّف جماعة بمربد البصرة على الشاعر ذي الرمة، وهو قائم وعليه برد قيمته مائتا دينار. فاجتمعوا إليه وهو ينشد, ودموعه تجري على لحيته حزنا وأسفا على عهد صاحبته خرقاء: ما بال عينك منها الدمع ينكسب ... إلخ. بينا ذو الرمة بالمربد والناس مجتمعون إليه، إذا هو بخياط يقف ويقول: "يا غيلان" "اسم ذي الرمة": أأنت الذي تستنطق الدار واقفا ... من الجهل: "هل كانت بكن حلول؟ " فقام ذو الرمة وفكر زمانا ثم عاد فقعد في المربد ينشد, فإذا بالخياط قد
وقف عليه، وكان ذو الرمة قد قال في خرقاء صاحبته هذين البيتين المشهورين: أيا ظبية الوعساء بين جلاجل ... وبين النقا أأنت أم أمّ سالم هي الشبه، لولا مدرياها وأذنها ... سواء وإلا مشقة في القوائم1 فقال الخياط يعرّض بهذين البيتين, ويسخر من تشبيهه هذا: "أأنت الذي شبهت عنزا بقفرة ... لها ذنب فوق استها أم سالم وقرنان إما يلزقانك يتركا ... بجنبك يا غيلان مثل المواسم جعلت لها قرنين فوق شواتها2 ... ورابك منها مشقة في القوائم" فخجل ذو الرمة وبهت، وقام فذهب. ولم ينشد بعدها في المربد حتى مات الخياط3. 11- إعدام قبيلة: كان لراعي الإبل والفرزدق وجلسائهما حلقة بأعلى المربد بالبصرة يجلسون فيها، وكان الراعي قد ضخم أمره، وكان من شعراء الناس، فدخل في المنافرة بين جرير والفرزدق وقضى على الأول للثاني, وكان فيما قاله: يا صاحبيّ دنا المسير فسيرا ... غلب الفرزدق في الهجاء جريرا وقال: رأيت الجحش جحش بني كليب ... تيمّم حوض دجلة ثم هابا
فلما أكثر الراعي من ذلك, قال جرير لرجال من قومه: "هلّا تعجبون لهذا الرجل الذي يقضي للفرزدق علي, وهو يهجو قومه وأنا أمدحهم". "1" ثم خرج جرير ذات يوم يمشي ولم يركب دابته لئلا يعلم به أحد، فتعرض للراعي يريد أن يلقاه من حيال حيث كان يمر إذا انصرف من مجلسه بالمربد. فمر الراعي على بغلته وابنه جندل يسير وراءه على مهر له أحوى، وإنسان يمشي معه يسأله عن بعض الأمر. فلما استقبل جرير الراعي قال له: "مرحبا بك يا أبا جندل" وضرب بشماله على معرفة بغلته، ثم قال: "يا أبا جندل, إنك شيخ مضر وشاعرها وقد بلغني أنك تفضل علي الفرزدق تفضيلا قبيحا وهو ابن عمي دونك، فإن كان لا بد من تفضيل فأنا أحق به لمدحي قومك وذكري إياهم. ويكفيك من ذاك إذا ذكرنا أن تقول: كلاهما شاعر كريم ولا تحتمل مني ولا منه لائمة". فبينا جرير كذلك أقبل ابن الراعي جندل، حتى ضرب عجز دابة جرير حتى كاد يقطع إصبع رجله, وقال لأبيه: "لا أراك واقفا على كلب من بني كليب كأنك تخشى منه شرا أو ترجو منه خيرا" وضرب البغلة ضربة, فرمحت جريرا رمحة وقعت منها قلنسوته، قال جرير: "فوالله لو عرّج علي الراعي لقلت: سفيه غوي "يعني جندلا ابنه" ولكن لا والله ما عاج، فأخذت قلنسوتي فمسحتها, تم أعدتها على رأسي". فانصرف جرير غضبان حتى إذا صلى العشاء بمنزله في علية له قال: "ارفعوا لي باطية من نبيذ وأسرجوا لي" ففعلوا, فجعل يهمهم، فسمعت صوته عجوز في الدار، فاطلعت في الدرج حتى نظرت إليه, فإذا هو يحبو في الفراش عريانا، لما هو فيه، فانحدرت فقالت: "ضيفكم مجنون، رأيت منه كذا وكذا ... " فقالوا لها: "اذهبي لطيتك،
نحن أعلم به وبما يمارس.". فما زال كذلك حتى كان السحر، ثم إذا هو يكبّر, قد قالها ثمانين بيتا في نمير، فلما ختمها بقوله: فغُض الطرف إنك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا كبّر ثم قال: "أخزيته ورب الكعبة". "2" ثم أصبح، حتى إذا عرف أن الناس قد جلسوا في مجالسهم بالمربد، وكان يعرف مجلسه ومجلس الفرزدق دعا بدهن فادهن، وكف رأسه، وكان حسن الشعر ثم قال: "يا غلام أسرج لي" فأسرج له حصانا, ثم قصد مجلسهم، حتى إذا كان موقع السلام قال: "يا غلام" ولم يسلم "قل لعُبَيْد: أبعثك نسوتك تكسبهن المال بالعراق؟ أما والذي نفس جرير بيده لترجعن إلى أهلك بمير يسوءهن ولا يسرهن، أما أنا فقد بعثني أهلي لأقعد على قارعة هذا المريد، فلا يسبهم أحد إلا سببته. وإن علي نذرا: إن جعلت في عيني غمضا حتى أخزيك". ثم اندفع جرير في قصيدته: أقلي اللوم عاذل والعتابا ... وقولي إن أصبت لقد أصابا فأنشدها فنكّس الفرزدق وراعي الإبل، وأزمّ القوم، حتى إذا بلغ قوله: بها برص بجانب إسكتيها ... وضع الفرزدق يده على فيه، وغطى عنفقته لئلا يفطن جرير فيخزيه في مجلسه ذاك، ففطن لها جرير فأتم البيت هكذا وكأن الفرزدق لقنه إياه:
بها برص بجانب إسكتيها ... كعنفقة الفرزدق حين شابا1 ولعله في الأصل على غير ذلك. فانصرف الفرزدق وهو يقول: "اللهم أخزه، والله لقد علمت حين بدأ بالبيت أنه لا يقول غير هذا، ولكن طمعت بالسلامة فغطيت وجهي فما أغناني ذلك شيئا". واسترسل جرير في الإنشاد, حتى بلغ قوله مخاطبا الراعي: فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا فأسقط في يد الراعي وبني نمير عامة. وقال الفرزدق: "غضه والله فلا يجيبه, ولا يفلح بعدها أبدا"2. وسرعان ما تناقل هذا البيت أهل المربد، وانفضّ المجلس عليه. وسار الراعي فوجد البيت سبقه إلى أهله وقومه فاستحيا ورحل. وهكذا انطفأت قبيلة نمير آخر جمرات العرب في المربد، أمام هذا المحفل الحاشد، على يد جرير الشاعر. 12- رد عدوان: قدم معن بن أوس المزني "البصرة" فقعد ينشد في المربد, فوقف عليه الفرزدق وأراد العبث به فقال: "يا معن، من الذي يقول: لعمرك ما مزينة رهط معن ... بأجفان تطاق ولا سنام3؟ ".
فقال معن: "أتعرف يا فرزدق من الذي يقول: لعمرك ما تميم أهل فلج ... بأرداف الملوك ولا كرام1؟ ". فرآه الفرزدق صلبا فتنصل وقال له: "حسبك إنما جربتك" فأجابه معن بلهجة الحازم: "قد جربت وأنت أعلم" فانصرف وتركه. 13- سلاطة: كان المربد إلى ذلك يفسح مجالا لمتعصبة الشعوبية وأراذلهم، فينالون من الحسب الزاكي والأصل الكريم ويتطاولون، وكانوا يدسّون سمومهم في أفكار الموالي والعبيد. قال الأصفهاني: وقف رجل من بني زيد شريف، لا أحب أن أسميه، على بشار فقال له: "يا بشار، قد أفسدت علينا موالينا، تدعوهم إلى الانتفاء منا وترغبهم في الرجوع إلى أصولهم وترك الولاء، وأنت غير زاكي الفرع ولا معروف الأصل" فقال له بشار: "والله لأصلي أكرم من الذهب, ولفرعي أزكى من عمل الأبرار، وما في الأرض كلب يود أن ننسبك له بنسبه. ولو شئت أن أجعل جواب كلامك شعرا لفعلت، ولكن موعدك غدا بالمربد". فرجع الرجل إلى منزله وهو يتوهم أن بشارا يحضر معه المربد ليفاخره، فخرج من الغد يريد المربد فإذا رجل ينشد: شهدت على الزيدي أن نساءه ... ................... "وأفحش بشار في تتمة البيت" فارتاع الشريف وسأل عمن قال هذا
البيت فقيل له: "هذا لبشار فيك" فرجع إلى منزله من فوره ولم يدخل المربد حتى مات. فانظر في بضاعة المربد هذه، واعجب كيف ينقبض فيه الأخيار ويتسلط الأشرار! 14- معركة الرجاز: نترك حلبة الشعراء إلى حلبة أخرى أطرف وأظرف؛ لأن أصحابها ذوو أصول بدوية مقيمون في الحضر. تلك هي حلبة الرجاز: أبي النجم العجلي ورؤبة وأبيه، فننظر كيف يتنافس هؤلاء، حتى إذا سكنت الريح بينهم أتت قبائلهم فأثارتها وكدّرت ما بينهم حتى يعود الشر جَذَعَة1 كما كان بدأ، ولعل المنظر الذي سنعرضه بعد قليل أروع منظر شهده المربد. قال فتيان من عجل لأبي النجم: "هذا رؤبة بالمربد يجلس فيسمع الناس شعره، وينشد الناس ويجتمع إليه فتيان من بني تميم، فما يمنعك من ذلك؟ " فقال: "أرتحبون هذا؟ " قالوا: "نعم" قال: فأتوني بعُسّ2 من نبيذ, فأتوه به فشرب ثم نهض وقال: إذا اصطبحت أربعا عرفتني ... ثم تجشمت الذي جشمتني وأقبل إلى المجلس بالمربد, فلما رآه رؤبة أعظمه وقام له عن مكانه وقال: "هذا رجاز العرب" وسألوه أن ينشدهم, فأنشدهم أرجوزته التي أولها: الحمد لله الوهوب المجزل
وكان إذا أنشد أزبد ووحش1 بثيابه وكان من أحسن الناس إنشادا، فلما فرغ منها قال رؤبة: هذه أم الرجز. إلا أن هذا الصفاء بين الرجازيْنِ واعتراف رؤبة وإقراره بفضل أبي النجم ورضى هذا عن رؤبة لم يدم طويلا، فسرعان ما أهاج الشر بينهما غواة الرجز، فما لبثا أن فسد ما بينهما واشتدت المنافسة إلى الغاية. وأنت إذا أردت أن تستمع وتتسلى وتستفيد، فأَثِرْ خصومة أو منافسة، أو هِجْ شرا بين أديبين أو شاعرين أو عالمين، تجد متعة وطرافة تنعم بهما من حيث سقي الرجلان. هذا ما صنع قوم أبي النجم لما رأوا العجاج "أبا رؤبة وقريع أبي النجم" خرج محتفلا, عليه جبة خز وعمامة خز، على ناقة له قد أجاد رحلها حتى وقف بالمربد والناس مجتمعون, فأنشدهم قوله: "قد جبر الدينَ الإلهُ فجبر" فذكر فيها ربيعة قوم أبي النجم وهجاهم. فانطلق رجل من الناس من بكر بن وائل يشتد عدوا إلى أبي النجم في بيته، فقال له يستحثه وهو يلهث: "أنت جالس وهذا العجاج يهجونا بالمربد، قد اجتمع عليه الناس؟! " فتحرك أبو النجم وقال: "صف لي حاله وزيه الذي هو فيه" فوصف له, فقال: "ابغني جملا طحانا قد أكثر عليه من الهناء"2 فجاء إليه بجمل كله قروح وقطران، فأخذ أبو النجم سراويل له فجعل إحدى رجليه فيها واتزر بالأخرى وركب الجمل ودفع خطامه إلى من يقوده. فانطلق حتى أتى المربد وقد لحقه ما لا يحصى لما رأوا من الهيئة الغريبة، حتى دنا من العجاج في حلقته فقال لقائد جمله: اخلع خطامه، فخلعه
وأخذ أبو النجم ينشد أرجوزته: "تذكر القلب وجهلا ما ذكر" والعجاج على ناقته يسمع، ونفسه تحدثه بشر يصيبه. وجعل جمل أبي النجم يدنو من ناقة العجاج يتشممها، والعجاج يتباعد عنه لئلا يفسد ثيابه الخز ورحله الثمين الثقيل, بالقطران. وما زال الجمل يتقرب من الناقة والعجاج يتقهقر حتى وصل أبو النجم في إنشاده إلى قوله: "شيطانه أنثى وشيطاني ذكر"1 فثارت عاصفة من الضحك والاستحسان من كل صوب وضج بها المربد، وتعلق الناس هذا البيت وهرب العجاج عنه. 15- صحابي بكتاب نبوي: وهذا رجل من ضرب آخر قديم، أفلت منذ قرن، ليكون في المربد كما تكون العاديات في المعارض أو دور الآثار والمصانع: روى الأصمعى عن يزيد بن عبد الله قال: بينما نحن بهذا المربد جلوس، إذ أتى علينا أعرابي أشعث الرأس فوقف علينا فقلنا: "والله لكأن هذا الرجل ليس من أهل البلد" قال الأعرابي: "أجل والله". وإذا معه قطعة من جراب أو أديم فقال: "هذا كتاب كتبه لي محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم" فأخذناه فقرأناه, فإذا فيه: "بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من محمد رسول الله لبني زهير "حي من عكل": إنكم إن شهدتم أن لا إله إلا الله وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وفارقتم
المشركين وأعطيتم الخمس من الغنائم وسهم النبي والصفي, فأنتم آمنون بأمان الله وأمان رسوله، لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم". فقال القوم, وقد تكاثروا حوله: "حدثنا -أصلحك الله- بما سمعت من رسول الله" قال: "سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "صوم شهر الصبر، وصوم ثلاثة من كل شهر، يذهبن وَحَر الصدر" ". فقال له القوم: "أنت سمعت هذا من رسول الله؟ " فأثاره شكهم هذا وأغضبه فقال: "أراكم تخافون أن أكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا حدثتكم حديثا". ثم أهوى إلى الصحيفة وانصاع1 مدبرا. قال المحدث: فقيل لي لما تولى: هذا النمر بن تولب العكلي2 الشاعر! 16- من محن السياسة: أترك معركة الرجاز تلك، وأترك أبا النجم في زهو ظفره ونشوة
انتصاره وقد سره أن يولي العجاج مدحورا مقهورا، وأن يسري خبر ما صنع واخترع في أسواق البصرة كلها سريان الكهرباء، وأجوز مشهد النمر بن تولب الأعرابي الغريب الزي، وأقف بالقارئ على مشهد آخر يبعث العبرة، ويهيج من النفس مكامن الثورة فيها والمقت للسياسة, وما تجره من ويلات: أوقع الخليفة أبو جعفر المنصور بالخراسانية إذ قتل يعسوبها أبا مسلم، وخلص من عمه الذي ناوأه، وبقي عليه أن يستأصل شأفة العلويين الذين لهم في النفوس المكانة البعيدة والتجلَّة والاحترام، فشدد عليهم وقيدهم وحبس منهم وقتل. ونحن الذين رأينا بالمربد، صورة من كل ما يجري فيه حينئذ من دين وأدب، ومعرضا لعادات اجتماعية وأساليب تجارية، سنرى فيه أيضا صدى لما يتردد في أمصار الإسلام إذ ذاك من شدة على العلويين وتضييق وأخذ بالخناق. في مربد البصرة سليمان بن علي من رءوس بني العباس الذين أوقعوا بالعلويين، وحوله جماعة من أشراف الناس. فإنه لجالس مجلسه، وإذ بكبير العلويين إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب, شيخ عليه أمارات الحزن والمهابة والوقار معا، وإلى جنبه المفضل الضبي، ويمشي مع الشيخ صبيان من ولده قد ضمتهم إليه. لمح إبراهيم مكان سليمان بن علي فوقف على رأسه وأمامه أطفاله، وقال بصوت متهدج تخنقه العبرة وأشار إلى سليمان: "هؤلاء منا ونحن منهم، إلا أنهم فعلوا بنا وصنعوا ... "وذكر كلاما يعتد عليهم فيه بالإساءة" ... " قال هذا, فتحركت الرحمة في نفوس السامعين جميعا لما آل إليه أمر بني علي، وحدثتهم أنفسهم بشيء على بني العباس وقسوتهم،
على أبناء عمومتهم. ثم توجه الرجل لوجهه وتمثل بهذه الأبيات: مهلا بني عمنا ظلامتنا ... إن بنا سورة من القلق لمثلكم تحمل السيوف ولا ... تغمز أحسابنا من الرقيق إني لأنمى إذا انتميت إلى ... عز عزيز ومعشر صدق بيض سباط كأن أعينهم ... تكحل يوم الهياج بالعلق1 فقال له المفضل وهو يتبعه: ما أفحل هذه الأبيات, فلمن هي؟ قال: "لضرار بن الخطاب الفهري قالها يوم الخندق وتمثل بها علي بن أبي طالب يوم صفين والحسين بن علي يوم قتل، وزيد بن علي". ثم لحق القوم فلم يمض قليل حتى أتاه نعي أخيه محمد, قتله رجال أبي جعفر، فتمثل إبراهيم: نبئت أن بني ربيعة أجمعوا ... امرا خلالهم لتقتل خالدا إن يقتلوني لا تصب أرماحهم ... ثأري ويسعى القوم سعيا جاهدا أرمي الطريق وإن صددت بضيعة ... وأنازل البطل الكمي الجاحدا فسأله المفضل: لمن هذه الأبيات؟ فقال: للأحوص بن جعفر بن كلاب تمثل بها يوم شعب جبلة. ثم لم يلبثا أن أقبلت عساكر أبي جعفر واقتتلت مع أصحاب إبراهيم هذا. وقتل من الفريقين من قتل وكاد يكون الظفر لإبراهيم2.
17- حل سلمي: قتل بعض بني تميم مسعود بن عمرو العتكي فنهض أخوه زياد بن عمرو لثأره، فحشد الحشود في المربد وجعل في الميمنة بني بكر بن وائل وفي الميسرة بني عبد القيس وبقي هو في القلب. بلغ ذلك الأحنف بن قيس سيد بني تميم فقال: "هذا غلام حدث شأنه الشهرة، وليس يبالي أين قذف بنفسه" ثم ندب أصحابه, فجاءه حارثة بن بدر الغُداني وقد اجتمعت بنو تميم, فجعلوا سعدا والرباب في القلب ورئيسهم عبس بن طلق الطعان المعروف بأخي كهمس, فجعل في القلب بحذاء الأزد، وجعل حارثة بن بدر في بني حنظلة بحذاء بكر بن وائل، وجعلت عمرو بن تميم
بحذاء عبد القيس، فذلك حيث يقول حارثة بن بدر للأحنف: سيكفيك عبس أخو كهمس ... مقارعة الأزد بالمربد ... إلخ. وكان المجتمعون من تميم وباديتها وحلفائها من الأساورة والزط والسبابجة وغيرهم زهاء سبعين ألفا، وفي ذلك يقول جرير: سائل ذوي يمن ورهط محرق ... والأزد إذ ندبوا لنا مسعودا فأتاهم سبعون ألف مدجج ... متسربلين يلامقا1 وحديدا فلما توافقوا بعث إليهم الأحنف: "يا معشر الأزد وربيعة من أهل البصرة, أنتم -والله- أحب إلينا من تميم الكوفة, وأنتم جيراننا في الدار ويدنا على العدو، وأنتم بدأتمونا بالأمس ووطئتم حريمنا وحرّقتم علينا فدفعنا عن أنفسنا، ولا حاجة لنا في الشر ما أصبنا في الخير مسلكا، فتيمموا بنا طريقة قاصدة". فوجه إليه زياد بن عمرو: "تخير خلة من ثلاث: إن شئت فانزل أنت وقومك على حكمنا, وإن شئت فخل لنا عن البصرة وارحل أنت وقومك إلى حيث شئتم، وإلا فدوا قتلانا واهدروا دماءكم، وليُودَ مسعود أخي دية المشعرة" أي: عشر ديات، كما يودى أبناء الملوك في الجاهلية. فبعث إليه الأحنف: "سنختار فانصرفوا في يومكم". فهز القوم راياتهم وانصرفوا. فلما كان الغد بعث إليهم: "إنكم خيرتمونا خلالا ليس فيها خيار: إما النزول على حكمكم فكيف يكون والكلم يقطر دما؟! وإما ترك ديارنا فهو أخو القتل، قال الله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ
مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} ولكن الثالثة إنما هي حمل على المال, فنحن نبطل دماءنا وندي قتلاكم، وإنما مسعود رجل من المسلمين، وقد أذهب الله أمر الجاهلية". فاجتمع القوم على أن يقفوا أمر مسعود، ويغمد السيف، ويودى سائر القتلى من الأزد وربيعة. فتضمن ذلك الأحنف ودفع إياس بن قتادة المجاشعي رهينة حتى يؤدى هذا المال، فرضي به القوم. فخر الفرزدق بهذا, وعرّض بقوم جرير فقال: ومنا الذي أعطى يديه رهينة ... لغاريْ معد يوم ضرب الجماجم عشية سال المربدان كلاهما ... عجاجة موت بالسيوف الصوارم هنالك لو تبغي كليبا رأيتها ... أذل من القردان تحت المناسم1
18- عرض الأمم: إذا كانت المعارض اليوم تزخر بالناس من مختلف الأمم, فإن المربد اقتصر على العرب والفرس فقط. وكان مضى على هذين الجنسين أكثر من قرن وهما يتمازجان دما وطبائع وعادات، حتى تعلم كثير من الفرس النازلين في بقاع أغلب أهلها عرب، اللغة العربية وثقفوها وأحسنوا التكلم بها نظما ونثرا. ولم يخل المربد من هذه الطبقة المولدة الجديدة، فقد كانت تغشاه, وتضيف إلى ما به من ألوان لونا حديثا لا عهد للناس بمثله. وقد رُوي أن أديب العرب وفارس عبد الله بن المقفع، دعا جماعة بالمربد ناحية وطرح عليهم هذا السؤال: "أي الأمم أعقل؟ " فكانت الأجوبة مختلفة، وعرض المجيبون أحوال من يعرفون من الأمم، فلا علينا وقد شهدنا مشاهد النضال في المربد من حروب وهجاء، أن نشهد مجلسا علميا هادئا يضم نخبة من ذوي العقول الراجحة والآراء الحصيفة: قال شبيب بن شيبة أحد بلغاء العرب وجليس الملوك: كنا وقوفا بالمربد، وكان المربد مألف الأشراف، إذ أقبل ابن المقفع فتبشبشنا به وبدأناه بالسلام، فرد علينا السلام ثم قال: "لو ملتم إلى دار نيروز وظلها الظليل، وسورها المديد، ونسيمها العجيب، فعودتم أبدانكم تمهيد الأرض، وأرحتم دوابكم من جهد الثقل، فإن الذي تطلبونه لم تفلتوه، ومهما قضى الله لكم من شيء تنالوه". فقبلنا وملنا. ولما استقر بنا المكان قال لنا: "أي الأمم أعقل؟! ". فنظر بعضنا إلى بعض! فقلنا: لعله أراد أصله من فارس, فقلنا: "فارس".
فقال: "ليسوا بذلك، إنهم ملكوا كثيرا من الأرض، ووجدوا عظيما من الملك, وغلبوا على كثير من الخلق، ولبث فيهم عقد الأمر، فما استنبطوا شيئا بعقولهم ولا ابتدعوا باقي حكم في نفوسهم". قلنا: "فالروم". قال: "أصحاب صنعة ... ". قلنا: "فالصين". قال: "أصحاب طُرْفة". قلنا: "فالهند". قال: "أصحاب فلسفة". قلنا: "فالسودان". قال: "شر خلق الله". قلنا: "فالترك". قال: "كلاب مختلسة". قلنا: "فالخزر". قال: "بقر سائمة". قلنا: "فقل". قال: "العرب" فضحكنا. فقال: "أما إني ما أردت موافقتكم، ولكن إذ فاتني حظي من النسبة فلا يفوتني حظي من المعرفة. إن العرب حكمت على غير مثال مثّل لها ولا آثار أثرت، أصحاب إبل وغنم وسكان شعر وأدم. يجود أحدهم بقوته، ويتفضّل بمجهوده، ويشارك في ميسوره ومعسوره، ويصف الشيء بعقله فيكون قدوة، ويفعله فيصير حجة، ويحسّن ما شاء فيحسن، ويقبّح ما شاء فيقبح. أدبتهم أنفسهم ورفعتهم هممهم, وأعلتهم قلوبهم وألسنتهم. فلم يزل حباء الله فيهم، وحباؤهم في أنفسهم حتى رفع لهم الفخر، وبلغ بهم أشرف الذكر، وختم لهم بملكهم الدنيا على الدهر، وافتتح دينه
وخلافته بهم إلى الحشر، الخير فيهم ولهم. قال سبحانه: {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} 1. فمن وضع حقهم خسر، ومن أنكر فضلهم خُصم، ومن دفع الحق باللسان أكبت للجنان". 19- إعلان مجلجل: وإليك بعد أن استمتعت بعلم ابن المقفع وأدبه، صراعا يخيل إليك إذ تقرؤه أنه كان في الأولمبياد، لأحد أبطال يونان، أو أنه جرى على غرار ما يجري في بلاد الإسبان، على يد مصارعي الثيران، بطله فارس عربي شجاع شاعر شديد البأس والبطش، على خلاف ما تعهد في الشعراء. هو هلال بن الأسعر أحد الجبّارين العمالقة الضخام، كأنه من قوم عاد. كان هلال هذا أعظم الناس غناء في حرب، يرد مع الإبل فيأكل كل ما وجد عند أهله ثم يرجع لا يذوق فيما بين ذلك طعاما ولا شرابا. عُمِّر طويلا ومات بعد بلايا عظام مرت على رأسه. كان يوما في إبل له وذلك عند الظهيرة في يوم شديد وقع الشمس، محتدم الهاجرة، وقد عمد إلى عصاه فطرح عليها كساءه ثم أدخل رأسه تحت كسائه من الشمس، فبينما هو كذلك إذ مر به رجلان: أحدهما من بني نهشل والثاني من بني فقيم، كانا أشد تميميين في ذلك الزمان بطشا، يقال لأحدهما: الهيّاج، وقد أقبلا من البحرين ومعهما أنواط2 من تمر هجر، وكان هلال بناحية الصعاب، فلما انتهيا إلى الإبل، ولا يعرفان هلالا بوجهه
ولا يعرفان أن الإبل له، ناديا: "يا راعي, أعندك شراب تسقينا؟ " وهما يظنانه عبدا لبعضهم. فناداهما هلال ورأسه تحت كسائه: "عليكما الناقة التي صفتها كذا في موضع كذا, فأنيخاها فإن عليها وطبين من لبن، فاشربا منهما ما بدا لكما" فقال أحدهما: "ويحك، انهض يا غلام فأت بذلك اللبن" فقال لهما: "إن تك لكما حاجة فستأتياها فتجدا الوطبين فتشربا" فقال أحدهما: "إنك يابن اللخناء لغليظ الكلام، قم فاسقنا". ثم دنا من هلال وهو على تلك الحال. فقال لهما هلال: "أراكما والله ستلقيان هوانا وصغارا" فسمعا ذلك منه, فدنا أحدهما فأهوى له ضربا بالسوط على عجزه وهو مضطجع، فتناول هلال يده فاجتذبه إليه ورماه تحت فخذه ثم ضغطه ضغطة، فنادى صاحبه: ويحك أغثني قد قتلني. فدنا صاحبه منه، فتناوله هلال أيضا فاجتذبه فرمى به تحت فخذه الأخرى. ثم أخذ برقابهما فجعل يصك برءوسهما بعضا ببعض، لا يستطيعان أن يمتنعا منه. فقال أحدهما: "كن هلالا ولا نبالي ما صنعت" فقال لهما: "أنا والله هلال، ولا والله لا تفلتان مني حتى تعطياني عهدا وميثاقا لا تخيسان به. لتأتيانّ المربد إذا قدمتما البصرة ثم لتناديانّ بأعلى أصواتكما بما كان مني ومنكما". فعاهداه وأعطياه نوطا من التمر الذي معهما، وقدما البصرة فأتيا المربد, فناديا بما كان منه ومنهما, وكان إعلان طنان دوى في فضاء المربد. وهكذا جمع المربد بطولة القوة والصراع والجبروت البدني، إلى جانب بطولة الشعر والأدب والخطابة، فكان معرضا تام الأداة وافي الفروع. وتم لأسواق العرب به خاتمة المزايا والكمال، وأصبح في وسع من شاء الاستمتاع بأكثر عادات العرب وأخلاقهم ودينهم وسياستهم وحربهم وأدبهم وسباقهم وصراعهم، أن يفوز بأمنيته من أقصر طريق، إذا استذكر ما كانت عليه أسواقهم في الجاهلية والإسلام.
استدراك
استدراك 1: قرأ فريق من أهل الفضل، مقدمة الكتاب عقب طبعها، فرأوا من الحق الواجب علينا، وقد عرضنا لذكر "معرض دمشق وسوقها" وأثنينا على ما فيه من كل نفيس معجب، أن نثبت ما يلي: أساءت إدارة هذا المعرض إلى الأمة وكرامتها كل الإساءة؛ في إباحتها القمار والخمر، وفي غضّها الطرف عن مفاسد كثيرة نشأت عن اختلاط الرجال بالنساء، وفي إحيائها الليالي الساهرة تقيم فيهن الحفلات الراقصة، يتصدرها أشخاص رسميون، بينا كان العرب في فلسطين يخوضون الدماء ويسلط على رءوسهم شواظ وقذائف وحمم، وهم يكافحون ويجالدون ويصابرون عدوين ألدين؛ الإنجليز واليهود، ويتعرضون لنار جيشين قويين. فليتنا إذ لم نقم بحق نجدة إخواننا، راعينا المروءة والذوق على الأقل، فنزهنا معرضنا عن المظاهر المزرية. ولئن كان المعرض قد مثل الشام بمصنوعاته ونفائسه التي كانت بحق مفخرة من أعظم مفاخر هذه الأمة المجيدة، فإن إدارته لم تكن -فيما أباحت- تمثل البلاد بشيء، فقد شذت عن كل إدارات المعارض التي سبقتها، إذ خصصت هذه أياما للنساء وأياما للرجال، ولم تندفع في سبيل التقليد السخيف اندفاع المعرض الأخير، فكانت بذلك أصدق خبرا عن البلاد التي أقامتها. ولكل أمة تقاليد كريمة وأخلاق وشعور، لا تقوم لها قائمة ولا يحترم لها مكانة، إلا إذا تمسكت بها تمسك الغريق بحبال النجاة، وأيما امرئ خرج على شيء منها فقد خرج على أمته وبلاده. نقول هذا, ونحن لا ينقضي عجبنا من أن تصدر تلك الكبائر عن معرض دمشق، بينما
مديره الذي أطلقت يده في إدارته وموظفيه، رجل معروف بمتانة الخلق وصحة المبدأ، والصلابة في تطبيقه. ولكن يظهر أن الشأن ليس -دائما- في إحسان اختيار الرأس. إن الناس كانوا إذا قرءوا في الصحف أخبار فلسطين وما يدوي في أجوائها من رصاص وبارود ... قطع عليهم قراءتهم أصوات الأسهم النارية تطلق في جو المعرض ابتهاجا بغير شيء، فكان الألم يرتسم علائمه على وجوه أكثر الشاميين. وكان على الصحف التي تمثل الرأي العام, وعلى الطبقات المثقفة وأهل الحل والعقد أن ينكروا ما يثلم كرامة البلد ويمس مروءته، لكنه لم يرتفع في استنكار ذلك -مع الأسف- صوت، إلا صوت بعض الجمعيات الدينية، التي استحيت لدمشق بلد الفضيلة أن تؤذى في سمعتها. هذه كلمة نقولها للحق والتاريخ, وقد مضى على انفضاض المعرض ثمانية أشهر1.
مسارد الكتاب
مسارد الكتاب: 1- مسرد الآيات الكريمة 1: ص الآية 28 {نحن قسمنا بينهم معيشتهم} سورة الزخرف 43/ 32 28 {وقدر فيها أقواتها ... } " السجدة 41/ 10 28 {قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا ... } " الأعراف 7/ 188 30، 40 {وإذا رأوا تجارة أو لهوا ... } " الجمعة 62/ 11 30 {إنما المشركون نجس ... } " التوبة 9/ 29 33 {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله ... } " الفتح 48/ 10 34 { ... إذا جاءك المؤمنات يبايعنك ... } " الممتحنة 60/ 12 39 { ... يرجون تجارة لن تبور ... } " فاطر 35/ 29 39 {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى ... } " البقرة 2/ 16 39 {" " " الحياة الدنيا بالآخرة ... } " البقرة 2/ 86 39 {بئسما اشتروا به أنفسهم ... } " " 2/ 90 39 {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله ... } " " 2/ 217 39 {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم ... } " التوبة 9/ 122 40 {رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع ... } " النور 24/ 37 40 { ... هل أدلكم على تجارة تنجيكم ... } " الصف 61/ 10 42 { ... إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ... } " البقرة 2/ 282 43 {غلبت الروم في أدنى الأرض ... } " الروم 30/ 2 59 { ... ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء ... } " النور 24/ 32 61، 63، 67 { ... اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا ... } " البقرة 2/ 278 64 {فبظلم من الذين هادوا ... } " النساء 4/ 158 65 {الذين يأكلون الربا ... } " البقرة 2/ 275
ص الآية 67 { ... لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة ... } سورة آل عمران 3/ 130 72 {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه ... } " البقرة 2/ 217 78 {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ... } " " 2/ 199 78 { ... وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ... } " " 2/ 189 140 { ... ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله ... } " الأنفال 8/ 36 143 {ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا ... } " النور 24/ 28 147 {لإيلاف قريش إيلافهم ... } " قريش 106/ 1 149 { ... أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع ... } " إبراهيم 14/ 37 151 { ... تخافون أن يتخطفكم الناس ... } " الأنفال 8/ 26 151 {وإذ جعلنا البيت مثابة للناس} " البقرة 2/ 125 151 { ... ومن دخله كان آمنا ... } " آل عمران 3/ 97 151، 202 { ... جعلنا حرما آمنا ويتخطف ... } " العنكبوت 29/ 67 201 { ... ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق} " الفرقان 25/ 7 201 {ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ... } " " 35/ 20 202 { ... أولم نمكن لهم حرما آمنا ... } " القصص 28/ 57 204 {ليس عليكم جناح أن تبتغوا ... } " البقرة 2/ 198 254 { ... وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ... } " الحج 22/ 27 275 { ... وإن منكم إلا واردها ... } " مريم 19/ 71 355 { ... لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون} " يوسف 12/ 87 415 {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب} " آل عمران 3/ 23 420 { ... وجفان كالجواب وقدور راسيات} " سبأ 34/ 13 421 { ... غرف من فوقها غرف ... } " الزمر 39/ 20 421 { ... وهم في الغرفات آمنون} " سبأ 39/ 37 421 { ... ونخل طلعها هضيم ... } " الشعراء 26/ 148 447 {ولو أنا كتبنا عليهم ... } " النساء 4/ 65 451 {إن الأرض لله يورثها من يشاء} " الأعراف 7/ 127
مسرد الأحاديث النبوية
2- مسرد الأحاديث النبوية 1: ص الحديث 29 "يا معشر التجار, إن هذا البيع يحضره الحلف ... ". 49، 52، 58 نهى رسول الله عن بيوع كانت في الجاهلية ... 53 "لا تصروا الإبل والغنم ... ". 57 "لا تلقوا الركبان, ولا يبع بعضكم ... ". 57 "من اشترى طعاما, فلا يبعه حتى ... ". 57 "البيعان بالخيار ... ". 61 مصالحة رسول الله قبيلة ثقيف على إبطال الربا. 62 "ومن أكل منهم ربا ... ". 67 "إن رضوا, وإلا فآذنهم بحرب ... ". 69 "ألا وإن كل ربا الجاهلية موضوع كله ... ". 71 "ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام ... ". 77 "إني رجل أحمسي ... ". 80 "لا ضرورة في الإسلام ... ". 141 "أولم ولو بشاة ... ". 164 "كنت أنبل على أعمامي يوم الفجار ... ". 184 "لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان ... ".
ص الحديث 204 "لك حج ... ". 233 "خذه يابن عوف ... فتزوج بنت ملكهم". 234 كتاب النبي لأكيدر وأهل دومة الجندل. 253 "إني لأعلم أرضا من أرض العرب ... ". 258 "ما رأيت من صاحبة أجير خيرا من خديجة ... ". 314 "كأني أنظر إليه "إلى قس بن ساعدة" بسوق عكاظ". 326 "يا أيها الناس, قولوا: "لا إله إلا الله" تفلحوا". 326 "لا أكره منكم أحدا على شيء ... ". 328 "إني رسول الله, فإن أتيتكم تمنعوني ... هم أول من كذبني وطردني". 329 "اللهم بارك على هؤلاء ... ". 333 "يا من حضر, اشهدوا أن زيدا ابني ... ". 442 كتاب النبي -صلى الله عليه وسلم- لبني زهير "حي من عكل". 443 "صوم شهر الصبر, وصوم ثلاثة من كل شهر يذهبن وحر الصدر".
مسرد الأعلام
3- مسرد الأعلام 1: آدم "عليه السلام" 150 إبراهيم " 75، 76، 149 " بن طلحة 122 " " عبد الله بن حسن 444-446 " " عدي 361 " الموصلي 381 أبرهة 107-109، 160 إبليس 427، 428 ابن إبليس 428 أبين 268 أبيّ "القارئ الصحابي" 152، 204 " بن خلف الجمحي 185، 186، 348، 349 ابن الأثير "صاحب النهاية" 52، 54 أحمد = رسول الله " أمين 343 " بن موسى 272 الأحنف بن قيس 396، 397، 446-448 الأحوص بن جعفر بن كلاب 445 أحيحة بن الجلاح 62، 105 الأخطل 386 الأخفش 407 الأزرقي "صاحب أخبار مكة" 79، 124، 204، 259، 291، 344، 346 الأزهري 271 أبو الأزيهر الدوسي 349 إساف "صنم" 85 " بن يعلى 85 ابن إسحاق "صاحب السيرة" 164 أسد بن جابر 259 " " هاشم بن عبد مناف 150 إسرائيل ولفنسون 18 إسرائين = إسرائيل 387
إسطرابون 17 أسعد أبو كرب 41 الإسكندر 16, 359 الإسكندري "الشيخ أحمد" 342 أسلم "مولى عمر بن الخطاب" 352 أسماء المرية 395 إسماعيل "عليه السلام" 74، 239 " بن علي بن العباس 122 الأشتر 32 الأشعث بن قيس 199، 275 الأصبغ بن عمرو الكلبي 234 الإصطخري "صاحب مسالك الممالك" 252، 261، 266، 398 الأصفهاني = أبو الفرج الأصفهاني الأصمعي 26، 248، 321، 411 ابن الأعرابي 52 الأعشى 26، 198، 241، 315-319، 374، 379 أعشى همدان 389 الأعظمي "صاحب تاريخ ملوك الحيرة" 44، 380 الأقرع بن حابس 205، 280، 291 الأقيشر "الشاعر" 386، 387 أكيدر بن عبد الملك "صاحب دومة" 114، 195، 217، 220-222، 232-238، 270 الألوسي "صاحب بلوغ الأرب" 21، 46، 50، 224، 227، 237، 256، 285، 342، 343 أبو أمامة التميمي 204 امرؤ القيس 241، 293، 325، 372 أمية بن أسكر الكناني 175، 293، 294 " الأصغر "ابن عبد شمس" 331 " بن خلف 132، 339، 340 " " عبد شمس 102، 284 أبو أمية بن المغيرة 125 ابن الأنباري 197 أنيس "سائس فيل أبرهة" 108 أوس بن مغراء 433، 434 إياس بن قبيصة الطائي 383، 384 أيوب "عليه السلام" 362 باذان 242، 243 بثينة 246 بجرة بن قيس القشيري 328، 329
بحيرى الراهب 367 البخاري "صاحب الصحيح" 53, 131، 200، 201، 204 بختنصر 41، 376، 377 بدر بن معشر الغفاري 300، 311 أبو براء "عامر بن مالك" 69، 170 البراض بن قيس الضمري 166-170, 189 برة بنت مر 94 بسر بن أرطاة 432، 433 بسطام بن قيس 337 بشار بن برد 422، 439، 440 بشر "أخو أكيدر" 114 أبو بصير = الأعشى ابن بطوطة 401 البغدادي "صاحب خزانة الأدب" 210، 223، 227 بكر "ابن أبي الورد" 363 بكر بن خارجة 381 أبو بكر "صاحب المتناهي في اللغة" 387 أبو بكر الصديق 26، 31، 72، 110، 116، 131، 132، 141، 143، 236، 262، 264، 268، 395 أبو بكر بن عبد الرحمن بن حارث بن هشام 177 أبو بكر بن العربي 142 " " " نصر 174 " " الهمداني = الهمداني البكري "صاحب معجم ما استعجم" 287 البلاذري "صاحب فتوح البلدان" 61، 62 بلال بن أبي بردة 398 بلال "الحبشي الصحابي" 344 بلقيس "ملكة سبأ" 18 ابن بليهد 288 بندلي جوزي 38 بورتر 465 بويج 54 ابن بيدرة = عبد الله بن بيدرة ابن بيض 101 تبّع 377 تماضر بنت الأصبغ 234 أبو تمام 120 تميم بن مر 78 التوحيدي 210، 220، 225، 226
الثعالبي "صاحب ثمار القلوب" 26، 146، 148، 267، 323 جابر "الصحابي" 57 الجاحظ 83، 95، 144، 163، 183، 184، 186، 280، 315، 402-406، 420، 423 جارية بن سليط 323 جبلة بن حارثة 332 ابن جدعان = عبد الله بن جدعان جذل الطعان 157 جرير بن الخطفي 94، 359-361، 411، 412، 419، 421، 422، 426-432، 435-438، 447, 448 جرير بن عبد الله البجلي 344 جعفر بن سليمان الهاشمي 401، 409 أبو جعفر المنصور 444، 445 الجلندى بن المستكبر 217، 218، 221، 263، 265، 270 الجمل "جمل عائشة" 413، 417، 424 جميل بن معمر "الشاعر" 246، 319 جندل "ابن راعي الإبل" 436-438 أبو جندل = راعي الإبل ابن جني 344 أبو جهضم = عباد بن حصين الحبطي ابن الجوزي 281 أبو حاتم 248 حاتم بن عبد الله الطائي 383-385 حاجب بن زرارة 205 الحارث بن أمية 79 " " حلزة 95، 348 " " حنش السلمي 150 " " ظالم 304 " " عامر 110 " " عبد الله المخزومي "القباع" 426، 427 " " عمير 368 " " قيس 111 " " كلدة الثقفي 178 " المري 307 حارثة بن بدر 446، 447 " " شراحيل 332، 333 حاطب بن أبي بلتعة 36
ابن حبيب = محمد بن حبيب الحجاج بن يوسف الثقفي 359، 397، 400، 410، 418 ابن حجر "المحدث" 68 ابن أبي الحديد 33، 103، 104، 153 حذافة بن غانم العدوي 94 حذيفة بن بدر الفزاري 349 حرام بن جابر 259 حرب بن أمية 167، 169، 170, 172، 175، 178، 281، 284، 312 ابن حرب = أبو سفيان بن حرب أبو حرب بن أمية 284 ابن حزم "الأندلسي" 400 حسان بن ثابت 177، 315، 316، 339، 340، 350، 374 حسان بن جبلة الخير 384 أبو الحسن البكري 275 حسن حبشي = محمد حسن حبشي " حسني عبد الوهاب 401 الحسن بن عادية 253 الحسين بن علي بن أبي طالب 187، 188، 445 الحصين بن الحمام المري 307، 371 ابن الحضرمي = العلاء بن الحضرمي الحكم بن أبي العاص 374، 383 حكيم بن جبلة 416 " " حزام 145، 146، 279، 331 ابن حلزة = الحارث بن حلزة حمام "مولى باهلة" 428 حمد الجاسر 287 حنين الحيري 389 حوثرة = ربيعة بن عمرو ابن حوقل 131 أبو حية النميري 381 الخازن "المفسر" 28، 66، 204 خالد 445 " بن أرطاة الكلبي 28، 66 " " جعفر بن كلاب 301، 303، 304 " " صفوان 405، 406 " " الوليد 63، 66، 67, 110، 234-236 خداش بن زهير 171، 172، 174، 180، 349 خديجة بنت خويلد 132، 133، 258، 331
خرقاء "صاحبة ذي الرمة" 434، 435 ابن الخس التغلبي 304 ابنة الخس 339 خلف الأحمر 248 الخليل بن أحمد 404، 406 خناس 448 الخنساء 293، 295، 297-299، 315، 316، 319 خولة بنت ثعلبة 284 خيبري بن عبادة 244 خير الدين الزركلي 286 ابن دارة 323 داود "النبي" 371 " بن عيسى 259 دحية بن خليفة الكلبي 29 دختنوس 44 ابن دريد 54، 407 دريد بن الصمة 245، 311 دوسو 362 ابن الديان 293 أبو ذؤيب الهذلي 241، 339، 345، 347، 370 ذكوان "مولى عبد الدار" 96 الذهبي "المؤرخ" 141 ذو الرمة 359، 419، 434، 435 ذو يزن 279 راعي الإبل 419، 421، 435-438 رؤبة بن العجاج 411، 419، 440-442 أبو رافع الخيبري 23، 357 رباح بن عمرو بن ربيعة 306 ربيب "اسم جمل" 250 الربيع بن زياد 400 أبو ربيعة 306 ربيعة بن حذار 205، 296 ربيعة بن عمرو "حوثرة" 331 " " مخاشن 205 أبو ربيعة بن المغيرة 124، 176، 177، 283 ابن رسته 286، 287 رسول الله صلى الله عليه وسلم 26، 29، 30، 32، 33, 49، 51-53, 57-72، 77-80، 98، 107, 110، 113، 115، 123، 128، 129، 131، 133-137، 139-
143، 145، 159، 164، 165، 173، 177، 181، 184-187، 194، 198، 201-204، 233-235، 251، 253، 258، 262، 275، 279، 314، 315، 325-333، 342، 348، 349، 352-357، 359، 367، 368, 378، 413، 432، 442، 443، 448 رشدي = محمد رشدي الرشيد 256، 321، 382 رفاعة "صحابي" 77 رملة بنت طلحة 122 رياح بن الأسل الغنوي 302 ريطة 176 رينولد نيكلسون 107 ابن الزبعرى = عبد الله بن الزبعرى أبو زبيد الطائي 206 الزبيدي "جاهلي" 184، 185 الزبيدي "شارح القاموس" 93، 347 الزبير بن عبد المطلب 83 الزبير بن العوام 142، 173، 184، 413، 414 ابن الزبير = عبد الله بن الزبير زرعة بن عمرو بن خويلد 296 زرقاء اليمامة 358 الزرقاني "شارح المواهب" 22، 23، 86، 133، 139، 235، 349 زكي حسن 380 الزمخشري 29، 92، 152 زمعة بن الأسود 125 زهير بن جذيمة العبسي 301-304 " " ربيعة "أبو خراش" 179 " " أبي سلمى 283 زياد "ابن أبيه" 116، 397، 400، 425-427 ابن زياد = عبيد الله بن زياد زياد بن عمرو العتكي 446-448 زيد بن حارثة 331-333 أم زيد بن حارثة 331 زيد بن صوحان 142 زيد بن علي 445 زيدان "جرجي" 167 الساسي "طابع الأغاني" 206 أم سالم = خرقاء
سالم الكرنكوي 3، 54، 211، 273 سبرنجر 139 ستافسكي 117 سجاح "المتنبئة" 358 سدوم 323 ابن سعد "وانظر: طبقات ابن سعد" 22، 26، 101، 102، 104، 134، 140، 141، 148، 154، 158، 164، 184، 210، 280، 369 سعد بن حارثة بن لام 383، 385 " " الربيع الأنصاري 140 " " زيد مناة 391، 334، 335 " " عبادة 79 " " أبي وقاص 126، 127، 142 أبو سعيد الخدري 201 سعيد بن سعد بن سهم 176 أبو سفانة = حاتم بن عبد الله سفيان بن أمية 284 أبو سفيان بن أمية 175، 178، 284 " " " حرب 110، 116, 119، 128، 132، 135، 139، 170، 175، 198، 213، 350، 400 سفيان بن مجاشع 291 ابن سلام 125، 173، 443 سلامة ذو فائش 26 سلكان بن سلامة 63، 64 سلمى بنت عمرو بن زيد 105 " بن نوفل 205 سليمان "ابن داود النبي" 18، 240 " بن علي 444 سليمى 252 سمير بن سلمة القشيري 306، 307 سنان المري 307 السندوبي 83، 150، 163، 183، 186، 280، 350، 420 السهيلي 93 سواد بن قارب 379 سويد بن عدي 199 " " قيس "صحابي" 251 ابن سيده 193 سيف الدولة 127 " بن ذي يزن 108
السيوطي 28، 114، 200 شأس بن زهير العبسي 302 شبيب بن البرصاء 335 " " شيبة 215، 449 الشماخ 324 الشنفرى 259 شيبة بن ربيعة 200، 297-299 " " هاشم = عبد المطلب شيخ مهو 36، 322، 323 الشيظم بن الحارث الغساني 379 صاحب الرسالة = رسول الله ابن صخر 178 صاعد "صاحب طبقات الأمم" 16، 115 صخر بن عمرو بن الشريد 295, 297-299، 315، 319 الصديق = أبو بكر الصديق صعصعة بن سعد 335 " " صوحان 40 صفوان بن أمية 111، 137، 199، 205 صلصل بن أوس 81 الصمة بن عبد الله القشيري 369 الصهباء بنت حرب 114 ضباعة بنت عامر بن قرط 229 الضحاك بن قيس الفهري 96 ضرار بن الخطاب الفهري 445 ضمرة بن ضمرة 205 ضمضم بن عمرو الغفاري 135 أبو طالب بن عبد المطلب 131-133, 205 الطبراني "صاحب المعجم في الحديث" 204 الطبري "المؤرخ المفسر" 65، 66، 126، 127، 143، 210، 215، 331، 333، 363، 375، 376، 379، 412، 414، 419 طخيم الأسدي 386 طريف بن تميم العنبري 54، 305، 306 طلحة "الصحابي الجليل" 26، 132، 367، 413، 414 ابن طلحة "محمد" 413 طلحة بن عمر بن عبد الله 122 ظافر القاسمي 147
عائشة "أم المؤمنين" 58، 177، 413-417، 421 عاتكة بنت عبد المطلب 180 العاص بن وائل السهمي 183، 205، 278 عاصم بن عمر 352 عامر بن جوين 325، 383، 385 " " الطفيل 293، 294، 334، 337 " " الظرب 199، 200، 205، 291 " " مالك = أبو براء عباد بن حصين الحبطي 430 أبو العباس = المبرد ابن عباس 57، 92، 94، 107، 149، 154, 160، 204 العباس بن عبد المطلب 62، 63، 66، 67، 69، 107، 109، 110، 112، 129، 131، 140 العباس بن محمد 256 " " معبد المري 386 عبد أمية 331 عبد الدار 99 ابن عبد ربه 110، 111، 210، 278، 400 عبد الرحمن بن الأشعث 418 " " العامري 428 " " بن عباس 107 " " " عثمان التميمي 187 " " " عوف 132، 140-142، 200، 233، 234 " " بن ملجم 292 عبد شمس 100، 153، 156، 157, 161، 343 عبد العزيز الكلابي 359 عبد القاهر "الكريزي" 400 عبد الله بن أبي بن سلول 59 " " " بيدرة 322 " " " جحش 71، 72، 135 " " " جدعان 25، 130، 131، 138، 162، 169، 170، 172، 183، 200، 278، 290 عبد الله بن جعدة 306، 307 " " " الزبعرى 101، 176، 177، 179 " " " عباس = ابن عباس " " " عمر 57، 188، 204، 253، 352 " " " المقفع = ابن المقفع
عبد الله بن قيس = أبو موسى الأشعري عبد المدان بن الديان 130 عبد المطلب بن هاشم 105-109، 200، 205 عبد الملك بن مروان 93، 182، 189، 190، 246، 247، 387، 405 عبد مناف بن قصي 99، 156 أبو عبد مناف = الفاكه بن المغيرة العبدي 252 عيسى بن طلق "أخو كهمس" 446، 447 عبلة بنت عبيد 330 عبيد "أبو أبي وجزة" 351، 352 أبو عبيد 246 عبيد بن حصين = راعي الإبل عبيد بن شربة 41 عبيد الله بن زياد 397، 410 عبيد الله بن عباس 107 عبيد المنان "ابن المتلمس" 369 أبو عبيدة بن الجراح 369، 373 عتاب بن أسيد 61، 67 ابن عتبة = الوليد بن عتبة أبو عتبة = أبو لهب عتبة بن ربيعة 280، 297-299 " " غزوان 398 العتبي 144 عتيبة بن الحارث 336 عثمان بن حنيف 414-416 " " طلحة 110 " " عبد الله 72، 73 " " عفان 31، 63، 66، 67، 116، 132، 141، 200، 413-416، 421 عثمان بن مظعون 200 العجاج 411، 419، 433، 434، 440-442، 444 عدن بن نفثان بن سبأ 252 عدي "جد قيس بن الخطيم" 349 عدي بن زيد 389 عروة بن حزام 358 عروة الرحال 166-170 " بن مسعود الثقفي 159 " " الورد 36
ابن عساكر 26، 146، 279، 352، 353، 361، 367 عطية "أبو جرير الشاعر" 430 عفيف بن معديكرب 199، 200 عقبة بن أبي معيط 132 عقيل بن أبي طالب 114 عكرمة 161 العلاء بن حارثة 205 " " الحضرمي 135، 136 علقمة الفحل 116 علي بن أبي طالب 31، 32، 292, 414-421، 432، 445 علي بن شفيع 359 أبو علي القالي = القالي عمارة بن الوليد 134 عمان بن نفثان بن سبأ 252 ابن عمر = عبد الله بن عمر عمر بن الخطاب 31، 62، 107، 111، 114، 116، 131، 146، 152، 200، 201، 245، 280، 284، 351، 352، 373، 395-400، 402، 407، 448 عمر بن أبي ربيعة 177 " " شبة 400 " " لجأ 431، 432 عمران "ابن أبي الورد" 363 " بن حطان 359 عمرو = هاشم " بن أحيحة 105 " " أمية بن عبد شمس 284 أبو عمرو بن أمية بن عبد شمس = 284 عمرو بن الأهتم 378 " " تميم 446 " " الثقفي 61 " " الحضرمي 71-73 " " الشريد 297-299, 319-321 " " العاص 92، 116، 127، 134، 236، 278 أم عمرو بن العاص 278 عمرو بن عتبة 144 أبو عمرو بن العلاء 248، 249، 255، 411، 420، 422، 423 عمرو بن كلثوم 282، 340، 343 " " لحي 115 " " مالك 249، 250 " " معديكرب 308، 376
العناني "الشيخ مصطفى" 342 عنترة 197 العوام بن خويلد 173، 174 ابن عوف "المري" 307 عوف الأصم 324 عويف "الفزاري" 446 عيسى البابي الحلبي 114 " بن عمر الثقفي 248، 249 غالب "أبو الفرزدق" 424، 425 غنيم بن أبي الرقراق 431 غيلان = ذو الرمة أبو غيلان "ابن سلمة" 120 غيلان بن سلمة 120، 121، 128، 205 ابن فارس "صاحب المجمل" 54 الفاضل اليمني "صاحب حواشي الكشاف" 268 فاطمة بنت عمرو 108 " " القاسم 122 الفاكه بن المغيرة 176 أبو الفرج الأصفهاني 134، 164، 177، 206، 210، 282، 349، 374، 379، 439 الفرزدق 360، 361، 386، 401، 411، 418، 419، 421، 422، 424-432، 435-439، 418 فريتز كرنكو = سالم الكرنكوي الفزر 334، 335 الفضل بن عباس 107 فلبي "المستر" 287 فهر بن مالك 93، 94 الفيروزآبادي 205 فيصل بن عبد العزيز 288 فيليبس "الإمبراطور الروماني" 364، 365 القالي 34، 35، 40، 85، 107، 154، 155، 157، 196، 199، 248، 255، 387، 411، 422 القباع = الحارث بن عبد الله قتول الجمحية 186 ابن قتيبة 132، 172، 338 قثم بن العباس 107 قرة بن هبيرة القشيري 282 قريش بن يخلد 92
القزويني 275 قس بن ساعدة الإيادي 280, 313-315، 339 قصي بن كلاب 91-94، 97-99, 124 قطبة بن عامر 77 القعقاع بن عمرو 368 القلقشندي 210، 222، 227 القلمس 339 قنافة الكلبي 217، 221، 238 قيس بن الحدادية 283 " " الخطيم 349 " " زهير بن جذيمة 304 " " عاصم 199، 307-309، 387 " " عبد يغوث المرادي 308 " " أبي غرزة 29 " "المذحجي" 308 قيصر 87، 114، 146، 148، 154، 155، 157-159, 325 ابن قيم الجوزية 123، 284 الكاهن الخزاعي 102 كاهنة اليمن 95 كرنكو = سالم الكرنكوي كريز بن ربيعة 172 كسرى 87، 114، 120، 121، 127، 128، 130، 156، 159، 195، 242-244، 251، 281 كعب بن الأشرف 63 " " جعيل "كعب بني جعيل" 386، 433، 434 " " شراحيل 333 " " معدان 429 أم كلاب "امرأة أمية بن الأسكر" 293 كلاب بن ربيعة 162، 290 ابن الكلبي 85، 93، 216، 242 كليب 249 الكميت 97، 153، 426 كنانة بن الربيع 357 ابن كرز 296 اللات 349 لافونتين 43 لامنس 110
لبطة بن الفرزدق 385 لبيد 236 ابن لجأ = عمر بن لجأ أبو لهب 326، 327 الليثي "الشاعر" 347 ابن ليلى = غالب أبو الفرزدق المازني 367 مالك 180 " بن جبار 384 أبو مالك 401 مبارك = زكي مبارك المبرد 337، 400، 418، 448 المتلمس 369، 377 المتنبي 10، 127 المثنى بن حارثة الشيباني 375 مجاشع 430 محجن الجشمي 330 محرق 316، 371 المحلق الكلابي 316-319 محمد -صلى الله عليه وسلم- رسول الله محمد بن جبير بن مطعم 190 " " حبيب 47، 48، 50، 53، 55، 75، 77، 121، 148، 150، 152، 157، 158، 210، 211، 217، 225، 226، 267، 270 محمد حسن حبشي 19، 107 " حسين هيكل 286، 287 " رشدي 129، 290 " بن السائب الكلبي 41 " " سفيان بن مجاشع 291 " صالح نصيف 287 " طلعت حرب 334 " بن عبد الله بن حسن 445 " " الغمر 240 " " مناذر 420 أبو محمد الهمداني 41 ابن محمية الديلي 179 المخبل 240، 282، 291 المختار بن عوف 343 مخرمة العبدي 251 " بن نوفل 114 مرة بن عوف بن ذبيان 307 " " معتب الثقفي 173 المرزباني 338
المرزوقي 47، 48، 53، 73، 82، 121، 210، 211، 221، 225، 227، 238، 239، 241، 254، 262، 264، 269، 276، 281، 289، 291، 324, 341، 343، 346، 357، 370، 373 مروان بن الحكم 142، 413 " " محمد "الجعدي" 363 مسافر بن أبي عمرو بن أمية 125 المستوغر بن ربيعة 337 مسعود بن معتب الثقفي 172 " " عمرو العتكي 446-448 المسعودي 86، 95، 96، 115, 148 مسلم "صاحب الصحيح" 46-53 أبو مسلم الخراساني 444 أبو مسمع = المحلق المسور بن مخرمة بن نوفل 187 مسيكة 59 مسيلمة "الكذاب" 358 المشمرخ بن عمرو الحميري 92 أبو المضاء المكاري 386 المطرزي 54 مطرود الخزاعي 106، 152 المطلب بن عبد مناف 100، 106، 153، 156، 157، 161 معاذ بن جبل 194 معاذة 59 معاوية "الخليفة" 40، 107، 142، 175، 178، 187-189، 397، 432 معاوية بن عمرو بن الشريد 295، 297-299، 316 المعتصم 404 معديكرب "ملك اليمن" 109 معقل 399 معمر بن الحارث 319-321 معن بن أوس المزني 438، 439 المغيرة بن شعبة 116-119 " " عبد الله الثقفي 61 " " نوفل بن عبد مناف 176 المفضل الضبي 293، 444-446 ابن مقبل 174
" المقفع 449-451 المقنع الكندي 206 المقوقس 25، 146 المكشوح = قيس بن عبد يغوث ملحان 383 ملكة سبأ = بلقيس المنتجع التميمي 248، 249 ابن مناذر = محمد بن مناذر المنذر بن ساوى 195، 217، 218، 220-222، 244، 251 منظور بن سيار 325 المهاجر 360 المهدي "الخليفة" 401 أبو المهدي "الأعرابي" 248، 249 المهلهل 249، 250 أبو موسى الأشعري 200، 201، 373 مولر 19، 287 الميداني "صاحب مجمع الأمثال" 36، 293 نائلة "صنم" 85 " بنت زيد 85 أبو نائلة = سلكان النابغة الجعدي 433، 434 " الذبياني 292، 296، 315، 316، 374 " بنت عبد الله 278 النبي = رسول الله نبيه بن الحجاج 186 النجاشي 26، 146، 154، 158، 159 أبو النجم العجلي 411، 419، 440-443 نصوحي البخاري 5 النضر بن الحارث 377 " " كنانة 92-95 النظام 420، 423 النعمان بن المنذر 165، 166, 215، 242، 279، 302، 357، 378، 382-385 نعيم "ابن أبي الورد" 363
نعيم بن ثعلبة 85 النمر بن تولب العكلي 443، 444 أبو نهشل 177 نهيك بن مالك 336 أبو نواس 422 نوفل بن عبد شمس 331 " " " مناف 100، 106, 153، 156، 157، 161 النووي 51 النيسابوري "المفسر" 86 نيكلسون = رينولد نيكلسون هاشم = هاشم بن عبد مناف هاشم بن حرملة 295 " " عبد مناف 22، 87، 100-107، 148-151, 153-161 هاشم المري 307 هبيرة بن سعد 335 هرقل 128، 129، 234 ابن هشام "صاحب السيرة" 63، 71، 72، 78، 85، 93-95، 98، 99، 106، 152، 164، 165، 183، 187، 201، 210، 233 هشام بن عبد الملك 94، 97، 153 " " المغيرة 170-172، 176، 177 " " الوليد 350 هلال بن الأسعر 451، 452 الهمداني 27، 163، 194، 211، 219، 225، 226، 252، 254، 266، 271-273، 290 الهمذاني 28، 402، 403 هند بنت عتبة 297-299 هود "عليه السلام" 267 هوذة بن علي الحنفي 242-244 الهياج 451 الهيثم بن عدي 41 واقد بن عبد الله التميمي 72، 73 الواقدي 235 وجدي "فريد" 342
أبو وجزة "ابن عبيد" 351 أبو الورد 363 ورقة بن نوفل 200 وضاح اليمن 206 الوليد بن عبد الملك 361 " " عتبة بن ربيعة 297-299 " " " " أبي سفيان 187، 188 " " المغيرة 170-172، 200، 250 وهب بن عبد قصي 101 وهم بن عمرو 384 ياقوت "صاحب معجم البلدان" 106، 171، 174، 194، 211، 245، 246، 253، 260-262، 264، 268، 271، 272، 275، 287، 289، 345، 347، 362، 377، 407، 409 يحيى اليزيدي 248، 249 يزيد بن زمعة 110 " " الصعق 271 " " عبد الله 394 " " عبد المدان 293، 294، 308-310 " " عمرو الغساني 304 " " كعب بن شراحيل 332 اليزيدي = يحيى اليزيدي اليعقوبي "المؤرخ" 210، 218، 226، 274 يعمر الشداخ 205 يوسف بن عمر 386
مسرد الجماعات
4- مسرد الجماعات 1: الآراميون 37 بنو آكل المرار 276 الإباضية 256 بنو إبراهيم 75 الأبناء "فرس اليمن" 217، 218، 221، 270، 274 أبناء الملوك في الجاهلية 447 الأتراك 202 الأحابيش 140، 172، 291 أحبار يهود 128 الأحباش 21, 25، 140، 194 الأحرار 254 الأحلاف "عبد الدار, وحلفاؤها" 99 الأحلاف "في الحيرة" 377 الأخباريون 412 الأدباء 423 بنو الأدرم بن غالب 96 آل أذينة 41 الأزد 41، 240، 253، 254، 258، 259، 306، 350، 446-448 الأساورة 242-244, 447 الإسبان 451 أسد 74, 81, 110, 153, 205, 239, 296, 434 بنو أسد بن عبد العزى 183 " إسرائيل = اليهود " إسماعيل 103, 239 أسيد 306 أشراف العرب 165, 279, 408, 410, 411, 449 " مكة 87, 182, 183 أصحاب الحديث 232
أصحاب عائشة 416، 417 " الفيل 152، 160 " اللغة 232 بنو أصخب 361 الأعاجم 41، 100، 155، 158, 255 الأعراب 182، 209، 380, 421-423 أعمام الرسول 164، 342 الإفرنج 25، 203 الأفغان 202 أقيال حمير 114 " اليمن 272 أمراء العرب 87، 422 بنو أمية بن عبد شمس = الأمويون الأمويون 102، 110، 116، 177، 189، 350، 370، 388، 397، 408، 413، 419، 421، 424 الأنصار 126، 145، 201، 354، 413 الأنباط 21-23، 105، 364، 466، 377، 378، 395 الإنجليز 16، 401، 453 أهل البحرين 21 " البصرة 396، 397، 402، 403، 420، 423 " تهامة 166 " الجاهلية 52، 55-58، 65 " الحجاز 20، 24، 203، 266 " الحرم 76، 151، 160، 207، 367 " الحل والعقد 117 " الحيرة 115، 232، 375، 377، 378 " دومة الجندل 234، 235 " الشام 156، 364، 368، 453 " الطائف 286، 374، 425
أهل العراق 238 " عمان 21 " الكتاب 41، 43 " الله = قريش " مكة 25، 43، 130، 160، 420 " نجد 21، 166، 179 " هجر 21 " يثرب 24، 64، 79 " اليمن = اليمنيون الأوس 24, 349 الأولياء 275 إياد 36، 41، 186، 314، 322 الإيرانيون 380 باهلة 361، 427، 428 بخاريون 202 البصريون = أهل البصرة بنو بكر 167، 275 بكر بن عبد مناة 81 بكر بن وائل 249، 441، 446 بنات المحلق 317-319 التابعون 333 التجار 43، 207 تجار البحر 269 " البر 269 " العرب 16، 32، 56، 116، 127، 155، 159، 267 " المدينة 233، 234 التدمريون 17 الترك 450 تغلب 249، 385، 386 تميم 74، 94، 205، 217، 239، 242-244، 251، 291، 292، 308-310، 323، 336، 377، 385، 329، 432، 439، 440، 446، 448 تنوخ 41، 377 تيم "ابن مرة" 96، 110، 111 تيم عدي 431، 432
بنو ثعل 384 " ثعلبة بن بكر بن وائل 359 " " " يربوع 336 ثقيف 61، 66, 174, 175, 288, 289, 432 بنو جدعان 130 جُديد 253 جديس 41 جديلة 75 " طيء 236 بنو جذيمة 296 الجرامقة 41 جرهم 41, 85, 97, 184, 427 جشم 309, 330 بنو جعدة 432-434 بنو جعيل 386 جمح 96, 110, 111, 177, 186 جمرات العرب 412, 438 الجمعيات الدينية 454 جمعية الأمم 282 الجن 428 جيش أبرهة = أصحاب الفيل جيش العسرة 140 الحاج المشرقي 203 " المغربي 203 بنو الحارث "في عمان" 253 " " بن فهر 96 " " " كعب 310, 353 الحبشة "وانظر الحبشان" 153، 213، 254، 266 الحبشان 15, 113 الحجاج 78, 99, 103, 104, 112, 123, 203 الحجازيون = أهل الحجاز حدان 253 بنو حصن 430 الحضارمة 353 حكام العرب 205, 208
الحمورابيون 196 حمير "الحميريون" 20, 37, 41, 42, 114, 268, 270, 271, 274, 377 حنظلة 446 حنيفة 243, 353, 358 الحياء بن سعد بن عمرو 172 بنو حية 384, 385 خثعم 81, 151, 323 الخراسانية 444 خزاعة 41, 75, 79, 291 الخزر 450 الخزرج 24, 105 خضّم 306 الخلفاء 31 خلفاء الأمويين 408 خمارو الحيرة 381, 386 خندف 174 الخوارج الإباضية 256 " الحرورية 343 بنو دهمان 300 " الديان 130, 293 ذؤبان العرب 151 بنو ذبيان 315 الراشدون "الخلفاء" 194, 395, 407, 419, 421 الرباب 446 ربيعة 74, 75, 239, 242, 337, 375, 441, 445, 447, 448 الرجاز 408, 419 الرواة 412, 440, 443 الروم "وانظر: الرومان" 18, 21, 23, 25, 41, 42, 44, 113, 129, 153, 160, 182, 371, 373, 378, 450 الرومان 20, 43, 44, 87, 115, 212, 364, 366, 370 بنو ريطة 176 زبيد 183 الزراع 5 الزط 447 زهرة 96, 183 بنو زهير "من عكل" 442
الزرار 207 بنو زيد "من آل أبي طالب" 439 آل سامة 429 سبأ 17-19, 37 السبابجة 447 سخينة = قريش سدوس 240 بنو سعد 242, 243, 309، 310، 351، 352، 432-434, 446 السكون 238 بنو سليم 176, 321, 351, 353, 432 السماسرة 29 آل السميدع 41 السند 41 سهم 96, 105, 110, 111, 176 السودان 450 الشراة 461 الشعراء 315, 361, 369, 372, 408, 419, 422, 451 الشعوبيون 413, 439 بنو شيبان 305 شيعة علي 432 بنو الصادر 367 الصحابة 33, 71, 98, 135-137, 146, 159, 188, 333, 348, 357, 413 صعاليك العرب 151 الصناع 32 الصين "الصينيون" 25, 202, 213, 450 الضافطة "جالبو الميرة" 233 ضبة 446 طسم 41, 240 طيء 22, 41, 74, 81, 151, 233, 236, 239, 293, 367, 377, 379, 382, 383 بنو ظفر 351 عاد 194, 451
بنو عامر 75، 170، 349، 433، 434 عامر بن صعصعة 81، 301، 312, 328-330، 353، 359 بنو العباس = العباسيون 401، 403، 409، 424، 444 العباد "في الحيرة" 377 العباهلة "ملوك اليمن" 149 عبد الدار 95، 96، 99، 100، 110 عبد شمس 190 عبد العزى 96 عبد القيس 36، 240، 243، 322، 446، 447 بنو عبد الله بن دارم 251 " " " " زيد 217، 244 " " " " غطفان 283 " عبد المطلب 328، 330 " " مناف 95، 99، 100، 105، 152، 153، 157، 158، 172، 328 العبلات 331 العبيد 439 بنو عبيد 358 عتيك بن عامر بن لؤي 96، 253 عجل 440 العجلان 427 العجم = الفرس بنو العدل 125 عدي 96، 110، 111 عذرة 233، 353 العرب 9-11، 15-25، 29، 31، 33، 35، 38، 40-46، 53، 58, 60، 63، 70, 71-82، 86، 87، 93-95، 100، 103، 108, 112-127، 130، 137، 138، 142، 143، 145-148، 150-156، 160، 163، 166، 169، 171، 182، 185، 194، 195، 198، 200-202، 205، 208-215، 225، 236-245، 246، 250-256، 262-264، 269، 272، 273، 278، 280-285، 289، 291، 292، 295، 297-299، 305، 308، 315، 316، 319، 325، 329، 335، 338، 345، 352، 356، 358، 360، 363، 364، 388، 393، 395
402، 407، 410، 422، 449، 450، 452، 453 عرب الحيرة 195 العشرة المبشرون 367 عضل 291 عكل 442 العلويون "وانظر: شيعة علي" 444 بنو علي = العلويون بنو العم 429 العمالق 41 بنو عمرو بن تميم 81 " " الثقفي 61، 66 " " بن مرثد 74، 239 العنابس 175، 284 العنبر بن عمرو بن تميم 306 بنو العنقاء 316 عوف بن كعب 434 آل غالب 299 الغرب "المحتل" 288 غسان 41، 207، 218، 237، 253، 353، 366، 368، 371 غطفان 166، 167، 291 غفار 113 غنيّ 167، 259، 302 فارس "وانظر: فرس" 21, 128، 153، 182، 213، 242، 378، 449 الفراعنة 19، 41 الفرس 16، 18، 25، 37، 38، 41-43، 87، 91، 113، 129، 194، 202، 212، 254، 255، 266، 270، 370، 378، 395، 398، 402، 410، 422، 499 الفرسان 305 فرسان العرب 336 الفرنجة = إفرنج فزارة 325، 353، 445، 446 بنو فقيم 451 فهر 91، 93، 94، 183، 432 قبائل العرب 112، 124، 151، 153، 195، 200، 202، 205، 208، 236، 243، 338، 342، 350، 353، 366
قريش "القرشيون" 11، 21، 29، 42، 62، 70-75، 78-80, 84-87، 89-178، 181، 183-185، 190، 200، 202، 205-207، 215، 239، 244، 258، 276، 278، 280، 283، 284، 288، 290، 297، 303, 310-312، 328، 330، 338، 346، 349، 354، 357، 363، 366، 374، 377، 378، 417، 429 بنو قريظة 24 " قشير 418 " قصي 102، 126، 179 " قضاعة 81، 151، 375 قفقاسيون 202 القوافل العربية 16، 17، 19، 38، 58، 139، 158، 366، 379 قيس "قيس بن عيلان" 84، 121، 162، 167، 169، 170، 175, 205، 288، 290، 323، 337, 432 قيس بن ثعلبة 74، 239 بنو القين بن جسر 331 " قينقاع 24، 258 كتاب الوحي 115 بنو كعب 437، 438 " " بن ربيعة 75، 328 353 " " " لؤي 97 كلاب 75، 167، 437، 438 كلب 74، 218، 220، 222، 232، 233، 236-239، 332، 333، 377، 383 كليب 430، 435، 436، 448 كنانة 75، 85، 166، 171-175، 178، 205، 233، 300، 311، 312، 345، 432 كندة 218، 276، 325، 353 الكوفيون 423 بنو لام 282، 383، 385 " لجأ 431 لخم 377 لصوص العرب 279 اللغويون 422
مازن 306، 417 بنو مالك 25، 249، 253، 446 " مجاشع 419 المجبرون = بنو عبد مناف بنو محارب بن خصفة 96، 267, 327، 353 المحدثون 260 آل محرق 447 بنو مخزوم 96، 105، 110، 111، 150، 175 مدرسة البصرة 423 " الكوفة 423 بنو مدركة بن خندف 300 مذحج 293، 294، 307-309، 377 المرابون 60 بنو مرة بن عوف بن ذبيان 307، 353 مزاحم 433 المزون 323 مزينة 438 المستشرقون 3، 11 بنو المستكبر 244، 245 آل مسروق بن وائل الحضرمي 276 المسلمون 9، 24، 26, 28، 42، 58، 64، 71، 72، 134-138، 145، 159، 187، 209، 213، 357، 368، 369، 375، 398، 429، 443، 448 المشركون 24، 28، 30، 145، 159، 175، 201، 213، 233، 235، 236، 262، 264 مشركو مكة 42، 198 بنو المصطلق 172، 291 المطيبون "أحلاف بني عبد مناف" 99 معد 86، 333، 434، 448 معن بن طيء 331 المعينيون 17، 18 مغاربة 202 بنو المغيرة 61، 66، 176، 350 المفسرون 28-30، 59، 61, 152، 161، 254 المقلسون 373 المكيون = أهل مكة
ملوك الحيرة "ملوك العراق" 375، 377 " فارس 377 المناذرة 377، 382 بنو منقر 424 المهاجرون 145، 413 مهرة 218، 266، 267 مهو 36، 322، 323 الموالي 167، 422، 439 بنو ناجية 429 النبط = الأنباط النحاة 412، 420، 423 نزار 341 النصارى 280 نصارى نجران 62 بنو نصر 41، 175، 288، 289، 300، 312، 377 بنو مضر "في الحيرة" 244، 374 " النضير 24، 357 نمير 437، 438 بنو نهشل 451 " نوافل 110، 189، 190 بنو هاشم 110، 112، 145، 157، 183، 186 الهجاءون 426 الهجيم 306 هذيل 347 بنو هصيص بن عامر 96 همدان 432 الهند 18، 41، 194، 202، 213، 266، 395، 450 هنود أمريكا 208 هوازن 70، 84، 162، 166، 169، 170، 172-176، 178، 288، 289، 290، 294، 300، 301، 303، 304، 307، 311، 312 الهون بن خزيمة 172 هيئة الأمم المتحدة 282 اليثربيون = أهل يثرب يحمد 253 بنو يربوع 429 يشكر 348 اليمنيون 20، 21، 108، 240، 241، 447 يونان 10، 20، 41، 395، 451 اليهود 22-24، 41، 42، 60-64، 128، 129، 356، 357، 366، 453
مسرد الأماكن
5- مسرد الأماكن: آسيا 20, 268, 354 الأبطح 130 الأبطحان 299 الأبلة 208, 395, 399 أبين 268 الأثيداء 286, 288 أحد 213 الأحقاف 253, 257 أخشبا مكة "جبلان" 96, 283 أدم 220, 222, 225, 226 أديار الحبرة 380 أذرعات 24, 43, 58, 196, 112، 221, 226, 362، 363، 372-373، 475 "جبل بمكة" 20, 107, 221، 225، 226, 344 التجارية 37 أمريكا 354 الأنبار 40، 207، 377 أندرين 58, 196 الأندلس 272, 400 أنقرة 154 أنهار البصرة 398 الأهواز 404, 429 أوارة 166 أوروبا 17, 18, 20, 43, 354, 365, 375, 376 إيطاليا 401 أيلة "العقبة" 16, 20, 24, 212 باب البريد "بدمشق" 5 بابل 16 باب المندب 19, 268 البادية 15 بارق 258 باسان 365 بترا 19 البحر الأحمر 91, 268 بحر الصين 261 " عدن 16
بحر عمان 256 " فارس 261 البحر المتوسط 18, 19 " الهندي 15, 261, 266, 268 بحر اليمن "وانظر: بحر عدن" 252, 254 البحرين 15, 21, 28, 41, 177, 211, 212, 214, 240, 245, 251, 253, 291, 358, 375, 380, 403, 451 بدر 135, 136, 139, 140, 211, 213, 216, 219, 225, 226, 297 براديس 140 بردى 8 البصرة 209, 232, 252, 358, 360, 361, 393, 394, 395, 406-410, 419, 421-423, 425, 426, 429, 447, 452 بصرى 24, 43, 113, 196, 212, 221, 226, 278, 345, 362, 363, 364-371, 373, 375 البطحاء "بمكة، الأباطح، البطاح" 97, 427 بطن مر 171 بغداد 6, 215, 393, 401 البقيع 29, 30 بكة 86 بلاد العرب = جزيرة العرب البلقاء 372 البندقية 109 البهيتة 286 البيت، بيت الله "وانظر: المسجد الحرام، الكعبة" 74-76, 81, 82, 84, 85, 87, 99, 103, 104, 107, 109, 112, 122, 123, 147, 149, 151, 160, 161, 176 184, 204, 332, 333, 383, 387 بيت المقدس 128 بيروت 54 تؤام 261
التبت 257 تبوك 23, 140 تدمر 16-18 تعشار 296 تهامة 166, 257, 258 تيرى "نهر" 429 تيماء 20 ثبير 320 الثغور الرومانية 16 ثهلان 145 الجامعة السورية "بدمشق" 6، 8 " المصرية 37 جامعة ميونيخ 37 جبلا طيء 41, 233 جدة 91 جريب 194 الجزيرة، جزيرة العرب 15-25, 28, 37, 60, 74, 91, 138, 147, 158, 191, 194, 196, 207, 238, 253, 254, 262, 265, 266, 271, 277, 291, 314, 342, 343, 348, 356, 357, 366, 374, 393, 410 جلاجل 435 جمع = مزدلفة الجند 124, 194, 211, 219, 225, 226 جنوة 401 الجوف 232 حانات الحيرة 380 الحاوية "قرب الطائف" 288 حباشة 70, 132, 209, 224, 226, 258-260, 262 الحبشة 15, 16, 18, 28, 44, 71, 87, 91, 103, 113, 134, 137, 146-149, 151, 156, 159, 161, 256, 257, 268, 364 حبشي "جبل بمكة" 172 الحجاز 16, 20-24, 26, 29, 60, 113, 155, 203, 208, 245, 253, 257, 258, 266, 268, 364, 380 الحجر "في المسجد الحرام" 183, 333
الحجر "الأسود" 183 حجر اليمامة 193, 195, 211, 217, 219, 221, 223, 226, 247, 357, 358-361 الحجون 156, 180 الحديبية 33, 128, 137, 159 حراء 320 الحرتان 299 الحرم 73, 76, 78, 79, 83-86, 91, 97, 99, 112, 151, 160, 161, 170, 171, 182, 202, 207, 289, 367 الحريرة 177, 178, 288 حصن السلالم 357 " الشق " " الصعب بن معاذ " " القموص " " الكتيبة " " مارد 233 " المشقر 236 حصن ناعم 357 " نطاة " " الوطيح " حضرموت 19, 70, 194, 217, 218, 220-226, 275, 276 الحفير 366 حلبون 370 حمص 128, 272 حوران 362-365, 368 حوزة 295, 297 حيدر آباد 50, 211, 225 الحيرة 21, 37, 41, 42, 44, 58, 114-118, 165, 195, 207, 212, 215, 225, 232, 244, 279, 314-389 خبت 296 خزانة العرب = البصرة الخط 214, 242, 251 خليج العجم = الخليج الفارسي
الخليج الفارسي 18، 19، 232، 245، 252، 254, 410 الخنافس "سوق في العراق" 375 الخندق 445 خوام "نزل بدمشق" 8 الخورنق 377 خيبر 52، 60، 110، 167، 168، 217، 221، 223، 356، 357، 379، 404 خيوان 273 دار الآثار "بدمشق" 8 " جعفر بن سليمان 409 " عبد الله بن جدعان 183, 184 " العظم "بدمشق" 362 " الكتب الظاهرية 54، 281 " " المصرية 26، 86، 125، 128، 129، 155، 189، 200، 216، 372، 379، 386، 389، 429 دار الندوة 98، 104، 129، 130، 139 " نيروز 449 دارين 214 الدباغين "في البصرة" 416 دبى 213، 217، 218، 220، 221، 226، 264-265، 267 دجلة 215، 401، 435 درعا = أذرعات الدكن 225 الدمة 286 دمشق 3-6، 8-10، 37، 223، 271-273، 362، 364، 369, 453، 454 دومة الجندل 5، 46، 48، 74, 114، 195، 216-224، 226, 232-239، 244، 250، 251، 263، 267، 270
دومة الحيرة 232، 233 دير أيوب 221، 226، 362-363, 370 ذات الأثل 295، 297 ذو المجاز 70، 75، 80، 149، 202، 203، 211، 217-224، 226، 289، 345، 346، 347-355، 357، 363 ذو المجاز "في العراق" 347 ذو المروة 187 الرابية "بحضرموت" 225، 226, 276 الربذة 140 الروم 176، 177 ردمان 101، 106، 107، 156 ردينة 214 الرصافة 363 روضة الأجداد 211 " دعمي 211، 212 روما 18 الروم 15، 102، 146، 149، 155، 269، 393 زبيد 261 زمزم 104، 107 السدير 377 سلع 20 السلفية = المطبعة السلفية سلمان 100، 106، 107، 157 سمرقند 107 السند 265، 269 السواد "العراقي" 375 سوريا 5، 6، 16، 18، 19 السوس الأقصى 402 سوق النبط 23، 105 السيل الصغير "قرب الطائف" 286، 287 " الكبير "قرب الطائف" 286، 287 السيلحون 378 الشام 4-6، 8، 15-18، 22-24، 26، 27، 29، 41، 44، 86، 87، 98، 100-102، 104-107، 113، 115، 117، 118، 127، 129-137، 141، 143
147-151، 154-159، 161، 176، 196، 203، 232، 233، 238، 253، 257، 278، 341، 343، 345، 356, 357، 360، 363-368، 370-373، 375, 379، 380، 393، 453 شامة 344 شبام 432 شبوت 19 الشحر "شحر مهرة" 193، 217، 218، 220-224، 226، 264، 266-267، 269، 273، 275، 291 شرب 174-176, 284، 288 الشرق 8، 17 شرقيّ الأردن 16 الشعب 96 شعب جبلة 445 شمارى 382 شمظة 171-173, 288 شيخ سعد 362 صحار "البحرين" 262 " "اليمن" 70، 213، 217، 218، 220، 221، 223، 224، 226، 261-263، 264، 270 الصحراء الكبرى 402 صرخد 370 الصعاب 451 الصفا "حصن بالبحرين" 240، 241 صفين 445 صنعاء "دمشق" 272 " "اليمن" 55، 109، 194، 217-224, 226، 261، 271-274, 275 صيدا 25 صيدون = صيدا
الصين 25، 262، 265، 402 الضلع "وادٍ بصنعاء" 272 الطائف 21، 28، 60-62، 71, 79، 107، 114، 121، 126, 135، 139، 165، 215، 286, 287، 374، 425، 432 طفيل 344 الظهر "وادٍ بصنعاء" 272 الظواهر "بمكة" 97 عبادان 398 عبدس 398 العبلاء 173-174, 288 العجم "وانظر: فارس" 128 عدن 16، 194، 211، 213, 217-222، 224، 226، 266, 268-270، 273، 377 العراق 15، 16-18، 24، 44, 56، 74، 86، 87، 91، 100، 106، 114، 117، 119، 126، 127، 143، 148، 156، 180، 196، 203، 215، 216، 238، 239، 253، 262، 278، 286، 291، 318، 340، 341، 343، 347، 358، 360، 363، 368، 374، 375، 393، 395، 398، 399، 401، 403، 407-410، 418، 437 عرفة "عرفات" 76، 78، 79، 104، 145، 203، 204، 289، 247 عسفان 345 العشيرة "قرب الطائف" 288 العقبة "الميناء الشامي" 16 " "بمكة" 78، 232 عكاظ 10، 25، 36، 54، 70، 75، 80، 84، 132، 149، 162، 163، 169-176، 177، 180، 193، 195، 196، 202، 203، 206-209، 211، 213، 215, 217-226، 263، 276، 277-343, 345، 346، 349، 352، 359، 361، 363، 378، 407-413، 418، 423، 424
عمان 15، 19، 21، 41، 126, 194، 195، 212، 220، 224، 226، 240، 242، 244، 245، 252-257، 261، 264، 266، 275، 291، 379، 380، 403 عمواس 107 العين "نهر في البحرين" 240 الغار "مخبأ النبي وصاحبه" 134 غدير الحقل 273 غزة 19، 24، 31، 58، 100، 105، 106، 113، 127، 129, 131، 156، 196، 212، 278، 345، 371 غمدان 272 واتيمالا 208 فارس 15، 25، 103، 119، 127، 128، 161، 242، 244، 245، 250، 254، 256، 257، 269, 270، 279، 374، 375، 377, 378، 380، 393، 429 فخ 344 فدك 166 الفرات 377 فرغانة 402 فرنسا 401 فلج 433، 439 فلسطين 18، 453، 454 الفانس 286 قبة الإسلام = البصرة قبر الأعشى 198 " غالب "أبي الفرزدق" 424, 425 أبو قبيس "جبل بمكة" 96, 183 القدس 207 قرح "من أسواق العرب" 194 قرطاجة 109 قرطبة 6
القليب "بئر في بدر" 139 قنسرين 370 قنونا 258 القهاوي 286 القيروان 393 كبكب "جبل في عرفات" 347 الكرخ 215 كرمان 403 الكعبة 85، 98، 99، 103، 107، 108، 115، 123-125، 333، 437 كناسة "سوق الكوفة" 407, 423 الكوفة 215، 358، 376، 381، 388، 393، 400، 404، 407، 423، 447 ليدن 28، 53، 57، 58، 101, 127، 131، 201، 337، 402، 418 ليفربول 401 مأرب 19، 366 مارد 223 مبايض 306 المتحف البريطاني 211 المجمع العلمي "بدمشق" 5، 6، 8، 10 مجنة 70، 75، 80، 196، 202، 203، 219، 221، 224، 226، 289، 290، 344-346، 352، 363 المدائن "مدائن كسرى" 37، 242، 375 مدرسة التجهيز "بدمشق" 8 المدرسة العادلية 5 المدينة "وانظر: يثرب" 20، 22، 24، 26، 29، 62، 64، 72، 79، 106، 107، 134، 136، 140، 141، 143، 182، 187، 198
209، 213، 225، 232-234، 245، 251، 320، 344، 403، 415 مدينة محمد بن الغمر 240 مر الظهران 344 المربد 209، 210، 225، 343، 361، 394، 395، 404-452 المربدان 418 مرسيليا 401 مرو الشاهجان 260 المزة 272 المزدلفة 104، 203 مسجد الجنَد 194 المسجد الحرام "وانظر: الحرم" 30، 72، 112، 130، 333 مسجد خاتون "قرب دمشق" 272 " صحار 262 " المدينة 29، 58، 187 " المشقر 240 المسيل الصغير "قرب الطائف" 287، 288 " الكبير "قرب الطائف" 287، 288 المشارف "الشامية" 24، 28، 43، 371 المشاعر "في الحرم" 332 المشقر 50، 195، 217، 218، 220، 221، 223، 224، 226، 236، 240-244، 253، 254، 263 مصر 6، 15، 18، 19، 25، 26، 44، 122، 127، 146، 197، 203، 268، 341، 393، 402، 403، 407 المطبعة البهية 197 مطبعة التقديم العلمية 122 " الجامعة السورية 411 " الجوائب 44 المطبعة الحسينية 215
مطبعة حيدر آباد 211 المطبعة الرحمانية 132، 150 " السلفية 62، 92، 93، 131، 142 مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر 110، 417 معافر 269، 274 معرض دمشق وسوقها 453، 454 المغرب 400 المقبرة "بالبصرة" 426 مقبرة بني حصن 430 " " مازن 417 المكتبة الظاهرية = دار الكتب الظاهرية مكربة = مكة مكة 19-21، 25-28، 30، 37، 41، 42، 60-63، 67، 71، 74، 75، 78، 82، 86، 87، 91، 93، 94، 97-102، 104، 106- 109، 112، 114، 115، 117، 122، 125، 126، 130، 131، 135-139، 143، 149، 151، 153، 155-161، 169، 170، 172، 177، 181-183، 185، 186، 196، 198، 202، 211، 219، 225، 226، 239، 255، 258، 259، 278، 286، 289، 291، 320، 329، 336، 340، 343، 344، 348، 352، 427، 432 ملحان 295، 297 المملكة الأردنية = شرقي الأردن مملكة حمير 42 منعج 302 منى 85، 99، 104، 202، 204، 211، 216، 219، 225، 226، 283، 347 ميونيخ 37 نجد 21، 22، 91، 166، 318، 368، 372، 433 نجران 62، 130، 131، 211، 216، 219، 225، 226، 240، 308-310 نخلة 71، 72، 135، 169-171 نقم "جبل" 273
نطاة خيبر 217، 221، 223، 226، 356-357 نطاع 243 نعمان "وادٍ باليمن" 425 النفرات 301 نقيل السود 272 نمرة 78 نهر الأبلة 399 " البصرة 405، 406 " معقل 399 نينوى 16 هجر "البحرين" 21, 28، 58، 193-195، 211، 212، 226، 240-243, 245-251, 254, 256, 278 هجر "المدينة" 245 الهند 15-19, 113, 147, 245, 250, 254, 256, 257, 268, 269, 364, 375, 379, 380, 403 وادي جدر 372 " عليب 273 وادي القرى 60, 140, 194 " القصر 404 " لية 286 الوحيدة 319, 320 وقيعة "ماء" 368 يبرين 448 يثرب "وانظر: المدينة" 24, 60, 61, 64, 319, 349, 372 اليرموك 369 اليكسوم 149 اليمامة 193, 198, 211, 217, 219, 243, 291, 358, 403 اليمن 15, 16, 19, 21, 25, 26, 37, 41, 44, 61, 85-87, 91, 95, 98, 100, 106, 108, 109, 113, 124, 125, 127-129, 136, 143, 148-151, 154, 156, 161, 192, 194, 207, 215, 242, 243, 245, 252, 253, 256-258, 262, 269-272, 274, 275, 278, 281, 286, 291, 321, 341, 356, 364, 375, 380
مسرد الأشعار
6- مسرد الأشعار 1: صدر البيت القافية ص واذكروا حلف ذي المجاز وما الكفلاءُ 348 حي البخيلة إذ نأت عدوائها 186 وتوقد ناركم شررا ويرفعْ لواءُ 283 ألا أيهذا الذي لم يجب. . 307 إن تبغضونا فإن الروم أصلكم للعرب 378 إني من النفر المحمر أعينهم واللوبِ 178 أيأخذني في بطن مكة ظالما صحبي 286 بها برص بجانب إسكتيها شابا 438 تريك القذى من دونها وهي دونه قطربُ 387 تغيبت عن يوميْ عكاظ كليهما أتغيب 311 جنان شمارى ليس مثلك منظر طبيب 382 رأيت الجحش جحش بني كليب هابا 435 سألني الشرطي أن نسقيه القصبْ 387 فغض الطرف إنك من نمير كلابا 437، 438
صدر البيت القافية ص فلما دخلناه أضقنا ظهورنا مشطبِ 376 لا تغضبن على امرئ في ماله فاغضبِ 443 ليالي سعد في عكاظ يسوقها ومغرب 291 ما للفرزدق من عز يلوذ به الخشبُ 429 أربعة كلهم سيد لسادات 107 فأقرّت قرارها بعمان الحماة 253 فلا والله لا ألفي وشربا حييتُ 199 فلا ولدت بعد الفرزدق حامل نبلتِِ 361 وبالحيرة البيضاء شيخ مسلط برتِ 386 ولولا الحمس لم يلبس رجال يموتوا 83 أمي يابن الأسكر بن مدلج....... 294 ومن يك مثلي ذا عيال ومقترا مطرح 37 أبكي أبي عمرا بعين غزيرة هجودُها 299 أبكي عميد الأبطحين كليهما يريدُها 299 أكلتم أرضنا فجردتموها حصيدِ 203 ألم يبلغكم أنا جدعنا بالقياد 174 إن القساة قبلنا إياد نكادُ 322 إني لقاض قضاء سوف يتبعه أودِ 434
صدر البيت القافية ص أيا رفقة من آل بصرى تحملت رشد 369 تعدون قتلا في الحرام عظيمة راشدُ 72 زر وادي القصر نعم القصر والوادي ... 404 سائل ذوي يمن ورهط محرق مسعودَا 447 سيكفيك عبس أخو كهمس بالمربد 447 غدا أهل حضني ذي المجاز بسحرة يغدو 350 الغدر أهلك عادا في منازلها الجندُ 194 فأبلغ إن عرضت بنا هشاما الوليدا 172 لعمرك ما تبلى سرابيل عامر جلودها 433 لما رأت جعدة منا وردا..... 433 له داع بمكة مشمعل ينادي 130 مات الندى بالشام لما أن ثوى لا يبعد 106 نبئت أن بني ربيعة أجمعوا خالدا 445 وغسان الذين هم استتبوا البلادِ 253 يا خال ذرني ومالي، ما فعلت به مودي 336 وهيجتني من أذرعات وما أرى بعدا 372 أبوكم قصي كان يدعى مجمعا فهرِ 91، 94 إذا ذقت فاها قلت طعم مدامة التجر 58 ألكني إلى قومي ولو كنت نائيا المشاعرِ 332 ألم يبلغك ما فعلت قريش أبيروا 174 ألهى قصيا عن المجد الأساطير...... 126 إنا أتيناك وقد طال السفرْ..... 443
صدر البيت القافية ص بدأنا بجمع الصفرين فلم ندع المناخرِ 368 بقبر ابن ليلى غالب عذت بعدما قسرِ 425 بل كيف تكفرني هوازن بعدما أحرارا 304 تذكر القلب وجهلا ما ذكره..... 442 حلفت لنعقدنْ حلفا عليهم دارِ 184 ذريني للغنى أسعى فإني الفقيرُ 37 سأكسب مالا وأموت ببلدة قبري 37 شيطانه أنثى وشيطاني ذكرْ.... 442 شهدت على الزيدي أن نساءه تزحرُ 439 فأصبحوا قد أعاد الله نعمتهم بشرُ 143 فحللت معتلج البطا ... ح بالظواهرْ 97 فسر في بلاد الله والتمس الغنى فتعذرا 37 فلما اجتمعنا بالعلالي بيننا تاجرُه 214 فلو شهدتني من قريش عصابة الظواهرِ 96 فما إن رحيق سبتها التجا ... ر جدرْ 372 في الذاهبين الأولييـ ... ن بصائرْ 314 قد جبر الدين الإله فجبر..... 442 لا تجحدوا نعماء بشر عليكم أزهرا 114 لئن هجوت بني صخب لقد تركوا آثارا 361 لقد كذبت وشر القول أكذبه مضر 431
صدر البيت القافية ص لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى دما 316 منا الذي ترك العوام مجندلا أحجارِ 174 نبئت زرعة والسفاهة كاسمها الأشعارِ 296 نحن كنا الملوك في آل نجد الذمارِ 179 وأزد لها البحران والسيف كله المشقرِ 253 وأعصفن بالدومي من رأس حصنه المشقرِ 236 وإن صخرا لتأتمّ الهداة به نارُ 215 وربت غارة أوضعت فيها تمرِ 245 ولا مرتع للعين أو متقنص تحقرُ 126 ولو كنت عطرا كنت من عنبر الشجر ... 267 ومرة ليسوا نافعيك ولن ترى الفزر 335 ومن ير صنعاء الجنود وأهلها حميرا 271 ومنا رئيس القوم ليلة أدلجوا النحرِ 243 يا آل فهر لمظلوم بضاعته والنفرِ 183 يا تيم تيم عدي لا أبا لكم عمرُ 431 يا من رأى كصفقة ابن بيدرة....... 322 يسألني الباعة أين نارها........ 280 " " ما نجارها........ 280 يا صاحبي دنا المسير فسيرا جريرا 435
صدر البيت القافية ص يا قيس أرسل أسيرا من بني جشم جازي 309 لم تدر بصرى بما آليت من قسم الكراديسُ 369 وقريش هي التي تسكن الـ قريشا 92 تحمل هاشم ما ضاق عنه ابن بيضْ 101 تركت الفارس البذاخ منهم عبيطا 178 أتاني عن أمية زور قول حفاظ 340 ألا من مبلغ حسان عني عكاظ 339 سأنشر ما حييت لهم كلاما عكاظ 430 فإنك ضحاك إلى كل صاحب عكاظِها 339 إذا طلعنا نقيل السود لاح لنا مرتبعُ 272 تنح عن البطحاء إن قديمها الفوارعُ 96 حتى كأني للحوادث مروة تقرعُ 241 سائل بنا في قومنا سماعُهْ 181 كأن الإثمد الحاريّ منها الدموعُ 376 وداهية يهال الناس منها ضلوعي 167 إذا بني القباب على عكاظ الألوفُ 339 جاءت هوازن أرسالا وإخوتها وانصرفوا 176
صدر البيت القافية ص حبسن بين رملة وقفّ....... 246 زعمتم أن إخوتكم قريش إلافُ 153 عمرو العلا هشم الثريد لقومه عجافُ 101 غضبتْ علي لأن شربت بصوفِ....... 197 ما إن عتبت لأن شربت بصوفة بخروف 197 نحن بنو دهمان ذي التغطرف........ 197 نحن بنو مدركة بن خندف....... 300 والخالطون غنيهم بفقيرهم كالكافي 150 ولقد شربت الخمر في حانوتها بأرض الريف 197 يا أيها الرجل المحول رحله منافٍ 152 أرقت وما هذا السهاد المؤرقُ...... 317 فإن تتهموا أنجد خلافا عليكم أعرقِ 252 مهلا بني عمنا ظلامتنا القلقِ 445 ولو رآني أبو غيلان إذ حسرت طبقُ 120 أأنت الذي تستنطق الدار واقفا حلولُ 434 أحارث خذ ما شئت منا ومنهم فواضلهْ 427 أحارث داري مرتين هدمتها غوائلهْ 427 أضحى لتغلب من تميم شاعر الأثفل 385 إنني والذي يحج له تهليلا 186
صدر البيت القافية ص بكيت على زيد ولم أدر ما فعل الأجلْ 332 ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة جليلُ 344 الحمد لله الوهوب المجزلِ....... 440 تنورتها من أذرعات وأهلها عالي 372 دعني أطوف في البلاد لعلني محملُ 37 سآلة للفتى ما ليس في يده والمالِ 199 سلافة راح ضمنتها إداوة الرحلِ 345، 370 شربت براحلتي محجن قاتلي 330 فإن تمنعوا منا المشقر والصفا نخيلُها 241 فما فضلة من أذرعات هوت بها الضحلِ 372 قد كانت الفعلة مني ضلة....... 167 قومي اللذو بعكاظ طيروا شررا بالمصاقيلِ 176 لعمرك إن الخمر ما دمت شاربا عقلي 199 لقد وعدنا قريشا وهي كارهة رعابيل 170 نظرت وطرف العين يتبع الهوى المتطاولِ 369 هل إلى سكرة بناحية الحيرة سبيلُ 381 هلك الفرزدق بعدما جدعته قليلا 360 وإن كليبا إذ أتتني بعبدها باطلهْ 430 وإني لقاضٍ بين جعدة عامر فيصلا 434 وراح بها من ذي المجاز عشية الحبلِ 347
صدر البيت القافية ص ولا من في جنازتها تجار النعال 127 أأنت الذي شبهت عنزا بقفرة سالم 434 أباهل لو أن الأنام تنافروا ألأمُ 427 أفي كل أسواق العراق إتاوة درهمِ 56 ألا بشرا من كان لا يملك استه نيامِ 428 ألا كيف البقاء لباهلي والجحيمِ 427 ألا لله قوم و ... لدت سهمِ 176 ألا أيها الناهي فزارة بعدما حالمُ 445 ألسنا الناسئين على معد حراما 86 ألمت خناس وإلمامها أسقامُها 446 أوكلما وردت عكاظ قبيلة يتوسم 305 أيا ظبية الوعاء بين جلاجل سالم 435 تركت الشعر واستبدلت منه قاما 199 تلكم قريش لم تكن آباؤها تنقسمُ 143 دعوت سنانا وابن عوف وحارثا وهاشمِ 307 رأيت الخمر صالحة وفيها الكريما 199 عشية سال المربدان كلاهما الصوارمِ 418 عليهن فتيان كساها محرق وأنعما 371 فلئن بنيت لي المشقر في العصمُ 240
صدر البيت القافية ص فما الأم التي ولدت قريشا عقيمِ 94 لعمرك ما مزينة رهط معن سنامِ 438 لعمرك ما تميم أهل فلج كرامِ 439 للغانيات بذي المجاز رسومُ....... 348 لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى دما 316 متى أكلت لحومكم كلابي تهامِ 433 مشرين ترعون النجيل وقد غذت مزاحم 433 من حسّ لي الأخوين كالـ راهما 298 نحن آل الله في ذمته قدمْ 109 وإن قصيا أهل عز ونجدة قديمُها 179 وإني وإن ضربت حبال قيس تميم 323 وجدنا آل سامة في قريش تميمِ 429 وددت -وبيت الله- لو أن أنفه العظمِ 383 ولقد شربت من المدامة بعدما المعلمِ 197 ولو أعطيت من ببلاد بصرى وعجمِ 370 وما أنت إن قرما تميم تساميا في الغرم 432 وما قصرت من حاضن دون سترها ظالمِ 304 ومنا الذي أعطى يديه رهينة الجماجمِ 448 يا شدة ما شددنا غير كاذبة والحرمُ 171 أحب عمان من حبي سليمى عمانِ 252
صدر البيت القافية ص إذا اصطبحت أربعا عرفتني 440 ألا سائل هوازن يوم لاقوا معلمينا 175 ألا هبي بصحنك فاصبحينا..... 340 إني رأيت القائلين وفعلهم الديان 130 جعلت لعراف اليمامة حكمه شفياني 358 ذعرت به القطا ونصبت عنه اللعين 324 سأعمل نص العيس حتى يكفني الحدثان 37 قالت وكنت رجلا فطينا 387 لولا أبو مالك المرجو نائله وطنا 401 لولا دفاعي كنتم أعبدا فالسيلحون 378 لو يسمعون بأكلة أو شربة بعمانِ 254 مائة أتت من بعدها مائتان لي سنينا 338 وأعلم أن ستدركني المنايا تتبعْني 443 وغزا تبع في حمير حتى عدنْ 377 وقائلة هلم إلى التصابي تعلمينا 199 إذا ما المرء صم فلم يناجي ندايا 338 ألا أيها الركب اليمانون عوجوا يمانيا 425 فلا توعديني بالفجار فإنه المخازيا 180
مسرد الكتب
7- مسرد الكتب 1: اجتماع الجيوش الإسلامية 284 أحسن التقاسيم 46، 401 الأخبار الطوال "للدينوري" أخبار مكة "للأزرقي" 80، 124، 204، 259، 344، 346 أخبار النساء " لابن القيم" 122 الأدب المفرد "للبخاري" 131 الأزمنة والأمكنة "للمرزوقي" 48، 81، 82، 121، 210، 221، 227، 241، 244، 262، 269، 274، 276، 321، 325، 363، 373 أساس البلاغة "للزمخشري" 54 الإسلام والحضارة العربية "لكرد علي" 158 الإسلام والمرأة "للمؤلف" 284 أسواق العرب "هذا" 287 أسواق العرب "لابن الكلبي" 216 الإصابة 336 الأصنام "لابن الكلبي" 85، 216 الأعلاق النفيسة "لابن رستة" 287 الأغاني "للأصفهاني" 26، 116، 119، 121، 125، 128-130، 132، 134، 163، 165، 170، 184، 186، 189، 198، 200، 206، 242، 246، 247، 249
256، 282، 283، 292، 351، 366، 374، 378، 379، 381، 385-389، 412، 421، 429، 433-435، 438، 442، 445 الإكليل "للهمداني" 27، 163، 194، 271، 272، 290 الأمالي "للقالي" 34، 35، 40، 85، 100، 130، 155، 196، 199، 248، 379، 380، 387، 412، 422، 425 الإمتاع والمؤانسة "للتوحيدي" 174، 210، 220، 226 أمثال الضبي وأسرار الحكماء للتوحيدي 44، 324، 335 أنساب الأشراف "للبلاذري" إنسان العيون 108 البخلاء "للجاحظ" 402 بلاغات النساء 339 البلدان "للمهمذاني" 28، 402 بلوغ الأرب "للألوسي" 46، 47، 113، 150، 163، 179، 210، 224، 227، 280، 282، 283، 285، 306، 311، 342، 343 البيان والتبيين 315، 412، 420 تاج العروس 31، 34، 47، 54، 93، 97، 245، 252، 268، 272، 273، 344، 403 تاريخ الإسلام "للذهبي" 141 تاريخ التمدن الإسلامي "لزيدان" تاريخ دول العرب والإسلام "لحرب" 334 تاريخ الطبري 126، 127، 215، 236، 375، 376، 379، 412، 414 تاريخ العرب الأدبي "لنيكلسون" 19، 107 تاريخ العرب قبل الإسلام "لزيدان" 167
تاريخ اللغات السامية "لإسرائيل ولفنسون" 18 تاريخ ملوك الحيرة "للأعظمي" 44، 380 تاريخ النقائض 340 تاريخ اليعقوبي 210، 218، 226، 274 تاريخ اليهود في بلاد العرب "لإسرائيل ولفنسون" 23 التبصر في التجارة "للجاحظ" التطور النحوي "لبراجستراسر" 37 تفسير أبي الحسن البكري 275 تفسير الخازن 28، 63، 66، 204 تفسير الطبري 65، 66، 143 تفسير النيسابوري 86 التقرير الخامس بأعمال المجمع العلمي بدمشق 6 التنبيه والإشراف تهذيب تاريخ ابن عساكر "لبدران" 26، 146، 352، 353، 361, 367 تهذيب التهذيب 141، 142، 279 التوراة 17, 18 تيسير الوصول "لابن الديبع" 49، 51، 69، 76، 113 ثمار القلوب "للثعالبي" 26، 146، 148، 149، 267، 323، 409 الجامع الصحيح, صحيح البخاري الجمهرة "لابن دريد" 54 جمهرة أشعار العرب حاشية الدسوقي على المغني 197 الحمس من قريش "لأبي عبيدة" 75 حواشي الكشاف 92، 268 حياة محمد "لهيكل" 139 خريطة الإدريسي 287 خزانة الأدب 62، 92، 93، 173، 210، 223، 227 خطط الشام 364 دائرة معارف وجدي 342 دلائل النبوة 326، 327، 330
ديوان حسان 340 " الهذليين 372 رحلة ابن بطوطة 401 رسائل الجاحظ 83, 95، 146, 150, 163, 183, 186 رياض الصالحين 251 زهر الآداب 397 الزواجر "لابن حجر" 68 سبائك الذهب سيرة ابن هشام 26, 63, 71, 85, 93, 94, 98, 99, 106, 152, 183, 187, 201, 233 شرح شواهد المغني 96, 197, 200, 245 شرح مسلم 46-53 شرح مقصورة ابن دريد 407 شرح المواهب للزرقاني 22, 23، 86, 133, 235, 349, 353 شرح نهج البلاغة 33, 104, 153, 159, 188 الشعر والشعراء "لابن قتيبة" 338 الصاحبي "لابن فارس" 113 صبح الأعشى "للقلقشندي" 210, 222, 227 الصحاح 54, 232, 344 صحيح البخاري 53, 131, 200, 201, 204 صحيح مسلم 49, 57 الصحيحان "صحيح البخاري, وصحيح مسلم" 53 صفة جزيرة العرب 194, 211, 219, 220, 226, 252, 262, 266, 272 ضحا الإسلام 241 طبقات الشعراء "لابن سلام" 171، 173، 443 الطبقات الكبرى "لابن سعد" 22، 25، 101، 102، 104-106، 134، 140-142، 148، 154، 158، 184، 223، 280، 369
الطبوغرافية الأثرية لسوريا وفلسطين "لدوسو" 362 عائشة والسياسة "للمؤلف" 417 عجائب المخلوقات 275 العقد الثمين 283 العقد الفريد 73، 94، 108، 110، 128، 132، 144، 163، 164، 251، 278، 306، 311، 400 العمدة "لابن رشيق" 75، 116، 172 العواصم من القواصم 142 عيون الأخبار "لابن قتيبة" الفائق للزمخشري 29، 54 فتح الباري "لابن حجر" فتوح البلدان "للبلاذري" 61, 62، 396 فجر الإسلام 25 فضل الأندلس "لابن حزم" 400 الفهرست "لابن النديم" 75، 109 في أصول النحو "للمؤلف" 411، 423 في منزل الوحي "لهيكل" 286، 287، 343 القاموس المحيط 26، 48، 51، 54، 56، 70، 76، 83، 148، 157، 161، 164، 172، 185، 205، 257، 284، 321، 373، 399، 426 قبائل العرب "للقلقشندي" 223 القرآن الكريم "وانظر فهرس الآيات" 30، 33، 39، 40، 64، 67، 148، 199، 207، 208، 338، 420 الكامل "لابن الأثير" " "للمبرد" 337، 412، 418، 448 الكشاف 92، 152 لباب النقول "للسيوطي" 28, 77 لسان العرب "لابن منظور" 34، 47، 54، 97، 174، 194، 245، 358
ما رأيت وما سمعت "للزركلي" 286 ما يعول عليه في المضاف إليه 125 المتناهي "في اللغة" 387 مثير العزم الساكن "لابن الجوزي" 281 مجلة الرسالة 19، 43، 107، 343 " السياسة الأسبوعية 287 " المجمع العلمي العراقي 17 " " " العربي 147، 196، 287، 401 مجلة مجمع اللغة العربية 38 " المختار 208 " المشرق 25، 28، 109، 280 " المقتطف 380 مجمع الأمثال "للميداني" 36، 293 المجمل "لابن فارس" 54 مجموعة الوثائق السياسية "لحميد الله" 235 المحاسن والأضداد للجاحظ المحبّر 47، 50، 53، 55، 75، 77، 96، 121، 148، 150، 152، 158، 211، 217، 225، 226، 238، 239، 244، 263، 265، 267، 270، 274، 276، 292 محيط المحيط 54 مختلف تأويل الحديث 338 المخصص "لابن سيده" 56، 216 مدنية العرب في الجاهلية والإسلام 129، 290 مراصد الاطلاع 256، 264، 287، 289 مروج الذهب "للمسعودي" 86، 95، 96، 109، 115، 148 المزهر "للسيوطي" 113، 180، 184 مسالك الأبصار "للعمري" 250، 367، 380 المسالك والممالك "للإصطخري" 252، 261، 266، 498
المسالك والممالك "لابن حوقل" 131 المستجاد من فعلات الأجواد "للتنوخي" 426 المصباح المنير "للفيومي" 54، 93 المعارف "لابن قتيبة" 132 معجم البلدان "لياقوت" 171، 174، 194، 245، 260، 275، 287، 407، 409 معجم الشعراء "للمرزباني" 238 معجم الطبراني 204 معجم ما استعجم "للبكري" 287 المغرب في ترتيب المعرب "للمطرزي" 54 المنتخب من ذيل المذيل "للطبري" 333 المنتقى من أخبار الأصمعي "للضياء المقدسي" 54 نفح الطيب "للمقري" 400 النقائض 421، 426، 430 النوادر "للقالي" 35، 107، 379، 411 النهاية "لابن الأثير" 52، 54، 232 نهاية الأرب "للنويري" الوسيط "للإسكندري وعناني" 342
فهرس الموصوعات
فهرس الموصوعات ... 8- فهرس الموضوعات: الصفحة الموضوع 3 مقدمة الطبعة الثانية 5 بين يدي الكتاب: معارض الشام, سبب تأليف الكتاب الباب الأول: شئون العرب التجارية بين الجاهلية والإسلام 15 تمهيد في تجارة العرب 46 بيوع الجاهلية, الرمي بالحصاة 48 المنابدة 49 الملامسة 50 المعاومة, المزابنة 51 المحاقلة, المخابرة 52 حبل الحبلة 53 التصرية, السرار 55 الناجز, الجس, موقف الإسلام من هذه البيوع 61 ربا الجاهلية 70 المحلّون والمحرمون والحمس
الباب الثاني: 89 أحداث قريش التجارية 91 أ- قريش التجار, اسم قريش, سادة قريش, الوظائف الرسمية لقريش 112 عامة قريش 146 ب- إيلاف قريش 162 جـ- حرب الفجار 164 سنتها 165 سببها 169 يوم نخلة 171 يوم شمظة 173 يوم العبلاء 174 يوم شرب177 يوم الحريرة 181 د- حلف الفضول الباب الثالث: أسواق العرب: أ- في الجاهلية ب- في الإسلام 231 أسواق العرب: أ- في الجاهلية 232 سوق دومة الجندل 240 سوق المشقر 245 سوق هجر
الصفحة الموضوع 252 سوق عمان 258 سوق حباشة 261 سوق صحار 264 سوق دبى 266 سوق الشحر 268 سوق عدن أبين 271 سوق صنعاء 275 سوق حضرموت 277 سوق عكاظ 293 منافرة 295 في سبيل بغيّ 296 خطة غدر 297 معاظمة في المصائب 300 الفجار الأول 301 إتاوة 302 ظفر بثأر 304 سيف يثأر لصاحبه 305 شريف غير مقنع 306 تأديب سفيه 307 إغاثة 310 حروب الفجار 313 واعظ 315 تنافس شعراء 316 ترويج بنات 319 منحة محررة 322 صفقة خاسرة 323 فتنة جمال 324 راية غدر 325 داعية الإسلام 330 خمر 331 تلقيب تصاريف القدر 334 نداء, منهب المعزى 336 منهب الرزق, فرسان العرب 337 ما رأيت شيخا أكذب 338 خاتمة 344 سوق مجنة 347 سوق ذي المجاز
الصفحة الموضوع 356 نطاة خيبر 358 سوق حجر 359 منافرة 360 جرير يبكي الفرزدق 361 شاعر يطاف به مجلودا 362 سوق دير أيوب 364 سوق بصرى 372 سوق أذرعات 374 سوق الحيرة 383 منافرة حامية 385 حرمة شاعر في ولده 386 حلق لمة, خمارة وشرطي 387 مسخ 388 وطنية صادقة 391 أسواق العرب: ب- في الإسلام 393 الأسواق في الإسلام 395 البصرة, المربد 407 سوق المربد 424 عوذ بقبر 425 مجنون في حب, إنهاب مال 426 غلام يخجل الفرزدق, تهديم دور الهجائين 427 هجاء إبليس 429 جرير يهجو قبيلة, الفرزدق لعبة 431 ضحية بين فحلين 432 الحكم في تنافر شاعرين 434 نقد سخف 435 إعدام قبيلة 438 رد عدوان 439 سلاطة 440 معركة الرجاز 442 صحابي بكتاب نبوي
الصفحة الموضوع 443 من محن السياسة 446 حل سلمي 449 استعراض الأمم, إعلان مجلجل 453 استدراك 455 مسارد الكتاب 457 مسرد الآيات 459 مسرد الأحاديث 461 مسرد الأعلام 480 " الجماعات 491 " الأماكن 504 " الأشعار 515 " الكتب 522 " الموضوعات